وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا أرسل إنسان إلى بلدة معينة مالاً ليتصدق به في تلك البلدة وعين من ذلك لقاضيها مقداراً معيناً وكان متولي قضاها في زمن الإِرسال والتعيين شخصاً معلوماً ولم يزل متولياً بها إلى أن وصل المال المذكور ووضع في حاصل مختوم عليه بختم القاضي المذكور واستمر مدة على ذلك ثم ورد إلى تلك البلدة عزل القاضي المذكور وولاية غيره قبل قبض القاضي الأول للقدر المذكور من المال المذكور مع إمكان ذلك قبل ورود العزل المذكور ومع اطراد العادة في تلك البلدة بأنه مهما عين لذوي الولايات الشرعية من الصدقات التي هي غير مستمرة ومرتبة الواردة إلى تلك البلدة يصرف ذلك لمن كان متولياً يباشر تلك الوظيفة في زمن وصول تلك الصدقة وأما المرتبات فكل إنسان يأخذ منها بقدر زمن مباشرته لتلك الوظيفة سواء وصلت في زمن ولايته أو بعد ذلك فهل المستحق الآن لقبض القدر المعين المذكور القاضي الأول أم القاضي الثاني أو لا هذا ولا هذا وإذا كان القاضي الثاني قد ولاه القاضي ولي الأمر من بلاد بعيدة عن البلدة المذكورة في زمن هو قبل زمن وصول مال الصدقة إلى البلدة المذكورة لكنه لم يصل خبر ولايته إليها ولم يبلغ القاضي الأول ذلك إلا بعد وصول المال المذكور بمدة كما تقدم ذكر ذلك فهل وقوع ذلك والحالة هذه مانع لاستحقاق القاضي الأول للقدر المعين المذكور اعتباراً بتقديم زمن ولاية القاضي الثاني في البلاد البعيدة أو وقوع ذلك ليس بمانع لاستحقاق القاضي الأول لذلك اعتباراً بمباشرته ونفوذ قضائه في ذلك الزمن لعدم بلوغه خبر العزل المذكور. فأجاب: بقوله يحتمل أن يقال باستحقاق المعزول لأمور منها في المطلب وغيره ولو جعل الواقف التولية للأفضل أو الأرشد من ابنيه واستقرت على واحد ثم حدث فيهم أفضل منه لم تنتقل إليه وهذا بشهد لاستحقاق المعزول لأنهم كما نظروا للمتصف بالأفضلية حال جعل الواقف ولم ينظروا إلى صيرورته مفضولاً كذلك ينظر حال قول(5/10)
المتصدق للمتصف بالقضاء وإن صار بعد ذلك غير متصف به ومما يدل له أيضاً قول الشيخين وغيرهما. لو أوصى لمواليه أو وقف عليهم لم يدخل من يعتق بموته كالمستولدة والمدبر وعللوه بأنهما ليسا من الموالي حال الوصية فكذا يعلل بنظيره في مسئلتنا فيقال الثاني ليس بقاضٍ حال قول المتصدق فإن قلت صرحوا بأنه لو وقف على أولاده دخل فيهم من يحدث له من الأولاد قلت الفرق أن الوقف على الأولاد والإخوة ونحوهم، وقف على جهة فلم ينظروا فيها للأفراد فدخل غير الموجود تبعاً له وهنا النظر إلى صدق هذا اللفظ حال الوقفية فمن صدق عليه استحق ومن لا فلا وسيأتي ما يوضح ذلك من أن لفظ الموالي من باب المشترك ولفظ الأولاد من باب المتواطىء ومسئلتنا كذلك من باب المشترك لا المتواطىء والجامع بينها وبين الوقف والوصية أن كلاً لا يستحق إلا بالقبول أما الوصية والصدقة فواضح وأما الوقف فعلى المعتمد من اضطراب طويل إن كان الموقوف عليه معيناً لا جهة وكما أن الصدقة متوقفة على القبض كذلك الوصية متوقفة بعد الموت على القبول ولم ينظروا لوجوده حال الموت بل نظروا لوجوده حال الوصية فكذا ينظر هنا للوصف حال قوله اعطوا فإن قلت إنما يتم ذلك أن لو كان المولى حال الوصية يدخل وإن خرج عن كونه مولى حال الموت كأن كان كافراً فحارب واسترق قلت: ذاك متعدٍ فلا يناسبه الإِعطاء لأنه أزال الوصف المقتضي لاستحقاقه باختياره ولا كذلك في مسئلتنا ثم رأيت المحقق
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/11)
أبا زرعة قال في باب الهبة مع باب الوصية من وادٍ واحد وإن كان الأول تمليكاً منجزاً والآخر معلقاً على الموت لكن جمعهما الموت والشيخ الإِمام أبا حسن السبكي أشار كما نقله عنه الأذرعي وأقره إلى أن الخلاف في قبول الوقف مبني على الخلاف في قبول الصدقة الناجزة فهذا صريح في أن باب الوصية والوقف والصدقة من وادٍ واحد وهو المدعي ومما قد يدل لذلك أيضاً قول البغوي لو أوصى لطلبة العلم صرف إلى من دخل في طلبه يومئذٍ أ هـ .
فاعتبر يوم الوصية مع أن الملك فيها إنما يحصل بالموت بشرط القبول ومما يدل له دلالة قوية قولهم لو مات المجاهد بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة المال أسهم له وثبت للورثة حق الملك أو التملك على ما فيه من نزاع مع أن الغنيمة إنما تملك بالحيازة أو اختيار التملك فنظروا لجريان سبب الملك في حياته وإن لم يوجد الملك نفسه فيها ولم ينظروا لموته قبل حصول الملك المقتضي لعدم استحقاقه فكذلك في مسئلتنا جرى سبب الملك في حال ولايته فليستحق إذ طروّ عزله بعد ذلك كطروّ موت المجاهد فإن قلت: أي جامع بين المسئلتين قلت: الجامع بينهما واضح وهو أن الإِتصاف بكل من الصفتين أعني القضاء وحضور الوقعة وإن لم يقاتل مقتضِ للاستحقاق وقد أعطوا المتصف بحضور الوقعة مع زوال أهليته قبل حصول الملك فكذلك يعطي هنا المتصف بالقضاء مع زوال صفته وبقاء أهليته بالمساواة بل بالأولى ومما يشهد لذلك أيضاً قولهم لو أوصى لحر فرق لم تكن الوصية لسيده بحال بل متى عتق فهي له فإن مات رقيقاً بعد موت الوصي كان الموصى به فيئأ على قياس ما ذكروه في مال من استرق بعد نقض إماته فليتأمل ذلك فإنه نظير مسئلتنا وذلك لأنهم لم يبطلوا الوصية له بطروّ رقه بل نظروا لإِتصافه بالحرية المقتضى لاستحقاقه حال الوصية ولم ينظروا إلى أن طروّ الوصف المقتضى لعدم استحقاقه وهو الرق بل أوقفوا الأمر إلى تأهله للإِعطاء فإن تأهل له بأن عتق أعطى وإلا كان فيئأ لأنه لم يمكن(5/12)
إعطاؤه لمستحقه لاتصافه بالرق المانع من ذلك إلى الموت وفي مسئلتنا الوصف وإن زال الموصوف به متأهل للإِعطاء فليعطِ على قياس ما ذكروه لأنه كما لم تبطل الوصية بطروّ الرق كذلك لا يبطل هنا الاستحقاق بطروّ العزل وعدم إعطاء الموصى له لمانع قام به خلى عنه القاضي في مسئلتنا ولباحث أن يبحث ويأخذ من هذا الفرع أن المال المعين هنا للقاضي يوقف فإن اتصف المعزول بالصفة بأن ولي أخذه وإن مات قبل اتصافه بها كان فيئأ ويجاب بأن سبب الوقف ثم قيام مانع بالموصى إليه لا يمكن الإِعطاء معه وهنا لا مانع فيمكن الإِعطاء وإنما كان فيئأ ثم لأنه ذمي مات لا عن وارث وله مال استحقه قبل الرق ومما يشهد لذلك أيضاً إفتاء
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/13)
ابن الصلاح ونقلوه عنه وأقروه في موقوف على الفقهاء والمتفقهة والمقيمين بدمشق من أهلها والواردين من الشام إليها دون غيرهم، فتأخر منه حاصل وتأخرت قسمته حتى ورد وارد من الموصوفين فهل يقاسمهم فأجاب لا يساهمهم لأنهم ملكوا الريع قبل وروده فهذه نظير مسئلتنا لأنه لم يعتبر فيه الوصف الحادث بعد استحقاق القسمة وكذلك الوصف في مسئلتنا حادث بعد استحقاق القسمة فإن قلت: يناقض ذلك ما أفتى به أيضاً، من أنه لو وكله في المطالبة بحقوقه دخل فيه ما يتجدد قلت: ذاك إنما دخل تبعاً لا مقصوداً فلا تناقض لاغتفارهم في باب الوكالة دخول أشياء كثيرة تبعاً كما يعرف بتصفح كلامهم فيها ومما يشهد لذلك أيضاً ما صرح به الغزالي في البسيط من أن لفظ التصدق صريح في إزالة الملك عن الرقبة في الحال إلى المتصدق عليه فيؤخذ منه اعتبار الصفة حال اللفظ بالتصدق وعدم النظر إلى حال الصفة المتجددة بعد وعبارة الرافعي الصحيح الذي دل عليه مدار المذهب ونقله الأثبات من متأخري الأصحاب وقطع به المتولي و البغوي واعتمده الروياني وغيرهم لأنه لا يشترط في الهدية والصدقة إيجاب ولا قبول وأنه لا فرق في ذلك بين الأطعمة وغيرها، ثم الذي صرح به الشيخان أن القبض إنما هو شرط للزوم أي لا للملك أو شبهة الملك وفرعا على ذلك أنه لو مات الواهب أو الموهوب له بعد العقد وقبل القبض لا ينفسخ به قالا لأنه يؤول إلى اللزوم كالبيع الجائز أي في زمن الخيار فأفهم صريح هذا أن الملك الناقص أو شبهة الملك تحصل قبل القبض وعليه يحمل ما في المنهاج وأصله والروضة وأصلها من حصول الملك بالعقد قبل القبض فإن قلت: صرح ابن سريج بأنه لو أرسل صدقة مع رسوله ثم بدا له فاستردها من الطريق كان له ذلك وإذا مات قبل وصولها كانت تركة وهذا يقتضي خلاف ما مر عن الشيخين وغيرهما. قلت: لا يناقضه ولا يخالفه لأنا إنما أثبتنا له شبهة ملك أو ملكاً غير تام وإنما يرد ذلك أن لو أثبتنا له ملكاً تاماً وكلام(5/14)
الشيخ أبي حامد و القاضي أبي الطيب مصرح بأن رسول المهدي لو أوجب فقبل المهدى إليه ملك وإن لم يقبض وعبارة الشيخ وإذا أراد أن يملك الهدية وكل الرسول الحامل لها حتى يوجب ويقبل المهدى إليه فيملك بذلك أ هـ .
وظاهر هذا أنه يملك بالقبول ولو بغير قبض ملكاً تاماً ومنازعة ابن الصباغ للشيخ إنما هي من حيثية أخرى كما يعلم بتأمل كلامه وكلام ابن الرفعة ويحتمل أن يقال يعمل بالعرف في ذلك ومما يشهد له قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/15)
الإِمام في النهاية و الغزالي في البسيط و القشيري في الموضح العادة تفسر اللفظ المجمل في العقود اتفاقاً فانظر لحكاية الاتفاق من هؤلاء الأئمة والصدقة من العقود جزماً وقوله أعطوا القاضي الشافعي كذا مجمل أي مجمل وليس المراد المجمل عند الأصوليين كما هو واضح جلي ومما يشهد لذلك أيضاً قول الرافعي في باب النذر لو نذر للقبر الذي بجرجان تعين صرف ذلك إلى الجماعة التي جرت العادة أن ما يجتمع يقسم عليهم عملاً بالعرف فكما تعين الصرف إليهم مع أن الناذر لم يذكرهم فأولى في مسئلتنا ومما يشهد له أيضاً ما أفتى به ابن الصلاح و الغزالي وغيرهما، من أن العرف في زمن الواقف ينزل منزلة شرط الواقف له في وقفه صريحاً حينئذٍ ومما يشهد له أيضاً قول القمولي العرف الخاص يؤثر كالعرف العام وقول النووي متى وجد اصطلاح سابق وجب العمل بقضيته وقاعدة الأصحاب في الوكالة كما قاله الإِمام أن القرينة قد تقوى فيترك لها إطلاق اللفظ وقد يتعادل اللفظ والقرينة فتارة يغلب مقتضى اللفظ وتارة يغلب مقتضى القرينة وقد أوضحوه بصور في الوكالة يحتمل أن يقال بالتسوية بين المعزول والمتولي لقولهم لو اندرس شرط الواقف ولم تعرف مقادير الاستحقاق أو كيفية الترتيب قسمت الغلة بينهم بالسوية ويجاب بأن محل ذلك كما قيده الزركشي أخذاً مما مر عن النووي وغيره بأن لا تكون العادة قاضية فيه بالتفصيل وإلا وجب عملاً بالعادة وبأن لا يوجد اصطلاح سابق فمتى وجد وجب العمل بقضيته ومما يشهد بالاشتراك بينهما أيضاً قول ابن النقيب لو وقف على مواليه وأطلق ولم يكن هناك إلا واحد وحمل عليه ثم وجد الآخر دخل كما لو وقف على الأخوة فحدث أخ ويرد بأن كلام ابن النقيب ضعيف ولا شاهد له في القياس على الأخوة لوضوح الفرق بين مسئلتهم ومسئلة الموالي وهو أن إطلاق الموالي على الفريقين من الاشتراك اللفظي وقد دلت القرينة على إرادة أحد معنييه وهي الانحصار في الوجود فصار المعنى الآخر غير(5/16)
مراد وأما عند عدم القرينة فيحمل عليهما احتياطاً أو عموماً على خلاف في ذلك عند الأصوليين بخلاف الوقف على الأخوة فإن الحقيقة واحدة وإطلاق الاسم على كل واحد منهم من المتواطىء فمن صدق عليه هذا الاسم استحق من الوقف وإن لم يوجد عند الوقف إلا أن يقيد بالموجودين حالة الوقف فيتبع تقييده ويحتمل أن يقال يوقف إلى مراجعة المتصدق ومما يشهد له مسائل كثيرة غنية عن البيان ويحتمل أن يقال باستحقاق المتولي ومما يشهد له قولهم لو أوصى لعبد وهو ملك زيد فباعه ثم مات الموصي وقبل العبد كانت الوصية للمشتري دون البائع حكاه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/17)
الرافعي في باب القسامة عن القاضي أبي الطيب وبناه هنا أعني في الوصية على أنها لم تملك ويجاب بأن الموت في الوصية كقول المتصدق أعطوا فلاناً كذا بجامع أن سبب الملك في الوصية هو الموت بشرط القبول وسببه هنا قول المتصدق أعطوا بشرط القبض والموت هنا هو السبب الأوّل إنما وقع في ملك المشتري فكان هو المستحق بخلافه في مسئلتنا فإن السبب الأول هو قول المتصدق وقع في زمن ولاية المعزول بل قد يؤخذ من هذا على بعد استحقاق المعزول ومما يشهد لاستحقاق المتولي أيضاً ما رجحه الأذرعي فيما لو شرط النظر لحاكم المسلمين ببلد كذا فنصب القاضي واحداً ثم مات أو انعزل من أن المنصوب ينعزل بموت القاضي الذي نصبه وانعزاله ويعود النظر فيه إلى القاضي الجديد لأن النظر آل إليه بشرط الواقف ويرد بأن النائب إنما انعزل هنا لانعزال من ناب عنه فهو فرع والفرع لا يمكن بقاؤه بعد زوال الأصل ولا كذلك في مسئلتنا ومما يشهد لاستحقاقه أيضاً قول الشيخين وغيرهما لو قال لا أرى منكراً إلا رفعته إلى القاضي ولم يعين أحداً بلفظه ولا نيته اختص بقاضي البلد حملاً له على المعهود وهل يتعين قاضي البلد في الحال لأنه المعهود أم يقوم مقامه من ينصب بعده وجهان أو قولان أصحهما: في الروضة الثاني قال الرافعي : حملاً للألف واللام على تعريف الجنس أي جنس قاضي البلد فلو عزل الأول وولى غيره برّ بالرفع إلى المتولي دون المعزول وهذا فيه دلالة قوية بل صريحة على استحقاق المتولي في مسئلتنا دون المعزول وقد يمكن تمحل فرق لا يسلم من نزاع فينبغي إمعان النظر في كل ذلك سيما هذا الآخر فإنه قد يدعى أنه نصّ في المسئلة قاطع للنزاع فحينئذٍ الذي ينبغي أن يقال إن اطردت عادة وكان المتصدق من أهلها ولم يمكن مراجعة المتصدق أو روجع فلم يكن له نية عمل بها وإلا استحقه المتولي عملاً بهذا الفرع الأخير لقوّة دلالته بل صراحتها في ذلك.(5/18)
سئل: عمن وهب لولده عيناً فمرض الولد فهل للأب الرجوع. فأجاب: بقوله نعم له الرجوع خلافاً لمن أفتى بعدمه لثبوته له ما بقي الموهوب في ولاية المتهب ولا نظر لما يتخيل من تعلق حق الورثة به بالمرض وفارق تعلق الغرماء به عند الحجر عليه بالفلس بعدم مزاحمة أحد للأب الآن إذ الورثة لا حق لهم إلا بالموت بخلاف الغرماء فإن حقهم تعلق به بمجرد الحجر.
وسئل: بما صورته اختلف من بيده عين هو وواهبها له أو وارثه في الإِذن في القبض أو اتفقا عليه وادعى أحدهما الرجوع فمن المصدق. فأجاب: بقوله يصدق الواهب أو وارثه في عدم الإِذن في القبض وكذا إن ادعى أحدهما الرجوع عنه ما لم يكن بيد المتهب فإنه المصدق حينئذٍ فإن ادعى أحدهما أنه قبضه عن جهة أخرى كوديعة أو عارية صدق المتهب أيضاً كما في اختلاف المرتهن والراهن لكن لهما تحليفه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/19)
سئل: عن رجل دفع لزوجته مبلغاً وقال اشترى به جارية للخدمة فزادت المرأة على المبلغ من عندها واشترت جارية لنفسها ثم إن الزوج وطىء الجارية فحملت فأتى ومعه رجل آخر إلى شخص يسأله عن الحكم في ذلك واعترف في سؤاله بأن الجارية ملك لزوجته اشترتها لنفسها وأنه ظن أنها تحل له بمقتضى المبلغ الذي أعطاه لزوجته ودفعته في قيمة الجارية فهل هذه شبهة تدرأ عنه الحد وتثبت النسب والحرية كما لو وطىء أمة لغيره على فراشه ظنها أمته أو تكون شبهة تثبت ما عدا الحرية كما لو وطىء جارية لشخص وادعى أنه اشتراها منه فأنكر المالك وحلف أو لا تكون شبهة كما لو وطىء الجارية المرهونة بغير إذن الراهن وظن أنها تحل له بسبب الرهن وكان ناشئاً بين العلماء هذه الواقعة المسؤول عنها وعن قولهم ادعاء الملك شبهة وكذا ظنه هل ذلك على إطلاقه حتى إذا بين سبباً لا يقتضي الملك يقبل منه كأن ادعى أنها ملكه وأن سبب الملك ارتهانه لها أو إباحة مالكها له أو قرضه أو هبته لمالكها ثمنها حين اشتراها وما أشبه ذلك أو محمول على ما إذا أطلق أو بين سبباً يقتضي الملك. فأجاب: بقوله أما قوله لها ما ذكر فمحتمل لأنه إما أن يريد اشترى جارية لخدمتك اللازمة لي فتكون حينئذٍ وكيلة عنه في شرائه وما زادته قرض ترجع به عليه وإما أن يريد اشترى به جارية لخدمتك لأني وهبته لك وحينئذٍ فتكون ملكاً لها ولا شبهة له فيها وقوله بعد ذلك الجارية ملك لها اشترتها لنفسها مؤيد للاحتمال الثاني لكنه لم يذكره إلا بعد وقوع الوطء ولا تصريح في كلامه بأنه كان معتقداً ذلك حين الوطء لاحتمال أنه أراد الاحتمال الأوّل أو أنه اعتقد أنها اشترتها له ولها فوطئها بظن ذلك ثم ظهر له أنها إنما اشترتها كلها لنفسها فاعترف بأنها ملك لها فيجب استفساره فإن أراد الاحتمال الأوّل أو ظن أنها اشترتها له ولها فالولد حر نسيب ولا حد عليه لاحتمال ما ذكره وليس في كلامه ما ينافيه إلا لو كان أقر بما ذكر قبل الوطء(5/20)
وإن أراد الاحتمال الثاني حد وكان الولد رقيقاً وبما تقرر يعلم أنه في الحالة الأولى نظير من وطىء أمة غيره يظن أنها ملكه وفي الثانية ليس نظير من وطىء من ادعى أنه اشتراها فأنكر المالك وحلف لأنه في هذه الحالة يزعم الملك فأسقطنا عنه الحد لاحتمال ما ادعاه ولم تثبت حرية الولد لثبوت ملكها للحالف والولد جزء منها فلا يفوت عليه رقه بمجرد دعوى الغير ولا يلزم من النظر إليها بالنسبة لإِسقاط الحد المبني على الدرء ما أمكن النظر بالنسبة لفوات المال المبني على الاحتياط ما أمكن وأما في تلك فهو يزعم الملك لها فلم يفده ظنه المذكور في السؤال شيئاً ولا ينافي ما تقرر في هذه قولهم ادعاء الملك شبهة لأن معناه أنه شبهة بالنسبة لإِسقاط الحد فقط لا لإِثبات الحرية أيضاً لوجود معارضها من حلف المالك بخلاف ظن الملك فإنه شبهة في الأمرين أما الحد فواضح وأما ثبوت الحرية فلأنه لم يوجد معارض لظنه مع عذره فيه ثم الذي يقتضيه إطلاقهم أنه متى ادعى الملك أو ظنه لم يستفسر لكنه إذا تبرع بتفسير نظر فيه فإن كان ربما يتوهم العامة منه إباحة الوطء كان شبه وإلا فلا.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/21)
سئل: نفع الله تعالى به عما لو جرت العادة بالتسامح بأخذ شيء من البقولات أول وقت النبات من مال الغير يؤكل هل هو حلال طيب أم لا وقد يأخذ ذلك صبي ويأتي به إلى أهل الثروة والعادة جارية بإعطائه شيئاً في مقابلة ذلك ولولا ذلك لم يأتِ بشيء لهم ويأكل ذلك الورع وغيره وفي نفس الفقيه منه شيء. فأجاب: بقوله حيث اضطردت عادة أهل ناحية بالمسامحة في البقولات بحيث يجزم الآخذ بأن مالك المأخوذ لا يتأثر فيه أو يغلب على ظنه ذلك جاز الأخذ نظير ما صرحوا به في أخذ الثمار الساقطة ومن جاز له أخذ شيء تصرف فيه بالأكل لا بالبيع ونحوه إلا إن اطردت العادة برضا الملاك بتصرفه فيه بما شاء فحينئذٍ يجوز له أن يهديه لغيره ولذلك الغير الأَكل منه نعم إن علم أو ظن أنه إنما سمح له في مقابلة شيء يعطيه له لم يجز له الأكل منه حتى يعطيه المقابل أو يعزم على ذلك وحيث جزم بالرضا وبأنه لا شبهة له في ذلك لم يكن ترك الأكل ورعاً وإلا كان تركه من الورع.
وسئل: نفع الله تعالى عن قول الإرشاد في باب الهبة إلا أن تفرخ وقد مر في الفلس إذا كان المبيع بيضاً فتفرخ لا يمنع رجوع البائع فيحتاج للفرق بينهما. فأجاب: بقوله أما هذا السؤال فجوابه إني فرقت بينهما في شرح الإرشاد حيث قلت في باب الهبة إلا إن استهلك كأن تفرخ البيض أو نبت الحب لأن الموهوب صار مستهلكاً قال الشيخان عن البغوى هذا إذا ضمنا الغاصب بذلك وإلا فقد وجد عين ماله فيرجع وقضيته ترجيح الرجوع وبه جزم البلقيني واختاره الزركشي وهو قياس ما قالوه في المفلس وعلى الأول يفرق بأن تعلق حق البائع ثم آكد من تعلق حق الأصل هنا كما يعلم من فروع البابين وفارق ما هنا ما ذكروه في الغاصب بأنه متعد لا ملك له فلا يفيده هذا التغير حدوث ملك بخلاف الفرع فإن ملكه صحيح وما حصل من التغير لا يمنع بقاء الموهوب على حاله فامتنع بسبب ذلك رجوع الأصل.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/22)
وسئل: عمن أرسل شيئاً لفقير فهل لآخر مثله في الفقر أخذه من الرسول قهراً أم لا فإن قلتم لا فما المراد مما رواه البخاري عن معن بن يزيد أن أباه أخرج دنانير صدقة فوضعها عند رجل في المسجد الحديث وهل في قوله حين تخاصما لك ما نويت ولك ما أخذت ما يدل على جواز ذلك أم لا وهل يفرق فيه بين صدقة التطوع والفرض أو لا. فأجاب: بقوله ليس لآخر وإن كان مثله في الفقر أو أعلى منه أخذ ذلك من الرسول قهراً ولا اختياراً سواء في ذلك صدقة الفرض والنفل لما قرره الأئمة أن المرسل باقٍ على ملك مرسله حتى يقبضه المرسل إليه وما دام لم يقبضه فهو باقٍ على ملك مرسله وقد عينه لإِنسان فلم يجز لغيره أخذه مطلقاً وأما حديث البخاري المذكور فيعلم الجواب عنه من ترجمته وسياقه وهما باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر حدثنا محمد بن يوسف قال: أخبرنا إسرائيل قال: حدثنا أبو الجويرية أن معن بن يزيد حدثه قال: بايعت رسول الله أنا وأبي وجدي وخطب أي النبي عليّ أي خطب لي امرأة من وليها فأنكحني وخاصمت إليه وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله فقال لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن أ هـ .
فتأمل الترجمة تعلم ما صرح به الأئمة من أن في الحديث حذفاً لا بدّ منه تقديره فوضعها عند رجل في المسجد وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إليها إذناً مطلقاً وقوله فجئت فأخذتها أي من المأذون له في التصدق بها بإذنه لا بطريق الاعتداء كما تدل عليه رواية البيهقي عن أبي الجويرية في هذا الحديث قلت: وما كانت خصومتك قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم فظن أني بعض من يعرف فذكر الحديث وضمير أتيته لأبيه وقوله له ما إياك أردت معناه لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها وكأنه كان يظن أن الصدقة على الولد لا تجزي أو أنها على الأجنبي أفضل منها على الولد ومعنى(5/23)
لك ما نويت أنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها وابنك محتاج إليها فوقعت الموقع وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها أو إن أخذه لها لا يقع الموقع ومعنى ولك ما أخذت يا معن أي لأنك محتاج إليها فوقع أخذك لها الموقع وإن خالف ظن أبيك قال ابن رشد: الظاهر أن أباه لم يرد بقوله له ما إياك أردت إني أخرجتك بنيتي وإنما أطلقت لوكيلي أن يتصدق بها على من تجزى مني الصدقة عليه ولم تخطر أنت يا معن ببالي فأمضى النبي الإِطلاق لأنه فوض للوكيل بلفظ مطلق فنفذ فعله وفي الحديث دليل على أنه يعمل بالمطلقات على إطلاقها وإن احتمل أن المتكلم المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد اللفظ به واستدل بعضهم بالحديث على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع وإن لزمته نفقته قال في فتح الباري ولا حجة فيه لأنها واقعة حال فاحتمل أن يكون معن كان مستقلاً لا يلزم أباه يزيد نفقته أ هـ .
وهو غير صحيح لأن واقعة الحال القولية إذا تطرق إليها الاحتمال أفادها العموم بخلاف واقعة الحال الفعلية فإن تطرق الاحتمال إليها يسقطها وهذا هو محمل قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/24)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مرة وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال أكسبها العموم في المقال فهذا في الواقعة القولية كما في هذا الحديث وقد أشار إلى ذلك ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله في المقال وقوله مرة أخرى وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإِجمال وأسقط بها الاستدلال فهذا في الواقعة الفعلية كوضع يد عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا على قدمه وهو في الصلاة فإنه لما احتمل أن يكون من وراء حائل لم يكن فيه دليل للحنفية على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء والأولى أن يجاب بأنا لا نمنع دفع الصدقة المفروضة إلى الأصل أو الفرع إلا إن كان مكفياً بنفقة قريبه الدافع لأن دفعها له حينئذٍ يمنع من وجوب الإِنفاق على الدافع على أن المدفوع إليه غني بإنفاق قريبه بخلاف ما إذا لم يكن مكفياً بنفقة الدافع كأن كان عليه دين فله حينئذٍ الدفع إليه والحاصل أنه استنبط من العموم الدال عليه هذا الحديث معنى خصصه بغير مكفي بنفقة قريبه قال في فتح الباري أيضاً وفي الحديث أن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده بخلاف الهبة وهو عجيب فإن مذهبنا أن له الرجوع فيهما وليس في الحديث ما ينافي ذلك بوجه وإنما كان يتم له ذلك لو قال يزيد أبو معن رجعت أو أراد الرجوع ولم يمكنه من ذلك ولم يقع ذلك مطلقاً وإنما الذي وقع كما تقرر في الكلام على الحديث أن معنا ظن أن أخذ ولده لا يجزيه فبين له أنه يجزيه فتأمل ذلك فإنه مهم والله سبحانه وتعالى أعلم أسأل الله أن يلهمنا الحق وييسر لنا اتباعه بمنه وكرمه آمين.(5/25)
وسئل ـ نفع الله سبحانه وتعالى به ـ عما يأخذه المالك من مستأجر الأرض وقت عقد الإِجارة من غير الأجرة هل هو حرام أو لا وهل يفرق بين كون المستأجر حربياً أو لا وذلك عند الكفرة قاعدة مطردة احتراماً لصاحب الأرض. فأجاب: بقوله إن اعتيد الإِهداء إلى المؤجر فأهدى المستأجر إليه شيئاً بطيب نفس لا لحياء ولا لظن كونه واجباً عليه وإنما هو لمحض التبرع وإيثار فعل الجميل جاز للمؤجر القبول حينئذٍ ومتى فقد شرط مما ذكرته لم يحل القبول أخذاً من كلام الغزالي وغيره.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن عطايا الملوك الذين يأخذون أموال الناس ظلماً والغالب على ما تحت أيديهم الحرام وقد يمكن أن يكونوا اقترضوها أو اشتروا شيئاً في الذمة واستأذنوا بقبضه فإذا أعطوا أحداً منها شيئاً وجهل الحال فهل يجوز له قبوله ولا يطالب به في الآخرة إذا كان في الباطن حراماً أم يحرم قبوله وإذا قبله فما حكم الصلاة فيه والصدقة منه هل يثاب عليها كما يثاب في فعله من غيرها أم دونه أم لا يثاب بل يأثم وقوله في جواهر القمولي .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/26)
فرع: لو أخذ من يد غيره بتمليك أو إباحة ظاناً أنه ملكه اعتماداً على الظاهر وكان في الباطن حراماً هل يطالب به في الآخرة أم لا قال البغوي إن كان ظاهر المأخوذ منه الخير فأرجو أن لا يطالب وإلا طولب أ هـ .
كلامه هل هو مقر على كلامه هذا أم لا ولا يخفى على مولانا فسح الله سبحانه وتعالى في مدته اختلاط الحرام في هذا الزمان فقد لا يمكن التحرز لأمور أحدها أن المشهور أن الدراهم ما يضربها إلا السلاطين ولا يمكن غيرهم أن يضربها لما يخشاه منهم ولو قدّرنا الحل فمستفيض أن الذي يضربها يشتري فضتها بعقد لا يسلم فيه من الربا إذا كان الإِنسان يؤاخذ بغلبة الحرام وإذا قلتم لا مؤاخذة في ذلك فهل يحصل على من أخذ من ذلك شيئاً ثلم مثل توسيخ قلبه عن العبادة أم لا لأنه وافق الظاهر. فأجاب: رحمه الله تعالى بقوله أما عطايا الملوك فاختلف السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف في قبولها فقبلها قوم اعتماداً على أمور يطول بسطها وامتنع من قبولها آخرون ورعاً وزهداً وهذا الأحوط للدين والعرض ولقد وقع لمثل إبراهيم بن أدهم رضي الله تبارك وتعالى عنه أنهم أحسوا بظلمة قلوبهم لتناول شيء من بعض أتباع السلاطين فالحرام باطناً يؤثر في ذلك ولقد تعفف من تعفف حتى عن الحلال خوفاً أن يقع في حرام ومن المشاهدة أن بعض النواحي يكثر فيها الصالحون والمتقون وبعضها يقلون فيه ولقد استقرينا سبب ذلك فلم نجده غير أكل الحلال أو قلة تعاطي الشبهات فكل ناحية كثر الحل في قوت أهلها كثر الصالحون فيها وعكسه بعكسه إذا تقرر ذلك فمعتمد مذهبنا أن معاملة من أكثر أمواله حرام مكروهة لا محرمة وقول الغزالي في الإحياء إنها محرمة خلاف المذهب كما في شرح المهذب فعليه يجوز الأخذ من مال السلطان مطلقاً ما لم يعلم في شيء بعينه منه أنه حرام فلا يجوز قبوله ومع الجواز يكون الآخذ تحت خطر احتمال الوقوع في الحرام فيتأثر قلبه به بل ويطالب به في الآخرة إن كان المعطي غير مستقيم الحال(5/27)
كما ذكروه عن البغوي وأقروه عليه وهو واضح من حيث المؤاخذة وعدمها لأن ظاهر حاله إن كان مستقيماً كان معامله معذوراً وإلا فلا أما من حيث أخذ حسنات آكل الحرام وإن لم يشعر به ولو ممن ظاهره الاستقامة في مقابلة ما أكله من مال الغير فالبغوي لا يجري تفصيله في هذا لأن أخذ الحسنات لا فرق فيه بين المتعدي بأخذ مال الغير وعدمه كما أشرت إلى ذلك فيمن مات وعليه دين لم يعصِ بإدائه في شرح الإرشاد والحاصل أن أخذ الحسنات في مقابلة المأخوذ من مال الغير لا يفرق فيه بين المتعدي وغيره بخلاف المعاتبة والمؤاخذة فإنه يفرق فيها بين المتعدي وغيره كمن عامل من ظاهره الظلم أو أخذ أموال الناس وغير المتعدي كمن عامل من ظاهره الخير والصلاة في الحرام الصرف صحيحة ولا ثواب فيها عند الجمهور خلافاً لجمع محققين وفي المشكوك في حرمته فيها الثواب لعدم التعدي ودعوى عدم إمكان التحرز عن الحرام ممنوعة لكن الحق أنها متعسرة ولقد اعترض قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362
القاضي حسين يسن للصائم أن يفطر على ما لا شبهة فيه كأن يغترف بيده من الدجلة فإن صوابه أن يقول من ماء السماء النازل منها إلى يده لأن الدجلة أم الفرات يخرج منها في بلاد الترك بركة يحوط عليها لصيد السمك فيملك مائها ثم ينفتح ما يسدها فينزل ويختلط بالفرات أو الدجلة فلم يخل عن الشبهة فإذا روعيت هذه الشبهة مع ندرتها فما ظنك بغيرها وهذا هو السبب في قول بعض الأكابر مع تقدمه بقرون عديدة الآن أيسنا من الحلال المحض والحاصل أن الشبهة كثيرة إذا وأن التنقي عنها متعسر وأن غاية ما يختلف الناس فيه وتتفاوت مراتبهم بسببه الإِكثار من تعاطي الشبهة والتقليل منها والله سبحانه وتعالى يوفقنا لمرضاته ويخفف عنا ما تحملناه من عظيم مخالفاته بمنه وكرمه آمين.(5/28)
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن ولد ولد قال لجدته وإخوانه حضور سدسك من تركة والدنا رددتيه علينا قالت: نعم رددته عليكم ثم قال لها والحصة التي قدرها النصف الآيلة إليك بالإِرث من والدك لنا قالت: نعم فهل يستحقون بذلك سدسها وحصتها المذكورة أم لا. فأجاب: رحمه الله تعالى بقوله قولها رددته عليكم الظاهر أنه كناية هبة فإذا وجدت شروطها وقبضوا الموهوب بإذنها ملكوه وإلا فلا وقولها نعم في الصورة الثانية لا يمكن أن يكون إقراراً مع قوله لها الآيلة إليك بالإِرث من والدك لأن الإِقرارا إخبار عن حق سابق وقوله ما ذكر فيه الاعتراف لها بأنها مالكة لذلك حالاً والمملوك حالاً يستحيل الإِقرار به ولا بيعاً لعدم ذكر ثمن ولا هبة لأنه لم يقع بعد نعم بناءً على أنها يكتفي بها في مثل ذلك قبول والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/29)
وسئل: هل تصح هبة المنافع. فأجاب: نفع الله سبحانه وتعالى به بقوله للأصحاب فيها وجهان أحدهما أنها عارية للدار لا تملك منافعها بل تكون إباحة والثاني أنها هبة فتكون أمانة فلا يضمن الدار إن تلفت تحت يده ورجح الزركشي تبعاً للماوردي الأول ورجح البلقيني ك السبكي الثاني قال: ويكون قبض المنافع باستيفائها وتبعه عليه البلقيني في الحواشي وهو المعتمد وما ذكره في غير الحواشي من أن الهبة تلزم بقبض الدار رده عليه تلميذه أبو زرعة وقال: لا تلزم إلا بإتلافها وأخذه من فرق السبكي رحمه الله تعالى بين كون المنافع في الإِجارة مقبوضة بقبض الدار وإن لم يتلف المستأجر المنافع بخلافه في هبة المنافع بأن الإِجارة فيها معاوضة فكانت كملك الأجرة بالقبض ولا معاوضة في الهبة فلم تلزم إلا بالإِتلاف فللواهب الرجوع فيما بقي من المنافع ولو بعد قبض العين لأن المعقود عليه وهو المنافع باقٍ يؤخذ شيئاً فشيئاً فلم يكن قبض الدار قبضاً لها لأنها إنما توجد بوجود الزمان بخلاف الأعيان فإن الاستيلاء عليها بكمالها ثم بالقبض ولم يبق بعده علقة فاتضح فرقان ما بينهما.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل تصح هدية العقار. فأجاب: بقوله أخذ بعض المتأخرين من حدهم الهدية بما ينقل إكراماً أنها لا تصح وليس كما قال بل الوجه الصحة كما أفاده البلقيني نقلاً فالتعبير بالنقل إما للأغلب أو لبيان أن العقار وإن صح إهداؤه شرعاً لا يسمى هدية وضعا.(5/30)
وسئل ـ نفع الله سبحانه وتعالى به ـ عما اعتيد من إهداء الطعام والشراب للثواب بأن يملأ ظرف الهدية ويرد وإن لم يفعل ذلك وقع العتب والذم هل يحل تناوله أو لا. فأجاب: بقوله مذهبنا أن الهبة بقصد الثواب لا توجبه وكذلك هبة الأدنى للأعلى وإن اعتيد أنها لا تكون إلا لطلب المقابلة والهدية كالهبة في ذلك وحينئذٍ فلا عمل بتلك العادة هذا بالنسبة للأحكام الظاهرة أما بالنسبة لمن علم أو غلب على ظنه من المهدي أو الواهب بقرائن أحواله أنه لم يهد أو يهب إلا لطلب مقابل فلا يحل له أكل شيء من هديته أو هبته إلا إن قابله بما يعلم أو يظن أنه رضي به في مقابلة ما أعطاه وقد صرح الأئمة في المهدي حياءً ولولا الحياء لما أهدى أو خوف المذمة ولولا خوفها لما أهدى بأنه يحرم أكل هديته لأنه لم يسمح بها في الحقيقة وكل ما قامت القرينة الظاهرة على أن مالكه لا يسمح به لا يحل تناوله وقد ذكروا في باب الضيافة من ذلك فروعاً لا تخفى.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عما يفعل للزوجة يوم ثامن زواجها من أقاربها أو من زوجها من طعام وغيره هل يملكه المنقول إليه من غير تمليك وإذا لم يعلم هل قصد بذلك الزوجة أو غيرها ما الحكم. فأجاب: بقوله يملكه المنقول إليه من غير تمليك لأنه هدية لصدق حدها عليه وهي ما ينقل أي غالباً لدار الغير إكراماً له أي غالباً أيضاً ولا شك أن هذا كذلك نعم إن كان ثم أحد له على الناقل دين وادعى الناقل أنه إنما نقله لدائنه عن دينه صدق الناقل بيمينه وإذ لم يعلم أنه قصد الزوجة أو غيرها فإن قامت قرينة واضحة بشيء عمل به وإلا فهي ملك لمن أرسلت لداره لما علمت أن هذا هو موضوع الهدية هذا كله إن لم يعرف قصد المالك لنحو موته أو جنونه وإلا صدق في تعيين من أرسلها له وهذا كله واضح وإن لم أرَ من صرح به.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362
باب اللقطة(5/31)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه يقع في ركب الحجيج أنهم قد يطرحون طعامهم لعجز جمالهم عن حمله وقد يتركون ما عجز من جمالهم في البرية فيأتي إنسان ويأخذ ذلك أو يطعم الدواب حتى تقوى ثم يأخذها فهل يباح ذلك ويملك ما يأخذه. فأجاب: بقوله قال في الحاوي إذا ترك دابة أو بعيراً كبيراً في الصحراء لعجزه عن السير وعجز المالك عن حمله أو القيام به فمر به رجل فأحياه بالقيام عليه ومراعاته حتى عاد إلى حاله في السير والعمل حكى عن الليث و الحسن بن صالح أنه يكون لمجيبه دون تاركه إلا أن يكون التارك تركه ليعود إليه فيكون أحق به وقال أحمد و إسحق المحيي أحق به بكل حال وقال مالك هو على ملك تاركه ولكن لآخذه الرجوع بما أنفق ومذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه على ملك تاركه ولا رجوع للمنفق كما لو عالج عبداً أشفى على الهلاك حتى برأ أو أخرج متاعاً غرق في البحر وعن الحسن البصري أن من أخرج متاعاً قد غرق في البحر ملكه على صاحبه وهذا شاذ مدفوع بالخبر والإِجماع ولكن لو وجد في البحر قطعة عنبر في الموضع الذي يجوز أن يوجد فيه كانت ملكاً لواجدها وهذا كما لو صيدت سمكة من البحر فوجد في جوفها قطعة عنبر كانت ملكاً للصائد إذا كان بحراً يجوز أن يوجد فيه العنبر أما الأنهار وما لا يكون معدناً للعنبر من البحار فإنه يكون لقطة وأما اللؤلؤ فلا يكون في البحر إلا في صدفه فإن وجد فيه كان ملكاً لواجده وإن وجد خارج صدفه كان لقطة والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/32)
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن وجد زمن الأمن أمة مميزة آبقة فأخذها ليردها لمالكها فهربت من عنده قبل التمكن فهل يضمن وهل العبد مثلها وفي أدب القضاء للغزي ما يقتضي تقييد ذلك بمن عرف المالك. فأجاب: بقوله أفتى القاضي و ابن الصلاح بأنه يجوز لواجد العبد الآبق أخذه ليرده فإن لم يجد سلمه للحاكم فإن هرب قبل تمكنه من ذلك لم يضمنه وإلا ضمنه وما اقتضته عبارة الغزي من أن من لا يعرف المالك يضمن مطلقاً قد يفهم من قول القاضي أخذه ليرده فإنه لا يتصور الأخذ للرد على من لا يعرف وظاهر أن معرفة الحاكم الأمين كمعرفة المالك حتى يجوز للآخذ الدفع إليه ولا ضمان بالهروب قبل التمكن ويدل لذلك قولهم العبد عرضة للضياع مع قولهم أن ولاية حفظ مال الغائبين للحاكم والأمة التي لا تحل وغيرها في ذلك سواء كما اقتضته عبارة الرافعي رحمه الله تعالى وصرح به بعضهم ثم إذا أخذها الحاكم فعل الأصلح من حفظها وبيعها فإن هربت منه قبل تمكنه من فعل الأصلح لم يضمن وإلا ضمن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 373
وسئل: نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بما لفظه إذا جوزتم التقاط العبد المميز في زمن النهب فكيف يجوز أن يعرف ملتقطه أنه عبد حتى يلتقطه مع أنه لا يؤخذ بعلامات الأرقاء ككونه حبشياً أو زنجياً لأن الأصل في الناس الحرية. فأجاب: بقوله صوره بعضهم بأن يقر مجهول بالغ أنه قن مملوك ولا يعين المالك فله التقاطه حينئذٍ زمن النهب للتملك ذكراً كان أو أنثى أ هـ .
والظاهر أن هذا التصوير غير متعين بدليل تعبيرهم بالمميز دون البالغ وحينئذٍ فالذي يظهر أنه يجوز له أن يعتمد في وضع يده عليه بالعلامات والقرائن التي يظن بها رقه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 373(5/33)
باب الجعالة
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيمن قال لمعلم علم ابني القرآن العظيم وأنا آجر لك مثل ما يؤجر أصحابي لك أو آجر له أجراً معلوماً وهو لا يقرأ القرآن فعلمه إلى آخر سورة الملك فمات الابن أو المعلم أو ترك المعلم التعليم أو امتنع الولي عن تسليمه إليه كم يستحق المعلم أو وارثه من الأجر أفتونا مأجورين أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة. فأجاب: بقوله إذا جاعل إنساناً على تعليم ابنه القرآن كله بأجرة معلومة أو مجهولة صح وله في المجهولة أجرة المثل ثم إذا علمه البعض فقط دون الباقي فإن كان ذلك لموت المعلم أو المتعلم وجب للمعلم في الثانية ولورثته في الأولى القسط من المسمى المعلوم ومن أجرة المثل إذا كان مجهولاً لوقوع العمل مسلماً بالتعليم مع ظهور أثر العمل على المحل بخلاف نحو رد الآبق وإن كان لامتناع الأب من التعليم وجب للفقيه أجرة مثل ما عمله لأن المنع فسخ أو كالفسخ وحكم الفسخ من المالك في أثناء العمل يقتضي وجوب أجرة المثل للعامل فيما عمل وإن كان لامتناع المعلم له لم يستحق شيئاً لأن العامل في الجعالة متى فسخ أو امتنع من العمل أو إتمامه لم يستحق شيئاً لأنه امتنع باختياره ولم يحصل غرض المالك سواء أوقع ما عمله مسلماً أم لا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 374(5/34)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل وجد عبداً لرجل فراح إليه يطلب منه شيئاً يسمونه أهل البلد بشارة حتى أنه وصل سيد العبد فقال أطلب منك ما حد وحد بشارة فقال سيد العبد أعطيك ما فادينا عليه من الجعل وهو دون ما أراد فمسك العبد فقال: ممسك العبد بلغني نداؤك بذلك هات ذلك فقال سيد العبد هات عبدي وأسلم لك ذلك فراح واجد العبد يريد أن يأتي بالعبد فوجده قد أبق فهل على واجد العبد ضمانه لكونه حبسه لأجل الجعل أم لا أجاب بعض المفتين بأن عليه ضمانه لأن الأئمة رضي الله سبحانه وتعالى عنهم قالوا: ليس له حبسه لأجل الجعل وأجاب مفت آخر بأن يده يد أمانة لا يجب عليه شيء من ذلك فما الصحيح عندكم من ذلك. فأجاب: بقوله إن واجد العبد لا يستحق شيئاً في مقابلة رده له إلا إذا ثبت أن المالك قال: من رد عبدي فله كذا فإذا ثبت ذلك وسمعه واجد العبد قبل أن يجد العبد ثم وجده وأمسكه استحق حينئذٍ الجعل الذي عينه المالك لمن رد عبده ولو اختلفا فقال: الواجد شرطت جعلا وأنكر المالك أو قال شرطته على عبد آخر أو قال شخص أنا رددته وقال المالك بل جاء بنفسه أو رده غيرك صدق المالك بيمينه وعلى الآخر البينة نعم، لو اختلفا في بلوغه النداء فالقول قول الراد بيمينه كما لو اختلفا في سماع ندائه وإذا رده لا يستحق الجعل إلا إن سلمه للمالك فلو رده إلى دار المالك فمات قبل التسليم أو هرب منه أو غصبه ظالم منه أو تركه العامل أو ترك هو العامل ورجع بنفسه لم يستحق العامل شيئاً نعم لو لم يجد المالك وسلمه للحاكم فهرب استحق كما في فروع ابن القطّان وكذا لو هرب المالك وسلمه للحاكم فيستحق اتفاقاً قال الزركشي : فإن لم يكن حاكم أشهد واستحق وبما تقرر علم أن من رد آبقاً أو مالاً بغير إذن مالكه أو بإذنه ولم يلتزم له شيئاً في مقابلة الرد فلا شيء له سواء أكان معروفاً بالرد أم لا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قال ابن الرفعة في الكفاية تبعاً للإِمام وفي ضمانه(5/35)
لما وضع يده عليه حينئذٍ الخلاف في انتزاع المغصوب لرده وقضيته أنه يضمن لأن الأصح فيمن انتزع مغصوباً ليرده على مالكه أنه يضمنه إلا إن انتزعه من حربي أو من عبد المغصوب منه وبهذا يعلم أن واجد العبد يضمنه في صورة السؤال حيث لم يثبت أن المالك نادى عليه بجعل أو أمر من ينادي عليه بذلك أما إذا ثبت ذلك وهرب منه وهو جاء به في الطريق فإن كان هربه بتفريط من واجده كأن خلاه بمضيعة أو لم يحتفظ عليه حق الحفظ ضمنه وإن كان بغير تفريط منه كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه هذا كله حيث هرب منه وهو آتٍ به إلى المالك أما لو وجده ثم جاء به إلى داره وحبسه عنده لأجل استيفاء الجعل المشروط له فهرب منه في مدة الحبس فإنه يضمنه لأنه مفرط بحبسه سواء هرب بتفريط منه في حفظه حتى هرب أم لا لما تقرر من أن حبسه نفسه تفريط وقد أشار الغزي وغيره إلى ما ذكرته من التفصيل بقولهم أبق عبد فظفر به من يعرف مالكه فأخذه ليرده فهرب قبل تمكنه من رده ورفع أمره إلى الحاكم بلا تقصير لم يضمنه بخلاف من لم يعرف مالكه أو لم يرد رده أو قصر فإنه يضمنه أ هـ .
وبه يعلم أن من لم يعرف مالكه يضمنه وإن لم يفرط وكذلك من لم يرد رده يضمنه وإن لم يفرط لتقصيره فيهما وبما تقرر علم خطأ كل من المفتيين المذكورين في السؤال لأن إطلاق الجواب في محل التفصيل خطأ لكن سبب ذلك أن كثيرين الآن صاروا يتسوّرون ذرى منصب الإِفتاء قبل التأهل له فيضلون ويضلون والله سبحانه وتعالى يهدينا وإياهم لسواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 374(5/36)
وسئل: عما إذا رد الصبي العين المجعول عليها جعل فهل يستحق الجعل. فأجاب: بقوله نعم يستحقه كما اقتضاه إطلاقهم وأفتى به البارزي وقاسه على ما لو قال له خط هذا الثوب ولك أجرة وله احتمال أنه يستحق أجرة المثل كما لو عقد الإِجارة مع صبي على عمل ويجاب بأن الإِجارة يشترط فيها القبول وهو لا يصح من الصبي فكانت فاسدة بخلاف الجعالة فإنه لا يشترط فيها إلا العمل وهو يصح من الصبي فلم تكن فاسدة وإذا لم تفسد وجب المسمى.(5/37)
وسئل: بما صورته لو جوعل شخص على زيارة قبر النبي والدعاء للميت عند القبر الشريف فعجز عن الزيارة فهل يجوز له أن يجاعل غيره أم لا أجاب أبو قضام نعم يجوز له أن يجاعل عليها غيره أو يستنيب فيها تبرعً قاله إمام الحرمين والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا فيجب له المسمى والله سبحانه وتعالى أعلم وأجاب الفقيه أحمد بن عبد الله ملحاح فضل المجاعل ليس له أن يجاعل إلا أن يكون في الصيغة عموم حتى حصلت حجة ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وكلام الأصحاب في باب الجعالة يدل لصحة فتوى أبي قضام حيث قالوا: إن الجعيل المعين كالوكيل المعين لكن يشكل على فتواه ما قالوه ولو وكله فيما يمكنه عادة ولكنه عاجز عنه لسفر أو مرض فإن كان التوكيل في حال علمه بسفره أو مرضه جاز له أن يوكل وإن طرأ العجز فلا وقضية تقييدهم بذلك في الوكيل أن يجري مثله في الجعيل فيقتضي أنه لو وقع عقد الجعالة في حال الصحة باليمن مثلاً ثم طرأ العجز بمكة مثلاً أنه لا يجوز للجعيل أن يجاعل فهل هو كذلك حتى لا يصح ما يفعله كثير من اليمنية والحضارمة أو تصح جعالة الجعيل إذا طرأ له العجز سواء أكان العجز طارئاً أو كان موجوداً حال العقد وسواء علم المجاعل بطروّ العجز أم لا وهل المعتمد ما أفتى به أبو قضام أو ما أفتى به أبو فضل. فأجاب: بقوله هذه المسئلة فيها خلاف بين الأصحاب ولم يره الشيخان فأبديا فيها بحثاً وبيان ذلك أن الرافعي قال وقد خطر بالبال هنا أن العامل المعين هل يوكل الغير لينفرد بالرد كما يستعين به وأنه إذا كان النداء عاماً فوكل رجل غيره ليرده هل يجوز ويشبه أن يكون الأوّل كتوكيل الوكيل والثاني كالتوكيل بالاحتطاب أ هـ .
وعبارة الروضة فإن قيل هل للعامل المعين أن يوكل بالرد غيره كما يستعين به وهل إذا كان النداء عاماً يجوز أن يوكل من سمعه غيره في الرد قلت: يشبه أن يكون الأول كتوكيل الوكيل والثاني كالتوكيل بالاحتطاب والاستقاء انتهت فظاهر بحثهما(5/38)
بل صريحه في الأولى أنه يتأتى هنا ما قالوه في توكيل الوكيل من اشتراط عذر أو عدم لياقة ولا إشكال في ذلك على هذا البحث خلافاً لما أشار إليه السائل نفع الله تعالى به وفي الثانية والصورة أن الموكل سمع النداء قبل توكيله الجواز مطلقاً وجزم بما بحثاه في الصورتين مختصرو الروضة وغيرهم، فإن قلت: ينافي بحثهما هذا قولهما كالأصحاب لو قال لزيد رده ولك كذا فأعانه آخر في رده بعوض أو مجاناً فالكل لزيد فإنه قد يحتاج للمعاونة وغرض الملتزم العمل بأي وجه أمكن فلا يحمل على قصر العمل على المخاطب ولا شيء للمعاون إلا إن التزم له زيد أجرة فيستحقها حينئذٍ قلت: فرق واضح بين التوكيل والإِعانة فإن التوكيل فيه رفع يده واستقلال يد وكيله وليس يد وكيله كيده بخلاف يد قنه غير مكاتبه فاغتفر في الإِعانة ما لم يغتفر في التوكيل فلذا جازت الإِعانة مطلقاً وفصل في التوكيل بين المعين فلا يجوز له توكيل غيره إلا بعذر لأن الجاعل قد يكون مقصوده مباشرة العامل بنفسه فامتنع توكيله حيث لا عذر ومن ثم لو قال له لتعمل بنفسك لم يجز له التوكيل مطلقاً وبين المبهم فجاز له التوكيل مطلقاً لأن الجاعل لم يقصد عين أحد فإن قلت: ينافي ما ذكر من التفصيل في التوكيل عند التعيين قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 374(5/39)
إمام الحرمين في النهاية الذي استند إليه أبو قضام ظاهر قوله لمعين إن رددت عبدي فلك كذا يقتضي استدعاء العمل من المخاطب نفسه ولا معنى لحمل اللفظ على قصر العمل في المخاطب بل يتعين حمله على تحصيل المقصود والسعي فيه بأي وجه كان حتى لو استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها أو أعانه متبرعاً فإذا حصل المقصود فلا نظر إلى جهات العمل بناءً على مقصود الباب أ هـ .
وجرى عليه الغزالي في بسيطه فقال: إذا عين مخاطباً وقال: إن رددت عبدي الآبق فلك كذا فليس يتعين عليه السعي بنفسه بل له الاستعانة بغيره فإذا حصل العمل استحق الأجرة أ هـ .
قلت: لا ينافيه بل هو عينه لأن الإِمام والغزالي إنما فرضا ذلك في الإِعانة لا في التوكيل كما فهمه السبكي وهو واضح وعبارة الأذرعي في توسطه عقب كلامهما، قال قائل: وأحسبه السبكي رحمه الله تعالى وعلى هذا لا فرق بين عبده والأجنبي وهو صحيح يشهد له مسئلة معاونة الغير له وهي منصوصة متفق عليها أ هـ .
وجرى عليه في الخادم فقال: وقد يشهد لما قاله الغزالي اتفاق الأصحاب فيما إذا قال إن رددته فلك كذا فشاركه غيره في الرد وقصد معاونته أنه يستحق زيد الجعل لأنه إذا صح أن يقع عمل الأجنبي له من غير إذن فبإذنه أولى فإن قلت: سلمنا أن كلام الغزالي وإمامه في المعاونة لا التوكيل فكلام القاضي حسين وتلميذه أبي سعيد المتولي صريحان في منع التوكيل وعبارة القاضي في تعليقته غير المشهورة ولو رده عبده استحق لأن يد العبد يده ولو رده وكيله لا يستحق الأجرة لأنه لم يشترط له شيء ولأن يد الوكيل غير يده انتهت وعبارة المتولي إذا رده وكيله لم يستحق شيئاً قلت: غاية ذلك أن هذين الإِمامين أطلقا منع التوكيل والشيخان وغيرهما. اعتمدوا التفصيل السابق فيه فتعين حمل إطلاق هذين على أحد شقي تفصيل أولئك وبما فرقت به بين التوكيل والإِعانة صرح الأذرعي فقال: وقد يفرق بين مسئلة المعاونة والتوكيل بأنه تفويض كلي أي ولا كذلك(5/40)
الاستعانة وهذا هو عين ما قدمته من الفرق وبه يعلم أن إطلاق كل من أبي قضام وأبي فضل ليس بصحيح أما أبو قضام فإنه اعتمد كلام الإِمام كما صرح به وقد علمت أن كلام الإِمام إنما هو في الإِعانة لا في التوكيل والذي في السؤال إنما هو من باب التوكيل في معين لأن الفرض أن الجاعل قال لآخر جاعلتك على الزيارة والدعاء فجاعل غيره ليزور ويدعو وتخلف هو فهذا توكيل لانفراد الوكيل لا إعانة وكلام الإِمام إنما هو في الإِعانة لا التوكيل فاتضح أن إطلاق أبي قضام الجواز هنا غير صحيح وأن استدلاله بكلام الإِمام غير صحيح أيضاً وأما أبو فضل فإنه اعتمد إطلاق القاضي والمتولي امتناع التوكيل في المعين وأخذ بمفهوم ذلك من جوازه حيث لا تعيين وهو إطلاقاً وأخذاً غير صحيح أيضاً لما علمت أن المعتمد حمل كلام القاضي والمتولي على غير المعذور فيمتنع التوكيل حينئذٍ بخلاف المعذورون المعتمد عند الشيخين وغيرهما. في عدم التعيين جواز التوكيل مطلقاً والعجب كل العجب من هذين الإِمامين كيف غفلا عن كون هذه المسئلة في كلام الشيخين ومختصري الروضة وغيرهم واعتمد الأول كلام الإِمام وهو ليس في هذه الصورة والثاني كلام القاضي والمتولي وهو ليس موفياً لتفصيله الذي فصله من الامتناع عند التعيين مطلقاً والجواز عند الإِبهام مطلقاً وليس كذلك كما تقرر واتضح فالحاصل أن المعتمد عند الشيخين رحمهما الله تعالى وغيرهما أن الجاعل متى قال: جاعلتك لتدعو مثلاً فإن عذر جاز له التوكيل بأجرة وغيرها وإلا فلا وتجوز له الإِعانة بمن يشاركه في الإِتيان بالعمل الملتزم مطلقاً هذا كله إن لم يقل بنفسك وإلا امتنعت الاستعانة والتوكيل مطلقاً كما أشار إليه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 374(5/41)
الأذرعي نقلاً عن غيره ومتى قال: من دعا لميتي بمحل كذا فله كذا جاز التوكيل مطلقاً فضلاً عن الاستعانة ويستحق الموكل والمستعين المسمى فاحفظ ذلك وافهمه ولا تغتر بما وقع لكل من ذينك الإِمامين لما علمته ثم رأيت القمولي أوّل كلام المتولي فقال عقبه ولعل مراده إذا لم يستعن به الموكل في رده أي بأن فوّض إليه الرد من أصله وهو قادر عليه بخلاف ما إذا استعان به بأن شاركه فيه فإنه يستحق مطلقاً وهذا صريح من القمولي أيضاً، فيما قدمته من الفرق بين الإِعانة والتوكيل فإن قلت: ما الفرق بين ما ههنا من أن قوله لآخر إن فعلت كذا فلك كذا لا يتعين عليه فعله بنفسه على ما تقرر بخلاف استأجرتك لتحج أو لتدعو أو تزور وقلنا بصحته فإنه يتعين المباشرة بنفسه مطلقاً قلت: الإِجارة ليس فيها شائبة توكيل فوجب العمل بمقتضى قوله لمعين لتفعل كذا من قصره على فعله والجعالة فيها شائبة توكيل كما علم مما مر وصرحوا به فنظروا إلى أن الغرض تحصيل المقصود لا عين محصلة على ما مر فيه من التفصيل فتأمله والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عن شخص جوعل على تحصيل حجة وزيارة بلفظ واحد أو على التعاقب بأربعين أشرفياً مثلاً فلما حج ذلك الجاعل عمن جوعل له شرع في السير إلى المدينة ليزور عنه فلما بلغ إلى مقرح توفي فهل يستحق أجرة الزيارة بكمالها أو يستحق القسط منها أو لا يستحق شيئاً أصلاً فإن قلتم يستحق أو لا يستحق مثلاً فهل بين الجعالة والإِجارة فرق أم لا. فأجاب: بقوله الجعيل لا يستحق شيئاً كالأجير الذي مات قبل الميقات بجامع أن كلاً منهما لم يأتِ بشيء مما أمر به فهما سواء في هذا وإنما يتخالفان في أن الجاعل لا يستحق شيئاً وإن أتى ببعض المأمور به والأجير يستحق وفرقوا بينهما بأن الإِجارة لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد شيئاً فشيئاً والجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلا بفعل ما شرط عليه ولم يوجد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(5/42)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 374
كتاب الفرائض
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل هلك وخلف جدتين إحداهما أم أمه والثانية أم أبيه وجداً وامرأة حاملاً وعن رجل هلك وخلف جداً وجد؟. فأجاب بقوله: المسألة الأولى من أربع وعشرين وتعول لسبع وعشرين للجدتين السدس عائلاً يقسم بينهما بالسوية وللزوجة الثمن عائلاً ويوقف للحمل ثلثان عائلان لاحتمال كونه أنثيين فأكثر وللجد ما بقي ثم إن بان الحمل أنثيين فأكثر فظاهر، وإن بان أنثى أخذت الجدتان السدس من أربعة وعشرين والزوجة الثمن منها والبنت نصفها والباقي للجد، وإن بان ذكراً أو أكثر أو ذكراً وأنثى أخذت الجدتان السدس من أربعة وعشرين والزوجة الثمن منها والباقي للذكر أو الذكور أو والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين، والمسألة الثانية من ستة للجدة السدس وللجد ما بقي، وشرط إرث الجدة مع الجد أن لا تدلي به وإلا حجبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/43)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته الحمد لله الذي أنار الكون بالعلماء وجعلهم سبباً لكشف الغمة والعماء وأنار الحكمة في قلوبهم فاستنارت حتى بلغت عنان السماء تفضلوا يا شيخ الإسلام بكشف هذا الرين الذي عم على قلوب أهل زماننا حتى أن أحدهم يموت ولا يوصي تكون له الضياع فيقسم ما بيده للأولاد ويخرجه عن ملكه في حال حياته ويجعل الذكر والأنثى فيه سواء فإذا مات الشخص المذكور وجاءت الأنثى تطلب حقها قال لها أخوها لا أقسم ما أعطاني أبي وإنما جعل لك معي في حياته ناكلين إذا احتجت وامتنع فهل يا شيخ الإسلام إذا دفع رب المال الأرض إلى أولاده الذكور في حال حياته يجوز هذا مع الخطر العظيم، فإن قلتم نعم فكيف لهذا المعطي إذا دفع لبعض أولاده شقصاً من الأرض المذكورة ومات المدفوع إليه وقد زرع الشقص المذكور زماناً وهو أي المدفوع إليه قد خلف زوجة وبنتاً هل يعطيان ما في يده من هذه الأرض المذكورة التي فيها حق الإناث المذكورات أو لا؟ فإن قلتم لا فكيف الصواب الذي نركن إليه؟. فأجاب بأنه إذا قسم ما بيده بين أولاده فإن كان بطريق أنه ملك كل واحد منهم شيئاً على جهة الهبة الشرعية المستوفية لشرائطها من الإيجاب والقبول والإقباض أو الإذن في القبض وقبض كل من الأولاد الموهوب لهم ذلك وكان ذلك في حال صحة الواهب حاز ذلك وملك كل منهم ما بيده لا يشاركه فيه أحد من إخوته، ومن مات منهم أعطى ما كان بيده من أرض ومغل لورثته كالزوجة والبنت المذكورين في السؤال وإن كان ذلك بطريق أنه قسم بينهم من غير تمليك شرعي فتلك القسمة باطلة، فإذا مات كان جميع ما يملكه إرثاً لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ومن شك في ذلك أو اعتقد خلافه فقد كفر ومرق من الدين فتضرب عنقه إن لم يتب ويجدد إسلامه، وقد عمت هذه المصيبة وطمت بين نواحي أهل بجيلة ومن ضاهاهم فيجب إذاعة ذلك فيهم وإعلامهم بأن اعتقاد أن الأنثى لا ترث كفر، يخرج معتقده عن ملة الإسلام، والعياذ بالله،(5/44)
وإما بطريق أن يقف ما بيده على أولاده في حال صحته، ويشترط أن الأنثى لا حق لها فيه ما دامت متزوّجة وأنها لا تستحق شيئاً فيه إلا إذا احتاجت فهذا وقف صحيح يجب العمل بقضيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 2
وسئل في شخص مات عن زوجة وأخ لأب فقالت الزوجة أنها حامل فهل تصدق أم لا؟ فإن طلبت الزوجة القسمة قبل الوضع فهل تجاب أو لا؟ فإن أجابها الأخ للقسمة ولم يكن وصياً ولا وكيلاً من جهة الحاكم فهل تصح القسمة أو لا؟ ثم مات الأخ المذكور عن ثلاثة بنين أحدهم غائب ثم رجعت الزوجة المذكورة عن الحمل فهل تصدق أم لا؟ فإن صدقت فذاك وإن لم فهل تتربص أم لا؟ فإن قلتم تتربص فإلى متى ثم بعد أن رجعت طلبت القسمة ثانياً فهل تجاب أو لا؟ فلو أجابها الحاضرون للقسمة في غيبة أخيهم فهل تصح القسمة أو لا؟ فإذا حضر الغائب أو وكيله فهل له إبطال القسمة الأولى أو الثانية دون الأولى؟. فأجاب بقوله: نعم تصدق في دعوى الحمل إن ظهرت مخايله أو وصفته بعلامة خفية، وكذا إن لم تدعه وأمكن لقرب الوطء ولها طلب القسمة لأنها تستحق الثمن في هذه الصورة على كل تقدير، نعم ليس لها طلب القسمة من الأخ ولا من ورثته لعدم صحتها منهم ما دام الحمل موجوداً، وإنما يقسم لها القاضي وإن رجعت إذ لا أثر لرجوعها مع رجائه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: هلك وترك ابن أخ وشقيقته فهل يعصبها ويأخذ حصتها وما الفرق بينها وبين بنت الابن التي يعصبها أخوها وترث معه عند استيفاء البنتين الثلثين وولد بنت الابن هل يرث أم أمه وأم أبي أمه وهل يرثانه أو لا؟. الجواب: بنت الأخ ليست وارثة في حال من الحالات لأنها من ذوات الأرحام فلا يتصوّر أن أخاها يعصبها بخلاف بنت الابن فإنها وارثة فعصبها أخوها وغيره ولا يرث ولد بنت الابن أم أمه ولا أم أبي أمه وترث منه الأولى دون الثانية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/45)
وسئلت عن طائفتين اقتتلتا وفقد منهم جمع الغالب على الظن موتهم في جملة من قتل فهل يقسم إرثهم وتتزوج نساؤهم؟. فأجبت: لا تحل القسمة ولا التزويج إلا إن ثبت ببينة موته أو مضت مدة يعلم أنه لا يعيش إليها ولو بغلبة الظن فلا يشترط القطع بأنه لا يعيش أكثر منها فإذا مضت المدة المذكورة حكم الحاكم بموته وقسم ماله على من كان وارثاً له عند الحكم، ثم بعد الحكم بموته تعتد زوجته فإذا انقضت عدتها تزوجت، وأما قبل ذلك فلا يحل لها أن تتزوج وإن غلب على ظنها موته، لأن الأصل بقاء حياته حتى يثبت موته، نعم لمن أخبرها عدل ولو عبداً أو امرأة بوفاة زوجها أن تتزوج سراً، لأن ذلك خبر لا شهادة ولا تمكن من ذلك ظاهراً، وأما قول بعضهم قد يقال إذا ساغ لها اعتماده، وعلمنا ذلك اتجه جواز اعتماده ظاهراً أيضاً ففيه وقفة كما قاله الأذرعي ، أي لأن ذلك إنما جاز لها سراً للضرورة فلو جوّزناه لها ظاهراً لكنا مبطلين لعصمة محققة الثبوت بمجرد ظن لم يعتضد بما يقويه من حكم أو تمام نصاب أو نحوهما، وبهذا يتضح رد تلك المقالة وأن المعتمد خلافها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 2(5/46)
باب الوصية
وسئل عمن قال في مرض موته عبدي حر بعد موتي أو عتيق كذلك بثلاثة أيام وثمر أرضي الفلاني أو استغلال أرضي الفلاني وصية له وإن سرق أو سافر من بلدنا أو ناكر أهله ما هي له ما حكمه؟. فأجاب بأن قوله لقنه: ما ذكر في السؤال في حكم الوصية له فيعتق بعد الموت بثلاثة أيام ويستحق الثمر أو العلة ويكون كل من عتقه وما وصى له به من الثلث، فإن وفى بهما فذاك أو بأحدهما فقط قدم عتقه وبطلت وصيته وإن لم يف الثلث بكل عتق منه قدر الثلث وصارت الوصية لمن بعضه حر وبعضه للوارث، وأما اشتراطه عليه أنه متى سرق أو سافر أو ناكر أهله لا حق له في الوصية فهو صحيح نظير ما قالوه فيما لو قال أوصيت لفلان بكذا إن أعطى ولدي كذا، فإن وجد الشرط استحق الوصية وإلا فلا، ثم رأيت جمعاً من المتقدمين والمتأخرين صرحوا بصحة تعليق الوصية بالشروط منهم الصيمري في شرح الكفاية وصاحب التنبيه و الماوردي و ابن الرفعة في المطلب وتبعهم القمولي فقال تعليقها بالشرط كأوصيت له بكذا إن تزوّج بنتي أو إن رجع من سفره وتعليقها بمرضه كإن مت في مرضي هذا فأعطوا فلاناً كذا أو فسالم حر فإن برىء ومات بغيره بطلت، وعبارة الماوردي لو أوصى بعتقها على أن لا تتزوّج عتقت على الشرط، فإن تزوّجت لم يبطل العتق والنكاح لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه لكن يرجع عليها بقيمتها ويكون ميراثاً ولو طلقها الزوج لم تستحق استرجاع القيمة ولو أوصى لأم ولده بألف على أن لا تتزوّج أعطيت الألف فإن تزوّجت استرجع منها بخلاف العتق انتهت، وفيها التصريح بأن الوصية تقبل التعليق والشرط، وبه يرد قول التدريب أنها تقبل التعليق دون الشرط اللهم إلا أن يحمل على شرط ينافي مقتضاها، وبه يرد أيضاً ما في الرافعي في الوقف عن القفال مما يقتضي أنها لا تقبل التعليق أيضاً، والفرق بينهما أن التعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته كان وإذا والشرط ما جزم فيه بالأصل، وشرط فيه(5/47)
أمراً آخر إذا تقرر ذلك اتضح ما ذكرته في الجواب عن صورة السؤال وعلم أنه المنقول المعتمد، ووقع لبعضهم إفتاء مستند إلى كلام الروضة في الهبة يخالف ظاهره ما تقرر وسيعلم رده مما سأذكره وعند وجود السرقة أو نحوها مما شرط عدمه يسترجع الموصي به له منه إن بقي بيده أو بيد من باعه مثلاً، فإن تلف رجع الورثة عليه بمثله في المثلى وقيمته في المتقوّم ولو أوصى لآخر بعين وقال إن مات قبل البلوغ عادت لوارثي فقد ذكر في باب الهبة ما يؤخذ منه حكم ذلك وهو أنه يصح عقد العمرى لا شرطها ففي أعمرتك هذا أو وهبته لك أو جعلته لك عمرك فإذا مت عاد إليّ أو إلى وارثي صح العقد لا الشرط فإذا قبل المعمر وقبض ملكه فيتصرف فيه كيف شاء فإذا مات فهو لورثته ثم لبيت المال، ولا يجوز تعليق
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/48)
العمرى إلا بموت المعمر كإذا مت فهو لك عمرك فيكون وصية فإن زاد وإن مت عاد إليّ أو إلى ورثتي أو إلى فلان فهو وصية بالعمرى على صورة الحاكم السابقة اهـ، فأفهم قولهم فيكون وصية وقولهم فهي وصية الخ، صحة الوصية في الصورة الأولى وموته بعد موت الموصي قبل البلوغ لا يوجب عودها لورثة الموصي كما تقرر في العمرى من فساد الشرط فيها مع صحة العقد، ولو قال أوصيت له بهذه إن بلغ وبمنفعتها قبل البلوغ فإن مات قبله فهي لوارثي فيؤخذ مما مر تقييد الوصية بالعين بما بعد البلوغ فإذا بلغ ملكها وقبل البلوغ إنما يملك منفعتها فقط، وقوله فإن مات قبله فهي لوارثي باطل لما مر نعم يشترط بلوغه قبل موت الموصي أخذاً من قولهم متى دخلت الدار فأنت مدبر اشترط حصول الدخول في حياة السيد كسائر الصفات المعلق عليها، فإن مات السيد قبل البلوغ فلا تدبير إذا علمت ذلك فلا ينافي هذا ما مر من صحة تعليق الوصية بالشرط ولزومه، لأن الشروط ثم لا تنافي موضوع الوصية وهنا تنافيها، إذ موضوعها ملك العين والتصرف وأنها لا تعود لورثة الموصي بشرطه عودها لهم لا لموجب من الموصى له فكان الشرط باطلاً مع القول بصحتها نظير ما مر في العمرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/49)
وسئل فيما لو قال أوصيت بكذا وكذا واجب كفارة ولم يعين في وصيته أنه كفارة يمين ولا غيرها، وذلك القدر لا يبلغ كفارة يمين أو يزيد عليها ولا يبلغ تمام ثانية كيف صرفها، والحال أن في عرف الموصي أن ذلك يصرف على غير القانون الشرعي بينوا ذلك فقد صرح بعضهم بأنه يحمل على الواجب، وبعضهم بأنه يحسب من رأس المال إن لم يقل على سبيل الاحتياط وإلا فمن الثلث فلو عرف بالقرائن من الموصي إرادة الاحتياط ما حكمه؟. فأجاب بأن الذي يتجه في ذلك أنه يجب إخراج تلك الكفارة التي أوصى بها من رأس المال ما لم يصرح بأنها للاحتياط ولا أثر للقرائن ولا للعرف في ذلك ولا لكون الكفارة الموصى بها تبلغ كفارة يمين أو تزيد عليها أو تنقص عنها لاحتمال أنه كان عليه كفارات، وأخرج بعضها وبقي بعضها ويلزمه صرفها على الفقراء والمساكين لكل مسكين مد، لأن هذا هو الأغلب في الكفارات فليحمل لفظه عليه، أما إذا صرح بأن أمره بإخراج تلك الكفارات إنما هو على سبيل الاحتياط فإن كان الاحتياط واجباً كانت من رأس المال أيضاً وإن كان احتياطاً مندوباً كانت من الثلث وإن شك فالذي يظهر انصرافه إلى المندوب لأنه المتبادر من لفظ الاحتياط ويحتمل انصرافه للواجب احتياطاً لبراءة الذمة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/50)
وسئل عن رجل أوصى وصية وضمن مكتوب الوصية بإشهاد شرعي أنه في عام كذا أوقف جميع ما بيده، إذ ذاك من العقار بمكة وحدة على أولاده لصلبه الثلاثة وهم فلان وفلان وفلان بالسوية عليهم ثم من بعدهم على أولادهم وأولاد أولادهم وذريتهم ونسلهم وعوّل على مكتوب وقف سابق مؤرخ في العام المذكور أعلاه، ثم إن الرجل الموصي انتقل بالوفاة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى ولم يوجد مكتوب الوقف المعوّل عليه في تركته وحصل نزاع بين الورثة في الوقف المتضمن بكتاب الوصية فهل هذا الإشهاد الصادر منه في حال مرضه الذي توفي فيه صحيح أم لا؟ وهل يخرج الوقف من الثلث أم لا؟ وهل إذا عوّل على مكتوب الوقف كما ذكر أعلاه وفُقِدَ، عمل بإشهاده الثاني بالوقفية كما ذكر بكتاب وصيته أم لا؟. فأجاب بأنه إذا أقر في حال مرضه بوقف سابق على المرض صح إقراره، لأن الإقرار ليس تبرعاً حتى يعتبر من الثلث، وإنما هو إخبار عن حق سابق فوجب العمل به سواء أكان لوارث أم أجنبي فلا تدخل الأعيان التي أقر بوقفيتها في التركة بل تكون مستحقة للموقوف عليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/51)
وسئل عما لو أوصى بنخلة على مسجد وأخرى على مكان آخر بمسجد آخر ساقية مملوكة على القول بصحته ثم نسي الشهود أو بعضهم دون النصاب معين كل فهل يأتي هنا ما ذكروه فيما لو اندرس شرط الواقف وما لو أشكل التقسيط على النشو لجهل مقدار السقي ولو كانت الوصية لغير جهة كمعينين الوقف على إصلاحها، والحال ما ذكر أو ما الحكم؟. فأجاب بأن ذلك يحتاج إلى ذكر ما قالوه في الوقف ليتعرف هل يصح تخريج هذه عليه أو لا، والذي في الروضة وغيرها في ذلك أنه لو اندرس شرط الواقف وجهل الترتيب بين أرباب الوقف أو المقادير بأن لم يعلم هل سوّى الواقف بينهم أو فاضل قسمت الغلة بينهم بالسوية، إذ لا مرجح فإن تنازعوا في شرطه ولا بينة صدق ذو اليد بيمينه لاعتضاد دعواه باليد فإن لم يكن لواحد منهم على الموقوف يد أو كان في أيديهم سوّى بينهم فإن جهل مستحق الوقف صرف لأقرباء الواقف ثم للمصالح هذا كله حيث لم يكن الواقف أو من يقوم مقامه حياً كما بينه الماوردي والروياني بما حاصله أن الواقف إن كان حياً عمل بقوله بلا يمين فإن مات رجع لوارثه فإن لم يكن له وارث وله ناظر من جهة الواقف رجع إليه لا إلى المنصوب من جهة الحاكم فإن وجدا واختلفا فهل يرجع إلى الوارث أو إلى الناظر وجهان رجح الأذرعي منهما الثاني، وفي فتاوى النووي وإذا قلنا بالأصح أن الوقف يثبت بالاستفاضة لا يثبت بها شروطه وتفاصيله بل إن كان وقفاً على جماعة معينين أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية أو على مدرسة مثلاً أو تعذرت معرفة الشروط صرف الناظر الغلة فيما يراه من مصالحها اهـ، وسبقه إلى ذلك ابن سراقة وغيره لكن قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/52)
الإسنوى هذا الإطلاق ليس بجيد بل الأرجح فيه ما أفتى به ابن الصلاح فإنه قال يثبت بالاستفاضة أن هذا وقف لا أن فلاناً وقفه قال: وأما الشروط فإن شهد بها منفردة لم يثبت وإن ذكرها في شهادته بأصل الوقف سمعت لأنه يرجع حاصله إلى بيان كيفية الوقف اهـ. قال الإسنوى : ولا شك أن النووي لم يطلع عليه اهـ، وتبع الإسنوى على ذلك شيخنا شيخ الإسلام زكريا فقال: الأوجه حمل ما أفتى به النووي على ما قاله ابن الصلاح اهـ، وأنت خبير بأن الفقهاء سوّوا بين بابي الوقف والوصية في مسائل كثيرة فلا يبعد أن تقاس مسألة الوصية المذكورة على ما قلناه في مسألة الوقف فيقال إن كان للموصي وارث رجع إليه، فإن لم يكن له وارث رجع إلى وصيه إن كان له وصي، فإن وجدا واختلفا فهل يرجع إلى الوارث أو إلى الوصي احتمالان أرجحهما الثاني على قياس الوجهين السابقين في مسألة الوقف، والراجح منهما فإن لم يكن وارث ولا وصي قسمت غلة النخلتين بين المسجدين أو المسجد والضمير المذكور وهو جسر في وسط النهر يجعل لسده حتى يسقي ما عليه من الأراضي، ويدل لذلك قول النووي في فتاويه السابقة أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية بل مسألتنا أولى بذلك من مسألة النووي لأن بعض الجهات يحتمل أن يكون استحقاقه متأخراً عن بعض، ومع ذلك لم ينظروا إليه بل سوّوا بينها حذراً من الترجيح بلا مرجح ومسألتنا نتحقق أن واحدة من النخلتين مستحقة لهذه وواحدة مستحقة لهذا فاستحقاقها متيقن وإنما شككنا في المعين فكان حملها على التساوي الذي ليس فيه إلا فوز إحداهما بزيادة على حصتها من حصة الأخرى أولى من مسألة الوقف التي فيها احتمال ذلك واحتمال أن إحدى الجهات فاز بما لا يستحق فيه شيئاً بالكلية، فإن قلت يمكن الفرق بأن مسألة الوقف تحقق فيها أن لكل واحد من المعينين أو الجهات حقاً في هذا الوقف المشكوك في شروطه، وإنما الشك في تعجل استحقاقه وتأخره بخلاف مسألة الوصية فإنا نتحقق أنه ليس لكل(5/53)
من الجهتين حق في كل من النخلتين المشكوك فيهما فيلزم على التساوي هنا إعطاء واحدة من الجهتين شيئاً لا استحقاق لها فيه بوجه لا متقدماً ولا متأخراً بخلافه في مسألة الوقف فإن غاية ما يلزم عليه تعجيل حق المتأخر وهذا الحق كما لا يخفى، قلت محتمل لكن يمكن أن يجاب بأن بعض الجهات في مسألة الوقف قد يتصوّر أنه لا يستحق شيئاً في هذا الوقف بأن يكون استحقاقه مشروطاً بانقراض غيره إلى ذهاب عين الوقف والقسمة بينهما على السواء فاستوت المسألتان ويكفي في الجامع بينهما أن كلاً يحتمل فيه إعطاء من لا يستحق وتنقيص حق من يستحق وهذا جامع صحيح يكفي مثله في صحة القياس، وأما تخريج هذه المسألة المشار إليه في السؤال على ما قالوه في الزكاة من أن ما يسقى بنحو المطر والدولاب سواء واجبه ثلاثة أرباع العشر، فإن غلب أحدهما قسط باعتبار عيش الزرع أو الثمر ونمائه لا بعدد السقيات فلو كانت مدته ثمانية أشهر وسقى في ستة أشهر من الشتاء والربيع مرتين بالمطر وفي شهرين من الصيف ثلاثة بالنضح وجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصفه فإن جهل المقدار أو الغالب فثلاثة أرباعه فغير صحيح لأن وجوب ثلاثة أرباعه عند الجهل إنما هو لأجل تقدير التساوي، لأن الأصل عدم زيادة أحدهما على الآخر ولا حد للنقص عن التساوي يرجع إليه فقدرنا التساوي احتياطاً، وقيل الواجب نصف العشر لأن الأصل براءة الذمة من الزائد ويرد بما ذكرته وبه يتضح ما تقرر من أن مسألتنا لا يصح تخريجها على هذه لأن الذي في هذه تعلق به حق المستحقين لكن شككنا في قدر حقهم فقدرنا التساوي احتياطاً لهم، لأن الغارم متحد والمغروم عنه كذلك بخلاف مسألتنا فإن المستحق فيها جهتان متمايزتان والمستحق عينان كذلك فلا يلزم من الحمل على التساوي في مسألة الزكاة للاحتياط الحمل عليه في مسألة الوصية على أنه لو سلم الحمل عليه في مسألة الوصية كان موافقاً لما قررته في قياسها على مسألة الوقف، وعلى مسألة الزكاة فكل(5/54)
منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر لا أنه يقتضي خلافه، وعلم مما قدمته أنه لا فرق في مسألة الوصية بين أن تكون لجهتين أو لمعينين أو لجهات أو لمعينين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عن الوصي بتفرقة الكفارة هل له أن يأخذ لنفسه من ذلك ويتولى الطرفين؟. فأجاب بأنه لا يجوز له أن يأخذ لنفسه شيئاً مما أوصى له بتفرقته سواء الكفارة وغيرها، فقد قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم إذا قال الرجل ثلث مالي لفلان يضعه حيث يراه الله سبحانه وتعالى فليس له أن يأخذ لنفسه شيئاً كما لا يكون له لو أمره أن يبيع شيئاً أن يبيعه من نفسه، لأن معنى بيعه يكون مبايعاً وهو لا يكون مبايعاً إلا لغيره، وكذا معنى يضعه يعطيه لغيره، وكذلك ليس له أن يعطيه وارثاً للميت لأنه إنما يجوز له ما كان يجوز للميت فلما لم يكن للميت أن يعطيه لم يجز لمن صيره إليه أن يعطي منه من لم يكن له أن يعطيه، قال ـ رضى الله تعالى عنه ـ : وليس له أن يضعه فيما ليس فيه للميت نظر ولا يكون له أن يحبسه عند نفسه ولا يودعه غيره، لأنه لا أجر للميت في هذا، وإنما الأجر للميت أن يسلك في سبل الخير التي يرجى أن تقربه إلى الله عز وجل. قال ـ رضى الله تعالى عنه ـ : فاختار للموصي إليه أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يعطي كل رجل منهم دون غيرهم فإن إعطاءهم أفضل من إعطاء غيرهم لما ينفردون به من صلة الميت قرابتهم ويشتركون به أهل الحاجات في حاجاتهم وقرابته ما وصفت من القرابة من قبل الأب والأم معاً وليس الرضاع قرابة وأحب له إن كان له رضعاء أن يعطيهم دون جيرانه، لأن حرمة الرضاع تقابل حرمة النسب ثم أحب أن يعطي قرابته الأقرب منهم فالأقرب وأقصى الجوار فيها أربعون داراً من كل ناحية ثم أحب له أن يعطيه لفقير ممن يجد وأشده تعففاً وانكساراً ولا يبقى في يده منه شيئاً يمكنه أن يخرجه ساعة من نهار اهـ كلام الأم وهو مشتمل(5/55)
على فوائد نفيسة، فلذا أحببت ذكره برمته ليستفاد ما اشتمل عليه ويوافقه قول الروضة لو قال ضع ثلث مالي حيث رأيت أو فيما أراك الله لم يكن له وضعه في نفسه اهـ وبكلام الأم والروضة يعلم أنه لو قال فرق هذه الدراهم للفقراء وهو فقير أو للمساكين وهو مسكين لم يكن له الأخذ منها وهو أحد وجهين ذكرهما الشيخ أبو حامد وغيره بلا ترجيح، فإن قلت فهل للوصي طريق في الأخذ، قلت نعم بأن يعزل نفسه فيأخذه الناظر العام وهو القاضي أو نائبه فيجوز له حينئذ أن يعطي من كان وصياً، فإن قلت لا يحتاج لعزله نفسه بل حيث فرق القاضي أو نائبه جاز له إعطاؤه، قلت ممنوع لأنه لا ولاية للقاضي مع وجود الوصي فعلم أن بقاءه على وصيته من غير قادح فيه مانع للقاضي من التصرف وله من الأخذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عما إذا تواطأ شخص وآخر على أن يوصي للآخر بشيء ويرده على أحد ورثته ثم أوصى فمات ثم مات الموصي له قبل الرد فهل الموصى به لورثة الموصي له أو لورثة الموصي ولو أراد الموصي له أن يرد لكن قد مات المتواطىء على الرد عليه وخلف ورثة وقلنا أن للموصي له الرد على المورث لا الوارث ما حكمه؟. فأجاب بأنه حيث صحت الوصية للموصي له بأن وجدت فيها شروطها المعروفة، ومنها أن يقبلها الموصي له بعد موت الموصي فإذا قبلها حينئذ ملكها ملكاً تاماً ولا عبرة بمواطأته مع الموصي على أنه يرد على أحد ورثته فإذا مات الموصي له كان الموصي به لورثته لا لورثة الموصي ولو أراد الموصي له أن بقي بما واطأ عليه الموصي جاز له الرد إلى أحد ورثة الموصي وإلى وارث ذلك الأحد لكن لا يكفي قوله رددت ذلك عليك، بل لا بد من إيجاب وقبول لأنه تمليك جديد لما قلناه من أن الموصى له ملك الموصى به ملكاً تاماً فلا يخرج عن ملكه إلا بصيغة تفيد التمليك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/56)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن وصي شاهد على طفل بموصى به لآخر في مخلف إلى هذا الطفل لا شاهد به غيره هل له تنفيذ هذه الوصية أم لا؟. فأجاب: بأن الوصي حيث علم أن الميت أوصى بشيء لإنسان وصية صحيحة وكان يخرج من الثلث جاز له بل وجب عليه دفعه له، لكن لا يجوز له ذلك ظاهراً لأنه لا يقبل قوله في ذلك وإنما يلزمه ذلك باطناً حيث لم يخش من ضرر يلحقه بسبب ذلك، وإذا لم يلزمه دفعها إلى الموصي له لزمه إمساكها وعدم التصرف فيها حتى يكمل المحجور عليه ثم يعلمه بالحال ليبرأ من عهدتها هذا ما يظهر من كلامهم، وذلك لأنهم جعلوا الوصي في مال الموصي عليه متصرفاً له بالمصلحة وهذا من المصلحة كما أنه لو خاف على المال من استيلاء ظالم جاز له تخليصه بشيء منه. قال الأذرعي : ومن هذا ما لو علم أنه لو لم يبذل شيئاً لقاضي سوء لانتزع منه المال وسلمه لبعض خونته وأدى ذلك إلى استئصاله ويجب أن يتحرى في أقل ما يمكن أن يرضي به الظالم، والظاهر تصديقه إذا نازعه المحجور عليه بعد رشده في بذل ذلك وإن لم تدل عليه القرائن، قال: ويقرب من هذا قول ابن عبد السلام يجوز تعييب مال اليتيم والسفيه والمجنون لحفظه إذا خيف عليه الغصب كما في قصة الخضر عليه الصلاة والسلام، وبحث الأذرعي هنا أنه لا يصدق في فعله ذلك لهذا الغرض إلا إن دلت الحال على صدقه، والفرق بين هذا وتصديقه فيما مر ذكرته في شرح الإرشاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/57)
وسئل عمن أوصى بقراءة ختمة أو أكثر هل يجوز أن يكون القارىء في الختمات واحداً أو لا بد من جماعة وهل يجوز الاقتصار على ختمة واحدة أو لا؟ وهل يكون القارىء الموصى به أم لا؟. فأجاب بأن الذي يتجه أخذاً من كلامهم سيما كلام ابن الصلاح في فتاويه الذي ذكرته في أوائل المسائل السابقة أنه إن كان في زمن الموصي عادة مطردة في قراءة تلك الختمة أو الختمات وجب على الوصي أن يعمل بما اطردت به العادة، وإن لم يكن ثم عادة كذلك جاز أن يكون القارىء واحداً سواء أكان الموصي به ختمة أم أكثر، ثم إن كان لفظ الموصي أوصيت بقراءة ختمة كان الواجب قراءة ختمة واحدة أو أوصيت بقراءة ختمات كان الواجب ثلاث ختمات وإذا عين الوصي واحداً أو أكثر للقراءة فقبل وقرأ ملك الموصي به.(5/58)
وسئل عما إذا أوصى لمن بات يقرأ على قبره هل له النوم إذا غلبه، فإن قلتم نعم فهل يقضي ما فاته وإذا ترك ليلة بات الموصي في القبر سهواً أو عمداً هل يقضي أم لا؟. فأجاب: بأن الذي يتجه كما يشهد له قياس نظائره أن من أوصى لمن بات يقرأ على قبره لا يجب على الموصي له استيعاب الليل بالقراءة وإنما الذي يلزمه إحياء أكثره بالقراءة، وحينئذ فإن أحيى الأكثر جاز له نوم الباقي سواء أغلبه النوم قبل أن يحيي الأكثر أم لا فإنه يجوز له النوم لكن يلزمه قضاء مثل ذلك الزمن الذي فوته وكذلك يلزمه القضاء لو ترك المبيت ليلة كاملة سواء أكان عامداً أم ساهياً فإن لم يتصوّر القضاء بأن استغرقت الوصية جميع الليالي حسب عليه ما فوته من جامكيته ويدل لذلك ما أفهمه كلام النووي في فتاويه، وبه صرح ابن الصلاح من أن المدرس أو نحوه لو عطل التدريس أياماً في الشهر حسب عليه من جامكيته وما نقل عن ابن عبد السلام مما يخالف ذلك ضعيف، فإن قلت أفتى البرهان المراغي بأن من حبس ظلماً عن مباشرة وظائفه استحق جامكية مدة حبسه، قلت ما أفتى به ضعيف والقياس خلافه ومن ثم عرض ما أفتى به على التاج الفزاري فامتنع من موافقته كما ذكره جامع فتاوى التاج المذكور وغيره، ثم رأيت الزركشي نقل عن التاج أنه أفتى بأن من تولى وظيفة وأكره على عدم مباشرتها استحق المعلوم، ثم قال الزركشي : والظاهر خلافه لأنها جعالة وهو لم يباشر اهـ، ويجمع بينه وبين ما قبله بأن يكون التاج ممن لم يوافق البرهان أوّلاً، ثم وافقه ومع ذلك فما قالاه ضعيف، والمعتمد خلافه كما تقرر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/59)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما حكم الفرار والمجيء من مكان الطاعون وإليه؟ وهل حكم مكانه في بيوت الجيران كحكم مكانه في قرية أخرى؟ وهل صح أنه وخز من الجن وإذا خص في قرية في الصغار ونادراً في الكبار هل يكون التبرع في حق من لم يصبه من الثلث إذا مات وقت الطاعون به أو بغيره؟. فأجاب بقوله: الأصل في امتناع الفرار من الطاعون قوله سبحانه وتعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس} (البقرة: 243) الآية، وقد اختلف المفسرون في سبب فرارهم وأحسن الطرق وأقواها أن فرارهم كان بسبب الطاعون، وفي مدة موتهم فقيل سبعة أيام، وقيل ثمانية، وقيل شهر، وقيل أكثر منه بحيث بليت أجسادهم، ويؤيده رواية الطبراني : أنهم رجعوا وقد توالدت ذريتهم وفي عددهم ومعظم الروايات أنهم كانوا أربعة آلاف، وصوّب الطبري أنهم كانوا أزيد من عشرة آلاف، لأن الألوف جمع كثرة وتبعه جمع وأكثر ما قيل إنهم كانوا ستمائة ألف. ومن غرائب التفسير: أن ألوف جمع آلف كجلوس جمع جالس، فليس فيه نص على العدد بل على تألف قلوبهم، وفي الآية دليل كما قاله الرازي على أن الله سبحانه وتعالى كره فرارهم من الطاعون وهو نظير قوله سبحانه وتعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} ، (الأحزاب: 16)، وقوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} ، (النساء: 78) وقوله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} ، (الجمعة: 8) وفي امتناع الدخول إلى مكانه حديث الصحيحين: أنه قال: «إن الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» ، وفي الصحيحين أيضاً: أن عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ خرج إلى الشام فلما قرب منها أخبر أن بها طاعوناً فاستشار المهاجرين الأولين، فرأى بعضهم الدخول ليتم ما(5/60)
خرجوا إليه، وبعضهم عدمه خوفاً على من معهم من الصحابة فقال: ارتفعوا عني، ثم دعا الأنصار فاختلفوا كذلك فقال: ارتفعوا عني، ثم دعى مشيخة قريش من مهاجرة الفتح وهم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبله، إذ لا هجرة بعده فأجمع رأيهم على الرجوع من غير اختلاف فنادى عمر بذلك في الناس، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله فقال عمر: أو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله سبحانه وتعالى، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان مغيباً في بعض حوائجه فقال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله يقول:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/61)
«إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» فحمد الله سبحانه وتعالى عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ ثم انصرف، واختلف العلماء في الخروج من البلد الذي وقع به الطاعون والقدوم عليه، وظاهر كلام ابن عبد البر و القاضي عياض المالكيين أن النهي في ذلك للتحريم، ثم زاد الثاني أن أكثر العلماء على ذلك. وروي عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا وقالت: هو كالفرار من الزحف، وعلى ذلك جرى إمام الأئمة من أصحابنا ابن خزيمة فإنه ترجم في صحيحه باب الفرار من الطاعون من الكبائر، وأن الله سبحانه وتعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة في ذلك، يعني قوله : «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم، ومن ثم قال التاج السبكي وتبعه المحققون: مذهبنا، وهو الذي عليه الأكثر، أن النهي عن الفرار منه للتحريم، وكلام النووي في شرح مسلم صريح في تحريم القدوم على بلد الطاعون كالفرار منه، فإنه قال بعد تلك الأحاديث السابقة. وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به، وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال القاضي : وهو قول الأكثرين حتى قالت عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا: الفرار منه كالفرار من الزحف، ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج عنه فراراً، أي وهو المشهور من مذهب مالك ، ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه والفرار منه اهـ، ويؤخذ من قوله: أما الخروج عنه لعارض فلا بأس به أن الخروج بقصد التداوي جائز وهو ظاهر، ومن قوله والخروج عنه فراراً أن محل الخلاف في الخروج عنه لأجل الفرار، فمذهبنا ومذهب الجمهور الحرمة، ومذهب مالك الكراهة، وبذلك يرد قول التاج السبكي ليس محل النزاع فيمن خرج فاراً من قضاء الله تعالى فذلك شيء لا سبيل إلى القول بأنه غير محرم، بل الظاهر أن محل النزاع(5/62)
فيما إذا خرج للتداوي اهـ، ووجه رده ما تقرر من أن خروجه للتداوي ينبغي أن يكون جائزاً بلا خلاف كما أفاده كلام شرح مسلم، ومن أن محل الخلاف فيمن خرج للفرار كما أفاده كلام شرح مسلم أيضاً، نعم إن اقترن بقصد الفرار قصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله وإن فعله هو المنجى له فواضح أن ذلك حرام بل كفر اتفاقاً بخلاف قصد الفرار فقط، فإنه محل الخلاف وقد مر عن عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال: نعم فر من قدر الله إلى قدر الله/ وليس في كلامه تأييد للمالكية لأنه لم يفر من محل الطاعون، ثم رأيت بعض المحققين من متأخري الشافعية اعترض ما مر عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/63)
التاج السبكي فقال عقب ما مر عنه: هذا ليس بظاهر، لأن الخروج للتداوي ليس حراماً في مذهب الشافعي وجماعة، وقد صحح أن الخروج حرام فكيف محله ما إذا خرج للتداوي والخروج للتداوي ليس بمحرم، بل العبارة الصحيحة أن يقول محل النزاع فيما إذا خرج فاراً من المرض الواقع مع اعتقاده أنه لو قدره عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملاً أن ينجو هذا الذي ينبغي أن يكون محل النزاع فمن منع احتج بالنهي ومن أجاز حمل النهي على التنزيه اهـ وهو كلام حسن ، والحاصل أن من خرج لشغل عرض له أو للتداوي من علة به طعن أو غيره فلا يختلف في جواز الخروج له لأجل ذلك، ولو عرضت له حاجة للخروج وانضم لذلك قصد الفرار فالذي اقتضاه كلام أئمتنا في فروع متعددة الحرمة لأن قصد المحرم وجد وانضمام القصد الجائز له لا يمنع إثمه فهو نظير ما لو قرأ الجنب بقصد القرآن والذكر وما لو قال في الصلاة يا يحيى خذ الكتاب، أو سبحان الله بقصد القرآن وتنبيه الغير، فإن الصلاة تبطل نظراً لقصد التنبيه وإن انضم إليه قصد القرآن، وبهذا يظهر لك أنه لا فرق هنا بين أن يغلب قصد الفرار أو الحاجة أو يتساويا فالحرمة موجودة في الأحوال الثلاثة خلافاً لبعض المالكية، ومحل النظر إلى قوّة الباعث وضعفه فيما إذا جاز القصدان لكن أحدهما يقتضي الثواب والآخر يقتضي عدمه كقصد الوضوء والتنظيف أو التبرد على أن النظر هنا لقوة الباعث، إنما هو رأي الغزالي . وأما ابن عبد السلام فإنه يغلب قصد نحو التبرد هنا وإن ضعف فلا ثواب عنده مطلقاً واعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أن النهي عن الخروج تعبدي، لأن الفرار من المهالك مأمور به، وقد نهى عنه في هذه الصورة فهو لسر لا نعلمه، وذهب كثير من العلماء إلى أنه معلل إما بالطاعون إذا وقع في البلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيده الفرار منه، بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت، وإن رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث(5/64)
الذي لا يليق بالعقلاء، وإما بأن الناس لو تواردوا على الخروج لبقي من وقع به الطاعون عاجزاً عن الخروج فضاعت المرضى لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وإما بأن خروج الأقوياء فيه كسر لقلوب من لا قوّة له على الخروج، وإما بأن الخارج يقول لو لم أخرج لمت، ويقول المقيم لو خرجت لسلمت، فيقعون في اللوّ المنهي عنه مع ما في الخروج من الفرار من حكم الله وعدم الصبر المأمور به والإعراض عما في الإقامة من الأجر الكبير إذ للميت به أجر شهيد، وكذا للمقيم صابراً محتسباً وإن لم يمت به. وقال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/65)
ابن عبد البر: النهي عن الخروج للإيمان بالقدر وعن القدوم لرفع ملامة النفس. وقال ابن العربي : حكمة منع القدوم أنه تعالى أمر أن لا يتعرض أحد للحتف وإن كان لا نجاة من قدر الله مع الصيانة عن الشرك لئلا يقول الداخل لو لم أدخل لم أمرض، وغيره لو لم يدخل فلان لم يمت. وقال ابن دقيق العيد: الذي يترجح عندي في الجمع بين النهي عن الفرار والنهي عن القدوم، إن القدوم عليه تعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر والتوكل فمنع ذلك لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق، وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصوّراً بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه، ويشير إلى ما قررته قوله : «لا تتمنوا لقاء العدوّ وإذا لقيتموه فاصبروا» ، فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الإضرار بالنفس وأمرهم بالصبر عند الوقوع تسليماً لأمر الله سبحانه وتعالى اهـ. وخرج بالفرار من محل الطاعون الفرار من أرض الوباء، فإنه جائز بالإجماع كما قاله الجلال السيوطي ، وعبارته: الوباء غير الطاعون، والطاعون أخص من الوباء، وقد اختص، أي الطاعون، بكونه شهادة ورحمة وبتحريم الفرار منه وهو من الوباء بغيره كالحمى، ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، وما أشار إليه من الفرق بين الوباء والطاعون هو ما عليه الأكثرون خلافاً لبعض المالكية حيث زعم أنه هو وسيأتي إيضاح الفرق بينهما وتردد بعضهم فيما لو كانت الأرض التي وقع بها الطاعون وخمة والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة فتوجه إليها بهذا القصد ونقل غيره أن من السلف من منع نظراً إلى صورة الفرار، ومنهم من أجاز نظراً إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فراراً لأنه لم يتمخض الفرار اهـ، والذي يتجه ترجيحه على قواعدنا أنه إن خرج بقصد التداوي أو حاجة أخرى جاز أو بقصد الفرار ولو مع قصد التداوي أو غيره حرم كما مر، والذي يظهر أنه لو عم إقليماً لم(5/66)
يحرم الخروج من بعض قراه إلى بعض لأنه لا فرار حينئذ البتة، وأنه لو خص محلة من بلدة ولم يوجد منه شيء في بقية محلات تلك البلد كان حكم المحلة حينئذ كحكم البلد المستقل فيحرم الخروج منها فراراً والدخول إليها، أي لغير حاجة، كما هو ظاهر هنا، وفيما مر لأنه إذا جاز الخروج لحاجة جاز الدخول قياساً، إذ لا يظهر بينهما فرق في ذلك، فإن قلت ينافي هذا ما مر من أنه إذا وقع في البلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه، قلت لا منافاة لأن ما قلناه من أن المحلة ليست كالبلد فيما إذا تحققنا اختصاصه بها وتحققنا أنه لم يوجد شيء من أسبابه في بقية البلد، فحينئذ يحرم لغير أهل تلك المحلة دخولها لغير حاجة والخروج منها بقصد الفرار، وأما إذا لم نتحقق ذلك فحكم بقية البلد حكم تلك المحلة، لأن الغالب أنه إذا وقع في بلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه، والحاصل أنه متى تحقق اختصاصه بمحل من بلد وتحقق أنه لم يوجد شيء من أسبابه في بقية تلك البلد كان ذلك المحل كبلد مستقلة فيحرم الدخول والخروج إليه بقيدهما السابق وأنه متى لم نتحقق ذلك لم يكن له حكم مغاير لذلك البلد وسيأتي بحث الزركشي أن الساكن قريباً من بلد الطاعون لا يعطي حكمها، وبه يعلم أن لمن قرب من بلده ولم يدخلها الرجوع ولو بقصد الفرار وهو ظاهر كما أفهمته التعاليل السابقة في حكمة منع الدخول والخروج، ومر عن عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما يؤيد ذلك وهو قوله: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وهو صريح فيما قلناه وصح أنه قال:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/67)
«فناء أمتي بالطعن والطاعون» ، فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: «وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة» ، وروى أحمد وغيره عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا أنها سألت رسول الله عن الطاعون فقال: «غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف» وسندها حسن. في رواية للطبراني عنها: الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن يخرج في الآباط والمراق والفار منه كالفار من الزحف والصابر فيه كالمجاهد في سبيل الله ، وقوله: يخرج في المراق والآباط هو باعتبار الغالب كما قاله غير واحد من أهل العلم، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله من البدن. قال الخليل وغيره: وهو الوباء والأصح أنه غيره، ومن ثم قال القاضي عياض : أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد والوباء عموم الأمراض فسميت طاعوناً، لشبهها بذلك وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعوناً وجرى على الفرق بينهما أيضاً ابن سينا وغيره من حذاق الأطباء، ففسروا الطاعون بأنه مادة سمية تحدث ورماً قتالاً تحصل في مغابن البدن والرخو منه وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويؤدي إلى القلب كيفية فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردأ ما يقع في الأعضاء الرعشة. قال، أعني ابن سينا : والطواعين تكثر عند الوباء وفي البلاد الوبية، ومن ثم أطلق على الطاعون أنه وباء وبالعكس قال: وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده اهـ فعلم أن الطاعون أخص من الوباء، ويدل له حديث الصحيحين على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال مع حديثهما عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا قالت: قدمنا المدينة وهي أوبى أرض الله، فعلم منه أن الوباء يدخلها دون الطاعون فكان غيره ومما يفارقه فيه خصوص سببه الذي لم يرد في شيء من الأوباء نظيره وهو كونه من(5/68)
طعن الجن وكونه من طعنهم لا يخالف ما مر عن الأطباء أنه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم أو انصبابه إلى عضو أو غير ذلك، لأنه لا مانع أن يحدث عن الطعنة الباطنة فيحدث منها المادة السمية أو يهيج بسببها الدم أو ينصب وعذر الأطباء في عدم تعرضهم لكونه من طعن الجن أن ذلك أمر لا يدركه العقل وإنما يتلقى من الشارع فتكلموا على ما ينشأ عن ذلك الطعن بقدر ما اقتضته قواعد علمهم على أن ابن القيم أبطل القول بأنه ينشأ من فساد الهواء بأمور: منها: أنه يقع في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء. ومنها: أنه لو كان من الهواء لعم الناس والحيوانات وربما كثر عند اعتداله وقل عند فساده ولدام في الأرض لأن الهواء يصح تارة ويفسد تارة، والطاعون يأتي على غير قياس ولا تجربة ولا انتظام فربما جاء سنة على سنة وربما أبطأ عدة سنين. ومنها: أن كل داء تسبب من الأسباب الطبيعية له دواء من الأدوية الطبيعية على ما صح في الحديث، وهذا الطاعون قد أعيى الأطباء دواؤه حتى سلم حذاقهم أنه لا دواء له إلا الذي خلقه وقدره اهـ. قال شيخ الإسلام في فتح الباري: يقع في الألسنة وهو في نهاية
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/69)
ابن الأثير تبعاً لغريبي الهروي بلفظ: وخز إخوانكم الجن، ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد و الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها وجرى على ذلك أيضاً في كتاب بذل الماعون فقال ما حاصله: جميع ما وقفت عليه من الروايات بلفظ: وخز أعدائكم، أو بلفظ: طعن أعدائكم. وقول الزركشي وفي لفظ أحمد: إخوانكم غلط في المتن والسند، ثم ذكر روايات المسند ومعجم الطبراني وليس ذلك في شيء منها ثم هو صاحب آكام المرجان في أحكام الجان وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الدمشقي الحنفي من تلامذة المزي و الذهبي في الحديث في ذكره ذلك عن مسند أحمد وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ثم ذكر أنه لم ير بلفظ إخوانكم في شيء من كتب الحديث ولا من كتب الغريب إلا في كتاب الغريبين للهروي والنهاية لابن الأثير ثم على تقدير صحة لفظ إخوانكم فالجمع بينها وبين أعدائكم أمور: الأول: أن الأخوّة في الدين لا تنافي العداوة، لأن عداوة الجن للإنس بالطبع وإن كانوا مؤمنين. الثاني: أن رواية أعدائكم في طعن الكافرين منهم للمسلمين منا، ورواية إخوانكم في طعن المسلمين منهم للكافرين من الإنس. الثالث: أن كلاً من اللفظين يفيد ما يفيده الآخر فحيث جاء بلفظ أعدائكم فهو على عمومه، إذ لا يقع الطعن إلا من عدوّ في عدوّه ويكون الخطاب لجميع الإنس فإن الطعن يكون من كافري الجن في مؤمني الإنس أو من مؤمني الجن في كافري الإنس، ويؤيده حديث: أنه شهادة للمسلمين ورجز على الكافرين ، وحيث جاء بلفظ إخوانكم فهو على عمومه أيضاً لكن المراد به إخوة التقابل كما يقال الليل والنهار أخوان أو أخوة التكليف، فإن الجن والإنس هما الثقلان بنص القرآن لاستوائهما في التكليف وهو المراد بزاد إخوانكم من الجن فإنه زاد للمؤمن والكافر جميعاً ثم في(5/70)
تسليط الجن على الإنس بالطعن حكمة بالغة فإن أعداءنا منهم شياطينهم وأما المطيعون منهم فهم إخواننا، والله تعالى أمرنا بمعاداة أعدائه من الفريقين فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم فسلطهم الله عليهم عقوبة لهم حيث أطاعوهم فيما أمروهم به من معاصيه، وأما من لم يطعهم فهو شهادة لهم ورحمة وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في العقوبات تقع عامة فتكون طهراً للمؤمنين وانتقاماً من الفاجرين، وإنما مكن الجني من طعن المؤمن مع أنه محروس بالمعقبات من بين يديه ومن خلفه إرادة للخير به ونيلاً لدرجة الشهادة كما مكن عدوّه الظاهر منه لذلك مع أنه في أكثر أوقاته ممنوع منه بالرعب تارة وبالقوّة والنصر أخرى، ولا ينافي كونه وخز الجن وقوعه في رمضان كما هو مشاهد بل ربما كان فيه أكثر منه في غيره، لأن الشياطين وإن كانت تصفد وتغلغل كما صح في الحديث إلا أنه ليس فيه أن أعمالها تبطل بالكلية وإنما الذي يحصل لها بذلك المنع من معظم العمل، والجواب بأنه يحتمل أنهم طعنوا قبل دخوله ولم يظهر إلا بعد دخوله، ويحتمل أن تصفيدهم إنما هو عما يأثم به الآدمي من تحسين الفجور ليقع فيه، وأما هذا فالمرتب عليه ثواب فلا يمنعون منه كما لا يمنعون من الاحتلام على أن تصفيدهم فيه استشكل من جهة أخرى وهي وجود المعاصي الكبائر وغيرها فيه، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المصفدون منهم مسترقي السمع فقط وإن تسلسلهم يقع في لياليه فقط، ويحتمل أن المراد أنهم لا يخلصون فيه إلى إفساد المسلمين مثل ما يخلصون في غيره لاشتغال المسلمين بالصوم القامع للشهوات وبالقراءة والذكر، ويحتمل أن المصفد بعضهم لا كلهم وهو الأصح للحديث الصحيح:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/71)
«إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن» على أن مردة نعت مخصص أو بدل بعض من كل وعليه يحمل إطلاق بقية أحاديث تصفيد الشياطين فعليه يحصل الجمع بأن الوخز يقع في رمضان من غير المردة، ومعنى قوله : «فناء أمتي في الطعن والطاعون» أما الطلب لرواية أحمد اللهم اجعل فناء أمتي في الطاعون ، وفي أخرى عند أحمد وغيره: اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون ، أو الخبر لقول ابن الأثير في النهاية أراد أن الغالب على فناء الأمة الفتن التي تسفك فيها الدماء والوباء، وبه يندفع استشكال الحديث بأن أكثر الأمة يموتون بغير الطعن والطاعون ويندفع أيضاً الجواب عنه بأن المراد بالأمة الصحابة أو الخيار. قال الجلال السيوطي : وما قاله ابن الأثير صحيح بلا شك، فإنه إذا استقرىء الأمر وجد من يموت بالطاعون أكثر ممن مات بينه وبين الطاعون الذي قبله فكيف إذا انضم إلى ذلك القتل في الجهاد وفي الفتن ولم يقصد بذلك على أنه للدعاء الدعاء على أمته بالهلاك، وإنما المراد منه حصول الشهادة لهم بكل من الأمرين والموت حتم لا بد منه فكان القصد جعل ذلك سبباً للموت الذي قدره الله سبحانه وتعالى أودعا بذلك ليكون كفارة لما يقع بين الأمة من العداوة كما ورد أن القتل لا يمر بذنب إلا محاه لا محالة، وبذلك علم الجواب عن استشكال الدعاء بالشهادة مع استلزامه تمكن الكافر من المسلم وهو معصية وتمني المعصية حرام، ووجه الجواب أن المطلوب قصداً إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المرتبة على الشهادة التي هي سبب لدفع الكفار وإذلالهم وإعلاء كلمة الإسلام، وأما فعل الكافر فهو من ضرورة الوجود فليس منظوراً إليه، واعلم أن شهيد الطاعون ملحق بشهيد المعترك، ففي حديث سنده حسن: يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون نحن شهداء، فيقال انظروا فإن كانت جراحاتهم كجراح الشهيد أي تسيل دماؤهم وريحهم كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم كذلك . وفي حديث(5/72)
صحيح: تختصم الموتى والمتوفون على فرشهم إلى ربنا جل جلاله في الذين يموتون بالطاعون فيقول الشهداء إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحاتهم فإن أشبهت جراحات المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم. وقضية حديث البخاري في كتاب الطب والقدر أن أجر الشهيد إنما يكتب لمن لم يخرج من بلد الطاعون وأقام قاصداً ثواب الله سبحانه وتعالى راجياً صدق وعده عارفاً أنه إن وقع له أو صرفه عنه فهو بتقدير الله غير متضجر به إن وقع به، وظاهر الحديث أيضاً أن من وجدت فيه تلك الصفات يحصل له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون، واستشكل كونه شهادة ورحمة بأنه صح أنه قرن بالدجال، وصح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة وأجيب بأنه لما كان من طعن الجن لم يدخلهما، إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخولهما أو من التسليط على أهلهما صيانة من الله سبحانه وتعالى لهم حتى من مؤمني الجن بناء على وقوع الطعن منهم أيضاً، ولم يذكر أحد قط أنه وقع بالمدينة طاعون أصلاً خلافاً لما يوهمه كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/73)
القرطبي وكذا مكة ومن حكى أنه دخلها فقد تجوّز وأطلق الطاعون على الوباء، وإذا وقع الطاعون في بلد كان حكم أهلها في التصرف كحكم المريض مرض الموت سواء من أصابه ومن لم يصبه كما صححه الشيخان ك البغوي وإن نازعهما الزركشي في ذلك وأطال، نعم إنما يكون مخوفاً في حق من لم يصبه إن وقع في أمثاله كما صرح به صاحب الكافي حيث قال وإذا وقع في البلد في أمثاله فهو مخوف على أصح الوجهين. قال الأذرعي : وقوله في أمثاله قيد متعين كما شوهد في الطواعين السابقة واللاحقة من طواعين السلف طاعون الأشراف وطاعون الفتيان وشوهد في عصرنا في وقت في الأطفال وتارة في النساء وتارة في الشباب دون الشيوخ اهـ، وتبعه الزركشي فقال: ينبغي أن يكون موضع كونه مخوفاً في حق من لم يصبه ما إذا وقع الطاعون في أمثاله فإن وقع في الأطفال مثلاً فيشبه أن لا يكون مخوفاً في حق البالغين، وإلى ذلك يشير كلام صاحب الكافي فإنه قال إن أصابه مخوف وإن وقع في أمثاله فهو مخوف على أصح الوجهين فقوله في أمثاله قيد حسن لا بد منه، وقد تختلف الطواعين الواقعة في كل عصر فيعتبر في كل وقت بحسبه اهـ. قال، أعني الزركشي: وسكتوا عن فروع أحدها: الساكن قريباً من بلد الطاعون دون مسافة القصر هل يعطى حكم بلد الطاعون، والظاهر أن حكمهم حكم الأصحاء في تبرعاتهم، الثاني الواردون من بلد الطاعون إلى بلد ليس بها، والظاهر أن حكمهم حكم البلد الذي انتقلوا عنه لأنهم بصدد أن يقع بهم ذلك لما قد علق بأجسادهم منه كما شاهدنا ذلك كثيراً فيحسب تبرعهم من الثلث إذا حصل الموت بذلك الداء بعد التبرع اهـ، وذكر فرعاً ثالثاً مبنياً على ضعيف لا حاجة لنا بذكره وطاعون الأشراف الذي ذكره الأذرعي كان في زمن الحجاج سمي بذلك لكثرة من مات فيه من أشراف الناس وطاعون الفتيان كان بالبصرة سنة سبع وثمانين من الهجرة سمى بذلك لكثرة من مات فيه من النساء الشواب والعذارى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/74)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخص قال في مرض موته يفعلون لي كذا وكذا بمثناة من تحت ولم يعلم إلى من يشير من يكون الوصي وإذا زاد ويكون النظر لفلان هل يكون هو الوصي؟. فأجاب إذا قال يفعلون لي كذا ولم يعلم إلى من يشير فلا وصي له، فإن قال ويكون النظر لفلان لم يثبت لفلان نظر، لأنه إنما يتصوّر حيث عرف الوصي وهو هنا مجهول والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
مسألة شخص مرض بالاستسقاء المخوف فأعتق في مرض موته أمة ثم عقد عليها ولم يدخل بها ثم ملكها حلياً ذهباً وفضة مجهول القدر والثمن ثم مات فهل العتق والتزويج صحيح أم لا؟ وهل ترث المعتوقة المذكورة من معتقها، ثم دبر عبيداً له وجواري وملك أحدهم حملين فهل التمليك والتدبير صحيح أم لا؟ وإذا لم يحتمل الثلث ذلك تنفذ أم لا؟. الجواب: إن خرجت من الثلث بان صحة نكاحها وعتقها وإذا لم يدخل بها فلا مهر لها إن أدى وجوبه إلى ثبوت دين على الميت كأن كانت قيمتها مساوية لثلثه، لأن وجوبه حينئذ يؤدي إلى رق بعضها لعدم خروجها من الثلث فبطل النكاح والمهر فكان إثبات المهر مؤدياً إلى عدم إثباته فسقط، أما إذا خرجت من ثلثه مع وجوب المهر فإنه يجب لها إذ لا مانع من وجوبه حينئذ وعلى كل تقدير فلا ترث منه بالزوجية شيئاً سواء أدخل بها أم لا؟ وما ملكه لها إن خرج من الثلث أيضاً فازت به وإن خرج بعضه فازت بذلك البعض وإن لم يخرج منه شيء توقف نفوذ الوصية به كالبعض في المسألة التي قبل هذه على إجازة الورثة بشروطها ولا يضر جهل قدره وثمنه فتطالب بإحضاره وينظر إلى قدره وقيمته وقت الموت، ثم ما فضل من ثلثه عن قيمتها وقيمة الحلى الذي ملكه لها ينظر فيه، فإن وفى بقيمة المدبرين كلهم عتقوا بموته وإن لم يفضل شيء لم يعتق منهم شيء، وإن فضل ما لا يفي بجميعهم أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة عتق منه ما يفي بالثلث سواء أكان شقصاً من واحد أم أكثر هذا(5/75)
كله إن لم تجز الورثة وإلا عتق من أجازوا له ممن لم يخرج من الثلث، فعلم أن لهم إجازة بعض من لم يخرج من الثلث دون بعض وتمليك أحدهم الحملين إن نزل منزلة الوصية بأن قال ملكته إياهما بعد موتي صح وإلا بان قال ملكته إياهما ولم يقل بعد موتي لغا فيما يظهر أخذاً من إطلاقهم بطلان تمليك السيد عبده ولو مدبراً، وقولهم التبرعات المنجزة في المرض كالهبة منزلة منزلة الوصية محله إذا كانت مع من يصح منه قبولها كما هو ظاهر بخلاف المدبر في مسألتنا فإنه لا يصح منه قبولها قبل الموت لبقاء رقه فكانت ملغاة وفيما إذا صحت بأن قال بعد موتي لكون الوصية بذينك الحملين متأخرة في الاستحقاق عن رتبة الموصي له بهما فلا يستحق منهما شيئاً حتى يعتق جميعه ثم بعد عتق جميعه يوزع ما بقي من الثلث على الحملين وعلى بقية المدبرين كما يدل عليه كلامهم وإن لم أر من صرح به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ادعى وارث وصي صرف مورثه ما تحت يده على محجوره فهل يصدق؟. فأجاب بقوله: نعم يصدق لأن مورثه لو ادعى الإنفاق عليه المحتمل صدق فكذلك هو لأنه خليفته ويشهد له تصديق وارث الوديع في الرد لمورثه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/76)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخص أسند وصيته في حال صحته وسلامته لرجل جعله وصياً على بيع تركته ووفاء ديونه ثم قال وصيته ولم أعلم أن عندي ديناراً ولا درهماً إلا ما في البيت من الأثاث والكتب فاسأل وصيي إن لم يخلصني جميع ذلك أن يخلصني من عنده ثم قال فإن أبقى الكتب لما أعلم من غيرته عليها فالوصية بها لعقبي أو لعقبه فإن انقرضوا فالمرجع خزانة المغاربة برباط سيدنا عثمان ـ رضى الله تعالى عنه ـ ثم توفي إلى رحمة الله تعالى بعد مدة عن الأثاث والكتب وعن بيت تجدد له ملكه بعد الوصية فباع الوصي الأثاث وسد به بعض الدين وبقي بعض الدين فهل قول الموصي فإن أبقى الكتب الخ وصية بوقفها على تقدير وفاء الدين من غيرها، وقد حصل ذلك لأن في البيت وفاء وزيادة وحينئذ فيضم ما بقي من ثمن البيت بعد وفاء بقية الدين إلى قيمة الكتب، فإن حصل ما يحتمل ثلثه الكتب خرجت وقفاً أو الحكم غير ذلك؟. فأجاب بقوله: ليس قول الموصي ما ذكر وصية بوقفها لأنه لا دلالة فيه على ذلك من كلامه لا صريحاً ولا كناية بل قوله الوصية بها لعقبي الخ صريح في عدم إرادة وقفها ودال على إرادة الوصية بمنافعها لعقبه أو عقب الوصي ثم من بعدهما لمن يريد الانتفاع بها في خزانة المغاربة المذكورة ولولا إتيانه بأوفى قوله لعقبي أو عقبه لقلنا إن ذلك وصية بمنافعها إن خرجت من ثلثه لمن ذكر كذلك أخذاً من كلامهم على الوصية بالمنافع لكنه لما أتى بأو صار كلامه لغواً، أما قوله فالوصية بها لعقبي أو عقبه فأخذا من قول أصحابنا يشترط في الموصي له أن يكون معيناً كالموقوف عليه حتى يمكن تمليكه لأن الوصية تمليك للعين والمنفعة أو لأحدهما والوقف تمليك للمنفعة فلا تصح الوصية لأحد الرجلين أو لفلان وهناك من يشاركه في الاسم لإبهام الموصي له والمبهم لا يمكن تمليكه وكذلك لا يصح الوقف على أحد الرجلين أو على فلان وهناك من يشاركه في الاسم لما ذكر، وفي قول ضعيف يصح الوقف وعليه فبحث جماعة أنه(5/77)
يرجع إلى تعيين الواقف فوارثه وقياس ذلك صحة الوصية أيضاً على هذا القول وعليه فيرجع إلى تعيين الموصي ثم وارثه ولا شك أن الوصية أو الوقف لزيد أو عمرو كالوصية أو الوقف لأحد هذين بجامع إبهام الموصي له والموقوف عليه في كل منهما، فكما صرحوا بالبطلان في أحد هذين فكذلك نقول بالبطلان في هذا أو هذا لوجود الجامع المذكور وعدم ظهور فارق كما هو جلي، فإن قلت هذا ظاهر إن جعلت أو هنا للشك من المتكلم أو للإبهام على السامع أو للتخيير بين المعطوفين سواء امتنع الجمع بينهما أم جاز، وقصر ابن مالك وغيره التخيير على الأول وسموا الثاني بالإباحة وليس المراد الإباحة الشرعية، لأن الكلام في معنى أو بحسب اللغة بل الإباحة بحسب العقل أو العرف، أما إذا جعلت لمطلق الجمع كالواو في قوله:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وقد زعمت ليلى بأني
فاجرلنفسي تقاها أو عليها فجورها
أي وعليها فجورها أو لتقسيم الكلي إلى جزئياته نحو الكلمة اسم أو فعل أو حرف أي منقسمة إلى الثلاثة تقسيم الكلي إلى جزئياته فيصدق على كل منها أو الكل إلى أجزائه نحو ثنتان صدور رماح أشرعت أو سلاسل في قول الحماسي:
وقالوا لنا ثنتان لا بد منهم
اصدور رماح أشرعت أو سلاسل(5/78)
أو للإضراب كبل نحو: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون أي بل يزيدون، وقيل هي هنا بمعنى الواو وعلى الأول فوجه جواز الإضراب في كلامه تعالى أنه أخبر عنهم بأنهم مائة ألف بناء على حزر الناس مع كونه تعالى عالماً بأنهم يزيدون، ثم ذكر التحقيق مضرباً عما يغلط فيه الناس بناء منهم على ظاهر الحزر، أي أرسلناه إلى جماعة يحزرهم الناس مائة ألف وهم كانوا يزيدون على ذلك، وكذا قوله تعالى: {كلمح البصر} ، (النحل: 77)أو هو أقرب فلا يتجه حينئذ القياس على أحد هذين لأنه نص في الإبهام وهذا، أعني أوصيت لهذا، أو هذا ليس كذلك لما تقرر أن أو على كل من هذه المعاني الثلاثة تفيد جواز الجمع بينهما أو تعين الثاني بناء على أنها للإضراب، قلت لنا في الجواب عن ذلك مسلكان أحدهما: أنا لو تنزلنا وسلمنا أن أو موضوعة لكل من تلك المعاني السابقة فهذا، أعني الحمل على أنها لمطلق الجمع أو ما بعده، إنما يتعين حيث علم مراد المتكلم إما بتصريح منه بذلك أو قرينة تبين أن مراده ذلك دون غيره من بقية معانيها، أما إذا جهل مراد المتكلم كما في صورة السؤال فإن الموصي مات ولم يعلم مراده بأو ولا قامت قرينة ظاهرة على أنه أراد بها مطلق الجمع أو نحوه فلا يجوز حملها على ذلك لأنه ترجيح من غير مرجح، فإن قلت يرجحه أن كلام المكلف ينبغي صونه عن الإبطال والإفساد ما أمكن كما صرح به الأئمة في مواضع من كتاب الوقف وغيره قلت محل هذا الصون ما لم يكن الكلام ظاهراً في الوجه المقتضي لفساده وإلا وجب الأخذ بظاهره والإعراض عن التكلفات البعيدة التي لا يعوّل عليها في مثل ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل لأن أو فيه ظاهرة في أنها لتخيير الموصي الوصي في الصرف لعقبه أو عقب الوصي ولو كان التكلف لصرف اللفظ عن ظاهره سائغاً لتكلفوا وقالوا في أحد هذين أنه خير الوصي في الصرف لمن شاء منهما، فلما أعرضوا عن ذلك وأخذوا بظاهر اللفظ ومدلوله من الإبهام المتعذر معه التمليك كما مر،(5/79)
كان قياسه الإعراض عن التكلف في صرف أو عن ظاهرها في مثل ذلك من التخيير أو نحوه كما سيتضح والأخذ بظاهرها المقتضى للإبهام المتعذر معه التمليك أيضاً على أن تجويز الإضراب في صورة السؤال في غاية البعد إذ العادة قاضية بإحالة أن الإنسان يقصد الإضراب عن إعطاء عقبه والحكم بإعطاء عقب غيره على أنه ممتنع صناعة لأنها إذا أتت للإضراب لا يكون بعدها إلا الجمل ولا تكون حينئذ حرف عطف بل حرف استئناف قاله الرضي، وكذلك التقسيم لأنه يستدعي سبق مقسم سابق حتى تكون أو مقسمة له إلى جزئياته أو أجزائه فلم يبق إلا احتمال كونها لمطلق الجمع كالواو، وقد مر امتناع الحمل عليه لأنه خلاف الظاهر من معانيها ولم تقم عليه قرينة قوية حتى تكون مقوية للحمل عليه وبما تقرر علم أن هذا المعنى هو الذي يحتاج عنه بخلاف التقسيم والإضراب لما تبين من استحالتهما وبخلاف نحو التخيير والشك، فإن هذه تقتضي ما قلناه من البطلان فلم يبق من معانيها ما يحوج للجواب عنه غير احتمال كونها لمطلق الجمع، وقد علمت مما تقرر الجواب عنه بأنه خلاف الظاهر من معانيها لندرته وعدم تبادره منها ولم تقم عليه قرينة قوية حتى تكون مرجحة للعمل عليه ويأتي عنه جواب آخر. ثانيهما: أنا لا نسلم أن أو موضوعة بطريق الأصالة والحقيقة المتبادرة لكل مما ذكر من المعاني السابقة التي من جملتها كونها لمطلق الجمع. ففي الكشاف أوائل البقرة أو في أصلها موضوعة لتساوي شيئين فصاعداً في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك ثم أوضحه بالتمثيل له، وحاصله أن معناها الحقيقي الشك وأن كلا من التخيير والإباحة معنى مجازي لها وأنها تستعمل في غير الخبر بالمعنى المجازي فقط وفي الخبرية وبالحقيقي أيضاً وفي المفصل أن كلمة أو لأحد الأمرين مطلقاً وهو صريح في أن معناها هذا يعم جميع مواردها في الإنشاء والإخبار وفي أن أو للتشكيك والإبهام والتخيير والإباحة ليس شيء منها داخلاً في مفهومها بل(5/80)
يستفاد من مواقعها في الكلام باعتبار السياق وقرائن الأحوال وما اختاره في الكشاف مبني على تبادر الشك منها في الخبر، ويوافق ما تقرر في معنى كلام المفصل قول السعد التفتازاني في التلويح في نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين الإباحة والتخيير قد يضافان إلى صيغة الأمر، أي لأن صيغة الأمر قد تأتي للإباحة كما في قوله تعالى:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
{وإذا حللتم فاصطادوا} ، (االمائدة: 2) وقد يضافان إلى كلمة أو والتحقيق أن كلمة أو لأحد الأمرين أو الأمور، وإن جواز الجمع وامتناعه إنما هو بحسب محل الكلام ودلالة القرائن اهـ. وقد حرر ذلك الرضي أتم تحرير فقال: وقالوا أن لأ وإذا كان في الخبر ثلاثة معان الشك والإبهام والتفصيل وإذا كان في الأمر فله معنيان التخيير والإباحة الشك إذا أخبرت عن أحد الشيئين ولا تعرفه بعينه والإبهام إذا عرفته بعينه وتقصد أن تبهم الأمر على المخاطب ثم قال والتفصيل إذا لم تشك ولم تقصد الإبهام على السامع كقولك هذا إما أن يكون جوهراً أو عرضاً إذا قصدت الاستدلال على أنه جوهر لا غير أو على أنه عرض لا غير أو على أنه لا هذا ولا ذاك وأما في الأمر فإن حصل للمأمور بالجمع بين الفعلين فضيلة وشرف في الغالب فهي للإباحة نحو تعلم الفقه أو النحو وإلا فهي للتخيير نحو: اضرب زيداً أو عمراً، والفرق بينهما أن الإباحة يجوز فيها الجمع بين الفعلين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير يتحتم أحدهما ولا يجوز الجمع هذا ما قيل، وينبغي أن يعرف أن جواز الجمع بين الأمرين في نحو: تعلم العلم إما النحو أو الفقه لم يفهم من إما واو بل ليستا إلا لأحد الشيئين في كل موضع، وإنما استفيدت الإباحة مما قبل العاطفة وما بعدها معاً، لأن تعلم العلم خير وزيادة الخير خير بدلالة أو وأما في الإباحة والتخيير والشك والإبهام والتفصيل على معنى أحد الشيئين أو الأشياء على السواء، وهذه المعاني تعرض في(5/81)
الكلام لا من قبل أو وإما بل من قبل أشياء أخر، فالشك من قبل جهل المتكلم وعدم قصده إلى التفصيل والإبهام والتفصيل من حيث قصده إلى ذلك والإباحة من حيث كون الجمع تحصل به فضيلة والتخيير من حيث لا يحصل به ذلك، ثم بين أنها في الاستفهام لا تحتمل شيئاً من المعاني المذكورة وفي التمني يجوز فيه الجمع، وفي التحضيض والعرض كالأمر في الإباحة والتخيير بحسب القرينة قال ولما كثر استعمال أو في الإباحة التي معناها جواز الجمع جاز استعمالها بمعنى الواو ثم قال بعد أمثلة ذكرها فلفظة أو في جميع الأمثلة موجبة كانت أولاً مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء ثم قال فلم تخرج أو عن معنى الوحدة التي هي موضوعة له اهـ، وإذا تأملت كلامه هذا الموافق لما مر عن التلويح والمفصل من أن أو إنما هي موضوعة في كل موضع من مواضعها بطريق الحقيقة لمعنى الوحدة فهي لأحد الأمرين أو الأمور وجواز الجمع وامتناعه إنما هو بحسب محل الكلام ودلالة القرائن كما بينه الرضي بما لا مزيد عليه في التحقيق كما يظهر بتأمله علمت اتجاه ما قلناه من أن أوصيت بهذا لزيد أو عمرو باطل كقوله لأحد هذين لما تقرر من أن معنى أو ومعنى أحد متقاربان بل متحدان باعتبار الأصل في أو وإذا بان أن قوله فالوصية بها لعقبي أو عقبه لغو باطل لما تقرر بان أن قوله فإن انقرضوا فالمرجع خزانة المغاربة باطل أيضاً، لأن المفرع على الباطل باطل، ويؤيد ذلك قول الشيخين وغيرهما بناء على أنه يشترط لصحة الوقف قبول البطن الأول من الموقوف عليهم، فإن رد البطن الأوّل بطل الوقف قطعاً كالوصية والوكالة اهـ، وأيضاً فالمعطوف على الباطل باطل كما صرحوا به ومن ثم لو قال نساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي طالق، لم يقع عليه طلاق فكذلك قوله فإن انقرضوا الخ، إما مفرع أو معطوف على ما قبله وهو باطل فيكون هو باطلاً أيضاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/82)
وسئل عما إذا كان لأيتام قاصرين مال صار إليهم من والدهم ولم يكن لهم حاجز شرعي بوصاية من والدهم ولا بإقامة من حاكم شرعي فباع ذلك عنهم أخوهم الأكبر المتولي لأمرهم الذاب عنهم بطريق الحماية والرعاية والخلالة والحنوّ والشفقة واشترى ذلك منه إنسان آخر بثمن اتفقا عليه، واعترف البائع المشار إليه عند الإشهاد عليه بالبيع المذكور بأنه قبض الثمن من المشتري بتمامه وكماله من غير حيلة في ذلك قبضاً صحيحاً شرعياً مبرئاً لذمة المشتري من جميع الثمن ومن كل جزء منه براءة صحيحة شرعية براءة قبض بطريق الوصاية الشرعية على أخوته المذكورين من والدهم وبأن الثمن المعقود به ثمن المثل لذلك وبأن للأيتام المذكورين الحظ والمصلحة والغبطة في بيع ذلك بالثمن المذكور حسبما اعترف البائع المذكور بذلك رعاية لما يظهر به صحة البيع المذكور كما جرت عادة الموثقين باسترعاء مثل ذلك وتسطيره في الوثائق رعاية لما سبق ذكره وثبت ذلك عند حاكم شرعي شافعي وحكم بموجبه ثم توفي المشتري عن ورثة مستوعبين لميراثه شرعاً ثم ادعى الأيتام المبيوع عليهم بعد بلوغهم ورشدهم أن البيع المذكور ليس بصحيح وطالبوا ورثة المشتري بالبيع المذكور لكون البيع وقع من غير ثبوت مسوّغاته الشرعية التي منها كون البائع وصياً أو قيماً ومنها وجود الحظ والمصلحة لهم في ذلك، ومنها أن الثمن ثمن المثل لذلك وإنما عوّل في ذلك كله على اعتراف البائع به على الصورة المشروحة أعلاه ولم يصدر إذن من حاكم شرعي في بيع ذلك فهل دعوى الأيتام ومطالبتهم بما ذكر مسموعة أم لا؟ وهل يكفي لصحة البيع المذكور اعتراف البائع بالمسوغات المذكورة أم لا؟ وإذا لم تجد ورثة المشتري بينة شرعية تشهد بأن البائع كان حين البيع وصياً أو قيماً وبوجود بقية المسوّغات الشرعية إذ ذاك فهل يتبين بطلان البيع وبقاء المبيع في ملك الأيتام واستحقاقهم لانتزاع ذلك من ورثة المشتري أم لا؟ وإذا تبين ذلك وانتزع الأيتام المبيع(5/83)
المذكور بالطريق الشرعي بمسطور وأراد ورثة المشتري الرجوع بالثمن على البائع أو صدق الأيتام على صحة البيع وطالبوا بالثمن فادعى البائع أن اعترافه بقبض الثمن لم يكن عن قبض حقيقة وأن المشتري لم يدفع له شيئاً من الثمن، وأن الثمن باق في ذمة المشتري إلى الآن فهل دعواه بذلك مسموعة لتحليف ورثة المشتري أم لا؟ وإذا قلتم نعم فهل يقبل جواب ورثة المشتري عن ذلك بأن الأيتام لا يستحقون علينا شيئاً من هذا الثمن أو لا نعلم استحقاقهم علينا بشيء من هذا الثمن أو أن مورثنا توفي ولم يبق في ذمته شيء من هذا الثمن، والحال أنهم يصدقون على شراء مورثهم للمبيع المذكور من البائع المذكور بالثمن المذكور، وإذا قلتم لا يقبل ذلك منهم فماذا يكون كيفية يمين ورثة المشتري المترتبة على الدعوى المذكورة وهل هي على البت بأن اعتراف البائع بالقبض كان بعد وجود حقيقة قبضه للثمن أو بأن مورثهم دفع الثمن كله للبائع أو هي على نفي العلم، أي بأنهم لا يعلمون أن الاعتراف عن غير حقيقة القبض أو لا يعلمون بقاء الثمن في ذمة مورثهم وما حكم الله في ذلك كله على مذهب الحاكم الشافعي المثبت لمضمون المكتوب المذكور أفتونا مأجورين وأبسطوا لنا الجواب وأوضحوه أثابكم الله الجنة آمين؟. فأجاب بقوله: أما دعوى الأيتام المذكورين ومطالبتهم بما ذكر فممنوعة، ولا يكفي لصحة البيع المذكور اعتراف البائع بالمسوغات المذكورة بل لا بد من ثبوتها بإقامة بينة تشهد بجميعها مفصلة من أن البائع وصي أو قيم من جهة حاكم شرعي وأن البيع بثمن المثل وأن فيه مصلحة للمحجور عليه، ولا بد من بيان الشاهد لوجه المصلحة إلا أن يكون فقيهاً موافقاً للقاضي على الأوجه أو باعتراف المدعين بعد بلوغهم ورشدهم بجميع ما ذكر فإن وجدت بينة أو اعتراف كما ذكر فالبيع صحيح وإلا فهو باطل ولا نظر لحكم القاضي المذكور في السؤال، لأنه إنما حكم بموجب ما ثبت عنده من إقرار البائع وموجبه الصحة إن ثبت ما ذكرناه(5/84)
وإلا فالبطلان وإذا بان بطلان البيع فالمبيع باق على ملك الأيتام فينزعونه من ورثة المشتري ويرجعون عليهم بأرش عيب حدث في المبيع بعد قبض مورثهم إلى حين انتزاعه منهم وبأجرة المبيع تلك المدة إن صلح أن يؤجر وإن لم يستعمل ولا كان معداً للاستعمال وبأقصى ما تلف منه في تلك المدة بزوائده المنفصلة كالولد واللبن وغيرهما ولا رجوع للورثة على الأيتام بما أنفقوا على المبيع، نعم يرجعون على البائع بما غرموه للأيتام من أجرة منافع وفوائد لم يستوفوها هم ولا مورثهم بخلاف ما غرموه من بدل ما استوفوه منها فلا رجوع لهم به على أحد، لأن منفعته عادت إليهم ولأنهم المباشرون لإتلافه ثم بعد انتزاع المبيع من ورثة المشتري بالطريق الشرعي الذي تقرر للورثة الرجوع على البائع بالثمن الذي اعترف بقبضه من مورثهم وأما إذا صدق الأيتام على صحة البيع وأن البائع وليهم فيقبل إقراره عليهم بقبض الثمن فيرجعون به عليه لا على ورثة المشتري ولا يقبل قوله بالنسبة إليهم لم يكن إقراري عن حقيقة كما هو ظاهر، وفي الصورتين تقبل دعواه على ورثة المشتري بما ذكر في السؤال لتحليفهم، نعم إن كانت صفة إقراره ما ذكر في السؤال من أنه أقر بقبض الثمن بكماله من غير حيلة في ذلك قبضاً صحيحاً شرعياً مبرئاً لذمة المشتري من جميع الثمن ومن كل جزء منه إلى آخر ما ذكر في السؤال وشهد الشهود عليه بأنه تلفظ بجميع ما ذكر أو ببعضه المؤدي معناه فلا تقبل دعواه عليهم حينئذ لأنا إنما قبلنا دعواه لعدم القبض لاحتمال أنه كان أقر به كملاً ولأن العادة جرت بأن الوثائق يشهد عليها قبل تحقيق ما فيها وهذا لا يتأتى مع قوله من غير حيلة في ذلك الخ لتحليفهم لأنه لا يعتاد في الإقرار عن غير حقيقة أن يذكر فيه ذلك فلا نظر لهذه الدعوى وإن كانت ممكنة لمخالفتها للعادة كما يصرح به قولهم لو أقر بإتلاف مال، ثم قال أشهدت عازماً عليه لم يقبل لأن ذلك لا يعتاد أي وإن كان ممكناً، وبهذا يعلم أن(5/85)
ما ذكر لا ينافي ترجيح
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
الأذرعي وغيره من أن من أقر بقبض ممكن ثم قال أقررت باطلاً قبلت دعواه لتحليف المقر له أنه قبض منه وإن لم يذكر لإقراره تأويلاً ولو كان الإقرار بذلك بعد الدعوى عليه في مجلس القاضي خلافاً للقفال ، وإن قال إنه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق لشمول الإمكان لذلك هذا كله إن كانت العادة ما ذكرته من أن الإقرار بهذه الصيغة لا يقع مع عدم مطابقته لما في نفس الأمر فإن ثبت أنه معتاد قبلت دعواه للتحليف ولو مع هذه الألفاظ، أما إذا لم يشهد الشهود على المقر بأنه تلفظ بهذه الألفاظ فلا عبرة بوقوعها في خطهم وتقبل دعوى المقر له لتحليف الورثة مطلقاً، ثم لا بد في جوابهم وحلفهم من مطابقتهما للدعوى فإن كانت بصيغة أن إقراري بالقبض باطل كان الحلف بصيغة أن إقراره بالقبض صحيح أو بصيغة أن المشتري لم يدفع لي شيئاً من الثمن كانت اليمين بصيغة أن مورثي دفع لك الثمن جميعه أو بصيغة أنكم تعلمون أن إقراري لم يكن عن حقيقة كانت اليمين بصيغة لا نعلم أن إقرارك عن غير حقيقة ويقاس بما ذكر من الصور ما في معناها، وأصل ذلك قول الأصحاب لا بد في اليمين والجواب من مطابقتهما للدعوى وقولهم إن اليمين في كل إثبات وفي كل نفي فعل من نفسه أو مملوكه الذي في يده يكون على البت وفي نفي فعل غيره يكون على نفي العلم اهـ، وبما تقرر يعلم الجواب عن جميع ما ذكر في السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/86)
وسئلت عمن قرأ وهلل وأذن لآخر أن يدعو الله أن يوصل ثواب ذلك إلى فلان ما الحكم حينئذ أو قرأ ودعا بإيصال ثواب ذلك لحي ما حكمه؟ وما حقيقة الثواب الواصل للميت؟. فأجبت بقولي: الدعاء للغير الحي أو الميت بثواب الداعي أو غيره الآذن له لا ينبغي فإن ثواب الإنسان لا ينتقل عنه إلى غيره بالدعاء فيكون الدعاء بذلك مخالفاً للواقع وهو ممتنع، أما الدعاء بحصول مثل ذلك الثواب للغير فلا بأس به، لأنه من الدعاء للأخ المسلم بظهر الغيب والأحاديث دالة على قبوله بهذا وغيره مع أنه ليس فيه محذور فلم يكن لامتناعه وجه بل لو ذكر الداعي الثواب ومراده مثله لم يكن فيه امتناع أيضاً، لأن إضمار مثل في نحو ذلك سائغ شائع ذائع ومن ثم لو قال أوصيت لفلان بنصيب ابني صح وأعطى مثل نصيب ابنه بشرط رعايته لمعنى المثلية المتبادر في مثل ذلك، وحقيقة الثواب الواصل للميت هي كل ملائم واصل للروح من نعيمها بالمعارف الإلهية والمواهب الاختصاصية والتمكن من دخول الجنة والتملي بما شاهدته منها ومجيء رزقها إليها على باب الجنة أو فيها وهي بقباب نحو اللؤلؤ أو بخيامه أو بأجواف طير خضر أو غير ذلك بحسب تفاوت المقامات والعنايات ثم المتنعم بهذا النعيم الأرفع الأوسع الأكمل الأفضل هو الروح بطريق الذات وأما الجسد فهو وإن كان بالبرزخ يحصل له بعض آثاره لأنه فيه يحس بالنعيم وضده فللروح من الثواب أعلاه وللجسد منه أدناه وسره أن حقيقة المعرفة والتوحيد وسائر الطاعات الباطنة والمدار ليس إلا عليها إنما ينشأ عن الروح فاستحقت أكمل الثواب وأفضله، وأما غير ذلك من الطاعات الظاهرة فهو بالنسبة إليه كالتبع والقائم به البدن فاستحق من الثواب أدناه ولا يستبعد إدراكه له مع كونه جماداً لا روح فيه، لأنه ليس كالجماد من كل وجه بل له نوع إدراك، لأن الروح وإن كانت بعيدة عنه إذ أرواح المؤمنين في عليين وأرواح الكفار في سجين لكن لها اتصال بالبدن كما أن الشمس بالسماء الرابعة(5/87)
ولها اتصال وشعاع وإنارة ونفع عام بالأرض فبذلك الاتصال الواصل إلى البدن من الروح صار للبدن نوع إحساس وإدراك فأحس بالنعيم ونضرته وابتهج بما يرد عليه من شهوده ومسرته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل سؤالاً صورته قد وقع الطاعون عندنا بأرض اليمن وأهل اليمن يفرون منه ويقولون أنه عدوى فهل هو عدوى أم لا؟ وإنا رأينا في شرح مسلم كلاماً في الطاعون وفي إحياء علوم الدين ونحن نريد الزيادة منكم فالمسؤول منكم أن تذكروا لنا ما يحضركم من ذلك في بيان الطاعون وما يتعلق به حتى نعظ به أهل البلد والمسؤول منكم بسط ذلك جزاكم الله خيراً. فأجاب: بأن الكلام على الطاعون وما يتعلق به كثير، ومن ثم أفرد بتآليف فلنشر هنا إلى ملخصها وهي تنحصر في مسائل منها الكلام على حقيقته وقد صح عن الصادق المصدوق محمد أنه قال: «فناء أمتي بالطعن والطاعون» ، فقيل: يا رسول الله الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: «وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة» ، وفي رواية: وهو شهادة للمسلم، وورد عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا بسند حسن سألت رسول الله عن الطاعون فقال: «غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف» ، وفي رواية: «شبه الدمل يخرج في الآباط والمراق وفيه تزكية أعمالكم وهو لكل مسلم شهادة» ، وفي أخرى: «الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن يخرج في الآباط والمراق الفار منه كالفار من الزحف والصابر فيه كالمجاهد في سبيل الله» ، وكونه يخرج في الآباط والمراق هو الغالب، فلذلك اقتصر عليهما وقد يخرج في الأيدي والأصابع كما وقع لمعاذ بن جبل ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه لما روي حديث الطاعون دعا لنفسه ولأهل بيته بالحظ الأوفر منه فطعنوا وماتوا وطعن هو في أصبعه السبابة فكان يقول ما يسرني أن لي بها حمر النعم، ومن ثم قال النووي في تهذيبه: الطاعون مرض معروف وهو بثر وورم مؤلم جداً يخرج منه لهيب ويسود ما(5/88)
حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقيء ويخرج في المراق والآباط غالباً اهـ. وقال محققو الأطباء: الطاعون مادة سمية تحدث ورماً قتالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن وأغلب ما يكون تحت الإبط وخلف الأذن أو عند الأرنبة وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد فيستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخقفان وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة والأسود منه قل من يسلم منه وأسلمه الأحمر ثم الأصفر وتكثر الطواعين عند الوباء وفي البلاد الوبية ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وعكسه، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده اهـ، وبه يعلم أن الطاعون أخص من الوباء مطلقاً فكل طاعون وباء ولا عكس، وبه صرح القاضي عياض واستدل له وجزم به آخرون واستدل بعضهم بأنه صح أن المدينة لا يدخلها الطاعون وصح عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا أنها أوبى أرض الله وعن بلال أنها أرض الوباء فيلزم أن الطاعون غير الوباء وإلا تعارض الحديثان، فقول ابن الرتي أنه هو غير صحيح وإنما تجوّز عنه به لكون كل منهما ينشأ عنه كثرة الموت ويفارقه بخصوص سببه وهو كونه من طعن الجن والوباء، إنما هو لفساد الهواء الذي ينشأ عنه عموم الأمراض، ولا ينافي كون سبب الطاعون طعن الجن ما مر عن الأطباء من أنه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم وانصبابه إلى عضو أو غير ذلك لجواز أن ذلك يحدث عند الطعنة الباطنة التي أخبر بها الصادق فتكلموا على ما ظهر بحسب قواعدهم دون ما بطن لأنه لا يدرك بالعقل، قيل: وقد ينشأ الطاعون عن فساد الهواء وهذا قول مزيف كما بينه ابن القيم في هديه بأمور كثيرة منها: أنه يقع في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء وباء لا يعم الناس ولو كان من الهواء لعم بل قد يفنى أهل(5/89)
بيت ولا يدخل بيتاً يجاورهم وبأنه قد يقل عند فساد الهواء ويكثر عند اعتداله وبأن كل داء بسبب من الأسباب الطبيعية له دواء من الأدوية الطبيعية على ما صح في الحديث:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
«ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله» ، والطاعون باعتراف حذاق الأطباء لا دواء له ولا دافع له إلا الذي خلقه وقدره، ثم قوله : «فناء أمتي بالطعن والطاعون» معناه الصلب لما في بعض طرقه عند أحمد من التصريح بذلك بقوله: «اللهم اجعل فناء أمتي بالطاعون» ، وفي رواية: «اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون» ، وقيل: إنه على الخبر لا الدعاء أي الغالب على فناء الأمة الفتن التي تسفك فيها الدماء والوباء، ومن زعم أن أكثر الأمة يموتون بغير هذين فقد أخطأ بل أكثرهم يموتون بهما كما صرح به ابن الأثير واستدل غيره بالاستقراء على أن من يموت بالطاعون أكثر ممن يموت فيما بينه وبين الطاعون الآخر فكيف إذا انضم لذلك القتل الحاصل في الجهاد وفي الفتن التي لا تنقطع ولا تحصى كثرة، وعموماً في أقطار الأرض وعلى أن ذلك للدعاء فليس القصد به الدعاء على الأمة بالهلاك بل المراد الدعاء لهم يلازم ذلك وهو حصول الشهادة لهم بكل من ذينك فالقصد الدعاء بجعلهما سبباً للموت الذي لا بد منه لا الدعاء بمطلق الهلاك ومن لازم حصول الشهادة أن ذلك يكون كفارة لما يقع من الأمة لما ورد أن القتل لا يمر بذنب إلا محاه، ومما يؤيد ذلك أن كثيرين من كبار الصحابة وغيرهم تمنى الشهادة والموت بالطاعون ولم ينظروا إلى أنها تستلزم تمكين الكافر من قتل المسلم وهو معصية وتمني المعصية حرام لأن قصدهم بتمنيها ليس ذلك بل نيل درجتها الرفيعة ولا نظر لفعل الكافر، لأنه من ضرورة الوجود ثم ما ذكر من أنه وخز أعدائنا من الجن هو الثابت، وما وقع لابن الأثير تبعاً لغريبي الهروي من أنه وخز إخوانكم فمردود بأنه لم(5/90)
يرد في شيء من كتب الحديث بعد التتبع الطويل البالغ، ونسبة الزركشي كغيره ذلك إلى رواية أحمد وهم وكذا نسبته لمسند الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا وعلى تسليم وروده فلا تنافي لأن أخوّتهم في الدين لا تنافي عداوتهم لأنها بالطبع وإن كانوا مؤمنين أو أن الأولى في طعن كافرهم لمسلمنا والثانية في طعن مسلمهم لكافرنا أو أن كلا يفيد ما يفيده الآخر، إذ لفظ أعدائكم على عمومه لأن الطعن لا يقع إلا من عدوّ في عدوّه ويكون الخطاب لجميع الإنس، فإن الطعن يكون من كافرهم في مؤمننا أو من مؤمنهم في كافرنا، ويؤيده حديث إنه شهادة للمسلم ورجز على الكافر ،
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/91)
ولفظ إخوانكم على عمومه أيضاً لكن المراد به أخوّة التقابل كما في الليل والنهار والشمس والقمر أخوان أو أخوّة التكليف فإنه يعمهم أيضاً وهو المراد في حديث: «زاد إخوانكم من الجن» فإنه زاد للكافر أيضاً، وحكمة تسليطهم على الإنس بالطعن أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بمعاداة أعدائنا منهم أيضاً وهم شياطينهم فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم بل ومطاوعتهم على ما يطلبونه منهم من المعاصي والضلال فسلطوا عليهم، عقوبة لهم كما سلط عليهم أعداؤهم من الإنس حيث أفسدوا في الأرض ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم عقوبة لمستحقها وشهادة ورحمة لأهلها، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في العقوبات تقع عامة فتكون طهراً للمؤمنين وانتقاماً للكافرين، وقيل: الحكمة أن الله سبحانه وتعالى اختص المؤمن لنفسه، وأراد به الخير في كل ما أصابه من خير أو شر أو ألم أو لذة وقيض له من يستغفر له أو يشفع له أو يعاونه من ملك ونبي ومؤمن ومن يعاديه من شيطان يزله وعدوّ يقاتله وجني يخزه وهو سبحانه وتعالى له حافظ ولعدوّه قاهر مع أنه إن أصابه شر فشكر أو خير فصبر كان خيراً له وسلط الجن عليه مع كونه محفوظاً في جميع أموره كما جاز أنه يعطنه عدوّه الظاهر في وقت مع حفظه بالرعب أو النصر في أكثر أحواله لإرادة الخير به ونيله درجة الشهادة بقتل العدوّ له، وقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ، (النساء: 141) أي من حيث العموم فلذلك يجوز أنه يطعنه عدوّه الجني مع كونه ممنوعاً منه بالمعقبات من الملائكة في أكثر أحواله لإرادة الخير به ونيله درجة الشهادة من وخزه مع ضعف كيده ومن ثم كان طعنه غير نافذ بخلاف طعن الإنس إذ ذاك، أصل الوخز بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها زاي، وسبب عدم نفوذه أنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر في الباطن أوّلاً ثم قد ينفذ إلى الظاهر وطعن الإنس يؤثر أوّلاً في الظاهر لا يقال يلزم من كونه من وخز الجن عدم وقوعه في رمضان لما صح(5/92)
أن الشياطين تغلغل فيه وتصفد وقد وقع فيه بل كان فيه أكثر منه في غيره، لأن تصفيدهم إنما هو عما يترتب عليه إثم من تزيين المعصية لابن آدم حتى يقع فيها بخلاف ما لا يترتب عليه ذلك بل يترتب عليه الثواب كالطاعون فلا يمنعون منه كما لا يمنعون مما لا إثم فيه ولا ثواب كالاحتلام، وذلك باعتبار الغالب وإلا فقد يزينون لابن آدم كثيراً من المعاصي فيه، ثم رأيت الحليمي أجاب بذلك و ابن خزيمة قال: المراد بعضهم لا كلهم لحديث:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/93)
«صفدت الشياطين مردة الجن» فمردة نعت مخصص أو بدل بعض من كل ورواية مردة بمعنى رواية وصفدت الشياطين المطلقة وعلى هذا فالوخز يقع في رمضان من غير المردة. وقال عياض : يحتمل المراد كلهم إشارة إلى كثرة الثواب وقلة إغوائهم فهم كالمصفدين ورجح القرطبي حمله على ظاهره لكن بالنسبة لمن صام الصوم المعتبر بشروطه وآدابه، ورجح بعض المحققين ما قاله ابن خزيمة . ومنها الكلام على كونه شهادة وقد مر ذلك في الأحاديث السابقة وهو في الصحيحين أيضاً وفي حديث حسن: أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافر ، ولا ينافي هذا أنه قد يكون عقوبة فقد صح أنه قال: «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله تعالى عليهم الموت» ، وفي رواية: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» ، وفي رواية: «ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب» . ووجه عدم المنافاة أن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن عجل لهم عقوباتهم في الدنيا كما في الحديث: «أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل» رواه أبو داود بسند حسن وهو محمول على معظم الأمة لثبوت أحاديث الشفاعة في قوم يعذبون ثم يخرجون من النار، والحاصل أن كونه عقوبة بسبب المعصية لا ينافي كونه شهادة لجميع من طعن لا سيما من لم يباشر المعصية المذكورة، ولعل سبب العموم تقاعدهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو زيادة حسنات من لم يباشر الفاحشة للحديث الصحيح أن الرجل لتكون له عند الله المنزلة ما يبلغها بعمله فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ولا كونه شهادة في حق العاصي نفسه، لأن من الرحمة في حقه أن يعجل له(5/94)
العقوبة في الدنيا لتكفر خطاياه وإنما كان سببه ظهور الزنا لأنه غالباً يقع سراً وحده إزهاق روح المحصنين فإذا لم يقم عليهم الحد سلط الله تعالى عليهم عدوّاً يقتلهم سراً من حيث لا يرونه، وقاعدة العذاب أنه إذا نزل يعم المستحق له وغيره ثم يبعثون على نياتهم ثم الشهيد فعيل بمعنى فاعل لأنه حي فروحه شهدت دار السلام وروح غيره إنما تشهدها يوم القيامة أو لأنه يشهد عند الموت ما له من الكرامة أو لأنه الذي يشهد القيامة بإبلاغ الرسل أو بمعنى مفعول لأنه مشهود له بالجنة أو بالأمان من النار أو بحسن الخاتمة من الله أو من ملائكته، والشهادة اصطلاحاً تخصيص من حصل له سبب من أسبابها بثواب مخصوص وكرامة زائدة ولا يختص ذلك بقتيل المعركة، ففي حديث الموطأ:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/95)
«الشهداء سبعة سوى قتيل المعركة وعددها المطعون والغريق وصاحب ذات الجنب، أي وهو الميت، بقرحة ذات الجنب والمبطون، أي الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء» ، وقيل: صاحب الإسهال، وقيل: المجنون، وقيل: صاحب القولنج والحريق والميت تحت الهدم والمرأة تموت بجمع أي بتثليث الجيم، قيل: هي التي تموت بالولادة ألقت ولدها أولاً، وقيل: إن لم تلقه وصححه النووي، وقيل: هي البكر، وفي رواية: المرأة يجرها ولدها بسررها إلى الجنة، وقيل: هي التي تموت بمزدلفة ورد بأنه خطأ ظاهر ومن الشهداء صاحب السل، رواه أحمد والطبراني والغريب رواه جماعة وفيه عدة أحاديث ضعيفة على ما قاله المنذري وصاحب الحمى رواه الديلمي ومن لدغته هامة أو افترسه سبع والشريق والخار عن دابته والمتردّي من رأس جبل، رواها الطبراني وغيره. ومن قتل دون ماله أو دمه أو دينه أو أهله، رواه أصحاب السنن الأربعة. ومن قتل دون مظلمة، رواه أحمد والنسائي. والميت في حَبْس حُبِسَ فيه ظلماً، رواه ابن منده . ومن عشق فكتم فعف، رواه الخطيب الديلمي . والميت وهو طالب للعلم، رواه البزار . والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، رواه أبو داود . ومن مات مرابطاً، رواه ابن حبان . و من صبر في الطاعون وإن لم يمت به على ما يأتي وأمناء الله تعالى على خلقه قتلوا أو ماتوا ، رواه أحمد. ومن قرأ حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات آخر سورة الحشر ومات في يومه أو حين يمسي ومات في ليلته، رواه الترمذي وقال: غريب. ومن مات على وصية ، رواه ابن ماجه. ومن مات على وضوء ، رواه الآجري. ومن صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر، رواه أبو نعيم. ومن قال: اللهم إني أشهدك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب غيرك حين يصبح ومات في يومه أو يمسي(5/96)
ومات من ليلته، رواه الأصبهاني وغيره. ومن مات ليلة الجمعة أو يومها ، أخرجه جماعة وفي حديثه: أنه يوقى فتنة القبر ومن دعا في مرضه بأن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت الظالمين أربعين مرة ومات في مرضه ذلك، رواه الحاكم. وفي حديثه: وإن برىء برىء وقد غفر له جميع ذنوبه ،
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
ومن مات عقب رمضان أو عمرة أو غزو أو حج نقله جمع عن الحسن. ومن سأل الله سبحانه وتعالى الشهادة بصدق، أخرجه مسلم. ولفظه: من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه . وفي رواية: من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه . قال النووي: الثانية مفسرة للأولى ومعناهما أنه يعطى من ثواب الشهداء وإن مات على فراشه، وورد بسند حسن كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد ، أي لكن الشهادة تتفاضل. ومن مات مريضاً، رواه ابن ماجه، وفي حديثه: ووقى فتنة القبر وغدى عليه وريح برزقه من الجنة ، وظاهره شمول جميع الأمراض وهو كذلك. وقول القرطبي يقيد بقوله من يقتله بطنه أي صاحب الإسهال أو الاستسقاء مردود وهذه الخصال الزائدة على الأربعين ورد في كل منها أن صاحبها شهيد أي يعطى أجر الشهداء ومراتبها في ذلك متفاوتة حتى في الأشخاص كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في شهداء المعركة وللشهداء خصوصيات: منها: أنه يغفر له أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار ويزوّج اثنين وسبعين من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه، رواها الترمذي بسند صحيح غريب. ومنها: {أحياء عند ربهم يرزقون} ، (آل عمران: 169) كما في القرآن العزيز، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، رواه مسلم. وبعض هذه الخصال يكون لسائر الشهداء كالأخيرة كما نقله القرطبي عن العلماء وكوقاية فتنة القبر كما ذكره الجلال السيوطي ، ونقله(5/97)
عن القرطبي وورد على من توقف من معاصريه في كون المطعون يأمن فتنة القبر، قال: وأعجب من ذلك من ظن أن شهيد المعركة يفتن في قبره وهو مخالف للنص اهـ، وقد صح عند أحمد وغيره أن المطعون كشهيد المعركة، ولفظ حديثهم يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا جل جلاله في الموتى يتوفون في الطاعون فيقول الشهداء: قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم؛ فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت جراحهم. وفي رواية سندها حسن: يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا فإن كانت جراحاتهم كجراح الشهداء تسيل دماً وريحهم كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم كذلك.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/98)
نعم يشترط لتحصيل الشهادة بالطاعون أمور: منها: ما دل عليه حديث البخاري: أن يمكث في بلده الواقع به الطاعون صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له محتسباً فعلم أن أجر الشهداء إنما يكتب لمن لم يخرج بل أقام قاصداً بذلك ثواب الله تعالى راجياً به صدق موعوده عارفاً أنه إن سلم أو مات به فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى غير متضجر به لو وقع معتمداً على الله تعالى في سائر أحواله، فمن اتصف بذلك كتب له أجر شهيد وإن سلم من الطاعون كما اقتضاه ظاهر الحديث: كمن خرج للجهاد فمات قبله بسبب آخر، ويؤيد ذلك رواية مسلم: ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ولم يقل بالطاعون واحتمال كونها للسببية وإن أيده ما في الحديث: «ومن مات في البطن» أي بها لا يمنع أن ظاهر الحديث ما مر بل ظاهره أنه يكتب له أجر شهيد وإن لم يمت في زمن الطاعون وفضل الله سبحانه وتعالى واسع ونية المؤمن خير من عمله. وروى أحمد أن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ولا يلزم من ذلك أن من اتصف بما مر ومات بالطعن يكتب له أجر شهيدين لما مر أن درجات الشهداء متفاوتة فارفعها من اتصف بما مر ومات مطعوناً، ثم من اتصف وطعن ولم يمت ثم من اتصف ولم يطعن ومات زمن الطاعون بغيره ثم من اتصف ولم يطعن ولا مات زمنه على أنه لا مانع من تعدد أجر الشهادة لمن اجتمع فيه سببان فأكثر من أسبابها كغريب مطعون كما يتعدد القيراط لمن صلى على جنائز وكما أن من اقتنى كلاباً ينقص من أجره قراريط بعددهم، وظاهر الحديث أن المطعون شهيد وإن كان فاسقاً بل هو صريح حديث الصحيحين: الطاعون شهادة لكل مسلم ، ولا يلزم مساواته للعدل لتفاوت درجات الشهداء كما مر، ويؤيده أن شهيد المعركة لا يقدح فسقه في شهادته فوجود التبعات لا يقدح فيها لأنها ثواب وكرامة زائدة وذلك لا ينافيه فسق ولا غيره، نعم صح أن الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين وفي معناه سائر تبعات العباد، وحديث ابن ماجه : يغفر لشهيد البر الذنوب كلها(5/99)
إلا الدين ولشهيد البحر الذنوب والدين ضعيف، فإن ثبت حمل على من خرج مجاهداً في البحر فغرق قيل: ويمكن أن يقال أفاد استثناء الدين أن حق العباد لا يسقط بمجرد الشهادة وأفاد إثباته أنه قد يوهب من مزيد الثواب ما يوفي منه المظالم التي في قبله ويتوفر له ثواب الشهادة كاملاً وبما اقتضاه ظاهر الحديث من أن من مات بسبب من أسباب الشهادة فهو شهيد وإن مات في معصية جزم الإمام ابن العربي ومثل ذلك بمن غرق في قطع الطريق قال: وكل من مات بسبب معصية فليس بشهيد وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته وعليه إثم معصيته، وحكمة كون الطاعون لا يدخل مكة والمدينة كما يأتي مع أنه شهادة ورحمة أنه ليس نفس الشهادة بل سببها ولما كان من الجن مدحت البلدان بأنه لا يدخلهما إشارة إلى أن كفار الجن ممنوعون من دخولهما للعبث والفساد بأهلهما حماية لهم ببركة جواره وجوار نبيه محمد وهو وإن سلم وقوعه من مؤمني الجن أيضاً فمؤمنوهم يجلونهما من إيقاع ذلك فيهما علماً منهم بجلالتهما وتعظيماً لحقهما فلذلك لم يدخل إليهما طاعن أصلاً وأجيب أيضاً بأن سبب الرحمة لا ينحصر في الطاعون فقد قال :
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/100)
«ولكن عافيتك أوسع لي» فكان عدم دخولهما من خصائصهما ولوازم دعائه لهما بالصحة وخصهما بذلك لاختصاصهما به دون غيرهما، وفي ذلك معجزة كبرى وهي عجز الأطباء قاطبة عن حماية شخص واحد من الطاعون وهو قد حمى هذين مع كثرة من فيهما منه على ممر الأعصار وتوالي الأزمان، وقد عوّضنا عنه بالأمن لحديث أبي داود الطيالسي: من مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين . وبالشفاعة لحديث ذكره ابن ماجه في مسنده: من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين. وروى أيضاً: من مات بمكة أو في طريق مكة بعث من الآمنين. قال الحافظ السخاوي : ويروى الأمن من فتنة القبر لمن مات في أحد الحرمين أو في طريق مكة أو مرابطاً ولمن يقرأ سورة الملك عند منامه ولكونه شهادة جاء عند الديلمي أن الطاعون أول رحمة ترفع من الأرض. وعند ابن السني وغيره: أوشك الفالج أن يفشو في الناس حتى يتمنوا الطاعون مكانه. ومنها: الكلام على الخروج من محله والدخول إليه قال تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف} (البقرة: 243) الآية، وأقوى الطرق وأحسنها أن فرارهم كان من الطاعون فعوقبوا على ذلك بأن أماتهم الله سبحانه وتعالى قبل آجالهم ثم بعد مدة أحياهم الله وبقيت عليهم آثار الموت فلا يلبسون ثوباً إلا صار عليهم كفناً ليعرفهم أهل ذلك الزمان فيعتبروا بهم. قال الإمام أبو بكر الرازي : دلت الآية على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون وهو نظير قوله تعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} ، (الأحزاب: 16) وقوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} ، (النساء: 78) a50 وقوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} ، (الجمعة: 8) وفي الصحيحين: الطاعون رجس أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه. وفيهما أن عمر خرج للشام فأخبر(5/101)
أن بها وباء فاستشار المهاجرين فاختلفوا والأنصار فاختلفوا فدعا من كان هناك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاتفق رأيهم على أن يرجع بالناس ولا يقدمهم على ذلك الوباء فهمّ بالرجوع فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله/ وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً فلما جاء قال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله يقول:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/102)
«إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» فحمد الله تعالى عمر ثم انصرف، وقد ورد بمعنى ذلك عدة أحاديث. واختلف العلماء في دخول بلد الطاعون والخروج منه فأكثر العلماء على الأخذ بظاهر الحديث. ومن ثم قال التاج السبكي : مذهبنا وهو الذي عليه الأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم، بل قال ابن خزيمة : إن الفرار منه كبيرة وأن الله تعالى يعاتب الفار منه ما لم يعف عنه، واستدل على ذلك بحديث أحمد و الطبراني و ابن عدي وغيرهم: الفار من الطاعون كالفار من الزحف، وبه يعلم وهم ابن رشد المالكي في دعواه الإجماع على عدم التحريم وضعف قول كثيرين إن النهي للتنزيه، قيل: وهو المشهور من مذهب مالك وتزييف القول باستحباب الخروج عنه. قال التاج السبكي: واتفقوا على جواز الخروج لشغل عرض غير الفرار قال: وليس محل النزاع فيمن خرج فاراً من قضاء الله تعالى فذلك لا سبيل إلى القول بحله، بل الظاهر أن محل النزاع فيما إذا خرج للتداوي اهـ، واعترض بأن الخروج للتداوي غير محرم في مذهبنا فالعبارة الصحيحة أن يقال محل النزاع إذا خرج فاراً من المرض الواقع مع اعتقاد أنه لو قدره الله عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يؤمل النجاة وخرج بقوله مع اعتقاد الخ، من خرج فاراً من قضاء الله تعالى معتقداً أن ذلك ينجيه فلا توقف في تحريمه بل ربما يكفر به ولو قصد الخروج لحاجة والفرار فالذي يظهر أنه يأثم بقدر قصده، لأن الفرار محرم وقصد المحرم حرام سواء انفرد أو شاركه قصد شيء آخر جائز، وبه يعلم أن الأرض التي وقع بها الطاعون لو كانت وخمة والتي يريد التوجه إليها صحيحة فتوجه إليها بهذا القصد حرم عليه، لأن هذا من صور الفرار لغير حاجة كما اقتضاه إطلاق أصحابنا ثم ما المراد بكونه في أرض الطاعون حتى يحرم عليه الخروج منها والذي يظهر في ذلك أنه إن وقع بإقليم حرم عليه الخروج من ذلك الإقليم لا من بعض قراه إلى بعض(5/103)
لأنها كلها بالنسبة إلى عموم الطاعون بمنزلة الموضع الواحد وإن اختص ببلد أو بلاد من إقليم حرم الخروج مما اختص به إلى غيره لا من بعض ما اختص به إلى بعضه، وإذا كان في بلد مثلاً فهل الفرار منها بالخروج إلى خارج عمرانها أو سورها أو إلى خارج مزارعها لم أر في ذلك كالذي قبله شيئاً والذي يظهر أنه يتبع في ذلك عرف أهلها فكل محل عدوا الخروج إليه فراراً حرم الخروج إليه وإلا فلا وحكم دخول محل الطاعون كالخروج منه فيما تقرر من التحريم وغيره، وقد صرح بذلك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/104)
النووي في شرح مسلم فقال: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به هذا مذهبنا ومذهب عامة الجمهور من العلماء. قال القاضي : وهو قول الأكثرين، ومنهم من جوّز ذلك والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه والفرار منه اهـ، قيل: والنهي عن الخروج تعبدي، لأن الفرار عن المهالك مأمور به، وعلله آخرون بأنه إذا وقع بمحل عم جميع من فيه فلا يفيده الخروج شيئاً فكان عبثاً وبأنه لو مكن الناس منه بقي من وقع به عاجزاً عن الخروج فلا يبقى للمرضى متعهد ولا للموتى مجهز، وأيضاً ففي خروج الأقوياء كسر لقلوب الضعفاء. وقال ابن عبد البر : النهي عن الخروج للإيمان بالقدر وعن القدوم لدفع ملامة النفس، قال غيره: ولأن الله سبحانه وتعالى أمر أن لا يتعرض أحد للحتف وإن كان لا نجاة من قدر الله وفيه الصيانة عن الشرك لئلا يقول القائل لو لم أدخله لم أمرض ولو لم يدخل فلان لم يمت. وقال ابن دقيق العيد : الذي يترجح عندي في الجمع بين النهي عن الفرار والنهي عن القدوم أن علة القدوم التعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه وربما كان فيه نوع دعوى لمقام الصبر والتوكل فمنع لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق، وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصوّراً بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه، ويشير إلى ذلك قوله : «لا تمنوا لقاء العدوّ وإذا لقيتموهم فاصبروا» فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الإضرار بالنفس ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليماً لأمر الله وإذا خرج فهل يلزمه العود خروجاً من المعصية أو لا لانتهائها بالخروج لم أر في ذلك شيئاً، والقياس أننا متى قلنا بأن النهي تعبدي وجب العود وإلا بنى ذلك على علة التحريم، فعلى العلة الأولى لا يجب العود وعلى الثانية وهي أنه لو مكن الناس من الخروج لضاع الباقون يجب العود لأن الحق للغير فلو مكناه(5/105)
من التمادي لضاع حق الغير بخلاف ما لو ألزمناه بالعود، فإن قلت في عوده دخول، وقد تقرر أنه محرم فتعارض في حقه واجب وهو العود ومحرم وهو الدخول فَلِمَ غلب الأوّل؟ قلت هذا التعارض ممنوع لأن هذا الآن لا يسمى ابتداء دخول والمحرم إنما هو ابتداء الدخول لا الدخول من حيث هو، ألا ترى أن من خرج لا للفرار ثم أراد العود فإنه يجوز له ذلك من غير توقف مع أن فيه دخولاً، فدل ذلك على أن المحرم هو ابتداء الدخول فقط، وحينئذ فلم يتعارض ما مر وإذا تقرر أنه لا تعارض فاتجه البناء الذي ذكرته ومع ذلك لو قيل بعدم وجوب العود مطلقاً لم يبعد وإن كان ذلك هو الوجه. ومنها: أنه هل يدخل مكة والمدينة وقد صح عنه المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منها أي طريق أو باب أو مدخل ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وضمير منها عائد على كل واحدة من البلدين. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/106)
ابن قتيبة: ولم يقع بهما طاعون قط وأقره الأئمة بعده منهم النووي رحمه الله تعالى في أذكاره وغيره وما قيل إنه دخلها في عام تسع وأربعين وسبعمائة فهو وإن نقله جماعة فهو مردود بأن الأمر ليس كما ظنوا أي بل كان ذلك وباء لا طاعوناً كما يدل له كلام الفاسي في موضع وإن عبر عنه بالطاعون في موضع آخر، لأن الوباء قد يسمى طاعوناً مجازاً كعكسه بجامع كثرة الموت فيهما كما مر، فعلم أنه لم يدخل مكة طاعون قط ولا يدخلها إن شاء الله تعالى لصحة الحديث كما مر، وقول الدماميني إسناده ضعيف وهم. وفي حديث البخاري فلا يدخلها، يعني المدينة، الدجال ولا الطاعون إن شاء الله، قيل: هذا الاستثناء يحتمل التعليق، ويحتمل التبرك وهو أولى، وقيل: إنه يتعلق بالطاعون وعدم دخول الطاعون للمدينة أمر متفق عليه إلا ما شذ به القرطبي من قوله المراد لا يدخلها طاعون عظيم مثل طاعون عمواس وطاعون الجارف إذ قضيته أنه يدخلها طاعون غير عظيم وليس كذلك كما جزم به العلماء. ومنها: أنه هل يشرع الدعاء برفعه، أما الدعاء برفعه والخروج إلى الصحراء فبدعة، قيل: بل لو قيل بتحريمه لكان ظاهراً لأنه إحداث كيفية يظن الجهال أنها سنة، وأما القنوت له في الصلاة فليس بمشروع عند غير الشافعية، واختلف الشافعية فبعضهم أفتى به وبعضهم أفتى بامتناعه وإلا وجه الأول كما بينته في حاشية العباب وغيرها مع الرد على من أطال في خلافه ولا كراهة في الدعاء برفعه عن نفسه أو غيره من غير اجتماع لذلك، وكرهه بعض الحنابلة ومال إليه بعض متأخري الشافعية، ويدل لما مر من القنوت له قول الشيخين: يشرع القنوت في سائر الصلوات لنازلة كالوباء فقولهما كالوباء يشمل الطاعون إما بقياس المساواة وإما لكونه يطلق عليه مجازاً كما مر ولا يمنع من ذلك كونه شهادة ورحمة لأنه وإن كان كذلك إلا أنه ينشأ عنه موت العلماء وأكابر أهل الإسلام فيحصل للإسلام بذلك ضعف ووهن فطلب رفعه لأجل ذلك نظير ما مر في أنه لا(5/107)
يدخل مكة والمدينة مع كونه شهادة وبما قررته يندفع قول من قال لا يصح التمسك بكلام الشيخين المذكور لأنه أخص من الوباء، وقد اختص بكونه شهادة ورحمة ودعوة النبي بخلاف الوباء فلهذا يشرع الدعاء برفع الوباء دونه قال: ويؤيد ذلك اختصاصه بتحريم الفرار منه وهو من الوباء بغيره كالحمى وسائر أسباب الهلاك جائز بإجماع اهـ، ولا متمسك له فيما استدل به آخراً لما مر من أن النهي عن الفرار تعبدي عند قوم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/108)
(تتمات) يجوز الدعاء بطول العمر كما دعا به لأنس وقيده بعض المحققين بمن في بقائه نفع للمسلمين فيندب له الدعاء حينئذ فإن كان نفعه قاصراً فهو دون الأول. قال: ومن عداهما قد يصل للكراهة والتحريم إن اتصف بضدهما وإن لم يتصف فقد قال بعضهم: لا ينبغي لأحد أن يحب ما يحبه إبليس فإنه يحب طول البقاء، والحق أن الضابط الرجوع إلى المتعلق. قال بعض العلماء: الأجل لا يزيد ولا ينقص، وفائدة الدعاء تظهر في أنه يجوز أن الله تعالى قدر أن زيداً عمره ثلاثون فإن دعا فأربعون وعلى هذا ينزل جميع أنواع الدعاء اهـ، والطاعون من الأمراض المخوفة عندنا بل أهل محلته كلهم في حكم المريض مرضاً مخوفاً فلا ينفذ تبرعهم في زمنه إلا من الثلث ولو ممن لم يصبه. ومنها: ينبغي أخذاً مما مر من منع التعرض للبلاء ومن مشروعية الدواء التحرز أيام الوباء من أمور أوصى بها بعض خداف الأطباء والاعتناء بأمور أخرى مثل إخراج الرطوبات الفضلية وتقليل الغذاء وترك الرياضة والمكث في الحمام وملازمة السكون والدعة وأن لا يكثر من استنشاق الهواء الغض وأول ما يبدأ به في علاج الطاعون شرطه إن أمكن ليسيل ما فيه لئلا تزداد سميته فإن احتيج لمصه بالمحجمة فعل بلطف ويعالج أيضاً بما يبرد بإسفنجة مغموسة في خل وماء أو دهن ورد أو دهن تفاح أو دهن آس وبالاستفراغ بالفصد بما يحتمله الوقت أو يوجر بما يخرج الخلط ثم يقبل على القلب بالحفظ والتقوية بالمبردات قاله ابن سينا ، وبه رد على أطباء الوقت في تركهم معالجة المطعون رأساً لكن قال بعضهم: لا فائدة في هذا التدبير لأنه مبني على أن سبب الطاعون فساد الهواء الذي مال إليه الأطباء وليس كذلك بل سببه وخز الجن كما مر، فالأولى طرح ذلك كله والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وكذلك يطرح ما في مفردات ابن البيطار وغيرها من أن من تختم بالياقوت أو علقه عليه أمن من الطاعون، قال جمع من الأطباء: ويحذر الصحيح زمن الطاعون مخالطة من أصابه. قال(5/109)
التاج السبكي : ومحله أن يشهد عدلا طب بأن المخالطة سبب لأذى المخالط ورد ما قاله بأنه يخالف شهادة الحس المشاهد المتكرر، فإن كثيرين من المخالطين المخالطة الكلية لا يصيبهم منها شيء، وقد ثبت بطلان العدوى بالحديث الصحيح، والقول بأن المرض يعدي بمحض طبعه كفر وبأنه يعدي بأمر خلق فيه لا ينفك عنه إلا معجزة أو كرامة مذهب إسلامي لكنه مرجوح وبأنه لا يعدى بطبعه بل بعادة إلهية، وقد تتخلف نادراً كذلك وبأنه لا يعدى أصلاً بل من وقع له ذلك المرض فهو بخلق الله سبحانه وتعالى فيه ابتداء وهذا هو الراجح لعموم قوله :
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/110)
«لا يعدى شيء شيئاً» ، وقوله: فمن أعدى الأول، قيل: واستقرىء أن من طعن وسلم لا يموت بعد ذلك بالطعن ونوزع فيه بأن جمعاً وقع لهم خلاف ذلك وعلى تسليم الاستقراء، فحكمته أن الله سبحانه وتعالى إنما يسلط الجني على الإنسي مرة واحدة، ومن الآداب التي ينبغي فعلها عند وقوع الطاعون المبادرة إلى التوبة والتنقي من جميع المظالم والتبعات واستعمال الأذكار التي تحرس من الجن كقراءة الفاتحة لأنها شفاء من كل داء كما في حديث الدارمي وسورة الإخلاص لأن من قرأها حين يضع جنبه على فراشه يأمن من كل شيء إلا الموت، أخرجه البزار بسند ضعيف وسورة البقرة لما صح أن الشيطان يفر من بيت قرئت فيه وآية الكرسي لما صح أن من قرأها عند النوم لا يزال عليه من الله تعالى حافظ ولا يعتريه شيطان حتى يصبح، وصح من قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام، والآيتين آخر سورة البقرة لما صح أنهما لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان والإخلاص والمعوّذتين لأنه كما عند البزار أمر بالتعوّذ بهن، وقال: «ما تعوّذ العباد بمثلهن قط» ، وكقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» الخ، لما صح أنها حرز من الشيطان الرجيم في ذلك اليوم إلى المساء، وصح ذلك عند الترمذي فيمن قالها عشر مرات دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجله قبل أن يتكلم، قيل: وأعظم الأسباب النافعة منه كثرة الصلاة على النبي وهو كذلك، وشرط حصول النفع بجميع ما ذكر صفاء القلب من الكذب والإخلاص في التوبة والندم على ما فرط منه وإلا فغلبة أسباب الداء تبطل نفع الدواء كان يغفل عن ذلك حتى تهجم عليه الآفة ثم يطلب الإقالة بذلك فلا يجد إليها سبيلاً. وعن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أحسن ما يداوي به الطاعون التسبيح، ووجهه أنه يدفع العذاب، قال الله تعالى: {فلو أنه كان من المسبحين} (الصافات: 143) الآية، والمحفوظ عنه لم أر للوباء أنفع من البنفسج(5/111)
يدهن به ويشرب ويتأكد لمن أصابه طاعون أو مرض غيره أن يديم سؤال العافية، وقد صح أمره للعباس بالإكثار من الدعاء بها، وورد بسند ضعيف خلافاً للحاكم ما سئل الله شيئاً أحب إليه من العافية، وورد عند ابن ماجه أن الدعاء بها أفضل الدعاء، وصح عند الترمذي لم يعط الناس بعد اليقين خيراً من العافية ، وصح أنه قال لمن اشتكى إليه وجعاً في جسده: «امسح بيمينك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر وأن يصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره فإن أمور المؤمن كلها خير إن أصابه خير شكر وإن أصابه شر صبراً» .
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
رواه مسلم. وروى ابن حبان: أن الرجل لتكون له عند الله عز وجل المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ، وصح ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عز وجل بها خطاياه ، وروى الطبراني بسنده: لا بأس به من أصيب بمصيبة في ماله أو في نفسه فكتمها ولم يشكها إلى الناس كان حقاً على الله تعالى أن يغفر له ، وصح إذا اشتكى المؤمن خلصه الله تعالى من الذنوب كما يخلص الكير خبث الحديد وأن يحسن ظنه بالله سبحانه وتعالى لأنه تعالى عند ظن عبده به كما في الصحيحين من رواية أحمد وغيره: إن ظن بي خيراً فله وإن ظن شراً فله وصح في سيد الاستغفار أن من قاله صباحاً فمات يومه أو ليلته دخل الجنة نسأل الله تعالى ذلك وأن يختم لنا بالحسنى ويبلغنا من فضله المقام الأسنى آمين، هذا خلاصة ما تيسر جمعه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(5/112)
وسئل سؤالاً صورته إذا كان بعض أهل بلادنا بأرض بجيلة الشخص منهم في مرض موته يريد أن يوصي بعين من تركته لبعض ورثته فيقول مثلاً هذا لفلان وهذا لفلانة على قصد الوصية لا قصد الإقرار واطرد عرفهم بأن ذلك وصية فهل يكون ذلك وصية لاطراد عرفهم بذلك، فيترتب عليه أحكام الوصية من جواز الرجوع فيه وكون المقر له وارثاً فلا تصح بغير إجازة الورثة وأن يكون من الثلث فما دونه وغير ذلك من أحكام الوصية أو يكون ذلك اللفظ إقراراً لقول الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م صيغة الإقرار هذا لفلان، وقد أتى المقر بصيغة الإقرار فيترتب عليه أحكام الإقرار من جواز إقرار المريض للوارث وغير ذلك من أحكام الإقرار أوضحوا لنا القول في ذلك فيما إذا كان الحال ما ذكرنا في السؤال؟. فأجاب بقوله: الجواب عن هذا السؤال هو ما صرح به أئمتنا من أنه إن قال هو له بعد موتي كان صريحاً في الوصية وإن قال هو له ولم يقل بعد موتي كان صريحاً في الإقرار ولا يحمل على الوصية وإن نواها نعم إن قال هو له من مالي كان كناية في الوصية لأنه لا يصلح للإقرار حينئذ ومثله عبدي هذا له فيكون كناية وصية أيضاً، وكذا لو قال عينته له بخلاف قوله وهبته له بدون بعد موتي فإنه يكون صريحاً في الهبة وإن نوى به الوصية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/113)
وسئل عن شخص أسند وصيته إلى ولد له وجعل أخاه ناظراً على ولده الوصي وأولاده الصغار فلما بلغ الصغار رشدهم عمر أخوهم الوصي بئراً له ولهم وأذن له الناظر في العمارة وقال له كل ما تخسره في المحل خذ حسابه مني فعمر البئر المذكورة وخسر فيها نحو أربعين أشرفياً فأعطاه الأخوة مما يخصهم من الخسارة في البئر المذكورة أشرفيين ثم امتنعوا من إعطاء بقية ما يخصهم فهل يلزم الناظر الخروج من بقية الحساب أم على الصغار وهل يطالب المعمر إخوته أم العم الناظر؟. فأجاب بقوله: حيث بلغ الموصي عليه رشده بأن بلغ مصلحاً لدينه وماله اشترط إذنه في العمارة ومتى لم يأذن فصاحب العمارة متبرع بها فلا رجوع له عليه بشيء بل له الرجوع بما دفعه إليه إن ظن أنه واجب عليه لتبين أنه ليس عليه شيء وإن لم يبلغ كذلك فإن أذن القاضي للمعمر رجع في مال الموصي عليه وإلا لم يرجع على أحد بشيء، وأما إذن العم الناظر على الوصي فلا عبرة به لأنه لا يستقل بالتصرف فإن جعل له الميت الاستقلال به كفى إذنه في رجوع المعمر على المحاجير بما خصهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/114)
وسئل فسح الله تعالى في مدته عمن ترك زوجة وابن ابن عم شقيق وابن ابن عم لأب وعبداً وبسبعين أو ثمانين وجملاً بثلاثين وأربع شياه وأعتق العبد في مرض موته وأوصى له بالغنم وأوصى بثلث الجمل لزوجته وثلثيه للذي للأب فهل تصح الوصايا وهل يرث ابن ابن العم لأب مع الشقيق؟. فأجاب بقوله: الوارث هو زوجته وابن ابن عمه الشقيق دون ابن ابن العم لأب، فإن أجاز الوارثان الوصايا كلها فلا إشكال وإن رداها قدم المعتق فيعتق من العبد بقدر ثلث المال فإذا فرضنا أن جميع التركة العبد والجمل والشياه تساوى مائة وعشرين فثلث ماله أربعون فيعتق من العبد بقدرها فإذا كانت قيمته ثمانين عتق نصفه ولا شيء لابن ابن العم لأب والثمانون الباقية للزوجة ربعها عشرون ولابن ابن العم الشقيق الباقي وهو ستون.
وسئل عن شخص دبر مملوكاً له في مرض موته وأوصى له بعشرين ديناراً ذهباً ثم مات في مرضه ذلك وترك طفلاً صغيراً وعقاراً لا تزيد غلته عن كفاية الولد المذكور ومن يخدمه وطالب المدبر المذكور بما أوصى له به الميت فهل للوصي بيع شيء من العقار المذكور لإيفاء الدين المذكور وتنفيذ الوصية أم لا؟ وإذا قلتم بالمنع وفضل شيء من الغلة عن كفاية السنة فهل يصرف الفاضل للمدبر الموصي له بالعشرين المذكورة أم لا؟. فأجاب بقوله: إنما يعتق المدبر إن وفى به الثلث ثم إن لم يبق من الثلث شيء فلا شيء له بالوصية وإن بقي ما يفي بالوصية وهي العشرون المذكورة أعطيها أو ما يفي ببعضها أعطيه فقط، وإن لم يف الثلث بالدبر عتق منه بقدر الثلث وصارت الوصية لمن بعضه للوارث وبعضه حر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/115)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن الحيلة المذكورة في الوصية للوارث في شرح الروض وغيره هل هي مثال حتى لو عكس الموصي لم يختلف الحكم وعما لو أوصى بشيء على رشا بئر وعمقت هل يزاد من الموصي به طولاً في الرشاء على المعهود من البئر وقت الوصية وعمن قال في وصيته ويحج ويزار عني بكذا أو من حج عني فله كذا، وقال قبل الوصية أو بعدها أو في أثنائها والوصي في تنفيذ وصاياي فلان فحج من علم بالوصية من غير إذن من الموصي وحج آخر بإذن الوصي فلمن يكون الموصي به؟. فأجاب بقوله: ما ذكره من صورة الحيلة مثال كما هو ظاهر ففي عكس تلك الصورة تصح الوصية أيضاً فلا يستحقها الموصي إليه إلا إن أعطى الوارث ما ذكره الموصي حتى لو أوصى له بدرهم إن أعطى ولده العالم يستحق الدرهم إلا إن أعطى الولد الألف، لأن ذلك لا مقابلة فيه بعقد ولا بغيره حتى يتوهم امتناعه لما فيه من مقابلة القليل بالكثير وإنما هو تعليق للاستحقاق بشرط فإن الموصي شرط لاستحقاق الموصى إليه الوصية أن يعطي ولده كذا فإعطاء الولد شرط في الاستحقاق لا مقابل للموصى به فاتضح أن صورة ما ذكروه في الحيلة المذكورة في السؤال مثال وأنه ليس بقيد، وأن الضابط ما أشرت إليه من أن يوصي لإنسان بشيء قليل أو كثير إن أعطى ولده شيئاً قليلاً أو كثيراً والذي يتجه أنه يزاد في الرشاء بحسب الحاجة لأنه لا ضابط له معين بل يختلف باختلاف كثرة زيادة ماء البئر ونقصه فلم يقصد بالوصية تقييدها بالقدر المعهود عندها وإنما القصد حصول ما يطلع الماء بسببه سواء أزاد على المعهود حال الوصية أم نقص عنه، وأيضاً فالمدار في الوصية ونحوها على اللفظ غالباً حيث لا عرف مطرد بخلافه ولا شك أن قوله أوصيت بكذا على رشاء البئر الفلانية يتناول الرشاء الطويل والقصير فلم يكن في الحمل عليه عند تعميق البئر أو قلة مائها عن المعهود حال الوصية مخالفة للفظ الموصي بوجه بل موافقة له لما تقرر أن لفظه يشمل كل ما يسمى رشاء لذلك(5/116)
البئر والذي يتجه في يحج عني ونحوه أنه لا بد من إذن الوصي وإلا لم يستحق الحاج بدون إذنه شيئاً لأنه متبرع بخلافه فيمن حج عني فله كذا فإن من سبق بالحج عنه هو المستحق لما عين في الوصية وإن لم يأذن له الوصي والفرق أنه هنا لم يفوّض الأمر لأحد بل جعل الاستحقاق منوطاً بشرط عام وهو من حج وعند تعلقه بشرط عام كذلك لا يتوقف الاستحقاق على إذن الوصي لأن الموصي قطع توقفه عليه بالتعليق على الشرط المذكور بخلافه في يحج عني فإنه لما لم يعمم ولا عين كان مفوّضاً التعيين للموصي فمن أذن له استحق ومن لا فلا.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عمن مات عن بنت وأخ وابن أخ وأوصى أن لبنته النصف والنصف الآخر بين أخيه وابن أخيه فما الحكم؟. فأجاب بقوله: للبنت النصف وللموصى له السدس وللأخ الثلث لأنه لما جعل الوصية في نصيب الأخ دل على أن قصده توفير النصف على البنت فاتبع شرطه ثم لا يملك الوصية في نصيب الأخ إلا في ثلثه فصحت في ثلثه وبقي الباقي موقوفاً على إجازة الأخ، هذا ما أفتى بنظيره القاضي وكلام الروضة وأصلها في دوريات الوصايا يدل عليه وإن أفتى أبو منصور بن الصباغ بما ينازع فيه وتبعه بعض الفرضيين.(5/117)
وسئل عمن أوصى بما في داره من طعام هل يتناول الجلجلان؟. فأجاب بقوله: الطعام لغة يتناول حتى الماء كما في التهذيب للنووي وشرعا كذلك في الربا وفي الإيمان يستثنى الدواء للعرف، وفي الوكالة: لو وكله بشراء طعام لا يختص بالحنطة، وفي المهذب: لو أذن له في التجارة في الطعام لم يتجر إلا في الحنطة وحمله بعض شراح الوسيط على بلد عرفهم ذلك فإن أطلق في محل آخر على نحو الشعير أو غيره اختص به، ويؤيده قول الماوردي اسم الطعام يطلق في العرف بالعراق على الحنطة إذا تقرر هذا فالمتجه حمل الطعام في لفظ الموصي على عرف بلده فإن لم يكن ثم عرف مطرد تخير الوارث في أي أنواع الطعام يعطيه منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن أوصى بثمرة شجرة هل تدخل ثمرتها المؤبرة؟. فأجاب بقوله: لا تدخل المؤبرة عند موت الموصي وإن حدث الثمر بعد الوصية خلافاً لبعضهم.
وسئل عمن أوصى بوقف شيء وتأخر وقفه عن موته حتى حصل منه ربع فلمن يكون؟. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يكون لمستحق الوقف وإليه يميل كلام الجواهر وبعضهم بأنه يكون للوارث وهو الأقرب قياساً على كسب العبد الموصي بعتقه قبل العتق، وفيه خلاف فالذي رجحه الرافعي أنه قبل العتق للوارث. وحكى البندنيجي القطع بأنه للعبد ثم رأيت الأذرعي رجح ذلك أيضاً وكذلك غيره لكنه قاسه على من مات وله عقار له أجرة وعليه دين فاستغل الوارث ذلك الريع مدة ثم أثبت الدين وأخذ أصحابه ذلك العقار وبقي لهم شيء فالذي عليه الأئمة أنه لا رجوع لهم على الوارث بما أخذه اهـ، وفي القياس نظر لا يخفى.
وسئل عمن أوصى لعبد زيد الصغير فهل يقبل له سيده؟. فأجاب بقوله: نعم يقبل له على الأوجه.(5/118)
وسئل عمن أوصى أو وقف على المحتاجين فما المراد بهم؟. فأجاب بقوله: حكى الأذرعي عن فتاوى القفال أن المراد بالمحتاج من تحل له الزكاة، وجزم به في الأنوار وبحث الأذرعي مراجعة الواقف إن كان حياً وهو متجه إن تيسر، وظاهر أن المراد من يحل له أخذ الزكاة الفقراء والمساكين ومن في معناهم ممن شرط إعطائه الحاجة دون البقية لقرينة لفظ الحاجة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل بما صورته: مات الموصي والوصي غائب فهل ينوب عنه القاضي في نحو تنفيذ الوصايا كغيبة الولي في النكاح وما معنى قولهم تنفيذ الوصايا للحاكم وقضاء الديون للأب؟. فأجاب بقوله: نعم ينوب الحاكم بدلاً عنه كما ذكره الشيخان فيما لو أوصى لاثنين فغاب أحدهما وما ذكروه من أن تنفيذ الوصايا حيث لا وصي للقاضي وأن قضاء الديون للأب مفروض في ورثة أطفال وقولهم للوارث قضاء الديون المراد إذا كان كاملاً.(5/119)
وسئل عمن أوصى بنحو كفارة فهل يجوز إعطاء شيء منها لوارث له لا يلزمه نفقته في حياته؟. فأجاب بقوله: لا يجوز كما صرحوا به بل صرحوا أن من أوصى لأقاربه لم يعط وارثه الشامل لمن تلزمه نفقته وغيره هذا في غير الكفارة، وأما الإطعام فيها فحكمه في الصرف إلى فقراء الورثة حكم الزكاة في صرفها بعد الموت، وقد ذكر القاضي حسين أنه لا يجوز للإمام صرفها إلى ابن الميت الفقير، قال في البحر: ويحتمل أن يجوز لزوال شبهة استحقاق النفقة، وكذا قال العجلي واستبعد ما قاله القاضي لأن الإنسان يجوز أن تؤخذ منه الزكاة وتصرف إليه وليس هذا بأعظم منه. وقال القفال : يجوز صرف الزكاة إلى زوجته بعد موته والأوجه عندي ما قاله القاضي لأن الحاكم نائب في الحقيقة عن الميت وهو لا يجوز له إعطاء ابنه من زكاته فكذا من قام مقامه، وبهذا تعلم رد ما اعتمده بعضهم من الجواز إذا دفعت إلى الأمام أو نائبه ثم دفعها إلى المستحق من الورثة قياساً على ما لو دفعها عن الميت أجنبي من ماله، إذ الأجنبي ليس نائباً عن الميت بخلاف الحاكم فلا يقاس أحدهما على الآخر.
وسئل عمن أوصى بأن ما فضل من ثلثه يجعله الوصي تحت يده ويصرفه لفلان وفلان فمات أحدهما بعد موت الموصي فهل ينتقل لمن؟. فأجاب بقوله: يستحقه ورثة الموصي لا الموصى له، قيل ولا يأتي فيه خلاف صاحب التقريب فيما لو أوصى لشخص بدينار كل سنة لأنه لا غاية هناك.(5/120)
وسئل عمن عتق عبده ثم أوصى له بأرض وشرط أن لا يبيعها وأنه إن مات عن غير ولد رجعت لورثة الموصي فهل يعمل بشرطه أم لا؟. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يملكها ويصح البيع ولا تعود لملك الورثة، لأن الشرط المذكور فاسد كما في الروضة في الهبة، وأفتى غيره بأن هذا إذا لم يشترط الموصي عدم البيع وإلا كانت وصية بالمنفعة فقط كما في المهمات وغيرها وإلا وجه الأول ولا ينافي ذلك صحة الشرط في قول الجواهر يصح تعليقها بالشرط كأوصيت له بكذا إن تزوّج أو إن رجع من سفره. وفي قول الماوردي: لو أوصى لأم ولده بألف على أن لا تتزوّج أعطيت الألف فإن تزوّجت استرجع منها ولو أوصى بعتقها على أن لا تتزوّج عتقت على الشرط فإن تزوّجت لم يبطل العتق والنكاح، لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه لكن يرجع عليها بقيمتها وتكون ميراثاً ولو طلقها الزوج لم تستحق استرجاع القيمة اهـ، ووجه عدم المنافاة أن هذه الشروط خارجة عن العين الموصى بها فلا ينافي ملكها بخلاف شرط أنه لا يبيع أو أنها ترجع لورثته فقول جمع متقدمين ومتأخرين يصح تعليق الوصية بالشرط ينبغي أن يستثنى منه نحو ما ذكر في السؤال من الشروط المنافية لموضوع الوصية إذ موضوعها ملك العين بالتصرف فيها بالبيع وغيره، فاشتراط عدم البيع مناف لموضوعها فكان القياس أنه يفسدها فإن قلت وبقية الشروط منافية لموضوعها قلت ممنوع وإنما غاية ما فيها تعليق استحقاقها على صفة فحيث وجدت وجد الاستحقاق وإلا فلا.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/121)
وسئل بما صورته قال في وصيته أريد لفلان كذا من مالي فهل هو بمعنى أعطوه؟. فأجاب بقوله: أفتى القاضي حسين فيمن قيل له أتريد أن أطلق زوجتك، فقال: نعم إنه توكيل في طلاقها. قال الإسنوى وفيه نظر من حيث أن الإرادة ميل القلب وتجد الناس كثيراً يريدون الشيء ولا يظهرونه، ويرد بأن قوله في الجواب نعم أي أريد ذلك منك بمعنى وكلتك فيه أو أمرتك به، وحينئذ فالقياس أن ما ذكر في السؤال بمعنى أعطوه كذا من مالي.
وسئل عمن أوصى بقراءة ختمة وذكر للقراءة شيئاً معروفاً من الحب واللحم فهل يعطونه أو يطبخه لهم الوصي؟. فأجاب بقوله: المتبع في ذلك حيث احتمل لفظ الموصي لمعان مختلفة ما اطرد به عرفه حال الوصية فيجب على الوصي أن يتبع جميع ما اطردت به العادة فإن اختلفت تخير ووجب عليه رعاية الأصلح كما قاله بعضهم في ناظر الوقف ولو اعتيد أن الوصي يأخذ من ذلك شيئاً فهل له العمل بالعادة في ذلك وكأن الموصي نص له عليه أو لا محل نظر.
وسئل عمن قال أوصيت لفلان بثلث ما ورائي فهل هو صريح أو كناية؟. فأجاب بقوله: قياس كلامهم أنه كناية وإن اشتهر عند الناس أن ذلك مراد به الموت إذ مأخذ الصراحة ليس هذا الاشتهار كما قالوه في الطلاق ثم رأيت بعضهم أفتى بأنه صريح وكأنه فهم أن مأخذ الصراحة الاشتهار تبعاً للرافعي.
وسئل عمن أوصى لمن عامله بكذا فهل يصح؟. فأجاب بقوله: إن كانوا محصورين معروفين صح وإلا احتمل الصحة أيضاً كالفقراء واحتمل الفرق والأوّل أقرب فعليه يجب إعطاء ثلاثة منهم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن أوصى لأم الأطفال عليهم أو نصبها الحاكم هل يبطل حقها بتزوّجها كالحضانة أو يفرق؟. فأجاب بقوله: الأوجه أنه لا يبطل ويفرق بينه وبين الحضانة بأن حفظ الصغير وتربيته يحتاج إلى مباشرة أعمال تفوّت على الزوج بعض حقوقه بخلافه هنا، فإنه لا يجوز لها التوكيل فيما لا يتيسر لها مباشرته.(5/122)
وسئل عمن قال الشيء الفلاني صدقة بعد موتي لمسجد كذا ثم بعد ذلك أوصى بوصايا فما الحكم؟. فأجاب بأن قوله صدقة بعد موتي وصية، فحكمه كالوصايا التي بعده بخلاف ما لو لم يقل بعد موتي فإنه يكون إقراراً أو إنشاء وعلى كل فيقدم على بقية الوصايا.
وسئل هل تصح الوصية بالمرهون؟. فأجاب بقوله: نعم تصح مطلقاً ولا تبطل إلا ببيعه في الدين ولا يجب على الورثة تسليمه من التركة لتبقى الوصية، نعم لو تبرع الموصى له بقضاء الدين لتسلم له العين فهل يجب على الدائن قبوله كالوارث لأن له علقة به أو لا يجب عليه لأنه لا يجب على الغريم قبول قضاء متبرع غير الوارث كل محتمل والأقرب الثاني ويفرق بينه وبين الوارث بأن الوارث مالك بخلاف الموصى له فإنه غير مالك إلى الآن.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل هل تصح الوصية بالمدبر؟. فأجاب بقوله: صرح الشيخان في بابه بصحتها ونظر فيه بأن الوصية رجوع بالقول وهو ممتنع وبأنهم ذكروا أنه لو أوصى به ثم دبره كان رجوعاً لأن التدبير أقوى إذ لا يفتقر لقبول ولا يبطل بالرد، والقاعدة أن الأقوى يرفع الأضعف ولا عكس ويجاب بأن قولهم الرجوع بالقول ممتنع محمول على غير التدبير بقرينة كلامهم فيه، وكأن وجهه أن التدبير نفسه، قيل: إنه وصية بل ذكروا فروعاً تقتضيه فلما كان من جنسها أثرت فيه، وبهذا يعلم الجواب عن الإشكال الثاني.
وسئل عمن أوصى بعتق عبد ثم أوصى به لرجل أو عكسه فما الحكم؟. فأجاب بقوله: إن ذكر الثانية في الأولى كأوصيت له بالذي أوصيت بعتقه كان رجوعاً وإلا شرك بينهما فيعتق نصفه وللموصى له نصفه إن قبل وإلا عتق الجميع.(5/123)
وسئل عمن أوصى لآخر بثلثه ثم لآخر إن فعل كذا بأرضه الفلانية وإن لم يفعل كانت لورثته فهل قوله كانت لورثته رجوع عن الوصية الأولى؟. فأجاب بقوله: إن فعل ذلك على وفق الشرط كانت الأرض بينه وبين الموصى له أو لا وإلا كان قوله المذكور رجوعاً فقد قالوا لا يصح الرجوع في الهبة للابن إلا منجزاً وفرقوا بينه وبين الوصية بأنه يجوز تعليقها بخلاف الهبة وتبقى الوصية في ثلث الباقي من مخلفه غير الأرض المذكورة.
وسئل عمن أوصى لأولاد زيد وله حمل مجتن حال الوصية فهل يدخل في أولاده كالوقف وإلا فما الفرق؟. فأجاب بقوله: يشهد للفرق قولهم الوصية للمعدوم باطلة والباطل لا ينقلب صحيحاً والحمل معدوم وإن نزله الفقهاء في البيع ونحوه منزلة المعلوم للتبعية ثم لما هو كالجزء منه وهنا ليس كذلك وحينئذ فالفرق أن الوصية للمعين لا تصح إلا إذا كان الموصى له موجوداً كما تقرر بخلاف الوقف، فإنه يصح على المعدوم بالتبعية فدخل فيه الحمل تبعاً للموجودين لكنه لا يستحق إلا عند الانفصال إذ لا يسمى ولداً إلا حينئذ.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال حجوا عني من أرضي أو بأرضي فهل تتعين تلك الأرض وهل بين العبارتين فرق؟. فأجاب بقوله: نعم تتعين وبين العبارتين فرق إذ الأولى تقتضي أن يحج عنه من أجرة أرضه والثاني يقتضي أن الموصي أو الحاكم يبيعها ويحج عنه بثمنها أو يعطيها أجرة لمن يحج إن رضي.
وسئل عن امرأة تشاجرت هي وزوجها فقالت حقي بعد عيني صدقة على مسجد كذا فهل هو وقف أو وصية أو نذر؟. فأجاب بقوله: الذي ذكروه أي فيما إذا كان على معين ولم تقل بعد موتي والمسجد المذكور معين، فإذا أرادت بقولها بعد عيني بعد موتي كان وصية وإن لم تعلم إرادتها فالظاهر العمل بعرف أهل بلدها المطرد في المراد بتلك الكلمة، ويحتمل إلغاؤه مطلقاً بناء على أن مأخذ الصراحة ليس هو الاشتهار إلا أن يفرق.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/124)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته: أفتى القفال بأنه لو أوصى بثلثه للفقراء فقاسم الوصي الورثة وأفرز الثلث فتلف في يده قبل قسمته فكتلفه في يد المستحقين لأن يده كيدهم وكذا القيم في الحج إذا أخذ من رأس المال فتلف قبل أن يستأجر به من يحج وذكر في موضع آخر أن الوصي لو أخرج من التركة الثلث للفقراء وأفرز ذلك فقبل أن يفرقه على المساكين تلف في يده رجع في باقي التركة بالثلث لأن تلفه في يد الوصي لا يجعل كوصوله للمستحقين اهـ فما الراجح من ذلك؟. فأجاب بقوله: لا خفاء أن الوصي نائب عن الميت في الإقباض وحينئذ فلا يتصوّر كونه نائباً عن المستحقين في القبض لئلا يلزم منه اتحاد القابض والمقبض بلا ضرورة إذا تقرر ذلك فالأوجه ما ذكره آخراً من أن تلفه في يده لا يجعل كوصوله للمستحقين لأنه ليس وكيلاً عنهم بل عن الميت ومن وكل آخر في قضاء دينه بكذا فتلف بيد وكيله قبل أن يقبضه منه الدائن تلف على الموكل وبقي حق الدائن على ما هو عليه لا يقال بالإفراز يتبين ملك الورثة لما أفرز لهم فتلفه قبل الوصول إليهم كهو بعده لأنا نقول هذا ممنوع بل بتلفه قبل الوصول لهم يتبين أن ما أفرز للورثة صار كأنه كل التركة فيؤخذ ثلثه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/125)
وسئل عمن له زوجة وولد وولد ابن فأوصى لولد الابن بوصية في نصيب الابن خاصة فهل تصح وصيته ويدخل النقص على الابن دون الزوجة كما يدل عليه كلام الروضة وأفتى به القاضي حسين وكذا ابن السني لكن قال إنها في ثلث نصيب من جعلت في نصيبه ووافقهما ابن منصور على صحة الوصية لكن من رأس المال والباقي بين الورثة، وفي فتاوى الشريف الجياني بعد نقل ما ذكر الصواب إبطال الوصية إذا شرط أن يكون في نصيب أحد الورثة لأن في ذلك تغييراً لحكم الله سبحانه وتعالى فإن حكمه أن الوصية من رأس المال فإذا خصصها بنصيب أحدهم فقد وفر نصيب الآخر بعد ما كانت تؤخذ منه لو كانت شائعة وهذا وصية له فتحتاج إلى إجازة إذ لا تصح إلا بها؟. فأجاب بقوله: الذي صرح به الشيخان في الروضة وأصلها ولم يحكيا فيه خلافاً صحة الوصية المذكورة واختصاص الوصية بحصة من خصصها الموصى به، وعبارتهما فصل في الوصية بنصيب وبجزء شائع على شرط أن لا يضام بعض الورثة أي لا يدخل النقص عليه مثاله ابنان وأوصى لزيد بربع المال ولعمرو بنصيب أحد الابنين على أن لا يضام الثاني بالوصيتين، هي من أربعة: لذكره الربع لزيد سهم وللابن الذي شرط له أن لا يضام سهمان يبقى سهم لعمرو وللابن الآخر لا يصح عليهما فتضرب اثنين في أربعة أي فتصح من ثمانية لمن لم يضم أربعة ولمن أضيم أي وأجاز إذ الوصية بأكثر من الثلث واحد وللموصى له بالربع اثنان ولعمرو الموصى له بنصيب أحد الابنين واحد وحينئذ اختص النقص بنصيب من شرط إضامته ومن شرط عدم إضامته أخذ حقه كاملاً بتقدير عدم الوصية ثم قال الشيخان أيضاً مسألة ثلاث بنين أحدهم بكر وأوصى من ثلث ماله لزيد بنصيب أحدهم ولعمرو بثلث ما بقي من الثلث، وشرط أن لا يضام بكر وبينا طريقة استخراج ذلك وأنها تصح من أربعة وعشرين لبكر الذي شرط أن لا يضام الثلث كاملاً وهو ثمانية ولكل من الاثنين اللذين شرط إضامتهما خمسة ولزيد الموصى له من ثلث ماله بنصيب أحدهم خمسة(5/126)
ولعمرو الموصى له بثلث ما بقي من الثلث أي بعد إخراج الوصية الأولى واحد لأن الباقي من الثلث بعد خمسة زيد ثلاثة ثلثها واحد وبذلك صح ما قاله الموصي فإن بكراً أخذ الثلث كاملاً باعتبار رؤوس البنين الثلاثة وصدق أنه لم يضم لأن ما أخذه هو حصته مع قطع النظر عن الوصية وما أخذه كل من الابنين الآخرين هو خمسة وهو دون حصته الأصلية بثلاثة فأخذنا ثلاثة من سهم كل منهما الأصلي وهو ثمانية، وقسمنا هذه الستة المأخوذة بين الوصيتين فأعطينا زيداً منها خمسة مثل نصيب أحد المضامين وعمراً واحداً لأنه ثلث الباقي من الثلث وحينئذ فالوصية هنا بالربع لما علمت أن مجموع الوصيتين ستة من أربعة وعشرين، وقد اختصت كما ترى بنصيبي المضامين وبقي نصيب من شرط عدم إضامته كاملاً فأثرت الوصية في تخصيص بعض الأنصباء بالنقص لكن يشترط إجازة المضامين كما يأتي فهذا تصريح من
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/127)
الشيخين في صورة السؤال بصحة الوصية وبدخول النقص على الابن دون الزوجة إن أجاز، وقول السائل نفع الله تعالى به كما يدل عليه كلام الروضة وقوله لكن قالا إنها في ثلث نصيب من جعلت في نصيبه يوهم أن عبارة الروضة وأصلها ليست صريحة في ذلك ولا في تخصيص بمن شرط إضامته وليس كذلك فيهما لما علمت مما تقرر أن عبارة الشيخين صريحة في صحة الوصية وفي تخصيص النقص بمن شرطت إضامته وأنه لا خلاف في ذلك وعلى فرض خلاف فيه فهو ضعيف أو شاذ، وما علل به ينافيه لاقتضائه صحتها وإنما شرط تنفيذها الإجازة وهذا هو الحق فقد قالوا عقب ما مر عن الروضة إنما تستقيم هذه المسألة ونظائرها إذا أجاز المضام كما صرح به الرافعي فإن لم يجز خرجت الوصية من كل التركة ما لم تزد على الثلث ويقسم الباقي على كل الورثة وعلته أنها تتضمن وصية لوارث ومن ثم قال الإمام المحقق خاتمة المحققين المتأخرين من الفرضيين الشهاب ابن الهائم في شرح كفايته وغيره وأقره شراح كلامه كشيخنا شيخ الإسلام زكريا وكالشيخ الإمام البدر سبط المارديني لو خلف جداً وبنتاً وأوصى لأجنبي بثلث الباقي بعد الفرض، فإن قلنا بالضعيف أنه لا يفرض للجد فيها فالوصية بالسدس وإن قلنا بالأصح أنه يفرض له فيها كالأب معها فالوصية بالتسع، واعلم أن هذه الوصية تضمنت وصية أخرى لوارث وهو البنت لإدخاله الضيم على الجد دونها كما لو أوصى بإدخال الضيم عليه دونها فلمن دخل عليه الضيم أن لا يجيز ما حصل به الضيم لأن ضرر الوصية لا يختص ببعض الورثة، وفي هذه المسألة قد اختص الضيم بالجد فإن أجاز للبنت فعلى الضعيف تصح من ستة للبنت ثلاثة وللموصى له سهم وللجد سهمان وعلى الأصح تصح من ثمانية عشر للبنت تسعة وللجد ثلاثة بالفرض وثلث الباقي سهمان للموصي له ويبقى أربعة للجد بالعصوبة يجتمع له سبعة وإن رد للبنت بطلت وصيتها ولم تفتقر وصية الأجنبي إلى إجازة لأنها دون الثلث فهي على الضعيف وصية بالسدس أيضاً ليخرج من(5/128)
مخرجه ويقسم الباقي على اثنين فتصح من اثني عشر للموصي له سهمان ولكل من البنت والجد خمسة، وعلى الأصح وصية بالتسع أيضاً فيخرج من مخرجه ويقسم الباقي على ستة فتصح من تسعة بالاختصار للموصى له سهم ولكل من البنت والجد أربعة قال: ولا يضر عدم صدق قول الموصي إذ رعاية صدقه إنما تجب حال الإجازة. قال شيخنا: وأقول العبرة بالفرض المعلق به وصيته لا بما يأخذه الورثة فصدق قوله حال الرد أيضاً. وقال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/129)
البدر الدماميني في شرح الفصول هو والمتن ما حاصله وليس الخلاف في كون الجد مع البنت يأخذ بالفرض أو التعصيب لفظياً كما زعم جمع أئمة منهم الرافعي والنووي بل معنوي، إذ يظهر أثره فيما لو أوصى وقد ترك بنتاً وجداً لزيد بنصف ما يبقى بعد نصيب ذوي الفروض ويكون ذلك كالوصية بإدخال الضيم على بعض الورثة دون بعض فيما لو قال على أن لا يضام ذو الفرض ويختص الضيم بالعاصب فتفتقر هذه الوصية إلى إجازة من دخل عليه الضيم لأنها وصية بإدخال الضيم على بعض الورثة دون بعض وهي وصية لوارث فلمن دخل عليه الضيم أن لا يجيز القدر الذي حصل به الضيم، فإن أجاز الجد الوصية للبنت فعلى الضعيف وهو أن الجد يأخذ عصوبة فقط يكون للبنت النصف وللجد نصف الباقي ولزيد النصف الآخر وتصح من أربعة، وعلى الأصح أنه يأخذ بهما يكون لها النصف وللجد السدس فرضاً وله نصف الباقي عصوبة ونصفه الآخر لزيد فلزيد في هذه الصورة ربع المال على الضعيف وسدسه على الصحيح وإن رد وصيتها فلزيد الربع أيضاً على الضعيف والسدس على الصحيح لكن لا يدخل الضيم على الجد وحده فعلى الضعيف الباقي بعد ربع الوصية بين البنت والجد وتصح من ثمانية للبنت ثلاثة فرضاً وللجد ثلاثة عصوبة ولزيد اثنان وعلى الصحيح يخرج لزيد السدس وصية والباقي للبنت نصفه وللجد سدسه فرضاً وباقيه عصوبة فتصح من ستة وثلاثين وبالاختصار من اثني عشر اهـ، وعبارة الفصول صريحة في التسوية في الحكم بين ما إذا صرح الموصي بقوله على أن لا يضام ذو الفرض وبين ما إذا لم يصرح به بأن اقتصر على: أوصيت لزيد بنصف ما يبقى بعد إخراج الفرض أو بعد نصيب ذي الفرض، وصرح بمقتضى ذلك في شرح كفايته أي كما مر عنه وأخذ ما فيها وفي الفصول من تدريب شيخه السراج البلقيني، وفي مجموع الكلائي وعمدة ابن الملقن عند قول المنهاج: الأب يرث بالفرض إذا كان معه ابن أخ، ما يوافق التدريب ولم نجد هذه الصورة أعني الوصية بجزء مما يبقى بعد إخراج الفرض(5/130)
من غير ذكر اشتراط إدخال الضيم على ذوي الفروض دون العاصب في شيء من كتب الأصحاب القديمة ولا المتأخرة بعد البحث الطويل السنين العديدة، وأما هؤلاء المصنف والكلائي وابن الملقن فكلهم أصحاب البلقيني ولم يعزها أحد منهم إلى غيره ولا زال مشايخنا وغيرهم يختلفون فيها منهم ابن المجدي فقال: المراد بقوله بعد إخراج الفرض إنما هو لتمييز الباقي ليعلم قدر المأخوذ منه لا أنه يعطي لذي الفرض فرضه وتعطى الوصية من الباقي فهي من الدوريات كما لو أوصى لزيد بمثل نصيب بعض ورثته وأوصى لعمر وبجزء ما يبقى بعد إخراج النصيب وجعل ما يفهم من عبارة الفصول وغيره سهواً ووافقه على ذلك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/131)
العلائي القلقشندي لكن غلطه جمع منهم الجلال المحلي، فأجاب بعبارة الفصول معتمداً على ما في التدريب وتوقف عن الجواب شيخا الإسلام ابن حجر و القايائي ، والظاهر ما قاله ابن المجدي اهـ كلام البدر المارديني وبذلك كله علم أن الحق في مسألة السؤال ونحوها صحة الوصية لكنها تتوقف على إجازة من دخل الضيم عليه ويجمع بين ما نقل في السؤال من المقالات المختلفة بحسب الظاهر بأن ما في الروضة، ونقل عن القاضي محله عند الإجازة، وكلام ابن منصور محله عند الرد وكذلك تصويب الجياني وإن أوهم تعبيره بالبطلان خلاف ذلك لأن تعليله المذكور في السؤال صريح في الصحة عند الإجازة فيحمل قوله بالبطلان على ما يحتاج للإجازة ولم يجزه الوارث وبذلك يعلم أنه لا خلاف بين الأئمة المذكورين في السؤال، فإن قلت مسألة الخلاف المذكورة آخراً تشبه مسألة السؤال فيجري فيها خلاف أولئك المتأخرين أيضاً، قلت ممنوع بل بينهما فرق واضح فإن صورة السؤال لما قال فيها في نصيب الابن خاصة كان مصرحاً بإدخال الضيم عليه وحده، وصورة الخلاف إنما هي فيما إذا سكت ولم يصرح بذلك كما مر فتأمل هذه المسألة بجميع أطرافها فإنها مهمة ويقع الغلط فيها كثيراً، وقد اتضح حكمها، ولله سبحانه وتعالى الحمد.(5/132)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال في وصيته ومن حج عني فله كذا والوصي في ذلك أو في تنفيذ وصاياي فلان فأخرج الوصي حاجاً فأحرم قبل مخرج الوصي آخر علم بالوصية ما حكمه؟. فأجاب بقوله: يقع إحرام المتقدم للميت ويستحق الموصى به وقد أفتيت بذلك قديماً فيما أظن ووجهه أن الموصي لما قال من حج عني فله كذا لم يجعل للوصي نظراً في تعيين من يحج عنه بل قطع تعيينه بتعبيره بمن حج عني والسابق بالإحرام صدقت عليه هذه العبارة فاستحق بنص الموصي بخلاف معين الوصي فإنه خارج عن عبارة الموصي بسبق الأول له والوصي ليست له ولاية إلا في إقباض الموصى به لا في تعيين يخالف قضية لفظ الموصي فلا تغرير منه يقتضي غرمه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/133)
وسئل عن شخص أوصى بحجة بمائة دينار مثلاً فجاعل الوصي أو الوارث حيث لم يكن ثم وصى شخصاً للحج عن الميت المذكور بأقل مما أوصى به الميت المذكور جهلاً منه بقدر ما أوصى به الميت أو عمداً فهل يستحق الحاج جميع ما أوصى به الميت وإن لم يسمه له في عقد الجعالة أو لا يستحق إلا ما سمى له ويصرف الزائد للورثة أو ينظر في لفظ الموصي فإن قال أوصيت لمن يحج عني استحق جميعه وإن لم يسمه له في عقد الجعالة أو أوصيت بأن يحج عني أو أوصيت بحجة مثلاً فلا يستحق إلا ما سمى له في عقد الجعالة ويصرف الزائد للورثة؟. فأجاب بقوله: قال الأذرعي : لو قال أحجوا عني زيداً بخمسين ديناراً لم يجز أن ينقص منها شيء مع خروجها من الثلث وإن وجد من يحج بدونها وإن لم يعين أحداً فوجد من يحج بأقل. قال ابن عبد السلام في الفتاوى صرف إليه ذلك القدر إذا خرج من الثلث وكان الباقي للورثة، وقيل: يجب صرف الجميع، قلت وهو الصحيح والقياس الظاهر اهـ. وفي الجواهر قال: أحجوا عني بألف درهم فإن عين من يحج عنه وكان الألف أكثر من أجرة المثل صرف إليه إن احتمل الثلث الزيادة وكان المعين أجنبياً فإن كان وارثاً فالزيادة على أجرة المثل وصية لوارث وإن لم يعين من يحج عنه فإن كان الألف زائداً على أجرة المثل فوجهان: أحدهما: لا يحج عنه إلا بأجرة المثل. والثاني: يحج عنه به إن وفى الثلث به، وبه يشعر نصه في الأم وبه أجاب الماوردي واختاره ابن الصلاح اهـ. ونقل الغزي الثاني عن الرافعي أيضاً حيث قال في أدب القضاء وتبعه شيخنا زكريا رحمه الله تعالى قال: حجوا عن فلان بألف درهم وأجرة مثله خمسمائة فوجهان أحدهما لا يصرف لمن يحج إلا أجرة مثله لأن الزيادة وصية ولم يعين الموصى له. والثاني هو وصية لشخص موصوف بأن يحج عنه فيدفع عنه إليه الألف إن خرجت الزيادة من الألف من الثلث، وبه صرح الرافعي اهـ. وقال الروياني في البحر: أوصى بأن يشتري له عشرة أقفزة حنطة جيدة بمائتي درهم(5/134)
ويتصدق بها فكان ثمنها مائة درهم فثلاثة أوجه: أحدها: ترد المائة أي الزائدة للورثة. والثاني: أنها وصية. والثالث: يشترى بها حنطة بهذا السعر ويتصدق بها اهـ. قال شيخنا زكريا سقى الله تعالى عهده والأوجه الأول إذا علمت ذلك فعلى ما مر عن ابن عبد السلام لا يستحق الحاج إلا المسمى له والباقي للورثة سواءاً قال الموصى لمن يحج عني أو أن يحج عني أو بحجة مثلاً لأن ما قاله
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/135)
ابن عبد السلام موافق لأول وجهي الجواهر وأوّل أوجه البحر وأول وجهي أدب القضاء، وقد علله قائله بأن الزيادة وصية ولم يعين الموصى له، أي فتكون الوصية باطلة بالزائد لعدم تعيين الموصى له به وإذا كان هذا هو ملحظ البطلان فلا فرق فيه بين أن يقول لمن يحج عني أو بحجة مثلاً لاستواء الكل في المعنى المعلل به وهو أن الزائد وصية لمن لم يعين فتبطل وعلى ما رجحه الأذرعي وهو المعتمد إذ هو الموافق لثاني وجهي الجواهر المنقول عن قضية نص الأم، وتصريح الماوردي واختيار ابن الصلاح ولثاني أوجه البحر وثاني وجهي أدب القضاء المنقول عن تصريح الرافعي يستحق الحاج بقية الألف إذا وفى بها الثلث، لأن ثاني وجهي أدب القضاء علل الاستحقاق بأنه وصية لشخص موصوف بأن يحج عنه فأفهم هذا تقييد استحقاقه للزيادة باتصافه بالحج عنه والحاج في صورة السؤال متصف بذلك فليستحق الزيادة عملاً بقضية هذه العلة التي صرح بها الرافعي وإذا كانت العلة في استحقاقه اتصافه بما ذكر، وهذا الاتصاف موجود في كل من تلك الصور فظهر أن المعتمد في صورة السؤال أن الحاج يستحق الزيادة مطلقاً لما علمت أنها وصية له بشرط اتصافه بالحج عنه وقد وجد فيه هذا الوصف، فإن قلت الصورة التي ذكروا فيها جميع ما مر إنما هي حجوا وصورة السؤال أوصى بحجة فربما يتوهم بينهما فرق، قلت نعم يتوهم ذلك لولا ما قررته من أن علة الوجه الأول السابق تقتضي عدم الاستحقاق مطلقاً وعلة الوجه الثاني السابق تقتضي الاستحقاق مطلقاً كما مر ذلك مبسوطاً فأخذنا بمقتضى العلة وأعرضنا عن خصوص الصورة لأن النظر إلى مقتضى العلة والإعراض عن خصوص الصورة هو دأب الأئمة كما لا يخفى على من تدبر كتبهم، فإن قلت لم جرى في صورة البحر وجه ثالث ولم يجر فيما قبلها إلا وجهان، قلت: يوجه ذلك بأن تعيين ثمن الأقفزة قرينة على أنه ليس قصده إلا التصدق بما يحصل به زاد على العشرة أو نقص عنها، لأن الزيادة في الصدقة مطلوبة أصالة(5/136)
فجرى ذلك الوجه بالتصدق بالزائد بخلاف الحج فإن الزيادة فيه على حجة الفرض متوقفة على الوصية مع أن الأصل فيه الامتناع عن الغير كما هو شأن سائر العبادات لولا ما وردت به السنة فلم يجر فيه وجه بأن يحج عنه حجة أخرى بالزائد فتأمله تعلم به الرد على من حاول تخريج وجه من مسألة الصدقة إلى الحج ثم رأيتني ذكرت جواب ما في السؤال في شرح العباب بما يوافق ما قدمته لكن مقيداً وعبارتي فيه فرع عين الموصي مقداراً للحج ولم يعين أحداً فاستأجر الوصي للحج بدونه فالذي يحثه ابن الرفعة وصاحب الوافي أن ما ذكره الموصي إن كان أجرة المثل كان الباقي لورثته وإن كان أكثر منه فهو للأجير ويكون وصية له ويوافقه ما صححه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/137)
الأذرعي و السبكي من أنه في هذا وفيما لو قال أحجوا عني رجلاً بألف فيحج عنه بالألف ويكون الزائد وصية فإن عين مقداراً أو شخصاً وهو زائد على أجرة مثله صرف إليه إن احتمل الثلث الزيادة ولم يكن وارثاً وإلا لم يصرف إليه الزائد لأنه وصية وهي له ممتنعة فيحج عنه المعين إن رضي وإلا فغيره بأجرة المثل وإن كان قدر أجرة مثله ورضي غيره بدونه ولم يرض هو أجيب غيره قاله الأكثرون. قال القاضي وكذلك لو تبرع واحد بالحج ونظر فيه الزركشي من حيث إنه قصد تخصيص المذكور بالمال ولهذا جعل الزائد وصية له ثم قال وإنما يتجه هذا، أي كلام القاضي، إذا عين المال فقط اهـ، ويجاب بأنه لا يظهر الغرض في التخصيص إلا عند الزيادة على أجرة المثل، وأما عند الاقتصار عليها فليس هناك كبير غرض حتى ينظر إليه فقدم حق الورثة المحقق على حق المعين المحتمل لأن يكون عينه لقصد إيثاره على غيره ولأن يكون موافقة انتهت وفيها فوائد: وأولها: موافق لما أفتيت به فيما مر لكن فيها زيادة قيد وهو أن شرط كونه وصية يستحقها وإن أوجر بدونها أن يزيد ذلك على أجرة المثل وهذا لا ينافي ما مر عن الأذرعي وغيره، لأن ذاك قبل الاستئجار فيستأجر عنه بما عينه الميت مطلقاً وهذا الذي في كلام ابن الرفعة وهو الموافق لصورة السؤال فيما إذا وقع الاستئجار بأقل مما عينه الميت ففيه التفصيل بين أن يكون المعين أجرة المثل فلا غرض في تعيينه وبين أن يزيد فله غرض في التعيين فيكون الزائد وصية، ويحتمل أنه لا فرق وأنه يستحق المعين إذا استؤجر بدونه وإن كان المعين أجرة المثل وهو قضية ما مر عن الأذرعي وغيره كما بينته فيما مر.(5/138)
وسئل عن شخص أوصى لزيد بجميع ماله ولآخر بنصفه ولآخر بثلثه ولآخر بربعه ولآخر بخمسه ولآخر بسدسه ولآخر بسبعه ولآخر بثمنه ولآخر بتسعه ولآخر بعشره وأجاز الورثة الوصية فمن كم تصح هذه المسألة؟. فأجاب بقوله: قال في الروضة: وإن زادت الوصايا على المال بأن أوصى لزيد بماله كله ولعمرو بثلثه فإن أجازوا فقد عالت المسألة إلى أربعة لزيد ثلاثة ولعمرو سهم وإن ردوا قسم الثلث بينهما على أربعة وتكون قسمة الوصية من اثني عشر ولو أوصى لزيد بنصف ماله ولعمرو بثلثه ولبكر بربعه قسم المال بينهم على ثلاثة عشر سهماً إن أجازوا وإلا قسم ثلثه على ثلاثة عشر اهـ، وبه يعلم أنك تفرض في هذه المسألة لزيد ما تصح منه تلك الكسور وهو ألفان وخمسمائة وعشرون ثم تزيد عليها تلك الكسور فحينئذ تصح من سبعة آلاف وثلثمائة وأحد وثمانين لزيد ألفان وخمسمائة وعشرون وللموصى له بالنصف ألف ومائتان وستون وبالثلث ثمانمائة وأربعون وبالربع ستمائة وثلاثون وبالخمس خمسمائة وأربعون وبالسدس أربعمائة وعشرون وبالسبع ثلثمائة وستون وبالثمن ثلثمائة وخمسة عشرة وبالتسع مائتان وثمانون وبالعشر مائتان واثنان وخمسون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عن شخص أوصى لجيرانه وكان في جيرانه مسجد هل يكون كدار فيستحق نصيبها من يسكنها أو يكون نصيبها لها ويعمل الناظر فيه بالأهم من عمارتها كما لو أوصى لها فإن قلتم إنه كدار ويكون نصيبها لمن يسكنها ولم يسكن فيها أحد فما الحكم فيه أو لا يكون كدار فلا يستحق شيئاً؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه أن المسجد يحسب من جملة الدور التي هي مائة وستون مجموع أربعين داراً من كل جانب وأن ما يخصه يصرف لمصالحه لا لسكانه لقولهم إنه حر يملك.(5/139)
وسئل عمن أوصى لوارثه ثم قبل الإجازة وقف الموصى له والموصى به على بعض الورثة المحتاج إلى إجازتهم يصح في حصة الوارث الموقوف عليه بما يختص بإجازته قياساً على بيع الرهن من المرتهن أم لا؟. فأجاب بقوله: الكلام على هذه المسألة يحتاج لمقدمة هي أن الأصح أن الإجازة من الوارث تنفيذ لإعطاء الميت لا عطية مبتدأة من الوارث فلا يحتاج بعد قبول الوصية إلى قبول ثان وليس للمجيز الرجوع عن إجازته ولو لولده وبالإجازة وقبوله الوصية يتبين أن الموصى له ملك الوصية من حين الموت وإن لم يقبضها فتكون له فوائدها من حينئذ إذا تقرر ذلك علم منه أن وقف الوارث لما أوصى له به مورثه بعد موت مورثه وقبوله الوصية موقوف على إجازة بقية الورثة فإن أجازوا كلهم بان أنه ملك الموصى به كله بالموت وإن وقفه صحيح كما لو وقف مال أبيه ظاناً حياته فبان أنه عند الوقف كان ميتاً فإنه يصح لأن العبرة في العقود بما في نفس الأمر وإذا علم أن صحة وقفه موقوفة على الإجازة علم أنه لا فرق بين أن يقف على وارث تعتبر إجازته أم لا؟ فإذا وقف على وارث تعتبر إجازته اشترط لتبين صحة الوقف عليه وقوع الإجازة منه ومن غيره إن وجد باللفظ كأجزت أو أمضيت لا بالفعل ولا بمجرد الرضا من غير لفظ فإذا أجاز الموقوف عليه وغيره بانت صحة الوقف الموصى به كله عليه وإن رد هو أو غيره أو هو مع غيره صح الوقف فيما يملكه الواقف بالإرث وفي حصة المجيز دون حصة الراد ويفرق بين ما قررته وما أشار السائل نفع الله تعالى به إلى القياس عليه من أن بيع الراهن الرهن من المرتهن صحيح من غير احتياج إلى لفظ فك الرهن منه بأن ملك الراهن هناك تام وإنما تعلق للمرتهن به حق الوثيقة فقط فكان قبوله لبيعه متضمناً لفك تلك الوثيقة وانحلالها فلا يحتج معه إلى غير قبول البيع بخلاف الوارث هنا فإن حقه في ملك عين الموصى به لغيره فكان حقه أقوى فتوقفت صحة الوصية على تصريحه بالإجازة ولم يكتف بمجرد رضاه أو فعله(5/140)
لما علمت أن قوّة تعلقه بملك رقبة الموقوف اقتضى أنه لا بد أن يوجد منه ما يزيل ذلك التعلق الأقوى ولا يزيله إلا بما يماثله في القوّة وهو اللفظ لأنه لا يحتمل التأويل بخلاف مجرد الفعل أو الرضا ومن ثم لو باع الوارث الموصى له الموصى به من أحد الورثة أيضاً وقبله لم يكتف بقبوله عن التصريح بالإجازة بل لا بد من وجود لفظها أو ما في معناه ولو بعد قبول البيع فإذا وجد بانت صحة البيع وصحة قبوله فاتضح فرقان ما بين هذا والرهن وإن لم أر أحداً أشار إلى شيء من ذلك لكنه ظاهر لمن تأمل كلامهم وأحاط بمداركهم على وجهها فإن قلت قد اكتفوا في إجازة خيار البيع بمجرد قبول الشراء أو إيجابه فلم لا يكون ما هنا كذلك، قلت الفرق بين ما هنا وذاك واضح، فإن الإجازة ثم بالفعل كافية وهنا لا يكتفى إلا باللفظ وأيضاً فالشرط هنا وقوع حقيقة الإجازة، وأما ثم فالشرط للزوم عدم الفسخ إذ لو مضى زمن الخيار ولم يفسخ ولم يجز لزم العقد فعلم أن ملحظ الإجازة ثم غير ملحظها هنا فلا يقاس ما هنا بما هناك ونحوه ثم رأيت القمولي نقل في جواهره في آخر باب الصداق عن الأصحاب ما قد يشير إلى أن قبول الوارث الوقف أو البيع أو نحوها لا يكون إجازة، وعبارته قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/141)
المتولي : لو وهب مريض ما لا يخرج من ثلثه وسلمه له ثم وهبه الموهوب له من الوارث وسلمه ثم مات المريض أي ورد الوارث فهل يغرم الموصى له قيمته للوارث من أصحابنا من أطلق وجهين كهبة من الزوج ومنهم من فرق بأن حق الوارث متعلق به وقت الهبة ولهذا لو تصرف الموهوب له في المال ببيع أو هبة من أجنبي فله أي الوارث نقض تصرفه فإذا عاد إليه من جهته جعل كأن الهبة لم تكن وحق الزوج لا يتعلق بالصداق عند الهبة فنفذ التصرف ولهذا لو باعت لم يجز للزوج نقضه والعود إليه بعد ذلك إنما هو من غير جهة الصداق انتهت. قال البلقيني : وينبغي ترجيح الطريقة الثانية اهـ، فتأمل تجويزهم الرد للوارث بعد قبول الهبة وقبضه من الموصى له تجده صريحاً لولا فرضه ذلك قبل الموت إلا أن يقال إنه تصوير لما هو ظاهر أن تينك الطريقتين يجريان فيما لو وقع ذلك بعد الموت في أن هذا القبول والقبض ليسا إجازة وإلا لم يجز له الرجوع كما مر، وهذا عين ما قدمته أن قبول الوارث للوقف أو البيع أو نحوهما من الموصى له بما يتوقف على إجازة الوارث لا يكون متضمناً لإجازته بل له الرد بعده وما رجحه البلقيني من الطريقة الثانية هو الوجه الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه لوضوح الفرق بين ما هنا والصداق، وحاصله أن الزوجة قبل الطلاق تملك الصداق ملكاً تاماً حقيقياً فصح تصرفها فيه ولم يكن للزوج بعد الفراق فإذا وهبته له ثم فارقها كانت متلفة له قبل الفراق فرجع عليها ببدله، وأما الموصى له في مسألتنا فهو قبل الإجازة من الوارث لا ملك له تام بدليل أن للوارث نقض تصرفه فإذا تصرف ولو مع الوارث بالهبة له أو الوقف عليه لم يكن للوارث الرجوع عليه لأنه إن رد الوصية ملك الموصى به بطريق الإرث، وإن أجاز بأن ملك الموصى به وصحة الوصية فلا رجوع له أيضاً، ومما يؤيد ما ذكرته قول القفال على كل من القولين، أي أن إجازة الوارث تنفيذ أو ابتداء عطية تجوز بلفظ الإجازة والتنفيذ ولا يفتقر إلى(5/142)
القبول لأنها ليست بهبة محضة وهكذا ذكره في الحاوي اهـ، فعلمنا من كلامه وإن كان غير معتمد بالنسبة للقول الثاني الذي هو الضعيف أن الإجازة على الأصح فيها هبة لكنها غير محضة وإذا كان فيها ذلك اتضح أنه لا بد فيها من اللفظ وأنه لا يكفي الفعل نظراً إلى شائبة الهبة فإن للوارث حقاً فيما نفذه فكأنه بإجازته وهبه ذلك الحق فكانت إجازته متضمنة للهبة فاتضح أنه لا يكفي فيها الفعل كالهبة، وصرح المتولي بأن الإجازة على الأصح أنها تنفيذ تنزل منزلة الإبراء اهـ، وهو كالصريح فيما ذكرته لأن الإبراء لا بد فيه من اللفظ ولا يكفي الفعل، وقد نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم على أنها مُنزلة مَنزلة الإبراء حيث قال إنها إسقاط لحق الوارث عن مال الميت فلا تصح مع الجهل به كالإبراء، وقد جرى الأصحاب على ذلك فقالوا لا تصح الإجازة مع الجهل بمقدار ما أجازه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/143)
وسئل عمن أوصى بثمرة بستان لأناس معينين عشر سنين ليكون بعد العشر الأصل والشجر ملكاً لإنسان هل يصح أو لا؟ وبعد موت الموصي يكفي قبول الموصى لهم بالرقبة قبل موت من لهم ثمرة البستان أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا قال أوصيت بثمرة بستاني لفلان أو لبني فلان عشر ستين ثم بعد مضيها يكون الأصل والثمرة لفلان صحت الوصيتان على ما ذكره كما دل عليه كلامهم في مسائل، منها: قولهم: لو قال استخدموا عبدي سالماً بعد موتي سنة ثم أعطوه فلاناً أو ثم اعتقوه صح ولا تقوّم عليهم خدمة السنة لاستعمالهم ملكهم وتقوّم بعدها وقولهم لو قال إن ولدت دابتي ذكراً فهو لزيد أو أنثى فهي لعمرو صح واتبع ما قاله فإن ولدتهما معاً أو مرتبين أعطى الذكر لزيد والأنثى لعمر، وقولهم لو أوصى لصبي بشيء وقال لا تعطوه له حتى يبلغ لم يعط حتى يبلغ كما لو قال اعتقوه بعد موتي بثلاثة أيام وقولهم لو أوصى بمنفعة عبده لزيد وبرقبته لعمرو جاز فإن رد عمرو فهل تعود المنفعة للموصى له بالرقبة أو للوارث وجهان الأصح الثاني وقولهم لو أوصى لزيد من أجرة داره مثلاً كل سنة بدينار ثم جعله بعده لوارث زيد أو للفقراء جاز وقولهم لو أوصى بعتق رقيقه بعد خدمة زيد سنة جاز ولا يعتق قبل السنة سواء أرد الموصى له بالخدمة الوصية أم قبلها، ووجه دلالة هذه النقول على ما ذكرته أن صحة الوصية الأولى لا نزاع ولا توقف فيها لإطباق الأئمة على صحتها، وإنما التوقف في صحة الوصية الثانية لأنها معلقة بمضي الأولى وقد علمت من كلامهم المذكور ومن غيره أن التعليق والجهل والإبهام لا يضر في الوصية لأنها مبنية على الجهالات والأخطار توسعة للإنسان في آخر عمره أن يستبقي لنفسه من ماله شيئاً يفوز بثوابه في الآخرة بأي وجه كان وإذا لم يضر فيها التعليق والجهل والإبهام والأخطار فالوصية الثانية في صورتنا صحيحة وإن كانت معلقة بمضي الأولى لما تقرر أن التعليق مغتفر في الوصية وإذا قلنا بصحتها فالرقبة مدة(5/144)
السنين العشر التي هي الوصية الأولى ملك للوارث ولكن لا يصح تصرفه فيها، كما صرحوا بنظيره لتعلق الوصية الثانية بها ويعتبر خروج البستان المذكور جميعه من الثلث وإن حكمنا بملك الوارث للرقبة المدة المذكورة لأن ملك الرقبة خالية عن المنفعة كلا ملك كما صرحوا به ثم الذي يظهر من كلامهم أيضاً أنه يصح قبول الموصى لهم بالرقبة والثمرة عقب موت الموصي وإن كان استحقاقهم منتظراً أخذاً بعموم قولهم إن القبول يدخل وقته بالموت، فإن قلت كلامهم مصرح بأنه لو أوصى له بما ستحمله هذه الأمة لم يصح قبوله للوصية قبل الحمل وبعده فيه وجهان بناء على أنه يعلم فيصح، قلت فرق ظاهر بين هذه ومسألتنا لأن الموصى به موجود فيها بخلافه في مسألة الحمل والمعدوم لا يصح قبوله بخلاف الموجود وتعلق حق الغير به لا يصيره كالمعدوم كما هو ظاهر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/145)
وسئل عمن قال حجوا عني بخمسين ولم يعين أحداً فاستأجر الوارث بدون الخمسين فالفاضل لمن هو على القول الراجح؟. فأجاب بقوله: هو للورثة كما لو تبرع عنه وارث أو أجنبي بالحج فإن المعين كله يكون للورثة لأنهم لهم بطريق الأصل، وإنما أخرج عنهم لجهة معينة فإذا تعذر صرفه في تلك الجهة رجع إليهم على الأصل، وقد ذكر الأئمة لذلك نظائر: منها: ما في البحر للروياني من أنه لو أوصى أن يشتري له عشرة أقفزة حنطة جيدة بمائتي درهم ويتصدق بها فكان ثمنها مائة درهم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يرد المائة الزائدة للورثة. والثاني: أنها وصية. والثالث: يشتري بها حنطة بهذا السعر ويتصدق بها. قال شيخنا زكريا سقى الله تعالى ثراه: والأوجه الأول ومنها قولهم لو قال: أعتقوا عني بثلثي رقاباً ففضل من ثلثه عن أنفس رقبتين شيء أعطى هذا الفاضل للورثة لبطلان الوصية فيه، وقولهم لو قال: حجوا عني بثلثي صرف ثلثه إلى ما يمكن من حجة أو حجتين فصاعداً فإن فضل ما لا يمكن أن يحج به فهو للورثة وإن لم يوف ثلثه بحجة بطلت الوصية وكذا لو قال: حجوا من ثلثي بمائة فلم يجد من يحج تبطل الوصية كما جزم به الرافعي، ويعود إرثاً. قال الماوردي : ولا يعود إلى الثلث، وقيل: لا تبطل ويتصدق بها عنه، ولو قال: حجوا عني بثلثي حجة صرف إلى حجة واحدة. قال في الحاوي: سواء سمى من يحج أم لا؟ثم إن كان الثلث أكثر من أجرة المثل لم يجز أن يستأجر للحج عنه الوارث فإن لم يعين أحداً فوجهان في الإبانة أحدهما لا يحج عنه إلا بأجرة المثل والباقي للورثة، والثاني يصرف الجميع للحجة ولو أوصى أن يحج عنه زيد بألف فإن كان قدر الأجرة أو أقل أعطى له وارثاً كان أو غيره، وإن كان أكثر من الأجرة أعطى له إن كان أجنبياً فإن كان وارثاً ورضي بقدر الأجرة أعطيه ورد الباقي للورثة وإن لم يرض استؤجر غيره بأجرة المثل والباقي يعود إرثاً فيكون للورثة وكذا لو تطوع شخص جاز ورد الكل للورثة ولم يجز استئجار(5/146)
المعين هذا في الفرض، أما النفل فإن امتنع المعين ففي جواز حج غيره عنه وجهان، ولو استأجر الوصي زيداً المعين بخمسمائة وهو غير وارث ولم يعلم المستأجر بالوصية. قال ابن الرفعة في الكفاية: لم أر في ذلك نقلاً، وفي الحاوي ما يمكن تخريجه عليه وهو إذا أوصى بشراء عبد زيد بألف وبعتقه عنه فاشتراه بخمسمائة وأعتقه والبائع لم يعلم بالوصية فإن كان يساوي ألفاً فالباقي للورثة أي لأنه لا محاباة فلا وصية فإذا رضي البائع بدون الثمن صح البيع وتعين الفاضل للورثة وإن كان يساوي خمسمائة فالباقي للبائع لأنه وصية له وإن ساوى سبعمائة للوارث مائتان، إذ لا وصية بالنسبة إليهما وللبائع ثلثمائة لأنها القدر الموصى به إذ هو الزائد على ثمنه وهو السبعمائة اهـ، وما بحثه في الكفاية في المعين وخرجه على كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/147)
الحاوي المذكور ذكره في المطلب أيضاً، وخرجه على كلام الحاوي المذكور لكن على وجه غير الوجه الذي ذكره في الكفاية فإن الذي فيها فيما إذا عين الموصى له والذي فيه فيما إذا لم يعينه فإنه قال فيه وقع في الفتاوى في زماننا أن شخصاً أوصى بأن يحج عنه بأربعمائة حجة الإسلام ولم يعين أحداً فاستأجر أمين الحاكم شخصاً للحج عنه بثلاثمائة وأفهمه أن ذلك هو الموصى به ولم يعلم المستأجر صورة الحال فحج عنه ثم تبين بعد ذلك الحال فطلب المائة الزائدة فاقتضى النظر بعد إمعان الفكر أن القدر الموصى به إن كان قدر أجرة المثل فذكره ليس لغرض فيه بل لأجل أن ذلك هو أجرة المثل فتصح الإجارة ولا يستحق الأجير المائة الفاضلة وإن كان أكثر من أجرة المثل كأن كانت أجرة المثل ثلثمائة استحق الأجير المائة الزائدة، ثم أيد ذلك بمسألة الماوردي كما مر نقله عنه في الكفاية ثم قال في المطلب عقب كلام الماوردي وهذا ما وقع في نفسي صحته لا لأجل ما ذكره الماوردي في مسألة العبد من التعليل بأن ذلك وصية له فإن هذا التعليل غير واضح، لأن القدر الزائد وإن كان تبرعاً عليه لكنه إنما جعله في ضمن عقد والتبرع في ضمن العقد لا يفرد عن العقد، ألا ترى أنه لو باعه بمحاباة في مرض موته واتفق رد الورثة الثمن بعيب لا يبقى قدر المحاباة من المبيع على ملك المشتري لأنه وقع في ضمن عقد قد انفسخ فلا يفرد بالحكم، فكذا نقول إذا وقع الثمن بخمسمائة وصح بطل القدر الزائد من المحاباة على القيمة لأنه لم يدخل في العقد ولكنه، أي الماوردي ، قد قال إن ذلك مذهبنا بعد أن حكى عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أن جميع الخمسمائة الفاضلة للبائع كيف كان الحال والذي يظهر لي أن يكون مأخذاً لما وقع في نفسي على ما عليه نفرع أن الإذن في الاستئجار مقيد بذلك القدر المعين لأجل غرض تحسين الأجير الحج وفي الاستئجار بدونه مخالفة للإذن وتفويت لغرض الموصى فلا يصح لكن الحج وقع عن الميت بعقد فاسد(5/148)
فاستحق الأجير القدر الموصى له به مع زيادته على أجرة المثل لأن الموصي جعل لمن يحج عنه ذلك القدر فاستحق بمقتضى الوصية اهـ كلام المطلب وما ذكره فيه من التفصيل متجه، ومن القياس على كلام الماوردي فيه نظر فإن كلام الماوردي في موصي له معين وكلام المطلب في غير معين وشتان ما بينهما لكن آل كلام المطلب إلى أنه لا يرتضى القياس على كلام الماوردي ، وإنما يلحظ استحقاق الحاج للمعين كله حيث زاد على أجرة المثل ما ذكره في آخر كلامه فعليه إن كانت الخمسون المذكورة في السؤال أجرة مثل الحج من الموضع الذي عينه الميت وإلا فمن الميقات فالباقي للورثة وإن كانت أكثر من أجرة المثل فالباقي للموصى له، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/149)
وسئل عن قولهم في باب الوصية أوصى لأقاربه دخل القريب الوارث وتبطل في قسطه هل تبطل في قسط الورثة كلهم أو كل وارث بالنسبة إلى نفسه وما معنى قولهم بالبطلان بأنه لا يمكن إجازة الإنسان لنفسه فيعارض بالوصية للوارث وأنها تصح بالإجازة فلزم إجازته لنفسه؟. فأجاب بقوله: ما أشار إليه السائل نفع الله سبحانه وتعالى به من الإشكال أبديت قريباً منه على وجه آخر في شرح الإرشاد، وعبارته بعد قول المتن حتى وارثه على المرجح في الشرح الصغير والمهمات لوقوع الاسم عليهم ثم تبطل في نصيبهم لتعذر إجازتهم لنفسهم، ويصح الباقي لغيرهم وقضية التعليل أنه لو تعدد الوارث على هذا لم يبطل جميع نصيبه وإنما يبطل منه ما يحتاج إلى إجازة نفسه خاصة، وحينئذ ينتج من ذلك أنه يعتبر في صحة الوصية للوارث الإجازة لنفسه وهو ممتنع فكان القياس أن يدخل ويعطى نصيبه كما لو أوصى لأهله فإنه يحمل على من تلزمه نفقته على الأصح في الروضة إلا أن يقال بما هنا في تلك من أنه لا يدخل أو يدخل ويبطل نصيبه، وقيل: لا يدخل الوارث بقرينة الشرع لأنه لا يوصى له عادة وهو ما رجحه في المنهاج كأصله ومشى عليه الحاوي والمصنف في روضه، قيل: وأشعر به كلام الروضة وأصلها، انتهت عبارة الشرح المذكور، ولك أن تمنع تلك المعارضة التي ذكرها السائل وتفرق بين ما هنا والوصية للوارث بأن الموصي هنا علقها باسم قريبه الشامل لورثته لكن لما لم ينص الموصي على خصوص الوصية للوارث اختلف نظر الأئمة حينئذ في أن ذلك الشمول منظور إليه أولاً فمن قال إنه منظور إليه وهم القوم المصححون للقول الأوّل لم يقله إلا من حيث النظر إلى عموم القرابة فقال بدخوله ثم لما حقق النظر قال بعدم إعطائه لتعذر إجازته لنفسه، أي في هذا الغرض بخصوصه من حيث النظر إلى مراد الموصي الذي دل عليه كلامه وهو برء لمن لا حق له في إرثه وإذا كان هذا هو مراده فيتعذر إعطاء الوارث لأنه لو أخذ لتوقف على إجازته لنفسه ولو أجاز(5/150)
لنفسه لأخذ من حيث إجازته لأنها السبب القريب لا من حيث الوصية لأنها سبب بعيد فكان في أخذه منافاة لغرض الموصي، وأما الموصي للوارث بخصوصه فلم يعلق بمطلق القرابة وإنما قصد أنه مع قيام وصف الإرث به يأخذ فكان ذلك متضمناً أنه أذن له في أن يجيز ويأخذ فلم يكن في أخذه بعد إجازته منافاة لغرض الموصي على أن هذا كله غير محتاج إليه فإنا لا نعتبر في الوصية للوارث الإجازة إلا إذا كان معه ورثة غيره، فإذا أجازوا الوصية له صحت وإن لم يجز هو وإذا ردوها بطلت وإن أجاز هو وأما إذا لم يكن هناك وارث غيره، فإنه لا تصح الوصية له لتعذر إجازته لنفسه، وأما ما هنا فالذي معه غير ورثة وهم لا تعتبر إجازتهم فلو أعطيناه لصححنا الوصية له مع انفراده ووقفناها على إجازته لنفسه وهو محال فالموضعان على حد سواء وهو أنه حيث لم يكن مع الوارث الموصى له غيره لم تصح الوصية له لتعذر إجازته لنفسه وحيث كان معه غيره صحت إن أجازها ذلك الغير وما قالوه هنا من صور ما إذا كان الوارث ليس معه غيره وقد تقرر أنه لا يمكن أخذه بالوصية حينئذ إذ لو أخذ لتوقف على إجازته لنفسه وحده وإجازته لنفسه متعذرة فتأمل ذلك يتضح لك أنه لا إشكال بين ما قالوه هنا من دخوله نظراً لشمول اسم القريب له، أي حتى يزاحم بقية الأقارب وعدم إعطائه لتعذر إجازته لنفسه إذ لا وارث غيره وحيث لم يكن مع الوارث الموصى له وارث آخر بطلت الوصية له وما قالوه ثم من صحة الوصية للوارث الذي معه ورثة غيره وتوقفها على إجازتهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/151)
وسئل عن تزويج الأم المولاة على أولادها من قبل الحاكم هل تبطل وصايتها بتزويجها كحضانتها؟. فأجاب بقوله: قال بعضهم: رأيت معلقاً أنها تبطل ولم يسنده المعلق إلى أحد وهو منقاس غير بعيد، فإن قيل للوصي التوكيل في البيع فكذا قيم الحاكم، قلنا وإن جوّزنا لها التوكيل هي مشغولة بحق الزوج كما أن الحاضنة تسقط حضانتها بالتزوّج مع إمكان أن تستنيب من يتولى الحضانة عنها اهـ، وعندي فيه نظر والذي دل عليه إطلاقهم بقاء ولايتها مع التزوّج سواء أكانت وصية أو قيمة من جهة الحاكم ويفرق بينها وبين الحاضنة بأن من شأن الحاضنة تعهد المحضون وأن يكون عندها وفي محلها والتزوّج من شأنه أن يشغل عن هذا وإن رضي الزوج بإقامة الولد بمحله فذلك لا يوثق به منه غالباً فكان التزوّج منافياً لمقصود الحضانة من كل وجه فبطل بها بخلافه هنا فإنه غير مناف لمقصود التصرف عن الغير بنحو البيع لسهولة تعاطيها لذلك بنفسها وهي في بيتها وتوكيلها مع قيامها بجميع حقوق الزوج فلا مزاحمة بين الحقين حتى يتوهم أنها تشتغل بحقوقه عن التصرف للأولاد بخلاف الحضانة كما تقرر فافهم ذلك واحفظه فإنه مهم وكثير الوقوع.(5/152)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته، مسألة مهمة وقع فيها خلاف طويل بين فقهاء حضرموت ولم يتحرروا منها على شيء بل كل منهم يخطىء صاحبه فالمسؤول مزيد تحريرها وتوضيحها صورتها شخص له ولد ذكر وبنت وأولاد ابن ميت أوصى لهم بميراث أبيهم لو كان حياً أو بمثل ميراث أبيهم لو كان حياً أو قال هم على ميراث أبيهم لو كان حياً فكيف القسمة بينهم فهل لأولاد الابن خمسان لأنه ميراث أبيهم أو لهم سبعان كما يؤخذ من كلام الروضة وغيرها وعرف البلد أنهم ينزلونهم منزلة أبيهم من غير فرض زيادة ومن ثم أفتى جماعة من الفقهاء الذين كانوا مفتين بحضرموت بالأوّل وأطبق الناس عليه من غير نكير أجاب بعضهم بما حاصله: إذا كانت الصورة كما ذكر فلهم سبعا تركة الموصي على المعتمد كما صرح به في مثل صورة السؤال ابن المقري في الروض تبعاً للروضة وغيرها وذلك كما لو مات له ابنان وأوصى بمثل نصيبهما، نعم إن قال الموصي أولاد ابني على ميراث أبيهم لو كان حياً أو جعلتهم على ميراث أبيهم لو كان حياً فالوصية بالخمسين اهـ، وأجاب آخر بما حاصله الكلام في وجهين، الأول من حيث الصيغة فإذا قال أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني وله ابن وارث صحت أو بنصيب ابني صحت أيضاً كما في الروض و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/153)
الحاوي والإرشاد تبعاً للشرح الصغير في باب الوصية وللروضة وأصلها في باب المرابحة تقدير المثل لكثرته في الاستعمال ولأن الوصية واردة على مال الموصي ولا نصيب للابن قبل موته فكان الغرض التقدير لما يستحقه بعده ولذا لو لم يكن له ولد أصلاً وكان صيغته أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني صح كما قاله البغوي في تهذيبه و الخوارزمي في كافيه، قال: والتقدير بمثل نصيب ابني لو كان الثاني من حيث الحصة في صورة السؤال والذي يظهر أنه يلحق بما قاله البغوي و الخوارزمي ما لو قال لابن ابنه الذي قد مات أبوه أوصيت لفلان بنصيب أبيه ويكون التقدير بمثل نصيب أبيه لو كان حياً فالموصى به خمسا التركة وهو مقتضى الضابط الذي ذكره الأئمة وهو تصحيح للفريضة بدون الوصية ويزاد فيها مثل ما للمذكور فمسألة السؤال من ثلاثة للابن سهمان وللبنت سهم فيزاد عليها مثل نصيب الموصي بمثل نصيبه وهو سهمان فتكون الجملة خمسة وليس للابن الموصي بمثل نصيبه سهم ومن جعل له سهماً حتى صارت القسمة أسباعاً فقد خالف الفقهاء الذين أفتوا بالخمسين والحادثة مفروضة فيمن أوصى بمثل نصيب ميت وصورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم ومن المحال جهل الفقهاء المذكورين بمسألة الروضة وكتب الأصحاب ولكنهم عرفوا أن الصورة غير الصورة المذكورة في الحادثة فأضربوا عن قياسها على مسألة الروضة وهم من قاسها عليها مع وضوح الفرق فإن الموصي في الحادثة جعل الموصى له بمنزلة والده الميت فلا يحسب للميت سهم بل للموصى له فقط، ولا شك أن الموصي خصوصاً العامي إنما يقصد بذلك أن الحافد بمنزلة أبيه وأن ميراث أبيه لو كان حياً يكون له، ولا ينبغي لمفت أن يفتي بغير ذلك فالمعروف المعهود والمعلوم عند القائل والسامع هو ما ذكرناه. قال الإمام أحمد بن أبي بكر الناشري : والعرف قد يضعف فيطرح وقد يقوى، فيؤخذ به قطعاً وقد يبلغ رتبة يتردد في قوّته وضعفه فيثور الخلاف اهـ. وهذه المسألة(5/154)
مما قوي فيها العرف فإن أهل جهتنا إنما يقصدون ما ذكرته لا غير وقد تكلم العلماء في البيع والشراء بالدينار في بلد يعتقدون الدينار أربعة دراهم وهو في الشرع المثقال والعوام لا يعرفونه إلا أربعة دراهم. قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه بعد ذكره الخلاف وبعد كلام طويل ما حاصله: يصح البيع والشراء ويحمل على الدينار المتعارف بينهم، واختاره الجياني
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
في فتاويه وقال: لا يمكن القول بغيره نظراً للعرف اهـ، فكذا في مسألتنا لا يمكن أن يكون مراد العامي أن للحافد سهماً ولوالده سهماً وهذا مما لا يشك فيه ذو لب ولا يخفى أن الحافد يحتاج إلى إجازة الورثة فيما زاد على الثلث وأجاب آخر بما حاصله: من أوصى بمثل نصيب ابنه لو كان حياً فرضت حياته وأنه ورث ويجعل لابنه مثل ما يقع له زائداً على المفروض فيكون فيمن له ابن وبنت وابن مات وله ابن أوصى له بمثل نصيبه لو كان حياً فيقع للابن سبعا التركة ولو ترك لفظة مثل فله ذلك على الأصح الذي رجحه الشيخان، وجزم به غير واحد كالأستاذ أبي منصور فيكون على الوجهين في ذكر مثل ولكن حكى أبو إسحاق على ما جزم به أن الأصحاب جعلوا للموصى له في حذفها مثل نصيب الحي ويكون موضع أبيه حياً، ففي مسألتنا يكون له الخمسان، وما قيل إن القاضي ابن عبسين اعتمد هذا هو خلاف ما كتبناه عنه أن الصحيح عنده هو ما رجحه غيره من أن له السبعين، نعم في السؤال صورة ما لو أوصى بكون أولاد ابنه على ميراث أبيهم والذي نعتقده فيها أنهم يكونون موضعه لو كان ولا يفرضون زائدين فيكون لهم في هذه الخمسان وهو ما نقلوه عن الماوردي في قوله: أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه أنه يجعل موضعه بلا فرض وزيادة وبمثل ذلك نقول فيما إذا قال جعلته موضع أبيه أو أقمته في محله في إرثي فلو لم يقل في الكل إن لم يكن حياً فالذي رآه الفقيه عبد الله بن عبسين أنه كما لو ذكره وتصح(5/155)
الوصية قال وهو الذي أطبق الناس على العمل به ويقدر أنه تلفظ به كما هو المفهوم في العموم وكما يكثر التقدير في الكتاب والسنة ولغة العرب وهذا كله فيما إذا لم يدع الموصى له إرادة الموصي لكونه كالحي بالأصل، فإن ادعى ذلك أو علم الوارث به حلف الوارث أنه لا يعلم إرادته ذلك فإن ردها حلف الموصى له على ما ادعى به واستحقه فإن حلف بعض الورثة ورد بعض فحلف هو شارك من رد بقسطه فيما زاد، وكذلك من المعلوم أن ما زاد على الثلث حيث يفرض يتوقف على الإجازة وليس عندي من البحث غير ما ذكر وأجاب آخر بما حاصله صورة السؤال بعينها مذكورة في كلام الأصحاب ولنقدم مقدمة يتضح بها وجه الصواب، قال في الروضة: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد لا يرثه غيره، فالوصية بالنصف إن أجيزت وإلا فبالثلث وكذا لو كان له أبناء فأوصى بمثل نصيبهم ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثاً لرق أو غيره فالوصية باطلة ولو قال أوصيت له بنصيب ابني فوجهان أصحهما عند
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/156)
العراقيين و البغوي بطلان الوصية وأصحهما عند الإمام و الروياني وبه قطع أبو منصور صحتها والمعنى بمثل نصيب ابني فإن صححناها فالوصية بالنصف على الأصح، وقيل بالكل حكاه البغوي ولو كان له ابنان فأوصى بمثل نصيب أحدهما أو بمثل نصيب ابن فالوصية بالثلث وإن كانوا ثلاثة فبالربع أو أربعة فبالخمس، وعلى هذا القياس ويجعل الموصى له كابن آخر معهم وضابطه أن تصحح فريضة الميراث ويزاد عليها مثل نصيب الموصي بمثل نصيبه اهـ المقصود من كلام الروضة والأصح من الوجهين فيما إذا أوصى بنصيب ابنه الصحة كما في الشرح الصغير هنا والروضة وأصلها في المرابحة وتبعهما ابن المقري وغيره حملاً على أن المعنى بمثل نصيبه وجرى عليه في الوسيط قال إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فله النصف حتى يتماثلا فإن كان له ابنان فأوصى بمثل نصيب أحدهما فله الثلث فإن كانوا ثلاثة فبالربع وبالجملة تراعى المماثلة عندنا بعد القسمة وقال مالك : هو وصية بحصة الابن قبل القسمة فإن كانوا ابنين فبالنصف أو ثلاثة فبالثلث وهو ضعيف، لأن ما ذكرناه محتمل وهو الأقل، فيؤخذ به ولو أوصى بنصيب ولده كان كما لو أوصى بمثل نصيب ولده. وقال أبو حنيفة : هو باطل لأنه وصية بالمستحق وهو ضعيف لأنه إذا قال بعت بما باع به فلان فرسه صح وكان معناه بمثله انتهت عبارة الوسيط إذا عرفت هذا، واتضح لك معناه علمت أن الوصية في صورة السؤال على قياس ذلك إنما هي بمثل نصيب الميت بعد القسمة لو كان حياً أما في الصيغة الثانية في السؤال فواضح ووجهه يؤخذ مما قدمناه عن الغزالي في احتجاجه على مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ، وأما في الصيغة الأولى وهي ما إذا أوصى لهم بميراث أبيهم لو كان حياً فكذلك أيضاً لأن من لازم صحة الوصية فيها التقدير بالمثلية كما عرفته مما قدمناه فيما إذا أوصى بنصيب ابنه الحي فصارت كالصيغة الثانية في السؤال إذا تقرر هذا علم أن الوصية في صورة السؤال إنما هي بسبعي التركة وذلك(5/157)
لأنه مثل نصيب الميت بعد القسمة لو كان حياً وهو لو كان حياً كان أصل المسألة من خمسة لكل ابن سهمان وللبنت سهم فزدنا عليه مثل نصيب أبيهم وهو سهمان وذلك سبعا التركة وهذا كاف في الجواب على صورة السؤال لمن فهم كلام الأصحاب، بل صرح بذلك الأئمة كالشيخين، وعبارة الروضة لو أوصى وله ابن بمثل نصيب ابن ثان لو كان فالوصية بالثلث أو وله ابنان بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فالوصية بالربع. وقال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/158)
الأستاذ أبو إسحق في الأولى بالنصف وفي الثانية بالثلث وهل يفرق بين قوله بمثل نصيب ابن ثان أو ثالث لو كان وبين أن يحذف لفظة مثل فيقول بنصيب ابن القياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود، وحكى الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب أنهم فرقوا فقالوا: إذا أوصى بمثل نصيبه دفع إليه نصيبه لو كان زائداً على أصل الفريضة وإذا أوصى بنصيبه دفع إليه لو كان من أصل الفريضة فعلى هذا إذا أوصى بنصيب ثالث لو كان فالوصية بالثلث ولو قال بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فبالربع كما سبق ولو أوصى وله ثلاثة بنين بمثل نصيب بنت لو كانت فالوصية بالثمن، وقال الأستاذ أبو إسحق بالربع انتهت عبارة الروضة فالمعتمد ما قال الشيخان إنه القياس وهو أنه لا فرق بين أن يأتي بلفظة مثل أو يحذفها لا ما حكاه الأستاذ أبو منصور من الفرق، وقد جرى على ما ذكراه في الروض وأقره الشيخ زكريا في شرحه ووجه ما قالا إنه القياس أنه يحتمل أن الموصي أراد المماثلة قبل القسمة، ويحتمل أنه أراد ذلك بعدها والاحتمال الثاني هو المتيقن فوجب الأخذ به وبذلك يعلم أن كون الوصية بسبعي التركة في صورة السؤال صحيحاً لاإشكال فيه وأن المسألة مذكورة في كلامهم وممن نص على المسألة أيضاً حجة الإسلام في وسيطه فقال بعد ما قدمناه عنه ولو كان له ابنان فقال أوصيت له بمثل نصيب ابن ثالث لو كان لا يعطى إلا الربع وكان ذلك الابن المقدر كابن، وفيه وجه أنه يعطى الثلث وكأنه قرره مكانه انتهت عبارة الوسيط وهي قاطعة لكل ريب بحمد الله وهذا هو مقتضى الضابط السابق فبان أن الأصحاب متفقون على ما ذكرناه فيما إذا كانت الصيغة أوصيت له بمثل نصيب أبيه لو كان حياً إلا ما شذ به أبو إسحق وأن الشيخين ألحقا بها ما إذا حذف لفظ مثل ووافقهما المتأخرون على ذلك، وقول السائل وعرف البلد الخ، جوابه أن التحقيق في ذلك أخذاً مما قدمناه أنه إن علم إرادة الموصي ذلك عمل بها لأن لفظه محتمل له وإلا حمل(5/159)
على المماثلة بعد القسمة لأنه المتيقن كما مر وغاية ما في ذلك أن هذا اللفظ كناية في إرادة المماثلة قبل القسمة والكناية يرجع فيها إلى النية كما هو معلوم ومن تأمل كلام الأصحاب علم أنه لا مدخل للعرف هنا، بل ذكروا أن الصراحة في الألفاظ لا تؤخذ من الشيوع ورجحه النووي ، وأن القرائن لا تصير الكناية صريحاً وأيضاً فالصيغة تحتمل المماثلة قبل القسمة وبعدها والثاني هو المتيقن فيؤخذ به، لأن الأصل تنزيل الوصية على المتيقن كما صرح به الأصحاب ونظيره الإقرار بشيء يحتمل معاني متعددة، وقد نص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/160)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وتبعه الأصحاب على عدم اعتبار العرف فيه حيث قال أصل ما أبني عليه مسائل الإقرار أن أطرح الشك وأبني على اليقين ولا أستعمل الغلبة. قال الشيخ أبو علي : أراد لا أستعمل العادة ولا ما غلب على الناس ثم رأيت عن قواعد الزركشي أنه نقل عن الرافعي أن العرف إنما يعمل به في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح هذا إذا علم أن اللافظ أراد غير مقتضى لفظه، وأما عند الجهل فيعمل بمقتضى لفظه اهـ، وهو يؤيد ما قلناه ولله الحمد لكن الذي رأيته في نسخة من القواعد أن القائل بذلك هو الإمام لا الرافعي فليحرر ذلك، فإن تلك النسخة ضعيفة، وقد صرح الأصحاب أن ما ذكرناه هو مقتضى لفظ الموصي كما يعلم ذلك بمراجعة شرح الروض وغيره ثم لا يخفى أن الموصى له لو ادعى أن الموصي أراد المماثلة قبل القسمة وهو الخمسان في صورة السؤال، وبه تقبل دعواه ويحلف الوارث على نفي العلم بإرادة ذلك فإن نكل حلف هو على البت كما في نظائره وهو واضح، ولنرجع الآن إلى ما في كلام المجيب بأن له الخمسين فنقول أما كلامه في أوّل جوابه من حيث صحة الصيغة فواضح وهو صريح في أن الوصية في صورة السؤال إنما هي بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً لكنه لم يبين هل المراد المثلية قبل القسمة أو بعدها، وكلامه في آخر جوابه صريح في أن المراد بذلك قبل القسمة لأنه جعل للموصى له الخمسين وقد علمت مما قدمناه أنه ليس كذلك على مذهبنا وإنما يأتي على مذهب مالك أو على ما قاله أبو إسحق أو على ما فرق به الأستاذ أبو منصور في الصيغة الأولى وكل ذلك ضعيف كما قررناه، وأما ما نقله عن البغوي و الخوارزمي فهو صحيح لكن قوله ويظهر أن يلحق بذلك الخ، كلام من لم يقف على نقل في المسألة وقدمنا في المقدمة عن الروضة ما يقتضي بطلان هذه الوصية التي بحث صحتها وإذا بطلت الوصية فيما لو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له وارث إذ لا نصيب للابن مع التصريح هنا بالمثلية فما ظنك بالصورة(5/161)
التي بحثها الفقيه المذكور، والفرق بينها وبين مسألة البغوي و الخوارزمي ظاهر فلا يصح إلحاقها بها نعم قال بعض المتأخرين ينبغي حمل كلام الروضة على ما إذا لم يرد الوصية بمثل نصيبه لو كان حياً وظاهره أنه يراجع في ذلك لا أن كلامه محمول عليه بخلاف مسألة البغوي و الخوارزمي ، وأما قوله إن للموصى له الخمسين الخ، فهذا بناه على ما فهمه من كلام الأصحاب من أن المراد المماثلة قبل القسمة وقد علمت أنه ليس كذلك وكذا قوله إن ذلك مقتضى الضابط الذي ذكره الأصحاب إنما يأتي على فهمه المذكور، وبالجملة فقد أتى بكلام الأصحاب ولم يفهم معناه، وأما قوله إن الإفتاء باستحقاق السبعين مخالف لإفتاء المتقدمين من المفتين بحضرموت ك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/162)
ابن مزروع و ابن عبسين و ابن الحاج أنه إنما يستحق الخمسين فجوابه إني راجعت فتاوى العلامة ابن مزروع من أكابرهم فرأيت كلامه موافقاً لما قررناه لا مخالفاً له لكن هذا الفقيه لم يفهمه كما لم يفهم كلام الأصحاب في مسألة السؤال على أن هذه ليست منصوصة بعينها في كلام ابن مزروع وإنما الذي فيها ما إذا أوصى بمثل نصيب وارث حي لكن المعنى في ذلك لا يختلف كما علم مما قررناه، وأما العلامة ابن عبسين فهو مصرح في فتاويه بأن المسألة في الروضة لكنه مال إلى الفرق الذي ذكره أبو منصور ولا شك أن الشيخين هما العمدة لا سيما وقد وافقهما فُحول المتأخرين، وأما ابن الحاج فلم أقف له على كلام في المسألة، وأما قوله إن مسألة الروضة مفروضة في بنين أحياء الخ، فهو كلام من لم يقف على الفرع الذي قدمناه عن الروضة أو لم يفهمه إذ مسألة الروضة هي مسألة السؤال بعينها، فإن قول الموصى أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم لو كان حياً كقوله أوصيت لك بمثل نصيب ابن ثان لو كان وهي مسألة الروضة، وهذا مما لا شك فيه، ومن ثم نسب ابن عبسين مسألة السؤال للروضة وإن مال إلى الوجه الضعيف كما مر، وأما قوله إن الموصي جعل الموصي له بمنزلة والده الخ، فهذا إنما يأتي على فهمه المذكور أن المراد المماثلة قبل القسمة وقد علمت أنه ليس كذلك على المعتمد في المذهب، وأما بقية كلامه فرده ظاهر مما ذكرناه وأجاب آخر لكن في سؤاله زيادة هي ولو كانت المسألة بعينها وللموصي ثلاثة بنين وبنت فأوصى لأولاد ابنه بمثل نصيب واحد من أعمامهم فمات قبل موت الموصي اثنان وبقي واحد فهل لهم مثل نصيبه تاماً أو ينقص عليهم وتحسب الأموات أحياء أم لا ينقص ولهم مثل ميراث الحي فقال ما حاصله الصواب: أن للموصى لهم سبعي المال في صورة السؤال لأنه الذي أطبق عليهم الأصحاب، ومنهم الشيخان في العزيز والروضة وغيرهما فيما إذا كان له ابن وبنت وأوصى بمثل نصيب ابن ثان لو كان حياً ولم يحكوا فيه إلا وجهاً(5/163)
ضعيفاً وهذا المثال الذي ذكروه نظير صورة السؤال، وأما القول بالخمسين فيما إذا كانت الوصية ممن له ابن وبنت، فإنما ذكره الأصحاب فيما إذا كانت صيغة الوصية أوصيت بمثل نصيب ابني أي الموجود ففي هذه الصورة تكون الوصية بالخمسين كما ذكروه ونحن نوضح النقل في الصورتين جميعاً ليظهر الحق فيتبع ونقدم الصورة الثانية لأنها كالأصل للأولى فنقول إذا أوصى من له ابن بمثل نصيب ابنه كانت الوصية بنصف المال بلا خلاف بين أصحابنا وعللوا بأن هذا اللفظ يقتضي أن يكون لكل منهما نصيب وأن يكون النصيبان مثلين فلزم التسوية وإن كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما كانت الوصية بالثلث، وعلى هذا القياس وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما كما حكاه أصحابنا وحكوا عن مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنها في صورة الابن بكل المال والابنين بنصف المال وهذا هو الذي يتبادر إليه فهم العوام في مثل ذلك وذكر الإمام في النهاية أن مالكاً يعتبر النصيب بنصيب الابن قبل الوصية وهو إذ ذاك جميع المال و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/164)
الشافعي يعتبره مع مزاحمة الوصية ومقتضى ذلك المساواة اهـ، وفي أوصيت بنصيب ابني وجهان عندنا أحدهما: البطلان وعليه العراقيون والبغوي وهو مذهب أبي حنيفة لوروده على حق الغير، والثاني: وبه قال الأستاذ أبو منصور و الإمام و الروياني وغيرهم وجرى عليه الرافعي في العزيز في باب المرابحة الصحية، لأن المعنى بمثل نصيبه قالوا ومثله في الاستعمال كثير والغرض التقييد بما يستحقه الابن لا نفس نصيبه ومثله ما إذا باع بما باع به فلان فرسه فإنه يصح ولو أوصى بمثل نصيب ابنه الميت فمقتضى قول الروضة ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثاً لرق أو غيره بطلت الوصية البطلان ويتعين حمله على ما لو لم يرد الوصية بمثل نصيبه لو كان موجوداً أو وارثاً فإن أراد ذلك صحت وصيته بلا شك لأن مثل هذا مستعمل في الكلام الفصيح كثيراً ونظائره في الفقه كثيرة، ومن شواهده ما لو أوصى بنصيب ابنه ولم يذكر المثل بل أفتى الجمال بن كبن رحمه الله تعالى بحمل البطلان في كلام الروضة وغيرها على ما إذا صدر ذلك من أهل ناحية لا يعتادون ذلك، قال: فإن اعتادوه كان وصية عملاً بعرفهم اهـ، وهو حسن. ولو قال من له ابن واحد أوصيت بمثل نصيب ابن ثان لو كان قال الأصحاب كان حكمه حكم من له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما فتكون الوصية بالثلث فإن كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب ابن ثالث لو كان كانت الوصية بالربع وعلى هذا القياس وفي وجه لأبي إسحق أنها في الأول بالنصف وفي الثاني بالثلث وكأنه أقام الموصى له مقام ابن ثان أو ثالث، وفرق بينه وبين أوصيت له بمثل نصيب ابني بأن ذلك يتضمن تشريكاً ومزاحمة فلهذا كانت الوصية فيه بالنصف كما سبق إذا عرفت هذا كله علمت أن قول الموصي أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم يتخرج على ما قدمناه فيما إذا أوصى بمثل نصيب ابنه الميت فإن قيل بالبطلان هناك كان هذا باطلاً، لأن الميت لا ميراث له، وإن قيل هناك بالصحة فكذا يقال هنا وإذا صحت الوصية كانت(5/165)
بالسبعين في صورة السؤال كما قدمناه، لأن الابن الميت كالابن الزائد المقدر وجوده بجامع أن كلا منهما ليس له إرث ولا مزاحمة في الميراث وإنما قدر كونه وارثاً، وأما قوله أولاد ابني على ميراث أبيهم فيتخرج أيضاً على هذا وفيه مع ذلك شيء آخر وهو أنه كناية في الوصية فإن أرادها صحت وإلا فلا، نعم يظهر أن محل ما أطلقه الأصحاب في هذه الأمثلة هو ما إذا أراد الموصي المعنى الذي اعتبره الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أو أطلق فلم يرد شيئاً، وأما إذا قصد المعنى الذي اعتبره مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيظهر أن الحكم كما ذكره مالك وعليه فتكون الوصية بالخمسين في صورة السؤال، ووجه ذلك أن اللفظ يحتمله بتجوّز شائع في الكلام فإذا قصده وجب اعتباره، ألا ترى أنه لو صرح بهذا المعنى في نفس الوصية وجب اعتباره بلا تردد ويؤيده قول الكفاية عن البندنيجي لو قال أوصيت بمثل نصيب ابني لو لم أوص لأحد كانت الوصية بكل المال، وفي شرح الروض نحوه عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/166)
الماوردي وهو لو أوصى بمثل ما كان نصيباً لابنه أي قبل الوصية كانت الوصية بجميع المال إجماعاً كما صرح به الماوردي اهـ، وما ذكره الماوردي و البندنيجي هو عين ما اعتبره مالك لكن نقول به في صورة الإطلاق وهما إنما يقولان به في صورة التصريح به، ومن المعلوم أن ما وجب اعتباره عند التصريح به بالنسبة لحمل اللفظ عليه لكون اللفظ محتملاً له مع عدم منافاته له أنه يجب اعتباره عند قصده وأمثلته في كلام الأصحاب لا تخفى وقد رأيت لبعض فضلاء اليمن المتأخرين فيمن أوصى لجيرانه وقصد الجار القريب من داره دون غيره أنه يعتبر قصده وتنفذ به وصيته قال: وما ذكره الأصحاب من اعتبار أربعين داراً من كل جانب محله عند قصده ذلك أو عند الإطلاق اهـ، وما ذكره صحيح جار على مقتضى قواعد المذهب وهو مؤيد لما ذكرناه، فإن قلت كيف يحمل اللفظ عند الإطلاق على معنى يقتضي حكماً وإذا قصد المتلفظ غير ذلك المعنى يتغير ذلك الحكم وهل في كلام الأصحاب ما يشهد لهذا، قلت قدمنا أن هذا ليس على إطلاقه وإنما هو حيث كان اللفظ محتملاً للمعنى الذي قصده اللافظ ولو على تجوّز وشواهده في كلام الأصحاب لا تحصى منها لو أوصى لإسراج الكنيسة لم يصح ما لم يقصد انتفاع المقيم بها أو المجتاز أو لعبد غيره صحت ما لم يقصد تمليكه على نزاع فيه أو لدابة الغير لم يصح ما لم يفسر بعلفها أي يقصده ولو قال الدار التي اشتريتها لنفسي أو ورثتها من أبي ملك زيد لم يصح إقراره، إلا إن أراد بذلك كما في داري لفلان ولو قال هذا المال لورثة زيد حمل عند الإطلاق على عدد رؤوسهم وإن تفاوت إرثهم، فإن قال المقر أردت الإرث قبل وإن نازعه أقلهم حصة كما في الكفاية عن الماوردي وأقره والدراهم في الخلع المعلق والإقرار تحمل على الإسلامية لا على غالب نقد البلد ولا على الرائدة أو الناقصة إلا أن قال أردتها واعتيدت. قال في الروضة: ولا يجب استفساره ليخبر عن مراده بل نأخذ بالظاهر من الحمل على(5/167)
الإسلامية إلا أن يخبر عن مراده، ولو قال لمنفى باللعان بعد استلحاقه لست ابن فلان كان قذفاً عند الإطلاق فنحده من غير أن نسأله عن إرادته ما لم يدع محتملاً كلم يكن ابنه حين نفاه فإن ادعاه صدق بيمينه وتتبع الشواهد لذلك مما يطول وليس مرادنا أن هذه كلها نظائر لصورة السؤال في اللفظ، والمعنى وإنما هي شواهد لما قررناه أن اللفظ حالة الإطلاق يحمل على معنى ثم إذا قصد اللافظ غيره اعتبر قصده بالشرط السابق وإذا تقرر هذا وادعى الموصى لهم أو نائبهم في صورة السؤال أن الموصي قصد الإيصاء لهم بالخمسين سمعت الدعوى ثم إن اعترف الوارث بذلك فذاك وإن أنكر كان القول قوله بيمينه على نفي العلم بقصد مورثه لذلك لكن حلف الوارث في مثل هذه الحالة لا يكاد ينفك عن الحرج، لأن العوام وغيرهم من المتفقهة في الجهة إنما يقصدون ذلك في صورة السؤال غالباً ثم إن حلف الوارث انقطعت الخصومة واستقرت الوصية على السبعين وإن نكل ردت اليمين على الموصى لهم فمن كان كاملاً حلف واستحق نصيبه من الخمسين إن أجاز الوارث الزائد على الثلث وإلا فمن الثلث ومن لم يكن كاملاً وقفت يمينه إلى الكمال ولا يخفى أن الحالف منهم تكون يمينه على البت، وأما قول من قال بالفرق بين قول الموصي أوصيت لهم بميراث يستلزم تقدير المثل كما في أوصيت بنصيب ابني وأن قوله هم على ميراث أبيهم لا يستلزم ذلك وهذا تخيل باطل، إذ لا فرق بين اللفظين في تقدير المثل وعدمه، وبيان ذلك أن الموصي لما نسب الميراث إلى أبيهم في اللفظين مع كونه إذ ذاك ميتاً لا ميراث له احتجنا في تصحيحه إلى تقدير يصح به الكلام فقلنا إن المعنى هم على ميراث أبيهم لو كان حياً أو أوصيت لهم بميراث أبيهم لو كان حياً، ومعلوم أن هذا التقدير الذي هو سبب تصحيح الوصية يستلزم تقدير لفظ المثل في المثالين جميعاً لأنه إذا قدر حياته ليكون وارثاً كان الموصى به نظير نصيبه لا عين نصيبه كما فيما لو قال من له ابن واحد(5/168)
أوصيت بمثل نصيب ابن ثان لو كان لي، وذلك لأن الأول قدرت حياته وهو ميت، والثاني قدر وجوده وهو معدوم وقد عرفت أن الأصحاب أطبقوا على أن الوصية فيه، أعني في صورة المقدر وجوده وهو معدوم تكون بالثلث فكذلك في صورة الميت المقدر حياته وهذا في غاية الوضوح إن شاء الله تعالى فإن قلت فما اللفظ الذي إذا تلفظ به الموصي في صورة السؤال كان للموصى لهم الخمسان على مذهبنا من غير منازعة من الوارث، قلت هو أن يقول أوصيت لهم بخمسي التركة مثلاً أو بمثل نصيب عمهم أو بمثل نصيب ابني الموجود أو ابني من غير وصف بالموجود، لأن الإطلاق محمول عليه وكذلك لو قال بنصيبه من غير ذكر المثل على الأصح كما سبق وما حكي عن فتاوى
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/169)
ابن عبسين و ابن مزروع رحمهما الله تعالى من أن الوصية تكون بخمسي التركة فلم أقف عليه فإن كان فرض ما سئلا عنه أن الموصى له ابن وبنت ولو أوصى بمثل نصيب الابن الموجود، فجوابهما بأن الوصية في ذلك تكون بالخمسين صحيح لموافقته ما قدمناه عن الإصحان وإن كان فرض ما سئلا عنه أن الموصي له ابن وبنت وله ابن ثان ميت وأوصى بمثل نصيب الابن الميت أو بمثل ميراثه فما أجابا به فيها من أن الوصية بالخمسين غير صحيح لمخالفته للمنقول كما عرفت لكن اعتقادنا أن جوابهما إنما هو في الفرض الأوّل ويكون التخليط من المستشهد بكلامهما، وقول المفتي الأول كما لو كان له ابنان وأوصى بمثل نصيبهما، إما سبق قلم أو فيه إخلال من الناقل لأن هذا لا مشابهة بينه وبين صورة السؤال لأنه إن أراد أن له ابنين فقط وأوصى بمثل نصيبهما فظاهر أن الوصية بنصف المال، وتصح المسألة من أربعة أسهم للموصى له سهمان ولكل ابن سهم وإن أراد تقدير زيادة ابن ثان مع الابن والبنت المذكورين في السؤال فالوصية بمثل نصيب الابنين في هذا المثال وصية بأربعة أتساع المال بتقديم التاء على السين وتكون المسألة من تسعة أسهم للموصى له أربعة أسهم ولكل ابن سهمان وللبنت سهم وليس واحد من هذين المثالين نظيراً لصورة السؤال، وأما السؤال عمن له ثلاثة بنين وبنت وأوصى لأولاد ابنه بمثل نصيب واحد من أعمامهم إلى آخر ما ذكره السائل، فجوابه أن الظاهر أن الاعتبار في ذلك بحالة الموت لأنها التي يعلم فيها النصيب ويتقرر فيها مقداره وعليه فيستحق الموصى لهم في الصورة التي ذكرها السائل ربع التركة فهذه أجوبة المفتين بحضرموت فتفضلوا بإمعان النظر فيها وبيان ما فيها من المقبول والمردود ليظهر الحق الذي يجب اتباعه والعمل به ويدحض الباطل الذي يجب الإعراض عن التمسك بشيء من سببه، فإن الله سبحانه وتعالى لم يقم خلفاء الرسل إلا لهداية الأمم وإطفاء نار المحن وإنارة الظلم أخذاً عليهم أن لا يكتموا(5/170)
شيئاً مما نزل إليهم وأن لا يحابوا أحداً وإن عز عليهم وأن لا يخافوا في الله لومة لائم ولا سطوة لسان أو صارم فعليهم من الله شآبيب الرحمة وهوامع الإنعام والغفران إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ في تأليف حافل ملقباً له (بالحق الواضح المقرر في حكم الوصية بالنصيب المقدر) الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم هداية للحق وتوفيقاً للصواب المنقول المعتمد الظاهر الجلي حتى عند صغار الطلبة الذي لا يجوز لشافعي العدول عنه أن الذي يستحقه الموصى لهم في مسألة السؤال السابقة بأقسامها الأربعة هو السبعان لا الخمسان، وأما إفتاء المفتي الثاني بالخمسين فهو غلط منه كما سيجي في الكلام على جوابه وما نقل عن مثل ابن عبسين وابن مزروع من إفتائهما بذلك فهو بتقدير صحته عنهما لا ينظر إليه ولا يعوّل عليه لأنا إذا كنا لا ننظر لمثل ابن الرفعة ومن تأخر عنه ك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/171)
السبكي و الإسنوى و الأذرعي و البلقيني و الزركشي ، إذا خالفوا الشيخين وإن تمسكوا بكلام الأكثرين كما بسطت الكلام على ذلك في شرح العباب والفتاوى فما بالك بمثل أولئك الذين لم يلحقوا غبار هؤلاء لا سيما وما استندوا إليه هنا في المخالفة مما اتفق أهل المذهب على ضعفه كما سيجيء تحقيقه ولقد أنهى إلينا من فتاوى جماعة من الحضارمة ما علمنا منه أنهم كثيراً يميلون فيها عن المعتمد في المذهب إلى الضعيف بل ربما وقع لبعضهم التمسك بمذهب مالك مثلاً والإفتاء به، وهذا وإن كان أئمتنا مصرحين بغاية قبحه إلا أننا نحسن الظن بأولئك لصلاحهم ولكن الحق أحق أن يتبع وبيان مثل ذلك واجب علينا لا رخصة لنا في تركه، ثم رأيت شيخ الإسلام السراج البلقيني ذكر في فتاويه نظير مسألة السؤال بل عينها ولا يؤثر ما فيها من الزيادة وأن بعض أهل عصره ممن هو معد نفسه للتصنيف والإفتاء أفتى فيها بما لم يوافقه عليه أحد من أصحاب الشافعي وهو نظير الإفتاء في مسألتنا بالخمسين حرفاً بحرف، وتلك المسألة هي رجل توفي له ولد يسمى أحمد فوصى لأولاده بتسعي ما يخلفه ويتركه ثم بعد مدة طويلة توفي له ولد آخر يسمى محمداً فوصى لأولاده بمثل نصيب أبيهم أن لو كان أبوهم حياً حين وفاته أي الموصي ثم توفي الموصي المذكور وانحصرت وراثته في ثلاثة أولاد لصلبه ذكر وأنثيين فما لأولاد ولده أحمد من تركته بحق الوصية المذكورة وما لأولاد ولده محمد من ذلك بحق الوصية المذكورة، فأجاب فيها بعض المفتين من الشافعية بالقاهرة بما نصه يكون لأولاد أحمد خمسا الثلث ولأولاد محمد الباقي من الثلث وهو ثلاثة أخماس. قال البلقيني : فلما وقفت على هذه الفتوى تعجبت من هذا المجيب من وجهين: أحدهما وهو أخفهما: أنه أطلق الجواب ولم يفصل بين أن يكون حصل رد أم لا؟ لأن الثلث إنما يقسم على الوصايا الزائدة إذا حصل رد جميع الوصايا من جميع الورثة فلعله فهم أن المسؤول عنه حالة الرد لكن كان ينبغي أن(5/172)
يكون ذلك مقيداً إما في نفس السؤال وإما في الجواب الثاني وهو أعضلها لأنه أثبت في المسألة حكماً لا يوافقه عليه أحد من أصحاب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ م، وقبل الشروع في بيان خطابه أبين الشبهة التي خطر لي أنها قامت عنده حتى كتب ما تقدم عنه فأقول اعتقد هذا الرجل أن الموصى لهم بمثل نصيب أبيهم أن لو كان حياً كأن الوصية لهم صدرت بثلث المال، لأن أباهم لو كان حياً لكان له الثلث بسبب أن الميت لم يخلف من الورثة غير ابن وبنتين وإذا كانت الوصية صدرت بثلث المال فكان هذا الموصي أوصى لأولاد أحمد بتسعي ماله ولأولاد محمد بثلث ماله فمعنا تسعان وثلث مخرج التسعين من تسعة والثلث من ثلاثة والثلاثة داخلة في التسعة، فمسألة الوصيتين من تسعة للموصى لهم بالثلث ثلاثة وللموصى لهم بالتسعين سهمان صار مجموع ذلك خمسة، والرد حاصل فيقسم الثلث على هذه الخمسة فيكون لأولاد أحمد خمسا الثلث ولأولاد محمد الباقي من الثلث وهو ثلاثة أخماسه اهـ، ما خطر لي من الشبهة التي قامت عند هذا الرجل ولا شبهة وكيف يحسن أن تقوم هذه الشبهة عند من تصدى للفتوى والتصنيف والاشتغال وآفة ذلك عدم التثبت والإهمال وعدم التروّي، والحامل لهذا الرجل على هذه الكتابة أنه ضنين بنفسه ويعتقد أنه إذا فهم شيئاً لا يمكن أن يكون الصواب إلا ما فهمه ويضن الشخص بنفسه حتى يقع في المهالك والمرجو من الله سبحانه وتعالى السلامة من ذلك، ومن حق هذا الرجل أن لا يكتب في شيء الجواب حتى يراجع كتب الأصحاب اهـ كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/173)
البلقيني ، وإذا تأملته مع الإفتاء السابق بالخمسين وجدت الشبهة التي راجت على هذا الرجل المعاصر للبلقيني هي بعينها التي راجت على ذلك المفتي بالخمسين فالآفة فيهما واحدة وهي ما ذكره من الإهمال وعدم التثبت والتروّي، والحامل عليهما واحد وهو ما ذكره أيضاً من رؤية الإنسان لنفسه وأنه لا أعلم منه وأنه إذا فهم شيئاً لا يتطرق إليه خطأ وكل ذلك من أقبح الأخلاق التي يجب اجتنابها وأشنع الأوصاف التي لا يرضى بها إلا من شدت عليه الشقاوة أطنابها ثم قال البلقيني ما حاصله: وقد آن كشف قناع هذه المسألة وبيان أنها ليست مشكلة وذلك منحصر في أربعة أبحاث: الأول: أن أولاد محمد هل يجعلون بمنزلة أبيهم ويكون لهم ما يستحقه أبوهم لو كان حياً فهو الموصى به لهم أو يقدر كأن أباهم حي وكأن الموصي مات عن ابنين وبنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم وحكم ذلك يعرف من مسألة قررها الأصحاب وهي ما إذا كان للشخص ابن وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان أو ابنان وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فالمعروف في هذه المسألة أن لزيد في الصورة الأولى الثلث، وفي الثانية الربع فهذا هو الصحيح المعروف بين الأصحاب ووجهه أنا نقدر ابناً آخر موجوداً وكأنه أوصى لزيد بمثل نصيب أحد ابنيه في الصورة الأولى أو أحد بنيه في الصورة الثانية وإذا كان الأمر كذلك لم يقسم بالاتفاق إلا ما قررناه فكذلك عند التقدير، وقال الأستاذ أبو إسحق لزيد في الصورة الأولى النصف وله في الثانية الثلث. قال في الروضة: الصحيح الأول، وفي النهاية أن هذه الحكاية عن الأستاذ حكاها الشيخ الإمام عنه، قال الإمام وهذا الذي حكاه عن الأستاذ متجه من طريق المعنى مختل جداً من صيغة اللفظ ولكنه ليس معدوداً من مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأستاذ مسبوق فيه باتفاق الأصحاب على مخالفته فإن صار إلى مذهب بعض المتقدمين أي ك مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ كما يعلم مما يأتي فهو مذهب من المذاهب وليس(5/174)
معدوداً من مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وإن لم يوافق ما نقل عنه بعض المتقدمين فلا يظن به على علو قدره مخالفة الإجماع ولعله ذكر ما ذكره إظهاراً لوجه من الاحتمال من غير أن يعتقده مذهباً اهـ، فإذا علمت ذلك علمت أن الموصى به لأولاد محمد إنما هو الربع وكأن الميت خلف ابنين وابنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لهم إلا الربع بالاتفاق وعلى وجه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/175)
أبي إسحق للموصى لهم به الثلث لا بالمعنى الذي فهمه ذلك الرجل بل لما يأتي في البحث الثاني، وبذلك يتبين لك مخالفة ما أفتى به ذلك الرجل للأصحاب كلهم، واعلم أن الذي في السؤال بمثل نصيب أبيهم وليس ذكر المثل بشرط بل لو حذفه لكان الحكم كذلك نظير ما إذا كان له ابنان وأوصى لزيد بنصيب ابن ثالث لو كان فقد قال الرافعي القياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود، ومراده بذلك أن من كان له ابن وارث فأوصى لزيد بنصيب ابنه وهو قد قدم فيها وجهين أصحهما عند العراقيين و البغوي بطلان الوصية وأصحهما عند الإمام و الروياني وغيرهما وبه قطع أبو منصور صحتها أي وهذا هو المعتمد الذي صححه الشيخان في المرابحة وإذا صححناها فهي وصية بالنصف على الصحيح، وقيل بالكل حكاه البغوي إذا عرفت ذلك فنقول لو أوصى لأولاد محمد بنصيب أبيهم لو كان حياً فعلى ما قال الرافعي أنه القياس وفرعنا على الوجه الأول، أي وهو الضعيف تكون الوصية باطلة وعلى الثاني وهو الذي عليه الفتوى تكون الوصية صحيحة، وقول الرافعي القياس أنه على الوجهين الخ، إما أن يريد الوجهين في الصحة والبطلان وهو ظاهر، وإما أن يريد الوجهين في المقدر وقد قرر في المقدر ما قدمناه من أنها وصية بالنصف على الصحيح والمعنى بمثل نصيب ابني وعلى هذا فلا فرق في مسألة نصيب ابن ثالث بين إثبات لفظة مثل وحذفها لكن حكى الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب أنهم فرقوا فقالوا إذا أوصى بمثل نصيبه دفع إليه نصيبه لو كان زائداً على أصل الفريضة وإذا أوصى بنصيبه دفع إليه لو كان من أهل الفريضة فعلى هذا إذا أوصى بنصيب ثالث لو كان وله ابنان فالوصية بالثلث ولو أثبت لفظ مثل فالوصية بالربع وبذلك نقول في مسألتنا إذا سقط لفظ مثل وفرعنا على ما حكاه أبو منصور عن الأصحاب أي وهو ضعيف فإن أولاد محمد يكون الموصى لهم به الثلث بالمعنى الآتي وعن ذلك ينشأ سؤال قوي وهو أن الصحيح في مسألة من أوصى لشخص بنصيب(5/176)
ابنه وله ابن أن الوصية بالنصف والمعنى بمثل نصيب ابنه وأنه لا فرق بين حذف لفظة مثل وإثباتها إلا في وجه ضعيف جداً حكاه البغوي وههنا المحكي عن الأصحاب كما قال أبو منصور : التفرقة بين ابن ثان أو ثالث فما السبب في ذلك؟ وعلى الجملة فالصحيح في الصورة المسؤول عنها أن أولاد محمد إنما أوصى لهم بالربع بالمعنى الآتي اهـ كلام البلقيني في هذا المبحث وهو صريح أي صريح في أن كلام الأصحاب مصرح ببطلان الإفتاء في مسألة السؤال بالخمسين وما أشار إليه البلقيني أخيراً من الإشكال مبني على تسليم حكاية أبي منصور الفرق المذكور والمعتمد أنه لا فرق وأن تلك الحكاية ممنوعة فلا إشكال وسيأتي في الكلام على الجواب الثالث ما يتضح به رد كلام أبي منصور من جهة المعنى أيضاً فراجعه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
(المبحث الثاني) أنا إذا جعلنا لأولاد محمد الربع على الصحيح أو الثلث على الضعيف وهو رأي أبي إسحق أو عند حذف لفظة مثل على ما حكاه أبو منصور فهل معناه من أصل المال أو هو من الباقي بعد التسعين الصواب الذي لا يسوغ لأحد مخالفته إن المعنى إنما هو الثاني وسبب ذلك أن أباهم لو كان حياً إنما يأخذ نصيبه بعد التسعين فالمشبهون به كذلك بطريق الأولى وكان هذا الشخص له ثلاثة بنين أوصى لزيد بتسعي ماله ولعمرو بنصيب أحد بنيه ومن تخيل خلاف ذلك فقد حاد عن طريق الصواب وكتب الأصحاب مملوءة من الفروع الشاهدة لما قررته فلم أحتج إلى نقل ذلك لكثرته.(5/177)
(المبحث الثالث) أنا إذا جعلناه من الباقي بعد التسعين فهل يقسم الثلث عند الرد على النسبة أو يدفع لأولاد أحمد تسعا المال والباقي من الثلث وهو التسع لأولاد محمد الحق الذي لا تجوز مخالفته أنا نقسم الثلث عند الرد على النسبة ولا يجوز هذا الاحتمال الثاني إذ يلزم عليه أن من أوصى لزيد بثلث ماله ولعمرو بنصيب أحد بنيه الثلاثة وحصل رد أن لا يدفع لعمرو شيء وكذلك يلزم أن هذا الشخص لو كان أوصى لأولاد أحمد بثلث ماله ولأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم أن لو كان حياً لا يدفع إليهم شيء عند الرد وهذا باطل ولوضوح بطلانه لم أحتج إلى نقل كلام الأصحاب الدال على ما قررت أنه الحق فإن ذلك مما لا يخفى.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/178)
(المبحث الرابع) أنا هل نعتبر عدد أولاد الموصي حالة الوصية أو حالة الموت هذا مما لم أقف فيه على نقل والذي يظهر لي أن الوصية إن صدرت منه بنصيب أحد أبنائه الثلاثة مثلاً اعتبر العدد حالة الوصية، وأما لو أوصى بمثل نصيب زيد وهو من أولاده مثلاً فالمعتبر حالة الموت لا محالة وعلى هذا تتخرج مسألتنا فإن الوصية صدرت لهم بمثل نصيب أبيهم إن لو كان أبوهم حياً وذلك مجهول حال الوصية والعاقبة أسفرت عن العلم به، فإن قال قائل فقد يكون غرض الموصي النصيب بتقدير العدد الموجود عند الوصية، فالجواب: أنا لا اطلاع لنا على مقصوده وإنما الحكم دائر مع مقتضى الألفاظ اهـ، وظاهر كلام الأئمة في الوصية أن المدار على العدد الموجود عند الموت لا الوصية مطلقاً ومما يصرح به قولهم العبرة في الوصية للوارث بكونه وارثاً عند الموت وإن كان عند الوصية غير وارث لا الوصية وإن كان عندها وارثاً فلو أوصى لأخ لا يرثه غيره عند الوصية ثم حدث له ابن كانت وصية لغير وارث أو عكسه كانت وصية لوارث فلم يعتبروا علم الميت ولا أداروا عليه حكماً هنا فكذلك في مسألة البلقيني لأنه هنا إذا تعمد المنهي عنه من غير تمييز بعض الورثة عن بعض ولم ينظروا إليه وإنما نظروا للوارث حالة الموت دون الوصية فأولى أن لا ينظر لجهله بعدد الأولاد ولا لعلمه به في مسألة البلقيني وإنما النظر لهم عند الموت سواء وافق عددهم عنده ظنه أم خالفه، فإن قلت قضية كلام الأذرعي اعتبار الوصية مطلقاً فإنه لما نقل قولهم لو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له وارث بطلت الوصية قال لو كان له عند الوصية ابن وارث ثم مات قبله هل ينظر إلى حالة الإيصاء أو الموت والقلب إلى الأول أميل اهـ، قلت: الأوجه هنا أيضاً الاعتبار بوقت الموت وبه يصرح قول الدارمي وإن استشكله الأذرعي وقال إنه لم يره لغيره لو قال بمثل نصيب أحد ولدي وله ذكور وإناث وكافر وعبد وقاتل فلا شيء فإن عتق العبد وأسلم الكافر قبل الموت(5/179)
فله مثل نصيب الأقل اهـ فهو صريح في أن العبرة في أن له وارثاً أو غير وارث بحالة الموت لا الوصية فيؤيد ما ذكرته ويتبين أنه المنقول فاعتمده إذا عرفت جميع ما قرره البلقيني في أولاد محمد الموصى لهم بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً عند موت الموصي من أن الوصية لهم إنما هي بالربع على المعتمد نظراً إلى تقدير ابن ثان وكأن الميت خلف ابنين وبنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم والثلث على الضعيف نظراً إلى عدم ذلك التقدير اتضح لك ما قرر في مسألة السؤال التي هي عين مسألة البلقيني هذه من أن الموصى به لأولاد الولد إنما هو السبعان على المعتمد نظراً إلى تقدير ابن ثان وكأن الميت خلف ابنين وبنتاً وأوصى لأولاد ولده بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً إذ بهذا الفرض يكون الموصى به السبعين بلا شك والخمسين على الضعيف نظراً إلى عدم ذلك التقدير، وحينئذ فالمفتي بالخمسين مع وجود مثل مفت بوجه ضعيف معدود من المذهب بل محكي عن الأصحاب لكن المعتمد عندهم خلافه فليكن ذلك الإفتاء في حيز النبذ والطرح عقوبة لمستحله حتى لا يعود إلى مثل ذلك وتمسكه بالعرف الذي أشار إليه سيأتي رده إن شاء الله تعالى عند الكلام على جوابه وسيأتي في الكلام على بقية الأجوبة ما يزيد ذلك وضوحاً وبياناً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/180)
(الكلام على الجواب الأول) قوله: فلهم سبعا تركة الموصي الخ، هو الصواب الذي لا تجوز مخالفته كما مر، وقوله كما لو كان له ابنان وأوصى بمثل نصيبهما سبق قلم أو أن نسخته من شرح الروض محرفة من نصيب أحدهما إلى نصيبهما ولم يدرك تحريفها فبادر إلى كتابة ما فيها من غير تأمل، والصواب ما فيه وهو لو أوصى وله ابن بمثل نصيب ابن ثان لو كان فهي بالثلث كما لو كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما فإن هذه هي التي نظير المسألة وبيانه أنه علم من كلامهم هنا أنه في مثل هذه يقدر وجود المشبه به ثم يزاد مثل نصيبه للموصى له فمن ثم كانت الوصية في المثال المذكور بالثلث وإذا كانت فيه بالثلث لزم كونها في مسألة السؤال بالسبعين لأنك تقدر وجود أبيهم ثم تزيد مثل نصيبه وإذا قدرت وجوده كان له الخمسان من خمسة فتزيد عليها اثنين للموصى لهم فيكون لهم اثنان من سبعة فاتضح أن ما ذكرته هو النظير لا ما ذكره ذلك المفتي إذ لا مشابهة بينه وبين مسألة السؤال بوجه كما هو واضح جلي قوله، نعم إن قال الموصي أولاد ابني على ميراث أبيهم الخ عجيب منه مع إفتائه بالسبعين في أوصيت لهم بميراث أبيهم وأي فرق بين الصورتين لأنه إن جرى على المعتمد الذي رجحه الشيخان من أنه لا فرق بين الإتيان بمثل وحذفها فلا فرق بين الصورتين أو على خلافه الذي حكاه الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب فكذلك فما المعنى الذي أوجب التفرقة المذكورة وكأنه تخيل أنه إذا أتى بنحو أوصيت كان ذلك قرينة على تقدير المثل وإذا لم يأت بذلك لم يكن هناك داع لتقديرها وهذه غفلة ظاهرة عن مأخذهم في تقدير المثل وهو ورود الوصية سواء أكانت بلفظها أم بما يتضمنه أو يستلزمه على مال الموصي لا على مال أبيهم الميت المجعول لهم نصيبه إذ لا مال له في تركة أبيه لموته قبله فتعين أنه ليس الغرض إلا التقدير لما يأخذه أولاده من تركة جدهم بما كان يستحقه أبوهم لو فرضت حياته عند موت الموصي وإذا كان هذا هو ملحظ(5/181)
الأصحاب في تقدير المثل فلا فرق كما هو جلي بين أن يقول أوصيت بميراث أبيهم أو هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم على ميراثه لأن الداعي الذي ذكرته أخذاً مما ذكروه موجود في كل من الصيغ فالفرق بينهما لمجرد ذلك الأمر المتخيل خطأ صراح لا وجه له، فالصواب أن لأولاد الابن السبعين في الصور الأربع المذكورة في السؤال، نعم في صراحة هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم على ميراثه لو كان حياً نظر وإنما تتضح صراحتهما إن ضم إلى ذلك بعد موتي، وأما بدونه فلا، بل لا يبعد أنه كناية لاحتماله فهو نظير قوله هذا لفلان من مالي المصرح فيه بأنه كناية لاحتماله الهبة الناجزة والوصية، فإن قلت التعبير بالميراث بمنزلة قوله بعد موتي فليكن ذلك صريحاً لذلك، قلت كونه بمنزلته ممنوع لأن الميراث إنما يفهم ذلك بطريق الاستلزام لا الصراحة كما هو واضح لا سيما وتقدير مثل الذي سبق أنه لا بد منه يبعد ذلك الاستلزام لأن المماثلة لا تقتضي التساوي في سائر الاعتبارات فاتضح أن التعبير بالميراث لا يساوي التعبير ببعد موتي فلم يتجه إلحاقه به في الصراحة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/182)
(الكلام على الجواب الثاني) قوله وله ابن وارث فيه إيهام أن هذا قيد في ذكر المثل وليس كذلك بل هو جار عند حذفه أيضاً قوله بمثل نصيب ابني صح كما قاله البغوي الخ فيه تحريف قبيح وصوابه بمثل نصيب ابن بالتنوين، ويفرق بين الصحة في هذه والبطلان في بمثل نصيب ابني ولا ابن له وارث بأن الإضافة إليه تقتضي أنه إنما ربط الوصية بمثل نصيب ابن له موجود له نصيب فإذا لم يكن له ابن كذلك لغت كما دل عليه كلام الموصي، وأما إذا لم يضفه إليه فإنه لم يعتبر ذلك وإذا لم يعتبره فتصحيح اللفظ ما أمكن أولى من إهماله وهو هنا ممكن بتقدير نصيب ابن لي لو كان فاتضحت الصحة هنا والبطلان فيما مر، ويؤيد ذلك قول الأئمة لو قال أعطوا فلاناً شاة فمات ولا غنم له اشتريت له شاة، وإن قال شاة من غنمي فمات ولا غنم له بطلت الوصية، والفرق أنه هنا اعتبر وجود غنم له يعطي منها فإذا لم توجد بطلت الوصية لعدم ما يتعلق به، وثم لم يعتبر ذلك فاشتريت له تصحيحاً للفظ ما أمكن قوله والذي يظهر الخ، كلام ليس في محله من وجوه عديدة لا تخفى على من له أدنى اشتغال وآفة المبادرة إلى مثل هذا السفساف ما مر عن شيخ الإسلام البلقيني وأي جامع بين مسألة البغوي وصورة السؤال سوى مجرد الصحة في كل منهما وليس الكلام فيها بل في قدر حصة ما للموصى لهم وليس في مسألة البغوي تعرض لمقدر أصلاً بل لمجرد الصحة كما صرح هذا المفتي به، وإذا علم أنه ليس فيها تعرض لغير الصحة فكيف يقيسها عليها ويستنتج من القياس أن للموصى لهم خمسي التركة هذا مما لا ينبغي صدوره من عاقل فضلاً عن فاضل، وقوله لو كان حياً عجيب أيضاً فإن هذا مصرح به في لفظ الموصي كما في السؤال، وقوله فالموصى به خمسا التركة مفرع على غير أصل إذ الذي قبله لا يقتضيه بوجه، وقوله وهو مقتضى الضابط الخ غير صحيح، بل هو ناشىء عن عدم فهم ذلك الضابط وإلا فهو صريح في السبعين لا الخمسين كما يعلم ذلك من قول الأصحاب لو أوصى بمثل(5/183)
نصيب أحد أبنائه فرض كابن آخر معهم فلو كانوا ثلاثة فالوصية بالربع أو أربعة فبالخمس وهكذا وضابطه أن تصحح الفريضة الخ، فهذا في ابن موجود ففي معدوم قدر وجوده يفرض وجوده ثم يزاد مثل نصيبه بدليل قولهم أيضاً لو كان له ابن وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان لو كان أو ابنان وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثالث لو كان لزيد في الأولى الثلث وفي الثانية الربع وكأنه أوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه في الأولى أو أحد بنيه في الثانية ولو كان الأمر كذلك لم يقسم بالاتفاق إلا ما قررناه فكذلك عند التقدير. وقال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/184)
أبو إسحق له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث ومر عن إمام الحرمين أن مقالته هذه ليست معدودة من المذهب اتفاقاً فعلى هذه المقالة الشاذة التي اتفق الأصحاب على أنها ليست من المذهب يصح ما قاله هذا المفتي لأن ملحظ الخلاف أن الموصي بنصيبه هل يجعل من الورثة اعتباراً للمماثلة بما قبل القسمة، وعبارة الإمام بما قبل الوصية والمعنى واحد أو يقدر زائداً اعتباراً لها بما بعد القسمة مع مزاحمة الوصية، وعبارة الجواهر والمماثلة مرعية بعد القسمة لا قبلها ف أبو إسحق كمالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما يقول بالأول والأصحاب كلهم على الثاني وهو الصواب لأن الأمر محتمل، وعند الاحتمال يجب التنزيل على الأقل لأنه اليقين وما زاد عليه مشكوك فيه فلا يجوز إخراجه عن ملك الورثة المستحق لهم بطريق الأصالة المفيدة لليقين أو الظن القوي بمجرد الشك، وبهذا يعلم رد قول الإمام السابق أن ما حكي عن أبي إسحق متجه من طريق المعنى فأي اتجاه له مع ما ذكرته فتأمله، فعلى الأول يجعل أولاد الابن هنا بمنزلة أبيهم قبل القسمة ويكون ما يستحقه أبوهم لو كان حياً هو الموصي به لهم والذي كان يستحقه الخمسان لأن معه ذكراً آخر وبنتاً فيكونان، أعني الخمسين اللذين يستحقهما الأب بتقدير حياته لبنيه الموصى لهم بمثل نصيبه لو كان حياً وعلى الثاني الذي عليه الأصحاب كافة كما علمت يقدر كأن أباهم حي وكأن الموصي مات عن ابنين وبنت ثم يزاد على ذلك مثل نصيب الابن المقدر وجوده وهو اثنان من خمسة ثم يعطي ذلك وهو السبعان للموصى لهم فاتضح أن استحقاقهم للسبعين هو الذي عليه الأصحاب كافة وللخمسين هو الذي يقول به الأستاذ أبو إسحق لكنه شاذ خارج عن المذهب فلا يجوز لأحد أن يعوّل عليه ولا أن يلتفت إليه، وقوله فمسألة السؤال من ثلاثة الخ، هذا هو سبب غلطه كما مر عند سوق كلام البلقيني لأنه ظن أن ذلك الضابط جار على حد سواء فيما إذا كان الموصي بمثل نصيبه موجوداً أو مقدراً وجوده(5/185)
وليس الأمر كذلك بالاعتبار الذي فهمه وإنما هو جار فيهما بالاعتبار الذي قررته وهو أنه عند الوجود يزاد مثل ما للموصي بمثل نصيبه، وعند التقدير يزاد ذلك المقدر وجوده ثم يزاد مثل ماله كما صرح به الأصحاب كافة فيما مر آنفاً، وقوله ومن جعل له سهماً حتى صارت القسمة أسباعاً فقد خالف الفقهاء الذين أفتوا بالخمسين يقال عليه هذا مما ينادي على صاحبه بالجهل المفرط، لأن أولئك الفقهاء المراد بهم مثل الفقيه الصالح
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/186)
ابن عبسين و ابن مزروع كما مر إن وافق كلامهم كلام الأصحاب، فالحجة في كلام الأصحاب وإن خالف كلامهم كلام الأصحاب فلا يلتفت إليهم كما مر مبسوطاً أوّل الجواب، فإن قال هذا المحتج بكلام أولئك الفقهاء أن هؤلاء يفهمون كلام الأصحاب ولا يخالفونه فأنا أقلدهم في ذلك من غير نظر لكلام الأصحاب قلنا له هذا أوّل دليل على الجهل، لأن المفتي إذا لم يكن له نقد يميز به بين كلام الأصحاب ومخالفه ولا بين الصحيح وغيره ولا بين كلام الشيخين وما خالفه فالإفتاء عليه حرام بالإجماع، وقد تقرر أن الأصحاب كافة على السبعين لا الخمسين فإن صح ما ذكر عن أولئك الفقهاء مع ذكر مثل فهو موافق لما مر عن أبي إسحاق، وقد مر عن الإمام أن ما قاله أبو إسحق ليس معدوداً من المذهب فهو شاذ خارج عن المذهب وقواعده وإنما هو موافق لمالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ أو مع حذفها فهو موافق لما حكاه أبو منصور عن الأصحاب لكنه مع ذلك ضعيف كما جرى عليه الشيخان والمتأخرون فلا تجوز مخالفتهم وإذا علم أنه كذلك فكيف يسوغ لمفت على مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن يترك ما عليه الأصحاب ويفتي بشاذ خارج عن المذهب ما ذاك إلا لتعصب أو جهل قبيح، وذلك موجب للمقت والغضب نعوذ بالله تعالى من مقته وغضبه، وقوله وصورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم يقال عليه هذا من الكذب أو الجهل لأنه نفسه نقل فيما مر صورة البغوي و الخوارزمي المفروضة في ابن ميت أو معدوم بالكلية بدليل قوله: والتقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان: فكيف مع نقله لهذا يزعم أن صورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم وكيف راج عليه ذلك مع ذكر الروضة وأصلها كالأصحاب لمسائل الموصي بمثل نصيبه الموجود والمقدر الوجود وذكرهم الخلاف في كل من القسمين والتفريع الطويل على ما يتعجب من أجله من رأي قول هذا المفتي وصورة الروضة وغيرها الخ، وقوله ومن المحال الخ، يقال عليه هذا من(5/187)
السفساف الذي لا يصدر مثله ممن له أدنى مسكة لما تقرر أن كلام الأصحاب مشتمل على الصورتين وأنهم في الموجود يجعلون مثل ما للموصي بنصيبه زائداً على سهام المسألة، وفي المقدر وجوده يقدرون وجوده وسهمه ثم يزيدون مثل سهمه على المسألة هذا مما لا مرية فيه، فإن فرض صدقه في أن الفقهاء الذين ذكرهم أفتوا بالخمسين في عين صورة السؤال فهم قد جهلوا مسألة الروضة وكتب الأصحاب ولكنا لا نعتقد ذلك فيهم وإنما نحمل ذلك على أنه تحريف من الناقل عنهم، وقوله ووهم من قاسها عليها مع وضوح الفرق يقال عليه الوهم والخطأ إنما هو ممن يخالف كلام الأصحاب الصريح الذي لا يقبل التأويل من غير مستند ثم يتوهم أن المتمسكين بكلام الأصحاب قاسوا مع وضوح الفرق وليس الأمر كما توهم بل لا قياس في ذلك، وإنما الحكم الذي هو استحقاق السبعين منصوص في كلام الأصحاب كما سبق بيانه في كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/188)
البلقيني ، وفيما قررته المرة بعد المرة في الكلام على جواب هذا الزاعم لما كان الأحرى به الإمساك عنه وعدم الدخول في ورطته وأي ورطة أقبح من ورطة التقوّل في الدين بالرأي من غير مستند يعتد به أو يعذر صاحبه في التمسك به، وقوله فإن الموصي في الحادثة الخ كلام لا يجديه شيئاً ومن أين له ذلك والمراعى في الوصايا ونحوها إنما هو دلالات الألفاظ لا القصود إلا إذا علمت واحتملها اللفظ والذي يدل عليه لفظ الموصي في الحادثة هو ما قاله الأئمة وقد مر لك أن الإمام قال عن مقالة أبي إسحق الموافقة لما انتحله هذا المفتي أنها مختلة جداً من جهة اللفظ، وقوله ولا شك الخ هو من تهوّره أيضاً ولو أراد السلامة من ذلك لقال ولا شك أن الموصي إن قصد ذلك وعلم، كان الموصى له منزلاً منزلة أبيه على أن في الجزم بذلك عند القصد نظراً لأن الذي دل عليه إطلاق الأصحاب أنه لا فرق فيما ذكروه في الصورتين السابقتين هو مقتضى لفظ الموصي الصريح فيه، والصريح لا يقبل الصرف عن معناه بالقصد، ويؤيد ذلك أن الأصحاب لم يعوّلوا على القصد هنا أصلاً وإنما رتبوا على كل صورة مقتضاها الدال عليه لفظها عندهم، فإن قلت قد علم من كلامهم في محال أن القصد حيث احتمله اللفظ يرجع إليه وسيأتي في الجواب الأخير من ذلك عدة مسائل، قلت تلك المسائل التي عوّلوا فيها على القصد ليس فيها لفظ صريح صرفه القصد عن مدلوله بالكلية فلا يستدل بها على ما هنا كما سيأتي بسط ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى، فإن قلت قد ذكر الأئمة الرجوع إلى إرادة الموصي والدعوى بها على الوارث وأنه يحلف على نفي العلم بها، قلت هذا من أعدل شاهد لنا لأنهم لم يذكروا ذلك إلا في الإيصاء بنحو الجزء أو الحظ أو السهم أو النصيب، وكل من هذه محتمل للقليل والكثير فأثرت فيه الإرادة بخلاف ما نحن فيه فإنه صريح في شيء معين كما صرحوا به فلا تقبل دعوى إرادة مخالفة لذلك الصريح، فإن قلت ذكروا ذلك أيضاً فيما إذا أوصى(5/189)
من له ابن وبنت لزيد بمثل نصيب الابن ولعمرو بمثل نصيب البنت فقالوا تارة يريد بمثل نصيبها قبل دخول الوصية عليها فيكون للأوّل الخمسان وللثاني الربع أو بعد دخول الوصية عليها فيكون للأوّل الخمسان وللثاني السدس، قلت هذا من أعدل شاهد لنا أيضاً لأنهم لما رأوا أن اللفظ هنا محتمل فرقوا بين الإرادة وعدمها ولما رأوه في مسألتنا غير محتمل لم يفرقوا بل أطلقوا ما مر ولم يجعلوا للإرادة مدخلاً في ذلك وقوله لا ينبغي لمفت أن يفتي بغير ذلك الخ، هذا من جملة تهوّره وجسارته وكأنه ظن أن غيره مثله في عدم فهمه لكلام الأصحاب بالكلية حتى وقع فيما وقع فيه من الخطأ والخطل والوهم والزلل، وقوله فالمعروف المعهود الخ، هذا مما يسجل عليه بالاختلال في الفهم والتأمل كما لا يخفى وإنما الذي كان ينبغي له أن يذكر مسألة القصد أوّلاً ويتكلم عليها لأنها غير مسألة العرف وأن أهل جهتهم قد اطرد عرفهم بأنهم إنما يريدون أن الحافد يأخذ نصيب أبيه لو كان حياً وبفرض وجود هذا العرف واطراده في جهتهم لا يعوّل عليه بناء على الأصح أن العرف الخاص لا يرفع اللغة ولا العرف العام ولا يعارضه، ومن ثم ضعف الجمهور قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/190)
القفال : إن العادة المطردة في ناحية تنزل منزلة الشرط قال: فلو عم الناس اعتياد إباحة منافع الرهن للمرتهن كان ذلك بمنزلة اشتراط عقد في عقد فيفسد الرهن فجعل الاصطلاح الخاص بمثابة العادة العامة، واتفق الجمهور على ضعف قوله حتى تلميذه القاضي حسين فإنه قال: ويحكى عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا إن كان الموصي بالدابة مصرياً فإطلاق هذا اللفظ منه يحمل على الحمار، لأن عادتهم جارية بركوب الحمر فلا ينصرف إلى غيرها وهذا فاسد، لأنه عادة بلد واحدة وهي لا تعتبر وإنما يعتبر الأغلب من عادات البلاد اهـ، فتأمل قوله لأنه عادة بلد واحدة أي إقليم واحد، لأن المراد ليس خصوص مصر بل جميع إقليمها فإذا لم يعتبر تخصيصهم الدابة بالحمار إن فرض صدق ذلك منهم وإلا فالذي نقله الأئمة أن عرفهم إطلاق الدابة على الخيل والبغال أيضاً فكذلك لا يعتبر هنا العرف الذي ذكره هذا المفتي لأنه إن سلم له وجود هذا العرف يكون خاصاً والعرف الخاص لا يرفع مقتضى اللغة ولا العرف العام إلا لعارض كما يعلم من تتبع كلام الأئمة، فمن ذلك بحث الأذرعي أن الوصية بالعود من البدوي الذي لا يعرف إطلاق العود على غير الرمح يحمل على الرمح ويفرق بين هذه وما نحن فيه بأن العود لفظ مشترك والعرف له دخل في تعين بعض محامله وما نحن فيه لفظ صريح في مقتضاه الذي مر تقريره وتفصيله، والعرف لا دخل له في الصرائح فما بحثه الأذرعي من الأوّل وما ذكره الأئمة في الوصية بالنصيب من الثاني بل إذا تأملت قولهم المذكور وجدتهم مصرحين بأن الصريح لا يغير عن مقتضاه وإن اطرد العرف العام بخلافه، وبذلك صرحوا في مواضع منها قولهم ليست المعاطاة بيعاً حتى في المحقرات وإن أطبق الناس على عدها بيعاً في ذلك، وقوله عن الناشري والعرف قد يضعف فيطرح الخ، قد يقال عليه ما زعمته من العرف هنا ضعيف فهو مطروح وزعمك قوته لا يفيدك شيئاً وإن سلم لك لما علمت أن العرف الخاص لا يرفع اللغة ولا العرف العام،(5/191)
وأن العرف وإن عم إنما يؤثر في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح وأنه مطلقاً لا ينزل منزلة الشرط، وقوله وقد تكلم العلماء في البيع والشراء بالدينار الخ، هذا من الخلط الناشىء عن عدم الفهم، ألا ترى إلى قول الرافعي العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج فيها غالباً ولا تؤثر في التعليق والإقرار بل يبقى اللفظ على عمومه فيهما، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب سابق وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب إلى آخر كلامه وإلى قول غيره لا خلاف أنه لو اشترى منه متاعاً بألف درهم في بلد دراهمه ناقصة أنه يلزمه الناقصة، والفرق أن البيع معاملة والغالب أن المعاملة تقع فيما يروج فيها بخلاف الإقرار إذا علمت ذلك ظهر لك الفرق بين نحو البيع والوصية بأن القصد في البيع ما يروج، فمن ثم حكمت العادة فيه ونزل المطلق فيه على غالب نقد البلد إن كان فيه غالب وإلا وجب بيانه وليس ذلك مقصوداً في الوصية إذ لا معاوضة فيها فلا يقصد فيها رواج ولا عدمه، وأيضاً فوقت الملك فيها إنما يدخل بالموت وقد يكون الزمن الذي بينه وبين الوصية طويلاً فلم يمكن اعتبار الغالب وقت الوصية، لأنه لا ملك فيه ولا وقت الموت لأنه مجهول وقت الوصية فتعين النظر فيه لمدلول اللفظ ولم يكن للعرف دخل فيه أصلاً كما اتضح بما قررته وحررته فاعلمه، وقوله لا يمكن أن يكون مراد العامي الخ، يقال عليه هذا إلى المجازفة أقرب منه إلى الإفتاء وما الذي سلب الإمكان الأعم أو الأخص وإنما غاية الأمر أن يقال يبعد من العامي أن يريد أن للحافد سهماً ولوالده سهماً ومع ذلك فهذا لا يؤثر لأنا ندبر الأمر في الوصية ونحوها على مدلول اللفظ سواء أقصده اللافظ أم لا؟ وما أحسن قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/192)
القاضي حسين وأقروه وههنا مقدمة ينبني عليها أكثر مسائل الوصية وهي أن لفظ الموصي إذا احتمل معنيين حمل على أظهرهما وإذا احتمل قدرين حمل على أقلهما اهـ، ولو تأمل هذا المفتي مثل ذلك لظهر له الحق وزال عنه عمى العصبية وسلم من داء الحمية، وقوله وهذا مما لا يشك فيه ذو لب يقال عليه التنوين فيه للعهد أي ذو لب سقيم وقلب لم يلق السمع لما قاله الأئمة وهو شهيد وإنما ولع بهواه ودندن على ما أغواه وفي سحيق الآراء وسخيف الإذراء أرواه وأهواه أعاذنا الله سبحانه وتعالى وإياه من هوى متبع وأيقظنا وإياه لاجتناب الآراء التي توقع في هوّة الشذوذ والغرابة والبدع وأقبل بقلوبنا على ما يرضيه عنا على الدوام وأخذ بأزمة نواصينا إلى الدأب فيما ينفع الناس ويخلصهم من ورطة العقاب والآثام إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم وبشهادة الله لم أقصد تنقيص ذات هذا المفتي بكلمة مما سبق فإنه قد يكون معذوراً فيما برز عنه كما هو الظاهر من أحوال من تصدى لإفتاء الناس ونفعهم، وإنما قصدت بذلك التنفير عن مقالته فإني بالغت في تقصي كتب الأئمة فلم أر لها وجهاً يوافق الصواب، ولا يستحق أن يؤهل للخطاب فبالغت فيما سبق مني تنفيراً لمن لا أهلية له عن اعتمادها ومساعدة لذلك المفتي لئلا يعمل بفتواه في ذلك فيكون عليه من العقوبة غاية ازديادها، ختم الله لنا أجمعين بالحسنى من غير سابقة محنة ولا فتنة بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/193)
(الكلام على الجواب الثالث) قوله ولكن حكى أبو إسحق على ما جزم به الأصحاب جعلوا للموصى له في حذفها مثل نصيب الحي ويكون موضع أبيه حياً، ففي مسألتنا يكون له الخمسان اهـ وهذا الذي نقله عن أبي إسحق سبق قلم منه، وإنما هذا عن أبي منصور كما مر وإيضاحه يعلم من سوق كلامي الأستاذين ومقابليهما، قال الأصحاب: ولو كان له ابن أو ابنان أو ثلاثة فأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان أو ثالث أو رابع لو كان فالوصية في الأولى بالثلث وفي الثانية بالربع وفي الثالثة بالخمس وعلى هذا القياس. وقال الأستاذ أبو منصور : هذه الوصية إنما تتضمن إقامة الموصى له مقام الابن المقدر، فالوصية في الأولى بالنصف والثانية وبالثلث وهكذا، ولو قال أوصيت له بنصيب ابن ثان أو ثالث لو كان من غير لفظ مثل فهو كما لو قال بمثل نصيب ابن ثان لو كان قال الرافعي : والقياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود، وحكى عن الأستاذ أبي منصور أن الأصحاب فرقوا بين هذين اللفظين فيما إذا أضاف إلى الوارث المقدر ولم يفرقوا إذا أضاف إلى الوارث الموجود وقالوا إذا أوصى بمثل نصيب ابنه لو كان أعطى نصيبه زائداً على سهام الورثة وإن أوصى بنصيبه دفع إليه نصيبه من أصل سهام الورثة أو بمثل نصيب ابنه الموجود أو بنصيبه دفع إليه نصيبه زائداً على سهام الفريضة اهـ فتأمل كلامهم هذا تعلم أن كلام أبي إسحق مخالف لما حكاه أبو منصور عن الأصحاب لأن كلام أبي إسحق إنما هو في أن الوارث المقدر وجوده لا يحسب زائداً على أصل الفريضة، وإنما يقدر قيامه مقام المقدر وجوده سواء كانت الوصية بالنصيب أو بمثل النصيب، وقد علمت مما مر أن كلام أبي إسحق هذا شاذ مخالف لأئمة المذهب كافة مختل جداً من جهة اللفظ، بل والمعنى كما سبق وما حكاه أبو منصور إنما هو فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود ولم يفترق الحال بين الإتيان بمثل وحذفها أو إلى المقدر الموجود افترق الحال بين أن يأتي بمثل فيقدر(5/194)
زائداً أو يحذفها فيقدر غير زائد وهذا الشق الأخير هو الذي يناسب ما مر عن أبي إسحق فهو ضعيف مثله، ويفرق على طريقة أبي منصور بأنه في حالة التقدير إذا أتى بمثل كان صريحاً في الزيادة وإذا حذفها كان صريحاً في عدم الزيادة، ويرد بأنه إن قدر مثل لم يفترق الحال وإلا فالوصية باطلة من أصلها، لأن القائلين بالصحة عند حذفها إنما يعتبرون تقديرها كما صرحوا به، فحيث لا تقدير تعين الوجه القائل ببطلانها مطلقاً كما هو واضح ثم رأيت ابن الرفعة فرق على طريقة أبي منصور بأن صريح اللفظ في حالة وجود الولد يتضمن حرمانه وهو ليس للموصي أي فلم يفترق الحال بين الإتيان بمثل وحذفها بخلافه مع تقدير وجوده فإنه لا يتضمن ذلك فاعتبرنا مثل عند وجودها وحذفها اهـ موضحاً، وهو يرجع لما فرقت به وقد علمت رده فتأمله، فمن ثم اتضح ما عليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/195)
الشيخان من أنه لا فرق بين ذكر مثل وحذفها ولا بين الوارث الموجود والمقدر الوجود قوله ما لو أوصى بكون أولاد ابنه على ميراث أبيهم ليس في السؤال التصريح بلفظ الوصية ولا بما يقوم مقامه كقوله بعد موتي، ومن ثم قدمت أن في صراحة نحو قوله هم على ميراث أبيهم، نظراً وأنه لا يبعد أن يكون كناية قوله والذي نعتقده فيها الخ، هو اعتقاد غير صحيح إذ لا مأخذ له من كلامهم فالحق أنا حيث صححنا كونه وصية يكون كأوصيت بميراث أبيهم، وقد مر الكلام على ذلك في الكلام على الجواب الأول مبسوطاً فراجعه، وقوله وهو ما نقوله عن الماوردي في قوله أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه أنه يجعله موضعه بلا فرض زيادة إجماعاً، وبمثل ذلك نقول فيما إذا قال جعلته موضع أبيه أو أقمته في محله في إرثي اهـ، يقال عليه إن أردت بقولك وهو ما نقلوه أن هذا السابق بعينه منقول عن الماوردي فغير صحيح أو لا بعينه، وإنما يؤخذ منه فكان يتعين غير هذه العبارة على أن كلام الماوردي الذي نقلوه عنه ليس في أوصيت لابن ابني الخ، فقول هذا المجيب أنهم نقلوا كلام الماوردي في هذه الصورة غير صحيح أيضاً، ولعله تبع من لا يحرر النقل أو ظن أن صورة الماوردي هي هذه الصورة فجعلها هي وليس الأمر كما ظن مع أن النقل عن الماوردي في مشاهير الكتب كشرح الروض لشيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله تعالى وهو ليس على هذا الوجه ولا قريباً منه، وعبارته مع المتن ولو أوصى لزيد بمثل نصيب الابن الحائز، وأجاز الوصية أعطى النصف لاقتضائها أن يكون لكل منهما نصيب وأن يكون النصيبان مثلين فيلزم التسوية وإن رد الوصية ردت إلى الثلث ولو أوصى بمثل ما كان نصيباً له كانت وصيته بجميع المال إجماعاً لأنه لم يجعل لابنه نصيباً، صرح به الماوردي انتهت فهذه الصورة المنقولة عن الماوردي غير تلك الصورة كما رأيت وعند التأمل هذه لا تفهم حكم تلك وبيان ذلك أن الإيصاء بالنصيب أو مثله يشعر بالاشتراك والتماثل(5/196)
فلزمت التسوية بين الوارث والموصى له وبما كان نصيباً له أي لولا الوصية يشعر باستقلال الموصى له بكل المال فكانت وصية بكله ويوجه ذلك بأنه لما لم يتعرض لوصف النصيب بشيء دل النصيب في كلامه على أنه يريد مزاحمته لابنه ويلزم من مزاحمته له الاشتراك أن له النصف فحملنا لفظه على ذلك وأما إذا تعرض لوصفه بأنه النصيب الذي كان يأخذه لولا الوصية فإنه يكون مصرحاً بعدم المزاحمة وأن الوصية بكل المال وإن عبر بمثل ما كان ولم يقل بما كان ولما كان المعنى في هذه الأخيرة واضحاً أجمعوا عليه، وفي الأولى محتملاً اختلفوا فيه وأنت إذا تأملت مدرك كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/197)
الماوردي هذا وجدته غير جار في هذه الصورة التي قال ذلك المفتي أنهم نقلوه عنه فيها وهي قوله أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه، ووجه عدم جريانه فيها أن أباه لا نصيب له قبل الوصية ولا بعدها فساوى ذلك قوله أوصيت له بنصيب أبيه لو كان، وقد صرح هو في هذه أن أباه يقدر وارثاً ويزاد على التركة مثل نصيبه، فإن قلت ما وجه المساواة التي ادعيتها بين هاتين الصورتين، قلت هي واضحة، ومع ذلك فوجهها أن الأب الموصي بمثل نصيبه غير موجود فوجب التقدير فيه حتى تصح الوصية وإذا وجب تقدير وجوده لذلك فيقدر وجوده كما حصل بأوصيت له بمثل نصيب أبيه لو كان حياً كذلك يحصل بأوصيت له بما كان نصيب أبيه أي لو كان حياً فلا فرق بينهما في ذلك بوجه، ويفرق بينهما وبين صورة الإجماع السابقة بأن المشبه به فيها لما كان المال كله له حقيقة لولا الوصية كان الشبيه به مشعراً بمزاحمته ما لم يأت الموصي بلفظ صريح في خلاف ذلك وهو أوصيت لزيد بمثل ما كان نصيباً لابني والذي كان نصيباً له لولا الوصية الكل فكانت الوصية بالكل فعلم بهذا اتضاح ما بين الموجود والمقدر الوجود وإن كنا لا نفرق بينهما فيما مر، لأن ذاك المدرك سبق غير هذا، فالحق الواضح ما سبق من أنه لا فرق بين هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم موضعه أو أقمتهم مقامه في إرثي أو نحو ذلك، وإن كلام الماوردي لا يدل على ما يخالف ذلك بوجه ثم رأيت الزركشي في الخادم نقل عن الماوردي الفرق بما يؤيد ما ذكرته، وعبارة الخادم بعد قول الشيخين إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد لا يرثه سواه فالوصية بالنصف اهـ، أطلق ذلك وصورة المسألة إذا لم يقل مع ذلك بما كان نصيبه، فأما لو أوصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية بجميع المال إجماعاً صرح بذلك الماوردي وفرق بأنه في المسألة الأولى جعل لابنه مع الوصية نصيباً فلذلك كانت بالنصف وفي الثانية لم يجعل له نصيباً فلذلك كانت بالكل انتهت عبارة الزركشي فتأمل ما فرق(5/198)
به الماوردي تجده عين ما فرقت به، ولكن ما فرقت به شرح له لأنه أبسط منه وأوضح فتأمل ذلك حق التأمل فإنه مما يلتبس الأبعد مزيد تقص وتأمل وتحر قوله فلو لم يقل في الكل لو لم يكن حياً سبق قلم وصوابه لو كان حياً قوله فالذي رآه الفقيه الخ ما رآه الفقيه المذكور متجه، ويدل له قول البغوي وتلميذه و الخوارزمي السابق أنه لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن ولا ابن له صح وكان التقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان بخلاف ما لو قال بمثل نصيب ابني ولا ابن له وارث، فإن الوصية تبطل كما قاله الأصحاب وقدمت الفرق بين الصورتين وبهذا يعلم أن محل ما رآه الفقيه المذكور ما إذا قال أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم فقط أما لو ضم إليه بمثل ميراث أبيهم ابني فإن الوصية تبطل ما لم يصرح بقوله لو كان حياً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/199)
(الكلام على الجواب الرابع) قوله بعينها ممنوع ولعله تبع في ذلك ما يأتي في الجواب الخامس مع رده وتزييفه قوله وكذا لو كان له أبناء فأوصى بمثل نصيبهم هذا اختصار لعبارة الروضة وفيه إجحاف وإيهام، وعبارتها وكذا لو كان له ابنان أو بنون فأوصى بمثل نصيبهما أو نصيبهم فهو كابن قوله عند الإمام والروياني حذف من الروضة وغيرها ولا وجه لحذفه قوله فإن صححناها حذف قبله من الروضة مسألة لا تعلق لها بما نحن فيه قوله على الأصح عبارة الروضة على الصحيح وبينهما فرق واضح ووقع لهذا المفتي فيما يأتي قريباً أنه قال: وعبارة الروضة وساق ما ليس في عبارة الروضة كما يعلم بتأمل عبارته وعبارتها وكأنه لم يحط بأن الناقل متى قال وعبارة كذا تعين عليه سوق العبارة المنقولة بلفظها ولم يجز له تغيير شيء منها وإلا كان كاذباً، إذ العبارة اسم للألفاظ المعبر بها عما في الضمير فالقصد بسوقها حكاية تلك الألفاظ بعينها ومتى قال: قال فلان كان بالخيار بين أن يسوق عبارته بلفظها أو بمعناها من غير لفظها، لكن لا يجوز له تغيير شيء من معاني ألفاظه وإلا لكان كاذباً وهذا المفتي عبر بقال في الروضة وغير بعض المعنى وفيما يأتي بقوله وعبارة الروضة وغير بعض الألفاظ فوقع في كل من تينك الورطتين فعليه بعد اليوم التحري فيما ينقله ومعرفة الفرق بين قوله قال فلان كذا، وقوله وعبارة فلان كذا قوله بما باع به فلان فرسه صح محله إن علما قدر ما باع به وإلا لم يصح قوله لكن الذي رأيته في نسخة من القواعد الخ الذي في القواعد إنما هو عن الإمام ومن نقله عن الرافعي، فقد وهم وإنما الرافعي حكى بعض فروع تلك القاعدة عن الإمام، وعبارة الزركشي عن الإمام فيما نحن فيه لو عم في ناحية استعمال الطلاق في إرادة الخلاص والانطلاق ثم أراد الزوج حمل الطلاق في مخاطبة زوجته على معنى التخلص وحل الوثاق لم يقبل منه ذلك والعرف إنما يعمل في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح انتهت(5/200)
كما في النسخة التي رأيتها الآن وليس فيها ما ذكر عنها في كلام هذا المجيب، وهو قوله هذا إذا علم أن اللافظ أراد غير مقتضى لفظه، وأما عند الجهل فيعمل بمقتضى لفظه على أن هذا ليس ملائماً لكلام الإمام ولا مناسباً له بل فيه مناقضة له، لأن فرض كلام الإمام كما رأيت في إرادته بالطلاق التخلص ومع ذلك لا يقبل منه فأولى إذا جهلت إرادته وتلك الزيادة قضيتها أن حالة علم الإرادة يخالف حالة الجهل وأن اللفظ إنما يعمل بمقتضاه عند الجهل وبالجملة فهذا كلام صادر عن عدم التأمل بالكلية فلنضرب عنه صفحاً قوله ثم لا يخفى الخ، إنما يأتي ذلك إن قلنا بقبول إرادة ذلك وقد قدمت ما فيه فراجعه قوله من حيث الصيغة فواضح يقال عليه أي وضوح فيه مع ما فيه من الإيهام والتحريف الفاحش كما قدمته مبسوطاً في الكلام عليه قوله هو صريح في أن الوصية في صورة السؤال الخ، هذا عجيب كيف ولا إيماء لذلك فيه فضلاً عن الصراحة على أن ذلك هو لفظ السؤال، فأي حاجة إلى ادعاء أن كلام ذلك المفتي صريح فيه أو لا؟ وقوله أو على ما قاله
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/201)
أبو إسحق في عطفه هذا إيهام أن ما قاله أبو إسحق غير ما قاله مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ وليس كذلك كما علم مما مر قوله في الصيغة الأولى أي في السؤال قوله فهو صحيح، يقال عليه ليس كما زعمت بل هو تحريف عنهما، أي تحريف فما راج عليه من التحريف راج عليه، وسبب ذلك عدم التأمل والتحري قوله وقد قدمنا في المقدمة عن الروضة ما يقتضي بطلان هذه الوصية الخ، يقال عليه هذا كلام من لم يحط بمدرك البطلان في كلام الروضة ومدرك الصحة في كلام البغوي و الخوارزمي ومن تبعوهما، وقد قدمت أوائل الكلام على الجواب الثاني الفرق بينهما مبسوطاً فراجعه لتعلم منه أن الصواب الذي دل عليه كلامهما، أعني البغوي و الخوارزمي الصحة في أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم وإن لم يقل لو كان حياً لأنه مثل قوله ولا ابن له أوصيت لزيد بمثل نصيب ابن، قالوا والتقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان حياً وما أحسن قول الخادم قوله فلو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثاً لرق أو غيره فالوصية باطلة اهـ هذا إذا كانت الصيغة بالإضافة فأما لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن بالتنوين ولا ابن له، ففي التهذيب والكافي أنه يصح وكأنه قال بمثل نصيب ابن لي لو كان وفى نصيب ابني لا يصح على الأصح اهـ، قوله وإذا بطلت الوصية فيما لو أوصى الخ ربما يفهم منه أن ملحظ البطلان عند حذف مثل لكنه قدم خلافه وبه يبطل كلامه هذا كما هو جلي قوله والفرق بينها وبين مسألة البغوي الخ، يقال عليه زعم ظهور الفرق بينهما ناشىء عن عدم فهم كلام البغوي وكلام الروضة وعدم فهم الفرق بينهما الذي قدمته وبين فهم الصحة في قوله ولا ابن له أوصيت بنصيب ابن والتقدير بنصيب ابن لي لو كان كيف يخفى عليه الصحة في قول من مات له ولد ولولده ولد أوصيت لهذا بميراث أبيه مع أن الملحظ فيهما واحد وهو أنه لم يضف في كل منهما الابن المعدوم الموصى بنصيبه إليه، ومن ثم اتجه أنه لو قال بنصيب ابني أبيهم بطلت الوصية لأنها حينئذ مثل قول من لا(5/202)
ولد له أوصيت له بنصيب ابني لامتناع التقدير بلو كان مع الإضافة بخلافه مع عدمها، كما صرحوا به فيما مر، وبهذا يندفع ما حكاه هذا المجيب عن بعض المتأخرين بقوله نعم قال بعض المتأخرين الخ، ووجه اندفاعه أن كلام الروضة مفروض كما علمت في أوصيت له بمثل ميراث ابني، ومع هذا الفرض لا يتصور التقدير بلو كان لي ابن كما تقرر، لأن الإضافة تقتضي الوجود والتقدير بلو كان لي ابن يقتضي العدم فبينهما تناقض بخلافه في مثل ميراث ابن، فإنه لا يقتضي وجوداً فلا ينافيه التقدير بلو كان لي ابن فمن ثم قالوا بالصحة هنا نظراً لهذا التقدير وبالبطلان ثم لتعذره فكيف مع ذلك يأتي ذلك البحث فهو بحث غير صحيح، ولعله من أبحاث فقهاء جهتهم فإننا لم نر ذلك في الكتب التي عندنا بل كلامهم الذي قررته صريح في رده كما علمت فاحفظ ذلك ولا تغتر بغيره قوله وظاهره الخ، هذا البحث مع كونه مردوداً ليس ظاهره ذلك كما هو جلي، لأن كلام الروضة إذا حمل على ما إذا لم يرد ذلك كان مفيداً للبطلان فيما إذا أطلق أو أراد مثل نصيبه مع كونه معدوماً وللصحة فيما إذا أراد مثل نصيبه لو كان حياً هذا معنى هذا البحث المردود فكيف مع ذلك يقال وظاهره الخ، وقوله بخلاف مسألة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
البغوي و الخوارزمي لا معنى له هنا بل هو مبني على وهمه السابق كغيره في فهم كلامهما، ونقله على غير وجهه كما مر بسطه قوله على ما فهمه من كلام الأصحاب من أن المراد الخ، حق العبارة المناسبة للمقام على ما وهم فيه وإلا فكلام الأصحاب صريح في اعتبار المماثلة في المقدر وجوده بما بعد القسمة لا يقبل تأويلاً.(5/203)
(الكلام على الجواب الخامس) قوله ومنهم الشيخان ليس على وفق الاصطلاح، أن المراد بالأصحاب المتقدمون وهم أصحاب الأوجه غالباً وضبطوا بالزمن وهم من قبل الأربعمائة ومن عداهم يسمون بالمتأخرين ولا يسمون بالمتقدمين ومن ثم اعترضوا قول المنهاج، وأفتى المتأخرون بأن منهم ابن سراقة وهو قبل الأربعمائة لا سيما وهو قد نقله عن مشايخه ويوجه هذا الاصطلاح بأن بقية أهل القرن الثالث من جملتهم السلف المشهود لهم على لسانه بأنهم خير القرون فلما عدوا من السلف وقربوا من عصر المجتهدين وكانت ملكة الاجتهاد فيهم أقوى من غيرهم خصوا تمييزاً لهم على من بعدهم باسم المتقدمين فاحفظ ذلك فإنه مهم قوله وهذا المثال الذي ذكروه نظير صورة السؤال يقال عليه قد ذكرت أنه الذي أطبق عليه الأصحاب وأنه في الروضة والعزيز، فأما الروضة والعزيز وفروعهما فلم نر هذا المثال بخصوصه مع الحكم عليه بالسبعين وأن فيه وجهاً أنها بالخمسين فيهما بل ولا في الجواهر مع بسط فروعها واستيعابها لما في أكثر كتب الأصحاب ولا في التوسط والخادم وغيرهما من كتب المتأخرين المبسوطة المستوعبة وأما كتب الأصحاب المبسوطة كالحاوي والنهاية والبحر والتعاليق التي على المختصر وغيرها فلم يتيسر لنا الآن الوقوف عليها بل كثير من مبسوطاتهم لم نرها وإنما ننقل عنها بالوسائط فبفرض كون هذا المثال بخصوصه في بعضها الذي لم نره الاعتراض متوجه على ذلك المفتي، لأنه ذكر أنه في الروضة وأصلها وأنهم أطبقوا عليه، والحال أنا لم نره في كتاب مع الفحص والتقصي عنه وظهور الحق في المسألة غني عن هذا المثال، وذكره في كلامهم لأن حكمه كحكم صورة السؤال معلوم من كلامهم علماً لا يقبل التشكيك فأي حاجة إلى ادعاء خلاف الواقع وهو الإطباق الذي اختل بما ذكر قوله وعليه العراقيون هو ما نسبه القاضي إليهم، وجزم به ابن الصباغ منهم، ونقله الماوردي عن الجمهور وصاحب البيان عن الأكثرين و الروياني في البحر عن(5/204)
أصحابنا مطلقاً. وقال القاضي في تعليقه: إنه المشهور ولم ينظر النووي إلى هذا كله فلم يكتف بترجيحه الصحة ك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
الرافعي بل أشار إلى أن القول بالبطلان وجه غريب كما أفهمه لفظ الروضة وهو: وذكروا فيما إذا قال أوصيت له بنصيب ابني وجهاً أنه لا يصح وإنما يصح إذا قال بمثل نصيب ابن اهـ، وقوله لوروده على حق الغير علة ضعيفة جداً ومن ثم لما نقل القاضي حسين فرق أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ بأنه في مثل نصيب ابني جعل له مثل ما للابن، ومعناه مثل ما يأخذه ابني وفي نصيب ابني جعل له ما جعله الشرع للابن فلم يجز كما لو أوصى بملك الابن، قال في رده لنا أن الابن يستحق كل المال فقوله نصيب ابني وصية له في الحقيقة بكل المال والشيء الواحد لا يكون لهما فتزاحما فقسم بينهما نصفين وليس كما لو أوصى بملك الغير لأن ذلك غير مملوك له في الحال وما أوصى به في مسألتنا مملوك له في الحال والابن يتلقاه من جهته فاتبع تصرفه فيه قوله وغيرهم أي ك الفوراني ، بل جزم به الأستاذ أبو منصور وجزم به الغزالي أيضاً وصححه القفال و القاضي ونسبه الإمام إلى المعتبرين من الأصحاب والفرضيين قوله بما باع به فلان فرسه أي فإنه يصح أي أن علما قدره كما في عبارة الروضة هنا مع علمه مما ذكروه في البيع قوله ويتعين حمله الخ، إن أراد رجوع الضمير إلى ما في الروضة ففي التعبير بالتعين نظر بل لو تمسك متمسك بإطلاقهم البطلان وإن أراد لكان له وجه لما قدمته عن الخادم وغيره في الكلام على الجواب الرابع وحاصله أنه حيث أضاف الابن إليه ولا ابن له موجود لم يمكن فيه التقدير لمناقضته للإضافة كما مر مبسوطاً وحيث لم يضفه إليه كأوصيت بنصيب ابن صحت لقبول التقدير لو كان موجوداً أو وارثاً، فإن هذا التفريع إنما يناسب قول الروضة ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثاً، والحاصل أن الذي استفيد من مجموع عبارة الشيخين و(5/205)
البغوي وغيره أنه متى قال بمثل نصيب أو بنصيب ابني ولا ابن له وارث بطل مطلقاً أو ابن بالتنوين صح مطلقاً، وقد قال الأذرعي في التوسط بعد قول الروضة ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثاً لرق أو غيره فالوصية باطلة، قلت ولم أر فيه خلافاً وفي النفس من إطلاق البطلان شيء، وقد يقال إنه موص بمثل نصيب ابن لو كان أو كان من به مانع وارثاً، وقد يجهل كثير من الناس حرمان الرقيق أو القاتل فيوصي بمثل نصيبه ظاناً وراثته اهـ فتأمل قوله وفي النفس الخ، وقوله وقد يقال الخ، تعلم بهما أن المعوّل عليه إنما هو إطلاق الأصحاب وإن أمكن أن يقال ما أبداه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/206)
الأذرعي كما هو ظاهر للمتأمل قوله فلا شك فيه ما في قوله ويتعين بل فيه ظن بعدم صحة الوصية تمسكاً بكلامهم فضلاً عن شك والإرادة إنما يعمل بها كما مر مبسوطاً في الكلام على الجواب الثالث حيث لم يكن في اللفظ ما ينافيها وقد علمت مما مر في الكلام على الجواب الرابع أنه حيث أضاف الابن إليه نافاه ذلك التقدير كما يصرح به قول الخادم بعد كلام الروضة المذكورة هذا إذا كانت الصيغة بالإضافة فأما لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن بالتنوين ولا ابن له ففي التهذيب والكافي أنه يصح وكأنه قال بمثل نصيب ابن لي لو كان وفي نصيب ابني لا يصح هذا التقدير على الأصح اهـ، فعلم منه أن هذا التقدير إنما يتأتى مع عدم الإضافة لا مع وجودها، وظاهر كلامه ككلامهم أنه لا فرق في البطلان بين قوله بنصيب ابني فقط أو ابني الميت وفي الصحة بين ابن أو ابن ميت، وفي الفرق بين ابني الميت وابن ميت نظر ظاهر لأن الإضافة إليه إنما تنافى تقدير الوجود من أصله لا تقدير الحياة، لأن اللغة والعرف يقتضيان صحة إضافة ابنه الميت إليه فليس فيها منافاة لتقدير لو كان حياً فتأمله قوله ومن شواهده ما لو أوصى بنصيب ابنه ولم يذكر المثل في كون هذا من شواهد التعين الذي ذكره نظر، أي نظر لأن هذا ليس في اللفظ ما يدل على إحالة ذلك التقدير بل فيه ما يدل على تعينه كما علم مما مر في الاحتجاج على أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ، وأما في أوصيت بمثل نصيب ابني ولا ابن له، ففيه ما يحيل تقدير لو كان موجوداً وهو الإضافة إليه كما مر تصريحهم به قوله وهو حسن فيه نظر لما في الكلام على الجواب الثاني أن العرف الخاص لا يعمل به في تخصيص اللغة ولا العرف العام وكلاهما هنا يقتضي أن الإضافة إليه تحيل التقدير بلو كان موجوداً فلم يعمل بالعرف الخاص فيه سيما مع قول الإمام السابق أن العام إنما يعمل به في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح، وكلام الروضة وغيرها يفيد أن أوصيت بنصيب ابني(5/207)
ولا ابن له صريح في البطلان بمقتضى الوضع لا العرف فلا يؤثر فيه العرف، نعم إن أراد ابناً كابني نحو ما قدمته في ابني الميت كان قريباً لأن اللغة والعرف لا ينافيانه، ومع ذلك ظاهر كلام المتأخرين كافة أن المعتمد إطلاق الأصحاب البطلان وكم من مسألة المعتمد فيها إطلاقهم وإن كان في بعض جزئياتها نظر بل أنظار واضحة فليس اعتماد ذلك ببدع في المذهب قوله يتخرج على ما قدمناه الخ، ليس هذا التخريج بصحيح لوضوح الفرق بين مسألة الروضة ومسألة السؤال، لأن صورتها التي ذكرها أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم وصورة الروضة أوصيت له بمثل ميراث ابني الميت وشتان ما بينهما إن أحطت بما مر، أن سبب البطلان في كلام الروضة الإضافة إليه في المشبه به المحيلة لتقدير وجوده أو حياته كما مر مبسوطاً، وهذا ليس موجوداً هنا لأن أباهم المشبه به لم يضفه إليه فلم يكن هنا موجب للبطلان بوجه، وقد مر في صورة السؤال أنه قال بمثل ميراث أبيهم لو كان حياً وهذه لا نزاع فيها، فإن قلت الإضافة إليه في أولاد ابني مثلها في نصيب ابني، قلت ممنوع وكان هذا هو سبب الالتباس، لأن قوله أوصيت لأولاد ابني صحيح الظاهر لا يحتاج إلى تقدير اتفاقاً وإنما الإشكال في مثل ميراث ابني مع فقده فهذا هو الذي ليس بصحيح الظاهر والتقدير لما مر فتأمل ذلك تعلم أن الوجه صحة أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم، وإن لم يقل لو كان حياً نظير ما مر عن البغوي وغيره، نعم إن قال بمثل ميراث أبيهم ابني الميت أمكن أن يقال فيه بالبطلان وإن أمكن الفرق بينه وبين ابني الميت قوله فيتخرج أيضاً على هذا قد علمت مما تقرر منع التخريج في هذا أيضاً قوله وهو أنه كناية في الوصية هو كذلك كما بسطت الكلام فيه في الكلام على الجواب الثالث قوله فيظهر أن الحكم كما ذكره مالك فيه نظر كما مر بيانه مبسوطاً بشواهده في الكلام على الجواب الثاني، وقد مر عن الإمام أن ما ذكره(5/208)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
أبو إسحق الموافق لمالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ مختل جداً من جهة اللفظ، ففيه تصريح بأن اللفظ لا يحتمله إلا بتجوّز بعيد وذلك غير معتبر عندهم لأنهم إنما يعوّلون على القصد إن احتمله اللفظ احتمالاً قريباً كما يعلم من سبر كلامهم وسيأتي قريباً تصريحهم به فاندفع قول هذا المجيب، ووجه ذلك الخ، ووجه اندفاعه أنه لا يكفي ادعاء كون التجوّز سائغاً فحسب بل لا بد مع ذلك من كونه قريباً فهمه من اللفظ وما ذكره مالك ليس كذلك كما علمته من قول الإمام المذكور قوله ألا ترى في الاستدلال بذلك نظر بل لا يصح أنه إذا تلفظ بذلك في الوصية انتقل من لفظ صريح في مدلوله إلى لفظ صريح في مدلول آخر فوجب اعتباره لما مر أن المدار في الوصايا ونحوها إنما هو على الألفاظ ومؤدياتها، وأما حيث أتى باللفظ الصريح في شيء وقصد به خلاف ذلك الصريح فإنه لا يقبل لما تقرر أن المدار هنا على الألفاظ ومدلولاتها الموضوعة هي لها ما أمكن فاتضح أنه لا جامع بين التلفظ بما قاله مالك وقصده من اللفظ الدال وضعاً عند أئمتنا على خلافه فتأمل قوله ويؤيده الخ، هذا الذي ذكره إنما يؤيد ما بعد قوله ألا ترى من التصريح بذلك المعنى وقد علمت أنه إذا ذكر ذلك لا نزاع في اعتباره كما هو واضح فلا يحتاج إلى مؤيد بما ذكره، وأما مسألة اعتبار مجرد القصد التي هي محل النزاع فلم يذكر لها مؤيداً، وقوله وما ذكره الماوردي و البندنيجي هو ما اعتبره مالك هذا عجيب منك لأن ما ذكره الماوردي حكى فيه الإجماع فكيف يخص بمالك، ويقال إنه الذي اعتبره مالك وأيضاً فمحل كلام مالك وغيره فيما إذا لم يصرح في نفس الوصية بالمعنى السابق ف مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ يرى أن لفظه موضوع لتنزيله منزلة المشبه به من غير زيادة مطلقاً و الشافعي رحمه الله تعالى يرى أنه موضوع لتنزيله منزلته مع اعتبار الزيادة كما مر، فمحل اختلافهما إنما هو عند عدم(5/209)
التصريح من الموصي بشيء من ذلك وحينئذ فكيف يدعي أن ما ذكره الماوردي و البندنيجي المصرح فيه الموصي بما هو صريح فيما ذكراه هو ما اعتبره مالك ما هذا من هذا المجيب إلا تساهل غير مرضي، وقوله عقبه لكنه الخ، لا ينفعه في رد الاعتراض عليه، لأن به يبطل قوله أن ما ذكراه هو عين ما اعتبره مالك لأنهما إذا كانا لا يعتبرانه إلا عند التصريح به وهو يعتبره عند عدم التصريح به فأي اتحاد بين المقالتين حتى يقال إن إحداهما عين الأخرى قوله بالنسبة لحمل اللفظ عليه الخ، هذه العبارة لا تلائم ما قبلها لأن ما وجب اعتباره عند التصريح به هو اللفظ الدال على ذلك المعنى المعتبر وأي لفظ آخر يبقى حتى يقال بالنسبة لحمل اللفظ عليه فإن جعلت ما للمعنى المعتبر، والتقدير أن المعنى الذي يجب اعتباره عند التصريح به لم يصح قوله بالنسبة لحمل اللفظ عليه لكون اللفظ محتملاً له، لأنه إذا فرض أوّلاً التصريح به كيف يفرض ثانياً أن اللفظ محتمل له، فعلم أن قوله بالنسبة الخ غير صحيح على كل من التقديرين ثم ادعاؤه هذه القاعدة وهي أن كل ما وجب اعتباره عند التصريح به يجب اعتباره عند قصده سببه الغفلة عن قولهم كل ما لو ظهر في عقد أبطله يكره قصده عند ذلك العقد كالنكاح بقصد أن يطلق والبيع بقصد الحيلة ومما يبطل بحثه السابق وقاعدته هذه قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/210)
البغوي في تهذيبه كل لفظ إذا وصل به لفظ آخر، وقبل في الظاهر إذا نواه لا يقبل في الظاهر ومن مثل ذلك أن تقول أنت طالق قاصداً إن دخلت الدار لا يفيده ظاهراً مع أن اللفظ يحتمله أو متلفظاً به قبل، وأجرى الغزالي وغيره ما ذكره البغوي في كل ما أحوج إلى تقييده الملفوظ به بقيد زائد، ومن ثم قال في الوسيط لو ذكر لفظاً ونوى معه أمراً لو صرح به لا ينتظم مع المذكور ففي تأثيره وجهان وإلا قيس أنه لا يؤثر اهـ فتأمل ذلك تعلم به رد ذلك البحث وبطلان تلك القاعدة وقوله وأمثلته في كلام الأصحاب لا تخفى ومما يبطلها أيضاً قولهم اللفظ الصادر من المكلف إذا عرف مدلوله في اللغة أو العرف لم يجز العدول عنه إلا بأمور منها: أن ينوي المتكلم به غير مدلوله ويكون اللفظ محتملاً لما نواه ففي بعض المواضع قد يقبل قوله وفي بعضها قد لا يقبل بحسب قربه من اللفظ وبعده وفي فتاوى القاضي حسين حلف لا يتزوج النساء ثم قال: أردت واحدة معينة أو ثنتين لم يقبل لوجود لفظ الجمع وما نحن فيه من المواضع التي لا يقبل فيها قصد ما مر عن مالك لبعده من اللفظ كما مر التصريح به عن الإمام، ومن كلامهم الشاهد لما نحن فيه الصريح يعمل بنفسه ولا تقبل إرادة غيره به والمحتمل يرجع فيه إلى إرادة اللافظ ومرادهم بالمحتمل المذكور المحتمل لمعان على السواء بدليل قول الإمام الألفاظ ثلاثة نص لا يقبل التأويل، وظاهر يقبله ومحتمل يتردد بين معان لا يظهر اختصاصه بواحد منها، فالنص لا محيص عنه والظاهر يعمل به على حكم ظهوره فإن ادعى اللافظ تأويلاً ففيه تفصيل يطول في المذهب، والمحتمل لا بد من مراجعة صاحب اللفظ اهـ ملخصاً، ومن الظاهر الذي لا يقبل تأويله قوله هذا أخي ثم قال أردت أخوّة الرضاع لا يقبل على الأصح أو أخوّة الإسلام لا يقبل قطعاً ولو قال غصبت داره وقال أردت دارة الشمس والقمر لم يقبل على الصحيح في زوائد الروضة عن الشاشي فإذا لم تقبل الإرادة في هذه المسائل، ففي(5/211)
مسألتنا بالمساواة بل بالأولى قوله وقد رأيت لبعض فضلاء اليمن الخ، هذا البحث بتقدير تسليمه لا يشهد له لوضوح الفرق بينه وبين مسألته، لأن لفظ الجيران مقول على القريب والبعيد بالتواطىء أو التشكيك وكل منهما تؤثر فيه النية ومن ثم كان المشترك يحمل على جميع معانيه ما لم يخصه المتكلم بأحدها، وأما ما نحن فيه فهو من اللفظ الموضوع لجزئي مخصوص فلا تقبل إرادة صرفه عنه وما أحسن قول الإمام الصريح ما يتكرر على الشيوع إما في عرف الشرع أو في عرف اللسان وإذا حصل ذلك لزم إجراء اللفظ على ظاهره، ولا يقبل العدول عن موجب الظاهر في الظاهر اهـ، فإن قلت لم أثرت النية في تخصيص العام في مسألة الجيران ولم تؤثر في لفظ النساء فيما مر آنفاً عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/212)
القاضي حسين ، قلت لأن تخصيص العام لا يبطله إذ الأصح أن العام المخصوص حجة فيما عدا ما خرج منه ولو عملنا بالنية في مسألة القاضي لأبطلنا الجمعية من أصلها فتأمله، فإن قلت اتفق أصحابنا على أن الضعف هو الشيء ومثله فإذا أوصى له بضعف نصيب ابنه كانت وصية بالثلثين، وقال مالك وغيره هو المثل. وذكر الأذرعي كلاماً ثم قال ويؤخذ منه أنه لو كان الموصي ممن يرى أن الضعف المثل فقط أعطى مثل نصيب الابن فقط وليس ببعيد ولا يكاد يعدم له شاهد أو شواهد من كلامهم أن المرجع في الوصية إلى العرف فهذا يؤيد ما قاله هذا المفتي وغيره من المفتيين السابقين أنه يعمل بإرادة الموصي فيما مر، وما قاله مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ قلت لا تأييد في ذلك لأن الضعف لفظ مشترك في اللغة بين الشيء ومثله وبين المثل كما نقله أبو إسحق النحوي ، ثم نقل أن العرف العام خصصه بالمعنى الأول وبذلك صرح الأزهري أيضاً في كلامه على المختصر، فقال إنه بالمعنى الأول هو المعروف بين الناس، وأما من جهة اللغة فهو المثل فما فوقه إلى عشرة أمثاله وأكثر وأدناه المثل اهـ، وإذا تقرر ذلك اتضح أنه ليس نظير مسألتنا لأنه لاشتراكه لغة أثر فيه القصد ولتخصيص العرف العام له بالأول حمل عليه عند الإطلاق، وإن خالف قاعدة الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ من الأخذ بالأقل فالحاصل أن فيه اعتبارين من حيث اللغة والعرف العام فلا يقاس به ما فيه اعتبار واحد وهو ما مر عن أولئك المفتين فتأمل ذلك واحفظه قوله فإن قلت كيف يحمل اللفظ عند الإطلاق الخ، لا يحتاج إلى هذا السؤال، والجواب مع تصريحهم به على وجه أوضح وأتم من هذا حيث قالوا اللفظ الصادر من المكلف إذا عرف مدلوله في اللغة أو العرف إلى آخر ما قدمته قريباً فراجعه تعلم به ما في كلام هذا المفتي وقوله ولو على تجوّز مر رده من كلامهم وأنه لا بد من قرب ذلك الاحتمال حتى تقبل إرادته قوله ما لم يقصد انتفاع المقيم أو المجتاز إنما قبل قصده، لأن(5/213)
إسراج الكنيسة محتمل لذلك ولمقابله على السواء لأنه مطلق في الأحوال فأثر فيه القصد لذلك، وحينئذ فليس هذا مشابهاً لصورة السؤال بوجه ولا مؤيداً لقوله قبله ولو على تجوّز لما تقرر أنه محتمل لكل من تلك الأحوال على السواء قوله ما لم يقصد تمليكه هذا وما بعده من المطلق في الأحوال أيضاً فيأتي فيه ما مر في الإسراج قوله إلا أن أراده إنما قبل هنا لأن فيه تغليظاً على نفسه وما هو كذلك يقبل فيه وإن بعد احتماله من اللفظ كما علم من قول الصيدلاني من فسر اللفظ بغير ما يقتضيه ظاهره ينظر فيه فإن كان ذلك عله قبل لأنه غلظ على نفسه وإن كان له لا عليه قبل باطناً لا ظاهراً إن اتصل بحق آدمي اهـ ملخصاً قوله، ولو قال هذا المال الخ، إنما قبلت إرادته ما ذكر في هذه المسائل لنحو ما سبق من أن اللفظ يحتمل ما أراده فيها احتمالاً قريباً فلا شاهد في شيء منها لما أطلقه من القبول مع بعد الاحتمال، قوله سمعت الدعوى مبني هو وما بعده على تأثير ذلك القصد وقبوله، وقد علمت ما في ذلك قوله على نفي العلم هو ما نقله الشيخان في صورة ما لو أوصى بجزء مثلاً عن الأكثرين ولم يفصلا بين أن يدعي علم الوارث بإرادة الأكثر وأن لا، لكن صرح
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/214)
القاضي حسين وغيره بأن شرط سماع دعواه ادعاؤه ذلك والمعتمد الأول قوله فقلنا إن المعنى هم على ميراث أبيهم لو كان حياً في هذا نظر إن أراد أنه تقدير لما في السؤال وهو الظاهر، وذلك أن هذا هو عين لفظ السؤال فكيف يقال إنه تقدير له وإن هذا التقدير هو السبب لتصحيح الوصية قوله فظاهر أن الوصية بنصف المال هذه العبارة إنما تقال كما لا يخفى على من مارس عبارتهم في بحث يفهم من كلام الأصحاب فهماً واضحاً لا فيما هو منصوص لهم، وقد صرحوا بذلك فلا يحتاج أن يقال فيه هذه العبارة الموهمة أن ذلك بحث من هذا المفتي قوله، فجوابه أن الظاهر أن الاعتبار في ذلك بحالة الموت هو كما ذكره كما بسطت الكلام فيه في أوائل جوابي مع البلقيني المعتبر في مثل هذا حالة الوصية فراجعه حتى تعلم الحق في ذلك قوله وعليه فيستحق الموصى لهم في الصورة التي ذكرها السائل ربع التركة هذا منه إن أراد بقوله واحد من أعمامهم أحد الذكور كما هو صريح اللفظ تناقض لأنه إذا اعتبر عددهم عند الموت صارت صورة المسألة هي قوله السابق، فإن قلت فما اللفظ الذي إذا تلفظ به الموصي الخ، فبين ثم أنه في ابن وبنت وأولاد ابن أوصى لهم بمثل نصيب عمهم أن لهم الخمسين ثم ذكر هنا على الأثر في هذه بعينها أن لهم الربع، ووجه كون هذه الصورة هي تلك بعينها أنها مفروضة في ثلاثة بنين وبنت وأولاد ابن ميت أوصى لهم بمثل نصيب أحد أعمامهم، ثم مات ابنان في حياة أبيهم الموصي فإذا اعتبرنا حالة الموت فهو لم يمت إلا عن ابن وبنت وأولاد ابن أوصى لهم بمثل نصيب عمهم الموجود وهذه الصورة هي عين تلك التي قدم فيها في عين هذا التصوير أن لهم خمسي التركة وهذا هو الصواب الذي يصرح به كلامهم فقوله هنا أن لهم ربع التركة غلط، فإن قلت قال اعتبرنا هنا حالة الوصية ما الذي يكون لأولاد الابن الموصي لهم بمثل نصيب أحد أعمامهم قلت يكون لهم التسعان لأن مسألتهم من سبعة يزاد عليها مثل نصيب أحدهم وهو سهمان وإن(5/215)
أراد بأحد أعمامهم ما يشمل عمتهم صح ما قاله لكن من أي قاعدة أخذ حمل قول الموصي واحد من أعمامهم على ما يشمل الأنثى، فإن احتج بالتغليب فهو نوع من المجاز وهو لا يجوز الحمل عليه عند الإطلاق العاري عن القرينة بل وإن احتف بها هنا كما علم مما مر في تقرير أنه لا يعتبر هنا قصد ولا عرف خاص، فإن قلت الحامل له على ذلك الحمل قول الروضة وغيرها لو أوصى لزيد بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل أقلهم نصيباً ثم قال فإذا كان له ابن وبنت فالوصية بالربع، قلت إن كان ذلك هو الحامل له على ما ذكره فهو غفلة عن التصويرين لأنه هنا عبر بأقلهم فتناول البنت دون الابن، وفي مسألتنا عبر بالأعمام وهو إنما يتناول الذكور دون الإناث، فإن قلت قد يستدل لما قاله بقولهم لو أوصى من له ثلاث بنات ولم يأت بلفظ أخوّة ولا بنوّة كان لفظه صادقاً على كل فنزلوه على الأقل وهو نصيب بنت من الثلاثة لصدق لفظه عليها وعود ضميرهم على الجمع الشامل لذكور وإناث شائع لا يحتاج لقرينة، وأما إذا كان هناك عمة وأعمام فخص الأعمام بقوله بمثل نصيب واحد من أعمامه فالقول بحمله على العمة بعيد جداً، مع أنه لا دليل عليه بل الدليل على خلافه وهو أن الوصف بكونه واحداً من الأعمام صريح في أن المراد الذكور لا ما يعمهم والأنثى فإن قلت قد يدل له قول الرافعي لو كان له ابن وبنت ابن وأخ، وأوصى بمثل نصيب أحد ولديه كانت الوصية بالسبع، قلت لا دليل فيه لأن ولد الولد يسمى ولداً حقيقة وعلى مقابله وأنه لا يحمل عليه عند الإطلاق فهنا قرينة ظاهرة وهي التثنية، ومن ثم لما ذكر
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/216)
الرافعي ما مر قال بعد كلام في وقوع اسم الولد على ولد الولد خلاف سبق في الوقف فإن وقع عليهما فالتصوير ظاهر، وإلا فالمنع إنما هو عند الإطلاق فأما هنا فالتثنية في قوله أحد ولدي قرينة تبين إرادتهما جميعاً اهـ، وهذا منه رحمه الله تعالى مؤيد لما ذكرته أن الأعمام لا يشملون العمة في هذا الباب إلا بقرينة ظاهرة تدل عليه، لأن ولد الولد إذا احتاج شمول الولد له هنا إلى قرينة مع أنه يطلق عليه كثيراً بل حقيقة على الأصح في بعض الأبواب كالحجب وغيره فما بالك بالعم فالحق أنه لا يشمل العمة إلا بقرينة واضحة تدل على شمولها ولا قرينة هنا كذلك فكان الحق في تلك الصورة الذي دل عليه كلامهم كما هو واضح بأدنى تأمل أن لأولاد الابن الخمسين لا الربع وفقنا الله سبحانه وتعالى أجمعين لإيضاح الحق واتباعه وخلصنا من دسائس نفوسنا الحاملة على التورّط في هوّة الباطل وابتداعه ويسر لنا من غير عائق، ولا مانع الدأب في تحقيق العلوم الذي هو أفضل الأعمال وأخذ بنواصينا إلى أن ننتظم في سلك المتقدمين من أهل الكمال وأبقى من حملة العلم في كل إقليم جمعاً جماً وأتحفهم من قربه وهيبته وقيامهم بحقوق ربوبيته بما يحصل به على أيديهم الهداية لمتبعيهم عرباً كانوا أو عجماً وأقبل بقلوب خلقه إليهم حتى يعولوا في كشف المعضلات والنوائب عليهم، وأخرج من نفوسهم الضغائن التي تقطع عن الوصول إلى خلافة الرسل الكرام التي هي أعلى المقامات في هذه الدار ودار السلام، وألحقنا بهم في ذلك إنه الكفيل بكل خير في سائر الأحوال والمسالك لا إله غيره ولا مأمول إلا بره وخيره فضراعة إليه بأكمل أنبيائه وواسطة عقد أصفيائه أن يعصمني من الخطأ والخطل ومن الزيغ والزلل وأن يعفو عما اقترفت من الذنوب وما حويت من العيوب إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.(5/217)
وسئل نفع الله تعالى به هل يجوز للوصي في تفريق نحو الكفارة صرفها لأهل الكفر بعد موته لأن تهمة دفع النفقة عن نفسه قد زالت بالموت أو لا يجوز ذلك لأن الوصي لا يجوز له الدفع إلا لمن يتمكن الموصي من الدفع إليه وهو الآن غير متمكن من ذلك. فأجاب بقوله: الظاهر أنه لا يجوز للوصي صرف كفارة الميت لممونه لأنه نائب عن الميت فأعطى حكمه وأيضاً فما يصرف منه تركة وهي ملك للورثة وإن فرض أنه عينه للصرف منه، إذ لا يخرج عن ملك الورثة إلا بصرفه لا قبله فكيف يصرف له من ملكه وبهذا يعلم أن ذلك لا يختص بالممون بل سائر الورثة كذلك ولو لم يرث الممون لكونه قاتلاً فهل يجوز الصرف إليه نظراً للمعنى الثاني أو لا؟ نظراً للمعنى الأوّل كل محتمل والثاني أقرب إلى إطلاقهم فهو الأوجه نظراً إلى أن الوصي نائب الميت، فإن قلت العلة في منع صرف الميت في حياته لممونه دفع المؤنة عن نفسه وهو منتف في صرف الوصي إذ لا مؤنة على الميت تدفع عنه حينئذ فكان ينبغي جواز صرفه لممون غير وارث لنحو حجبه بأقرب منه كجد عال وفرع سافل، قلت تنزيلهم الوصي منزلة الميت في جواز الصرف لما لزم الميت يقتضي تقييده بما كان يتقيد به الميت في الصرف لأنه نائبه سواء أوجد المعنى الذي منع الميت لأجله أم لا لما تقرر أن الملحظ في الجواز النيابة عن الميت والنائب المتقيد تصرفه بكونه على جهة النيابة لا يتوقف على وجود المعنى الموجود في المستناب عنه فتأمله.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عمن روى خبر من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى قيل: يا رسول الله وهل تتكلم الموتى؟ قال: «نعم ويتزاورون» ؟. فأجاب بقوله: أخرجه الشيخ ابن حبان .(5/218)
وسئل عمن أوصى لغيره بمنافع نخلة مثلاً فما هي منفعة النخلة هل هو كرمها وليفها والاستظلال بظلها ونحو ذلك؟ أو يدخل في ذلك الثمرة والليف ككسب العبد أو لا يدخل ذلك؟ فأجاب بعضهم بما حاصله: عدم دخول نحو الثمر بمجرد ما ذكر وأن النخلة لا منفعة لها إلا نحو الاستظلال والتجفيف وربط الدواب بها وعلى ذلك تحمل المنفعة الموصى بها، واعترض عليه آخر، وأجاب بما حاصله: أن إطلاق المنفعة يشمل جميع الفوائد كالثمرة والكرم والليف ونحوها بالنسبة إلى النخلة واللبن والصوف ونحوهما بالنسبة إلى الماشية مستشهداً بأن الموصى له بمنفعة العبد يملك أجرة حرفته لأنها أبدال منفعته ويملك أيضاً مهر الجارية على خلاف فيه وأطال في الرد على الأوّل ثم أجاب الأوّل ثانياً بما حاصله: تقرير جوابه الأوّل والرد على المعترض المجيب الثاني مستشهداً بأن الوصية بالمنفعة إنما تطلق على ما يرد عليه عقد الإجارة وهو نحو الاستظلال بظلها كما اقتضاه كلام الأصحاب تصريحاً وتلويحاً، وأدل دليل على ذلك اقتصارهم على دخول الكسب والمهر لا غيرهما من الثمر واللبن وغير ذلك مما لا يخفى، وإنما قالوا بدخول نحو الكسب لأنه بدل المنفعة مع ما في ذلك من الخلاف ولو كان غيرهما داخلاً كالثمر واللبن لوجب على المتعقب أن ينص عليه وأطال في الرد على المعترض المجيب الثاني فتفضلوا سيدي بالجواب الشافي، فإن قلتم بما قاله الأوّل فتفضلوا ببيان دليله والرد لما استشهد به الأوّل أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة بمنه وكرمه آمين؟. فأجاب بقوله: الذي يصرح به كلامهم أن نحو الثمرة واللبن لا يدخل في الوصية بالمنفعة، ومما يصرح بذلك أمور منها: ما في تدريب البلقيني أن نحو الثمرة لا يدخل في مطلق الوصية بعين نحو الشجرة بكل حال فإذا كانت لوصية بالأصل نفسه لا يدخل فيها نحو الثمرة فما بالك بالوصية بالمنفعة، فإن قلت ما في التدريب مرجوح، قلت هو مع كونه مرجوحاً يدل لما قلناه، إذ لا وجه له إلا(5/219)
النظر إلى أن لفظ نحو الشجرة لا يتناول نحو ثمرتها، لأن نحو الثمرة عين أخرى لا يشملها لفظ الشجرة ولا تقاس الوصية بنحو البيع لضعفها عن الاستتباع بخلافه وإذا جرى هذا من البلقيني في هذه الصورة فقال بعدم دخول نحو الثمرة لما ذكرته لزم بالضرورة أنه قائل في الوصية بالمنفعة أنها لا تشمل نحو الثمرة ولا يلزم من ضعف كلامه في الأول ضعفه هنا لوضوح فرقان ما بين الصورتين فإن الوصية بالعين أقوى من الوصية بالمنفعة. ومنها: قول الجواهر في الوصية بما ستحمله هذه الجارية أو البهيمة في هذا العام أو أبداً وجهان أصحهما أنها تصح كما تصح بالمنافع ثم قالوا وفي الوصية بما سيحدث من الثمار طريقان أحدهما القطع بالصحة وأصحهما أنه على الوجهين في الحمل سواء أوصى بثمرتها هذا العام أو كل عام اهـ، ففي قوله كما تصح بالمنافع التصريح بأن نحو الحمل والثمر ليس من الوصية بالمنافع وإلا بأن كان داخلاً في الوصية بالمنافع لزم قياس الشيء على نفسه وهو فاسد، فتعين أن الوصية بالمنافع لا تشمل عيناً كثمرة وليف وصوف ولبن. ومنها قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4(5/220)
الرافعي : ينبغي أن يقال الوصية بالغلة والكسب لا تفيد استحقاق السكنى والركوب والاستخدام وبواحد منها لا يفيد استحقاق الغلة والكسب، فإن الغلة فائدة عينية والمنفعة تطلق في مقابلة العين فيقال الأموال تنقسم إلى الأعيان والمنافع اهـ فتأمل جعله المنفعة مقابلة للعين تجده صريحاً واضحاً في أن المنفعة لا تشمل عيناً أصلاً، وإنما تشمل الآثار التي تصح الإجارة لها لا غير، وتعرض ابن الرفعة وغيره كما في ميدان الفرسان لرد بحثه هذا لا يمنع الاستدلال به فيما ذكرناه لأن رده من حيثية أخرى كما يعلم بتأمل كلامهم في ذلك ويوافق ذلك تعليل الأصحاب للوجه القائل بأن ولد الموصي بمنافعها للورثة بأن استحقاق المنفعة لا يشمله كالإجارة فهذا تصريح منهم بأن المنفعة لا تشمل الأعيان ولأجل ذلك نظر الأصح إلى هذا، فقال: إن الموصى له بالمنفعة لا يملك الولد بل منافعه فقط لأنه جزء من الأم فأجرى عليه حكمها عملاً بقاعدة أن الولد تابع لأمه لأنه جزء منها وهذا لا يتصوّر القول به في نحو الثمرة واللبن فتعين أنه للوارث لما تقرر أن المنافع الموصى بها لا تشمل الأعيان بوجه. ومنها ما في الجواهر أن المراد بالمنافع الموصى بها ما تملك بالإجارة الصحيحة وهذا نص قاطع للنزاع ككلام الرافعي السابق في أن الوصية بالمنافع لا تشمل عيناً أصلاً، لأن العين لا تملك بعقد الإجارة قصداً مطلقاً بل تبعاً لضرورة أو حاجة. وفي شرح المنهاج للزركشي إنما صحت الوصية بالمنافع لأنها أموال تقابل بالأعواض فكانت كالأعيان وهو صريح فيما مر عن الرافعي أن المراد بالمنافع هنا ما يقابل الأعيان، وفيه أيضاً وضبط الإمام المنافع بما تملك بالإجارة وهذا كما مر عن القمولي صريح في أنه لا يدخل في المنافع عين أصلاً، وفيه أيضاً وفي وجه ضعيف تصح الوصية بالثمرة التي ستحدث دون الحمل لأنها تحدث من غير إحداث أمر في أصلها كالمنافع بخلاف الولد فهذا صريح في أن الثمرة ليست من المنافع وإلا(5/221)
لم يصح قياسها عليها بل متن المنهاج صريح في ذلك وهو وتصح بالمنافع وكذا بثمرة أو حمل سيحدثان في الأصح فجزم بصحتها بالمنافع وحكى الخلاف في صحتها بثمرة ستحدث فلو كانت الثمرة التي ستحدث من المنافع لم يتأت الخلاف كيف، وقد أجمعوا إلا من شذ على صحة الوصية بالمنافع والاستدلال بملك أجرة الحرفة والمهر غير صحيح، لأن أجرة الحرفة بدل منفعة يصح الاستئجار لها وليس بدل عين حتى يكون دليلاً على ما زعمه من تناول المنفعة للأعيان التي ذكرها، ولأن المهر بدل منفعة أيضاً هي الوطء الذي هو الانتفاع وإن لم يصح الاستئجار له فليس بدل عين أيضاً على أن الراجح عدم دخوله لأنه بدل عما لا يستأجر له فلم تشمله المنفعة وبه يتجه ما قاله الأوّل، وأما استشهاد الأوّل بأن الوصية بالمنفعة إنما تطلق على ما يرد عليه عقد الإجارة فهو المنقول كما قدمته لكن قوله وهو نحو الاستظلال بظلها غير صحيح لأنها إن كانت في أرض مملوكة للغير لم يجز الاستظلال بظلها أو مباحة جاز الاستظلال بظلها وإن منع منه المالك لأنه بمجرده لا يقصد ولا يقابل بمال وإنما منفعتها ربط الدواب والأمتعة بها وتجفيف الثياب عليها وغير ذلك مما في معناه، فهذا هو المقصود بالوصية بمنافعها، نعم الحق الذي دل عليه كلامهم في مواضع أنه لو قامت القرائن الظاهرة على أنه ليس القصد من الوصية بمنافعها إلا نحو ثمرتها كأن لم يتعارف عندهم منفعة للنخلة إلا ثمرتها ونحوها وإلا نحو لبن الغنم وصوفها دخلت العين حينئذ، لأن ذلك العرف يخرج المنفعة عن حقيقتها ويصرفها إلى أن المراد بها مطلق الفوائد الشاملة للأعيان وبهذا يجمع بين هذين الإفتاءين المذكورين في السؤال فيحمل الأوّل على ما إذا كان ثم منافع حقيقة، والثاني على ما إذا لم يكن لها منفعة إلا نحو الثمر واطرد العرف بأنه المراد بالوصية أو قامت القرائن الظاهرة على ذلك فتأمله، ثم رأيتني أوضحت المسألة في شرح المنهاج بما لا مزيد عليه.(5/222)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
وسئل عمن أوصى بوصايا وجعل الوصايا في عين من ماله فهل يمتنع على الورثة التصرف في التركة حتى تنفذ الوصايا أم في العين وحدها الموصى فيها بالوصية أو يقال إن قال الموصي أوصيت لفلان بمائة دينار في العين الفلانية اختص التعلق بها، ولا يعم جميع التركة كما لو قال الميراث في العبد لزيد وفسره بوصية أو الحكم غير ذلك بينوه؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه إذا قيد الوصية بعين من ماله كأعطوا فلاناً مائة من أجرة داري أو ثمنها تقيدت الوصية بتلك العين حتى لو تلفت قبل إخراج الوصية منها بطلت الوصية ولم يكن للموصى له حق في باقي التركة وبعد أن تعلم هذا يعلم أن من الواضح في صورة السؤال أن الورثة لا يمتنع عليهم التصرف قبل إخراج تلك الوصايا إلا في العين المتعلقة تلك الوصايا بها دون بقية التركة، لأن حق الموصى له لا يتصوّر تعلقه بغير تلك العين فكيف يحجر على الورثة في غيرها، وإنما ينحصر ذلك التعلق في تلك العين لا غير فحجر عليه فيها فقط وهذا واضح جلي وعجيب من ترديد السائل المذكور فيه مع إحاطته بكلام الأصحاب الصريح فيما ذكرته إلا أن يكون للمسألة باطن غير ما دل عليه لفظ السؤال فحينئذ ينبغي شرح الصورة كما هي ليقع الكلام فيها وليس هذا نظير ما لو أوصى بعين حاضرة هي ثلث ماله وباقيه دين أو غائب وليس تحت يد الوارث يحجر على الورثة في ثلثها وعلى الموصى له حتى في ثلثها وإن ملكه بكل تقدير وذلك لأنه يحتمل بقاء غيرها فتكون كلها له وتلف غيرها فيكون له ثلثها ومع ذلك لا يتصرف فيه، لأن تصرفه يتوقف على تصرفهم في مثله وهو متعذر لما تقرر، وفي صورة السؤال لا يحتمل تعلق الموصى له بغير تلك العين المتعلق بها الوصايا أصلاً فلم يكن لمنع الورثة من التصرف في غيرها وجه كما مر.(5/223)
وسئل عما إذا قال شخص في مرض موته ثلث مالي لفلان ولم يقل بعد موتي هل يكون وصية للعلم بأن مراده بعد الموت أم لا؟. فأجاب بقوله: هذا كناية فإن نوى به الوصية فوصية أو الهبة الناجزة فهبة، وبهذا يجمع بين قول القاضي ليس وصية أي صريحاً، وقول الزجاجي وصية أي إن أرادها ولا عبرة بالقرائن الدالة على أن مراده ما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 4
باب الوديعة
وسئل في مستودع مأذون له من المودع في دفع الوديعة إلى شخصين معينين ليسافرا بها إلى مكان معين فطلب الشخصان الوديعة من المستودع في غيبة المودع فسافرا بها إلى غير تلك الجهة المعينة فصدقهما المستودع على الإذن المذكور لكن التمس منهما البينة بالإذن فشهد لهما ولد المستودع وأجنبي وقبلهما الحاكم وسلم إليهما الوديعة ثم حضر المودع وأنكر الإذن في الدفع فأقام المستودع البينة المحكوم بها فهل الدفع المذكور للسفر إلى غير الجهة المعينة جائز أم لا؟ وهل شهادة الولد على والده بالإذن مقبولة؟. فأجاب بقوله: إذا ثبت عند الحاكم الشرعي إذن المودع للوديع في الدفع إلى المذكورين فألزم الحاكم الوديع بالدفع إليهما برىء ولا مطالبة للمودع عليه وإن لم يثبت إذن المودع كذلك أثم الوديع بالدفع إليهما، وصار به ضامناً وتقبل شهادة ولده عليه بالإذن له إذا طالباه بتسليم الوديعة إليهما على وفق إذن المودع فامتنع، وأما بعد أن سلمها لهما وطلب المالك تضمينه لإنكاره الإذن فلا تقبل شهادة ولده له حينئذ بالإذن له، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن قولهم لو وضع ثيابه في الحمام ولم يستحفظ الحمامي فسرقت لم يضمنها. هل يؤخذ منه أن الضيف إذا دخل بيت المضيف ووضع ثيابه ونحوها في البيت المذكور ولم يستحفظ رب البيت فسرقت أنه لا يضمنها أو لا يؤخذ؟ فإن قلتم نعم، فذاك وإلا فما الفرق؟. فأجاب بقوله: لا يضمن صاحب المنزل ثياب الضيف المذكور.(5/224)
وسئل عما إذا استودع رجل آخر عيناً وطلب صاحب العين وديعته في مكة المشرفة شرفها الله تعالى يدعي أنه أودعها فيها فقال المودع: ما أودعتني إلا في زبيد مثلاً فلا يلزمني نقلها إليك. فمن المصدق منهما؟. فأجاب بقوله: الواجب على الوديع هو التخلية بين الوديعة ومالكها ولا يلزمه نقلها إليه، فإن ادعى المالك أنه أودعه بمكة فنقلها إلى غيرها وادعى الوديع أنه لم يتعد بنقل الوديعة من البلد التي أودعه فيها كان المالك مدعياً عليه خيانة والأصل عدمها فيصدق الوديع بيمينه في عدمها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 71(5/225)
وسئل عما إذا قال الأمين أوصلت الأمانة لمالكها أو لوكيله أو لحاكم شرعي عند الضرورة أو لأمين آخر عند فقد أولئك هل يقبل قوله في ذلك مع يمينه، والحال أن كلاً ممن ذكر غائب غيبة طويلة في بلاد بعيدة والأمين في بلدة أخرى بينهما نحو سنة مثلاً ولم يبرح الأمين ولم يسافر أصلاً، وإذا أقام شخص وكيلاً وجعل عليه ناظراً وجعل تحت يد وكيله أعياناً على سبيل الوديعة أو غيرها فإذا رأى الناظر خللاً في تصرف الوكيل كبيعه بغير إذنه أو تلفاً في المال فاقتضى رأيه أن يأخذ ما تحت يده من الوديعة وغيرها خشية على بقية ذلك فهل له ذلك أو لا؟ وإذا عزل الوكيل نفسه أو مات هل للناظر أن يستولي على ما تحت يده من الأعيان أو يتولى أمر ذلك الحاكم الشرعي ويكون نظره باقياً على حاله ولا يتصرف الحاكم في شيء إلا بإذنه، وإذا قلتم له قبض ذلك دون الحاكم الشرعي وامتنع هل يضمن أم لا؟. فأجاب بقوله: لا يقبل من الأمين دعوى الرد إلا إن كان على مؤتمنه وإن كانت الدعوى مع وارثه، وأما على غير المؤتمن فلا تقبل دعواه الرد عليه وقياس ما قاله العبادي في الوصي والمشرف عليه أن الموكل إن قال لوكيله لا تعمل إلا بإذن فلان أو نحو ذلك لم يعمل إلا بإذنه فإن قصر بما يقتضي عزله لم يجز للناظر التصرف بل يرفع الأمر للقاضي لينصب قيماً ليكون المال تحت يده ويد الناظر ولا يتصرفان فيه إلى حضور الموكل، والفرق بين هذا ونظيره في الوصيتين واضح.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 71(5/226)
وسئل عن رجل عنده رهن أو وديعة في حرز هو دار يسكنها فأراد الانتقال منها إلى أخرى من تلك المحلة تصلح حرزاً لما عنده لكنها دون الأولى في الإحراز أيام سكناه لها وبعد الانتقال لا تكون حرزاً فهل يجب عليه البقاء في الأولى لأجل ما عنده أو لا؟ استصحاباً لأصل حرزيتها ولا يضمن إن ضاعت أو يدفعه لقاض أو أمين وإن لم تكن نقلته سفراً أو لمالكه إن حضر وإن كان رهناً وتفوت وثيقته أو يلزمه نقله معه في سكنه لأنه أحرز من الأوّل حينئذ بل الأول الآن غير حرز ويكون قول الأئمة يضمن بنقلها إلى حرز دونها من دار أخرى مراداً به حال بقاء ذلك فيها، وقد ذكروا جواز النقل لخوف أو نحوه وكيف يقال بإلزامه البقاء في الأولى وهو محسن أو نائب عن يد المالك بلا التزام أو بجواز تركه فيها فضلاً عن منعه من النقل وهي بعد الانتقال غير حرز أفتونا مأجورين؟. فأجاب بقوله: إذا لم يعين المالك حرزاً للوديعة أو نحوها فالنقل لغير دارها تارة يكون لغير عذر وتارة يكون لعذر فإذا كان لغير عذر حامل عليه كان سبباً للضمان إن كان المنقول إليه دون الأول في الإحراز سواء أكان الثاني حرزاً لمثلها أم لا؟ ووجه تضمينه بذلك أنه عرضها للتلف بما تعاطاه من النقل المذكور فأدير الهلاك الواقع بها على أقرب أسبابه وأخصها وهو النقل بل لا سبب ظاهر للهلاك حينئذ غير النقل الذي هو في الحقيقة نوع تعد لأن الغرض أنه غير محتاج إليه وأنه أدون من الأول إحرازاً فكان النقل إليه سبباً للهلاك كما تقرر إذ لو بقيت بالأول إلا حرز لم تتلف بخلاف ما إذا نقلها إلى حرز مثل الحرز الأول أو أعلى منه إحرازاً فإنه لا يضمن بالنقل وإن حصل الهلاك به ولو إلى قرية أخرى لا سفر بينهما ولا خوف ولا نهي من المالك لأنه غير متعد به عرفاً ولا شرعاً، إذ لو بقيت بالأول لتلفت أيضاً، لأن الغرض أن الثاني مثله أو أعلى، ولأن الغرض لا يتفاوت بذلك وإن كان لعذر كان نقلها لظن أنها ملكه أو لأجل سفر أو خوف(5/227)
عليها من نحو لصوص أو نهب أو حريق أو هدم فلا ضمان عليه بذلك وإن نقلها إلى حرز مثلها إلا دون من الأول إحرازاً لأنه في هذه الحالة لا ينسب للتعدي بوجه فلم يقتض فعله الضمان لجواز نقلها حينئذ بل وجوبه إلى حرز مثلها ويتعين مثل الحرز الأول إن وجده خلافاً لما يوهمه كلام بعضهم إذا تقرر ذلك كله الذي صرحوا به علم منه أن من أودع أو رهن شيئاً فجعله في مسكنه الذي هو حرز له لذاته أو بواسطة سكناه فيه ثم أراد الانتقال منه إلى سكن آخر كذلك فإن لم يخف عليه لو تركه في المسكن الأول لكونه حرزاً لمثله بعد ذهابه منه لم يجز له نقله إلا إلى مثله أو أعلى منه لا إلى دونه وإن خاف عليه لو تركه في الأول وجب عليه نقله إلى مثل الحرز الأول إن وجده وإلا فإلى حرز مثله، وكلام الأئمة لا يخالف شيئاً مما قرر بل ما قررته هو عين كلامهم كما علمت من تلخيصه الذي ذكرته، وبه تندفع ترديدات السائل التي أبداها بل قوله ويكون قول الأئمة يضمن بنقلها إلى حرز دونها الخ، فيه نظر بل عدم فهم كلامهم على وجهه إذ قوله إلى حرز دونها صوابه إلى حرز دونه أي دون حرزها الذي هي فيه وإن لم يكن دونها كما قدمته مع ما يخرج به وبتأمل هذا مع ما قررته قبله يعلم أيضاً بقاء كلام الأئمة على ظاهره الذي ذكرته وأنه لا يحتاج إلى أن يراد به ما ذكره السائل، وقوله وكيف الخ جوابه أنه وإن كان محسناً لكنه ورّط نفسه بالتزامه الحفظ ووضعه نحو الوديعة فيما نقلها منه إلى غيره ففصلنا فيه بين أن ينقل لأدون أو لغيره لعذر أو لغيره كما قدمت ذلك كله وإحسانه لا يدفع ذلك على أنه ليس عليه في النقل إذا ألزمناه به ضرر لأن أجرته إن احتيج إليها على المالك لا على نحو الوديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 71(5/228)
وسئل عن شخص ادعى عليه بأمانة فأنكرها ثم أنه أقر بها وادعى دفعها فهل يقبل قوله بعد إنكاره وتقبل بينته أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا أنكر الوديع الإيداع ثم أقر به أو شهدت عليه به بينة ثم ادعى التلف أو الرد قبل الإنكار فإن كانت صيغة إنكاره لا شيء لك عندي أو لا وديعة لك عندي أو لا يلزمني تسليم شيء إليك أي التخلية بينك وبينها صدق في جميع هذه الصور بيمينه وإن كانت صيغة إنكاره لم ترد عيني لم يصدق إن ادعى الرد فإن ادعى التلف صدق في حصوله لكن يلزمه للمالك مثلها إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت متقوّمة وللوديع إقامة البينة على ما ادعاه من تلف أو رد ثم إن شهدت البينة بحصولهما قبل إنكاره الإيداع فلا مطالبة للمالك عليه وإن شهدت بالتلف بعد الإنكار ضمنها لتعديه بالإنكار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن له الإيداع من ولي ووصي وقيم وحاكم حيث ادعى الوديع عليه رد الوديعة وأنكره وحلف الوديع فالمولى عليه إذا انفك عنه الحجر يطالب من منهما بماله؟. فأجاب بقوله: إذا أودع من ذكر وجوّزنا له الإيداع وأشهد عليه فإن الوديع ثقة فلا مطالبة للمولى عليه لا على وليه والوديع قد برئت ذمته من الوديعة بيمينه والولي لم يوجد مبرىء له فهو مطالب بها حتى يبدي وجهاً مبرئاً له منها وإلا ضمنها وإن اختل شرط من ذلك فله مطالبة كل منهما لفساد الإيداع فتكون يد كل منهما يد ضمان هذا ما ظهر لي من متفرقات كلامهم وهو الحق الذي لا محيد عنه إن شاء الله تعالى.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 71(5/229)
باب قسم الفيء والغنيمة
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن الغنائم التي لا تقسم على وفق الشرع كغنائم هذا الزمان هل يجوز التصرف فيها للغانمين أو غيرهم أم لا؟ وإن قلتم لا فما حكم الله فيها في هذا العصر المأيوس من الإمام العادل أو من الإنصاف وما المصلحة في التصرف فيها وهل في الأئمة من جوّزه بغير تخميس ولا قسمة شرعية وما الحكم فيما يأخذه من الحربيين والرعايا المسلمين في مراكب يصرفون لها من أموالهم باستئجار العساكر وتهيئة العدد كما هو الواقع الآن في أرض مليبار هل يكون غنيمة كسائر الغنائم أم لا؟ فإن قلتم نعم فهل لصارف المال فيه حق أو لا؟ وإن قلتم لا فما الحكم فيه فهل يملكه الآخذ أو الصارف للمال أو غيرهما وإن وجد فيه امرأة فمن الذي يزوّجها القاضي أو أحد الآخذين أو لا؟ وهل يشترط في قسمة الغنائم وتخميسها الإمام أو نائبه أو القاضي أو يكفي الغانمون وحدهم أو عدل آخر؟ فصلوا لنا تفصيلاً تاماً واشرحوا مزيلاً للإشكال فإن المسألة قد عمت بها البلوى في قطر مليبار في هذا الزمن جزاكم الله سبحانه وتعالى خيراً. فأجاب بقوله: الغنيمة مال أو اختصاص أخذ من حربيين بقتال أو إيجاف خيل أو ركاب أو نحوهما كالسفن سواء أخذ حال القتال أو بعد انهزامهم عنه ولو قبل شهر السلاح حين التقى الصفان، ومنها ما صالحونا عليه عند القتال وما أخذ بنحو سرقة فقد قال الشيخان في الروضة وأصلها ما حاصله: أنه لو دخل واحد أو جماعة ولو بغير إذن الإمام دار الحرب فسرق أو اختلس أو التقط من مالهم فهو غنيمة مخمسة لا يختص به الآخذ تنزيلاً لدخوله دارهم وتغريره بنفسه منزلة القتال وإن أخذه على وجه السوم ثم جحد أو هرب اختص به ولم يخمس. قال الأذرعي : وقولهم دخل دارهم جرى على الغالب وإلا فلو أخذ من مالهم في دارنا ولا أمان لهم كان الحكم كذلك. قال الشيخان : ومن قهر منا حربياً وأخذ ماله كان غنيمة مخمسة فلا يختص به الآخذ ولو قدم كافر هدية إلى الإمام أو غيره والحرب قائمة كان غنيمة(5/230)
مخمسة لأنه فعله خوفاً بخلاف ما لو قدمها إليه والحرب غير قائمة فإنها تكون له اهـ، وفي المأخوذ على صورة السرقة والاختلاس وجه ضعيف أنه يختص به الآخذ. قال الشيخان : وليكن هذا الوجه مخصوصاً بما إذا دخل واحد أو نفر يسير دار الحرب وأخذوا فأما إذا أخذ بعض الجيش بسرقة واختلاس فيشبه أن يكون غلولاً ثم حكم الغنيمة أنها تخمس فخمسها لخمسة أحدها: المصالح العامة كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والعلماء والأئمة والمؤذنين وغيرهم من كل ذي نفع عام يعود على الإسلام ويجب تقديم الأهم فالأهم والأهم مطلقاً هو سد الثغور. والثاني: بنو هاشم والمطلب غنيهم وفقيرهم كالإرث ويعمهم وجوباً إلا أن قل بحيث لا يسد مسداً بالتوزيع فيقدم الأحوج فالأحوج ويخص أهل كل ناحية بما فيها نعم للإمام أن ينقل بقدر ما يحتاج إليه في التسوية بين المنقول إليهم وغيرهم. الثالث: اليتامى وهم كل صغير لا أب له ويجب تعميمهم لا التسوية بينهم، ويشترط فقرهم. والرابع والخامس: المساكين وابن السبيل فهؤلاء الخمسة يستحقون الخمس أخماساً، وأما الأربعة الأخماس الباقية من الغنيمة فهي للغانمين للآية ولفعله لذلك في أرض خيبر، ولما صح أنه سئل عنها فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش فما أحد أولى به من أحد إذا تقرر ذلك علم منه أنه لا يجوز للغانمين التصرف في الغنيمة قبل قسمتها لأنها مشتركة بينهم وبين أهل الخمس المذكورين والشريك لا يجوز له التصرف في المشترك بغير إذن شريكه وإذن هؤلاء متعذر لعدم إمكانه وأنه لا فرق في توقف تصرف الغانمين على القسمة بين أن يكون الإمام عادلاً أو جائراً فيجب رفع الأمر في الغنائم إليه أو إلى أحد من نوابه الذين لهم ولاية على ذلك بطريق العموم أو الخصوص ليتولى قسمتها بين الغانمين وأهل الخمس، إذ لا يجوز للغانمين الاستبداد بالغنيمة لأن الشريك لا يستبد بقسمة المشترك بل لا بد أن يقاسمه شريكه إن تأهل وإلا قام(5/231)
وليه مقامه في القسمة. والشركاء هنا لا يمكن مقاسمتهم لما مر، فينوب الإمام عنهم لأن ولاية التفرقة عليهم له أو لنائبه الذي فوّض إليه ذلك، نعم لمن ظفر بعد القسمة بالخمس الذي للخمسة السابقين وخشي استيلاء الإمام أو أحد من الظلمة عليه، وأن لا يوصله لمستحقيه أن يستولي عليه ثم إن كان يحسن قسمته على مستحقيه شرعاً جاز له أن يتولى ذلك بنفسه وله إذا كان مستحقاً أن يأخذ ما يحتاجه وإن لم يحسن قسمته دفعه إلى أحد من أهل العلم والصلاح ليتولى قسمته على مستحقيه، وعلم مما تقرر أيضاً أن استحقاق أهل الخمس له من الغنيمة منصوص عليه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فلا يسع أحداً مخالفة ذلك وأن ما يؤخذ من الحربيين في المراكب المذكورة غنيمة مخمسة لا يختص به الآخذون بل يكون أربعة أخماسه لهم وخمسه للخمسة السابقين، وأن المرأة الموجودة فيه تكون رقيقة فيكون أربعة أخماسها للغانمين وخمسها للخمسة المذكورين ولا يجوز تزويجها ما دامت كذلك، لأن من ملاكها من لا يمكن إذنه بخلاف ما لو انتقلت إلى ملك أحد من الغانمين فإنه هو أو وليه يزوّجها أو إلى بيت المال فإن القاضي يزوّجها وأنه لا بد في قسمة الغنائم من الإمام أو نائبه السابق، ومنه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 73(5/232)
القاضي إن شملت توليته ذلك نصاً أو عرفاً كأن يقال له على عادة من تقدمه وتكون عادة من تقدمه النظر في أمر الغنائم وما يتعلق بها واعلم أن التعبير بالإيجاب فيما مر إنما سلكوه تبركاً بلفظ الآية وإلا فمفهومه ومنطوقه غير مراد إذ لو جلوا عن مال خوفاً بسبب حصول خيلنا وركابنا وضرب معسكرنا بدارهم كان فيئاً لا غنيمة مع وجود الإيجاف، ولا فرق فيما مر بين من عليه جهاد وغيره فلو غزا نحو صبيان أو عبيد كان لهم مما غنموه أربعة أخماسه بحسب نفعهم ويتبعهم صغار السبي في الإسلام هذا إن لم يحضر معهم كامل وإلا كانت أربعة أخماس الغنيمة له ورضخ لهم، وما حصله أهل الذمة من أهل الحرب بقتال أو نحو سرقة اختصوا به فلا يخمس عليهم بل يفوزون بجميعه، وبهذا يتضح ما اعتمده النووي وغيره من حل وطء السراري اللاتي يجلبن اليوم وذلك أنه لم يتحقق أن جالبهن من بلد الحرب مسلم حتى يكون خمسها لأهل الخمس فلا يحل وطؤها بل يحتمل ذلك، ويحتمل أن جالبها ذمي فلا تخمس عليه بل يملكها جميعها ويحل له ولمن انتقلت إليه وطؤها، وإذا احتمل واحتمل فالأصل الحل وأيضاً فجلب المسلم مانع من حل الوطء والأصل عدم المانع حتى يتحقق ثبوته على أنه لا يلزم من كون جالبها مسلماً حرمتها لاحتمال أنه أخذها بسوم وهرب ومن كانت كذلك يحل وطؤها لما مر أن الأخذ كذلك لا تخميس على فاعله هذا ما تلخص في هذه المسألة مع الاشتغال وشغل البال، ولولا ذلك لكانت تحتمل من البسط أزيد من هذا بكثير لكن لعل فيه وفاء بمقصود السائل، فإن كان كذلك فبها ونعمت وإلا فباب تجديد السؤال مفتوح وإن شط المزار وبعدت الديار فإن من اعتنى بما يعود عليه منه نفع بذل جهده في تحصيله حتى يسهل الله تعالى له حصوله أو حصول شيء منه بحسب بذل همته وصفاء طويته وكمال قابليته، والله تعالى أعلم.(5/233)
وسئل عن ذمي خلف ورثة لا يستغرقون تركته فهل الباقي لبيت المال مطلقاً أو أن ترافعوا إلينا؟ وقد أفتى بعضهم بأن لنائب بيت المال أخذه من غير ترافع ونقله عن السبكي في كتابه كشف الغمة في توريث أهل الذمة. فأجاب بقوله: ما نقل عن السبكي ظاهر وإن لم يتيسر لي الآن الوقوف عليه للاشتغال بالموسم وعوارضه، وكلام الأئمة في باب الفيء مصرح به فإنهم عدوا من جملة الفيء مال الذمي المذكور ولو توقف على مرافعة لم يتم لهم عده من ذلك إلا بشرطها فإطلاقهم عده منه من غير تعرض لمرافعة صريح في أنها ليست بشرط على أن اشتراطها هنا لا معنى له، وقد أشار الزركشي إلى ذلك بقوله يجري في إرث الذمي أحكام الإسلام أي إلا أن الفرق بينهما أن المسلم الذي لا وارث له ينتقل ماله لبيت المال إرثاً والذمي الذي لا وارث له ينتقل ماله لبيت المال فيئاً والتغاير بينهما ظاهر معلوم من كلامهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 73
باب قسم الصدقات
وسئل إذا أراد الفرع أن يعطي أصله من سهم الفقراء أو المساكين شيئاً من فطرته أو عكسه، والحال أنه ليس في نفقته ذلك الوقت لكونه مستغنياً بما لا يمتنع معه إطلاق اسم الفقر أو المسكنة فهل له ذلك أم لا؟. فأجاب: بأنه يجوز إعطاء الأصل والفرع باسم الفقر أو المسكنة إذا لم يلزمه نفقته وقت الإعطاء لأنه إنما امتنع عليه إعطاؤه عند لزوم مؤنته له، لأن في الإعطاء حينئذ إسقاط واجب عليه فكأنه صرف مال نفسه لنفسه، وأما حيث لم تلزمه نفقته فلا مجذور في إعطائه من زكاته فجاز له ذلك بل ينبغي أن يكون إعطاؤه أفضل من إعطاء غيره كما شمله كلامهم في مواضع أخر.(5/234)
وسئل هل يجوز للمالك أن يصرف من زكاته إلى الأيتام الفقراء الحاضرين عند القسم لتعسر مراجعة القاضي ونصب من يقبض لهم أو لا؟. فأجاب بقوله: لا يجوز صرف الزكاة إلا إلى ولي نحو الصبي ولا يجوز صرفها ولا يعتد به لغير الولي مطلقاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما حكي عن الفقيه أحمد بن موسى نفع الله سبحانه وتعالى به أنه قال ثلاث مسائل لا يفتى بها على مذهب الإمام الشافعي بل على مذهب الإمام أبي حنيفة وهن: نقل الزكاة ودفع زكاة شخص إلى صنف واحد وإلى شخص واحد، وقال الأصبحي في فتاويه في الجواب عن ذلك: اعلم أن ما حكي عن الفقيه أحمد بن موسى نفع الله سبحانه وتعالى به قد حكي مثله عن غيره من أكابر الأئمة كالشيخ أبي إسحق والشيخ يحيى بن أبي الخير والفقيه الأحنف وغيرهم وإليه ذهب أكثر المتأخرين وإنما دعاهم إلى ذلك عسر الأمر. وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) اهـ، فما نقل عن هؤلاء الأئمة صحيح هذا النقل فما تحقيق ذلك وهل يجوز تقليدهم في ذلك أم لا؟. فأجاب ما نقل عن الأئمة المذكورين لا بأس به في التقليد فيه لعسر الأمر فيه سيما الأخيرتان ومعنى القول بأنها لا يفتي فيها على مذهب الإمام الشافعي أنه لا بأس لمن استفتى في ذلك أن يرشده مستفتيه إلى السهولة والتيسر ويبين له وجه ذلك بذكر الشروط عند الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فإن وطن نفسه على تحمل تلك المشاق ورعاية مذهبه فهو الأولى والأحرى لكثرة الخلاف في جواز التقليد وعسر استيفاء شروطه إذ يلزم من قلد إماماً في مسألة أن يعرف جميع ما يتعلق بتلك المسألة في مذهب ذلك الإمام، ولا يجوز له التلفيق مثال ذلك من قلد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75(5/235)
مالكاً ـ رضى الله تعالى عنه ـ في طهارة الكلب يلزمه أن يجري على مذهبه في مراعاة سائر ما يقول به من النجاسات كالمني ويلزمه أن يراعي مذهبه في الطهارة كالوضوء والغسل فيمسح رأسه كلها في وضوئه ويوالي في وضوئه وغسله ويدلك أعضاءه فيهما وكذلك يلزمه أن يراعي مذهبه في الصلاة فيأتي بجميع ما يوجبه فيها ومتى لم يفعل ذلك كأن مسه كلب فلم يسبع ثم مسح بعض رأسه في وضوءه وصلى كانت صلاته باطلة بالإجماع لأنه لم يجر على ما قاله الشافعي وحده ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولا على ما قاله مالك وحده ـ رضى الله تعالى عنه ـ وإنما لفق بين المذهبين فكانت طهارته من النجاسة على مذهب مالك ووضوءه على مذهب الشافعي وكل من الطهارتين مشترط للصلاة فلم يصل على واحد من المذهبين لأنه متى حصل تلفيق في التقليد كان التقليد باطلاً وكذا المأتى به ملفقاً باطل بالإجماع كما مر فليتفطن لهذه القاعدة فإن كثيرين يقلدون الأئمة في بعض المسائل ولا يراعون ذلك فيقعون في ورطة التلفيق فتبطل أفعالهم بالإجماع وحيث اتفق مالك مثلاً وبعض أصحابنا على حكم مخالف للمذهب وأراد الإنسان التقليد في ذلك الحكم فالأولى تقليد مالك لأنه مجتهد مطلق بالإجماع وأما بعض الأصحاب فليس مجتهداً كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل هل يحل أخذ الزكاة لمن اشتغل بعلم شرعي يشتري بها كتباً وكل ما يعينه على طلب العلم أو لا؟. فأجاب بقوله: إن من اشتغل عن كسبه الحلال اللائق به الذي يكفيه ويكفي ممونه بتعلم علم شرعي أو آلة له وكان يتأتى منه أو بتعلم القرآن دون نوافل العبادات جاز له أن يأخذ من الزكاة بقدر كفايته وكفاية ممونه اللائقة بهم العمر الغالب ثم ما أخذه يصير ملكه فله أن يصرفه في شراء كتب علوم الشرع وآلاتها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/236)
وسئلت عن قول المنهاج والمسكين من قدر على مال أو كسب الخ هل المراد كفايته سنة أو العمر الغالب وكم مقدار الكفاية؟. فأجبت بقولي: المراد كفايته العمر الغالب على الأصح والمراد بالكفاية كفاية نفسه وممونه حال إعطائه الزكاة الكفاية اللائقة به وبهم عرفاً مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً وغيرها من سائر وجوه الكفايات، نعم يبقى النظر فيما لو كان عنده صغار ومماليك وحيوانات فهل نعتبرهم في العمر الغالب لأن الأصل بقاؤهم وبقاء نفقتهم عليه أو بقدر ما يحتاجه بالنسبة إلى الأطفال ببلوغهم وإلى الإرقاء بما بقي من أعمارهم الغالبة وكذلك الحيوانات للنظر في ذلك مجال، وكلامهم يومىء إلى الأول لكن الثاني أقوى مدركاً فإن تعذر العمل به تعين الأول.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75
وسئلت رجل عليه زكاة أفرزها ونوى فسرقها أو غصبها مستحق فهل يقع الموقع أو لا؟ فما فائدة أخذها منه وردها إليه؟. فأجبت: لا يقع المسروق ولا المغصوب الموقع ولو بعد النية والإفراز لأنه بهما لم يخرج عن ملك المالك إذ له الإخراج من غيره فإذا أخذه مستحق لم يملكه لأنه باق على ملك المالك ولم يرض بأخذه إياه فيلزمه أن يرده أو بدله إليه ثم المالك مخير بين الدفع له والدفع لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/237)
وسئل عن شخص إذا أراد أن يدفع زكاة ماله أخذ من يدفع إليه الزكاة من أولاده أو بعض أقاربه أو صديقه ثم دفع إليهم تلك الزكاة ثم بعد الدفع أعطاهم من الزكاة شيئاً قليلاً أو لم يعطهم شيئاً ثم أنهم ردوا باقي الزكاة عليه أو على بعض عياله، وأراد أن ينتفع بها فهل يحل له ذلك أو لا؟ لكون الذين دفعه إليهم محتاجين لذلك ولقول النبي : «أغنوهم عن الطلب في ذلك اليوم» ولم يحصل لهم ذلك ولكونه لم يأخذ بعض أولاده أو صديقه إلا لكونه يعلم أنه إذا دفع إليهم الزكاة أنهم يردونها لبعض عياله ملكاً وإلا لم يدفع إليهم فهل هذه الحيلة صحيحة أم لا؟ اهـ. وقد حكي أن أبا يوسف كان يهب ماله لزوجته في آخر الحول ويستوهب مالها لإسقاط الزكاة فحكى ذلك لأبي حنيفة فقال ذلك من فقهه وصدق فإن ذلك فقه الدنيا ولكن مضربه في الآخرة أعظم من كل جناية ومثل هذا العلم هو الضار اهـ، فإذا كان رجل عندنا غني عن الزكاة فوهب ماله لزوجته حتى يصير فقيراً أو مسكيناً فهل يكون كما ذكر عن أبي يوسف أم لا؟ فإن قلتم نعم فذاك وإن قلتم لا فما الفرق اهـ، وإذا كان أهل بلادنا يشترطون على الفقيه أنا ما نعطيك الزكاة إلا أن تصيف معنا أو يعطيهم دراهم ولو لم يعطهم دراهم لم يعطوه الزكاة فإن قلتم نعم فالمسؤول منكم زجرهم عن ذلك وبسط الجواب والمسؤول منكم أخبرونا كم صاع النبي بمكيال مكة أو غير ذلك فإنا نريد كلاماً في ذلك وإنا نريد البيان منكم؟. فأجاب: أن من يعطي زكاته لمن يرد بعضها إليه إن كان ذلك بشرط أن يردوا عليه أو على بعض عياله أو غيرهم ذلك حالة الإعطاء فالإعطاء باطل والزكاة مستقرة في ذمته لا يبرأ منها عن شيء بل إن مات ولم يؤدها أداء صحيحاً عوقب عليها العقاب الشديد كما دلت عليه الآيات والأحاديث الكثيرة الشهيرة منها قوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة: 35) الآية، ومنها قوله تعالى:(5/238)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75
{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} ، (التوبة: 77) وروى مسلم عن أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن النبي قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله سبحانه وتعالى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» ، وإن كان ذلك الرد بغير شرط وإنما هو تبرع من الآخذين كان قبول المالك له مكروهاً كراهة شديدة، لأن المتصدق يكره له أن يتملك صدقته ممن دفعها إليه كراهة شديدة وقد شبهه بالكلب يرجع في قيئه ثم الحيلة في إسقاط الزكاة اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً، فقال مالك و أحمد بن حنبل و إسحق أن من احتال على إسقاط الزكاة عنه في أثناء الحول لا تسقط عنه الزكاة بل هي باقية في ذمته يعاقب عليها في الآخرة العقاب الشديد ومتى اطلعنا على إنسان أنه يفعل ذلك عاقبناه عليه وعزرناه التعزير الشديد الزاجر له ولأمثاله وأخذنا الزكاة منه قهراً عليه، وقال الشافعي و أبو حنيفة وغيرهما: إنها بقصد الفرار من الزكاة مكروهة لكن خالف الشافعي جماعة من أصحابه ك الدارمي وصاحب الإبانة و المسعودي فشذوا وقالوا إنها حرام كما قال به مالك وأحمد وإسحق وحكاه الإمام عن بعضهم وتبع هؤلاء الغزالي في وسيطه ووجيزه فقال إنها حرام. وقال ابن الصلاح : يكون آثماً بقصده لا بفعله وأبداه الأذرعي بحثاً وقال في الخادم إنه مسيء. وقال الغزالي في الإحياء: لا تبرأ الذمة منها باطناً. وحكى عن أبي يوسف(5/239)
أنه كان يفعل ذلك ثم قال العلم قسمان ضار ونافع وهذا من الفقه الضار وتبعه الزركشي في قواعده فقال: ومن الحكم ما يؤخذ به في الظاهر دون الباطن كما إذا باع المال الزكوي فراراً من الزكاة تسقط في الظاهر وهو مطالب بالزكاة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى وكذلك إذا طلق المريض زوجته فراراً من الإرث وكذا إذا أقر لبعض ورثته بقصد حرمان الباقين. قال الكمال بن أبي شريف :
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75(5/240)
وما في الأحياء هو المتجه، وقال الماوردي : إنه مسيء إذا تقرر ذلك علم منه أنه لا ينبغي لمن عنده أدنى عقل ومروءة ودين أن يرتكب شيئاً من هذه الحيل التي قد تكون سبباً للخزي في الدنيا والآخرة وربما قصد الغافل المغرور بها توفير ماله وتنميته ويكون ذلك سبباً لمحقه وزواله عن قرب أو عدم البركة فيه فلا ينتفع به هو ولا ذريته وربما عومل فيه وفي ذريته بما يسيئه ويغيظه فيسلط عليهم الشيطان أعوانه حتى ينفقونه في المحارم واللذات والشهوات القبيحة المحرمة كما لا يخفى ذلك على من جرب أحوال الناس سيما أبناء التجار ونحوهم من ذوي الأموال الذين لم يؤدوا منها حق الله سبحانه وتعالى ولم يجروا فيها على سنن الاستقامة ويأتي جميع ما تقرر في الغنى إذا احتال على أن يجعل نفسه فقيراً أو مسكيناً حتى يحل له أخذ الزكاة فيحرم عليه ذلك أو يكره له على ما مر وعلى الأول فلا يحل له ما أخذه من الزكاة بل تبقى ذمته معلقة به في الآخرة وأما ما يفعله أهل بلادكم من اشتراطهم على الفقيه أنهم لا يعطونه الزكاة مع كونه مستحقاً لها إلا أن أصاف معهم أو أعطاهم دراهم فهذا حرام عليهم بإجماع المسلمين فيعاقبون عليه العقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وليت شعري ما لهؤلاء الفاعلين لهذه الخصلة الذميمة القبيحة الشنيعة خلاق ولا مروءة ولا دين وكيف يليق هذا ممن يظهر أنه يخرج الزكاة ولو لم يظهر ذلك لكان خيراً له فإنه لا اعتداد بإخراجه ولا ينفعه منه شيء بل الزكاة باقية مستقرة في ذمته يحاسبه الله سبحانه وتعالى عليها إن شاء بما يستحقه ويناسبه من تجرئه على الله سبحانه وتعالى وعلى دينه عافانا الله سبحانه وتعالى من هؤلاء وأفعالهم القبيحة الشنيعة الدالة على سواد قلوبهم وفساد أعمالهم ونياتهم، وقد ذكر ابن عبد السلام تحريراً جيداً للصاع بالعدس فكل شيء وسع من العدس خمسة أرطال وثلث فهو صاع، لأن المنصور عاير الصاع النبوي بالعدس فجاء كذلك وتفاوت أنواع العدس يسير(5/241)
لا يحتفل بمثله فكل صاع وسع من العدس ذلك اعتبر الإخراج به في الفطرة وغيرها ولا مبالاة بتفاوت الحبوب في الميزان اهـ، والرطل الذي وزنه المراد به البغدادي وهو مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. وقال السبكي : اعتبرت القدح المصري بالمد الذي حررته فوسع مدين وسبعاً تقريباً فالصاع قد حان بالصاع المصري الأسبعي مد اهـ، والصاع المصري مقارب للكيلة وفي هذه المسألة كلام طويل لا يحتمله هذا المحل وما ذكرته لكم ملخص شيء منه وما ذكره السبكي أوجه من قول جمع إن الصاع قد حان بالمصري لكن ما قالوه هو الأحوط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75
وسئل أدام الله تعالى النفع بكم آمين كم حد المسافة التي يحرم نقل الزكاة إليها وما دونها لا يحرم؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر حد الأولى بما يجوز القصر فيه والثانية بما لا يجوز القصر فيه بجامع أن الملحظ في القصر أن يكون بمحل منقطع عن دار الإقامة غير منسوب إليها وهذا الملحظ في النقل فاستويا فيما ذكر كما هو ظاهر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ من لم يفضل عن كفاية عياله حرم عليه التصدق هل المراد كفايتهم على الدوام أو غيره فما هو؟. فأجاب بقوله: المراد كفاية يومهم وليلتهم فمتى فضل عن كفاية اليوم والليلة شيء جاز التصدق منه ومتى لم يفضل عن كفايته ذلك شيء حرم التصدق منه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(5/242)
وسئل أدام الله تعالى النفع بعلومه عن قولهم في صدقة التطوع يحرم على الغني أخذها إن أظهر الفاقة أو سأل فلو أظهرها لخوف الظلمة على ماله فهل له قبول ما يعطى من غير سؤال وهل طلب العارية كالسؤال وإذا سأل التافه كسؤال قلم أو شربة ماء هل حكمه كذلك أم لا؟ وهل المراد الغني بكفاية سنة أو أقل وإذا كان يتيسر الإعطاء في وقت دون وقت فهل له السؤال في وقت تيسره لما يحتاجه مستقبلاً وهل سؤال السلطان من بيت المال كغيره أم لا؟. فأجاب بقوله: يجوز له إذا خاف الظلمة على ماله أن يظهر الفاقة وله أن يسأل لكن ما يعطاه يجب عليه رده لمالكه وليس طلب العارية كالسؤال فيما يظهر لجريان العادة بأن الغني وغيره يسألانها فليس في طلبها إذلال للنفس ولا تغرير للغير، وظاهر كلامهم حرمة السؤال على الغني وإن سأل تافهاً وليس ببعيد، لأن الكلام فيما ليس بينه وبين المسؤول مباسطة الأصدقاء المستلزمة للعلم بمسامحتهم لما سأل فيه أصدقاؤهم ولو أغنياء أما من بينه وبين المسؤول تلك المباسطة المستلزمة لذلك من غير حياء قطعاً، فظاهر أنه لا يحرم عليه السؤال حينئذ وقول السائل وهل المراد الغني الخ، جوابه ذكرته في شرح الإرشاد وعبارته: والذي يظهر ضبط الغني هنا بمن معه كفاية يومه وليلته أخذاً مما يأتي والذي رأيته في الأحياء ضبطه بما يوافق ما ذكرته فقال: بأن يجد ما يأكل هو ومن في كفالته يومهم وليلتهم وسترهم عن الناس وما يحتاجون إليه بعد يومه وليلته ينظر فإن كان السؤال متيسراً عند نفاذ ذلك لم يجز وإلا جاز له أن يطلب ما يحتاج إليه لسنة اهـ. قال الأذرعي: وينبغي جواز طلب ما يحتاج إليه إلى وقت يعلم بالعادة تيسر السؤال والاستغناء به ولا يتجاوز والدفع لمظهر الفاقة وإن لم يسأل إما مكروه أو حرام اهـ، وقيل: يحل السؤال للغني مع الكراهة. قال النووي: وشرط حله على هذا القول الضعيف أن لا يذل نفسه وأن لا يلح وأن لا يؤذي المسؤول وإلا حرم اتفاقاً، وأفتى ابن(5/243)
الصلاح بحرمته مع ذلك وإن احتاج، وقال الإمام: هو مع الإيذاء حرام مطلقاً ومع الحاجة جائز والتعفف عنه أولى ولغير حاجة مكروه وواجب عند الضرورة، وفي الأحياء أن الأخذ مع العلم بأن باعثه الحياء منه أو من حاضر ولولاه ما أعطى حرام إجماعاً ولا يملكه انتهت عبارة الشرح المذكور، ومن له في بيت المال حق له أن يسأل السلطان وإن كان غنياً ومن لا حق له لا يجوز أن يسأل شيئاً منه لأن ناظر بيت المال كولي اليتيم وهو لا يجوز له التبرع بشيء منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75
وسئل هل يجوز للمالك أن يصرف من زكاته إلى الأيتام الفقراء الحاضرين عند القسمة لتعسر أو تعذر مراجعة القاضي في نصب من يقبض لهم ولو روجع لقسمها المالك قبل عود جوابه، وقد يتعذر وجود المنصوب وبقاؤه في الجرين عند قسمة كل مالك؟. فأجاب بقوله: لا يجوز للمالك صرف شيء من زكاته إلى صغير ولا إلى سفيه وإنما يدفع لوليه فإن فرض تعذر ولي يقبض له أو قاض ينصب له ولياً لذلك كان ذلك أمراً نادراً فلا يعوّل عليه ولا ينظر إليه واختيار بعضهم جواز الدفع لا يجوز تقليده فيه ولا العمل به، لأن ذلك شيء شاذ خارج عن المذهب وقائله المذكور ليس مجتهداً فيتعين إلغاؤه والإعراض عنه رأساً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/244)
وسئل عما ذكروه في حد المسكين من أنه من قدر على مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه هل المراد عدم الكفاية في ذلك اليوم أو كل السنة أو العمر الغالب، فإن قلتم بالأخير كما صححه النووي رحمه الله تعالى فما حده وما حد الغنى الذي لا يجوز معه أخذ الزكاة فإذا كان رجل عمره عشرون سنة مثلاً ولم يكن كاسباً وعنده عشرة آلاف مثلاً ومؤنته كل سنة ألف مثلاً فهل يجوز له أخذ الزكاة أو لا؟ فإن قلتم يجوز فما الحد الذي يجوز أخذه وكم يعطى الدافع له والحالة هذه؟. فأجاب بقوله: من تحقق بالفقر أو المسكنة لا يخلو إما أن يكون يحسن حرفة أو تجارة أو لا يحسن شيئاً من ذلك ومن لا يحسن شيئاً إما أن يكون معه شيء أو لا؟ فأما من له حرفة فإنه يعطى ثمن آلات حرفته التي يقوم دخلها بخرجه على الدوام فإن لم يف دخلها كملنا له الزائد بأن نضم إلى ثمن تلك الآلات شراء محل نعطيه له يقوم دخله مع دخل الحرفة بكفايته وكفاية ممونه بحسب اللائق به وبهم على الدوام أيضاً، وأما من يحسن التجارة فإنه يعطى رأس مال يكفيه ربحه بأن يكون ذلك الربح الحاصل منه بحسب العادة بقدر ما يحتاجه هو وممونه كما ذكر ولا يتقيد ذلك بحد وذكرهم إعطاء البقال و الجوهري و الصيرفي وغيرهم أشياء مخصوصة ذكروها وحددوها إنما هو لأن ذلك كان مناسباً لعرف زمنهم كما أشاروا إلى ذلك بقولهم عقب تلك المقادير تقريباً، وأما من معه مال وهو لا يكفيه العمر الغالب بأن يكون لو وزعه على ما بقي من عمره باعتبار الغالب الذي يعيش إليه أكثر الناس وهو ما بين الستين والسبعين لا يكفيه بل ينقص عن ذلك أو ليس معه شيء ولا يحسن كل منهما حرفة ولا تجارة فإنه يعطى كفاية العمر الغالب بأن يشتري له أرض أو عقار يكفيه كما مر غلتها على الدوام، ففي المثال المذكور في السؤال يضم إلى العشرة الآلاف التي معه قدر بحيث لو اشترى بهما محل كفاه دخله على الدوام ومحله كما علم مما تقرر ما إذا كانت تلك العشرة(5/245)
الآلاف يفي ربحها بخرجه إن كان يحسن تجارة أو لا يشتري بها ما يكفيه غلته إن لم يحسن شيئاً ففي هاتين الصورتين يضم إليها ما يشتري به ما تكفيه غلته، أما إذا كانت تلك العشرة الآلاف يمكن أن يشتري بها ما تكفيه غلته أو يمكنه أن يتجر فيها بما يفي ربحه بخرجه فلا يعطى شيئاً من الزكاة لأنه الآن غني، والحاصل أنا لا نعتبر إنفاق عين المال الذي باليد إلا في صورة واحدة وهي أن يكون معه مال ولا يحسن فيه تجارة ولا كسباً ولو أنفقه بقية عمره لم يكفه الكفاية السابقة فهذا مسكين فيعطى شيئاً يضم إلى ذلك المال ويشترى له به ما تكفيه غلته، وأما ما عدا هذه الصورة فمن له حرفة أو تجارة لا يكفيه دخلها فإنه يكمل له بأن يشتري له ما يضم ربحه إلى ربح حرفته أو تجارته بحيث يكفيه هذا حاصل المعتمد الذي يتعين الاعتناء بفهمه وتحريره في هذه المسألة فإنه قد كثر فيها اختلاف أنظار الأئمة فيها وتغليظ بعضهم لبعض في بعض تفاصيلها، ومن ثم شنع بعض من لم يمعن النظر على الأئمة فيها، وقال: يلزم أن الملوك يأخذون الزكاة لأنه ليس معهم ما يكفيهم العمر الغالب، وما درى أنه هو الأحق بالتشنيع لأنه لو تأمل ما قررناه لعلم أن الملوك ونحوهم لا يأخذون شيئاً فإن لهم من الفيء والمتاجر وغيرهما ما يفي دخله بخرجهم وكل من له ذلك فهو غني ومن ليس له ذلك إما فقير أو مسكين وكذلك يندفع بما تقرر ما أشار إليه بعض الأئمة من أن إعطاء العمر الغالب يلزم عليه حرمان أكثر المستحقين، إذ الغالب أنه لا يوجد من الزكاة ما يكفي مستحقيها العمر الغالب، ووجه اندفاع هذا ما علمت أن أحداً من الفقراء والمساكين لا يعطي حيث اتسع المال نقداً، وإما يشترى له به ما يفي دخله بخرجه فإن قل المال أعطى كل ما تيسر له.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75(5/246)
وسئل هل يشارك القادم بعد الحول الموجودين عنده وهل يجوز التوكيل في قبض الزكاة ومن يكتسب بعض السنة فقط هل يجوز له الأخذ؟. فأجاب بقوله: إن كانوا غير محصورين شاركهم القادم لأنهم إنما يستحقونها بالقسمة وإن انحصروا في ثلاثة من كل صنف لم يشاركهم لأنهم ملكوها يوم الوجوب ومن ثم لو طرأ غناهم بعده لم يؤثر ومن مات منهم بعده أعطي نصيبه لوارثه ولو غنياً، لأنه إنما يأخذها بطريق التلقي عن المستحق لها وقت الوجوب لوجود وصف الاستحقاق فيه، ومن ثم جوّز السبكي الاعتياض عنها حينئذ لأنها بدخول وقت وجوبها بلغت محلها وملكها مستحقها فاعتياضه عنها بعد ذلك اعتياض عن مملوك لا عن زكاة ويتفرع على ذلك أن المزكي لو كان وارث الكل أو بعضهم سقط بموت المستحق بعد الوجوب قدر الزكاة عن المزكي لأنه انتقل إليه بالموت من غير احتياج لتقدير قبض لئلا يلزم عليه أنه قابض مقبض لنفسه وهو متعذر شرعاً، ومن غاب وقت الوجوب ووكل من يقبض له وقت القسمة اختلف المتأخرون فيه والأوجه وفاقاً لابن رزين وغيره، لأن الملك يقع للموكل وهو غائب فلو وقع الدفع له مع غيبته كان فيه نقل الزكاة، فإن كان حاضراً وقت الوجوب وهو من محصورين صح توكيله، لأنه ملك كما مر أو من غير محصورين لم يصح، لأنه إنما يستحق بيوم القسمة وهو ليس حاضراً عندها فيلزم على أخذ الوكيل له نقل الزكاة نظير ما مر، ومن يكتسب وقت تصفية الحبوب دون ما بعدها ولم يكن له صنعة أخرى تكفيه يأخذ ما يحتاجه للعمر الغالب بخلاف ما إذا كان له صنعة أخرى تكفيه فإنه لا يعطى شيئاً باسم الفقر أو المسكنة بل بنحو الغرم لأنه لا يقدر على وفاء دينه غالباً بالكسب إلا بالتدريج فلم يكلف له.(5/247)
وسئل بما لفظه: كم حد الغنى الذي يحرم معه أخذ الزكاة والغنى والتوسط المعتبرين فيمن يعقل واليسار والتوسط المعتبرين في النفقة؟. فأجاب بقوله: حد الأول أن يكون معه مال يكفيه ويكفي من تلزمه مؤنته العمر الغالب باعتبار المؤن اللازمة اللائقة به وبهم عرفاً فيما يظهر فلو كان له مال يكفيه ربحه يوماً بيوم أو صنعة جائزة يكفيه دخلها كذلك أو غلة مواضع كذلك فهو غني فلا يحل له الأخذ من الزكاة بنحو الفقر أو المسكنة والغني في الثاني هو من يملك فاضلاً عما يترك له في الكفارة نصاباً وهو عشرون ديناراً والمتوسط من يملك دون العشرين وفوق ربع دينار والمعسر في الثالث من لا يملك ما يخرجه عن المسكنة وإن قدر على كسب واسع فالقدرة عليه لا تخرجه عن الإعسار في النفقة وإن أخرجته عن استحقاق سهم المساكين في الزكاة، ويفرق بأن في ذلك عملاً بالأصل فيهما إذ لأصل ثم حرمة أخذ الزكاة حتى يتحقق مسوغ ومع القدرة على الكسب لا مسوّغ، والأصل هنا عدم وجوب الزائد على المد حتى يتحقق موجب ولم يتحقق بالقدرة على الكسب والمتوسط من يملك ما يخرجه عن المسكنة لكنه متى كلف بالدين صار مسكيناً والموسر من يملك ذلك ولو كلفهما لم يصر مسكيناً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75(5/248)
وسئل هل يفضل الذكر الصدقة؟. فأجاب بقوله: في الأحاديث ما يصرح بتفضيله عليها، أخرج الحاكم و الترمذي : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم»، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذكر الله» . والترمذي سئل النبي : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات»، قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة» ، والبيهقي: «لأن أقعد مع قوم يذكرون الله سبحانه وتعالى منذ صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل» .
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 75(5/249)
باب خصائصه
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل تحريم الشعر خاص بنبينا ؟. فأجاب بقوله: زعم بعضهم عدم الخصوصية، وظاهر كلامه أنه قال ذلك بحثاً بدليل تعليله لما قاله بقوله، إذ المعنى الذي حرم لأجله الشعر عليه موجود في بقية الأنبياء فلا فارق بينه وبينهم في ذلك اهـ، وما ادعاه ممنوع بل ادعاؤه لذلك عجيب، فإن المعنى الذي حرم على نبينا لأجله التوصل إلى تعلم الشعر وروايته هو أن أهل زمن بعثته كانوا فصحاء العرب وفرسان ميادين بلاغتها وكان الشعر من أعلى فخرهم، إذ يتوصل به صاحبه إلى كل كمال عندهم وكانوا لا يعدون فصيحاً وبليغاً غير مجيده، فاقتضت الحكمة الإلهية تحريم هذا عليه وأن يكون أمياً محضاً لا يقرأ ولا يكتب حتى تنقطع قالة الناس، أي العقلاء، الذين لم يسلبوا مشاعر الهداية فيه، وفيما أتى به من القرآن وتتمحض معجزته وفصاحته التي قهرت سائر الفصحاء وجميع البلغاء والشعراء ولو جاز له الشعر ما تمت تلك الكلمات الباهرات، وهذا كله لا يوجد في غيره من الأنبياء صلى الله عليه وعليهم فكيف يلحقون به في ذلك فتأمله.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 81(5/250)
كتاب النكاح
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجل ألف كتاباً وسماه بالنكت الظراف فيمن ابتلي بالعاهات من الأشراف، وذكر فيه جماعة من أهل عصره بأن قال فلان أقرع وفلان أصلع وفلان أعرج وفلان أبرص وفلان أعمى، وأفرد لكل نوع من ذلك باباً واستطرد إلى أن ذكر جمعاً من الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م أجمعين بنحو الصلع وعزاه لناقله زاعماً أن هذا المؤلف موعظة هذا مضمون مؤلفه من غير زيادة فهل ذلك من الغيبة المحرمة، إذ ليس ثمة ضرورة شرعية تبيح ذكر شيء من ذلك أو لا؟ وماذا يلزم مؤلفه بتعرضه لمثل ذلك وهل يتعين تقطيع المؤلف المذكور لحصول التأذي ببقائه وانتشاره أم لا؟. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله: نعم ما ذكر من الغيبة المحرمة إذ الذي أجمعت عليه الأمة ونص عليه النبي أنها ذكرك غيرك بما يكرهه لو بلغه سواء أكان في بدنه كطويل أعمش أعور أقرع أسود أصفر أو نسبه أو خلفه أو فعله ككثير الأكل أو ملبسه كواسع الكم أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو دابته أو داره كضيقة سواء ذكر شيء من ذلك باللسان أم بغيره كالكتابة، فإن القلم أحد اللسانين وكالإيماء. قال النووي : بلا خلاف. قال الغزالي : وكذا بالقلب قالا كغيرهما ويستثنى مما ذكر مساءة الغير لغرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به وهو ستة أمور: التظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والتحذير من الشر كجرح الرواة والتجاهر بالفسق والسادس أن يعرف إنسان بلقب يعرف عن عينه ك الأعرج و الأعمش ، فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف ولأن ذلك صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به ومن ثم جاز ذكره به لا بقصد التنقيص وإن أمكن الاستغناء عنه وبما تقرر علم أن الغيبة لا تجوز إلا في هذه الأنواع الستة دون غيرها، ومن ثم اعترض على الأنوار في زيادته عليها سابعاً وهو النصيحة العامة كجرح الرواة بأن هذا داخل في التحذير وأن ما فعله هذا المؤلف من الغيبة المحرمة لأنه ذكر مساءة الغير لغير(5/251)
غرض صحيح في الشرع، إذ ليس هو من أحد الأنواع الستة المذكورة كما هو ظاهر في غير الأخير ما مر فيه، وذلك الشرط مفقود هنا لأن هذا المؤلف لم يقتصر على عيوب اشتهر بها أصحابها بل ذكر ما لم يعرف إلا من جهة مؤلفه فكان حراماً إجماعاً وزعمه أنه قصد بذكر تلك العاهات الموعظة زعم باطل إذ لم يقل أحد فيما علمت أن من مسوّغات الغيبة ذكر مساوىء الناس ليتعظ بذكرها غيرهم فإن ذكر أن هذا من الأسباب المبيحة لها عرّف الصواب فإن لم يرجع عنه وإلا عزر عليه التعزير البليغ بل ربما يجره اعتقاد حلها لذلك إلى أمر صعب على أن ذلك لا وعظ فيه، وإنما هو من تسويل الشيطان وتزيينه القبيح حتى يظنه الجاهل الأحمق حسناً فيدخل في حيز الذم الأعظم المستفاد من قوله تعالى:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/252)
{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} (35:8)، ولو تأمل قوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم} (4:83)، لعلمه الذين يستنبطونه منهم لرد هذا الأمر قبل التأليف فيه إلى أئمة الشرع وفعل بقضية ما يأمرونه به لكن الاستبداد بالأمور الصعبة ربما أنبأ عن فساد الطوية وغلبة التعصب للباطل فعلى هذا المؤلف الرجوع عن هذا الأسلوب القبيح من التعرض لأعراض المسلمين بالثلب وليس له أن يحتج ويقول سبقت بذكر ذلك، ولولا أن المؤرخين نقلوه إلينا لما عرفناه فلنا بهم أسوة في ذلك لأنا نقول له هل سبقت بهذا الاختراع القبيح ومن الذي سبقك لذلك؟ هل هو ممن يقتدى بقوله وفعله ك أحمد و ابن معين و أبي زرعة الرازي وأضرابهم ومن سبقهم أو تأخر عنهم من الأئمة أو من لا يعبأ به ولا يلتفت لأقواله ولا لأفعاله فإن كان الأوّل فعليك بيانه وإن كان الثاني فلا يبالي الله سبحانه وتعالى بكما في أي واد هلكتما، وقد وقع في عصر مشايخ مشايخنا استفتاء طويل في المؤرخين والذي آل إليه أجوبة محققيهم أنه لا يجوز للمؤرخ أن يذكر من المساوىء إلا ما يقدح في العدالة لبيان الجرح، وأما ما عدا ذلك من المساوىء التي لا تعلق لها بالجرح ولا يترتب عليها فائدة دينية فذكرها غيبة شديدة التحريم مفسق إن كان في أهل العلم وقراء القرآن بل وكذا في كل أحد لغير مسوّغ على ما قاله القرطبي، ونقل فيه الإجماع ويدل لذلك ما في شرح المهذب عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله تعالى، فينبغي لهذا المؤلف أن يتأمل ذلك ويرجع عن هذا التأليف بمحوه ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى عما فرط منه من إيذاء الأموات والأحياء سيما أكابر هذه الأمة وليتأمل إن وفق عظيم أدب إمامنا الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مع فاطمة الزهراء ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا حيث كنى عن اسمها ولم يصرح به مبالغة في التأدب معها ونصه كما في التوشيح عنه وقطع رسول(5/253)
الله امرأة لها شرف فتكلم فيها فقال: «لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعت يدها» إلى تعبيره بفلانة دون فاطمة تأدباً معها أن يذكرها في هذا المعرض، وإن كان أبوها قد ذكرها باسمها ولو تأمل هذا المؤلف عظيم المبالغة من أدب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في هذا المقام لعلم أن ما سلكه أمر لا يخلص من ورطة قبحه وشناعة موقعه في حق الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م وحمله الناس على ذكرهم بذلك الأمر الشنيع على طول الزمان لأصحاب نبيهم إلا بأن يخلص التوبة ويرجع عن هذا المؤلف رجاء لعفو الله سبحانه وتعالى عنه وليحذر من أن يصر على اعتقاد أن في ذلك موعظة فإنه لا موعظة فيه البتة وأي موعظة في فلان الميت أعور وفلان الموجود أبرص إلى غير ذلك من ذكر ما يؤذي الأحياء والأموات على أنه لو تنزل معه، وقيل: فرضنا صحة اعتقادك الفاسد أن فيه موعظة لكن فيه مفاسد لا تحصى ومن الذي جوّز النظر إلى مصلحة موهومة منازع في وجودها بل الحق عدمها والإعراض عن النظر إلى مفاسد محققة لا يقول بذلك إلا جاهل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. فإن قال لا يشنع عليّ بما ذكرته في الصحابي لأني ناقله ولأنهم لا يكرهونه لزوال رعونات نفوسهم المسبب عنها كراهة ذلك، قلنا له الشناعة لازمة لك على كل تقدير لأنك اقتديت في نقل ذلك بمن لا يقتدى به ولأن من نقله لم يسقه مساقك بل ساقه مساقاً آخر، أخرجه عن أن يلحق من ذكره عنه عار بسببه، وأما أنت فقد سقته مساقاً حاملاً للعامة على التعبير به فكنت منتقصاً للصحابة ومتسبباً لانتقاصهم فعليك وزر من عمل بذلك إلى يوم القيامة، وأما زعمك أنهم لا يكرهون ذلك فزعم باطل لأن كراهته من الأمور المتعلقة بالطبع التي لا مدخل للرعونة فيها نفياً ولا إثباتاً، والحاصل أن هذا المؤلف إن تاب وأعدم ذلك المصنف فلا كلام لأحد عليه بعد الآن وقبله الأمر في تعزيره للحاكم وإن أبرم وصمم وعاند ولم يمتثل لأئمة الشرع وحكامه فعليهم وعلى ولي الأمر، أيد الله(5/254)
سبحانه وتعالى به الدين وقصم بسيف عدله الطغاة والمتمردين، زجره عن ذلك بما يرونه مما يليق إلى أن يظهر لهم توبته وعليهم أيضاً إفساد تلك القبائح التي اشتمل عليها ذلك المؤلف بمحوها منه بل ولهم تقطيعه أخذاً مما أفتى به الجلال السيوطي من أن من بنى داراً برسم الفساد هدمت كما أشار إليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
الغزالي وغيره، وصرح به جمع من بقية المذاهب، فإن قلت كيف أطلقت التعزير ونصوص الشارع وأئمة المذاهب قاضية بإقالة ذوي الهيئات عثراتهم قلت محل ذلك في الصغيرة كما قاله بعض المتأخرين والمؤلف المذكور اشتمل على كبيرة بل كبائر تاب الله سبحانه وتعالى عليّ وعلى مؤلفه بمنه وكرمه آمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في حرة ملكت من عبد بعضه هل له الخلوة بها والرؤية ومسافرة كما لو ملكته كله أو لا؟. فأجاب بقوله: لا بد في حل النظر من القن لسيدته وعكسه من ملكها لجميعه وإلا امتنع كالخلوة وغيرها.
وسئل عن امرأة هلكت وخلفت ابناً وابن ابن وأخاً وأباً وعتيقة هل ينتقل الولاء بعد الابن وابنه للأخ والأب؟. فأجاب بقوله: ينتقل الولاء بعد الابن ثم ابنه للأب لا للأخ كما صرحوا به حيث قالوا ويزوج عتيقة المرأة في حياتها بإذن العتيقة من يزوّج المعتقة وإن لم ترض فلا يزوّجها ابن المعتقة، نعم لو كانت كافرة والمعتقة مسلمة ووليها كافر زوج العتيقة وإن لم تكن له ولاية على المعتقة ولو كانت مسلمة والمعتقة كافرة ووليها كافر لم يزوّج العتيقة وإن كان له ولاية على المعتقة ويزوّج عتيقتها بعد موتها ابنها ثم ابنه ثم أبوها على ترتيب عصبة الولاء وتبعية الولاية على معتقها انقطعت بالموت، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/255)
وسئل عن عتيقة أبي الابن الصغير هل يزوّجها الحاكم أو أقرب عصبة أبي الابن؟. فأجاب: بأن الذي يقتضيه كلام كثيرين أن الصبا ينقل الولاية في باب الولاء إلى الأبعد أيضاً ومن ثم قلت في شرح الإرشاد بل تكون الولاية للأبعد ولو في باب الولاء حتى لو أعتق شخص أمة ومات عن ابن صغير أو فاسق مثلاً كانت الولاية للأخ لا للقاضي كما جرى عليه العمراني تفقهاً أي حيث قال لا أعلم في هذه نصاً والذي يقتضيه المذهب أن الولاية للأخ، لأن ولاية الولاء فرع ولاية النسب اهـ، واعتمده البلقيني و السبكي وغيرهما ونقله القمولي عن العراقيين قول الأذرعي في القوت عن القاضي وغيره أنها للقاضي مبني على ضعيف وإن نص عليه فيما لو مات المعتق عن ابن صغير وأب أنه لا ولاية للأب فلا يزوّج وإنما يزوّج الحاكم وإنما كان هذا النص ضعيفاً لقول البلقيني أن لنا نصوصاً تدل على أن الولاية للأبعد وهو الصواب اهـ، فعلم أن المعتمد في صورة السؤال أن الولاية تنتقل إلى أقرب عصبة إلى الابن لا إلى الحاكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عما لو كان الولي في نكاح امرأة هو الزوج وانفرد فهل تنتقل ولاية التزويج لمن بعده من العصبات أو يزوّج القاضي؟. فأجاب: بأن الذي يزوّجه إنما هو القاضي دون من بعده من العصبات لبقاء ولايته وإنما قام به مانع هو عدم إمكان توليه الطرفين لأنه من خصوصيات الجد أبي الأب وحيث كانت الولاية ثابتة للقريب وإنما قام به مانع منها كانت للقاضي بخلاف ما إذا قام به مانع فإنها تنتقل لمن بعده من العصبات، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/256)
وسئل عما لو قالت زوّجني فإنه كفء لي هل للقاضي تزويجها بقولها أو يجب عليه البحث إذا لم يعلم بذلك إلا منها؟. فأجاب: بأن الذي يظهر أنه لا يجيبها إلى ذلك إلا إن أثبت أنه كفء لها أخذاً من قول الشيخين وغيرهما لو جاء جماعة في أيديهم دار مشتركة ولا منازع لهم وهم متفقون على أنها بينهم لهم وطلبوا منه قسمتها لم يجابوا حتى يقيموا عنده بينة بأنها ملكهم لأنها قد تكون في أيديهم بإجارة أو إعارة فإذا قسمها بينهم فقد يدعون الملك محتجين بقسمة القاضي، واعترض ابن سريج على إجابته لهم إذا أثبتوا عنده الملك بأن البينة إنما تقام وتسمع على خصم ولا خصم، وأجاب ابن أبي هريرة بأن القسمة تتضمن الحكم لهم بالملك وقد يكون لهم خصم غائب فتسمع البينة ليحكم لهم عليه. قال ابن الرفعة : وفي الجواب نظر لهم وإنما القصد به تقوية ما دلت عليه اليد من ثبوت الملك لهم، لأن الصحيح أن تصرف القاضي بعد المرافعة إليه حكم فاحتيج إلى استناده إلى أمر أقوى من مجرد اليد فلزمه أن يطلب منهم ذلك وهو البينة التي تشهد لهم بالملك ليكون حكمه مستنداً إليها وكون البينة إنما تقام وتسمع على خصم، إنما هو الغالب فإذا علمت ذلك في هذه المسألة فكذا يقال بنظيره في مسألتنا فإنها إذا طلبت منه أن يزوّجها من شخص معين كان تزويجه حكماً بصحة النكاح والحكم بصحته يتوقف على وجود الكفاءة وهو لا يثبت بقولها فاحتيج إلى إقامتها البينة عنده أنه كفء لها حتى يكون حكمه مستنداً إلى ذلك كما تقرر في المسألة المقيس عليها، ويأتي هنا ما مر من الإشكال والجواب وقول السائل أن ذلك أي كفاءة الزوج وعدمه لا يعلم إلا منها فممنوع كما هو جلي بل علم ذلك لا يتصوّر إسناده إلى قولها بل إلى قول غيرها بشرطه ومثل ما لا يعلم إلا منها دعواها وهي بالغة البكارة فيقبل قولها بلا يمين ولا يكشف عن حالها قالوا ولا يكشف عن حالها لأنها أعلم به.(5/257)
وسئل عما إذا أراد شخص تزويج من له ولاية التزويج عليها والشهود لم يعرفوها أو عرفوها بإعلام الناس لا بالنظر إليها فما حكم ذلك؟. فأجاب: بأن الإشهاد على رضا المرأة حيث يعتبر رضاها لا يشترط وإنما هو مندوب فقط، وإن كان العاقد الحاكم كما شمله كلامهم وبه أفتى القاضي و البغوي ، وقول البلقيني ك ابن عبد السلام : لا يزوّجها الحاكم حتى يثبت عنده إذنها لأنه يلي ذلك بجهة الحكم فيجب ظهور مستنده مبني على أن تصرف الحاكم حكم، وقد اضطرب فيه كلام الشيخين وصحح السبكي وفاقاً للقاضي أبي الطيب أنه ليس بحكم اهـ، ومحله في تصرف مبتدأ، أما تصرفه بعد الرفع إليه في شيء فهو حكم إذا عرفت ذلك ظهر لك أن الإشهاد ليس شرطاً لصحة النكاح، وأنه يصح بدونه فحينئذ لا فرق بين رؤية الشهود وعدم رؤيتهم لها، نعم إن قيل بأن الإشهاد شرط فلا بد فيه من رؤية العدلين لها لكن العمل على أنه يكفي تعريف عدلين أو عدل لها باسمها ونسبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/258)
وسئل عما إذا وكل المجبر بتزويج بنته أو بنت ابنه ثم غاب غيبة بعيدة قبل العقد فهل يزوّج الوكيل أو القاضي ؟. فأجاب: بأن الذي يزوّج هو الوكيل دون القاضي وما وقع في تحرير أبي زرعة في القضاء على الغائب مما يخالف ذلك مبني على الضعيف، وهو أن القاضي يزوج بالولاية لا بالنيابة والأصح أنه يزوّج بنيابة اقتضتها الولاية كما بينته في شرح الإرشاد حيث قلت: هل يزوّج السلطان بالولاية العامة أو بالنيابة الشرعية وجهان، وبعض الفروع يقتضي ترجيح الأوّل وبعضها يقتضي ترجيح الثاني، لكن فروع الأوّل أكثر ومن ثم رجحه البغوي وكلام القاضي وغيره يقتضيه فيما إذا زوّج في غيبة الولي، فمن ذلك تزويجه مولية الرجل منه فإنه لو أراد نكاح من غاب وليها زوّجها أحد نوابه أو قاض آخر، ولو كان بالنيابة لم يجز ذلك، ومن فروع الثاني عدم صحة تزويجه بغير الكفء وإن رضيت وتقديم الحاضر فيما لو كان لها وليان والأقرب غائب ولو كان بالولاية لصح النكاح في الأولى وقدم عليه الحاضر في الثانية، ولو قيل إنه في الغيبة ونحوها يزوّج بنيابة اقتضتها الولاية وعند عدم الولي يزوّج بالولاية لكان متجهاً، ثم رأيت الإمام ذكر بعض ذلك حيث صحح فيما إذا زوّج للغيبة أنه بنيابة اقتضتها الولاية وكلامه محتمل عند عدم الولي والأوجه فيه ما ذكرته انتهت عبارة الشرح المذكور والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل هل يجوز تزويج أمة اليتيم بعبده؟. فأجاب: لا يجوز تزويج عبد المحجور لا بأمته ولا بغيرها، وأما أمته فيزوّجها أبوه وجده بالمصلحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/259)
وسئل إذا أراد أن يتزوّج ثانية فهل يستحب للعاقد وعظه بأن لا يظلم إحداهما وما هو من الوعظ أوجز وأنفع في ذلك؟. فأجاب بقوله: نعم يستحب للعاقد ذلك كما شمله استحبابهم تقديم الخطبة على الخطبة وعلى العقد قالوا ومن جملة تلك الخطبة الوصية بالتقوى، ومما يصرح بذلك أيضاً قولهم يسن للولي أن يقدم على العقد أزوّجك هذه أو زوّجتكها على ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومن جملة الإمساك بالمعروف أن لا يظلم إحداهما إذا تقرر ذلك علم أنه يكفي في هذه السنة قوله أزوّجكها على ما أمر الله تعالى به الخ، وأن هذا أوجز وأنفع في الوعظ، لأن فيه تنبيهاً على ما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك، وعلى أنه معروف، والمعروف لا ينبغي لذي مروءة أو دين أن يعدل عنه، وعلى أن الله سبحانه وتعالى سهل ذلك على هذه الأمة حيث لم يوجبه عليهم عيناً بل خيرهم بين هذا المعروف وتركه بقوله أو تسريح بإحسان وعلى أن الإنسان ينبغي له أن يتحرى الخير في كل من أحواله لأنه أمر بالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان وكل من المعروف والإحسان خير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/260)
وسئل في امرأة أذنت لقاض وهي في محل ولايته بتزويجها فهل يجوز لمن لم يعرف اسمها ونسبها إلا منها أن يخبر القاضي بذلك وهل يجوز للقاضي أن يزوّجها بهذا الخبر، والحال أنها غائبة عن مجلسه أو لا؟ فكيف الطريق في تزويجها إذا تعذر حضورها عنده ليشير إليها وهل تكفي الإشارة إليها في تزويجها إذا حضرت وهي منتقبة أو كانت في قطعة من بيت وحدها وقال زوّجتك المرأة التي في هذا البيت؟. فأجاب بقوله: لا يجوز للشاهد أن يعتمد في الاسم والنسب على ذكر المشهود عليه فلا يشهد على امرأة في غيبتها بهما ولا يخبر القاضي بذلك أولاً ليزوّجها في غيبتها معتمداً عليهما، بل لا بد من حضورها في مجلسه حتى يشير إليها، فإن تعذر أو تعسر حضورها مجلسه أرسل إليها نائبه ليزوّجها مشيراً إليها وتكفي الإشارة إليها وإن كانت منتقبة أو في بيت وحدها كأن يقول زوّجتك هذه التي في هذا البيت وما ذكرته من أنه تكفي الإشارة إلى المنتقبة هو ما عليه العراقيون بل الأصحاب كما قاله الأذرعي ، فإنهم أطلقوا الصحة فيما إذا قال زوّجتك هذه من غير فرق بين المنتقبة وغيرها، وقضية إطلاقهم هذا أيضاً أنه لا يشترط علم الشهود حينئذ بكون المنكوحة بنتاً للولي أو أخته أو أمته أو غير ذلك، ووجه ذلك الزركشي وابن العماد بأن النكاح كما لا يشترط فيه الرؤية، كذلك لا يشترط فيه الوصف والنسبة، وخالف في ذلك المتولي فقال: وطريق العلم إما بالنسب والاسم والمعاينة فلو قال زوّجتك هذه منتقبة أو وهي وراء ستر والزوج لا يعرفها بوجهها ولا ذكر اسمها لم يصح لأنها مجهولة، وعلامته أنه لو رآها مع غيرها لم يمكنه التمييز، وأيضاً فإنه لا يصح تحمل الشهادة عليها إلا بعد أن يعرفها بالاسم والنسب أو بالمشاهدة، فدل على أن العلم لا يحصل إلا بأحد هذين الطريقين اهـ. وفي فتاوى البغوي : لو جاءا لقاض فقالا إن فلانة بنت فلان أذنت لك في تزويجها من فلان ابن فلان، و القاضي لا يعرفها ويعرفها الخاطب(5/261)
والشهود، فزوّج صح بعد ذكر نسبها فلو جاء فقيه لقاض قال له ائذن لي في تزويج امرأة في محلتي، والقاضي لا يعرفها، فإن ذكر الفقيه اسمها ونسبها فأذن له جاز اهـ، ويؤيد ما قاله المتولي قول الرافعي في الشهادات ورد على القفال من القاضي ليزوّج فلانة من خاطبها أحمد بن عبد الله وكان الخاطب جاره فقال له إنما أعرفك ب أحمد بن هبة الله
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
لا ب أحمد بن عبد الله فلم يزوّجها منه، ووجه امتناعه أن تعيين الزوج شرط فلا بد أن يثبت عند العاقد أن هذا الخاطب هو أحمد ابن عبد الله حتى يكون هو الذي أذن القاضي في تزويجه وجمع الأذرعي بين ما أطلقوه من الصحة وبين ما فصله المتولي من أنها إن كانت مسافرة صح وإلا فلا، بأن ما أطلقوه محله إذا كان المزوّج الأب أو نحوه ممن يعلم نسبه منها فتصير معلومة النسب عند الزوج وما قيده محله فيما إذا كان المزوّج لا يعلم نسبه منها كالقاضي، ونقل ذلك عن إشعار كلام كثيرين ولم يرتض ابن العماد تفصيل المتولي فإنه عقبه بإطلاق جمع الصحة ثم قال: وهو يقتضي أنه لا يشترط علم الزوج بكون المنكوحة بنتاً للولي مثلاً، وأنه لو قال زوجتك ابنتي هذه صح قطعاً، قال: ومن أطلق الصحة نظر إلى أن النكاح كما لا يشترط فيه الرؤية لا يشترط فيه الوصف والنسب، ثم جعل كلام المتولي أحوط ثم أفسده بصحة تزويج الأعمى مع كونه لا يمكنه الرؤية، قال: لكن له، أي المتولي، أن يلتزم عدم الصحة فيما إذا قال للأعمى زوّجتك هذه الحاضرة أو التي في الدار إذا لم ينسبها، وجرى في الخادم على الجمع السابق عن شيخه الأذرعي بين إطلاقهم وتفصيل المتولي ثم وجه إطلاقهم بما مر عنه أيضاً، ثم جرى على ما مر عن ابن العماد من أن مقالة المتولي أحوط وأنها منقوضة بالأعمى وأن له أن يلتزم ما مر، ثم ذكر قول الجرجاني الصريح في الصحة مطلقاً وهو لا بد أن يميزها بالإشارة مع حضورها فإن ذكر مع ذلك اسمها(5/262)
وصفتها كان تأكيداً لأن الإشارة إلى عين المعقود تغني عن اسمه وصفته كبيع الحاضر. قال الزركشي و ابن العماد : ومحل الاكتفاء بالإشارة أو نحو الاسم في المجبر ففي غيره لا بد من ذكر صفتها ورفع نسبها إلى أن ينتفي الاشتراك فإن ذكر اسم أبيها وحده ولا مشارك له في البلد صح وإلا لم يصح لعدم التمييز، زاد ابن العماد : ولا يشترط معرفة الشهود للمرأة ولا أنها بنت المزوّج مثلاً لكن لا يشهدون بأنها بنته بل بصورة العقد كما في فتاوى القاضي ، والحاصل أن الأصحاب أطلقوا في مسألتنا الصحة، وأن تفصيل المتولي إما ضعيف وهو الأقرب أو محمول على ما مر عن الأذرعي و الزركشي ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا كان فسق الولي بترك الصلاة فهل له أن يزوّج موليته أم لا؟ وإذا فسق القاضي بغير فسق الولي فمن له الولاية منهما وإذا كثر الفسق بترك الصلاة فهل ينعقد النكاح بحضرة شاهدين؟. فأجاب بقوله: لا يجوز أن يزوّج تارك الصلاة موليته لفسقه فتنتقل الولاية للأبعد، ثم للقاضي مطلقاً. لكن اختار النووي ك ابن الصلاح ما أفتى به الغزالي من بقائها للولي إذا كانت تنتقل إلى حاكم فاسق بما لا ينعزل به ولا ينعقد النكاح بحضرة فاسق بترك الصلاة أو بغير ذلك من سائر أنواع الفسق، وإنما غاية الأمر أنه لكثرة وقوعه وتعسر وجود العدالة الباطنة والظاهرة في شهوده اكتفى فيه بالمستورين، والمستور هو من عرف ظاهره بالخير والتصون ولم يعرف باطنه بالتزكية عند القاضي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/263)
وسئل زوّج بنفسه أو وكيله موليته وهي بكر بالغ بدون مهر المثل أو بمهر مثل مؤجل على معسر غير كفء لها هل هذا العقد صحيح أو لا؟ وما الحكم إذا عقد الحاكم الشرعي عند غيبة الولي بالبنت البكر البالغ على شخص بالأوصاف المذكورة هل هو صحيح أو لا؟ وإذا عقد الولي أو الحاكم لامرأة بالغة ثيبة رشيدة على شخص غير كفء بدون مهر المثل أو به على معسر بإذنها ورضاها هل هذا صحيح أم لا؟ وإذا كان لها أولياء في درجة واحدة وأراد أحدهم يعقد بها على نفسه من يعقد بها الحاكم الشرعي أو بعض الأولياء برضاهم ورضاها سواء أكانت بكراً بالغاً ثيباً أم لا؟ وهل يكون حكم المرأة الثيب السفيهة كالبكر إذا عقد بها على الأوصاف المذكورة أم لا؟. فأجاب: تزويج المجبر أو غيره معسراً بمهر المثل أو غير كفء من غير رضا المرأة أو مع صغرها باطل، فإن دخل بها لزمه مهر المثل وعقد الحاكم بغير كفء باطل، وكذا بمعسر إلا إن رضيت به من يعتبر رضاها ويزوّج الولي كابن العم مساويه في درجته فإن لم يوجد فالحاكم هذا كله في بالغة بكر أو ثيب رشيدة أو سفيهة أذنت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل أفتى جمع بامتناع تزويج المجبر بنته الصغيرة من تارك الصلاة فهل هو كذلك؟. فأجاب بقوله: نعم هو كذلك حيث فسق بالترك ولو بصلاة واحدة لأنه غير كفء لها لفسقه وعفتها، إذ القلم مرفوع عنها، نعم لو تاب الزوج الفاسق توبة صحيحة فالوجه خلافاً لما في الخادم أنه يأتي فيه ما لو تاب الولي الفاسق هل يزوّج في الحال أو لا؟ والأصح أنه يزوّج في الحال والكلام في فسق بغير ترك الصلاة وإلا فشرط صحة التوبة منه قضاء ما عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/264)
وسئل في رجل جامع زوجته متفكراً في محاسن أجنبية فهل يحرم؟. فأجاب بقوله: الذي أفتى به أبو القاسم بن البرزي بأنه لا يحل، وقد بسط الكلام على ذلك في ترجمته ابن السبكي في طبقاته، ورجح عدم التأثيم لحديث: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به» أي بالعمل الذي عزم عليه، وهذا لم يعمل بما عزم عليه اهـ. ويؤيد التحريم قول القاضي في الصوم من تعليقه كما لا يحل النظر لما لا يحل له يحرم التفكر فيه لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه} (البقرة: 267)، فمنع من التيمم مما لا يحل كما منع من النظر إلى ما لا يحل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل دلت القرائن في إذن امرأة لوليها أن يزوّجها على شدة شبقها فزوّجها بطفل كفء لا يمكن وطؤه فهل يصح؟. فأجاب بقوله: صريح ما في الخادم عن النص في مبحث ما لو زوّج المجبر الصغير أو الصغيرة بنحو أعمى عدم الصحة في مسألتنا، وجزم به بعضهم لأن الولي عند الإذن المطلق يلزمه مراعاة المصلحة ولا مصلحة لها عند التوقان في تزويج الطفل وهو ظاهر مدركاً لا نقلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل اعترف الولي بأن بين الخاطب والمخطوبة رضاعاً محرماً فهل يزوّجها القاضي أو الأبعد؟. فأجاب بقوله: القياس كما قاله بعضهم إن الذي يزوّجها هو القاضي لبقاء ولاية الولي فهو كالعاضل.(5/265)
وسئل عن امرأة أذنت لوليها أن يزوّجها ولم تعين أحداً فزوّجها من طفل قبل بلوغه وهي تظن أنه لا يزوّجها إلا من بالغ لشدة توقانها إلى الوطء ما الحكم؟. فأجاب بقوله: يصح تزويجه المرأة من الطفل المذكور إن كان كفؤاً لها في الصفات المعتبرة في الكفاءة ولا نظر لشدة توقانها إلى الوطء، لأنه لا حق لها فيه ولا مطالبة إلا عند اليأس منه بنحو العنة أو الامتناع منه بالحلف في الإيلاء، وأما في غير ذلك كما هذه المسألة فلا حق لها فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/266)
وسئل عن مسألة وقع فيها جوابان صورتها: امرأة لا ولي لها ولت أمرها رجلاً فزوّجها فهل يصح نكاحها أو لا؟ فأجاب الأول فقال: يصح نكاحها إذا ولت أمرها رجلاً لأن يونس بن عبد الأعلى روى عن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال: إذا كان في الرفقة امرأة لا ولي لها فولت أمرها رجلاً فزوّجها جاز، واختاره الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى قال ابن مأمون ، وكان مشهوراً من جملة أصحاب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا كانت المرأة في جوار قوم ليس لها زوج ولا هي في عدة من زوج ولا لها ولي حاضر فولت أمرها رجلاً من صالحي جيرانها فزوّجها تزويجاً صحيحاً، فالنكاح جائز. قال المزني: فقلت للشافعي : فإنا نحفظ عنك في كتبك أن النكاح باطل، فقال الشافعي : إن الأمر إذا ضاق اتسع شاهدان عدلان أن لا ولي لها حاضر ولا لها زوج ولا هي في عدة من زوج. قال الإمام الأزرق : وحكم المواضع التي لا حاكم فيها ولا يمتد إليها أمر الحكام من الرفقة فيما يظهر في جواز تولي أمرها إلى عدل. وذكر الرافعي و النووي في أدب القضاة: أنا إذا جوّزنا التحكيم في غير الأموال فخطب امرأة وحكما في التزويج رجلاً كان له أن يزوّج. قال الروياني في الحلية: يجوز التحكيم والتزويج في أصح الوجهين، وهو اختيار أبي طاهر الزيادي و أبي إسحق الإسفرايني ومشايخ العراق وخراسان والفتوى على هذا خاصة في هذا الزمان، وإنما يجوز التحكيم إذا لم يكن هناك ولي حاضر من نسب أو معتق، كذا قال الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/267)
الأذرعي في الدعاوى في شرح المنهاج له، قال في النكاح وبالجملة فالمختار دليلاً الموافق للنصين جواز تفويض أمرها إلى عدل عند فقد الحاكم ومن فوقه من الأولياء في البلد وما يقرب منه إذا دعت حاجتها إلى النكاح قال: ولا يجوز أن لا يكون هذا مخالفاً لظاهر المذهب ويكون موضع المنع على المذهب فيما وراء ذلك جمعاً بين نصوصه، هذا آخر كلام الأذرعي رحمه الله تعالى اهـ. وأجاب الثاني فقال: هذا الجواب الأول ليس بمتجه لأمور أحدها: أن العبادي قال في الطبقات: إن هذا النص الذي رواه ابن عبد الأعلى ـ رضى الله تعالى عنه ـ من أئمة الشافعية ـ رضى الله تعالى عنه ـ م منهم من أنكره، ومنهم من قبله، وقال: إنه تحكيم، والمحكم قائم مقام الحاكم، وقد صحح تقي الدين أبو الحسن السبكي إنكار رواية يونس وأنها لا تتزوّج عند فقد الحاكم اهـ، ويدل له ما رواه البيهقي الآتي ذكره في الأمر الثاني، ثم قال الولي العراقي : ومراده ما إذا كان المحكم صالحاً للقضاء، وبه أفتى صاحب المهذب ونقله العبادي عن غيره. قال الزركشي في الخادم: وقضية كلامهم تفرد يونس بهذا النقل والتوقف فيه، وقال الولي العراقي في فتاويه: إن النص الذي رواه يونس بن عبد الأعلى متوقف في ثبوته لأنه لم ينقله أهل التحقيق من أصحاب الشافعي ، وقد قال الخطابي في أوّل معالم السنن ولذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعوّلون في مذهبه على رواية الربيع ابن سليمان والمزني، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله. قال: ومذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يثبت باختيار النووي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فإنه إنما يستعمل هذه العبارة فيما رجح دليله عنده لا من جهة المذهب ونحن شافعية لا نووية اهـ ما قاله الولي العراقي فعلى هذا ما اختاره النووي من جواز توليتها عدلاً لا يجوز تقليده فيه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد لأنه رحمه الله تعالى نقل في شرح المهذب عن الإمام ابن الصلاح من(5/268)
غير اعتراض عليه إن حكم من لم يكن أهلاً للتخريج أن لا يتبع شيئاً من اختياراتهم لأنه مقلد للشافعي دون غيره اهـ، وظاهره أن مقلد الشافعي لا يجوز له أن يتبع شيئاً من اختياراتهم إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد. والأمر الثاني: أن الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
البيهقي روى في المبسوط عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: إذا ولت امرأة ثيب بنفسها رجلاً فليس له أن يزوّجها وإن رفع ذلك إلى السلطان فعليه أن يفسخه وسواء طال أو قصر وجاء الولد أو لم يأت. كذا قال الولي العراقي أيضاً: وقد روى الدارقطني و الشافعي أن رفقة جمعتهم الطريق فيهم امرأة فولت أمرها رجلاً فزوّجها فجلد عمر الناكح والمنكح، ولهذا قال الولي العراقي : ولقد طلب مني الفتوى به في سفر ليس به قاض في امرأة حصل لها الضرر البالغ من وجوه عديدة من عدم الزوج فامتنعت من ذلك، وقلت لا أكون سبباً لتسليط الناس على الإبضاع بغير أمر بين وضياع أمر دنياها أهون من التسليط على بضعها بغير طريق معتبر اهـ. الأمر الثالث: أن الإمام الشاشي رحمه الله تعالى ذكر في الحلية بعد ذكره الوجه القائل بأنها ترد أمرها إلى رجل عدل يزوّجها وهذا لا يجيء على أصلنا. قال الإمام الأذرعي وهو معذور فإنه بعيد من المذهب المشهور. الأمر الرابع: أن الإمام ابن القطان لما قال الإمام الإصطخري إذا لم يكن في البلد حاكم جاز للرجل والمرأة أن يحكما مسلماً بعقد نكاحهما، قال، أعني ابن القطان ، وهذا ليس بشيء لأن النبي قال: «السلطان ولي من لا ولي له» ، قال: ولا خلاف بيننا أن هذا ليس بسلطان اهـ. الأمر الخامس: إنما حكى عن صاحب المهذب البناء على التحكيم. وقال أبو المعالي الجويني ، يعني إمام الحرمين، وهذا البناء لا يصح لأن هناك حكماً فيما يتنازعان فيه من أمر النكاح وغيره فيصير النظر له فيما حكماه فيه خاصة، وهذه ولاية ممن لا يستحقها اهـ. الأمر السادس: أن الإمام(5/269)
الرافعي رحمه الله تعالى ذكر في العزيز: أن القاضي إذا أراد أن ينكح من لا ولي لها زوجه من فوقه من الولاة أو خليفته إن كان له الاستخلاف أو خرج إلى قاضي بلد آخر وتابعه النووي في الروضة فلو كان يجوز لها أن تعرض أمرها إلى عدل ليزوّجها من القاضي لم يكلف القاضي الخروج إلى بلد آخر، وظاهره يقتضي أنه لا يصح النكاح حتى يزوّجه القاضي الذي يخرج إليه ولو كان ببلد بعيد كمسألتنا المسؤول عنها وذلك إذا لم يكن له أحد فوقه من الولاة ولم يكن له الاستخلاف فتناقض كلام النووي رحمه الله تعالى حيث اختار أوّلاً تفويضها إلى عدل، ثم تابع الرافعي رحمه الله تعالى ثانياً إلى خروج القاضي إلى قاض بلد آخر. الأمر السابع: أن في الوكالة في المحرر والمنهاج ولا المرأة والمحرم في النكاح. قال الشارحون لكلامه: والمراد أن المرأة لا توكل أجنبياً في تزويجها لأنها لا تزوّج نفسها عندنا، وظاهر قوله تعالى:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/270)
{وانكحوا الأيامى منكم والصالحين} (النور: 32)، إن المرأة لا تتزوّج إلا بولي كذا، قاله الإمام ابن عطية في تفسيره وهو المحفوظ عن الشافعي رحمه الله تعالى في كتبه. قال الشافعي أيضاً في قوله تعالى: {ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} (البقرة: 232)، هذا أبين في كتاب الله تعالى دليلاً على أنه ليس للمرأة أن تتزوّج دون الولي لأنها لو زوّجت نفسها لما كان لعضل الولي معنى كذا قال الإمام القونوي ، ثم قال الولي العراقي في كتاب النكاح: من نكته فهم من اعتبارهم في الولي أن يكون عاصب نسب أو ولاء أو حاكماً أنه لا يكفي فيه أن يكون مولي من جهتها اهـ. وهذا يقتضي أن الراجح عند الأكثرين ما رجحه أبو الحسن السبكي أوّلاً من إنكار رواية يونس من أن قضية كلامهم تفرد يونس بهذا النقل والتوقف فيه كما سبق عن الزركشي . وفي المهمات نقلاً عن النووي من غير مخالفة له أنه إذا كان في المسألة خلاف وجب اتباع الأكثرين. الأمر الثامن: أنا إذا قلنا بما رواه يونس عن الشافعي فهو وما رواه البيهقي في المبسوط عن الشافعي أيضاً قولان مختلفان، وفي الروضة أنه إذا كان في المسألة قولان لم يجز العمل بأحدهما حتى يعلم الراجح منهما بلا خلاف اهـ. فعلى هذا قال الإمام الأزرق : إذا وجد من ليس أهلاً للترجيح اختلافاً للأصحاب في الأصح من القولين والوجهين اعتمد تصحيح الأكثر كمسألتنا المسؤول عنها فإن قول الولي العراقي فهم من اعتبارهم في الولي أن يكون عاصب نسب أو ولاء أو حاكماً الخ، يقتضي أن الراجح عند الأكثرين ما صححه السبكي من إنكار رواية يونس كما سبق وما رجحوه يوافق ما رواه البيهقي في المبسوط عن الشافعي من أنها إذا ولت نفسها رجلاً فليس له أن يزوّجها كما سبق أيضاً وإطلاقه وإطلاق الأئمة يشمل القرى والبوادي التي لا حاكم لها، وما إذا كان لها ولي أو لا فظهر لنا من جميع ما ذكر في الجواب الثاني أن المرأة التي لا ولي لها إذا ولت أمرها عدلاً فليس له أن(5/271)
يزوّجها بل لا يزوّجها إلا حاكم أو محكم بشرطه ولو كان ببلد بعيد فهل هو كذلك أو لا؟ أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف يحصل به المقصود إن شاء الله سبحانه وتعالى فالحاجة داعية إليه أبقاكم الله سبحانه وتعالى للمسلمين. فأجاب بقوله المعتمد: الذي جرى عليه أكثر المتأخرين ما قاله المجيب الأوّل، بل جزموا به حتى في المختصرات وسيأتي توجيهه، والاستدلال له في أثناء رد ما قاله المجيب الثاني لكن ما قاله المجيب الأوّل عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/272)
الأذرعي آخراً من أنه لا يشترط فقد الولي بالكلية بل الشرط عدم حضوره في البلد أو ما قرب منه ليس صافياً عن الإشكال على أنه خولف فيه، فقد جزم صاحب الأنوار بخلافه فقال: لو كان لها ولي وهو غائب لم يجز التحكيم لأن نيابة الغائب للقاضي اهـ. وكلام الروضة وأصلها صريح في ذلك إذ عبارتهما: ثم إذا لم يكن لها ولي خاص من نسب أو معتق فهذا صريح في أنه حيث كان لها ولي خاص لم يجز لها التحكيم لكن جرى ابن العماد على ما قاله الأذرعي ، وعبارة الروضة في باب النكاح قد تشير إليه. والأوجه الأول فإنه حيث كان لها ولي وإن كان غائباً أمكنها أن ترسل إليه ليحضر أو يوكل فإن قلت فكذلك ترسل للحاكم إذا لم يكن بمحلها فليست ولاية الولي الحاضر أقوى على أن لنا أن نتوسط ونقول إن سهلت مراجعة أحدهما، أعني الولي أو الحاكم، إذا غابا إلى مرحلتين فأكثر تعينت ولم يجز لها أن تولي عدلاً يزوّجها لأنه إنما جاز لها ذلك للضرورة، وعند مراجعة الولي أو الحاكم إن لم يوجد الولي لا ضرورة وإن لم تسهل مراجعة أحدهما بان فحش بعد محلهما وحقت حاجتها إلى النكاح جاز لها أن تولي مع الزوج أمرها عدلاً يزوّجها لوجود الضرورة حينئذ أما إذا قرب محل أحدهما بأن كان دون مرحلتين فلا يجوز لها ذلك مطلقاً إذا تقرر ذلك فلنتكلم على الجواب الثاني ونبين ما فيه فنقول قوله: أحدها أن العبادي قال في الطبقات الخ، كلام لا يجدي شيئاً لأن من القواعد المقررة أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وأن الثقة إذا روى شيئاً وأثبته ونفاه غيره قدم المثبت على النافي وبهذا تعلم أن غير يونس من أصحاب الشافعي لو قال لم يقل الشافعي هذا لم يلتفت إليه، لأن يونس مثبت وغيره ناف والمثبت مقدم على النافي فإذا كان هذا الإنكار لا يقبل ممن عاصر الشافعي ورآه وأخذ عنه وكان مطلعاً على أكثر حواله فما بالك بمن لم يكن كذلك ولا يقدح فيه تفرده بهذا النقل، لأن تفرد الثقة مقبول وإن قدم غيره عليه، لأن ذلك لأمر(5/273)
أقوى منه لا لإنكار ما انفرد به. وقول الولي العراقي إنه يتوقف في ثبوته ليس في محله ولذلك لم يعوّل من بعده عليه بل أطبقوا على حكايته عن يونس عن الشافعي سيما الشيخين فإنهما حكياه عنه عن الشافعي ثم قالا من أصحابنا من أنكره ومنهم من قبله، وقال: إنه تحكيم والمحكم قائم مقام الحاكم انتهى، وبه يعلم أن الإنكار ليس راجعاً إلى إنكار النقل فإن يونس ثقة جليل فلا يسع أحداً تكذيبه فيما نقله، وإنما الإنكار راجع إلى أنه غير جار على قواعد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/274)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ونحن مسلمون ذلك، فإن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أشار إلى أنه خارج عن قواعده بقوله لما سئل عنه وأنه مخالف لما في كتبه إذا ضاق الأمر اتسع، ومن قواعده رضي الله تبارك وتعالى عنه أن الضرورات تبيح المحظورات فهذا أمر خارج عن قواعده بلا ريب، لكن اقتضت الضرورة المسامحة به على أنه في الحقيقة غير خارج لما وجهه به بعض الأصحاب من أنه تحكيم، ومن قواعده أن المحكم قائم مقام الحاكم وإنما يتحقق خروجه عن قواعده أن لو قال إنها تباشر عقد النكاح بنفسها كما زعمه بعض أصحابنا فهذا هو الخارج عن قواعده بالكلية، وأما ما رواه يونس فليس خارجاً عنها بالاعتبار الذي ذكرناه على أن يونس لم ينفرد بهذا النص فقد حكاه عن الشافعي المزني أيضاً وهو من أجل أصحاب الشافعي المعوّل على نقله عند الأصحاب فاندفع ما نقله الولي العراقي عن الخطابي ، أما قوله، أعني العراقي ، مذهب الشافعي لا يثبت باختيار النووي فإنه إنما يستعمل هذه العبارة فيما رجح دليله عنده لا من جهة المذهب الخ، فعجيب منه مع قول شيخه الإسنوى وغيره أن المختار إذا وقع التعبير به في الروضة كان بمعنى الراجح مذهباً كيف و النووي مستظهر على ما قاله بأنه ظاهر نصه الذي نقله يونس فهو مع جلالته وعظيم ورعه وتحريه مثبت لنص يونس ومحتج به على ما قاله وإن ما قاله هو ظاهر هذا النص فكيف مع ذلك ينكر نسبة ما رواه يونس ل لشافعي، ويقال إن النووي اختاره من جهة الدليل لا المذهب، ويقال نحن شافعية لا نووية كل ذلك مما لا نظر إليه ولا تعويل عليه، ومن ثم جاء بعد الولي جماعة هم تلامذته وتلامذة تلامذته ومع ذلك لم يعوّلوا على ما قاله ولا التفتوا إليه وأعرضوا عنه لأنه غير جار على سنن الاعتدال في الاستدلال فبطل الأمر الأوّل من أمور أمر هذا المجيب، وقوله فعلى هذا ما اختاره النووي الخ باطل أيضاً لما علمت أنه لم يختره من جهة الدليل وإنما رجحه من جهة المذهب وما رجحه من(5/275)
جهة المذهب هو الحجة على جميع من جاء بعده ممن لم يبلغ رتبته بلا منازع ولا مدافع وقوله الأمر الثاني أن الإمام البيهقي الخ غير نافع له أيضاً، لأن غاية الأمر أن للشافعي في هذه المسألة قولين، وقد رجح النووي أحدهما وتبعوه فلا محيد عنه ولا يسوغ لأحد مخالفته وانفراد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
الولي العراقي بتعقبه قد علمت أنه غير صحيح ولا معوّل عليه على أن هذا النص لا يخالف الأول، لأن الأول فيه التعبير بأنها فقدت وليها وهذا ليس فيه ذلك فوجب حمله على ما إذا لم تفقده جمعاً بين النصين وكذا ما فعله عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ واقعة محتملة على أن مذهب الصحابي غير حجة عندنا، وقوله الأمر الثالث لا يفيده أيضاً لما قررناه من أنه وإن كان بعيداً عن قواعد المذهب، لكن الضرورة اقتضت المسامحة به وما جاز لأجل الضرورة لا يعترض عليه بمثل ذلك، فإن المجوّز له معترف بأنه خارج عن قواعده لكنه يقول اقتضت الضرورة خروجه عنها فعملت به للقاعدة السابقة أن الضرورات تبيح المحظورات على أنه مر عن الأذرعي في جواب الأول أنه قال: ويجوز أن لا يكون هذا مخالفاً لظاهر المذهب ويكون موضع المنع على المذهب فيما وراء ذلك جمعاً بين نصوصه اهـ. وقوله الأمر الرابع أن الإمام ابن القطان الخ من الإطالة بما لا فائدة فيه، إذ غاية الأمر أن ابن القطان مجتهد من أصحاب الوجوه صدر منه نزاع في هذا الحكم وهو غير معوّل عليه، فإنا لم ندع أن المسألة متفق عليها حتى يورد علينا مثل ذلك، وإنما الذي ادعيناه أنها مختلف فيها بين الأصحاب ومنشأ اختلافهم اختلاف نصيه السابقين وأن قواعده منها ما يقتضي الأول، ومنها ما يقتضي الثاني فهذا هو سبب اختلافهم لكن المعتمد الجواز ويرد ما قاله ابن القطان بأنه يلزم عليه منع التحكيم من أصله في سائر الأحكام لأنه إذا لم ير أن المحكم قائم مقام الحاكم لزمه أن لا يجوز تحكيمه وهو خلاف قوله وقول(5/276)
الأصحاب فعلمنا من كلامهم في التحكيم أن المحكم قائم مقام الحاكم، وأن قوله : «السلطان ولي من لا ولي له» إنما ينصرف إلى حال وجود السلطان إما مع فقده كما هو الغرض فكيف يستدل بالحديث على أن لنا أن نقول إن المحكم داخل في السلطان، إذ المراد به من له سلطنة وهي ثابتة بالتحكيم فشمله الحديث واندفعت منازعة ابن القطان ، وينبغي أن لا يفهم من قولهم فولت أمرها عدلاً يزوجها جاز لها أنها وحدها توليه بل لا بد كما صرحوا به أن تحكمه هي والزوج فإذا حكماه صار محكماً ويثبت له ما يثبت للقاضي، ثم هذا المحكم إن كان مجتهداً جاز حتى مع وجود القاضي لأنه بمنزلته وإن كان عدلاً لم يجز إلا عند فقد القاضي وبما تقرر في رد هذا الرابع يعلم رد أمره الخامس أيضاً، وقوله السادس أن الإمام الرافعي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/277)
الخ ليس في محله لأن الرافعي و النووي متفقان على جواز تحكيم المجتهد في النكاح فإلزامه النووي التناقض دون الرافعي تحكم على أن إلزام التناقض من أصله باطل لأنهم هنا خيروه بين أمور ثلاثة وسكتوا عن أمر رابع علم مما قدموه وهو تحكيم المجتهد باتفاق الشيخين وكذا تحكيم العدل عند النووي فأي تناقض في ذلك. قوله الأمر السابع أن في الوكالة الخ ليس في محله أيضاً لأنا لم نقل إنها توكل عدلاً في تزويجها وإنما الذي قلناه إنها هي ومن يريد تزوجها يحكمان عدلاً في تزويجها منه والتحكيم غير التوكيل كما لا يخفى على من له أدنى فهم، وبهذا بطل قوله وهذا لا يقتضي أن الراجح عند الأكثرين الخ، ووجه الاقتضاء أنه التبس عليه التوكيل بالتحكيم فأخذ من منعهم التوكيل منعهم التحكيم وهو أخذ باطل منشؤه عدم الفهم أو عدم التأمل وحينئذ بطل ما فرعه على ذلك من أنه إذا كان في المسألة خلاف وجب اتباع الأكثرين لما علمت أن ما نحن فيه من التحكيم لم يقل أكثر الأصحاب بمنعه وإنما وقع لبعضهم الموافقة وبعضهم المخالفة كما حكاه الشيخان من غير أن يبينا ولا غيرهما أن الأكثرين على أحد الشقين، ورجح النووي وتبعه أكثر المتأخرين الجواز فاعتمدناه وأخذنا به على أن اتباع الأكثرين إنما هو في الأكثر وإلا فالشيخان كثيراً ما يخالفان الأكثرين بل وقع لهما في الإقرار أنهما حكيا عن الأكثرين فرعاً، وعن الصيدلاني خلافه وصوبا ما قاله الصيدلاني وحده مع مخالفته لسائر الأصحاب كما بينت ذلك مع تحقيقه وما يتعلق به في بعض الفتاوى، وفي خطبة بعض العباب وبهذا كله بطل. قوله الأمر الثامن الخ وظهر أن الحق ما قاله المجيب الأول فهو المعتمد وما عداه غير معمول به ولا معوّل عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/278)
وسئل الجد المجبر الذي له أن يتولى الطرفين هل له أن يوكل فيهما أو في أحدهما أو ليس له ذلك كما قاله بعض علماء البلد من الشافعية؟. فأجاب: نعم له ذلك كما صرح به في باب النكاح، وكلامهم في الوكالة صريح فيه أيضاً فزعم امتناع ذلك ليس في محله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن رجل غاب فوق مسافة القصر وله ابنة بالغة وأرادت أن تتزوّج بكفء فمن يلي أمرها؟ فإن قلتم السلطان فهل يلي بالولاية أو بالنيابة؟ فإن قلتم بالنيابة فقد علم أن الأب يزوّج ابنته الصغيرة بغير إذنها فلم لا يزوّجها السلطان إذا غاب وقد قلتم إنه نائب؟. فأجاب بقوله: اختلف أصحابنا في تزويج السلطان هل هو بالولاية العامة أو بالنيابة الشرعية وجهان، وبعض الفروع بل أكثرها يقتضي ترجيح الأول وبعضها يقتضي ترجيح الثاني، والذي يتجه في ذلك وبه تنضبط الفروع ما ذكرته في شرح الإرشاد وأخذاً من كلام الإمام أنه في الغيبة ونحوها يزوّج بنيابة اقتضتها الولاية وعند عدم الولي يزوّج بمحض الولاية وبهذا يعلم الجواب عن قول السائل فإن قلتم بالنيابة الخ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن شخص أبو امرأة بالغ ثيب عاقلة أذنت له في تزويجها فجاء أبوها إلى قاض شافعي وقال له أذنت لك في تزويج بنتي بفلان ولم يأت بشاهدين يشهدان على إذنها لأبيها فعقد لها القاضي بذلك الإذن الصادر من أبيها له فهل هذا العقد صحيح من غير إقامة بينة تشهد بالإذن لأبيها أو ليس بصحيح؟. فأجاب بقوله: يكفي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/279)
وسئل عن فرع نقله ابن العماد الأقفهسي عن صاحب الروضة عن صاحب البيان لو أذنت في التزويج فزوجها وليها بلا مهر أو بدون مهر المثل أو دون ما أذنت فيه أو بغير جنسه أو زوج الأب البكر الصغيرة أو الكبيرة بلا مهر أو أقل منه. قال أصحابنا البغداديون: يصح النكاح بمهر المثل، وحكى عن الخراسانيين قولين في صحة النكاح فما الذي يعتمد عليه من قولي الطائفتين وما الفتوى عليه وهل يجري القولان في تزويج الأب بكراً صغيرة أو بالغة غير كفء بغير رضاها أو معسراً أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب بقوله المعتمد: صحة النكاح بمهر المثل في جميع الصور المذكورة، نعم تزويج الأب البكر الصغيرة بغير كفء باطل وإن رضيت، إذ لا عبرة برضاها وكذا تزويجها بمعسر بمهر مثلها فإنه باطل على الأوجه كما بينته في شرح الإرشاد وتزويج البالغة من أحد هذين برضاها به صحيح وبغيره باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/280)
وسئل عن النظر للأمرد هل يجوز لحاجة تعليم العلوم الشرعية فإذا قلتم بالجواز فالتعفف عن ذلك والحاجة ماسة إلى التعلم مباح أو مكروه وهل يندب له ترك ذلك التعفف لأن الصورة أنه لا محذور هنا أم لا؟ وما المراد بالأمرد؟. فأجاب بقوله: يجوز نظر الأمرد لتعليم العلوم الشرعية والصنائع المحتاج إليها وليس من الورع ترك التعليم وإن احتيج معه إلى نظر لا محذور يخشى منه فقد كان أئمة السلف والخلف رضوان الله تعالى عليهم يخالطون المرد للتعليم، ومع ذلك كانوا يسمونهم الانتان ويقولون إن فتنتهم أشد من فتنة النساء فحيث خشي من مخالطتهم سواء كان اجتنابهم إما واجباً أو مندوباً لم ينحصر التعليم في شخص فإنه يتعين عليه وحيث لم يخش من ذلك كان تعليمهم قربة أي قربة، وكان الورع فعله لا تركه والمدار على ما في القلب وما تشهد به قرائن أحوال النفس، وإنما يحرم النظر للأمرد وهو من لم يبلغ أوان طلوع لحيته الحسن ومن يلتذ بالنظر إليه إما عرفاً أو عند الناظر بناء على أن الحسن أمر كلي منضبط في العرف أو جزئي يختلف باختلاف الطباع وفي ذلك خلاف بين أصحابنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن الجاني المتعلق برقبته مال هل لمالكه أن يزوّجه قبل اختيار الفداء بغير إذن المجني عليه أم لا يزوجه إلا بإذنه كالمرهون؟ فإن قلتم يزوّجه سيده بغير إذن المجني عليه فتعلق الجناية مقدم على تعلق الرهن فهناك لا يزوّجه إلا بإذن المرتهن فكيف يصح تزويجه هنا بغير إذن المجني عليه مع تقدم تعلقه؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أن القن المتعلق برقبته مال كالمرتهن بل أولى ولا ينافيه قولهم ينفك من الجاني بقدر ما أدى السيد بخلاف الرهن لا ينفك منه شيء ما بقي شيء من الدين لما بينته في شرح الإرشاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/281)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص مقلد للإمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يجوز له أن يقلد الإمام أبا حنيفة أو الإمام مالكاً رحمهما الله تعالى في تزوج بكر غير بالغة غاب وليها بولاية القاضي الحنفي عليها بما يقتضيه مذهبه من غير تتبع للرخص بل في هذه المسألة وحدها، وإذا قلتم بالجواز فمن قال لا يجوز مطلقاً وصرح بالتحريم مطلقاً هل هو مخطىء أم لا؟. فأجاب بقوله: له تقليد أبي حنيفة أو مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما في التزوج المذكور بشرط أن يرجع في ذلك إلى ثقة من علماء ذلك المذهب ويستخبره عن شروط تلك المسألة وجميع ما يعتبر فيها ومن أطلق أن ذلك لا يجوز فقد أخطأ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/282)
وسئل عن الحامل من زنا هل يجوز العقد عليها أم لا؟ وهل المسألة فيها خلاف أم لا؟. فأجاب بقوله: أما انقضاء العدة مع وجود الحمل من الزنا ففيه خلاف منتشر لأئمتنا والصحيح أنها تنقضي معه إذا كانت عدة وفاة مطلقاً أو عدة طلاق وهي من ذوات الأشهر أو من ذوات الأقراء وحاضت على الحمل بناء على الصحيح أن الحامل تحيض فإن لم تحض عليه لم تنقض عدتها إلا بالأقراء بعد ولادتها ولو زنت في عدة الوفاة أو الطلاق وحبلت من الزنا لم يمنع ذلك انقضاء عدتها بالتفصيل الذي قدمناه، وأما نكاح الحامل من الزنا ففيه خلاف منتشر أيضاً بين أئمتنا وغيرهم، والصحيح عندنا الصحة وبه قال أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ لأنها ليست في نكاح ولا عدة من الغير، وعن مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ قول بخلافه ثم إذا قلد القائلين بحل نكاحها ونكحها فهل له وطؤها قبل الوضع الذي صححه الشيخان، نعم قال الرافعي : إنه لا حرمة لحمل الزنا ولو منع الوطء لمنع النكاح كوطء الشبهة. وقال ابن الحداد من أئمتنا: لا يجوز له الوطء، وبه قال أبو حنيفة و مالك و داود رحمهم الله تعالى واستدلوا بخبر أبي داود و الترمذي ولفظه: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره، ويجاب بأن ذلك إنما ورد للتنفير عن وطء المسببة الحامل لأن حملها محترم فحرم الوطء لأجل احترامه بخلاف حمل الزنا، فإنه لا حرمة له تقتضي تحريم الوطء وعلى القول بحله هو مكروه كما في الأنوار وغيره خروجاً من خلاف من حرمه هذا كله فيما تحقق أنه من الزنا، أما إذا كان مجهول الحال فالذي نقله الشيخان عن الروياني وأقراه وجزم به صاحب الأنوار وغيره أنه يعطي حكم الحمل من الزنا فيما مر من نحو العدة والنكاح لا في رجم أمه أو حدها درأ للحدود بالشبهات، لكن اعترضه ابن الرفعة والأذرعي بأن الذي في النهاية أنه لا يعطي حكم ولد الزنا مطلقاً لكن أفتى القفال بما يوافق الأول فقال: لو اشترى أمة فوجدها حبلى ولم يدعه البائع(5/283)
فالظاهر أنه من زنا لأن سفح الماء متيقن والشبهة مشكوك فيها فيحكم باليقين دون الشك وهو مملوك للمشتري ولا يقع الاستبراء بوضعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن خطب وأجيب فأنفق ثم لم يزوّجوه فهل يرجع عليهم بما أنفق؟. فأجاب بقوله: اختلف المتأخرون في ذلك والذي دل عليه كلام الرافعي في الصداق أنه إن كان الرد منهم رجع عليهم لأنه لم يهد لهم إلا بناءً على أن يزوّجوه ولم يحصل غرضه فإن كان الرد منه فلا رجوع له لانتفاء العلة المذكورة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عمن قال أنأحتأ بالهمزة بدل الكاف من أنكحتك فهل يصح؟. فأجاب بقوله: قال في الخادم في باب صفة الأئمة إن قلنا لا ينعقد بالعجمية ممن يعرف العربية لم يصح، وإن قلنا ينعقد وهو الأصح صح لإصابة المعنى.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته لامرأة إخوان أحدهما طفل فأراد البالغ أن يزوّجها غير كفء برضاها فهل يجوز ذلك؟. فأجاب بقوله: أفتى البلقيني بالجواز وعلله بأن الصغير ليس بولي حينئذ فلا أثر لوجوده ولا ينتظر بلوغه.
وسئل بما صورته وكل الولي وغاب فهل للقاضي التزويج مع وجود الوكيل؟. فأجاب بقوله: ليس له ذلك وما في تحرير أبي زرعة في القضاء على الغائب مما يخالف ذلك مبني على أن القاضي يزوّج بالولاية لا بالنيابة والأصح أنه يزوّج بنيابة اقتضتها الولاية.
وسئل رضي الله سبحانه وتعالى عنه هل يزوّج الحاكم أمة الغائب أو لا؟. فأجاب بقوله: ليس له تزويجها بحال وإنما زوّج اللقيطة لأن الأصل فيها الحرية كما ذكروه والذي يجب على الحاكم في مال الغائب فعل الأصلح ومعلوم أن التزويج ليس أصلح وإنما جاز للولي تزويج أمة محجوره لأنه يلي نكاحه وماله والقاضي لا يلي نكاح الغائب وإن ولي ماله على أن ولايته ليست ولاية مطلقة.(5/284)
وسئل هل بين العدالة والعفة والصلاح فرق؟. فأجاب بقوله: هل يفرق بينها بأن العفة يوصف بها نحو العبد دون العدالة، أعني المطلقة وإلا فكثيراً ما يصرحون بأنه عدل رواية، وهذا الفرق لا أثر له في الأحكام فالعفة والعدالة بالنسبة للأحكام المشترط فيها أحدهما سواء، وأما الصلاح فإنه أخص إذ هو القيام بحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد هذا إن أريد بالحقوق ما يشمل المندوبة أيضاً وإلا ساواهما.
وسئل هل يلزم النكاح بالنذر؟. فأجاب بقوله: نعم حيث ندب كما صرح به الماوردي واقتضاه كلامهم في باب النذر خلافاً لمن قال لا يلزم لأنه لا يمكنه الاستقلال به، إذ الواجب عليه الأخذ في أسبابه إذ هو الذي يمكنه.
وسئل عمن يأكل من كسب يده أشرف ممن يأكل من الصدقة فهل أحدهما كفء للآخر؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه يعتبر في ذلك عرف أهل بلد الزوجة المطردة؟؟؟؟؟ في ذلك أمر شرعي والفقهاء في هذا الباب ينظرون للعرف أكثر من نظرهم للفضائل الشرعية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/285)
وسئل عن امرأة ادعت أنه طلقها ثلاثاً وادعى دونها ثم صدقته فهل يصح إذنها في التزويج منه؟. فأجاب بقوله: ذكر الأصحاب أنها لو أنكرت الرجعة ثم رجعت قبل رجوعها ولو ادعت أن بينهما نحو رضاع محرم لم يقبل رجوعها، وفرقوا بأن نحو الرضاع أمر ثبوتي فالغالب أن لا يقدم عليه إلا بيقين وفي الرجعة نفي لا يستلزم العلم فقبل رجوعها إذ لا مناقضة فلعلها تذكرت وهذا يقتضي عدم قبول رجوعها في صورة السؤال، لأن دعواها الثلاث أمر ثبوتي فلا يصح إذنها في التزويج منه إلا بعد محلل هذا إن وقع ذلك بعد بينونتها كما اقتضاه ما في السؤال فإن أقر بطلاقها واحد ثم راجعها وادعت الثلاث ثم أكذبت نفسها حل لها الاجتماع معه كما قاله الماوردي، ومراده حل ذلك ظاهراً وقد ينظر فيه بأن دعواها حينئذ غير مقبولة فلا فائدة لقبول رجوعها ثم رأيت بعضهم نقل عن النص ما يوافق الماوردي، وعن الإمام أنها لو ادعت أنه طلقها فأنكر ونكل فحلفت ثم كذبت نفسها لم يقبل تكذيبها، لأن قولها أسند إلى أمر ثبوتي ولأن اليمين المردودة كالإقرار وفرق بين هذه، ومسألة النص أن المرأة لا يثبت الطلاق بقولها فإذا رجعت عنه قبل رجوعها. وفي الأنوار واعتمده شيخنا زكريا في شرح الروض أنها لو قالت طلقني ثلاثاً ثم قالت كذبت ما طلقني إلا واحدة فلها التزويج به بغير تحليل لأنها لم تبطل برجوعها حقاً لغيرها، ومقتضاه قبولها في صورة السؤال أيضاً وهو متجه.(5/286)
وسئل عمن طلق صغيرة فأراد وليها تزويجها فادعى الزوج أنه وطئها فهل يقبل فلا تزوّج للبلوغ أولاً أو ينتظر البلوغ حتى تحلف الزوجة على نفي الوطء؟. فأجاب بقوله: الأصل عدم الوطء إلا في صورة ذكروها ليست هذه منها فللولي تزويجها حيث لم يقع في قلبه تصديق الزوج ولا التفات لدعواه الوطء ولا يتوقف ذلك على يمين الصغيرة إذا بلغت كما لو ادعى ولي محجور على غائب بدين وأثبته فإنه يقضي من ماله ولا يتوقف ذلك على كمال المحجور ليحلف على نفي الإبراء وبقاء الاستحقاق.
وسئل عمن طلق ثلاثاً ثم ادعى فساد النكاح فهل تسمع بينته؟. فأجاب بقوله: لا تسمع بينته سواء أقامها الزوج أو الزوجة، صرح به في الكافي وغيره، ونقله في الأنوار عن البغوي وغيره ثم قال: وحاصل كلامهما أنها تسمع إن شهدت حسبة ولا تسمع إن أقامها الزوج وهو الذي صرح به غيرهما انتهى، وبه يعلم ما في كلام الغزي حيث جزم في باب الإقرار بسماع بينة الزوج مطلقاً، وفي أوائل النكاح بسماعها إن كانت حسبة ولم يقمها وقوله يتجه أن للمرأة إقامتها، وما نقله عن الديلمي من سماعها إن لم يسبق منه اعتراف بالزوجية على أنه قد يخفى تصوّر شهادتها حسبة لما صرحوا به من أن بينة الحسبة إنما تسمع عند الحاجة إليها فلو قالوا نشهد أن بينهما رضاعاً محرماً لم يكف حتى يقولا وهو يريد أن ينكحها وهنا لا فائدة للحكم بفساد النكاح إلا التفريق بينهما لحرمتها عليه إلا بمحلل والتفريق بينهما حاصل بالطلاق، نعم لو أقيمت لإثبات مهر المثل دون المسمى فهل يلزم من الحكم بفساد النكاح لأجل لزوم المسمى الحكم بعدم وقوع الطلاق أو لا يلزم منه تفريقاً للصفقة في الشهادة فتسمع البينة بالفساد بالنسبة إلى لزوم مهر المثل دون ارتفاع التحليل لأنه حق لله سبحانه وتعالى، وقد يثبت ظاهراً فلا يرفع احتياطاً للإبضاع محل نظر والثاني أحوط.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/287)
وسئل هل تجوز رؤية الأجنبية في المرآة والماء الصافي؟. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بجواز ذلك أخذاً من أنه لا يكتفي بذلك في رؤية المبيع ولا يحنث به من علق على الرؤية.
وسئل عمن أذنت لوليها أن يزوّجها فامتنع. فهل له بعد ذلك أن يزوّجها أو يوكل من غير إذن؟. فأجاب بقوله: نعم كما بحثه بعضهم قال وقوّة كلامهم على الفصل شاهد لذلك وفارق الوكيل بأن ولايته متلقاة من الشرع فلم تتأثر بالرد.
وسئل عن امرأة قالت أذنت لك أن تجوزني من فلان فهل يكون إذناً؟. فأجاب بقوله: الظاهر كما قاله بعضهم أنه أذن إذ المدار هنا على الرضا دون اللفظ، وقد وجد فلا يضر اللحن في اللفظ ولو بما يغير المعنى بخلاف نظيره في عقد النكاح، لأن اللفظ فيه متعبد به.
وسئل بما صورته حضر شاهدان في ظلمة نكاحاً فسمعا لفظ المتعاقدين من غير رؤية شخصهما فهل يكفي؟. فأجاب بقوله: نقل الروياني عن الأصحاب كما في الكفاية أنه لو جلس بباب بيت فيه اثنان فقط فسمع تعاقدهما بالبيع وغيره كفى ولم يحتج للرؤية، وقضية قول المنهاج لا تجوز شهادة على فعل إلا بالإبصار خلاف ذلك لكن استبعد الأذرعي هذا الثاني وميل كلامه إلى اعتماد الأوّل وهو قريب إن عرفا المتعاقدين وسمعا لفظهما وتحققاه على أن ما ذكر إنما هو شرط للتحمل وأداء الشهادة بذلك العقد إما مجرد انعقاد النكاح، فينبغي أن يكتفي بحضورهما وسماعهما للفظ المتعاقدين وإن لم يعرفاهما أصلاً ولا يلزم من صحة النكاح إمكان إثباته، ألا ترى إلى انعقاده بابني الزوجين وعدويهما مع أنه لا يمكن إثباته حينئد.(5/288)
وسئل عن قول النووي في فتاويه وفي شرح مسلم: يسن أن ينوي بالنكاح التعفف والنسل وهو مشكل، لأن النكاح حينئذ سنة لمثل هذا والسنة لا يحتاج فعلها في مثل ذلك إلى نية، بل الشرط أن لا يقصد بفعلها غرضاً آخر. فأجاب بقوله: معنى قوله يسن ذلك أن هذه سنة أخرى غير سنة النكاح فالنية المذكورة ليست شرطاً للثواب على النكاح المسنون بل كمال فيه فلا يلزم من طلبه عدم الثواب عند فقده فسقط الإشكال المذكور على أن لك أن تدعي أن النكاح يحتاج الثواب عليه لنية الامتثال مطلقاً، وذلك لأنه ليس عبادة بذاته بل هو فعل مشترك تارة يكون سنة وتارة يكون مكروهاً، وخلاف الأولى ومباحاً فحصول العبادة له أمر عرضي، فإذا سن لشخص وأراد فعله احتمل أن يجريه على سنن المباحات باعتبار ذاته أو على سنن المندوبات باعتبار ما عرض له فاحتاج إلى نية مميزة له، ولا يقال الشرط عدم الصارف لأن ذاك محله فيما هو عبادة بذاته، ويؤيد ما ذكرته قولهم السنة وقولهم يشترط للثواب في غسل اليدين والمضمضة والاستنشاق تقدم نية الوضوء عليها وإلا لم يثب، فإذا اشترط في هذه تقدم النية مع أن فعلها على هذه الكيفية يندر أن يقع مثله في العادة فأولى أن يشترط في حصول الثواب في النكاح امتثال قصد السنة لأنه يغلب فيه وقوعه على مقتضى العادة واستيفاء اللذات.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/289)
وسئل لو تاب الفاسق قبيل العقد لم يجز أن يكون شاهداً بخلاف ما لو تاب الولي فما الفرق؟. فأجاب بقوله: يمكن الفرق بأن الشرط في الشاهد اتصافه بالعدالة وغيرها مما يتوقف قبول شهادته عليه ولا يكون كذلك إلا إن مضت عليه من توبته مدة الاستبراء وهي سنة، والشرط في الولي عدم الفسق لا الاتصاف بالعدالة وبالتوبة الصحيحة انتفى الفسق، ويؤيد ذلك أن الولي لو انتفى فسقه وارتكب ما يخل بمروءته لم تنتقل الولاية عنه بخلاف الشاهد فإنه يشترط مع انتفاء فسقه انتفاء ما يخل بمروءته، فإن قلت علل بعضهم عدم جواز كونه شاهداً بأن التوبة تصدر منه على وفق العادة لا على حقيقتها وهو يخالف ما ذكرته، قلت هذا التعليل فيه نظر، إذ لو كان الأمر كذلك لاستوى الولي والشاهد في الصحة أو المنع، لأن قربتهما إن صحت بأن وجدت شروطها استويا في القبول وإلا استويا في عدمه بل الوجه ما ذكرته على أنه يمكن تأويل هذه العبارة بأن من شأن الشهود ذلك بخلاف الولي وفيه ما فيه.(5/290)
وسئل بما صورته زوج الحاكم لغيبة الولي ثم حضر وادعى أنه كان قريباً فهل يصدق الولي أم لا؟. فأجاب بقوله: الذي اعتمده شيخنا في شرح الروض أخذاً من كلام نقله الزركشي أنه يصدق وفيه نظر فقد قالوا لو باع الوكيل في غيبة موكله فادعى أنه كان عزله قبل التصرف لم يقبل إلا ببينة فقياسه هنا أن لا يقبل إلا ببينة بجامع أن كلاً وقع من نائبه عقد وهو يريد رفعه بمجرد دعواه فكما اشترطوا لرفعه ثم قيام البينة كذلك يشترط ذلك هنا أيضاً بل ما هنا أولى، لأن القاضي ليس نائباً عن الولي اتفاقاً بل فيه وجهان، قيل: يزوّج بالنيابة عنه، وقيل: بالولاية، ولكل فروع تقتضي ترجيحه والأوجه أنه يزوّج بنيابة اقتضتها الولاية فعلى كل تقدير تصرفه أقوى من تصرف الوكيل، وقد اشترطوا لبطلان تصرفه قيام البينة فأولى أن يشترط ذلك هنا، فإن قلت يمكن الفرق بأنه ثم تعلق به حق ثالث وهو المشتري فاحتيط له، قلت وما هنا تعلق به حق الزوج، نعم يمكن الفرق بأن دعوى الموكل العزل ينافيه قضية توكيله الناشىء عنه صحة التصرف فلم يقبل قوله في رفعه، وأما الولي هنا فلم يصدر منه إذن للقاضي بل زوّج قهراً عليه فلا يقال إن دعواه تنافي فعله فصدق في رفعه بيمينه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/291)
وسئل بما صورته قال الشيخ زكريا في شرح الروض والعبرة في الانتساب إلى الآباء في غير أولاد بناته وقضيتها أن الشريفة لا يكافئها مطلبي ولا هاشمي وإن من أمها شريفة وأبوها عربي أو عجمي غير شريف لا يكافئها من أبوه وأمه غير شريفين في الأولى ولا من أبوه قرشي في الثانية وهو مشكل فهل هو مع ذلك معتمد أو لا؟. فأجاب بقوله: ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى وشكر سعيه صرح به في الأنوار وقضيته ما ذكر ولك أن تقول أما القضية الأولى فليست بعيدة من النظر، لأن من خصائصه أن أولاد بناته ينسبون إليه وهو لا يكافئه أحد فلا يكافىء من انتسب إليه إلا من انتسب إليه، فالعباسي مثلاً ليس كفؤاً للشريفة وإن كانا من بني هاشم فيخص بذلك إطلاقهم أن بني هاشم والمطلب أكفاء، وأما جواب بعضهم عن تزويج علي لفاطمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما مع كونها قرابة قريبة بأنه لم يكن لها كفء غيره ففيه نظر لأنه ليس بكفء لها كما يصرح به قولهم أن المسلم بنفسه ليس كفؤاً لمن أبوها مسلم وغير ذلك من الفروع التي ذكروها، وإنما الجواب الصحيح أنها لم تكن قرابة قريبة إذ هي في أول درجات النسب كبنت العم والعمة والخال والخالة، وأما بنت ابن العم ونحوه فقرابة بعيدة لا قريبة، وأما القضية الثانية فمقتضى كلامهم أنه يجوز حتى لغير القرشي تزويج من أمها فقط شريفة وأنه كفء لها، ثم رأيت الإمام و الغزالي قالا وجهة الانتساب يحده رسول الله والعلماء والصلحاء المشهورون وقال في الوجيز: لا تجبر فضيلة نسب النبي بفضيلة وما وراءه فقد تقضي العادة بجبر نقصه. قال الرافعي : ومقتضاه جبر بعض الصفات ببعض بعد الاشتراك في النسب وظاهره غير معمول به، فأفهم قوله بعد الاشتراك ما اقتضاه كلام الأنوار، ومعلوم أن أولاد بناته بواسطة أو غيرها سواء أكانت الأم شريفة فقط أو الأب كذلك ينسبون إليه، وحينئذ فيقوى بذلك أيضاً كلام الأنوار وقضيته الأولى والثانية وللنظر فيه مجال.(5/292)
وسئل هل يجوز للشاهد النظر إلى الفرج ولو مع وجود نسوة أم لا؟. فأجاب بقوله: صرحوا بأن للشاهد النظر إلى الفرج للشهادة بزنا أو ولادة وهو ظاهر في الزنا ونحوه مما لا يثبت بالنسوة، أما ما يثبت بهن فمقتضى كلامهم أن للشاهد المذكور الرؤية لأجل الشهادة وإن كان هناك نسوة يمكن إثبات الحق بهن وهو محتمل، لأن عدالة الشاهد مانعة من خوف المحذور المترتب على الرؤية ويحتمل خلافه أخذاً من قولهم لا تجوز المداواة بغير الجنس إلا إن فقد الجنس الصالح والأول أقرب لما مر من أن عدالة الشاهد مانعة مما ذكرناه بخلاف الطبيب، فإنه لا يشترط فيه العدالة فاحتيج لجواز نظره إلى أن يقيد بالضرورة، ومما يدل على صحة ما قلناه من الفرق بين الشاهد والطبيب أن الشاهد ينظر إلى الوجه والكفين وإن كان هناك نسوة يمكن ثبوت الحق بهن كما يصرح به كلامهم هنا ومن بحث هنا ما مر في رؤية الفرج فقد أبعد، وأما الطبيب فلا يجوز له النظر إلى نحو الوجه إلا إن فقد الجنس الصالح فعلمنا فرقان ما بينهما وأيضاً الطبيب اشترطوا في جواز علاجه إذا كان من غير الجنس أن يكون بحضرة محرم ونحوه ولم يشترطوا ذلك في الشاهد وأيضاً قد اشترطوا في المعلم ذلك عقب ذكرهم مسألة الشهادة ولم يشترطوا فيها شيئاً، فدل على أن للشاهد الرؤية مطلقاً ووجهه ما قدمناه من أن اشتراط عدالته مغن عن ذلك.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل هل يتزوّج الأخرس بإشارته؟. فأجاب بقوله: إن فهمها كل أحد تزوّج بها لأنها صريحة حينئذ وإلا فلا، لأنها كناية والنكاح ممتنع بها.(5/293)
وسئل عن الخرساء التي لا إشارة لها مفهمة هل تزوّج كالمجنونة؟. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله: نقل الأذرعي أنها تزوّج مثل المجنونة وله وجه، فإن قلت ينازع فيه أن المزوّج للمجنونة هو ولي المال والنكاح والخرساء لا ولي لها لأنها غير محجور عليها، قلت علة اشتراط ذلك في المجنونة ما ذكر في الأب والجد من الشفقة الحاملة على مراعاة الحظ والمصلحة ما أمكن، ومن ثم وليا المال بخلاف غيرهما وألحق بهما السلطان لقوة ولايته، وأما كون المجنونة محجوراً عليها في المال والخرساء غير محجور عليها فلا دخل له في جواز إنكاح تلك وامتناع إنكاح هذه، ثم رأيت الشيخين في باب الصيد والذبائح ألحقا الأخرس الذي لا إشارة له مفهمة بالمجنون في سائر تصرفاته وهو نص فيما ذكره الأذرعي.
وسئل بما صورته لو عضل لعذر كمالكي لا يرى نكاح المحلل ونحوه من يزوّج؟. فأجاب بقوله: حيث امتنع بعد سؤال الحاكم له زوج الحاكم ما لم ينضم إلى العضل عدم غلبة الطاعات على المعاصي، فحينئذ يزوّج الأبعد وبهذا علم أنه لا فرق بالنسبة إلى تزويج القاضي أو الأبعد بين أن يمتنع بعذر أم لا؟ وإن أفاده العذر عدم الإثم بالامتناع.
وسئل عن شخص غاب عن زوجته الحرة غيبة طويلة وخاف العنت قبل الوصول إليها هل له أن ينكح أمة، وإذا جاز له أن ينكح أمة فغاب عنها كذلك ينكح ثالثة ورابعة أو لا؟. فأجاب بقوله: يجوز له ذلك وهذه قد يلغز بها، فيقال لنا حر ينكح أربع إماء وإذا جمعن بعد ذلك لم ينفسخ نكاح واحدة منهن.
وسئل هل يشترط على الجد إذا جمع بين الإيجاب والقبول لموليته في النكاح أن يأتي في الشق الثاني بالواو وهل يطرد ذلك في البيع؟. فأجاب بقوله: نقل بعضهم أنه يشترط ذلك في النكاح ولا يخلو من نظر، ويحتمل إلحاق البيع بالنكاح في ذلك، والفرق وعدم الفرق أوجه، إذ وجه الاشتراط من الإتيان برابط من كلامه حتى لا يحصل بينهما انفصال يأتي في البيع والفرق بأن النكاح يحتاط له لا ينهض هنا.(5/294)
وسئل بما صورته أذنت لوليها وهي في العدة أن يزوجها إذا حلت فهل يصح الإذن؟. فأجاب بقوله: نعم يصح، ويحتمل أن يلحق به ما لو أذنت له قبل خلعها أن يعيدها بعد الخلع من زوجها، ويحتمل خلافه، والفرق بأن العصمة هنا باقية فكان المانع أعلى وما لو أذن له أن يزوّج أمة أو مجوسية فوجدت فيه شروط نكاح الأمة وأسلمت المجوسية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن قولهم يسن أن يتزوج من ليست قرابة قريبة فإنه مشكل بتزوج علي بفاطمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما؟. فأجاب بقوله: أجاب الشمس البرماوي بأنها ليست قرابة قريبة إذ هي التي أوّل درجات الحل كبنت العم والعمة والخال والخالة بخلاف التي في ثاني درجاته فإنها بعيدة كفاطمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا فإنها بنت ابن عم عليّ ـ رضى الله تعالى عنه ـ ، ويرد عليه تزويج زينب بأبي العاصي بن الربيع وهو ابن خالها، والجواب أن الأحكام لم تكن حينئذ قد اشتهرت بدليل أن أبا العاصي لم يكن مسلماً حينئذ.(5/295)
وسئل عمن تزوج امرأة ثم مات قبل الوطء فادعى ورثته أنه تزوج بها وهو محجور عليه حتى يفسد النكاح فلا ترث منه ولا مهر ولا نفقة لها وأنكرت فمن المصدق؟. فأجاب بقوله: فرق الزركشي وغيره بين تصديق السيد إذا قال كاتبتك وأنا مجنون أو محجور عليّ وعرف سبق ما ادعاه وعدم تصديق الولي إذا زوج بنته ثم قال كنت مجنوناً أو محجوراً على يوم صدقها وإن عهد له ذلك بأن الحق في النكاح تعلق بثالث بخلافه في غيره، وقصة هذا الفرق تصديق الزوجة في صورة السؤال دون الورثة ويؤيده ما في الروضة أواخر النكاح من الفرق بين عدم مجيء الخلاف في النكاح بأن الغالب في الأنكحة الاحتياط لها وعقدها بشروطها وبحضرة الشهود وغيرهم بخلاف البيع، فإن وقوعه فاسداً كثير اهـ. لكن في الأنوار آخر الدعاوى عن القاضي أنه لو تزوج بامرأة فماتت قبل الدخول وادعى وارثها المهر فقال: كنت طفلاً يومئذ، فلم يصح العقد صدق بيمينه وهذا مخالف لما مر، إلا أن يحمل ما ذكروه في النكاح كما ذكره بعضهم على ما إذا عرف له حالة جنون وحالة إفاقة أو حالة حجر وحالة رشد واختلفا هل وقع العقد في حالة الحجر أو الجنون أم لا، فحينئذ القول قول مدعي الصحة في النكاح خاصة بخلاف البيع ونحوه، أما من ادعى بقاء نحو الحجر الذي عهد واستمراره فهو المصدق لأن الأصل معه، وقد ذكروا أنها لو ادعت وقوع عقد النكاح بلا ولي ولا شهود صدقت بيمينها وإن كان خلاف الظاهر والغالب في الأنكحة نظراً إلى الأصل في هذه الصورة فكذلك يقال في مسألتنا.
وسئل عمن خطب امرأة ولم يتيسر له رؤيتها ولا إرسال امرأة تنظرها فهل يجوز له نظر ولدها الأمرد لحاجة؟. فأجاب بقوله: بحث الغزي الجواز أن بلغه استواؤهما في الحسن وفيه نظر، لأن من بلغه منه استواؤهما يمكنه أن يستوصفه عنها.
وسئل هل يجوز خطبة نحو أمة الولد قبل الاستبراء؟. فأجاب بقوله: لا يجوز ذلك، لأن الاستبراء كالعدة.(5/296)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل هل يشترط في صحة النكاح تعيين الزوجة؟. فأجاب بقوله: نعم يشترط معرفتها بالاسم والنسب أو بالمعاينة فلو كانت وراء ستر أو منتقبة لم يصح ذكره المتولي ، نعم ذكر الرافعي أنه لو زوّجه التي في الدار صح إن كانت وحدها اهـ.
وسئل عن امرأة زوّجت برضاها من مجهول فإذا هو غير كفء فهل يصح النكاح؟. فأجاب بقوله: صرح الغزالي في الوسيط وغيره في هذه المسألة بصحة النكاح وكان وجهه أن أذنها في المعين متضمن للرضا به وإن كان غير كفء ولا أثر لظنها كفاءته لتقصيرها بترك الشرط.
وسئل بما صورته عقد النكاح بنقد من ضرب بعض الملوك وهو غير موجود في بلد العقد فهل تكون التسمية فاسدة؟. فأجاب بقوله: ذكر الرافعي في البيع أنه إذا باع بنقد انقطع عن أيدي الناس بطل لعدم القدرة على التسليم، وكذا إن وجد في غير بلد العقد والبيع حال أو مؤجل إلى مدة لا يمكن نقله قبل الحلول والصداق كالثمن فيأتي فيه ذلك.
وسئل عمن قال زوّجتك بنتي بكذا فقال تزوّجتها ولم يقل بذلك أو نحوه فهل ينعقد بالمسمى في الإيجاب أو بمهر المثل؟. فأجاب بقوله: قياس ما ذكروه في البيع من أنه يكتفى بذكر الثمن في أحد الجانبين أنه هنا ينعقد بالمسمى وكون ذكر الثمن شرطاً لصحة البيع بخلاف ذكر الصداق لا يقتضي فرقاً بينهما خلافاً لما أوهمه كلام الإسنوى في أسئلته للبارزي لأن الملحظ هو دلالة تقدم ذكره في الإيجاب وقبوله له على أنه مذكور بالقوّة فوجب والبابان مستويان في ذلك وقول البارزي في هذه المسألة لا ينعقد النكاح من أصله مبني على ضعيف.(5/297)
وسئل هل يصح النكاح بالمستورين مطلقاً؟. فأجاب بقوله: استثنى ابن الصلاح من ذلك ما إذا كان العاقد هو الحاكم قال: وإلا لم يجز بهما اتفاقاً لتيسر إحضار العدول باطناً على الحاكم لكن شنع عليه بعض المتأخرين في ذلك تشنيعاً فاحشاً وبعضهم نسبه إلى أنه تفرد بذلك، ومع ذلك فالأوجه ما قاله لما علل به، وأيضاً فتصرف الحاكم حكم فيما يدخل تحت أحكامه وولايته فلو جاز له العقد بالمستورين لكان فيه حكم منه بصحته، وذلك ممتنع عليه لما صرحوا به من أنه لو رفع إليه عقد بهما لم يحكم بصحته، والظاهر أنه لا فرق فيما ذكره ابن الصلاح بين الحاكم الفاسق وغيره لصحة توليته مع فسقه حيث ولاه ذو شوكة ففسقه لا يؤثر في ولايته حينئذ بخلاف فسق الشاهدين وهل لو تعذر عليه إحضار ذي عدالة باطنة يجوز له العقد بالمستورين للضرورة محل نظر لكن اختار جمع من متأخري اليمنيين انعقاد النكاح بالفاسقين فضلاً عن المستورين حيث لم يوجد عدل في تلك الناحية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن أهل بلد يفتخرون بالأموال لا بالأنساب فهل يكون الفقير فيهم كفؤاً للغنية منهم أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم يكون فقيرهم كفؤاً لموسرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/298)
وسئل عن كثير يطلق كل منهم زوجته على البراءة من مهرها فتبرئه منه ثم يزوّجها وليها من نسب أو غيره كقاض من غير سؤال عن رشدها وقت الإبراء وقد يعلم أنها غير رشيدة لبلوغها تاركة الصلاة مستمرة على الترك ما حكم ذلك؟. فأجاب بقوله: إذا طلق على البراءة اشترطت براءة صحيحة وإلا لم يقع شيء فعلى الولي إذا أراد أن يزوّج من طلقت بالبراءة أن يبحث عن كيفية الطلاق وهل هي رشيدة أو سفيهة وهل هو بائن أو رجعي أو لم يقع أصلاً، فإن وجد مساغاً للوقوع زوج بعد انقضاء العدة وإلا أمسك ولا يجوز له بعد أن علم أن الطلاق معلق بالبراءة وإن موليته غير رشيدة أن ينكحها آخر، لأنها لم تطلق فإن فعل عزر التعزير البليغ إن لم يعذر في ذلك لقرب عهده بالإسلام أو نشئه بعيداً عن العلماء وقد صرحوا بأن النكاح لتعلقه بالإبضاع لا بد فيه من مزيد تثبت واحتياط، ومنه أنه لا بد فيه من تحقق شروطه فإن تحققها الولي باشره بنفسه أو وكيله وإن شك في بعضها لزمه أن يتثبت حتى يزول شكه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن زوّج بنته من تارك الصلاة إجبار أهل يصح أولاً لفسقه وهي كثيرة الوقوع جداً؟. فأجاب بقوله: إذا كانت بنته مصلية لم يصح تزويجها إجباراً من تارك الصلاة لأنه غير كفء فلا بد في صحة تزويجها منه من رضاها به بعد بلوغها، إذ من شروط إجبار الولي أن يكون الزوج كفؤاً كما صرحوا به.(5/299)
وسئل عن قاض زوج امرأة مع حضور أبيها ولم يكن به مانع من الولاية ثم طلقها الزوج ثلاثاً، ثم أراد أن يتزوجها لكون الأوّل كان فاسداً ما الحكم؟. فأجاب بقوله: لا يقبل من الزوج ولا من الولي ولا من الزوجة هذه الدعوى بل يحكم بوقوع الطلاق الثلاث ظاهراً وأنها لا تحل له إلا بمحلل ولا تقبل بينة شاهدة بما ذكر، لأنها تريد أن ترفع حق الله سبحانه وتعالى الذي هو حرمتها عليه إلا بعد التحليل، نعم إن علم الزوج أن الولي لم يأذن للقاضي أصلاً وكذا الزوجة وتيقن ذلك تيقناً جازماً لا ريب فيه، وتيقن أن القاضي شافعي وأن العقد باطل على مذهب الشافعي جاز له فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى نكاح هذه المرأة بولي وشاهدين، ومتى اطلع عليهما حاكم عاقبهما بقضية جريمتهما التي ترتبت عليهما باعتبار الحكم الظاهر، ولا ينبغي للزوج أن يسارع إلى ذلك، فإن الولي قد يكون أذن للقاضي في غير ذلك المجلس وعلى التنزل فعقد الفضولي صحيح عند مالك وأبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما وعلى التنزل فيحتمل أن المرأة أذنت له والعقد حينئذ صحيح وإن لم يرض وليها عند أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ وإذا احتمل هذه الأمور وأن القاضي قلد القائل بذلك من العلماء كان النكاح صحيحاً بناء على وقوع أحد تلك الاحتمالات وكان الطلاق واقعاً باطناً وظاهراً، وحينئذ يتيقن تحريمها على الزوج إلا بعد محلل بشروطه المذكورة في محلها والنكاح مبني على الاحتياط ما أمكن فلا ينبغي الإقدام على صورة منه إلا بعد تيقن الوجه الشرعي فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/300)
وسئل بما صورته لو نسب شخص نفسه إلى مذهب من مذاهب المبتدعة هل يعطى حكم ما يقتضيه المذهب المنسوب إليه حتى لو كان المذهب مكفراً كفراً المنتسب أم لا بد من صدور المكفر بعينه من المنتسب، وكذا هل بمجرد الانتساب يصير غير كفء للسنية أم لا؟. فأجاب بقوله: أما السؤال الأول فينبني على أن لازم المذهب مذهب، والأصح أنه غير مذهب وإذا لم نكفر المجسمة أو الجهوية أو المنكرين للكلام النفسي بمجرد ذلك وإن لزم عليهم مكفرات كما هو مقرر في محله لجواز أنهم لا يعتقدون تلك اللوازم، وقال جماعة من الأئمة بكفرهم بناء على القول المقابل للأصح أن مقابل المذهب مذهب إذا تقرر ذلك فمن اعتقد مذهباً من مذاهب أهل البدعة فإن كان ذلك المذهب كفراً صريحاً كالقول بقدم العالم أو بإنكار الحشر أو العلم بالجزئيات كان اعتقاده بمجرده كفراً إجماعاً، ولا يتأتى فيه ذلك الخلاف وإن كان ذلك المذهب ليس كذلك، وإنما يلزم أهله مكفر أو مكفرات فمجرد اعتقاد المذهب لا يكون كفراً على الأصح السابق وإنما يكفر إن صرح باعتقاد لازم من تلك اللوازم المكفرة، وأما السؤال الثاني فجوابه أنهم صرحوا بأن المبتدع ليس كفؤاً للسنية، ولا معنى للمبتدع إلا معتقد مذهب من مذاهب أهل البدعة فالاعتقاد بمجرده مانع لمكافأته للسنية لأنهم لم يجعلوا للانتساب إلى البدعة غاية زمانية فاقتضى أنه لا فرق بين الزمن القليل والكثير، وهذا ظاهر وإنما الذي يحتاج إلى نظر ما لو تاب المبتدع أو ترك ذو الحرفة الدنيئة حرفته فمتى يكافىء الأول السنية، والثاني ذات الحرفة العلية، وقد ذكرت حكم ذلك بحثاً في شرح الإرشاد، وعبارته تنبيه صريح كلامهم أن خصال الكفاءة إنما تعتبر عند العقد فلو كافأها عنده ثم طرأ له صفة خسيسة لم تعتبر في فسخ النكاح خلافاً لمن توهمه ونسبه لقضية كلام التنبيه والمهذب، نعم إن ترك حرفته الدنية قبل العقد لم يؤثر إلا أن مضت سنة بين ابتداء الترك والعقد أخذاً من كلامهم الآتي(5/301)
في استبراء الشاهد من الفسق وخوارم المروءة ثم رأيت الأزرق أطلق عود كفاءة وغيره أطلق عدمه وفرق بين ما هنا والشهادة بأنها حق الله سبحانه وتعالى والكفاءة حق الأولياء وبترك الحرفة الدنية لا يزول العار اهـ، وزعمه عدم زوال العار بتركها ممنوع كما لا يخفى انتهت عبارة الشرح المذكور.
وسئل عن عقد النكاح هل يصح بمستوري العدالة أم لا؟ فإن قلتم نعم فهل يصح ظاهراً وباطناً فإن قلتم ظاهراً فهل يكفي لصحته باطناً العدالة الباطنة في نفس الأمر أو لا بد من ثبوتها عند قاض؟. فأجاب إنما يصح النكاح بالمستورين ظاهراً لا باطناً، ألا ترى أنه لو بان فسقهما بان بطلانه ولو صح باطناً لم يبين بطلانه بتبين فسقهما ويكفي لصحته باطناً وجود العدالة في نفس الأمر وإن لم يحكم بها حاكم لأن حكم الحاكم لا يحرم حراماً ولا يحل حلالاً بل إن صادف الشروط نفذ ظاهراً وباطناً وإلا نفذ ظاهراً فقط.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن الشريف ابن الجاهل هل يكون كفء بنت عالم غير شريف أم لا؟ والعالم ابن الجاهل هل هو كفء جاهلة بنت عالم أم لا؟. فأجاب: بأنه لا تكافء في المسألة بأقسامها لأن بعض الخصال لا يقابل ببعض بل لا بد من استواء الزوجين وآبائهما في سائر الأوصاف التي تشترط في الكفاءة من جهة الزوجين وآبائهما.(5/302)
وسئل عن مستولدة المبعض هل يزوجها هو بالملك أم لا؟. فأجاب بقوله: إن البغوي أفتى بأن أمة المبعض لا تزوّج أصلاً وأقره الإسنوى وغيره لرقه ورده البلقيني بأنه مفرع على الضعيف أن السيد يزوّج أمته بالولاية أما على الصحيح أنه يزوّج بالملك فإنه يزوّجها به كالمكاتب، وقول السائل مستولدة المبعض يوهم أن إيلاد المبعض لأمته صحيح وليس كذلك بل لا ينفذ إيلاده ما بقي فيه جزء من الرق كالمكاتب لأنه ليس لهما أهلية الولاء، هذا أعني عدم ثبوت استيلاد المبعض هو ما جزم به الشيخان في النكاح فقالا كالأصحاب ولو استولد الأب المبعض جارية الابن لم يثبت استيلاده وجرى على ذلك المتأخرون ومنهم شيخنا زكريا في شرح الروض فقال تعليلاً لما ذكر عن الشيخين المبعض والمكاتب لا يثبت الاستيلاد بإيلادهما أمتهما فبإيلاد أمة ولدهما أولى. قال الزركشي وعدم ثبوت استيلاد المبعض هو قضية كون المبعض ليس بأهل للعتق، أي الذي صرح به الأصحاب وبهذا الذي قررته يعلم ضعف قول الماوردي أنه يثبت استيلاد المبعض وإن مال إليه البلقيني وتبعه جماعة في باب الاستيلاد غفلة عن كلام الشيخين الذي قدمته منهم شيخنا المذكور فإنه ذكر في باب أمهات الأولاد أن أمة المبعض تصير مستولدة وغفل عما قدمه هو في النكاح وهو معذور فإنه في النكاح رأى كلام الشيخين الذي ذكرته وهو صريح كما ترى في عدم ثبوت استيلاده فجزم به في هذا الموضع كما علمت ولما وصل إلى باب أمهات الأولاد رأى كلام الماوردي وغفل عما قدمه وعن كلام الشيخين، فتبع الماوردي سيما مع كونه رأى البلقيني مال إليه، فالحاصل أن المعتمد ما قدمته من عدم نفوذ استيلاده كما يصرح به كلام الشيخين والأصحاب الذي تلي عليك، فإن قلت كيف يسوغ اعتماد هذا مع قول الزركشي وعن نص الأم ثبوت استيلاده، قلت لا يضرنا ذلك لو فرضت صحة هذا النقل، لأن للشافعي في المسألة قولين رجح الماوردي منهما الثبوت ورجح بقية الأصحاب لما ذكرناه عنهم عدمه فقدم(5/303)
ما رجحوه سيما وقد تبعهم الشيخان وغيرهما على ما رجحه الماوردي ، فإن قلت قد فرق البلقيني بين إيلاد المبعض لأمة نفسه وإيلاده لأمة أبيه فلا حجة حينئذ في كلام الشيخين المذكور، قلت قد ذكر البلقيني نفسه أن في كلامهما ذلك دلالة على عدم ثبوت استيلاده وهذا هو الحق، وأما فرقه بينهما فهو في غاية الضعف كما يعرف بتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عما محصل المعتمد من كلامهم في امرأة جاءت للقاضي وادعت أنها خلية من نكاح وعدة ليزوجها فهل يقبل قولها بيمينها أو لا بد من بينة؟. فأجاب بقوله: المعتمد كما في الخادم في الموانع وفاقاً لابن الرفعة أنه يقبل قولها وإن عرف لها نكاح سابق سواء التي زوجها حاضر بالبلد أو غائب، واستدل على ذلك بكلام الشيخين الصريح في مدعية التحليل وبسط الكلام على ذلك، و للدبيلي تفصيل نقله عنه في القوت وبسط الكلام فيه ومال إليه و للشيخين في أواخر الدعاوى عن البغوي ما يؤيد بعضه ومال إليه الإسنوى .
وسئل عما إذا سمى الخاطب نفسه بغير اسمه لعذر أو غيره فهل يصح النكاح؟. فأجاب بقوله: إن وقعت إشارة قلبية أو حسية منها إليه في الإذن صح كما لو خاطبه الولي بالنكاح ولم يربطه باسمه ونسبه وإن ربط هو أو هي القبول أو الإيجاب باسمه ونسبه الغير المطابق لم يصح وعليه حملوا نص البويطي المطلق للبطلان لكن فيه إشارة إلى أن الفرض أنه لا إشارة ولا نية.(5/304)
وسئل هل للولي الاعتماد على صوت موليته في إنكاحها وإن كانت من وراء حجاب أو في ظلمة إذا كان يعرف صوتها؟. فأجاب بقوله: نعم له ذلك، لأن المقام مقام رواية لا شهادة، ومن ثم لم يشترط الإشهاد على إذنها للولي ولو حاكماً على اضطراب فيه، ولو قال ولي أذنت لي أو وكيل وكلني فلان في تزويج موليته جاز للزوج قبول النكاح منه اعتماداً على قوله، وصحح في الكفاية قول الشامل أنه لو قال لآخر زوجتك هذه وهي منتقبة أو خلف ستر والزوج لا يعرفها باسمها ونسبها صح قال وفي معناه إذا كانت في الدار وليس فيها غيرها ومخالفة المتولي للشامل فيما ذكر ردها المتأخرون كذا قيل، وفيه نظر بل الذي في كلام جمع منهم الجمع بين كلام الغزالي وإطلاق الأصحاب والاكتفاء بالإشارة كما بينته في بعض الفتاوى فعليك به فإنه نفيس مهم.
وسئل بما صورته أخبر موثوق به قاضياً بإذن امرأة له في تزويجها وغلب على ظنه صدقه فهل له أن يزوجها بهذا الإذن؟. فأجاب بقوله: لا يجوز إن قلنا أن تصرفه حكم لأن تزويجها حينئذ حكم بصحة إذنها حتى لا يقبل منها إنكاره بعد ذلك والحكم بذلك لا بد أن يستند إلى شهادة عدلين، أما لو أخبره الموثوق به عن إذن وليها له في تزويجها فإنه يجوز له ذلك لأن تصرفه حينئذ بالوكالة عن الولي لا بالولاية، وقولهم تصرفه حكم محله فيما يدخل تحت أحكامه وولايته وتزويجه بالوكالة كبيعه وشرائه لا يدخل تحت الحكم ولا يفتقر لإقامة البينة عنده بتوكيل في البيع والشراء.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عمن قال زوجتك بنتي بكذا قل قبلت نكاحها فقاله فهل يؤثر قوله قل الخ؟. فأجاب بقوله: لا يؤثر في ذلك لأنه من مصالح العقد على أن قياس ما ذكروه في البيع أن الفصل بالكلام اليسير إنما يضر من المخاطب المطلوب جوابه وهو الزوج في هذه المسألة دون الولي.(5/305)
وسئل بما صورته حلف الولي بالطلاق أنه لا يزوج ابنته لزيد فخطبها رجل من أخيها فامتنع فزوجه القاضي فهل يصح لكون الولي عاضلاً وللشهود حضور العقد أو لا؟ وإذا أقرت امرأة بالرضاع بينها وبين آخر فهل تقبل أو لا؟. فأجاب بقوله: ما ذكر ليس بعضل، لأن شرط العضل أن تطلب بالغة عاقلة التزويج من كفء ولو عنيناً أو مجبوباً بشرط أن يخطبها وأن تعينه ولو بالنوع بأن خطبها أكفاء ودعت إلى أحدهم، فإذا امتنع الولي حينئذ من التزويج مطلقاً أو إلا ممن هو أكفأ من ذلك المعين وثبتت ذلك عند القاضي ولم يتكرر عضل الولي ثلاث مرات زوجها القاضي ولو بحضرة الولي ومتى فقد شرط من ذلك لم يصح تزويج القاضي ولم يجز للشهود إعانته عليه بل المزوّج في مسألة تكرر العضل ثلاثاً هو الأبعد إن لم يغلب على ذلك طاعات الولي وإلا فالمزوج القاضي وإن تكرر العضل ثلاثاً فأكثروا ما دعواها الرضاع فيقبل منها بيمينها قبل العقد وكذا بعده إن زوجها مجبر وأذنت ولم تعين أحداً ولم تمكنه من نفسها في الصورتين فحينئذ لا يصح تزويجها ويحكم ببطلانه إن أقرت بعده.(5/306)
وسئل عمن استشير في أمر نفسه عند زواج أو ولاية هل يجب عليه ذكر مساويه؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه في ذلك أخذاً مما ذكروه فيما لو استشير في غيره أنه يقول لا خير لكم فيّ فإن لم يندفعوا إلا بذكر شيء وجب ذكر شيء مما فيه مما ينفي الرغبة فيه فإن لم يندفعوا إلا بذكر الكل وجب، ويحتمل أن يفرق بأن الغير ثم هو الطالب فوجب بيان حاله وهنا هم الطالبون فحيث قال لهم لا خير لكم فيّ، ولم يندفعوا كانوا مقصرين وعليه فمحل ذلك في عيوب لا تخل بالكفاءة في النكاح أو الولاية في غيره وإلا لم يجز له القبول معها ما لم يبينها لهم ويرضوا بها بالنسبة إلى الكفاءة، و للبارزي هنا تفصيل حاصله أنه يجب ذكر العيب المثبت للخيار ويسن ذكر نحو الشيخ وفي المعاصي يتوب ثم الأولى له الستر هذا في الزواج وفي الولاية يجب أن يبين عدم كفاءته أو جنايته وما ذكرته أوفق بقواعدهم كما يعرف بتأملها.
وسئل عن قول الموجب لعقد النكاح زوزتك بإبدال الجيم زاياً أو جوّزتك بإبدال الزاي جيماً أو فتح التاء التي للمتكلم فهل ينعقد النكاح أو لا؟. فأجاب بقوله: قضية كلام الإسنوى في كوكبه أن فتح تاء المتكلم يضر مطلقاً وعلله بأنه يخل بالمعنى وهو ظاهر بالنسبة للنحوي، أما غيره فالذي يتجه أن ذلك لا يضر بالنسبة له وكذا يقال في إبدال الكاف همزة أو الجيم زاياً أو بنحو ذلك من اللغات التي ألفتها العامة كما بينته في شرح الإرشاد أخذاً من قول الغزالي إن زوّجت إليك أو لك صحيح، لأن الخطأ في الصيغة إذا لم يخل بالمعنى ينبغي أن يكون كالخطأ في الإعراب، ويؤيد ذلك أيضاً إفتاء الشرف ابن المقري بأنه إذا كان في عرف بلدهم فتح تاء المتكلم ويفهمون المراد لم يكن قادحاً في عقد النكاح.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/307)
وسئل بما لفظه: لو غاب ماله مرحلتين فأكثر وأراد نكاح مجبرة وقلنا بمقالة القاضي حسين ومتابعيه من اشتراط اليسار بمهر مثلها فهل له ذلك أو لا؟. فأجاب بأنهم صرحوا بأن من غاب ماله مرحلتين فأكثر معسر حكماً ومن ثم ألحقوه بالمعسر حقيقة في فسخ البيع والنكاح وفي باب قسم الصدقات فقالوا له أخذ الزكاة من سهم الفقراء، وقضية ذلك إلحاقه به أيضاً في عدم صحة تزويجه للمجبرة بناء على طريقة القاضي حسين ومن تبعه وهي المعتمدة كما بينته في شرح الإرشاد، ويحتمل الفرق بين هذه الصورة والصورة المسؤول عنها بأن يقال إنما ألحقوه بالمعسر ثم إزالة للضرر الحاصل من إلحاقه بالموسر لتضرر البائع والزوجة بالصبر إلى إحضار ماله كما صرحوا به ولتضرره هو بعدم الأخذ من الزكاة لأنه فقير في الحال، وأما في مسألتنا فلا ضرر على الزوجة لأن المهر لا يجب بالعقد، وإنما يجب بالتمكين بعده ولم يتحقق استمرار غيبة ماله إلى التمكين، فإن قلت قياس هذا أنه لا يشترط يساره عند العقد قلت ممنوع فإن المعسر الأصل استمرار إعساره مع أن احتمال يساره عند التمكين القريب من العقد غالباً بعيد بخلاف من غاب ماله، فإنه موسر شرعاً وعرفاً كما صرح به الأذرعي لكن في تعليل مقالة ضعيفة مع أن احتمال إحضار ماله عند التمكين أو قبله كما لا يخفى وإنما أعطى حكم المعسر لمعنى، وذلك المعنى لم يوجد نظيره في مسألتنا، والحاصل أن الأقرب إلى ظواهر عباراتهم أنه يعطي حكم المعسر في مسألتنا أيضاً وأن الأقرب إلى المدرك الذي ذكرته أنه لا يعطي حكمه وأنه يصح تزويج المجبرة منه وهذا هو الذي يتجه عندي الآن ولعل الله تعالى يفتح في هذا وما قبله بنقل يكشف القناع عنه.(5/308)
وسئل عن قول الألثغ في إيجاب عقد النكاح وقبوله زودني أو انتحني وتزويدها ونتاحها بدلاً عن زوجني وأنكحني وتزويجها ونكاحها هل يرتبط بذلك صحة أم عدمها، قال السائل وظهر لي عدم صحة ذلك وأن طريقه التوكيل ويفرق بينه وبين الصلاة بأنها لا تقبل النيابة؟. فأجاب بأن الذي يتجه فيها كما ذكرته في شرح الإرشاد أخذاً من قول الغزالي أن زوجت إليك أو لك صحيح، لأن الخطأ في الصيغة إذا لم يخل بالمعنى ينبغي أن يكون كالخطأ في الإعراب اهـ إن جميع ما ذكر فيها ونحوه من اللغات التي ألفتها العامة لا يضر، ويؤيد ذلك إفتاء الشرف ابن المقري بأنه إذا كان في عرف بلدهم فتح تاء المتكلم ويفهمون المراد لم يكن قادحاً في عقد النكاح، ولا فرق في ذلك بين العارف وغيره اهـ، وإفتاء أبي شكيل بنحو ذلك حيث قال إن هذا لحن لا يخل المعنى فلا يخرج به اللفظ عن موضوعه فيكون صريحاً اهـ وأما ما اقتضاه كلام الإسنوى في كوكبه من أن فتح تاء المتكلم يضر مطلقاً وعلله بأنه يخل بالمعنى فينبغي حمله على النحوي لأن ذلك إنما يخل بالمعنى في حقه دون غيره، ويؤيد ذلك تسويتهم أيضاً بين إن وأن في باب الطلاق بالنسبة للعامي، وفرق بينهما بالنسبة للنحوي وبما تقرر يعلم اندفاع بعض من أدركته بأن فتح التاء يضر من العامي وغيره مطلقاً، وأن كلام الإسنوى السابق يوافقه وإنما لم يكلف العامي بالتوكيل لأنه يشق.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/309)
وسئل عمن لو كان للإنسان زوجة جنية فخاف منها فطلقها فسمع منه لفظ الطلاق فهل ذلك يمكن ويقع طلاق بذلك؟. فأجاب بقوله: ما ذكر من أن الإنسي قد يقع له تزويج بجنية فهو أمر ممكن بل واقع كما حكاه غير واحد ومع ذلك إذا سمع من رجل لفظ طلقتك أو أنت طالق بحضرة زوجته الإنسية أو طلقت زوجتي فإنما ينصرف لزوجته الإنسية ولا يقبل قوله إنما أردت زوجني الجنية وإن قلنا بحل نكاح الجان وهو ما قاله جماعة من أئمتنا لكن المعتمد أنه لا يحل نكاحهم.
وسئل عن امرأة ذكرت أنه ليس لها ولي أصلاً أو غائب الغيبة الشرعية وحكمت رجلاً أن يزوّجها من كفء هل له ذلك إذا كان فيه أهلية القضاء أم لا سواء كانت في قرية بها حاكم أو لا، أوضحوا لنا ما نعتمد عليه ونقرره في الفتاوى ولا خفاء على مولانا ما في المسألة من الاضطراب وما ذكره الروياني من الجزم بالصحة في كتابيه البحر والحلية؟. فأجاب بقوله: حيث كان المحكم فيه أهلية القضاء جاز ولو مع وجود القاضي أو لا أهلية فيه لكنه عدل جاز مع فقد الحاكم لا مع وجوده وهذا هو المعتمد في هذه المسألة.
وسئل عن إماء مشتركات بين كثيرين بعضهم مفقود وبعضهم موجود غائب لا يمكن استئذانه، والحال أنهن تضررن بعدم النفقة فهل لهن سبيل في أن يتزوجن بإذن من حضر من ساداتهن أو بتقويم حصص الغائبين وتملكها أو غير ذلك من طرق الشرع أو لا؟. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله: لا سبيل إلى تزويجهن بإذن من حضر فقط ولا إلى أن الحاضرين يتملكونهن بتقويم ولا غيره، وإنما النظر على حصص الغائبين للقاضي فيلزمه فعل إلا حظ للغائبين من الإنفاق عليهن أو بيعهن وحفظ ثمنهن إلى حضورهم أو الحكم بموتهم.(5/310)
وسئل بما لفظه ما حكم الطب للكافر؟. فأجاب بقوله: يجوز طب المسلم للكافر ولو حربياً كما يجوز له أن يتصدق عليه لقوله : «في كل كبد حراء» ، وفي رواية: رطبة أجر وأما تطبب المسلم بكافر فإنما يجوز إن فقد مسلماً غيره يقوم مقامه وكان ذلك الكافر مأموناً بحيث لا يخشى ضرره.
وسئل عن عبد مالكه غائب أو محبوس أو مأسور أو مفقود والعبد محتاج إلى النكاح أو كان واستأذنه فلم يأذن وهو يخاف الوقوع في العنت فهل له أن ينكح حينئذ؟. فأجاب بقوله: ليس له أن ينكح في صورة من هذه الصور إلا بعد صريح إذن سيده ولا نظر لخوف عنت ولا لغيره، وبحث ابن الرفعة حل شرائه بقوته المضطر إليه ولو بلا إذن لا ينافي ذلك لوضوح الفرق بين البابين فإن الخشية على النفس أو نحو العضو لا يلحق بها غيرها.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن أمة مالكها غائب وهي محتاجة إلى النكاح فهل يصح تزويجها مع أن في ذلك حصول المهر للغائب أو هل يقوم ذلك مقام بيع الحاكم ما له إذا ظهرت فائدة ومصلحة؟. فأجاب بقوله: لا يصح تزويجها من الحاكم ولا من غيره في غيبة مالكها أو حضوره إلا بعد صريح إذنه سواء احتاجت للنكاح أم لا؟. نعم إن رأى الحاكم بيعها لأن الحظ فيه للغائب باعها ويزوّجها سيدها الذي اشتراها إن شاء.(5/311)
وسئل هل يجوز عقد النكاح تقليداً لمذهب داود من غير ولي ولا شهود أو لا؟ وإذا وطىء هل يحد أو لا؟ ففي نفائس الأزرقي ما صورته إذا نكح بلا ولي تقليداً لأبي حنيفة أو بلا شهود تقليداً لمالك ووطىء فإنه لا يحد فلو نكح بلا ولي ولا شهود أيضاً حد كما قاله الرافعي ، لأن الإمامين اتفقا على بطلانه، قلت ولا يخلو من نظر فإنه ظاهر كلام التنبيه أنه لا يحد وأيضاً فقد حكى النووي في شرح مسلم أن نكاح المتعة لا ولي فيه ولا شهود على ما دل عليه الحديث فإذا كان كذلك فلا حد، وقد رأيت جواباً منسوباً إلى الفقيه الصالح محمد بن عمرو أنه لا يحد في النكاح بلا ولي ولا شهود على الصحيح، ويؤيده ما حكيناه عن النووي في شرح مسلم اهـ، فبينوا لنا حكم هذه المسألة بياناً شافياً؟. فأجاب بقوله: لا يجوز تقليد داود في النكاح بلا ولي ولا شهود، ومن وطىء في نكاح خال عنهما وجب عليه حد الزنا على المنقول المعتمد، فقد قال الزركشي في تكملته عبارة المحرر كالنكاح بلا ولي ولا شهود، ومراده النكاح بلا ولي فقط أو النكاح بلا شهود فقط لا المجموع أي الخالي عنهما ويرشد إليه جعله مثالاً للمختلف فيه فإن فاقد كل منهما مجمع على تحريمه لكن فيه إيهام فلذا عدل عنه المنهاج إلى أحدهما. قال: وما ذكرناه عند فقد كل منهما خصه القاضي حسين بالشريفة، فأما الدنية فلا حد لخلاف مالك فيه اهـ. وأخذ ذلك من قول شيخه الأذرعي في قوته. قال القاضي : ومحل الخلاف في الحد في النكاح بلا ولي إذا حضره شاهدان أما إذا لم يحضراه ولا حصل إعلان فالحد واجب لانتفاء شبهة اختلاف العلماء وإن وجد الإعلان خاصة فإن لم يكن ولي وجب وإلا فلا اهـ. قال غيرهما: ومحل الخلاف أيضاً قبل الحكم بصحته، أما بعده فلا يحد قطعاً قاله الماوردي اهـ وبنقلهما الإجماع على التحريم إذا خلا عن الولي والشاهدين والإعلان يبطل قول من قال إن داود يجيز ذلك ويبطل الإفتاء المنقول في السؤال عن محمد بن عمرو، وإن سبقه(5/312)
إليه بعض شراح المنهاج ونقل عن اقتضاء كلام الشيخين في اللعان وكيف يقال في مجمع عليه لم يثبت القول به في زمن عن أحد ممن يعتد به أنه لا حد به على أن مجرد الخلاف لا يعتد به، ألا ترى أن أئمتنا قالوا بالحد في مسائل فيها خلاف لكنهم أجابوا عن ذلك بأنا لا نعتبر الخلاف في الحد مطلقاً ولا في الإباحة إلا إن كان قوياً بخلاف الخلاف الضعيف جداً فإنا لا نعتبره ولا نعول عليه فلو فرض أن داود قائل بحل ذلك لم يلتفت إليه على أن كثيرين من أصحابنا منعوا من تقليده كسائر الظاهرية لأنهم لإنكارهم القياس الجلي يرتكبون السفساف من الآراء فلم يعتد بآرائهم وفارق ما نحن فيه نكاح المتعة بأن الخلاف فيه قوي، وقد صح عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما أنه كان يفتي به ولم يصح أنه رجع عنه خلافاً لمن زعمه وعلى التنزل فالإجماع لا ينسخ بل ولا يرفع الخلاف السابق على أن الإجماع لم يتم، فقد حكى عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/313)
ابن سريج أنه قائل بنكاح المتعة. وقال به طائفة كثيرة من الشيعة، واستدلوا له بالقرآن والسنة والإجماع على إباحته أولاً ثم الاختلاف في تحريمه، والأصل عدمه وهذه أدلة متماسكة إلا أن خلاف الشيعة لا يعتد به كما صرح به النووي وقد صح تحليلها ثم تحريمها إلى يوم القيامة، ومما يدل على عدم رجوع ابن عباس ما رواه الطحاوي عنه أنه قال ما كانت المتعة إلا رحمة من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ولولا نهي عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما زنى إلا شقي، فإن قلت هذا يؤيد ما في السؤال عن شرح مسلم من أن نكاح المتعة خلى عن الولي والشهود قلت لا يؤثر ذلك فيما قلناه لأنا وإن سلمنا ذلك فتحليل نكاح المتعة اشتمل على مفسدين أحدهما فقد الولي والشهود، والثاني التوقيت، فأما فقد الولي والشهود فأجمعوا فيه على البطلان ولم يقع فيه خلاف، وأما التوقيت فهو الذي وقع فيه خلاف ابن عباس وغيره، فكانت الشبهة فيه أقوى فلذلك قلنا بعدم الحد فيه وبوجوبه في الأوّل، ومذهب زفر من أصحاب أبي حنيفة أن نكاح المتعة صحيح لأنه يلغو الشرط وينعقد مؤبداً وهذا خلاف قوي وملحظ متماسك، وبه يتأيد ما ذكرته أنه لا إجماع في نكاح المتعة وإن كان الخلاف فيها قوياً نقلاً ومدركاً بخلاف النكاح الخالي عن الولي والشهود والإعلان فإنه لا خلاف في تحريمه فضلاً عن كونه شاذاً فاتضح الحد فيه، وبطل القول المخالف لذلك على أن الذي في شرح مسلم إنما هو هذا الحديث دليل على أنه لم يكن في نكاح المتعة ولي ولا شهود، وهذا يدفع قول السائل أنه حكاه فيه فهو لم يحكه وإنما استنبطه كما دلت عليه عبارته وحينئذ فلا يأتي الإشكال إلا على من وافقه في هذا الاستنباط وهو نفسه كالأصحاب لم يقولوا به في كتب الفقه لأطباقهم على تفسير نكاح المتعة بأنه الموقت ولم يقل أحد منهم مع خلوه عن الولي والشهود فظهر أن ما في شرح مسلم لا يرد على الأصحاب على أن الحديث واقعة حال فعلية محتملة، والاحتمال فيها يسقطها(5/314)
فلا يرد على الأصحاب ذلك الحديث أيضاً فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن ولي وكل شخصاً في تزويج موليته فقال زوجها أو مر من شئت يزوجها فوكل رجلاً فهل هو وكيل الموكل حتى يصح له أن يقبل نكاحها منه لنفسه أو وكيل الوكيل حتى لا يصح ذلك، والحال أنه ليس في ضمير الولي أن الوكيل يتزوجها فإذا كان كذلك فهل يصح النكاح أم لا؟. فأجاب بقوله: إذا قال الموكل وكل عن نفسك كان الوكيل وكيل الوكيل فينعزل بعزله وانعزاله وبعزل المالك له أو لموكله وإن قال له وكل عني أو أطلق فلم يقل له عني ولا عنك فالثالث وكيل الموكل فلا يملك الثاني عزله ولا ينعزل الثالث بانعزال الثاني وليس للثاني في صورة عني والإطلاق أن يوكل عن نفسه فإن فعل لم يصح إذا تقرر ذلك علم أن الثاني في صورة السؤال إذا وكل ثالثاً يزوجها كان كل منهما وكيلاً للولي وليس أحدهما وكيلاً للآخر سواء أقلنا أن الثالث وكيل الثاني أو الولي يصح لكل منهما قبول نكاحها لنفسه فإذا قال الثاني للثالث بحضرة شاهدين يعلمان الوكالة زوجتك فلانة بنت موكلي فقال قبلت نكاحها لنفسي صح وكذا لو قال الثالث للثاني ذلك كذلك فيصح أيضاً، إذ لا محذور في ذلك والوكيل لا يمتنع عليه المعاملة مع وكيل آخر وإنما يمتنع عليه تزويجه مثلاً لنفسه ونحوه والعبرة في العقود بألفاظها الصريحة وإن خالفت ما في الضمير وبالله التوفيق.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/315)
وسئل عن مسائل في الخلوة بالأجنبية؛ الأولى: إذا كانت دار تشتمل على بيتين مختلفي المرافق لكن كل واحد منهما بمرأى من الأخرى كهذه الصورة مثلاً، فظاهر كلام الفقهاء أن هذا ليس بخلوة فهل هو كذلك أم لا؟ الثانية: إذا كانت دار مشتملة على بيتين متفقي المرافق لكن كل واحد منهما غائب عن الآخر بأن يكون في قفاه أو يوصل إليه بانعطافات مثلاً فصريح كلامهم أن هذا خلوّة لكن بقي شيء أنه لو كانت امرأة في أحد البيتين ورجل وامرأة أجنبية في آخر فهل يكون هذا خلوة أم لا؟ الثالثة: دار اشتملت على مجلس ومخازن كثيرة سواء كانت غائبة عن مرأى المجلس أو بمرآه ورجل في المجلس فمرت به امرأة قاصدة أخذ بعض الحوائج من المخازن والرجوع فهل هذا خلوة أم لا؟. فأجاب بقوله: حكم هذه الصور الثلاث يعلم من قولهم إذا سكنت المرأة والأجنبي في حجرتين أو علو وسفل أو دار وحجرة، اشترط أن لا يتحدا في مرفق كمطبخ أو خلاء أو بئر أو ممر أو سطح أو مصعد له فإن اتحدا في واحد مما ذكر حرمت المساكنة لأنها حينئذ مظنة للخلوة المحرمة وكذا إن اختلفا في الكل ولم يغلق ما بينهما من باب أو يسد أو غلق لكن ممر أحدهما على الآخر أو باب مسكن أحدهما في مسكن الآخر، وإذا علمت الحرمة في هذه الصور علمتها في صور السؤال الثلاث، أما الأولى فلأن باب مسكن أحدهما في مسكن الآخر، وأما الثانية فلاتفاق المرافق وقد تقرر أن اتفاق واحد منها كاف في الحرمة، وفيها أيضاً أن باب مسكن أحدهما في مسكن الآخر وهو محرم أيضاً كما تقرر. وأما الثالثة فلأن ممر أحدهما على الآخر نعم ترتفع الحرمة في كل من تلك الصور بأن يكون معها محرم لها رجل أو امرأة أو له امرأة، ويشترط في المحرم كونه مميزاً متيقظاً ولو أعمى ذا فطانة بحيث ينتفي بحضرته عادة وقوع فاحشة ويكفي عن المحرم امرأة ثقة يحتشمها لحياء أو خوف. قال الأئمة: ولو لم يكن في الدار إلا بيت وصفف لم يساكنها ولو محرماً ما لم يكن بينهما حائل ولا(5/316)
يكون ممر أحدهما على الآخر وبما تقرر علم أنه يجوز خلوة رجل ثقة بأجنبيتين ثقتين يحتشمهما ولا يجوز خلوة رجلين بأجنبية مطلقاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن امرأة وكلت وليها بتزويجها فزوّجها ولم يسألها عن انقضاء عدتها من مطلقها هل يصح التزويج وإن ادعت عدم انقضائها ولو طلقت قبل الدخول فهل لها نصف المهر؟. فأجاب بقوله: المدار في الصحة الحقيقية على ما في نفس الأمر، وأما الصحة في الظاهر فمدارها على انتفاء المفسد في الظاهر ولا تقبل دعواها عدم انقضائها بعد إذنها في التزويج للتناقض ولا تستحق نصف المهر لدعواها فساد النكاح.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عما يسن من الذكر عند إرادة الجماع؟. فأجاب بقوله: يسن له أن يقول بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ويظهر أنه يسن لها أن تقول ذلك أيضاً وأنه يسن لهما ذلك وإن كانا لا يلدان لأنهما قد يلدان على خلاف العادة، ولأن ما يرزقانه أعم من الولد. قال بعضهم: ويسن أن يقرأ قبل ذلك الإخلاص ثلاثاً ويسبح ويهلل ويكبر ويجري على قلبه عند الإنزال: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، ولا يتلفظ به.
وسئل هل يشترط فيمن يعقد النكاح من ولي أو وكيل أو قاض معرفة جميع شروط النكاح أم لا؟ ولو لقن أحدهما ألفاظ النكاح فعقد بذلك هل يصح النكاح أم لا؟. فأجاب بقوله: لا يشترط معرفة ذلك لصحة النكاح، لأن المدار على وجود جميع شروط النكاح في نفس الأمر لا في ظن العاقد، فإذا وجدت في نفس الأمر صح وإن فقدت في ظن العاقد سواء لقن الصيغة أم لا وإن فقد واحد منها في نفس الأمر لم يصح وإن وجدت كلها في ظن العاقد، وإنما يشترط ذلك بالنسبة لجواز تولية العاقد أو القاضي فلا يجوز لولي الأمر أن يولي رجلاً عاقداً أو قاضياً في بلد إلا إن كان عدلاً عارفاً بذلك بالنسبة للعاقد وبه وبغيره بالنسبة للقاضي.(5/317)
وسئل عن حديث لعن المحلل والمحلل له ما جواب الشافعية عنه مع كونه صحيحاً له طرق كثيرة؟. فأجاب بقوله: حمله الجمهور على ما إذا صرح في العقد باشتراط أنه إذا وطىء طلق وممن قال بهذا الحمل الإمام المتقن الحافظ المنصف أبو عمرو بن عبد البر من كبار المالكية قال الأظهر بمعاني الحديث حمله على التصريح بذلك، لا على نيته لأن امرأة رفاعة صرحت بأنها تريد الرجوع إلى زوجها الأوّل وقد تضمن الحديث إقرارها على صحة النكاح، فإذا لم يقدح فيه نيتها فكذلك نية الزوج ونية المطلق أولى أن لا تقدح فلم يبق للحديث معنى إلا الحمل على الإظهار فيكون كنكاح المتعة اهـ.
وسئل عن امرأة لها زوجان ويجوز أن يتزوجها ثالث ما صورته؟. فأجاب بقوله الغز بذلك ابن السبكي وفسره بأن امرأة لها أمة متزوجة بعبدها فهما زوجان لها وإذا جاء ثالث فله نكاحها وفسره غيره بأن لها زوجين من نحو بقر.
وسئل بما صورته امرأة والدها ابنها؟. فأجاب بقوله: أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عنهن.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال التاج السبكي :
وآخر راح يشرى طعم زوجته
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
فعاد وهو على حال من الغير
قالت له أنت عبدي قد وهبتك من
زوج تزوجته فاخدمه واعتبر
فأجاب بقوله: صوره الناظم بأن عبداً زوجه مولاه بابنته ودخل بها ثم مات مولاه ووقعت الفرقة لأنها ملكت زوجها بالإرث وكانت حاملاً فوضعت فانقضت عدتها فتزوجت ووهبت ذلك العبد لزوجها.
وسئل عن حديث من يمن المرأة أن تبكر بأنثى من رواه؟. فأجاب بقوله: هو حديث واه.(5/318)
وسئل عن قول الروضة أنه يتولى الجد طرفي العقد في تزويج بنت ابنه الصغيرة والكبيرة بابن ابنه الآخر هل قوله الكبيرة يشمل الثيب حتى لو أذنت له في التزويج وهي ثيب زوجها بابن ابنه الآخر المولي عليه أو محله في غير الثيب، لكن ما المانع من ولايته وتوليه الطرفين بعد الإذن منها، وفي شرح التنبيه للأزرقي أن للمسألة ثلاثة شروط. الثالث أن يكون بنت الابن بكراً وقد ذكر هذه الشروط غير الأزرقي فهل مرادهم أن هذه الشروط للإجبار أو للتولية حتى لو أذنت البنت له في تزويجها لا يتولى الطرفين في تزويجها بابنه الآخر أم لا؟. فأجاب بقوله: لا فرق في ذلك بين البكر والثيب بعد إذنها كما هو واضح ومن عبر بالبكر أراد أن ذلك شرط لتولي الطرفين ابتداء من غير مراجعة أحد.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82(5/319)
وسئل عن امرأة تزوّجت اعتماداً على مضي عدتها ثم لما سافر زوجها سفراً طويلاً بعيداً جاءت القاضي وأخبرته أن النكاح كان في أثناء العدة وأنها كانت كاذبة فشهد بموجبها النسوان اللاتي كن ساكنات معها مع أنهن سكتن أوّلاً على النكاح الأوّل فزوّجها آخر هل يحكم بصحة نكاحها الأول أو الثاني وفيما إذا فسخ القاضي نكاح هذه ثم شهد رجلان، والحالة هذه ببلوغها بالسن أو أقرت ببلوغها بالاحتلام وقت الفسخ فهل يحكم بصحة الفسخ والنكاح بثبوت البلاغ الآن لموافقته في نفس الأمر أولاً لعدم وقوع العلم بذلك، وقد اضطرب كلام الأصحاب في أمثال هذه المسألة منها أنه لو نكح امرأة لا يعلم أهي أخته أم معتدة أم لا؟ لا يصح النكاح. ومنها لو زوّج أمة أبيه ظاناً حياته فبان ميتاً صح النكاح. ومنها إذا تربصت زوجة المفقود أربعة سنين فاعتدت وتزوّجت فبان ميتاً عند التزوّج فعلى الجديد يخرج على القولين فمن باع مال أبيه ظاناً حياته وما الذي يعتمد عليه في هذه المسألة وهل يشترط فيمن يعقد النكاح من ولي أو وكيل أو قاض معرفة شروط النكاح أو لا؟ ولو لقن أحد ألفاظ النكاح للعاقد فعقدها هل يصح أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا أخبرت بانقضاء عدتها فزوّجت ثم أخبرت بخلاف ذلك لم يقبل خبرها سواء أغاب الزوج أم حضر ولم يوافقها لأن حقه تعلق بها فلا يقبل قولها في دفعه لا سيما وهو مناقض لقولها الأوّل ولا عبرة بشهادة النسوة المذكورات بموافقتها فيما أخبرت به ثانياً، لأن قولها الأوّل مكذب لهن وتزويج القاضي لها فيما ذكر واضح الفساد والبطلان وكذلك فسخه للنكاح الأوّل واضح البطلان والفساد، وذلك كله دليل واضح على جهله وتهوره وأنه ليس له دين يحجزه عن مثل هذه القبائح، وقول السائل وفيما إذا فسخ القاضي نكاح هذه الخ، كلام غير ملتئم مع ما قبله فلا يستحق جواباً. وقوله وقد اضطرب كلام الأصحاب الخ، جوابه أنه لا اضطراب في ذلك كما بينته في شرح المنهاج في باب النكاح فإن قولهم(5/320)
شرطه العلم بحل المنكوحة معناه أن ذلك شرط لحل تعاطي العقد ولنفوذه ظاهراً، وأما الصور الأخرى التي منها تزويج أمة المورث وزوجة المفقود وإن لم تتربص أربع سنين خلافاً لما يوهمه كلام السائل فهي محمولة على الصحة في نفس الأمر فالحاصل أن مدار الصحة على وجود الشروط في نفس الأمر ومدار حل مباشرة العقد ونفوذه ظاهراً أيضاً على العلم بحل المنكوحة فلا تخالف بين تلك المسائل، ولا يشترط في صحة العقد معرفة شروطه بل الإتيان بها حتى لو لقن لفظه وعرف معناه فأتى به صح إن استوفى بقية شروطه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
وسئل عن امرأة خرجت بإذن زوجها إلى بلد لحاجتها فأقامت فيه وقالت ليس عندي مصروف الطريق ولم يطلبها الزوج فهل يجوز لها الفسخ بعد الإعلام ببذل طاعتها إلى حاكم البلد الذي أقامت فيه أو لا وليس لها إلا الرجوع إلى بلدها؟. فأجاب بقوله: لا فسخ لها في هذه الحالة بوجه كما هو واضح، وعجيب من توقف السائل في هذه الحالة وتردده في الفسخ مع أنه لا نفقة لها في هذه الحالة كما صرحوا به. نعم إن كان السفر لحاجته فقط فنفقتها عليه فإذا عجز عنها أو حدث فيه شروط الفسخ التي ذكرها الأئمة على المعتمد عندهم في ذلك دون الآراء الضعيفة الكثيرة في هذا المحل جاز لها الفسخ.
وسئل عمن زوّج أمته من عبده فأولدها أولاداً ثم أبق العبد ولم يعلم له مكان فباع السيد الأمة من رجل فأراد السيد الثاني قربانها كيف الطريق المسوغ لذلك؟. فأجاب بقوله: الحيلة في ذلك أن يكاتبها سيدها كتابة صحيحة ثم ينذر مالك العبد لها به فتقبل فتملكه فينفسخ النكاح بتقدير حياته، ثم يتفاسخان السيد وهي الكتابة ويستبرئها بالأكثر من حيضتين عدة الحياة ومن شهرين وخمسة أيام عدة الموت لاحتمال كل منهما فوجب الأكثر أخذاً مما ذكروه في مواضع وما ذكرته من مجموع الحيلة ظاهر وإن لم أر من ذكره.(5/321)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 82
باب نكاح المشرك
وسئل عما إذا أسلم السفيه على أكثر من أربع نسوة فهل له أن يختار أربعاً منهن لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم له اختيار أربع كما يصرح به كلامهم في مواضع منها قولهم إن كان بالغاً عاقلاً اختار وإلا وقف إلى كماله فهذا صريح في أن السفيه يختار. ومنها قولهم وإنما جاز له الاختيار مع الإحرام منه أو منهن لأنه استدامة للنكاح فكان كالرجعة، وقد ذكروا في الرجعة أن للسفيه أن يرتجع بغير إذن وليه تعليباً لشبهها بالاستدامة فكان الاختيار مثلها في ذلك بعين ما قالوه من أنه مثلها. ومنها قولهم أن للعبد هنا الاختيار ولم يقيده أحد منهم بغير إذن سيده ولا شك أن السفيه مثله على أنهم سووا بينهما في أن لكل أن يرتجع بلا إذن فقياسه التسوية بينهما في ذلك سيما مع قولهم إن الاختيار كالرجعة، فإن قلت تجويزهم رجعة الأمة مع فقد شروط حل ابتداء نكاحها ومنعهم اختيارها حينئذ صريح في أنه يغتفر في الرجعة ما لا يغتفر في الاختيار فلا يلزم من تجويز الرجعة للسفيه والعبد بلا إذن تجويز الاختيار لهما بلا إذن، قلت افتراقهما في هذا لا يوجب افتراقهما فيما نحن فيه لأنهم سووا بينهما في أكثر الأحكام وإذا تعارضت التسوية في الأكثر، والفرق في الأقل كان الإلحاق بالأول أولى على أنه يفرق بينهما بأن الكفر انضم إلى الرق هنا لا ثم فكان هنا مانعان من موانع النكاح فاشترطوا وجود الحل عند اجتماع الإسلامين، وثم لم يوجد إلا مانع واحد فكان الاختيار أولى بالاحتياط من الرجعة في هذا الفرد الخاص الذي ليس في صورة السؤال نظيره فتأمل ذلك فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 109
باب خيار النكاح(5/322)
وسئل ما حكم تمريض المجذوم والأبرص والذي فيه طاعون والذي فيه علة، وقال أهل الطب أنها تعدي؟. فأجاب بقوله: قد ورد في العدوى وعدمها أحاديث ظاهرها التعارض فمن ذلك حديث ابن ماجه وغيره: أن النبي قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وحديث النسائي والترمذي ومسلم في إفراده: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي فقال: «ارجع فقد بايعناك» . وروى البخاري تعليقاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: «فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد» ، فهذه كلها ظاهرة في إثبات العدوى. ومن الأحاديث الظاهرة بل الصريحة في نفي العدوى أنه أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة فقال: «كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه» خرجه ابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه. وقال : «لا يوردن ممرض على مصح» رواه الشيخان. وقال : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» ، والجواب عن ذلك أنه لا تنافي بين هذه الأحاديث لأنه إنما أمر بالفرار من المجذوم وبعدم إدامة النظر إليه وبرجوعه ومبايعته من بعيد شفقة على أمته وخشية أن يصيب من يقرب منه بالمخالطة وغيرها الجذام فيسبق إلى قلب بعضهم أن نحو الجذام يعدي بطبعه وهو اعتقاد بعض الكفار كما يأتي، وأما الذي عليه المحققون فهو انتفاء العدوى أصلاً فقد نفاها بقوله رداً على من أثبتها فمن أعدى الأول وبقوله: «لا عدوى» الحديث، وبقوله: «إنه لا يعدي شيء شيئاً» ولهذا أكل مع المجذوم ثقة بالله وتوكلاً عليه وبذلك علم الجمع بين هذه الأخبار وجمع بينها أيضاً بأنه خاطب كل أحد من الناس بما يليق به، فبعض الناس يكون قوي الإيمان فخاطبه بطريق التوكل وبعضهم لا يقوى على ذلك فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وقد فعل الحالتين معاً فاجتنب المجذوم تارة رعاية لما فيه من البشرية وخالطه تارة أخرى لما غلب عليه من القوة الإلهية وأيضاً فليتأسى به كل من سالكي المقامين ويكون لكل طبقة من الناس حجة بحسب حالهم وعلى ما(5/323)
يليق بهم، والذي مال إليه النووي وغيره الجمع الأول، وحاصله أن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة شيء إلى الله سبحانه وتعالى فأبطل اعتقادهم بقوله: «لا عدوى» وأرشد في الحديث الآخر إلى مجانبة ما قد يحصل عنده عادة الضرر بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره. وأجاب ابن قتيبة بأن القرب من المجذوم وصاحب السل قد يؤدي إلى السقم لكن بالرائحة لا بالعدوى، ورد بأن الرائحة من أحد أسباب العدوى. وأجاب
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 109(5/324)
الطبراني : بأن أمره بتجنب ذلك على سبيل الاحتياط ومخافة ما يقع بالنفس من العدوى ثم فعل خلاف ذلك حيث خالط. وقال: «لا عدوى» ليبين أن أمره بالفرار ليس للوجوب. وقال الباجي: الأمر بالفرار للإباحة، أي إذا لم تصبر على أذاه وكرهت مخالطته فيباح لك أن تفر منه. وروى عنه : «كل مع المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين» وقيد بكسر القاف بمعنى قدر. وروى عنه أيضاً: «أنه مر على الجذمي فخمر أي غطى أنفه فقالوا: يا رسول الله أليس قلت لا عدوى؟ قال: بلى ولكن أقذرهم» . قال وكيع أحد رواته هذا رخصة. وأجابت عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا وغيرها: بأن الأمر بالفرار ونحوه منسوخ بخبر لا عدوى، ونحوه وبمواكلته للمجذوم. وذهب بعضهم إلى إثبات ذلك بأن أبا هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ كان يحدث بحديث: «لا عدوى ولا طيرة»، وبحديث: «لا يورد ممرض على مصح» ثم أمسك عن الأول فراجعوه فيه وقالوا: إنا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة الراوي عنه فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد الحديثين بالآخر، أي العدوى باقية والأمر بالفرار منسوخ، وهذا قول فاسد. والحاصل أن في المسألة أقوالاً أربعة. الأول: أن المرض يعدي بطبعه وحده وهو قول الكفار. الثاني: أن المرض يعدي بأمر خلقه الله سبحانه وتعالى وأودعه فيه ولا ينفك عنه أصلاً إلا إن وقع لصاحب معجزة أو كرامة فيتخلف، وهذا مذهب إسلامي لكنه مرجوح. الثالث: أن المرض يعدي لكن لا بطبعه بل بعادة أجراها الله سبحانه وتعالى فيه عادة، وقد تتخلف بإرادة الله تعالى على ندور في العادة. الرابع: أن المرض لا يعدي أصلاً لا طبعاً ولا عادة بل من اتفق له وقوع ذلك المرض فهو بخلق الله سبحانه وتعالى ذلك فيه ابتداء، ولهذا نرى الكثير ممن يصيبه المرض الذي يقال إنه يعدي يخالطه الصحيح كثيراً ولا يعديه ولا يصيبه منه شيء، والراجح هو الأخير. وإن كان الثالث مشهوراً أيضاً لقوله : «لا يعدي شيء شيئاً»، وقوله: «فمن أعدى(5/325)
الأول»، ومن ثم قال المحققون: معنى: «لا عدوى أنه لا يعدي شيء شيئاً» بطبعه حتى يكون الضرر من قبله، وإنما هو بتقدير الله عز وجل وفعله وإرادته قيل ولا عدوى نهى عن أن يقال ذلك أو يعتقد، وقيل هو خبر، أي لا يقع. ومعنى الطيرة التشاؤم من التطير مصدر تطير يتطير طيرة مأخوذ من اسم الطير، وقد كانت العرب إذا أرادت أمراً جاءت إلى وكر الطير فنفرته، فإن تيامن يمنت به وسمته الشامخ ومضت لما عزمت عليه وإن تياسر سمته البارح وتشاءمت به وتركته فزجرهم النبي وعرفهم أنها لا تضر ولا تنفع. وأما قوله: «لا يورد ممرض على مصح» قال الخطابي و أبو عبيد : ليس المراد به الرجل المريض على الصحيح، وإنما الممرض الذي مرضت ماشيته والمصح صاحب الصحاح وليس النهي من أجل أن المرض يعدي الصحاح ولكن من أجل أن الصحاح إذا مرضت بقدر الله تعالى يوقع في نفس صاحبها أن ذلك من قبيل الدعوى فيفتنه ذلك ويشككه في أمره فأمر باجتنابه والمباعدة عنه لذلك لا للعدوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 109(5/326)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن امرأة ادعت أن زوجها عنين وأنه لم يصبها وأنها بكر، فأنكر وقال: إنه قد افتضها فشهد أربع نسوة أنها بكر، فهل تصدق بيمينها أو بلا يمين أنه عنين، وإذا ثبتت عنته وضرب لها القاضي المدة المعروفة وانقضت فهل تستقل بالفسخ أو لا بد من قول القاضي ثبتت عنته فاختاري وكيف لفظ الفسخ المعتبر الذي لا يحصل بدونه؟. فأجاب بقوله: أنها تصدق بيمينها على الراجح في الشرح الصغير. وفي كلام الروضة وأصلها ما يشير إليه، واعتمده الإسنوى وغيره، ونقله الأذرعي وغيره عن نص الأم لكن لا تحلف إلا إن طلب الزوج يمينها على الراجح أيضاً، لأن زوجها وهو الخصم متمكن من الدعوى فلا معنى للاحتياط له بتحليفها من غير طلبه، ثم إن حلفت بعد شهادة النسوة الأربع بالبكارة على أنه لم يزل بكارتها فلها الفسخ بعنته بشرطه وإن نكلت عن اليمين حلف ولا خيار لها، فإن نكل هو أيضاً فسخت بلا يمين وليس قضاء بالنكول المجرد بل لأجل البينة الشاهدة ببكارتها المعتضدة بإقراره الذي تضمنه نكوله. قال الشيخان وليس لها الاستقلال بالفسخ إلا بعد قول القاضي لها ثبتت عنته ثبوتاً يترتب عليه الفسخ أو ثبت حق الفسخ فاختاري فتستقل به حينئذ اهـ. قال الأذرعي وغيره: والظاهر أن قوله فاختاري ليس شرطاً، بل المراد به إعلامها بدخول وقت الفسخ حتى لو بادرت وفسخت قبله نفذ فسخها ويؤيده حذف الرافعي لقوله فاختاري من الشرح الصغير وكيفية لفظ الفسخ أن تقول فسخت نكاح فلان لي، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 109(5/327)
باب في الصداق
وسئل عمن خطب امرأة وأجابوه فأعطاهم شيئاً من المال يسمى الجهاز هل تملكه المخطوبة أو لا بينوا لنا ذلك؟. فأجاب بأن العبرة بنية الخاطب الدافع فإن دفع بنية الهدية ملكته المخطوبة أو بنية حسبانه من المهر حسب منه وإن كان من غير جنسه أو بنية الرجوع به عليها إذا لم يحصل زواج أو لم يكن له نية لم تملكه ويرجع به عليها.
وسئل عن رجل تزوج امرأة على هذا الدن من الخمر فإذا هو خل أو على هذا الحر فإذا هو عبد أو هذه الميتة فإذا هي مذكاة ما حكم العقد هل هو صحيح أو باطل؟ وإذا قلتم بالصحة ماذا يلزمه؟. فأجاب بقوله: العقد صحيح واللازم له هو الخل والعبد والمذكاة للقاعدة عندنا أن الإشارة لعدم تطرق الخطأ إليها أقوى من العبارة التي قد تخطىء وقد تصيب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن المطلقة رجعياً هل تجب لها متعة حالاً وهل تتكرر بتكرر الطلاق؟. فأجاب بقوله: لا تجب حالاً، بل إذا انقضت العدة ولم يراجعها على ما قاله أبو شكيل في شرح الوسيط و البستي ، وإنما يصح هذا إن قلنا بسقوطها بالرجعة وكلامهم يأباه، فالوجه وجوبها فوراً مطلقاً ولا تتكرر بتكرر الطلاق كما قاله الراعي و البدر بن شهبة ، وعلله بأن سبب إيجابها الإيحاش والابتذال وهما منتفيان في الثانية والثالثة، وبه يعلم أن الثانية مثلاً لو كانت بعد مراجعة تكررت بها المتعة. وقال القاضي بن كثير : تتعدد مطلقاً وهو الأوفق بإطلاقهم، ونقله ابن الخياط عن ابن الرفعة و أبي شكيل ، وقال إنه الصحيح.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 111(5/328)
وسئل بما لفظه: كثر كلام الناس في الهدية التي يهديها الخاطب والزوج لأهل المخطوبة أو الزوجة من القماش والمطعومات وغيرهما، ثم يحصل له رداً ومنه طلاق قبل الوطء فما المعتمد في الرجوع بذلك مع البسط فيه؟ فأجاب بقوله: قال الرافعي رحمه الله تعالى في أواخر باب الصداق وتبعوه: ولو اتفقا على قبض مال فقال دفعته صداقاً، وقالت: بل هدية فإن اتفقا على أنه تلفظ واختلفا هل قال خذي هذا صداقاً أم قال هدية فالقول قوله بيمينه وإن اتفقا على أنه لم يجر لفظ، واختلفا فيما نوى فالقول قوله بيمينه أيضاً وقيل بلا يمين، وسواء كان المقبوض من جنس الصداق أو غيره طعاماً أو غيره فإذا حلف الزوج فإن كان المقبوض من جنس الصداق وقع عنه وإلا فإن تراضيا ببيعه بالصداق فذاك وإلا استردّ وأدّى الصداق فإن كان تالفاً فله البدل عليها، وقد يقع التقاص اهـ كلامه. قال بعضهم: ولا يخفى أن هذا إنما يتأتى حيث لم يكن أدى الصداق، فأما إذا أداه فلا يستقيم قوله دفعته من الصداق ولا يعلم حكم ذلك من كلامه فليتنبه له اهـ. وظاهر أنه في هذه الصورة يصدق الدافع في نيته أيضاً أخذاً مما في الروض في القرض لأنه أعرف بكيفية إزالة يده عن ملكه. وقال ابن العماد عقب كلام الرافعي : والحاصل أن للمسألة ثلاث صور. الأولى: أن يبعث به بعد العقد ويصرح بكونه هدية فلا رجوع له عليهم لأنه قد سلطهم على إتلاف ماله بغير عوض فهو كتقديم طعام لضيف وقال: كله، وطلب منه عوضه لا يلزمه له عوض. الثانية: أن يصرح بكونه من الصداق فيرجع قطعاً. الثالثة: أن يبعث به على صورة الهدية وهو ساكت، وله حينئذ أربعة أحوال. أحدها: أن ينوي الهدية فلا يحل له الرجوع. ثانيها: أن يطلق فلا يحل له الرجوع أيضاً لتسليطه إياهم على الأكل بغير نية عوض. ثالثها: أن ينوي جعله من الصداق فله الرجوع عملاً بنيته وسواء كان المبعوث به من جنس الصداق أم لا كالطعام. رابعها: أن يكون قبل العقد وبعد إجابة الخطبة فيبعث(5/329)
لا على قصد الهدية المجردة بل على قصد أن يزوّجوه أو على أن يكون المبعوث من الصداق الذي يعقد عليه النكاح فإذا ردت الخطبة أو رغب عنهم وكان البعث على نية شريطة أن يزوّجوه أو على أن يكون المبعوث من الصداق، فالوجه الرجوع وهو ما أفتى به قاضي القضاة تقي الدين بن رزين رحمه الله تعالى. وأفتى البغوي أن الأب لو خطب لابنه امرأة وأهدى لها هدية ثم مات الأب ولم يتفق تزويج بأن الهدية تكون تركة للأب وهذا ظاهر لكنه مقيد بما إذا لم يصرح بالهدية، فإن صرح بها لم يرجع وإن نوى العوضية لتسليطهم على الإتلاف بغير عوض ووقعت المسألة في التنقيح غير منقحة لعدم استحضاره لكلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 111(5/330)
الرافعي فأما إذا لم يصرح بالهدية فلأن نفسه لم تطب به إلا على تقدير أن يزوّجوه، وقد ذكر الرافعي نظير هذا في كتاب اللعان فقال لو قال الدلال لغير المالك أن البائع ظلمه ولم يعطه أجرة الدلالة فارتغم له الأجنبي وتصدق عليه بشيء وكان كاذباً لم يكن له أخذه ووجب عليه رده لأنه لم يتصدق عليه بذلك إلا بناء على أنه صادق في دعواه عدم الإعطاء وقد قال : «لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه» ، ولهذا قال الغزالي : إن من نزل بقوم بغير دعوة فأطعموه شيئاً حياء منه لم يحل له الأكل. قال: والغصب نوعان: غصب استيلاء وغصب استحياء، فغصب الاستيلاء أخذ الأموال على جهة الاستيلاء والقهر والغلبة. وغصب الاستحياء هو أخذه بنوع من الحياء. قال وهما حرامان لأنه لا فرق بين الإكراه على أخذ الأموال بالسياط الظاهرة وبين أخذه بالسياط الباطنة وقال في موضع آخر أن من اشترى شيئاً بثمن في الذمة ثم إنه سلم البائع ثمناً حراماً فسلمه المبيع لم يحل له أكله ولا التصرف فيه وإن كان قد ملكه، لأن البائع له حق الحبس وهو لم يسلم المبيع إلا بناء على أن الثمن الذي دفعه له حلال، وكذا لو أظهر شخص الفقر وأخفى الغناء فتصدق عليه إنسان بناء على ظاهر فقره حرم عليه أخذه كما قاله الأصحاب، واستدل له بأن فقيراً مات من أصحاب الصفة فوجد معه دينار فقال: كية من نار ومات آخر منهم وخلف دينارين فقال : «كبتان من نار» وإنما استحق النار لأنه أخفى الغناء وأظهر الفقر وقعد يأكل مع أصحاب الصفة ومثل ذلك ما لو أعطى مكاتب سيده النجوم فقال اذهب فأنت حر أو فقد أعتقتك، ثم وجد النجوم أو بعضها زيوفاً فإنه يرتد العتق لأن المالك لم يسمح بعتقه إلا بناء على أن الدراهم سليمة وهذا نظير ما إذا أوقع الطلاق على ظن وقوعه لفتوى من مقلد، ثم بان خطأ المفتي فإنه لا يقع الطلاق وفي كل محل أعطى الإنسان فيه شيء على قصد تحصيل غرض أو عوض فلم يحصل فإنه لا يباح له أكله، فعلى هذا إذا خطب(5/331)
امرأة فأجابوه فبعث شيئاً ولم يصرح بكونه هدية وقصد إباحته على قصد أن يزوجوه فإذا لم يزوجوه كان له الرجوع عليهم، ومن أفتى بالرجوع مطلقاً لم يصب ومن هذا النوع ما لو أهدى المدين لدائنه شيئاً. وصرح بالهدية فلا يحسب من الدين، فإن قال قصدت العوضية صدق وإن لم يقصد شيئاً فله حسبانه من الدين نظير ما مر. ثم قال الرافعي رحمه الله تعالى: ولو بعث إليّ من لا دين له عليه شيئاً ثم قال بعثته بعوض، وأنكر المبعوث إليه فالقول قول المبعوث إليه وهذا الفرع دائر بين مسألة الصداق والخطبة فالفروع حينئذ ثلاث. الأول: أن يبعث لمن له عليه دين كصداق أو غيره. الثاني: أن يبعث لمن وعده بوعد بناء على أن ينجزه له كالخطبة وكمن وعد إنساناً بأن يسعى له في تحصيل شغل أو قضاء حاجة ففيه ما سبق. الثالث: أن يهدي لمن لا وعد عنده ولا دين فلا يلزم المبعوث إليه غرامة شيء والقول قوله في أنك لم تشترط عليّ عوضاً مع الرسول، وأما إذا قال نويت أخذ العوض فلا يلزم المهدي إليه أن يثيبه وإن كان القول قوله في نيته بالنسبة لغير ذلك، وإنما لم تجب الإثابة كما لم تجب الهدية لأنه مسلط على إتلاف ماله وليس له ها هنا قرينة تنزل عليها دعوى العوضية ومن هذا النوع الدراهم التي ترمى في النقوط في الأعراس والأملاك والأصاريف التي تعمل للصبي عند ختمه القرآن وغير ذلك، فقد جرت عادة الناس بأنهم يدفعونها على قصد المكافأة بمثلها حتى أن بعضهم يدعي بها ويطلبها بعد المدة الطويلة والتي يظهر في هذه الصورة الرجوع لأن دفع الدراهم لهم على صورة الهبة يتوقف على الإيجاب والقبول وعلى الإذن في القبض فهي إما هبة فاسدة أو قرض فاسد، فعلى هذا إن دفعها للمالك رجع عليه وإن دفعها لنحو الخاتن رجع عليه عند قصد العوضية ما لم يأذن صاحب الدعوة في الدفع إليه وإلا فعلى من شاء منهما ووجه الرجوع أنه ليس هنا قصد تصدق ولا إباحة، بل جرت العادة في ذلك بالمكافأة وهي إلى القرض الفاسد أقرب(5/332)
وإلى الهبة الفاسدة أبعد لقصد العوضية وقريب من هذه المسائل إطعام المضطر إذا وصل إلى أدنى رمق وكسوة العاري وإطعام الجائع بقصد الرجوع فيرجع وكذا إذا داوى الولي الصغير فإنه يرجع عليه على الأصح عند إرادة الرجوع لعود النفع إليه وليس مما سبق من أهدى لقوم هدية على قصد التودد إليهم ليجيبوا خطبته فلم يجيبوه فإنه لا يرجع عليهم لعدم جريان السبب وهو المفرط اهـ كلام ابن العماد لكن مع بعض زيادة وإصلاح وقع ذلك في أثنائه وأطلق في منظومته الرد فقال:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 111
وخاطب لمرأة خليه
أهدى لها كسوتها الوفيه
وآلة الطبخ مع القلقاس
كما جرى من عادة الأكياس
إن ردت الخطبة قبل الوصلة
رد الذي قد قبضت بالجملة
قبل الممات وبعده فيه نظر
في موتها من قبل رد لي خطر
إلحاقها بنكاح التفويض
إن قرر المهر فخذ قريضي
p والذي يتجه أنا حيث أوجبنا له الرجوع لا فرق بين موتها وعدمه. ثم قال: وما ذكره البغوي في المسألة السابقة من عود الهدية إلى ملك الأب حتى تجعل تركة لا يبعد تخريجها على الوجهين فيما إذا ختن الولي الطفل فأهديت له هدية هل تكون ملكاً للابن أو ملكاً للأب فالذي قاله البغوي أنها تكون ملكاً للابن. وقال الشيخ أبو إسحق ونقله البغوي في فتاويه عنه: أنها تكون ملكاً للأب لأن الناس يقصدون بذلك الأب دون الابن فعلى الأول هو كما لو أصدق عن ابنه الصغير شيئاً، ثم طلق الابن قبل الدخول فإنه يرجع الشطر إلى الابن لأنا نقدر دخوله في ملكه حالة إلا صداق فكذلك يقدر دخوله في ملكه حالة الهدية لأجله بخلاف ما لو أصدق عن ابنه البالغ أو عن أجنبي فإنه يرجع للمعطي، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 111(5/333)
باب الوليمة
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما حد المسافة التي تجب إجابة الداعي لوليمة العرس منها؟. فأجاب بقوله: لم أر أحداً من أئمتنا ضبط المسافة التي تجب الإجابة منها إلى وليمة العرس ويؤخذ من متفرقات كلامهم احتمالان في ذلك. أحدهما ضبط تلك المسافة بمسافة العدوى وهي التي يرجع المبكر منها ليلاً إلى بلده قياساً على أداء الشهادة فإنه واجب في تلك المسافة وهذا مثله بجامع أن كلا حق آدمي فكما وجب على غير المعذور قطع تلك المسافة لأداء الشهادة لأنها حق آدمي فليجب هنا إجابة الداعي إلى الوليمة من تلك المسافة، لأن الإجابة واجبة لحق الآدمي بدليل أن المدعوّ لو اعتذر إلى الداعي فقبل عذره سقط الوجوب فسقوطه بإسقاطه صريح في تمحض الحق له وإلا لم يسقط بإسقاطه ولا ينافيه قول ابن النحوي لما حكى تردّداً عن الذخائر فيما لو غلب على ظن المدعو أن الداعي لا يتأذى بامتناعه ظاهر الحديث يقتضي المنع، وذلك لأنه أراد بالمنع أن الامتناع مع غلبة الظن بما ذكر حرام فكلامهم في نظائر ذلك يرده فقد قالوا لو غلب على ظن إنسان أن صديقه يرضى بالأكل من ماله جاز له الأكل منه، وقالوا لو غلب على ظن القاضي وقوع أمر بحضوره جاز له الحكم فيه بعلمه فإذا جوزوا الأكل ونحوه والقضاء بغلبة الظن فأولى أن يجوّزوا التخلف عن الدعوى عند غلبة الظن بأن الداعي لا يتأذى بالتخلف، وعلى هذا الاحتمال، أعني أن الضبط بمسافة العدوى فهل يأتي هنا ما قالوه من أن الشاهد لو احتاج إلى مركوب لم يلزمه السفر للأداء إلا إن أعطي أجرة المركوب ونفقة الطريق ولو كان يتخلف بالأداء عن كسبه الذي منه قوته يوماً بيوم لم يلزمه الذهاب للأداء إلا إن أعطي قدر كسبه في تلك المدة أو أجرته على الخلاف في ذلك أو لا يأتي ذلك هنا لاطراد العادة به في الشهود بخلافه في الوليمة الذي يتجه الثاني على أن الذي ينبغي أنا وإن قلنا بهذا الاحتمال فإنما نوجب الذهاب إلى مسافة العدوى على قوي يقدر على الركوب من(5/334)
غير مشقة تلحقه في بدنه أو ماله، إذ قضية كلامهم في الأعذار المسقطة لوجوب الإجابة في الوليمة أنها تسقط بأدنى مما ذكرناه. ثانيهما: ضبط تلك المسافة بالمسافة التي تلزم الإجابة إليها في الجمعة ففي البلد تجب الإجابة مطلقاً لكن بالشرط الذي ذكرته قريباً وهو أن لا تلحقه مشقة في بدنه أو ماله وخارج البلد لا تجب إلا على من سمع النداء بهذا الشرط أيضاً، والدليل على هذا الاحتمال أن الجمعة فرض عين أيضاً فإذا سقطت على من لا يسمع النداء للمشقة فكذلك سقوط وجوب الإجابة على من لا يسمع النداء وهو خارج البلد وعلى هذا فيجاب عما مر من أن الإجابة حق آدمي بخلاف الجمعة فإنها محض حق الله سبحانه وتعالى بأن تلك وإن كانت حق آدمي إلا أن العرف اطرد فيه بالمسامحة عند وجود المشاق لأن الإخلال به لا يترتب عليه ضرر يلحق الداعي فكثرت الأعذار فيه بخلاف أداء الشهادة، فإن الإخلال به يترتب عليه ضرر كثير يلحق المشهود له فلهذا لم تكثر الأعذار فيه كثرتها هنا فاتضح الفرق بين أداء الشهادة والإجابة للوليمة وإن كان كل منهما حق آدمي، وبهذا اتجه أن الاحتمال الثاني أقرب وأولى بالاعتماد بل أقرب منه احتمال ثالث وهو تحكيم العرف المطرد عند كل قوم في ناحيتهم فإذا اعتاد أهل ناحية الدعاء من مسافة العدوى فأقل واطرد عرفهم بالإجابة من ذلك وإن ترك الإجابة يوجب كسراً وقطيعة للمدعوّ وجبت الإجابة من تلك المسافة على القوي الذي لا يترتب عليه من ذلك مشقة في بدنه ولا ماله، وإن لم يعتادوا ذلك لم يجب بل لو اعتادوا عدم الدعاء من خارج البلد وإن سمع الخارجون النداء لم تجب الإجابة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114(5/335)
وسئل عن التفرج أيام الزينة هل هو حرام عليها لحرمتها أو لا؟. فأجاب بقوله: الذي صرح به الأصحاب حرمة ستر الجدران بالحرير، وحينئذ فإن فعلوه أيام الزينة اختياراً حرم التفرج والنظر إليه أو إكراهاً فالذي يظهر الجواز حينئذ لإباحته فليس في التفرج إعانة على معصية وعلى الحال الأوّل يحمل إفتاء ابن الرفعة وغيره بحرمة التفرج والنظر.
وسئل عن قراطيس الإفرنج هل تجوز الكتابة فيها أو لا لما فيها من صور الحيوانات وهل يجب قطع محلها وإن كان فيه نقص أو لا؟. فأجاب بقوله: قد سبرت الآن منها جملة فلم أر فيها صورة حيوان وإنما هو شيء كالختم فعند تحقق أن ما فيها غير صورة الأمر واضح وكذا عند الشك فيه، لأن الأصل الإباحة وأما عند تحقق أن ما فيها صورة فالوجه الحل أيضاً كما دل عليه كلامهم، لأنهم أباحوا استعمال ما فيه صورة وقالوا إنه ممتهن بالاستعمال، ولا شك أن الكتابة في الورق استعمال له بل لا استعمال له غيره فكانت الكتابة فيه مع وجود الصورة جائزة لما في ذلك من امتهانها على أن جماعة ذكروا جواز حمل الدنانير التي تجلب من أرضهم وعليها صورة حيوان حقيقة يقيناً، واستدلوا على ذلك بأنها كانت تجلب من عندهم في زمن السلف أيضاً ولم ينهوا عن حملها في العمامة وغيرها لأن القصد منها النقدية لا تلك الصورة ولتعذر إزالتها أو تعسره وإذا جاز هذا في تلك الدنانير فجواز الكتابة في الورق الإفرنجي أولى وإن تحقق أن فيه صورة حيوان.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114(5/336)
وسئل هل الشبع بدعة مذمومة مطلقاً أم لا؟ وما معنى خبر ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه وخبر المؤمن يأكل في معي واحد؟. فأجاب بقوله: الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل وصح أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» . قال القرطبي : لو سمع أبقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة وقال غيره: إنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان ولأنه لا يدخل البطن سواها، وهل المراد بالثلث في كل الحقيقة أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربه ظاهر الخبر الأوّل لكن الثاني أظهر، وقد صح المؤمن يأكل في معي واحد ، أي بكسر الميم والقصر وهو المصران والكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمراد بالسبعة المبالغة في الكثرة أي من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بالعبادة ولعلمه بأن القصد من الأكل الإعانة عليها لا غير، ومن شأن الكافر التكثر منه لغفلته عن ذلك وإنما عبرنا بما من شأنه لأن بعض المؤمنين قد يكثر وبعض الكفار قد يقلل، فالحاصل أن من شأن المؤمن الزهادة في الدنيا والاقتناع بالبلغة بخلاف الكافر، وقيل المراد أن المؤمن يتحصن من الشيطان بالبسملة فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر، وقيل: المراد به كامل الإيمان لأن كماله يستلزم إشغال الفكر فيما بين يديه من الموت وما بعده فيمنعه ذلك من استرسال نفسه في شهواتها ومن ثم جاء أنه قال: «من كثر تفكره قل مطعمه ومن قل تفكره كثر مطعمه وقسا قلبه» ، وقالوا: لا تدخل الحكمة معدة ملئت طعاماً ومن قل طعامه قل مشربه وخف منامه ومن خف منامه ظهرت بركة عمره ومن امتلأ بطنه كثر شربه فيثقل نومه فتمحق بركة عمره ومن اكتفى بدون الشبع حسن اغتذاء بدنه وصلح حال نفسه وقلبه ومن امتلأ من الطعام ساء غذاء بدنه وأشرت نفسه وقسا قلبه. وأخرج الطبراني أنه قال: «إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع في الآخرة» ،(5/337)
وفي رواية: «إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة» . وقالت عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا: لم يمتلىء جوف النبي شبعاً قط أي شبعاً مذموماً وهو ما يثقل المعدة ويثبط صاحبه عن حق القيام بالعبادة ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل وقد يحرم الشبع إن أضر أو كان من مال الغير ولم يأذن فيه أو يظن رضاه به، وأما الشبع النسبي المعتاد في الجملة فقد وقع منه لما في مسلم من خروجه وصاحبيه من الجوع وذهابهم إلى بيت الأنصاري وذبحه الشاة وتقديمها مع الرطب وفيه فلما أن رووا وشبعوا. قال النووي فيه جواز الشبع وما جاء في كراهته محمول على المداومة عليه اهـ. والأولى عندي أنه محمول على أوّل مراتب الشبع ومن شأن هذا أنه لا يثقل ولا يكسل وكراهته محمولة على ما يثقل من غير ضرر وإلا حرم كما مر، وأخرج ابن سعد عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه خرج من الدنيا ولم يمتلىء بطنه في يوم من طعامين كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر، وليس في هذا ما يدل على أنه كان دائماً لا يجمع بين نوعين لما صح أنه أكل الرطب بالقثاء كما بينته مع ما يناسبه في شرح الشمائل. وروى مسلم أنه كان يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114
(تنبيه) عند أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها البوّاب ثم الصائم ثم الرقيق والثلاثة رقاق ثم الأعور والقولون والمستقيم وطرفه الدبر وكلها غلاظ، وقد نظمها الحافظ زين الدين العراقي في قوله:
سبعة أمعاء لكل آدمي
معدة بوابها مع صائم
ثم الرقيق أعور قولون مع
المستقيم مسلك المطاعم(5/338)
وسئل بما لفظه: هل جواز الأخذ بعلم الرضا من كل شيء أم مخصوص بطعام الضيافة؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه غير مخصوص بذلك، وصرحوا بأن غلبة الظن كالعلم في ذلك وحينئذ فمتى غلب على ظنه أن المالك يسمح له بأخذ شيء معين من ماله جاز له أخذه ثم إن بان خلاف ظنه لزمه ضمانه وإلا فلا.
وسئل عما اقتضته عبارة شيخ الإسلام في شرح البهجة: من ندب غسل الفم قبل الطعام هل هو صحيح وما سلفه نقلاً ودليلاً، فقد زعم بعض الناس أنها من مفردات الشرح المذكور وأنه يتعين حمل عبارته على أن بها لفاً ونشراً حتى يتبين سلفه فيكون المراد من عبارته قدس سره: أن غسل اليد قبل الأكل أدب وغسل الفم بعده كذلك ولا ينافيه إيهام أن غسلها بعده ليس أدباً للعلم بالسنية واشتهارها مع دليلها. فأجاب بقوله: ما دلت عليه عبارة الشيخ سقى الله تعالى عهده من ندب غسل الفم قبل الطعام في كلام الغزالي في غسل اليدين الشامل لما قبل وما بعد ما يفهمه فإنه ذكر معه غسل فمه وهو فقه ظاهر، لأن حكمة غسل اليدين قبل احتمال مباشرتهما لأذى يشوش وهذا موجود في الفم على وجه أتم، إذ من المعلوم أن تغير الفم أكثر وأسرع من تغير اليدين وأن اليد يباشر بعضها داخله بوضعها اللقمة فيه فسن غسله لتطيب النفس بوضع مماسه في الطعام بخلاف ما إذا غسلت اليد دون الفم، فإن النفس من ثاني لقمة تعاف عود اليد للطعام بعد مماستها لداخل الفم الذي تقرر كثرة تغيره واستقذاره، فاتضح أن غسل الفم قبل الطعام فقه ظاهر نقلاً ودليلاً، إذ بفرض عدم ذكر أحد له هو مقيس بالأولى على غسل اليد كما تقرر والمنازعة فيه بعد ظهور ذلك وتوضيحه مكابرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/339)
وسئل هل يفرق بين الماء واللبن وسائر المشروبات في العب والمص وما حكمة ذلك؟. فأجاب بقوله: أما الماء فالسنة فيه المص وأن يشربه في ثلاثة أنفاس يسمى في أول كل ويحمد آخره وينبغي له أن يدرّجها بأن تكون الأولى أقل والثانية أكثر منها ثم يستوفي حاجته في الثالثة وحكمته أن لنياط القلب موضعاً رقيقاً لطيفاً فإن جاء الماء دفعة واحدة ربما قطعه فمات صاحبه. قال الخطابي : وأيضاً إذا جرعه جرعاً واستوفى ريه منه نفساً واحداً تكاثر الماء في موارد حلقه وأثقل معدته. وروى أن الكباد أي وجع الكبد من العب، وأما شرب اللبن فالأولى فيه العب في نفس واحد لأن الله تعالى جعله سائغاً للشاربين ويسمي في أوله ويحمد في آخره كالطعام، وأما غيرهما من الأشربة ففي المدخل أنه مخير فيه بين العب والمص اهـ وفيه نظر لأن العلة التي في الماء تأتي فيه بالأولى فينبغي أن يلحق به في المص خشية المحذور السابق في الماء، وإنما خرج اللبن عن ذلك لما تقرر أن الله سبحانه وتعالى جعله خالصاً سائغاً للشاربين فيؤمن فيه الشرق وتقبله المعدة وإن كثر من غير إيذاء يحصل لها منه عند ترادفه وتزاحمه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114
وسئل عما قيل يسن للآكل أن يجهر بالتسمية ويسر بالتحميد ما وجهه؟. فأجاب بقوله: إنما سن له الجهر بالتسمية لينبه الآكلين عليها وعلى الأخذ في الأكل بخلاف الحمد فإنه قد يكون فيهم من لم يكتف بعد ومن ثم لو علم فراغهم وكفايتهم ينبغي أن يسن له الجهر لينبههم عليه، ولما لم يوجد ذلك المعنى في الشرب كان مخيراً بين الجهر والإسرار ما لم يكن عالماً يقتدى به فيسن له الجهر كما هو ظاهر ليعلم من عنده السنة.
وسئل عن حكمة كراهة الشرب من ثلمة الكوز؟. فأجاب بقوله: قيل حكمتها أنه محل اجتماع الوسخ، قيل: وينبغي له أن لا يشرب من ناحية أذن الكوز لما ورد أن الشيطان يشرب منها.(5/340)
وسئل عما اعتيد من قول الإنسان لمن يفرغ من شربه صحة أو نحو ذلك هل له أصل أو هو بدعة؟. فأجاب بقوله: يمكن أن يقال إن له أصلاً ويحتج له بقوله لأم أيمن لما أن شربت بوله : «صحة يا أم أيمن لن تلج النار بطنك» ، ووجه القياس أن المختار عند كثير من أئمتنا طهارة فضلاته وأن بوله شفاء، أي شفاء، فإذا قال ذلك لشاربته فلا بدع أن يقاس عليه قول مثله لشارب الماء لا يقال لم ينقل عنه قول ذلك في غير هذه الواقعة لأنا نقول لا يشترط في الاقتداء به فيما يفعله على جهة التشريع تكرر ذلك الفعل منه بل يكفي صدور ذلك منه كذلك ولو مرة كما هو واضح على أن عدم النقل في غير هذه الواقعة لا يدل على عدم الوجود وليس هذا مما تتوفر الدواعي على نقله، وبقولنا إن بوله شفاء أي شفاء اندفع ما قيل هذا لا حجة فيه لأنه لم يكن ثم ما يشرب، وإنما هو البول وهو إذا شرب عاد بالضرر فقال صحة لينفي عنها ما تتوقعه مما جرت به العادة من بول غيره فتضمن ذلك دعاء وأخباراً بخلاف شرب الماء اهـ، فقوله لينفي عنها ما تتوقعه الخ، يرد بأنه تقرر عند أم أيمن وغيرها أنه شفاء ولم تقصد بشربه إلا ذلك فاندفع جميع ما ذكره، ويمكن أن يقال لا حجة فيه لا لما ذكره هذا القائل بل لكونه لم يقل لها ذلك إلا تحقيقاً لما قصدته من شربها للبول، فإنها إنما شربته للتداوي وطلب الشفاء فقال : «صحة» تحقيقاً لقصدها وإجابة لما مر لها وإخباراً بأن ما قصدته من الصحة قد حصل وتحقق وهذا معنى ظاهر إرادته من اللفظ وعند ذلك لا يبقى في الخبر دلالة ظاهرة على أن فيه دليلاً لندب ذلك عند شرب الماء، نعم فيه دلالة ظاهرة لندبه عند شرب الدواء لأنه على طبق النص فلا فارق بينهما.
وسئل عما يفعله الأعاجم ومن يقتدي بهم من القيام أو الانحناء أو المطاطاة أو نحو ذلك عند شرب بعضهم هل هو بدعة؟. فأجاب: نعم هو بدعة قبيحة لأنا نهينا عن التشبه بالأعاجم.(5/341)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114
وسئل عن اتخاذ إناء لأكله أو شربه يختص به هل هو بدعة؟. فأجاب بقوله: نعم هو بدعة لأنه ينبي عن الكبر والخيلاء وخلاف ما عرف من طريقته قالت عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا: كنت أشرب من الإناء فيأخذه فيشرب منه فيضع فاه موضع فيّ. وروي: سؤر المؤمن شفاء، وورد المؤمن يأكل بشهوة عياله، قيل: وهذه دسيسة دسها الشيطان على المسلمين ليتوفر للنساء ما يقصدنه كثيراً من سحر الرجال وإسقائهم ما يخبلهم أو يجننهم أو نحو ذلك من مكايدهن ولو كان إناء شربه مشتركاً بينه وبين عياله لم يتأت لهن ذلك.
وسئل عما اعتيد أن الآكل أو الآكلين يقوم على رؤوسهم واحد أو أكثر أجنبي أو خادم هل هو بدعة وإن اضطر لذلك لنش الذباب أو نحوه؟. فأجاب بقوله: هو بدعة لما فيه من التشبه بالأعاجم ومن الكبر والخيلاء، اللهم إلا أن يحتاج لذلك لتنفير مؤذ كذباب ولم يتيسر له وهو قاعد فلا بأس بالقيام لهذا العذر لأنه ينفي التشبه والكبر المذكورين وفعل المضيف لنحو نش الذباب بنفسه أولى لأنه إكرام للضيف وكل إكرام له يسن للمضيف فعله بنفسه فإن تعسر عليه فبمأذونه.
وسئل عمن نقل إن الرغيف لا يحضر بين يدي آكله حتى يخدم فيه ثلثمائة وستون عالماً، بفتح اللام. فأجاب بقوله: نقل ذلك ابن عطية في تفسيره ومن ثم ينبغي للآكل أن يستشعر في نفسه ذلك ويتأمل كم من عالم علوي وسفلي خدمته فيه ليعلم قدر نعمة الله تعالى عليه في إحضار هذا الرغيف بين يديه فيشكر الله سبحانه وتعالى معتقداً عجزه عن حق شكره وأن له عليه نعماً لا تحصى.(5/342)
وسئل عمن يأكل ويدخل أصابعه في فمه ثم يردها للطعام هل يكره له ذلك وكذا لعق الأصابع قبل الفراغ؟. فأجاب بقوله: كل من الرد واللعق قبل الفراغ خلاف الأولى أو مكروه، لأن اليد إذا أصابها شيء من اللعاب فعادت إلى الطعام إما يعافه هو أو من يراه فيشوش على نفسه أو غيره فيسن له غسل يده حيث أصابها شيء من اللعاب قبل ردها للطعام ومن ثم قالوا: يسن لآكل نحو التمر أن يلقي نواه على ظهر يده ثم يلقيه من غير أن يمس باطن يده ومن غير أن يمس شيئاً من ذلك المأكول ريقه.
وسئل عن الأكل بالملاعق هل هو بدعة؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه إنما يكون بدعة قبيحة إن أصابها شيء من لعابه ثم ردها للطعام أو إن كان فيه نوع تكبر أو تشبه بالأعاجم وإلا فلا وجه لقبحها.
وسئل هل يسن في الأكل أن يكون على الجانب الأيمن أوّلاً ثم بعد ذلك يأكل كيف تيسر كما قيل بذلك؟. فأجاب بقوله: ذكر صاحب المدخل أن البداءة في مضغ أول لقمة بناحية اليمين هي السنة للأمر بالتيامن وهو عام في الحركات والسكنات إلا ما استثنى وبعد ذلك يأكل كيف شاء قال: وقد حكي عن بعضهم أن شاباً دخل عليه فقدم له أكلاً فأكل باليسار، فقال له من شيخك؟ قال: يا سيدي ناحية اليمين توجعني فقال له: كل رضي الله تعالى عنك وعمن رباك اهـ. وقياس مذهبنا ذلك إلحاقاً بنحو اللبس والسواك فإنه يسن التيمن في ابتداء كل منهما لا يقال الفرق بينهما وبين الأكل واضح بأنهما من باب الإكرام وهو يسن فيه التيامن بخلاف الأكل فإنه لا إكرام فيه وما لا إكرام فيه لا يسن فيه التيامن وإن لم يكن فيه خلافاً لبعض المتأخرين لأنا نقول كون الأكل لا إكرام فيه ممنوع بل هو من باب الإكرام لأنه وقاية للبدن من الأذى فكان كاللبس بل أولى، وقد صرحوا بندب التيمن في الكحل الذي هو غذاء العين فغذاء البدن كله أولى.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114(5/343)
وسئل عن التكلف المذموم ما حده؟. فأجاب بقوله: حده أن يكون فيه مشقة عرفاً إما بأن لا يتيسر له الشيء إلا بدين والدائن متكره من استدانته أو والمدين يعسر عليه أن يبذل وجهه للدائن حتى يقترض منه أو لا يكون له جهة ظاهرة يوفى منها، لأن الاستدانة في هذه الحالة الأخيرة حرام، أو بأن لا يكون دين ولكن عليه مصرف أهم بطريق الندب فيقدم ذلك على التكلف أما الأهم بطريق الوجوب فيحرم تقديم غيره عليه ولو تعارض التكلف ومقصد صالح بأن أحب أن يظهر أثر النعمة عليه أو جاءه من لو لم يتكلف له لحصل له منه ضرر ولو بالغيبة والذم أو كان في ذلك التكلف إعانة للناس على الاشتغال بالعلم أو نحو ذلك من مقاصد الخير فما الذي يقدم هل يترك حذراً من التكلف أو يفعل ولو مع التكلف حيازة لثواب ذلك المقصد الصالح هذا مما يتردد النظر فيه والذي يظهر لي الآن أنه حيث سهلت عليه الاستدانة وكان له جهة ظاهرة يوفي منها أو كان معه مال وعليه مصارف صالحة وأمكنه جعل هذا الذي نحن فيه من جملتها فلا بأس بالتكلف ولا ذم فيه حينئذ لما فيه من المصلحة الظاهرة وحيث انتفى ذلك كره التكلف لأنه يخرج غالباً إلى حيز الرياء والمباهاة والصالحون براء من ذلك.(5/344)
وسئل عن قول الأنوار في الوليمة: العاشر أن لا يكون هناك منكر كالخمر والملاهي والنساء على السقوف يدل على تحريم حضور مكان به نساء يشرفن على الرجال وبالأولى إذا كن في خلال الرجال أو بجانبهم فهل هذا معتمد؟. فأجاب بقوله الذي دلت عليه عبارته التي اعتمدها جمع أن وجود النساء بمحل ينظرن الرجال نظراً محرماً يمنع وجوب الإجابة لأنه منكر إذ نظر الأجنبية للأجنبي حرام، وأما تحريم الحضور فليس فيها تصريح به وإنما هو مقتضى الحكم على ذلك بأنه منكر إذ من المعلوم حرمة حضور المنكر اختياراً لمن يقدر على إزالته ولكن ليس ذلك على إطلاقه بل شرط الحرمة أن يعلم تعمد نظر امرأة أجنبية له نظراً محرماً، وعلم ذلك بعيد إذ من الجائز أنهن ينظرن نظراً غير محرم كأن يقصرن نظرهن على غير البدن من اللباس ونحوه أو يقلدن من يجيز ذلك، وكما احتمل في نظر عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا للحبشة وهم يلعبون نحو ذلك فكذلك هنا، فإن قلت لو نظرنا لذلك وجبت الإجابة، قلت لا يلزم من عدم حرمة الحضور وجوب الإجابة وإنما لم تجب حينئذ لأن اجتماع النساء ونظرهن إلى الرجال مظنة الفتنة والفساد فيسمى منكراً وإن لم يتحقق حينئذ منهن نظراً محرماً، فإن قلت قد قرروه في الإجماع على جواز خروج النساء سافرات وعلى الرجال غض البصر ما يصرح بأنه لا يحرم على الرجل الحضور وإن تحقق نظراً محرماً إليه، قلت قد قيدت ذلك في شرح الإرشاد وغيره أخذاً من قولهم الإعانة على محرم والتمكين منه اختياراً محرمان بما إذا لم تعلم المرأة أن أجنبياً ينظر إليها نظراً محرماً وإلا حرم عليها بقاء كشف وجهها أو غيره مما ينظر إليه، لأن قدرتها على ستره منه يصيرها إذا لم تستره معينة له على محرم وممكنة له منه، وقد صرح الأصحاب بأنه يحرم على الحلال تمكين الحليل المحرم من الجماع ونحوه، وصرح النووي وغيره بأنه يحرم كشف العورة بحضرة من يعلم أنه ينظر إليها نظراً محرماً خلافاً لمن وهم في ذلك زاعماً(5/345)
أن الناظر عليه غض البصر فلا يكلف المنظور التحفظ منه وهذا خيال باطل وحال حائل، وعبارة شرحي للإرشاد عطفاً على الأعذار أو كان ثم زحام يؤذي خلافاً للروياني أو نساء بنحو أسطحة الدار أو مرافقها ينظرن للرجال أو يختلطن بهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114
وسئل هل يحرم حضور المنكر المختلف فيه أو لا؟ كما قال الناشري أنه المنقول وجرى عليه الأصفوني وغيره في النبيذ وغيره. فأجاب بقوله: صرح أصحابنا بأنه يجب إزالة المنكر إن أجمع عليه أو كان الفاعل يعتقد تحريمه بخلاف ما ليس كذلك كأن رأى شافعي حنفياً جالساً على حرير أو شارباً لنبيذ وحينئذ لا يحرم الحضور لأنه لا يجب على الشافعي إنكار ذلك على الحنفي، بل لا يجوز له إلا أن أرشده بلطف إلى رعاية الخروج من الخلاف وإذا لم يجب الإنكار لم يحرم الحضور إذ يلزم من عدم وجوب الإنكار جواز التقرير عليه بحضوره عنده أو بغيره، فإن قلت كيف يقره على شرب النبيذ وهو لو رفع لشافعي حده عليه، قلت حد الشافعي له عليه ليس لكون الحنفي ارتكب محرماً في اعتقاد نفسه، ولذا قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أحده وأقبل شهادته وإنما هو لضعف دليله ولأن العبرة في القاضي بعقيدته لا بعقيدة المترافعين إليه، وهذه العلة الثانية هي المعول عليها. وفي شرحي للإرشاد ولو حضر المنكر جاهلاً به نهى مرتكبه ما لم يعتقدوا حله كحنفية يشربون نبيذاً خلافاً للسبكي لأنه مجتهد فيه ولا يشكل عليه حد الحنفي بشرب النبيذ لما يأتي في الأشربة اهـ وهو موافق لما قدمته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 114(5/346)
باب القسم والنشوز
وسئل فيما إذا نشزت المرأة إلى بيت أهلها وامتنعت من الرجوع إلا أن يعطيها شيئاً معلوماً فأعطاها هل تملكه أم لا؟. فأجاب بأنها لا تملكه لأنها أخذته على وجه العدوان والظلم فهو كالرشوة إذا أخذها القاضي وكحلوان الكاهن وجائزة الشاعر وكل هؤلاء لا يملكون ما أعطوه لأنهم لم يعطوه عن طيب نفس بوجه جائز. نعم لا يبعد أن يقال إن نوى الزوج الإهداء إليها مبالغة في تطييب خاطرها لأجل ردها إلى منزل طاعته ملكته وإن كانت عاصية لأنه لم يعطها حينئذ في مقابلة الفعل المحرم بل تجاوزه عنها فيما عصت به وقصد تطييب خاطرها ببذل شيء من عنده هدية لها فتملكه حينئذ، اللهم إلا أن يتيقن أنها لا تعود إليه إلا بمال وأنه لا يمكنه ردها بغير مال، فحينئذ قصده الهدية لا يرفع كونها وقعت في مقابلة الفعل المحرم وعند وقوعها في مقابلته يبعد أن تملكه إلا أن يقال إن الحق له وقد أسقطه بقصده الإهداء إليها مع ذلك وأنه لم يدفعه إليها في مقابلة الفعل المحرم فتملكه حينئذ فيما يظهر.
وسئل عن شخص تزوّج امرأة من بلد صحيح وأراد نقلها إلى بلد وبية فهل لها الامتناع؟. فأجاب بقوله: ليس لها الامتناع فيما يظهر من كلامهم، لأن الغالب السلامة فهو كركوب البحر إذا غلبت السلامة فيه وإفتاء بعض أهل اليمين بأن لها الامتناع بعيد وأبعد منه تأييده بأن الوبية شبيهة ببلد الطاعون، وقد نهى عن الدخول إليها اهـ وهو فاسد، إذ الأرض الوبية يجوز الدخول إليها بالإجماع كما حكاه غير واحد بخلاف أرض الطاعون فإنه يحرم الدخول إليها عندنا فلا جامع بينهما، نعم لو حمل إفتاء القائلين بالامتناع على الأرض التي بها الطاعون لكان وجيهاً لحرمة الدخول إليها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 119
باب الخلع(5/347)
وسئل فيمن له زوجة غائبة عنه فقال متى أبرأتني زوجتي فلانة من مهرها وهو كذا فهي طالق فأبرأته اتفاقاً أو عند ظهور آية ككسوف ونحوه طلباً لثواب الآخرة أو أرسل إليها رسولاً ليعلمها تعليقه بحصول البينونة فأتى الرسول فقال أبرئي زوجك فلاناً من مهرك ولم يعلمها بتعليقه ولم تعلمه فأبرأته منه عالمة مقداره فهل تطلق بائناً أو رجعياً أو يفصل وهل التعليق بالقول كالتعليق بالفعل حتى لا تطلق إلا مع العلم بالتعليق والذكر على ما فصلوه أم لا؟. فأجاب: بأن الذي دل عليه كلامهم في بابي البيع والخلع صحة الإبراء ووقوع الطلاق بائناً في جميع الصور المذكورة في المسألة الأولى وذلك لأن من علق على الإبراء من المهر لفظاً أو نية لا يقع طلاقه إلا إن برىء منه وهو في مسألتنا قد برىء لتصريح الزركشي وغيره كابن الصباغ بجريان الخلاف فيمن باع مال أبيه ظاناً حياته فبان موته في التعليق، فإذا برىء من يظن أن لا دين له لدين قدر فبان له صحت البراءة منه كما صرح به أصحابنا وهو ظاهر المذهب اهـ، وفيه نظر، بل ظاهر كلام الزركشي وغيره على ما قاله الاصطخري يبرأ باطناً أيضاً، وخالفه بعض أصحابنا. قال بعضهم: البراءة في هذه الصورة ففي صورة السؤال أولى، وقد علمت أنه يلزم من صحتها وقوع الطلاق المعلق بها بائناً وليس التعليق هنا كهو في نحو: إن دخلت الدار، لأن محل اشتراط العلم بالتعليق ثم إن قصد به المنع من الدخول مثلاً فيشترط حينئذ علم المعلق بفعله بالتعليق حتى يمتنع لأجله بخلاف ما إذا لم يعلم به فإنه لا يتصوّر منه امتناع لأجله، فلذلك اشترط العلم بالتعليق وأما في صورتنا فالمعلق بالبراءة راغب في حصولها سواء أعلم بالتعليق أم لا يعلم فلم يكن لاشتراط العلم بالتعليق هنا وجه، ألا ترى أنه لو علق بفعل ولم يقصد منعها منه وقع الطلاق به علم فاعله بالتعليق أم لا فكذلك في صورتنا بل أولى.(5/348)
وسئل عن رجل قال لزوجته طلاقك بصحة براءتك إن شاء الله سبحانه وتعالى، فقالت المرأة الله قد أبرأك، ثم بعد ذلك قال لجماعة اشهدوا عليّ أني قد رددتها في عقد نكاحي من نهارها ظاناً أنها طلقت منه فهل يقع عليه الطلاق أم لا يقع وهل يفيده ردها إلى عقد نكاحه إن صح الطلاق بما قاله أم لا يفيد أو لا عبرة بما قاله لها وقالته له وهي باقية في الزوجية أفتونا مأجورين نفع الله سبحانه وتعالى بكم المسلمين في الدنيا والآخرة آمين. فأجاب رضي الله عنه بقوله: إذا قالت له الله قد أبرأك فقال لها طلاقك بصحة براءتك فإن كانت هي وهو عالمين بما أبرأت منه وقع عليه الطلاق رجعياً فإذا راجعها قبل انقضاء عدتها عادت إليه. وقوله اشهدوا أني قد رددتها إلى نكاحي رجعة وإن كانت جاهلة بما برأت منه أو لم تنو البراءة من شيء معين لم يقع عليه طلاق، ولو قال لها مرة أخرى طلاقك بصحة براءتك فقالت الله قد أبرأك، فإن صح الإبراء وقع عليه طلقة ثانية وإلا فلا ولا نظر لتأخر براءتها، لأن قوله المذكور تعليق وهو يكون على الماضي والمستقبل وهذا ظاهر من تعليلهم كون الطلاق المذكور رجعياً وإن لم يصرحوا به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
وسئل عن رجل قال لزوجته التي لم يدخل بها إن أبرأتني من نصف صداقك الباقي في ذمتي بعد الطلاق فأنت طالق، هل تطلق إذا أبرت من النصف المذكور وتبرأ ذمته بهذه الصيغة أم لا؟. فأجاب بقوله الذي صرح به الأحنف و الأصيحي واعتمده الأزرقي وبعض شراح الوسيط وكلام الشيخين في باب الصداق: يقتضيه أن من قال لامرأته قبل الدخول إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق فأبرأته لم يبرأ ولم تطلق أو من نصف مهرك الباقي بعد الطلاق في ذمتي فأنت طالق فأبرأته طلقت وبرىء وإن أطلق ذكر النصف فأبرأته لم يبرأ ولم تطلق والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/349)
وسئل عما لو قال إن أبرأتني من المهر بنتك أو غيرها فأنت وكيل فطلقها أهو رجعي كما في النفائس للأزرقي أم لا؟. فأجاب: بأن الذي في نفائس الأزرقي هو ما لفظه: إذا قال إن أبرأتني زوجتي من صداقها فقد وكلتك في طلاقها فأبرأته فطلق الوكيل هل يكون الطلاق رجعياً أم بائناً الذي يظهر أنه يكون رجعياً قطعاً، وأجاب الفقيه أحمد بن حسن بن أبي الخل بنحوه، ويستدل بأن للوكيل أن يطلق على الفور وعلى التراخي اهـ لفظه وقال قبيل ذلك لو قال إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق فأبرأته منه وهي تعلمه طلقت بائناً على الأصح، وقوله وهي تعلمه صوابه وهما يعلمانه وما ذكره في الأولى من الوقوع رجعياً ظاهر حكماً لا تعليلاً وإنما الذي ينبغي أن يعلل به أخذاً من كلام أبي زرعة في نظيره أن طلاق الوكيل لها طلاق تبرع ليس بعوض فإنها لما أبرأته البراءة الصحيحة لم يبق في ذمته شيء ولو شاء الوكيل لم يطلقها فلما طلقها كان طلاقاً بغير عوض فلا وجه لكونه بائناً، إذ لا عوض حينئذ يقتضي البينونة لأن شرطها أن يكون الطلاق معلقاً على الإبراء أو يقترن به إعطاء مال أو تمليك وذلك كله مفقود هنا. وفي فتاوى القاضي وحكاه عنه الشيخان في الروضة وأصلها أواخر الخلع وأقراه بأنها لو قالت أبرأتك من صداقي فطلقني برىء الزوج وله الخيار إن شاء طلق وإن شاء لم يطلق وما ذكره في الثانية من الوقوع بائناً هو المعتمد لكن له شروط أخر بسطت الكلام عليها في فتوى غير هذه، فإن قلت ما الفرق بين الصورتين، قلت واضح مما قررته في الأولى فإنه في الثانية علق الطلاق على الإبراء فإذا أبرأته براءة صحيحة وقع الطلاق في مقابلتها فكان بائناً بخلافه في الأولى فإنه لم يعلق الطلاق بالإبراء وإنما الذي علقه به التوكيل فإذا وجد الإبراء منها ثم طلقها الوكيل كان طلاقه تبرعاً ليس في مقابلة إبرائها فإنه لا يكون في مقابلته إلا أن صح بصحة الإبراء وفسد بفساده ولا يكون كذلك إلا إذا علق الطلاق عليه(5/350)
وهنا الإبراء صحيح قبل أن يطلق فلا تعلق له بالطلاق لا في الصحة ولا في الفساد فكان طلاق تبرع فوقع بائناً، فإن قلت تعليق الوكالة باطل فكيف صح طلاق الوكيل حينئذ، قلت الباطل عند فساد الوكالة إنما هو خصوص التوكيل الذي يستحق عليه الأجرة المسماة أما عموم الإذن الذي يقتضي نفوذ تصرف الوكيل فهو باق وإن فسدت الوكالة كما صرحوا بذلك في بابها ولوضوحه لم يتعرض له الأزرقي ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
وسئل عمن قال أنت طالق على تمام البراءة فقالت أبرأتك ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا قال لها أنت طالق على تمام البراءة لم تطلق إلا إن أبرأته براءة صحيحة بأن تعلم الزوجة والزوج بقدر مالها عليه ثم تبرئه منه وهي رشيدة ولم يكن مضى عليه من السنين ما يقتضي تعلق الزكاة به فإذا وجدت هذه الشروط طلقت بائناً وإلا لم تطلق، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/351)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال أبرئيني من مهرك وهو مائة دينار إلى هذه العشرة الدنانير وأطلقك فقالت أبرأتك منه إليها فقال أنت طالق أو قال إن أبرأتني منه إليها فأنت طالق فقالت أبرأتك منه إليها ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا قال لها أبرئيني من مهرك وهو المائة إلى هذه العشرة الدنانير وأطلقك فقالت أبرأتك منه إليها فقال أنت طالق فإن أراد بقوله إلى هذه العشرة الدنانير أن العشرة عوض منه إليها في مقابلة الإبراء من المائة فتكون إلى بمعنى على صحت براءتها ولزمه العوض وهو العشرة، فقد صرح النووي وتبعه السبكي وغيره بأنه يجوز بذل العوض في مقابلة الإبراء وأما قوله بعد ذلك أنت طالق فهو يقتضي وقوع الطلاق رجعياً لأنه غير معلق بالبراءة لأن قوله أولاً وأطلقك وعد ولو سكت عنه فلم يقل أنت طالق صح الإبراء ولم يؤمر بالطلاق، وأما إذا قال إن أبرأتني منه إليها فأنت طالق فأبرأته من المائة على العشرة براءة صحيحة صح الإبراء من المائة ولزمته العشرة نظير ما مر والذي يتجه وقوع الطلاق هنا رجعياً أيضاً بخلاف في أن أبرأتني فأنت طالق، والفرق أن الطلاق في هذه وقع في مقابلة الإبراء فكان الإبراء عوضاً عنه وهذه هي حقيقة الخلع المقتضي للبينونة فوقع الطلاق بائناً بخلافه في أن أبرأتني من مهرك على عشرة فأنت طالق، فإن الطلاق لم يقع عوضاً عن البراءة إذ عوضها العشرة وإذا خلا الطلاق عن عوض في مقابلته كان رجعياً لا بائناً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/352)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال: إن أعطيتني على ثلاث تطلقات وهو يملك الثلاث ألف أشرفي توزيعاً للمسمى على عدد الثلاثة المسؤولة في مقابل كل من المال المذكور فأنت طالق فأعطته فوراً خمسمائة أشرفي فهل تطلق طلقة أو طلقتين وهل إذا قالت له زوجته طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة ونصفاً فما يستحق؟. فأجاب بقوله: لا يقع في المسألة الأولى شيء لأن الصفة التي علق عليها وهي إعطاء الألف لم توجد، نعم إن قصد بما قاله إيقاع ما يقابل المعطي لو وزعت الألف على الثلاث وقع بالخمسمائة طلقتان، وأما المسألة الثانية فيقع عليه طلقتان ويستحق خمسمائة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
وسئل إذا قال خلعتك إلى رقبة أبيك ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا قال خلعتك إلى رقبة أبيك فقد أتى بلفظ محتمل والذي دل عليه كلامهم في ذلك أنه إن أراد بذلك أن أباها يلتزم له مالا في مقابلة طلاقها لم تطلق حتى يلتزم له فوراً، وحينئذ فتطلق بائناً بذلك المال إن كان معيناً وإلا فبمهر المثل وإن أراد أنه خالعها خلعاً منجزاً وأنها بعد تصير في رقبة أبيها أي عليه مؤنتها طلقت بقوله خالعتك إن نوى به الطلاق ويكون رجعياً فإن لم ينو به شيئاً ولم تقبل لم يقع طلاق، وأما إذا أضمر التماس جوابها فقبلت بانت ولزمها مهر المثل هذا مقتضى كلام المنهاج وأصله وهو طريقة الأكثرين لكن المصحح في الروضة أنه مع عدم ذكر المال كناية مطلقاً، فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا وإن لم يرد بذلك اللفظ شيئاً مما ذكر فالذي يظهر أنه لا يقع به شيء لأنه يحتمل كلا من الأمرين المذكورين وكل منهما لا يقع به طلاق إلا بالشرط الذي ذكرته والأصل بقاء العصمة حتى يتحقق الموقع ولم يتحقق هنا، لأن لفظه محتمل كما تقرر مع أن كلاً من احتماليه لا يقتضي الوقوع مطلقاً بل بشرط لم يتحقق وجوده، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/353)
وسئل في رجل قال الطلاق يلزمني إذا أعطيتني كذا ما تمسي لي زوجة فهل تطلق بائناً؟. فأجاب أفتى الفتى بأنها إذا أمست له زوجة بأن لم يطلقها قبل المساء طلقت بائناً بقوله يلزمني الطلاق بائناً لخشية توقع العوض في مقابلته لكن بشرط الفورية في الإعطاء وإلا فرجعياً وإن طلقها قبل أن تمسي طلقت بالثاني رجعياً دون يلزمني لأنه بر فيه ونظر بعض تلامذته فيما قاله أولاً والنظر واضح إذ الطلاق لم يجعل في مقابلته مال البتة فالأوجه وقوعه رجعياً مطلقاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في رجل وكل آخر في طلاق زوجته فطلقها بعد أن قالت بذلت صداقي على صحة طلاقي فهل يقع بائناً أو رجعياً؟. فأجاب بقوله: يقع رجعياً لأنه أتى بالمأمور فيه من الطلاق ولم يجعله في مقابلة مال حتى يكون مخالفاً لموكله ومفوتاً لغرضه من بقاء الرجعة ولا يبرأ حينئذ الزوج لأن الطلاق لم يقع في مقابلة البذل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل فيما لو قالت بذلت صداقي على صحة طلاقي فقال أنت طالق على صحة البراءة فهل تطلق بائناً أو رجعياً أو لا تطلق؟. فأجاب بقوله: أفتى الشيخ تقي الدين وتلميذه الرداد و الطيب الناشري بأنها لا تطلق. وقال آخرون: لا تطلق بائناً. وقال ابن عجيل و إسماعيل الحضرمي : نفعنا الله سبحانه وتعالى بهما إن أراد استئناف براءة لم تطلق وإلا طلقت وهو الأوجه، وإذا قلنا تطلق طلقت بائناً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
وسئل عما لو قال إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق فقالت أنت بريء على صحة الطلاق فهل تطلق؟. فأجاب نعم تطلق على ما أفتى به ابن عجيل لكن خالفه الكمال الرداد فقال لا تطلق والأول أوجه.(5/354)
وسئل في رجل طلق زوجته ولم يعطها متعة واجبة ثم أعادها ثم قال إن أبرأتني من جميع ما تستحقينه عليّ فأنت طالق ولم يخطر بباله أن لها عليه متعة فهل يقع؟. فأجاب بقوله: لا يقع عليه شيء لأن الصفة المعلق عليها وهي البراءة من جميع ما لها عليه لم توجد ولا نظر لخطور ذلك بباله أو لا. نعم إن أراد البراءة من شيء معين دون غيره فأبرأته منه براءة صحيحة وقع بائناً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل فيما لو قال أنت طالق إن أبرأتني من مهرك وإن لم تبرئي، فهل يقع؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه في ذلك الوقوع حالاً لأن مدلوله الوقوع أبرأت أولا، لأن اللفظ يحتمل لم تبرىء مطلقاً فإن أراد التعليق بكل من الأمرين بمعنى أنه متى وجد أحدهما طلقت قبل لأن اللفظ يحتمله فإن أبرأته براءة صحيحة مع علمهما بالمبرأ منه طلقت بائناً وإن لم تبرئه بالكلية أو أبرأته براءة فاسدة لم تطلق إلا عند اليأس قبيل موتها وللفتى وتلميذه الرداد كلام في ذلك ينبغي حمله على ما ذكرته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل فيما لو شهد على امرأة ولم يذكر أنه رآها مسفرة فهل يقبل؟. فأجاب بقوله للروياني فيه احتمالان رجح منهما عدم القبول لأن الغالب ستر وجوههن. قال بعضهم وفيه نظر وهو كما قال، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/355)
مسألة سئلت عمن قال لامرأته خالعتك بمائة دينار فقالت قبلت فسألها المائة فقالت مم هي؟ فقيل لها إنها وجبت عليك بالقبول فقالت أنا لم أرض ببذل عوض وادعت أنها لا تعرف أنه يجب عليها العوض بهذا اللفظ ما الحكم؟. فأجبت بقولي الذي يتجه في ذلك أخذاً من نظائر ذكروها أنها إن كانت مخالطة لأهل المدن والقرى الذين لا يخفى عليهم ذلك لم يقبل منها دعواها المذكور ويقع الطلاق بائناً وتلزمها المائة وإن نشأت ببادية بعيدة عن العارفين بذلك قبلت منها هذه الدعوى فلا يقع طلاق ولا يلزمها مال، ثم رأيت ابن عبد السلام قال في قواعده: لو نطق العربي بكلمات عربية لكنه لا يعرف معناها في الشرع لا يؤاخذ بشيء إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ اهـ، ورأيت الزركشي نظر فيه وبتأمل ما قررته من التفصيل يعلم حمل كلام ابن عبد السلام على غير المخالط و الزركشي على المخالط وحينئذ اتضح ما قاله كل منهما وأنه لا خلاف بينهما في المعنى فإن فرض أن الأول قائل بإطلاق القبول والثاني قائل بإطلاق عدمه لم يكن لما قاله كل منهما وجه بل الصواب الجاري على القواعد المأخوذ من نظائر ذلك في أبواب شتى ما ذكرته في ذلك من التفصيل فافهم ذلك فإنه مهم ولا تغتر بمن اعتمد إطلاق ابن عبد السلام وقال إن تنظير الزركشي فيه لا معنى له لأن ذلك ناشىء عن عدم التأمل واستحضار تلك النظائر التي أشرت إليها.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/356)
وسئل عن شخص قال لزوجته إن خرجت من بيتي بغير إذني فأنت طالق فإذا أذن لها في الخروج إلى بيت معين ثم خرجت منه إلى غيره هل تطلق أم لا؟ وإذا خرجت من بيته بلا إذن وقلتم تطلق رجعية فإذا راجعها ثم أذن لها بعد المراجعة أن تخرج متى شاءت هل تطلق أو لا بد من الإذن في كل مرة أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب إذا قال إن خرجت من بيتي فأنت طالق طلقت بالخروج وإن أذن لها، فإن قال إن خرجت من غير إذني فخرجت بإذنه لم تطلق وإن ذهبت إلى البيت الذي لم يأذن لها فيه وإن قال إن خرجت من غير إذني إلى بيت فلانة فأذن لها فيه فخرجت إلى غيره طلقت، وإذا خرجت بلا إذن وطلقت ثم راجعها فخرجت بلا إذن أيضاً لم تطلق بالخروج الثاني لأن الصفة انحلت. نعم إن قال كلما خرجت بغير إذني طلقت بالخروج الثاني بغير إذنه طلقة ثانية وثالثاً طلقة ثالثة وحينئذ فلا بد من الإذن لها في كل مرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/357)
وسئل عن شخص حلف بالطلاق الثلاث على أن لا يسافر أو لا يبيع لا بنفسه ولا بوكيله في هذا الشهر ثم احتاج إلى ذلك الفعل في الشهر المحلوف عليه وفعله فهل تطلق بغروب شمس آخر يوم من الشهر المحلوف فيه أم لا؟ فإن خالعها على مال قبل انفساخ الشهر وراجعها بشروطه قبل انفساخ الشهر المحلوف فيه ثم سافر أو فعل شيئاً مما حلف عليه فيه هل تبين منه أم لا؟ وإذا قلتم لا وحكم شافعي بعدم الطلاق ولم يتعرض في حكمه لعدم عود الصفة فهل يكفي ذلك أم لا بد من التصريح بها في حكمه احترازاً ممن يرى بها؟ أوضحوا لنا ذلك. فأجاب بقوله: إذا قيد المحلوف عليه بمدة كما لو حلف بالثلاث لا بد أن يفعل كذا في هذا الشهر ثم خالع قبل فراغه تخلص من الحنث على ما ذهب إليه ابن الرفعة أوّلاً ووافقه بعض تلامذته ونظرائه ورجحه الزركشي ووجهه بأن الحنث إنما يحصل فيما ذكر بمضي الزمن المجعول ظرفاً للفعل المحلوف عليه إذ الخروج عن عهدة الحلف ممكن لإمكان الإتيان بالصفة ومتى كانت ممكنة لا يستند الوقوع إلى ما قبل الفعل لإمكانه بعده بل إلى آخر زمن يتحقق انتفاؤه فيه، وحينئذ فالصفة موجودة ولا نكاح فلا يتبين فساد الخلع، وفرق بين هذه المسألة ومسألة الرغيف الآتية فيتحقق الحنث فيها في الزمن الذي يؤاخذ فيه بالحنث، واعتمد ما قاله بعضهم فقال فتلخص أن المعتمد في المذهب الانتفاع بالخلع مطلقاً حتى لا يحنث واستشهد له بإفتاء التاج الفزاري فيمن حلف بالثلاث أنه لا يساكن أخاه ثم حلف أنه لا يخالع ولا يوكل بأن طريقه أن يخالع ثم لا يحنث لحصول البينونة بالخلع فيستحيل وقوع الطلاق المعلق ويوافقه إفتاء
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/358)
الجلال البلقيني فيمن حلف بالطلاق أنه لا يخالع بأنه لا يقع عليه شيء يعني بسبب يمين الخلع للبينونة به، وأيد السبكي ذلك بظاهر قول الشيخين لو قال إن لم تخرجي هذه الليلة من هذه الدار فأنت طالق فخالع من أجنبي من الليل وجدد النكاح ولم تخرج لم يحنث لأن الليل كله محل اليمين فلم يمض وهي زوجته وقولهما لو كان معه تفاحتان فقال لزوجته إن لم تأكلي هذه التفاحة اليوم فأنت طالق ولأمته إن لم تأكلي هذه الأخرى اليوم فأنت حرة فاشتبهتا تخلص بخلعها ذلك اليوم ثم يعيدها أي ولو بعد التمكن من الأكل وببيع الأمة كذلك ثم يشتريها لكن الذي رجع إليه ابن الرفعة وصوبه ووافقه الباج ي وغيره وهو الأوجه وفاقاً لشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده أنه لا يتخلص بالخلع في الصورة الأولى، بل ينظر فإن لم يفعل حتى انقضى الشهر بأن حنثه قبل الخلع وبطلان الخلع، ويؤيده الحنث فيما لو حلف ليأكلن هذا الرغيف فتلف في الغد بعد التمكن من أكله أو أتلفه أو أنها تصلي اليوم الظهر فحاضت في وقته بعد تمكنها من فعله ولم تصل أو لتشربن من ماء هذا الكوز فانصب بعد إمكان شربه ونظائر ذلك في كلامهم كثيرة والفرق بينهما ومسألتي الشيخين المذكورتين يتضح بما حققه السبكي فإنه فرق بين إن لم أفعل ولا فعلن فإن الأوّل تعليق على العدم ولا يتحقق إلا بالآخر فإذا صادفها الآخر بائناً لم تطلق كما في فرعي الشيخين، إذ ليس لليمين فيهما كنظائرهما إلا جهة حنث، فإذا فعل لا يقال برّ بل لم يحنث لعدم شرطه، وأما لأفعلن كما في صورتنا ونظائرها فالفعل مقصود وهو إثبات جزئي وله جهة برّ وهي فعله وجهة حنث بالسلب الكلي الذي هو نقيضه والحنث هنا قضية اليمين وتفويت البر فإذا التزمه وفوته بخلع من جهته حنث لتفويته البر باختياره وعليه فالصيغ أربع اثنتان يفيد فيهما الخلع وهما الحلف على النفي كلاً أفعل كذا والحلف على الإثبات مطلقاً بما لا إشعار له بالزمان مطلقاً كأن لم أفعل كذا(5/359)
واثنتان لا يفيد فيهما الخلع وهما الحلف بالإثبات معلقاً بما يشعر بزمان كإذا لم أفعل كذا والحلف بلا فعلن ونحوها وليس قياس هذا خلافاً للسبكي أنه إذا كان التعليق في مسألة الرغيف بأن لم آكل فأتلفه أو تلف في الغد بعد تمكنه من أكله لا يحنث بل المنقول في نظيره الحنث هنا أيضاً وعليه فلا ينافي ذلك ما تقرر من الفرق كما يعلم بتأمله، وأما توجيه الزركشي السابق فممنوع لأنه إنما يأتي في النظائر الموافقة لما قلناه دون المخالفة مع قطع النظر عما مر من الفرق لما رجحه والتأييد بما مر عن الفزاري و البلقيني غير صحيح فإن ذلك لا تأييد فيه فتأمله فإنه مهم وبما قررته علم الجواب عما في السؤال وهو أن الخلع ينفعه قبل مضي الشهر في الصور الثلاث التي في السؤال فإذا فعله ثم جدد نكاحها بولي وشاهدين ثم فعل المحلوف عليه لم يقع عليه الثلاث وإذا جدد النكاح بعد الشهر فحكم له شافعي بصحته أو بعدم الحنث بالثلاث كان ذلك متضمناً للحكم بعدم عود الصفة فيمتنع على المخالف الحكم بعودها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/360)
مسألة: قال لزوجته إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق فقالت وهبته لك أو نذرت به لك ولو قالت له بذلت لك صداقي على طلاقي فقال إن صحت براءتك فأنت طالق ولو قال لها أبرئيني وأنا أطلقك فقالت أنت البريء فقال لها أنت ولية النساء بنفسك على تمام البراءة فما حكم ذلك؟. فأجبت بقولي: أما الجواب عن الأوّل فهو إن أراد التعليق على لفظ الإبراء لم يحنث بقولها وهبته أو نذرت به لك وإن أطلق حنث في وهبته لك كما يصرح به قولهم هبة الدين المستقر للمدين إبراء فلا يحتاج إلى قبول اعتباراً بالمعنى، وأما في نذرت به لك فيحتمل إلحاقه بوهبته لك فيما ذكر نظراً إلى أنهما في المعنى سواء لأن القصد بالإبراء خلو الذمة عن الدين وهبته ونذره مثل الإبراء في ذلك لخلو الذمة بكل منهما عنه، وأيضاً فالأصح في الإبراء أنه تمليك المدين ما في ذمته ولكن مع ذلك فيه شائبة الإسقاط، ولا شك أن الهبة محصلة لذلك التمليك وكذلك النذر محصل للمقصود من ذلك التمليك فاستوت الثلاثة، أعني الإبراء والهبة والنذر، في تحصيل كل منهما للمقصود وهو خلو الذمة عن الدين، ويحتمل الفرق بين الهبة والنذر بأن النذر إنما يسمى التزاماً لا تمليكاً بخلاف الهبة فإنها تمليك فساوت الإبراء في أن كلاً منهما تمليك بخلاف النذر والذي يتجه الأوّل ولا أثر لهذا الفرق لما علم مما تقرر أن الالتزام الذي تضمنه النذر محصل للمقصود من التمليك الذي تضمنه كل من الإبراء والهبة. وقاعدة أن الأمور بمقاصدها وأن المعنى قد يرجح على اللفظ إذا قوي مأخذه يرجحان ما ذكرته أن نذر الدين للمدين وإن سمى التزاماً إلا أن معنى التمليك والمقصود منه موجودان بتمامهما فيه فكان الأوجه إلحاق النذر بالهبة كما مر وحيث قلنا بالطلاق فيما ذكر فهو بائن فيشترط أن يأتي بذلك في المجلس قبل أن يتخلل كلام كثير أجنبي وأن يعلم كل منهما قدر الصداق وأن تكون الزوجة مطلقة التصرف شرعاً، وأن لا يكون الصداق زكوياً وإلا اشترط أن لا(5/361)
يمضي عليه حول وقد بينت هذه الشروط وما فيها مع ما يتعلق بها في اختصاري المحرر من الآراء في حكم الطلاق بالإبراء، ثم رأيتني ذكرت في هذا المختصر ما يصرح بما ذكرته في النذر وعبارتي فيه قال: إن نذرت لي بكذا أو بجميع ما تستحقيه فأنت طالق فنذرت له والذي يظهر في ذلك أنه كالتعليق بالإبراء بجامع تضمن كل للمعاوضة التقديرية وحينئذ فيشترط في البينونة صحة النذر وعلمهما بما نذر به، لأن ذلك إنما اشترط في مسألة الإبراء لما فيها من شائبة المعاوضة، وقد علمت أن هذه فيها تلك الشائبة، ومن ثم قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/362)
ابن شهبة : لا بد هنا من علمه قطعاً لأنه يؤول إلى المعاوضة. وغلط من أجرى القول بعدم اشتراط علم المدين هنا وأما الجواب عن الثاني فهو أنه يقع فيها الطلاق. وعبارتي في المختصر المذكور إذا قالت بذلت صداقي على طلاقي أو بطلاقي فطلق به وقبلت بانت لأنه إنما طلق بعوض، ثم إن علما قدر المهر ووجدت شروطه السابقة وأرادت ببذله الإبراء منه برىء منه وإلا لم يبرأ ولزمها له مهر المثل هذا هو الذي يظهر من كلامهم والذي في فتاوى الأصبحي : إذا قالت بذلت صداقي على طلاقي فطلق وقع لأنه لا يملكه إلا الزوج فلا فرق بين أن تقول بذلت لك أو بذلت، وفي كلامه ما يدل على أن بذلت كأجزت ثم رأيتني أفتيت فيما لو قالت بذلت صداقي على صحة طلاقي فقال أنت طالق على صحة البراءة فهل تطلق بائناً أو رجعياً أو لا تطلق فقلت أفتى الشيخ تقي الدين و تلميذه الرداد و الطيب الناشري بأنها لا تطلق. وقال آخرون لا تطلق بائناً. وقال ابن عجيل و إسماعيل الحضرمي نفع الله سبحانه وتعالى بهما: إن أراد استئناف البراءة لم تطلق وإلا طلقت وهو الأوجه، وإذا قلنا تطلق فهل تطلق بائناً أو رجعياً فيها التفصيل السابق، وأما الجواب عن الثالثة فهو أن الذي يتجه فيمن قال لزوجته أنت ولية نفسك أو ولية النساء بنفسك أنه كناية في الطلاق، أما في الأولى فواضح، وأما في الثانية فكذلك لأنها بمعنى الأولى لأنها إذا وليت النساء بسبب استقلالها بنفسها كانت ولية نفسها، وقد صرحوا بأن من الكنايات أنت وشأنك، ولا شك أن كلاً من ذينك أبلغ في الإشعار بالاستقلال من هذا فإذا نوى الطلاق فإن نوى مع ذلك تعليقه على إبرائها من الصداق وجعله في مقابلته قبل منه لاحتماله وتوقف على جوابها فإن أجابته وقد كانت أولاً أبرأته براءة صحيحة وقع بائناً بمهر المثل وإن لم تجبه لم يقع وإن أجابته ولم تكن أوّلاً أبرأته براءة صحيحة فإن أبرأته براءة صحيحة وقع وإلا فلا، وإن أراد الطلاق ولم يرد التعليق المذكور(5/363)
فإن كانت أبرأته أولاً براءة صحيحة وقع عليه الطلاق رجعياً كما بينه الولي أبو زرعة في فتاويه في نظير ذلك وأطال فيه، ومن جملته قوله وهو لو صرح هنا بالتعليق على الإبراء المتقدم فقال علقت طلاقك على الإبراء الصادر منك لم يكن تعليقاً بل تنجيزاً معللاً بالإبراء المتقدم إذ كيف يصح التعليق على الماضي وفارق هذا ما لو خالعها بمهرها بعد أن أبرأته منه فإنه يقع بائناً جزماً عند الجهل وعلى خلاف مع العلم بأنه ثم خالع على نفس المهر فقد طلق بعوض وإن لم يمكن ثبوته لبراءة ذمته فهو كخلع فاسد وهو مقتض للبينونة وإن علما الفساد وهنا لم يجعل المهر عوضاً وإنما جعل البراءة المتقدمة سبباً للطلاق وذلك لا يجعله طلاقاً بعوض بل هو تبرع حمله عليه تقدم إبرائها اهـ وإن لم تكن أبرأته أولاً براءة صحيحة لم يقع عليه شيء، نعم إن قصد تنجيز الطلاق في مقابلة ما صدر منها وقع رجعياً وإن فسد الإبراء لأنه مجرد لم يعلق فيلغو قوله على تمام البراءة بخلاف ما إذا لم يقصد تعليقاً ولا تنجيزاً فإن الظاهر حمله على التعليق فلا يقع شيء عند عدم صحة الإبراء ولا سبيل للوقوع هنا بائناً بعد صدور إبرائها صحيحاً، إذ لا عوض حينئذ تحقيقي ولا تقديري يقتضي البينونة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/364)
وسئل عن شخص قال لزوجته أنت طالق على تمام البراءة وقد كانت أبرأته قبيل التعليق ما الحكم؟. فأجاب بقوله: أفتى الأصبحي وغيره بأن قوله أنت طالق على تمام البراءة مثل قوله إن أبرأتني فأنت طالق، وإذا كان مثله فيأتي فيه حكمه وهو أنه لو قال ذلك لمن أبرأته فإن لم تتلفظ بالبراءة فلا وقوع وإن تلفظت بها ففيه وجهان منشؤهما أن المعتبر في التعليق على البراءة براءة صحيحة أم مجرد التلفظ، فعلى الأول لا وقوع وهو الأصح وعلى الضعيف يقع ومحل الخلاف كما هو ظاهر حيث لم يقصد التعليق على مجرد التلفظ بالبراءة وإلا وقع جزماً، ووقع لبعضهم أنه أفتى في هذه المسألة بالوقوع بائناً بمهر المثل وليس كما زعم.
وسئل عما لو قالت أمة لزوجها سيدي أذن لي أن أختلع منك بصداقي فخالعها فأنكر السيد ذلك فهل تبين ويكون الصداق في ذمتها أو تطلق رجعياً أو لا تطلق كما أنها غرته؟. فأجاب بقوله: حيث خالعها على البراءة من صداقها فلم يبرأ منه لإنكار سيدها الإذن منه لها في ذلك لم يقع الطلاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/365)
وسئل عمن قال لزوجته إن أعطيتني النخلة الفلانية فأنت طالق فقالت أعطيتكها فهل يملكها وتطلق بائناً فإن قلتم لا فما طريق صحة ملكه لتطلق فلو نذرت بها له أو وهبتها منه فقبل فهل تطلق أو لا وحيث ملكها فبانت مستحقة ما حكمه؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم في بابي الخلع والقبض أنها إذا خلت بينه وبين النخلة التخلية المعتبرة في قبض المبيع بنية أن ذلك من جهة التعليق ملكها ووقع الطلاق بائناً، وذلك لأنهم نزلوا التخلية في غير المنقول منزلة الأخذ باليد في المنقول وقالوا هنا لو علق الطلاق بإعطاء شيء فوضعته بين يديه بنية الدفع عن جهة التعليق وتمكن من قبضه ملكه ووقع الطلاق بائناً وإن امتنع من قبضه لأن تمكينها إياه من القبض إعطاء منها إذ يصح أن يقال أعطاه فلم يأخذ وهو بامتناعه مفوت لحقه وإنما ملك ذلك قهراً عليه وإن لم يتلفظ بشيء ولم يقبضه، لأن التعليق يقتضي وقوع الطلاق بالإعطاء ولا يمكن إيقاعه مجاناً مع قصد العوض وقد ملكت زوجته بضعها فيملك الآخر العوض عنه هذا كلامهم، وهو كما ترى مصرح بأنه لا فرق في جميع ما ذكر بين التعليق بإعطاء منقول أو عقار أو شجر وأن قولهم فوضعته بين يديه إنما هو مجرد تصوير نظراً إلى أن التعليق بالإعطاء إنما يكون في المنقولات غالباً بدليل تعليلهم الذي تقرر هنا فإنه جار في غير المنقول أيضاً وبدليل كلامهم في قبض المبيع من إقامتهم التخلية في غير المنقول منزلة الأخذ باليد في المنقول، فإن قلت الإعطاء عرفاً إنما يستعمل في المنقول دون غيره، قلت ممنوع بل يستعمل في كل منهما يقال أعطاه دراهم وأعطاه داراً ونخلة وإنكار ذلك مكابرة وذكرت في الفتاوى وملخص تحرير الآراء أنه لو قال إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق فقالت وهبته لك أو نذرت به لك أو تصدقت به عليك أنه إن أراد التعليق بلفظ الإبراء فلا وقوع أو خلاصه عن عهدة الصداق وقع بائناً بشروطه، وكذا إن أطلق على كلام طويل فيه والذي يظهر أن الهبة(5/366)
هنا كذلك لأنه إذا كان تمكينها إياه من قبضه كافياً وإن لم يتلفظ بشيء كما مر فكذلك زيادة تلفظها بنحو وهبته لك مع تمكينه من قبضه بنية الدفع عن جهة التعليق لأن تلك الزيادة لا تخرجه عن كونه معطي وكذلك زيادة تلفظها بقولها نذرت لك به مع التمكين من قبضه بنية الدفع عن جهة التعليق ويزداد ذلك إيضاحاً بمراجعة هذه المسألة من الفتاوى والتلخيص المذكورين وإذا أعطته النخلة المعلق عليها فخرجت مستحقة لزمها له مهر المثل ووقع الطلاق بائناً أيضاً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
وسئل عما لو كان لامرأة على زوجها مهر زائد على نصاب الزكاة وأبرأته عن مهرها بعد سنين عديدة ولم تعرف القدر الباقي بعد الزكاة هل الإبراء صحيح أو لا للجهل بالمقدار؟. فأجاب بقوله: إذا قال لها إن أبرأتني من مهرك فأنت طالق فأبرأته من مهرها الزكوي لم يقع عليه طلاق وإن علمت مقدار مهرها لعدم وجود الصفة المعلق عليها، لأنه إنما علق بالبراءة من جميع المهر ولم يبرأ من جميعه لأن مقدار الزكاة لا يصح الإبراء منه وإن لم يقل لها ذلك، وإنما تبرعت بإبرائه فإن علمت مقداره وعلمت السنين الماضية بلا زكاة صح إبراؤها مما عدا قدر الزكاة وإن لم تعرف ذلك لم يصح إبراؤها لجهلها بمقداره.(5/367)
وسئل عن رجل حلف بالطلاق أن لا يقرأ قرآناً في هذا اليوم مثلاً فهل يحنث بقراءته شيئاً من القرآن للتبرك أم لا؟ وإذا قلتم لا يحنث فهل يشترط مع قصده التبرك نفي قصد القراءة بحيث يكون لو قصدهما أعني التبرك والقراءة يحنث أو لا؟. فأجاب بقوله: إن قصد به التبرك وحده لم يحنث كما جرى عليه أئمتنا تصريحاً وتلويحاً في مواضع منها تجويزهم القراءة للجنب حينئذ لأنه مع القصد المذكور صار غير قرآن لما يأتي ومنها قولهم لو أفهم المصلي غيره غرضاً آخر بالقرآن كقوله لمستأذن عليه: «ادخلوها بسلام» وقصد به التفهيم وحده بطلت صلاته بلا خلاف لما ذكر. ومنها قولهم في بابي الطلاق والإيمان لو قال لها إن أجبت خطابي فأنت طالق، ثم خاطبها فقرأت آية تتضمن جوابه فإن قصدت الجواب وحده لما يأتي طلقت وإلا فلا، ولو قال والله لا أكلمك حنث بقراءة آية أفهمه بها إن لم يقصد القراءة أي بأن قصد الإفهام وحده أو أطلق كما يأتي لأنه كلمه وإن قصد التبرك والقراءة حنث كما يصرح به كلامهم في المحال الأربعة المذكورة لأنهم حرموه على الجنب فجعلوه مع ذلك قرآناً، ويوجه تغليبهم قصد القراءة بأنه اعتضد بكون الأصل في القرآن أنه إنما يؤتى به بقصد القراءة الموضوع هو لها فغلب على قصد التبرك بعروضه ولأنهم لم يبطلوا الصلاة به فيما لو قصد به القراءة والتفهيم لبقاء نظم القرآن على حاله ولا نظر لقصد التفهيم المنضم إلى قصد القراءة لما ذكرته وقالوا في مسألة الحلف بالطلاق المذكورة وإلا فلا كما قدمته عنهم وهو صريح في أنها لو قصدت الجواب والقراءة لم يحنث تغليباً لقصد القراءة لما قدمته أيضاً فلم يصدق عليها أنها أجابته وقالوا في مسألة الحلف على الكلام لو قصد التفهيم والقراءة لم يحنث ووجهه ما صرح به القاضي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/368)
أبو الطيب من أن من حلف لا يتكلم لا يحنث بقراءة القرآن الذي لا يبطل به الصلاة وإن أطلق بأن لم يقصد قراءة ولا تبركاً لم يحنث كما يصرح به كلامهم في المواضع الأربعة المذكورة أيضاً لأنهم أحلوا القراءة للجنب حينئذ، وعللوه بأنه لا يكون قرآناً إلا بالقصد أي عند عروض القرينة الصارفة له عن القرآنية إلى غيرها كالجنابة هنا لا مطلقاً لما يأتي وأبطلوا به الصلاة كما حكاه النووي في بعض كتبه عن الأصحاب وبه يرد على جمع نازعوا فيه، وقد ذكرت شبههم مع ردها أبلغ رد وأوضحه في شرح العباب وعللوه، أعني القائلين بإبطاله بما مر، أنه لا يكون قرآناً إلا بالقصد والقرينة هنا هي الاستئذان مثلاً المقتضى صرف ادخلوها بسلام إلى معنى ما يخاطب به الناس فأشبه كلامهم المباين للقرآن كما هو ظاهر وإليه يرشد خبر مسلم أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ويوافق ذلك ما اقتضاه كلام المنهاج واعتمده جمع من أنه يحنث من حلف لا يكلم زيداً وأتى بآية مفهمة فهم منها زيد مراده بلا قصد فعلم أنهم أثبتوا له مع الإطلاق حكم كلام الآدمي فأبطل الصلاة وجاز للجنب وحنث به الحالف على ترك الكلام واختلف أئمتنا في أن ذلك هل يجري في جميع أجزاء القرآن أو يختص بما يوجد نظمه فيه وخارجه كالبسملة والحمدلة وسبحان الذي سخر لنا هذا إلى آخره وادخلوها بسلام آمنين، ويا يحيى خذ الكتاب بقوّة، دون نحو آية الكرسي وسورة الإخلاص فأكثرهم على الأول وجماعة من محققيهم على الثاني ومال إليه النووي بعد أن قرر أن المذهب الإطلاق كما بينته من كلامه في شرح العباب مع الرد على ابن الرفعة في فرقه بين إطلاق الجنب وإطلاق المصلي ووقع لجمع من أصحابنا أنهم قالوا لا يضر قصد التنبيه وحده بالتسبيح والتكبير والذكر، لأنه موضوع له لا يقبل الصرف عنه بخلاف القرآن فإن لفظه مشترك بين القرآن وكلام الآدميين، فأما حكمهم على جميع لفظ القرآن بأنه(5/369)
مشترك فهو يوافق الأول السابق، وأما إثباتهم ذلك للقرآن دون نحو التسبيح فهو في غاية الغرابة والضعف وعجيب من بعض المتأخرين كيف نقله وأقره مع أن سبحان الله مع قصد التنبيه وحده بمعنى تنبيه، والله أكبر بقصد الإعلام بمعنى ركع الإمام فاستوى القرآن وغيره في التفصيل المذكور، فإن قلت قد تقرر في خبر مسلم السابق: أن القرآن مباين لكلام الناس فكيف جعلتموه مشتركاً كما مر، قلت لم نجعله مشتركاً مطلقاً وإنما نظرنا إلى أن القرآن لما سيق ممن ليس أهلاً للقرآن وهو الجنب أو سيق للتفهيم لغرض آخر جرى عرفاً التفهيم فيه بالقرآن وبغيره وإن كان ذلك التفهيم بالقرآن مذموماً شرعاً وذلك من المصلى والحالف أشبه حينئذ كلام الناس باعتبار هذه القرينة العارضة وإن كان هو في ذاته قرآناً. ألا ترى أن أصحابنا وغيرهم فضلوا عليه الأذكار المطلوبة في محال مخصوصة مع أنه لا أفضل من القرآن إجماعاً وسبب ذلك أنهم لم يفضلوها عليه من حيث الذات بل بواسطة ذلك الأمر العارض الذي طلبه الشارع لغرض آخر فالتفضيل عليه حينئذ ليس من حيث الذات بل من حيث ذلك العارض فكما اتفقوا على التفضيل عليه من الحيثية المذكورة فلذلك قلنا ومن وافقنا من الأئمة إذ التفضيل المذكور ليس من خصوصيات مذهبنا أن القرآن قد يعرض له ما يخرجه عن موضوعه كالقرينة المقتضية عرفاً صرفه إليها وخروجه عن معنى القرآنية إلى معنى ما يتخاطب به فأعطيناه حينئذ حكم كلام الناس وأدرنا عليه تلك الأحكام السابق تقريرها، فإن قلت مر أنهم اتفقوا في حالة قصد التبرك وحده أو التفهيم وحده، واختلفوا في حالة الإطلاق فما سبب ذلك، قلت سببه أن القصد أقوى في الصرف من الإطلاق فانصرف به قطعاً من غير احتياج لقرينة بخلافه عند الإطلاق فإنه تعارض فيه أمران هما رعاية ذاته أو القرينة الصارفة لها عن موضوعها فأكثرهم راعوها لقوتها وبعضهم راعى الذات لأصالتها، فالحاصل أن قصد غير القرآنية كاف وحده في الصرف لا يحتاج(5/370)
إلى قرينة تعضده لما تقرر من قوته وأنه إذا أطلق فإن وجدت قرينة صرفته إليها وأخرجته عن القرآنية وإن لم توجد قرينة بقي على قرآنيته ولم يحتج إلى قصدها، ومن ثم اتفق أئمتنا على أن الشرط في قراءة الفاتحة في الصلاة عدم صرفها عن القراءة إلى غيرها لا قصد نفس القراءة إلا أن عرضت قرينة كان عرض عطاس، فقرأ الفاتحة عقب عطاسه فقرينة ندب قراءتها عقب العطاس أوجبت عدم الاعتداد بها عن قراءة الصلاة إلا أن قصدها، وأما حيث لا قرينة فلا يشترط قصدها كما مر، ومما يؤيد ما مر في قصد التبرك ونحوه قولهم ما كتب من القرآن لقصد التبرك لا تثبت له أحكام القرآن من حرمة مسه على المحدث وتجويزهم الرسم باسم الله في أفخاذ الحيوان مع تمرغها به في النجاسة لأن القصد من كتابته التبرك به وحينئذ فينسلخ عن موضوعه إلى غيره فلم يبال بتنجسه، هذا ملخص ما يتعلق بهذه المسألة وإن كان لبسط الكلام عليها مجال واسع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/371)
وسئل بما صورته أهل مليبار يطلقون بلفظ الطلاق مع أنهم لا يعرفون معناه الأصلي بل يعرفون أنه للفراق بينه وبين زوجته فهل يقع طلاقهم به واشتهر عندهم ألفاظ في الطلاق وليست ترجمة طلاق بل هي أشهر عند عوامهم من لفظ الطلاق لشيوعها وكونها بلغتهم فهل هي من ألفاظ الطلاق الصريحة أو الكناية أو لا؟. فأجاب بقوله: نعم يقع طلاقهم إذ لا معنى مقصوداً من الطلاق إلا وقوع الفراق به المستلزم لحل عصمة النكاح فمعرفتهم لذلك كافية في كونه صريحاً فيقع به من غير نية، وما اشتهر عندهم من الألفاظ المستعملة في الطلاق فإن كان لفظ طلاق أو فراق، أو ما اشتق منهما فهو باق على صراحته أو لفظ كناية مما ذكره الأئمة فهو باق على كونه كناية وإن اشتهر على الأصح إذ مأخذ الصراحة ليس هو الاشتهار خلافاً لجمع من أئمتنا بل مأخذها تكرر اللفظ في الكتاب أو السنة أو مما ذكروا فيه أنه غير كناية فليس بكناية، وإن اشتهر ونوى به الطلاق أو لم يذكروا فيه أنه صريح ولا كناية فهو كناية عملاً باشتهاره فإن للاشتهار تأثيراً في الكناية دون الصريح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما إذا قال الزوج لأجنبي خالعت امرأتي بألف أو بثوبك مثلاً فقال الأجنبي قبلت الخلع ولم يقل بألف عليك هل يصح الخلع؟. فأجاب أما في ثوبك فيكفي قبلت ولا يحتاج لشيء، وأما في الألف فلا بد أن يقول عليك أو ينويه.
وسئل عمن خالع زوجته المصلحة لدنياها لا لدينها ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا كانت محجوراً عليها؟ بسفه بأن بلغت غير مصلحة لدينها أو لدنياها واستمرت على ذلك فإن علق الزوج طلاقها على التزام مال أو براءة منه لم يقع عليه شيء لفساد التزامها وبراءتها وإن لم يعلقه على ذلك وقع رجعياً.(5/372)
وسئل عن شخص طلق زوجته طلقة ثم راجعها ثم التزم منها بالطلاق الثلاث إن تزوّج عليها وبعد مدة من الالتزام قالت له بحضرة شاهدين على ما تشهدوا أني بذلت صداقي على طلاقي ثم قال على ما تشهدوا أنها طالق ثم تزوّج بعد هذا الطلاق فهل الطلقة الثانية رجعية أو في مقابلة البذل فإن قلتم إنها رجعية هل تقع الثلاث التي التزم بها؟. فأجاب بقوله: تقع الثلاث، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن حلف بالطلاق أنه يدفع إلى غريمه إلى أحد عشر يوماً في الشهر دينه، ولفظه: إن جاء اليوم الحادي عشر وما أوفيك فامرأتي طالق فسافر رب الدين قبل الحادي عشر. فأجاب بقوله: نقل الأذرعي في توسطه عن الشيخ أبي علي الفارقي و ابن البرزي وكلاهما من أئمة المذهب أنه أفتى في هذه الصورة بأنه إن أراد بذكر الحادي عشر انتهاء الغاية وتمكن من الإيفاء ولم يوف حنث أو أن الإيفاء يكون في الحادي عشر فسافر رب الدين قبل الحادي عشر ولم يتمكن من الإيفاء فيه ففي حنثه خلاف مشهور وإن كان قد أطلق اليمين فالأولى أن يراجعها اهـ، والأظهر من الخلاف الذي ذكره عدم الحنث ومقتضى قوله الأولى أن يراجعها أنه لا وقوع في حال الإطلاق وهو محتمل للشك وإن كان المتبادر من تلك اليمين أنهم إنما يريدون انتهاء الغاية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/373)
وسئل عن رجل حلف بالطلاق أنه يسافر في شهره هذا أو يومه إلى المحل الفلاني فإذا فات الوقت ولم يسافر إلى المحل المذكور هل تطلق زوجته عليه من آخر يومه أو شهره فإذا بقي من الوقت المحلوف به ساعة مثلاً وخرج من المحل الذي وقع فيه الحلف إلى خارج العمران ولو ثلاث خطوات بنية السفر إلى المحلوف عليه ورجع إليه هل يكفي ويسلم من الحنث أم لا بد من السفر إلى المحل المذكور أو إلى مسافة معلومة كمسافة القصر أو دونها؟. فأجاب بقوله: إذا فوت السفر في الزمن المحلوف عليه باختياره حنث بمضي زمن إمكان السفر من أول ذلك الزمن أخذاً من كلام البغوي والإمام ولا بد من السفر إلى المحل المذكور قبل مضي اليوم أو الشهر المذكور في السؤال وإلا حنث إذا لم يكن له عذر.
وسئل عمن قال إليّ أبرأتني زوجتي من كذا فهي طالق فأبرأته هل يقع؟. فأجاب بقوله: إن كان من قوم اضطردت لغتهم باستعمال إلى كان فالذي يتجه أنه يقع بائناً بشرطه آخذاً مما قالوه عن البغداديين في أنت طالق لا دخلت الدار أنه إن كانت لغته أن لا كان تعليقاً بالدخول فلا يقع قبله.(5/374)
وسئل عن كلام الشيخ ولي الدين أبي زرعة في مسألة قول الزوج أبرئيني وأنا أطلقك تفضلوا ببيانه وما الذي تقولونه في قوله أبرئيني من مهرك وأنت طالق وفيما لو قالت زوجته طرح الله لك عليّ تمام براءتي وقصدت بالتمام ثلاثاً فأوقع واحدة فقط ولكم في بعض الفتاوى كالفقيه أبي مخرمة في فتاويه كلام في المسألة بينوا حاصله مع زيادة إيضاح وهل المسألة تشبه قولهم والعبارة للإرشاد أو ثلاثاً بألف فطلق واحدة فثلاثة وكلامهم وكلام أبي مخرمة لا يوافق ذلك. فأجاب بقوله: حاصل ما حررته في كتابي إيضاح المقرر من أحكام المحرر في نحو: أبرئيني وأنا أطلقك فأبرأته فطلقها بأن قال أنت طالق، أو إن صحت براءتك فأنت طالق أو طلاقك بصحة براءتك أنه رجعي في الأولى سواء صحت براءتها أم لا؟ وكذا في الأخيرتين لكن إن صحت براءتها ومحل كونه رجعياً في الأولى ما لم يرد جعل الطلاق في مقابلة البراءة أي كونها سبباً له، فإن أراد ذلك لم تطلق إلا إن صحت البراءة، وحينئذ يقع رجعياً بخلافه فيما عدا الأخير لأن الصادر منه الوعد بالطلاق إذا أبرأته، والحاصل منها تنجيز البراءة من غير أن يقابلها بعوض فصحت وتخير بين الطلاق وعدمه فإذا طلق بعد تنجيزها الإبراء وعدم إتيانها بما يشعر بالعوضية بوجه كان طلاقه لا في مقابلة شيء البتة ولا نظر لقوله إن صحت براءتك تكوني طالقاً أو نحوه لأنه مجرد تعليق على صفة فأشبه أن صح بيعك فأنت طالق، وبحث فيه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120(5/375)
الرافعي بما أجبت عنه في الكتاب المذكور فوقع رجعياً لا بائناً نعم إن فهمت من كلامه الوعد بإيقاع الطلاق في مقابلة الإبراء فقصدت جعل الإبراء في مقابلته احتمل أخذاً من كلام ابن الصلاح وقوعه بائناً إن صح الإبراء وإلا فبمهر المثل سواء وافقها الزوج على إرادة ذلك أم لا، واحتمل وهو الأوجه عدم النظر لقصدها هنا وفارق قولها طلقني وأنت بريء من صداقي الذي قاس عليه الرافعي رحمة الله تعالى عليه بحثه السابق بان وأنت بريء من صداقي شرط يقتضي التزام عوض في مقابلة الطلاق فلذلك وقع بائناً بالبراءة إن صحت وإلا فبمهر المثل، وأما لفظها هنا فليس فيه ما يدل على شرطية ولا التزم عوض فخلا عن المعاوضة لفظاً وتقديراً وعند خلو لفظ الزوجة عنها كذلك لا تمكن البينونة ومجرد قصدها العوضية مع عدم دلالة لفظها عليها لا يؤثر وإنما أثرت نية الزوج فيما مر آنفاً، لأن طلاقه بعد الإبراء محتمل لترتيبه عليه ترتيب الجزاء على شرطه فإذا أراد ذلك أثر الوقوع بائناً كما مر، وفي هذه الصورة ونظائرها يصح الإبراء إذا وجدت شروطه وإن لم يقع طلاق ولو كانت إنما أبرأت طمعاً في حصوله كما بينته في الكتاب المذكور، ويؤيد ما ذكرته أول الجواب إفتاء بعض مشايخنا فيمن قالت له زوجته طلقني فقال لها أبرئيني وأنا أطلقك فأبرأته جاهلة بقدر المبرأ منه فقال لها أنت طالق ثلاثاً ظاناً صحة البراء بأنه يقع عليه الطلاق الثلاث ولا ينفعه ظنه المذكور وإن كان الظن المذكور نافعاً في غير هذه المسألة اهـ. وأما المسألة الثانية، أعني قوله ابرئيني من مهرك وأنت طالق، فالذي حررته في الكتاب السابق ذكره في نظيرتها وهي قوله أنت طالق ثلاثاً وتمام طلاقك براءتي إن هذا بمنزلة الشرط فيتوقف الطلاق على البراءة كما نقله الأصبحي عن بعض مشايخه سواء أنوى ذلك أم أطلق خلافاً لإطلاق الأصبحي مرة كصاحب البيان أنه يقع حالاً ولقوله آخراً إن لم ينو به الشرط وقع حالاً، وإن نوى به تعليق(5/376)
الطلاق بالبراءة وصادفته الزوجة تعلق بها ولم يقع إلا بوجودها على الأصح اهـ. ووجه ما ذكرته أن هذا اللفظ لا يتبادر منه غير التعليق فلم يحتج لنية التعليق بل يتعلق بالبراءة الصحيحة ولو في حال الإطلاق بخلاف ما إذا نوى تنجيز الطلاق فإنه يقع حالاً وإذا تقرر هذا في صورة صاحب البيان والأصبحي فليجر نظيره في صورة السؤال، إذ لا فارق بينهما في أن المتبادر من كل منهما تعليق الطلاق بالبراءة فلا يقع إلا بوجودها صحيحة ما لم ينو التنجيز وعدم تعلقه بها. وأما المسألة الثالثة، وهي قول الزوجة طرح الله تعالى لك على تمام براءتي وقصدت بالتمام الطلاق ثلاثاً فأوقع واحدة فقط، فجوابها أن الظاهر أنه لا يقع شيء لأن الطرح بمعنى الإبراء واستعمال تمام براءتها في بينونتها الكبرى منه صحيح وحينئذ فهي معلقة للإبراء مطلقاً أو مما نوته وحدها أو معه من المهر أو غيره على إيقاع الطلاق الثلاث فإذا طلق واحدة لم يأت بما شرطته وهو الثلاث فلم يبرأ من شيء من المهر على أنه لو أتى بالثلاث لم يبرأ من المهر أيضاً لأن الإبراء لا يصح تعليقه والواحدة التي أوقعها تكون رجعية ما لم ينو جعلها في مقابلة البراءة من مهرها فلا يقع شيء وبهذا التوجيه الذي ذكرته اتضح الفرق بين هذه وصورة الإرشاد التي في السؤال وإيضاحه أن الذي في صورة الإرشاد أن الألف عوض للثلاث وقضية العوضية توزيع كل على الآخر فيخص كل طلقة ثلث، فإذا طلق واحدة وقع بما يخصها بحسب التوزيع وهو الثلث والذي في صورتنا تعليق الإبراء من المهر أو غيره مما نوياه على الثلاث فإذا طلق واحدة لم يأت بالمعلق عليه، فالحاصل أن الوقوع في التعليق يتأثر بما لا يتأثر به الوقوع في المعاوضة، ألا ترى أنه لو قال لنحو سفيهة إن أبرأتني من مهرك أو دينك فأنت طالق، فقالت أبرأتك لم يقع شيء أصلاً لأن الصفة المعلق عليها وهو الإبراء المنصرف شرعاً وعرفاً إلى الإبراء الصحيح دون الفاسد لم توجد، ولو قال لنحو(5/377)
السفيهة خالعتك على ألف فإن قبلت وقع رجعياً ولا مال وإن لم تقبل لم يقع شيء وفرقوا بأنه لا تعليق هنا وإنما الصيغة تقتضي القبول فاشترط لوقوع الطلاق على المعتمد القبول دون حصول الألف وإذا لم يحصل فلا بينونة لأنها لا تكون إلا بعوض، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 120
باب الطلاق
وسئل ما قولكم رضي الله تعالى عنكم ونفع بعلومكم في جوابكم السابق على المسألة لا بد في الشهادة بالإكراه من التفصيل إلى آخر جوابكم فما حد الإكراه؟ فإنا رأينا للأئمة كلاماً لم نفهم الراجح منه فاكتبوا لنا ما هو الراجح عندكم من الإكراه. فأجاب: بأن حد الإكراه أن يهدد قادر عليه بعقاب عاجل لأجله يؤثر العاقل الإقدام على ما أكره عليه بشرط أن يغلب على ظنه أنه يحقق ما هدد به إن امتنع من ذلك وأن يعجز عن الدفع بنحو هرب أو مقاومة أو استغاثة، ولا يشترط تنجيز العاجل بل يكفي التوعد لفظاً وخرج به الآجل نحو: لأضربنك غداً فلا يحصل به الإكراه ويختلف باختلاف المكره والمكره عليه فقد يكون الشيء إكراهاً في شخص أو فعل دون آخر ومما يتحقق به الإكراه على الطلاق ونحوه دون القتل ونحوه التخويف بنحو حبس طويل أو صفع عند الناس أو تسويد وجه أو طواف في سوق لذي مروءة أو إتلاف ولد أو والد أو مال يضيق على المكره، وهذا ما صححه في الروضة لكن قال في بعض تفصيله نظر وهو كما قال، ومن ثم صوّب الزركشي ما حكى عن النص وصححه في المنهاج كأصله، وقال في الشرحين: أنه الأرجح عند الأئمة أنه يحصل بمحذور من قتل أو قطع أو أخذ مال أو إتلافه أو ضرب أو حبس أو استخفاف، وتختلف الثلاثة الأخيرة باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، ولا يختلف به ما قبلها. نعم الأوجه ما اختاره الروياني وجزم به جمع متأخرون أنه يختلف به أخذ المال أيضاً ولا يحصل الإكراه بنحو طلق زوجتك مثلاً وإلا قتلت نفسي أو قتلتك قصاصاً(5/378)
ولو قال له اللصوص لا نخليك حتى تحلف بالطلاق إنك لا تخبر بنا فحلف لهم بذلك ثم أخبر بهم لم يحنث لأنهم أكرهوه على الحلف بخلاف من أكرهه ظالم على الدلالة على زيد أو ماله، وقد أنكر معرفة محله فلم يخله حتى يحلف بالطلاق فحلف به كاذباً أنه لا يعلم فإنه يقع عليه الطلاق لأنه في الحقيقة لم يكره على الطلاق بل خيّر بينه وبين الدلالة، واعلم أن من طلق أو باع أو تصرف ثم ادعى أنه كان مكرهاً فإن أثبت أنه كان ثم قرينة كحبس أو ترسيم أو كونه في دار ظالم صدق بيمينه وبطلت تصرفاته الواقعة مع قيام تلك القرينة عملاً بها وإن لم يثبت أن هناك قرينة لم يصدق، نعم له طلب يمين من أنكر كونه مكرهاً بأنه لا يعلم ذلك فإن حلف كذلك فذاك وإلا حلف هو وبطل تصرفه أيضاً والمسألة المشار إليها في السؤال ستأتي أوائل الدعاوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عن شخص قال لزوجته إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق ثلاثاً ثم إنه غاب عنها مدة وأشهد شاهدين بأنه أذن لها في الخروج والحال أنها خرجت قبل بلوغ الإذن لها فهل يقع الطلاق لصدق خروجها بغير إذنه أو لا لخروجها بعد الإذن منه وإن لم يبلغها؟. فأجاب بقوله: إن أذن لها ثم خرجت لم يقع عليه طلاق وإن لم تعلم بوقوع الإذن منه على الأصح لأن المعلق عليه الخروج من غير إذن ولم يوجد، وأما علمها بالإذن فليس معلقاً عليه لا لفظاً ولا عرفاً فلم يشترط وجوده، نعم إن أراد التعليق عليه وقع الطلاق الثلاث، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/379)
وسئل عما لو قالت امرأة لزوجها طرح الله لك على تمام طلاقي ناوية الإبراء فقال أنت طالق هل تطلق ثلاثاً أم واحدة أم تستفسر عن مرادها بقولها تمام فإن أرادت بقولها تمام ثلاثاً أو دونه نزل كلامها عليه، وإن أطلقت أو قالت لم أرد إلا أصل الطلاق لا عدد أنزل على ما نواه أو صرح به، وهل يستفسر الزوج أو ينزل على جوابها؟. فأجاب بأنه متى أراد بقوله أنت طالق الابتداء لم يقع عليه إلا طلقة واحدة وإن جعله في مقابلة إبرائها، فإن صح إبراؤها بأن وجدت فيه شروط البراءة الصحيحة وقع ما نواه من واحدة أو أكثر فإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة فقط ولا أثر لنيتها الثلاث حتى تطلق منه حينئذ ثلاثاً وإن لم ينوها وإنما تؤثر نيتها لهن بالنسبة لعدم البراءة إذا لم يوجد هن لأنها إنما أبرأت بشرط وهو الثلاث فحيث لم يوجد ذلك الشرط لم يصح الإبراء والحاصل أنها إذا نوت الثلاث فإن نواها هو أيضاً برىء ووقعت وإن لم ينوها بأن أطلق أو أراد واحدة فإن نوى بقوله أنت طالق أنه في مقابلة إبرائها لم يقع عليه شيء لأن إبراءها غير صحيح حينئذ، لأنه لم يوجد شرطه وهو الثلاث وكذا إن لم ينو به ابتداء ولا أنه في مقابلة الإبراء، لأن لفظه دال على أن في مقابلة الإبراء وإن لم ينو ذلك، وأما إذا نوى الابتداء ولم ينو الثلاث فإنه يقع عليه الطلاق ولا يبرأ فعلم أن نيتها للثلاث لا توجب طلاقها ثلاثاً إذا لم ينوهن هو لأن المدار عليها إنما هو فيما يختص بها وهو البراءة وما يتبعها كاشتراطها كونها في مقابلة الثلاث المقتضي لعدم البراءة إذا لم توجد الثلاث، لأن ذلك موكول إليه هو لا إليها فإن نواهن وقعن وإلا فلا وليست كمن قال لآخر طلقت امرأتك حتى يأتي هنا التفصيل ثم لوضوح الفرق بينهما، لأن السؤال هنا معاد في الجواب فنظر لحال السائل، وأما في مسألتنا فليس فيها سؤال وإنما الذي فيها معاوضة فإن صحت ترتب حكمها عليها وإلا فلا فلذلك لم ينظر لنيتها بالنسبة لما مر.(5/380)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل ما حكم طلاق الدور وكيف صيغة وقوع الطلاق عند من يصححه؟. فأجاب بأن طلاق الدور واقع ولا يمنعه الدور على المعتمد والقول بصحة الدور بالغ الأئمة في رده وتزييفه بل بالغ بعض الحنفية في الشناعة عليه، وقال إنه يشبه مذهب النصارى في انسداد باب الطلاق وكفاك في المبالغة في بطلانها ابن عبد السلام و ابن دقيق العيد و الزركشي فإنهم بالغوا في ذلك وفي أنه لا يجوز لأحد تقليد القائل به، وحينئذ فلا حاجة بنا إلى الكلام فيه على كيفية منعه وقوع الطلاق عند من يصححه لأنا نرى فساد هذه المقالة وعدم جواز تقليدها فكيف نفرع عليها.
وسئل فيمن قال لزوجته أنت طال بالترخيم ما الراجح من الخلاف في المسألة الطلاق أو عدمه؟. فأجاب بقوله المعتمد فيها وقوع الطلاق ومن ثم جزمت به في شرح الإرشاد لكني قلت فيه أي ممن عرفه أي الترخيم كما هو ظاهر اهـ. ووجهه أن شرط تأثير الصريح أن يصدر ممن عرف معناه فطال بالترخيم إنما يؤثر ممن عرف أن أصله طالق، وإنما حذف آخره ترخيماً تخفيفاً في اللفظ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في رجل قالت له زوجته طلقني فقال أبرئيني فأبرأته فقال لها فلانة بنت فلان وسماها باسمها واسم والدها تحرم عليّ تحل لغيري فهل يقع عليه طلقة واحدة أو ثلاث طلقات؟. فأجاب بقوله: هذا كناية فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا وإذا نوى الطلاق فإن نوى واحدة أو أطلق وقعت واحدة وإن نوى ثنتين أو ثلاثاً وقع ما نواه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/381)
وسئل في رجل تشاجر هو وزوجته فسألها البراءة من صداقها ليطلقها فتبرئه فيقول مثلاً أبرئيني فأطلقك فتقول أبرأتك أو أبرأك الله منجزة من غير تعليق وكذلك الزوج يقول أنت طالق بلفظ التنجيز وإذا سئل هل طلقت أقر بطلاقها ثلاثاً ظاناً أنها طلقت وإن ذمته خلصت من الصداق وإن قالت لا أعرف صداقي قال فإني لم أطلق إلا طمعاً في البراءة، وإذا أقر بطلاقها ثلاثاً ثم قالت لم أعلم قدر صداقي حينئذ تريد الرجوع إلى الزوج، فقال الزوج إذا لم تصح البراءة لم يقع الطلاق لأني ما طلقتها إلا طمعاً في براءة ذمتي فهل يقبل قوله أم لا؟ لأن الزوج متهم في حق الله سبحانه وتعالى، ولأن الإمام ولي الدين العراقي ذكر في فتاويه أن من نجز تصرفاً ثم قال أردت تعليقه لا يقبل ظاهراً ولا باطناً فيما يقبل التعليق، ونقل الشيخان عن المتولي أنه لو أقر بطلاق امرأة ثلاثاً أن الصحيح يلزمه ما أقر به فما الصحيح من ذلك هل هذه مثل ما تقدم أم لا؟ فقد أجاب على هذه المسألة بعينها ما هذا نصه الشيخ علي بن ناصر فقال: اختلفت أنظار الناس في مثل هذه المسألة فأفتى جماعة فيها بوقوع الطلاق ثلاثاً، لأنه نجز الطلاق وأطلقه ولم يقيده بصحة الإبراء وإقراره بعد ذلك مؤكد له، وأفتى جماعة بعدم وقوع الطلاق لعدم صحة البراءة لأنه إنما طلق طمعاً في البراءة فإذا لم يبرأ لم يقع وإقراره بعد ذلك غير معتبر، لأن الظاهر أنه إنما أقر بذلك ظناً منه أن الطلاق وقع عليه فلا يعتد به. قال: وهذا هو الظاهر الصحيح وليست هذه المسألة مثل ما نقل من كونه لم يقبل لكونه خلاف الظاهر وما قاله في المسألة يوافق الظاهر، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. جوابه بحروفه فما المعتمد مما ذكر في السؤال فإن الحاجة داعية إليه، وأما ما في فتاوى الولي العراقي أنها لو قالت طلقني فقال إن أبرأتني من صداقك وهو خمسمائة طلقتك فقالت أبرأتك من الخمسمائة فإنه يبرأ من ذلك سواء أطلق أم لا؟ ولا يقبل قوله أردت التعليق(5/382)
ومن نجز تصرفاً، ثم قال أردت التعليق لا يقبل منه ظاهراً ولا باطناً هذا فيما يقبل التعليق والإبراء لا يقبله، إذ لا يصح إلا منجزاً فهل هذا يخالف ما في فتاوى الأصبحي عن الإمام ابن عجيل و الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي من أنه إذا قال أبرئيني وأنا أعطيك كذا فأبرأته ثم امتنع من الوفاء لم تصح البراءة أم لا يخالفه فممن أجاب على هذه السيد الجليل
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/383)
الشريف السمهودي فقال: إن المحكي عن ابن عجيل و الحضرمي منظور فيه والأقرب أنه من قبيل استدعاء البراءة بثواب معلوم فيلحق بالهبة بثواب معلوم ومعنى قولها في جوابه أبرأتك أي بالذي ذكرت إعطاءه لا أنها أبرأته مجاناً وفى بما وعد أم لم يف بدلالة السياق، فتصح البراءة ويلزمه ما سمى وليس له الامتناع من دفع ما سماه عوضاً من المبرأ منه فيتجه حينئذ عدم صحة البراءة، ومسألة الولي العراقي ليست نظيراً لهذه المسألة وإنما نظيرها أن يقول الزوج أبرئيني من صداقك وأنا أطلقك في نظير البراءة فتقول أبرأتك قاصدة جعل البراءة عوضاً غير أنها حذفت الجار والمجرور لدلالة السياق عليه، فيقول الزوج أنت طالق قاصداً ذلك وقد أوضحنا ذلك بالرسالة الموسومة بالمحرر من الآراء في حكم الطلاق بالإبراء أن الحكم في ذلك صحة الإبراء ووقوع الطلاق بائناً عند العلم بالمبرأ منه وإلا فلا طلاق ولا براءة، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. لفظه بحروفه هنا ثم تعقبها في هذه المسألة المشار إليها هنا وقد سئل رحمه الله تعالى عمن قال لزوجته أبرئيني وأطلقك فقالت أبرأتك فقال فأنت طالق أو أنت طالق ثلاثاً فبان أن القيد الذي أبرأت منه غير معلوم فما يكون الحكم في ذلك فأجاب رحمه الله تعالى فقال المتبادر من هذا اللفظ موضوعه أن الزوج وعدها بالطلاق عند حصول البراءة من غير أن يقابل بها الطلاق وأن الزوج ظن صحتها فتبرع بالطلاق الثلاث ولم يجعل ذلك في مقابلة البراءة لسبقها على طلاقه منجزة بحيث لو صحت وامتنع من الطلاق لم يجبر عليه مع حصولها له فطلاقه واقع، والحالة هذه وإن لم تصح البراءة لعدم علم الزوجة بما أبرأت منه هذا ما يقتضيه وضع ما ذكر ذلك هذا آخر كلامه بحروفه في هذه المسألة، وقد سئل الشيخ سراج الدين البلقيني بنحو هذا فيمن سأل امرأته الإبراء من صداقها ليطلقها فتبرئه فيقول لها طلاقك ببراءتك وبعضهم يقول بصحة براءتك وجميع أهل الحجاز يستعملون ذلك فهل يكون(5/384)
طلاقاً بائناً أو رجعياً أو لا يقع بهذا اللفظ، فإن أوقعنا به الطلاق وكان الإبراء فاسداً فما يكون الحكم في ذلك. وقول القاضي حسين رحمه الله تعالى في فتاويه لو قال لها زوجها إن أبرأتني فأنت طالق فإذا أبرأته عن الصداق يقع الطلاق رجعياً وإلا فلا فهل هو كما قال؟ أجاب الشيخ المذكور فقال إن قول الزوج طلاقك ببراءتك أو بصحة براءتك إن قصد به تعليق الطلاق على
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/385)
صحة ما جرى من إبراء المرأة فينظر إن صح الإبراء لوجود أهلية المرأة لذلك وعلمها بما أبرأت منه فإن الطلاق يقع رجعياً لأن الإبراء قد صدر من المرأة صحيحاً ولم يقابل الزوج طلاقه بعوض تحقيقي ولا تقديري، وإنما علقه على مجرد صفة فأشبه ما لو صدر منها عقد بيع أو غيره، فقال لها الزوج إن صح العقد الصادر منك فأنت طالق ولا توقف في أن مثل هذا يقع رجعياً عند وجود الصحة وإن لم يصح الإبراء منها لم يصح الطلاق لعدم وجود الصفة وإن لم يقصد الزوج بقوله طلاقك ببراءتك أو بصحة براءتك تعليق الطلاق على صحة الإبراء وإنما قصد تنجيز طلاقها مقابل ما صدر منها فإن الطلاق يقع رجعياً سواء صح الإبراء أم لم يصح لأنه لم يوجد تعليق الطلاق على الصحة وإنما صدر تنجيزه فينفذ ويلغو قول الزوج ببراءتك أو بصحة براءتك وإن أطلق ولم يقصد تعليقاً ولا تنجيزاً، فالظاهر حمله على التعليق وما ذكر من الفتاوى المختلفة فهو غير معتمد، أما وقوع الطلاق بائناً فلا سبيل إليه بعد صدور الإبراء من المرأة صحيحاً إذ لا عوض حينئذ يقتضي البينونة، وأما وقوع الطلاق رجعياً فهذا لا يطلق القول به بل ينظر في قصد التعليق وقصد التنجيز وعدم القصد ويعمل بما قررناه، وأما إطلاق القول بعدم الوقوع فغير معتمد والمعتمد ما قررناه، وأما ما ذكر في السؤال من أنا إذا أوقعنا الطلاق بهذا الإبراء فكان الإبراء فاسداً ما حكمه جوابه أنه إن قصد التعليق كما قررنا فلا يقع عليه شيء عند عدم صحة الإبراء لعدم وجود الصفة وإن قصد التنجيز وقع الطلاق ولا أثر لفساد الإبراء وإن أطلق فإنه يحمل على التعليق فلا يقع شيء لعدم وجود الصفة ولو كان ما يحكيه القاضي حسين في فتاويه معتمداً لكان يلزم أن من باع متاعه بالدين الذي عليه لا يصح لأنه لم يملك على المشتري عوضاً تحقيقاً ولما اتفقت الطرق المشهورة على صحة هذا البيع للتقدير كذلك يكون الطلاق بعوض تقديري فيقع بائناً وإنما قلت اتفقت الطرق(5/386)
المشهورة على صحة البيع، لأن في شرح الرافعي والروضة في كتاب الضمان فرع باع الضامن ثوبه بالدين الذي عليه هل يصح البيع فيه وجهان ولم يذكر الرافعي ولا صاحب الروضة علة هذا الوجه الصائر إلى عدم صحة البيع وتوجيهه ما ذكرناه من أنه لم يوجد في البيع عوض تحقيقي وهذا التخيل فظهر من ذلك أن المعاوضات تقع بعوض تحقيقي وبعوض تقديري وكأن الصداق في ذمة الزوج قد تعوض عن الطلاق بسقوطه عنه وهذا عوض تقديري فوقع فيه الطلاق بائناً على المذهب، ومتى لم يصح الإبراء لم يقع الطلاق هنا بلا خلاف، ويشترط هنا علم الزوجين بالمقدار الذي علق الطلاق على الإبراء منه، لأن فيه المعاوضة هذا جواب الشيخ سراج الدين البلقيني فإذا كان أهل هذه الشاغرة لا يعرفون إلا أنه إذا قال الزوج لزوجته أبرئيني من صداقك أو أبرئيني وفي نيته من الصداق المذكور فقالت أبرأك الله أو أبرأتك، فقال أنت طالق ثلاثاً، وفي عرفهم أنها إذا أبرأته صح طلاقها، وإذا قالت لم أعرف مهري وادعت فساد البراءة رجع إلى ما في نيته من أنه إنما طلقها طمعاً في براءة ذمته، فإذا ادعت فساد البراءة وأسندت قولها إلى مستند صحيح هل يقبل قولها مثال إنكارها لصحة البراءة أن يزوجها الولي وهي بعيدة عن إيجاب النكاح وتكون هي قد أذنت في تزويجها بحضرة شاهدين وأطلقت الوكالة ولم تذكر مهراً وهل نأخذ بقول الزوج إني لم أطلقها ثلاثاً إلا ظاناً أن ذمتي خلصت من الصداق أو لم أقربه إلا أني طمعت في براءة ذمتي من الصداق فهل إذا كان الزوج عامياً لا يعرف شيئاً وكان ممن يعتقد أنه يجتنب الكبائر فهل يدين سواء كان عدلاً أو متوسطاً أو عامياً لا يعرف قواعد الشرع وإذا قلتم بوقوع الطلاق فذاك وإن قلتم لا يقع عند الجهالة بالمبرأ منه كما قاله السيد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/387)
السمهودي فهل يحلفان أعني الزوج والزوجة، اجمعوا لنا في هذه المسألة الصحيح الذي عليه العمل والفتوى؟ وهل يجوز للذي يظن أن عنده بعض نظر في كلام العلماء أنه يفتي بما هو مقلد فيه فإني نظرت للقفال في هذا أنه يجوز ذلك فما هو المعتمد في ذلك إذا كان يعرفه معرفة جازمة؟ وهو أعني المقلد يتبع في ذلك تصحيح الشيخين . فأجاب بقوله: بأن الذي أفتيت به غير مرة فيمن سألته زوجته الطلاق فقال لها أبرئيني فقالت له أبرأتك أو أبرأك الله، فقال أنت طالق إنه إن أراد بقوله أنت طالق إن ذلك في مقابلة تلفظها بالإبراء أو أطلق فلم يرد شيئاً وقع الطلاق وإن أراد أنه في مقابلة كونه برىء مما طلبه منها بقوله أبرئيني من دينك مثلاً وعلما به وكانت رشيدة مالكة لكل الدين بأن لم يمض عليه وهو في ذمته حول أو أحوال أو كان دون نصاب زكوي وقع الطلاق أيضاً وإن اختل شرط من ذلك كأن جهلته هي أو هو أو كانت سفيهة بأن بلغت غير صالحة لدينها ومالها واستمرت كذلك أو ملك غيرها بعض الدين كأن وجبت فيه الزكاة وهو في ذمة الزوج، فإن مستحقي الزكاة يملكون بقدرها من الدين الذي في ذمته فإذا وجد شيء من ذلك لم يقع عليه طلاق فيجري هذا التفصيل في صورة السائل التي ذكرها في أول السؤال بقوله فيقول مثلاً أبرئيني وأطلقك فتقول أبرأتك أو أبرأك الله الخ، وفي آخر السؤال بقوله فإذا كان أهل هذه الشاغرة لا يعرفون الخ، ولا ينافي ما تقرر قول أبي زرعة من نجز تصرفاً الخ، لأن محله في غير هذه الصورة ونظائرها مما قامت به القرينة على صدق ما ادعاه الزوج بدليل كلام أبي زرعة نفسه في نظيرتها الآتية وإلحاق أبرأك الله بأبرأتك في كونه صريحاً عن الإبراء لا كناية هو المعتمد في الروضة في باب الطلاق خلافاً لأبي زرعة وغيره كطلقك الله أو أعتقك الله فإن الأول صريح في الطلاق والثاني صريح في العتق وحيث لم يقع عليه الطلاق في صورة السؤال بأن أراد طلاقه في مقابلة البراءة ولم توجد جميع(5/388)
شروطها المذكورة فأقر بأنه وقع عليه الطلاق ظاناً أن طلاقه الأوّل وقع لم يأخذ بهذا الإقرار فيما يظهر ترجيحه من احتمالين للزركشي لأن قرينة الحال مشعرة بأنه إنما أراد الإخبار بما وقع ولم يقع عليه شيء فلم يؤاخذ بهذا الإقرار عملاً بالقرينة الصارفة له عن حقيقته، ويدل لذلك قول أئمتنا لو أدى المكاتب النجم الأخير وكان حراماً ولم يكن يعلم السيد به فقال له اذهب فأنت حر لم يعتق بقوله أنت حر على الأصح لأن قرينة الحال دلت على إرادة الإخبار بما وقع لظنه صحة العوض وقولهم لو قال أنت طالق، وقال أردت الإطلاق من وثاق لم يقبل إلا إن كان يحلها منه للقرينة الظاهرة وإفتاء
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/389)
ابن الصلاح فيمن طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم جاء بها لمن يكتب له ذلك فقال له الكاتب وهو لا يعلم تقدم الطلقة قل خالعتك على باقي صداقك، فقالت قبلت وهو يريد الطلقة الماضية لا إنشاء طلقة أخرى بأن الخلع باطل وله مراجعتها في العدة والقول قوله إن الخلع وقع كذلك اهـ، ولا ينافي ما قررته في هذه الصورة ما ذكر في السؤال عن الشيخين عن المتولي لأن محله في غير هذه الصورة وأمثالها كما هو جلي من كلامهم الذي ذكرته، وقول السائل ثم قالت لم أعلم قدر صداقي إلى قوله لأن الزوج متهم في حقوق الله سبحانه وتعالى يجاب عنه بأنه إنما يكون متهماً إن لو تحققنا وقوع الطلاق ثم ادعى ما يرفعه كأن طلقها ثلاثاً، ثم ادعى فساد النكاح حتى لا يقع الطلاق فلا يحتاج إلى محلل وهنا ليس كذلك فإنا لم نتحقق وقوع الطلاق إلا إذا علمنا أنهما يعلمان قدر المبرأ منه، وأما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل إلى الوقوع إلا بعد اعترافهما بأنهما يعلمانه فحيث اعترفا أو أحدهما بعدم العلم فلا وقوع لأن ذلك إنما يعلم من جهتهما هذا عند اتفاقهما على عدم علمهما أو علم أحدهما، أما لو اختلفا بأن ادعت العلم وأنكر فالراجح على ما قاله الزركشي تصديق مدعي الصحة فلو قالت كنت جاهلة وقال بل عالمة صدق بيمينه وبرىء من الصداق وبانت منه لكن ذكر فيه الغزي تفصيلاً وهو أن الأب إن زوجها إجباراً أو وهي صغيرة صدقت بيمينها أنها لا تعلم قدره فلا تصح البراءة وإن كانت حين العقد بالغة عاقلة صدق الزوج بيمينه في علمها بقدره حين أبرأته لأن الصغيرة والمجبرة يعقد عليها بغير علمها بالصداق بخلاف الكبيرة. قال الغزي : وهذا واضح في الثيب، أما البكر المجبرة فينبغي أن الحال إن دل على علمها بالصداق لم تصدق هي وإلا صدقت اهـ، وبما قررته يعلم الجواب عن قول السائل حفظه الله تعالى ووفقه وأحيا بعلى همته ما اندرس من معالم العلوم آخر السؤال فإذا كان أهل هذه الشاغرة لا يعرفون إلى آخره بما حاصله(5/390)
أنها إذا ادعت الجهل بما أبرأت منه وادعى هو أنه لم يطلقها إلا طمعاً في البراءة قبل منهما فلا يقع عليه حينئذ طلاق، وإن كان فاسقاً فإن ادعى عليها بين يدي حاكم أنها تعلم ذلك وأنه لم يطلقها إلا طمعاً حلفهما الحاكم على ذلك، وأما ما أفتى به أبو زرعة من أنها لو قالت فقال إن أبرأتني إلى آخر ما ذكره السائل عنه فصحيح مأخوذ من كلام الشيخين وغيرهما تبعاً لما في فتاوى القاضي ولنص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/391)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على ما يؤخذ منه ذلك وإنما لم تقبل هنا إرادتها التعليق، لأن الصورة كما هو ظاهر أن الزوج خالعها وظاهر اللفظ صريح في دعواه فصدق هو دونها، وأما ما أفتى به ابن عجيل و الحضرمي مما ذكره السائل عنهما فهو شيء انفردا به على أنه لا يتمشى على قواعد أصحابنا وإنما الذي يقتضيه كلامهم أنها متى قالت له أبرأتك ووجدت فيها شروط البراءة برىء، وقوله وأنا أعطيك كذا وعد لا يلزم فإذا امتنع من الوفاء لم يلزمه الوفاء به والبراءة باقية بحالها، وقول السيد إنه من قبيل استدعاء البراءة بثواب معلوم إلى آخر ما ذكره عنه السائل فيه نظر ظاهر، لأن ذلك لا يتمشى إلا إذا عبر بقوله ولك كذا، وقلنا إن الإبراء محض تمليك وليس كذلك كما في الروضة في باب الرجعة من أنه ليس محض تمليك ولا محض إسقاط بل فيه شائبة من كل وقد يغلبون شائبة التمليك وهو الأكثر وقد يغلبون شائبة الإسقاط فإذا نظرنا إلى أنه إسقاط أو فيه شائبة لم يصح أن يلحق بالهبة بثواب معلوم خلافاً لما ذكره السيد فالوجه في صورة السؤال التي فيها وأعطيك كذا صحة البراءة وعدم لزوم الوفاء سواء أذكر عوضاً صحيحاً أو فاسداً والأوجه في الصورة التي ذكرتها وهي ولك على كذا أنه كذلك نظر الشائبة الإسقاط، وقول السيد أن معنى قولها أبرأتك أي بالذي ذكرت الخ ممنوع وعلى تسليمه فالبطلان جاء إما من قوله في الأولى وأعطيك لأنه صريح في الوعد فلا يصلح للإلزام، وأما نظر الشائبة الإسقاط وإن قال على أن لك على كذا في الثانية، وقول السيد ومسألة الولي العراقي ليست نظيرة لهذه المسألة وإنما نظيرتها الخ صحيح، وأما ما ذكره السائل عنه من إفتائه فيمن قال لزوجته أبرئيني وأطلقك الخ، بقوله المتبادر من هذا اللفظ الخ، فمحله حيث قصد الزوج إيقاع الطلاق لا في مقابلة شيء أو أطلق فيقع مطلقاً أما لو أراد جعل الطلاق في مقابلة صحة الإبراء فلا يقع إلا إن صحت البراءة كما ذكرته أو لا. ويؤيد ذلك(5/392)
قول أبي زرعة الآتي قريباً لو قال الزوج أردت بذلك تعليق الطلاق على الإبراء من الصداق وجعلته عوضاً لا سبباً الخ وأما ما أفتى به البلقيني مما ذكره السائل عنه فهو صحيح، وقد وافقه عليه تلميذه المحقق أبو زرعة وأطال فيه وفي الرد على من أفتى بخلافه كالمحب الطبري ومن تبعه، نعم نقل جمع متأخرون منهم الزركشي و أبو زرعة وغيرهما عن الخوارزمي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وأقروه أنها لو قالت أبرأتك من صداقي عليك بالطلاق فطلقها في المجلس بانت وبرىء، وبه يعلم أن ما أفهمه كلام البلقيني المذكور. وكلام أبي زرعة من أن صحة وقوع الطلاق بائناً بالبراءة الصحيحة إنما يتصوّر إذا بدأ الزوج بتعليق الطلاق عليها فقط بخلاف ما إذا بدأت هي فإنها إن علقت البراءة على الطلاق لم تصح البراءة وإن نجزتها فقد برئت ذمته قبل أن يطلق فيكون الطلاق رجعياً فهو محمول على غير صورة الخوارزمي المذكورة، وقد نقل السبكي وغيره عنه وأقروه أيضاً وحكاه الشيخان عن فتاوى القاضي وأقراه أنها لو قالت أبرأتك من صداقي فطلقني فقال لها أنت طالق أو إن صحت براءتك فأنت طالق وقع الطلاق رجعياً. قال الرافعي : ويمكن أن يقال إنها قصدت جعل الإبراء عن الطلاق ولذلك ترتب سؤال الطلاق عليه اهـ، وحذفه من الروضة وكان وجه حذفه أن المتبادر من كلامها إنما هو تنجيز لبراءة لا جعلها عوضاً. نعم إن صرحت بأنها أرادت ما أشار إليه الرافعي ووافقها الزوج على ذلك، فالظاهر أنه يقع بائناً بالبراءة لأن ما ادعاه من مقابلة الطلاق بالبراءة منها ووقوعه منه في مقابلتها يحتمله اللفظ احتمالاً قريباً فقبلت دعوى إرادته ويوافق ذلك قول أبي زرعة في مسألة البلقيني السابقة لو قال أردت بقولي طلاقك بصحة براءتك أو ببراءتك تعليق الطلاق على الإبراء من الصداق وجعله عوضاً لا سبباً، فينبغي أن يقبل ذلك منه لاحتماله ويتوقف على جوابها فإن أجابته وقع الطلاق بائناً(5/393)
بمهر المثل وإن لم تجبه لم يقع اهـ، فعلم أنها لو قالت فيما إذا قال لها أبرئيني من صداقك وأنا أطلقك فقالت أبرأتك منه فقال أنت طالق أو طلاقك بصحة براءتك أو ببراءتك ففهمت من قوله أبرئيني وأنا أطلقك الوعد بإيقاع الطلاق في مقابلة الإبراء فأردت بقولي أبرأتك جعل الإبراء في مقابلة الطلاق الذي يوقعه وأردت ربطه به، وقال الزوج أردت ذلك وقع رجعياً ويبرأ ولا عبرة بإرادتها ذلك كما لو قالت أبرأتك من صداقي فطلقني فإنه يبرأ طلقها أم لا؟ فإن طلقها وقع رجعياً وإن أرادت وحدها جعل الإبراء في مقابلة الطلاق خلافاً لما بحثه الرافعي وحيث لم يرد بقوله طلاقك ببراءتك أو بصحة براءتك التعليق على صحة براءتها بل استئناف عقد خلع مشتمل على إيقاع الطلاق في مقابلة إبراء جديد توقف تمام الخلع حينئذ على قبولها أو إبرائها ثانياً وإلا لم يقع شيء وإنما قبل في إرادة ذلك مع أن ظاهر اللفظ خلافه قياساً على ما في الروضة من أنها لو قالت له طلقني على مائة فقال أنت طالق مريداً الابتداء قبل منه ووقع رجعياً لأنه محتمل فإن اتهمته حلفته اهـ، وإذا وصل للمقلد إفتاء بعض أئمة مذهبه وعرف خطه أو أخبره بذلك عدل عنه جاز له الاعتماد عليه والعمل بما فيه وإن أمكنه أن يحتاط ويسأل غيره إن تيسر ليغلب على الظن أن ما أفتى به هو المعتمد في المذهب فهو الورع والاحتياط ولا يجوز لمن لم يصل لرتبة الإفتاء أن يفتي أحداً إلا بما هو معلوم قطعاً من مذهبه كالنية واجبة في الوضوء والوتر مندوب ذكر ذلك في الروضة وغيرها، وأما في غير ذلك فلا يفتى فيه بشيء لكن إن كان عدلاً وأخبر عن إمام أو كتاب موثوق به بحكم في مسألة معينة جاز اعتماد خبره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/394)
وسئل عن رجل مرض فأحضر شاهدين فقال اشهدا إذا مت من مرضي هذا فامرأتي الفلانية طالق ثلاثاً في آخر جزء من أجزاء حياتي المتصلة بموتي هل يصح هذا الطلاق إذا كان مقصوده أن لا ترث أو كان من طريق أن لا تتكلف بالإحداد وإذا قال هذا الشخص أو غيره لامرأته أبرئيني من مهرك وهي لا تعلم قدره فأبرأته هل يبرأ؟ فإذا قلتم لا فهل يقع عليه الطلاق بائناً أو رجعياً؟. فأجاب بأنه يقع الطلاق الثلاث فلا ترث سواء أقصد بذلك حرمانها من الإرث أم لا، ومن قال لامرأته إن أبرأتني من مهرك فأنت طالق فأبرأته وهي لا تعلم قدره لم يقع عليه طلاق إلا أن يقصد التعليق على تلفظها بالبراءة فيقع رجعياً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما لو حلف من امرأته فأبانها بخلع ثم جدد نكاحها ثم فعل المحلوف عليه قال في نفائس الأزرقي أن فعله بين الطلاق والتجديد لم يحنث وإلا حنث فهل يقرر عليه أم لا؟. فأجاب بأن ما حكى عن النفائس مبني على ضعيف كما صرح به الشيخان وغيرهما حيث قالوا لو علق طلاق زوجته بصفة كالدخول فأبانها قبله أو بعده ثم تزوّجها ووجدت الصفة قبل التزويج لم تطلق لانحلال اليمين بالدخول في حال البينونة، وكذا إن وجدت الصفة بعد التزويج لأن الأظهر أن الحنث لا يعود في الطلاق ولا في غيره كالإيلاء والظهار والعتق بعد زوال ملك النكاح أو الرقبة وبعد تجدده لتخلل حالة لا يصح فيها شيء من ذلك فرفع حكم اليمين، أما تخلل الطلاق الرجعي والرجعة بين التعليق ووجود الصفة فلا يمنع عود الحنث فيما ذكر، لأن الرجعة ليست نكاحاً مجدداً ولا تخلل ما يمنع صحة ما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/395)
وسئل عما لو قال عليّ الحرام من زوجتي أن الشيء الفلاني لم يكن ظناً منه أنه لم يكن فبان أنه كان فهل تطلق؟ والحال أنه نوى بعليّ إلى آخره الطلاق. فأجاب: بأنه لم يقع طلاق لعذره سواء أنوى أن الأمر كذلك في ظنه أو في الواقع كما بينته في فتاوى أخرى بكلام مبسوط في هذه المسألة بان به الحق فيها إن شاء الله فإنه قد كثر اضطرابهم فيها واختلافهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن وكل زوجته في طلاقها فقالت كيف أقول؟ فقال قولي أنت الثلاث أو أنا الثلاث من عقدك طالق أو دون عقدك. فأجاب: بأن المتولي فرق بين قوله أنت ثلاث فلا يقع به شيء، وقوله أنت ثلاثاً فيقع به لأن حذف بعض الكلام شائع لغة إذا كان في اللفظ ما يدل عليه وتقديره أنت طالق ثلاثاً، وفي البحر ما حاصله أن الأصح أنه لو قال أنت الثلاث لا يكون شيئاً وإن نوى الطلاق وسبقه إليه الماوردي. قال الأذرعي : ويظهر الفرق بين المعرف وغيره اهـ، وفيه نظر بل لا فرق بينهما في حال الرفع لأن ثلاث بالرفع خبر عن أنت فلا حذف في الكلام وليس هذا التركيب صحيحاً لأن أنت موضوعة للذات وهو مبتدأ فلا يصح الحكم عليه بثلاث لا معرفاً ولا منكراً، وأما ثلاثاً بالنصب فيقتضي حذف الخبر فيقدر بما يناسبه وهو طالق، فالكلام معه صحيح فإذا نوى به الطلاق وقع ما ذكره من العدد الصريح، والفرق بين أنت ثلاث وأنت اثنتان ذكرته مبسوطاً مع ما يناسبه في فتوى غير هذه إذا تقرر ذلك فإذا قال قولي أنت الثلاث أو أنا الثلاث فقالت ذلك لا يقع به طلاق وإن نوته بخلاف ما لو قالت أنت الثلاث طالق أو أنا الثلاث طالق فإنه يقع عليه الطلاق إن نوت بالأوّل الطلاق لأنه كناية لإسناد الطلاق فيه إلى غير محله وهو الزوج بخلاف الثاني فإنه صريح فلا يحتاج لنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/396)
وسئل إذا قلنا بتصحيح الدور فطلق زوجته ثلاثاً ثم ادعى أنه كان علق عليها مسألة الدور قبل الطلاق الثلاث يريد رفع الطلاق بذلك وصدقته المرأة على ذلك فهل يقبل قوله في دعواه مسألة الدور فلا يقع عليه الطلاق أم لا يقبل قوله فيقع عليه الطلاق الثلاث لقول الإمام ابن عبد السلام في كتابه المسمى بالغاية إذا ادعى الزوج ما لا يقبل في الحكم ويدين فيه وصدقته المرأة فيما ادعاه لم يرتفع الطلاق بذلك، إذ لا أثر لمصادقتها على ما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى وقد صرح الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م بقبول قولهما فيما يتعلق بحقهما لا فيما يتعلق بحق الله تعالى كما صرح به الشيخ شرف الدين المناوي . قال الإمام الأزرقي وبنحوه أجاب المحلى وغيره فيما إذا ادعى تعليق الدور، أجاب بعض المتأخرين فقال لا يقبل قوله ولا تسمع بينته لو أقامها على ذلك لأمور:(5/397)
أحدها: أن الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م نقلوا عن الإمام الخوارزمي من غير مخالفة له أن الزوج إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم ادعى فساد النكاح بسبب من الأسباب وصادقته الزوجة على دعواه لم يقبل قولهما ولا تسمع بينتهما فلا يجوز أن يوقعا نكاحاً جديداً إلا بمحلل لكونهما متهمين في حق الله سبحانه وتعالى، وذكره أيضاً الشيخ القفال ونقله في الأنوار عن القاضي حسين والبغوي وغيرهما وصححه الشيخ تقي الدين السبكي . قال الأذرعي : وما ذكره الخوارزمي من عدم سماع البينة فهو جار على طريقة البغوي في باب المرابحة وغيره. قال الإمام ابن الرفعة في المطلب: والمشهور المنصوص أنها لا تسمع. وعبارة غيره أطلق الشافعي والأصحاب عدم السماع ولم يفرقوا بين المعذور وغيره ويدل على أن الأكثرين لا يفرقون بين المعذور وغيره أنهم ردوا على أبي إسحق حيث فرقوا في التحليف وألزموه بالبينة قال، أعني الأذرعي ، وفيه ما يشعر بالاتفاق على عدم سماعها مطلقاً فعلم من هذا أن ما ذكره الإمام الخوارزمي هو المذهب المعتمد للتهمة في حق الله سبحانه وتعالى إذ لو فتح هذا الوكالة لادعى كل مطلق ثلاثاً أراد دفع العار عنه بتحليل زوجته ثم تجديد نكاحها أن يتوافقا على فساد نكاحها لدفع ذلك، كذا قال الشيخ البكري في بعض أجوبته قال وأظن الغزالي سئل لو ادعى أن الولي كان فاسقاً بترك الصلاة ونحوها وقال: إنه لا يقبل لما ذكرناه وهو نظير المسألة المسؤول عنها. قال الإمام ابن العماد في توقيف الحكام نظير ما قاله الخوارزمي المرأة إذا خالعت الزوج ثم ادعت أنها زوّجت بغير رضاها لم يسمع قولها كما قاله البغوي اهـ. وقولهم إن الطلاق يقع في النكاح الفاسد لا يخالف ما ذكره الإمام الخوارزمي ، وصورته أن يطلقها ثلاثاً في الباطن أما لو ظهر أنه طلقها ثلاثاً فحينئذ يجب التفريق بينهما حتى تنكح زوجاً غيره.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/398)
الأمر الثاني: أن الإمام الدبيلي ذكر في أدب القضاء إنه لو حلف بالطلاق في الثلاث أنه لا يكلم فلاناً في هذا اليوم ثم قال إن نكاحي كان فاسداً وأريد أن أكمله في هذا اليوم ثم أعقد نكاحاً صحيحاً فكلمه لم يقبل قوله في فساد نكاحه. وأيضاً ذكر الإمام تقي الدين بن الصلاح أنه لو طلق امرأة ثلاثاً ثم ادعى أني لم أكن نكحتها قبل الطلاق المذكور لم يقبل قوله ذكره عنه الإمام الأذرعي في الدعاوى من شرح المنهاج، وذكر أيضاً نحو ما سبق عن الدبيلي .
الأمر الثالث: أنه لو قال أنت بائن ثم قال بعد مدة أنت طالق ثلاثاً وقال أردت بالبائن الطلاق فلم تقع الثلاث لمصادفتها البينونة لم يقبل قوله لأنه متهم كذا قال في الروضة. وحكى الرافعي عن نص الشافعي أنه لو ادعى سبق لسانه إلى لفظ الطلاق وأنه كان يريد أن يقول غيره إنه لا يسع امرأته أن تقبل منه ذلك.
الأمر الرابع: أن القاضي جمال الدين ابن ظهيرة سئل أيضاً عن رجل طلق امرأته ثلاثاً ثم ادعى أنه كان خالعها قبل ذلك وأراد دفع الثلاث بالخلع ووافقته الزوجة على ذلك فهل تقبل دعواهما الخلع ولا يقع الطلاق أم لا تقبلان فيقع الطلاق؟ فأجاب فقال: نقل في الروضة في أواخر الطلاق تبعاً للرافعي عن فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثاً ثم قال كنت حرمتها على نفسي قبل هذا فلم يقع الطلاق لم يقبل قوله اهـ. قال الأفقهسي : ولو أقام بينة لم تسمع.(5/399)
الأمر الخامس: أن الشيخ نور الدين السمهودي رحمه الله تعالى سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثاً ثم قال: كنت وكلت فلاناً بطلاقها وكنت عوّلت طلاقها على فلان إن وليتها فلاناً فهل يقبل قوله أم لا؟ فأجاب فقال: ذكر في العزيز مما يتعلق بهذه المسألة نقلاً عن فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثاً ثم قال كنت حرمتها قبل هذا فلم يقع الثلاث لم يقبل قوله وهو شامل لدعوى سبق التحريم بواسطة وكيله فيه بخلع ونحوه ما في فتاوى القاضي حسين أنه لو طلقها ثلاثاً ثم ادعى أن وليها كان قد وكل بتزويجها منه بألف وخمسمائة ولم يزوجها الوكيل إلا بألف فالعقد لم ينعقد فالطلاق لم يقع وصدقته المرأة لم يقبل قوله ولو أقام بينة لم تسمع وحكم بوقوع الطلاق الثلاث. قال الزركشي في الخادم: وهذا تفريع على بطلان النكاح للمخالفة في الصداق قال: ولا يختص بهذه الصورة أيضاً بل يطرد في كل صورة ادعيا فيها الفساد قبل الطلاق، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ جواب الشيخ السمهودي .
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
الأمر السادس: أن الشيخ الإمام نور الدين ابن ناصر رحمه الله تعالى سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثاً بعد أن وضعت حملها ثم ادعى إني كنت طلقتها طلقة أو طلقتين قبل أن تضع الحمل فانقضت العدة بالوضع قبل أن أراجعها فهل تعود إليه قبل زوج آخر أم لا تعود إليه إلا بعد زوج آخر؟ فأجاب فقال: الأصل عدم وقوع الطلاق قبل الوضع فتبين بعده فلا تعود إليه إلا بعد زوج وعدتين، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ.
الأمر السابع: أنه لو قبل قول الزوج في دعواه تعليق الدور على زوجته قبل الطلاق لفتح هذا الباب ولو فتح لادعى كل مطلق ثلاثاً أراد دفع العار عنه بتحليل زوجته ثم تجديد نكاحها، إذ يدعى ذلك فيظهر الفساد بذلك لا سيما أن الشيخين ذكرا أن الروياني قال بعد اختياره تصحيح الأول لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/400)
المسألة الثانية: قوله في البهجة لو ضعف عشرين لعقد الجمعة كيف صورة ذلك وما بيانه.
المسألة الثالثة: قولهم في الفرائض الإدلاء كيف صفته وما معناه؟.
المسألة الرابعة: إذا وجدنا مسألة فيها نص للشافعي لكن الشيخان على خلاف النص كالمسألة السريجية وتفريق الصفقة وغير ذلك من اعتراض صاحب المهمات بالنص على الشيخين فهل نأخذ بالنص ونترك ما عداه أم نأخذ بقول الشيخين لأنهما عمدة المذهب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/401)
المسألة الخامسة: إذا ادعى إنسان على أحد أني أستحق هذه العين التي تحت يدك فقال المالك ملكي ورثته عن أبي أو قال ملكي ولم نجد بينة مع المدعي فهل قول المالك يكفي في اليمين أم لا بد من نفي ما ذكر من الاستحقاق؟ بينوا لنا ذلك أثابكم الله تعالى الجنة. فأجاب بقوله: أما المسألة الأولى فالمنقول المعتمد في النظائر المذكورة في السؤال وغيرها صريح في أنه لا يقبل من الزوج دعواه المذكورة وإن صدقته الزوجة على ذلك فلا تحل له إلا بمحلل، وهذا ظاهر لا مرية فيه ولا توقف وحقوق الله سبحانه وتعالى لا سيما المتعلقة بالإبضاع يجب الاحتياط لها هذا كله بناء على عدم الوقوع في المسألة السريجية وهو وجه ضعيف لا يجوز الإفتاء به ولا العمل به ولا يرتكب ذلك إلا بعض الجهلة من القضاة والمفتين ومن ثم قال البدر الزركشي أن ما قاله ابن سريج في هذه المسألة زلة عالم وزلات العلماء لا يجوز لأحد تقليدهم فيها ولقد أطال جماعة في الانتصار لابن سريج وجماعة في الرد عليه والحط على من يقلده في ذلك والمعتمد ما قلناه فليتنبه السائل حفظه الله تعالى ووفقه لذلك وليحذر من الوقوع في ورطة هذه المسألة بإفتاء أحد بها أو تعليمه فإن عاقبة ذلك وخيمة، ومعنى ما ذكر عن البهجة أنه يجوز أن يبادر أربعون ممن سمع لخطبة إلى عقد الجمعة قبل الإمام الخاطب، ومن ثم قال الناظم لو سماعها تبادروا أي ضعف عشرين الخ، ومعنى الإدلاء الانتساب فإذا قيل فلان يدلي إلى فلان فمعناه أنه ينتسب إليه أي أن بينهما رابطة من جهة النسب، وإذا رجح الشيخان شيئاً كان المعتمد ولا نظر لما يطيل به الإسنوى وغيره من الاعتراض عليهما بالنص أو غيره لأنهما أدرى بأقوال الشافعي ونصوصه من جميع من جاء بعدهما فلا يعدلان عن النص إلا لما هو أقوى منه كنص آخر أو قاعدة أو غيرهما وليس في المعترض عليهما من يداني مرتبتهما علماً وورعاً واجتهاداً فوجب المصير لأقوالهما والإعراض عما سواهما، وقد بينت في شرح(5/402)
الإرشاد الرد على من اعترض عليهما في باب تفريق الصفقة وما شاكله وبينت كجماعة من مشايخي وغيرهم أن الحق ما قالاه فتمسك أيها السائل وفقك الله تعالى بهذه الطريقة المثلى ولا تعدل عنها فتضل وتضل، وقد نقل عن الإسنوى نفسه إنه كان إذا سئل يفتي بما في الروضة وإن كان اعترضه في مهماته وكذلك غيره ممن رأيناه فإنه كان يتبع المعترض على الشيخين وعند الإفتاء لا يفتي إلا بما قالاه وهذا هو الحق فلا يسع أحداً الآن مخالفته، وأما قول السائل كالمسألة السريجية فمردود لأن النص فيها غير معمول به ولا معوّل عليه على تقدير وجوده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/403)
وسئل عمن قال أنت طالق أو هي طالق على تمام البراءة فقالت أنت أو هو بريء من جميع حقوق الزوجية ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا لم يجر بينهما إلا لفظ البراءة المذكورة من غير نية لهما فلا براءة ولا طلاق، وإن نويا شيئاً معيناً أو قال لها إن أبرأتني من كذا وعينه فقالت أبرأتك منه فإن كان القدر المبرأ منه معلوماً لهما ولم يتعلق به حق كزكاة صحت البراءة ووقع الطلاق وإن كان مجهولاً لم يقع عليه الطلاق لعدم صحة البراءة، والحاصل أنه إذا علق بالبراءة فإن صحت بأن علما القدر المبرأ منه ولم يتعلق به ما مر وقع الطلاق وإن لم تصح بأن جهلاه أو أحدهما أو مضى عليه حول وهو زكوي لم يقع وما قيل أنها إذا علمت وجهل الزوج تصح ويقع الطلاق بمهر المثل فهو فاسد، ولذا لم يقل به أحد من أئمتنا لأنا إذا قلنا بعدم صحة البراءة فلا طلاق أو بصحتها فالعوض الصداق لا مهر المثل مع الصداق ولا مهر المثل فقط ولا نظر إلى أن العوض إذا كان في الخلع مجهولاً يقع الطلاق بمهر المثل لأن محل ذاك في صيغ العقود التي يغلب فيها جانب المعاوضة وما نحن فيه إنما هو في صيغ التعليق فغلب فيها جانبه فلا بد فيه من وجود الصفة المعلق عليها وما وقع في شرح المنهاج للدميري أنهما إذا كانا جاهلين يقع الطلاق رجعياً ضعيف جداً، بل الصواب أنه لا يقع شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل هل عليّ الطلاق صريح أو كناية؟. فأجاب بقوله: الأصح أن عليّ الطلاق صريح.(5/404)
وسئل عمن قال عليه الطلاق أنها خرجت فقالت ما خرجت ما الحكم؟ وقال أيضاً عليّ الطلاق إن لم تنقل متاعك من جانب داري لأشتكيك إلى الوالي ولأدى من يحضرك إليه اليوم هذه فلم ينقل متاعه فذهب الحالف إلى الوالي، وكان الوالي مشتغلاً ذلك اليوم فلم يتفق وصوله إليه ولا إعلامه في ذلك اليوم فهل يقع الطلاق أم لا؟. فأجاب: الخروج من الأفعال الظاهرة فلا يقبل قولها في نفيه بل لا بد من بينة بعدمه إن كان نفيه محصوراً بأن عين له زمناً فادعت عدمه في ذلك الزمن وأقامت به بينة فحينئذ يحكم عليه بالطلاق، وأما إذا لم يكن الأمر كذلك فلا طلاق وإن علق الطلاق بالشكوى إلى الوالي في يوم معين فلم يشتك إليه فيه فإن كان مع تمكنه منه في لحظة من اليوم فترك وقع عليه الطلاق بخلاف ما إذا مضى اليوم ولم يتمكن من الوصول إليه في جزء من ذلك اليوم فإنه لا طلاق عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/405)
وسئل في رجل قال لزوجته اسرحي بلفظ الأمر هل هو صريح أو كناية؟. فأجاب: لو قال لزوجته اسرحي بلفظ الأمر فالظاهر أنه كناية لأنه من سرح بالتخفيف وهو يتعدى كسرحتها سرحاً. قال في الصحاح هذه وحدها بلا ألف ومنه قوله تعالى: {وحين تسرحون} (16:6) أي تخرجون مواشيكم بالغداة إلى المرعى ولا يتعدى كسرحت بنفسها سرحاً فاسرحي حينئذ نظير اذهبي وقد جعلوه كناية لأن الذهاب يحتمل الطلاق وغيره احتمالاً ظاهراً فكذلك اسرحي كناية لأنه يحتمل الطلاق أي اخرجي بالغداة لأني طلقتك ويحتمل غيره أي اخرجي بالغداة إلى مواشيك مثلاً فإن قلت اسرحي مشتق من السراح، وقد صرحوا بأن الفعل المشتق من السراح صريح، قلت هذا اشتباه وفرق واضح بين سرح بتخفيف الراء وهو ما مر الكلام فيه وسرح بالتشديد وهو المشتق من السراح أي مأخوذ منه وإلا فالتحقيق أنه مشتق من التسريح إذ هو المصدر الحقيقي، وأما السراح فاسم مصدر ومعنى سرح المضعف لغة أرسل فهو بمعنى فارق فلذلك جعلوه صريحاً لوروده في القرآن العزيز مرادفاً للتطليق قال الله تعالى: {أو تسريح بإحسان} (البقرة: 229) إذا تقرر ذلك فالأمر من سرح المضاعف سرحي، وأما اسرحي فليس من هذه المادة فلا يعطي حكمها بل يكون كناية كما مر، وأما سرحي فهو من مادة السراح وحينئذ فيكون كقوله طلقي فإن نوى تطليق نفسها كان تفويضاً لطلاقها إليها فإن طلقت نفسها وقع وإلا فلا.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/406)
وسئل عمن قال هي طالق هل هو صريح أو كناية أو قال عليّ الحرام إن خرجت أو قال إن لم تخرجي من بيتي ما تكونين لي بامرأة وكلما حليت حرمت فخالفته ما الحكم ولو قال أنت أو هي عليّ من السبع المحرمات ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا قال هي طالق فإن سبق لزوجته ذكر كان قيل له طلق زوجتك أو أن زوجتك فعلت كذا فقال هي طالق وقع عليها الطلاق بخلاف ما إذا لم يتقدم لها ذكر فإنه لا يقع عليه طلاق إلا أن نواها هذا هو الذي يتجه من متفرقات كلامهم، فإن قلت يشكل على ذلك ترجيح الشيخين فيما لو قيل لزيد يا زيد فقال امرأة زيد طالق أنه لا طلاق إلا أن نوى نفسه خلافاً لقول شريح الروياني تطلق في حال الإطلاق أيضاً، قلت لا يشكل عليه لقولهم إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه إلا إن أراد نفسه وبهذا فارق ما صححه الشيخان في الروضة والمنهاج وأصلهما فيمن قال زينب طالق وأراد زينب غير زوجته فلا يقبل مطلقاً، ولا شك أن قوله هي طالق بعد أن تقدم ذكرها أصرح من قوله زينب لأن الضمير أعرف من العلم لأنه في مثل هذا التركيب لا يمكن صرفه لغير زوجته بخلافه في زينب فإنه يمكن صرفه، إذ لفظ زينب موضوع لذوات كثيرة، ومن ثم قال القفا ل إذا أراد غير زوجته قبل لكنه ضعيف لأنه وإن تناول ذواتاً كثيرة إلا أن قرينة أن الإنسان لا يطلق غير زوجته منعت من صرفه إلى غيرها فلذا كان الأصح أنه لا يقبل إرادة غيرها وإذا اكتفى في تعيينها بهذه القرينة الخارجية المحتملة فمن باب أولى أن يكتفي بالصريح في مسألتنا وهو تقدم ذكر الزوجة ثم إعادة الضمير عليها فيقع عليه الطلاق حينئذ ولا يقبل قوله أردت غيرها وأما إذا لم يتقدم لها ذكر فالأمر محتمل فرجع فيه إلى نيته فإن نواها وقع وإلا فلا، ومما يؤيد ما ذكرته قولهم لو قيل له طلق امرأتك فقال طلقت، أو قال لامرأته طلقي نفسك فقالت طلقت، وقع الطلاق لأنه يترتب على السؤال في الأولى والتفويض في الثانية مع أنه لو قال ابتداء طلقت لم يقع(5/407)
الطلاق، وإن نوى امرأته لأنه لم يجر لها ذكر ولا دلالة فهو كما لو قال امرأتي ونوى الطلاق ذكره الشيخان وهو صريح فيما ذكرته لأن تقدم ذكرها أغنى عن الاحتياج إلى ذكر ضميرها بعد طلقت وأوجب الاكتفاء به خالياً عن الضمير ظاهراً فإذا كان تقدم ذكر المرأة يغني عن ذكر اسمها بالصريح والضمير فمن باب أولى أن تقدم ذكرها يعين رجوع الواقع بعده إليها، فإن قلت دلالة هذا صريحة فيما ذكرته إذا تقدم ذكرها لكن ما قالاه في طلقت ابتداء من عدم الوقوع ابتداء وإن نواها يرد ما قلته في هي طالق من غير أن يتقدم لها ذكر، قلت لا يرده لأن طلقت خلا عما يمكن رجوعه للمرأة إذ ليس فيه لفظ يرجع عليها حتى تصح إرادتها منه بخلاف هي طالق فإن هي ضمير موجود في اللفظ والضمير وإن لم يكن له مرجع في اللفظ يصح أن يرجع إلى معهود فلما صح استعماله في غير مذكور أثرت النية فيه، وأما طلقت فليس فيه ذلك فلم تؤثر النية فيه كما لم تؤثر في امرأتي إذا نوى به الطلاق فإنه ليس في اللفظ ما يدل على الطلاق بوجه فلم يمكن تأثير النية فيه، والحاصل أن هي طالق بعد تقدم ذكر المرأة صريح ومع عدم تقدمه كناية في الزوجة وعليّ الحرام وإن خرجت ما تكوني لي بامرأة وكلما حللت حرمت كنايات، فإن نوى به الطلاق طلقت إذا وجد الخروج أو عدمه ولم يطلقها لأنه إذا نوى بتلك الألفاظ أو باللفظين الأولين الطلاق كان معنى كلامه إن خرجت ولم أطلقك فأنت طالق فإذا خرجت ولم يطلقها طلقت وإن خرجت فطلقها لم تطلق زائداً على ذلك وإذا قال لزوجته أنت عليّ من السبع المحرمات وأراد بهن السبع المذكورات في قوله تعالى:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/408)
{حرمت عليكم أمهاتكم} الآية، كان بمعنى أنت عليّ كأمي أو كأختي ومن قال لزوجته ذلك كان كناية في الطلاق والظهار فإن نوى به الطلاق طلقت أو الظهار لزمته الكفارة بشرط العود وإن نوى تحريم عينها أو وطئها أو فرجها أو رأسها أطلق ذلك أو أقته كره ولم تحرم عليه لكن تلزمه كفارة يمين في الحال وإن لم يطأ، وكذا يكره ولا تحرم عليه وتلزمه كفارة يمين في الحال إن لم ينو شيئاً هذا هو الذي يظهر لي لأن قوله من السبع المحرمات يشبه قوله أنت حرام عليّ فأعطيناه حكمه عند الإطلاق بخلاف أنت كأمي فإنه يحتمل أنت مثلها في الإكرام والاحترام فلذا لم يجب فيه شيء عند الإطلاق كما اقتضاه كلامهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/409)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته عمن قال أنت أو هي طالق وكان في يده حصاة فألقاها حين القول وقال ما قصدت إلا الحصاة ما الحكم؟ وإذا قال أنت طالق وكانت زوجته وأجنبية في مكان واحد وقال ما قصدت إلا الأجنبية أو كان اسمها والأجنبية متوافقين وقال فلانة طالق ثم قال ما قصدت إلا الأجنبية ما الحكم؟ ولو قال خلعتك إلى رقبة أبيك ما حكمه؟. فأجاب بقوله: لا يصدق في قوله ما قصدت إلا الحصاة كما صرح به الماوردي وغيره في نظيره، وفي قوله ما قصدت إلا الأجنبية يقبل في صورة أنت طالق إذا كانتا حاضرتين كما لو قال إحداكما طالق وقال ما قصدت إلا الأجنبية فإنه يقبل على الأصح بخلافه في صورة زينب طالق فإنه لا يقبل. وأما ما في الروضة وأصلها عن فتاوى القفال من قوله فيما إذا قال زينب طالق وقال أردت زينب أخرى غير زوجتي فهو ضعيف فقد قال بعد ذلك الصحيح الذي عليه الجمهور عدم القبول وصححه في المنهاج كأصله وعليه فيفرق بين هذا وما قبله وقولهم لو قال لأم زوجته ابنتك طالق وقال أردت ابنتك الأخرى قبل بان قوله زينب طالق لا اشتراك فيه وضعاً إذ هو علم والعلم إنما وضع ليعين مسماه تعييناً خاصاً لا يشاركه فيه غيره، وأما وقوع الاشتراك فيه فليس وضعاً فقوله زينب طالق لا ينصرف لغير زوجته وضعاً وكذا شرعاً إذ الرجل لا يطلق غير زوجته وأما ابنتك واحداً كما وأنت فليس علماً وإنما هو متضمن للوصفية فكان مشتركاً وضعاً فإذا قال ابنتك مثلاً طالق كان آتياً بلفظ مشترك بين زوجته وغيرها يتناولهما تناولاً واحداً وعند هذا التناول لا مخصص فيه غير القصد فقبلت منه دعوى إرادة غير الزوجة لأن لفظه يحتمله وإن كانت العادة الموافقة للشرع أن الرجل لا يطلق غير زوجته، وإنما لم يقبل في صورة الحصاة مطلقاً لأنها لا تقبل الطلاق بوجه بخلاف المرأة الأجنبية فإنها تقبله في الجملة ومنه يؤخذ أنه لو قال لزوجته ورجل إحداكما طالق وقال أردت الرجل لم يقبل نظير ما(5/410)
مر في مسألة الحصاة بجامع استحالة قبول كل منهما للطلاق وإذا قال خالعتك إلى رقبة أبيك فقد أتى بلفظ محتمل والذي دل عليه كلامهم في ذلك أنه إن أراد بذلك أن أباها يلتزم له بمال في مقابلة طلاقه لم تطلق حتى يلتزم له به فوراً، وحينئذ فتطلق بائناً بذلك المال إن كان معيناً وإلا فبمهر المثل وإن كان أراد أنه خالعها خلعاً منجزاً وأنها بعده تصير في رقبة أبيها أي عليه مؤنتها طلقت بقوله خالعتك إن نوى به الطلاق ويكون رجعياً فإن لم ينو به شيئاً أو نوى ولم تقبل لم يقع طلاق، وأما إذا أضمر التماس جوابها فقبلت بانت ولزمها مهر المثل هذا مقتضى كلام المنهاج وأصله وهو طريقة الأكثرين لكن المصحح في الروضة أنه مع عدم ذكر المال كناية مطلقاً، فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا وإن لم يرد بذلك اللفظ شيئاً مما ذكر فالذي يظهر أنه لا يقع به شيء لأنه يحتمل كلاً من الأمرين المذكورين وكل منهما لا يقع به طلاق إلا بالشرط الذي ذكرته والأصل بقاء العصمة حتى يتحقق الموقع ولم يتحقق هنا لأن لفظه محتمل كما تقرر مع أن كلاً من احتماليه لا يقتضي الوقوع مطلقاً بل بشرط لم يتحقق وجوده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/411)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته المسلمين عمن قال لها أنت مطلقة معي اليوم وإلا فبكرة أو قدم معي على مطلقة ما الحكم في ذلك؟. فأجاب نفع الله تعالى به: إذا قال أنت مطلقة معي اليوم وإلا فبكرة وقع عليه الطلاق في الحال كما هو ظاهر، لأن ما ربط به الطلاق بقوله معي إلى آخره لا معي له يتبادر منه وعلى تقدير أن له معنى فهو أنت طالق اليوم حال كونك معي فإن لم تكوني معي فأنت طالق بكرة أي غداً وهذا معنى يحتمله اللفظ فإذا أراده قبل ثم إن وجدت معيتها له ذلك اليوم طلقت بغروب شمسه وإن لم توجد معيتها له كذلك طلقت بفجر غده، والمراد بالمعية ما قصده بها إن كان له قصد فإن لم يقصد بها شيئاً فالمدار على المعية العرفية لأن المعية لا ضابط لها في اللغة فرجع فيها إلى العرف وعلى تقدير أن لها ضابطاً في اللغة وهو المقارنة فالمقارنة مختلفة في العرف لأنها في كل شيء بحسبه فوجب إناطة الحكم فيها بالعرف، وإن قلنا بما قاله الأصحاب ما عدا الإمام و الغزالي من تقديم اللغة على العرف، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
مسألة: قال لزوجته وهو ساكن هو وإياها بعلو الدار متى نزلت إلى أسفل الدار بغير إذني فأنت طالق ومراده بأسفلها الحوش وصفة المجلس الذي هو بعلوه ثم تشاجرا فقالت له طلقني فإني عازمة إلى بيت والدتي فقال لها إن كنت تعزمي مفاتنة فقد أذنت لك وإن كنت تريدي الطلاق فقد عرفت اليمين التي حلفتها فخرجت إلى بيت والدتها فهل يقع عليه الطلاق أو يرجع إلى إرادتها؟. فأجاب: إن أراد بقوله إن كنت تعزمي مفاتنة فقد أذنت لك تنجيز الإذن لها بشرط أنها تنزل للخروج مفاتنة فنزلت للخروج مفاتنة لم يحنث وإلا حنث فتعتبر نيتها حال النزول إلى أسفل الدار وإن أراد بقوله ذلك تعليق الإذن على خروجها مفاتنة وقع الطلاق عليه مطلقاً لانتفاء الإذن مطلقاً حال النزول للخروج فوجد المعلق عليه الطلاق فوقع والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/412)
وسئل في رجل طلق زوجته فسأل آخر عنها أهي زوجته أم لا؟ فقال هي مخرجة وفي بلد عرفهم أن من قال لزوجته هي مخرجة فهي البينونة الكبرى فهل تحل له بعد هذا الإقرار الصادر منه بغير محلل ولا يلتفت لعرف بلده أم لا تحل له إلا بعد زوج على عرف أهل بلده؟. فأجاب بقوله: العبرة في ذلك بنيته لا بعرف أهل بلده فإن نوى الطلاق فقط كان رجعياً وإن نوى الثلاث لم تحل له إلا بمحلل وإن لم ينو طلاقاً لم يقع عليه شيء غير الطلاق.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
سئل نفع الله تعالى بعلومه وبركته المسلمين عمن قال إن دخلت الدار طلقتك فهل هو تعليق أو لغو؟. فأجاب بقوله: نص في الأم على أنه وعد فيكون لغواً، نعم إن ذكر قبله قد لفظاً أو نية كان تعليقاً لانسلاخه عن الوعد حينئذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجل قال عليّ الطلاق لا أفعل كذا وحنث وله زوجتان فهل تطلقان أو إحداهما مبهماً فيعين ولو من ماتت منهما بعد التعليق؟. فأجاب بقوله: لا تطلق إلا إحداهما كما أفتى به النووي رحمه الله تعالى، فلو ماتت إحداهما بحث البلقيني أن العبرة بحالة التعليق فله تعيين الميتة، وفي التوسط عن بعض الشيوخ ما يوافقه لكن اعترض بأن الذي يظهر تعيين الحية نظراً لحال الوقوع فإنه لما لم يعين زوجة وقع على الموجودة حال وجود الصفة لتعذره في غيرها وقضية الأوّل أنهما إذا بقيتا جاز له تعيين إحداهما لليمين قبل وجود الصفة واستدلاله في التوسط بكلام الشامل وقضية الثاني خلافه وهو الأوجه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(5/413)
وسئل نفع الله تعالى بعلومه وبركته المسلمين في امرأة خرجت من دار زوجها فقال إن لم ترجع فهي طالق فتطلق بماذا؟. فأجاب بقوله: إن ماتت قبل الرجوع طلقت قبل موتها أو الزواج أو هما لم تطلق كذا في التوسط، وقوله لم تطلق معترض بأن ما يحصل به البر لا فرق بين أن يفعل في حال الزوجية أو البينونة بخلاف ما به الحنث فعليه لو مات ثم ماتت ولم ترجع وقع الطلاق قبيل موته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن شهدا بأنه سرح زوجته فهل يقضى عليه بالطلاق؟. فأجاب بقوله: نعم يقضى عليه به ولا نظر لاحتمال أنه سرح رأسها ذكره أبو زرعة.
وسئل نفع الله تعالى به وبركته لو قال لزوجته أنثياك طالق فهل تطلق؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه في ذلك أنه إن ثبت أن لها أنثيين بقول أهل الطب طلقت وإلا فلا، وعلى هذا يحمل كلام من أطلق عدم الوقوع ومن أطلق الوقوع محتجاً بأن لها أنثيين داخل الفرج إحداهما للشعر والأخرى للمنى كما في الرجل.
وسئل عن رجل طلب في ليلة غشيان زوجته وراودها عن نفسها فامتنعت وقالت له حلفت أنك ما تأتني الليلة فقال لها كفري عن يمينك ومكنيني وعليّ كفارتها وإلا أحلف أنا يميناً لا تكفر فلم تمكنه، فقال لها إن لم تمكنيني الليلة من نفسك فأنت طالق ثلاثاً باقي ما بقي ولم يعين في كلامه باقي الليلة أو باقي الشهر أو باقي السنة أو غير ذلك ومضت الليلة على ذلك فهل يقع عليه الطلاق الثلاث أم له من ذلك مخرج؟. فأجاب بقوله: نعم يقع عليه الطلاق الثلاث بقول الليلة، وقوله باقي ما بقي إن أراد أنه ظرف لتمكنيني وأراد به زمناً معيناً أكثر من بقية الليلة كان مناقضاً لقوله الليلة فيلغو وكذا إن أراد أنه ظرف لقوله طالق لأن فيه توقيتاً للطلاق وهو في مثل ذلك ممنوع والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/414)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين عمن قال أنت طالق قبل موتي بضم القاف وفتح الباء طلقت قبيل موته كما في الروضة، واعترضه الإسنوى فقال وما ذكر من فتح باء قبل غلط لم يذكره أحد وإنما فيه ضم الباء وإسكانها كنقيضه وهو الدبر ذكره الجوهري وغيره وبأن الرافعي و ابن الرفعة لم يتعرضا إلا لضم القاف فقط اهـ. ورده ابن العماد بأن قبل هنا ليست نقيضة بعد بل بمعنى ما يستقبل فمعنى أنت طالق قبل موتي أي عند استقباله، وذلك قبيله كما دل عليه كلام الأزهري . قال وفي كلامه ما يدل على أنه لو كسر القاف أيضاً طلقت قبيل الموت اهـ. قال شيخ الإسلام زكريا في شرح الروض: وفي رده نظر لأن الإسنوى لم يجعل قبل نقيضة بعد بل جعلها نقيضة الدبر ثم قال عليّ إن الضبط المذكور ليس في كلام الأزهري اهـ، فما الذي تعتمدونه وهل عن كلام الروضة جواب شاف؟. فأجاب بقوله المعتمد كلام الروضة ووجهه أن هذه الصيغة الآن مترددة بين أن تكون بمعنى قبل بفتح القاف وإسكان الباء فيقع الطلاق حالاً أو بمعنى قبل بضم القاف وإسكان الباء أو ضمها فيقع قبيل الموت والعصمة ثابتة بيقين فلم يوقع النووي بها حالاً بل قبيل الموت لأنه المحقق وهذا فقه ظاهر ولا نظر إلى كونها لم يذكرها أحد لغة إن سلمناه لأن غاية الأمر أنه أخطأ بفتح الباء، وهذا الخطأ لا يصير الكلمة لا معنى لها أصلاً حتى يقع الطلاق حالاً كما هو ظاهر بل يصيرها مترددة بين قبل وقبل السابقتين فحيث لم يرد بها مدلول أحدهما حكمنا بالمحقق وهو الوقوع قبيل الموت وألغينا المشكوك فيه وهو الوقوع حالاً فاندفع ما اعترض به الإسنوى وبان أنه لا يلاقي كلام النووي وأن ما ذكره أجنبي عما ذكره النووي من كل وجه فالحق ما قاله النووي رحمه الله تعالى ورضي عنه.(5/415)
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال أنت تالق بالتاء فهل يحنث؟. فأجاب بقوله: إن كان من قوم لغتهم إبدال الطاء تاء كان صريحاً، لأن هذا الإبدال لغة قوم من العرب وإلا فهو كناية.
وسئل بما صورته حلف صائم أن امرأته طالق إن أفطر على حار أو بارد فما حيلته؟. فأجاب بقوله: أفتى ابن الصباغ بأنه حانث إذ لا بد من الفطر على أحد هذين، و الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه لا حنث لإفطاره بالغروب لحديث: «فقد أفطر الصائم» وبه صرح القاضي أبو الطيب و الروياني ونقله الرافعي عن فتاوى الغزالي والتحقيق في ذلك أنه إن أراد بالإفطار تعاطي المفطر كانت حيلته المخلصة له من الحنث بأن يدخل عوداً في صماخه أو نحوه، وحينئذ فقد صدق أنه لم يفطر على حار أو بارد وإن أراد الإفطار الشرعي فلا حنث أيضاً وإن أطلق فهو محل التردد والنظر لتعارض المعنى الشرعي والعرفي في ذلك، وكلام الشيخين فيمن حلف لا يصلي ونحوه يقتضي ترجيح المعنى الشرعي فالأوجه ترجيح ما قاله الشيخ أبو إسحاق ومن وافقه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عن شخص قال لزوجته إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق ثلاثاً ثم أذن لها بعد ذلك في الخروج في زمن معين كيوم الأربعاء مثلاً فلم تخرج فيه ثم إنها خرجت في غيره فهل يقع الطلاق عليها لخروجها بغير إذنه في هذا الزمن أو لا يقع لإذنه لها في الخروج في ذلك الزمن المعين؟. فأجاب بقوله: يقع عليه الطلاق الثلاث لأن خروجها في غير الوقت الذي عينه خروج بغير إذنه فيشملها يمينه لأن الفعل المقيد بوصف ينتفي اعتباره بانتفاء ذلك الوصف المقيد به فيصدق لغة وعرفاً أنها خرجت بغير إذنه، وحينئذ فلا مرية في وقوع الثلاث، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/416)
وسئل عن كيفية صيغة حل طلاق الدور عند من يصححه؟. فأجاب بقوله: صيغته فيما إذا علق بطلاق نفسه أو وكيله أن يقول لها طلقي نفسك فإذا طلقت نفسها طلقت على الصحيح سواء أقلنا يقع الطلاق بالتوكيل أم لا؟ لأن هذا تمليك على الصحيح فهو لم يطلق أما لو علق بأن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً فلا حيلة له إلا بسبب يوجب الفسخ بإعساره ونحوه فإذا فسخ بذلك تخلص من الدور، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله به عمن حلف بالطلاق على ثوب أنه ثوبه فبان ثوب غيره ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا ظنه ثوبه فحلف بناء على ذلك الظن ثم بان أنه ثوب غيره لم يحنث بذلك على المعتمد كما لا يحنث الناسي.
وسئل عن رجل حلف بالطلاق أن مكة والمدينة المشرفتين وحضرموت والشجر وعمان من اليمن وحلف آخر أنها من غيره من الحانث ومن أين إلى أين حد اليمن؟. فأجاب بقوله: لم أر في حد اليمن شيئاً يشفي وحينئذ فالقياس أنه يرجع في ذلك إلى عرف الحالف من كل منهما المطرد عنده فإن وافق عرف يمينه فذاك ظاهر، وإن خالف يمينه حنث وإن شك في ذلك فلا حنث على واحد منهما، والظاهر بحسب العرف وبادي الرأي أن عمان ومكة والمدينة ليست من اليمن فيحنث الحالف أنها أو إحداها منه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل عمن حلف بالطلاق ما يعيد مع زوجته وغالب الظن أن مراده بما إذا أو إن لكن العامة لا يعرفون حرف الشرط فما الحكم؟ وإذا سأله درسي كيف قلت فقال طلقتها ثلاثاً فقال كيف قلت فقال قلت أنت طالق ثلاثاً ما أعيد معك فقال له قد أقررت أنك لم تذكر ما ولا العيد فقال دهشت ما الحكم؟. فأجاب بقوله: متى عيد مع زوجته حنث ولا نظر إلى أن غالب الظن أنه أراد ما ذكر ويقبل تفسيره في الصورة الأخيرة باطناً بلا شك وكذا ظاهراً كما اقتضاه كلام البلقيني في فتواه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/417)
وسئل عمن حلف بالطلاق الثلاث أن صخرة بيت المقدس مرتفعة في الهواء بين السماء والأرض وحلف آخر به أنها متصلة موضوعة على البناء الذي تحتها ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إن أراد الأول بارتفاعها في الهواء أنها غير متصلة بالبناء الذي بني تحتها حنث لكذبه في ذلك، نعم إن غلب على ظنه ذلك فحلف اعتماداً على غلبة ظنه لم يحنث، وأما الثاني فلا يحنث لأن الاتصال بالبناء موجود فإن اتفقا على اتصالها بالبناء وحلف واحد أنها معتمدة عليه وآخر أنها ليست معتمدة عليه لم يحنث واحد منهما لأن الاعتماد أمر مشكوك فيه يحتمل وجوده، ويحتمل عدمه ومثل هذا لا يمكن أن يحنث فيه أحدهما لأنه تحكم ولا هما لأن أحدهما صادق فهو كمسألة ما لو قال إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وقال آخر إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق فلا يحنث واحد منهما ظاهراً وإن كان أحدهما حانثاً قطعاً لعدم تعيينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن شخص طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم قيل له يا فلان أطلقت زوجتك فقال طلقت طلقة واحدة ثم قال له آخر أنت طلقت ثلاثاً فقال الزوج صدقت بكلامك معك عليّ شهود فقال اشهدوا عليه أنه طلق ثلاثاً هل هذا يكون إقراراً مثل نعم أم لا؟. فأجاب بقوله: قوله صدقت كنعم فيكون إقراراً منه بأنه طلق ثلاثاً فيؤاخذ به، وقوله بكلامك الخ، إما أنه لا معنى له أو له معنى بأن يريد به رفع ما دل عليه صدقت، وحينئذ فهو من تعقيب الإقرار بما يرفعه فلا يعتمد عليه بل يؤاخذ بمدلول قوله صدقت كما تقرر.(5/418)
وسئل عمن قالت بذلت صداقي على صحة طلاقي فأجابها بقوله أنت طالق ثلاثاً آخر جزء من أجزاء عمري فهل يقع الطلاق ويبرأ من الصداق؟. فأجاب بقوله: يقع الطلاق آخر جزء عمره فلا ترث منه ولا يبرأ من شيء من الصداق على ما أفتى به بعضهم لعدم اتصال وقوع الطلاق بالبذل فإن لم يكن التعليق بالثلاث كان رجعياً لعدم مطابقة جوابه لبذلها لأنها طلبت بصيغة تقتضي الطلاق حالاً فأجابها بجواب يقتضي الوقوع قبيل موته وكثير من المتفقهة يغفلون عن ذلك فيلقنونه ذلك بعد أن يلقنوها البذل على الطلاق آخر عمره وهو لا يفيد مقصود المريض من حرمان الزوجة من الإرث وعدم الاعتداد بعدة الوفاة ولو لقنوها بذلت صداقي على تعليق طلاقي بآخر أجزاء حياتك ففعل كان بائناً، وأفاد المقصود لوجود المطابقة ووقوع الطلاق في آخر العمر كما ذكر هو ما نقله الروياني عن والده وهو المعتمد كما قاله جمع متأخرون خلافاً لمن قال إنها تطلق حالاً، وفي الروضة في تعليق الطلاق ما يشهد للأول وعدم البراءة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل نفع الله تعالى بعلومه وبركته المسلمين عمن قال عليّ السبيل ما أفعل كذا فهل هو من ألفاظ الطلاق؟. فأجاب بقوله: بحث بعضهم أنه كناية فإن نوى به الطلاق عمل به وإلا كان لغواً وهو محتمل نظير ما لو قال على الحلال فإنه كناية، وكذا هذا إلا أن يفرق بأن هذا اعتيد استعماله في الطلاق بخلاف عليّ السبيل ومثله بالأولى على الحق.(5/419)
وسئل عمن قال لزوجته أنت طالق إن لم تتزوجي بفلان فهل تطلق حالاً أو لا؟. فأجاب بقوله: الذي أفتى به ابن قاضي شهبة وعمر الفتى أنه يقع حالاً لأنه مستحيل البر ومستحيله يقع الطلاق به حالاً كان لم تصعدي السماء والذي أفتى به الشرف ابن المقري وجماعة أنه لا يقع أصلاً وأطال الاستدلال على ذلك ومع ذلك الوجه الأول لأنه قدر محذو فاجعل به البر ممكناً فقال يمكن أن يطلقها، ثم تنقضي العدة وتتزوّج فالتقدير إن لم تتزوّجي بعد طلاقي إياك والأصل عدم هذا التقدير، وأيضاً فقوله إن لم تتزوّجي بفلان شرط إلزامي أي أنت حلال لكل أحد إلا فلاناً فلا تحلين له مريداً إلزامها أن لا تتزوّج به وهذا شرط مستحيل شرعاً فإنها إذا طلقت حلت لفلان وغيره فأشبه أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك جميع أحكامه بل بعضها وهو ملك لما سوى فلان، وهذا شرط إلزامي والطلاق وإن قبل التعليق فلا يقبل إلحاق الشرط الإلزامي به كأنت طالق بشرط أن لا تدخلي الدار وأن لا تحتجبي مني فإنه يقع الطلاق جزماً وإن دخلت الدار كما قاله ابن الرفعة والسبكي وغيرهما، وبهذا ظهر أن الأول في مسألتنا هو المعتمد لما تقرر أن هذا شرط إلزامي فيقع ويلغو إلزامه لها ما لا يلزمه شرعاً هذا لو فرض إمكانه فما بالك بالمستحيل شرعاً ومحل الخلاف إن كان التعليق بأن لم لأنه لا يشترط فيه فور فإن كان بإذا لم تتزوّجي وقع الطلاق حالاً اتفاقاً، ولا فرق في الكل بين أن يقول بفلان أو يقتصر على إن لم تتزوجي لما تقرر أن المعنى إلزامها أن لا تتزوج بغيره فلم يفترق الحال بين ذكر الغير وعدم ذكره.(5/420)
وسئل ما المعتمد في مسألة الدور في الطلاق؟. فأجاب بقوله المعتمد وقوع المنجز كما رجحه الشيخان وتبعهما فحول المتأخرين كابن الرفعة والسبكي والبلقيني وغيرهم، بل نقل بعضهم عن الإمام الدارقطني أنه قال إن الإمام ابن سريج خالف الإجماع بقوله بصحة الدور وكان هذا هو مستند قول شيخ الإسلام في فتح الباري أن الدور باطل بالإجماع لكن يتعين تأويل هذه المقالة لما في الروضة عن الأكثرين أنهم قائلون بصحة الدور بأن المراد أكثر المجتهدين في عصر الشافعي وما قبله، وجرى كثيرون على أنه لو حكم بصحته حاكم نقض حكمه ومن ثم كان الإمام ولي الله إسماعيل بن محمد الحضرمي يقول ائتوني بزوجة الملقي للدور حيث طلقها بعده وانقضت عدتها لأتزوجها وناهيك به علماً وورعاً قيل: ولم ينص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على الدور الجعلي بل على الدور الشرعي الذي لا خلاف في اعتباره، ومن نسب إليه الأول فقد غلط وجهل ولا تغتر بما وقع للأكثرين لأنه زلة وقد نهينا عن اتباع زلات العلماء كما قاله بعض المحققين في مثل هذه الواقعة اهـ.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/421)
وسئل عمن قال لزوجته عليّ الطلاق الثلاث لو تغدي إلى بيت أهلك من غير رضائي ما كان إلا فراقك فغدت من غير رضاه لبيت أهلها فهل يقع الطلاق الثلاث مطلقاً أو عند اليأس وهل يصدق إن قصد الاستثناء وهل حذف إلا كوجودها ويحصل الفراق بطلقة رجعية أو لا؟. فأجاب بقوله: اختلف في هذه جمع يمنيون، فأفتى بعضهم بأنها تطلق ثلاثاً لأنها غدت إلى بيت أهلها بغير رضاه وهو عامي لا يفرق بين التعليق والتنجيز ولا قصد شيئاً وأفتى آخر بأن قوله كان إلا فراقك تعليق على عدم استمرار امرأته إن غدت إلى بيت أهلها، والظاهر الفرق بين إلا وعدمها، وقد أشار في فتاوى الأصبحي إلى نظير المسألة بقوله إن رحت إلى أهلك فهو تمام طلاقك ولم يكن له نية أن لفظ التمام لا يقتضي الثلاث على المشهور الذي أجاب به أكثرهم، وظهر لي أن تمام كقوله كان إلا فراقك اهـ. وفي كل من هذين الجوابين أنظار ظاهرة فالوجه إفتاء بعضهم بقوله أما إفتاء الأول بالوقوع بمجرد الغدوّ لبيت أهلها فغير صحيح، لأن لفظ المعلق اشتمل على التعليق بشيئين بالغدوّ لبيت أهلها وعدم فراقها فانحل كلام الزوج حينئذ إلى أنه قال إن غدوت لبيت أهلك ولم أفارقك فأنت طالق ثلاثاً فمتى غدت إليهم وفارقها فوراً أو تراخيا ولو بطلقة رجعية انحلت الثلاث وإن لم يفارقها حتى مات أحدهما وقعت الثلاث قبيل الموت، وأما إفتاء الثاني بأنه معلق الطلاق على عدم استمرارها فغير ظاهر فإنه إنما علقه على الذهاب وعلى عدم فراقه لها بعد الذهاب، وقول الثاني الظاهر الفرق بين إلا وعدمها غير ظاهر فإن قوله إلا كان فراقك فيه تعليق الثلاث على ما ذكر من الأمرين، وقوله كان فراقك فيه تعليقه على مجرد ذهابها إذ المعنى يلزمني الثلاث إن غدوت لأهلك حصل الفراق.(5/422)
وسئل عمن قال لو أبرأتني فلانة وأبوها من صداقها فهي طالق فهل يقع الطلاق بإبرائهما؟. فأجاب بقوله: لا يقع كما أفتى به الكمال الرداد وشيخه الفتى لأن المغلب في التعليق وجود الصفة الصحيحة وبراءة أبيها لغو فلم توجد منه براءة صحيحة.
وسئل عمن قالت لزوجها طلقني فقال هي طالق فهل تطلق؟. فأجاب بقوله: نعم تطلق لقولهم لو نادى إحدى زوجتيه بيا حفصة فأجابته عمرة فقال أنت طالق طلقت المجيبة ظاهراً فإن قال أردت المناداة طلقت أيضاً ظاهراً وباطناً.
وسئل عمن وكل من يكتب له الطلاق ونوى فهل يقع؟. فأجاب بقوله: لا تصح النية إلا من الكاتب فإن وكله في النية أيضاً فيكتب الوكيل ونوى وقع وإلا فلا ويجري ذلك في سائر العقود التي تنعقد بالكتابة لا تنفذ إلا إن كان الكاتب هو الناوي سواء الكاتب عن نفسه أو عن غيره.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عمن قالت له طلقني وهي حامل فقال إذا تحملت بما في بطنك إلى أن يعرفني فأنت طالق فهل تطلق حالاً أو لا؟. فأجاب بقوله: إن بين المدة والنفقة فأجابته طلقت بعد المدة وإلا فلا، لأن التعليق لا يحتمل الجهالة بخلاف ما إذا أتى بصيغة تنجيز كطلقتك على أن تتحملي به خمس سنين ووصف الملتزم بصفة السلم فقبلت طلقت فوراً وإن لم يصفه وقع بمهر المثل، والفرق أنه في التنجيز يصح الخلع على المجهول بخلافه في التعليق.(5/423)
وسئل نفع الله تعالى بعلومه وبركته المسلمين عمن قال إن لم تخرجي من بيتي بشيء فأنت طالق فقالت خرجت بغير شيء وقال بل بشيء فلا يقع فمن المصدق منهما؟. فأجاب بقوله: قضية ما في أصل الروضة عن المتولي في إن خرجت بغير إذني أن القول قولها هنا أيضاً، لكنه استشكل بأن القول قوله في أنت طالق للسنة ثم ادعى وطأها في هذا الطهر وفيما لو علق طلاقها بعدم الوطء، ثم اختلفا وفيما لو علقه بعدم الإنفاق عليها، ثم ادعى الإنفاق فإنه يصدق بالنسبة لعدم الحنث وأخذ بعضهم من هذه النظائر عدم الحنث في صورة السؤال، وزعم أن ما في الروضة ضعيف وليس في محله ولا يرد على ما في الروضة شيء من تلك المسائل، لأن نحو الوطء والإنفاق من شأنه الخفاء ومشقة إقامة البينة عليه بخلاف الإذن وخروجها بشيء من حوائجه ونحوها فافهم ذلك فإنه مهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/424)
وسئل عمن لو أكل قط حمام إنسان فحلف ليقتلنه فتمكن من قتله فلم يقتله حتى مات القط، فأفتى بعضهم بأنه يحنث كما لو حلف لا يفارق غريمه فأعسر الغريم فإنه إذا فارقه حنث وإن حرمت عليه الملازمة وأفتى بعضهم بأنه لا يحنث كما لو قال أنت طالق ثلاثاً إن لم أطأك الليلة فوجدها حائضاً أو محرمة فإنه لا يحنث بترك وطئها خلافاً للمزني فما المعتمد من الجوابين؟. فأجاب بقوله المعتمد الأول وإن كان في قياسه نظر لأن اليمين في مسألة الغريم انعقدت مطلقة فعمت حالتي اليسار والإعسار فليس فيها تنصيص بالحلف على معصية بخلاف مسألة السؤال، وإنما نظيرها لو حلف ليقتلن زيداً أو ليشربن الخمر فإنه لا يبر إلا بقتله أو شربه وإن كان معصية لأن اليمين على المعصية وفعل الواجب وتركه منعقدة ويجب الحنث فيها، وأما مسألة الغريم فلا تنصيص فيها على المعصية إلا من حيث أن أفارق نكرة في سياق النفي فتعم آحاد النفي كلا رجل في الدار، وما تعلق به من ظرف كقوله : «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده» فإنه يعم كل عهد وكلا أشرب ماء من إداوة فإنه يعم كل إداوة، وعموم النكرة في سياق النفي إما ظاهر كلا رجل في الدار برفع رجل أو نص كلا رجل بفتح رجل أو مؤكد لذلك التنصيص كلاً من رجل ولا أفارق من الظاهر في العموم فيعم حالتي اليسار والإعسار فعلم أنه يجب عليه في مسألة الهر الحنث بترك القتل إلا أن يباح له قتله بأن يصول على نحو طعامه ولا يمكنه التخلص منه إلا بقتله هذا ما في الجواب الأول، وأما جواب الثاني فإنه فاسد حكماً وقياساً، أما الحكم فلما تقرر فيما لو حلف ليقتلن زيداً أو ليشربن الخمر، وأما القياس فلأن الحلف في مسألة الوطء على فعل مباح وهو ينعقد اليمين فيه على الجائز شرعاً إذ لا عموم فيه لأن قوله إن لم أطأ حث على الوطء والأيمان المطلقة تنزل على المباحات فنزل على ما يجوز فعله ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل الميتة وحصول الفيئة بوطء الزوجة(5/425)
في الحيض لا تعلق له بالحنث إذ لو وطىء في المدة ناسياً لليمين أو مكرهاً لم يحنث وحصلت الفيئة على الأصح، وكذا لو استدخلت ذكره بغير اختياره لا ينحل يمينه قطعاً وتحصل الفيئة على الأصح، فإن قلت لم لا نزل قتل الهر على حالة الإفساد التي يحل قتله فيها، قلت تلك حالة نادرة فلا تعلق بها اليمين، ألا ترى أنهم لم يحملوا الحلف على قتل زيد أو شرب الخمر على الحالة التي يحل قتله وشربها فيها، والحاصل أن الحالف متى تمكن من قتل الهر ولم يقتله حنث مطلقاً إلا أن ينوي تلك الصورة المخصوصة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عمن حلف بالطلاق لا يصلي خلف زيد فولي إمامة الجمعة فهل تسقط عن الحالف أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم تسقط عنه لأن مشقة فراق الزوجة تزيد على ما ذكروه من كثير من أعذار الجمعة وأيضاً فملك الزوجة يشبه فواته فوات المالية، وفي الجواهر ما يؤيد ذلك ويشهد له بالأولى وهو أن الزوجة لو نشزت ورجا ردّها إلى الطاعة فاشتغل بردها عذر في الجمعة كما لو اشتغل بصلاح ماله الذي يخشى فساده لو صلى الجمعة لا يقال لم لا يكون الإيجاب الشرعي عذراً في عدم الحنث كالإكراه الحسي فيصلي الجمعة خلفه ولا يحنث لأنه حلف باختياره على ما يعم المعصية وغيرها كما لو حلف لا يفارق غريمه فأعسر ففارقه فإنه يحنث وإن حرمت عليه ملازمته وصرحوا بأنه لو حلف وهو في يد الكفار على أنه لا يهاجر لزمته الهجرة ويحنث لأن ذلك باختياره وبان من بيده وديعة يلزمه إخفاؤها فإذا حلف كاذباً حنث لأنه باختياره والأولى لهذا الحالف أن يرفع القضية إلى حاكم فيلزمه بصلاة الجمعة فلا يحنث لإكراه القاضي وإلزامه له.(5/426)
وسئل عن رجل طلق زوجته ثم سأله رجل طلقت زوجتك فقال تسعين طلقة وهي في العدة فما يلزمه؟. فأجاب بقوله: إن أراد الملتمس بذلك الاستخبار كان إقراراً فيؤاخذ به ما لم يكن كاذباً فله معاشرتها باطناً بعد الرجعة، وإن أراد بذلك التماس الإنشاء من المطلق وقع عليه الثلاث مطلقاً، لأن طلقت معاد في الجواب لذكره في السؤال وما فيه معاد في الجواب فكأنه قال طلقتها تسعين طلقة قاصداً بذلك الإيقاع فتلحقها الثلاث لأن الفرض أن الطلاق رجعي وأن العدة باقية وما ذكرته في الحالة الثانية مأخوذ مما قالوه فيمن قيل له التماساً للإنشاء أطلقت زوجتك فقال نعم مثلاً بجامع إن نحو، نعم ليست من صرائح الطلاق لكنها لما وقعت بعد السؤال المعاد في الجواب نزلوها منزلة طلقتها وإذا ثبت هذا في نحو نعم الذي لا دلالة فيه على طلقتها إلا مجرد ذلك التنزيل فأولى في تسعين المستدعي تقدير عامل وإن لم يكن سؤال ولا إنشاء فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن امرأة ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً ثم رجعت هل يقبل رجوعها؟. فأجاب بقوله: نعم يقبل رجوعها كما في التدريب لأن المرأة قد تنسب ذلك لزوجها من غير تحقيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/427)
وسئل عن جماعة جاءوا إلى جماعة آخرين فحلف أحد الجماعة الواردين بالطلاق ما نحن لكم بضيفان أو ما نذوق لكم طعاماً أو ما نذوق عندكم زاداً وقصد اليمين عنه وعن أصحابه فحلف أحد الجماعة المقدوم عليهم ما تروحون إلا بعد زاد فهل يبرأ الحالف الأول برجوع أحد منهم إلى محله وبالمحل باقيهم الزاد ويتملكون الزاد ببيع أو هبة أو ما أشبه ذلك، فإن قلتم نعم بما ذكرناه فذاك، وإن قلتم بخلافه فما تكون الحيلة في الخلاص من الحنث لهما أوضحوا لنا الجواب عن كل لفظ بما يقتضيه؟. فأجاب رحمه الله بما صورته إذا حلف ما نحن لكم بضيفان وقصد نفسه وجماعته وحلف أحد المقدوم عليهم ما تروحون إلا بعد زاد فأطعمهم أحد المقدوم عليهم قبل رواحهم زاداً لم يحنث واحد من الحالفين حيث لا نية لهما بأن أطلقا هذين اليمينين كما اقتضاه كلام السائل، لأن لفظ الأول فيه ما نحن لكم بضيفان وفيما ذكرناه لم يضيفهم الجميع فإن أراد الحالف الأول أن أحداً منهم لا يصير ضيفاً لأحد من المقدوم عليهم فلا خلاص له، وإن أراد الثاني أن أحداً منهم لا يروح إلا بعد أكله زادا من عند أحد المقدوم عليهم لم يبرأ إلا إن أكلوا كلهم زاداً من عند أحد المقدوم عليهم، ويقاس بما ذكرته بقية النيات أو يسأل السائل من الحالفين عن مرادهما بالحلف هنا وفيما مر وقد سئل بصورة ذلك ليكتب له الجواب على ثبت من غير تردد فإن لم يكن لهما نية فالحكم ما ذكرناه أوّلاً وإن حلف الأوّل ما نذوق لكم زاداً فمتى ذاق أحد القادمين زاداً للمقدوم عليهم أو لبعضهم أن أراده حنث وإن لم يذق أحد منهم أو كلهم شيئاً للمقدوم عليهم فلا حنث، وأما الحالف الثاني فإن أراد مطلق الزاد فذاقوا زاد الغير المقدوم عليهم لم يبرأ إلا بأكلهم له قبل رواحهم وإن حلف الأول ما نذوق عندكم زاداً فمتى ذاقوا عندهم أي في المحل المنسوب إليهم عرفاً مع حضورهم فيه زادا للمقدوم عليهم أو غيرهم حنث الأول ولم يحنث الثاني لأنهم لم يروحوا إلا(5/428)
بعد زاد وإن راحوا بلا أكل زاد حنث الثاني دون الأول، وفي صورة ما نذوق لكم زاداً ولا نية للحالف فيبرأ بتملكهم للزاد قبل ذوقه ثم على السائل وفقه الله أن يبحث عن اللفظ الواقع من الجانبين وعن كون الحالفين أو أحدهما أرادا شيئاً أو أطلقا ويتأمل ما ذكرته في هذا الجواب فإن فهم حكمه من ذلك فهماً يقينياً عمل به وإلا أرسل لما يذكر أن له مفصلاً لنذكر له حكمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين أقر بطلاق زوجته ثلاثاً ثم قال إنه علق الطلاق على تمام البراءة ما الحكم؟. فأجاب بقوله: من أقر بطلاق زوجته ثلاثاً ثم ادعى أنه كان علقه على ما ذكر لا تقبل منه هذه الدعوى ولا يلتفت إليها فيفرق بينه وبينها ولا يمكن من نكاحها إلا بعد أن تتزوّج غيره تزويجاً صحيحاً ويغيب حشفته في قبلها ثم يطلقها ثم تنقضي عدتها منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/429)
وسئل عن رجل حلف بالطلاق وشهد عليه شاهدان قال أحدهما أشهد أنه قال أنت طالق ستة عشر طلقة، وقال الآخر أشهد أنه قال أنت طالق ألف طلقة، فأجاب بعض فقهاء زبيد بجواب مبسوط حاصله أنه لا يقع عليه إلا طلقة فما التحقيق المعتمد في ذلك؟. فأجاب ما نقل عن بعض علماء زبيد من وقوع طلقة فقط غير معتمد ولا معوّل عليه بل لا وجه له ولا قياس يعضده وليته. قال لا يقع شيء فإن له وجهاً مّا أخذا من قولهم فيما لو شهد واحد أنه غصبه بكرة وآخر أنه غصبه عشية حلف المدعي مع أحدهما وأخذ الغرم لأن الواحد ليس بحجة فلا تعارض اهـ، فهذا قد يتوهم منه من لا تحصيل عنده عدم وقوع شيء في مسألتنا لأن الواحد ليس بحجة فلا تعارض ولا يمكن المدعي هنا حلفه مع أحدهما، لأن الطلاق لا يثبت بشاهد ويمين وهذا مع أنه يظهر ببادىء الرأي أن له وجها تمويه باطل وليس ذلك نظير مسألتنا بوجه، لأن الشاهدين فيها لم يقع بينهما تعارض إلا في الزائد على ستة عشر، لأن من شهد بالألف لم يعارض من شهد بستة عشر إلا فيما زاد عليها، وأما الستة عشر فهما متفقان عليها لما صرحوا به من أن من أقر بعشرة مثلاً كان مقراً بخمسة، وبه يعلم أنهم مصرحون بأن من أقر بألف كان مقراً بستة عشر فيقع منها ثلاث ويعزر على إيقاعه الزائد كما صرح به الزركشي نقلاً عن الروياني ، وقضية كلام ابن الرفعة فإنه، أعني الزركشي ، قال: واللام في الطلاق للعهد الشرعي وهو الثلاث فلو طلق أربعاً. قال الروياني عزر وظاهر كلام ابن الرفعة أنه يأثم اهـ، وشاهد ما ذكرته من وقوع الثلاث قولهم لو شهد واحد أنه أخذ منه ديناراً وشهد آخر أنه أخذ منه نصف دينار ثبت نصف الدينار لاتفاقهما عليه وللمدعي الحلف مع الشاهد بالنصف الآخر لأن الشاهد بالنصف لا يعارض الشاهد واليمين في النصف الآخر فكما ثبت النصف الأول لاتفاقهما عليه كذلك يقع هنا الطلاق الثلاث لاتفاقهما عليه، فهذا هو الصواب فاعتمده ولا تغتر بما خالفه وبما قررته يعلم(5/430)
أنه لا فرق في صورة السؤال بين ما ذكر فيها من شهادة واحد بستة عشر وآخر بألف وبين غيره كشهادة اثنين واثنين للاتفاق على الثلاث بكل تقدير وهذا لا إشكال فيه وإنما الذي هو محل النظر لو شهدت بينة بأنه طلق واحدة وشهدت بينة أخرى بأنه طلق ثلاثاً فقد تعارضا في الزائد على الواحدة فهل يقع هذا الزائد والذي يتجه وقوعه أخذاً من قولهم ولو اختلفا في قدر المتلف بأن شهدت بينة إن وزن ما أتلفه المدعي عليه دينار وشهدت بينة أخرى أن وزنه نصف دينار لزم الدينار أخذاً بشهادة الأكثر، لأن معها زيادة علم بخلاف شهادة التقويم فإن قومته بينة بدينار وأخرى بنصف فإنه يجب النصف لاتفاق البينتين عليه وتعارضهما في الباقي وفرقوا بين هذه وما قبلها بأن مدرك شهادة التقويم الاجتهاد وقد تطلع بينة الأقل على عيب فمعها زيادة علم، فالحاصل أن زيادة العلم عند التعارض في الوزن مع الشهادة بالأكثر وعند التعارض في القيمة مع الشهادة بالأقل وكالتعارض في الوزن التعارض في الذرع أو العد أو الكيل فيؤخذ بشهادة الأكثر وأما
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
قول الأذرعي قياس كلامهم الذي تقرر في مسألة الوزن أنه لو أقام بينة بعدد المعدود أو بأذرع المذروع فعارضه المدعي عليه ببينة بأنه أنقص من ذلك كنصفه قدمت بينة المدعي ولا يخفى ما فيه فهو مردود أعني قوله ولا يخفى ما فيه ووجه رده أن ما ذكر أنه قياس كلامهم صحيح لا مرية فيه، لأن من تأمل ما قالوه في مسألة الوزن مما ذكرته فيها علم جريان مثله في العد والذرع والكيل، إذ لا فارق بين الأربعة كما هو ظاهر جلي وإذا لم يتصور بينهما فارق لم يتأت قوله ولا يخفى ما فيه إذ لا شيء فيه لا خفي ولا ظاهر بل هو الجاري على سنن الاستقامة فاندفع قوله ولا يخفى ما فيه.(5/431)
وسئل عمن قال لآخر بادلت أو بادلتك بزوجتي إلى زوجتك أو بضيعتي إلى ضيعتك أو بقرتك أو زاقرت أو زاقرتك إلى ذلك فقال بادلت أو بادلتك أو زاقرتك أو زاقرت ويريدان بزاقرت معنى بادلت ما الحكم؟ وعمن قال لآخر طلق زوجتك وأزوجك أو على أن أزوجك ابنتي أو أختي أو قالت امرأة طلق زوجتك وأزوّجك نفسي أو على أن أزوجك نفسي أو وأزوّجك أو على أن أزوّجك ابنتي فطلق امرأته وقال هي طالق أو قال طلقت ما الحكم؟ وعمن أراد السفر فقال للناس إن لم أجىء هذه السنة أو إذا غبت عن زوجتي سنة فما أنا لها بزوج أو فما هي لي امرأة ما الحكم؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه في بادلت أو بادلتك بزوجتي إلى زوجتك أنه إن نوى به طلاقاً واحداً أو متعدداً وقع وإلا فلا فهو كناية فيه لصدق حدها عليه وهو ما احتمل الطلاق من غير تعسف، ولا شك إن بادلتك يحتمل الطلاق كذلك وقاعدة ما كان صريحاً في بابه ولم يجد نفاذاً في موضوعه يكون كناية في غيره تشهد لذلك وبادلت صريح في البيع كما يأتي فإذا استعمل في الزوجة ناوياً به الطلاق لم يجد نفاذاً في موضوعه وإذا لم يجد نفاذاً كذلك لزم كونه كناية فيه، لأن الغرض أنه يحتمله احتمالاً لا تعسف فيه، وكذا يقال في نحو بعتك نفسك إذا نوى به الطلاق أنه يقع به لأنه حينئذ كناية كما علم مما قررته ثم رأيتهم صرحوا بنحو ما ذكرته فإنهم جعلوا من كنايات الطلاق بعتك الطلاق، وأما قوله بادلتك بضيعتي إلى ضيعتك مثلاً فبيع لأن بادلت من صرائح البيع فإذا أراد بذلك بادلتك ضيعتي بضيعتك انعقد بيعاً وصارت الضيعة التي دخلت عليها الباء ثمناً والأخرى مثمناً وأما بادلت بضيعتي إلى ضيعتك فهو باطل لفقد كاف الخطاب المشترطة لصحة البيع وزاقرت إذا اشتهرت عند قوم بمعنى بادلت صارت كناية بيع وطلاق فإن نوى بها بيع صح أو طلاق وقع وإلا فلا، ومن طلق زوجته على أن يزوّجه زيد بنته لم يقع عليه طلاق إلا إن زوّجه فإذا زوّجه وقع الطلاق بائناً وللمطلق مهر المثل على(5/432)
المزوج الملتزم له بذلك ذكر ذلك ابن القطان لكنه قال فيما لو قال رجل لآخر طلق امرأتك على أن أطلق امرأتي وجعل كل منهما طلاق هذه بدلاً عن طلاق الأخرى يقع الطلاقان إذا فعلاه ولكل منهما الرجعة اهـ، فجعل ابن القطان الطلاق في هذه رجعياً يناقض جعله له في التي قبلها بائناً، ومن ثم قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
ابن كج في هذه لا رجعة لواحد منهما ولكل واحد منهما الرجوع على الآخر بمهر المثل ليوافق قوله ما قاله ابن القطان في تلك، والحاصل أن ابن كج يقول إنه بائن في الصورتين ويجعل العوض فيهما فاسداً حتى يقع بائناً ويجب مهر المثل وابن القطان يقول إنه بائن في الأولى رجعي في الثانية وعليه فالفرق أن العوض في الأولى وهو نكاح البنت مقصود لكنه لا يصلح للعوضية شرعاً فكان فاسداً ويلزم من فساده الوقوع بائناً بمهر المثل، وأما العوض في الثانية وهو الطلاق فهو غير مقصود عرفاً ولا شرعاً فهو بمثابة الدم وقاعدة الخلع أن عوضه إذا لم يقصد يقع رجعياً ولا مال وبهذا اتضح أن ما قاله ابن القطان من الوقوع بائناً بمهر المثل في الأولى ورجعياً بلا مال في الثانية هو الأوجه لما علمت من ظهور الفرق بينهما فافهم ذلك فإنه مهم وجواب بقية الصور التي ذكرها السائل علم مما قررته وهو أنه حيث كان المقابل للخلع تزويجاً فوجد وقع بائناً بمهر المثل أو طلاقاً وقع رجعياً، وقوله إن لم أجىء هذه السنة الخ كناية فإن نوى به طلاقاً واحداً أو متعدداً وغاب عنها سنة وقع ما نواه وإلا لم يقع شيء.(5/433)
وسئل عمن قال لزوجته أنت طالق فقيل له ثلاثاً فقال ثلاثاً أو قيل له طلقها ثلاثاً فقال ثلاثاً ما الحكم؟. فأجاب بقوله: الأوجه أخذاً مما أفتى به شيخنا خاتمة المحققين شيخ الإسلام زكريا سقى الله سبحانه وتعالى عهده أنه إن نوى بقوله ثلاثاً وقد بناه على مقدر الطلاق الثلاث وقع الثلاث، وكان التقدير هي طالق ثلاثاً أو طلقتها ثلاثاً وإن اختل شرط من ذلك لم يقع شيء وأما من أجاب بأنها طلقت واحدة لأن السؤال معاد في الجواب فكأنه قال هي طالق ثلاثاً لكن يمنع من وقوع الثلاث كونها غير منوية مع لفظ طالق، لأن شرط وقوع العدد كونه منوياً بنية مقرونة بلفظ الطلاق كاقتران نية الكناية بها فقد أخطأ كما بينه شيخنا المذكور حيث قال لم يصب في جوابه هذا سواء أوقع الواحدة بلفظ ثلاثاً كما يقتضيه أول كلامه لما لا يخفى أي من قوله أن السؤال معاد في الجواب أم بلفظ طالق المقدر لما فيه من إعمال مقدر يجوز عدم إرادته وإهمال متلفظ به ولا في توجيهه لأنه بعد أن اعتبر أن التقدير هي طالق ثلاثاً لا يحتاج إلى نية الثلاث واقترانها بطالق إذ نية العدد إنما يحتاج إليها كما ذكر عند عدم ذكر العدد ثم رأيت الأذرعي نقل عن فتاوى الإمام ابن رزين
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/434)
أنه سئل عمن قال قولوا لها أنت ورفيقتك طالق فقيل له لأي شيء لا تقول ثلاثاً فقال ثلاثاً فأجاب إن قصد بقوله ذلك إيقاع الطلاق الثلاث بلفظي هذا أي بلغوهما أني طلقتهما ونوى بذلك إيقاع الثلاث وقع الثلاث كما نوى وإن قصد إيقاع الطلاق مطلقاً من غير قصد عدد وقعت طلقة على كل واحدة منهما بذلك ويبقى قوله ثلاثاً إن قصد به إيقاع الطلاق الثلاث كأنه أراد طلقت الآن كلاً منهما ثلاثاً أو كلاً منهما طالق ثلاثاً وقع به تمام الثلاث إن دخل بهما وإن لم يقترن بقوله ثلاثاً قصد لم يقع شيء. قال الأذرعي في توسطه بعد نقله ذلك، وفي وقوع الثلاث في القسم الأوّل وقفة ولا سيما إن طال الفصل بين الكلامين لأن ثلاثاً بمفردها لا تصلح للإيقاع فتأمله اهـ، وفي ذلك تأييد لما تقرر أنه الجواب وأما توقف الأذرعي فهو ظاهر حيث لم يبن الكلام على المقدر الذي قررناه بخلاف ما إذا بناه عليه ثم رأيت ابن الصلاح أفتى فيمن قال لزوجته أنت طالق ثم سكت وراجع زوجته ثم قال ثلاثاً بائنة على كل مذهب بأنه إن كان قد نوى الثلاث أوّلاً بقوله أنت طالق وقعن وإن لم ينو ذلك أوّلاً لكن أراد ثانياً بقوله ثلاثاً تتمته وتفسيره وعنى بقوله ثلاثاً أنها طالق ثلاثاً وقع عليه الثلاث أيضاً، قال وليس هذا من قبيل إيقاع الطلاق بلفظ حذف بعضه اجتزاء بالباقي منه لدلالته عليه بناء على القرينة، ومما نص عليه من هذا النوع أنه لو قال ابتداء أنت ثلاثاً ونوى الطلاق وقع بمثل ذلك. قال الأذرعي بعد نقله عنه في توسطه قلت تأمل جوابه مع ما سبق عن صاحبه تقي الدين بن رزين وأما ما استشهد به من قوله أنت ثلاثاً فالأصح في الروضة أنه لا يقع به شيء وإن نوى ولم يذكر عن بعض الأئمة سواه فاعلمه اهـ. ويجاب عن مسألة الروضة بأنه لم يتقدمها ما يقتضي تقدير محذوف ينبني عليه قوله ثلاثاً فلم تؤثر فيها النية بخلاف مسألتنا فإنه سبق ما يقتضي تقدير ذلك المحذوف المبني عليه قوله ثلاثاً فصحت نيته ووقع به(5/435)
الثلاث ثم رأيتني في بعض الفتاوى بسطت الكلام على ذلك فراجعه مع هذا.
وسئل اشتهر في الترك إذا أراد أحدهم يطلق زوجته قال لها دستور فإذا غاب أو مات ولم يعلم هل نوى الطلاق أم لا ما الحكم؟. فأجاب بقوله: لا طلاق فيما ذكر وإن جعلنا لفظ دستور كناية لأن شرط الوقوع بها تحقق نية الزوج الطلاق بها وإلا لم يقع شيء لأن العصمة ثابتة محققة فلا تزال إلا بيقين وجعل دستور كناية له وجه فإنها تستعمل عرفاً في الإذن في المفارقة فإذا استعملها كناية في الطلاق فقد استعملها فيما يناسب معناها المشتهرة فيه عرفاً فلم يبعد جعلها كناية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/436)
وسئل عن حكم حل الدور بالصيغة التي نقلها السبكي و الإسنوى والأذرعي وغيرهم عن ابن دقيق العيد مع التنظير فيها وهي كلما لم يقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً و الدميري يقول هي إن لم يقع عليك طلاقي فأنت طالق فهل الصيغتان سواء، وقول الأزرق فإن قيل ما المخلص إذا قلتم بصحة الدور قلنا المخلص أن يقول للزوجة طلقي نفسك فتطلق نفسها لأنه تمليك على الأصح لكن حكى عن ابن أبي الصيف أنه لا مخلص له منه إلا بسبب يوجب الفسخ كالإعسار ونحوه اهـ. فعبارة ابن أبي الصيف حاصرة و الأزرق من الواقفين على مصنفات السبكي و الإسنوى وكثيراً ما ينقل عنهم من غير تعرض منه لما نقل عن ابن دقيق العيد ولا لما أظهراه من النظر مع نقله لعبارة ابن أبي الصيف الحاصرة فهل ذلك يدل على أنه لم يرتض ما نقل عن ابن دقيق العيد ؟. فأجاب بقوله: الذي نقلوه عن ابن دقيق العيد نقلاً عن بعضهم أنه إذا عكس التعليق فقال كلما تلفظت بطلاقك فأنت طالق قبله ثلاثاً فإذا طلقها انحل الدور ووقع الطلاق، قال: لأن الطلاق القبلي قد صار والحالة هذه معلقاً على النقيضين وهما الوقوع وعدم الوقوع وكلما كان لازماً للنقيضين فهو واقع ضرورة لاستحالة خلو الواقع عن أحدهما قال وقريب منه في الوكالة كلما عزلتك فأنت وكيلي فيعاد العزل بأن يقول كلما عدت وكيلي فأنت معزول فيقول عزلتك اهـ. وأما تنظير الإسنوى بأن الطلاق إنما يقع على تقدير صحة التعليق المتأخر ولقائل أن يمنع صحته لكونه غير قادر على التنجيز الذي هو فرعه فمردود بأنه منقوض بصور يصح فيها التعليق دون التنجيز منها الراهن إذا أعسر يصح تعليقه عتق المرهون بصفة فإذا وجدت بعد انفكاك الرهن نفذ العتق على الصحيح، ولا يصح تنجيزه ومنها العبد يصح تعليقه الطلقة الثالثة على عتقه ولا يصح تنجيزها وله فيه نظر ثان وهو سلمنا صحة التعليق الثاني لكن التعليق الأوّل لا يترتب عليه شيء لأن التفريع على صحة الدور واستحالة وقوع المعلق فيه(5/437)
وحينئذ فلا يصير الطلاق واقعاً على كل من التقديرين قال: واعلم أن المدرك في الطلاق على تقدير صحة التعليق إنما هو وقوعه على تقدير كل من النقيضين وبهذا يحصل المقصود وهو الطلاق بلا لفظ آخر على هذا التقدير والمدرك في الوكالة إنما هو تعارض التعليقين لأن كل تعليق مطلوبه خلاف مطلوب الآخر بخلاف الطلاق فلما تعارضا اعتضد العزل بالأصل إذ الأصل الحجر ولهذا لا يحصل العزل إلا بلفظ اهـ، ولم أر أحداً تعقب اعتراضه هذا وهو جدير بالتعقب، لأن قوله لكن التعليق الأوّل لا يترتب عليه شيء الخ لا يفيده في مطلوبه نفعاً لأن عدم ترتب شيء عليه إنما هو مع انفراده عما يعارضه، وأما بعد وجود معارض له وهو التعليق الثاني فقد ترتب عليه بواسطة انضمام هذا المعارض إليه شيء أي شيء وهو الوقوع لما تقرر أوّلاً أن سبب انحلال الدوران التعليقين لما وجدا وصحا لزم كون الطلاق القبلي معلقاً على النقيضين وهما الوقوع الذي اقتضاه التعليق الثاني وعدمه الذي اقتضاه التعليق الأوّل ويلزم من تعلقه بالنقيضين الوقوع ضرورة استحالة خلو الواقع عن أحدهما فاندفع قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/438)
الإسنوى وحينئذ فلا يصير الطلاق واقعاً على كل من التقديرين وإيضاح اندفاعه أن الأول لم يدع أنه واقع على كل من التقديرين، وإنما الذي ادعاه ما قررناه من كونه معلقاً بالنقيضين وأن كل ما كان كذلك فهو واقع لما مر وذلك لما صدر منه التعليقان ثم قال طلقتك كان هذا معلقاً بنقيضين وهما وقوع القبلي ثلاثاً لو وقع هذا اللفظ وهو مفاد التعليق الأوّل ووقوعه ثلاثاً لو لم يقع هذا اللفظ وهو مفاد التعليق الثاني فإذا صححنا كلاً من التعليقين فإن قلنا بتأثير كل منهما لزم اجتماع النقيضين أو بعدم تأثير كل منهما لزم وقوع النقيضين وكل من الاجتماع والارتفاع المذكورين محال فلزم أن أحدهما واقع، ولا بد وأن الواقع هو وقوع الطلاق لأن التعليق الأوّل لما وجد سد باب الطلاق فلما وجد التعليق الثاني مع قوله بعد طلقتك وقلنا بصحة التعليق الثاني التي سلمها الإسنوى كما مر لزم منعه لذلك السد واقتضاؤه للوقوع وإلا لزم المحال المقرر، وبهذا يتبين اندفاع قوله ولهذا يحصل المقصود وهو الطلاق بلا لفظ آخر مع قوله، ولهذا يحصل العزل إلا بلفظ بل لا بد من اللفظ في كل منهما كما تقرر واندفاع ما حاوله من الفرق بين هذا الباب وباب الوكالة على أنا وإن سلمنا الفرق بينهما لا يؤثر ذلك فيما قلناه، لأن الحكم في مسألتين قد يتفق مع اختلاف مدركهما فلا مانع أن يكون مدرك الوكالة غير مدرك ما هنا وإن اتفقا في الحكم وهو حل الدور السابق بالتعليق اللاحق على أن ابن دقيق العيد أشار إلى أن بينهما فرقاً ما بقوله وقريب منه في الوكالة الخ، فجعل بينهما تقارباً لا اتحاداً وهو عين ما يدعيه الإسنوى فلا وجه لاعتراضه عليه بما أشار إليه من الفرق بين البابين، واعلم أنه بحث انحلال الدور بأن يقول لها يدك طالق مثلاً بناء على أن الوقوع بالسراية بالنسبة إلى الطلقة أو المرأة المطلقة لا ينسب للمطلق وإنما هو تكميل من الشرع على تناقض فيه وقع للرافعي وإنما لم ينسد باب الطلاق(5/439)
عند قوله لها ذلك، لأن المعلق عليه وقوع طلاق عليها وفي هذا المثال لم يقع عليها وإنما وقع على بعضها اهـ، واعترضه ابن العماد بأنه كلام ساقط لأنه متى انسد عليه باب الطلاق لم يتمكن من إيقاع بعضه ولا من تطليق بعض المرأة لأن السراية فرع إيقاع الطلاق اهـ، وليس بذاك لأنه لم ينسد عليه باب الطلاق إلا إذا أوقعه على كلها دون بعضها لأن موجب الانسداد الدور المترتب على لفظه وهو متى أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً فإذا أوقعه على بعضها وقلنا بما مر لم يتناوله قوله وقع عليك، وإذا لم يستلزم وقوعه وقوع الثلاث قبله لم يحصل الدور فظهر أن لما قاله الإسنوى وجهاً وأن الدور ينحل به كما ينحل بما مر فهاتان طريقتان لحله، وأما ما نقل عن الكمال الدميري من حله بما مر عنه ففيه نظر لما تقرر في منقول ابن دقيق العيد، وإذا وقع النزاع في تلك مع تحقق التناقض فما بالك بهذه التي لا تناقض فيها بوجه فالوجه أنه لا يحصل بها انحلال، وأما ما نقل عن الأزرق فإنما يتضح إن كانت صيغة تعليقه كلما أو متى طلقتك وحينئذ فلا خصوصية لما ذكره لأنه حيث علق بذلك لم ينسد عليه باب الطلاق حتى يحتاج لحله وإنما ينسد الباب إذا عبر بقوله كلما أو متى وقع عليك طلاقي وهذه لا ينحل الدور فيها بما قاله الأزرق كما هو ظاهر، لأن قوله لها طلقي نفسك وإن كان تمليكاً للطلاق يسمى وقوعاً له وإن لم يسم إيقاعاً وحصر ابن أبي الصيف قد بان اندفاعه بما قدمناه أن له طريقين طريق ابن دقيق العيد وطريق الإسنوى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/440)
سئل عما لو قال عليّ في زوجتي بالطلاق الثلاث إن بإسكان النون أو تشديدها بفتح أو كسر بدك من مسايرتي الحق فسارا إلى الحق بعد مدة لكن لم يتسايرا معاً في الطريق ما حكمه؟ وعما لو قال عليّ في امرأتي بالطلاق الثلاث إن لم تعطني الحق هل هو تعليق للطلاق بنفي الإعطاء حتى لو أعطاه الحق لا تطلق امرأته أو لا؟. فأجاب بقوله: الجواب عن ذلك يحتاج إلى مقدمة في الكلام على صيغة عليّ في زوجتي بالطلاق هل هو صريح أو كناية أو لغو وللنظر في ذلك مجال منشؤه قولهم لو قال بالطلاق لأفعلن كذا كان لغواً لأن الباء من حروف القسم والطلاق لا يقسم به لكنها هنا محتملة لذلك، والمعنى حينئذ بالطلاق الثلاث عليّ في زوجتي لأفعلن كذا ونحو ذلك، ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي عليّ في زوجتي الطلاق والاحتمال الأوّل يقتضي أنه لغو، والاحتمال الثاني يقتضي أنه صريح وإذا تردد لفظ كذلك رجع إلى نية الحالف فإن نوى بالباء القسم كان لغواً أو كونها زائدة كان صريحاً وإن لم ينو شيئاً أو مات ولم تعلم نيته فهذا هو محل التردد وأصل بقاء العصمة يرجح النظر إلى عدم تأثيره إذا تقرر ذلك فحيث انعقدت يمينه نظر في لفظ المحلوف عليه وهو أن بدك من مسايرتي الحق وقواعد اللغة قاضية على هذا اللفظ باحتمالات متعددة فإن كان الحالف يفرق بين فتح إن وكسرها مع تخفيفها أو تشديدها عومل بقضية فرقه وأدير عليه حكم ما تلفظ به منها وإن كان عامياً لا يفرق بين تلك المحتملات رجعنا إلى نيته، فإن قال نيتي أنه لا بد أن يسير معي أو وحده على الفور أو التراخي إلى القاضي أو غيره ممن يخلص لي حقي الذي عليه آخذناه بما نوى من هذه المحتملات لأن اللفظ محتمل لجميعها وإن لم يكن على السواء وإن لم ينو شيئاً فإن اطرد عرفهم باستعمال هذا اللفظ في معنى محتمل له حمل عليه وإنما لم نقل في عليّ في زوجتي بالثلاث بالرجوع إلى العرف، لأن العرف لا مدخل له في الصرائح وإنما غايته أنهم إذا تعارفوا لفظاً(5/441)
طلاقاً وكان محتملاً له يكون كناية وإن لم يطرد عرفهم في ذلك اللفظ بشيء فإن نطق بأن مكسورة مخففة كان ظاهر كلامه أنها نافية، وأن المعنى لا بد لك أي لا غنى لك عن أن تسايرني الحق فيحمل كلامه على ذلك فإن سايره الحق بأن ذهب هو وإياه ولو مترتبين إلى من يحكم بينهما بالحق ولو بعد مدة من الحلف لم يحنث وإلا حنث باليأس بموت أو نحوه وإنما لم تشترط المعية، لأن المسايرة إلى الحق تصدق باجتماعهما عند من يحكم به فليس في لفظه ما هو نص في المعية عند السير ولا ما هو نص في فورية المسايرة فحملناه على ما تقرر من اجتماعهما عند حاكم أو محكم يحكم بينهما بالحق وإن شدد أن مع كسرها كان ظاهر كلامه الحلف على إثبات غناه عن مسايرته إلى الحق فإن كان كذلك لم يحنث وإلا حنث وإن فتحها مخففة كان نظير ما قالوه في أنت طالق إن دخلت الدار بفتح أن مخففة، ففي النحوي يقع حالاً لأنها للتعليل وفي غيره يكون بمعنى أن المكسورة المخففة لأن العامي لا يفرق بينهما فيأتي هنا ما مر في المكسورة المخففة وإن فتحها مشددة كان معناه قريباً مما مر في معنى المكسورة المشددة فيأتي فيها ما مر في تلك هذا كله حيث لا نية ولا عرف كما تقرر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/442)
وسئل عن مسألة وقع فيها جوابان مختلفان صورتها إذا قلنا بتصحيح الدور فطلق رجل زوجته ثلاثاً ثم ادعى أنه كان علق عليها مسألة الدور قبل الطلاق يريد دفع الطلاق الثلاث بذلك وصدقته المرأة على ذلك فهل يقبل قوله في دعواه مسألة الدور أم لا؟ فيقع عليه الطلاق الثلاث. أجاب الأول فقال نقل الشيخ النهاري اليمني في كفايته عن الإمام ابن الصلاح أنه إذا أقر بعدم الإلغاء ثم طلقها ثم ادعى الإلقاء قبل الطلاق لم يقبل قوله ولا تسمع بينته، نعم إن قامت حسبة قبلت وكذا إن أقامتها المرأة أو صدقته على الإلغاء قبل قال وفي الروضة ما يفهمه اهـ، وظاهره أنه إذا لم يقر بعدم الإلغاء وطلقها ثلاثاً ثم ادعاه أنه يقبل قوله. وأجاب الثاني فقال لا يقبل قوله ولا تسمع بينته ويقع عليه الطلاق الثلاث ولو صدقته المرأة لأمرين: أحدهما: أن الإمام ابن عبد السلام ذكر في كتابه المسمى بالغاية أن الزوج إذا ادعى ما لا يقبل في الحكم ويدين فيه فصدقته المرأة فيما ادعاه لم يرتفع الطلاق بذلك إذ لا أثر لمصادقتها على ما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى. قال الإمام الأزرق وبنحوه أجاب الفقيه الحلي وغيره فيمن ادعى تعليق الدور، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. الأمر الثاني للمسألة المسؤول عنها نظائر قالوا فيها بعدم قبول قول المطلق فيما ادعاه منها أن الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م نقلوا عن الإمام الخوارزمي رحمه الله تعالى من غير مخالفة له أن الزوج إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم ادعى فساد النكاح بسبب من الأسباب وصادقته الزوجة على دعواه لم يقبل قولهما ولا تسمع بينتهما ولا يجوز أن يوقعا نكاحاً جديداً إلا بمحلل لكونهما متهمين في حق الله تعالى، وذكره أيضاً الشيخ القفال ونقله في الأنوار عن البغوي و القاضي حسين وغيرهما وصححه الشيخ تقي الدين السبكي . قال الإمام ابن عطيف اليمني وإذا سمع القاضي الشافعي قول الزوجين وبينتهما على فساد النكاح بعد الطلاق الثلاث وحكم بمقتضى ذلك(5/443)
على خلاف ما سبق من المنقول، فحكمه باطل ظاهراً وباطناً كما قاله أقضى القضاة الماوردي قال: فحينئذ لا يخفى أن للقاضي الشافعي نقضه بل يجب عليه ذلك اهـ. قال الإمام الأذرعي وما ذكره الإمام الخوارزمي من عدم سماع البينة هو جار على طريقة البغوي في باب المرابحة وغيره. قال الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
ابن الرفعة في المطلب: والمشهور المنصوص أنها لا تسمع، وعبارة غيره أطلق الشافعي والأصحاب عدم السماع ولم يفرقوا بين العذر وعدمه، ويدل على أن الأكثرين لا يفرقون بين العذر وغيره وأنهم ردوا على أبي إسحاق حيث فرقوا في التحليف وألزموه بالبينة قال، أعني الأذرعي: وفيه ما يشعر بالاتفاق على عدم سماعها مطلقاً فعلم من هذا أن ما ذكره الخوارزمي هو المذهب المعتمد للتهمة في حق الله سبحانه وتعالى كمسألتنا المسؤول عنها. قال الإمام ابن العماد في توقيف الحكام ونظير ما قاله الخوارزمي المرأة إذا خالعت الزوج ثم ادعت أنها زوجت بغير رضاها لم يسمع قولها كما قاله البغوي وسبقه إلى ذلك أيضاً القاضي الحسين في الفتاوى، وقولهم إن الطلاق لا يقع في النكاح الفاسد لا يخالف ما ذكره الخوارزمي وصورته أن يطلقها ثلاثاً في الباطن أما لو ظهر أنه طلقها ثلاثاً فحينئذ يجب التفريق بينهما حتى تنكح زوجاً غيره، ومنها ما ذكره الإمام الدبيلي في أدب القضاء أنه لو حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يكلم فلاناً في هذا اليوم ثم قال إن نكاحي كان فاسداً وأريد أن أكلمه في هذا اليوم ثم أعقد نكاحاً صحيحاً فكلمه لم يقبل قوله في فساد نكاحه، وذكر الطبري نحوه، ثم ذكر الأذرعي نحو ذلك في الدعاوى من شرح المنهاج. ومنها أن الجمال بن ظهيرة ذكر في فتاويه: أن من تزوّج امرأة وطالت مدته معها ثم طلقها ثم ادعى فساد النكاح لم يسمع منه. وذكر الغزالي في فتاويه نحو ذلك. ومنها ما ذكره ابن الصلاح من أنه لو طلق امرأته ثلاثاً ثم ادعى أني لم(5/444)
أكن نكحتها قبل الطلاق المذكور لم يقبل قوله. ومنها ما قاله في الروضة من أنه لو قال أنت بائن ثم قال بعد مدة أنت طالق ثلاثاً وقال أردت بالبائن الطلاق لم يقع الثلاث لمصادفتها البينونة لم يقبل منه لأنه متهم. ومنها أن الشيخ ابن ناصر سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثاً بعد أن وضعت حملها ثم ادعى أني كنت طلقتها طلقة أو طلقتين قبل أن تضع فانقضت العدة بالوضع قبل أن أراجعها فهل تعود إليه قبل زوج أو لا تعود إليه إلا بعد زوج آخر؟ فأجاب: فقال: الأصل عدم وقوع الطلاق قبل الوضع فتبين بعده فلا تعود إليه إلا بعد زوج وعدتين، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها ما سئل عنه قاضي مكة المشرفة بل قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/445)
رحمه الله تعالى أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً ثم ادعى أنه كان خالعها قبل ذلك وأراد رفع الثلاث بالخلع ووافقته الزوجة على ذلك فهل يقبل دعواهما الخلع ولا يقع الطلاق الثلاث أم لا تقبل دعواهما ويقع الطلاق؟ فأجاب فقال: نقل في الروضة في أواخر الطلاق تبعاً للرافعي عن فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثاً ثم قال كنت حرمتها على نفسي قبل هذا فلم يقع الطلاق لم يقبل قوله والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها رأيت في فتاوى منسوبة إلى القاضي إبراهيم أن رجلاً حلف بالطلاق الثلاث ما آكل هذا الزاد المعين ثم أكله قبل أن يقوم من مقامه ثم قال أنا ملقي بمسألة الدور فهل يقع عليه الطلاق المنجز؟ فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ فقال: نعم يقع عليه الطلاق المنجز على ما صححه الرافعي والنووي والله سبحانه وتعالى أعلم. وأفتى بذلك أيضاً ولد ولده القاضي صلاح الدين بن أبي السعود حتى قال: وأما عدم الوقوع أصلاً فغير معتمد وإن رجحه كثيرون وانتصر له جمع، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الشيخ ابن ناصر الدين في فتاويه والمفتي به في مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن مسألة الدور غير معتمد عليها والمرجح عند الشيخين وقوع الطلاق المنجز وهو موافق لما سبق عن القاضي إبراهيم وولد ولده من وقوع الطلاق المنجز. ومنها أن الشيخ نور الدين الشريف السمهودي رحمه الله تعالى سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثاً ثم قال كنت وكلت فلاناً بطلاقها أو كنت عزلتها عن فلان أو وليتها فلاناً قبل هذا فلم يقع الثلاث فهل يقبل قوله أم لا؟ فأجاب فقال: ذكر في العزيز مما يتعلق بهذه المسألة نقلاً عن فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثاً ثم قال: كنت حرمتها على نفسي قبل هذا فلم يقع الثلاث لم يقبل قوله وهو شامل لدعوى سبق التحريم بواسطة وكيله فيه بخلع ونحوه ما في فتاوى القاضي الحسين أنه لو طلقها ثلاثاً ثم ادعى أن وليها كان قد وكل بتزويجها منه بألف وخمسمائة ولم يزوجها الوكيل إلا بألف فالعقد لم(5/446)
ينعقد فالطلاق لم يقع وصدقته المرأة لم يقبل قوله ولو أقام بينة لم تسمع وحكم بوقوع الطلاق الثلاث. قال في الخادم: وهذا تفريع على إبطال النكاح بالمخالفة في أصل الصداق ولا يختص ما ذكر بهذه الصورة أيضاً بل يطرد في كل صورة ادعيا فيها الفساد قبل الطلاق، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ جوابه. ومنها سئل بعض المتأخرين عن رجل طلق بالثلاث ما يكون هذا الأمر ثم كان فقيل له حنثت ثم قال أنا ملغي بمسألة الدور على محضر الفقيه فلان فهل يقبل قول الزوج أنه ملغي أم لا يقبل؟ فأجاب فقال: من أصحابنا من يعمل بمسألة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/447)
ابن سريج ومنهم من لم يعمل بها والمختار الاحتياط والله سبحانه وتعالى أعلم إذ لو فتح هذا الباب لادعى كل مطلق ثلاثاً أراد رفع العار عنه بتحليل زوجته ثم تجديد نكاحها أن يدعي ذلك فيظهر الفساد بذلك لا سيما أن الشيخين ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما ذكرا أن الروياني قال بعد اختياره تصحيح الدور لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان بل عبارة الشيخ ناصر لا يحل تعليمها للعامي الذي لا يشتغل بالعلم ثم قال ابن عبد السلام لا يجوز التقليد في تصحيح الدور وعدم وقوع الطلاق وهو يؤيد ما سبق عن القاضي صلاح الدين بن ظهيرة من أن عدم الوقوع أصلاً غير معتمد. قال الشيخ ابن ناصر في بعض أجوبته وهو المفتي به في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى والمرجح عند الشيخين وقوع الطلاق المنجز، والله سبحانه وتعالى أعلم. فظهر لنا من جميع ما ذكرنا عدم قبول الزوج في دعواه تعليق الدور قبل الطلاق، ويؤيده أيضاً قولهم لو باع داراً ثم قال كنت وقفتها أو باع عبداً، ثم قال كنت أعتقته لا يلتفت إلى قوله فهل الجواب الأول الصحيح المعتمد أو الجواب الثاني، ونقل ما ذكر من النظائر نظير للمسألة المسؤول عنها أو لا؟ أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف يحصل به المقصود فالحاجة داعية إليها بل هي مما تعم به البلوى في بلادنا لكثرة طلاقهم ثم ادعائهم بعد الطلاق تعليق مسألة الدور قبل الطلاق فظهر الفساد في البلدان بادعائهم ذلك فالاحتياط سد هذا الباب عنهم لئلا يتخذ ذلك ذريعة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. فأجاب عفا الله تعالى عنه بقوله: أما المسألة السريجية فقد بلغني فيها عن أهل بجيلة وغيرهم قبائح عظيمة الفحش تدل على استهتارهم بالدين وانحرافهم عن سنن الصالحين، فلذلك صنفت في بطلانها وفسق من يعمل بها مصنفاً حافلاً يتعين عليكم مراجعته وزجر أهل بلادكم به عما هم عليه من القبائح ولقد أخذه بعض أبناء الفقراء إلى وادي محسر أو بعض ملك الأودية وحصل لكثيرين منهم(5/448)
الهداية واجتناب نسائهم وبعضهم تحللت له زوجته وبعضهم أعرض عنها وتزوجت غيره وقد أطلت في ذلك المصنف وبينت الرد فيه على رجل زهداني ادّعى أنه أخذ ذلك عن شيخ له زهداني أيضاً وبينت أيضاً أن في كلام ذلك الرجل ما يقتضي الكفر والعياذ بالله سبحانه وتعالى، وبينت في ذلك الكتاب أيضاً أن أكثر الشافعية على وقوع الطلاق، وإنما اختلفوا في كيفية الوقوع خلاف ما اشتهر ووقع في كلام كثيرين أن الأكثرين على عدم الوقوع وبينت فيه أيضاً أن التقليد في هذه المسألة فسوق وإن من حكم فيها بعدم الوقوع ينقض حكمه فإذا تقرر ذلك فمن طلق ثلاثاً ثم ادعى أنه كان ملغياً لا يقبل قوله ولا يعول على ما ادعاه لأنا وإن تحققنا إلغاءه نحكم عليه بالطلاق الثلاث وكذا لا يقبل قوله على القول الضعيف أيضاً، وأما ما قاله المجيب الأول من قبوله إذا أقامت المرأة البينة أو صدقته فغير صحيح أيضاً، بل الصواب أنه لا يقبل كما ذكره الأئمة ولقد أصاب المجيب الثاني فيما ذكره فهو المنقول المعتمد الذي لا محيد عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
سئل عمن قال لولده إن قلت في بيتي تكن أمك طالقاً فقال بعض اليوم فهل يحنث؟ وهل يشترط أن يقيل أكثر اليوم وما المراد بالقيلولة؟. فأجاب: قال النووي في شرح المهذب ما لفظه عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما عن النبي قال: «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل» رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، القيلولة في اللغة النوم نصف النهار، وقد سبق أن أحاديث الفضائل يعمل فيها بالضعيف اهـ لفظ شرح المهذب، وبه علم أن القيلولة هي النوم نصف النهار والمراد كما هو ظاهر نصفه تقريباً لا تحديداً وهو قبيل الظهر فمتى نام الولد في بيت أبيه قبيل الظهر في يوم الحلف أو غيره حنث وإلا فلا، نعم إن نوى بالقيلولة وقتاً آخر أدير الأمر عليه.(5/449)
وسئل عن شخص قال لزوجته روحي أي اذهبي طالقاً بالنصب فهل يقع الطلاق أو لا؟ فإن علماء مصر اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يقع، واستند لفرع في الروضة وبعضهم قال يقع وأول الفرع المذكور وبعضهم مال إلى تضعيف الفرع، لأن القاضي أبا الطيب في تعليقه نقل عن نص الشافعي خلافه وبعضهم توقف فما المعتمد في ذلك؟. فأجاب بقوله: من المعلوم أن روحي كناية طلاق كاذهبي فإن نواه به جاءت الأوجه الثلاثة فيه الآتية في أنت طالق طالقاً لأنه لما نوى بروحي الطلاق كان بمعنى أنت طالق، فلزم أن يجري فيه حكمه الآتي وهو على المعتمد عند الشيخين وغيرهما عدم الوقوع حالاً، بل إن طلقها غير بائن وقعت طلقة ثانية وإلا لم يقع شيء فإن لم ينوه به لم يقع بطالقاً شيء لأمور: منها: أنه إذا لم ينو بروحي طلاقاً يصير لغواً وإذا صار لغواً صار قوله طالقاً متجرداً عما يصيره معتداً به فلا يقع به شيء نظير قول القاضي الحسين إنما لم يقع شيء بنساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي وإن قال ألف مرة وأنت يا زوجتي، لأن ما قبله لغو فيصير وأنت يا زوجتي وحده وهو بمجرده لا يقع به شيء نظير قولهم لو قال طلقت أو طالق ولم يزد عليه لم يقع به شيء وإن نوى امرأته في الأول وأنت في الثاني لأنه لم يجر للمرأة ذكر ولا دلالة فهو كما لو قال امرأتي ونوى الطلاق بخلاف ما لو قيل له طلقها فقال طلقت فإنها تطلق ولا يقبل قوله لم أردها لأنها مذكورة ضمناً واستشكله العجلي بما لو قال الطلاق لازم لي، فإنه صريح على الأصح مع أنه لم يجر للمرأة ذكر ويجاب بأنه خلف ذكرها فيه اشتهار استعماله في الطلاق كعليّ الطلاق، وأما روحي طالقاً فإنه فقد فيه المعنيان ذكرها والاشتهار فلم يقع به شيء ونظير قول القاضي أيضاً لو قال رجل لآخر سرقت مالي فأنكر فقال إن كنت سرقته فامرأتك طالق سواء أزاد والنية نيتي أم لا، فقال طالق ولم ينو به شيئاً لم يقع به طلاق، لأن لفظ الطلاق وحده لا يقع به الطلاق ما لم يقل(5/450)
امرأتي، ولأن الغير لا يقوم مقام الغير في النية ولأنه إجازة للطلاق وليس بإيقاع له فتأمله لا سيما تعليله الأول فإنه نص في عدم الوقوع في صورتنا، فإن قلت أي فرق بين هذا وما مر في طلقها فقال طلقت قلت يفرق بأن ذكرها هنا وقع في حيز الشرط فلم يكن فيه طلب لطلاقها حتى ينزل الجواب عليه بخلاف طلقها، نعم ذكرها وإن لم يفد ذلك يفيد تأثير نية الطلاق به بخلاف طلقت أو طالق فإنه لا تؤثر النية فيه لأنها لم تذكر أصلاً. ومنها: أن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/451)
الإسنوى قيد قول الشيخين في قوله أنت طالق طالق طالق يقع به ثلاث ما لم يقصد به التأكيد بما إذا رفع بخلاف ما إذا سكن أخذاً من قولهما عن العبادي لو قال أنت طالق طالقاً لم يقع في الحال شيء بل إذا طلقها وقع طلقتان، فإذا تقرر أن المنصوب لا يقع به إلا واحدة أي بأنت طالق لا بطالقاً كما لا يعلم مما يأتي في كلام الشيخين وجب حمل الساكن عليه لاحتمال أن يكون عن نصب وأن يكون عن رفع فنأخذ باليقين، واعلم أنه لا فرق فيما ذكره الرافعي عن العبادي بين أن يكون المنصوب هو الأول أو الثاني، نعم إن نصبهما معاً أو جرهما أو جر أحدهما مع نصب الآخر أو رفعه فالقياس في الجميع إلحاقه بالساكن أيضاً فتأمله اهـ، وبحث في التوسط بعد ذكره ذلك أنه ينبغي استفسار الجاهل بالعربية ويعمل بتفسيره أي فإن تعذرت مراجعته فالوجه ما قاله الإسنوى وإذا تأملت ما ذكره في أنت طالقاً طالقاً بنصبهما أو طالق طالقاً وعكسه بالجر مع النصب أو طالق طالق بجر أحدهما ورفع الآخر من أنه لا يقع به إلا واحدة أي خبر أنت وإن أخطأ بنصبه أو جره ولا يقع بالمنصوب أو المجرور الذي ليس بخبر شيء علمت اتضاح ما ذكرته أن طالقاً بمجرده لا يقتضي وقوع شيء مطلقاً وتأمل قوله فإذا تقرر أن المنصوب لا يقع به إلا واحدة أي بانت طالق منه لا بطالقاً كما مر تعلم صحة ما ذكرته من أنه لا يقع به في مسألتنا شيء أصلاً. ومنها: قول التهذيب لو قال أنت طالق طالقاً فإن أراد طلقتين وقعتا وإن أراد التأكيد ونصب على الحال قبل منه وتقع واحدة وإن أراد التعليق قبل ولا يقع الطلاق حتى يطلقها اهـ، فإذا كان طالقاً المنصوب هنا محتملاً لما ذكر مع كونه وقع بعد صيغة صحيحة هي أنت طالق، فأولى أن يكون محتملاً في روحي طالقاً بل لا يقع به فيها شيء مطلقاً لما تقرر من الفرق أنه في أنت طالق طالقاً وقع تابعاً لصيغة صحيحة فاحتمل الإيقاع ثانياً والتأكيد والتعليق فعمل بإرادته في ذلك، وأما في روحي طالقاً(5/452)
فوقع مستقلاً وهو لا يصلح وحده للاستقلال فلم يقع به شيء، فإن قلت لم يذكر البغوي على طريقته حكم ما إذا أطلق، قلت قياس ما مر عن الإسنوى في السكون أنه لا يقع به شيء هنا لأنه احتمل الوقوع وعدمه فحكمنا بعدمه لأصل بقاء العصمة، وأما ما يأتي عن القاضي أبي الطيب وصاحب الذخائر من أنه مع الإطلاق يقع طلقتان فهو على طريقة نص الأم وهو وجه مغاير لهذا الوجه كما يأتي ثم رأيت القاضي حسيناً
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/453)
حكى وجهاً أي ضعيفاً بالمرة إن أنت طالق طالقاً لا يقع به طلاق أصلاً، لأن قوله طالقاً ينصب على الحال، وتقديره أنت طالق حالة ما تكونين طالقاً والمرأة لا تكون قط طالقاً إنما تكون مطلقة والرجل هو الطالق وهذه الصفة لا توجد فلا يقع الطلاق اهـ، وعلى هذا فما ذكرته في روحي طالقاً واضح لا غبار فيه. ومنها: قول الشيخين وغيرهما عن أبي عاصم العبادي واعتمدوه لو قال أنت طالق طالقاً لم يقع شيء حتى يطلقها فإذا طلقها طلقت طلقتين، والتقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق هذا إن لم تبن بالطلقة المنجزة وإلا لم يقع غيرها ما لم يرد إيقاع طلقة مع المنجزة كما قاله الإسنوى وغيره، فإن أراد ذلك وقع ثنتان وصار كما لو قال أنت طالق مع تطليقي إياك قالا ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار طالقاً فإن طلقها رجعياً فدخلت وقعت المعلقة وإن دخلت غير طالق لم تقع المعلقة اهـ، وبتأمله يعلم أن طالقاً لم يقع بالتلفظ به شيء أصلاً فاتضح أن طالقاً غير مقتض لوقوع شيء بلفظه لا عند التكلم ولا بعده وإذا لم يقع به شيء هنا مع كونه واقعاً بعد صيغة طلاق صريحة فأولى في روحي طالقاً لأنه لم يقع بعد صيغة طلاق صريحة بل كناية ولم ينوه بها كما هو الغرض، ومر أنه لا يقع به شيء وإن نوى به الطلاق مع الفرق بينه وبين نحو ما بحثه الإسنوى وغيره فيما إذا أراد إيقاع طلقة مع المنجزة، وذلك الفرق أنه هنا وقع عقب صيغة صحيحة صريحة فصحت نية إيقاع طلقة به مصاحبة للطلقة الواقعة بتلك الصيغة، وأما في روحي طالقاً فوقع مستقلاً وهو مستقل لا يصح إيقاع شيء به أصلاً، فإن قلت كيف اعتمد الشيخان وغيرهما ما تقرر عن العبادي مع نقل الأئمة كما في التوسط عن نص الأم خلافه ولفظهم قال في الأم إذا قال أنت طالق طالقاً وقع طلقة وسئل عن مراده بقوله طالقاً فإن قال أردت به الحال طلقت ثانية لأن الحال في معنى الصفة فكأنه قال أنت طالق بعد تقدم طلقة عليك وإن قال أردت به طلقة أخرى وقعت ثانية(5/454)
أيضاً كقوله أنت طالق أنت طالق وإن قال أردت به التأكيد وإفهام الأولى قبل منه قال وحلفته وإنما قلنا يقبل لأنه يحتمل ما قاله وتحليفه، لأن ظاهر اللفظ خلافه قال في التوسط بعد ذكره ذلك. قال صاحب الذخائر وقوله حلفته يدل على أنه إذا أطلق يقع طلقتان لأنه يحلفه على إرادته واحدة فلولا أن مطلقه يقتضي طلقتين لم يكن لتحليفه وجه هذا لفظه وقد يكون تحليفه لجواز أن يكون أراد ما يقتضي وقوع طلقتين لا أن الإطلاق يقتضي وقوعهما، وظاهر النص أن القاضي يحلفه على ذلك حسبة من غير طلب اهـ كلام التوسط، وتبعه في الخادم فقال ما حاصله قولهما لأن التقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق فيه نظر لأن طالقاً حال والحال تقتضي المقارنة ويصير كما لو قال أحد الشريكين إن أعتقت نصفك فنصيبي حر حال عتقك فإنه يعتق عليهما وحكاية هذا الفرع عن بعض الأصحاب مع أنه من مناصيص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ عجيب فإن الشافعي قد نص على خلافه. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/455)
القاضي أبو الطيب في تعليقه قال في الأم: إذا قال أنت طالق طالقاً طلقت أخرى. قال القاضي : وهذا صحيح لأنه جعل الحال صفة يقع الطلاق بوجودها والحال وقوع الطلاق بها فإذا وجدت الصفة وقعت أخرى، قال، يعني الشافعي ، وإن قال أردت بقولي طالقاً طلقة أخرى طلقت طلقتين طلقة بقوله أنت طالق وطلقة أخرى بما نواه فإن قال أردت بالثانية أنها الأولى تأكيداً لها حلفته. قال القاضي وهذا من قوله يدل على أنه إذا أطلق فقال أنت طالق طالقاً ولا نية له أنه يقع بها طلقتان طلقة بالمباشرة وأخرى بالصفة اهـ، وعلى هذا التفصيل جرى جمع من العراقيين ومن المراوزة كالإمام وغيره وظهر منه الرد على العبادي في موضعين أحدهما عند إرادة الحال، والثاني عند الإطلاق ثم ساق كلاماً بين به أن في المسألة ثلاثة أوجه. قلت قد تقدم أن الشيخين لا يتقيدان بنص الأم ولا بغيره بل بما اتضح مدركه وإن خالف النص لأنه كما بينته بشواهده في شرح خطبة العباب بل وفي الفتاوى بأبسط من ذلك لما قدمنا طيبة المشرفة سنة خمسين فرفع فضلاؤها سؤالاً فيه طلب وجه العدول عن اعتراضات المتأخرين عليهما بالنص وكلام الأكثرين ومع ذلك لا يسمع لهم لا يخلو من أن يكون مأخوذاً من نص له آخر أو قاعدة من قواعده فكان له في المسألة قولان رجحا منهما ما اتضح مدركه وهنا كذلك إذ في المسألة ثلاثة أوجه كما علم مما قدمته في التهذيب المصرح بأنه إذا أراد الحال لا يقع إلا واحدة وعن الوجه الذي حكاه القاضي وعن العبادي رجح الشيخان منها كلام العبادي لظهوره وجريانه على القواعد، إذ الأصل في الحال أن تكون مقيدة لعاملها فإذا راعينا هذا الأصل تعين ما ذكره العبادي ولا ينافي هذا كونها في معنى الصفة الذي قاله القاضي لأن الصفة قيد في المعنى أيضاً فلا يلزم من كونها في معنى الصفة أن يكون التقدير أنت طالق بعد تقدم طلقة عليك على أن هذا التقدير لا يقتضي إنشاء إيقاع طلقة بل الإخبار بوقوعها فليجر فيه بفرض(5/456)
اعتماده ما قالوه في نحو أنت طالق أمس أنه يقبل منه إن أراد الإخبار بأنه طلقها أمس في هذا العقد، وكذا لو أراد أنه طلقها في عقد آخر أو أن زوجاً آخر قبله طلقها إن عرف ذلك وكذا إن لم يعرف على ما في الروضة، وأما قول الزركشي اعتراضاً على كلام الشيخين أن الحال تقتضي المقارنة فعجيب لأن اقتضاءها المقارنة يؤيد ما قالاه لا أنه يرده لأنه إذا اقتضاها مع كونه قيداً كما تقرر اقتضى أنه لا يقع شيء حالاً كما قالاه بل إن طلق، وقوله ويصير الخ أعجب وليس هذا نظيراً لمسألتنا بوجه كما هو واضح بأدنى تأمل لأنه علق حرية نصيبه على عتق شريكه بأداة الشرط وجعل وقوعها مقارناً له بقوله حال عتقك وأما هنا فعلق الطلاق على وجود اتصافها بكونها طالقاً فعملوا في كل بما دل عليه لفظه فيه وقوله وحكاية هذا الفرع عن بعض الأصحاب الخ، جوابه أنه ليس بعجيب لما تقرر أن الشيخين قد يعدلان عن نص لمقتضى نص آخر هذا واعتراض
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/457)
الأذرعي صاحب الذخائر الذي ذكر في الخادم أن أبا الطيب سبقه إليه في أخذه من النص أنه إذا طلق يقع طلقتان أي حالاً واضح مما قررته، بل الوجه في حالة الإطلاق وإرادة الحال ما قاله العبادي خلافاً لما مر عن الخادم فتأمله والحاصل أنه في روحي طالقاً إذا لم يرد بروحي طلاقاً لا يقع بطالقاً شيء مطلقاً على الأوجه وأنه لا يلزم من جريان تلك الأوجه في أنت طالق طالقاً جريانها في روحي طالقاً إذا لم ينو بروحي طلاقاً لما مر غير مرة أن ثم صيغة صحيحة صريحة فاغتفر في تابعها المنزل على معناها وحكمها ما لم يغتفر في المستقل بنفسه وليس بتابع لغيره، ومثله لا يقع باستقلاله شيء كما مر فتأمل ذلك كله فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى بفضله هو الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل وإليه مفزعنا في الكثير والقليل، فإن قلت هل يمكن توجيه ذلك الوجه الضعيف القائل بأنه لا يقع شيء أصلاً بما يفي به ويدفع قول من قال إنه ضعيف بالمرة أي لتعليليه المطبقتين على ما يرده ويزيفه، قلت نعم نظراً إلى أن الحال مقيدة لصاحبها وأنها إذا كانت من نوع المأمور به أو من فعل المأمور تناولها الأمر كحج مفرداً أو أدخل مكة محرماً فإذا تأملت ذلك ظهر لك أن طالقاً يصح أن يكون من نوع روحي لتناول الرواح بمعنى الذهاب للطلاق وغيره وأن يكون من فعل المأمور بأن يفوضه إليها فتوقعه ولم توقعه فحينئذ اتضح نظراً لهذه القاعدة أنه لا يقع به شيء وأنه لا شذوذ في هذا الوجه أصلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/458)
وسئل عمن قال لزوجته أنت ثلاث برفع أو خفض أو سكون هل تطلق مع النية كما هو ظاهر عموم كلام المتولي؟ وقد فرق الفقيه ابن عبسين في ذلك بين العامي وغيره وكأنه فهم أن هذه الصيغة صريحة في الطلاق ولم يظهر لي إلا فساد كلامه، والمسألة التي تظهر بها ليست مثلها فيما يظهر لي. وفي شرح الروض لو قال لزوجته أنت الثلاث لا يكون شيئاً. فأجاب بقوله: قد ذكرت المسألة بأطرافها في شرح الإرشاد، وعبارته: أو أنت اثنان ونوى به ثلاثاً فقضية ما نقله أبو زرعة عن التوشيح وقوع ثنتين وإنما التردد في وقوع الثلاث والذي يتجه بناء على اعتماده عدم وقوعها خلافاً لما أفتيت به، لأن لفظه لا يدل عليها وينافي الوقوع من أصله ما يأتي في أنت ثلاث إلا أن يفرق بأن ثنتان يصح أن يكون معمولاً لمحذوف أي أنت طالق ثنتين ويكون ذكر الألف فيه على اللغة الصحيحة المشهورة، وبها جاء القرآن فآثرت نية العدد حينئذ وإنما لم تؤثر نية الثلاث لمنافاة لفظه لها كما تقرر ولو نوى بانت ثنتان واحدة وقعتا أيضاً فيما يظهر لمنافاة لفظه لنيته، ويحتمل خلافه أو أنت ثلاثاً ولم ينو شيئاً فلغو وإن نوى أصل الطلاق فقط فثلاث أي لأن هذا صريح في العدد وإن نوى واحدة فوجهان والذي يتجه وقوع الثلاث لأن ثلاثاً صريح في العدد فلا أثر لنية خلافه أو أنت ثلاث أو أنت الثلاث لم يقع شيء وإن نوى به الطلاق وفارقت ثلاث ثلاثاً بأنها بالرفع خبر أنت، وحينئذ فهو تركيب فاسد إذ لا يخبر عن أنت الموضوعة للذات بثلاث سواء عرفت أم نكرت ولا أثر لصحته بتقدير أنها صارت عين الثلاث مبالغة وادعاء لأن هذا اعتبار محسن يخالفه موضوع اللفظ والحمل من كل وجه فلا يخرج عليه ولا ينافيه ما مر في أنت الطلاق لوجود المصدر ثم الذي هو أصل طالق ونحوه فآثرت نية الطلاق حينئذ، لأن المصدر قد يراد به اسم الفاعل ونحوه وعلى تقدير عدم إرادة ذلك ففيه أصل المادة فصحت نيتها حينئذ بخلاف ثلاث فإنه ليس فيه ذلك فلم تصح نيته به،(5/459)
وأما النصب فهو يقتضي حذف الخبر فيقدر بما يناسبه وهو طالق فصح اللفظ حينئذ فإذا نوى به الطلاق وقع ما ذكره من العدد الصريح وبما ذكرته يندفع قول الأذرعي يظهر الفرق بين ثلاث والثلاث ثم ما تقرر في أنت الثلاث ينبغي أن يكون محله إذا رفعه وإلا فينبغي وقوع الطلاق الثلاث إذا نوى به الطلاق لأن غير الرفع يصح معه اللفظ بتقدير أنت طالق الطلاق الثلاث أو أنت ذات الطلاق الثلاث والسكون ظاهر وظاهر كلامهم أنه لا فرق في جميع ما ذكر بين
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/460)
النحوي وغيره ويوجه بأنا إنما قدرنا ما تقرر وما يأتي رعاية لما دل عليه لفظه مع نيته وإن لم يفهم تخريجه على الصناعة النحوية، لأن العامي وإن لم يفهم ذلك بطريق الصناعة إلا أنه يفهمه بالطبع فيقصده وإن لم يمكنه التعبير عنه فاندفع قول بعضهم لم يفرقوا هنا بين النحوي وغيره وللفرق اتجاه انتهت عبارة شرح الإرشاد، وفيها التصريح بما يوافق ما قاله السائل نفع الله تعالى بمدده والرد على ما قاله الفقيه ابن عبسين ولم أدر ما النظير الذي ذكره ولو ذكره السائل لوضحت الفرق بينه وبين ما نحن فيه، وقد يستشهد له بقولهم لو قال لها أنت مائة طالق وقع عليه الثلاث ولا شاهد فيه لصحة التركيب هنا، إذ مدلوله أنها جمعت ما وصفت به من الطلاق وهو مائة طلقة فكان مراده أنت طالق مائة وهذا يقع به الثلاث ولا ينافي ما ذكر في أنت ثلاث أو الثلاث من أنه لا يقع به شيء وإن نوى الطلاق قولهم لو قال أنت مني بواحدة ونوى الثلاث أو بثلاث ونوى الطلاق دون الثلاث فوجهان، لأن هذا التركيب صحيح فآثرت فيه النية لأن الجار والمجرور متعلق بالخبر المحذوف وهو وإن كان محتملاً لكن لما نوى الطلاق تعين أن ذلك الخبر المحذوف هو طالق، ومن ثم رجحت في شرح الإرشاد الوقوع فقلت والذي يظهر ترجيحه في الأولى وقوع واحدة فقط، لأن اللفظ لا يحتمل الثلاث بوجه وفي الثانية وقوع الثلاث لأن لفظه صريح في العدد كناية في الطلاق فهو كأنت بائن ثلاثاً، فإن قلت لم يبين في شرح الإرشاد حكم الجر والسكون في أنت ثلاث قلت هو معلوم مما ذكرته من الوقوع عند النية في أنت الثلاث بالجر أو السكون أي أنت ذات طلاق ثلاث والسكون على الوقف فإن قلت يؤيد من بحث الفرق هنا بين النحوي وغيره فرقهم بينهما في أنت طالق إن دخلت الدار بفتح أن ونحوه قلت يفرق بينهما بأن اختلاف حركة الهمزة ثم لا تعلق له بالطلاق نفياً وإثباتاً وإنما يتعلق به من حيث تعجيل الوقوع في الفتح وتأخيره في الكسر فنظرنا إلى ما(5/461)
يتبادر من حال العامي عند نطقه بنحو هذه الصيغة وهو التعليق لبعد إرادته منها معنى التعليل ففرقنا بينه وبين النحوي ، وأما ما نحن فيه هنا فاختلاف حركة ثلاث أو الثلاث فيه له تعلق بالطلاق إثباتاً تارة كما في حالة النصب ونفياً أخرى كما في حالة الرفع فلم ننظر للفظه إذا صدر من عامي، وإنما نظرنا لقصده فحيث نوى ما يوافق الصناعة ولو بتقدير أوقعنا به وحيث لا فلا وكذا النحوي لأن ما فصلناه في الرفع وغيره مما مر هو قضية الصناعة النحوية ولا يتم ذلك التفصيل إلا مع القصد وإلا كان لغواً فلزم حينئذ التسوية بين النحوي وغيره فتأمل ذلك فإنه مهم، ويؤيد ما تقرر من عدم الفرق بينهما هنا عدمه في أنت طالق إن شاء الله بالفتح فتقع واحدة من النحوي وغيره، وفرق الزركشي بينه وبين ما مر في أن دخلت الدار بأن هذا لا يغلب فيه التعليق فعند الفتح ينصرف للتعليل به مطلقاً وذاك يغلب فيه قصد التعليق ففرق فيه بين النحوي وغيره وشيخنا زكريا بأن حمل هذا على التعليق يؤدي إلى رفع الطلاق بالكلية بخلافه ثم وصاحب الإسعاد بأنه لما لم يمكن الاطلاع على مشيئة الله سبحانه وتعالى لم تصلح أن المفتوحة للتعليق فتمحضت للتعليل بخلافها في الدخول ونحوه فكما أنهم فرقوا بينهما بما ذكر كذلك فرقنا نحن بين صورة السؤال وإن دخلت بما قدمناه واضحاً مبيناً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/462)
وسئل عمن قال لزوجته كل امرأة مثلك طالق فما حكمه؟. فأجاب بقوله: لم أر في هذا نقلاً، ويحتمل أن يقال لا يقع على زوجته بهذا اللفظ شيء لأنه لم يوقع الطلاق على زوجته قصداً ولا ضمناً وإنما أوقعه على مماثلها ولا يلزم من وقوعه على مماثلها وقوعه عليها لتغاير ذاتي المثلين وإن اتحدا في الصفات أو في بعضها ويحتمل أنه كناية وإن مماثلتها لغيرها إنما هي من حيث إيقاعه الطلاق على كل منهما المخاطبة بطريق الصريح ولا نظر إلى أن طلاقه لغير زوجته لغو فكيف يشركها معها فيه وهو لغو لأنهم صرحوا بأنه لو طلق زوجته فقال آخر لزوجته أشركتك معها كان ذلك كناية، لأن معناه إذا نوى به الطلاق أوقعته عليك كما أوقعه ذاك على زوجته فكذا هنا معناه أنت طالق كما كل من هو مثلك طالق، ولا يخفى ما في هذا من التكلف والتعسف وإن الكناية لا بد أن تحتمل الطلاق احتمالاً خالياً عن تكلف وتعسف وإنما غاية ما هنا أنه كقوله نساء العالمين أو الزيدين طوالق وأنت يا زوجتي ولا طلاق بهذا وإن نواه لأن العطف على الباطل باطل فكذا هذا قد أوقع الطلاق على مماثلتها بالصريح وهو باطل فوقوعه على زوجته باطل أيضاً لأنه كالمعطوف على الباطل إلا أن يفرق بأن اللفظ المقتضي للإيقاع مختلف وبينهما ترتب فلم يمكن بناء المعطوف على المعطوف عليه لبطلانه بخلافه فيما نحن فيه، فإن المقتضى للإيقاع لفظ واحد ويجاب بأن الترتيب بين العلة والمعلول بالرتبة بل وبالزمان عند قوم فلا يبعد القياس، فإن قلت قد يعبر البلغاء بالمثل ولا يريدون حقيقته كما في نحو مثلك لا يبخل ليس المراد به إلا أنت لا تبخل، وإنما عبر بالمثل ليفيد نفي البخل عنه بطريق أظهر، قلت هذا الاعتبار المحسن لا يأتي هنا سيما مع قوله كل امرأة مثلك طالق حيث جعل المثل صفة لغيرها صريحاً فلم يمكن إرادتها من هذا التركيب لأنك لو أردت أن تعبر عنه بأنت طالق لكان تأويلاً بعيداً وحملاً مستعسفاً والمحسن الذي أشرنا إليه في مثلك(5/463)
لا يبخل الداعي إليه قصد المدح والمبالغة فيه لا يأتي هنا إلا بتكلف بعيد فلم يظهر كونه كناية سيما مع قولهم إنها ما يحتمل الطلاق احتمالاً قريباً وهذا ليس كذلك كما علم مما قررته فتأمله ولا يتأتى هنا الوقوع الذي قيل به في كل امرأة غيرك طالق، لأن ذلك المعنى لا يأتي هنا وهو ما فيه من الاستثناء المستغرق على ما في ذلك من نقد ورد وتناقض واختلاف، وقد بينت خلاصته في شرح الإرشاد ثم رأيت ما يؤيد ما ملت إليه من أن ذلك غير كناية وهو أن جمعاً من المتأخرين اختلفوا في أنت أولى النساء بنفسك أو ولية النساء بنفسك، فقال بعضهم إن ذلك كناية لتضمنه لا سبيل لي عليك وهو كناية، وقال بعضهم ليس بكناية وعلله بأن عرف العامة كلا عرف ولو قال الطلاق لأفعلن كذا. قال القفال هو لغو وإن نوى به الطلاق فليس كناية لأنه ليس فيه إضافة إلى المرأة ولا التزام من الزوج، وأفتى العجلي بأنه كناية فإذا قال من ذكر الأول والثاني بأنهما ليسا من الكنايات فكذا مسألتنا بل قول القفال تعليلاً لعدم الكناية لأنه ليس فيه إضافة إلى المرأة الخ نص في مسألتنا لأن قوله كل امرأة مثلك طالق ليس فيه إضافة إلى زوجته فلا يكون كناية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/464)
وسئل عمن قال لزوجته أنت طالق ألف مرة ولم ينو عدداً هل تطلق واحدة كما ذكره بعض الناس عن الروضة في الباب الثالث في عدد الطلاق وعن نفائس الأزرق وذكر أن شارح الروض أقر الروض كأصله على ذلك والذي رأيته في الروض وأصله يفهم خلاف ذلك فما الصواب في ذلك؟. فأجاب بقوله: ما ذكر عن بعض الناس غلط صريح إما لسقم في نقله أو فهمه أو نسخته فالذي في الروضة لو قال أنت طالق طلقة واحدة ألف مرة ولم ينو عدداً لم يقع إلا واحدة كذا قال المتولي هذه عبارته وجرى عليها الروض وشارحه والذي في النفائس إذا قال أنت طالق طلقة واحدة ألف مرة ولم ينو العدد لم يقع إلا واحدة قاله البغوي وهذه الصورة غير صورة السؤال فالتباسها بها ينبىء عن مزيد غفلة وتساهل أو عن فساد تصور ووجه وقوع الواحدة فقط فيها أنه لما ذكر قوله واحدة لم يؤثر قوله بعده ألف مرة كذا قالوه لكن استشكله الزركشي وغيره ويؤيد الأول نص الشافعي على أنه لو قال أنت طالق طلقة ثلاث طلقات طلقت واحدة لأن الكلام تم بطلقة وما بعده غير معطوف عليه فإن قلت يمكن توجيه الإشكال في هذه كتلك بأنه لم لا يقال إن ألف مرة وثلاث طلقات بدل مما قبله على حد قوله تعالى: {يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً جنات عدن التي وعد الرحمن} (مريم: 61)، قلت كأنهم لحظوا في الفرق أن المبدل منه في الآية في قوّة الجمع لكونه محلى بأل فحسن إبدال الجمع منه وهنا ليس في المبدل منه ما يقربه من الجمع فلم يحسن إبدال منه ثم هذا الإيراد وإن توجه في مسألة النص لا يتوجه في مسألة الروضة لأن التنافي فيها بين واحدة وألف أتم وأظهر منه بين طلقة وثلاث، فإذا ألغى الشافعي رضي الله عنه النظر إلى ثلاث في مسألته فأولى أن يلغي النظر إلى ألف في مسألة الروضة لما بينهما من التنافي والكلام قد تم بواحدة فلا نظر لما بعدها لمنافاته لها كما تقرر هذا كله في مسألة الروضة والروض وشرحه والنفائس. وأما مسألة السؤال التي نقلها بعضهم عن هذه(5/465)
الكتب غلطاً وتحريفاً فالصواب فيها وقوع الثلاث ولا شبهة في ذلك عند من له أدنى مسكة من فهم أو تصور، نعم لو قال أنت طالق مثل ألف أو مثل الألف طلقت ثلاثاً في الأولى وواحدة في الثانية على ما نقله العبادي عن الكرابيسي وفيه نظر، وقياس المعتمد في أنت كمائة طالق من أنه لا يقع به إلا واحدة أنه لا فرق في وقوع الواحدة في مسألتي العبادي عن الكرابيسي بين المعرف والمنكر، واختيار ابن الصباغ وقوع الثلاث في أنت كمائة طالق لوقوع التشبيه في العدد يجاب عنه بأن التشبيه ليس نصاً في ذلك لأن قوله كمائة طالق يحتمل أنه شبهها بهن في أصل الطلاق مع قطع النظر عن إفرادهن أو في عدد الواقع عليهن وإذا احتمل كلاً من هذين ولم ينو عدداً عاملناه بالأقل تمسكاً بأصل بقاء العصمة كما تمسكوا به في مسائل لا تخفى على من له دراية بكلامهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/466)
وسئل عن واقعة حال مهمة هي شخص ذكر عند جماعة من أصحابه قدموا من سفر مثلاً وأهدوا هدايا للأصحاب ولم يعطوه شيئاً أو أعطوه شيئاً استقله فقال أما أنا فطلقت أو فقد طلقت الناس كلهم ثلاثاً بمعنى أني قطعت طمعي عنهم كلهم وله زوجة ولم يخطر بباله قصد الطلاق الشرعي، ولا معناه ولم يقصد زوجته حال تلفظه بهذا اللفظ فهل تطلق زوجته بمجرد هذا اللفظ المذكور لدخولها في عموم لفظه الصريح أم لا؟ وهل هذه المسألة كمسألة الواعظ المشهورة التي الراجح فيها عدم الوقوع؟ بينوا لنا ذلك وأوضحوه إيضاحاً شافيا. فأجاب بقوله: قد بينت في شرح الإرشاد أنه لو قال نساء العالمين طوالق لم تطلق زوجته إلا إن أرادها فإذا لم يقع عليه طلاق في هذه مع تصريحه بالنساء فأولى أن لا يقع عليه طلاق في صورة السؤال كما هو جلي ولا تتخرج هذه على الخلاف في مسألة الواعظ لأنه خاطب الجمع الذين فيهم امرأته بقوله طلقتكم ففيه خطاب للمرأة معهم لكنه لما لم يقصد حقيقة الطلاق الشرعي مع وجود القرينة الدالة على ذلك كان ذلك سبباً لعدم طلاق امرأته، وأما في صورة السؤال فإنه إنما تلفظ بقوله طلقت الناس كلهم وهذه الصيغة لا أثر لها في تناول زوجته لعدم تأثيرها كما صرحوا به في قولهم لو قال نساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي لم تطلق زوجته لأنه عطفها على من لا تطلق بل لو قال من اسمه زيد نساء الزيدين طوالق لم تطلق زوجته، وقول الروياني تطلق إنما يأتي كما أشار إليه القمولي على ضعيف، نعم لو قال امرأة الزيدين طالق طلقت زوجته لكن الذي يتجه أنه يقبل قوله لم أرد نفسي لأن دلالة التعريف على دخوله في لفظه لا تقاوم إرادته صرف لفظه عن نفسه وفي الروضة وجهان عن القفال فيما لو قال من عزل عن القضاء امرأة القاضي طالق والذي يتجه منهما عدم الطلاق كما بينته مع ما قبله في شرح الإرشاد وبهذا كله بان أن صورة السؤال لا يجري فيها الخلاف في مسألة الواعظ فلا يقع فيها طلاق، وإن قلنا بوقوعه(5/467)
في مسألة الواعظ لما علمته مما تقرر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عن أمة غرت بزوجها بإذن السيد لها في بذل مهرها فهل يقع الطلاق أو لا؟ وإذا قلتم بالوقوع فهل هو بائن أو رجعي؟. فأجاب بقوله: يقع الطلاق بائناً بمهر المثل ويتعلق بذمتها تتبع به إذا عتقت وقد ذكرت في اختصاري لتحرير الآراء مسألة البذل وما فيها من الاختلاف فقلت إذا قالت بذلت صداقي على طلاقي أو بطلاقي فطلق بانت لأنه إنما طلق بعوض، ثم إن علما قدر المهر ووجدت شروطه السابقة وأرادت ببذله الإبراء منه برىء منه وإلا لم يبرأ ولزمها له مهر المثل هذا هو الذي يظهر من كلامهم والذي في فتاوى الأصبحي إذا قالت بذلت صداقي على طلاقي فطلق وقع لأنه لا يملكه إلا الزوج، فلا فرق بين أن تقول بذلت لك أو بذلت، وفي كلامه ما يدل على أن أجزت كبذلت ثم رأيتني ذكرت في الفتاوى أني سئلت عما لو قال أنت طالق على صحة البراءة فهل تطلق بائناً أو رجعياً أو لا تطلق فأجبت بقولي أفتى الشيخ تقي الدين الفتى و تلميذه الكمال الرداد و الطيب الناشري بأنها لا تطلق، وقال آخرون لا تطلق بائناً. وقال ابن عجيل و إسماعيل الحضرمي نفع الله سبحانه وتعالى بهما: إن أرادت استئناف البراءة لم تطلق وإلا طلقت وهو الأوجه وإذا قلنا تطلق طلقت بائناً اهـ كلامي في الكتاب المذكور، وإنما وقع الخلاف في المسألة الأخيرة لقول الزوج في جوابه لها على صحة البراءة فالقائلون بعدم الوقوع كأنهم نظروا إلى أن قوله على صحة البراءة يقتضي إيجاد براءة صحيحة غير الأولى ولم توجد فعليه إن وجدت فكما يأتي على الثالث فيما يظهر والقائلون بالوقوع رجعياً نظروا إلى أنه ليس هنا مقابلة تقتضي العوضية حتى يقع بائناً، والقائلون بالتفصيل نظروا إلى أن لفظه محتمل فإن أراد استئناف البراءة فلا وقوع وإلا بأن أطلق أو أراد عدم الاستئناف وقع بائناً وهذا أعدل الأقوال فعليه الذي يتجه أنه إن(5/468)
أراد استئناف البراءة ووجدت منها براءة صحيحة بعد كلامه وقع بائناً وبرىء وإلا لم يقع وإن لم يرد استئنافها طلقت إن كانت براءتها الأولى صحيحة وإلا فلا فتأمله وأبعد تلك الآراء الرأي الثاني لأن دعوى الوقوع رجعياً لا يكاد يظهر له وجه وإن عللته بما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عمن لو قال أنت حرام عليّ ووقع في نفسه أنها طلقت بهذه العبارة ثلاثاً وحرمت عليه فقال لها أنت طالق ثلاثاً ثانياً لظنه أنها بانت منه بالثلاث بالعبارة الأولى فهل يقع عليه الثلاث؟. فأجاب بقوله: قد سئل شيخ الإسلام السراج البلقيني عن ذلك فأجاب بما لفظه: لا يقع عليه طلاق بما أخبر به ثانياً على الظن المذكور اهـ وفيه نظر، لأنها زوجته باطناً وقد خاطبها بالطلاق ولا عبرة بالظن البين خطؤه لأنه لا قرينة تؤيده، وقد صرحوا بأنه لو قال لمن يعتقدها أجنبية وهي زوجته باطناً كان زوجها له أبوه في صغره أو وكيله ولم يعلم بها بوجه أنت طالق وقع عليه الطلاق لأنه استعمل اللفظ لمعناه ولا عبرة بظنه فكذا في صورة السؤال ثم رأيت الأذرعي في توسطه نقل عن الإمام ابن رزين وأقره ما يوافق ما ذكرته وهو أنه سئل عمن نكح امرأة وعلق بالثلاث أنه لا يخرج من بلده إلا بها فأخبره بعض أن العقد باطل فخرج من البلد وتركها متوهماً أن النكاح باطل فأجاب بأنه يقع طلاقه ولا يعذر في ذلك ومسألتنا أولى من هذه بالوقوع لأن فعل المعلق عليه مع الجهل بأنه المعلق عليه أو مع النسيان أو الإكراه لا يقع به شيء فإذا لم يجعل ظنه أنها ليست في نكاحه عذراً في خروجه المذكور مع أنه لو وقع مع الجهل أو النسيان أو الإكراه لم يقع به شيء فأولى أن لا يجعل ظنه عذراً في عدم الوقوع في مسألة السؤال فتأمل ذلك واحتفظ به فإنه كثير الوقوع وسئل عنه كثيراً ثم رأيت في التوسط عن الفارقي أو ابن البزري أنه لو استفتى عامي فقيهاً فقال له(5/469)
طلقت زوجتك فقيل له بعد طلقت زوجتك قال نعم ثم رأى في الكتب أن الطلاق لا يقع والفقيه أخطأ فقال لم أطلق، وإنما قلت بناء على قول الفقيه قال يقبل قوله قال الأذرعي وسبق عن غيره ما ينازع في عدم القبول فراجعه اهـ وكأنه أراد بما سبق عن غيره ما ذكر عن ابن رزين لكن الوجه الموافق لكلام الشيخين كالأصحاب في باب الكتابة أنه متى أوقع الطلاق أو أخبره به، ثم قال: لم أعلم وقوعه فإن قامت قرينة كإفتائه ممن اشتهر علمه بشيء فأخبر مستنداً إليه ثم بان أن الإفتاء بخلاف الحق لم يقع عليه شيء وإلا وقع به وما ذكره الأذرعي آخراً مما قامت عليه القرينة فقبل وكذا ما أفتى به البلقيني لأن ظنه التحريم بانت عليّ حرام قرينة على أنه لم يرد بقوله لها أنت طالق الإنشاء بل الإخبار فهو كما لو أعطى المكاتب النجوم فقال له السيد أعتقتك ظاناً صحة الأداء ثم بان فساده فإنه لا يقع عليه شيء للقرينة فكذا هنا، وأما ما ذكره عن ابن رزين فالوجه حمله على ما إذا كان المخبر له ببطلان العقد غير ثقة معتمد، لأن إخبار مثل هذا لا يكون قرينة فتأمل ذلك فإنه نفيس مهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/470)
وسئل عن شخص تزوّج امرأة وكانت المرأة المزوّجة في بيت أهلها ثم طلقها الزوج فهجم أهلها بتزويجها من غير تربص زمن العدة لكون المرأة في بيت أهلها وفي يدهم فدخل بها هذا الزوج فوجدها ثيباً فزعم الزوج الأول أنه وطئها في نكاحه فكيف يكون الأمر والحالة هذه؟. فأجاب نفع الله تعالى به وبركته المسلمين بقوله: النكاح الثاني لا يرتفع بدعوى الأول الوطء كما يصرح به قول الروضة وغيرها لو طلقها دون ثلاث بلا عوض، ثم قال وطئت فلي الرجعة وأنكرت وطأه صدقت بيمينها أنه ما وطئها، لأن الأصل عدمه وفرقوا بين هذه المسألة وعدم قبول قولها فيما إذا ادعى عنين أو مول الوطء وأنكرته بأن النكاح ثابت في هذه وهي تدعي ما يزيله والأصل عدمه، وأما في تلك فالطلاق قد وقع وهو يدعي الرجعة بالوطء قبل الطلاق والأصل عدمه فهذا صريح في تصديقها في صورة السؤال بل صورته أولى بأن تصدق فيها من صورة الروضة المذكورة لأنها في صورة الروضة لم يتعلق بها حق ثالث ومع ذلك صدقت في نفي الوطء فأولى في صورة السؤال أن تصدق في ذلك لأنه تعلق بها حق ثالث وأيضاً فتصريحهم في الفرق المذكور بأن سبب عدم تصديقه في صورة الروضة أنه يدعي الرجعة بالوطء قبل الطلاق، والأصل عدمه وهذا السبب موجود في صورة السؤال بعينه فالمنقول فيها ما قررته ثم دعواها مقبولة على الزوج الثاني ما دامت في عصمته لتعلق حقه بها كما صرحوا بذلك في نظير صورة السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/471)
وسئل عما لو قال لامرأته طلاقك واحداً وواحد اثنان ثلاثة هل يقع به طلاق أم لا؟ وعن تعليق الطلاق بالوقوع أو الذهاب كأن يقول إن دخلت الدار يقع أو يذهب طلاقك أو وقع أو ذهب هل يقع به الطلاق أم لا؟. فأجاب بأن الذي نقله الشيخان عن فتاوى القفال وأقراه أنه لا بد مع نحو طلقت من ذكر المفعول ومع نحو طالق من ذكر المبتدأ فلو نوى أحدهما لم يقع بذلك شيء كما لو قال أنت أو امرأتي ونوى لفظ طالق نعم إن سبق ذكر المرأة في سؤال أو نحوه أو وقع تفويض لم يشترط ذكر ذلك كما قالوه في طلقت جواباً لطلقني أو لطلقها أو لطلقي نفسك وفي إن كنت كاذباً الخ لترتبه على السؤال والتفويض وإذا علمت هذا بان لك أنه لا وقوع على من قال لامرأته طلاقك واحد أو اثنان أو ثلاثة على أن هذه الجملة صادقة مع وجود الزوجية لعدم منافاتها لها إذ يصدق مع وجود الزوجية أن طلاقها إذا وجد له سبب يقتضيه لا يخلو عن كونه واحداً أو اثنين أو ثلاثة فليس في هذه الجملة ما يقتضي حل العصمة بوجه فلم تؤثر فيها، نعم لو نوى بطلاقك واحد طلقتك واحدة مثلاً لم يبعد أن يكون كناية فيقع حينئذ لأن طلاقك مصدر وهو ينوب عن الفعل وأصل له فلا تبعد إرادته به ويؤيده إفتاء الولي أبي زرعة بأن قوله الطلاق ثلاثاً من زوجتي تفعل كذا كناية لأن حذف يلزمني مثلاً صيره كناية فإن نوى إيقاعه بتقدير عدم الفعل وقع لأن اللفظ يحتمله بتقدير إن لم تفعل، فالطلاق واقع على أو نحوه اهـ فتأمله تجده ظاهراً فيما ذكرته وإذا قال إن دخلت الدار يقع أو وقع طلاقك فهو تعليق صحيح كما هو ظاهر فلا يقع شيء إلا بدخول الدار المعلق عليها فإن أبدل ذلك بذهب، فالظاهر أنه كناية لأن بين الذهاب والوقوع نوع تقارب فلا يبعد إرادة أحدهما بالآخر فإن أراد بذهاب الطلاق وقوعه وقع بالدخول وإن لم يرد ذلك فلا وقوع.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/472)
وسئل عن رجل طالبته زوجته أو وكيلها بكفايتها كالنفقة مثلاً وكانت المطالبة بحضور حاكم من حكام المسلمين فقال الزوج يلزمه الطلاق الثلاث إن بيتها ملآن طعاماً فما المعتبر في ذلك الملء هل يكون ذلك مملوءاً حقيقة أو يدين ويرجع إلى قصده؟ بينوا لنا الجزم بوقوع الطلاق البينونة أو عدمها فالمسألة واقعة. فأجاب بقوله: إن كان للزوج نية عمل بها وإلا فمتى لم يكن بيتها ملآناً من الطعام وقع عليه الطلاق الثلاث، فقد جزم الماوردي وغيره وبحثه الشيخان في موضع وجزما به في موضع آخر أن من حلف ليضربنها حتى تموت حمل على الحقيقة لا المجاز فكذا في مسألتنا يحمل على الحقيقة فيأتي فيها ما ذكرناه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم كتب إليه ـ رضى الله تعالى عنه ـ السائل أيضاً ما لفظه: هذا جوابكم ولا شك أنه يحمل على الحقيقة وقد أفدتم كان الله سبحانه وتعالى لكم وأدام بكم النفع والحال أن الرجل لما حلف من زوجته بين يدي الحاكم ألزمه الحاكم فراقها لأن البيت لم يكن مملوءاً حقيقة، واعتمد الحاكم في ذلك قول النووي في الروضة أن الحقيقة لا تصرف إلى المجاز بالنية إلا في حق الله سبحانه وتعالى لا في حقوق الآدميين هذا معنى قول الروضة في الإيمان، وكذلك عبارة الروض وشرحه في الإيمان فرع قد يصرف من الحقيقة إلى المجاز بالنية كلا أدخل دار زيد ونوى مسكنه دون ملكه فيقبل قوله في حق غير آدمي، قال الشارح شيخ الإسلام زكريا : بأن حلف بالله سبحانه وتعالى لا في حق الآدمي كأن حلف بطلاق أو عتاق، وعبارة المزجد في العباب في الإيمان فرع لو قال الحالف أن لا يدخل أردت شهراً مثلاً قبل في حق الله سبحانه وتعالى لا الآدمي كطلاق وإيلاء وعتق لكن يدين، واعتمد الحاكم بالفرقة هذه النصوص وشق ذلك على فقهاء البلد وقالوا المعتبر نيته ولا طلاق وأرادوا صرف الحقيقة إلى المجاز بالنية في حق الله سبحانه وتعالى وحقوق الآدميين فأرسلوا إليك الصورة المذكورة ولما ورد الجواب(5/473)
الكريم قاموا به على الحاكم، الحاكم بالفرقة وقالوا له قد أجاب الشيخ على وفق كلامنا أن المعتبر نيته ولا يقع الطلاق البتة لا ظاهراً ولا باطناً فقال لهم الحاكم ما أراد الشيخ أحمد بن حجر عفا الله تعالى عنه إلا وقوع الطلاق لكن يدين كما جزمت به النصوص المذكورة آنفاً كما هو مفهوم من سؤالكم فإنكم قلتم في السؤال يدين أو تقع البينونة الكبرى وكان الجواب مطابقاً للسؤال ومن الآن فالمسؤول من التفضلات الكريمة إزاحة الإشكال بجواب شاف صريح يبين أنه يقع الطلاق ويدين بحيث أنها لا تحل له في الظاهر ولها أن تتزوّج غيره أم لا يقع الطلاق أصلاً، وأن الحقيقة تصرف إلى المجاز بالنية في حق الله سبحانه وتعالى، وحق الآدميين كما زعموا أم لا يقع الطلاق أصلاً وأن هذا هو المعتمد فما معنى النصوص الجازمة بوقوع الطلاق؟ بينوا لنا ذلك. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ ونفع بعلومه وبركته المسلمين بقوله: ما أفتيت به من أنه إذا كان للزوج نية عمل به أي ظاهراً أيضاً هو الذي صرح به الأئمة كما يأتي ولا يعارضه ما ذكر عن كلام الشيخين وغيرهما في الإيمان، لأن محله في نية مجاز لا قرينة تدل على إرادته وتعضدها، أما إذا نوى غير الحقيقة مما يتجوّز به عنها وقامت قرينة على ذلك فإنه يقبل منه تلك النية ظاهراً وباطناً، وقد صرحوا بذلك في مسائل في الطلاق لا تحصى، بل قد تزداد قوّة القرينة فيحمل اللفظ على قضيتها وإن لم ينو كما لو قال إن رأيت من أختي شيئاً ولم تخبريني به فأنت طالق فإنه يحمل على موجب الريبة فلا يحنث إلا أن رأت منها موجب ريبة ولم تخبره به بخلاف ما لو رأت منها غيره ولم تخبره عملاً بالقرينة المخصصة للعام في قوله شيئاً وإن لم ينوه فكذا في صورة السؤال لأنها لما طالبته هي أو وكيلها بكفايتها كانت مدعية عليه أنه ليس في بيته طعام فإذا حلف أنه ملآن طعاماً كانت القرينة دالة على أنه لم يرد الملء الحقيقي وإنما أراد ما يكذب دعواها وكان قياس(5/474)
المسألة التي قبل هذه المسألة عدم الحنث في هذه، وإن لم تكن له نية لكن القرينة لم تقو فيها قوّتها في تلك أعني مسألة الأخت فلأجل ذلك لم يشترط في مسألة الأخت نية، واشترطناها في مسألتنا لما عرفت من قوّة القرينة ثم لا هنا، ومما يدل لما ذكرته أيضاً ما قالوه من أنها لو قالت له فعلت كذا حراماً، أي كأكل الربا مثلاً فقال لها إن فعلت حراماً فأنت طالق ونوى بالحرام أكل الربا فإنه يقبل ظاهراً، لأن قرينة ذكرها له تدل على أنه لم يرد غيره فحملنا إطلاقه الحرام الشامل للربا وغيره على الربا فقط عملاً بالقرينة، ومما يدل لما ذكرته أيضاً أن الأئمة قالوا فيمن حلف بالطلاق لا يغتسل أنه يقع بالغسل من جنابة وغيرها، فإن أراد الأوّل فقط دين ولا يقبل ظاهراً. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/475)
الأذرعي ومن تبعه ومحله حيث لا قرينة أما إذا كانت قرينة كما لو راودها فامتنعت لغضب فحلف أنه لا يغتسل، فظاهر أنه يقبل ظاهراً قوله أردت الغسل من الجنابة فتأمل هذا، فإنه عين مسألتنا لأن قوله لا أغتسل يعم كل غسل فإذا خصصه ببعض الأغسال فقد عدل عن الحقيقة التي هي العموم إلى المجاز الذي هو الخصوص فإن لم تقم قرينة على إرادته لذلك دين ولم يقبل ظاهراً، وإن قامت قرينة على إرادته لذلك قبلت منه ظاهراً أيضاً فكذا مسألتنا حقيقة الملء فيها معروفة فإن أراد بعض الملء فإن لم تقم قرينة على إرادته دين وإن قامت قرينة على إرادته قبل قوله أنه أراد ذلك ظاهراً وباطناً تحكيماً للقرينة والواقع في السؤال كما عرفت أنه صدر منها أو من وكيلها قرينة تدل على انتفاء وجود شيء من الطعام في البيت فحلفه في مقابلة ذلك إنما يراد بها تكذيب المدعي في دعواه وتكذيبه يحصل بوجود بعض طعام في البيت فظهر أن القرينة مرجحة للمجاز هنا على الحقيقة فعملنا بها بعين ما قالوه في هذه المسائل التي هي نظائر مسألة السؤال بل عينها كما لا يخفى، ثم رأيت الشيخين وغيرهما صرحوا بما قلته من الضابط الصريح في مسألتنا حيث قالوا لو خصص عاماً بالنية كان قال كل امرأة لي طالق، وقال أردت إلا واحدة فإن لم تكن قرينة دين وإن كانت تشعر بإرادته الاستثناء بل أو عدم الطلاق بالكلية قبل ظاهراً وباطناً فمثال الأوّل أن تقول له المستثناة وهي تخاصمه تزوّجت عليّ فيقول لها عقب ذلك كل امرأة لي طالق ويقول أردت غير المخاصمة فيقبل منه ظاهراً وباطناً قالوا لقوّة إرادته بدلالة القرينة ومثال الثانية ما إذا قال أردت بقولي طالق طلاقها من ذلك الوثاق قبل ظاهراً وباطناً للعلة المذكورة قالوا وكذا الحكم فيما إذا علق طلاقها بأكل خبز أو نحوه ثم فسره بنوع خاص فلا يقبل ظاهراً إلا بقرينة فتأمل ذلك فإنه صريح فيما ذكرته في صورة السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/476)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132
وسئل عن رجل شهد عليه الشهود أنه قال متى سافرت إلى سواكن ولفلان عندي فلس واحد فزوجتي طالق ثلاثاً ثم سافر لسواكن ودراهم فلان كلها عنده فلما حضر طلبه أبو الزوجة هو والشهود فحضروا عند مفت شافعي ليستفتيه عما وقع له فأخبر الشهود المفتي بأنه وقع منه اليمين المذكورة فاعترف بالسفر وقال له المفتي وقع عليك الطلاق الثلاث فحلف الأيمان الأكيدة الغليظة أنه لم يقع منه هذا التعليق أصلاً، وأن هؤلاء الشهود كاذبون عليه فقال له المفتي لا يقبل منك ذلك فقال عندي مطعن في الشهود فخرج ليأتي به ثم عاد وقال عجزت عن إبداء المطعن وحلف الأيمان أيضاً أنهم كاذبون عليه واستمر على تكذيبهم فقال له المفتي لا ينفعك ذلك وإياك أن تدخل على المرأة التي حلفت منها فإنك إن فعلت ذلك رفعنا أمرك إلى القاضي فاعتزلها ثم جاء هو وأبوها إلى المفتي ثانياً، وأعطى أباها دراهم وتوافقا على أن تتحلل له بالوجه الشرعي وحلف أيضاً في ذلك المجلس أيضاً أن الشهود كاذبون عليه واستمر مدة كل ما اجتمع بالمفتي يحلف له كذلك وهو يقول له لا ينفعك ذلك ثم بعد ذلك علمه بعض الناس أن يدعي النسيان وكتب له سؤالاً مموهاً ورفعه لمفت شافعي فكتب له أنه ينفعه النسيان ثم سئل ذلك الحالف بعد إفتاء المفتي له بما ذكر هل حلفت ونسيت فحلف الأيمان المغلظة أنه لم يصدر منه ذلك التعليق وأن الشهود يكذبون عليه فهل يقبل منه مع ذلك كله وتصميمه على تكذيب الشهود دعوى النسيان فلا يقع عليه طلاق أو لا يقبل منه ذلك ويقع عليه الطلاق الثلاث؟ أفتونا مأجورين ذاكرين النقل في المسألة أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا تقبل منه دعوى النسيان فيما ذكر فيقع عليه الطلاق الثلاث كما صرح به إمام المتأخرين الشهاب الأذرعي رحمه الله تعالى في توسطه الذي هو أجل كتب المتأخرين تحقيقاً وتحريراً للنقول فقد بين(5/477)
فيه أن محل قبول دعوى نحو النسيان حيث لم يكذب الشهود وإلا قضى عليه بالطلاق ورد بذلك على الإسنوى جرياً على عادته معه في رد غالب اعتراضاته على الشيخين إطلاقه اعتراضاً عليهما قبول دعوى ما ذكر وهذا الذي قاله الأذرعي هو الحق ولا يسع الإسنوى ولا غيره مخالفته لظهوره واتضاحه، ومن ثم أيده بعض المتأخرين المطلقين بقول القفال في شرح التلخيص لو قال إن لم أحج في هذا العام فامرأتي طالق، فشهد شاهدان أنه كان بالكوفة يوم الأضحى وقال هو قد حججت وقع عليه الطلاق قال: ووجهه أنه لما عدل عن دعوى النسيان إلى دعوى الإتيان بالفعل وشهدت البينة بما يقتضي تكذيبه حكمنا عليه بمقتضاها اهـ. وأما تعليم العامي دعوى النسيان أو نحوه المشار إليه في السؤال فهو غالباً إنما ينشأ عن التهوّر وقلة الدين قصداً لنيل شيء من سحت الدنيا وما درى ذلك المعلم الجاهل المغرور أنه ارتكب مفاسد إثمها عظيم ووبالها وخيم لو لم يكن من تلك المفاسد إلا تسليطه العامة الجهلة أو الفسقة على استباحة الأبضاع بالباطل مع أنها مبنية على مزيد الاحتياط والحرمة ولخطر أمرها وصعوبة عاقبتها امتنع جماعة من أكابر أصحاب
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/478)
الشافعي رحمهم الله تعالى من إفتاء مدعي النسيان قالوا واستعمال التوقي أولى من فرطات الإقدام ومن يحتاط لدينه لا يفتي في ذلك في زماننا لكثرة الكذب في دعوى النسيان والجهل من العامة اهـ، وإذا كان هذا ذكروه عن أهل زمانهم الذي مضى من نحو ستمائة سنة فما بالك بزماننا الذي صار أكثر أهله لا خلاق لهم ولا مسكة ولقد استفتاني من لا أحصي في مسائل الطلاق وينهون إلي فيه شيئاً فأمتنع من إفتائهم حتى أبحث عن القضية فأجدها على خلاف ما حكوه من كل وجه واحد في كثير منها أن بعض فسقة شياطين الإنس هم الحاملون على ذلك فإنهم يأخذون من الحالف ناراً عليهم في الدنيا والآخرة ويعلمونه أو يكتبون له صورة مخالفة للواقع ويرسلون بها إليّ للاستفتاء عنها فيلهمني الله سبحانه وتعالى من فضله التشكك فيها والبحث الشديد عنها حتى يظهر أنها على الباطل والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعامل بعدله وعقوبته أولئك الفسقة المارقين والمردة الضالين هذا ومما يحملك على التحري في الإفتاء في مسائل النسيان ونحوه إن عدم وقوع طلاق الناسي لو فرض صدقه إنما هو قول للشافعي وهو وإن كان المعتمد عند جمع من أصحابه إلا أن له قولاً آخر بوقوع طلاق الناسي وعليه كثيرون من أصحابه، ولقد كان ابن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء و ابن الصلاح وناهيك بهما فإنهما من فحول المتأخرين يفتيان بوقوع طلاق الناسي وهو الأحوط وكيف لا وأكثر علماء الأمة على وقوع طلاقه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما ـ رضى الله تعالى عنه ـ م ونفعنا بهم وحشرنا في زمرتهم ووفقنا إلى سلوك طريقتهم المثلى المطهرة عن قبائح الزلل ومفاسد الشبه والخبل بمنه وكرمه آمين.(5/479)
وسئل عن شخص مرض مرض الموت فأقر في حال مرضه عند شخص بطلاق امرأته طلاقاً رجعياً وبقيت المرأة تمرضه حتى مات فأخبرها المقر عنده بالإقرار وصدقته فهل ترثه ولا تحسب العدة إلا من الموت لمعاشرتها له؟ فإن قلتم نعم فهل يحكم بوقوع الطلاق من الإقرار أو من قبل الإقرار بزمن يسع التلفظ بالطلاق أو كيف يكون الحكم في ذلك؟. فأجاب بقوله: إذا مضى من قبيل إقراره ما تنقضي به عدتها قبل موته لم ترثه إن قلنا إن معاشرة الرجعية تقطع العدة لغير نحو الرجعة كما عليه الشيخان وهو المعتمد، ففي شرحي الصغير على الإرشاد وألحق البلقيني بعدم جواز الرجعة أي بعد مضي ما تنقضي به العدة مع المعاشرة عدم وجوب النفقة والكسوة وقضيته امتناع التوارث بينهما وإن تردد فيه الزركشي في تكملته ونقل في خادمه عن قضية كلام المطلب امتناع إرثه دون إرثها ثم قال وفيه بعد وهو كما قال بل قياس ما مر ما قلناه وقياس مقابله الذي انتصر له جماعة ونقلوه عن الأصحاب توارثهما اهـ، وإن لم يمض ذلك أو جهل الحال ورثته أما الأوّل فواضح وأما الثاني فلأن العصمة بالنسبة للإرث محققة البقاء إذ الطلاق الرجعي لا ينافيها والأصل بقاؤها وعدم انقضاء العدة قبل الموت والكلام كله في غير الحامل كما هو ظاهر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/480)
وسئل عن شخص أخبرته امرأة أو امرأتان وقع في قلبه صدقها أو صدقهما بأنه طلق زوجاته لكن لم يتذكر ذلك ولم يحدث له الإخبار شيئاً من التذكر سواء توهم أو ظن ذلك معتقداً أنه إن كان الأمر كذلك فإنما تلفظ بلفظ يظنه المخبر مقتضياً للوقوع وهو ليس عند المتلفظ مما يقتضيه فهل مجرد الإخبار والحال ما ذكر يلزمه بفراق نسائه أم لا؟ وهل إذا شك إنسان في زوجة تزوجها هل كانت دخلت في عقده وقت ما نسب إليه من تطليق أم لا تطلق المشكوك في دخولها وشمول التطليق لها؟. فأجاب بقوله: لا يلزمه فراق بمجرد الإخبار المذكور إلا إذا وقع في قلبه صدق المخبر ولم يجز استناد إخباره لما لا يقتضي الوقوع فقد قال الرافعي قولهم لا يقع الطلاق بالشك مسلم لكنه يقع بالظن الغالب اهـ، ويوافقه قولهم لو عصر عنباً ثم قال إن لم يكن تخمر ثم تخلل فأنت طالق ثم وجده خلاً وقع عليه الطلاق لأن الغالب أنه لا يتخلل إلا بعد التخمر وبهذا يتجه ما ذكرته من الاستثناء وقولي ولم يجوز الخ جمعت به بين ما ذكره الشيخان نقلاً عن الروياني وأقراه أنه لو حلف لا يفعل كذا فأخبره عدلان والحق بهما عدل واحد أنه فعله وظن صدقهما لزمه الأخذ بالطلاق وبين قول الإسنوى ومن تبعه هذا إنما يأتي إذا أوقعنا طلاق الناسي بأن يحمل الأوّل على أنه مع ظن الصدق لم يجوّز أنه فعله ناسياً وحينئذ الحق ما نقلاه والثاني على أنه جوّزه وحينئذ الحق ما قاله الإسنوى وغيره قال وعلى الأوّل الظاهر أنه يلزمه الأخذ بقول فسقة وصبيان ظن صدقهم وبهذا كله اتضح ما ذكرته أولاً ولا طلاق في الصورة الثانية كما يصرح به كلامهم وقد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أنه لو أحرم وتزوج ثم شك هل كان تزوجه قبل الإحرام لم يؤثر هنا والورع في كل ذلك لا يخفى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 132(5/481)
كتاب الانتباه لتحقيق غويص مسائل الإكراه
بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله على أنعامه وأشكره على إلهامه وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه في بدء الأمر وختامه صلاة وسلاماً دائمين بدوام أفضاله في دار نعيمه وإكرامه. (وبعد) فهذا كتاب لقبته بالانتباه لتحقيق غويص مسائل الإكراه حملني عليه أني أفتيت في مسألة بما هو الحق إن شاء الله تعالى فتوهم خلاف المراد حتى وقع بعض الانتقاد ثم بعد إمعان النظر في أطراف تلك المسائل وتخريجها على القواعد والدلائل ظهر أن فيها مشكلات لم ينبهوا عليها ومعضلات لم يوجهوا نظرهم إليها فقصدت إلى بيان ما فيها من نقد ورد وإشكال وجواب لينجلي بذلك إن شاء الله تعالى وجه الصواب بأخصر عبارة وأوجز إشارة في ورقات يسيرة وإن كانت مباحتها في نفسها عسيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم وأسأل الله في الإعانة على تحرير ذلك ويسهل الوعر من تلك المسالك فإنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ورتبته على مقدمة ومباحث وتتمة.(5/482)
المقدمة في بيان أن الإكراه على الطلاق واليمين وعلى تنجيز الطلاق وعلى فعل أو ترك المعلق عليه فيهما ينقسم إلى إكراه بحق وإلى إكراه بباطل فالإكراه بباطل إذا صحبه عدم قصد من المكره واختيار بأن أتى بعين ما أكره عليه وحده من غير أدنى تغيير ولا تبديل فيه لداعية الإكراه فقط أخبر الشارع عن ربه عز إفضاله وجل نواله بأنه رفع حكمه عن أمته رخصة لهم وخصوصية من خصائصهم بقوله في الحديث الصحيح: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه المقررة في كتب الفقهاء كلا فعل فكل ما كان الحكم فيه مترتباً على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغواً بمنزلة المعدوم بخلاف الحكم المترتب على أمر غير فعل المكلف وإن كان ناشئاً عن فعله فلا يرتفع ذلك الحكم بسبب الإكراه بل لا إكراه حينئذ لأن موضعه الفعل ولم يترتب عليه شيء وموضع الحكم الانفعال ولم يقع عليه إكراه فالحاصل أن الشارع قد يرتب الحكم على الفعل والمراد به هنا ما يشمل الترك والقول وقد يرتبه على الانفعال وهو في الأوّل من خطاب التكليف الذي رفعه شفقة علينا عند الإكراه، نعم إن عظمت المفسدة بحيث زادت على مفسدة الإكراه لم يرتب شيئاً ومن ثم لم يبح القتل ولا الزنا وهذا سبب استثنائهم لهذين من هذا القسم وهو في الثاني من خطاب الوضع والأسباب والعلامات فكيف يرتفع مع أن القصد منه الربط بنحو السبب أو الشرط أو المانع من غير نظر إلى فعل ولا إلى فاعل كما يأتي ومن ثم حرم الإرضاع مع الإكراه،لأن التحريم فيه منوط بوصول اللبن إلى الجوف ولو أكره على الحدث كان محدثاً أو التحوّل عن القبلة أو الفعل الكثير في الصلاة أو ترك القيام في الفرض بطل أو على نحو الوقوف بعرفة والرمي والسعي بناء على أنه لا يؤثر فيها الصرف صح أو على نحو غشيان أمته فحبلت صارت أم ولد ولحقه أو على وطء زوجته صار محصناً واستقر عليه المهر وأحلها للمطلق ثلاثاً أو على(5/483)
الوطء بشبهة ترتب عليه حرمة المصاهرة ولحوق النسب وانفساخ نكاح نحو أبي الواطىء كمجنون وطىء زوجة أبيه أو أكره مجوسي على ذبح أو محرم حلالاً على ذبح صيد حل وإن جعلنا المكره آلة للمكره لأن ذلك كله يرجع إلى الشروط ونحوها والخطاب فيها من باب خطاب الوضع الذي لا يؤثر فيه الإكراه كما تقرر، لأن الشارع أناط الحكم بوجود ذلك السبب أو الشرط مثلاً من غير نظر إلى فعل ولا إلى فاعل، وبما قررته في هذا المحل يتضح لك متفرقات كلامهم المتعارضة ببادىء الرأي فإنهم ألغوا الإكراه تارة واعتدوا به تارة أخرى ألا ترى أن أكثر مسائل القسم الأول أثر فيها الإكراه وإلى أن بعضها لم يؤثر فيه كالقتل والزنا لما مر فيه، والقسم الثاني بالعكس فأكثر مسائله لا يؤثر فيه الإكراه وبعضها قد يؤثر فيه وكل ذلك معلوم مأخذه وملحظه مما تقرر فاستفده فإنه مهم يزول به شبه كثيرة لا يهتدي إلى حلها إلا بعد إمعان النظر كما تقرر وبهذا الذي قررته في القسم الأوّل أخذاً من كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/484)
التاج السبكي يتضح قول الزركشي لا تأثيراً للإكراه في المباح والمكروه والمندوب وترك الحرام، وإنما يؤثر إن كان على ترك واجب أو فعل حرام اهـ، ووجهه أن المباح وما بعده لا إثم في فعلها ولا تركها فلا تأثير للإكراه فيها بخلاف الأخيرين فإن فيهما إثماً فإذا كانا لداعية الإكراه انتفى عنها الإثم رخصة من الله سبحانه وتعالى كما مر ونختم الكلام على هذا القسم بفرعين مشكلين. أحدهما: لو أكره أحد الشريكين الآخر على وطء الأمة المشتركة فوطئها وأحبلها فهل يلزمه المهر وقيمة الولد لشريكه المكره له أو لا، لأنه الحامل له. قال الزركشي: فيه نظر ولم يزد على ذلك، وأقول الذي يتجه أنه لا يلزمه له شيء بناء على أن المكره آلة المكره وهو الذي يدل عليه كلامهم في مواضع لأنه نتيجة فعله فكيف يكون فعله المتعدي به من غير ضرورة سبباً لأخذه مال الغير من غير إذنه ولا رضاه، وظاهر أن محل التردد حيث لم يكن المكره بفتح الراء أعجمياً يرى وجوب طاعة آمره وإلا فهو آلة له لا محالة كما صرحوا به في مواضع. ثانيهما: قطع الأصحاب بأنه لا يصح من المكره بباطل عقد ولا حل كبيع وطلاق وغيره ومع ذلك يقع في كلامهم كثيراً في الأيمان والطلاق وغيرهما فيه قولا المكره وهذا غير ما جزموا به وجواب ذلك أن الجزم إنما هو فيما يوقعه المكره منجزاً حالة الإكراه، وأما القولان فمحلهما في الإكراه على فعل سبقه تعليق بالطلاق مثلاً في حالة الاختبار نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تكره على دخولها فمن نظر إلى اختياره أولاً أوقع عليه الحنث ومن نظر إلى إكراهه على الدخول لم يحنثه وهذا هو الأظهر، لأن الوقوع إنما يستند بالحقيقة القريبة إلى وجود المعلق عليه ووجوده من المكره غير معتد به فلم يقع به شيء، وأما الإكراه بحق فإنه كالاختبار إذ كان من حق هذا المكره أن يفعل فإذا لم يفعل أكره ولم يسقط أثر فعله وكان آثماً على كونه أحوج إلى أن يكره وهذا كالمرتد والحربي يكرهان(5/485)
على الإسلام فيصح وإن أكرههما كافر منهما ظاهراً وكذا باطناً إن أذعن له قلبهما ومن ذلك إكراه الإمام مكلفاً على القيام بفرض الكفاية ومن نذر عتق عبد أو اشتراه بشرط إعتاقه وامتنع منه أجبر على إعتاقه فيصح ويقع الموقع وإذا امتنع المولى من الطلاق بعد مضي المدة وقام به مانع من الوطء كإحرام ولم يفيء بلسانه بأن يقول إذا زال عذري وطئت فأكرهه القاضي على طلقة واحدة وقع لأنه مكره بحق فإن أكرهه على الثلاث وقلنا القاضي لا ينعزل بالفسق وقعت واحدة فقط ولغا الزائد وإن قلنا ينعزل وهو الأصح فهو كمن أكرهه ظالم لأن إكراهه إنما لم يمنع الحكم ما دام بالحق فإذا انعزل لم يبق له ولاية فساوى سائر الآحاد حينئذ ولا يرد على هذا القسم نفوذ الطلاق مع عدم الإكراه بحق فيما لو قال لغيره طلق زوجتي أو أعتق عبدي أو بع متاعي وإلا قتلتك مثلاً وذلك لأن هذا الإكراه تضمن إذناً فمن هذه الحيثية جاء النفوذ وإن كان من حيث كونه إكراهاً يقتضي إلغاء التصرف ولحوق الإثم للمكره بالكسر، فالحاصل أن فيه حيثيتين مختلفتين رتب على كل منهما حكمها لانفكاك الحكمين وعدم التلازم بينهما وبهذا الذي قررته يرد على الوجه الضعيف القائل بعدم وقوع الطلاق مثلاً هنا لسقوط حكم اللفظ بالإكراه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/486)
تنبيه: تعبيري بالإكراه بحق هو ما عبروا به وأقروه لأنه يستلزم الإكراه على حق بخلاف الإكراه على حق فإنه لا يستلزم أن يكون الإكراه بحق والمعتبر إنما هو الإكراه بحق لا عليه، ألا ترى أن إكراه الذمي على الإسلام إكراه على حق لا به لحرمة إكراهه عليه لقبولنا عقد الجزية منه المستلزم لعدم التعرض له فلو أسلم لداعية الإكراه لم يصح إسلامه لأنه إكراه بباطل لا يقال قول الشيخين وغيرهما لو قال ولي الدم للقاتل طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك لم يكن إكراهاً يدخل في الإكراه بحق مع نفيهم عنه حقيقة الإكراه من أصلها ويرد على ما تقرر أن الإكراه بحق يستلزم أنه على حق ولا عكس، ووجه ذلك أن القصاص المكره به حق المكره والطلاق المكره عليه ليس حقاً له فالإكراه بحق لا يستلزم الإكراه على حق خلاف ما ادعيتم لأنا نقول معنى قولنا الإكراه بحق أن الإكراه نفسه حق ولا يكون حقاً إلا إذا كان كل من لازميه المكره به وعليه حقاً فخرجت تلك الصورة لأن الإكراه فيها ليس حقاً وإن كان المتوعد به حلالاً إذ ليس لولي الدم أن يكره به على الطلاق الذي لا حق له فيه بوجه.(5/487)
المباحث في ذكر الصور التي مرت الإشارة إليها في الخطبة، ووجه الإشكال فيها أنهم ذكروا في بعضها طبق ما مر في بحث الإكراه بحق من وقوع الطلاق وفي بعضها خلاف ذلك من عدم وقوع مع أن الإكراه فيه بحق فلم يجروا على سنن واحد مطابق لما استثنوه من الوقوع مع الإكراه بحق وعدمه مع الإكراه بباطل فمن تلك الصور قول الشيخين في الأيمان فيما إذا قال لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك أنه لو أفلس الغريم فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ففيه قولا حنث المكره وإن فارقه باختياره حنث وإن كان تركه واجباً لإعساره كما لو قال لا أصلي الفرض فصلى حنث اهـ، وبه جزم غيرهما والقياس الحنث لأنه إكراه بحق وقولهما كما لو قال الخ يشكل عليه ما قالاه أثناء تعليق الطلاق فيمن قال أنت طالق إن لم أطأوك الليلة فوجدها حائضاً أو محرمة من أنها لا تطلق خلافاً للمزني فإنه لما حكى عدم الحنث عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م اعترضه وقال: بل يحنث لأن المعصية لا تعلق لها باليمين ولهذا لو حلف ليعصين الله سبحانه وتعالى فلم يعصه حنث أي وإن كان تركه المعصية واجباً عليه فما قاله المزني هو نظير ما قالاه في لا أصلي الفرض فلم اعتمد الحنث هناك ولم يعتمد هنا موافقة للمزني مع اتحاد المدرك، وقد قال غيرهما المذهب ما قاله
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/488)
المزني واختاره القفال وقيل على القولين كفوات البر بالإكراه هذا حاصل ما في هذا المبحث من هذين الإشكالين القويين ويجاب عن أولهما بأن محل قولهم أن الإكراه بحق لا يمنع صحة التصرف ما إذا كان المكره عليه تصرفاً منجزاً كما مر في إكراه القاضي للمولى على الطلاق ولناذر العتق وشارطه على إيقاعه ولا حد الرعية على القيام بفرض الكفاية كما في إكراه المرتد والحربي على الإسلام ففي هذا كله يقع المكره عليه، ويصح لما مر من تقصير المكره بفتح الراء بترك ذلك القول أو الفعل اللازم له في الحال الآثم بتركه حتى أحوج غيره إلى حمله عليه، أما إذا كان المكره عليه ليس كذلك وإنما هو فعل شيء علق عليه طلاقاً مثلاً باختياره، فلا فرق حينئذ في إلغاء وجود المعلق عليه لداعي الإكراه بين الإكراه بحق والإكراه بباطل لأن الملحظ في الحنث وجود المحلوف عليه باختياره ولم يوجد ذلك في الإكراه بقسميه وما أحسن قول بعض شراح التنبيه في مسألة غريم المفلس السابق فإن فارقه بعد حجر الحاكم عليه فعلى قول المكره أي فلا يحنث على الأصح لأنه مكره شرعاً اهـ فتأمل تعليله عدم حنثه بمنع الحاكم له من ملازمة غريمه المعسر بأنه مكره شرعاً تجده صريحاً أي صريح فيما ذكرته من أن وجود المعلق عليه بالإكراه الشرعي كهو بالإكراه الحسي في عدم الحنث ومن ثم علل بعضهم عدم الحنث في هذه أيضاً بأن الإكراه الشرعي كالإكراه الحسي فإن قلت هل لما ذكرته من الفرق في الحكم بين المنجز والمعلق وجه جلي يتضح به ذلك قلت نعم وذلك لأنهم في المنجز لم ينظروا إلا إلى تقصير المكره بفتح الراء بما أوجب أن إكراهه بحق وإلى عدم تقصيره بما أوجب أن إكراهه بباطل فقالوا في الأول ينفذ قطعاً وفي الثاني لا ينفذ قطعاً، وأما في المعلق فلم ينظروا كلهم لذلك وإنما نظر بعضهم إلى ابتداء تعليقه السابق باختياره فأوقعه بفعل المعلق عليه سواء أكان الإكراه عليه بحق أم بباطل وبعضهم إلى فعله حال الإكراه(5/489)
وأنه ليس باختياره فلم يوقع سواء أكان الإكراه عليه بحق أم بباطل نظراً إلى عدم اختياره له فتأمل اختلاف نظرهم وملحظهم في المنجز والمعلق يتضح لك ما ذكرته ومما يوضحه أيضاً أن المعلق لم يجعل المعلق عليه موجباً لحنثه إلا إذا قارنه الاختيار والرضا به كما يصرح به ألفاظ التعاليق كلا أفارق أو أن دخلت ونحوهما وإكراه الحاكم عليه وإن كان بحق ينافي اختيار المعلق فلم يحنث به، وأما التصرف المنجز فلم يسبق من المكره عليه ما يقتضي تقييده باختيار ولا بعدمه ففصل فيه بين الإكراه بحق وعدمه نظراً إلى تقصير المكره بفتح الراء وعدم تقصيره، فإن قلت هل يدل على ما ذكرته من التفرقة بينهما فروع أخرى غير مسألة المفلس السابقة، قلت نعم وها أنا أملي عليك كثيراً منها لتطمئن نفسك إلى ما ذكرته منها ما ذكره في الخادم فيمن ابتلع خيطاً وبقي طرفه خارجاً ثم أصبح صائماً فإن نزعه أفطر وإن تركه لم تصح صلاته قال وطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر لأنه كالمكره اهـ فتأمل قولهم ولا يفطر لأنه كالمكره أي بباطل تعلم أنه ألحق هنا الإكراه بحق كالإكراه بباطل حتى أعطاه حكمه في عدم الفطر به ولم ينظر إلى أن الابتلاع من فعله المتسبب عنه إجبار الحاكم له على نزعه، وإنما نظر إلى أنه لما أجبره على نزعه صار غير مختار له فساوى المكره بباطل في عدم الاختيار فلم يفطر حينئذ، ومنها ما في حواشي الروضة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/490)
للجلال البلقيني من أنه لو علق الطلاق على عدم فعل شيء كان فعله ممكناً فمنع منه كان قال إن لم أدخل هذه الدار في هذا اليوم فأنت طالق فمنع من الدخول بالإكراه إن كانت ملكه أو بالشرع إن كانت ملك غيره فإنه لا يقع عليه الطلاق لفوات البر بغير اختياره قال وقد سئلت عمن حلف بالطلاق أن يزرع في هذه الأرض في هذه السنة فداناً فمنع بالشرع لكونها ملك الغير من زرعه فظهر لي عدم الوقوع للعلة التي ذكرتها أي وهي فوات البر بغير اختياره قال ونظيرها والله لآكلن الرغيف غداً فتلف الرغيف قبل الغد أي أو بعده وقبل التمكن ففات البر بغير اختياره ففيه قولا حنث المكره أي وأصحهما عدم الحنث، وقوله إن لم أدخل أي في المسألة السابقة معناه أن عدم دخولي باختياري فأنت طالق وإن دخلتها مختاراً لم تطلق، ومعنى قوله أولاً أو بالشرع وثانياً فمنع بالشرع أن الحاكم منعه وأما مجرد كونه محرماً عليه فلا عبرة به كما يأتي بسطه في جواب الإشكال الثاني ومنها ما ذكره الرافعي في الطلاق فيما لو قال إن أخذت حقك مني فأنت طالق فأكرهه السلطان حتى أعطى بنفسه من أنه على القولين في فعل المكره وقضيته ترجيح عدم الحنث وجزم به غير واحد لما مر ويأتي من أنهم نزلوا الإكراه الشرعي منزلة الإكراه الحسي فكأنه هنا لم يؤخذ منه لما تقرر أنه إنما أعطاه كرهاً وفعل المكره هنا كلا فعل ومن ثم كان المعتمد أنه يعتبر في أن أعطيتك حقك فامرأتي طالق اختيار المدين لا الدائن، وأما قول الزركشي عقب ذكر هذه المسألة عن الرافعي كذلك وقضيته ترجيح عدم الحنث والمتجه خلافه لأنه إكراه بحق فهو اشتباه لظنه أن المكره عليه المعلق كالمنجز وليس كذلك بدليل قوله هو إيجاب الشرع منزل منزلة الإكراه فيما لو حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضاً لا يحنث كما لو أكره على ترك الوطء أي للحائض في الصورة المذكورة فتأمل قوله كما الخ تجده مصرحاً بأن المكره بحق على فعل المعلق عليه لا يحنث بفعله له(5/491)
لداعية الإكراه الذي يحق فهذا تصريح أي صريح فيما ذكرته من أن قوله والمتجه خلافه الخ من باب اشتباه المعلق بالمنجز على أن الزركشي لم ينفرد بهذا الاشتباه بل سبقه إليه شيخه الأذرعي فإنه لما ذكر قول الشيخين وغيرهما لو قال إن أخذت مالك عليّ فامرأتي طالق فأخذه منه أو من وكيله ولو بتلصص أو انتزعه منه كرهاً والمال معين في الجميع أو دين ورضي به المدين في الأخيرتين أو امتنع من الإعطاء في الأخيرة كما ذكره الإمام الغزالي ومثلها الثالثة طلقت لوجود الوصف لا أن أكره الدائن على الأخذ منه فأخذ منه فلا تطلق اهـ قال، أعني
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/492)
الأذرعي ، محل ما ذكر من عدم الطلاق عند إكراه الدائن على الأخذ من مدينه ما إذا لم يتوجه عليه أخذه منه فإن توجه عليه ذلك كما هو مبين آخر السلم فالظاهر أنها تطلق لأنه إكراه بحق اهـ، فقوله فالظاهر الخ هو مادة الزركشي فيما مر عنه وقد ظهر أن ذاك اشتباه فهذا اشتباه أيضاً وعجيب من شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده كيف تبع الأذرعي على هذا الاشتباه الظاهر وكلام ابن الرفعة صريح فيما ذكرته وهو قوله قال الرافعي لو قال لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك فاستوفاه من وكيله أو من أجنبي تبرع به حنث. قال ابن الرفعة : وينبغي أن يختص ذلك بما إذا قبضه مختاراً أما إذا قبضه جبراً بالحاكم ويتصور في الأجنبي بأن يكون ضامناً فيكون على قولي الإكراه كما إذا أفلس ففارقه، وجوابه أنه لا طريق له في دفع الإكراه عند الفلس ولا كذلك هنا فإنه يقدر على دفعه عند بذل الأجنبي بإبرائه من الضمان وبإبراء الموكل وإن حنث به، نعم يتخرج على الإكراه على قتل أحد الرجلين اهـ كلام ابن الرفعة وهو مشتمل على نفائس فقوله أما إذا قبضه جبراً بالحاكم الخ صريح فيما ذكرته من الرد على الأذرعي والزركشي لأنه، أعني ابن الرفعة ، ألحق الجبر من الحاكم هنا بجبره على مفارقة المفلس المصرحين فيها بعدم الحنث كما مر، وقوله وجوابه الخ فيه بيان وجه آخر في الرد على الأذرعي و الزركشي وتقريره لو سلمنا أن الإكراه بحق يقتضي الوقوع لم يكن هذا منه لأن من شرط الإكراه أن يكون على شيء بعينه وأن لا يجد المكره مندوحة عما أكره عليه وما هنا ليس كذلك لأن الدائن المكره على الأخذ بسبيل من الإبراء للأجنبي عن الضمان أو للموكل وإن حنث به، أي لأنه فوت البر باختياره وإذا فرض أنه بسبيل من ذلك فهو لم يكره على أخذ لا مندوحة له عنه بل عليه أو على الإبراء فأشبه الإكراه على قتل هذا أو هذا أو طلاق هذه أو هذه. ومنها لو حلف لا يفطر في رمضان في هذه الليلة فقد أفتى شيخ الإسلام(5/493)
الشرف المناوي بأنه إن أراد أنه لا يفطر من صومه أو أطلق أفطر بدخول الليل بالغروب ولا حنث كما في أصل الروضة في الإيمان، وإن أراد أنه لا يتناول هذه الليلة مفطراً من صوم قاصداً بذلك الوصال فهو آثم بالإمساك من الغروب فإذا ألزمه الحاكم بتناول مفطر بعينه فتناوله لم يحنث على أصح قولي حنث المكره نظير ما صرح به في أصل الروضة فيمن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه فأفلس الغريم ومنعه الحاكم من ملازمته فإن لم يعين له الحاكم مفطراً أو عين له مفطراً فتناول غيره حنث لقرينة الاختيار اهـ. ومنها ما في توسط
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/494)
الأذرعي عن الماوردي من أنه لو حلف لا يعطيه ماله فله أحوال. أحدها: أن يدفع إليه بنفسه مختاراً فيحنث سواء أخذ منه اختياراً أم غير اختيار، لأن الحنث يتعلق بالعطاء دون الأخذ وقد وجد العطاء فوقع الحنث. ثانيها: أن يعطيه لوكيله ولو بأمره، أي إن غاب عنه الموكل كما قيد به الشيخان في باب الخلع. ثالثها: أن يعطي وكيله دائنه ولو بأمره. رابعها: أن يعطيه عوضاً عنه ولو بحوالة. خامسها: أن يأخذ السلطان من ماله جبراً فلا يحنث في هذه الأحوال. سادسها: أن يجبره السلطان على دفعه فيعطيه إياه مكرهاً ففي حنثه قولان اهـ. ومراده بالقولين القولان المعروفان في وجود المعلق عليه مع الإكراه وأظهرهما لا حنث مع أن الإكراه هنا بحق فهو مما نحن فيه من أن الإكراه على إيجاد المعلق عليه يمنع الحنث به سواء أكان ذلك الإكراه بحق أم بباطل. ومنها لو حلف لا يؤدي دين فلان الذي عليه فحكم عليه حاكم بأدائه فأداه لم يحنث كما أفتى به شيخ الإسلام الجلال البلقيني وتبعه شيخ الإسلام الشرف المناوي وبعض معاصريه تنزيلاً للإكراه الشرعي منزلة الإكراه الحسي، وأما قول الزركشي ومن تبعه أنه يحنث هنا أيضاً فهو مبني على فهمه السابق قريباً، ومما يدل على وهمه ما مر عنه في مسألة نزع الخيط من أن إجبار الحاكم على النزع غير مفطر كالإكراه الحسي وما مر عنه في مسألة من حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضاً ومنع عن الوطء لم يحنث، فقد صرح في هذين بأن الإكراه الشرعي منزل منزلة الإكراه الحسي فإن قلت ذكر الأصحاب مسائل تدل لما مر عن الزركشي و الأذرعي وغيرهما من أن الإكراه الشرعي لا يمنع الحنث في المعلق عليه كما لا يؤثر في صحة التصرف المنجز، قلت لا شاهد لهم في تلك المسائل كما يعلم من ذكرها، والجواب عنها. منها قولهم لو حلف لا يحلف يميناً مغلظة فوجب عليه يمين وقلنا بوجوب التغليظ أي على الضعيف حلف وحنث فلم ينظروا لكون حكم الحاكم بالتغليظ كالإكراه ويجاب بأنه(5/495)
لم يوجد هنا حقيقة الإكراه لأن له مندوحة عما أكره عليه بتأدية المدعي به فيندفع عنه حنث اليمين فإذا لم يؤد وحلف حنث لانتفاء شرط الإكراه المستلزم لانتفاء الإكراه من أصله فليست هذه مما نحن فيه ثم رأيت ما قدمته آنفاً عن ابن الرفعة وهو صريح فيما ذكرته بخلاف المسائل التي قدمناها فإن حكم الحاكم بما فيها لا مندوحة عنه فمنع الحنث. ومنها قول الشيخين
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(5/496)
عن ابن الصباغ لو كان له عبد مقيد فحلف بعتقه أن في قيده عشرة أرطال وحلف بعتقه لا يحله هو ولا غيره فشهد عند القاضي عدلان أن في قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه ثم حل القيد فوجده عشرة أرطال من أنه لا شيء على الشاهدين، لأن العتق حصل بحل القيد دون الشهادة لتحقق كذبهما اهـ، فالحكم بالعتق متضمن للحكم بالحل ولم ينظروا له ويجاب بعد تسليم اعتماد كلام ابن الصباغ وإلا فكلام الشيخين في الطلاق من عدم حنث الجاهل والناسي يقتضي ضعفه إلا أن يفرق كما بينته في بعض الفتاوى فإن هذا ليس فيه أن الحاكم حكم عليه بحل القيد بعد حكمه بالعتق، وإنما المعلق هو الذي حله مختاراً لظنه أنه عتق بتلك الشهادة الباطلة وأن الحل قد وجب عليه ثم بان خطأ ظنه وأيضاً فكلامنا في حكم صحيح وهذا حكم باطل لأنه بان أن عتقه إنما ترتب على حله وإن لم يعتق بزنة القيد وأن الحكم بعتقه به باطل فوجوب الحل المرتب على هذا الحكم الباطل لاغ، والحاصل أنا لو سلمنا أن الحكم بالعتق متضمن للحكم بالحل فقد بان بطلانه وإنما يلحق بالإكراه حكم القاضي الصحيح لا غير وبهذا يندفع قول الزركشي تعليلاً للحنث في هذه المسألة لأنه إكراه بحق فتأمل هذا المبحث وأمعن النظر فيه ليتضح لك متفرقات كلامهم المتعارضة الظواهر في ذلك حتى زلت فيها أقدام الأكابر كما علمت بل الشخص نفسه يتناقض كلامه فيها كما مر لك عن الزركشي ، وسبب ذلك أنه في بعض المواضع يستحضر بعض الفروع المقررة فيما سبق أولاً فيفهم. منها أن الإكراه بحق في المعلق عليه يمنع الحنث كالإكراه بباطل وفي بعضها يستحضر بعض هذه الفروع المتأخرة. فيفهم منها أن الإكراه بحق لا يمنع الحنث هنا كهو في المنجز فإذا أمعنت النظر وأنعمته فيما قررته وتأملته حق التأمل ظهر لك أن الحق هو الفرق في الإكراه بحق بين المنجز والمعلق وأن الفروع المصرحة به كثيرة صريحة لا تقبل التأويل بخلاف الفروع الموهمة لخلافه فإنها قليلة والجواب عنها قد ظهر(5/497)
ولله الحمد فلا عذر لمن تمسك بها في خلاف ما قلناه وبيناه وحررناه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
تنبيه: ظاهر كلام الشيخين وغيرهما أن مجرد الحكم ملحق بالإكراه سواء قدر الحاكم على إكراه المحكوم عليه على فعل المحكوم به أم لا كالظلمة المتمردين وأما ثاني الإشكالين السابقين الذي هو تصريح الشيخين في الإيمان بأنه لو حلف لا يصلي الفرض حنث وفي الطلاق بأنه لو حلف ليطأنها الليلة فوجدها حائضاً أو محرمة بنسك لم يحنث خلافاً للمزني كما مر مبسوطاً فيجاب عنه أيضاً بأنه في صورة لا أصلي الفرض وما قيس عليه وهو لا أفارقك السابق قد وجه الحلف إلى النفي العام وجعله هو المقصود بالذات وذلك محرم إذ لا بد له من الصلاة ومن المفارقة عند إعسار الغريم فحيث صلى صلاة صحيحة أو فارق غريمه باختياره فقد خالف المحلوف عليه صريحاً فحنث، وأما في مسألة إن لم أطأك ففيه تعليق على انتفاء الوطء المباح وهو مستلزم لحث نفسه عليه فحيث تعذر عليه فعله شرعاً لحيض ونحوه كان كتعذره حساً فلم يحنث لأنه لم يخالف المحلوف عليه وهو الوطء المباح باعتبار كونه لازماً للتعليق المذكور فعلم بهذا الذي قررته رد اعتراض المزني السابق على الشافعي وغيره، لأن صورة ما لو حلف ليعصين الله تعالى ليست كصورة لأطؤها الليلة فوجدها حائضاً لما تقرر بل كصورة ما لو حلف لا يصلي الفرض حرفاً بحرف لأنه في كل منهما وجه حلفه إلى إيقاع المعصية المحرم فحيث خالفه فقد خالف المحلوف عليه صريحاً فحنث لذلك وإن كانت المخالفة واجبة فتأمل هذا الجواب لتفر به من الوقوع في ورطة ذلك الإشكال المستلزم لتناقض كلام الشيخين التناقض الصريح الذي لا تأويل له لولا ما فتح الله تعالى به وله الفضل والمنة من هذا الجواب الظاهر للمتأمل ثم رأيتني فرقت بفرق آخر في بعض التعاليق وعبارته إذا وجد القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الإكراه أو النسيان أو الجهل ففيه قولان(5/498)
أظهرهما عدم الحنث سواء أكان الحلف بالله أم بالطلاق. وقول القفال يحنث في الطلاق دون اليمين ضعيف وإن كان هو مذهب أحمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو قال حلف إن لم تصومي غداً أو ليطأنها الليلة فحاضت لم تطلق كأن لم تصل اليوم صلاة الظهر فحاضت وقته ولم يمض زمن إمكان الصلاة. وقول القاضي في أن لم تصل الآن فحاضت طلقت حالاً ضعيف كما قاله الروياني وإن قال إن لم تصومي يوم العيد أو إن لم تصلي زمن الحيض أو إن لم تبيعي الخمر فصلت فيه أو صامت أو باعت الخمر لم تطلق أي ولا نظر لفساد ذلك وحرمته لأن المعلق عليه لا يشترط حله ولا صحته فقول بعضهم هذا مشكل ليس في محله، وقد صرحوا بأنه يبر ويحنث بالقراءة جنباً وإن لم يبر به عن نذره لأن القصد من النذر القربة والمعصية لا يتقرب بها بخلاف اليمين فإن القصد منها وجود المعلق عليه مع التذكير والاختيار وفارقت هذه ما قبلها في صور الحيض بأن التحريم ثم لما طرأ بعد الحلف كان بمنزلة الحائل الحسي بينه وبين المعلق به فلم يحنث بتركه له لعذره في ذلك، وأما عند تجرد يمينه لفعل المعصية فهو قاصد الإثم ومخالفة الشرع فكيف يعد منع الشارع له عذراً في عدم وجود المعلق عليه، فهو أعني تعرضه لفعل المعصية وتعليقه عليها كما لو حلف لا يفعل كذا وإن كان مكرهاً فإنه يحنث بفعله له ولو مع الإكراه لتعرضه في حلفه له، وأما الأول أعني الذي قد علق على فعل مباح فطرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل تمكنه من فعله على وجه الإباحة فهو كما لو حلف ليفعلن كذا فحال بينه وبينه متغلب وتعذر عليه فعله فإنه لا يحنث لعذره فتأمل هذا الفرق الظاهر أيضاً يتضح لك به أيضاً الجواب عن ذلك الإشكال وأنه لا تناقض ولا تخالف بين كلامي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
الشيخين في الطلاق والإيمان.(5/499)
التتمة في فوائد تتعلق بالإكراه منها محل إلغاء فعل المكره، وقوله حيث لم يقصد وأتى بعين ما أكره عليه من غير تغيير فيه بوجه لداعية الإكراه فحسب كما مر، وفي مجموع المحاملي الإكراه يرفع حكم الطلاق والعتق والبيع فلا يلزم شيء معه إلا أن يقر بأنه أراد اللفظ فقط فيصح طلاقه وإن لم يرد الإيقاع لأن المعتبر في وقوع الطلاق أي باللفظ الصريح إرادة اللفظ فقط، وحكى الأصحاب فيما لو قصد المكره إيقاع الطلاق قولاً بعدم الوقوع لأنه أسقط أثر اللفظ ومجرد النية لا يؤثر وإلا صح الوقوع إذ لا يبعد اختياره ما أكره عليه ظاهراً فعلى هذا صريح الطلاق كناية عند الإكراه إن نوى وقع وإلا فلا. ومنها حتى حلف بطلاق أو غيره على فعل نفسه ففعله ناسياً للتعليق أو ذاكراً له مكرهاً على الفعل أو مختاراً جاهلاً بالمعلق عليه لا بالحكم خلافاً لمن وهم فيه لم يحنث للخبر السابق أن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أي لا يؤاخذهم بشيء من هذه الثلاثة ما لم يدل دليل على خلافه كضمان المتلف فالفعل مع ذلك كلا فعل وكذا لا حنث إن علق بفعل غيره المبالي بتعليقه بأن لم يخالفه فيه لنحو صداقة أو حياء أو مروءة وقصد بذلك منعه أو حثه وعلم بالتعليق ففعله ذلك الغير ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أما إذا لم يقصد منعه ولا حثه أو كان ممن لا يبالي بتعليقه كالسلطان والحجيج أو لم يعلم به ففعله فإنه يحنث به ولو مع النسيان وقسيمه لأن الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير قصد منع أو حث، نعم يستثنى من ذلك ما إذا قصد مع الحث أو المنع فيمن يبالي به إعلامه به ولم يعلم به فلا تطلق على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما، ونقله الزركشي عن الجمهور ولو علق بفعله ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً ففعله كذلك حنث لأنه ضيق على نفسه أو بدخول نحو بهيمة أو طفل فدخل غير مكره حنث أو مكرهاً فلا وفارق ما مر من الوقوع في بعض الصور مع الإكراه بأن فعل(5/500)
البهيمة غير منسوب إليها حال الإكراه فكأنها حينئذ لم تصنع شيئاً بخلاف فعل الآدمي فإنه منسوب إليه ولو مع الإكراه، ولهذا يضمن به وألحق نحو الطفل هنا بالبهيمة لأنه أقرب شبهاً بها منه بالمميز وفي الحلف على غلبة ظنه كلام طويل للمتأخرين وغيرهم بينت حاصل المعتمد منه في الفتاوى وهو عدم الوقوع مطلقاً فعليك به فإنه نفيس مهم ولكثرة اختلاف الناس في هذه المسألة بأطرافها سكت كثيرون عن الترجيح فيها، وامتنع
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/1)
الماوردي وغيره من الإفتاء في ذلك قال: واستعمال التوقي أولى من زلات الأقدام ومن يحتاط في دينه لا يفتي في ذلك في زماننا لكثرة الكذب في دعوى النسيان والجهل من العامة ولا سيما النساء. ومنها قال الأذرعي في توسطه نقلاً عن فتاوى البغوي لو قال لرجل لا أدعك تخرج هذا المتاع من هذه الدار وإن فعلت فامرأتي طالق فخرج الحالف ثم ذهب المحلوف عليه بالمتاع قال: ينبغي أن يقال إن حفظه حفظ الوديعة فسرقه المحلوف عليه أو أكرهه حتى أخذه منه فعلى قولي الإكراه وإن لم يحفظه عنه حفظ الوديعة بحيث يصير ضامناً في الوديعة به حنث في الطلاق ولو كان المحلوف عليه يساكنه في الدار، فإن حفظه عنه حفظاً يقطع بسرقته فكالمكره وإلا فيحنث. ومنها أخذت لزوجها ديناراً فقال إن لم تعطيني الدينار فأنت طالق وكانت قد أنفقته لم تطلق إلا باليأس من إعطائها له بالموت فإن تلف الدينار قبل تمكنها من رده إليه فهي كالمكره على الفعل المحلوف عليه فلا تطلق أو بعد التمكن طلقت. ومنها لو قال اللصوص لا نخليك حتى تحلف بالطلاق أنك لا تخبر بنا فحلف كذلك كان إكراهاً لأنهم أكرهوه على شيء واحد بعينه وهو الحلف المذكور فلم ينعقد فإذا أخبر بهم لا حنث عليه على القاعدة في إلغاء فعل المكره بباطل وقوله بخلاف ما لو سأله ظالم عن ماله أو إنسان مثلاً أنه يعرف محله فأبى أن يخبره به فحمله وأكرهه على الحلف بالطلاق أنه لا يعلم ذلك فإن هذا غير مكره لأنه لم يكره على الحلف بخصوصه بل لا غرض لمكرهه في حلفه وإنما غرضه في أن يدله على ما هو سائل عنه فإذا ترك دلالته وحلف كان مختاراً للحلف فيحنث كما لو قال متغلب لآخر اقتل هذا أو هذا أو طلق هذه أو هذه فإنه غير إكراه لما فيه من التخيير، وكذا في مسألتنا هو مخير بين الحلف والدلالة فإذا آثر الحلف كان مختاراً له فيحنث به ويقاس بما تقرر في هذه المسألة نظائرها. ومنها لو قال طلقت مكرهاً فأنكرت زوجته فإن كان هناك قرينة كالحبس صدق(6/2)
بيمينه وإلا صدقت بيمينها كما لو طلق مريض ثم ادعى أنه كان مغمى عليه فإنه إن عهد له إغماء قبل ذلك قبل قوله وإلا فلا. وفي الروضة وأصلها عن ابن العباس الروياني أنه لو قال طلقت وأنا صبي أو نائم صدق بيمينه زاد في الروضة ما ذكره في النائم فيه نظر اهـ أي لأنه لا أمارة على النوم بخلاف الصبي ولكن لا مخالفة في دعوى النوم للظاهر فمن ثم كان لما قاله الماوردي نوع اتجاه ولا يرد عليه قولهما في الأيمان لا يصدق مدعي عدم قصد الطلاق والعتق ظاهراً لتعلق حق الغير بهما، والفرق أنه هناك تلفظ بصريح الطلاق ثم ادعى صرفه بعدم القصد وأما هنا فالمدعي طلاق مقيد بحالة لا يصح فيها الطلاق فقبل قوله لعدم مخالفة الظاهر كما مر هذا آخر ما قصدته وتمام ما حررته مما آمل أن أكون فيه على صراط مستقيم وسنن قويم ومع ذلك ففوق كل ذي علم عليم فمن اجتهد وأصاب فله عشرة أجور، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر والله سبحانه وتعالى أسأل أن يسبل عليّ ذيل الستر وأن يمن بإصابة صوب الصواب إنه الكريم الغني الوهاب، فله الحمد أولاً وآخراً باطناً وظاهراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وأصلي وأسلم على عبده ونبيه سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين بدوام كرمه وامتنانه وحسبنا الله ونعم الوكيل وإليه أفزع في الكثير والقليل ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم يقول مؤلفه عفا الله سبحانه وتعالى عنه فرغت من تسويده عشية العشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وتسعمائة والحمد لله رب العالمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/3)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال سيدنا ومولانا وشيخنا الإمام العالم العلامة العمدة الحبر البحر الفهامة جامع أشتات الفضائل بقية الأماثل والأفاضل الحجة في زمانه والقدوة في عصره وأوانه مفتي الحجاز وشيخ الحرمين أدامه الله سبحانه وتعالى نفعاً للإسلام والمسلمين الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر لا زالت كتب العلماء بتقريره في الدروس واضحة البيان ومسائل الفقهاء بتأييده في الطروس ظاهرة واضحة التبيان حتى يخرق الله سبحانه وتعالى العادة بطول مدته في عافية وينفع الإسلام والمسلمين بعلومه الكمالية الكافية آمين بعدما سئل عن مسألة السريجية المشهورة في الدور في الطلاق فأجاب جواباً شافياً كان لكل من أراد الوقوف عليها كافياً: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنجو بها من قبيح العمل الذي لا يحبه سبحانه وتعالى ولا يرضاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام العالمين في ورعه وتقواه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يخشوا سواه صلاة وسلاماً دائمين بدوام ربوبيته وعلاه آمين. (أما بعد) فإن مسألة الدور هذه قد كثر فيها اختلاف العلماء قديماً وحديثاً وأفردها جماعة بالتصنيف منهم أبو سعيد المتولي والغزالي وأبو بكر الشاشي والكيا الهراسي وصاحب الذخائر وغيرهم وهي حقيقة يبسط الكلام فيها سيما وقد تلقنها بعض العوام من بعض المتفقهة كما تلقنها هذا المفتي المذكور وصاروا يعلمونها لإجلاف البوادي ويتحيلون على أكل أموالهم بتعليمهم لها وأباحوا لهم العمل بها وجروهم على ذلك وعلى الحلف بالطلاق وتكراره في ألسنتهم حتى صار لهم عادة وصار جراءة لهم على الكذب والباطل فإن من سمعهم يحلفون بالطلاق يظن صدقهم لظنه أنه لا يتجرأ أحد على الحلف به كاذباً وكل ذلك وباله على هؤلاء المتفقهة الذين أضلهم(6/4)
الشيطان وأغواهم وصيرهم من أعوانه يضل بسببهم الناس ويلجئهم إلى أقبح المسالك فعليهم غضب الله تعالى ومقته وعذابه إن لم يتوبوا من هذه الأحوال القبيحة وكيف لمن لم يعرف فروض الوضوء على وجهها أن يفتي الناس في الأبضاع والفروج والأنساب ويتجرأ على هذا المنصب الخطر أما علم قوله سبحانه وتعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم} (
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/5)
النحل: 116) وهذا المفتي المذكور قد ظهر في كلامه كما ستعرفه ما قضى على حاله وحكم على مقاله بالجهل المفرط والغباوة الظاهرة وبأنه عامي صرف لا يهتدي لضار فيجتنبه ولا لنافع فيقصده بل هو كالراكب متن عمياء والخابط خبط عشواء ومن ذا الذي سوغ لمثل هذا أن يفتي أو أن يرسل من يأمر برد النساء إلى أزواجهن ولو جاء هذا الجاهل من بلاد الأجلاف والهمج التي هو فيها إلى بلادنا بلاد العلم والشرع لأمرنا حكامنا بأن يوجعوه ضرباً وتأديباً وبأن يبالغوا في زجره وتعنيفه بالحبس ونحوه مما يناسب جراءته على منصب لا يعرفه وتصديه لرد فتاوى العلماء التي جاءت لتلك البلاد المذكورة في جوابه بأمره برد النساء إلى أزواجهن ظناً منه أنه معتمد لمسألة ابن سريج وليس كما زعم وتوهم لأن لمسألة ابن سريج مع ضعفها نقلاً ومعنى كما يأتي بيان ذلك واضحاً مبسوطاً شروطاً لم يحط بها هذا الرجل لما تقرر أنه عامي صرف وإنما حفظ كلمات من بعض المتفقهة في هذه المسألة واعتنى بها دون بقية أبواب الفقه لأنها جلب لحطام من الدنيا وتكون ناراً عليه في الآخرة كيف وهو ممن صدق عليه إن استحل ذلك. {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران: 77) ما لم يتب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويستغفره وتحسن توبته فمن تلك الشروط ما قاله جماعة من علماء اليمن وأجلائهم الذين ذهبوا إلى تصحيح الدور وهو أنه لا بد أن يصدر ذلك التعليق من عارف بمعناه، وما يلزم عليه من المحال الموجب لعدم وقوع الطلاق ومن هؤلاء الإمام الجليل علماً وفهماً ومعرفة ابن عجيل ذكر ذلك العلامة المحقق أبو بكر ولد الإمام موسى بن الزين الصديقي الرداد شارح الإرشاد في جمعه لفتاوى والده فانظر إلى هذا الشرط الذي شرطوه تجده صريحاً في أنه لا يجوز لعامي بل ولا لمتفقه أن يعمل بهذه المسألة عند(6/6)
القائلين بها، لأنه لا يعرف حقيقة الدور الموجب لإلغاء الطلاق في هذه المسألة إلا العلماء الراسخون وكفاك دليلاً على ذلك أن الغزالي مع جلالته ووصوله إلى مرتبة من مراتب الاجتهاد تناقض كلامه المرة بعد الأخرى فتارة صحح الدور لظهور معناه عنده وتارة أفسده لفساد معناه وتارة رجع عن هذا إلى الأول على ما قيل، واعتمده الأصبحي لكن كلام الرافعي وغيره الآتي يرده ويصرح بأن الذي استقر أمره عليه إنما هو الرجوع عن صحة الدور إلى بطلانه وعلى كل فقد وقع له من التناقض في ذلك ومن الحكم ببطلانه تارة وبصحته أخرى ما لم يحفظ عنه أنه وقع له نظير ذلك في مسألة من مسائل الفقه وما ذاك إلا لدقة المعنى في هذه المسألة ومزيد خفائه ومن ثم أطربت فيها أفهام الأصحاب واختلفت وتباينت وخطأ بعضهم بعضاً وبالغ بعضهم في الرد على بعض، وسيأتي عن المتولي أنه في تصنيفه المفرد في بطلان الدور ألزم القائلين بصحته بتناقضات للأصول ومخالفات للكتاب والسنة والإجماع وغير ذلك مما سنذكر إن شاء الله سبحانه وتعالى بعضه فإذا كانت هذه المسألة على ما وصفت لك من هذا الإشكال العظيم وتقرر أن من شروطها عند القائلين بها أن يصدر التعليق ممن يعرف معناه وما يلزم عليه ونحن نقطع بأن هذا الزهراني المجيب بما مر لا يفهم ذلك ولا يتصوره أدنى تصور بدليل ما ذكره من المجازفات في كلامه وسيأتي بيانه وإيضاح فضلاً عن العوام وفضلاً عن إجلاف البوادي فكيف ساغ له الأمر برد النساء إلى أزواجهن والإفتاء لهم بأنهم يقلدون القائلين بالصحة سبحانك هذا بهتان عظيم ومن تلك الشروط ما قاله الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/7)
البلقيني في تدريبه وناهيك بالكتاب ومصنفه أن تمضي لحظة بعد التعليق تسع الحكم بالوقوع، أما لو لم تمض لحظة كذلك بأن أعقب تعليقه بالتنجيز فإنه يقع المنجز حتى عند القائلين بصحة الدور. ومنها كما في التدريب أيضاً أن لا تطلق بطلبها في الإيلاء والحكمين في الشقاق، أما إذا طلق بطلبها في ذلك فإن الطلاق يقع حتى عند القائلين بصحة الدور أيضاً كما يقع الفسخ في أن فسخت بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثاً. ومنها كما فيه أيضاً أن يكون ذاكراً للتعليق الموجب لإلغاء الدور عند القائلين بصحته أما لو نسيه ثم أوقع الطلاق أو فعل المحلوف عليه وهو ناس له فإنه يقع الطلاق حتى عند القائلين بصحة الدور أيضاً، وإذا تقرر لك أن القول بصحة الدور على ضعفه مقيد بهذه الشروط الكثيرة فكيف ساغ لهذا الزهراني التجري على الإفتاء بإطلاق صحة الدور من ذكره هذه الشروط جميعها، وقد قال النووي في الروضة والمجموع متى أطلق المفتي إفتاءه في محل التفصيل كان مخطئاً وبه يعلم خطأ هذا المفتي وأنه عاص آثم وليته اقتصر على مجرد ذكره لكلام الناس في المسألة الذي تلقنه من شيخه الذي ذكره ولم يضم لذلك أمره برد النساء إلى أزواجهن فذلك أخف، وأما تصديه للإفتاء وأمره بردهن مع جهله بتلك الشروط فخطأ عظيم وذنب قبيح جسيم على أن شيخه له من ذلك حصة وافرة فإنه إنما ذكر له مجرد تعداد القائلين بصحة الدور ولم يذكر له شيئاً من الشروط عندهم وليس في هذا إلا ضلال لتلميذه المذكور وللعوام فإنه أطلق لهم أن جماعة من العلماء وعدد بعضهم قائلون بصحة الدور ثم أمرهم بتقليدهم حتى لا يقع عليهم طلاق ولم يقل لهم شرط عدم الوقوع عندهم كذا أو كذا فهل هذا إلا جهل مفرط وضلال بين وإضلال للعوام وإتباع لهوى النفس والشيطان وتزيينه ووسوسته إيثاراً للعرض الفاني وهو ما أخذه من الرشا والسحت الذي يشتعل عليه ناراً في قبره فقبح الله سبحانه وتعالى هذا الرجل الزهراني وشيخه المذكور فإنهما ضلا وأضلا(6/8)
ضلالاً مبيناً، ومما يدل على الهوى وإيثار الدنيا على الآخرة وغش المسلمين وعدم نصحهم أنه ذكر مجرد تعداد لبعض القائلين بصحة الدور وأن ابن سريج منهم ولم يذكر لهم أن الأئمة اختلفوا في النقل عن ابن سريج حتى قال أقضى القضاة الماوردي وناهيك به من نقل عن ابن سريج أنه قال بصحة الدور فقد وهم والظاهر كما قاله الأذرعي وغيره أنه اختلف جوابه فقال مرة بالصحة وهي التي اشتهرت عنه، وقال مرة بالبطلان وممن صرح باختلاف الرواية عنه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/9)
الخوارزمي في كافيه و ابن الصباغ ، وإذا اختلفت الرواية ولم يعرف المتأخر من الروايتين وجب القول بتساقطهما والرجوع إلى مرجع آخر ولا ذكر لهم أيضاً قول ابن الصباغ في كتابه الشامل الذي هو من أجل كتب المذهب أخطأ من لم يوقع الطلاق خطأ ظاهراً وليس هو بمذهب للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولا ذكر لهم أيضاً قول الغزالي في كتابه الذي رجع فيه عن القول بصحة الدور فقد قال في أوله دخلت بغداد سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتواترت عليّ الأسئلة عن دور الطلاق ورأيت أكثرهم قد أطبق على إبطال الدور وتشديد النكير على من يصحح الدور ويحسم به باب الطلاق معوّلين فيه على اعتراضات ضعيفة قاصرة عن إبطال عمدة القول بالدور فابتدأت في تلك المناظرات لأبطل اعتراضاتهم الفاسدة وصنفت فيه كتاباً سميته غاية الغور في نهاية الدور مشتملاً على تزييف تلك الاعتراضات ومهيأ للكلام فيه إلى أقصى الغايات ثم انتشر ذلك الكتاب في الأمصار واستطار الفتوى بصحة الدور مني في الأقطار ثم اتفق لي بعد ذلك فكرة في حقيقة الدور فاطلعت فيه على غور وتغير شبه الاجتهاد ورأيت إيقاع الطلاق بعد الدور أقرب إلى السداد لما سنذكره في الدور من الفساد المانع من الاعتقاد فلم أجد بداً من إثبات ذلك لنعوّل عليه لا على ما سبق من الفتوى قبله فذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي وعلى التخمين والاجتهاد تبنى فقهيات المسائل والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فأقول لفظ العقد إذا اشتمل على محال وجب إلغاؤه، ولفظ الدور مشتمل على محال فيجب إلغاؤه ثم بين ذلك وأطال فيه فتأمل كلامه هذا تجده مصرحاً بأن أكثر علماء بغداد في زمنه، وناهيك بهم في ذلك الزمن من كثرة وجلالة على بطلان الدور وبأنه كان ظهر له أوّلاً صحته ثم ظهر له فساده وبان فساده هو الحق وصحته هي الباطل لقوله والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولا ذكر لهم أيضاً قول المتولي، وناهيك بجلالته إن كنت جاهلاً(6/10)
بمقادير الرجال في أوائل كتابه الذي صنفه في إبطال الدور ولفظه بعد الخطبة لما ظهر ميل بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى ورضي عنه إلى مسألة تعرف باليمين الدائرة وانتشر ذلك بين العوام الهمج فصار يلقف بعضهم بعضاً في الأسواق ويفتي بعضهم بعضاً أن الطلاق لا يقع بعدها ونسب بعض أصحاب الشافعي في هذه المسألة إلى الرفض لما وقع في لسان العامة أن عند أصحاب
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/11)
الشافعي أن الطلاق لا يقع على النساء، وصار ذلك شناعة في المذهب والذين ذهبوا إلى هذا من قدماء أصحابنا لم يكونوا يظهرون ذلك للعوام لما فيه من الشناعة سألني بعض أصحابي أن أبسط الكلام في المسألة وأكشف عن الشبهة فيها وأظهر الطريق المستقيم فأجبته مستعيناً بالله تعالى فإنه خير موفق ومعين ثم ذكر الدور وأطال في بيان بطلانه وما يلزم عليه من مخالفة الإجماع والقياس مما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى بعضه فتأمل قوله رحمه الله تعالى ورضي عنه وجزاه خيراً وانتشر ذلك بين العوام الهمج تجده مصرحاً بأنه لا يتجاسر على الإفتاء بتصحيح الدور الأعوام الأسواق الذين لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم ولعل هذا الزهراني من أولئك العوام فإن كلام المتولي هذا منطبق عليه وعلى شيخه وتأمل أيضاً الفساد الذي انجر إلى بعض أصحاب الشافعي بسبب أولئك العوام فإنهم لما أشاعوا ذلك في الأسواق وغيرها صار الناس يعتقدون في جماعة من أجلاء أصحاب الشافعي أنهم أرفاض لأن إطلاق القول بأن الطلاق لا يقع على النساء إنما يعزى إلى الإرفاض بل إلى النصارى كما يأتي فقاتل الله سبحانه وتعالى أولئك العوام ومن فعل فعلهم القبيح كهذا الرجل وشيخه فإنهم سلطوا الخاصة والعامة على الخوض في الاعتراض على الأئمة الأكابر بما هم بريئون منه فمعاذ الله تعالى وهم أهل السنة وفرسان ميدانها أن يتوهم فيهم ذلك لكن الإثم العظيم والعقاب الأليم إنما هو على أولئك العوام ومن تبعهم وشابههم حيث جعلوا أئمة الدين وعلماء المسلمين هدفاً وعرضة لإلحاق النقائص القبيحة بهم وللخوض في أعراضهم الزكية الطاهرة بالثلب والسب ومن فعل ذلك فهو بالضرورة التي لا تخفى على أحد معاد لهم وقد قال الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه ورسوله : «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» أي أعلمته أني محارب له ومن حاربه الله سبحانه وتعالى لا يفلح أبداً، بل قال بعض الأئمة أن ذلك سبب لسوء الخاتمة والعياذ بالله(6/12)
سبحانه وتعالى هذا فيما عادى ولياً فكيف بمن عادى أولياء كثيرين وتأمل أيضاً قول المتولي والذين ذهبوا إلى هذا المذهب من قدماء أصحابنا لم يكونوا يظهرون ذلك للعوام لما فيه من البشاعة تجده صريحاً أيضاً في امتناع إظهار ذلك للعوام ولو عند القائلين بصحة الدور ومما يصرح بهذا أيضاً قول الروياني مع أنه من القائلين بصحة الدور ولا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان، ومما يؤيده أيضاً قول النووي في شرح المهذب كالروضة يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به يحرم استفتاؤه فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر ثم قال ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبهة طلباً للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليط على من يريد ضره، ثم قال ومن الحيلة التي فيها شبه ويذم فاعلها الحيلة السريجية في سد باب الطلاق اهـ فتأمل عبارته هذه تجدها صريحة في منع هذا الزهراني من الإفتاء لو كان فيه أهلية فكيف وهو عامي صرف وذلك أنه أظهر هذه الحيلة للعوام وعلمها لهم وأمرهم برد نسائهم بعد حنثهم فيهن بالثلاث فعليه بسبب ذلك ما يستحقه ولو ذكر بعض ما قدمناه في ذم القول بصحة الدور للعوام ولم يتبعه أحد فيها وممن ذمها أيضاً وبالغ في تخطئة القائلين بها
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/13)
العز بن عبد السلام ، وناهيك به جلالة ومن ثم لقب بسلطان العلماء وعبارته كما حكاه تلميذه الإمام القرافي عنه هذه المسألة لا يصح فيها التقليد والتقليد فيها فسوق لأن القاعدة أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع أو النص أو القواعد أو القياس الجلي، وما لا نقره شرعاً إذا تأكد بقضاء القاضي فننقضه فأولى فيه لأن التقليد في غير شرع هلاك، وهذه المسألة مخالفة للقواعد الشرعية فلا يصح التقليد فيها. قال القرافي وهذا بيان حسن ظاهر اهـ، وأقرهما على ذلك الزركشي وغيره وممن بالغ في ذمها أيضاً الإمام ابن الصلاح فإنه جعلها في فتاويه مما ودّ لو محيت من كتب الشافعية ولما سئل عن اختيار صاحب المهذب فيه صحة الدور تبعاً لابن سريج ، فأجاب بقوله ابن سريج بريء مما نسب إليه والذي عليه الطوائف من أصحاب المذاهب وجماهير أصحابنا إبطال القول بأنه لا ينسد باب الطلاق بل يقع في كمية الواقع. منها وقال الزركشي في الخادم عن بعض المتأخرين: أن القول بانسداد باب الطلاق قول باطل، فإن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق، قال: وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا ليس بصحيح فإنه يستلزم وقوع طلقه مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة فإن الكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلاً لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم ذلك إذا كان التعليق صحيحاً قال وما أدري هل استحدث ابن سريج هذا للاحتيال على وقوع الطلاق أو قاله من طرق لقياس اعتقد صحته واحتال بها من بعده، والظاهر الثاني اهـ. وقال في الخادم أيضاً: وبالغ السريجي من الحنفية فقال القول بانسداد باب الطلاق يشبه مذهب النصارى أنه لا يمكن الزوج إيقاع طلاق على زوجته مدة عمره إذا تقررت هذه المقدمات فلنرجع إلى الكلام على جواب هذا الزهراني ونبني على ما وقع له من المجازفات(6/14)
والجهالات والتناقضات الدالة على سوء فهمه وقلة علمه بل وعلى إفراطه في الجهل والتساهل وغير ذلك من القبائح التي ستتضح فنقول قوله عن جواب المفتي الذي جاءه من مكة أن فيه من ألقى على زوجته بمسألة الدور أنها تطلق بنفس الإلقاء كلام كذب وبهتان ولا يتوهم هذا من له أدنى إلمام بفقه الشافعية كيف وذلك مصرح به في المختصرات فضلاً عن المطولات، ومما يدل على جهله قوله عن شيخه مراد النووي ومن تابعه أنه إذا وقع عليها بعد ذلك الطلاق طلقت ولا تطلق بنفس الإلقاء فيقال له هذا جهل إذ لا يقال المراد كذا إلا إذا دلت العبارة على خلافه وعبارة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/15)
النووي وغيره صريحة في أن مجرد التعليق لا يقع به شيء، وقد صرح بذلك حتى في المنهاج الذي ساق هذا الزهراني عبارته فقوله فطلقها وقع المنجز فعند ذلك عزلوا النساء عن أزواجهن كذب أيضاً، لأن الجواب الذي جاءهم فيه أن من علق بمسألة الدور ثم حنث يقع عليه ما أوقعه فكيف يتوهمون منه أن الطلاق يقع بنفس الإلقاء ويعزلون من لم يقع عليهم حنث منهم، وقوله فلما كان بعد ذلك وقعت هذه المسألة على خاطر ابن سريج استظهاراً الخ باطل لأمرين، أما أولاً فمن ذا الذي أخبره أن ابن سريج لم يسبقه أحد بالكلام فيها وأنى له مع جهله بالتجاسر على ذلك. وفي متن الأنوار كالعزيز أن القول بصحة الدور مذهب زيد بن ثابت الصحابي ـ رضى الله تعالى عنه ـ . وأما ثانياً فلدلالة وقعت على خاطر ابن سريج استظهاراً على مزيد جهل هذا الزهراني وأنه يتكلم بما لا يفهمه ولا يدري ما يترتب عليه وأنه لا خبرة له بشيء من قواعد الفقه ولا بشيء من أصوله وأن يتكلم بالهذيان لكن لا يتعجب إلا إذا صدر ذلك ممن له إلمام بشيء من العلوم، وأما الجاهل بها جملة كافية كهذا الزهراني فلا يتعجب من صدور مثل ذلك منه، وبيان ما في هذه الكلمة من الفساد والتناقض أنه إذا أراد بوقوعها على خاطر ابن سريج أنه لم يسبقه أحد بها، وإنما ألهمها وإنه لم يقل ذلك مستنداً إلى دليل دل عليها وإنما ألهم حكمها بأن وقع في قلبه ما تبلج له صدره إذ هذا هو حقيقة الإلهام كان خطأ من هذا الزهراني وجهلاً وسفاهة لأن ابن سريج نفسه وغيره من الأئمة مجمعون على أن الإلهامات من غير النبي لا يعمل بها في الأحكام الشرعية إذ هي لا تبنى على الخواطر والإلهامات كما صرح به الأئمة حتى شراح المنهاج في أوائل الطهارة وإنما أسندت التصريح بذلك إلى هذا الباب لأنه يقرؤه كل متفقه وهذا مما يدلك على أن هذا الزهراني لم يقرأ من كتب الفقه باب الطهارة فضلاً عما بعده على أنه يلزمه تناقض آخر فإنه ذكر بعد ذلك أن الشافعي نص عليها فكيف(6/16)
يصح قوله فلما كان بعد ذلك وقعت على خاطر ابن سريج هذا مما يدل على أن هذا الزهراني يكتب ما لا يفهمه ولا يتصوّره، إذ لا يجمع بين هاتين العبارتين المتناقضتين تناقضاً ظاهراً لا يخفى على متعلم إلا من أفرط جهله وقل عقله وهما قوله وقعت على خاطر ابن سريج، وقوله نص عليه الشافعي وإن أراد بوقوعها على خاطره أنه استنبطها من دليل كان تعبيره بقوله وقعت على خاطره خطأ، إذ لا يقال في الأحكام التي يستنبطها المجتهد من الأدلة أنها وقعت على خاطره، وإنما يقال ذلك في الإلهامات، وقوله استظهاراً خطأ منه أيضاً، إذ الاستظهار طلب ظهور الأمر وانجلائه ومن ثم كان الفقهاء يعبرون به عن الاحتياط ومعلوم مما قدمته مبسوطاً وما يأتي أنه لا احتياط في تصحيح الدور وإنما الاحتياط في بطلانه إذ هو الذي عليه الطوائف من سائر المذاهب وعليه جماهير أصحابنا كما مر عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/17)
ابن الصلاح وغيره ولو كان في تصحيحه احتياط لم يبالغ العلماء في ذمه وتخطئة القائلين به كما قدمت لك ذلك عنهم مبسوطاً ثم جزمه بنسبتها لابن سريج مما يدل على قصور نظره لما مر لك أن الأئمة اختلفوا في نسبة ذلك إليه وأن الماوردي خطأ من نسبها إليه، والحق أن جوابه اختلف فيها فقال مرة بصحة الدور وهو الذي اشتهر عنه عن جماعة ومرة قال ببطلانه موافقة لجماهير الأصحاب ولعلماء بقية المذاهب، وقوله وأما من صحح مسألة الدور فهم جمهور العلماء والأكثر فهو وإن قاله الإسنوى في المهمات ومن تبعه كالفتى في مختصرها وغيره مردود بل جمهور العلماء والأكثرون حتى من الشافعية على بطلان الدور كما قدمت ذلك عن ابن الصلاح وهو أجل من الإسنوى وجميع من جاء بعده فلا يلتفت لكلام هؤلاء مع كلامه وعبارته كما مر والذي عليه الطوائف من أصحاب المذاهب وجماهير أصحابنا أيضاً أنه لا ينسد باب الطلاق بل يقع فتأمل قوله وجماهير أصحابنا تعلم به بطلان قول الإسنوى ومن تبعه أن القول بالانسداد هو ما عليه الأكثرون ومما يبطله أيضاً أن ابن يونس في شرح التعجيز نقل القول بوقوع المنجز عن أكثر النقلة، وناهيك ب ابن يونس هذا فإنه قيل فيه أنه بلغ مرتبة أصحاب الأوجه وله من الإحاطة بكلام الأصحاب ما ليس للأسنوي وغيره، وإذا تعارض ناقلان ثقتان في شيء كان الرجوع للأعلم أولى، وقد علمت أنه تعارض في النقل عن الأكثرين الإسنوى ومن تبعه مع ابن الصلاح و ابن يونس وهما أجل وأدرى وأحفظ وأثبت وأعلم من الإسنوى وغيره، فوجب تقديم ما قالاه على ما قاله غيرهما، فإن قلت يؤيد ما قاله الإسنوى أن الإمام وناهيك به في النهاية التي هي من أجل أو أجل كتب المذهب نقل القول بانسداد باب الطلاق عن معظم الأصحاب. وفي البيان أنه قول الأكثرين قلت من تأمل كلام الأئمة في متفرقات تصرفاتهم في غير هذا المحل لم يخف عليه أن الواحد منهم قد ينقل شيئاً عن الأصحاب أو معظمهم أو الأكثرين، ويريد بذلك(6/18)
الأصحاب أو معظمهم أو الأكثرين من أهل طريقته كالخراسانيين أو العراقيين، ويؤيد ذلك أن الروياني في البحر نسبه إلى جمهور الخراسانيين فافهم أن بقية الأصحاب ما عدا جمهور الخراسانيين على القول بوقوع الطلاق، ولا شك أن من عدا جمهور الخراسانيين من الأصحاب أكثر منهم بكثير، نعم وافق جمهور الخراسانيين على ذلك جماعة من العراقيين ومع ذلك فهذا لا يقتضي أن الأكثرين من سائر طرق الأصحاب على القول بصحة الدور، والحاصل أن هذه العبارات التي ذكرتها عن الإمام ومن بعده يمكن تأويلها بنحو ما ذكرناه، وأما قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/19)
ابن الصلاح جماهير أصحابنا على الوقوع، وقول ابن يونس أكثر النقلة على الوقوع فلا يمكن تأويلهما لأن هذين الرجلين وأمثالهما من المتأخرين لا طريقة ينفردون بالنقل عن أهلها وإنما يتكلمون على سائر الطرق ينقلون عن أربابها بخلاف المتقدمين من الأصحاب فإن لكل جماعة منهم طريقة منفردة لا يتكلمون على ما سواها ولا ينقلون عن غير أهلها إلا نادراً فكان كلام ابن الصلاح و ابن يونس أقرب إلى إرادة الأكثرين في سائر الطرق من كلام الإمام ومن ذكرته معه وإذا كان كلامهما كذلك كما بان وظهر لك وجهه كان أولى بالاعتماد عليه من حيث النقل فإن قلت الإسنوى وغيره من المتأخرين أيضاً قد نقلوا عن الأكثرين صحة الدور فلم لا يعتمد نقلهم سيما وقد قال الأذرعي أن المنسوب للأكثرين في الطريقين صحة الدور، قلت لما عارضهم في النقل عن الأكثرين من هو أجل منهم قدراً وعلماً وحفظاً وخبرة بالمذهب ودراية بطرقه كان الرجوع إلى الأجل في جميع ذلك أحق وأولى وتأمل قول الأذرعي المنسوب إلى الأكثرين تجده كالمتبري من ذلك على أنا لو سلمنا أن الأكثرين على صحة الدور وصحح الشيخان بطلانه كان الرجوع إليهما واجباً متعيناً إذ المدار عليهما في الترجيح والمعوّل عليهما في التصحيح أمر لازم وقول جازم وكم من مسألة خالفا فيها الأكثرين باتفاق النقلة ومع ذلك يكون الراجح ما قالاه ورجحاه بل يقع لهما في مواضع أنهما ينقلان حكماً عن الأكثرين ويصرحان بأن عليه الأكثرين ومع ذلك يخالفانه ويرجحان سواء ويكون الحق ما رجحاه، ومن ذلك ما وقع لهما في الإقرار فإنهما نقلا حكماً عن الأكثرين، ونقلا عن الصيدلاني مقابله ثم قالا والحق والصواب ما قاله الصيدلاني ووافقهما على ذلك جميع المتأخرين فيما أحسب إذ ما قاله الأكثرون في ذلك في غاية الإشكال لا يفهم له وجه إلا بعد مزيد تأمل وتدبر وقد أشرت إلى جميع ذلك في أول شرح العباب فإن أردت تحقيق ذلك فعليك به من مظنته ثم، وبينت أيضاً الرد(6/20)
على الأكثرين من المتأخرين ممن يعترضون على الشيخين بمخالفتهما لكلام الأكثرين بما حاصله أن الاعتراض بذلك عليهما ليس في محله فإنه لا يتقيد بما عليه الأكثرون إلا المقلد الصرف القاصر عن رتبة الترجيح والتصحيح، وأما من وصل لتلك المرتبة فلا يتقيد بذلك وبينت ثم أيضاً الرد على صاحب العباب في مخالفته في مواضع من كتابه تبعاً للأسنوي وغيره ممن يعترضون عليهما بكلام الأكثرين، وقد أشار
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/21)
الزركشي وغيره أيضاً إلى الرد على الإسنوى وغيره في الاعتراض عليهما بذلك أن الأكثرين على صحة الدور، ورجح الشيخان بطلانه كان الرجوع إليهما حتماً لازماً فكيف والأكثرون على ما رجحاه كما قدمته لك واضحاً مبيناً مبسوطاً مما لا مزيد عليه في البيان والوضوح، ومما يزيده بياناً ووضوحاً أني أعدد لك القائلين بكل من القولين بحسب ما رأيت في كتب الشيخين وغيرهما وانظر عدد كل من الطائفتين بعد أن تعلم أن قول هذا الزهراني أن جمهور العلماء على صحة الدور كذب باطل صراح لا سند له فيه ولا سلف إلا تجريه على الكذب والتساهل فإن جمهور العلماء من سائر المذاهب غير مذهبنا على فساد الدور وهذا مما لا شك فيه كيف وشنع على القائلين بصحة الدور جماعة من الحنفية و المالكية و الحنابلة ولو كان جمهور العلماء على صحته لم يشنع أحد من علماء المذاهب على القائل بذلك، وقد نقل بعض الأئمة عن أبي حنيفة وأصحابه الاتفاق على فساد الدور وإنما وقع الخلاف عنهم في وقوع الثلاث والمنجز وحده، وفي مغني الحنابلة لا نص لأحمد في هذه المسألة وقال القاضي تطلق ثلاثاً. وقال ابن عقيل تطلق بالمنجز لا غير اهـ، فهما متفقان أيضاً على فساد الدور على أن قوله أن عليه الجمهور يكذبه فيه قوله أولاً أن هذه المسألة وقعت على خاطر ابن سريج و ابن سريج إنما جاء بعد أن انقضت أعصر الصحابة والتابعين وبقية السلف رضوان الله تعالى عليهم فكيف مع ذلك يسوغ لهذا الجاهل الغبي أن يقول إن جمهور العلماء على صحة الدور، سبحانك هذا بهتان عظيم وإذ قد تبين لك بطلان قوله هذا فلنعد إلى تعداد القائلين بكل من هذين القولين فمن القائلين ببطلان الدور ابن القاضي والشيخ أبو زيد المروزي أستاذ القفال و أبو سعيد المتولي وصنف فيه تصنيفاً حافلاً أطال فيه في الرد على القائلين بصحته وبين فيه أنه يلزمهم مخالفة الإجماع في صور كثيرة والشريف ناصر اليعمري و البندنيجي في كتابه الكافي و الماوردي ونقله(6/22)
عن ابن أبي هريرة و ابن سريج . وقال من نقل عنه القول بصحة الدور فقد وهم لكن مر أنه اختلف جوابه قال الرافعي و الغزالي في آخر قوليه وصنف فيه تصنيفاً كما قدمت بعضه، ومن ثم قال الرافعي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
و للغزالي مصنفان في المسألة مطول في تصحيح الدور ومختصر في إبطاله رجع عن تصحيحه واعتذر فيه عما صدر منه اهـ، وكذا الإمام و الكيا الهراسي قال في الأنوار وهو المذكور في شرح اللباب وصاحب الاستقصاء والانتصار و أبو بكر الإسماعيلي و أبو عبد الله الختن و ابن الصباغ و الشيخ أبو علي و القاضي الحسين وصنف في ذلك تصنيفاً و البغوي في تعليقه و ابن الصلاح فهؤلاء عشرون نفساً قائلون ببطلان الدور وإن اختلفوا في عدد الواقع كما أشرت إليه بقولي وكذا الإمام الخ وقد قال الغزالي في كتابه الغور في الدور أنه رأى أكثر علماء بغداد مطبقين على بطلان الدور ومشددين النكير على من يصححه ومن ثم قال الأذرعي وبالجملة فقد ذهب خلائق من الأئمة إلى ما اختاره الرافعي من وقوع المنجز فقط وهذا يوافق قول ابن الصلاح والذي عليه جماهير أصحابنا بطلان الدور، وقول ابن يونس عليه أكثر النقلة ومن القائلين بصحة الدور المزني و ابن سريج على أحد قوليه و أبو بكر بن الحداد و القفا لأن والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو علي في بعض تصانيفه و أبو المحاسن الروياني و أبو يحيى البصري و المحاملي و البيضاوي وصاحب التهذيب والإمام، ومر أنه اختار الأول فلعل كلامه اختلف ككلام الشيخ أبي علي وصاحب الذخائر و القزويني و الشاشي و ابن أبي الخل ، فهؤلاء هم القائلون بصحة الدور والأولون أكثر عدداً من هؤلاء بكثير فكيف مع ذلك يدعي أن الأكثرين على صحة الدور وهذا مما يعلمك بصحة قول ابن الصلاح أن جماهير أصحابنا على بطلانه، وقول ابن يونس أن أكثر النقلة عليه وما يرد على الإسنوى ومن تبعه في قولهم أن الأكثرين على(6/23)
صحة الدور لأن هؤلاء المذكورين هم الذين رأيناهم في كتب الشيخين والمتأخرين، وقد جمعت وتقصيت وتفحصت الكتب فلم أر أحداً ذكر غير هؤلاء وبعد أن جمعتهم على حسب الإمكان رأيت القائلين ببطلان الدور أكثر من القائلين كما بان لك ذلك وظهر من تعدادهم، وإنما حمل كثيراً من الناس على اتباع الإسنوى وغيره في دعواه أن الأكثرين على الأول عدم إمعانهم في تفتيش كتب النقلة عن القائلين بكل من القولين ولو فتشوا كما فتشنا لرأوا ما ظهر لنا من أن القائلين ببطلان الدور أكثر من القائلين بصحته فإن قلت اتباع
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/24)
الشيخ أبي حامد على مقالته وهم كثيرون إذ هو شيخ الطريقتين، قلت أتباع الرجل لا يعدون معه فإنهم تابعون ومقلدون له فيما قاله فهم معه كالرجل الواحد كما أشار لذلك الزركشي في أول الخادم فظهر بما قررته أنا إن قابلنا الرجال بالرجال، كان الرجال القائلون ببطلان الدور أكثر هذا مع قطع النظر عن أن العلماء من سائر المذاهب إلا من شذ على بطلانه فكيف إذا انضم العلماء من سائر المذاهب إلى من قال ببطلانه من أصحابنا وانضم لذلك اعتماد الشيخين المعول في الترجيح والتصحيح إنما هو عليهما باتفاق جميع من جاء بعدهما إلا من لا يعبأ به ولا يلتفت إليه وانضم لذلك أيضاً اعتماد أكثر المتأخرين ومحققيهم له أيضاً كما ستعلمه فهل بقي بعد ذلك في اعتماد القول ببطلان الدور من شبهة، اللهم إلا من غلب عليه الجهل وحب الرشا التي يأخذها من العوام فإنه وإن ظهر له ما ذكرناه لا يعتمده، لأنه لو اعتمده لفات عليه بسببه ما يصل إليه من تلك الأموال وما عليه أنها سحت ونار عليه في الدنيا والآخرة، وقوله عن كفاية القاضي النهاري ولو حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء الخ، مما يتعقب النهاري فيه فإنه نقل أن الإلقاء ينفعه في هذه الصورة عند الجمهور وكأنه أخذ ذلك من أن الجمهور على صحة الدور، وقد مر لك بطلانه على أنا وإن سلمنا أن الجمهور على صحة الدور الجمهور ليسوا على صحته في هذه الصورة التي ذكرها النهاري لأن القائلين بصحة الدور اختلفوا في هذه المسألة كما بينه الشيخان وغيرهما فمنهم من قال إن الإلقاء ينفع فيها، ومنهم من قال لا ينفع الإلقاء فيها لأن عقد اليمين قد صح فلم يملك حله ولقد أطال المتولي رحمه الله تعالى في بيان الرد على القائلين بأنه ينفع في أول كتابه الذي صنفه في بطلان الدور فانظره منه إن شئت، وقوله هذا ما نص عليه الشافعي فنسبة ذلك إلى الشافعي منظور فيها لأن الرافعي قال: ورأيت في بعض التعليقات أن صاحب الإفصاح حكاه عن نص الشافعي واعترضه(6/25)
جمع بأن بعض الأئمة قال: تصفحت كتاب الطلاق من الإفصاح فلم أره ذكر المسألة، فإن قلت لا يلزم من ذكر المصنف مضافاً إلى تصنيفه أنه ذكر المسألة في ذلك التصنيف، قلت ذلك وإن كان غير لازم إلا أنه غالب على أن قول الرافعي ورأيت في بعض التعليقات فيه نوع تبر من تلك النسبة، وقول المهمات نقل في البحر عن القاضي أبي الطيب أن الشافعي نص عليه في المنثور ففيه نظر أيضاً كما قاله
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/26)
الرافعي ، فإن العراقيين إنما حكوه عن المنثور على أنه من كلام المزني نفسه لا من كلام الشافعي ومما يوضح الرد على الإسنوى أن ابن الصباغ في الشامل وناهيك به وبكتابه هذا فإنه من أجل كتب الشافعية أنكر نسبة ذلك للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وقال: قد أخطأ من لم يوقع الطلاق خطأ ظاهراً وليس هذا بمذهب الشافعي ، وقوله قال ابن النحوي : ينبغي أن تكون الفتوى به تقدم ما يبطل قوله هذا ويفسده وكيف ينبغي الفتوى بذلك مع ما مر من قول ابن عبد السلام أن تقليد القول بصحة الدور هنا فسوق، وقول ابن الصلاح أنه يود لو محى هذا القول من كتب الشافعية وقول غيرهما أنه قول باطل وأنه يشبه مذهب النصارى وغير ذلك مما بسطت الكلام عليه فيما مر فلا ينبغي بل لا تجوز الفتوى بذلك وكذلك لا يجوز القضاء ولا الحكم به كما سيأتي، وقوله واختار النووي وقوع المنجز يقال عليه لم يختره بل رجحه ك الرافعي وفرق بين اختار ورجح لكن هذا الزهراني لا يفهم ذلك فحينئذ يعبر بما جرى على لسانه وقوله تعليلاً لصحة الدور لأن التضاد حاصل بينهما الخ، كأنه توهم أن الأئمة لم يتعرضوا لفساد هذا الدور وليس كما توهم بل أفسدوه بأمور طويلة ليس هذا محل بسطها. ومنها ما مر عن الخادم عن بعض المتأخرين من بيان أن هذه العلة غلط، وأن الصواب بطلان هذا الدور. ومنها ما ذكره الغزالي في كتابه الذي رجع فيه إلى بطلان الدور، وحاصل ذلك الكتاب أن العقد إذا اشتمل على محال وجب إلغاؤه ولفظ الدور مشتمل على محال فيجب إلغاؤه فهاتان مقدمتان إذا سلمتا وجب تسليم المطلوب وهو بطلان الدور ثم بين أن المقدمة الأولى متفق عليها بين الفقهاء ووضح ذلك بأنه لا خلاف أن الفضولي إذا قال اشتريت هذه الدار لزيد ولم يكن وكيلاً من جهة زيد لا يقع الشراء عن زيد وهل يقع من المشتري فيه خلاف بين العلماء، قيل نعم لأن المحال قوله لزيد فيختص الإلغاء به لأنه المحال ويبقى قوله اشتريت صحيحاً، وقيل لا بل يلغي جميع(6/27)
كلامه لأن الرجل لا يؤاخذ ببعض كلامه قبل إتمامه، إذ بقية الكلام شرح لأوله فقد اتفق الفريقان على إلغاء المحال، وإنما اختلفوا أنه هل يلغي معه غيره أو لا وكذلك لو قال أنت طالق إن لم يشأ الله قيل تطلق إلغاء للشرط فقط لأنه المحال، إذ يستحيل وجود الشيء على غير مشيئة الله سبحانه وتعالى، وقيل لا تطلق للمحال وما قبله من كلامه لأنه أوقعه بصفة متعذرة فاتفقوا أيضاً على أن المحال باطل فقد حصل البرهان على المقدمة الأولى، وبيان المقدمة الثانية وهي أن الدور اشتمل على محال لأن ثلاثاً موصوفة بقبلية رابعة محال، وإذا كان محالاً فإما أن يلغي أصل كلامه فيقع المنجز فقط، وإما أن يلغي القدر المحال وهو قوله قبله فيقع المنجز وثنتان من المعلق، وقد قال بكل من هذين قائلون كما مر، فعلم أن الدور مشتمل على محال قطعاً وأن في ذلك ما يبطل الدور اللفظي ويمنع حسم باب الطلاق، فإن قيل الاستحالة مخصوصة بالطلاق المعلق إذ هو جزاء وله شرط وهو الزمان الموصوف بالتقدم على الطلاق معقول، إذ لا مانع للطلاق في ذلك الوقت في علم الله سبحانه وتعالى، فإذا أوقع لم يقع الطلاق المنجز بعده وإذا لم يقع لم يكن الزمان الموصوف بقبلية الطلاق موجوداً في علم الله تعالى فلا يقع، وهو معنى الدور فالجواب أنا لا نسلم أنه لو أخذ الشرط مفرداً أو أخذ الطلاق مفرداً عن الشرط يستحيل ولكن إذا أخذ المجموع استحال والتعليق اشتمل على المجموع للمحال فيتعين فيه الإبطال فإن المعلق هو طلاق ولكن علق إيقاعه بزمان موصوف بقبلية طلاق آخر إذ لو وقع غير موصوف بهذا الوصف غير ما علقه ووصفه فإن وقع موصوفاً بهذا الوصف كان محالاً فقد قصد بهذا اللفظ إيقاع ما هو محال على الوجه الذي قصده وأوقعه فوجب أن يبطل منه القدر المنحل بالإيقاع وهو لفظ القبل اهـ كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/28)
الغزالي رحمه الله تعالى ملخصاً موضحاً، وهو لما اشتمل عليه من التحقيق والبيان الظاهر حقيق بأن يكون سبباً لرجوع الغزالي عما كان معتمده من صحة الدور فكذلك يتعين على غير الغزالي بالأولى والأحرى أن يرجع إلى ذلك، وقد حكى التاج السبكي عن والده أن الذي استقر عليه رأيه في المسألة السريجية وعليه مات وصنف فيها تصنيفاً أملاه عليه أنه يقع المنجز ومن المعلق تكملة الثلاث وأنه رجع عما كان صنفه قبل ذلك في نصرة قول ابن سريج وابن الحداد وهما تصنيفان سمى أحدهما قطف النور في مسائل الدور، وسمى الثاني الغور في الدور اهـ فوافق ما وقع له ما مر عن الغزالي من حيث الرجوع عن صحة الدور، ومنها ما ذكره المتولي في كتابه الذي صنفه في بطلان الدور وقد ساقه برمته الأذرعي في توسطه فمن أراد الإحاطة بذلك الكتاب، وما اشتمل عليه من التحقيق والفوائد فعليه به في مظنته المذكورة، فمن ذلك قوله فيه عن بعض مشايخ أصحابنا أن قوله إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً متناقض من جهة اللفظ ومن جهة المعنى وتصور المسألة في صفة لا تؤدي إلى الدور حتى يظهر فسادها كإن دخلت الدار فأنت طالق قبله ثلاثاً أما مناقضته في اللفظ فهو أن إن دخلت الدار شرط وأنت طالق قبله جزاء، والجزاء يجب أن يكون مرتباً على الشرط فإذا قدم عليه كان باطلاً في الأحكام وغيرها كما لو قال من جاءني أكرمته قبل أن يجيئني أو من رد عبدي فله عشرة قبل أن يرده وهذان باطلان فكذا ما نحن فيه وأما مناقضته من حيث المعنى فهو أن إن دخلت الدار شرط وأنت طالق جزاء فلا يخلو أما أن يحكم بوقوعه قبل الدخول وهو خطأ لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه أو بعده على معنى أنه يقع بعده في الزمان قبله وهو باطل أيضاً لأنه طلاق في زمن ماض، والطلاق لا يقع في زمن ماض كما لو قال طلقتك أمس يريد الإنشاء، ثم أورد على ذلك أسئلة وأجاب عنها ومن ذلك قوله فيه أيضاً إن طلقتك لا خلاف أنه شرط، وقوله فأنت طالق جزاء مرتب(6/29)
عليه والجزاء لا يمكن إثباته إلا بعد تحقق الشرط، والشرط هنا الطلاق فلا بد أن يحكم بوقوعه وإذا حكمنا بوقوعه فلو رتبنا عليه الجزاء احتجنا أن نبطل ما حكمنا بوقوعه والطلاق وقوعه لا يقبل الرفع فبقي الطلاق الواقع لا يمكن رفعه فالطلاق المعلق بصفة لا يمكن رده بعد وجود صفته وقد وجدت الصفة فوجب أن لا يرد ويحكم بوقوعه، قلنا ليس كذلك فإن الطلاق المعلق يقبل الرد وإلا بطل عندكم كما في المسألة السابقة عن النهاري، وأيضاً فالإجماع على أن الطلاق المعلق يبطل حكمه بالخلع، وأما الطلاق الواقع فلا سبيل إلى رفعه، ومنها قوله فيه أيضاً القول بصحة الدور يؤدي إلى قطع أحكام ثابتة بعضها بنص القرآن وبعضها بنص السنة وبعضها بإجماع الأمة، فمن ذلك أن الإجماع انعقد على استقرار المهر بالوطء فمتى قال لمن لم يدخل بها متى استقر صداقك عليّ فأنت طالق قبله ثلاثاً بشهر ومضت ثم وطئها، فإن قلتم لا يستقر المهر خالفتم الإجماع وإن قلتم يستقر طلقت قبله بشهر وتشطر الصداق وإذا تشطر قبل الدخول لم يستقر به، وإذا لم يستقر به لم تطلق، وإذا لم تطلق بقي يطؤها مدة ولا يستقر صداقها، ومنه أن الإجماع انعقد من الأمة أن المرأة تستحق النفقة بالتمكين فلو قال لها الزوج إذا ثبت لك النفقة عليّ وطالبتني بها فأنت طالق قبله ثلاثاً بشهر ثم مكنته فوطئها أن قالوا لا تستحق النفقة فقد خالفوا الإجماع وإن قالوا تستحقها ولا تطالب بها، فمحال لأن الحق ثابت لها بلا تأجيل والمستحق عليه قادر على الإيفاء فالمنع من المطالبة لا وجه له، وإن قالوا تستحقها وتطالب بها فإذا طالبته طلقت قبل ذلك ثلاثاً بشهر فلا تثبت لها النفقة وإذا لم تثبت لها لم تملك المطالبة وإذا لم تصح مطالبتها لم يقع الطلاق فلزم بقاؤها معه في طاعته مدة من غير نفقة وهو محال ومنه إجماعهم على وجوب القسم بين الزوجتين، وعليه يدل ظاهر القرآن فلو قال لإحداهما متى ثبت حق القسم فطالبتني به فأنت طالق قبله(6/30)
ثلاثاً بشهر ثم بات عند الأخرى فإن قالوا إن تلك لا تستحق القسم فهو خلاف القرآن والسنة والإجماع وإن قالوا تستحقه ولا تملك المطالبة فهو محال وإن قالوا تستحق وتطالبه فإذا طالبت طلقت قبل ذلك ثلاثاً بشهر وإذا طلقت قبل ذلك لم تستحق القسم ولم تصح مطالبتها، وإذا لم تصح مطالبتها لم يقع الطلاق فتبقى المرأة مع زوجها مدة يبيت عند ضرتها وهي لا تستحق القسم مع عدم تقصير منها وساق من ذلك صوراً كثيرة ألزمهم فيها مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، ثم أورد على نفسه سؤالاً من جهتهم وأجاب عنه بما فيه طول، ثم أورد لهم أيضاً أن ما أدى ثبوته إلى سقوطه كان ساقطاً من أصله كما ذكره الأئمة في دوريات كثيرة في الإقرار والولاء والوصية والصداق وغيرها، وأجاب بأنا لا نسلم هذه القاعدة ولكن إنما يؤدي قوله إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً إلى هذا المعنى إن لو صح هذا التعليق فيقتضي وقوع المنجز وقوع المعلق قبله حتى يؤدي ثبوته إلى سقوطه ونحن لا نقول بذلك بل الذي نقوله إن هذه الصيغة لا تنعقد من أصلها فيقع المنجز ولا يؤدي ثبوته إلى سقوطه، ثم أورد على نفسه في هذا المبحث أسئلة، وأجاب عنها بما فيه طول ثم ذكر لهم سببها وهو أن الزوج يملك الطلاق المعلق والمنجز ملكاً واحداً من غير مزية لأحدهما على الآخر وقد اجتمعا ههنا وكل منهما مانع للآخر فتعارضا وتساقطا كما لو نكح أختين معاً وكما إذا تعارض بينتان ثم رد عليهم بأن هذا مبني على ما ينفردون به وهو انعقاد هذه الصيغة وأما عندنا فهي غير منعقدة وحينئذ فليس هنا إلا الطلاق المنجز وهذه نبذ مما ذكره وأطال فيه رحمه الله تعالى ورضي عنه، ولقد قال في آخر كتابه هذه جملة كافية لمن تحقق وتأمل فيها حقية التأمل وقاطعة للعذر في المخالفة لمن أنصف وبالله تعالى التوفيق اهـ، وهو كما قال وقوله وقال ذلك أيضاً الزركشي في مسائل الدور في قواعده، وذكر فيها كلام(6/31)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
ابن سريج وكلام غيره هذا لا يفيده شيئاً فذكر حشواً لا طائل تحته إلا إيهام السامعين أن الزركشي في قواعده قائل بصحة الدور وليس كذلك وقوله واعترض الشيخ الفتى على النووي الخ، يقال له الفتى تابع ل لأسنوي وقد مر الرد عليه بأبلغ دليل وأوضحه على أن ذكر الفتى دون من هو أجل بذلك منه يدل على القصور وأنه لم يطلع هو وشيخه من المسألة إلا على كلام جمع من متأخري المتأخرين فقلداهم من غير علم لهم بما في هذه المسألة من الإشكالات والتناقضات والتحقيق الظاهر والأدلة القاطعة لكل مكابر كما بينت لك جميع ذلك فيما مر، وقوله وإنما بينت هذه المقالات لتعرف الأحكام والمخالفات يقال عليه لست أهلاً لبيان شيء من ذلك، لأن أكثر كلماتك في هذا الجواب تدل على جهلك المفرط وغباوتك الظاهرة وأنك حقيق بأن تؤدب على تصديك لما لست أهلاً له وليتك تأسيت بما ذكرته عن صاحب المفتاح من عدم تعليم العوامّ وعدم الحضور معهم في ذلك وأن أحدا إذا أدخلهم في ذلك أمرنهم به لرد إلى غيرك لكن إنما أوجب لك الدخول معهم وتعليمهم وأمرهم برد نسائهم بعد حنثهم فيهن حب الأموال السحت التي تأخذها منهم على ذلك أو حب الرياسة والشهرة فيما بينهم، وقوله إن أهل اليمن وعلماءهم صححوها وأفتوا بها كذب وافتراء منه عليهم إلا لعنة الله على الكاذبين والصواب أنهم منقسمون إلى قسمين فمنهم القائلون بصحة الدور، ومنهم القائلون ببطلانه فمن القائلين ببطلانه الشيخ الإمام الكبير الجليل قمر تهامة وقطبها إسماعيل الحضرمي وصنف في ذلك تصنيفاً مختصراً قال فيه بعد الخطبة ما حاصله المفتون بصحة الدور قسمان: قسم حملهم على الإفتاء به تقليد الشيخ أبي إسحاق والغزالي ولو طولب هؤلاء بإقامة الحجة على أنه لا يقع بعد التعليق بالدور طلاق لم يفهموا ذلك بل يرون أن كلام هذين الإمامين كاف في الحجة التي يحصل بها ضعف قول المخالف وليس(6/32)
كذلك فإن أئمة المذهب كثير، وجواب هؤلاء أن يقال قد ذهب جمع من الأئمة المعتبرين إلى بطلان الدور، ومنهم ابن الصباغ في كتابه الشامل فإنه قال فيه فقد أخطأ في هذه المسألة من لم يوقع الطلاق خطأ كبيراً وكذلك صاحب التتمة فإنه قال الصحيح أنه يقع وكذلك صاحب الكتاب الجليل التهذيب قال الصحيح وقوعه وكذلك البندنيجي في كتابه الكافي قطع بأن الطلاق يقع بعده وهذا البندنيجي هو تلميذ الشيخ أبي إسحاق له الكتب المصنفات الجليلة كتاب المعتمد في الخلاف ليس له نظير وله كتاب الكامل في المذهب بحر غزير وله كتاب الكافي في مذهب الشافعي وقد ذكرناه وكذلك الفتوى لبعض الأصحاب قال الصحيح أنه يقع الطلاق وكذلك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/33)
الغزالي رجع في آخر عمره عما ذكره في وسيطه ووجيزه قال والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فهذا جواب القسم الأول وهو مقابلة الكتب بالكتب، وأما القسم الثاني وهم الذين يعتقدون في فتياهم ما ذكره الأوّلون من الحجة على صحة الدور من أنه إذا وقع المنجز لزم وقوع الثلاث المعلقة وإذا وقعت لزم أن لا يقع المنجز وإذا لم يقع لم تقع الثلاث المعلقة فجوابهم أن قولهم إذا وقعت المنجزة لزم أن يقع الثلاث المعلقة لا يصح بحال لأنه لا يملك ثلاثاً معلقة بواحدة إلا من يملك أربعاً فهذا التعليق محال فلا يصح بل لا يمكن أن يعلق بالطلقة إلا من يملك طلقتين فإذا علق بها ثلاثاً قلنا إما أن يبطل التعليق كله فلا يقع إلا المنجزة، وإما أن يقع من الثلاث طلقتان لأنه لو قال أنت طالق قبله طلقتين وقعت الثلاث والأوّل هو الأقيس إذا تم هذا فهذا الذي ذكرناه هو عين ما ذكره الغزالي في رجوعه عن صحة الدور إلى بطلانه، وقد ذهب لذلك ابن الصباغ أيضاً فقال من لم يوقع الطلاق فقد أخطأ خطأ ظاهراً وليس ذلك مذهب الشافعي فإن تقدم المشروط على الشرط لا يصح والشرط ههنا هو الواحدة والمشروط الثلاث والمشروط لا يقدم على الشرط اهـ، حاصل كلام الشيخ إسماعيل الحضرمي وما ذكره مشتمل على نفائس نبهت على جميعها مع البسط والإيضاح فيما قدمته. قال بعضهم: واستمر الشيخ إسماعيل على ذلك إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى كما صرح به ولده أحمد فقال مات وهو يفتي ببطلان الدور ووقوع الطلاق بعده، ثم ذكر مناماً يقتضي أنه رجع عنه بعد موته وهذا المنام لا يعتد به إذ النائم لا يضبط، ومن ثم حكى الإجماع على أن من رأى النبي في النوم وهو يقول له غداً من رمضان أو طلق زوجتك أو نحو ذلك لم يلزمه العمل به لكن لا لخلل في الرؤية فإنها حق إذ الشيطان لا يتمثل به ، وبهذا تعلم ما في قول الفقيه عبد الله بن أسعد الوزيري فإنه لما سئل عن طلاق التنافي أي الدور أجاب بقوله الذي أفتى به(6/34)
واختاره نصيحة مني للمسلمين أنه يقع الطلاق ويبطل الدور والدليل عليه نص السنة وهو ما أخبرني به الفقيهان الأجلان سليمان و محمد الهمدانيان قالا أخبرنا الفقيه يحيى بن أحمد الهمداني عن الفقيه يحيى بن أحمد سنة تسع عشرة وستمائة قال رأيت سنة ست وستمائة النبي وصاحبيه جلوساً مستقبلين وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يمين أبي بكر فسلمت عليهم فردوا عليّ السلام من غير قيام فقلت: يا رسول الله القرآن كلام الله غير مخلوق؟ قال:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/35)
«نعم» ، ثم قلت: يا رسول الله طلاق التنافي صحيح أم باطل؟ فقال النبي : «باطل، باطل» مرتين، وسكت في الثالثة وذكر بقية المنام. ثم قال الوزيري: ونقل الشيخ أبو نصر البندنيجي في المعتمد في الخلاف أن عمر ابن الخطاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ رأى النبي بعد موته في المنام معرضاً فقال: يا رسول الله ما لي أراك معرضاً عني؟ قال: «لأنك تقبل وأنت صائم» فتلقاه الإمام مالك بالقبول وعمل به وذهب إليه لأنه ناسخ لما ورد في الأخبار في حياته من الرخصة في القبلة للصائم. قال الوزيري : ولا خلاف بين العلماء والمحدثين أن من رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً وكأنما رآه في اليقظة بقوله : «من رآني في النوم فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» أخرجه البخاري في صحيحه، وهذا نص صريح في المسألة والنص لا يعارض بالقياس بإجماع أهل الأصول كيف وقد شرع النبي الأذان برؤيا عبد الله بن زيد وسنه وأمر به وكفى به دليلاً قاطعاً في المسألة ببطلان الدور، وقد ذهب إلى بطلانه من الفقهاء المتقدمين صاحب الشامل و الغزالي في آخر عمره و الشيخ أبو زيد و أبو العباس بن سريج و أبو العباس بن القاضي اهـ كلام الوزيري ، وقد أشرت لك إلى ما فيه من استدلاله بذلك المنام وأن جميع ما ذكره فيه لا يتمشى على قواعد الفقهاء والأصوليين ولكنه مع ذلك لا يخلو عن نوع تقوية واستئناس به للقول ببطلان الدور فمن كان في قلبه أدنى خوف رجع عن العمل بالدور ولا يظن أنه كالاستدلال بالحكاية الآتية فإن بينهما فرقاناً واضحاً كما يعلم مما يأتي في الكلام عليها، ومن القائلين ببطلان الدور أيضاً العلامة إسماعيل بن المقري وناهيك به جلالة وعلماً إذ لم يخرج اليمن في هذه الأعصار المتأخرة فقيهاً مثله وكذلك الإمام الكمال بن الرداد شارح الإرشاد وعالم زبيد وأعمالها فإنه ممن اعتمد بطلان الدور في شرحه الكوكب الوقاد وكذلك في فتاويه وتبعه ولده العلامة المحقق في جمعها فمنها أنه سئل هل(6/36)
يجوز العمل بالإلقاء فقال: لا يجوز العمل به. وعلى القول بصحته لا يصح التوكيل فيه. ومنها أنه سئل عما عمت به البلوى في نواحي الحجاز أن الرجل إذا أراد طلاق زوجته فهمت منه عدم الرغبة قالت له أقر أنه لا إلقاء لك فيقر ثم يشهد عليه ثم يطلقها طلاقاً منجزاً بائناً، ثم إذا بدا له رغبة فيها قال أنا كاذب في إقراري وجاء لمن عقد الدور صحيح عنده من فقيه أو حاكم فيحكم له ببقاء الزوجية وببطلان الإقرار وبطلان طلاقه وإن لم يبد له رغبة تزوجت وأجمع على ذلك أكثر متفقهة تلك النواحي زيديهم وشافعيهم وحسموا باب الطلاق فهل تطلق زوجته، والصورة هذه وربما كان أكثرهم عوام لا يفهم الدور وهل يجوز الحكم ببقاء الزوجية وببطلان الطلاق بعد هذه الكيفية وماذا يجب على من أقدم على ذلك بعد من أفتاه من يعتقد فقهه بوقوع الطلاق وعدم صحة الإقرار اهـ السؤال فتأمله حتى تتأمل جوابه من هذا الرجل العظيم الذي هو من إجلاء علماء اليمن وذلك الجواب قوله رحمه الله تعالى المعتمد في الفتوى وقوع الطلاق المنجز وهو المنقول عن ابن سريج وصححه جمع وعليه العمل في الديار المصرية والشامية وهو القوي في الدليل، وعزاه الرافعي إلى أبي حنيفة قال: وقد قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/37)
ابن الصلاح : هذه المسألة أودّ لو محيت و ابن سريج بريء مما نسب إليه فيها والذي عليه الطوائف من المذاهب، وجماهير أصحابنا أنه لا يفسد باب الطلاق. وقال بعض المتأخرين القول بعدم الوقوع قول باطل فإن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح، وما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق قال: وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا ليس بصحيح فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة والكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلاً لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم ذلك إذا كان التعليق صحيحاً اهـ، وبالغ السروجي من الحنفية فقال القول بانسداد باب الطلاق يشبه مذهب النصارى. وقال القرافي في القواعد: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول هذه المسألة لا يصح فيها التقليد والتقليد فيها فسوق، لأن القاعدة أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء الإجماع أو النص أو القاعدة أو القياس الجلي، وما لا يقر شرعاً إذا تأكد بقضاء القاضي بنقضه فأولى إذا لم يتأكد وإذا لم نقره شرعاً حرم التقليد فيه، لأن التقليد في غير شرع هلاك، وهذه المسألة مخالفة للقواعد الشرعية فلا يصح التقليد فيها. قال القرافي : وهذا بيان حسن ظاهر ثم حكى عن الإسنوى و الزركشي ما قدمته عنهما ثم قال الإمام البلقيني ورجح عدم الوقوع كثير لا في تطليقه بطلبها في الإيلاء والحكمين في الشقاق بل يقع كما يقع الفسخ في أن فسخت بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثاً ولا في حال نسيان التعليق فيقع قبله تخريجاً اهـ. قال: والنقل عن ابن سريج وصححه جمع أنه يقع المنجز وهو المعتمد في الفتوى اهـ إذا علمت ذلك فالقاضي المقلد لا ينبغي له أن يعمل بالقول بعدم الوقوع لما تقدم عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ولما أطبق عليه المحققون من المتأخرين من العمل بخلافه وصورة المسألة أن تمضي مدة عقب التعليق ثم ينجز الطلاق فإن(6/38)
أعقب تعليقه بالتنجيز وقع المنجز قطعاً ونبه عليه السراج البلقيني وهو ظاهر، وأما الإجماع المذكور من متفقهة العصر على التفصيل المذكور فلا يسوغ وفسقهم بالعمل به ظاهر نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والهداية اهـ جواب الفقيه الرداد فتأمل حكمه على المتفقهة المذكورين بفسقهم بالعمل بصحة الدور تعلم فسق هذا
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
الزهراني بالعمل به ويتضح لك صحة ما قدمته من شبهه والمبالغة في تفسيقه إذ هو فاسق كما حكم عليه هذا الرجل العظيم والفاسق سيما المتجاهر لا حرمة له ولا توقير ولا مراعاة بل يعامل بالسب والزجر والتغليظ لعله ينزجر ويتوب عن الجراءة على الأحكام الشرعية بالكذب والبهتان ونصب نفسه لمقام الإفتاء الذي ليس هو ولا شيخه الذي ذكره فيه أهلية له بوجه من الوجوه وليس هذا المقام ينال بالهوينا أو يتسور سوره الرفيع من حفظه وتلقف فروعاً لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها، وإنما يجوز تسور ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه أحد من العلماء فإذا تمكن الفقيه فيه حتى وصل لهذه المرتبة ساغ له الآن أن يفتي، وأما قبل وصوله لهذه المرتبة فلا يسوغ له إفتاء وإنما وظيفته السكوت عما لا يعنيه وتسليم القوس إلى باريها إذ هي مائدة لا تقبل التطفل ولا يصل إلى حومة حماها الرحب الوسيع إلا من أنعم عليه مولاه بغايات التوفيق والتفضل وتأمل أيضاً قوله إن المحققين من المتأخرين أطبقوا على العمل ببطلان الدور وتأمل أيضاً قوله عن ابن عبد السلام وقدمته عنه أيضاً أن التقليد في هذه المسألة للقائلين بصحة الدور حرام وفسوق وهلاك فهل بقي بعد هذا تشديد وتغليظ، بل جمع ابن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء في هذه الكلمات الثلاث ما ينبغي للعاقل بعد أن سمع ذلك أن لا(6/39)
يقلد في هذه المسألة القائل بصحة الدور ولا يعمل بذلك ولا يعوّل عليه ولا يفتي به ولا يعلمه لعامي، ومن خالف ذلك باء بعظيم هذا الإثم وازداد فسوقه وحق هلاكه نسأل الله السلامة والعافية آمين. وسئل الكمال الرداد عن ذلك مرة أخرى من فقيه الشحر وعالمه باسرومي بما حاصله قد أحاط علم سيدي باختلافهم في طلاق الدور والغرض بيان ما يترجح لكم فيه ولو حكم بعض قضاة العصر بصحة طلاق التنافي أو ببطلانه في امرأة بخصوصها لأجل الترافع عنده فهل ينفذ حكمه أم لا؟ لأنهم ذكروا أن الحاكم لا يجوز له الحكم بخلاف الصحيح من المذهب حتى قال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى أن الحكم بخلاف الصحيح من المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله سبحانه وتعالى، نعم ذكروا أن الحاكم يجتهد ويحكم بما ظهر له وإن كان خلاف الصحيح، ولا شك أن الاجتهاد قد طوى بساطه وقضاة زماننا أمرهم غير خاف لكنهم ذكروا هنا أنه لو حكم حاكم بصحة الدور لم ينقض حكمه ولا يقع الطلاق على الأقوال فهل شرطه بلوغ الاجتهاد أو لا؟ فأجاب
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/40)
الكمال الرداد رحمه الله تعالى بقوله المعتمد في الفتوى: أنه يقع المنجز وقد بسطنا الكلام على ذلك في الشرح، ثم قال بعد أن أورد ما قدمته عن التدريب، وقول صاحبه الإمام البلقيني النقل الثاني عن ابن سريج وصححه جمع أنه يقع المنجز فقط وهو المعتمد في الفتوى ولو حكم بعدم الوقوع حاكم من أهل الاجتهاد لم ينقض حكمه، أما المقلد للشافعي الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد فحكمه كالعدم لأنه لا ينفذ حكمه بخلاف الصحيح اهـ المقصود من كلامه وما أشار إليه السائل والمجيب من أن حكم الحاكم المقلد بصحة الدور حكم باطل لا يعتد به ولا يعول عليه هو الصواب الجاري على القواعد فلا محيد عنه ومن فعل ذلك من الحكام فحكم بصحة الدور كان آثماً وكان من جملة من قال الله سبحانه وتعالى في حقه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة: 47) أشار إلى ذلك الإمام السبكي وما أشار إليه أيضاً من أن قولهم لو حكم بصحة الدور حاكم يراه نفذ حكمه محله في حاكم مجتهد هو الصواب الذي لا يعول على غيره أيضاً بدليل كلامهم في باب القضاء، ومعلوم كما أشار إليه السائل أن رتبة الاجتهاد قد انقطعت من منذ مئات من السنين فليس لقاض الآن أن يدعي أنه بلغ تلك الرتبة حتى يجوز حكمه بالضعيف بل متى حكم قاض بوجه أو قول ضعيف رد حكمه عليه وكان ذلك قادحاً في ولايته وعدالته إذا تقررت لك هذه المقدمة علمت قبيح ما صنعه هذا الزهراني من تجريه على الأمر برد النساء وإفتائه أزواجهن بصحة الدور وغير ذلك من قبائحه الشنيعة كقوله إن علماء اليمن صححوا الدور وأفتوا به، وقد ظهر لك بما سقته عن هؤلاء الأئمة من علماء اليمن بطلان هذه الدعوى التي ادعاها وأن علماء اليمن مختلفون كغيرهم وحكايته للشعر الذي ذكره مما يدل على جهله وجهل هذا الشاعر وكذبهما وافترائهما ومبالغتهما في الكذب والإفتراء مما لم تخف قباحته وشناعته على أحد، وذلك أن هذا الشاعر قال: قد حكمت بها جميع قضاة الخلق(6/41)
وأفتوا بها، وفي هذا من الكذب والجراءة ما يقتضي فسق قائله ومن تبعه كهذا الزهراني لما تقرر أن نواحي مصر والشام، وناهيك بهذين الإقليمين العظيمين اللذين هما محل العلماء المعول عليهم في تحرير المذهب وتنقيحه كلهم قاطبة على بطلان هذا الدور وبحمد الله تعالى لم نسمع قط عن أحد من قضاة هذين الإقليمين أنه حكم بصحة الدور ولا عن أحد من علمائهما في هذه الأزمنة المتأخرة أنه أفتى بصحته، وإنما كلامهم في كتبهم ناطق ببطلان الدور فمع ذلك كيف ساغ لهذا الشاعر هذا الكذب الصراح، أما علم أنه منه كذب وفسق لكن من هتك عرضه وعدم دينه ومروءته لا يبالي بما يترتب على أفعاله القبيحة وأقواله الباطلة الصريحة، وقول هذا الشاعر أيضاً واتبعوا الجمهور وقوله فقلدوها جمهورنا قد مر رده بما يغني عن إعادته هنا، وقوله فقد قال بعض العارفين الخ، وقول هذا الزهراني أنها لما وقعت على خاطر
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/42)
ابن سريج الخ، يقال عليه هذا مما يعلمك أيضاً بجهل هذين الرجلين ويوضح لك ما انطويا عليه من السفاهة والغباوة والجهل بالقواعد والمآخذ والمقاصد وأنهما لا يتأملان ما يقولانه ولا يفهمان ما يترتب عليه وأنهما بالأنوام أشبه إذ لا يصدر هذا الكلام إلا ممن عدم لبه وزاد جهله واستحكمت غباوته وحقت شقاوته كيف وهذه الحكاية ربما تؤدي إلى كفر لأنها صريحة في اعتقاد هذا الزهراني أنها نزلت على خاطر ابن سريج فعلمها ولم يعلمها النبي ، ولا شك أن من اعتقد أن ابن سريج أو أجل منه علم علماً حقاً وجهله النبي كان كافراً مهدر الدم لأنه مرتد عن الإسلام فحده القتل إن لم يتب ويجدد إسلامه ومن استمر على هذا الاعتقاد كان كافراً مرتداً محارباً لله سبحانه وتعالى ورسوله وتأمل عظيم ما في هذه الحكاية من القبيح، وقوله صدق القلم وصدق اللوح، فصدق النبي هذه المسألة أنزلتها على لسان أحد علمائي فإن هذا تصريح من هذا الرجل بأن ابن سريج أوحيت إليه هذه المسألة فإنه قال إن الله سبحانه وتعالى أنزلها على لسانه، وظاهر ذلك أنها نزلت على لسانه بالوحي من غير واسطة ملك ولا غيره وهذا الاعتقاد من أقبح أنواع الكفر إذ من اعتقد وحياً من بعد محمد كان كافراً بإجماع المسلمين، والحاصل أن هذه الحكاية قد اشتملت على أنواع من الكفر أشرت لك إلى بعضها ولو جاء هذا الزهراني إلى مكة لعومل بما دل عليه كلامه هذا من الكفر وغيره إن لم يجدد إسلامه ويتب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى من هذه المجازفات وليته اقتصر على المجازفات المقتضية لفسقه، لأن إسلامه مع ذلك باق وأما مجازفات تؤدي إلى الكفر والخروج عن دين الإسلام إلى دين أقبح من دين النصارى واليهود والمجوس فلا يطيق من في قلبه أدنى ذرة من الإيمان الصبر على ذلك فأسأل الله سبحانه وتعالى المان بفضله أن يتوب على هذا الزهراني أو يطهر الأرض منه ومن أمثاله فإنهم فتنة أشد على العوام من فتنة إبليس وجنوده عاملهم الله(6/43)
سبحانه وتعالى بعدله آمين، وتأمل مزيد جهله وكذبه حيث قال بعد هذه الحكاية فقالت طائفة من العلماء صح هذا الخبر فجعل ما تضمنته هذه الحكاية الشرعية وهذا من أقبح أنواع الكذب والفسق من هذا الرجل فإنه نقل عن طائفة من العلماء أنهم قائلون بصحة هذه الحكاية من الكفر والفسوق وأدنى العلماء بريء من أن يقول في حكاية أنها صحيحة معمول بها مع أنه لا أصل لهؤلاء يعتمد بإجماع المسلمين على مثلها مع ما أدت إليه من أنواع الكفر القبيحة الشنيعة وتأمل أيضاً مزيد جهله فإن قضية سياقه بل صريحه أنها لما نزلت على لسان ابن سريج أنكرها عليه سائر العلماء فلما جرت هذه الحكاية تبعه العلماء عليها فلم يتبعوه عليها إلا لهذه الحكاية ولولاها لم يتبعه أحد من العلماء وهذا كلام بالخراف أشبه لكن ننبه أن قائله وصل في الجهل والحمق إلى غاية قبيحة إذ كيف ينسب إلى الإجلاء التابعين
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/44)
لابن سريج أنهم إنما تبعوه لأجل حكاية فيها أنواع الكفر والكذب هذا مع ما قدمته لك أن بعض العلماء المتقدمين على ابن سريج كالمزني وبعض أصحابه على ما قيل قالوا بصحة الدور وهذا مما يزيد لك إيضاح كذب هذه الحكاية، وأنه لا أصل لها وإن قائلها والمصدق بها كاذب فاسق فإنها صريحة في أنها لم تنزل إلا على ابن سريج، وليس كذلك بل قال بها المزني في المنثور كما مر، وقوله وهذا الذي حضرنا من مبحث مسألة الدور يقال عليه هذا الذي حضرك عرّف الناس بقدر مرتبتك في الجهل والفسق، وكذا الكفران إن اعتقدت ما دلت عليه حكايتك فليتك سكت اتقاء للسترة على نفسك وكفالها عما يكون سبباً لهلاكها في الدنيا والآخرة، وقوله عن شيخه فرديت الجواب إلى مهمات المهمات مما يدل على قصور نظره ومزيد تساهله فإن من يردّ من يفتي بخلاف الصحيح من المذهب كيف يقنع بمثل هذا الكتاب ويعتمد عليه وحده وما درى أن لأصل هذا الكتاب الذي هو المهمات تعقبات وملمات ومعلمات لابن العماد و الإمام البلقيني و للبدر ابن شبهة اعترضوا في هذه الكتب أكثر ما في المهمات وردوه وبينوا ما فيه من صحة وفساد وكذلك الأذرعي في توسطه و الزركشي في خادمه فجزاهم الله سبحانه وتعالى خير الجزاء وأكمله وقوله لكن نحن وهم متبعون ومقتدون يقال عليه كذبت لست متبعاً ولا مقتدياً فإنك لو كنت كذلك لم تكذب على العلماء المرة بعد المرة ولم تنسب إليهم ما هم بريئون منه كما تقدم كما دل عليه كلامك السابق ونبهت عليه في محاله فأنت مبتدع لا متبع ومعتد لا مقتد، وقوله الأمر إذا ضاق اتسع والضروريات لها أحكام هذا مما يدل على مزيد جهله أيضاً، فإن المسألة التي نحن فيها ليست من جزئيات قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع باتفاق القائلين بصحتها وإنما غاية هذا الرجل أنه يحفظ كلمات لا يدري ما معناها ولا ما أريد بها فينطق بها في غير محلها، وقوله والتقليد واجب عند الضرورات هذا كلام أيضاً من تغاليه في الكذب والجهل، وأن(6/45)
ظاهر كلامه أنه يريد بذلك أن تقليد القائلين بصحة الدور واجب عند الاضطرار ولم يقل بهذا أحد من المسلمين وإنما غاية الأمر أنه هل يجوز تقليد القائلين بصحة الدور وقد قدمت لك عن أكابر من العلماء أنه لا يجوز التقليد في ذلك وأن التقليد فيه فسوق فإنه لا يجوز لقاض مقلد للشافعي الحكم بصحة الدور وأنه متى حكم بذلك فسق وكان حكمه باطلاً فمنع ذلك كيف ساغ لهذا المجازف أن يزعم أن التقليد هذا واجب وليته استحى من الله سبحانه وتعالى حيث لم يستح من الخلق فإنه كذب على الله سبحانه وتعالى وعلى دينه فربما يخشى عليه أنه ممن قال الله سبحانه وتعالى في حقهم:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/46)
{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر: 60) فإن قلت قال في الأنوار بعد أن نقل عن الروياني أنه لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان، ويشبه أن يستحب التعليم والعمل به الآن لوجوه حاصلها أن من لا يحلف بالطلاق الآن قليل، ومن يحلل زوجته إذا وقع طلاقه معدوم وأن الناس منهمكون على الحلف بالطلاق ويتركون الحلف بأسماء الله سبحانه وتعالى ومن وقع عليه الثلاث لا يسمح بالتحليل فيذهب إلى من لا مسكة له في الدين فيعلمه حيلة لإسقاط التحليل كادعاء فسق الولي وكأمره بتقليد القول الشاذ المدفوع بصرائح السنة الصحيحة أن العقد كاف في التحليل وأن الغافل المتساهل ربما علم السوقة وغيرهم أن يقولوا إن شاء الله تعالى بعد الحلف بإطلاق حفظاً لنكاحهم وحذراً عليهم من الحنث مع جهلهم بل وجهل ملقنهم بشروط الاستثناء ومعناه فيطلقون ويستثنون ظناً أن لا يقع مع وقوعه عليهم حيث لا يشعرون فليت شعري أن العمل بقول الجمهور مع نفي هذه المفاسد، وبه يخف الاعتراض على هذا الزهراني ، قلت لا حجة لهذا الزهراني في كلام الأنوار المذكور لأن غاية ما فيه أنه بحث استحباب التعليم والعمل فمن قال بوجوب ذلك حتى يتجرأ عليه هذا الزهراني ويفتي به على أن ما قاله صاحب الأنوار إنما هو شيء ظهر له من بحثه لكنه في مقابلة المنقول، فإن الروياني من القائلين بصحة الدور ومع ذلك قال لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان وتبعه على ذلك الرافعي و النووي وغيرهما من القائلين بصحة الدور وببطلانه فهم كالمتفقين على ما قاله الروياني من امتناع التعليم فإذا اتفقوا على ذلك وأظهر بعض المتأخرين بحثاً مخالفاً لاتفاقهم كان ذلك البحث في حيز الطرح والإعراض عنه وهكذا كل بحث خالف المنقول لا يلتفت إليه وإن حل قائله وظهر دليله هذا مع أن ما استدل به صاحب الأنوار على بحثه هذا يرد بأنه نفسه قد أنكر على من يعلم الناس الاستثناء في الطلاق لما(6/47)
ذكر من جهل المعلمين والمتعلمين كذلك شروطه فإذا أنكر على المعلمين لجهلهم أو لجهل المتعلمين منهم بذلك مع ظهوره وأنه يحتاج لكبير فطنة ومعرفة فبالأولى أن ينكر عليهم لجهل أكثر المتفقهة فضلاً عن العوام بمعنى الدور هنا وببقية الشروط التي ذكرتها أوّل هذا الجواب، والدليل على جهلهم بذلك تباين اختلاف إفهام العلماء في صحة الدور وبطلانه وتباين آراء الرجل الواحد منهم فإنه يقول تارة بصحته ثم تارة بفساده كما قدمت لك عن الغزالي وسبقه لذلك إمامه و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/48)
الشيخ أبو علي فإذا كانت أفهام العلماء متباينة فيه وفي معناه وما يترتب عليه فكيف تقبله أفهام العوام وشرط العمل بالدور عند القائلين به أن يصدر التعليق ممن يعرف الدور كما مر لك أوّل هذا الجواب مع بقية شروط أخرى لا يحيط بها أكثر المتفقهة فضلاً عن غيرهم فكانت المفاسد المترتبة على تعليم الدور أعظم وأفحش من المفاسد المترتبة على تعليم الاستثناء فكما شنع صاحب الأنوار على المعلمين له فكذلك نشنع نحن على من يعلم مسألة الدور بعين ما قاله فاندفع بنفس كلامه في الاستثناء بحثه ندب التعليم والتعلم، وأما ما ذكره أن من لا يحلف بالطلاق الآن قليل الخ، فيرد بأنا إذا غلظنا على العوام وبينا لهم أن الدور فاسد وأنه لا يجوز لأحد تقليده ولا العمل به كما قاله أكابر من العلماء كان ذلك زاجراً لهم عن كثرة الحلف بالطلاق فإنهم على قسمين قسم يخالطون العلماء أو من له أدنى معرفة فهؤلاء ينتهون وينزجرون فزجرهم من تعليمهم الدور، وقسم لا يخالطون أحداً ممن له أدنى معرفة وهؤلاء لا يمكن تعليم جميعهم بل إذا أراد أحد أن يعلم واحداً منهم لا يفيده ذلك شيئاً فإن زوجته بانت عن عصمته قبل أن يعلمه بزمن طويل فأي فائدة للتعليم حينئذ فاتضح ما قالوه واندفع ما قاله صاحب الأنوار وقوله ردوا النساء إلى أزواجهن يقال عليه ليس هذا بكثير على ما علم من أحوالك القبيحة وخصالك المذمومة الدالة على مبالغتك في الكذب والجهل والفسق وأنواع الكفر بقيده السابق، ومن تجرأ على الله سبحانه وتعالى ورسوله فأولى أن يتجرأ على ما سوى ذلك لكن ما لم يتدارك بعفو من قبل الله سبحانه وتعالى وتوفيق وحسن توبة نصوح وإلا فلك في مقابلة هذا الأمر المتضمن لاستباحة الفروج مزيد العذاب والنكال والفضيحة على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا ينفع أعوان ولا أموال، وقوله وقلدوا جمهور العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يقال عليه قاتلك الله وقبحك ما أكذبك وأفسقك فإن جمهور(6/49)
العلماء من سائر المذاهب على بطلان الدور كما قدمت ذلك واضحاً مبيناً وإنما القائلون بصحته فرقة من الشافعية وأفراد من غيرهم، وهؤلاء ليسوا معشار عشر العلماء فكيف ساغ لك أن تجعلهم جمهور العلماء ثم تصفهم بصفة تقتضي أن القائلين ببطلان الدور ليسوا ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كلامك وإن كنت لا تفهم ولا تدري ما تقول إن الذين هم ورثة الأنبياء وصف للمضاف وهم الجمهور دون المضاف إليه وهم العلماء إذ لو كان وصفاً للمضاف إليه لم يناسب مقصودك وهو أنك تبالغ للعوام في مدح القائلين بصحة الدور فجعلت هذا الوصف مدحاً لهم حاملاً على العمل بما قالوه من صحة الدور وما دريت أنه يفهم منه أن القائلين ببطلان الدور ليسوا ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن كنت معتقداً ذلك فيكفيك هذا دليلاً على فسقك ومقتك وعظيم وقيعتك في حق العلماء فليحاربنك الله سبحانه وتعالى وليهلكنك ومن حاربه الله سبحانه وتعالى لا يفلح أبداً، وقوله في هذا المبحث إنما أكثرت فيه ليعلموا أصول هذه المسألة يقال عليه لم يعلم من كلامك في هذه المسألة إلا ما انطويت عليه من الجهل والكذب والفسق والمجازفة لسوق الحكاية المقتضية للكفر في أنواع متعددة منها فإن كانت أصولها كلها مثل هذه الحكاية فقد خسرت صفقتك وضاع عمرك في الضلال والهذيان فتدارك ما بقي منه، لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفعك في آخر عمرك، وقوله عن شيخه والذي يفتي بها يقلد من قالها ولا جرح ولا إثم يقال عليه هذا مما يدل على جهله وأنه لا يعرف من شروط الإفتاء شيئاً وإنما يتكلم من عنده بحسب ما يلقيه الشيطان على لسانه، إذ لا يجوز للمفتي المقلد أن يفتي إلا بالصحيح من المذهب والصحيح ما عليه الشيخان من بطلان الدور، وقد تبعهما المحققون على ذلك فلا يسوغ الإفتاء بخلافه، ومن أفتى بخلافه لا سيما بصحة الدور كان آثماً فاسقاً كما مر ذلك عن(6/50)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171
ابن عبد السلام وغيره، وقوله لكن يشترط أن يكون الملقي والمستلقي يعرفان المعنى يقال عليه اشتراطك ذلك في الملقي باطل وإنما هو شرط في المستلقي الذي هو الزوج حتى لو فرض أن عامياً لا يعرف معنى الدور وإنما يعرف لفظه علمه لمن عرف معناه فقاله عارفاً معناه صح عند القائلين بصحته وإن كان الملقي جاهلاً بمعناه لأن الملقي لا يدار عليه حكم حتى يشترط معرفته لمعنى التعليق، وقوله إن الطلاق معلق بشرط طلاق بعده يقال عليه هذا أدل دليل على جهلك حتى بهذه المسألة إذ كيف تصورت أن الطلاق معلق بشرط طلاق بعده ولو كان الأمر كذلك لم يلزم عليه رد النسوان ولم يكن ذلك من مسألة الخلاف، والظاهر أنك لا تفرق بين قبله وبين بعده وليس ذلك بمستبعد عنك فإن مزيد جهلك وغباوتك يقضي عليك بأنك لا تفهم ذلك ولا ما هو دونه فكان الصواب أن تقول بشرط طلاق قبله على أنك لو قلت ذلك لم يصح كلامك أيضاً، لأن كونه معلقاً بطلاق قبله لا يقتضي الدور وإنما المقتضي للدور كونه معلقاً بالطلاق الثلاث قبله، اللهم إلا أن يريد غير المدخول بها فلا يحتاج للثلاث إلا أن الظاهر من ذلك أنك لا تعرف الفرق بين المدخول بها وبين غيرها هنا وقوله لم يقع المشروط يقال عليه هذا مما يدل أيضاً على مزيد جهله وأنه لا يفرق بين الشرط والمشروط وصواب العبارة أن تقول لم يقع الشرط لأنه إذا قال إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً كان الشرط هو قوله وقع عليك طلاقي والمشروط قوله فأنت طالق قبله ثلاثاً، وهذا المشروط لا تصح إرادته في عبارته فإنه قال فإن أوقعنا الطلاق قبله لم يقع المشروط ووقوع الطلاق قبله هو المشروط فكيف يقول لم يقع المشروط فتعين أن الصواب لم يقع الشرط الذي هو المنجز وإذا لم يقع المنجز لم توجد الصفة الخ، وليته إذا كان جاهلاً صرفاً أخذ لفظ الدور الذي قاله الأئمة وسطره من غير أن يتصرف فيه وهو(6/51)
قولهم لو وقع الطلاق لوقع ثلاث قبله ولو وقعت ثلاث قبله لما وقع هو وإذا لم يقع هو لم يقع ثلاث، لأنه مشروط فيلزم من وقوعه عدم وقوعه وإذا ظهر لك أن هذا الرجل لا يحسن أن يعبر عن الدور بلفظ مطابق له ظهر لك أنه لا يعرف معناه وإذا لم يعرف معناه فكيف يسوغ له الإفتاء بصحته كيف يعلمه للعوام ويأمرهم بتقليد القائل به مع جهله بمعناه، وقد قال هو نفسه يشترط أن يكون ولملقي والمستلقي عارفين بمعنى الدور فقد قضى هذا الرجل على نفسه بالجهل المفرط والحماقة المجاوزة للحد، والغباوة الظاهرة فعليه أن يجدد الأوبة ويخلص التوبة ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى عما سلف منه من فرطات الجهل وسقطات اللسان وعليه وعلى كل أحد ممن له قدرة وشوكة أن يمنع الأزواج الذين حنثوا في أيمانهم عن نسائهم حتى يتحللن لهم تحليلاً شرعياً سواء كانوا ألقوا عليهن إطلاق الدور أم لا؟ لما تقرر لك المرة بعد المرة أنه لا يجوز تقليد القائلين به وأن التقليد في ذلك إثم وفسوق وأنه لو حكم بذلك قاض نقض حكمه ورد عليه قوله وأن القول ببطلان الدور هو الصواب الذي يجب على كل أحد الرجوع إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 171(6/52)
باب الرجعة
وسئل هل للمعاشر لرجعيته الرجعة بعد الأقراء الثلاثة عملاً بعدم انقضاء العدة كما اعتمده بعضهم أو لا كما في المنهاج والإرشاد وما هو المعتمد في هذه المسألة وإذا قلنا بعدم انقضاء العدة فماتا أو أحدهما فهل يحكم بالتوارث بينهما أو لا؟. فأجاب بقوله المعتمد في هذه المسألة خلافاً لما أطال به جماعة من المتأخرين ما في المنهاج وغيره من أنه لا رجعة له ومع ذلك يقع عليه الطلاق تغليظاً عليهما لإثمهما العظيم بمعاشرته لها كالزوجة مع عدم رجعته لها فاستحق أن يعامل كل منهما بنقيض قصده من بقاء حكم العدة بالنسبة لوقوع الطلاق عليه وعدم بقائها بالنسبة لما عدا ذلك كالرجعة والإرث لو مات هو أو هي وغيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 197
باب الظهار
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى به وبعلومه عمن ظاهر من زوجته الأمة ثم اشتراها عقب الظهار شراء لا يصير به عائداً ثم فسخ الشراء في المجلس أو خيار الشرط فهل يكون عائداً بالفسخ أم لا بد بعده من مضي زمن تمكن فيه الفرقة ولم يفارق؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه لا بد من مضي زمن بعد الفسخ يمكن فيه الطلاق سواء فيه خيار المجلس والشرط بناء على الأصح أن من اشترى زوجته والخيار له، ثم فسخ البيع بقي نكاحه لضعف ملكه الثابت له باشتراط الخيار له وحده ولا يقال إنه متمكن من الطلاق قبل الفسخ لأنها بالشراء آيلة إلى دفع النكاح والأصل عدم الفسخ وتكليفه إيقاع طلاق تحتمل صحته بتقدير الفسخ وعدمها بتقدير عدمه لا نظير له فإفتاء بعضهم بأنه لا يحتاج إلى مضي ذلك الزمن لأنه يمكنه قطع النكاح بالطلاق ثم فسخ البيع فيه نظر لما قررته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 198
باب العدد(6/53)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن امرأة شكت في كونها حاملاً قبل الفراق أو بعده، وقلنا إن عليها أن تتربص إلى أشهر الحمل فمن أين ابتداؤها؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى به بأن الذي صرح به الشيخان وغيرهما أن من انقضت عدتها بالأقراء أو بالأشهر وهي مرتابة بالحمل لما تجده من نحو ثقل أو حركة لم يجز لأحد أن ينكحها حتى تزول الريبة، لأن العدة قد لزمتها بيقين فلا تخرج عنها إلا بيقين، فإن نكحت كان النكاح باطلاً أي في الظاهر حتى لو بان عدم الحمل صح كما قاله الإسنوى وغيره قياساً على من باع مال أبيه ظاناً حياته فبان ميتاً، أما إذا انقضت عدتها ثم ارتابت فنكاحها صحيح لكنه خلاف الأولى، وإنما صح الحكم بانقضاء العدة ظاهراً فلا يبطل بالشك ومحله إن لم تأت بولد أو أتت به لكنه لستة أشهر من وقت النكاح، أما إذا أتت به لدون ستة أشهر من وقت النكاح فإنا نتبين بطلان النكاح الثاني ويلحق الولد بالأول، وإذا تقرر ذلك علم الجواب عن قول السائل في امرأة شكت الخ، وإيضاحه أن شكها في الحمل قبل الفراق لا عبرة به، وإنما المدار على شكها فيه قبل انقضاء العدة أو بعده ففي الحال الثاني يجوز نكاحها وفي الحال الأول لا يجوز نكاحها حتى يزول الشك ما لم يمض أربع سنين فأكثر من وقت إمكان الاجتماع قبيل الطلاق لأنها لو ولدت بعد مضي ذلك لم يلحق الولد المطلق فلا وجه لتربصها حينئذ بلا نكاح لأن حملها ليس من ذي العدة فلا يتوقف انقضاؤها على انفصاله بخلاف ما إذا لم يمض ذلك فإنها ما دامت شاكة لا يحل نكاحها لاحتمال أن حملها من ذي العدة بل هو الظاهر لأنه يلحقه فوجب التربص حتى تتيقن براءة رحمها منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/54)
وسئل عن المعتدة إذا اعتدت في بيتها الذي هي فيه وفي البيت المذكور بيت آخر في أعلاه أو في وسطه ومع المرأة المذكورة صبي مميز لا يفارقها والدخول إلى البيت الأعلى من باب بيت المرأة هل يجوز لصاحبها أي المعتدة منه أن يسكن معها ويسلم أن لا يدخل في قوله تعالى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} (الطلاق: 6) فإن البيت بعيد عن منزلها بحيث إنه لا يسمعها إذا تكلمت أي المعتدة أم لا يجوز وهل إذا أوفت العدة وكانت الطلقة الأولى لها فهل يجوز له أن يحكم الزوج الأول في نكاحها إذا كان عنده بعض اطلاع ولم يوجد من يكون أهلاً للتحكيم؟ أم لا يجوز ابسطوا لنا الجواب. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: يحرم على الزوج ولو أعمى مساكنة المعتدة منه ما لم تتسع الدار وسكن كل منهما في حجرة منها، فحينئذ يجوز أن يسكن كل منهما في حجرة بشرط أن تتميز كل منهما عن الأخرى برافق كمطبخ ومستراح وبئر وممر ومصعد للسطح وأن يغلق ما بينهما من باب أو يسد وأن لا يكون ممر أحدهما على الأخرى فإن انتفى شيء من ذلك لم يجز إلا أن كان هناك محرم لها أو له من النساء ويكفي المراهق المتيقظ ويغني عنه أن يكون ثم امرأة ثقة يحتشمها لحياء أو خوف هذا كله إن كان في الدار زيادة على سكنى مثلها وإلا لم يجز له مساكنتها مطلقاً بل يجب عليه الانتقال عنها وحيث لم يكن للمرأة قريب أو معتق يزوجها ولم يكن هناك حاكم يزوجها جاز لها أن تحكم عدلاً في تزويجها من كفء سواء مطلقها وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 198(6/55)
وسئل نفع الله تعالى به عن قول الأصحاب لو انقضت عدتها بالإقراء وهي مرتابة بالحمل حرم نكاحها حتى تزول الريبة ما الذي يحصل به زوال الريبة هل هو انقضاء أكثر مدة الحمل كما تقتضيه العلة أم غير ذلك؟ بينوا لنا ذلك موضحاً ولكم الأجر والثواب. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أن الريبة بالحمل متى كانت لقرينة كثقل وحركة اعتبر زوال تلك القرينة فإذا زالت زال سبب الريبة فيجوز نكاحها حينئذ وإن لم يمض عليها أكثر الحمل، لأن المانع هو الريبة وهي إنما تنشأ عن قرينة فإذا زالت تلك القرينة زالت الريبة وانتفى المانع ولا نظر لاحتمال الحمل وإن زالت تلك القرينة لأن الأصل عدمه وكان القياس تقديم هذا الأصل على تلك القرينة وأن لا يلتفت إليها لقاعدة أن الأصل مقدم على الظاهر الذي لم يستند إلى العيان وهذا كذلك لكن مزيد الاحتياط للإبضاع الذي كثر تشوف الشارع إليه أوجب تقديم الظاهر هنا على الأصل مطلقاً فإذا زال ذلك الظاهر بزوال سببه من نحو الثقل والحركة عمل الأصل عمله لأنه لاَّ معارض له حينئذ فاتضح ما ذكرته من أن المراد بزوال الريبة زوال سببها الموجب لها لا تيقن خلو الجوف عن الولد فإن قلت ينافي ذلك قولهم لو انقضت عدتها بالإقراء أو الأشهر وهي مرتابة بالحمل حرم نكاحها على آخر حتى تزول الريبة، لأن العدة لزمتها بيقين فلا تخرج عنها إلا بيقين، قلت لا ينافيه لأن مرادهم باليقين زوال التردد بزوال سببه الذي قدمته لا اليقين العقلي، ومما يصرح بأن هذا هو مرادهم تعبير الشيخين بقولهما فإن نكحت فالنكاح باطل للتردد في انقضائها فعلمنا أن المبطل هو التردد فحيث وجد لأمارة منع صحة النكاح وحيث انتفى لانتفاء تلك الأمارة صح النكاح، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/56)
وسئل عن قول الإمام زين الدين المراغي في تكملة شرح المنهاج في باب العدة إذا قالت لنا امرأة انقضت عدتي وجب أن نسألها عن حالها كيف الطهر والحيض ونحلفها عند التهمة هل يحلفها المنكح أم يختص التحليف بالحاكم وكيف صورة التحليف؟. فأجاب بقوله: ما قاله من وجوب السؤال إنما يتأتى فيمن يعلم بقرائن أحوالها أنها لا تعرف معنى الحيض والطهر بخلاف المخالطة للعارفين بذلك فإذا قالت انقضت عدتي بالإقراء مثلاً أو بوضع الحمل ونازعها المطلق مثلاً صدقت بيمينها وإن قالت انقضت بالأشهر صدق هو بيمينه ويجب التحليف عند التنازع سواء اتهمت أم لا، وعند التنازع لا يكون اليمين إلا بين يدي قاض أو محكم وكيفيتها والله أني حضت ثلاث حيض أو ولدت أو نحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 198
وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثاً ثم تزوجت برجل ثم طلقها فأراد الزوج الأوّل بعد مدة أن يتزوجها فقالت لم تنقض عدتي بعد من الثاني فتوقف حتى انقضت عدتها ثم تزوجها، أعني الأوّل، ثم ادعت بعد ذلك أن الزوج الثاني لم يطأها فقال الزوج الأول لا أصدقك لأنك قلت حين أردت نكاحك لم تنقض عدتي، أي من الثاني، فقالت ظننت أن الخلوة واللمس ونحو ذلك يكفي في التحليل فهل يقبل قولها إن الزوج الثاني لم يطأها بعد أن أقرت أنها في عدته وبعد أن تزوجت بالأوّل وبعد مضي التحليل وسواء أكان قبل الدخول بالأوّل أم بعده؟. فأجاب بقوله: إن كانت ممن يخفى عليها ذلك قبل قولها ولا تحل له حتى تتحلل منه تحليلاً صحيحاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/57)
وسئل عن شخص سئل عن امرأة طلقها زوجها وهي في دم النفاس فلما طهرت من ذلك تزوجت بزوج فأقامت معه مدة يسيرة ثم نشزت عنه إلى بيت أبيها وادعت أنها تزوجت به في العدة وأن النكاح فاسد وأرادت أن تنكح زوجاً غيره قبل أن يطلقها فامتنع الشخص المذكور من الفتوى حتى يصل إليه جوابها فهل لها أن تنكح زوجاً غيره قبل الطلاق أم لا؟ وذكر أنه رأى بخط جده رحمه الله تعالى أن في توقيف الحكام إذا زوج ابنته وهو لا يعلم انقضت عدتها أم لا؟ إنه لا يصح وإن ظهر بعد العقد أن العدة كانت منقضية ونقل أيضاً عن العزيز والروضة لو نكح امرأة لا يعلم أهي معتدة أم لا لم يصح النكاح اهـ فهل ما نقله جده من هذا القبيل أم لا؟. فأجاب بقوله: إذا مكنت البالغة العاقلة المختارة الزوج من نفسها ثم ادعت بعد ذلك أنه نكحها في العدة لم تسمع دعواها إلا لتحليفه فإذا حلف فنكاحه باق وليس لها أن تخرج من بيته ولا أن تتزوّج ومتى فعلت ذلك ترتب التعزير الشديد وغيره مما لا يخفى وما ذكر عن ابن العماد ليس مما نحن فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن شخص عقد على امرأة في عدة زوج ثم وطئها قبل تمام العدة ففرق بينهما فلما انقضت عدة الزوج وشرعت في عدة الوطء بالشبهة أراد ذو الشبهة أن يتزوجها في عدته هل له ذلك أم لا؟ كما يؤخذ من قضية كلام صاحب البيان في باب العدد ولا حمل في الصورة المذكورة لواحد مما سبق. فأجاب بقوله المصرح به في الروضة وأصلها وغيرهما: أن لذي الشبهة أن يتزوجها في عدته في نحو هذه الصورة المذكورة في السؤال بل هي عينها في الحقيقة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن استعجلت حيضها بدواء فهل تنقضي به عدتها أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم كما صرحوا به، ومن ثم صرحوا أيضاً بأنها لو استعجلته لم تقض صلاة أيامه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 198(6/58)
وسئل عن فسخ النكاح بعد غيبة طويلة هل يجوز نكاحها حالاً فقد وجدنا نقلاً ينسب إلى الأم أن المرأة إذا فسخت النكاح لا يجب عليها العدة ولها التزوج في الحال فهل هذا النقل صحيح مع أنه خلاف القواعد؟. فأجاب بقوله: معاذ الله أن يصبح هذا النقل بإطلاقه عن أحد من أئمتنا فضلاً عن إمامهم بل إمام الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م وإنما محل ذلك أن فرض وجوده في الأم على فسخ وقع قبل الوطء وما ألحق به من استدخال المني المحترم، وأما إذا وقع الفسخ بعد الوطء أو نحوه فلا بد من عدة بعد وقوعه وإن كان غائباً عنها قبله غيبة طويلة وليس هذا من خصوصيات مذهبنا بل غيرنا من بقية الأئمة قائلون بذلك وهذا ظاهر جلي لا يحتاج للسؤال عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما أفتى به الإمام البارزي من أن ذات القرء إذا انقطع حيضها تتزوج بعد أن تتربص تسعة أشهر هل يجوز تقليده فيه للضرورة خصوصاً في هذه البلاد التي ليس فيها بيت المال؟. فأجاب بقوله: لا يجوز تقليده في ذلك ولا في غيره بل ينظر في هذه المقالة فإن قال بها مجتهد من الأربعة الأئمة رضي الله سبحانه وتعالى عنهم ولم يرجع عنها جاز تقليده وإلا فلا.
وسئل في الروضة في النكاح التصريح بأن اليمين على انقضاء العدة مستحبة وفي العدد التصريح بأنها واجبة فما المعتمد؟. فأجاب بقوله: لا تنافي بينهما فإن الأول فيما إذا ادعت ذلك لا على الزوج بل لتتزوج فهي مؤتمنة ولا منازع لها فسن تحليفها والثاني فيما إذا نازعها الزوج فيجب تحليفها لأن الحق له.
وسئل عن امرأة طلقت فلزمها أربع عدد، فأجاب بقوله: هي أمة لم تبلغ اعتدت بالأشهر فحاضت أثناءها فانتقلت للأقراء فعتقت فانتقلت لعدة الحرائر فمات الزوج فانتقلت لعدة الوفاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 198(6/59)
باب القذف واللعان
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخصين تخاصما فقال أحدهما للآخر يا مأبون يا مخنث يا فرخ الزنا يا ولد الزنا وعن شخص قال لشاهدين اشهدا عليّ إذا أبرأتني زوجتي فلانة من حقوق الزوجية وغيرها إذا لم يعين شيئاً مطلقاً فهي طالق طلقة واحدة فذكرا لها ذلك فقالت بصريح لفظها هو البريء من حقوق الزوجية وغيرها من غير تعيين شيء فهل يقع عليه الطلاق أم لا لكونه علق على مجهول وأبرأت من مجهول وإذا قلتم يقع عليه طلقة ولا إبراء فهل يكون رجعياً أم بائناً؟. فأجاب بقوله: الابنة داء يحدث في أسافل المعدة يتولد عنه أفعال خبيثة غالباً وحينئذ فمأبون ليس صريحاً في القذف بل كناية فيه، وكذلك مخنث لأن مفهومه ذو الخنوثة فتحت نونه أو كسرت وهي التشبه بالنساء المحتمل لما هو قذف وغيره فيكون كناية أيضاً، وأما فرخ فهو اصطلاح لبعض الناس بمعنى ولد الزنا وليس ذلك مفهومه وضعاً ولا عرفاً عاماً بل ولا هو أحد محتملاته الوضعية فالذي يظهر أنه ليس بكناية لعدم صدق حدها عليه لكن مع ذلك فيه التعزير كأحد الأولين إذا لم ينو به القذف، وأما ولد الزنا فهو صريح في قذف الأم فيحد لها حد القذف وليس فيه قذف ولا سب للأب والمعلق على البراءة إن أطلق أو أراد البراءة الصحيحة لم يقع عليه طلاق بالبراءة من المجهول وإن أراد تلفظها بالبراءة طلقت رجعياً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في رجل قال لغيره يا شيطان هل يعزر؟. فأجاب بقوله: إن أراد تشبيهه به في الفساد عزر وإلا فلا، وعلى الثاني يحمل ما نقله الكرابيسي عن الشافعي أنه لا تعزير في ذلك لأنه نسبه إلى الحذق وجودة الفهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/60)
وسئل عن رجل تزوج امرأة وثبت افتراشه لها فأتت بولد ولم يعلم هل ولدته لستة أشهر ولحظتين من وقت ثبوت افتراشها أو لا؟ فهل يلحقه الولد بذلك ولا ينتفي عنه إلا باللعان أم لا بد من إقامة بينة بأنها ولدته لأكثر من ستة أشهر إلى أربع سنين من الوقت المذكور، وإذا قلتم لا بد من إقامة بينة بذلك فمن أين يؤخذ من كلام الأصحاب رحمهم الله تعالى فإن بعض فقهاء العصر من أهل جهتنا أفتى بأن الولد لا يلحق الزوج شرعاً إلا إذا ثبت أنها أتت به لأكثر من ستة أشهر إلى أربع سنين من الوقت المذكور فقال إنه مصرح به في أوائل كتاب اللعان من الروضة في أثناء فصل، وهذا نص عبارة الروضة التي فهم منها المفتي ذلك، وإذا لم تعرف وقت النكاح الأول والثاني لم يلحق به لأن الولادة على فراشه والإمكان لم يتحقق إلا أن يقيم بينة أنها ولدته في نكاحه لزمان الإمكان اهـ لفظ الروضة ولم يظهر للمملوك وجه ما أفتى به هذا الفقيه المذكور ولا أخذ المسألة من كلام الروضة بل يظهر أن المسألة في كلام الروضة غير المسألة المسؤول عنها وأيضاً فإن بعض فقهاء العصر الموجودين الآن من أهل زبيد أفتى بخلاف ذلك في جواب له على المسألة، وحاصل جوابه أن الولد يلحق الزوج عند جهل مدة الحمل ولفظه في آخر جوابه وإذا جهلت المدة فلم يدر هل ولدته لمدة الإمكان أو لدونها. قال السيد السمهودي فهذه لم أرها منقولة وللنظر فيها مجال، ولعل الأرجح أنه يلحق لثبوت كونها فراشاً ثم ساق كلاماً آخر للبلقيني يقتضي ذلك فما الراجح يا سيدي في ذلك وما الذي يعول عليه ويعتمد فيها من الجوابين المذكورين بينوا لنا ذلك وأوضحوه لا زلتم مصابيح الظلام وهداة الأنام بمحمد وآله وأصحابه عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى به المسلمين بقوله قد تعقبت وتصفحت على هذه المسألة أياماً حتى رأيت في نص الشافعي رضي الله عنه وفي كلام الأصحاب أنه لا يلحقه الولد إلا أن ثبتت ولادته على(6/61)
فراشه لزمان الإمكان وهو ستة أشهر ولحظتان من حين إمكان الاجتماع بعد النكاح وعبارة النص: ولو ولدت امرأته ولداً فقال ليس هذا بابني فلا حد ولا لعان حتى يفسر فإن قال لم أرد قذفها ولم تلده مني أو ولدته من زوج آخر قبلي وعرف نكاحها قبله فلا يلحقه إلا بأربع نسوة يشهدن أنها ولدته وهي زوجة له ولوقت يمكن أن تلد فيه منه لأقل الحمل وإن سألت يمينه أحلفناه وبرىء فإن نكل أحلفناها ولحقه وإن لم تحلف لم يلحقه، ونص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/62)
الشافعي رضي الله عنه أيضاً في كتاب الطلاق من أحكام القرآن على أنه لو قال ما هذا الحمل مني وليست بزانية ولم أصبها قيل له قد تخطى فلا يكون حملاً ويكون صادقاً وهي غير زانية فلا حد ولا لعان فمتى استيقنا أنه حمل قلنا له قد يحتمل أن تأخذ نطفتك فتدخلها فتحمل منك فتكون صادقاً بأنك لم تصبها وهي صادقة بأنه ولدك وإن قذفت لاعنت وإن نفى ولدها وقال لا ألاعنها ولا أقذفها لم يلاعنها ولزمه الولد وإن قذفها لاعنها لأنه إذا لاعنها بغير قذف، فإنما يدعي أنها لم تلده وقد علمت بأنها ولدته وإنما أوجب الله سبحانه وتعالى اللعان بالقذف فلا يجب بغيره، ولو قال لم تزن ولكنها غصبته لم ينتف عنه إلا باللعان فإذا التعن وقعت الفرقة وهذا نصه في المختصر فتأمل قوله ـ رضى الله تعالى عنه ـ فلا يلحقه إلا بأربع نسوة يشهدن أنها ولدته وهي زوجة له ولوقت يمكن أن تلد فيه منه لأقل الحمل وتأمل أيضاً ما اشتمل عليه من النفي والاستثناء الذي هو أبلغ طرق الحصر تجده صريحاً فيما ذكرته من أنه لا يلحقه الولد إلا إن ثبتت ولادته على فراشه لزمن الإمكان الذي هو أقل مدة الحمل. وقد صرح الأذرعي بأن نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مشتمل على ذلك فإنه لما ساقه قال عقبه وفي هذه الجملة مسائل: إحداها: سئل فقال لم أرد قذفها وإنما التقطته أو استعارته ولم تلد على فراشي فعليها البينة بالولادة على فراشه وهي شاهدان أو رجل وامرأتان أو أربع نسوة ولو طلبت يمينه أحلف فإن حلف فذاك وإن نكل أحلفت. قال أبو إسحاق في شرحه: فتحلف أنها ولدته على فراشه لا على أنه منه لأن النسب لا يثبت بقولها ولا ينتفي، وإنما التداعي بينهما في الولادة على الفراش، وفي أنها ولدته أم لا. ولذا إنما يحلف الزوج على ذلك وظاهر هذا أنه يحلف أنها لم تلده لأنها يمين على نفي فعل الغير ولم يذكر ابن العماد والرافعي غيره. وقال الفوراني نفي ولادته على فراشه حلف على نفي العلم وإن قال ليس هو بولد لي حلف(6/63)
على البت ثم إنما يلحقه إذا حلفت على الولادة بشرط الإمكان فإن نكلت عن اليمين لم يحلفه كما نص عليه لأنه لم يثبت حدوثه على الفراش، أي ولأن يمين الرد لا ترد اهـ المقصود منه فتأمل قوله شرحاً لما اشتمل عليه النص، ثم إنما يلحقه إذا خلفت على الولادة بشرط الإمكان تجده مصرحاً بأن ذلك من جملة ما صرح به النص وهو ما ذكرته أولاً. قال الأذرعي أيضاً الثانية أي مما اشتمل عليه النص المذكور إذا قال لم أرد قذفها بل إنه ليس مني بل من زوج كان قبلي فإذا لم يعرف ذلك قال الشيخ
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/64)
أبو حامد و القاضي أبو الطيب وغيرهما لحقه الولد، وحكى الرافعي عن السرخسي أنه لا يكون قاذفاً ويلحقه الولد، أي وإن لم يتبين كما اقتضاه ظاهر عبارته، لكن قال الماوردي وجماعة من العراقيين كالبندنيجي وسليم في المجرد والتقريب والمحاملي في المجموع، ونص المقدسي في التهذيب إذا لم يعرف لها زوج قبل ذلك قيل هذا البيان غير مقبول فبينه بما يمكن ليقبل وإن عرف لها زوج فإما أن يعرف وقت طلاقه وعقد الثاني ووقت الولادة أو لا يعرف فإن عرفنا جميع ذلك فإن أمكن إلحاقه بأحدهما فقط ألحق به وإن أمكن أن يلحق بهما عرض على القائف أي على قول الأصح خلافه وهو أنه للثاني لانقطاع فراش الأول كما صرحوا به في العدد وإن جهل وقت طلاق الأول وعقد الثاني ووقت الولادة فالقول قول الزوج بيمينه وفي كيفيتها وجهان في الحاوي أحدهما يحلف أنه ليس منه، والثاني أنها ولدته لزمان يستحيل كونه منه أي فنخيره بينهما كما صرح به غيره، وعلى الوجهين لا يتعرض لكونه من الزوج الأول فإذا حلف انتفى عنه وإن نكل حلفت كما سبق عن نصه اهـ، المقصود منه فتأمل قول أولئك الأئمة الماوردي ومن معه فيما إذا لم يعرف لها زوج قبله قيل هذا البيان الخ، أي قولك ليس مني مع أنه لم يعرف لها زوج قبله غير مقبول لأنه خلاف الظاهر، بل لا بد أن تبين سبب انتفائه عن فراشك من عدم ولادته عليه أو عدم إمكانه منك لكونها ولدته قبل مدة أقل الحمل أو نحو ذلك حتى نقبل دعواك أنه ليس منك، فإذا فهمت أن هذا هو معنى كلام هؤلاء الأئمة كان كلامهم صريحاً في أنه إذا ادعى أنه ولد على فراشه لدون أقل مدة الحمل يقبل وعلى المرأة البينة أنها ولدته لزمن الإمكان، وتأمل أيضاً قولهم الموافق لعبارة الروضة المذكورة في السؤال، وعبارة أصلها أظهر من عبارتها في ذلك إذا جهل وقت طلاق الأول ووقت عقد الثاني ووقت الولادة، فالقول قول الزوج بيمينه أنه ليس منه أو أنها ولدته لزمان يستحيل كونه منه تجده صريحاً فيما(6/65)
ذكرناه أيضاً ووجه صراحته أن فراش الأول قد انقطع بالنكاح الثاني كما صرحوا به فالفراش ليس إلا للثاني، وقد جهلنا أن ولادة هذا الولد عليه لزمن يمكن كونه منه أولاً فيصدق حينئذ في أنه ليس منه أوفى أنه ولد لزمن يستحيل كونه منه لكونه لدون أقل مدة الحمل مثلاً، فعلمنا أن المدة بين النكاح والولادة إذا جهلت لا تكون الولادة على الفراش سبباً للإلحاق بذي الفراش إلا إن ثبتت أنها لمدة أقل الحمل فأكثر، وصراحة ما تقرر ظاهرة في ذلك لا تحتاج إلى بسط أكثر مما ذكرته، وعبارة الروضة التي في السؤال شرحها ما ذكرته بقولي عنهم إذا جهل وقت طلاق الأول ووقت عقد الثاني ووقت الولادة الخ، وعبارة أصلها أظهر في ذلك من عبارتها وهي إذا لم نعرف وقت فراق الأول ونكاح الثاني فلا يلحق الولد به، لأن الولد على فراشه وحصول الإمكان شرط لم يتحقق إلا أن تقيم بينة على أنها ولدته في نكاحه لزمان الإمكان أي فحينئذ يلحقه وتقبل فيه شهادة النساء المتحصنات فإن لم تكن بينة فلها تحليفه فإن نكل تأتي فيه ما مر انتهت ملخصة. وقوله فلا يلحق الولد به أي بالثاني كما صرح به غيره، وقوله لأن الولد الخ معناه أن إمكان الولادة منه لم يتحقق فهذا نص في مسألتنا لما علمت أن الشيخين وغيرهما قرروا أن الولد على فراش الثاني وأن حصول الإمكان مع كون الولد على الفراش شرط في لحوقه بذلك الفراش وإن ذلك الإمكان المشترط عند الجهل بالمدة المذكورة لم يتحقق وإنه إذا لم يتحقق لا يلحقه الولد وإن كان على فراشه وهذا هو عين ما قدمته عن نص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/66)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ الموافق لما أفتى به بعض فقهاء جهة السائل نفع الله سبحانه وتعالى بهما وبما قررته فيه علمت دلالته الواضحة على ما ذكره، فإن قلت يمكن الفرق بأنه تعارض هنا فراشان فإذا نفى عن الثاني كما ذكر يلحق بالأول بخلاف صورة السؤال فإنه يلزم من نفيه عن فراش الزوج ضياع نسبه بالكلية والنسب يحتاط له ما أمكن، قلت إذا تأملت قولهم السابق وعلى الوجهين لا يتعرض لكونه من الزوج الأوّل علمت أن هذا الفرق خيال لا اعتبار به، لأن الصورة أنه جهل وقت طلاق الأول فالإلحاق به مستحيل للجهل بوقت طلاقه فلم يلزم من الانتفاء عن الثاني هنا الإلحاق بالأول بوجه من الوجوه فساوت هذه الصورة صورة السؤال في أنه ينتفي عن ذي الفراش فيهما وإن ضاع نسبه، وقد صرحوا أيضاً بأن الإمكان شرط للحوق بالفراش كما في شرح المنهاج وغيرهما حيث قالوا لو قال هذا ولدي من أمتي ولدته في ملكي فإن كانت فراشاً له فإن أقر بوطئها لحقه بالفراش عند الإمكان لا بالإقرار للحديث الصحيح: «الولد للفراش» فيعتبر فيه الإمكان وإن كانت مزوّجة فالولد للزوج عند إمكان كونه منه، لأن الفراش له صرائح بينة في أن الفراش وحده ليس بكاف في الإلحاق بل لا بد معه من تحقق إمكان كونه منه لما علمت من عباراتهم هذه وغيرها أن الإمكان شرط، والشروط لا بد من تيقنها أو ظنها المستصحب بعد تيقن وجودها وعند وجود الفراش والشك في أنه ولد قبل أقل مدة الحمل أو بعدها لم يتحقق موجب الإلحاق أصلاً لما تقرر أن الفراش وحده غير كاف وأن الإمكان عند الشك غير موجود يقيناً ولا ظناً، ومما يصرح بذلك قولهم القاعدة أنه متى وجد الشك في الشرط لا يترتب الحكم والمراد الشك في أصل وجود الشرط كما في صورة السؤال وما نقله في السؤال عن السيد السمهودي رحمه الله تعالى عجيب مع سعة اطلاعه، فإن المسألة كما علمت منصوص عليها في كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب رحمهم الله تعالى بل هي في(6/67)
المختصرات أيضاً كالتنبيه، وعبارته: باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق ومن تزوّج امرأة فأتت بولد يمكن أن يكون منه لحقه نسبه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وفسر شراحه ابن الرفعة وابن النقيب وغيرهما زمن الإمكان بما يعلم منه أن تكون ولادته لأقل مدة الحمل والزوج ممن يحبل وأمكن اجتماعه بالزوجة بعد العقد أي ولا نظر لإمكان استدخالها منيه لندرة الحبل منه فتأمل قوله، أعني التنبيه، يمكن أن يكون منه أي بأن توجد فيه هذه الشروط المذكورة تجده صريحاً فيما قدمته من أنه لا بد في اللحوق بالفراش من تحقق الإمكان المذكور، ويلزم على بحث السيد المذكور في السؤال أن من تزوج امرأة ثم أتت بولد وشك في إمكان اجتماعه بها أو لا أو في أنه ممسوح أو لا أو في أنها ولدته لأقل مدة الحمل أو لا أو لأكثر من أربع سنين من آخر اجتماعه معها أو لا أو في كل ذلك أنه لا أثر لهذا الشك وأن الولد يلحق به مع ذلك الشك وكلامهم طافح بمخالفة ذلك وأنه لا بد من تحقق جميع ذلك لما عرفت أنهم صرحوا بأن هذه شروط مع تصريحهم بأن الشروط لا بد من وجودها بالمعنى السابق حتى يوجد المشروط وإلا لم يوجد لما هو مقرر أنه يلزم من عدمها عدم المشروط، ومما يصرح بذلك الخلاف المشهور بيننا وبين
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/68)
أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ في أن من نكح وطلق ثم أتت زوجته بولد فعندنا لا نلحقه إلا إن تحققنا تخلل زمن بين العقد والطلاق يمكن اجتماعه بالزوجة فيه عادة وعنده يلحق النسب وإن طلق في مجلس العقد وهي بالمشرق وهو بالمغرب، وبهذا تعلم مأخذ ما قدمته عن الشافعي والأصحاب رضي الله تبارك وتعالى عنهم من أنه لا بد من تحقق مضي أقل مدة الحمل قبل الولادة على الفراش مع تحقق الشروط الأخر الباقية، فإن قلت ما قررته من أنه لا بد من تحقق الإمكان ظاهر فيما إذا كان الزوج أو نحوه موجوداً وتنازع مع الزوجة أو نحوها، وكلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب صريح في ذلك لا يقبل تأويلاً، أما إذا مات الزوج ونحوه مثلاً ثم رأينا زوجته ولدت على فراشه فينبغي أن يحكم بكونه ولداً له من غير بحث عن وجود تلك الشروط أولاً عملاً بالظاهر من الفراش وهو الإلحاق، قلت يمكن أن يقال بذلك ويحمل عليه بحث السيد السابق لكن بالنسبة إلى جواز نسبته وانتسابه إلى من ولد على فراشه صيانة له عن العار بضياع نسبه ولأمه عن العار برميها بالزنا ونحوه، أما بالنسبة لمن نازعه في انتسابه إلى ذي الفراش فلا بد من قيام بينة ولو أربع نسوة فيما يقبلن فيه تشهد بوجود جميع تلك الشروط السابقة أو فيما نوزع فيه منها حتى يندفع النزاع فيه المعتضد بأن الأصل عدم أبوة ذي الفراش له حتى تتحقق مقتضيات الإلحاق ويوافق ما قدمته أولاً أيضاً قول ابن الوكيل وأقروه لا يلحق الولد إلا لستة أشهر وقد يظن أن هذا لا يستثنى منه شيء وهو خطأ، فإن ذلك إنما هو في الولد الكامل، أما الناقص كأن جنى على حامل فألقت جنيناً لدون ستة أشهر فإنه يلحق أبويه وتكون الغرة لهما وكذا لو أجهضته بغير جناية كانت مؤنة تجهيزه وكفنه على أبيه، وإنما يتقيد بالستة أشهر الولد الكامل دون الناقص فتأمل هذا تجده أيضاً موافقاً لما قدمته عن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب رحمهم الله تعالى من أنه لا بد من(6/69)
تحقق مضي أقل مدة الحمل قبل الولادة على الفراش ويوافق ذلك أيضاً إطباقهم في أن من استلحق مجهولاً بأن قال هذا ابني لا يلحقه إلا إن تحقق إمكان كونه منه فلو شككنا في ذلك لم نلحقه به فكذا هنا لأن غاية الفراش أن يكون بمنزلة قوله هذا ولدي، فإن قلت قد ينافي ما مر من أن القول قوله في أن الولادة لدون زمن الإمكان جعلهم القول قول الزوجة في نظير ذلك حيث قالوا لو اختلفت البائن والزوج في وقت الوضع فقالت وضعت اليوم وطالبته بنفقة شهور، وقال بل وضعت من شهر فالقول قولها وعليه البينة لأنها أعرف بوقت الولادة ولأن الأصل عدم الولادة وبقاء النفقة، قلت لا ينافي ذلك بوجه لأنهما هنا متفقان على أن الولد منه وعلى أنها تستحق النفقة قبل وضعه فكان قوله وضعت من شهر متضمناً لإسقاط ما وجب لها من النفقة الماضية نظراً إلى أن الأصل دوام وجوبها حتى يتحقق المسقط وهو الوضع فلاعتضاد قولها بهذا الأصل ومخالفة قوله له احتاج إلى البينة ولم تحتج هي إليها، وأما في مسألتنا فلا أصل فيها معها بل الأصل وهو عدم أبوته معه فلم يحتج هو إلى بينة لدعواه ولادتها لدون الإمكان لموافقتها أصل العدم، واحتاجت هي إلى بينة أنها ولدته للإمكان لأن قولها على خلاف الأصل المذكور فإن قلت قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/70)
الغزي لو قالت المطلقة ثلاثاً انقضت عدتي قبلنا قولها فلو أتت بولد بعد ذلك يمكن أن يكون العلوق به في النكاح السابق لحق الزوج إلا إذا تزوجت واحتمل كون الولد من الثاني فلو قال المطلق في الصورة الأولى نكحت زوجاً غيري وهذا الولد منه ولم يظهر لنا النكاح فلا نقل في المسألة والمتجه أنه لا يقبل قوله بلا بينة لأجل حق الولد اهـ، فلم لم يقبل قوله هنا إلا ببينته بخلاف ما مر، قلت لأنا تحققنا فراشه وتحققنا الإمكان منه والأصل عدم زوج غيره فقوله نكحت زوجاً غيري وهذا الولد منه مخالف للأصل المعتضد بتحقق الإمكان منه فلم يقبل قوله إلا ببينة لأجل ما ثبت للولد من تحقق الإمكان المقتضي للحوقه به هذا ما فتح الله سبحانه وتعالى به على أقل عبيده وأحوجهم إلى عفوه ومغفرته وفوق كل ذي علم عليم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 201(6/71)
باب النفقة
وسئل عن رجل سافر وترك زوجته بمنزل طاعته وأمرها أن لا تخرج من منزلها إلى حين عوده وأمر والدته أن تصرف عليها ما دامت في منزل الطاعة فأقامت أياماً قلائل ثم سافر أهلها إلى المدينة الشريفة فسافرت معهم ولما عادت سكنت عندهم واستمرت والدة الزوج تدفع لها دراهم نقداً إلى أن قدم ولدها مع عدم إذنه لها في شيء من ذلك فهل والحال ما ذكر يلزم الزوج المذكور نفقتها مع وجود سفرها وخروجها من منزل الطاعة أم لا؟ وهل لوالدته الرجوع عليها بما أخذته منها أم لا؟ وما حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا تستحق الزوجة المذكورة نفقة من حين خرجت من منزل الزوج فما أعطته لها والدته يرجع هو عليها به لأنه لم يأذن لها في صرفه إلا ما دامت في منزله فإذا أعطتها شيئاً خارجه كانت الوالدة مقصرة فضمنت لولدها ما فرطت فيه وإذا غرمها ولدها رجعت على زوجته بما غرمته له إن أعطته لها بظن أنه يلزمها الإنفاق عليها من مال ولدها وإن كانت خارج منزله، أما إذا علمت أنه لا نفقة لها فهي متبرعة عليها بما أعطته لها فلا ترجع عليها حينئذ بشيء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله تعالى به هل للمرأة أن تخرج من بيت زوجها للاستفتاء والتكسب ونحو ذلك أم لا؟. فأجاب بقوله: لها الخروج بغير إذن للضرورة كخوف هدم وعدو وحريق وغرق وللحاجة للتكسب بالنفقة، إذا لم يكفها الزوج وللحاجة الشرعية كالاستفتاء ونحوه إلا أن يفتيها الزوج أو يسأل لها لا لعيادة مريض وإن كان أباها ولا لموته وشهود جنازته قاله الحموي في شرح التنبيه، واستدل له بأن امرأة استأذنت رسول الله في عيادة أبيها وكان زوجها غائباً فقال رسول الله : «اتقي الله سبحانه وتعالى وأطيعي زوجك» فلم تخرج وجاء جبريل فأخبر النبي أن الله عز وجل قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها.(6/72)
وسئل عمن عقد بجدة لشخص على بنت له بكر وهي، أي البنت المذكورة، يأتي عريش ثم بعد العقد لم يطلبها الزوج من أبيها بل سافر إل مصر وسافر أبوها إلى اليمن ثم حضر بعد سنين وطالب الزوج أبوها بالنفقة الماضية والكسوة من حين العقد إلى الآن فهل تلزمه النفقة والكسوة الماضية أم لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا تلزمه نفقة ولا كسوة للسنين الماضية لانتفاء عرضها أو عرض وليها على الزوج عند حضوره وعلى الحاكم عند غيبته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
وسئل عمن لمس زوجته هل يلزمه لها ماء الوضوء أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: مقتضى كلام الرافعي بل صريحه أنه يلزمه لها ذلك وهو ظاهر، وعليه فهل يقاس بها أجنبية لمسها عمداً أو عكسه أو لا؟ الأوجه لا لأن تمكين الزوج واجب فجعل الشارع لها في مقابلته ماء طهارتها وإلا لكان في تكليفها ماء الطهر مع وجوب التمكين عليها عسر ومشقة لا تطاق بخلاف مسها لزوجها إذ لا وجوب حتى يجعل في مقابلته شيء وبخلاف مسألة الأجنبيين لأن الحرمة كافية في العقوبة فلا تخرج على الأتلافات لأن النقض حكم من الشارع لا منه وإن كان هو سبباً فيه، وإنما لزم شاهد الزور الغرم مع كون التغريم ليس منه، وإنما هو سبب فيه لأنه ألجأ الحاكم إلى الحكم واللامس هنا لا إلجاء منه وأيضاً فرجوع الشاهد هو المقتضي لغرمه لأنه رافع للحكم الواقع واللامس هنا لم يرفع ما تسبب فيه.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه بما صورته أجنبت الزوجة باحتلام ثم وطئها الزوج فهل يجب عليه ثمن ماء غسلها؟. فأجاب بقوله: الذي اقتضاه كلامهم في باب النفقات أنه لا يجب عليه ذلك لأن الغسل ليس بسببه حينئذ.(6/73)
وسئل هل للزوجة الامتناع حتى يسلمها الكسوة؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا يجوز لها الامتناع لتسليم النفقة الماضية التي صارت ديناً في ذمة الزوج كسائر الديون الواجبة لها عليه، وأما الكسوة القائمة فمن شرط وجوبها التمكين فإذا منعت منه سقط وجوبها وأخذ بعضهم من قول الشيخين عن البغوي وغيره لو اختارت امرأة المعسر المقام معه لم يلزمها التمكين من الاستمتاع أن لها الامتناع هنا أيضاً قال لأنه إذا جاز ذلك لامرأة المعسر المعذور فبالأولى جوازه لامرأة الموسر اهـ، وقد يفرق كما لا يخفى على المتأمل.
وسئل عمن زوج عبده بأمته فهرب العبد وتضررت بذلك فما الحيلة في الفسخ عليه؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى به المسلمين بقوله: الحيلة في ذلك أن يعتقها أو يكاتبها ثم يملكها إياه بنذر أو وصية أو شراء إن قدرت عليه فإنها إذا ملكته انفسخ نكاحها وإن فسخت كتابتها بعد ذلك.
وسئل عمن تزوج امرأة ثم سكن معها في بيتها أو استعمل أوانيها وهي ساكتة على جاري العادة هل عليه أجرة ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: نعم عليه أجرة ذلك ونقص أرش الأواني.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/74)
وسئل بما صورته أراد الزوج سفراً طويلاً فهل لزوجته مطالبته بنفقتها لمدة ذهابه ورجوعه أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى به بقوله: نعم لها ذلك كما أفتى به البغوي قال: كما لا يخرج للحج حتى يترك هذا القدر، واستشكل بجواز سفر من عليه دين مؤجل يعلم أنه يحل قبل رجوعه وإن لم يستأذن غريمه ولم يترك له وفاء. وقال الأذرعي : إن أراد البغوي لزوم دفع ذلك إليها في الحكم الظاهر فهو بعيد إذ كيف يلزم بأداء ما لم يجب، وقد يجب من بعد، وقد لا يجب، وإن أراد أن لها الاعتراض عليه كرب الدين المؤجل يعترض على مديونه إلا أن يدفع له وفاء أو كفيلاً ملياً فذاك في المؤجل القريب الحلول على خلاف وتفصيل فيه والمرجح عدم التحجر والنفقة أولى بعدم التحجر لأنه لم يتعلق بذمته شيء بخلاف الدين، وإن أراد أنه يلزمه ذلك فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى فحسن لكنه بعيد من لفظه وقد يقربه تشبيهه بالخروج للحج، إذ لا نعلم من قال إنه يلزمه في الظاهر بذلك هنا، ولا شك أنه لا يلزمه دفع ذلك إليها على كل تقدير اهـ، وما قاله البغوي هو المنقول إذ لا يعلم مخالف له من الأصحاب مع أن القياس على مسألة الحج المصرح بها في كتبهم يشهد له ويفرق بين الزوجة ومستحق الدين المؤجل بأنها تحت حجر الزوج ومحبوسة لأجله فلو لم نمكنها من مطالبته بذلك لزم ضياعها ومزيد تضررها بخلاف الدائن فإنه لا حجر لأحد عليه فلا يلحقه من الضرر ما يلحق الزوجة فجاز أن تختص بذلك لأنه وجد فيها من المعنى المقتضي لذلك ما لم يوجد في غيرها فعلم بذلك دفع الإشكال السابق وإذا مكناها من مطالبته بذلك فظاهر أن الحاكم لا يلزمه بدفع ذلك إليها بل يدفعه لعدل ينفق عليها منه ويصرف عليها ما يجب لها كل يوم وبهذا الذي ذكرته يندفع جميع الترديدات التي ذكرها الأذرعي ، وكذا يقال بذلك في مسألة الحج، وقول الأذرعي إذ لا نعلم الخ يجاب عنه بأن كلامهم ظاهر في ذلك فلا يحتاج للتصريح به.(6/75)
وسئل عمن أقرت بدين فحبست فيه فهل تجب نفقتها؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا تجب كما أفتى به النووي و ابن الصلاح ، ويظهر أن البينة إذا شهدت عليها بذلك فأنكرت وحكم عليها بالحبس لا تسقط بذلك نفقتها وإن صدقت بعد ذلك لأنها لم تسبب في ذلك فهو كمرضها.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى به عمن نشزت أثناء الفصل هل تسقط كسوتها كنفقتها؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: الكسوة كالنفقة في ذلك فإذا نشزت ولها كسوة دخلت في ملك الزوج بمجرد النشوز فإن عادت للطاعة تخير بين أن يعطيها إياها وبين أن يبدلها بكسوة تكفي لبقية المدة ذكره ابن عجيل . وقال ابن الرفعة في المطلب فيما لو طلقها في أثناء الفصل قبل أن يعطيها كسوتها لم أر في المسألة نقلاً ويبعد كل البعد أن ينكح الرجل امرأة ويطلق في يومه ونوجب عليه كسوة فصل كامل، ولعل الأولى أن توزع الكسوة على أيام الفصل ويجب لها من قيمة الكسوة ما يقابل زمن النكاح، وكلام الشيخين يقتضيه حيث قالا تفريعاً على أنها تمليك فلو مضت مدة ولم يكسها صارت ديناً، أي كسوة تلك المدة ولا يقاس ذلك بما إذا قبضتها أول الفصل وبانت منه في أثنائه، فإن الراجح أنه لا يرجع عليها بشيء لحصول المقصود بالقبض فلم يؤثر فيه ما طرأ بعده بخلاف ما إذا لم يحصل، ولذلك نظائر في الهبة والرهن ولا يقاس ذلك أيضاً بما إذا مات أثناء اليوم قبل قبض نفقتها، فإن نفقة اليوم تجب لها لأن أجزاءه متقاربة وبما تقرر يعلم أن ما ذكر أوجه من قول البارزي لما سأله الإسنوى عن ذلك بما صورته هل يقال تستحق الجميع بدليل ما إذا أقبضها ثم طلقها فلا رجوع على الصحيح إذ لو لم تستحق لرجع أو يقال تستحق بالقسط ليس إلا وليس نظير ما إذا أقبضها لأن هناك لما اتصل بالقبض لم يؤثر ما يطرأ بعد ذلك، وقد نقل موثوق به عن بعض الأصحاب وأظنه صاحب الإفصاح ما يوافق الثاني إلا أنه يحتمل أن(6/76)
يكون جواباً على المرجوح في الرجوع عند القيض فالمسؤول الإنعام في هذه المسألة فإنها وقعت واضطربت فيها الآراء فأجابه البارزي رحمه الله تعالى بما صورته: إذا طلقها في أثناء الفصل قبل أن يعطيها كسوته كانت ديناً عليه، وفي كتاب ابن كج له الاسترداد، والصحيح الأول وقطع به الجمهور اهـ. ونص أيضاً أن الكسوة كالنفقة فقال: وأصحهما ونسب إلى النص يجب تمليكها كالنفقة والأدم وسوى بين النفقة والكسوة بعد ذلك، فقال: ولا خلاف إن وقت وجوب تسليم النفقة صبيحة كل يوم والكسوة أول كل صيف وشتاء فنقول كما أن الطلاق في أثناء الفصل بعد قبضها الكسوة لا يؤثر في رجوعه عليها فكذلك طلاقها في أثناء الفصل قبل قبضها الكسوة لا يؤثر في سقوط ذلك من ذمته كنفقة اليوم اهـ، وإذا تأملت ما ذكره علمت أن مستنده ليس إلا قياس الكسوة على النفقة، وقد علمت الفرق بينهما فيما مر، وكون الشيخين سوياها بها في كونها تصير ديناً وفي وقت وجوب التسليم لا يستلزم قياسها بها في غير ذلك لوجود الفارق مع تصريح بعض الأصحاب بالفرق في مسألتنا، وقول الإسنوى يحتمل إلى آخر ما مر عنه في سؤاله ممنوع بل هو جواب على الصحيح لما مر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
وسئل عمن غاب زوجها فأثبتت إعساره وفسخت ثم عاد وادعى أن له مالاً خفي على بينة الإعسار فهل يقبل؟. فأجاب بما صورته قال الغزالي : لا يقبل منه ذلك إلا إن ادعى عليها أنها تعلمه وتقدر عليه فيبطل الفسخ إذا أقام بذلك بينة.(6/77)
وسئل عما إذا أراد الزوج نقل زوجته وعليها دين فامتنعت حتى يرضى الدائن فهل تجبر على السفر معه في هذه الحالة؟. فأجاب بقوله: نعم تجبر إذا كانت معسرة أو كان لها مال على الزوج وهو معسر وإلا لم تجبر حتى يأذن الدائن أو تقضيه، والذي يظهر أن للحاكم إجبارها على قضاء الدين لأنه يتوصل بذلك إلى إجبارها على السفر وإن لم يطالبها الدائن أو أمر الدائن بمطالبتها أو الإذن لها في السفر.
وسئل عما إذا اختلف الزوجان في النشوز فمن المصدق منهما؟. فأجاب بقوله: الذي ذكره الأصحاب أن القول قول الزوج لأن الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة، لكن قال الجيلي هذا إذا كان الاختلاف قبل الدخول، وأما بعده ولو مرة واحدة فالقول قولها لأن التسليم والنفقة واجبان بالعقد والتمكين والزوج يدعي النشوز والأصل عدمه وعدم سقوط النفقة اهـ وما ذكره متجه.
وسئل عن امرأة غاب عنها زوجها ففسخت عليه عند الحاكم بإعساره فحضر وادعى أنه أرسل لها بنحو النفقة قبل الفسخ وأنكرت فمن المصدق منهما؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: أفتى القاضي حسين بتصديق الزوج بالنسبة إلى عدم نفوذ الفسخ لا بالنسبة لإسقاط نحو النفقة ومشى على ذلك البوشنجي لكن خالفهما المتولي و المروزي فجزما بأنها تصدق فيما ادعته من عدم وصول النفقة، وهذا هو قضية كلام الماوردي ورجحه ابن الصلاح ويؤيده ما في الروضة عن الأصحاب من أنه لو حلف لا تخرج إلا بإذنه ثم أذن لها في غيبتها ينبغي أن يشهد على الإذن لأنها قد تنكر فلا يصدق.
وسئل عما إذا امتنعت الزوجة من تمكين الزوج لتشعثه وكثرة أوساخه هل تكون ناشزة؟. فأجاب بقوله: لا تكون ناشزة بذلك ومثله كل ما تجبر المرأة على إزالته أخذاً مما في البيان عن النص أن كل ما يتأذى به الإنسان يجب على الزوج إزالته.(6/78)
وسئل عما إذا طلب الزوج من زوجته عند الجماع رفع الفخذين والتحريك هل يجب عليها ذلك فتكون ناشزة إذا امتنعت؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله الواجب عليها هو التمكين من الوطء بحيث يسهل على الزوج ولا يجب عليها ما وراء ذلك مما هو معروف وإن ترتب عليه مزيد قوة لهمة الرجل وتنشيط للجماع هذا هو الذي يتجه، ويحتمل أن يجب عليها ما يتوقف عليه الإنزال أو ما يترتب على تركه ضرر للرجل، وأفتى بعضهم بأنه لو كان به علة لا يقدر معها على الجماع إلا مستلقياً فسألها أن تركبه وتكون هي الفاعلة لم يلزمها ذلك ولا تسقط نفقتها إذا امتنعت وفيه نظر والأوجه خلافه حيث لا ضرر عليها في ذلك.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
وسئل عن طفلة أعسر زوجها وليس لها مال ولا من تلزمه نفقتها تجب نفقتها على من؟. فأجاب بقوله: تجب في بيت المال فإن تعذر فعلى أغنياء المسلمين وهل هي قرض حتى يرجعوا عند اليسار أو لا؟ قضية ما ذكروه في اللقيط والمضطر الأول، وقضية ما أطلقوه في السير الثاني.(6/79)
وسئل عن المرأة المزوجة إذا لم يسكنها الزوج في بيته بل كانت ساكنة هي وهو في بيتها أو بيت أبيها أو أحدهما هل يلزمها ملازمة البيت المذكور فلا تخرج إلا بإذنه وإذا خرجت منه بغير إذنه تكون ناشزة أو لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله للأصحاب في ذلك عبارتان إحداهما بيت الزوج والثانية سكنها وبهذه الثانية يتبين أن مراد من عبر ببيت الزوج أو منزله ماله عليه ولاية الإسكان لكونه مالكه أو مستأجره أو مستعيره أو نحو ذلك، ومما يصرح بذلك قولهم لو كان المنزل لغير الزوج فأزعجت منه لم يكن ذلك نشوزاً فتأمل قولهم لغير الزوج واشتراطهم في عدم بسقوط نفقتها بالخروج منه أن تزعج منه بأن يخرجها منه مالكه بدليل تعبير آخرين بأن من الأعذار إزعاج المالك، فعلم أنه لا يشترط كونه ملك الزوج وأنها إذا خرجت من سكنها المملوك لغير الزوج فإذا كان ذلك لإخراج مالكه لها منه لم تسقط نفقتها وإلا سقطت ووقع في قوت الأذرعي أن من الأعذار أن يكون لغيره فتخرج منه، ومراده بدليل عبارة الباقين خروجها منه لإخراج مالكه ونحوه، وأما خروجها منه لغير ذلك ونحوه فنشوز بدليل قول الأذرعي نفسه بعد تلك الصورة وصور أخر وغير ذلك مما يعد الخروج به عذراً فبان بهذا أن قوله أو يكون لغيره فتخرج منه محمول على ما إذا عذرت بالخروج منه وبحث فيه أنها لو جرت على مقتضى العرف المعتاد في حقها وحق أمثالها بالخروج في حوائجها لتعود عن قرب أو لحمام ونحوه فليس بنشوز للعرف في رضا أمثاله به وفيما يحثه نظر ظاهر، أما أوّلاً فلأنه منابذ لإطلاقهم سقوط النفقة بالخروج بلا إذنه بأنها في قبضته وبان له عليها حق الحبس في مقابلة وجوب النفقة وأما ثانياً فلأن العرف هنا غير مطرد لأن رضا الزوج بخروج زوجته وعدمه يرجع إلى ما عنده من الأنفة والغيرة، ولا شك أن ذلك يختلف في الناس اختلافاً كثيراً فكم من يرضى بالخروج ولو مع الريبة وكم من لا يرضى به وإن تحقق عدم الريبة سواء أكانت المرأة(6/80)
قبل نكاحه تعتاده أم لا فالوجه خلاف ما بحثه الأذرعي وأنه لا يجوز لها الخروج من بيته الذي رضي بسكناها فيه سواء أكان ملكه أم غير ملكه إلا بإذنه سواء اعتادت الخروج أم لا؟ نعم جوّزوا لها الخروج لأعذار كخوف من نحو انهدام أو فسقة وكخراب المحلة حول بيتها حتى صار منفرداً وكإزعاج مالك المنزل كما مر وكالخروج لاستفتاء لم يكفها الزوج مؤنته وغير ذلك مما في معناه كما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/81)
وسئل عن الولد المحضون إذا كانت نفقته على غير من له الحضانة كأن كانت أمه تحضنه ونفقته على أبيه فطلبت الأم تسليم نفقة الولد المحضون إليها وامتنع الأب إلا أن يجيء الولد إليه ويأكل عنده فمن المجاب منهما وهل يختلف الحال بين ما إذا كان المحضون ذكراً أو أنثى وبين ما قبل سن التمييز وما بعده حيث اختار الأم؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إذا أمكن الولد الذكر المجيء إلى بيت أبيه والأكل عنده لم يلزمه نقل النفقة إليه إلى بيت أمه وإن ثبت لها الحضانة، بل صرح الإمام بذلك حتى في الأب مع الولد، فقال لا يجب تسليم النفقة بل له أن يقول كل معي، وقد يتوقف في هذا في حق الأب إذا امتنع من الحضور فإن حضر الولد إليه فذاك اهـ، وتوقفه يجاب عنه بأن المعتمد الذي نقله الرافعي هنا عن الأئمة أن النفقة للقريب ليست تمليكاً وإنما هي إمتاع لأنها ليست بعوض بل معونة ومواساة وإذا كانت إمتاعاً لا تمليكاً فلا يلزم المتبرع بذلك الإمتاع والمواساة نقلها إلى محل المنفق عليه، بل له أن يقول له ائت إلى عندي لأواسيك، وواضح أن الكلام فيما إذا سهل على المنفق عليه الإتيان وإلا فالذي يتجه أنه يلزم المنفق إرسالها إلى محل المنفق عليه، لأن اللازم له الكفاية ولا تتم إلا بإيصالها إليه وإنما نظرنا إلى هذا عند نحو عجز المنفق عليه لعذره بخلافه عند السهولة، فإنه لا كلفة عليه في مجيئه إلى قريبه ولا يكلف حينئذ قريبه الحمل إليه رعاية لكونه مواسياً ومتبرعاً هذا توجيه كلام الأصحاب وإن كان لتوقف الإمام في الأب وجه وجيه، إذ اللائق بطلب مزيد احترامه وبره أن لا يكلف المجيء صباحاً ومساء إلى بيت ابنه، وأما الأنثى فيلزم الأب نقل كفايتها إلى بيت أمها الثابت لها حضانتها أصالة أو باختيارها بعد تمييزها كما دل عليه تصريحهم بأنها إذا اختارت الأم تكون عندها ليلاً ونهاراً فيزورها الأب ولا يطلب إحضارها عنده بل يلاحظها بقيامه بتأديبها وتعليمها وتحمل مؤنتها(6/82)
قالوا والصغير الذي لا يميز والمجنون كذلك فيكونان عندها ليلاً ونهاراً ويزورهما الأب ويلاحظهما بما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه في الجواهر عن القاضي أن المرأة إذا أرادت إثبات إعسار زوجها الغائب لفسخ النكاح أن الحيلة أن تدعي على رجل أنك ضمنت لي عن زوجي عشرة دراهم من جهة النفقة فينكر فتقيم البينة على إثبات الضمان والنكاح، فإذا ثبت النكاح فالقاضي إن وجد مالاً فرض النفقة فيه وإن لم يجده فلها الفسخ، ثم قال: قلت وفي دعوى الدراهم نظر، وينبغي أن تدعي نفس الطعام اهـ فهل ذلك معتمد أو لا؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: المعتمد خلاف ظاهر ذلك، ففي أصل الروضة لو لم يوجد له مال حاضر وجهل حاله في اليسار والإعسار فلا فسخ، لأن السبب لم يتحقق فلو شهدت البينة أنه غاب معسراً فلا فسخ أيضاً كما أفتى به ابن الصلاح لأن الأصل دوام النكاح فلو شهدت بإعسار الغائب الآن بناء على الاستصحاب جاز لها ذلك إذا لم تعلم زواله وجاز الفسخ حينئذ وعلى ذلك يحمل قول أصل الروضة إذا ثبت إعسار الغائب عند حاكم بلد الزوجة جاز الفسخ إذ صورته أن تشهد البينة عنده بإعساره في الحال وذكر دعوى الضمان في عبارة القاضي إنما هو للتوصل به عنده لإثبات استحقاق النفقة الذي هو فرع ثبوت الزوجية لتقوم البينة بعد إنكار منكر، فيثبت مقتضاها فيتوصل بذلك إلى الفسخ لا أنها تفسخ حينئذ بالعجز عن النفقة المضمونة الماضية ولا بعجز الضامن، إذ لا قائل به، وقوله فينكر فتقيم البينة ظاهره توقف الدعوى على الغائب وإقامة البينة على إنكار منكر، وليس كذلك إلا أن تكون الدعوى عليه بإسقاط حق له كالإبراء من دينه، فإن القاضي لا يسمع البينة بالبراءة لكن حيلته أن يدعي إنسان أن رب الدين أحال به فيعترف بذلك ويدعي البراءة فتسمع دعواه حينئذ وبينته.(6/83)
وسئل عما إذا نشزت المرأة فغاب عنها فوق مسافة القصر ثم عادت إلى طاعته وتعذر إنهاء الخبر إليه لفقد مؤنة البعث هل تجب لها النفقة أو لا؟ وهل يثبت لها الفسخ في هذه الحالة أو لا؟. فأجاب بأن الذي صرح به الشيخان وغيرهما أن الناشز إذا غاب زوجها لا تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة، بل لا بد أن ترفع الأمر إلى القاضي ليقضي بطاعتها ثم يرسل يخبر الزوج بذلك فإذا رجع هو أو وكيله وتسلمها عادت النفقة وإن علم ولم يرجع هو ولا وكيله عادت إذا مضى زمن إمكان عوده فإن لم يعرف موضعه ففي الروضة وأصلها عن المتولي أن الحاكم يكتب إلى حاكم البلاد التي تردها القوافل من تلك البلدة في العادة ليطلب وينادي باسمه، فإن لم يظهر فرض القاضي نفقتها في ماله الحاضر وأخذ منها كفيلاً بما يصرف إليها لاحتمال موته أو طلاقه اهـ، وقياسه أنه لو كان بمحل لا يمكن وصول الخبر من الحاكم إليه، إما لخوف طريق أو نحوه فرض القاضي نفقتها في ماله الحاضر وأخذ منها كفيلاً فإن لم يكن له مال حاضر فإن شاء اقترض لها عليه أو أذن لها في القرض أو فرض نفقتها عليه ليوفيها إذا حضر، وذكر الغزي أنها إذا بذلت الطاعة وهو غائب وأعلمه القاضي فقصر في تسلمها فرض لها القاضي نفقة المعسرين إلا أن يثبت يساره أو توسطه اهـ. وأما فسخ النكاح فالمعتمد من اضطراب طويل فيه بين المتقدمين والمتأخرين أنه لا يجوز إلا إن شهدت بينة أنه الآن معسر عاجز عن أقل واجب النفقة والكسوة ولا يكفي فسد خبره ولا امتناعه من الإنفاق ولا غيبته معسراً فكل هذه ونحوها لا يجوز به فسخ النكاح، بل لا يجوز إلا أن شهدت بينة شرعية بما ذكر ولا تسأل من أين لك أنه معسر الآن لأن الشهادة قد تحصل عنده من القرائن بما يؤدي إلى اليقين فيجوز له الاستناد إليه في الجزم بالشهادة وإن كان لو صرح بمستنده بطلت شهادته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/84)
وسئل نفع الله تعالى بعلومه عن رضيع حضنته حاضنة شرعية أم أو غيرها وغاب والده أو امتنع من الإنفاق عليه فيما يلزمه شرعاً من أجرتي حضانة ورضاع وغير ذلك من اللوازم الشرعية مع غناه ففرض عليه حاكم شرعي مالاً معلوماً باجتهاده في مقابلة ذلك وأذن لحاضنته بالإنفاق عليه من مالها أو بالاقتراض عليه لترجع بذلك على مال والده، فإذا اقترضت أو أنفقت عليه من مالها بنية الرجوع مدة طويلة تبين فيها فقر والده أو موته هل يلزمها ما اقترضت عليه ويفوت عليها ما أنفقته عليه مجاناً أو ترجع على مال الولد المحضون إذا حصل له مال في حال صغره أو كبره أو على الأقرب من أجداده إذا كان موسراً وإذا اقترضت الحاضنة بإذن الحاكم هل يصير ديناً لها كما قاله الغزالي أو لا كما ذكره جمع كالقاضي أبي الطيب و البندنيجي و الشيخ أبي إسحاق وغيرهم، وإذا قلتم يصير ديناً لها كما قاله الغزالي كيف صورة الاقتراض تقول اقترضت هذا المال في ذمتي ومالي لأنفقه على الولد المحضون أو في ذمة المحضون وماله أو والده إذا كان أحدهما غنياً فإن قلتم بالأخير فهذا يشكل بالاقتراض على ذمة الغير وكيف يلزمه ذلك أوضحوا لنا ذلك؟ وهل للحاضنة أحد الرضاع نفقة كنفقة زوجة موسر أو متوسط أو معسر أو لها أجرة مثلها إذا لم يكن لها مسمّى غير أجرة الرضاع، وإذا انفصل الرضاع هل تستحق نفقة أو أجرة؟ إذا قلتم بها لحضانتها وتعهدها لما يحتاج إليه إلى سن التمييز والتخيير أم تسقط في هذه المدة ولا يلزم فيها والده غير نفقة ولده ولوازمه الشرعية فقط سواء كانت الحاضنة أماً أم أجنبية وإذا امتنعت الأم من إرضاع ولدها بعد سقيه اللبأ واستأجرنا له مرضعة ذات لبن وولد للإرضاع فقط واشترت للمحضون لبناً وسقته هل يقوم مقام لبنها إذا غذى به أم يجب عليها سقيه من لبنها وهل هذه الإجارة للإرضاع فقط صحيحة لما فيها من الجهالة بلبنها وعدم رؤيته واشتراكه بين المحضون وولدها، لأن الأصحاب قالوا شرط المنفعة(6/85)
أن تكون معلومة كالمبيع وليست هذه كبيع الماء الداخل في المبيع بالتبعية وهذه إجارة مستقلة بالإرضاع فقط فما وجه الصحة؟ أوضحوا لنا ذلك. وهل يجب على المرضعة المستأجرة أن تضيف إلى اللبن سمناً وإذا استكثر المنفق من القرض الذي فرضه الحاكم الشرعي عليه لحط الأسعار أو استقلت الحاضنة منه مع ارتفاع الأسعار هل للحاكم أن ينقض حكمه الأوّل ويزيد أو ينقص فيما فرضه أم لا؟ وإذا أراد المنفق أباً كان أو وصياً أو قيماً أن يمون المحضون الذي غير مميز بأن يكون عنده في بيته أوّل النهار وآخره أمد الرضاع ليشتري له من اللبن والسمن ما يكفيه ويسقيه بنفسه أو بمن يثق به ثم يرده إليها، أو أراد أن يمونه أيضاً بعد أمد الرضاع إلى سن التمييز والتخيير بأن يطعمه من العيش والأدم في بيته أوّل النهار وآخره كالأوّل ثم يرده إليها هل له ذلك سواء أرضيت أم كرهت بها عذر كمرض أم لا؟ وهل للحاكم الشرعي أن يحكم له بذلك أم لا؟ وإذا رأى ما يكره من الدخول على موليته في بيت الحاضنة من الرجال وغيرهم من آلات اللهو وغيرها هل له نزعه منها؟ لا سيما إذا كان المحضون أنثى لما يلحقه من الغيرة وتسقط حضانتها بذلك وتنتقل عنها بل قالوا بإسقاط حضانتها فيما هو أهون من ذلك بتزويجها على الغير وهو محرم للمحضونة بالزوجية على أمها أوضحوا لنا ذلك وهل للزوج منع ولد زوجته من غيره من الدخول عليه سواء أكان مميزاً أم غير مميز في منزله أو منزلها إذا تبرعت له بالسكنى حاضراً كان أو غائباً مقيماً أو مسافراً فإذا أدخلته في حالة من الحالات هل تكون ناشزاً ويسقط مالها من النفقة واللوازم الشرعية أم لا لدخول ما لا يجب على فراشه أم يأثم بذلك ولا نشوز، فإذا قلتم له منعه من الدخول فأخرجه من منزله هل يأثم بذلك أو لا؟ فإذا أخرجه إلى رحبة منزله أو غيرها وكان غير مميز وحصل عليه عاطل بوطء دابة أو غيرها هل يضمن بذلك سواء أوجد من يأخذه منه أم لا؟ أوضحوا لنا ذلك كله وضوحاً(6/86)
شافياً. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: لا تصير نفقة الفرع أو الأصل بمضي الزمان ديناً وإن تعدى من لزمته بالامتناع، نعم إن فرضها القاضي أو أذن في افتراضها صارت ديناً كما قاله الشيخان واعتراض كثيرين عليها بأن ما قالاه خلاف المنقول بسطنا الكلام على رده في شرح الإرشاد وفيما إذا امتنع من لزمته أو غاب وله مال حاضر لمستحق النفقة أخذها منه وكذا للأم أخذها لنحو طفل من مال أبيه ولو بغير إذن قاض، ثم إن وجد في ماله جنس الواجب لم يأخذ غيره وإلا أخذه، فإن لم يكن له ثم مال أذن القاضي في الاقتراض عليه إن تأهل وإلا أذن للأم في ذلك إن تأهلت أيضاً فإن لم يكن ثم قاض فاقترضا على الغائب ومثله الممتنع، وأشهدا بذلك رجعا عليه بما اقترضاه وإن لم يشهدا فإن لم يتمكنا من الإشهاد رجعا أيضاً وإلا فلا ولو أنفقت الأم على طفلها الموسر من ماله بلا إذن أب أو قاض جاز وقيده
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/87)
الأذرعي بما إذا امتنع الأب أو غاب قال ولعله مرادهم وهو كما قال وإن أنفقت من مالها لترجع عليه أو على أبيه إن لزمته نفقته لم ترجع على الأوجه إلا أن عجزت عن القاضي وأشهدت على ذلك إن أمكنها الإشهاد ولو غاب الأب لم يستقل الجد بالاقتراض عليه بل لا بد من إذن قاض له إن أمكن وإلا فالإشهاد إن أمكن أيضاً كما هو ظاهر ثم نفقة القريب لا تقدير لها إلا بالكفاية فللطفل مؤنة إرضاع حولين ولنحو شيخ وفطيم ما يليق به ويعتبر حاله في سنه وزهادته ورغبته ويجب إشباعه لا المبالغة فيه والأدم وخادم احتاجه وكسوته وسكنى لائقين به وأجرة طبيب وثمن أدوية وأجرة ختان وهذا كله على سبيل الإمتاع لا التمليك. قال الإمام: ومن ثمرة ذلك أنه لا يلزمه تسليم النفقة إليه فلو قال كل معي كفى ولو أعطاه نفقة أو كسوة لم يجز له أن يملكها لغيره ومؤنة خادم القريب كمؤنته فيما ذكر، نعم لو لم ينفق عليه مدة لم تسقط نفقته كما رجحه البلقيني بخلاف نفقة القريب والفرق أن تلك عوض عن الخدمة والخدمة قد استوفيت فوجب مقابلها بخلاف نفقة القريب فإنها محض مواساة لا في مقابلة شيء وهذا الفرع من النوادر لأن التابع فيه زاد على المتبوع وعلى الأم إرضاع ولدها اللبا وإن وجد غيرها لأنه لا يعيش ولا يقوى غالباً إلا به وهو اللبن النازل أوّل الولادة ومدته يسيرة وإلا وجه الرجوع فيها لأهل الخبرة ولها الامتناع من إرضاع الزائد عليه إن وجد غيرها ولها طلب الأجرة من أبيه ولو للبأ إن كان لمثله أجرة، نعم إن وجد متبرعة أو من ترضى بأقل منها جاز له نزعه منها وهذه الأجرة تجب في مال الطفل إن كان وإلا فعلى الأب ثم الجد ثم الأم كالنفقة ولا تزاد في نفقة الزوجة للإرضاع وليس له منعها منه وإن أخذت الأجرة، نعم عند أخذها تسقط نفقتها إن نقص الاستمتاع بإرضاعها وإلا فلا ومؤنة الحضانة في مال نحو الطفل فإن لم يكن له مال فعلى الأب ثم الجد ثم الأم كالنفقة بجامع أن كلا من أسباب الكفاية(6/88)
إذا تقرر ذلك علم منه الجواب عن ترديدات السائل في السؤال الأوّل بأطرافه ولنصرح بحكم كل أيضاً زيادة في الإيضاح فنقول ما اقترضته الأم بإذن الحاكم لا يضيع عليها مجاناً بل إن كان للولد مال حال الإنفاق عليه من ذلك المقترض فهو في مال الولد وإن لم يكن للولد مال فهو في مال الأب فإن أعسر أو مات ففي مال الجد فإن أعسر أو مات فعلى الأم، وقد صرحوا بأنه لو كان للصغير مال غائب أنفق عليه الأب قرضاً، فإذا وصل ماله رجع بما أنفق وبأنه لو قصد بالإنفاق الرجوع رجع سواء أنفق بإذن الحاكم أو بلا إذن فإن تلف المال بعد قدومه سقط عن الولد ما أنفقه بعد تلف المال دون ما أنفق قبله بل يبقى عليه يرجع به إذا أيسر، وكذا حكم من يستغني بكسبه، وصورة الإذن من القاضي في الاقتراض أن يقول لها أذنت لك في الإنفاق على ولدك من مالك كل يوم كذا أو في الاقتراض والإنفاق عليه من المقترض كل يوم كذا أو نحو ذلك، فإذا أرادت تقترض قالت لمن يريد إقراضها أقرضني كذا لأنفقه على ولدي أو اقترضت كذا أو تنوي ذلك فلا يحتاج لقولها في ذمتي بل لا يصح لأن القرض لا يصير في ذمتها إلا أن بان أن الإنفاق واجب عليها لفقد أبيه وجده كما تقرر ولا لقولها في ذمة الولد وإن كان له مال لأن نيتها كون الاقتراض له كاف إذ هي حينئذ نائبة عن القاضي في الاقتراض للولد والولي إذا اقترض لموليه لا يحتاج للتصريح باسمه بل يكفي نيته فاندفع قول السائل فهذا يشكل الخ، والذي تستحقه الحاضنة على من لزمته نفقة المحضون هو أجرة إرضاعها إن كان رضيعاً وإلا فأجرة خدمتها إلى أن ينتهي زمن الحضانة باختيار غيرها أو بالبلوغ مع صلاح الدنيا، قالوا وعلى المستأجر للحضانة حفظ الطفل وتعهده بغسل رأسه وبدنه وثيابه وتطهيره وتدهينه وتكحيله وإضجاعه في نحو مهد وربطه وتحريكه للنوم ونحو ذلك مما يحتاج إليه لاقتضاء اسم الحضانة عرفاً لذلك ولا تستتبع الحضانة الإرضاع في الإجارة وعكسه لأن كلاً منهما يفرد(6/89)
بالعقد كسائر المنافع نعم إن كانت الحضانة للأم ولم يكن ثم منفق غيرها لم تستحق شيئاً لأن نفقة المحضون لازمة لها حينئذ ونقل
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205
الأزرق في نفائسه عن الإمام العامري أن القاضي لو قال للأم ارضعي الطفل واحضنيه ولك الرجوع على الأب رجعت عليه من غير عقد إجارة، ونقل فيها خلافاً بين بعض فقهاء اليمن فيما إذا حضنت من لها حق الحضانة بقصد الرجوع وأشهدت عليه ومضى زمن ولم تطالب بها ولا رفعت أمرها لحاكم فقال بعضهم تسقط كنفقة القريب، وقال بعضهم لا تسقط وصوّبه الأزرق قال واختاره في الشامل والوجه كما علم مما قررته أوّلاً أن السقوط محمول على ما إذا كان الأب حاضراً وتيسرت مطالبته فتركتهما وإن عدمه محمول على ما إذا كان غائباً وتعذر عليها الرفع إلى القاضي ثم الإشهاد على أن قضية ما مر عن البلقيني أنه لا سقوط مطلقاً إلا أن يفرق وظاهر كلامهم أنه لا يكفي من استؤجرت للإرضاع شراء لبن للطفل، ويؤيده قول ابن الصلاح لو استأجرها لإرضاعه فأرضعت معه آخر فإن نقص ما هو مستحق عليها بالإجارة ثبت الفسخ وإلا فلا، وقولهم لو عقد الإجارة على الإرضاع والحضانة فانقطع اللبن انفسخ العقد فيه وحده وسقط قسطه من الأجرة لأن كلاً منهما مقصود، وفي الروضة وغيرها وإن نوزع فيه أن على المرضعة الغذاء بما يدر لبنها وللمكتري أن يطالبها بأكل ما يدره فأفهمت عباراتهم هذه أنه لا يقوم مقام إرضاعها شراؤها لبناً وسقيه إياه وإن فرض الاغتذاء به وهو ظاهر لأن السقي لا يقوم مقام الإرضاع من كل وجه كما هو مشاهد بل ربما أوجب سقي اللبن المشترى للولد ضرراً ظاهراً لو اقتصر عليه من غير إرضاع والإجارة للإرضاع وحده صحيحة كما مر، وتقدر بالزمان فقط لأن تقدير اللبن وما يستوفيه الصبي كل مرة وضبط المرات إنما يتأتى بالزمن لا غير وتجب رؤية الصبي وتعيين موضع الإرضاع أهو بيته أم بيتها لاختلاف الغرض بذلك كذا(6/90)
صرحوا به، وبه يندفع قول السائل لأن الأصحاب الخ ولا يجب على المستأجرة للإرضاع أن تضيف إلى لبنها الذي ترضع به الولد سمناً ولا غيره كما هو ظاهر من كلامهم بل لو شرط ذلك عليها فسدت الإجارة لأنه شرط ينافي مقتضاها وللحاكم بل عليه أن يزيد فيما فرضه للولد وأن ينقص عنه بحسب ما ظهر له مما يقتضي ذلك وليس هذا نقضاً لتقديره الأول لأنه كان لمصلحة فإذا بان أن المصلحة في خلافها انتهى الحكم الأول لانتهائها بما ظهر للقاضي من أن المصلحة في غيرها، ومر أن نفقة القريب غير مقدرة وأنها الكفاية فللمنفق حينئذ بذلها على أي كيفية شاء حيث لا مانع ومثله في ذلك وكيله، وكذا الوصي والقيم والحاكم فإن شاء أنفق عليه في بيت حاضنته أو في بيت نفسه وللحاكم الشافعي إن لم يتقدم حكم مخالف الحكم له بما قررناه، نعم غير المميز وكذا المجنون والأنثى المميزة إذا اختارت الأم فهؤلاء الثلاثة يكونون عند الأم ليلاً ونهاراً لاستواء الزمان في حقهم فيزورهم الأب على العادة ولا يطلب إحضارهم عنده ويتفقد حالهم ويلاحظهم بتحمل مؤنتهم وتأديب الأنثى وتعليمها. وفي الجواهر إذا طلقت من لها الحضانة وهي في منزلها فلها إرضاعه في الحال بغير إذن الزوج فإن كانت رجعية فأرضعته بغير إذنه فالمذهب أنها تستحق النفقة عليه، وقول أبي علي عندي إنها كالتي في صلب النكاح غلطه الإمام فيه وحكم المتوفي عنها زوجها إذا قلنا تستحق السكنى حكم المطلقة البائن، ثم قال ولو اختار أمه فعلى أبيه مؤنة كفالته كما يجب عليه مؤنة الحضانة وهي أقل غالباً. قال الإمام: وإنما تجب مؤنة الحضانة إذا لم يقم بها بنفسه، وقال غيره الذي يظهر وجوب أجرتها وأنه لا يجاب إلى توليها بنفسه. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/91)
الماوردي : ولو احتاج الولد إلى خدمة في الحضانة أو الكفالة، والفرق بينهما أن الأولى إلى التمييز والثانية منه إلى البلوغ أي وقال غيره تسمى حضانة أيضاً، ومثله ممن يخدم قام الأب باستئجار خادم أو ابتياعه على حسب عادة أمثاله ولا يلزم الأم مع استحقاقها حضانته أن تقوم بخدمته إذا كان مثلها لا يخدم سواء في ذلك الغلام والجارية اهـ، وما أفهمه كلامه من أن الأم المعتادة للخدمة تلزمها الخدمة وهو بعيد بل غير مراد بل هي على الأب كما يصرح به كلامه أو لا لأنها من جملة كفايته فإن وجب الإنفاق على الأم لزمها الخدمة بنفسها أو غيرها سواء اعتادتها أم لا. ومن شروط الحضانة عدالة الحاضنة، العدالة الظاهرة، فلا حضانة لفاسقة وصغيرة وسفيهة ومغفلة فإن وقع تنازع في ثبوت الأهلية فإن كان بعد تسليم الولد لم ينزع ممن تسلمه ويقبل قوله في الأهلية وإن تنازعا في ثبوتها قبل التسليم فلا بد من بينة إذا تقرر هذا، فإن أثبت في حاضنة بنته نحو فسق انتزعها منها وإلا فلا لكن له منع من يدخل على بنته ممن يخشى منه الريبة ويجوز للزوج منع ولد الزوجة من الدخول إليها إن كانت ساكنة بمحل يستحق منفعته دون ما إذا كانت ساكنة بملكها إن تبرعت له بالسكنى فيه، وسواء في الحالة الأولى كان الزوج المانع غائباً أم حاضراً، فإن أدخلته بغير رضاه أثمت ولا تكون ناشزة كما هو ظاهر. نعم إن كان إخراجه لغير المميز يضره لزمه رفع الأمر للقاضي فإن تعدى وأخرجه فكسره أو قتله جان آخر أثم الزوج والضمان على الجاني أو مالكه المقصر لأنه المباشر.(6/92)
وسئل نفع الله بما صورته هل للولي أو للحاكم الشرعي أن يستأجر للولد امرأة لرضاعه وامرأة أخرى لحضانته إذا رأى ذلك مصلحة للولد سواء كانت إحداهما أما أو كانتا أجنبيتين، فإذا قلتم نعم فلا يخفى عليكم ما في هذا من المشقة على الولد ولا سيما إن كانت كل امرأة في محل بعيد عن صاحبتها، وهل يشترط أن تكون الحاضنة ذات لبن لترضعه مرة وتحضنه أخرى أم لا يشترط ذلك؟ فإن كانت الحاضنة الشرعية غير ذات لبن هل تسقط حضانتها أم تحضنه ويشتري له لبناً وما يحتاج إليه وليه الشرعي أم تنتقل الحضانة عنها إلى غيرها من الحاضنات بعدها إذا كانت ذات لبن أم لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: الأم متى استحقت الحضانة وكانت مرضعة ورضيت بأجرة المثل ولم يوجد من ترضى بأقل منها فلا يجوز استئجار غيرها لحضانة ولا لرضاع كما علم مما مر في السؤال الأول لاستحقاقها لهما فلا يجوز نقلهما إلى غيرها بدون رضاها وإن كانت غير لبون أو امتنعت من إرضاعه أو لم تكن حاضنة جاز استئجار واحدة للإرضاع وأخرى للحضانة كما علم مما مر، ثم أيضاً ولا عسر في ذلك لسهولة اجتماع المستأجرتين في محل واحد والذي أفهمه كلام الروضة وأصلها ونقله في المحرر عن الأكثرين واعتمده ابن الرفعة وغيره أنه يشترط في استحقاق الحضانة كونها مرضعة لطفل احتيج إلى إرضاعه فإن لم يكن لها لبن أو امتنعت من الإرضاع فلا حضانة لها لعسر استئجار مرضعة تترك منزلها وتنتقل إلى مسكن المرأة ونظر فيمن لا لبن لها بأن غايتها أن تكون كالأب وبأن كلام الأئمة يقتضي الجزم بأنه لا يشترط كونها ذات لبن والأوجه وفاقاً للبلقيني وغيره استحقاق من لا لبن لها، بل قال البلقيني لا خلاف في استحقاقها وأما من لها لبن وامتنعت من إرضاعه فلا حضانة لها وهو محمل كلام الشيخين والأكثرين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/93)
وسئل عن إعفاف الأصل هل من شرطه أن يكون فاضلاً عن قوت الفرع وقوت زوجته فقط كالنفقة أم لا بد أن يكون موسراً زائداً على ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: الوجه أن اليسار هنا معتبر بما ذكروه في النفقة وعبارة شرحي للإرشاد لأنه من وجوه حاجاته المهمة فوجب على ابنه القادر عليه كالنفقة وقضيته أن العبرة في القدرة هنا بما يأتي في النفقة، وكلام التنبيه وغيره ظاهر في ذلك وإمكان الفرق بأن هذا ليس ضرورياً لإمكان الصبر عنه بخلافها لا يؤثر هنا كما هو ظاهر اهـ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن رجل غاب عن زوجته ولم يترك مؤنتها فهل لها الفسخ وما شروطه وما كيفية لفظه؟. فأجاب بقوله: نعم لها الفسخ بشرط أن تقيم بينة عادلة تشهد عند قاض بإعساره عن أقل نفقتها وعن أقل مسكن يجب لها وعن أقل كسوتها، ويشترط أن تذكر البينة إعساره حال شهادتها ولا يكفي قولها غاب معسراً ولها أن تعتمد في الشهادة بإعساره في الحال استصحاب حالته التي غاب عليها وإن أمكن خلافها لأن الأصل بقاؤه على ما كان عليه، ولا تصرح البينة بالاستصحاب في شهادتها الموهم للتردد، فإنه يقتضي رد الشهادة فإذا ثبت إعساره عند القاضي فسخ هو بأن يقول فسخت نكاح فلان لفلانة أو أذن لها حتى تفسخ هي بأن تقول فسخت نكاح فلان لي فإن استقلت بالفسخ بلا إذن قاض لم ينفذ ظاهراً ولا باطناً ولو قدم الغائب، وادعى أن له مالاً في البلد لم تعلمه بينة الإعسار لم يقدح ذلك في صحة فسخ القاضي. نعم إن شهدت البينة بأن المرأة تعلمه وتقدر عليه بان بطلان الفسخ لأنه بان عدم وجود شرطه المجوز له، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/94)
وسئل عمن تزوج امرأة فقال لم أجدها بكراً وآذاها ووالديها بذلك فخرجت من كثرة أذاه من بيته واستمرت على ذلك مدة فهل تسقط نفقتها وكسوتها، وإذا قلتم نعم وقالت لم أخرج إلا لإيذائه فقط ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إن خرجت إلى الحاكم لتطلب منه أن يمنعه من إيذائها لم يكن ذلك نشوزاً فلا تسقط نفقتها ولا كسوتها وإن خرجت لغير الحاكم كانت ناشزة فتسقط نفقتها وكسوتها مدة إقامتها في غير بيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما إذا سلمت الزوجة نفسها إلى الزوج ومكنته ثم ادعى الزوج عدم التمكين من الوطء هل هو كدعوى النشوز فهو المطالب بالبينة أم لا؟ وقالوا في باب البينات لو ادعت التمكين فأنكر صدق بيمينه ولعل هذا في ابتداء التمكين أما بعد التمكين الأول فلا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: عدم التمكين من الوطء ونحوه بغير عذر شرعي هو من جملة أنواع النشوز فيأتي فيه ما ذكروه فيه على أنهم تعرضوا له بشخصه حيث قالوا لو اختلفا في النشوز صدقت بيمينها، لأن الأصل عدمه وبقاء التمكين فتأمل قولهم وبقاء التمكين تجده صريحاً في أنهم نصوا على أن المصدق في دوام التمكين هي ما لم تقم عليه بينة بخلافه، وقد صرحوا كما ذكره السائل بأنه هو المصدق في عدم التمكين ابتداء، لأن الأصل عدمه فهم مصرحون بالمسألتين وبالفرق بينهما كما علمت، وحينئذ فلا يحتاج لقول السائل ولعل هذا الخ، لأنه لو أمعن النظر وأنعمه في كلامهم لعلم منه أن هذا هو المنقول كما تقرر فلا يحتاج إلى بحثه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/95)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته المسلمين عما عمت به البلوى من أن الشخص يخاصم زوج بنته فيمنعه من الدخول عليها ويحبسها عنه وليس في البلد حاكم يمنعه من ذلك والزوج عاجز عن الدخول عليها وإسكانها في محل آخر خوفاً من أبيها وهي متضررة بعدم النفقة والكسوة فهل تستحق الفسخ والحالة هذه، وإذا زنت امرأة فعلم زوجها فهربت خوفاً على نفسها واضطرت للنفقة والكسوة فهل لها الفسخ أم لا؟. فأجاب عفا الله تعالى عنه بقوله: لا فسخ في واحدة من المسألتين لا من جهة الزوج ولا من جهة الزوجة لأن العجز عن الزوجة في ذلك نادر جداً وكذا عدم وصول النفقة والكسوة بسبب ما ذكر، وقد صرح الأئمة بأن الزوج الموسر لو امتنع من الإنفاق على الزوجة لم يكن لها الفسخ بذلك وعللوه بأنها تقدر على التخلص منه بالسلطان أو نائبه ثم قالوا فإن فرض عجز السلطان فهو أمر نادر والأمور النادرة تلحق بالغالب ولا تفرد بحكم يخصها بخلاف ما لو كان عجزه عن النفقة أو الكسوة مثلاً لإعساره، وثبت إعساره عند الحاكم فإنه يفسخ عليه به لأن الإعسار أمر يغلب وقوعه فلو منعنا الفسخ به كما قاله أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ لأضررنا بحال أكثر النساء اللاتي يقع لأزواجهن الإعسار، وبهذا يعلم أن النكاح يحتاط لحله من غير رضا من العصمة بيده وهو الزوج فلا يقدم عليه إلا بعد مزيد ضرورة يغلب سبب وقوعها، ولما نظر أبو حنيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى ذلك الاحتياط بالغ فيه، فمنع الفسخ في النكاح حتى بالإعسار وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/96)
وسئل عمن له أبوان محتاجان إن اكتسب لإنفاقهما فاته الاشتغال بالعلم المرجو منه تحصيله لو اشتغل به وإن اشتغل به ضاعا أو صارا كلاً على الناس فمن يقدم؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن أريد بالعلم الواجب على الكفاية قدم الكسب عليه لأنه فرض عين فوري وهو مقدم على فرض الكفاية وظاهر إطلاقهم وجوب الكسب لهما وإن قدرا على الكسب أنه يقدم الكسب لهما هنا مع قدرتهما على الكسب وإن فاته العلم لما تقرر أن فرض العين الفوري مقدم على فرض الكفاية أو الواجب عيناً فوراً كتعلم الفاتحة فهذا هو الذي يتردد النظر فيه، لأن كلاً منهما عيني فوري وقد تعارضا، فيحتمل أن يقال إنه يتخير بينهما ويحتمل تقديم الأبوين رعاية لحقهما المتأكد، ويحتمل تقديم التعلم أخذاً من قولهم لو تعارض شراء الماء للطهارة وستر العورة لها قدم الثاني لدوام نفعه فكذلك ينبغي تقديم التعلم لدوام نفعه وأيضاً فحق النفس مقدم على حق الغير كما قالوه في نظائر لذلك وهذا هو الذي ينبغي ترجيحه، وظاهر أن محل ذلك ما إذا لم يكن الأصل مضطراً وإلا قدم الكسب له لقولهم لو تعارض نحو إنقاذ غريق وإخراج الصلاة عن وقتها لزمه تقديم الأول، أي لأنه لا يتدارك لو فات والصلاة تتدارك لو فاتت وهل غير الأصل لو اضطر كذلك ظاهر كلامهم في مبحث الاضطرار لا وذلك أن كلامهم ثم ظاهر في أنه لا يجب إنقاذ المضطر بالكسب وإنما يجب على من معه طعام بشرط أن لا يكون مالكه مضطراً إليه حالاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 205(6/97)
باب الحضانة
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجل طلق زوجته طلاقاً بائناً وله منها بنت سنها خمس سنين وزوّجها والدها بشخص وأراد ذلك الشخص ينزعها من والدتها وينفق عليها ويربيها عنده في بيته أو عند من يختار فهل له ذلك وتسقط حضانة الأم بذلك أم لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا تسقط حضانة الأم بذلك، لأن الزوج إنما يكون أولى بالحضانة من جميع الأقارب حيث كان له بالزوجة استمتاع بأن تطيق الوطء وإلا لم تسلم له، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين هل له أن ينزع بنت عمه من أمها ويسكنها بقربه وإن كان بلده شاسعاً عن بلد الأم؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: له انتزاع بنت عمه من أمها التي لا حضانة لها ويسكنها عنده لكن بشرط أن لا يخلو بها بأن تكون عنده زوجته أو أمته أو بعض محارمه أو محارمها سواء أبعدت بلده عن بلد الأم أم لا؟ وهذا إن كانت غير رشيدة أو كان هناك ريبة وإلا سكنت حيث شاءت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين عمن طلق زوجته وله منها ولد رضيع ووجد له مرضعة متبرعة وطلبت الأم الأجرة فهل يلزمه لها أجرة وهل له نزعه منها غصباً عليها؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا يلزمه دفع أجرة لها مع وجود مرضعة متبرعة وإذا لم ترض الأم إلا بالأجرة وتبرعت غيرها وكانت أكثر من إدرار الأم جاز للأب نزع الولد منها كرهاً وإعطاؤه للمتبرعة.
وسئل عن الأم الحاضنة إذا طلبت أجرة المسكن الذي تحضن فيه أولادها هل يجب على الأب استئجار المسكن أو لا؟ وهل تسقط حضانتها إذا لم يكن لها مسكن أم لا؟ وهل يدخل في مؤنة الحضانة أجرة المسكن أم لا؟. فأجاب بقوله: الأم الحاضنة إن كانت في عصمة الزوج الأب فالإسكان عليه وإلا فليس لها إلا أجرة الحضانة فتستأجر منها مسكناً إن شاءت ولا تسقط حضانتها بعدم ملكها أو نحوه لمسكن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(6/98)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216
كتاب الجراح
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن استأجر سفينة من ولي الأمر لشحنها ببندر السويس إلى بندر جدة المعمورة وعاقد جماعة للركوب فيها بما معهم من الأحمال لكل منهم عدة معلومة بورقة تختص به، ثم إن ولي الأمر المشار إليه عين شخصاً للتوجه في السفينة المذكورة لإعانة المستأجر المذكور في شحنها وعمل مصالحها والذب عنها وعن ركبتها وكتب له مثال كريم بذلك ومن مضمونه التأكيد في شحنه جميع ما عين للمعاقدين المذكورين من الحمل المعين بأوراقهم المذكورة، ثم إن الشخص المذكور خالف ما أمر به من ذلك ولم يمتثله ولم يعمل به وامتنع من شحنه جميع ما عين للمعاقدين المذكورين في أوراقهم ولم يشحن لهم منها إلا البعض خاصة، والحال أن المستأجر المذكور جعل للمأمور المذكور جعالة معينة للتكلم عليه في الشحنة المذكورة بهذه السفينة على الحكم المأمور به المعين أعلاه واستمر على الامتناع من شحن بقية حمل المعاقدين المذكورين بطريق الافتيات والتعدي وأشحن بالسفينة المذكورة حمله وحمل من اختاره وبارز المعاقدين المذكورين بالسب والشتم وضرب واحداً منهم وكسر ذراعه وضرب غيره أيضاً كل ذلك بطريق الظلم والعدوان والضرر والطغيان من غير سبب ولا موجب وليس له في ذلك عذر شرعي ولا عرفي، ثم إن المعاقدين المذكورين تلطفوا بالمأمور المذكور وقالوا له أنت الآن راع ونحن رعيتك، وقد قال : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ، فقال: أنا لا أعتبر هذا الكلام ولا أعمل به، فقيل: إن هذا حديث رسول الله فقال لهم صريحاً لئن لم تنتهوا لأكفر فيكم وإنما مثلكم مثل الخنزير الذي اشتريته فإنه عندي أشرف منكم ومن جميع أهل مصر على العموم، ثم إنه أخذ في التكلم على سفينة ثانية غير السفينة المذكورة وأشحن بها باليد والقوة بقية حمل المعاقدين المذكورين المتأخر شحنه بالمركب المذكور أولاً وأركبهم بها وأخذ منهم أجرة(6/99)
ذلك كل ذلك بالجبر والإكراه والتغلب والإفتيات ثم إن المركب الثانية المذكورة سارت قليلاً وغرقت بجميع ما فيها من الأحمال والركاب ولم ينج منهم إلا القليل، وكان هذا التلف والضياع بمخالفة المأمور المذكور وافتياته وتعديه إذا كان الأمر كذلك فماذا يلزم المأمور المذكور ومخالفة ولي الأمر المشار إليه والامتناع من شحنه بقية حمل المعاقدين المذكورين بالمركب الأول المذكور وما يجب عليه في رد الجواب عن الحديث الشريف النبوي على قائله أفضل الصلاة والسلام بما ذكروه وما يجب عليه أيضاً في مقابلته
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216(6/100)
«إنما مثلكم مثل الخنزير الذي اشتريته وإن ذلك أشرف منكم ومن جميع أهل مصر على العموم» وعما صدر منه من السب والضرب وكسر ذراع الرجل المذكور وهل يلزمه أجرة بقية الحمل المذكور الذي أشحنه بالمركب الثانية وتلف بغرقها ولم يصل إلى محله وقيمة ما تلف بالمركب الثانية من الحمل الذي أشحنه فيها بالقهر والقوة كرهاً على أصحابه أم لا؟ وماذا يلزمه أيضاً فيمن غرق من الركاب بالمركب المذكورة عند إكراههم على الركوب فيها وهل تسقط الجعالة المعينة للمأمور المذكور لمخالفته المشروحة أم لا؟ وماذا يلزمه أيضاً بمخالفة ولي الأمر وما حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك أبسطوا لنا الجواب؟. فأجاب بقوله: اشتمل ما حكى عن هذا الظالم الفاسق المتمرد على قبائح ومثالب فيتعين على ولي الأمر أيد الله سبحانه وتعالى به الدين وقصم بسيف عدله الطغاة والملحدين أن يقابله على كل واحدة من ذلك إن ثبت عليه بما يناسبها من العقوبة الشديدة الأكيدة البليغة الزاجرة له ولأمثاله عن مثل هذه العظائم حسبما تقتضيه الشريعة الغراء والحجة الواضحة البيضاء التي ليلها كنهارها ونهارها كليلها فلا يزيغ عنها إلا هالك وبيان ذلك على وجهه يستدعي الكلام على كل واحدة مما ذكر عنه، فأما مخالفته لما أمره به ولي الأمر من النظر فيما ذكر بالمصلحة والرفق إلى الحيف والجور فيترتب عليه فيها العقوبة العظيمة المناسبة لقبيح حاله وعظيم جراءته حتى على ولي الأمر بمخالفته له فيما أمره به مما ذكر ومبارزته لأوامره التي يجب على كل الناس امتثالها والإذعان لها بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا شك أن العقوبة على هذه المخالفة تشتد وتتضاعف بحسب ما يناسب ذلك حتى يزجر الناس عن الوقوع في هذه الورطة القبيحة، وأما امتناعه من شحنه بقية حمل مال المستأجرين وشحنه بماله ومال غيره فيلزمه فيه أيضاً التعزير البليغ وأجرة ما شحنه فيه في مركبهم التي استحقوا منافعها، وأما الجعالة التي جعلت له في(6/101)
مقابلة التكلم على السفينة المذكورة بالمصلحة فلا يستحق منها شيئاً لأن ما فعله مما ذكر عنه عين المفسدة والجور المسودين لوجهه في الدنيا والآخرة والمقتضيين لتعميل حلول سطوات الانتقام به، وأما سبه وضربه وشتمه لمن ذكر فيعاقب عليه العقاب الشديد حتى ينزجر عنه وعن أمثاله من قبائحه، وأما كسر ذراع من ذكر فيعزر عليه كذلك ويلزمه فيه الحكومة بل قطع يده أو الدية أن يعرفوا شروط ذلك، وأما قوله لما قيل له الحديث المذكور على قائله أفضل الصلاة والسلام أنه لا يعتبر بهذا الكلام ولا يعمل به فقرينة حاله قاضية على أنه أراد بذلك السخرية والاستهزاء وحينئذ يكون كافراً مرتداً مراق الدم مهدره لا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة فيضرب عنقه إن لم يتب وكذا إن تاب على رأي قال به كثيرون، وأما قوله إن لم تنتهوا عن ذلك لأكفر فيكم فإن أراد تعليق الكفر على عدم انتهائهم أو التردد فيه عند ذلك كفر في الحال فيضرب عنقه إن لم يتب أيضاً، وأما قوله وإنما مثلكم مثل الخنزير الخ، فإنه يعزر عليه التعزير الأكيد البليغ الشديد المناسب لما في هذا الكلام الصادر منه من القبح والفظاعة والقساوة والجلافة ومزيد التجري على الله سبحانه وتعالى وأوليائه وأئمة دينه وغيرهم من المسلمين، وأما شحنه بقية حمل المستأجرين في السفينة فإنه يضمنه المثلى منه بمثله والمتقوم بقيمته، وأما أخذه الأجر ممن أركبه أو شحن ماله كرهاً فهو حرام عليه فيعزر عليه أيضاً وتنزع منه تلك الأجرة وترد لأربابها إذ لا أجرة عليهم وإن سلموا هم وأحمالهم، وأما جبر من غرق من أهل السفينة المذكورة الذين أكرههم على الركوب فيها فإن سيرها بهم وقصر في ذلك حتى غرقت فإن كان قد تعمد ذلك بما يقتل غالباً قتل بواحد منهم بالقرعة إن ماتوا معاً وإلا فبأولهم موتاً ويلزمه ديات الباقين أو بما لا يقتل غالباً فلا قصاص عليه لكن الواجب حينئذ دياتهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/102)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216
وسئل هل يقتل من يصلي بتارك الصلاة ففي شرح الروض ما قد يوهم أنه لا يقتل به بقوله بعد قول الأصل وللمضطر قتل حربي ومرتد ومن له عليه قصاص ليأكله، وكذا الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة وإن لم يأذن فيه الإمام لأن قتلهم مستحق وإنما اعتبرنا إذنه في غير حالة الضرورة تأدباً معه وحالة الضرورة ليس فيها رعاية أدب. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا يقتل المصلي بتارك الصلاة الذي كان تركه سبباً لإهدار دمه بأن وجدت فيه شروط الإهدار المذكورة في باب قتل تارك الصلاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين عن رجل ضرب حجراً فخرج منه شيء فأزال عين آخر ما الحكم فيه؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: من ضرب حجراً فخرج منه قطعة فأصابت عين آخر فأذهبتها لزم عاقلته ديتها وهي خمسون بعيراً، والله أعلم.
وسئل نفع الله تعالى به عن اليمين إذا تعلقت بالدم فهل تغلظ بالعدد وتكون خمسين يميناً كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب في القواعد الزركشية وسواء كان الدم لوثاً أو غير لوث فما الحكم في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن المنقول المعتمد أن كون اليمين تتعدد خمسين لا يختص باللوث بل تجب الخمسون على مدعى عليه القتل بلا لوث وعلى مدع له معه شاهد وفي اليمين المردودة ولو في غير اللوث من المدعى أو المدعي عليه ولو تعدد المدعى عليه حلف كل منهم خمسين يميناً أو المدعى حلف كل منهم بنسبة حقه لأن كلاً منهم لو انفرد لا يثبت لنفسه ما يثبته الواحد لو انفرد بل يثبت بعض الإرش فيحلف بقدر الحصة بخلاف المدعي عليهم فإن كلاً منهم ينفي ما ينفيه الواحد لو انفرد ويمين الجراحات وإن قلت أو لم يكن لها أرش مقدر كالنفس فيكون فيها خمسون يميناً بتفصيله المذكور، والله سبحانه أعلم.(6/103)
وسئل عن رجل مرض فأرسل إلى حكيم فجاء إليه وأمره بشربة فشربها فتعب لها تعباً شديداً بحيث قارب الموت ثم منّ الله سبحانه وتعالى عليه ببعض شيء من العافية ثم اشتد المرض فقال لورثته ما أنا لكم بصاحب، وسبب ذلك الشربة التي أسقانيها فلان ثم مات فما حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا قصاص ولا دية على الطبيب المذكور بمجرد أمره للمريض المذكور بشرب الدواء المذكور، والله أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216(6/104)
وسئل نفع الله تعالى به المسلمين سؤالاً صورته سئل بعض المفتين عما إذا جرح بهيمة غيره أو عبده ثم اندملت الجراحة وبقي أثرها ولم ينقص من قيمتها شيء فهل يجب عليه شيء أم لا؟ فأجاب بقوله لا يجب شيء في البهيمة والعبد وفي العبد خلاف، والصحيح أنه لا يجب أيضاً شيء والله أعلم فهل جوابكم كذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: أما ما ذكر عن بعض المفتين في مسألة البهيمة والعبد فيحتاج إلى تفصيل وهو أن البهيمة حيث اندمل جرحها ولا نقص فيها لا يجب على جارحها إلا التعزير ويشهد لذلك قول الفوراني الحيوان يخالف الجماد في شيء وهو أنه لا يضمن إلا بعد الاندمال والجماد يضمن في الحال بما نقص وجزم به في الأنوار فقال لو فقأ إحدى عيني حمار لم يجب في الحال شيء حتى يندمل ثم يجب ما بين قيمته صحيح العين ومفقوؤها قال: ولو قال المالك لا أداويه حتى يموت أجبره الحاكم أي على مداواته، ولو قال الجاني مكني من مداواته لم يلزمه التمكين منه، وأما الرقيق فإن قطع منه ما يقدر في الحر كاليد لزمه نصف القيمة في هذا المثال مطلقاً سواء أبرىء ولم تنقص قيمته أم نقصت بقدر نصف القيمة أم أقل أم أكثر، وإن جرح جرحاً لا مقدر له فيه من الحر فبرىء ولم تنقص قيمته كأن قطع منه أصبعاً زائدة فبرىء ولم تنقص قيمته. فقال ابن سريج : لا شيء عليه. وقال أبو إسحاق : يلزمه ما نقص ويقوّم قبل البرء والدم سائل للضرورة، وهذا الثاني هو الذي ينبغي ترجيحه لقولهم في الجناية على الحر إن أثر الجناية عليه من ضعف أو شين إذا بقي بعد البرء وجبت الحكومة وإن لم يبق، فإن كانت الجناية جرحاً أو كسراً ولم ينقص بعد الاندمال شيء من منفعة أو جمال كقلع سن أو أصبع زائدة اعتبر أقرب نقص إلى الاندمال ثم ما قبله وهكذا إلى حال سيلان الدم حتى تنقص القيمة لتأثرها بالخوف والخطر فإن لم ينقص به شيء ولا حال سيلان الدم فهل يعزر فقط أو يعزر ويفرض القاضي عليه شيئاً باجتهاده وجهان، رجح(6/105)
البلقيني الثاني وإن كانت الجناية غير جرح ولا كسر كإزالة الشعور واللطمة لم يجب شيء سوى التعزير فتأمل هذا الذي ذكروه في باب الجنايات فإنه قاض بترجيح كلام أبي إسحاق فعلم أن إطلاق بعض المفتين أنه لا يجب شيء في العبد إطلاق في محل التقييد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216
وسئل نفع الله تعالى به بما لفظه إذا قلتم على المذهب أن الأب وإن علا وابن وإن سفل والقاتل ليسوا هم من العاقلة ولا يحملون من الدية شيئاً وإذا قلتم أيضاً أن الدية مؤجلة في ثلاث سنين من حين القتل وأن أكثر ما يجعل على الموسر نصف دينار وعلى المتوسط ربع وأنها على الأقرب فالأقرب وأنها على العاقلة التي في بلد الجاني ومن كان في غير بلده في إقليم آخر ليس عليه شيء فإذا كان القاتل غنياً والعاقلة فقراء أو كانوا كلهم فقراء فعلى من عليه نفقته أم تسقط أم إلى اليسار أم في بيت المال وإذا كان القريب في غير بلد الجاني والأبعد في بلده هل تسقط عنهما أو تلزمهما أو أحدهما وإذا كان القريب في حال الجناية في إقليم آخر ثم حضر بعدها إلى بلد الجاني هل تلزمه أم لا تلزمه، وإذا قلتم أنها من حين القتل وإذا كان القريب واحداً أو اثنين أو ثلاثة مثلاً موسرين أو متوسطين كيف تقسط الدية عليهم في ثلاث سنين، والحال أن الموسر ألزمتموه بنصف دينار والمتوسط ربع دينار، ولا شك أن هذا التقسيط لا يفي في مدة ثلاث سنين بالدية فإذا مضت المدة والدية باقية ما الحكم في ذلك؟ وكيف تلزم العاقلة الدنانير والحال أن الواجب عليهم الإبل المعلومة في الخطأ وهي مائة مخمسة وليس العدول عنها إلا بالصلح فإذا امتنعت أصحاب الدم من الصلح فكيف توزع الإبل عليهم في ثلاث سنين إذا كانوا ثلاثة أو أقل أوضحوا لنا ذلك وضوحاً شافياً؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: ما ذكره السائل نفع الله سبحانه وتعالى به من اختصاص الضرب بعاقلة بلد الجاني على(6/106)
الإطلاق لم أر من قال به هكذا وإنما الخلاف في ذلك مقيد بما يعلم من ذكر تفاصيل المسألة وهي أن العاقلة إن كانوا حاضرين ببلد الجناية ضربت الدية عليهم على ترتيبهم المعروف وإن غابوا ولهم ثم مال أخذ منه وإلا حكم القاضي عليهم بالدية على ترتيبهم، وكتب بذلك إلى حاكم بلدهم ليأخذها منهم وله أن يكتب بالقتل إليه ليحكم عليهم بها ويأخذها منهم وإن حضر بعضهم بها وغاب بعضهم فإن استوى الجميع درجة فهل يقدم من حضر قولان أحدهما وبه قال مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ نعم لاختصاصهم بقرب المكان فهم كالمختصين بقرب القرابة، ولأن النصرة التي هي ملحظ التحمل إنما هي بهم ولأن في الضرب على الغائبين مشقة وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما تضرب على الكل لاستوائهم في العصوبة والميراث وعلى هذا فالحكم كما لو حضروا جميعاً أو غابوا جميعاً فيما مر وعلى الضعيف إذا لم يف الحاضرون ضرب على الغائبين ويكتب القاضي كما مر، وعليه أيضاً إذا اختلفت بلادهم قدم الأقرب داراً فالأقرب هكذا أورد القولين أكثر الأصحاب، وبعضهم قطع بالقول الأصح، وبعضهم حكاهما على غير ما مر، والحاصل أن المعتمد من المذهب عند الأصحاب أنه لا نظر لاختلاف البلدان فتضرب على الأقارب وإن اختلفت دورهم سواء الحاضر والغائب ولا يقدم بقرب دار مطلقاً وجميع التفاريع التي ذكرها السائل على ما ذكره من الاختصاص لمن ببلد الجاني لا جواب لها، وأما تفاريع القول الضعيف الذي حكيناه فقد أشرنا إليها فتأملها، نعم من تلك التفاريع ما يتأتى على المذهب فلنذكر جوابه وهو أنه ليس المراد بالضرب على العاقلة أنه يضرب عليهم الجميع مطلقاً بل الواجب عليهم في كل سنة من الدية الكاملة الثلث فيوزع عليهم مع رعاية أن الغني لا يزاد على نصف والمتوسط لا يزاد على ربع فإن وفى الأقربون بها لكثرتهم وإلا ضرب على من بعدهم وهكذا حتى لا يبقى منهم أحد فإن فضل شيء فعلى عصبة الولاء فإن فضل شيء فعلى(6/107)
بيت المال فإن فضل شيء فعلى الجاني، وكذا يفعل في السنة الثانية والسنة الثالثة وإن كان الواجب أكثر من الدية الكاملة لم يزادوا على الثلث في كل سنة ولا تزاد السنون على ثلاث وإن كان أنقص وزع الثلث في الأولى وأدون منه فإن زاد عليه شيء إلى الثلث الثاني وزع عليهم في سنة ثانية وإن زاد شيء على الثلث الثاني وزع عليهم في سنة ثالثة ولا يمكن أن يزاد على الغني أكثر من دينار ونصف في الثلاث مطلقاً ولا على المتوسط أكثر من ثلاثة أرباع دينار في الثلاث مطلقاً ثم المأخوذ منهم إنما هو نقد البلد ثم ما تحصل منه اشترى به الواجب من الإبل وهكذا يفعل في كل سنة من الثلاث.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216
وسئل عن رجل أزال بكارة زوجته بغير ذكره ثم طلقها قبل الدخول فهل يلزمه شيء غير نصف مهرها لتفويت البكارة عليها؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا يلزمه شيء لإزالة البكارة لأنه يستحقها لكنه يعزر لكونه أذاها بإزالتها بغير الذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/108)
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين عما إذا داوى طبيب غيره فهل يضمن؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن كان غير عارف بالطب وتولد الهلاك من ذلك الدواء بقول عدلين ضمن لخبر أبي داود في سننه وابن ماجه أنه قال: «من يطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن» وبذلك جزم صاحب الأنوار وغيره، بل نقل ابن سريج فيه الإجماع وإن عرف الطب وأخطأ لم يضمن كما ذكره ابن سريج وغيره، وخصه ابن الصلاح بما إذا قال داوني بهذا أما إذا قال داوني من غير تعيين فيضمن واعتمد بعضهم الأول فقال لا يضمن العارف مطلقاً حيث أخطأ، واستدل له في الخادم بحديث المشجوج الذي أمروه بالغسل فمات فقال : «قتلوه قتلهم الله» ولم ينقل عنه أنه ضمنهم هذا كله إذا باشر الطبيب الدواء بنفسه كأن قال له ابلع هذا ففي المميز تجب الدية وفي غيره يجب القود بشروطه، وأما إذا لم يباشر كأن قال تفعل كذا أو أعطى الدواء غيره فإنه وإن لم يضمن عليه التعزير ما لم يخطىء ويعذر في خطئه ويتعين على الحاكم منعه صوناً لدماء المسلمين وأبدانهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل هل في الظفر حكومة؟. فأجاب بقوله الظاهر كما بحثه بعضهم أنه لا حكومة فيه إذا لم يفسد منبته بخلاف ما إذا أفسده فإنه تجب فيه حكومة كالشعر فيهما.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216(6/109)
وسئل عما إذا حضر نساء ولادة ذكر فقطعت إحداهن سرته من غير ربط ونهاها الباقيات فمات بعد القطع بقليل فهل يقتلن أو هي فقط؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: إن كان القطع مع عدم الربط يقتل غالباً فهو عمد موجب للقود عليها وهو ظاهر إن منعت الباقيات من الربط لو أردن فعله، أما إذا لم يردنه فهن آثمات أيضاً لأنه يلزمهن جميعاً فإذا تركنه من غير منع كان لهن دخل في الجناية على ما بحثه بعضهم، واستدل لذلك بقول الشيخين : لو فصد شخصاً ومنع المفصود من العصب لزمه القود قال فعلقا وجوب القود بالمنع فكذا هنا لا يلزمها قود إلا إن منعتهن اهـ وفيه نظر ظاهر وغاية الأمر المترتبة على ما زعمه أنها مباشرة وهن متسببات والمباشرة مقدمة على أنهن في الحقيقة لسن متسببات أيضاً لأنه لم يصدر منهن فعل أصلاً، وإنما صدر منهن ترك وهي استقلت بالقطع مع عدم الربط فإذا كان مهلكاً لم يباشر المهلك غيرها وإذا لم يباشره غيرها لم يكن لها شريك أصلاً، فالوجه وجوب القود عليها إن تعمدت قتله بما يقتل غالباً فإن عفي عنها على مال فدية العمد وإن لم يقتل غالباً فعلى عاقلتها دية شبه العمد ولا دليل له في مسألة المفصود لأن تركه العصب مع قدرته عليه صيره قاتلاً لنفسه وقاطعاً لفعل الفاصد، لأن الفصد بذاته ليس هو القاتل، وإنما القاتل ترك العصب وليس في مسألتنا نظير ذلك لأنه لم يصدر فيها من المقطوع ما يقطع فعل القاطع فنيط الهلاك به ونظير مسألتنا ما لو فصد غير مميز وعنده جماعة فتهاونوا في ربط محل الفصد حتى مات وقضية كلام الأصحاب أن القود في هذه على الفاصد وحده دون الحاضرين لما قررته من أنه المباشر وحده ولا قاطع لفعله من المفصود، ويلزم ذلك الباحث أنه لا قود على أحد من هؤلاء لا الفاصد ولا غيره وهو في غاية البعد، فالقياس وجوب القود عليها، بل لو قيل بوجوبه على الكل لم يبعد لأن نفس القطع هنا كالفصد في كونه غير مهلك في حد ذاته، وإنما المهلك ترك(6/110)
الربط هنا وثم لأن البرء موثوق به لو ربط في العادة المطردة فالهلاك ينسب إليهن كلهن فيلزمهن القود وإلا فدية العمد موزعة على رؤوسهن وأما لزوم الضمان لها دونهن الذي زعمه ذلك الباحث فبعيد جداً ومما يبعده أنه ناقض نفسه لأنه جعل لهن دخلاً في الجناية بالنسبة لعدم وجوب القود عليها وعدم دخل فيها بالنسبة لعدم وجوب شيء عليهن ولا على عاقلتهن وهو تحكم غير مرضي والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه عن قول التاج السبكي في ألغازه ومن يزدجرمه وينقص مؤاخذة ويفتدي بعض ما يجنيه كالهدر. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: جرمه أن ضم أوله فهو فيمن فعل صغيرة ثم أراد كبيرة ثم تركها خوفاً من الله سبحانه وتعالى فتركه للكبيرة بعد العزم عليها مكفر لتلك الصغيرة التي ارتكبها وإن كسر فهو في الميزان إن وقع كله فأتلف فنصف الضمان أو نصفه فكل الضمان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 216(6/111)
باب دعوى الدم والقسامة
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين عن زوجين متناكحين أو رجلين أو جماعة في سفر أو بيت ودار كبيرة بها سكان أو في صحنها أو سكتها النافذة أو غير النافذة وجدنا بينهم منهم أو من غيرهم قتيلاً أو ميتاً يحتمل موته وخنقه هل يكون هذا لوثاً في الجميع أو في البعض؟ بينوا لنا ذلك فإذا قلتم بأنه لوث في المسائل كلها فهل يدعي وليه على الجماعة أو السكان الذين بالدار جميعاً لاحتمال تواطئهم على ذلك وقتلهم جميعاً أو على واحد منهم بعينه إذا غلب على ظنه أنه قتله ويقسم عليه خمسين يميناً إذا أنكر وتسقط الدعوى عن الباقين بمجرد الدعوى على الواحد المعين أم لا؟ وإذا قلتم لا لوث ولا دعوى ولا قسامة على من ذكر أو لا فهل له الدعوى على غير من ذكر أعلاه إذا ظنه واتهمه وهل يقسم عليه خمسين يميناً إذا أنكر أو يحلف المدعى عليه يميناً واحدة ويبرأ من ذلك كسائر الدعاوى وهل فرق بين أن يكون بين القتيل وبين من عنده عداوة أم لا؟ وإذا شهد اثنان من الجماعة أو السكان المذكورين على واحد منهم أو من غيرهم أنه القاتل هل تقبل شهادتهما أم لا تقبل لأنها تدفع عنهما ضرراً؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا بد في اللوث والقسامة من ظهور أثر كالخنق والعض والجرح فإن لم يوجد أثر فلا لوث ولا قسامة لاحتمال موته فجأة والأصل عدم تعرض غيره له، فلا بد أن يعلم أنه قتيل ليبحث عن قاتله هذا ما صححه الشيخان وأطال الإسنوى في رده وأن المذهب المنصور وقول الجمهور أنه يثبت اللوث والقسامة فعلى الأول المعتمد للولي أن يدعي على من شاء من أهل تلك الدار مثلاً وعلى كلهم لكن اليمين هنا على المدعي عليه فيحلف خمسين يميناً وعلى الثاني يتأتى هنا ما قالوه أن من اللوث أن يوجد قتيل في مسكن لعدوه كحصن أو قرية صغيرة أو محلة منفردة عن البلد الكبير ولم يساكنهم غيرهم عند الشيخين واعترضهما جمع وقالوا المنقول المعتمد اعتبار أن لا يخالطهم غيرهم، والمراد بالغير على كلا(6/112)
القولين من لم تعلم صداقته للقتيل ولا كونه من أهله وإلا فاللوث موجود فلا يمنع القسامة. قال العمراني : ولو لم يدخل ذلك المكان غير أهله لم تعتبر العداوة فيكون وجود قتيل بينهم لوثاً في حقهم وإن كانوا غير أعدائه ولا تسقط الدعوى عن باقيهم بمجرد الدعوى على واحد معين منهم وتقبل شهادة عدلين منهم بأن فلاناً قتله ما لم يكذبهما الولي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 221
وسئل نفع الله تعالى ببركته المسلمين عن تعيين المجروح لجارحه هل هو لوث في حقه أم لا؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: ليس ذلك بلوث عندنا لضعف القرينة فيه، فإن قلت يشكل عليه قول الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ يصح إقرار المريض بدين أو عين لوارث وغيره لأنه وصل إلى حالة يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر فإذا كان وصل إلى هذه الحالة فلم لا يكون تعيينه لجارحه لوثاً، لأن وصوله إلى هذه الحالة يؤكد ظن صدقه ومدار اللوث على مؤكد ظن هنا الصدق، قلت قد عارض تلك القرينة غلبة وقوع الضغائن بين المجروح والمتهمين بجرحه فكان في تعيينه ما يؤكد عدم ظن صدقه فلم يعمل به، وأما ثم فلا قرينة تنافي ما دل عليه حاله من الصدق فعمل بقوله وصححنا إقراره إذ لا عذر لمن أقر وأيضاً فالحق هنا له إذ الدية له، وإنما تنتقل لورثته عنه فلم يقبل قوله فيه مطلقاً للتهمة، وأما ثم فهو مقر على نفسه بالحق لغيره فلا تهمة فيه فقبل مطلقاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 221(6/113)
باب البغاة
وسئل هل يجوز حضور المسلمين الحروب التي تقع فيما بين الكفرة للمشاهدة والتفرج أو لا يجوز لما في ذلك من تكثير جمعهم وإعانتهم على ظلمهم وتحسين طائفة وتقبيح أخرى ووجود الخطر فإنه ربما تصل أسهمهم إلى الناظرين وكان مشايخنا من أهل مليبار يمنعون المسلمين من حضورهم حروبهم وهل يجوز قتال المسلمين مع إحدى الطائفتين من الكفار حتى يقتل أو يقتل من غير حاجة إلى ذلك أو لا؟ وهل يؤجر لأنه إما أن يقتل كافراً أو يقتله كافر وهل يعامل به معاملة الشهيد؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: إذا وقع قتال بين طائفتين من الحربيين لم يحرم الحضور لأن كلاً من الطائفتين مهدر فالقتل فيهما واقع في محله فليس ثم معصية أقر عليها المتفرج بحضوره، نعم إن خشي لا على ندور عود ضرر عليه من الحضور حرم عليه، ولعل منع المشايخ المذكورين الحضور كان لأجل ذلك وللمسلمين أن يقاتلوا كلا من الطائفتين وأن يقاتلوا إحداهما لا بقصد نصرة الطائفة الأخرى بل بقصد إعلاء كلمة الإسلام وإلحاق النكاية في أعداء الله تعالى ومن فعل ذلك بهذا القصد حصل له أجر المجاهد لقوله في خبر البخاري وغيره: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ، ولا شك أن من قاتل إحدى الطائفتين بقصد ذلك كان كذلك حتى إذا قتل في الحرب أو انقضت وحركته حركة مذبوح أو وليس به حياة مستقرة عومل معاملة الشهيد في الدنيا والآخرة فلا يغسل ولا يصلى عليه. نعم يشترط أن يعلم مريد القتال أنه يبلغ نوع نكاية فيهم، أما لو علم أنه بمجرد أن يبرز للقتال بادروه بالقتل من غير أدنى نكاية فيهم فلا يجوز له قتالهم حينئذ لأنه يقتل نفسه من غير فائدة البتة فيكون عليه إثم قاتل نفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/114)
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين هل غير قرشي عد من أمراء المؤمنين في زمن الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م على ألسنتهم فمن هو ولمن يحكم؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: هو أسامة مولى رسول الله أمره على جيش فيه أبو بكر وعمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما فلم يخرج حتى توفي رسول الله ، فبعثه أبو بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ إلى الشام وكان الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م في ذلك السفر يدعونه أمير المؤمنين، وقد كان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يدعوه بذلك ويقول له مات رسول الله وأنت عليّ أمير.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 222
وسئل نفعنا الله تعالى بعلومه عمن هو من المسلمين ويسكن في بلاد المشركين الحربيين وإذا وصل إليهم من يكون له التكلم في البلد خرجوا إليه ولاقوه وكثروا سواده وركبوا معه وزادوا في صفوفه فهل يجوز لهم ذلك أم لا؟ وإذا قلتم بعدم الجواز فما يلزمهم بهذه الفعلة وما الحكم في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن خشوا ضرراً على نحو أنفسهم أو مالهم إن لم يفعلوا ذلك جاز لهم فعله وإن لم يخشوا شيئاً لم يجز لهم شيء مما فيه تعظيم الكافر فيعزر من فعل ذلك التعزير البليغ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه هل يجوز للمسلم أن يقبل يد الحربي المشرك وأن يقوم إليه وأن يصافحه وأن يتخضع إليه وكل ذلك ليناله منه مالية وإذا قلتم بعدم الجواز فما يترتب عليه وماذا يلزمه؟. فأجاب بقوله: لا يجوز للمسلم أن يعظم الكافر بنوع من أنواع التعظيم سواء المذكورات وغيرها، ومن فعل ذلك طمعاً في مال الكافر فهو آثم جاهل كيف وقد قال : «من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه» فإذا كان التواضع للمسلم الغني يذهب ثلثي الدين فما بالك بالتواضع للكافر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 222(6/115)
باب الأشربة والمخدرات
وسئل نفع الله تعالى بعلومه المسلمين عن مسألة فأجاب فيها بجواب مختصر ثم بلغه أن بعض المفتين أفتى فيها بخلاف ذلك فصنف فيها تصنيفاً سماه تحذير الثقات من استعمال القات لأنه في حكم الفتاوى باعتبار أصله كما علم مما تقرر، وذلك المصنف أحمدك اللهم أن مننت على المصطفين من عبادك بمجانبة سبل الشبهات وحبوتهم بأن يذودوا الناس عن أن يحوموا حول حمى المسكرات والمخدرات وسائر المحرمات، وأشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة أنجو بها من قبيح المخالفات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدك ورسولك الذي أرسلته مكملاً لسائر الحضرات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه حماة الدين الأوفى وكماة فتح الأرجاء الذين نصروا الحق وأشادوا فخره ودمغوا الباطل وأهله وأماتوا ذكره ما عبثت بخوامد القرائح أرواح القبول فحركتها إلى أن ظفرت ببلوغ المأمول.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/116)
كتاب تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات
أما بعد: فهذا تأليف شريف وأنموذج لطيف سميته تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات وسببه أنه ورد عليّ بمكة المشرفة من محروستي صنعاء وزبيد أدام الله تعالى لعلمائهما غايات التوفيق والتسديد كتب مصنفة وآراء مختلفة وطلب مني التعريض عليها والتقرير لما فيها من حكم القات تحليلاً وتحريماً وتخصيصاً وتعميماً فتصفحتها فإذا هي متسعة الفجاج قوية الحجاج محكمة الأطناب سانحة الأطناب شامخة الذرى رافضة المرى رافلة في حلل الإتقان واضحة الأدلة والبرهان غير متباينة عند التحقيق لاتفاقها على الحكم، وإنما اختلف في الطريق كما سيتضح، وبه الصدر إن شاء الله سبحانه وتعالى ينشرح لكنه اختلاف استند كل من طرفيه إلى الواقع في التجربة والاختبار والمعوّل عليه بالمشاهدة والأخبار، فلذلك أظلمت هذه الحادثة القلوب، وحق لنا أن نفوّض حقيقة الأمر فيها إلى علام الغيوب، إذ الحجة إما عقلية أو نقلية أو مركبة منهما، والعقلية لا يعتد بها إلا إن كانت مقدماتها يقينية لأنها حينئذ لا تنتج إلا قطعياً حقاً ولازم الحق وهي ما يجزم بها العقل بمجرد تصور طرفيها أو بواسطة أو الحس أو كلاهما كالمتواترات والتجريبات والحدسيات والنقلية ما صح نقله عمن عرف صدقه عقلاً وهم الأنبياء عليهم الصلاة وأتم السلام، ويفيد العلم وكذا الظن إن صحبها تواتر مع انتفاء الاحتمالات الآتية، ولا يفيد غير ذلك لا غيره عند أكثر أهل السنة والمعتزلة والحق أنه قد يفيد العلم ولو مع عدم التواتر بمعونة قرينة شوهدت أو تواترت تؤذن بنفي الاحتمالات التسعة المقررة في محلها وهي العلم بعصمة رواة العربية لغة ونحواً وصرفاً وعدم النقل وعدم المجاز وعدم الاشتراك وعدم الإضمار وعدم النسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي الذي لو وجد لقدم على النقلي قطعاً، فإذا وجدت تلك القرينة المؤذنة بنفي هذه الاحتمالات أورثت العلم بمضمون الخبر النقلي وإلا لم تفد إلا الظن وبالضرورة القطعية العلم(6/117)
بحقيقة هذا النبات متعسر لأنه لا طريق إلى العلم بها إلا خبر الصادق وهو ما يئس منه إلا أن ينزل عيسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام أو التجربة وهي متعذرة كما قاله بعض أفاضل الأطباء فإني لما سألته عن هذا النبات قال لي إنه يورث مضار منها تصفير الوجه وتقليل شهوة الطعام وتفتير الباء وإدامة نزول الودي عقب البول، فقلت ما مستندك في ذلك؟ فقال: أخبار المستعملين، فقلت له: ما يكفي وذكرت له ما يأتي من التعارض، ثم قلت له: لا بد أن تستند إلى حجة لم يقع فيها تعارض ولا نزاع وهي التجربة، فقال: لا يمكنني لأن التجربة تستدعي مراجاً وزماناً ومكاناً معتدلات وعدالة المجرب لأنه يخبر عما يجده من ذلك النبات فلا بد من عدالته حتى يقبل أخباره وذلك كله متعذر في هذه الأقاليم لأنها غير معتدلة وأيضاً فوجود عدل يقدم على هذا النبات المجهول ليجربه مستبعد، فقلت له: فما الذي تظنه في هذا النبات فأخذ منه شيئاً وجلس عنده أياماً، ثم قال الذي تحرر لي إنه مجهول لا يحكم عليه بشيء اهـ. فنتج من هذا كله أنه لا طريق لنا إلى العلم بحقيقته إلا مجرد الخبر المتواتر من متعاطيه بما يجدونه منه ولم يتم لما علمت مما أشرت إليه من الخلاف فيه والاختلاف، إذ القائلون بالحل ناقلون عن عدد متواتر أنه لا ضرر فيه بوجه والقائلون بالحرمة ناقلون عن عدد التواتر أن فيه آفات ومفاسد منها أنه مخدر ومغيب أو مسكر مطرب فأحد الخبرين كاذب قطعاً مع رعاية العموم سلباً وإثباتاً ولما رأيت هذا التعارض أردت أن أكشف بعض أمره بالسؤال ممن تعاطاه فقال لي إمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/118)
الشافعية بمقام خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام أنه استعمله لما رحل إلى زبيد وتعز من نحو ثلاثين سنة من الآن فلم يجد له ضرراً بوجه لا في رطبه ولا في يابسه وكذلك قال بعض مدرسي الشافعية بمكة المشرفة أنه أراد في بداية أمره التجرد فأراد تفتير الشهوة فوصف له يابسه فأكل منه فلم يجد منه تخديراً ولا غيبة ذهن بوجه. وقال بعض مدرسي الحنفية زرت بعض متصوفة اليمن بالمسجد الحرام المكي فأعطاني قليلاً منه وقال لي تبرك بأكل هذا فإنه مبارك فأكلت منه فوجدت فيه تخديراً فذكرت له كلام ذينك فقال إن عندي معرفة بالطب وبدني معتدل المزاج والطبع فالذي أدركه بواسطة ذلك لا يدركه غيري، وقد أدركت منه التخدير ودوران الرأس ولا أعود لأكله أبداً، وكذا قال بعض الأشراف أن فيه غيبة عن الحس وأنه استعمله فغاب مدة طويلة لا يدري السماء من الأرض ولا الطول من العرض، وبعضهم قال إن انضم لأكله دسومة لم يؤثر وإلا أثر، وبعضهم قال لا يؤثر مطلقاً فعند وقوع هذا الاختلاف والتنافي حار الفكر فيه وأحجم العقل عن أن يجزم فيه بتحليل أو تحريم وغلب على الظن أن سبب ذلك الاختلاف أنه يختلف تأثيره وعدم تأثيره باختلاف الطباع بغلبة أحد الأخلاط والطبائع الأربع عليها وأنه لا يمكن التوفيق بين هذه الأخبار المتناقضة مع عدالة قائلها وبعد كذبهم إلا بأن يفرض أنه يؤثر في بعض الأبدان دون بعض وإذا فرض صدق هذا الظن وأن هذا النبات يختلف باختلاف غلبة بعض الأخلاط فوراء ذلك نظر آخر وهو أن ما يختلف كذلك هل النظر فيه إلى عوارضه اللاحقة له فيحرم على من ضره دون من لم يضره أو إلى ذاته فإن كان مضراً لذاته حرم مطلقاً وإلا لم يحرم مطلقاً والأول هو الذي يصرح به كلام أئمتنا في غير هذا من النباتات الضارة فهو المعتمد هنا، وفارق الخمر وغيره من كل مسكر مائع بأن العلة في تحريمه إسكاره مع نجاسته، فإذا فرض انتفاء إسكاره حرم(6/119)
لنجاسته، والحاصل أنه لم يثبت عندنا لهذا النبات وصف ذاتي ولا أغلبي من الضرر أو عدمه ندير الأمر عليه ونحكم بقضيته، وإنما الذي تحصلنا عليه من هذا الاختلاف ما قررناه سابقا وهو أنه يتعذر الجمع بين تلك الأخبار، إلا إذا قلنا باختلافه باختلاف الطباع وليس هذا أمرا قطعياً كما علمت لتطرق التهم والكذب إلى بعض المخبرين عنه بضرر أو عدمه وتواتر الخبر في جانب معارض بتواتره في جانب آخر بخلافه فسقط النظر فيه إلى الخبر المتواتر ووجب النظر فيه إلى أنه تعارض فيه أخبار ظنية الصدق والكذب، وقد أمكن الجمع بينها بما قدمته فتعين المصير إليه وأنه يختلف باختلاف الطباع إذ القاعدة الأصولية أنه متى أمكن الجمع لا يعدل إلى التعارض وعلى فرض أنه لا يمكن الجمع بذلك لما مر أن بعض المخبرين سلب الضرر عن هذا النبات سلباً كلياً، وبعضهم أثبته له إثباتاً كلياً فيجب الإمعان في ترجيح أحد المخبرين بدلائل وأمارات بحسب استعداد المستدل وتضلعه من العلوم السمعية والنظرية الشرعية والإلهية وهذا شأن كل حادثة لم يسبق فيها كلام المتقدمين كهذا النبات فإني لا أعرف فيه كلاماً بعد مزيد التفتيش والتنقير في كتب الشرع والطب واللغة لغير أهل عصرنا ومشايخهم وهم مختلفون فيه كما ستعلمه، والظاهر أن سبب اختلافهم ما أشرت إليه من اختلاف المخبرين وإلا ففي الحقيقة لا خلاف بينهم لأن من نظر إلى أنه مضر بالبدن أو العقل حرمه ومن نظر إلى أنه غير مضر لم يحرمه فهم متفقون على أنه إن تحقق فيه ضرر حرم وإلا لم يحرم فليسوا مختلفين في الحكم بل في سببه فمرجع اختلافهم إلى الواقع وحيث رجع الاختلاف إلى ذلك خف الأمر وهان الخطب وعذر من قال بالحرمة لتوهمه الضرر ومن قال بالحل لتوهمه عدمه ومما يزيد في العذر ما قدمته من تعسر التجربة فلم يبق تعويل إلا على مجرد أخبار متعاطيه، وقد علمت تباينها وتناقضها ولزم من ذلك تناقض آراء العلماء وتباينها فيه لكن مع ملاحظة القواعد(6/120)
الأصولية لا تعارض ولا تباين كما سأقرره لك لكن بعد ذكر حاصل الآراء المتباينة فيه وحججها وما فيها ثم ذكر ما اختاره فيه وأميل إليه فأقول عنه ويتضح لك ذلك بذكر مقالاتهم وحججها وما فيها ثم ذكر ما نختاره ونميل إليه زيادة في الإيضاح ومبالغة في النصح فأقول احتج القائلون بالحل بأمور منها: أن الإمام الصفي المزجد كان يقول بتحريمه حكى عنه ثم أنه اختبره بأكل شيء منه فلما لم يؤثر فيه شيئاً من أسباب التحريم أفتى بحله فقال وأما القات والكفتة فما أظنه يغير العقل ولا يصد عن الطاعة، وإنما يحصل به نشاط وروحنة وطيب خاطر لا ينشأ عنه ضرر بل ربما كان معونة على زيادة العمل فيتجه أن له حكمه وإن كان العمل طاعة فتناوله طاعة أو مباحاً فتناوله مباح فإن للوسائل حكم المقاصد اهـ، وكذلك أفتى بحله الفقيه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/121)
الشهاب البكري الطنبداوي وكان يأكله ويثني عليه فقال وأما القات والكفتة فليسا بمغيبين للعقل ولا مخدرين للبدن وإنما فيهما نشأة وتقوية وطيب وقت فإن قصد بهما التقوى على الطاعة فهما مستحبان، لأن للوسائل حكم المقاصد كما اتفق عليه أئمتنا وكذلك أفتى بحله الإمام جمال الدين بن كين الطبري وله في مدحه أبيات. ومنها: أن المشاهدة من أحوال آكليه أنه يحدث لهم روحنة وطيب وقت وتقوية على الأعمال ولا يحدث لهم إسكاراً ولا تخبيلاً ولا تخديراً. واحتج القائلون بالحرمة بأمور منها: قول الفقيه أبي بكر بن إبراهيم المقري الحرازي الشافعي في مؤلفه في تحريم القات كنت آكلها في سن الشباب ثم اعتقدتها من المتشابهات وقد قال : «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» ثم إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني فتركت أكلها، فقد ذكر العلماء رضي الله تبارك وتعالى عنهم أن المضارات من أشهر المحرمات فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه ثم يعتريه قدر ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق وكنت في هذه الحالة إذا قرأ عليّ أحد يشق عليّ مراجعته وأرى مراجعته جبلاً، وأرى لذلك مشقة عظيمة ومللاً وأنه يذهب بشهوة الطعام ولذته ويطرد النوم ونعمته ومن ضرره في البدن أنه يخرج من أكله بعد البول شيء كالودي ولا ينقطع إلا بعد حين، وطالما كنت أتوضأ فأحس بشيء منه فأعيد الوضوء وتارة أحس به في الصلاة فأقطعها أو عقب الصلاة بحيث أتحقق خروجه فيها فأعيدها وسألت كثيراً ممن يأكلها فذكروا ذلك عنها وهذه مصيبة في الدين وبلية على المسلمين. وحدثني عبد الله بن يوسف المقري عن العلامة يوسف بن يونس المقري أنه كان يقول ظهر القات في زمن فقهاء لا يجسرون على تحريم ولا تحليل ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه ودخل عراقي اليمن وكان يسمى الفقيه إبراهيم وكان يجهر بتحريم القات وينكر على آكليه وذكر أنه إنما حرمه على ما وصف له من أحوال(6/122)
مستعمليه ثم إنه أكله مرة أو مراراً لاختباره قال: فجزمت بتحريمه لضرره وإسكاره وكان يقول ما يخرج عقب البول بسببه مني ثم اجتمعت به فقلت له نسمع عنك أنك تحرم القات قال نعم فقلت له وما الدليل؟ فقال ضرره وإسكاره فضرره ظاهر، وأما إسكاره فهل هو مطرب فقلت نعم فقال فقد قالت الشافعية وغيرهم في الرد على الحنفية في إباحتهم ما لم يسكر من النبيذ النبيذ حرام قياساً على الخمر بجامع الشدة المطربة فقلت له يروون عنك أنك تقول ما يخرج عنه مني وليس فيه شيء من خواص المني فقال إنه يخرج قبل استحكامه وكان عمي أحمد بن إبراهيم المقري وكان له معرفة بالطب وغيره يصرح بتحريمه، ويقول إنه مسكر وقد رأيت من أكثر من أكله فجن هذا كله ملخص كلام الحرازي وهذا الرجل العراقي الذي أشار إليه، ونقل عنه حرمة القات أخبرني بعض طلبة العلم أنه جاء إلى مكة المشرفة ودرس بها كثيراً وأنه قرأ عليه وزاد في مدحه والثناء عليه ويوافق هؤلاء القائلين بحرمة القات قول الفقيه العلامة حمزة الناشري ممن يعتمد عليه نقلاً وإفتاء كما يدل عليه ترجمته المذكورة في تاريخ خاتمة الحفاظ والمحدثين الشمس السخاوي في منظومته المشهورة وقد أخبرني محدث مكة شرفها الله تعالى أنه قرأها على مؤلفها حمزة المذكور وأجازه بها:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223
ولا تأكلن القات رطباً ويابساً
فذاك مضر داؤه فيه أعضلا
فقد قال أعلام من العلماء
أن هذا حرام للتضرر مأكلا(6/123)
وهذا الفقيه الخ. ومنها: أنه نهى عن كل مسكر ومفتر قال في النهاية ما معناه: أن المفتر ما يكون منه حرارة في الجسد وانكسار وذلك معلوم ومشاهد في القات ومستعمليه كسائر المسكرات وإن كان يحصل منها توهم نشاط أو تحققه فإن ذلك مما فضل من الانتشاء والسكر الحاصل من التخدير للجسد، وكذلك يحصل من الإكثار والإدمان على المسكر حتى الخمر خدر يخرج إلى الرعشة والفالج ويبس الدماغ ودوام التغير للعقل وغير ذلك من المضار لكن القات لم يكن فيه من الطبع إلا ما هو مضرة دينية ودنيوية لأن طبعه اليبس والبرد فلا يصحبه شيء من منافع غيره من المسكرات التي أشار إليها الشارع لأن سائر المسكرات فيها شيء من الحرارة واللين فلا يظهر الضرر فيها إلا مع الإدمان عليها وهذا محصل من الضرر في الأغلب ما في الأفيون من مسخ الخلقة وتغير الحال المعتدلة في الخلق والخلق وهو يزيد في الضرر على الأفيون من حيث أنه لا نفع فيه يعلم قط وأن ضرره أكثر وفيه كثرة يبس الدماغ والخروج عن الطبع وتقليل شهوة الغذاء والباه ويبس الأمعاء والمعدة وبردها وغير ذلك. ومنها: أن جميع الخصال المذمومة التي ذكروها في الحشيشة موجودة في القات مع زيادة حصول الضرر فيما به قوام الصحة وصلاح الجسد من إفساد شهوة الغذاء والباه والنسل وزيادة التهالك عليه الموجب لإتلاف المال الكثير الموجب للسرف. ومنها: أنه إن ظن أن فيه نفعاً فهو لا يقابل ضرره. ومنها: أنه شارك كل المسكرات في حقيقة الإسكار وسببه من التخدير وإظهار الدم وترقيقه طاهر البشرة مع نبذ الدسوسة من الدماغ والجسد إلى الظاهر وليس فيه حرارة ولين يبذلان ما نبذه من الحرارة واللين إلى ظاهر الجسد بخلاف نحو الخمر والحشيش، فلهذا كثر ضرره هذا حاصل تلك الكتب المصنفة التي وردت علينا في القات، وقد علمت ما اشتملت عليه حججهم من التناقض في الأخبار عن أحوال آكليه وسببه تناقض أخبار مستعمليه كما قدمته أول الكتاب، ولما مر عن الطنبداوي(6/124)
أنه استعمله ووجد فيه غاية الضرر وإنما لم أعوّل على ما مر عن المزجد أنه استعمله لأن في كلامه السابق ما يدل على أنه لم يستعمله فإنه قال ما أظنه يغير العقل فتعبيره بما أظنه قاض بأنه لم يستعمله، إذ لو استعمله لم يعبر بذلك بل كان يجزم بأنه لا يغير العقل، لأن الأمور
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223
الوجدانية من حيز الضروريات وإذا وقع هذا التناقض فيه فلا يمكن الجزم فيه بتحليل ولا تحريم على الإطلاق، وإنما المخلص في ذلك الجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الطباع لأنه لا يمكن الجمع بين تلك الأخبار المتناقضة مع عدالة قائلها إلا بذلك، فيتعين المصير إليه كما مر وإذا كان يختلف باختلافها فمن علم من طبعه أنه يضره حرم عليه أكل المضر منه، ومن علم أنه لا يضره لم يحرم عليه، فإن قلت يعكر على ذلك القاعدة الأصولية أن المثبت مقدم على النافي فإن هذه القاعدة مصرحة بتحريمه لأنه تعارض فيه خبران: أحدهما مثبت للضرر، والآخر ناف له. والمثبت مقدم لأن مع المثبت زيادة علم فكذلك القاعدة الفقهية فإن الأصل عدم الضرر فالمخبر بالعدم مستند للأصل والمخبر بوجوده مخرج له عن الأصل مقدم على البينة المستصحبة له وأيضاً فقد اتفق القائلون بالحل والحرمة على أن فيه نشاطاً وروحنة كما مر عن المزجد ونشأة كما مر عن الطنبداوي وطيب وقت كما مر عنهما، ثم اختلفوا هل هذا النشاط الذي فيه يؤدي إلى ضرر والقائلون بالحرمة قالوا يؤدي إليه وما قالوه أقرب بالنسبة للواقع فإن من شأن النشاط والنشأة الذاتيين لمطعوم ومشروب دون العارضين له بواسطة ألف أو نحوه أنهما يؤديان إلى الضرر حالاً أو مآلاً فالأخبار بأنه يؤدي للضرر معه قرينة أي قرينة فإنه إذا وقع الاتفاق على أن فيه نشاة ونشاطاً احتاج من سلب الضرر عنه إلى حجة تشهد له بذلك ولا حجة له إلا ما احتج به من مشاهدة آكليه وقد تقرر أن هذا لا حجة فيه لأنه عارضه أخبار غيرهم(6/125)
بخلاف ذلك، فإن احتج أنه استعمله قلنا عارضك أيضاً من استعمله وأخبر بأنه يحصل عنه التخدير وغيره من الضرر فثبت بما تقرر أن فيه نشاطاً ونشاة وأن الأصل فيهما بقيدهما السابق تولد الضرر عنهما مع ما مر من تقديم المثبت على النافي فهذا كله يؤيد التحريم وموضح لأدلة من قال به فلم لم تقل به وما الذي أوجب لك العدول عنه مع ظهور أدلته هذه التي قررتها وموافقتها للقواعد الأصولية والفقهية كما تقرر، قلت محل القاعدتين السابقتين من تقديم المثبت والمخالف للأصل ما إذا وقع التعارض من غير أن يمكن الجمع بين المتعارضين فحينئذ يقدم المثبت والمخالف للأصل لقوّتهما على مقابلهما. وأما مع إمكان الجمع بحمل كل من المتعارضين على حالة فلا تقديم لأن تقديم أحدهما يستدعي بطلان الآخر والجمع يستدعي العمل بكل من الدليلين، ولا شك أن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، لأن الإلغاء كالنسخ وهو لا يعدل إليه متى أمكن غيره فهذا هو الذي أوجب العدول إلى الجمع بين تلك الأخبار وعدم إلغاء بعضها لتوفر عدالتهم وعدم ظهور تهمتهم، وأما النشاط والنشاة فلم يثبت عندي أنهما وصفان ذاتيان لهذا النبات بل يحتمل أنهما عارضان له بواسطة ألف أو نحوه فلم يسعني مع ذلك الجزم بالتحريم، فإن قال المحرمون ثبت عندنا أنهما وصفان ذاتيان له قلنا إذا استندتم في ذلك للأخبار فقد مر تناقضها والجمع بينها مع فرض صدقها فلا يصح مع ذلك الاستناد إلى بعضها دون بعض وإن قالوا استندنا إلى التجربة الموجبة للعلم الضروري قلنا لكم ذلك إن وجدت شروط التجربة التي قالها الأطباء من تكرر ذلك تكرراً كثيراً بحيث يؤدي عادة إلى القطع بإفادته العلم مع عدالة المجرب واعتدال المزاج والزمن والمكان ويبعد وجود ذلك وتوفره كله في قطر اليمن مثلاً لأنه غير معتدل، والحاصل أني وإن لم أجزم بتحريمه على الإطلاق لما علمت مما قررته ووضحته وبينته وبرهنت عليه بالأدلة العقلية والنقلية لكني أرى أنه لا(6/126)
ينبغي لذي مروءة أو دين أو ورع أو زهد أو تطلع إلى كمال من الكمالات أن يستعمله لأنه من الشبهات لاحتماله الحل والحرمة على السواء أو مع قرينة أو قرائن تدل لأحدهما وما كان كذلك فهو مشتبه أي اشتباه فيكون من الشبهات التي يتأكد اجتنابها بقوله :
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223
«ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» ، وبقوله : «لا يبلغ العبد درجة اليقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس» رواه ابن ماجه، وبقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه من حديث الحسن بن علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما، وبقوله لعدي بن حاتم: «لا تأكله فلعله قتله غير كلبك» متفق عليه، وقال له أيضاً في كلبه المعلم: «وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» متفق عليه. أيضاً روى أحمد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد حسن أنه أرق ليلة فقال له بعض نسائه: أرقت يا رسول الله؟ فقال: «أجل وجدت تمرة فأكلتها فخشيت أن تكون من الصدقة» . وروى الشيخان أنه كان إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هبة سأل عنه. وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث عطية السعدي أنه قال: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به» الحديث. وإذا تقررت لك هذه الأحاديث وعلمت أن غاية أمر هذه الشجرة أنها من المشتبهات تعين عليك إن كنت من الثقات والمتقين أن تجتنبها كلها وأن تكف عنه فإنه لا يتعاطى المشتبهات إلا من لم يتحقق بحقيقة التقوى ولا تمسك من الكمالات بالنصيب الأقوى وزعم أنها تعين على الطاعة، إن فرض صدقه غير دافع للوقوع في ورطة الإثم على تقدير صدق المخبرين بوجود الضرر والتخدير فيها، فلذلك لا أوافق من قال إنها قد تكون وسيلة لطاعة فتكون مستحبة، لأن محل إعطاء الوسائل حكم المقاصد إنما هو في وسائل تمعضت لذلك بأن لم تكن وسائل لشيء آخر وخلت عن أن يقوم(6/127)
بها وصف يقتضي تأكد تجنبها وأكل هذه ليس كذلك لأنه قام بها ما يقتضي التجنب مما أوضحناه وقررناه فالصواب ترك أكلها دائماً ولا حاجة بالموفق إلى أن يستعين على طاعته بما قال جماعة من العلماء بحرمته كما نقله عنهم حمزة الناشري وغيره كيف ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح كما أطبق عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى ولم تنحصر الإعانة على الطاعة في هذه الشجرة بل لها طرق أيسرها وأولاها ما أجمعت الأمة على مدحه والمبالغة في الثناء عليه وهو تقليل الغذاء بحسب الإمكان كما في خبر حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وقد نقل إمام العارفين والفقهاء أبو زكريا يحيى النووي قدس الله تبارك وتعالى روحه أنه لما رأى الأقسماء وهي ماء الزبيب تباع في الشأم سأل ما حكمة اصطناع الناس هذه؟ فقيل له أنها تهضم الأكل، فقال ولم يشبع الناس حتى يحتاجوا إلى هضم. فانظر إلى ما أشار إليه من هذه الحكمة اللطيفة على أن في دعوى أنها تعين على الطاعة نظراً لأن إعانتها إن كانت لكونها تهضم فهو مخالف لما اتفقوا عليه من أنها كثيفة باردة يابسة تصفر اللون وتقلل شهوة الطعام والجماع وإن كانت لغير ذلك فهو لان ومفسدة فيها وهذا يساعد من يقول أن فيها ضرراً فدعوى استحبابها مع ذلك فيها نظر، أي نظر، ألا ترى إلى ما في البخاري وغيره أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله إني تزوّجت امرأة وأن فلانة قالت إنها أرضعتني أنا وإياها فأمره بفراقها، وقال: كيف؟ وقد قيل وفيه وفي غيره أيضاً أنه لما تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة رضي الله تبارك وتعالى عنهما في ابن وليدة زمعة ألحقه النبي بزمعة لأنه ولد على فراشه ثم لما رأى ما به من الشبه البين لعتبة قال لزوجته أم المؤمنين سودة بنت زمعة:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/128)
«احتجبي منه يا سودة» ، فانظر إلى أمره بالفراق في الصورة الأولى وبالاحتجاب في الصورة الثانية ورعاً وخشية من الوقوع في المحرم على تقدير يمكن وقوعه وإن ألغاه الشرع ولم يعتد به تجده صريحاً فيما قلناه من أنه يتعين اجتناب هذه الشجرة من باب أولى، لأن ما يحتمل الحرمة فيها أولى مما يحتمل الحرمة في تينك لأن ما يحتملها فيهما ملغى شرعاً وما يحتملها في مسألتنا غير ملغي شرعاً وانظر أيضاً إلى أنه لم يفصل في ذلك بين أن يكون البقاء في الأولى وعدم الاحتجاب في الثانية وسيلة لطاعة كعفة الزوج بها مع عدم قدرته على غيرها وكجبر خاطر الولد المتنازع فيه وعدم تأذيه بالاحتجاب عنه وإن لا، ومثل هذا له حكم العام لأنها واقعة قولية، وقد قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال نزلها منزلة العموم في المقال ولا يعارضه قاعدته الأخرى أنه إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال، لأن هذه في الوقائع الفعلية وتلك في الوقائع القولية كما قرر في محله فعلم من ذلك أنه حيث كان الورع في ترك شيء كان الأولى والمتأكد تركه مطلقاً سواء أكان وسيلة لطاعة أم لا؟ واعلم أنه لم يمنعنا أن نلحقها بالحشيشة ونحوها مما يأتي إلا أن العلماء منذ قرون لما حدثت الحشيشة في زمانهم بالغوا في اختبار أحوال آكليها حتى اتفقت أقوالهم على أنها مسكرة أو مخدرة وكان في تلك الأزمنة العارفون بعلم الطب والنباتات، فحكموا فيها بما اقتضته القواعد الطبية والتجربية فلذا ساغ لهم الجزم فيها بالتحريم وأما نحن فلم نتحصل على شيء من ذلك لتباين الأقوال واختلافها في هذه الشجرة فمستعملوها يختلفون في الأخبار عن حقيقتها وهذا هو منشأ الخلاف بين الفقهاء فيها مع أن الفقهاء في الحقيقة لا خلاف بينهم لأنه إن ثبت أن فيها تخديراً أو إسكاراً فهي محرمة إجماعاً، وإنما الخلاف بينهم في الواقع فالقائلون بالحل اعتمدوا المخبرين بأنه لا(6/129)
ضرر فيها بوجه، والقائلون بالحرمة اعتمدوا المخبرين بأن فيها ضرراً وأنت إذا راعيت القواعد لم يجز لك أن تعتمد أحد الطرفين وتعرض عن الآخر إلا إذا ثبت عندك مرجح آخر من نحو وجوه التجربة وشروطها السابقة أو عدد التواتر في أحد الجانبين دون الآخر ولم نظفر بذلك فلذا وجب علينا التوقف في حقيقة هذه الشجرة وأن نقول متى ثبت أن فيها وصفاً من أوصاف جوزة الطيب أو الحشيشة المعروفة حرمت وإلا فلا، وهذا يستدعي ذكر أوصافهما لتقاس بهما تلك الشجرة فأقول أما جوزة الطيب فقد استفتيت عنها قديماً وقد كان وقع فيها نزاع بين أهل الحرمين وظفرت فيها بما لم يظفروا به، فإن جمعاً من مشايخنا وغيرهم اختلفوا فيها وكل لم يبد ما قاله فيها إلا على جهة البحث لا النقل ولما عرض عليّ السؤال أجبت فيها بالنقل وأيدته وتعرضت فيه للرد على بعض الأكابر فتأمل ذلك فإنه مهم، وصورة السؤال هل قال أحد من الأئمة أو مقلديهم بتحريم أكل جوزة الطيب أو لا؟ وهل يجوز لبعض طلبة العلم الأخذ بتحريم أكلها وإن لم يطلع في التحريم على نقل لأحد من العلماء المعتبرين، فإن قلتم نعم فهل يجب الانقياد والامتثال لفتياه أم لا؟ فأجبت بقولي الذي صرح به الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أنها مسكرة، ونقله عنه المتأخرون من الشافعية والمالكية واعتمدوه وناهيك بذلك بل بالغ ابن العماد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة المذكورة وذلك أنه لما حكى عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/130)
القرافي نقلاً عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إنكاره الحشيشة بين كونها ورقاً أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر. قال: والصواب أنه لا فرق لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والشيكران، بفتح الشين المعجمة، وهو البنج وهو من المخدرات المسكرات. ذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة اهـ، فتأمل تعبيره والصواب وجعله الحشيشة التي أجمع العلماء على تحريمها لإسكارها أو تخديرها مقيسة على الجوزة تعلم أنه لا مرية في تحريم الجوزة لإسكارها أو تخديرها، وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها الحنابلة بنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة وهو قضية كلام بعض أئمة الحنفية. ففي فتاوى المرغباني منهم المسكر من البنج ولبن الرماك أي أناثي الخيل حرام ولا يحد شاربه. قال الفقيه أبو حفص : ونص عليه شمس الأئمة السرخسي اهـ. وقد علمت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن الجوزة كالبنج فإذا قال الحنفية بإسكاره لزمهم القول بإسكار الجوزة فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة الشافعية و المالكية و الحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء أنها إما مسكرة أو مخدرة وأصل ذلك في الحشيشة المقيسة على الجوزة على ما مر، والذي ذكره الشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة والنووي في شرح المهذب و ابن دقيق العيد أنها مسكرة. قال الزركشي : ولا نعرف فيه خلافاً عندنا وقد يدخل في حدهم السكران بأنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم أو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض، ثم نقل عن العراقي أنه خالف في ذلك فنفى عنها الإسكار وأثبت لها الإفساد ثم رد عليه وأطال في تخطئته وتغليطه وممن نص على إسكارها أيضاً العلماء بالنبات من الأطباء وإليهم المرجع في ذلك وكذلك ابن تيمية وتبعه من جاء بعده من متأخري مذهبه والحق في ذلك خلاف الإطلاقين إطلاق الإسكار وإطلاق الإفساد، وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به(6/131)
مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشأة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق فعلى الإطلاق الأوّل بين المسكر والمخدر عموم مطلق، إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدراً فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التخدير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص وتحقيقه أن من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشأة والطرب والعربدة والغضب والحمية، ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوزة أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره، ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية وبقولي من شأن فيهما يعلم رد ما أورده الزركشي على القرافي من أن بعض شربة الخمر يوجد فيه ما ذكر في نحو الحشيشة وبعض أكلة نحو الحشيشة يوجد فيه ما ذكر من الخمر، ووجه الرد أن ما نيط بالمظنة لا يؤثر فيه خروج بعض الأفراد كما أن القصر في السفر لما نيط بمظنة المشقة جاز وإن لم توجد المشقة في كثير من جزئياته فاتضح بذلك أنه لا خلاف بين من عبر في نحو الحشيشة بالإسكار ومن عبر بالتخدير والإفساد، والمراد به إفساد خاص هو ما سبق فاندفع به قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/132)
الزركشي أن التعبير به يشمل الجنون والإغماء لأنهما مفسدان للعقل أيضاً فظهر بما تقرر صحة قول الفقيه المذكور في السؤال أنها مخدرة وبطلان قول من نازعه في ذلك لكن إن كان لجهله عذر وبعد أن يطلع على ما ذكرناه عن العلماء متى زعم حلها أو عدم تخديرها وإسكارها يعزر التعزير البليغ الزاجر له ولأمثاله، بل قال ابن تيمية وأقره أهل مذهبه من زعم حل الحشيشة كفر فليحذر الإنسان من الوقوع في هذه الورطة عند أئمة المذهب العظيم وعجيب ممن خاطر باستعمال الجوزة مع علمه بما ذكرناه فيها من المفاسد والإثم لأغراضه الفاسدة على تلك الأغراض التي يحصل جميعها بغيرها، فقد صرح رئيس الأطباء ابن سينا في قانونه بأنه يقوم مقامها وزنها ونصف وزنها من السنبل، فمن كان يستعمل منها قدراً ما ثم استعمل وزنه ونصف وزنه من السنبل حصلت له جميع أغراضه مع السلامة عن الإثم والتعرض لعقاب الله سبحانه وتعالى على أن فيها بعض مضار بالرئة ذكرها بعض الأطباء وقد خلى السنبل عن تلك المضار وقد حصل به مقصودها وزاد عليها بالسلامة من مضارها الدنيوية والأخروية، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب اهـ. جوابي في الجوزة وهو مشتمل على نفائس تتعلق بهذا الكتاب بل هو ظاهر في حرمة القات، لأن الناس مختلفون في تأثير الجوزة أيضاً فبعض آكليها يثبت لها تخديراً وبعضهم لا يثبت لها ذلك فإذا حرمها الأئمة مع اختلاف آكليها في تأثيرها فليحرموا القات ولا نظر للاختلاف في تأثيرها، لكن الفرق بينهما أن الجوزة نظر فيها وحرمها من يعتد بنظرهم وبتجربتهم حتى علموا أن التخدير وصف ذاتي لها فلهذا حكموا بأنها مخدرة لذاتها وأعرضوا عمن لم ير منها تخديراً ولو تم ذلك في القات لألحقناه بها لكنه لم يتم كما قدمته، ثم هذا الجواب مشتمل على بيان حكم الحشيشة وعلى تنقيح الخلاف في أنها مسكرة أو مخدرة، ومع ذلك فلا بأس بإعادته مع كلام الناس فيها على حدته لتتم فائدته وتعم عائدته فنقول ذكر الحكيم(6/133)
الترمذي في كتاب العلل: إن الشيطان حين خرج من السفينة سرق معه شجرة الكرم فزرعها ثم ذبح خنزيراً فسقاها بدمه ثم ذبح كلباً فسقاها بدمه ثم ذبح قرداً فسقاها بدمه فحصلت لها النجاسة من دم الخنزير وحصل لشاريها العربدة من دم القرد والحمية والغضب من دم الكلب فمن ثم ترى السكران تأخذه الحمية ويغضب بخلاف السكران بالبنج والحشيش والشيكران وجوزة الطيب والأفيون، فإن هذه الأشياء مسكرة ولا يحصل للبدن معها نشاط ولا عربدة بل يعتريه تخدير وفتور فكل مخدر مسكر من غير عكس فالخمر مسكرة وليست مخدرة والبنج ونحوه مسكر ومنحدر، وممن نص على أن الحشيش ونحوها مسكر
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/134)
النووي في شرح المهذب والشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة في الخلاف والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وبينت في شرح الإرشاد أنه لا خلاف بينهم وبين من قال بأنها مخدرة لأن المراد بالإسكار في كلامهم مجرد التغطية مع قطع النظر عن قيده المتبادر منه وهو التغطية مع نشاط وعربدة، وعلى هذا يحمل أيضاً قول ابن البيطار أن الحشيش يسكر جداً وهو حجة في ذلك فإنه كان علامة زمنه في معرفة الأعشاب والنبات يرجع إليه في ذلك محققو الأطباء، وقد امتحنه بعض معاصريه عند السلطان فجاء إلى السلطان بنبات وقال له إذا طلع إليك فاعطه هذا يشمه من هذا المحل، فيتبين لك معرفته أو جهله فلما طلع إليه أعطاه له، وأمره بأن يشمه من الموضع الذي عين له فشمه منه فرعف لوقته رعافاً شديداً فقلبه وشمه من الجانب الآخر فسكن رعافه لوقته، ثم قال للسلطان مر من أعطاه لك يشمه من الموضع الأول فإن عرف أن فيه الفائدة الأخرى فهو طبيب وإلا فهو متشبع بما لم يعط فلما طلع للسلطان أمره شمه من ذلك الموضع فرعف فقال له اقطعه فحار وكادت نفسه تفتلت فأمره أن يقلبه ويشمه ففعل فانقطع رعافه، فمن ثم زادت مكانة ابن البيطار عند السلطان وانقطعت أعداؤه وحساده وغلط صاحب المفتاح في شرحه للحاوي الصغير في أمرين. أحدهما: قوله إن الحشيشة نجسة إن ثبت أنها مسكرة مع أنها مسكرة بالاتفاق على ما مر، فإن السكر معناه تغطية العقل، ومنه قوله تبارك وتعالى: {إنما سكرت أبصارنا} (الحجر: 15). قال ابن العماد : وكأنه توهم أن المخدر لا يكون مسكراً وهو خطأ، وهذا الخطأ حصل أيضاً للقرافي في القواعد. الثاني: أنه ادعى أنها نجسة على القول بأنها مسكرة وهذا شيء لا تحل حكايته عن مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وقد حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست نجسة وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد في نظير الحشيش فقال تنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات(6/135)
بثلاثة أحكام الحد والتنجيس وتحريم القليل فالمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة فمن صلى بالبنج والأفيون لم تبطل صلاته إجماعاً، ويجوز تناول اليسير منها فمن تناول حبة من الأفيون أو البنج جاز ما لم يكن ذلك قدراً يصل إلى التأثير في العقل والحواس، أما دون ذلك فجائز فهذه ثلاثة أحكام وقع بها بين المسكرات والآخرين اهـ. وفي كتاب السياسة لابن تيمية
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/136)
أن الحد واجب في الحشيشة قال لكن لما كانت جامدة وليست شراباً تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، فقيل نجسة وهو صحيح اهـ. وما ذكره القرافي من حل تناول يسيرها نقله في شرح المهذب عن المتولي في جواز تناول اليسير من الحشيش وهو مأخوذ من قول التنبيه وغيره وكل طاهر لا ضرر في أكله يجوز أكله ويؤيده قول الشيخين عن الإمام وأقراه يجوز أكل السم لمن لا يضره، ويجوز بل يجب أكلها عند الاضطرار إذا لم يجد غيرها وفارقت الخمر بأن شربها يزيد في العطش وأكل الحشيشة لا يزيد في الجوع وإنما غاية ما فيها أنها تغطي العقل وتغطيته جائزة لدواء أو نحو قطع عضو متأكل. قال الزركشي : ويحرم إطعامها للحيوان لأجل إسكاره وبيعها جائز قطعاً لأنها قد تنفع لبعض الأمراض كما يأتي ومحله كما هو ظاهر فيما يتعين للتداوي به، وفيما يجوز تناوله من اليسير الذي لا يضر، وما عدا هذين في صحة بيعه نظر، وقضية قول ابن النقيب لا ضمان على متلفها كالخمر عدم صحة بيع ذلك وهو محتمل. وقد نقل الإمام أبو بكر ابن القطب القسطلاني عن بعض أئمة أهل الشام فيها أنها حارة في الدرجة الثانية يابسة في الأولى تصدع الرأس وتظلم البصر وتعقد البطن وتجفف المني وذكر فيها منافع من نحو طرد الرياح وتحليل النفخ وتنقية الأبرئة من الرأس عند غسله بها والأبرئة مرض يحدث بسطح الرأس وهو قشور بيض، والعلة في فعلها لذلك ما اشتملت عليه من الحرارة واليبس فإذا ترجع إلى كونها دواء من جملة الأدوية وتستعمل حيث تستعمل الأدوية عند الاحتياج إليها من الأمراض بمقدار ما يدفع الضرر قال: ولا يستعملها الأصحاء بحيث ينشأ عن أكلها السبات والخدر والإساءة والهدر، فإن ما كان بهذه المثابة يتعين اجتنابه لما يشتمل عليه من المضار التي هي مبادي مداعي الهلاك وربما تنشأ من تجفيف المني وصداع الرأس وغيرهما مفاسد ومضار تفتقر إلى علاج قال: وقد ذكرها أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي(6/137)
العشاب المعروف بابن البيطار في كتابه الجامع لقوى الأدوية والأغذية فقال: ومن القنب الهندي نوع ثالث يقال له القنب ولم أره بغير مصر ويزرع في البساتين ويسمى بالحشيشة أيضاً وهو مسكر جداً إذا تناول منه الإنسان يسيراً قدر درهم أو درهمين حتى أن من أكل منه أخرجه إلى حد الرعونة وقد استعمله قوم فاختطفت عقولهم وأدى بهم الحال إلى الجنون وربما قتلت ومما ينفع في مداواتها القيء بسمن وماء سخن حتى تنقي المعدة وشراب الحماض له غاية في النفع، قال وهي كما زعم من تعاطاها مدة ثم انقشع عن عينه سحاب العمى عن الهدى خبيثة الطعم كريهة الرائحة ولأجل هذا يتخيل بعض من يتعاطاها على تطييبها بما يسوّغ تناولها من السمسم المقشور أو السكر وما كان بهذه الصفة فإن الطبيعة تكرهه لا محالة كما تكره الأدوية وإن كانت تؤمل في تناولها حصول الأشفية وأيضاً فالمأكول منحصر في الغذاء والدواء وليست بغذاء، لأنها لا تلائم الجسد فهي دواء، والدواء إنما يستعمل حيث تدعو الضرورة إليه فلا يستعمله الصحيح لاستغنائه عنه لأنها غير ملائمة للطباع بل منافرة لما عليه المزاج من الأوضاع. قال: وقد نقل لنا أن البهائم لا تتناولها فما قدر مأكول تنفر البهائم عن تناوله وهي مما يحيل الأبدان ويحلل قواها ويحرق دماءها ويجفف رطوبتها ويصفر الألوان. وذكر محمد بن زكريا إمام وقته في الطب أنها تولد أفكاراً كثيرة وأنها تجفف المني وتجفيفه إنما يكون من قلة الرطوبة في الأعضاء الرئيسة ومما أنشد فيها:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223
قل لمن يأكل الحشيشة جهلاً
يا خسيساً قد عشت شر معيشة
دية العقل بدرة فلما ذا
يا سفيهاً قد بعتها بحشيشة
قال: وقد بلغنا من جمع يفوق حد الحصر أن كثيراً ممن عاناها مات بها فجأة وآخرين اختلت عقولهم وابتلوا بأمراض متعددة من الدق والسل والاستسقاء وأنها تستر العقل وتغمره ومما أنشد فيها أيضاً:(6/138)
يا من غدا أكل الحشيش شعاره
وعدا فلاح عواره وخماره
أعرضت عن سنن الهدى بزخارف
لما اعترضت لما أشيع ضراره
العقل ينهى أن يميل إلى الهوى
والشرع يأمر أن تعدد داره
فمن ارتدى برداء شهوة زهرة
فيها بدا للناظرين عثاره
ولبعض الفسقة أبيات كثيرة في مدحها حذفتها لما اشتملت عليه من السفه والإطراء والحث عليها وقد أنشد بعضهم في الرد عليه فقال:
لا تصغين لمادح شرب الحشيـ
ــــــش فإنه في القول غير مسدد
وانهض بعزمة ماجد في رده
في قصده بالسوط جنباً واليد
السكر شر كيف كان فلا تمل
في مدحه لمن اعتدى لم يهتد
من كان ينكر منكراً فليلتزم
أن لا يحيد عن السبيل الأرشد
ولقد تراه ضاحكاً أو باكياً
أو ناطقاً بقبائح لم تشهد
هيهات أن يأتي بفعل صالح
من ضل عن سنن الرشاد الأمجد
قد ضل من أفتى بحل شرائها
فيما عزى للشافعيّ وأحمد
فيها الإهانة بالنعال وبالعصا
للراعد المهبول والمتعبد
من كف كف الهم عنه بكفها
أمسى على كف يروح ويغتدي
من حاكم أو عالم أو ناظر
أو ناصح في فعله متزهد
من كان يطلب أن يفوز فحقه
أن لا يجوز عن اهتداء المهتدي
وليطرح قول المبيح لا كلها
وليقترح يوم السرور إلى غد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/139)
والأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا قالت: نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر. قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف، وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه فإنها تسكر وتخدر وتفتر ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها. وحكى القرافي و ابن تيمية الإجماع على تحريمها قال: ومن استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله تبارك وتعالى عنهم لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأوّل المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار. قال الرافعي رحمه الله تعالى في الأطعمة وفي بحر المذهب: أن النبات الذي يسكر وليس فيه شدة يحرم أكله ولا حد على آكله ولا نعرف في ذلك خلافاً عندنا. وقال في باب الشرب وما يزيل العقل من غير الأشربة كالبنج لا حد في تناوله لأنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره اهـ. وقول الماوردي : النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد ضعيف، وإنما الواجب فيه التعزير ولا يقاس بالخمر في الحد، لأن شرط القياس في الحدود المساواة وهذه الأشياء لا تشبه الخمر في تعاطيها لأنها لا تورث عربدة وغضباً وحمية والشيكران يزيده شدة وعربدة بالسكر بخلاف أكل المخدرات فإنه وإن زال عقله يسكن شره لفتور بدنه وتخديره وكثرة نومه وأيضاً الحشيش ونحوها طاهرة والخمر نجسة فناسب تأكيد الزجر عنها بإيجاب الحد، وأيضاً الخمر يحرم تعاطي قليلها للنجاسة بخلاف الحشيش فإنه لا يحرم أن يتعاطى منها ما لا يسكر فبطل القياس، ونقل القرافي عن بعض فقهاء عصره أنها بعد التحميص والغلي نجسة لأنها إنما تغيب العقل حينئذ قال: وسألت جماعة ممن يعانيها فمنهم من سلمه، ومنهم من قال تؤثر مطلقاً اهـ. قال ابن الهمام : والصواب أنها تؤثر مطلقاً لأنها في ذلك ملحقة بجوز الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والشيكران، بفتح الشين المعجمة، وهو البنج(6/140)
وهو من المسكرات المخدرات ذكر ذلك الشيخ ابن القطب القسطلاني اهـ. قال بعضهم: وفي أكل الحشيش مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية منها أنها تورث الفكرة وتجفف الرطوبات وتعرض البدن لحدوث الأمراض وتورث النسيان وتصدع الرأس وتقطع النسل والمني وتجففه وتورث موت الفجأة واختلال العقل وفساده والدق والسل والاستسقاء وفساد الفكر وإفشاء السر وذهاب الحياء وكثرة المراء وعدم المروءة وكشف العورة وعدم الغيرة وإتلاف الكسب ومجالسة إبليس وترك الصلاة والوقوع في المحرمات والجذام والبرص وتوالي الأسقام والرعشة ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان واحتراق الدم وصفرة الأسنان والبخر وثقب الكبد وغشاء العين والكسل والفشل وتجعل الأسد كالعجل وتعيد العزيز ذليلاً والصحيح عليلاً إن أكل لا يشبع وإن أعطى لا يقنع وإن كلم لا يسمع تجعل الفصيح أبكم والصحيح أبلم وتذهب الفطنة وتحدث البطنة وتورث اللعنة والبعد عن الجنة ولنختم هذا الكلام بقاعدتين: إحداهما أن كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وحد شاربه. والثانية كل مسكر مائع نجس. وأورد عليها الأفيون قبل أن يجمد فإنه مسكر مائع وليس بنجس قطعاً ولا يحرم يسيره بقيده السابق وبيع نحو الحشيش لأكلها ولو ظناً حرام كبيع العنب لعاصر الخمر خلافاً للشيخ أبي حامد رحمه الله تعالى وقوله لأنه قد يتوب الله سبحانه وتعالى عليه يجاب عنه بأن الأصل بقاؤه على حاله فلا نظر لتوهم وقوع ما يصرفه عن ذلك، ولذلك يحرم زرعها لاستعمال ما لا يحرم منها، ونص الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه على وجوب الاستقاء على من شرب خمراً وإن لم يتعد بشربها وسبب الوجوب قيل مخافة السكر بها، وقيل نجاستها، ويرد الثاني نص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223(6/141)
الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه على أن من أكل حراماً طاهراً لزمه استقاءته فدل على أن النجاسة وصف طردي فالمعتمد العلة الأولى وحينئذ فمن أكل من نحو الحشيش القدر المسكر لزمه استقاءته يدل له قول المجموع والتحقيق من أكل حراماً طاهراً لزمه استقاءته وكأن علته أن الحرام يورث قسوة القلب. وفي الحديث الصحيح: «لحم نبت من حرام النار أولى به» نسأل الله سبحانه وتعالى بخاصته من خلقه أن يبعدنا عنها وعن أسبابها إنه جواد كريم رؤوف رحيم، والحمد لله أوّلاً وآخراً باطناً وظاهراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلاماً دائمين بدوام رب العالمين عدد معلوماته ومداد كلماته كما يجب له ويرضى تحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً دائماً أبداً إلى يوم الدين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 223
باب التعازير وضمان الولاة
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه لو ضرب أو لطم بنعله مثلاً شريف خسيساً أو عكسه ما كيفية تعزيره، وإذا رأى القاضي تعزير الفاعل بيد المفعول به المثل فعله به هل يجوز، وإذا قلتم لا وكانت الفتنة لا تسكن إلا بذلك ما الحكم؟. فأجاب بقوله ـ رضى الله تعالى عنه ـ : المرجع في التعزير إلى اجتهاد الإمام فيما يراه زاجراً للفاعل بحسب جراءته وقبح معصيته، ثم إن كان التعزير بنحو ضرب لم يجز للحاكم أن يفوّضه للمستحق لئلا يزيد في الإيلام وإن كان بنحو وقع عمامة جاز له تفويض ذلك للمستحق، إذ لا يخشى منه محذور وهذا التفصيل ظاهر مما ذكروه في الجنايات وإن لم أر من ذكره في التعزير ولو تيقن الحاكم إثارة فتنة إن لم يفوض استيفاء التعذير للمستحق لم يبعد حينئذ جواز تفويضه لأن عدم إثارة الفتنة مقدم على خشية الزيادة في الإيلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/142)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه قال في العباب: فائدة صح عنه أنه لما لد في مرضه بغير رضاه أمر بلد الحاضرين فاقتضى جواز التعزير بمثل ما تعدى به اهـ ما اللدد ومن لده ومن الحاضرون وبم استحق الحاضرون اللد وكم عددهم وهل كان في مرض موته أو في مرض آخر وهل كان اللدد من الأدوية أم لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: اعلم أنه كان من شدة وجعه في مرض موته يغشى عليه ثم يفيق وأغمي عليه مرة فظن الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم أن وجعه ذات الجنب فلدوه فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه فقالوا: إنما أشار إلى المنع من اللد لكراهية المريض للدواء، أي إنما نهيتنا عن ذلك لأنه دواء ونفس المريض تكرهه فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم. رواه البخاري. واللدد هو ما يجعل في جانب الفم من الدواء فأما ما يصب في الحلق فيقال له الوجور. ففي الطبراني من حديث العباس رضي الله تبارك وتعالى عنه أنهم أذابوا قسطاً بزيت ولدوه به. قيل: وإنما كره اللدد مع أنه كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه ومن تحقق ذلك كره له التداوي ونظر فيه بأن الظاهر أن ذلك كان قبل أن يخير بين الحياة والموت وعندي في هذا نظر لأنه وقع تخييره قبل هذا كما أشار إليه في حديث البخاري ومسلم وهو أنه جلس على المنبر فقال: «إن عبداً خيره الله تبارك وتعالى بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا»
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234(6/143)
فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به الحديث. قال الحافظ ابن رجب : وهذه الخطبة كانت في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي وهو معصوب الرأس بخرقة حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: «والذي نفسي بيده إني لأنظر إلى الحوض من مقامي هذا» ، ثم قال: «إن عبداً عرضت عليه الدنيا...» الخ. ثم هبط عنه فما رؤي عليه حتى الساعة. وذكر الواحدي بسند وصله لعبد الله بن مسعود ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال: أنعى لنا رسول الله نفسه قبل موته بشهر وكأن ذلك المعترض أراد التخيير الأخير فقد صح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها كان يقول: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير» فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» . فقلت: إذاً لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وفهمها هذا نظير فهم أبيها السابق حين بكى ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما فعلم أنه خير مرتين وحينئذ فلا يصح التنظير السابق فالأولى رد تلك المقالة بأن سبب إنكار التداوي أنه كان غير ملائم لدائه لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها ولم يكن فيه ذلك كما هو ظاهر في سياق الخبر، ويؤيد ذلك حديث ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله الخاصرة فاشتدت به فأغمي عليه فلددناه فلما أفاق قال: «كنتم ترون أن الله يسلط عليّ ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطاناً والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد ولددنا ولدت ميمونة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا وهي صائمة» . وروى أبو يعلى بسند ضعيف فيه ابن لهيعة من وجه آخر عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا أنه مات من ذات الجنب وجمع بين هذا والذي قبله بأن ذات الجنب تطلق على شيئين ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن وريح يحتقن بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا، وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك ذات الجنب من الشيطان، والثاني هو الذي(6/144)
أثبت هنا وليس فيه محذور كالأوّل، ومما تقرر علم معنى اللدد وأن الذين لدوه هم أهل بيته ولم نر تعيين عددهم وأن ذلك كان في مرض موته وأنه كان في الأدوية. وأما قول السائل بم استحق الحاضرون اللد فيعلم مما يأتي، وقول صاحب العباب فاقتضى جواز التعزير بمثل ما تعدى به هو ما سبقه إليه غيره، لكن عبارته وفيه مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان اهـ، لكنه مردود بأن الجميع لم يتعاطوا لده وإنما الذي تعاطاه بعضهم فكيف يقتص من الجميع ولأجل هذا الاعتراض جعل ذلك من باب التعزير دون القصاص لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه ولكن رد بأنهم كانوا متأوّلين كما أشاروا لذلك بقولهم كراهية المريض للدواء والمتأوّل المعذور في تأويله لا يعزر، فالوجه أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا فلم يكن فيه اقتصاص ولا انتقام وبه يندفع قول العباب فاقتضى الخ، لما علمت أنهم لم يتعمدوا وإنما خشي أن يبنوا على ظنهم ذلك العود إلى مثل فعلهم الأول وظهر له أنهم لا ينتهون بنهيه لتأويلهم المذكور فلم يرد أفعالهم إلا أن يفعل بهم كفعلهم وهو ليس فيه كبير إيذاء لأن شرب القسط بالزيت نافع للأصحاء دون المرضى بمرض لا يكون ذلك دواء له فهم أذوه لكنهم متأوّلون وهو لم يؤذهم، وإنما قصد بذلك عدم عودهم. وأما قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234
ابن العربي أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا في خطيئة عظيمة فقد علمت رده بأنهم لم يرتكبوا خطيئة فضلاً عن كونها عظيمة لأنهم ظنوا الإصلاح وهم معذورون في ذلك الظن ومن ثم لم ينتهوا بنهيه لأنهم أوّلوه بأنه ناشىء عن كراهية المريض للدواء، ثم رأيت بعضهم رد عليه بأنه كان يمكن أن يقع العفو وبأنه كان لا ينتقم لنفسه اهـ وفيه تسليم لما قاله فالوجه ما قلته في رده من منع كون ذلك خطيئة فضلاً عن كونها عظيمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/145)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه عما إذا قال شخص لآخر: نعل الله والديك فهل يعزر القائل أو لا لأنه لم ينطق باللعن؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله الظاهر كما أفتى به بعضهم أنه يعزر لأن ذلك اشتهر في ألفاظ العوام بمعنى اللعن ولا يفهمون ولا يقصدون منه إلا ذلك، وقد صرح أصحابنا في القذف والعتق وغيرهما أنه لا عبرة بتأنيث المذكر وعكسه لأن المراد من ذلك اللفظ يفهمه كل أحد ولو مع تأنيث المذكر وعكسه فكذا هنا المراد من هذا اللفظ يفهمه كل أحد فليجب التعزير بحسب ما يراه الحاكم لائقاً، ولا يجوز له تعدي اللائق ومن ثم حكى ابن دقيق العيد أنه لما ولي القضاء الأكبر بمصر منع نوابه من الضرب بالدرة قال لأنه سبب لتعيير الشخص وتعيير ذريته بذلك على الدوام وظاهر أن الكلام فيمن لا يليق به الضرب بها لا في نحو السفلة الذين لا يبالون بها ولا بما هو أقبح منها والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234(6/146)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى بما لفظه كثيراً ما يتخاصم اثنان فيعير أحدهما الآخر بالفقر أو رعي الغنم مثلاً فيقول الآخر الأنبياء كانوا فقراء ويرعون الغنم أو نحو ذلك مما هو معروف عند العامة مألوف فما حكم ذلك؟. فأجاب عفا الله تبارك وتعالى عنه بقوله: هذا مما ينبغي أن يفطم عنه الناس غاية الفطم لأنه يؤدي إلى محذورات لا يتدارك خرقها ولا يرتفع فتقها وكيف وكثيراً ما يوهم ذلك العامة إلحاق نقص له ببعض صفاته التي هي من كماله الأعظم وإن كان بعضها بالنسبة إلى غيره نقيصة في ذاته كالأمية أو باعتبار عرف العوام الطارىء كالفقر ورعي الغنم فتعين الإمساك عن ذلك وتأكد على الولاة والعلماء منع الناس من الإلمام بشيء من تلك المسالك، فإنها في الحقيقة من أعظم المهالك وقد بالغ الحافظ الجلال السيوطي شكر الله تبارك وتعالى سعيه فأفتى بوجوب التعزير البليغ على من عير ولده برعي المعزى فقال مستدلاً على أن ذلك ليس بنقص الأنبياء رعوا المعزى لأن مقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجل من أن يضرب مثلاً لآحاد الناس ولم يبال في هذا الإفتاء باعتراض علماء عصره عليه بأن مقتضى المذهب أي بل صريحه كما صرح به بعض أكابر أصحابنا أنه حيث لم يقصد بذلك محذوراً من تنقيص أو نحوه، وإنما قصد مجرد الاستدلال على أن هذه الصفة ليست بنقص لأنه لا يتحلى إلا بما هو الغاية في الكمال لا إثم عليه ولا تعزير وأن الإثم والتعزير في ذلك إنما يوافق قواعد الإمام مالك رحمه الله تعالى وأصوله التي بسط الكلام فيها صاحب الشفاء حيث قال ما ملخصه الوجه الخامس أن لا يقصد نقصاً ولا يذكر عيباً ولا سباً ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به أو عند هضمة نالته أو غضاضة لحقته ليس على طريق التأسي وطريق التحقير بل على قصد الترفيع لنفسه أو لغيره أو سبيل(6/147)
التمثيل وعدم التوقير لنبيه أو مع قصد الهزل كقول بعضهم إن قيل فيّ سوء أو كذبت أي بالتشديد أو أذنبت فقد وقع ذلك للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن قد صبرت كما صبر أولو العزم وكما وقع في أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كالمتنبي والمعري وابن هانىء الأندلسي بل خرج كثير من كلامهم إلى حد الاستخفاف والكفر وقد بينا حكمه وغرضنا الآن بيان ما سقنا أمثلته، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت للنبي نقصاً ولا قصد قائلها إزراء أو غضاً فما وقر النبوة ولا عظم الرسالة حين شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء عنها أو ضرب مثل لتطييب مجلسه أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه ممن عظم الله سبحانه وتعالى خطره وشرف قدره وألزم توقيره وبرء ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده فحق هذا إن درىء عنه القتل الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ثم نقل عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234(6/148)
مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال في رجل عير بالفقر فقال: تعيروني بالفقر وقد رعى النبي الغنم أرى أن يؤدب لأنه عرض بذكره في غير موضعه، وعن سحنون أنه كره أن يصلى عليه عند التعجب إلا على طريق الاحتساب تعظيماً له كما أمرنا الله سبحانه وتعالى. وعن الفاسي أنه قال فيمن قال له أسكت فإنك أمي فقال أليس كان النبي أمياً فكفره الناس، إطلاق الكفر عليه خطأ لكنه مخطىء في هذا الاستشهاد إذ الأمية فيه آية له، وفي هذا القائل نقيصة وجهالة لكنه إذا استغفر وتاب ترك لأن ما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه وعن بعض مشايخه أنه قال فيمن نقصه غيره فقال إنما يريد نقصي بذلك أنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي يطال سجنه وأدبه لأنه لم يقصد السب وعن غيره أنه قال يقتل هذا حاصل كلام الشفاء وهو صريح فيما أفتى به الجلال من وجوب تعزير ذلك المستدل في مثل ذلك المقام الذي يخرج اللفظ عن موضوعه إلى إيهام النقص ونحوه نظراً إلى أنه مقام خصام وتبر من نقص لسب إليه هو أو غيره بخلافه في مقام تدريس أو إفتاء أو تأليف أو تقرير للعلم بحضرة أهله فإنه لا حرج فيه، إذ لا إيهام فيه حينئذ بوجه ولكل مقام مقال ثم قال القاضي: ما حاصله أيضاً الوجه السابع أن يذكر ما يجوز عليه أو يختلف في جوازه أو ما يمكن إضافته إليه من الأمور البشرية، أو ما امتحن به من أعدائه وصبر عليه في ذات الله سبحانه وتعالى أو ابتداء حاله وما لقيه من بؤس زمنه أو مر عليه من معاناة عيشه كل ذلك على طريق الرواية وإفادة العلم وهذا ليس فيه نقص ولا غمص ولا إزراء لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ لكن يجب عليه أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه أو يخشى به فتنة اهـ. ولما اعترض على الجلال بأن ذلك القائل لم يصدر منه ما يقتضي عيرة ولا تعزيراً قال للمعترض إن أردت ما وقع في نحو درس أو مذاكرة علم فمسلم وليس هذا(6/149)
صورة واقعتنا وإن أردت عين تلك الواقعة التي هي سباب وخصام في سوق بحضرة طغام يطلقون ألسنتهم بما قد يوجب سفك دمائهم فمعاذ الله وحاشا المفتين أن يقولوا ذلك ثم قال من قال التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب، لأن الأصحاب لم ينصوا عليها، أقول له فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى يقدم على القول به وينسب إلى مذهب الشافعي ثم تنزل، وأجاب عمن قال له إنما أفتيت في هذه المسألة بمذهب مالك، فإن ابن الصلاح سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب فأجاب فيها بمذهب أبي حنيفة وقرر النووي رحمه الله تعالى في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا، وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري وقال إنه ليس في قواعدنا ما ينفيه، وسئل البلقيني عن مسألة لا نقل فيها فأجاب بما ذكره القاضي عياض في المدارك، وذكر في الخادم مسح الخف للمحرم وقال لا نقل في ذلك عندنا وأجاب بالمنقول في مذهب
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234(6/150)
مالك ، ثم قال نص أئمة المالكية على التعزير في هذه المسألة ولم ينص أصحابنا على خلافه ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه فوجب الوقوف عنه والعمل به ثم قال رعي الغنم لم يكن صفة نقص في الزمن الأول لكن حدث العرف بخلافه ولا يستنكر ذلك فرب حرفة هي نقص في زمان دون زمان وفي بلد دون بلد ويشهد لذلك كلام الفقهاء في الكفاءة في النكاح وفي المروءة في الشهادات ثم قال تعريضاً بالمعترضين عليه المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء والحق للأنبياء، وقد ذكر السبكي أن تارك الصلاة يخاصمه كل صالح لأن لكل صالح فيها حقاً حيث فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكذلك المدلسون في هذه المسألة يخاصمهم كل الأنبياء يوم القيامة وعدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وقد قيل ليحيى بن معين أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله سبحانه وتعالى فقال لأن يكونوا خصمائي أحب إليّ من أن يكون النبي خصمي يقول لي لم لم تذب الكذب عن حديثي وكذلك أقول لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إليّ من أن يخاصمني نبي واحد فضلاً عن جميع الأنبياء.(6/151)
وسئل نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين هل ورد أن ذوي الهيئات لا يعزرون وما المراد بهم؟. فأجاب نفع الله بعلومه المسلمين بقوله: قال العز بن عبد السلام في قواعده: من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل. وقال إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها. وقد نص الشافعي على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيترك وفسرهم بعض الأصحاب بأنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر وبعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا اهـ. وتفسير الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه أظهر وأمتن والحديث المشار إليه جاء من طرق كثيرة من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة منها أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود أخرجه أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والنسائي والطبراني في الكبير. ومنها تجاوزوا عن زلة ذوي الهيئة أخرجه النسائي. ومنها تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة إلا في حد من حدود الله تبارك وتعالى أخرجه الطبراني في الصغير. ومنها تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تبارك وتعالى آخذ بيده كلما عثر، رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو نعيم في الحلية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 234(6/152)
باب الردة
وسئل رحمه الله تعالى ورضي عنه هل يحل اللعب بالقسي الصغار التي لا تنفع ولا تقتل صيد إبل أعدت للعب الكفار وأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر وإلباس الصبيان الثياب الملونة بالصفرة تبعاً لاعتناء الكفرة بهذه في بعض أعيادهم وإعطاء الأثواب والمصروف لهم فيه إذا كان بينه وبينهم تعلق من كون أحدهما أجيراً للآخر من قبيل تعظيم النيروز ونحوه، فإن الكفرة صغيرهم وكبيرهم وضيعهم ورفيعهم حتى ملوكهم يعتنون بهذه القسي الصغار واللعب بها وبأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر اعتناء كثيراً وكذا بإلباس الصبيان الثياب المصفرة وإعطاء الأثواب والمصروف لمن يتعلق بهم وليس لهم في ذلك اليوم عبادة صنم ولا غيره وذلك إذا كان القمر في سعد الذابح في برج الأسد وجماعة من المسلمين إذا رأوا أفعالهم يفعلون مثلهم فهل يكفر أو يأثم المسلم إذا عمل مثل عملهم من غير اعتقاد تعظيم عيدهم ولا اقتداء بهم أو لا؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: لا كفر بفعل شيء من ذلك، فقد صرح أصحابنا بأنه لو شد الزنار على وسطه أو وضع على رأسه قلنسوة المجوس لم يكفر بمجرد ذلك اهـ، فعدم كفره بما في السؤال أولى وهو ظاهر بل فعل شيء مما ذكر فيه لا يحرم إذا قصد به التشبه بالكفار لا من حيث الكفر وإلا كان كفراً قطعاً، فالحاصل أنه إن فعل ذلك بقصد التشبه بهم في شعار الكفر كفر قطعاً أو في شعار العيد مع قطع النظر عن الكفر لم يكفر، ولكنه يأثم وإن لم يقصد التشبه بهم أصلاً ورأساً فلا شيء عليه، ثم رأيت بعض أئمتنا المتأخرين ذكر ما يوافق ما ذكرته فقال: ومن أقبح البدع موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم بالتشبه بأكلهم والهدية لهم وقبول هديتهم فيه وأكثر الناس اعتناء بذلك المصريون، وقد قال : «من تشبه بقوم فهو منهم» ، بل قال ابن الحاج : لا يحل لمسلم أن يبيع نصرانياً شيئاً من مصلحة عيده لا لحماً ولا أدماً ولا ثوباً ولا يعارون شيئاً ولو دابة إذ هو معاونة(6/153)
لهم على كفرهم وعلى ولاة الأمر منع المسلمين من ذلك. ومنها اهتمامهم في النيروز بأكل الهريسة واستعمال البخور في خميس العيدين سبع مرات زاعمين أنه يدفع الكسل والمرض وصبغ البيض أصفر وأحمر وبيعه والأدوية في السبت الذي يسمونه سبت النور وهو في الحقيقة سبت الظلام ويشترون فيه الشبث ويقولون أنه للبركة ويجمعون ورق الشجر ويلقونها ليلة السبت بماء يغتسلون به فيه لزوال السحر ويكتحلون فيه لزيادة نور أعينهم ويدهنون فيه بالكبريت والزيت ويجلسون عرايا في الشمس لدفع الجرب والحكة ويطبخون طعام اللبن ويأكلونه في الحمام إلى غير ذلك من البدع التي اخترعوها ويجب منعهم من التظاهر بأعيادهم اهـ.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 238
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص حضرته الوفاة فأوصى بوصايا لوجوه الخير وأبواب البر وعين ورثته ونحو ذلك مما يدل على كمال عقله ووفور رأيه ثم إنه صدر منه في أثناء ذلك وبعده كلام يوجب إما الارتداد أو الاختلاط وذلك بأن قال لبعض الحاضرين أنت النبي أو أنت الله فهل يجعل ذلك اختلاطاً منه فتلغى به الوصية أم يجعل ارتداداً أم يحسن الظن به ويؤوّل كلامه وما الحكم في ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله الذي صرح به أئمتنا رحمهم الله تبارك وتعالى: أن من تكلم بمحتمل للكفر لا يحكم عليه به حتى يستفسر وأن للشاهد اعتماد ما دلت عليه القرائن القوية وحينئذ فإن دلت قرينة على تقدير استفهام أي أأنت كذا حتى يؤخذ بقولك من غير تردد ولا تلعثم لم يحكم عليه بكفر ولا باختلاط فتنفذ وصيته وإن لم تدل قرينة على ذلك فإن ظهر للشاهدين من حاله ما يقتضي الجزم باختلاطه فلا ردة ولا وصية إن قارنها الاختلاط أيضاً أو بعقله حكم بردته وبطلت وصيته إن استمر على ارتداده إلى موته، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 238(6/154)
باب الصيال
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا نطحت بهيمة بهيمة أخرى فهلكت أو تلف منها عضو ما الحكم في ذلك؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا نطحت بهيمة بهيمة أخرى فإن كانت الناطحة مع مالكها أو نحو مستأجرها أو مستعيرها ضمن فعلها مطلقاً ليلاً أو نهاراً راكباً كان أو سائقاً أو قائداً وكذا لو كانت مع غاصب وإن لم يكن معها أحد ضمن من هي تحت يده ما أتلفته ليلاً لا نهاراً إن تعوّدوا الإرسال فيه فقط فإن تعوّدوه فيهما فلا ضمان مطلقاً أو لم يتعودوه فيهما ضمن مطلقاً وإن تعودوه ليلاً فقط لم يضمن فيه وضمن في النهار، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/155)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا أمر ابنتيهما الصغيرتين برعي بقرتين لهما فنطحت إحداهما الأخرى فقتلتها فمن يضمنها. وعن العمراني وجوب الضمان في هذه الحالة ولم يقيده باعتياد الناطحة للنطح، وقيده ابن عجيل به قال: ففي المرة الأولى لا ضمان وتبعه بعضهم فأفتى به بل شرط ابن عجيل لضمان مالك الناطحة اعتيادها النطح وعلم مالكها به منها وعدم حفظه لها. وعن العمراني أيضاً أن محل الضمان إذا أمكن من هي بيده دفعها وخالفه غيره فقال يضمن وإن غلبته لكونها تحت يده وهل الضمان حيث وجب في مال المالك أو الراعي سواء المال والآدمي؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله ذكروا فيما إذا أركب صغيرين أجنبي وتلف بسبب ركوبهما شيء أنه يضمن بخلاف ما إذا كان المركب الولي فإنه إن كان لمصلحتهما مع ضبطهما للمركوب فكما لو ركبا بأنفسهما فالضمان عليهما فكذا يقال هنا إذا أمكن الوليان الصغيرين من الرعي الذي لهما فيه مصلحة لكونه بأجرة أو لملكهما نفسهما وهما ممن يضبط لمثل ما في أيديهما ضمنت راعية الناطحة المنطوحة لتمكنها من ردها ومن ثم لو انفلتت منها وعجزت عن ردها فأتلفت حينئذ شيئاً لم تضمنه الراعية لخروجها عن يدها ويشهد لذلك قولهم لو انفلتت البهيمة فلا ضمان بخلاف ما لو ركبت رأسها وعجز عن ضبطها فإنه يضمن متلفها لأنها في يده فهو المقصر بركوب ما لا يضبطه وكأن من اشترط اعتياد النطح أخذه مما قالوه في الهرة أنها إذا اعتادت الإتلاف وجب ضبطها وضمن متلفها ليلاً ونهاراً بخلاف ما إذا لم تعتد ذلك لا ضمان مطلقاً، لأن العادة حفظ الطعام عنها ولا دليل في هذا على أن البهيمة كذلك فالأوجه ما اقتضاه إطلاقهم أنه لا فرق في ضمان البهيمة التي في يده بين المتعوّدة للنطح وغيرها وحيث وجب ضمان فهو في مال الضامن إن كان المتلف غير آدمي وإلا فعلى العاقلة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 239(6/156)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى بما صورته ذكر ابن العماد مسائل تتعلق بالهر فما حاصلها؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله الحاصل في ذلك: أنه لا يجوز قتل الهر وإن أفسد على المنقول المعتمد بل يجب على دافعه أن يراعي الترتيب والتدريج في الدفع بالأسهل فالأسهل كما يراعيه دافع الصائل. وقال القاضي حسين رحمه الله تبارك وتعالى: يجوز قتله ابتداء إذا عرف بالإفساد قياساً على الفواسق الخمسة، نعم يجوز قتله على الأول المعتمد في صورة وهي ما إذا أخذ شيئاً وهرب وغلب على الظن أنه لا يدركه فله رميه بنحو سهم ليعوقه عن الهرب وإن أدى إلى قتله ومحله إن لم يكن أنثى حاملاً وإلا لم يجز رميها مطلقاً رعاية لحملها، إذ هو محترم لم يقع منه جناية فلا يهدر بجناية غيره، وأما تخريج البغوي لذلك في فتاويه على تترس المشركين بالمسلمين فيجاب عنه بأن تلك حالة ضرورة يترتب عليها فساد عام فلا يقاس عليها ما نحن فيه لأن فساده خاص والأمور العامة يغتفر لأجلها ما لا يغتفر لأجل الأمور الخاصة. قال العلماء: ويستحب تربية الهر لقوله : «إنها من الطوافين عليكم والطوافات» ويصح بيع الهر الأهلي والنهي عن ثمن الهر محمول على الوحشي، ويجوز أكل الهر على وجه ضعيف، ويستحب إكرامه ويجب على مالكه إطعامه إن لم يستغن بخشاش الأرض وسؤره طاهر فإن أكل نجاسة ففي وجه اختاره الغزالي أنه يعفى عنه وإلا صح المنع فعليه لو غاب واحتمل طهر فهمه بشربه من ماء كثير أو قليل جاز أو مكدر بتراب إن أكل نجاسة مغلظة لم ينجس ما ولغ فيه لكن فمه باق على نجاسته عملاً بالأصل فيه وفيما ولغ فيه لما قررته في شرحي الإرشاد والعباب ولو صاد نحو حمامة وجب تخليصه منه لحرمة روحه إذ يحرم قتله بغير الذبح ولو صاد هر مملوك بنفسه لم يدخل ما صاده في ملك صاحبه إلا بعد أن يأخذه منه فقبله يملكه من أخذه بخلاف قنه إذا احتطب أو احتش أو صاد، لأن له قصداً صحيحاً ويده كيد سيده فملك(6/157)
ما صاده مطلقاً ولا يجوز للضيف أن يطعم الهر إلا أن أذن له المالك أو ظن رضاه أو كان الهر مضطراً ولا يجب عليه تنفيره لو أكل لأنه لم يلتزم الحفظ ولو وجد نحو لحمة مع هر لم يجز انتزاعها منه إن علم أن مالكها تبرع بها عليه أو لم يعلم واعتيد أن مثلها يرمي له وإلا كدجاجة ورغيف سن أخذه منه ويكون لقطة فيجب تعريفه وكذا الحكم في نحو الكلب وكل ما يطعمه الإنسان لهر أو حيوان آخر يثاب عليه للحديث الصحيح في ذلك، وفسر الحسن البصري رحمه الله تبارك وتعالى المحروم في الآية بالكلب ويجوز حبس الهر وإطعامه ولا نظر لما في الحيس من العقوبة لأنها يسيرة محتملة، وكذا الطائر. وفي شرح التعجيز لابن يونس أن القفص للطائر كالاصطبل للدابة ودليل جواز حبسهما خبر البخاري وغيره أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، فأفهم أنها لو حبستها وأطعمتها جاز ولم تدخل النار بسببها. وخبره أيضاً أنه كان إذا دخل دار خادمه أنس بن مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه لزيارة أمه ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا يقول لولدها الصغير: يا أبا عمير ما فعل النغير يمازحه عن طير كان يلعب به ويحبسه عنده . وفي الحديث الأوّل دليل على أن قتل الهر كبيرة للتوعد الشديد عليه، نعم اختلفوا في إسلام تلك المرأة والذي رواه أبو نعيم والبيهقي عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها أنها كانت كافرة والخشاش مثلث الأول وهو ما يستتر من صغار الحيوان بالشقوق كالفأر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 239(6/158)
باب الزنا
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «الغيبة أشد من الزنا» ، وقوله : «الغيبة أشد من ثلاثين زنوة في الإسلام مع أنها صغيرة والزنا كبيرة» وهل الزنا من الذنوب التي بين العبد وبين ربه عز وجل فلا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال من أحد أو هو من الذنوب المتعلقة بالآدميين فيحتاج إلى استحلال من قرابة المزني بها ومن زوجها إن كانت متزوّجة وما ضابط الذنب المتعلق بالله سبحانه وتعالى والذنب المتعلق بالآدمي؟ أفتونا بجواب واضح مبسوطاً أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة بمنه وكرمه آمين. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: حديث جابر وأبي سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنهما: «إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا» رواه ابن أبي الدنيا في الصمت، و ابن حبان في الضعفاء، و ابن مردويه في التفسير. ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما بلفظ: «الغيبة أشد من الزنا» ، وله طريق أخرى تبين معناه وهي ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنهما أيضاً: «إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل قد يزني فيتوب الله عز وجل عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه» فعلم منه أن أشدية الغيبة على الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع، وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لا ثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها، بل لا بد من أن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقاً كما شهد به هذا الحديث وليست صغيرة مطلقاً بل إن كانت في نحو حملة العلم والقرآن فهي كبيرة وإلا فهي صغيرة على نزاع طويل فيها. وقد نقل القرطبي الإجماع على أنها كبيرة مطلقاً وعلم من هذا الحديث أيضاً أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه(6/159)
إلى استحلال، وهو ما يصرح به كلام الروضة وأصلها وغيرهما، وصرح به الغزالي في منهاج العابدين وستأتي عبارته وكذا صرح به بعض المتأخرين فقال التوبة الباطنة التي بين الله تبارك وتعالى وبين العبد الماحية للإثم تنقسم إلى توبة عن ذنب لا يتعلق به حق آدمي وإلى توبة عن ذنب يتعلق به حق آدمي فالضرب الأول كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وتقبيلها من الصغائر والزنا وشرب الخمر من الكبائر فتحصل التوبة فيه بالندم على ما مضى والعزم على أن لا يعود إليه والإقلاع عنه في الحال إن كان متلبساً به في الحال اهـ، ثم عدم اشتراط الاستحلال في الزنا لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقاً، ومعنى قولهم السابق لا يتعلق به حق آدمي، أي من المال ونحوه إلا فقد اتفقوا على أنه جناية على الأعراض والأنساب. قالوا: ولهذا اختص بالرجم من بين سائر المعاصي وكانت عقوبته أشد العقوبات فهذا صريح في أن فيه حقاً لأقارب المزني بها ولزوجها أو سيدها، ويؤيد ذلك قولهم إنما لم يفوّض استيفاء حد الزنا لأولياء المزني بها لأنهم قد لا يستوفونه خوفاً من العار، فعلم أن فيه حقاً لآدمي لكنه ليس من الحقوق المقتضية لوجوب الاستحلال لما يترتب على ما ذكر من زيادة العار والظن الغالب فإن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزني بها أو إلى قتلهما معاً فلما ترتب على ذكره هذا لم يمكن القول باشتراطه وقد صرح بنحو ذلك الغزالي في منهاجه فقال: إن الذنوب التي تكون بين العباد قد تكون في المال وفي النفس وفي العرض وفي الحرم وفي الدين. فأما المال فيجب رده عند المكنة فإن عجز عنه لفقره استحله منه فإن عجز عن استحلاله لغيبته أو موته وأمكن التصدق عنه فعل وإلا فليكثر من الحسنات ويرجع إلى الله تبارك وتعالى ويتضرع إليه في أن يرضيه عنه يوم القيامة. وأما النفس فيمكنه أو وليه من القصاص فإن عجز رجع إلى الله تبارك وتعالى في إرضائه عنه يوم(6/160)
القيامة. وأما العرض فإن اغتبته أو شتمته أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده وأن تستحل من صاحبه إن أمكنك هذا إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك. وأما الحرم فإن خنته في أهله أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظاً بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك ويجعل له خيراً كثيراً في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه. وأما في الدين فإن كفرته أو بدعته أو ضللته فهو أصعب الأمور فتحتاج إلى تكذيب نفسك بين يدي من قلت له ذلك وأن تستحل من صاحبك إن أمكنك وإلا فالابتهال إلى الله سبحانه وتعالى جداً والندم على ذلك ليرضيه عنك اهـ. وسكت عليه الزركشي وغيره بل قال الأذرعي أنه في غاية الحسن والتحقيق. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/161)
الأذرعي في موضع آخر: ويشبه أنه يحرم الإخبار أي بالحسد إذا غلب على ظنه أنه لا يحلله وأن يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر. ثم قال: ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين إخباره ليخرج من ظلامته بيقين وإن غلب على ظنه أن إخباره يجر شراً وعداوة حرم إخباره قطعاً وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي رحمه الله تعالى من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك حقداً وشراً وإن حلله بلسانه اهـ، فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به، ومن ثم أطلق النووي رحمه الله تبارك وتعالى فيه عدم الإخبار فقال المختار: بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد اهـ فما بالك بالزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق وكل إثم لا ضرر يلحق الآدمي بسببه هو المتعلق بالله سبحانه وتعالى وضده هو المتعلق بالآدمي، وأما خبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام فلم أر له ذكراً في كتب الحديث طويلها ومختصرها، والظاهر أنه لا أصل له، وقول السائل زنوة صوابه زنية كما عبرت به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن قول التاج السبكي رحمه الله تبارك وتعالى:
وخمسة من زناة الناس خامسهم
ما ناله بالزنا شيء من الضرر
والقتل والرجم والجلد الأليم كذا
التغريب وزع في الباقين فاعتبر
فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: صوره الناظم بقوله: قيل إن محمد بن الحسن سأل الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما عن خمسة زنوا بامرأة فوجب على واحد القتل وآخر الرجم والثالث الجلد والرابع نصفه ولم يجب على الخامس شيء فأجاب الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه بأن الأوّل ذمي زنى بمسلمة فانتقض عهده فيقتل والثاني محصن والثالث بكر والرابع عبد والخامس مجنون.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/162)
وسئل عمن روى حديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه» الفاعل والمفعول به؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: رواه كثيرون عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما وصححه الحاكم وابن الجارود والضياء في المختارة لكنه ضعفه آخرون واعترض ومن ثم قال شيخ الإسلام في تخريج أحاديث الرافعي أنه مختلف في ثبوته أي ومع ذلك ليس قدحاً في ثبوته، وإنما هو إشارة إلى أن الصحيح قد يكون متفقاً عليه وقد يكون مختلفاً فيه وهذا قد يكون فيه شذوذ أو غرابة ونحوهما. ومن ثم قال الحاكم الصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها، وهي مبنيه في محلها من كتب الحديث ونظير ذلك أن بعضهم رأى قول الترمذي في بعض النسخ في حديث: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها» هذا حديث منكر، فظن أنه أراد أنه باطل أو موضوع وليس كذلك بل المنكر قسم من أقسام الضعيف كما صرح به الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م، ومن ثم اعترض الذهبي إطلاق الخطيب المنكر على الباطل ووصف الذهبي عدة أحاديث في الكتب المعتمدة حتى الصحيحين بالنكارة لأنها قد ترجع إلى الفردية ولا يلزم منها ضعف متن الحديث فضلاً عن بطلانه، وروى حديث السؤال عن جماعة عن أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ وصححه الحاكم وغيره ونوزع فيه وأجيب عنه ورواه جماعة عن جابر. وفي بعض رواياته: سمعت رسول الله يقول على المنبر: «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه» ورواه ابن جرير عن علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله : «يرجم من عمل عمل قوم لوط أحصن أو لم يحصن» وصح عن عثمان ـ رضى الله تعالى عنه ـ أشرف على الناس فقال: أما علمتم أنه لايحل دم امرىء مسلم إلا بأربعة. وفي رواية: لا يجب القتل إلا على أربعة رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير حق أو عمل عمل قوم لوط. وقوله: أما علمتم دليل على اشتهار ذلك عندهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/163)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
باب السرقة
وسئل نفعنا الله سبحانه وتعالى ببركته عمن سرق آنية موقوفة للشرب في المسجد أو مصحفاً موقوفاً للقراءة فيه وهو غير قارىء فهل يقطع أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: هو كالقناديل التي للوقود ونحوها وقد قالوا لا قطع بذلك فهذه مثلها، ولابن العماد احتمالان في الثانية أحدهما يقطع إن لم يكن قارئاً، إذ لا حق له والثاني لا لأنه قد يدفعه إلى من يقرأ له فيه أو يتعلم ويقرأ والذي يظهر الثاني وإن كان للأوّل وجه وجيه لأنهم قالوا يقطع الذمي بذلك واحتمال تعلم هذا كاحتمال إسلام ذاك لكن الفرق على الثاني أن للمسلم في حال عدم قراءته حقاً بخلاف الذمي فإنه حال كفره لا حق له في ذلك البتة ولو وقف على من يقرأ فيه لإسماع الحاضرين لم يقطع قطعاً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243
باب السير(6/164)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى في كل ما يعم نفعه البلد كعمارة مساجدها وعمارة سورها ومؤنة القائمين بحصونها ذكر الأئمة أنه على أهل القدرة من أهل تلك البلد فما المراد بأهل القدرة؟ هل هم كل من لا تحل له الزكاة أم لهم حد غير ذلك؟ وهل يجوز للوالي أصلحه الله تعالى أن يخص بعضهم بالقيام بذلك دون بعض، أو يخص البعض في وقت والبعض الآخر في وقت آخر؟ أو يجب عليه التوزيع بينهم لأن المؤنة تختلف باختلاف الأوقات؟ وهل التوزيع على قدر المال أم على الرؤوس، وحيث قيل إنه على قدر المال بدليل أن الفقير لا شيء عليه فلو كانت الأموال عقاراً فهل التوزيع على قدر مساحة الأرض أو قيمتها وكذا في النخيل ونحوها هل للاعتبار بالقيمة أو العدد؟ فالمسألة واقعة وإليكم أحكامها راجعة. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بأن الذي يتجه هنا أن المراد بأهل القدرة الذين يملكون ما زاد على الكفاية سنة كما يصرح به كلام الشيخين وغيرهما. وعبارة الروضة: ومنها أي من فروض الكفايات ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس كدفع الضرر عن المسلمين وإزالة فاقتهم كستر العورة وإطعام الجائعين وإغاثة المستغيثين في النائبات فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والمروءة إذا لم تف الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها فلو انسدت الضرورة فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة وجهان. قلت: قال الإمام في كتابه الغياثي: يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. فقوله ما يتعلق بمصالح المعاش وانتظام أمور الناس كدفع الضرر عن المسلمين وإغاثة المستغيثين في النائبات يشمل عمارة السور ونحوها مما يضطر الناس إليها، وقد بيّن أن ذلك لا يجب إلا على الموسر، وأن المراد به من عنده فاضل عن كفاية سنة فعلم أن المسألة منقولة في كلام الشيخين والمراد بكفاية السنة هنا كما هو ظاهر(6/165)
كفايته وكفاية ممونه مطعماً وملبساً ومسكناً ودواء وغيرها مما يحتاج إليه، ويستفاد من كلامهما هذا أن الموسرين لا يخاطبون بنحو عمارة السور إلا إذا لم يكن في بيت المال شيء أو كان فيه شيء وجار الناظر في أمره فلم يصرفه في مصارفه أو احتيج لصرفه فيما هو أهم من ذلك كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك أو حالت الظلمة دونه، والراجح
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243
من الوجهين المطلقين أولهما، ومنه يؤخذ أن الواجب في عمارة السور إنما هو القدر الذي يندفع به الضرورة فقط، وبهذا تعلم أن من جعل عمارة المسجد كعمارة السور فقد أبعد لأن المسجد لا يضطر إليه إذ لا تتوقف صلاة على صحته ولا نظر لتوقف الاعتكاف عليه، لأن الاعتكاف نادر وغير واجب، والواجب منه بنذر أندر فلا يصلح حينئذ غير المسجد مما يضطر إليه حتى يلزم الموسرون ببنائه، ويؤخذ من تعبيره بدفع الضرر أن عمارة ذلك لا يخاطب بها الموسرون إلا إن تحقق أو غلب على الظن أن عدم عمارته يكون سبباً لتلف نفس أو مال محترم، فإن قلت: اعتبار الموسر هنا بمن زاد ماله على كفاية سنة ينافيه جعلهم الموسر في العاقلة من يملك عشرين ديناراً، قلت: يفرق بينهما بأن ملحظ التحمل في العاقلة أن القبائل في الجاهلية كانوا يقومون بنصرة الجاني منهم ويمنعون أولياء الدم أخذ حقهم فأبدل الشرع تلك النصرة ببدل المال وملحظ سد الضرورة هنا وقاية النفس من التلف أو نحوه من غير تسبب من المتحمل في ذلك بوجه لا باعتبار أمر أصلي ولا عارض ومن غير نفع يعود عليه في رحمه وقراباته فلذلك وسع في أمره، ولم يلزم بذلك إلا حيث كان من أهل المواساة، ولا يكون منهم إلا إذا زادت كفايته على سنة لأن كثيرين من أئمتنا حرموا عليه الزكاة حينئذ بخلاف التحمل في العاقلة فإن سببه من المتحمل في الأصل وهو منع الجاني وبعود نفع على القريب بحفظه من القتل باعتبار ما كان فضويق في أمره وألزم به غير الغني أيضاً(6/166)
وهوالمتوسط الذي يملك أكثر من ربع دينار والذي يؤخذ منه ولو بشيء قليل فإن قلت قد يكون معه كفاية سنة ويحل له أخذ الزكاة فهو أهل لأن يواسيه الناس فكيف مع ذلك يجب عليه مواساة غيره، قلت لا مانع من ذلك، ألا ترى أن من معه نصاب أو أكثر وقام به وصف يجوز له أخذ الزكاة لا يقتضي ذلك سقوطها عنه ولا مانع من كونه يجوز له الأخذ أو يجب عليه باعتبار ويجب عليه الإعطاء باعتبار آخر والأحكام تختلف باختلاف الاعتبارات وإن اتحدت الذوات كما هو جلي، وقول السائل نفع الله سبحانه وتعالى به، وهل يجوز للولي الخ، جوابه أن مقتضى كلامهم في باب اللقيط أن الأغنياء إن أمكن استيعابهم قسطها على رؤوسهم فإن تعذر استيعابهم لكثرتهم قسطها على من رآه منهم باجتهاده فإن استووا في اجتهاده تخير وإنما قلنا إنه يقسطه على رؤوسهم لأنهم استووا كلهم في ملك فاضل عن السنة فكلهم من أهل التحمل وحيث كانوا كلهم كذلك فتخصيص أحدهم ترجيح له من غير مرجح فلزمه حيث أمكنه استيعابهم أن يوزعه عليهم باعتبار رؤوسهم دون أموالهم بخلاف ما إذا لم يمكنه استيعابهم فإنه يجتهد في التخصيص فإن استووا تخير ولا نظر إلى ما يترتب على الحالة الأولى من استواء غرم صاحب ألف وصاحب مائة ألف مثلاً، لأنا لا نعتبر قدر الزيادة على كفاية سنة حتى نوزع المغروم على نسبته وإنما نعتبر أن يكون معه فاضل عن كفايتها من غير اعتبار قدره ثم إذا خصه في التوزيع شيء لم يلزمه إلا إذا كان من الفاضل، فإن كان بعضه من الفاضل وبعضه من كفاية السنة لم يلزمه إلا البعض الذي من الفاضل وسقط عنه ما هو من كفاية السنة ووزع على غيره ممن لو خصه غرمه من الفاضل، فإن قلت إنما يتجه القياس على ما قالوه في اللقيط إذا كان مرادهم بالغنى فيه ما قالوه في باب السير في المسألة السابقة وهو من معه فاضل عن كفاية سنة، قلت الظاهر أن مرادهم في البابين واحد وهو من معه ما ذكر لاتحاد ملحظهما وهو سد الضرورة عن ذويها بل ما(6/167)
في اللقيط فرد من أفراد ما في السير كما هو ظاهر، لأن نفقة اللقيط إنما لزمت الأغنياء لدفع ضرورته فهو من إطعام الجائع المذكور في السير لكنهم في اللقيط ذكروا حكم تعدد المنفق ولم يذكروه في السير إحالة على ما قدموه في اللقيط ثم المراد بالأغنياء في اللقيط ما يعم أغنياء بلده وغيرهم وكذا يقال المراد بهم في السير ذلك فما في السؤال من أنه على أهل القدرة من أهل تلك البلد لا ينبغي أن يفهم منه التخصيص حتى لو اضطر أهل بلد لعمارة سورها ولا غني فيهم لم يسقط الخطاب بعمارته عن بقية الأغنياء الذين في غير تلك البلد بل يخاطبون به وكان تخصيص أهل البلد لأنه الأيسر فهو نظير ما قاله جمع من أن تخصيصهم الاقتراض والإنفاق على اللقيط بأغنياء بلده ليس للاختصاص بهم بل لأنه الأيسر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يشمت الصغير والمجنون إذا عطسا وإن لم يحمد الله سبحانه وتعالى؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله الذي دل عليه كلامهم أنه لا يشمت عاطس إلا إذا حمد الله وأسمع المشمت فغير الحامد بالكلية والحامد بحيث لا يسمعه من يريد تشميته لا يسن تشميته سواء كان تركه الحمد أو الجهر به لعذر أو غيره وحاضن الطفل وغيره سواء في النجاسات المعفو عنها وغيرها فلا مزية للحاضن على غيره لسهولة اجتنابه للنجاسة عند تحري ذلك وعدم السهولة على كثير من النساء إنما هو لتساهلهن وعدم تحريهن للطهارة والنظافة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/168)
وسئلت ما حكم المصافحة بعد التدريس وفي ليالي رمضان بعد الدعاء عقب الوتر والتراويح وكذلك بعد صلاة العيد وما الأرحام وكيف كيفية صلتهم؟. فأجبت بقولي الذي دلت عليه صرائح السنة، وصرح به النووي وغيره أنه حيث وجد تلاق بين اثنين سن لكل منهما أن يصافح الآخر وحيث لم يوجد ذلك بأن ضمهما نحو مجلس ولم يتفرقا لا تسن سواء في ذلك المصافحة التي تفعل عقب الصلاة ولو يوم العيد أو الدرس أو غيرهما بل متى وجد منهما تلاق ولو بحيلولة شيء بين اثنين بحيث يقطع أحدهما عن الآخر سنت وإلا لم تسن نعم التهنئة بالعيد والشهور سنة كما ذكره بعض أئمتنا واستدل له ولا يلزم من ندبها ندب المصافحة فيها وإن لم يوجد شرطها السابق، والمراد بالأرحام الذين يتأكد برهم وتحرم قطيعتهم جميع الأقارب من جهة الأب أو الأم وإن بعدوا، ومن ثم قال في الأذكار يستحب استحباباً متأكداً زيارة الصالحين والإخوان والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم وينبغي أن تكون زيارته لهم على وجه لا يكرهونه وفي وقت يرضونه والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة اهـ، وبه علم الجواب عن قول السائل فكيف كيفية صلتهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243(6/169)
وسئل رحمه الله عن الغنائم التي لم تقسم القسمة الشرعية كغنائم هذا الزمان إذا وصل منها شيء إلى من له حق في الغنيمة هل يجوز له الانتفاع به أو لا؟ فيجب الرد إلى الأمير الظالم الذي يصرفها في غير موضعها وما حكم الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان في مثلها وعن كفار مليبار الذين يعتادون إعانة المسلمين وإجراء أحكام الدين بينهم، لأن عمارة بلدانهم بالمسلمين مع أنه لم يقع بين الطائفتين عهد ولا قول بل المسلمون رعيتهم ويسكنون بلادهم ويسلمون العشور والغرامات إليهم هل هم حربيون أو لا؟ وهل يجوز أخذ الربا من الحربيين والخيانة في مبايعتهم في الكيل والوزن أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ذكر الغزالي في الإحياء أن السلطان إذا لم يدفع للمستحقين حقوقهم من بيت المال ففي جواز أخذ أحدهم شيئاً منه أربعة أوجه: أحدها: يأخذ ما يعطي وهو حصته والباقون مظلومون قال: وهذا هو القياس لأن المال ليس مشتركاً بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين لأن ذلك ملك لهم حتى لو ماتوا قسم بين ورثتهم وهنا لو مات لم يستحق وارثه شيئاً حكاه عنه في المجموع وأقره. ثانيها: المنع لأنه مشترك ولا يدري نصيبه منه قال وهذا غلو لكن جزم به الشيخ عز الدين في قواعده اهـ المقصود منه وبما قرره يعلم الفرق بين الغنيمة وغيرها فعلى الأول من له حق في بيت المال إذا وصل إليه منه شيء يجوز له أخذه والتصرف فيه سواء أكان ذلك من فيء أو غيره من بقية أموال بيت المال كالجزية والعشور ومال ذمي مات بلا وارث وما فضل عن وارثه غير المستغرق وكذا خمس الغنيمة إذا قسمها الإمام وأعطى الغانمين أربعة أخماسهم وأبقى الخمس الآخر، فإذا وصل من ذلك الخمس شيء لمن له فيه حق جاز له أخذه كما مر، أما إذا لم يقسم للغانمين فلا يجوز لأحد وصل إليه من الغنيمة شيء قبل القسمة أخذه لما أشار إليه الغزالي من أن الغانمين شركاء على الحقيقة فالمال مشترك بينهم وبين أهل الخمس فهم(6/170)
شركاء لأهل الخمس وأحد الشريكين لا يجوز له أن يستبد من المال المشترك بذرة إلا بإذن شريكه أو شركائه، وإنما جاز في نحو الفيء ما مر لما قرره الغزالي من أن الشركة في غير الغنيمة ليست حقيقية بدليل أن من مات منهم لا تنتقل حصته لوارثه بخلاف الغانمين، فإن شركتهم حقيقية إذ من مات منهم تنتقل حصته لوارثه ولا فرق في جميع ما ذكر بين أن يكون ظالماً أو عادلاً والكفار المذكورون حربيون ومع ذلك لا تجوز معاملتهم بالربا ولا خيانتهم في كيل ولا وزن ولا غيرهما كما صرح بذلك الأئمة وبسطوا الكلام عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يصح شراء المسلم أطفال الكفار من آبائهم وأمهاتهم الكفرة أم لا؟. فأجاب رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: لا يمكن شراء الولد من أبيه أو أمه لأن شرط صحة البيع الملك في المبيع لمن وقع له عقد البيع وهذا متعذر هنا، لأن الوالد متى ملك ابنه بأن استولى عليه وقصد تملكه بذلك عتق عليه فلم يمكن اجتماع الوالدية والملكية فإن باعه من غير استيلاء وقصد تملكه فالبيع باطل أيضاً لعدم الملك هذا كله في الحربيين أما من بدارنا بأمان فلا يمكن تملك الوالد لابنه بقهر لأن دارنا دار إنصاف بخلاف دارهم ولمن اشترى حربياً من أبيه أو أمه وأنه إذا صار بيده يستولي عليه ويقصد تملكه فحينئذ يملكه بذلك لا بعقد الشراء لعدم إمكانه كما علمت، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/171)
وسئل هل يلزم رد جواب الكتاب ولو بلغ السلام في كتاب هل يلزم التلفظ برده على الكاتب والرسول وما فائدة التلفظ مع غيبة الكاتب والرسول؟ أبسطوا الجواب. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: يسن السلام على الغائب إما برسوله وإما بكتابه ويلزم الرسول إذا رضي بتحمله بالإبلاغ، وأما المرسل إليه فلزمه الرد فوراً ثم إن كان السلام عليه بالإرسال لزمه الرد باللفظ وإن كان بالكتابة لزمه الرد بها أو باللفظ ويندب الرد على الرسول أيضاً وتقديمه فيقول وعليك وعليه السلام وكأن سبب عدم جعلهم قوله وعليك السلام قاطعاً لفورية الرد لأنه غير أجنبي فكما اغتفروه في عدم قطعه لفورية القبول في نحو البيع فكذلك يغتفر الفصل به هنا بل ندب تقديمه لأن الحاضر أولى بالرعاية من الغائب، وفائدة وجوب الرد باللفظ مع غيبة المسلم أن في وجوب الرد حقين حقاً لله سبحانه وتعالى وحقاً للآدمي فلو فرض سقوط حق الآدمي لغيبته لم يسقط حق الله سبحانه وتعالى، إذ لا مقتضى لإسقاطه وأيضاً إذا وقع الرد في حضرة الرسول باللفظ بلغه لمرسله فهذه فائدة ظاهرة، وأما وجوب الرد بالكتابة فحكمته ظاهرة لأن الكتاب إذا وصل للمسلم كان بمنزلة الرد عليه حينئذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243(6/172)
وسئل رحمه الله سبحانه وتعالى بما لفظه ما حكم المصافحة وتقبيل اليد والرجل والرأس والانحناء بالظهر والقيام؟ أبسطوا الجواب. فأجاب بقوله: المصافحة للقادم سنة وكذا تقبيل ما ذكر من نحو عالم وصالح وشريف نسب والانحناء بالظهر مكروه والقيام لمن ذكر سنة هذا مذهبنا ووراء ذلك تذنيبات لا بأس بالتعرض لها. قال ابن عبد السلام : المصافحة المعتادة بعد الصلاة بدعة إلا لقادم لم يجتمع بمن صافحه قبل الصلاة. قال بعض المالكية : ومذهبنا في المصافحة كما ذكره العز. وروى الترمذي أيضاً أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل منا يلتقي مع أخيه أفينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: «لا» ، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» . وفي سنده مقال وقد روى الدارقطني من حديث عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه من أرض الحبشة خرج إليه النبي فعانقه وسنده ضعيف لكن اتفقوا كما قال النووي : أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال بل ظاهر كلام مالك وابن عيينة وهما من هما من حديث وغيره صحته فإن مالكاً لما أنكر المعانقة استدل عليه ابن عيينة به فأجابه مالك بأنه مخصوص بجعفر فرد عليه ابن عيينة بأن الأصل عدم الخصوصية فانقطع مالك وسكت ومن ثم قال بعض أئمة مذهبه الحق مع ابن عيينة . قال بعض أئمة المالكية وروى شيوخنا طريق المصافحة وصفتها وهي أن يجعل كفه اليمنى في كفه اليمنى ويقبض كل أصابعه على يد صاحبه، وأنكر مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه تقبيل اليد وما ورد فيه والحق أنه سنة كما قدمناه لما روى الترمذي أن اليهوديين اللذين سألا النبي عن التسع الآيات فأجابهم قبلا يده ورجله ولم ينكر عليهما، ورواه أبو داود أيضاً لكن الأول فيه زيادة. وروى ابن حبان عن كعب بن مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: لما نزلت توبتي أتيت النبي فقبلت يديه وركبتيه وروى أيضاً حديث الأعرابي في إتيان الشجرة(6/173)
للنبي وفيه ائذن لي أن أقبل رأسك ويدك ورجلك وفيه ائذن لي في السجود لك فقال: «لا يسجد أحد لأحد ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظيم حقه عليها» . وفي حديث وفد عبد القيس لما قدموا عليه فمنهم من سعى، ومنهم من مشى، ومنهم من هرول حتى أتوا إليه وأخذوا بيده فقبلوها إلى غير ذلك من الطرق. وفي بعضها أن علياً كرّم الله وجهه قبل يد العباس ورجله ويقول: أي عم ارض عني. قال الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243(6/174)
البرزلي المالكي: أردت أن أفعل ذلك، أي تقبيل اليد مع شيخي، فأراد أن ينزع يده فقلت له لا ترو هذا الكتاب حين لم تعمل به، فقال كرهه مالك فقلت له مالك أنكر ما روي فيه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فتركني بعد ذلك وكذا كان شيخنا الفقيه الإمام وغيره من أشياخي لا ينكرون عليّ ذلك وقصدي بذلك التعظيم والتكرمة لأشياخي ولما تقرر عندي من الأحاديث وعدم إنكار ذلك من معظم من يقتدى به وفعلت ذلك مع بعض الكبراء فقال هو من باب المدحة في الوجه فإن لم يخف على المفعول له من تعاظم نفسه فلا بأس وإلا كره لما فيه من المفسدة، وسئل العز بن عبد السلام عن القيام فقال: لا بأس به لمسلم يرجى خيره أو يخاف شره ولا يفعل لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى ولا يجوز تكريمه باللقب الحسن إلا لضرورة أو حاجة ماسة، وينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجراً عن كفرهم وفسقهم وغيره لله عز وجل قال: والانحناء البالغ حد الركوع لا يفعله أحد لأحد كالسجود ولا بأس بما نقص عن حد الركوع لمن يكرم من أهل الإسلام وإذا تأذى مسلم بترك القيام فالأولى أن يقام له فإن تأذيه بذلك مؤد إلى العداوة والبغضاء وكذلك التلقيب بما لا بأس به من الألقاب والأصل في ندب القيام لأهل الفضل قوله حين قدم سيد الأنصار سعد بن معاذ ـ رضى الله تعالى عنه ـ : «قوموا إلى سيدكم» والخطاب للأنصار أو للكل. وقد صنف النووي رحمه الله تعالى جزءاً فيه وذكر الأحاديث الواردة فيه وأحكامها وما يتعلق بها. قال ابن عبد السلام وغيره: وقد صار تركه في هذه الأزمنة مؤدياً إلى التباغض والتقاطع والتحاسد، فينبغي أن يفعل لهذا المحذور وقد قال : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله سبحانه وتعالى» ، فهو لا يؤمر به بعينه بل لكون تركه صار وسيلة إلى هذه المفاسد في هذا الوقت ولو قيل بوجوبه لم يكن(6/175)
بعيداً لأن تركه صار إهانة واحتقاراً لمن اعتيد القيام له، ولله سبحانه وتعالى أحكام تحدث عند حدوث أسباب لم تكن موجودة في الصدر الأول اهـ، وعلى القيام ومحبته للتعاظم والكبر حمل قوله : «من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» أعاذنا الله سبحانه وتعالى من ذلك بمنه وكرمه آمين.
وسئل رحمه الله تعالى أفتى بعضهم بهدم جميع كنائس اليمن فهل ما قاله صحيح أم لا؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: اليمن مما أسلم أهله عليه وقد ألحق الشيخان هذا القسم بما علم حدوثه في الإسلام في أن ما شك في حدوثه أو قدمه فيه من الكنائس لا يهدم لاحتمال أنه كان ببرية وأن العمارة اتصلت به لكن جرى ابن الرفعة ومن تبعه في كنائس القاهرة على ما يصرح بهدم جميع كنائس عدن لاستحالة ذلك الاحتمال فيها، لأن السور المحيط بها قديم قبل الإسلام وهو محفوف بالجبال والبحر فلا يمكن أن كنائسها كانت بغير عمارة البلد وأنها اتصلت بها.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل تتأدى سنة التشميت بيرحم الله سيدي والسلام بالسلام على سيدي؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: لا تتأدى سنتهما وفرض رد الثاني إلا بنحو يرحمك الله والسلام عليك مما فيه خطاب وجمع بعضهم بين الأدب والسنة فقال رحمك الله سيدي.(6/176)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما يقال مالي إلا الله سبحانه وتعالى وأنت هل له أصل؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: استدل له بقوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (الأنفال: 64) بناء على أن العطف على الجلالة لكن الأرجح أنه على الكاف، واعترض هذا الاستدلال أيضاً بأن ذلك من الله سبحانه وتعالى فلا يقاس به ما من المخلوق، ومن ثم كره الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يقال قال الرسول مع قوله تعالى: {يا أيها الرسول} لأن لله عز وجل أن يخاطب خلقه بما شاء وليس ذلك لبعضهم مع بعض وأقسم سبحانه وتعالى بكثير من مخلوقاته إعلاماً بشرفهم، ويكره لنا ذلك. وذكر ابن عبد السلام في قوله : «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» أن التشريك في الضمير من خصوصياته ونهيه عنه إنما هو بالنسبة لغيره، ويدل على عدم الاستدلال بالآية ما ورد أن رجلاً قال للنبي : ما شاء الله وشئت، قال: «جعلتني لله عز وجل عدلاً ما شاء الله وحده» .
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عمن سلم عليه وهو قابض ذكره وعورته مستورة هل يجب عليه الرد أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله: إن الضابط أن كل من كان على حالة لا يخاطب فيها عرفاً لا يلزمه الرد ولا شك أن قابض ذكره للاستجمار كذلك فلا يلزمه الرد وكذا قابضه لنحو الاستجمار لشدة انتشاره بين الناس أو لينزل مني منه أو غير ذلك مما يظهر ويستحيي من التكلم معه بسببه.
وسئل عن كافر ضل عن طريق صنمه فسأل مسلماً عن الطريق إليه فهل له أن يدله الطريق إليه؟. فأجاب بقوله: ليس له أن يدله لذلك لأنا لا نقر عابدي الأصنام على عبادتها فإرشاده للطريق إليه إعانة له على معصية عظيمة فحرم عليه ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 243(6/177)
باب الهدنة
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا أسلم واحد من كفار مليبار فلحق بنا وتبعه المشركون وألزمونا رده إليهم لقوّتهم وضعفنا فهل يجوز رده إليهم مع أننا إذا لم نرده إليهم فلا بد من هجرتنا وطننا حتى نسلم من شرورهم وإذا ارتد مملوك لنا ولحق بهم ولا قدرة لنا على استخلاصه من أيديهم فهل لنا أخذ قيمته منهم وهل يصح شراء المرتد منهم إن باعوه لنا؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: إذا عجزنا عن أن نحول بينهم وبينه لم نأثم بأخذهم له وكذا لو لم نقدر على منعه منهم إلا بجلائنا عن أوطاننا فلا يلزمنا ذلك، بل قضية كلام أصحابنا جواز الرد، أي تمكينهم من أخذه مطلقاً حيث قالوا: لو جاءنا منهم حر بالغ عاقل مسلم والرد مشروط علينا لزمنا إن كان له عشيرة تحميه وطلبته عشيرته، وكذا إن كان المطلوب يقهرهم وينفلت منهم وخرج بقولنا والرد مشروط ما إذا لم يشرط فلا يجب الرد مطلقاً اهـ، فأفهم قولهم لا يجب الرد مطلقاً أنه يجوز وهذا وإن كان محتملاً ويتردد النظر فيه إلا أن ما ذكرته من الجواز بقيده ظاهر لا مرية فيه، ولنا أخذ قيمة المرتد منهم كما صرح به أئمتنا ولا يملكونه بدفعها إلينا وما أوهمه كلام الشيخين في الهدنة من ملكهم له بدفعها مبني على الضعيف أنه يجوز بيع المرتد للكافر والمعتمد كما في المجموع وغيره، أنه لا يجوز ولا يصح بيع المرتد للكافر لبقاء علقة الإسلام فيه فعليه لا يملكونه وإن دفعوا القيمة إلينا وإنما هي بمنزلة القيمة المأخوذة للحيلولة فإذا ردوه إلينا رددناها إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 248
باب الصيد والذبائح(6/178)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن رجل سرق له شاة فخرج في طلبها فوجد السارق قد ذبحها وحنذها فاستنقذها منه فأراد أن يأكل من لحم شاته فقال له بعض أهل بلده حرمت وما يلزم السارق بعد إتلافها؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بأنه يجوز له أكل شاته ويلزم السارق ما بين قيمتها حية وحنيذة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما إذا اعتدى رجل على ماشية قوم فقطع بطونها وبعضها قطع لسانها وبعضها قطع إحدى قوائمها أو جميع القوائم أو أخرج كروشها وبقي شيء منها فيه بعض حياة فماذا يحل من هذه المواشي التي هذا حالها وماذا يجب عليه؟ إذا قلتم أن الذي قطع لسانها تحل فإن قلتم لا فهل يحل بيع شيء منها إذا كان يرجى لصاحبة اللسان العافية وكذا البقرة إذا قطع لسانها هل يحل لحمها وبيعها لمن يبيع اللحم أم لا؟ فإن هذا واقع في بلدنا لا محالة لأن هذه البلدة ما فيها سلطان. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا قطع شيء من البهيمة سواء لسانها وغيره فإن أشرفت على الموت بأن كانت حياتها مستقرة وإن قطع بموتها بعد يومين أو ثلاثة كانت حلالاً إذا ذبحت ويحل بيعها وأكلها وعلى الجاني ما بين قيمتها صحيحة ومجروحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/179)
وسئل نفعنا الله تعالى بعلومه عما لو لقي شيئاً مطروحاً وشك أهو معرض عنه فيأخذه أم لا فيتركه هل يحل له الأخذ أم لا؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بأن الذي يتجه في ذلك أنه يراعى في ذلك القرائن الدالة في العادة على أن مثل ذلك الشيء المطروح مما يعرض عنه أو لا، فإن اقتضت أنه مما يعرض عنه جاز أخذه والتصرف فيه كما يصرح به قول الروضة والأرجح أنه يملك الكرة والسنابل ونحوها، ويصح تصرفه فيها بالبيع ونحوه وهذا ظاهر حال السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم ولم يحك أنهم منعوا من أخذ شيء من ذلك والتصرف فيه اهـ. قال البلقيني : وقوله الأرجح يقتضي إثبات خلاف في السنابل وليس كذلك، ولا فرق في صورة السنابل بين أن يكون الزرع لصغير أو نحوه ممن لا يعتبر إذنه وكذلك في صورة الماء على الوجه المذكور والذي ذكره في الماء هو قوله، وأما الشرب من الماء فإن كان يجري على وجه لا يحتفل به ملاكه ولا يمنعون منه أحداً وعادته المطردة كذلك فهذا يجوز الشرب منه ولو كان في ملاكه في الأصل الصغير وغيره ممن لا يعتبر إذنه وليس هذا كما إذا أعرض عن كسرة لأن ذلك في الذي يعتبر إعراضه، وأما التقاط السنابل فهو قريب مما نحن فيه اهـ، وكلامه صريح فيما ذكرته من النظر إلى العادة والعمل بما دلت عليه. ألا ترى أنه لا فرق بين الكسرة والسنابل في أن الأولى لا بد في المعرض عنها أن يكون مطلق التصرف بخلاف الثانية وإن اقتضت أنه مما لا يعرض عنه أو لم تقتض شيئاً لم يجز أخذه إلا على جهة الالتقاط فيجب عليه تعريفه سنة أو ما يليق به. وقد قال القفال : لو وجد درهماً في بيته لا يدري أهو له أو لمن دخل بيته فعليه تعريفه لمن يدخل بيته كاللقطة أي الموجودة في غير بيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 249(6/180)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يجوز إحراق الجراد حياً لأكله؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته يجوز شيّ الجراد حياً لأكله كما يصرح به ما في الروضة من جواز قليه حياً ومنازعة الزركشي فيه بأن الجمهور على الحرمة رددتها في شرح العباب بقول الإمام المذهب الحل وبأن قول الشيخ أبي حامد ومن تبعه بالحرمة مبني كما قاله النووي على اختياره حرمة ابتلاع السمك وهو ضعيف ومن ثم تبع ابن الرفعة مع تحقيقه وكثرة اطلاعه النووي فيما ذكره ورددت فيه أيضاً استشكال الإسنوى قول الروضة وقلي السمك حياً جائز كابتلاعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في شخص نزل عن دابته لإعيائها وتركها فأخذها غيره وأنفق عليها فلمن هي؟. فأجاب بقوله: هي باقية على ملك مالكها إذ الإعراض لا يؤثر في مثل ذلك ولا رجوع للمنفق لأنه متبرع. وقال أحمد: إنها للآخذ ومالك لمالكها وعليه ما أنفق عليها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يحل الاصطياد بالبندق؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: أفتى النووي رحمه الله تبارك وتعالى بحله، واستدل له بحديث النهي عن الخذف وتعليله بأنه يفقأ العين ولا ينكأ العدوّ ولا يقتل الصيد وفيه نظر، لأن المراد ولا يقتل الصيد قتلاً يبيحه فخرج البندق لأنه يقتله قتلاً لا يبيحه ومن ثم جزم في الذخائر بتحريمه ثم الرمي به وبما لا حد له كالدبوس وعلله بأن فيه تعريض الحيوان للهلاك ويجاب بأنا لم نتحقق أن البندق يقتله قتلاً محرماً، بل يحتمل أن يبطل حركته مع بقاء الحياة المستقرة فيه فإذا ذبحه حينئذ حل فهو طريق لإبطال امتناعه لا لقتله وتفويته وبهذا يتضح ما قاله النووي.(6/181)
وسئل سؤالاً صورته ورد في أبي داود ما معناه أن بعض الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم اصطاد ولد حمرة فجاءت أمه تعرش فرآها رسول الله فقال: «من فجع هذه بولدها» ؟ فقالوا: فلان، فأمره بإطلاقه فما الجواب عن هذا على مذهب الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه من تحريم إطلاق ملكه من ذلك؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: ذكر بعض محققي مشايخنا أن أمره بإطلاقه محمول على خوف تلفه بسبب حبسها عنه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 249(6/182)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن بنادق الأروام والإفرنج التي فيها البارود والنار هل يحل الاصطياد بها لأنها أشد من المحدد أو لا؟ وهل هي كغيرها من البنادق التي يصاد بها؟ وهل المراد بما في فتاوى الإمام النووي رحمه الله تبارك وتعالى من حل الاصطياد بها جواز الاصطياد بها أو حل أكل ما صيد بها أو لا والحيوان إذا صار إلى حركة مذبوح بجرح هرة أو نحوها أو بندق هل يحل أكله بذبحه في تلك الحالة مع أنه يضطرب اضطراباً شديداً بعد الذبح وينفجر منه الدم أو لا يحل؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا خلاف في حرمة الرمي إلى الصيد بالبندق الذي فيه النار كما يعلم مما يأتي، وإنما الخلاف في البندق الذي من طين فصاحب الذخائر يقول لا يحل لأن فيه تعريض الحيوان للهلاك والنووي يقول يحل لأنه طريق إلى الاصطياد وهو مباح، واستدل له بخبر الصحيحين أنه نهى عن الخذف وقال: «إنه لا ينكأ العدوّ ولا يقتل الصيد ولكن يفقأ العين ويكسر السن» . قال: فمقتضى الحديث إباحة الصيد بالبندق، وذكر البخاري في صحيحه أنه كره الرمي به في القرى خشية أن يصيب من فيها دون الصحراء ومن علتي صاحب الذخائر والنووي يعلم أنه لا خلاف بينهما، لأن الأول علل عدم الحل بأن فيه تعريض الصيد للهلاك، والثاني علل الحل بأنه طريق إلى الاصطياد فعلمنا أن الأول يقول بالحل إذا غلب على الظن أن البندق لا يهلكه والثاني يقول بالحرمة إذا غلب على الظن أن البندق يقتله قبل التمكن من ذبحه فلا تخالف بينهما وكان هذا الذي قررته هو ملحظ ما في فتاوى البلقيني، فإنه سئل عن رمي الطير بالبندق ما حكمه؟ فأجاب بقوله: أما الرمي بالبندق فقد صح النهي عنه لما يحصل به من الضرر ولا سيما في البنيان وأما رمي الطيور به فإن كان مما أمر بقتله فلا حرج في ذلك وإن كان غير ذلك فإن كان غير مأكول اللحم فالنهي باق وإن كان مأكولاً يرجى أن يسقط وفيه حياة مستقرة فيذبح بحيث يحل فهذا جائز وإن(6/183)
لم يرج ذلك فالنهي باق إلا إذا كان هناك ضرر اقتضى تنفير ذلك الطير فيجوز اهـ، وهو كلام حسن. وبه يتأيد ما قدمته من حمل كلام النووي أخذاً من علته على ما إذا علم أو غلب على ظنه أن البندقة لا تهلكه وإنما تزيل منعته حتى يصير مقدوراً عليه فالرمي به حينئذ حلال وكذا لو كان من الفواسق أو صال عليه مثلاً ولم يندفع عنه إلا بذلك فيرميه وإن علم أنه يقتله هذا كله في الاصطياد بها، وأما حل ما صيد بها فإن أدركه وبه حياة مستقرة وذبحه حل وإلا فلا وما وصل إلى حركة مذبوح بسبب ما ذكر في السؤال بأن لم يبق فيه حركة اختيارية فإنه لا يحل ذبحه مطلقاً وما لم يصل لذلك حل إن تيقن حال الذبح أن به حياة مستقرة وكذا لو غلب على ظنه ذلك بالحركة الشديدة وانفجار الدم ومتى شك في استقرار الحياة حرم وإن وجد انفجار الدم وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 249(6/184)
باب الأضحية
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا ذبح أضحيته فلا يجوز له إتلاف شيء منها بغير الأكل والانتفاع له ولمن أذن له إن كانت تطوّعاً فلو أتلفه بغير ذلك فمقتضى كلامهم أنه يلزمه بدله يصرفه مصرفها وأنه يستقل بذلك ويكفيه نيته للبدل ويكون بقيمته من نقد البلد يشتري به مثله أو مثليه إن كان نبأ وإن لم يتعمد إتلافه كان تطير عليه شيء من ودكها أو عثر بإنائه فانقلب وكذا قد يتخيل أنه لا يجوز إطعام هرة أو غير آدمي منه وفي كل ما ذكر حرج وخلاف للعادة فإن كان هناك شيء فيه سعة فليتفضل من وقف عليه بذكره ولا يجوز له بيع شيء من أجزائها فلو مات فورثته موضعه فلا يجوز لهم بيع شيء منها ذكره الأذرعي وغيره ولهم الأكل والانتفاع والإهداء كهو قال السبكي ويزول ملكه عنها بالذبح ولا تورث لكن ينبغي أن يكون لوارثه ولاية القسمة مثله ولا نقل فيها بخصوصها اهـ، ولا يشكل ذلك بما في فتاوى القفال إذا ضحيت الأضحية عن الميت لا يجوز الأكل منها بغير إذنه لأن الميت حين موته لم يكن له حق الأكل مما ضحى عنه به بعد موته حتى يقوم وارثه مقامه، ويجوز له الأكل منه كهو كما قالوه فيما ضحى به في حياته فلو كان ورثته أو بعضهم صغاراً فلا شك أنه يجوز إطعامهم منها بالقسط لئلا يضيع واسم القسمة عليها بمعنى استحقاق كل منهم شيئاً يختص به ممنوع فيما يظهر وإن قلنا ببقاء الملك في أضحية التطوّع للتعلق اللازم به المانع من نقل الملك أبداً كالمرهون بلا ولي وهل يجوز للولي أن يطعم منها الفقراء والمساكين فيه نظر ولم أجده منصوصاً مع كثرة التفتيش عنه، والظاهر جوازه كما يومىء إليه كلام بعضهم في غضون المسائل لتعينها لذلك، وكونه هو الأصل الذي شرعت التضحية لأجله وإنما جوّز الأكل ترخيصاً كما علم من الدين في منع النبي أوّلاً من ادخارها بعد ثلاث عند الحاجة الداعية إليها في عصره وإن كان نسخ لزوال ذلك فإنه يعلم به أن الصدقة هي الأصل فيها، فإن قلنا يجوز له أن يتصدق منها(6/185)
فالظاهر جواز أكله منها حالاً إن كان فقيراً كغيره ولا نقول هنا يمتنع لأنه يتحد فيه قبضه وإقباضه لأنه نائب المالك والمالك له الاستبداد بذلك، نعم الظاهر أنه لا يجوز له الادخار لينتفع بنفسه إن لم يكن وارثاً إذ لا حق له فيها بترك ما يراه صلاحاً للمولى عليهم ويتصدق بالباقي في الحال، وإذا كانوا جماعة أو اثنين ميز لكل منهم ما يحتاج إليه قبل أن رآه وإن اتفقت حاجتهم وضاف الشيء وزع عليهم بالسوية تشبيهاً بالغانمين في طعام الغنيمة قبل وصولهم أوطانهم فيكون كل مختصاً بما ميز له لا ملكاً ويتعين التصدق إذا كان الصغير ضعيفاً لم يبلغ أن يأكل اللحم وخشي تغيره إذ لا يمكن نقله وله نظير من الشرع هذا ما تقرر لي بعد النظر والبحث وإن كان نقل بخلافه فسمعاً وطاعة وهو أولى فلينظر فيه، وإذا ضحى الولي عن صغير من مال نفسه. قال شيخنا
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251(6/186)
عبد الله أبو فضل : الظاهر منع أكله منها لأنه يقدر أنه ملكها في ضمن التضحية قبلها أقول وما قدره ممكن ظاهر إذا كان الولي أباً أو جداً يتولى طرفي التمليك وفي غيره نظر، وقد أفتى بعض أئمة اليمن بجوازه من غير ذكر تقدير انتقال ملك إليه. قال شيخنا: ولا يجوز ذلك في العقيقة عنه لأن الأب مندوب إليها لنفسه، أقول: فإما أن تكون الضحية مثلها ويتصرف الأب فيها كضحية نفسه، وإما أن يمنع منها غير الأب والجد وتصح منهما بتقدير انتقال الملك ثم يتضيق الأمر فيها بأن يطعم منها الصبي فقط ويكون في التصدق بشيء منها ما سبق في لحم الضحية المخلف عن الميت، وفي ذلك كله ظلمة أزالها الله سبحانه وتعالى وسائر الظلمات بنور الإيمان والعلم والهداية والله سبحانه وتعالى أعلم. فالمسؤول ممن وقف على هذا من أئمة الدين رحمهم الله تعالى ونفع بهم إمعان النظر في ذلك وبيان ما ظهر له فيه بنقل أو بحث بإيضاح بين لا أخلا الله سبحانه وتعالى منهم آمين. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: أما الجواب عن هذه المسألة فقول السائل نفع الله تبارك وتعالى ببركته وعلومه: لا يجوز له إتلاف شيء منها الخ ظاهر، وقد صرحوا به. وأما قوله فلو أتلفه بغير ذلك فمقتضى كلامهم الخ ممنوع، لأنه إن أراد أنه أتلف القدر الذي يجب التصدق به فذلك ليس مقتضى كلامهم بل صرحوا به، وحينئذ فلا فرق بين أن يتلفه عمداً أو سهواً بل ينبغي أنه لو تلف بتقصيره ضمنه أيضاً لأن مقتضى كلامهم أن يده عليه يد أمانة وهذا حكمها وإن أراد أنه أتلف القدر الزائد على ذلك كان ذبحها وتصدق بقدر الواجب وأتلف ما عداه قبل التصدق أو بعده فليس الضمان حينئذ مقتضى كلامهم، وإنما مقتضى كلامهم بل صريحه عدم الضمان إذ لو ضمنه لضمنه لنفسه لأنه إذا تصدق بقدر الواجب صار مستحقاً لا كل الجميع وإن ندب له التصدق به، فلو قلنا بوجوب ضمان ما أتلفه لضمنه لنفسه وضمان الإنسان متلفه لنفسه، أو لما يؤول إلى نفسه(6/187)
ممتنع ظاهر الامتناع والاستحالة فإن قلت كيف يستحيل ذلك وهو بالتضحية قد زال ملكه، قلت ملكه وإن زال بقي له استحقاق الأكل ولم يبق عليه بعد إخراج القدر الواجب شيء لغيره فانحصر الاستحقاق فيه، وحينئذ فكيف يضمن لنفسه شيئاً انحصر استحقاقه له فالاستحالة باقية، فإن قلت كلامهم في إتلاف الموقوف عليه للوقف الذي عليه ينافي ذلك، قلت لا ينافيه لظهور فرقان ما بينهما لأن الاستحقاق ثم لا يقتصر على الموقوف عليه بل من بعده يستحقه أيضاً فضمنه لأجل غيره وهنا ليس لأحد غيره استحقاق فيه بوجه فلم يضمنه، وأيضاً فالوقف فيه ناظره إما عام أو خاص يطالب الموقوف عليه بالبدل وهنا لا مطالب وأيضاً فالقصد بالوقف الدوام فلو لم يضمن لنا في مقصوده والقصد من التضحية إراقة الدم مع إرفاق المساكين بأدنى جزء منها غير تافه وقد حصل هذا المقصود فلا وجه للضمان على أن ابن جماعة من أكابر أصحابنا ك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251(6/188)
أبي العباس بن سريج و أبي العباس بن القاص و الإصطخري و ابن الوكيل قالوا: إنه يجوز له أكل الجميع ولا يجب عليه التصدق بشيء منها، ونقله ابن القاص عن نص الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه لأن القصد بالتضحية إنما هو التقرب بإراقة الدم فحسب، وأما الضحية بعد الذبح فكسائر الذبائح غيرها وعليه فلا ضمان مطلقاً وكذا يقال في جلدها ونحوه مما له الانتفاع بعينه ما دامت باقية دون نحو بيعه هذا حكم الإتلاف من حيث الضمان وعدمه وهو ظاهر لا محيد عنه فيتعين اعتماده لأن قواعدهم تصرح به وإن لم أر من نص عليه، وأما بالنسبة للإثم فإن تعمد أثم لا من حيث التضحية بل من حيث كونها إضاعة مال وإن لم يتعمد لم يأثم، وأما قوله وكذا قد يتخيل الخ، فهو إنما يتجه في الغنى الذي أهدى إليه دون نفسه ودون الفقير كما يعلم ذلك من قولي في شرح العباب كغيره من الأغنياء لا تمليكهم على المعتمد الذي عليه الشيخان وغيرهما خلافاً لابن الصلاح وغيره كما يأتي فلا يجوز تمليك الأغنياء شيئاً من الأضحية ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره بل بالأكل، ولذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة كما في الجواهر وغيرها وكذا الإهداء إليهم كما يأتي. واستثنى البلقيني من ذلك ضحية الإمام من بيت المال قال: فيملك الأغنياء ما يعطيهم منها بخلاف الفقراء كما أفهمه كلامهم فيجوز إطعامهم وتمليكهم حتى من الزائد على ما يجب تمليكه نيئاً ويتصرفون فيه بالبيع وغيره أما الأغنياء فيما يهدي إليهم فلا يتصرفون فيه بغير الأكل كما دل عليه قول الرافعي يجوز إطعامهم كما يطعم الضيف ويوافقه قول القمولي نقلاً عن الإمام و الغزالي ما يجوز له أكله من أضحية التطوّع لا يجوز له إتلافه لأنه لا يجوز له بيعه ولا أن يملكه الأغنياء ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره وإنما جاز له ولهم الأكل على وجه الإباحة ونظر فيه ابن الصلاح بأن ظاهر إطلاقهم جواز الإهداء إلى الأغنياء في الهبة المفيدة للملك الممكنة من التصرف لا(6/189)
الإطعام على وجه الإباحة فإنه لا يسمى هدية ويرد، وإن قال ابن الرفعة أن الظاهر معه وغيره أن ما قاله هو ظاهر كلام الشافعي والأصحاب الذين ذكروا الإهداء بأن الأصل منع أكلهم منها وإنما جاز لهم على خلاف الأصل فلا يحسن أن يوسع لهم في غيره من التصرفات وظاهر التشبيه بالضيف أنه ليس لغني أهدى له شيء منها إهداؤه لغيره وهو متجه، ويؤيده قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251
الزركشي رحمه الله تعالى يحمل الإهداء إليهم على الإباحة لا الملك فللمهدي استرجاعه ولو بعد الوصول للمهدي إليه، وأما قوله بعد ذلك تبعاً للأذرعي قضية التشبيه بالضيف أن المهدي إليه لا يتصرف بغير الأكل من صدقة ونحوها وفي منعه من الصدقة والإيثار به بعد بخلاف منعه من البيع لأنه كالمضحي يمتنع عليه أي البيع دون الصدقة وإطعام الغير فيرد بأنه لا بعد في ذلك وليس كالمضحي لأن له ولاية التفرقة المستلزمة لجواز التصدق وإطعام الغير بخلاف المهدي إليه اهـ ما في الشرح المذكور وهو ظاهر فيما ذكرته، أما الفقير فواضح لما علم أنه يتصرف فيه بالبيع وغيره فأولى إطعام نحو الهرة، وأما المضحي فلما علم أيضاً أن له التصرف بالأكل والصدقة وإطعام الغير وإطعام نحو الهرة من جملة ذلك، وأما الغنى المهدي إليه فلما علم أنه أباحه له وأنه كالضيف، وقد صرحوا فيه أنه لا يجوز له التصدق ولا إطعام نحو الهرة، ومما يؤيد ما ذكرته في المضحي قولهم يجوز له شرب ما فضل من لبن المنذورة عن ري ولدها وأن يسقيه غيره أي ولو ولد دابة أخرى فكما جاز له سقي الدابة كذلك يجوز له إطعام نحو الهرة وهو ظاهر، وقوله ولا يجوز له بيع شيء من أجزائها إلى قوله اهـ ظاهر، ومن ثم قلت في شرح العباب فرع مات المضحي وعنده شيء من لحم الأضحية الذي يجوز له أكله وإهداؤه لم يورث عنه لأنه ليس بمملوك له كما علم مما مر، لكن لوارثه ولاية القسمة والتفرقة والإهداء والأكل كما كان له ذكره(6/190)
السبكي وغيره اهـ. وأما قوله ولا يشكل ذلك بما في فتاوى القفال وتعليله دفع الإشكال بقوله لأن الميت حين موته الخ، فتخيل الإشكال بذلك بعيد كما يعلم من سوق كلام القفال. وعبارة شرح العباب ومحل ذلك أي جواز الأكل للمضحي إذا ضحى عن نفسه فلو ضحى عن غيره بإذنه كميت أوصى بذلك فليس له ولا لغيره من الأغنياء الأكل منه، وبه صرح القفال في الميت وعلله بأن اِلأضحية وقعت عنه أي الميت فلا يحل له أي المضحي الأكل منها إلا بإذنه أي الميت وقد تعذر فيجب التصدق عنه بجميعها، واعتمده ابن الرفعة وغيره وعبارة المطلب هل يقوم وارثه مقامه في جواز الأكل والإهداء نظراً إلى أنها تطوع أو نقول قد صارت واجبة الذبح بعد الموت يتخرج على الوجهين في المنذورة أو يتعين صرف الجميع للفقراء لأنها حسبت عليهم من الثلث محل نظر والأقرب الأخير انتهت وفيه بسط مهم ذكرته في حاشية الإيضاح انتهت عبارة الشرح المذكور، وبها يعلم ظهور الفرق بين المضحي إذا مات وبين الميت المضحى عنه فإن الأول كانت له ولاية التفرقة والأكل والإهداء فثبت كل ذلك لوارثه وأما الثاني فلم يكن له من ذلك شيء فلم يثبت لوارثه شيء منه لما ذكر ولما ذكره
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251(6/191)
ابن الرفعة من أن هذه حسبت على الفقراء من الثلث، أي إذا أوصى بها فصارت جميعها مستحقة لهم وورثة الميت الموصي لا يجوز لهم أخذ شيء من ثلثه الموصى به وكذلك الوصي لئلا يتحد القابض والمقبض، وأما الأغنياء فلأن الوصايا إنما تنصرف إلى الفقراء غالباً فلم يجز صرف شيء إليهم أيضاً، وأما قوله فلو كان ورثته أو بعضهم صغار الخ، فإن أراد بهم ورثة الميت المضحى عنه فغير صحيح لما علمت أن وارثه لا يجوز له الأكل منها لوجوب صرف جميعها للفقراء كما علمته من عبارة ابن الرفعة المذكورة وقوله في حكاية كلام القفال بغير إذنه لم يقله القفال كذلك على هذا الوجه وإنما علل عدم جواز أكل المضحي وغيره من الأغنياء بأن الأضحية وقعت عن الميت فلا يحل الأكل منها إلا بإذنه وهو متعذر فيجب التصدق بها عنه، وقوله بالقسط لئلا يضيع الخ فيه نظر، إذ التقسيط ليس بواجب وخشية الضياع ليست هي المبيحة للأكل لما يأتي، وقوله ممنوع فيما يظهر ظاهر لكن تعليله بقوله للتعلق اللازم الخ ممنوع، إذ التعلق اللازم لا يمنع الإرث. ألا ترى أن الدين والحقوق المتعلقة بعين التركة لا يمنع انتقالها للورثة وإن حجر عليهم في التصرف فيها حتى لو قضوا الدين من غيرها بان أنها على ملكهم ولو بيعت فيه كانت زوائدها من حين الموت إلى وقت البيع ملكاً لهم، وقوله والظاهر جوازه الخ هو كذلك لا لما ذكره فحسب بل لما علم من كلامهم وصرحوا به من زوال ملك المضحي عنها وعدم إرثها عنه وأن الثابت للوارث إنما هو ولاية التفرقة وجواز الأكل فالمورث ليس إلا الولاية والجواز المذكوران فقط كما هو صريح كلامهم، فأما الولاية فيخلف الوارث المحجور فيها وليه لعدم تأهله لها، وأما جواز الأكل فلا يمكن أن ينوب عنه فيه غيره بل هو باق له بمعنى أن للوارث أن يطعمه منها لا أنه يتعين عليه ذلك وإذا خلفه وليه في ولاية التفرقة ولم يتعين عليه إطعامه وحده فله أن يطعمه وأن يطعم غيره فعلم بما قررته أن جواز(6/192)
إطعام الولي غير المولى عليه منها هو صريح كلامهم ولا نظر للتعليل الذي ذكره المصنف لأنه قابل للمنع إذ لا نسلم أن حل أكل المضحي منها رخصة إذ لا يصدق عليه حدها المقرر في الأصول لأنه لم يتغير بل هو ثابت قبل النسخ وبعده لأنهما لم يتواردا على جواز الأكل من حيث هو كما يوهمه كلام المصنف، وإنما هما متواردان على جواز الادخار منها بعد ثلاث فأما حله قبل ثلاث وحل الأكل مطلقاً فلم يقع فيه نسخ مطلقاً فتأمله وعلى التنزل فلا نسلم أن الصدقة هي الأصل فيها لأن الحكم إذا نسخ امتنع النظر إليه مطلقاً فلا يعمل بما دل عليه ولا بما أشار إليه وأيضاً فالمنظور إليه فيها بطريق الذات إنما هو إراقة الدم لأنه المجمع عليه، وأما الصدقة فوقع الخلاف في وجوبها كما مر وعلى الوجوب فهي بجزء غير تافه فهذه كلها صرائح في منع ما ذكره السائل نفع الله سبحانه وتعالى به، وأما التعليل الصحيح والمأخذ الظاهر فهو ما ذكرته واستنبطته من كلامهم وحررته فلا مساغ في العدول عنه، وقوله فالظاهر جواز أكله الخ، إنما يتجه على ما قاله جمع فيمن أوصى إلى إنسان بتفرقة ثلثه على نفسه وغيره من أنه يجوز له أن يعطي نفسه وانتصر له الزركشي وغيره، وأما على المعتمد أنه لا يجوز لاتحاد القابض والمقبض فلا يجوز له هنا أن يأخذ لنفسه شيئاً لاتحادهما ولا نظر لكونه نائب المالك، لأن الوصي أيضاً نائب المالك وقد منع من ذلك على أن نيابته عنه تقوى ذلك الاتحاد الممنوع، فإن قلت فما الفرق بينهما، قلت يفرق بأنه بالنسبة للمضحي كالكلا المباح إذ لا ولاية لأحد عليه فلم يكن فيه اتحاد وأما بالنسبة لنائب المالك فلا لأنه مال يلي تفرقته غير المالك وقد صار النائب وكيلاً عن ذلك الولي فإذا أخذ منه كان مقبضاً عن غيره وقابضاً لنفسه فتأمل ذلك ليظهر لك أن تعليل جواز الاتحاد بكونه نائب المالك في غاية البعد، وأنه من تعليل الشيء بما يبطله ويرده، وقوله نعم الظاهر الخ، بعيد جداً لأنه بعد(6/193)
أن جوّز له الأكل كيف يمنعه من الادخار ويعلل ذلك بأنه لا حق له فيها وهل هذا إلا التناقض البين لأن قوله لا حق له فيها يبطل ما قاله من جواز أكله وتعليله جواز أكله بأنه كغيره يبطل ما قاله من منعه من الادخار فتفطن لذلك وقوله بل يترك ما يراه صلاحاً للمولى عليه الخ يقتضي أن ذلك كله واجب عليه وليس كذلك لما مر بدليل أنه يجوز له التصدق بكلها وأنه لا حق للمولى عليه فيه إلا ولاية التفرقة فقط فاندفع قوله فيترك وقوله يتصدق وقوله ميز وقوله وزع إن أراد أن ذلك واجب عليه. نعم وقوله إن رآه يشعر بعدم الوجوب لكن لا مطلقاً بل إن لم يره فإن رآه لحاجة محجورة إليه لزمه وليس ببعيد، وقوله وإذا ضحى الولي الخ، اعلم أنهم استثنوا من منع التضحية عن الغير صوراً منها تضحية الولي من ماله عن محاجيره ذكره جماعة منهم الولي أبو زرعة عن شيخه الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251(6/194)
البلقيني وهو أخذه من مقتضى كلام الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه في الأم، ومن مقتضى قول الماوردي ولا يجوز لولي الطفل والمجنون أن يضحي عنهما من أموالهما قال فمفهومه جوازه من ماله اهـ وبنحو عبارة الماوردي هذه عبر النووي في مجموعه فليستدل بها أيضاً، وجرى شيخ الإسلام صالح البلقيني على ما مر عن والده في تتمة وتدريبه فقال الثانية الولي إذا ضحى من ماله عن الذي تحت حجره من الأطفال والسفهاء والمجانين فمقتضى نص الشافعي في الأم الجواز اهـ، إذا تقرر ذلك فقضية ما مر في منع المضحي عن الميت من أكل شيء منها لأنها انتقلت إلى الميت وإذنه متعذر أن الولي هنا إذا ضحى عن موليه من ماله لا يجوز له أكل شيء منها لأنها انتقلت للمحجور وإذنه متعذر فالوجه ما قاله شيخ السائل نفع الله سبحانه وتعالى بهما وبمددهما لا هو وبعض أئمة اليمن لما علم مما تقرر أن تضحية الولي عن موليه متضمنة لانتقالها إليه شرعاً وإن لم يكن أباً ولا جداً، فإن قلت قضية الانتقال إليه أن لا يجوز التصدف بشيء منها، قلت ليس الانتقال إليه هنا إلا لتحصيل ثوابها توسعة في تحصيل طرقه ولا يتم ذلك إلا بالتصدق منها، وبما تقرر فارق ما هنا ما قالوه فيما لو أصدق الولي عن محجوره أو دفع الثمن عنه، ثم ارتفع ذلك العقد لأن ذلك من العقود المالية فأدير عليه حكمها وما هنا القصد به كما تقرر الثواب فوسع له في طرق تحصيله كما وسع للميت في ذلك لكن إن أذن له في الحياة على المعتمد لأنه كان من أهل الإذن بخلاف المحجور الصغير والمجنون مطلقاً وألحق بهما من جن أو سفه بعد كماله طرد اللباب، وقوله أقول فأما الخ الأوجه الفرق بين العقيقة والتضحية فللأب إذا عق عن ولده الأكل منها لأن الأب مخاطب بها أصالة فهي بالنسبة إليه كضحية نفسه ومن ثم صرحوا بأنه يجوز له الأكل من العقيقة كما له الأكل من أضحية نفسه، وأما التضحية عن طفله فهي غير مخاطب بها وإنما وسع له فيها تحصيلاً للثواب(6/195)
لموليه لأنها فداء عن نفس المولى لا يعود على الأب منه شيء فتمحض النفع للمولى والوقوع عنه بخلاف العقيقة، فإن نفعها من كون الولد بسببها يشفع لأبيه كما قاله أئمة مجتهدون أمر خاص بالولي لعود نفعه عليه فلم يكن كالمضحي عن الغير وإنما هو كالمضحي عن نفسه كما صرحوا به، فعلم الجواب عن ترديدات السائل نفع الله سبحانه وتعالى به على أنه لو استحضر تصريحهم بأن للعاق أن يأكل من العقيقة كالأضحية عن نفسه وأن الضحية عن الغير لا يجوز للمضحي الأكل منها وتأمل حكم ذلك وعللها التي قررتها لم يبد تلك الترديدات ولزالت عنه تلك الظلمة أزال الله سبحانه وتعالى عنا وعنه ظلم نفوسنا وحظوظنا وبوأنا منازل شهوده ومعاليها إلى أن نلقاه راضياً عنا بمنه وكرمه إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا اشتركا في سبعي بدنه هل يمتنع كاشتراكهما في شاتين أو يفرق؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: الظاهر أنه لا فرق كما أفتى به بعضهم ويحتمل الفرق بأنه يمكن في الشاتين استقلال كل بإراقة دم كامل فلم يجز له المشاركة فيه وإن حصل من مجموع الشركتين لكل دم لأنه دم ملفق وهو لا يجزىء مع القدرة على عدم التلفيق، وأما في السبعين من البدنة فالتفليق حاصل في دمها سواء أجعلنا كل سبع عن واحد أو سبعاً عن اثنين وسبعاً عن آخر، فإن قلت هذا فرق ظاهر فما بالك، قلت إن الأوّل هو الظاهر، قلت لأنهم نزلوا كل سبع منزلة شاة ولم ينظروا إلى ما ذكر. ألا ترى أنهم قالوا لو كان بعض المشتركين في البدنة يريد اللحم وبعضهم يريد الضحية أو الهدي الواجب أو المندوب أجبر حتى لو أراد بعضهم محرماً لم يمنع مريد المندوب أو الواجب فظهر أنهم منزلون كل سبع منزلة شاة فما قالوه في الشاتين من منع الاشتراك يأتي في السبعين، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/196)
وسئل رحمه الله تعالى عن ذبح شاة أيام الأضحية بنيتها ونية العقيقة فهل يحصلان أو لا؟ أبسطوا الجواب. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله الذي دل عليه كلام الأصحاب وجرينا عليه منذ سنين أنه لا تداخل في ذلك، لأن كلاً من الأضحية والعقيقة سنة مقصودة لذاتها ولها سبب يخالف سبب الأخرى والمقصود منها غير المقصود من الأخرى، إذ الأضحية فداء عن النفس والعقيقة فداء عن الولد إذ بها نموّه وصلاحه ورجاء بره وشفاعته وبالقول بالتداخل يبطل المقصود من كل منهما فلم يمكن القول به نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد وسنة الظهر وسنة العصر، وأما تحية المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها بل لعدم هتك حرمة المسجد وذلك حاصل بصلاة غيرها وكذا صوم نحو الاثنين لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة وذلك حاصل بأي صوم وقع فيه، وأما الأضحية والعقيقة فليستا كذلك كما ظهر مما قررته وهو واضح والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سبع بدنة أو بقرة، أما لو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أسباب منها ضحية وعقيقة والباقي كفارات في نحو الحلق في النسك فيجزي ذلك وليس هو من باب التداخل في شيء لأن كل سبع يقع مجزياً عما نوى به. وفي شرح العباب لو ولد له ولدان ولو في بطن واحدة فذبح عنهما شاة لم يتأدبها أصل السنة كما في المجموع وغيره، وقال ابن عبد البر : لا أعلم فيه خلافاً اهـ، وبهذا يعلم أنه لا يجزي التداخل في الأضحية والعقيقة من باب أولى لأنه إذا امتنع مع اتحاد الجنس فأولى مع اختلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 251
باب العقيقة(6/197)
وسئل نفع الله سبحانه وتعالى به ما حكم حلق ما تحت الذقن؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: حلق ما تحت الحلق من اللحية مكروه كما في شرح المهذب عن الغزالي وعبارته: قال الغزالي : تكره الزيادة في اللحية والنقص وهو أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه وينزل فيخلق بعض العذارين. قال: وكذلك نتف جانبي العنفقة وغير ذلك فلا يغير شيئاً. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تبارك وتعالى: لا بأس بحلق ما تحت حلقه من لحيته ولا بنقص ما زاد عنها على قبضة اليد، ويروى نحوه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنهم وطاوس وما ذكرناه أوّلاً هو الصحيح انتهت عبارة شرح المهذب وهي صريحة كما ترى في كراهة حلق ما تحت الحلق من اللحية بخلاف ما تحت الحلق من غير اللحية كالشعر النابت على الحلقوم فإنه لا يكره حلقه كما أفهمه تقييد النووي ك الغزالي بقولهما من اللحية لكن قال النووي في شرح المهذب قبل ذلك وأما الأخذ من شعر الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئاً لأصحابنا وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى لم يثبت فيه شيء فكره وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لا بأس به. قال: وكان أحمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ يفعله، وحكى أيضاً عن الحسن البصري اهـ، فقضية تعليله ما بحثه من الكراهة بأنه تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى كراهة حلق ما تحت اللحية وغيرها إلا أن يفرق بأن التغيير في الحاجبين لمزيد ظهورهما ووقوع المواجهة بهما أقبح منه في حلق ما تحت الحلق من غير اللحية فلذا كره الأخذ من شعر الحاجبين ولم يكره حلق ما تحت الحلق من غير اللحية.(6/198)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى ما حكم حناء يدي الرجل ورجليه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: حكم حناء يدي الرجل ورجليه أنه لغير ضرورة حرام على المعتمد عند النووي وغيره لأنه من زينة النساء، وقد لعن في الحديث الصحيح المتشبهين بالنساء وبهذا يرد على من اختار أنه لا يحرم مطلقاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى ما حكم المكاتبات بجمال الدين وتقي الدين ونور الدين إذا كان الملقب بذلك فاسقاً؟ أبسطوا الجواب. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه لا حرج في المكاتبات بنحو جمال الدين وتقي الدين ولو لفاسق اشتهر بالتلقب بذلك، لأن القصد باللقب حينئذ مجرد التعريف لا حقيقة مدلوله، لأن تلك لا يلاحظها إلا واضع ذلك اللقب، وأما بعد الوضع فليس القصد به ذلك ألبتة وبذلك يعلم أن الإنسان لو وضع ابتداء فاسق التلقيب بنحو تقي لدين حرم عليه لأنه كاذب في ذلك ما لم يقصد به مجرد التعريف دون حقيقة مدلوله فحينئذ لا حرمة كما هو ظاهر، وإن لم أر من صرح بشيء من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 256
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل تستحب العقيقة عن السقط مطلقاً أو يفرق بين من ظهرت فيه أمارة التخلق من تخطيط وغيره؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين: بأن العقيقة إنما تسن عن سقط نفخت فيه الروح كما جريت عليه في شرحي الإرشاد والعباب تبعاً للزركشي ، وأما ما لم تنفخ فيه الروح فهو جماد لا يبعث ولا ينتفع به في الآخرة فلا تسن له عقيقة بخلاف ما نفخت فيه فإنه حي يبعث في الآخرة وينتفع بشفاعته، وقد قال جماعة من السلف: من لم يعق عن ولده لا يشفع له يوم القيامة فافهم ما ذكرته من أن العقيقة تابعة للولد الذي يشفع وهو من نفخت فيه الروح فكذلك يقيد ندبها بمن نفخت فيه الروح والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/199)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل العبرة في العقيقة ببلد الولد أو العاق عنه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: يحتمل أن تعتبر بلد الولد تخريجاً على الفطرة ثم رأيت ما يؤيده وهو قول البلقيني ويعق الكافر عن ولده المسلم كفطرته قلته تخريجاً، ويحتمل أن العبرة ببلد العاق لأنه هو المخاطب بها ويفارق الزكاة بأنها مواساة فكانت أعني بلد المؤدي عنه ملتفتاً إليها دون بلد المؤدي فاختصت ببلد المؤدي عنه، وأما العقيقة فليست كذلك لعدم وجوبها واختصاصها بأصناف الزكاة فالأعين لا تطلع إليها فلم يعتبر فيها بلد الولد بل العاق لأن الأعين إن فرض أن لها نوع تطلع فإنما تطلع لبلده وإنما لم ينظر لهذا الفرق في مسألة البلقيني لأن النظر إلى التخريج فيها يترتب عليه المواساة للمستحقين فكان أولى من عدمه لأنه يترتب عليه عدم إيجاب شيء بالكلية، وأما هنا فالسنية متفق عليها وإنما التردد في أي المحال أولى بالإخراج وبلد العاق أولى به للمعنى الذي قررناه، والظاهر أنه لو أخر أو أرسل إلى بلد الولد وفعلت فيها أجزأت ثم إذا بلغته بعد مضي يوم السابع من الولادة فهل الأفضل فعلها عقب بلوغ الخبر أو يوم السابع منه أو الثالث كل محتمل والأقرب الأول ويقاس بالعقيقة فيما مر الأضحية والوليمة بأنواعها التي ذكروها فالعبرة فيهما على الأقرب ببلد المضحي والمولم زوجاً كان أو غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن قراءة سورة الأنعام إلى قوله تبارك وتعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين يوم يعق عن المولود} هل لذلك أصل خبر أو أثر أو لا؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: لا أعلم لذلك أصلاً خبراً ولا أثراً، والظاهر أنه من مبتدعات العوام الجهلة الطغام فينبغي الانكفاف عنه وتحذير الناس منه ما أمكن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 256(6/200)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن حكم خضب اليدين والرجلين بالحناء للرجال، فإن بعض العلماء صنف مصنفاً في تحريمه على الرجال وتحريمه مشهور في كبار المصنفات وصغارها وبعضهم صنف مصنفاً في إباحته لهم وبسط فيه. وقال إن الرافعي و النووي رحمهما الله تبارك وتعالى لم يكن لهما ولا لمن بعدهما حجة ظاهرة في تحريمه فتفضلوا بإيضاح الحق في ذلك وهل أحد سبق العجلي إلى القول بتحريمه أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قد وصل إلينا بمكة المشرفة هذا المؤلف الثاني فرأيته مشتملاً على عجائب الغلط وغرائب الشطط وبدائع الافتراء وقبائح الجدال والمراء وادعاء الاجتهاد والتصميم على الخطأ والعناد والتشنيع القبيح على أئمة المذهب المتقدمين والمتأخرين ورميهم بالزور والبهتان، وزعم أنهم توالوا على الخطامئين من السنين فلذلك شمرت له ساعد الهتك وأهويته مكاناً سحيقاً من أودية الهلاك والشك وألفت في رد جميع مخترعاته الفاسدة وبضاعته الكاسدة تأليفاً شريفاً في فنه حافلاً وكتاباً منيفاً رافلاً مؤيداً بالدلائل القواطع والبراهين السواطع فسيف ذلك المعاند في معاركة المقامع وقطع منه أعناق الأعناق ومطايا المطامع وألجأه إلى أضيق الطرق وأوعر المسالك وأنبأه بما حواه تأليفه من الخرافات الحوالك كما أنبأ عن ذلك كله رسمه وعلمه واسمه إذ هو شن الغارة على من أظهر معرة تقوّله في الحناء وعواره، وحاصل بعضه المتعلق بالسؤال والمزيل للإشكال أن تحريم الحناء على الرجال بلا ضرورة دلت عليه الأحاديث الصحيحة والنصوص الصريحة وهو مذهب الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه وجعل جنات المعارف متقلبه ومثواه صريحاً واستنباطاً وتابعه عليه أصحابه مجانبين تفريطاً وإفراطاً فقد نقل النووي رحمه الله تبارك وتعالى وهو الثقة العدل في أجل كتبه وأعلاها وهو شرح المهذب أن الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه نص في مختصر المزني على تحريم الحناء للرجال(6/201)
وتابعه عليه أصحابه رحمهم الله تبارك وتعالى وهذا أمر ظاهر جلي قاطع للنزاع ومظهر لخطأ المعترضين وأنهم وقعوا في هوّة مقابلة النصوص بالسباق من غير تثبت وتأمل إلى الامتناع من الانقياد والمبادرة بالدفاع فعليهم أن يرجعوا لنص إمامهم الذي عليه جميع أصحابه وأن يعترفوا بأن تحريمه هو الحق الذي قر في نصابه وأن ما كانوا عليه من الحل بأن خطله وانحرافه وزلله فإن تمادوا على العناد آبوا بخزي عظيم يوم التناد أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك وأعاذنا من جميع المهالك بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 256
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن قراءة سورة الإخلاص في أذن المولود اليسرى لها أصل أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نعم لها أصل، رواه رزين في مسنده.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن حديث: «خير الأسماء ما عبد وما حمد» هل له أصل؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لم أر هذا اللفظ حديثاً وإنما الذي في الحديث أحب الأسماء إلى الله تبارك وتعالى ما تعبد له.
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز التسمية بعبد النبي؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: المعتمد حرمة ذلك وما أشبهه بل نقل ذلك بعض المحققين عن الأكثرين فقال: ومنع الأكثرون التسمية بعبد النبي.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل ورد في تسريح اللحية والقراءة عنده شيء؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: أخرج البيهقي كان يكثر القناع يعني التطيلس ويكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء، والترمذي كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، والخطيب كان يسرح لحيته بالمشط، وأما القراءة عند تسريحها فلم يرد فيها حديث ولا أثر قاله الحافظ السيوطي.(6/202)
وسئل رحمه الله تعالى عن حديث دخل رجل على النبي وهو أبيض الرأس واللحية فقالت: «ألست مسلماً» ؟ قال: بلى، قال: «فاختضب» من أخرجه؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: أخرجه أبو يعلى في مسنده.
وسئل رحمه الله تعالى عمن سرح لحيته ورأسه كل ليلة عوفي من أنواع البلاء من رواه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: رواه أبو تمام في فوائده، وفيه من حسنه بعضهم. وروى عنه ابن حبان لكن قال أبو نعيم إنه منكر بمرة وتبعه ابن الجوزي فعده في الموضوعات.
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه: نهى رسول الله أن يمتشط أحدنا كل يوم من أخرجه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن حديث: «من سعادة المرء خفة لحيته» من رواه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: رواه الطبراني والخطيب وضعفه وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وقيل: إن فيه تصحيفاً وإنما هو خفة لحييه بذكر الله، حكاه الخطيب.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن حديث: «من ولد له مولود فسماه محمداً حبالى وتبركاً كان هو ومولوده في الجنة» من رواه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: رواه أحمد وغيره. قال الحافظ السيوطي وسنده عندي على شرط الحسن.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 256
وسئل رحمه الله تعالى عن خبر إن لله تعالى ملائكة سياحين عبادتهم كل دار فيها اسم محمد هل هو ثابت وما معناه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: ليست بثابت وإنما ذكره في الشفاء ومعناه عبادتهم بالباء الموحدة حفظ أو رؤية كل دار فيها ذلك الاسم الشريف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 256(6/203)
باب الأطعمة
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى مسخ آدمي بقرة مثلاً فهل يحل أكله؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قال الطحاوي : يحل وقضية مذهبنا خلافه، ويدل له حديث أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان أنه نزل بأرض كثيرة الضباب فطبخوا منها فقال : «إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب فأخشى أن تكون هذه فأكفؤها» وجمع بين هذا وأذنه في الأكل منه بحمل ذاك على أول الأمر حين تجويزه أن يكون من الممسوخ فحينئذ أمر بإكفاء القدور وتوقف ولم يأمر ولم ينه فيها بشيء وحمل الإذن على علمه أنها ليست من الممسوخ وكراهيته له إنما كانت تقذراً وفيها دليل على الكراهة لمن يتقذره ونقل صاحب العباب أنه قال الحل بعيد في مسألة السؤال عملاً بأصل الذات المحرمة وعنه أنه بحث الحل في مسخ حلال محرماً عملاً بالأصل ونظر فيه بأن صورته صورة محرم فكيف ينظر إلى أصله وتغليبهم التحريم في المتولد بين حرام وحلال يؤيد الحرمة وأخذ من ذلك أنه لو غصب طعاماً فقلبه ولي دماً ثم عاد إلى حاله لم يحل أكله بغير إذن المغصوب منه احتراماً لمال الغير قيل وقضية قولهم لو قتل الولي بحاله لا يقتل أنه لا ضمان عليه هنا بقلبه دماً مثلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 259(6/204)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن ابتلى بأكل نحو الأفيون وصار إن لم يأكل منه هلك هل يباح له حينئذ أكله أم لا؟. فأجاب عفا الله تبارك وتعالى عنه بقوله: إذا علم علماً قطعياً بقول الأطباء أو التجربة الصحيحة الصادقة أنه لا دافع لخشية هلاكه إلا أكله من نحو الأفيون القدر الذي اعتاده أو قريباً منه حل له أكله، بل وجب عليه لأنه مضطر إليه في بقاء روحه فهو حينئذ كالميتة في حق المضطر إليها بخصوصها، وقد صرح بذلك جماعة مع وضوحه. نعم أشار شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني إلى شيء حسن يتعين اعتماده وهو أنه يجب على متعاطي ذلك السعي في قطعه بالتدريج بأن يقلل مما اعتاده كل يوم قدر سمسمة فإن نقصها لا يضره قطعاً فإذا استمر على ذلك لم تمض إلا مدة قليلة وقد زال تولع المعدة به ونسيته من غير أن تشعر ولا تستضر لفقده فبهذا أمكن زواله وقطعه فهو وسيلة إلى إزالة ذلك المحرم في ذاته وإن وجب تعاطيه، لأن الوجوب لعارض لا ينافي الحرمة الذاتية كما أن تناول المضطر للميتة واجب في حقه لعروض الاضطرار مع بقائها في حد ذاتها على وصف الحرمة الذاتي لها وما كان وسيلة إلى إزالة المحرم يكون واجباً فوجب فعل هذا التدريج ومن ترك ذلك فهو عاص آثم فاسق مردود الشهادة ولا عذر له في دوام تعاطيه إن أوجبناه عليه في الحالة الراهنة لبقاء روحه فتأمل ذلك، فإن كثيرين من المخذولين بالابتلاء بهذه الخصلة القبيحة الشنيعة يتمسكون بدوام ما هم عليه من المقت والمسخ المعنوي بأنهم نشؤوا فيه وتمكن منهم فصار تعاطيه واجباً عليهم وجواب ذلك أنه كلام حق أريد به باطل لأنا نقول لهم لئن سلمنا لكم ما قلتموه هو لا يمنع أنه يجب عليكم السعي في قطعه وزوال ضرره ومسخه لأبدانكم وأديانكم وعقولكم ومحصولكم، ولقد أخبرني بعض العارفين أنه يمكن قطع الأفيون في سبعة أيام بدواء بره بعض الأطباء بل أخبرني بعض طلبة العلم الصلحاء أنه كان مبتلي منه في كل يوم بمقدار كثير فساءه حاله(6/205)
وتعطل عليه عقله وقاله وأدرك أنه المسخ الأكبر والقاتل الأكبر والمزيل لكل أنفة ومروءة وأدب ورياسة والمحصل لكل ذلة ورذيلة وبذلة ورثاثة وخساسة قال: فذهبت إلى الملتزم الشريف وابتهلت إلى الله سبحانه وتعالى بقلب حزين ودموع وأنين وحرقة صادقة وتوبة ناصحة وسألت الله تبارك وتعالى أن يمنع ضرر فقده عني ثم ذهبت إلى زمزم وشربت منها بنية تركه وكفاية ضرر فقده فلم أعد إليه بعد ذلك ولم أجد لفقده ضرراً بوجه مطلقاً اهـ وصدق في ذلك وبر فإن شغف النفوس عند فقده وظهور علامات الضرر عليها إنما هو لعدم خلوص نياتها وفساد طوياتها وبقاء كمين تشوّفها إليه وتعويلها عليه فلم تجد حينئذ ما يسد محله من الكبد فيعظم ضرر فقده حينئذ، وأما من عزم عزماً صادقاً على تركه وتوسل إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك بصدق نية وإخلاص طوية فلا يجد لتركه ألماً بحول الله تعالى وقوّته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 259(6/206)
وسئل رحمه الله تعالى عن ابتلاع قموع النبق وهو الكين هل يحل إذ ليس بضار ولا قذر أم لا؟ وكذلك النوى مع التمر هل يحل ابتلاعه معه أيضاً أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن ابتلاع نوى نحو التمر أو النبق جائز حيث لا ضرر فيه بخلاف نحو التراب فإنه مضر غالباً فيحرم مطلقاً وإذا جاز أكل دود نحو الفاكهة والجبن الميت فيه معه وإن سهل تمييزه كما قالوه خلافاً لمن غلط فيه فأولى هذا ولا نظر إلى أن هذا من جنس ما يشق تمييزه بخلاف ذاك لأن نوى بعض الفاكهة قد يشق تمييزه فهو مثله أو قريب منه، فإن قلت صرحوا بحرمة أكل الجلد المدبوغ فما الفرق؟ قلت الفرق واضح لأنه بالاندباغ انتقل إلى طبع الثياب ولم يبق من جنس المأكول ولا من توابعه بوجه بخلاف النوى فإنه من جنس المأكول، ألا ترى أنه يعلف به الدواب ومن توابعه، ألا ترى أن بعض النوى له خصوصيات نافعة كما قاله الأطباء فاتجه أنه حيث علم أنه لا ضرر فيه أنه يجوز ابتلاعه.(6/207)
وسئل رحمه الله تعالى عن أكل لحم الصدف الموجود في مليبار هل يحل أكله أو لا؟ وفيه الصغير والكبير والكبير يكون مثل صدف اللؤلؤ والصغير يكون مدوّراً وهل هو الدنيلس أو حكمه حكمه وفي لحمه الذي يكون فيه السرطان الصغير هل يجوز أكله معه أو لا إذا طبخ معه وهل يكون حكمه حكم الدود المتولد من المأكول أو لا وفي لحمه سواد يقول بعض الناس أنه خرؤه هل يجوز أكله معه أو لا وهل السرطان مما لا نفس له سائلة أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: الكلام على ذلك يستدعي تحرير الحكم في حيوان البحر والذي في الروضة وأصلها أنه حلال إلا ما يعيش منه في البر بأن يكون فيه عيشه غير عيش مذبوح وإلا الضفدع والتمساح والسرطان والسلحفاة وكذا النسناس على أحد وجهين رجحه غيرهما والذي في المجموع بعد أن ذكر ذلك قلت الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم من السلحفاة والحية والنسناس على غير ما في البحر، وفي موضع آخر منه يحل عندنا كجمع من الصحابة والتابعين و مالك و أحمد رضي الله تبارك وتعالى عنهم كل ميتات البحر غير الضفدع اهـ، فعلى ما في المجموع في هذين الموضعين يحل كل أنواع الصدف سواء صغيره وكبيره وسواء السرطان والدنيلس وغيره كالترسة والسلحفاة إلا ما ثبت أن فيه سمية وعلى ما في الروضة وأصلها وهو المنقول المعتمد يحرم السرطان وسائر أنواع الصدف مما يعيش في البر أيضاً، واختلفوا في الدنيلس وهو صدف صغير صورته صورة اللوز في باطنه لحم فيه نقطة سوداء فأفتى الشمس
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 259(6/208)
ابن عدلان وعلماء عصره وغيرهم بحله قالوا: لأنه من طعام البحر ولا يعيش إلا فيه، وأفتى ابن عبد السلام بتحريمه وقال: هذا مما لا يرتاب فيه سليم العقل، واختلف المتأخرون أيضاً فممن رجح ما قاله ابن عبد السلام البدر الزركشي ووجهه بأنه أصل السرطان لتولده منه كما ذكره أهل المعرفة بالحيوان، وصرحوا بأنه من أنواع الصدف كالسلحفاة اهـ، وممن رجح ما قاله ابن عدلان وأهل عصره الكمال الدميري فقال متعرضاً لرد كلام الزركشي لم يأت على تحريمه دليل، وما نقل عن ابن عبد السلام من الإفتاء بتحريم أكله لم يصح وقد أفتى بعض فقهاء عصرنا بتحريم أكله وهذه عبارة من فقد نص الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية ولقوله : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» اهـ وفيه نظر، وهذا لا يرد ما قاله الزركشي كابن عبد السلام لأن الآية والحديث مخصوصان بقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (الأعراف: 157) وقد صرح الأصحاب بأن لحم السرطان خبيث وهو متولد من الدنيلس كما علمت نقله عن أهل المعرفة بالحيوان، ويؤيده قول بعض اللغويين أن الضفدع يتولد من اللحم الذي في الدنيلس والضفدع خبيث أيضاً فعلى كل من قولي تولد الضفدع والسرطان منه هو لا يتولد منه إلا خبيث فليكن خبيثاً وإذا ثبت خبثه حرم بنص الآية فالأولى لمن أراد أكله تقليد مالك و أحمد رضي الله تبارك وتعالى عنهما فإنهما يريان حل جميع ميتات البحر كما مر نقله في المجموع عنهما وأهل مصر يأكلون الدنيلس ويبيعونه من غير نكير فلعلهم جارون على إفتاء ابن عدلان ومن عاصره فالحق أنه لا يخلو عن خبث وإن تجنب أكله أولى وإن لم يثبت أن ما فيه من السواد خرؤه على أن ما قيل إنه خرؤه لا أصل له وإلحاقه بالدود المتولد من المأكول بعيد جداً إذ لا جامع بينهما بوجه فإن علة حل أكل الدود عسر تمييزه عما خالطه، وأما الدنيلس ونحوه فالمحرمون لذلك يحكمون على جميع عينه بالنجاسة(6/209)
والتحريم لما تقرر من خبثه فحينئذ هو لم يخالط غيره حتى يعفى عنه والسرطان له نفس سائلة وألحقوه بالضفدع ولا ينافيه قول الدميري إنه لا يتخلق بتوالد ونتاج إنما يتخلق في الصدف ثم يخرج منه لأنه لا يلزم من نفي التوالد والنتاج عدم الدم لكن جرى جماعة من أصحابنا على أن الضفدع لا نفس له سائلة فيجري ذلك في السرطان ومع ذلك ما قاله هؤلاء ضعيف.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 259
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يحل أكل البطارخ؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى ببركته وعلومه المسلمين بقوله: نعم لأنه بيض السمك كما صرحوا به ولا ينافيه قول الجواهر ولا يحل أكل سمك ملح ولم ينزع ما في جوفه لأنه في أكل السمكة كلها مع ما في جوفها من النجاسة بخلاف البطارخ فإنه يشق جوفها ثم يخرج منه لكن محل هذا إن لم يعلم مماسته لنجاسة الجوف فإن علمت وجب غسله قبل أكله فإطلاق بعضهم حرمة البطارخ استدلالاً بعبارة الجواهر هذه غلط ثم عبارتها محمولة على سمك كبار لما في الروضة في الصغار أنه يجوز أكلها قبل شق أجوافها لعسر تتبع ما فيها.
وسئل رحمه الله تعالى هل ورد النهي عن الحجامة في بعض الأيام والأمر بها في البعض؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله: نعم ورد بل صح النهي عنها يوم الجمعة والسبت والأحد والأربعاء. وفي روايات أخر: أن يوم الثلاثاء يوم الدم وأن فيه ساعة لا ينقطع فيها الدم وأنه يخشى منها يوم الأربعاء والسبت البرص وأن في يوم الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات وصح الأمر بها يوم الخميس والاثنين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 259(6/210)
باب المسابقة والمناضلة
وسئل رحمه الله تعالى عما يقع بين أهل مليبار من اللعب بنحو السيوف المحددة والتضارب بها اعتماداً على حراستهم بالترس، والغالب السلامة وقد يقع الجرح وقد يقع الهلاك فهل هو جائز لأن القصد به التمرين حتى ينفع في الحرب أو لا لدخوله في الإشارة على مسلم بالسلاح وحمله عليه وقد عمت البلوى بذلك؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: نعم يجوز ذلك كما صرح به أصحابنا حيث قالوا يجوز ولو بعوض المسابقة على التردد بالسيوف وإدارتها والرماح لأنه ينفع في الحرب ويحتاج إلى معرفة وحذق ويجوز بلا عوض المراماة بأن يرمي كل واحد الحجر أو السهم إلى الآخر، وإنما لم يجز بعوض لأنها لا تنفع في الحرب اهـ. فعلم منه ما قلناه لأن التردد بالسيوف والرماح ومراماة الأحجار والسهام قد يقع فيها جرح وهلاك ومع ذلك لم ينظروا إليه لغلبة السلامة وكونه نافعاً في الحرب ليس هو العلة في التجويز مطلقاً وإنما هو علة في التجويز بعوض. ألا ترى إلى تجويزهم المراماة بالسهام والأحجار بلا عوض مع عدم نفعها في الحرب وليس علة ذلك إلا غلبة السلامة فيها فكذا ما في السؤال يجوز لغلبة السلامة فيه وإن فرض أنه غير نافع في الحرب وليس هذا من الإشارة على مسلم بالسلاح المنهي عنها، لأن محل النهي في إشارة مخيفة أو يتولد عنها الهلاك قريباً غير نادر كما هو ظاهر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 261(6/211)
وسئل رحمه الله تعالى كيف عد الأصحاب الرمي بنية الجهاد سنة مع قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} (الأنفال: 60) والأمر للوجوب والقوّة مفسرة في الأحاديث بالرمي؟. فأجاب بقوله: استندوا في ذلك إما لقول بعض الصحابة الآية منسوخة وإذا نسخ الوجوب بقي الجواز الشامل للندب الدال عليه كثرة الأحاديث في كثرة ثواب الرمي والترغيب فيه، وإما احتمال أن الأمر للإرشاد ولا ترد عليه تلك الأحاديث نظراً إلى أن الأمر الإرشادي لا ثواب فيه لأن هذا إنما هو من حيث ذاته، وأما بالنظر لما يقترن به فقد يعظم ثوابه بخلاف الأمر الشرعي فإن الثواب عليه من حيث ذاته من غير اعتبار أمر آخر يقترن به، وهذا الفرق وإن لم أره إلا أنه قد يومىء إليه بعض الفروق من الكراهة الشرعية والإرشادية، وإما أنهم نظروا إلى عموم ما المفسرة بقوّة وذلك شامل للرمي وغيره كالسيف والسلاح والحصون وذكور الخيل كما قاله كثير من الصحابة والتابعين. ولفظ سعيد بن المسيب: هي القوس إلى السهم فما دونه، وأما الحديث الصحيح وهو قوله : «ألا إن القوّة الرمي، فهو من باب الحج عرفة» كما قاله مكحول وعلى هذا فالأمر في الآية للوجوب لأن التهيؤ لجهاد العدوّ والاستعداد لملاقاته بدخول جيشنا إلى داره كل سنة أو بعمارة الثغور ونحوها حتى لا يبقى له سبيل إلى دخول دارنا واجب على الكفاية، وحينئذ إذا نظرنا للرمي من حيث ذاته قلنا إنه سنة أو من حيث دخوله تحت الأمر الموضوع حقيقة للوجوب قلنا هو من بعض جزئيات المفروض ونظيره العتق مثلاً في الكفارة المخيرة فهو من حيث إنه أفضلها مندوب ومن حيث تأدى الواجب به واجب، ولعل هذا التقرير أولى من قول بعضهم القول بوجوب الرمي أخذاً من الأمر في الآية ليس معناه أنه واجب لعينه بل إنه من باب إيجاب شيء لا بعينه كما قال الفقهاء في خائف العنت أنه يجب عليه التعفف ولا يقال إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب لعينه بل على معنى أن السعي في(6/212)
الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل إنه سنة وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ويدفع به العدوّ إما الرمي أو غيره وإذا حكم على الرمي بعينه، قيل إنه سنة، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 261
باب الأيمان
وسئل رحمه الله عن رجلين مر بهما رجل فحلف أحدهما أن هذا ولد فلان وحلف الآخر أنه ولد فلان غير الذي يعنيه صاحبه وهما جميعاً يظنان أنهما على الصواب فهل يحنثان أو لا؟ وهل إذا حلفا يميناً بالطلاق يحنثان أو لا؟ كما إذا حلف ظاناً أنه صادق فبان خلافه. فأجاب بأنه لا حنث على واحد منهما والله تعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف لا يراجع زوجته فوكل هل يحنث؟. فأجاب نفعنا الله به بقوله: نعم يحنث أخذاً من قولهم لو حلف لا ينكح حنث بعقد وكيله والرجعة وإن كانت استدامة في كثير من الصور إلا أنهم نزلوا فعل الوكيل في باب النكاح كفعل الموكل.(6/213)
وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف لا يخاف فلاناً فهل يحنث مطلقاً أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: الخوف من الأمور القلبية التي لا اطلاع عليها إلا من جهته فيلزمه العمل بما عنده فإن خافه حنث وإلا فلا وإن دلت القرائن على خوفه منه إذ لا عبرة هنا بالقرائن فإنه قد يكون عنده فرط هجوم وإقدام فلا يخاف من قويت شوكته ونفذت كلمته وظهرت دولته وهذا يشاهد كثيراً، أعني أن بعض من لهم قوّة جراءة قد يقدمون على الأشياء المهولة جداً المؤدية إلى القتل فور إعادة من غير أن يكون عندهم خوف منها ومن ثم كانت الشجاعة الحقيقية المورثة لعظيم الإقدام أو خوض المهالك نسيان العواقب فمن نسي أوقع نفسه في كل مهلكة ومخوفة من غير تقديم خوف ولا فزع وإنما أطلت في هذا رد القول بعضهم لو قال لا أخاف، ودل الحال على خلاف قوله إما بقوّة شوكة المحلوف عليه أو شدة بأسه أو فرط هجومه فالظاهر وقوع الطلاق اهـ، فعلم أن ظاهره في غاية الخفاء فلا يعوّل عليه، والله أعلم.(6/214)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه قال السراج البلقيني : أفضل الصيغ للحمد الحمد لله رب العالمين هل هو المعتمد؟. فأجاب نفعنا الله به بقوله المعتمد في المذهب أن أفضل صيغه الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده، ولي فيه بحث وهو أن الذي دل عليه المعنى ودلت عليه السنة أن أفضلها يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك وما قاله اختيار له بأنها أول كتاب الله العزيز وآخر دعوى أهل الجنة في الجنة ولو ضم إليها ما ذكرته ليصير الحمد لله رب العالمين كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لزاد اتضاحه ولم يمكن رده وهذا أولى من قول ولده علم الدين ينبغي الجمع بين ما قاله وما قالوه ليصير الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده وعلى كل فينبغي الجمع بين ما قلته وما قاله وما قالوه وهو الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262
وسئل رضي الله عنه عن شخص حلف بالطلاق أنه لا يؤجر ولا يسكن فلاناً داره فأجره الدار جاهلاً الحلف أو عامداً فهل يحنث أو لا؟ وإذا قلتم لا فهل الحيلة في عدم الحنث أن يرفع إلى حاكم يأمره بالإسكان الذي هو من لوازم الإجارة أو كيف الحال؟. فأجاب رحمه الله بقوله إذا أجره ناسياً الحلف لم يحنث أو ذاكراً له حنث وجهل الحكم ليس بعذر خلافاً لمن زعمه وإذا لم يحنث وصح إيجاره فرفعه المحلوف عليه لحاكم فألزمه بتمكينه من السكن فسكن لم يحنث، لأن الإكراه الشرعي كالإكراه الحسي كما صرحوا به.(6/215)
وسئل عن شخص حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يضرب زوجته فكالمته ثم حذفته بنعلها فحذفها بنعله فأصابها فهل يقع عليه طلاق أم لا كما مال إليه بعض مشايخ العصر وعلله بأن حقيقة الضرب غير حقيقة الحذف فيما يظهر من كلام اللغويين واستعمال أهل العرف. قال: فكان حقيقة الضرب صدم المضروب بالآلة مع اتصالها بالضارب والمضروب وفي الحذف يحصل الصدم بعد الانفصال عن الحاذف فافترقا وأورد أنهم ألحقوا الوكز بالضرب والوكز في القاموس هو الدفع والطعن والضرب بجمع الكف. وقد صرح الشيخ زكريا رحمه الله تعالى في شرح الروض بوقوع الطلاق بالوكز بمعنى الدفع والدفع ليس فيه الاتصال الذي شرط في الضرب فليكن الحذف مثله أو هو نوع من الدفع، قلت إنما وقع الحنث بالوكز الذي هو الضرب بجمع الكف لأنه فرد من أفراد الضرب ولا يلزم من كونه مشتركاً بين ذلك وبين الدفع أن يقع الحنث بالدفع وقد اقتصر الإسنوى على تفسير الوكز بالضرب بجمع الكف ولم نجد تفسيره بالدفع فيما يقع به حنث الحالف على الضرب إلا في كلام الشيخ زكريا وفيه نظر ظاهر لأنه ليس من أفراد الضرب على أنه لا بد في الدفع إذا سلمنا وقوع الحنث به في الصدم المعتبر في حقيقته الضرب وهو غير معتبر في المعنى اللغوي فيما يظهر فلو دفع الشخص إنساناً فأماله ولم يصدم شيئاً صح أن يقال وكزه ولا يقع به حنث أصلاً فظهر أن الوكز بهذا المعنى غير مراد فيما يقع به الحنث اهـ كلامه فهل توافقونه على جميعه أو بعضه أو تخالفونه فما سند المخالفة؟ حققوا ذلك وأبسطوا لنا القول فيه فإن المسألة واقعة حال والسائل ينتظر الجواب فيها أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى ببركته بقوله: عرضت عليّ هذه المسألة وأنا مشغول ببعض المهمات فتوقفت فيها ولم أجزم فيها بشيء وإن كان ميلي إلى الحنث إذا أصابها المحذوف به إصابة لها وقع مع إيلام أو عدمه بناء على التناقض الشهير في التعليق بالضرب ثم تجاذبت البحث(6/216)
فيها مع جماعة من المشايخ فلم يميلوا إلا إلى عدم الحنث لنحو ما ذكر في السؤال ولم ينقدح عندي غير الحنث واستمريت على ذلك مع التردد فيه أياماً إلى أن رأيت من كلام الفقهاء واللغويين ما اقتضى الجزم بالحنث وبيان ذلك بأمور وقبلها لا بد من ذكر مقدمة هي أن الأصحاب إلا الإمام و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262
الغزالي يقدمون الوضع اللغوي على الوضع العرفي، وفي ذلك كلام وتقييدات مبسوطة في محلها وقد بينت حاصلها في شرح المنهاج وغيره الأمر الأول أن أبا هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يشك أنه من أكابر العرب الذين يحتج بكلامهم وتثبت اللغة بقوله ويقدم على غيره ممن لم يكن في مرتبته، وقد صح أنه سمى الحذف ضرباً، ففي الحديث الصحيح في قصة رجم ماعز ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن أبا هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال ما لفظه: فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات والذي وقع من ذلك الرجل ومن الناس إنما هو الرجم كما صح عن جابر في هذه القصة ولفظه فلما أدلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فهذا جابر مصرح بأن الذي وقع منهم بعد الإدراك هو الرجم الموافق لما أمرهم به النبي ، وقد سمى أبو هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ذلك الرجم ضرباً فهو صريح أي صريح في أن الرجم الذي هو الحذف يسمى ضرباً وإلا لم يصح قول أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ فضربه به وضربه الناس، فإن قلت يحتمل أن الصادر منهم بعد الإدراك إنما هو الضرب وأن جابراً ـ رضى الله تعالى عنه ـ هو الذي تجوّز فعبر عنه بالرجم مجازاً وأن بعضهم ضربه وبعضهم رجمه قلت كل من هذين حجة لنا على التقرير بالأولى لأن الذي أمرهم به النبي إنما هو الرجم فانتقالهم جميعهم أو بعضهم عنه إلى الضرب تصريح منهم بأن الرجم يصدق على الضرب وإلا لم يفهموه منه على أن الحمل على المجاز لا يعدل إليه لاستدعائه إلى قرينة(6/217)
تصرفه عن الحقيقة ولا قرينة هنا فوجب إبقاء كل من لفظ أبي هريرة وجابر ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما على حقيقتهما وظهر بذلك ظهوراً لا يشك فيه منصف أن الرجم الذي هو الحذف يسمى ضرباً وإذا تقرر أن الحذف يسمى ضرباً لغة كما علم من كلام أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ الذي هو من أجلاء أهل اللسان المرجوع إليهم فيه فليحنث به الحالف على عدم الضرب لأنه أتى بما يسمى ضرباً وحينئذ اندفع ما في السؤال من أن حقيقة الدفع غير حقيقة الضرب فيما يظهر من كلام اللغويين واندفع تفسير الضرب بأنه صدم المضروب بالآلة مع اتصالها بالضارب والمضروب وكيف يتأتى هذا التفسير مع تسمية أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ للرجم بالضرب كما علمت على أن عبارة الروضة وغيرها في تفسير الضرب يدفع ذلك أيضاً فليكن منك على ذكر الثاني أن الأصمعي من أكابر أئمة اللسان أيضاً فسر الوكز الذي هو من جزئيات الضرب كما صرح به أئمتنا بالدفع باليد لا بغيرها وتبعه أئمة اللغة على ذلك كصاحب الصحاح وغيره ولا شك أن الدفع يصدق بدفع المحلوف عليه ودفع الآلة إليه وإن انفصلت عن الدافع وهذا هو الحذف وإذا صدق الوكز الذي هو من أنواع الضرب بالحذف صدق به الضرب وأما تفسير
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262(6/218)
الإسنوى وغيره للوكز بأنه الضرب بجمع الكف فهو تفسير قاصر لأن المدار في ذلك على تفسير أئمة اللغة وقد تقرر عنهم تفسيره بالدفع من غير تقييد فوجب الرجوع إليه وهذا ملحظ شيخنا خاتمة المحققين فيما نقل عنه في السؤال من تفسيره بالدفع من غير قيد وإعراضه عما وقع في كلام الإسنوى وغيره من التقييد وبهذا الذي قررته اندفع ما في السؤال عن بعض المشايخ من التنظير في كلام شيخنا وكيف ينظر فيه مع تصريح أئمة اللغة وتصريح أئمة الفقه بأن الوضع اللغوي مقدم على الوضع العرفي وبأن الوكز ضرب وإذا وقع اختلاف في الوكز رجع فيه لأئمة اللغة والمقرر عندهم كما عرفت أنه يشمل الدفع من غير تقييد بيد ولا بغيرها فاتضح كلام الشيخ وأنه لا غبار عليه ولا نظر فيه بوجه وأنه عين كلام أئمة الفقه واللغة وأن قول بعض المشايخ لم نجد تفسيره بالدفع الخ هو الذي فيه النظر الظاهر فتأمله، وأما قوله على أنه لا بد في الدفع الخ فهو بتقدير تسليمه لا يرد منه شيء على الشيخ لأن اعتبار هذا المفهوم اللغوي أخذه الفقهاء بناء على اعتماده من قرينة المقام إذ المقصود من الحلف على الضرب الإيذاء، ومن ثم اشترط الشيخان في موضع كونه مؤلماً مع أن الإيلام ليس من حقيقة الضرب اللغوي ومن لم يشترط الإيلام قال لا بد فيه من نوع إيذاء حتى لا يكفي ضربه بأصبعه اتفاقاً فاشتراطهم لهذا الأمر الزائد على المفهوم اللغوي أخذوه من قرينة المقام الدال عليها الحلف على الضرب على أنا لا نسلم اعتبار الصدم في الدفع وإنما المعتبر أن يكون فيه نوع إزعاج للمدفوع وإن لم يكن فيه إيلام عرفاً سواء أصدم شيئاً أم لا هذا ما دل عليه كلامهم وتصرفاتهم فتأمله ومما يوضح ذلك أن صاحب الصحاح فسر الحذف بالضرب في بعض المواد نحو حذف رأسه بالسيف وإن كان غيره فسره في هذه المادة بالقطع لأنه مشترك فإطلاقه على القطع لا يمنع إطلاقه على الضرب على أنه لو حلف لا يضربه فضربه بسيف فقطع يده أو رقبته حنث كما هو(6/219)
جلي الثالث أن الشيخين رحمهما الله تعالى قالا عن الإمام بعد كلام ساقاه عنه وكان المعتبر في إطلاق اسم الضرب الصدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام، وجرى على ذلك الحجازي في مختصر الروضة فقال: ولا يكفي إيلام وحده بأن وضع عليه حجراً ثقيلاً ولا الصدم وحده كبأنملة فالمعتبر الصدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام اهـ. وعبارة الشرح الصغير وشرط بعضهم أن يكون فيه إيلام ولم يشترطه الأكثرون واكتفوا بالصدمة التي يتوقع منها الإيلام انتهت، وهذا كما ترى ظاهر في شمول الضرب للرمي بحجر أو نحوه لأنه يصدق عليه أنه صدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام وحينئذ وافق كلام الفقهاء كلام اللغويين في صدق اسم الضرب بالرمي والحذف فلم يبق عذر لبعض المشايخ فيما حكى عنه في السؤال من أن الرمي لا يسمى ضرباً. الرابع أن أئمتنا صرحوا باتحاد الضرب والحذف حيث قالوا لو زنى بكراً ثم ثيباً دخل الجلد في الرجم لاتحاد جنسهما أي من حيث إطلاق اسم الضرب عليهما لا الحد وإلا لدخل الجلد في قطع السرقة ولم يقولوا به، فعلمنا أن مرادهم باتحاد جنسهما ما قلناه من شمول اسم الضرب لهما وأن كلاً منهما يطلق على الآخر، وأما ما توهم من أن المراد باتحاد جنسهما أن كلاً منهما يسمى زنا فهو خيال باطل، إذ الزنا سبب لا جنس كما هو واضح ولا يلزم من اتحاد السبب اتحاد المسبب ولا تعدده وإنما المراد بالجنس ما يدخلان تحت مسماه كما هو شأن سائر الأجناس والأنواع فتعين أن المراد به هنا الضرب لا غير لا يقال يحتمل أنه الإيذاء لأنه يشمل ما لا يجزىء في الحد فلم يتضح أن يكون مراداً فتأمله إذا تقرر ذلك فهذا أيضاً نص في الحنث في مسألتنا بالحذف ويوافقه قول بعض الشارحين في تعليل عدم أجزاء مرة بعثكال في لأضربنه مائة مرة أو ضربة لأن الجميع يسمى ضربة واحدة بدليل ما لو رمى في الجمار السبع دفعة واحدة فإنه يسمى رمية واحدة اهـ فاستدلاله بذلك قاض بأن بين الضرب والرمي اتحاداً حتى يستدل بما(6/220)
قالوه في أحدهما على ما قالوه في الآخر. الخامس أن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262
الرافعي وغيره فرقوا بين عدم اشتراط الإيلام في لأضربنه أي بناء على ما وقع له في موضع من أنه لا يشترط فيه الإيلام وبين اتفاقهم في الحدود والتعزيرات على أنه لا بد فيها من الإيلام بأن القصد من الحد الزجر وهو لا يحصل إلا بالإيلام واليمين تتعلق بالاسم وهو صادق مع عدم الإيلام ولهذا يقال ضربه فلم يؤلمه وهذا أيضاً قاض بأن كل ما كفى في الجلد أو التعزير أو الرجم كفى في اليمين، إذ لا يتصور أن بينهما اتحاداً غير اشتراط الإيلام إلا إذا كان ما يكفي في الأخص وهو الحد يكفي في الأعم وهو اليمين ولما أتممت ذلك ظفرت بعون الله تعالى وقوّته وفضله ومعونته بأن المسألة منقولة كما قلته فقد صرح بها الخوارزمي على جهة نقل المذهب الذي كافيه من أجل المصنفات فيه، وعبارته في التعليق بالضرب كما في توسط الأذرعي عنه ولو رفسها برجله أو رماها بحجر طلقت. قال الأذرعي إذا أصابها الحجر اهـ، وهذا هو مراد الكافي بلا شك كما هو واضح فتأمل هذه العبارة تجدها عين المسألة وبها يندفع جميع ما مر عن بعض المشايخ ويتضح ما رددت به عليه وتأمل ما قدمته عن أبي هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأئمة اللغة تجده دليلاً ظاهراً لها فالحمد لله الذي ألهمنا موافقة أئمتنا في الحكم قبل الاطلاع عليه وهدانا لما هداهم إليه وأمدنا بأن ذكرنا لما قالوه ووافقناهم فيه أدلة ظاهرة واضحة جلية لائحة لا يمتري فيها منصف ولا يقدر على ردها معاند ولا متعسف فله الحمد كما يحب ويرضى سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(6/221)
وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف بالطلاق ما أبيح كذا وأفصله لنفسي بعد أن قالت له زوجته أنت تأخذ هذا تبيعه فهل لو فصله غيره بغير إذنه يحنث أو لا؟. فأجاب بقوله: الظاهر في الواو في وأفصله أنها للاستئناف، ويدل عليه القرينة وهي قول الزوجة خطاباً له أنت تأخذ هذا تبيعه وحينئذ فالحلف إنما هو على نفي البيع فلا يحنث بتفصيل غيره مطلقاً وإنما قبل منه ادعاء الاستئناف لدلالة السياق والقرينة عليه فإن لم ينو الاستئناف فتارة ينوي الحلف على كل منهما وحده ويمضي بعد اليمين زمن يمكنه أن يفصله لنفسه فلم يفعل فيحنث بتفصيل غيره مطلقاً، أما في الأخيرة فواضح لأن الحنث فيها إنما يكون بالبيع وتلفه بعد تمكنه منه ولم يوجد ذلك، وأما في حالة الإطلاق فلأن الاجتماع هو مفاد الواو والمتبادر منها فحمل الإطلاق عليه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262(6/222)
وسئل عن شخص قال يشهد الله لا أجيب إلى كذا عازماً على عدم الإجابة فلو تغير عزمه بعد ذلك وأجاب ماذا يلزمه؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه من كلامهم أنه لغو لأنه لم يسند لنفسه شيئاً يتضمن الحلف فليس كأقسم أو أشهد بالله على أنهم فرقوا بينهما بأن الأوّل اشتهر في اليمين فانعقدت به وإن أطلق بخلاف الثاني فلم تنعقد به إلا إن نواها وقالوا في أشهد بالله في اللعان أنه صريح فاقتضى كلامهم أن الكلام في إسناد الشهادة إلى نفسه وما في السؤال لم يسندها إليه فلتكن لغواً وأيضاً فكلامهم ناطق في اللعان بأنه لو قال يشهد الله إني لمن الصادقين الخ، يكون لغواً وأيضاً فصرحوا في أقسم من غير ذكر صلته ومثله أشهد بالأولى لما تقرر من انعقاد اليمين بذلك عند الإطلاق بخلاف هذا بأنه لغو فإذا كان أشهد لغواً لعدم ذكر الصلة مع إسناده إلى النفس فيشهد الله كذلك وأولى ومما ترجم به الجم الغفير أن من قال يعلم الله ما فعلت كذا وكان فعله كفر لأنه نسب إلى الله سبحانه وتعالى العلم على خلاف الواقع وظاهر تقييده بالعالم المتعمد لذلك فمحضوه للأخبار لا للإنشاء وهو في الماضي يتحقق فيه الكذب فحكم على قائله بالكفر بخلافه في المستقبل فإنه محض إخبار عما سيقع وهو لا يتحقق فيه كذب فلا شيء فيه عند إخلافه هذا ما تيسر الآن والمسألة تحتمل أكثر من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/223)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل استأجر داراً وأقر بأنه رأى وتسلم ثم أنكر الرؤية وطلب يمين المؤجر أنه رأى فهل يجاب؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: أفتى الجلال السيوطي رحمه الله تعالى بأنه لا يجاب لذلك لأنه صدر منه ما يكذبه وهو إقراره بوقوع الرؤية وليست هذه كما لو أقر بالقبض ثم قال إن ذلك إنما كان على رسم القبالة لأن تأخير القبض عن الإقرار به كثير متعارف لا يترتب عليه فساد عقد فسمعت الدعوى به للتحليف، وأما تأخير الرؤية عن عقد الإجارة فهو مبطل لها ولم يعتد عرفاً ولا شرعاً تأخر الرؤية عنها كسائر العقود المشترطة فيها فلا يتصوّر فيها رسم قبالة فلم يسمع طلبه للتحليف لأن إقراره بها لم يعارض بخلافه في مسألة رسم القبالة فإن العرف قاض بالإشهاد على وجوده قبل وجوده ولا كما لو أقر بعقد إجمالي، ثم أنكر بعض شروطه أو لوازمه أو صفاته واعتذر بأنه لم يعلم أنه يفسد العقد فتقبل دعواه للتحليف لعذره ولأنه لم يقر بشيء معين بخصوصه ثم أنكره بخلافه في مسألة الرؤية ويجري ذلك فيما لو أقر بالبيع والرؤية ثم قال لم أر فلا تسمع دعواه لتحليف ولا لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 262(6/224)
باب النذر
وسئل عمن نذر بجميع أملاكه أو باعه إلى من هو تحت يده وقهره وأبرأه من الثمن في الصورة الثانية ولولا ذكر التحتية والقهرية والغلبة على ذلك وعدم القدرة على انتزاع ذلك من يده لم ينذر ولم يبع فما الحكم حينئذ مع أن في فتاوى ابن كبن فيمن امتنع أن يقسم لأخته من مخلف أبيها وصار يتصرف في جميع التركة ببيع وغيره مدة ثم طلب منها أن تبيعه نصيبها بدون ثمن المثل بقدر لا يتغابن بمثله فباعته بما أراد ولولا عدم قدرتها على انتزاعه لم تبعه وجرى منها هذا البيع وهي تحت حجره وقهره بأنه لا يصح البيع والحالة هذه. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بأن البيع والإبراء فيهما صحيحان ولا نظر لما ذكر في السؤال، لأن حقيقة الإكراه التي ذكرها الأئمة لم توجد هنا وإذا علم انتفاء حقيقة الإكراه فيصح النذر أيضاً إن وجدت بقية شروطه ولا يعارض ذلك ما نقلتموه عن ابن كبن رحمه الله تعالى لأن في السؤال وهي تحت حجره وقهره كما ذكرتموه فإذا كانت تحت حجره فكيف يصح بيعها له فالفساد إنما جاء من كونها تحت حجره لا من جهة الإكراه على أن جمعاً قالوا ببطلان بيع المصادر، فيحتمل أن ابن كبن تبعهم في ذلك لكن المعتمد صحة بيعه كما صرحوا به وبأنه غير مكره فكذلك من ذكر في السؤال غير مكره كالمصادر بل أولى وهذا جميعه يتضح به صحة البيع أيضاً في مسألة البيع للغاصب وهي العشرون لأنه لا إكراه فيها والبائع فيها وفي التي قبلها هو المقصر بالبيع لأنه يمكنه التخلص بالسلطان ونحوه فإن فرض عجز السلطان أو بعده بحيث لا يمكن أن يخلصه هو ولا أحد من نوابه ممن تحت يده تلك العين فهذا نادر فلا يدار عليه حكم كما صرحوا به في مواضع كالفلس والنفقات وأشار بذلك إلى مسألة مرت في البيع من جملة مسائل سئل عنها جاءت إليه من علماء حضرموت مشتملة على إشكالات ونوادر وغرائب، ولذا اختلفت في كثير منها الأجوبة ولم يبسط أحد فيها بمثل ما بسط في هذه الفتاوى، والله سبحانه وتعالى(6/225)
أعلم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى فيما لو نذر مجذوم أو هرم بجميع أملاكه لآخر على أن يقوم بمؤنته مدة حياته ما حكمه؟. فأجاب نفع الله تعالى ببركته المسلمين بأن الذي يتجه عدم صحة النذر فيها لأنه قربة بشرط، أخرجه عن كونه قربة ففات لشرط النذر.
وسئل عما لو نذر بجميع أملاكه وهو محتاج إليها لمؤنته أو لمؤنة ممونه أو قضاء دين ما هو المعتمد في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بأن الذي صرح به جمع متأخرون أنه لا يصح النذر بما يحتاج إليه لدين لا يرجو له وفاء أو لنفقة ممونه أو لنفسه وهو لا يصبر على الإضافة لأن التصدق إما حرام أو مكروه وكلاهما لا يصح نذره لا يقال الحرمة والكراهة لأمر خارج فلا ينافي صحة النذر كما يؤخذ من كلامهم في مواضع، ومن ثم صحت هبة الماء الذي يحتاجه بعد دخول الوقت كما في المجموع لأنا نقول ليست الحرمة ولا الكراهة لأمر خارج من كل وجه فكانت منافيتين لصحة النذر، ويفرق بين النذر والهبة بأن الهبة تصح بما لا قربة فيه بخلاف النذر.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/226)
وسئل رحمه الله تعالى في شخص قال نذرت هذه العين للنبي أو للشيخ عبد القادر مثلاً نفعنا الله تبارك وتعالى به فهل تصرف قيمتها في مصالح المسجد النبوي أو لأولاد السيدة فاطمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا وأولاد أولادهم وإن سفلوا، إذا قلتم إن أولاد ابنته أولاده ويكون ذلك من خصوصياته كما صرح به البغوي فإذا كان الأمر كذلك فيستوعب الذكور والإناث في سائر البلدان وهذا مستحيل كما لا يخفى على علمكم الكريم أو يستوعب من كان منهم ببلد الناذر إن أمكن وألا يدفع لأقل الجمع ثلاثة وإذا كان النذر للشيخ المذكور فيصرف في مصالح تربته أو لأولاه ويكون الحكم كما ذكر يستوعب أو لا؟. فأجاب نفع الله تعالى ببركته وعلومه المسلمين بقوله: نذر شيء للنبي أو لغيره كالشيخ المذكور نفعنا الله تعالى به يحمل حيث لم يعرف قصد الناذر على ما اطرد به العرف في ذلك النذر، فإن اطرد بصرفه لمصالح قبره الشريف أو لمصالح مسجده أو لأهل بلده عمل بذلك العرف في هذا النذر كما يفيده كلام الشيخين وغيرهما في النذر للقبر أو للفقير المشهور ب جرجان فإن لم يكن عرف أو كان وجهله الناذر ف للزركشي فيه تردد والذي يتجه البطلان فإن عرف قصده فالذي يتجه أنه يأتي فيه قول الأذرعي في النذر للمشاهد المبنية على قبر ولي أو نحوه من أن الناذر إن قصد تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو من تنسب إليه وهو الغالب من العامة لأنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء فلا يصح النذر في صورة من هذه الصور لأنه لم يقصد به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بخلاف ما إذا قصد به التصدق على من يسكن تلك البقعة أو من يرد إليها، فإنه يصح لأن هذا نوع قربة وبما تقرر علم أن أولاد المنذور له وأولادهم لا حق لهم في النذر من حيث كونهم ورثة له. نعم إن اطرد العرف بأن المنذور لأبيهم يصرف لهم عمل به فيهم وصرف لهم لا من حيث كونهم ذريته بل للعرف،(6/227)
إذ لو اطرد بالصرف لا جانب مخصوصين صرف إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل عما إذا نذر البائع للمشتري بمثل ثمرة الشجرة المبيعة أو بمثل أجرة الأرض المبيعة إن خرج المبيع مستحقاً فهل هذا نذر لجاج لأن نذر اللجاج هو المعلق بأمر مرغوب عنه لا فيه أو هو نذر معلق على شرط يجب الوفاء به إذا وجد شرطه وما الفرق بينهما فإن كلاً منهما فيه تعليق وهل يرجع إلى قول الناذر قصدي كذا مطلقاً أو ما لم يقض الشرع بكفايته وعما لو كان لشخص دين معلوم على آخر فطالب رب الدين المدين بدينه فقال المدين ما عندي في هذا لوقت شيء فقال رب الدين انذر لي بثلاثة آصع طعام في ذمتك إذا خرج الشهر ولم توفني ديني فنذر له بذلك كذلك هل هذا نذر لجاج أو معلق على شرط فإن قلتم لجاج فلو قال له قل إذا خرج الشهر المذكور ولم أوفك دينك ودعيت لي بالعافية أو بما تيسر فلك كذا فقال ذلك فهل يلزمه ما التزمه ويخرج بهذا عن نذر اللجاج أو لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: الذي نقله الشيخان عن الغزالي وأقراه أن النذر في الصورة الأولى لغو ووجهه أن هذا مباح وهو لا يلزم بالنذر ولا نظر لكونه متضمناً لنحو الصدقة وذلك قربة لأنه على هذا الوجه الخاص أعني تعليقه وجعله في مقابلة ما ذكره ليس قربة ولا محرماً فكان مباحاً واعترض بأن القياس أنه نذر لجاج وقد يجاب بأن البائع لا يقصد بذلك إلا ترويج سلعته فمن جعلوه لغواً نظروا لمعاني العقود دون صيغها وهي قاعدة شهيرة تارة يغلبون فيها النظر إلى الصيغ وهو الأكثر وتارة يغلبون فيها النظر إلى المعنى إذا قوي بعاضد كموافقة الغالب هنا فإفتاء بعضهم بأن ذلك نذر لجاج لعله أخذه من الاعتراض المذكور وقد بان الجواب عنه، وأما النذر في الصورة الثانية فالظاهر أنه لغو أيضاً لأنه علقه على حرام أو مباح، وكل منهما لا يصح نذره لأنه إذا قال إن خرج الشهر ولم(6/228)
أوفك دينك فعليّ كذا، كان معلقاً على خروج الشهر وعدم وفاء الدين وعدم وفائه مع وجود شيء يوفي منه حرام، لأن أداء الدين واجب على الموسر بعد الطلب ومع عدم ذلك مباح وضمه إلى ذلك الدعاء لا يقلبه صحيحاً لأنه علقه على شيئين أحدهما باطل فبطل وإنما لم يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل لأن التعليق الواحد لا يتبعض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته وصل ما تفضل به سيدي فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء والقائل بأن ذلك نذر لجاج في الصورة الأولى هو الفقيه عبد الله بن الحاج فضل صاحب المختصر الذي شرحتموه ووجه ما ذكرتموه ظاهر وما وجه القائل بأن ذلك تعليق بصفة وهو أيضاً من أكابر فقهاء الجهة لكن الحق أحق أن يتبع وما الفرق بين هذا وما قبله فإن كلاً منهما تعليق بصفة وما ذكره سيدي في الصورة الثانية واضح فجزاكم الله تعالى خيراً لكن هل للدائن سبيل على حث المدين على وفاء الدين بصورة نذر يلتزمها المدين بغير صورة لجاج ويلزمه ما التزمه أو لا؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى به بقوله: الحيلة في ذلك أن يتفقا على زمن لقضاء الدين ثم يقول المدين للدائن إذا جاء الزمن الفلاني فللّه عليّ لك كذا فتعلق بمضي الزمن فقط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل في عادة أطردت عند قضاة الحجاز وهو أن المستأجر أو المشتري إذا خاف من إظهار فتنة أو منازع آخر يقولون للبائع قل نذرت إن قام قائم شرعي على المشتري بنذر له بنظير ما يقام به عليه ومقصودهم إذا أخذت منه الأرض بوجه شرعي يرجع المشتري بمثل ما أخذ منه من الأرض ويحكم بذلك النذر حاكم البيع من جملة الحكم هل يصح ذلك النذر أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: النذر المذكور باطل فلا يجوز الحكم به، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/229)
وسئل رحمه الله تعالى في رجل نذر سكنى المدينة فهل يكون نذره قربة فتلزمه وإذا قلتم باللزوم فهل يجزئه سكنى مكة قياساً على الاعتكاف، وإذا قلتم بالقياس فما الجامع بينهما، وإذا قلتم بعدمه فما الفرق أو يكون قياس نذر سكنى المدينة كقياس نذر المشي إلى البيت الحرام يلزم مع كون الركوب أفضل، وما القياس فيه والفرق، وهل الأفضل في سكنى المدينة أو الاعتكاف في مسجدها إتمام ما التزمه أو تكون مكة مجزئة مع الأفضلية؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: سكنى المدينة سنة إن أمن من الوقوع في محذور وحينئذ فيصح نذرها كما فهمه كلامهم في باب النذر وأفهم كلامهم فيه أنه لا يجزىء عنها سكنى مكة وإن كانت أفضل كما لو نذر المشي لا يجوز الركوب وكما لو نذر التصدق بالدراهم لا يجوز بالذهب، لأن المشي فيه مشقة مقصودة للشارع لا توجد في الركوب وكذا الدراهم فيها ما لا يوجد في الذهب مع مخالفة الجنس وكذلك سكنى المدينة فيها من المشقة وغيرها ما لا يوجد في مكة، ويؤيد ذلك قولهم لو نذر جهاداً وعين له جهة في نذره أجزأه غيرها إن ساوتها مسافة ومؤنة وإلا فلا فأفهم ذلك أن سكنى مكة لا يجزىء عن سكنى المدينة وإن كانت أفضل لأنهما غير مستويين في ذلك وغيره، ويفرق بين السكنى والاعتكاف بأنه منوط بالمسجد من حيث ذاته فلم يختلف الغرض باختلاف ذوات المساجد غير الثلاثة، وأما هي فالاختلاف بينها إنما جاء في أمر تابع هو مجرد الفضيلة فأجزأ الفاضل عن المفضول ولا عكس، وأما المشقة ونحوها فالثلاثة مستوية فيها بخلاف السكنى كما مر، والحاصل أن نفس الاعتكاف لم يختلف باختلاف المحال إلا في الأفضلية فحسب والسكنى مختلفة باختلاف المحال في الأفضلية وغيرها ومتى وقع الاختلاف في غير الأفضلية لم يجز أحدهما عن الآخر وحيث عين في نذره شيئاً فالأولى فعله وإن قلنا بأن غيره الأفضل يجزىء عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/230)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل رحمه الله تعالى في حقيقة نذر التبرر وما الفرق بينه وبين نذر اللجاج فقد ذكر في الأنوار ما معناه: أن نذر التبرر تعليق قربة على حصول نعمة أو اندفاع نقمة فهل هو مقصور على ذلك أو ما يظهر منه الحث والمنع لجاج والباقي تبرر ويظهر ذلك فيما لو قال إن سقط هذا الجدار فعليّ أن أتصدق بكذا وكذا أو إن استحق منك يا فلان هذا المال بدعوى من فلان أو من أحد فنذر عليّ أن أتصدق عليك بكذا فهل هذا نذر لجاج أو تبرر، وأما قوله إن دخل فلان الدار أو لم يدخل فللّه عليّ كذا فظاهر أنه لجاج فبينوا لنا حقيقة ذلك جزاكم الله تبارك وتعالى خيراً؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: النذر إما تبرر أو لجاج والتبرر إما مجازاة أو ملتزم ابتداء فالمجازاة هو تعليق التزام قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة كما قالوه أو كل ما يجوز أن يدعو الله تعالى به وأن يسأله إياه كما قاله الصميري وطرده القاضي في كل مباح قال في الكفاية وهو أفقه وأوضح فالحاصل أنه تعليق التزام القربة في مقابلة ما يرغب فيه سواء أكان حصوله على ندور أم لا وغير المجازاة كللّه عليّ أن أصلي مثلاً، ولا يشترط في القسمين الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى خلافاً للقاضي، وأما نذر اللجاج فهو تعليق القربة بما يرغب عنه وهو معنى قول الشيخين هو أن يمنع نفسه من شيء أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة وقد يكون لتحقيق خبر أيضاً كأن لم يكن كما قلت، فللّه عليّ كذا ثم الصيغة إن كانت نصاً في التبرر أو اللجاج فظاهر ولا يحتاج هنا إلى قصد وإن احتملتهما اشترط قصد الناذر فإن قصد شيئاً عمل به، فإذا قال إن دخلت الدار فما لي صدقة كان نذر لجاج لأنه المفهوم منه فكان كقوله عليّ أن أتصدق بمالي فإما أن يتصدق بكله وإما أن يكفر كفارة يمين ولتبادر اللجاج من هذه الصيغة لم يحتج لقصده كما أفهمه إطلاقهم بخلاف التبرر(6/231)
فإن هذه الصيغة وإن احتملته لكنه غير متبادر منها فاحتيج إلى قصده فإذا أراد بها إن رزقني الله سبحانه وتعالى دخول الدار بأن رغب في دخولها كانت نذر تبرر، وكذا يقال في أن سقط هذا الجدار فعليّ أن أتصدق بكذا فهو نذر لجاج إلا أن يريد إن رزقني الله تعالى سقوطه بأن يكون سقوطه مرغوباً فيه فيكون نذر تبرر لما تقرر أن المرغوب فيه تبرر، والمرغوب عنه لجاج وضبط ذلك الأئمة بأن الفعل إما طاعة أو معصية أو مباح والالتزام في كل منهما تارة يتعلق بالإثبات وتارة يتعلق بالنفي فالإثبات في الطاعة كأن صليت فعليّ كذا يحتمل التبرر بأن يريد إن وفقني الله تبارك وتعالى للصلاة فعليّ كذا واللجاج بأن نقول له صل فيقول لا أصلي وإن صليت فعليّ كذا والنفي في الطاعة كأن يمنع من الصلاة فيقول إن لم أصل فعليّ كذا لا يحتمل غير اللجاج إذ لا بر في ترك الطاعة والإثبات في ترك المعصية كأن يؤمر بشرب الخمر فيقول إن شربتها فعليّ كذا لا يحتمل غير اللجاج أيضاً لما تقرر والنفي فيها كأن لم أشربها فعليّ كذا يحتملهما التبرر بأن يريد أن عصمني الله تعالى من شربها واللجاج بأن يمنع من شربها فيقول إن لم أشربها والمباح نفياً وإثباتاً يحتملهما فالتبرر في النفي كأن لم آكل كذا فعليّ كذا بقصد إن أعانني الله على كسر شهوتي فتركته فعليّ كذا وفي الإثبات كأن أكلت كذا بقصد إن يسره الله تبارك وتعالى لي وللجاج في النفي كقوله وقد منع من أكل الخبز إن لم آكله فعليّ كذا. وفي الإثبات وقد أمر بأكله إن أكلته فعليّ كذا وبما تقرر علم أن قوله إن استحق منك يا فلان هذا المال الخ يتصوّر أن يكون تبرراً بأن يكون الناذر ادعاه لنفسه وأراد إثباته لها لأنه علقه بمرغوب فيه حينئذ وأن يكون لجاجاً بأن يترتب على استحقاقه ضرر الناذر مثلاً لكونه كان تحت يده فيكون طريقاً في الضمان مثلاً لكونه مرغوباً عنه حينئذ، وقول الشيخين نقلاً عن الغزالي وأقراه لو قال البائع للمشتري إن خرج(6/232)
المبيع مستحقاً فللّه عليّ أن أهبك ألفاً كان لغواً اعترضه كثيرون بأن الوجه انعقاد النذر وغايته أنه لجاج وأجبت عنه في شرح العباب بأن البائع لا يقصد بذلك غالباً بل دائماً إلا ترويج سلعته فمن ثم جعلوه لغواً نظراً لمعاني العقود دون صيغها وإن كان النظر للصيغ أكثر، وقول السائل في أن دخل أو لم يدخل الظاهر أنه لجاج ليس على إطلاقه لما تقرر أن ذلك يحتمل التبرر واللجاج لأنه قد يريد أن وفقه الله سبحانه وتعالى للدخول أنه كأكل الخبز، وقد علمت أنه يتصوّر فيه نذر اللجاج والتبرر نفياً وإثباتاً كما صرحوا به وأنهم لم يخصوا ذلك بالدخول بل أجروه في كل مباح ومنه الدخول فكلامهم مصرح بأن الدخول نفياً وإثباتاً يحتمل النذرين بالمعاني التي قررناها فكيف مع ذلك يقال فظاهر أنه لجاج، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/233)
وسئل رحمه الله تعالى هل يصح النذر على بعض أولاده دون بعض وإذا أراد النذر على جميعهم فنذر على الأوّل ثم الثاني إلى آخرهم ما حكمهم؟ بينوا ذلك. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: اختلف المتأخرون من أهل اليمن في النذر على بعض الأولاد فقال جماعة منهم ك الفتى و تلميذه الكمال الرداد و الجمال بن حسين القماط واقتضاه كلام البدر بن شهبة أنه باطل لأن شرط النذر القربة ولا قربة في ذلك بل هو مكروه كما صرح به النووي في تنقيح الوسيط قال: وقول الوسيط كان تاركاً للأحب عبارة ناقصة والصواب ما قاله الأصحاب فإن الحديث مصرح بشدة كراهيته، بل صرح ابن حبان في صحيحه بعدم جوازه وأطنب فيه لخبر الصحيحين: أن أبا النعمان بن بشير نحله شيئاً دون إخوته فطلب من النبي الإشهاد على ذلك فقال: «فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور والحرمة مذهب» . وقال أكثر العلماء بالكراهة فقط لقوله : «فأشهد على هذا غيري» ولو كان محرماً لم يأذن له في إشهاد غيره عليه والجور الميل والمكروه مائل عن سنن الاستقامة فلا دليل للحديث في الحرمة. وقال آخرون: يصح النذر منهم الشيخ نجم الدين يوسف المقري و الفقيه عبد الله بن أحمد بامخرمة وهذا هو الذي يتجه ترجيحه لأن الذي دل عليه كلامهم في باب النذر أن مرادهم بقولهم لا ينعقد نذر المكروه المكروه لذاته بخلاف المكروه لمعنى خارج عن ذاته بأن تكون ذاته قربة وإنما اقترن بها أمر خارج عنها صيره مكروهاً فهذا ينعقد نذره كما صرحوا به في مسائل: منها: صوم الدهر فقد أطلق في الروضة انعقاد نذره مع أنه قد مر في باب الصوم كراهته في بعض الصور وأبلغ من ذلك قوله في شرح المهذب لا خلاف في انعقاد نذره ولزوم الوفاء به، وكلام الرافعي صريح في صحة نذره وإن قلنا بكراهته على توقف فيه وعبارته إذا نذر صوم الدهر انعقد نذره وقد ذكرنا في آخر الصيام أن منهم من أطلق القول بكراهته ولا يبعد أن يتوقف على ذلك التقدير في صحته(6/234)
لأن النذر تقرب والمكروه لا يتقرب به والمذهب انعقاده اهـ فتأمل قوله والمذهب انعقاده بعد ذكره التوقف وعليه فقد أجاب المحقق الشمس الجوجري في شرح الإرشاد عن ذلك بكلام حسن فقال فإن قلت فهل للتوفيق بين ما في الروضة والمجموع والشرح هنا من إطلاق الانعقاد وبين ما ذكرناه في صوم التطوع من الكراهة إما مطلقاً أو على التفصيل الذي نقل وجه أم لا؟ قلت يمكن أن يقال في وجه التوفيق أن ما ذكر هنا لأجل أن الصوم في نفسه قربة وطاعة فصح التزامه بالنذر ووجب الوفاء به مطلقاً من غير تفصيل، وما ذكر هنا من الكراهة ليس راجعاً إلى الصوم من حيث ذاته بل باعتبار ما يعرض له من خوف الضرر والفوت فالمكروه في الحقيقة هو التفويت والتعرض للضرر لا نفس الصوم، ويؤيد ما ذكرته أن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/235)
البغوي صرح بالكراهة وبانعقاد النذر، وحينئذ فقول المطلق أن كلام التنبيه صريح في عدم الصحة لأنه قال لا يصح النذر إلا في قربة غير ظاهر، ومثل عبارة التنبيه في ذلك عبارة الحاوي النذر التزام قربة فلا يقتضي تخصيص ذلك بالتنبيه اهـ فتأمله تجده صريحاً في صحة النذر في مسألتنا وإن أعطى بعض الأولاد صدقة وهي من حيث ذاتها قربة وإنما كرهت في هذا الفرد الخاص لما يترتب عليها من التخصيص المؤدي إلى العقوق فحينئذ الصدقة والصوم قربتان في ذاتهما، وقد يعرض لهما ما يصيرهما مكروهين لأمر خارج عنهما فإذا قالوا بانعقاد صوم الدهر وإن قلنا بكراهته فليقولوا بانعقاد النذر في صورتنا ولا نظر إلى الكراهة كما علمت وبما تقرر يندفع ميل الأذرعي الآخذ بقضية توقف الرافعي وتعجبه من جمع البغوي بين القول بالكراهة وانعقاد النذر وإن تبعه غيره على ذلك وأطالوا فيه وقد بسطت الكلام على ذلك في شرح العباب وبينت رد ما وقع للزركشي وغيره هنا ومما يؤيد ما قلناه ثم هو أصرح في المراد مما سبق تصريحهم بانعقاد نذر صوم الدهر من المرأة المزوّجة بغير إذن زوجها ومن الرقيق بغير إذن سيده ولم ينظروا إلى حرمة الصوم عليهما بغير إذن الزوج والسيد لأن الحرمة ليست لذات الصوم بل لما عرض من تفويت حق الزوج والسيد فإذا كانت الحرمة العارضة للعبادة غير مانعة من انعقاد نذرها فأولى أن تكون الكراهة العارضة لها غير مانعة من انعقاد نذرها فاتضح ما ذكروه من انعقاد نذر صوم الدهر وما ذكرناه من انعقاد نذر إعطاء بعض الأولاد وأصرح مما قلناه في انعقاد صوم الدهر مع كراهته تصريح الشيخين بصحة نذر صوم يوم الجمعة مع كراهته فإنهما وغيرهما صرحوا بأنه لو نسي اليوم المعين من الأسبوع صام الجمعة وعللوه بأنه آخر الأسبوع فإن كان اليوم المعين غيره فهو قضاء وإن كان هو المعين فهو أداء فقولهم فهو أداء صريح في صحة نذره وإذا صح نذره مع كراهته لأنها لمعنى خارج عن ذات الصوم وهو الإضعاف(6/236)
عما فيه من الوظائف الدينية فكذلك يصح إعطاء بعض الأولاد مع كراهته وإذا تأملت ما ذكرته من كلامهم في هذا ظهر لك أن ما مر عن الأذرعي وغيره من النزاع في انعقاد نذر صوم الدهر إذا قلنا بكراهته غفلة عن كلامهم هذا أعني الذي ذكروه في انعقاد نذر صوم الجمعة مع كراهته، وكذلك ظهر لك أيضاً أن من قال في نذر إعطاء بعض الأولاد بالبطلان غفل عما قالوه في صوم الدهر وصوم الجمعة ونظر إلى مجرد قولهم لا يصح نذر المكروه فتأمل ذلك ولا تغتر بغيره ومحل الخلاف فيما إذا لم يكن للمنذور إعطاؤه من الأولاد صفة تقتضي تميزه كفقر وصلاح واشتغال بعلم وإلا انعقد نذر إعطائه اتفاقاً إذ لا كراهة فيه وحينئذ وعلى ما رجحته فلا فرق إذا أراد النذر لجميعهم بين أن ينذر للكل معاً أو واحداً بعد واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/237)
وسئل رحمه الله تعالى عما لو تواطآ على أنه إن أقرضه مالاً معلوماً نذر عليه بعد صحة الإقراض بمال معلوم القدر في ذمته في عين كل سنة مدة بقاء الدين ثم حققا ذلك هل هذا النذر صحيح أم لا؟ فقد رأيت جواباً لبعض علماء زبيد ببطلانه ولآخر بصحته وأطال فيه الكلام وشرط فيه شروطاً كون الدين حالاً وعجز المدين عنه بحيث لو طولب به لأدى إلى فقره ومسكنته أو إخراجه من داره أو أخذ ضيعته التي مؤنته منها وأن يقيد النذر بقوله إلى أن يوسر وبسط فيه كثيراً فما التحقيق في ذلك الذي لا يعتمد في الفتيا على غيره؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا تواطآ على أن يقرضه مالاً وينذر له كل سنة بشيء معين فأقرضه ثم نذر المقترض لمقرضه بدينار مثلاً كل سنة ما دام هذا المال في ذمته فالذي يتجه لي في هذه المسألة أنه إن أتى بهذا النذر على قصد الوفاء بما تواطآ عليه لم يصح لأن المواطأة المذكورة مكروهة فالوفاء بها مكروه والمكروه لا يصح نذره والدليل على كراهة تلك المواطأة قولهم لو تواطأ العاقدان على نحو الطلاق قبل النكاح ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط كره كما قاله الماوردي وغيره خروجاً من خلاف من أبطله ولأن كل ما لو صرح به أبطل إذا أضمره كره فكراهة العقد بهذا القصد صريحة في كراهة النذر بذلك القصد وحيث كره النذر والمنذور به فلا يمكن الانعقاد وقد بان بما قررته كراهة النذر والمنذور به إذا قصد به الوفاء بما تواطآ عليه وفي هذه الحالة لا فرق بين أن يكون الناذر فقيراً والدين حالاً وأن يكون بخلاف ذلك وإن قصد به محض القربة والتصدق أو الإهداء إلى المقرض كل سنة من غير أن يجعله في مقابلة مواطأة ولا غيرها صح النذر لأنه حينئذ قربة كالمنذور به وإن قصد به جزاء شكر نعمة الصبر عليه ولو لإعساره مع حلول الدين صح أيضاً أخذاً من قول القاضي حسين في آخر الأيمان لو شفى مريضه فقال لله عليّ عتق رقبة لما أنعم عليّ من شفاء مريضي لزمه الوفاء(6/238)
بالمنذور قولاً واحداً كما لو علق بشفائه. قال البلقيني : وكأنه نظر إلى أن هنا جزاء شكر النعمة فأنزله منزلة المجازاة المعلقة قبل الحصول وهذا كلام حسن معتمد اهـ، وقال الزركشي : إنه قياس سجود الشكر اهـ، ويؤيده أيضاً قولهم في نذر المجازاة هو أن يعلق التزام المال على حصول نعمة يرجوها من مال أو جاه أو ولد أو اندفاع نقمة يحذرها كنجاة من هلكة، وضبطه الصيمري
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/239)
بأن يعلق القربة على حصول ما يجوز أن يدعو الله تبارك وتعالى به وأن يسأله إياه فإذا حصل لزمه الوفاء بنذره اهـ. ولا شك أن المقترض بعد أن اقترض ولزم الدين ذمته إذا نذر لمقرضه كل سنة بكذا انحل هذا النذر إلى أن المراد به نذرت لك عليّ بكذا كل سنة إن صبرت عليّ، فجعل هذا النذر مجازاة لصبره عليه وصبره عليه فيه نعمة لرفقه بذلك المال واندفاع نقمة عنه من نحو مطالبته وحبسه وإضراره فدخل حينئذ هذا النذر بهذا القصد في كلامهم فاتضح صحته ولزوم الوفاء به وإن أطلق الناذر نذره ولم ينو به شيئاً فهو محل التردد لأنه يحتمل المعنى المبطل وهو الحالة الأولى السابقة والمعنى المصحح وهو الأحوال الثلاثة التي بعدها والذي يفهمه قولهم السابق في مسألة النكاح ثم عقدا بذلك القصد الصحة هنا في حال الإطلاق وهو متجه، إذ الصيغة بوضعها صحيحة وإنما أبطلها قصد الوفاء بالمواطاة المكروهة ونحوه، فإذا خلت عن ذلك القصد المبطل لزم الحكم بصحتها إذ لم يقترن بها حينئذ مبطل ظاهراً ولا باطناً، ومما يدل لتأثير القصد في صحة النذر المحتملة بحث الأذرعي في امرأة نذرت الجهاد أنها إن أرادت به القتال ومكافحة الأبطال لم ينعقد نذرها وإن قصدت به مداواة الجرحى ونحو ذلك من القيام بمصالح المجاهدين انعقد نذرها فقد كن في الصدر الأول يخرجن لتلك اهـ. بل قد صرح الشيخان كجماعة بنحو ذلك فقالوا قد تتردد الصيغة فتحتمل نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج فيرجع فيه إلى قصد الشخص وإرادته وفرقوا بينهما بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب وهو شفاء المريض مثلاً بالتزام المسبب وهو القربة المسماة وفي نذر اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم اهـ، وإذا تأملت فرقهم المتضمن لحد نذر التبرر المتعين الوفاء به بما ذكر علمت أن النذر في مسألتنا من أقسام نذر التبرر إلا في الحالة الأولى وهي ما إذا قصد الوفاء بالمواطاة وفي غير هذه الحالة لا فرق بين أن يكون المقرض فقيراً أو غنياً(6/240)
فقد صرح القاضي حسين بصحة النذر للغني لأن التصدق عليه قربة فجاز التزامه بالنذر. وفي فتاوى الولي أبي زرعة ما يؤيد ما قدمته فإنه سئل عمن نزل لآخر عن أرض يستحق منفعتها بالإقطاع فالتزم المنزول له بالنذر الشرعي أنه إذا خرج له منشور إقطاعها بمقتضى ذلك النزول دفع له كذا فوجدت الصفة فهل يصح هذا النذر، فأجاب بصحته وأنه نذر مجازاة ولا ينافيه ما نقله الشيخان عن فتاوى الغزالي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وأقراه من أن البائع لو قال للمشتري إن خرج المبيع مستحقاً فللّه عليّ أن أهب منك مائة دينار لم يصح لأنه مباح، وذلك لأن هذا نذر لجاج إذ ليس للبائع غرض في أن يخرج المبيع مستحقاً وإنما يفعل ذلك تحقيقاً لزعمه ودفعاً لقول قائل ليس هذا ملكه بخلاف المنزول له فإن له غرضاً في أن يصير الإقطاع له وهي نعمة فيشكر الله عليها بما يدفعه للناذر، فإن قيل لم يستند الغزالي في البطلان إلى كونه ندر لجاج، وإنما استند إلى أنه مباح فنذر اللجاج في صورته وصف طردي، قلنا صورة الغزالي صرح فيها بأن المدفوع هبة، وأما هذه فلم يصرح فيها به فيجوز أن يكون صدقة قصد بها ثواب الآخرة، وبتقدير أن لا يقصد به الصدقة فهو مندوب لكونه مكافأة ليد سبقت من النازل بسبب نزوله والمكافأة على الإحسان مطلوبة شرعاً وهذا منتف في صورة الغزالي اهـ. فتأمل قوله وبتقدير أن لا يقصد به الصدقة فهو مندوب الخ، تجده صريحاً فيما ذكرته من الصحة في مسألتنا في الأحوال الثلاثة وبما قررته يعلم الرد على من أطلق البطلان فيها وعلى من قيد الصحة فيها بتلك الشروط، ويعلم أيضاً أن الوجه ما قلناه من التفصيل المصرح به في كلامهم فتأمل ذلك فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/241)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عمن نذر لعمرو بمال ومراده إن لم يبع بكر داره من عمرو ومراده أن بكراً لا يترك البيع بل يخالف في ذلك ما حكم النذر وعمن قال لآخر تعلم كذا وكذا إن معك حولاً ضيعة نفيسة فقال كالمازح هي نذر عليك ما الحكم وإذا قال أردت غيرها ما الحكم؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: النذر لعمرو في صورته المذكورة يحتمل اللجاج والتبرر، وقد مر الفرق بينهما بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب وهو شفاء المريض مثلاً بالتزام المسبب وهو القربة المسماة، وفي نذر اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم فعدم بيع بكر داره من عمرو إن أحبه الناذر ورغب فيه لغرض صحيح له فيه كان النذر تبرراً فيلزمه ما التزمه لعمرو وإن كرهه الناذر أو لم يرغب فيه كان نذر لجاج فيتخير بين أن يعطي عمراً ما التزمه له وبين كفارة يمين وينعقد النذر بقوله هي نذر عليك وإن كان مازحاً على أن الصيغة تحتمل الإقرار وهو صحيح مع المزح أيضاً ولا يقبل قوله أردت غيرها لأن كلامه صريح فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/242)
وسئل عمن عليه دين لرجل فنذر على آخر بجميع أملاكه وأوقفها عليه ما الحكم وإن كان الناذر أو الواقف هو الضامن هل حكمه حكم الأصيل؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: من عليه دين يستغرق ماله وليس له جهة ظاهرة يرجو الوفاء منها فنذر التصدق بجميع ماله لم ينعقد ذلك النذر كما بحثه الأذرعي وتبعه الزركشي وغيره، وذلك لأن الأولين قيدا لزوم التصدق بكل المال في قول الأصحاب لو نذر ماله لسبيل الله لزمه التصدق بكله على الغزاة فقالا ومحل لزوم التصدق بكل ماله فيما تقرر ما إذا لم يكن عليه دين لا يرجو له وفاء أو ليس له من يلزمه مؤنته وهو محتاج إلى صرفه له فإن كان كذلك لم ينعقد نذره لذلك لعدم تناوله له لأنه يحرم عليه التصدق بما يحتاج إليه لذلك اهـ. وبه علم عدم انعقاد النذر الذي يحتاج إليه لما ذكر لأنه حيث لم يرج الوفاء من جهة ظاهرة لدينه كان ما يحتاج إليه للوفاء به متعيناً للوفاء فلم يتناوله النذر وبهذا يفرق بين عدم انعقاد النذر هنا وانعقاده لبعض الأولاد وإيضاحه أن المنذور به هنا متعين الصرف إلى الدين أو العيال أو النفس إذا لم يصبر على الإضافة وحيث تعين صرفه لذلك لم يتناوله النذر لأنه إنما يتناول القربة الذاتية وإن اقترن بها حرمة أو كراهة لأمر خارج والتصدق بالمحتاج إليه ذكر ليس قربة مطلقاً لا لذاته ولا لأمر عارض، وأما إعطاء بعض الأولاد فهو من جزئيات الصدقة المندوبة والكراهة فيه إنما هي لأمر خارج فلم يمنع انعقاد النذر، ويدل على أنها لأمر خارج قولهم لا يكره تخصيص بعض الأولاد لنحو فقرأ وعلم، وأما المحتاج إليه لما مر فالحرمة بالتصدق به أمر ذاتي لا يمكن انفكاكه عنه فاتضح فرقان ما بين المسألتين، فإن قلت يمكن زوال الحرمة برضا الدائن أن يتصدق به، قلت إذا وجد رضاه خرجت المسألة عن فرضها الذي الكلام فيه وهو أن يحتاج إلى صرف المنذور به في الدين ومع الرضا لا احتياج فلم توجد صورة المسألة فلا يرد ذلك(6/243)
على ما نحن فيه وبعد أن تقرر لك ذلك في النذر واتضح فلا يخفى عليك إلحاق الوقف بالنذر، إذ هما من واد واحد من حيث إن كلا قربة وأنه لا ينعقد في مكروه ولا محرم فلو كان لمدين أرض متعينة الصرف إلى قضاء دينه الذي لا يرجو له الوفاء من جهة ظاهرة غيرها فوقفها لم ينعقد وقفه ثم رأيت الأصبحي أطلق في فتاويه صحة وقف المديون في صحته قبل الحجر عليه ويتعين حمله على ما ذكرته بأن يكون له جهة ظاهرة يرجو الوفاء منها فحينئذ يصح وقفه وإن كان مديناً والذي يدل عليه كلامهم في باب الضمان أن الدين المضمون ثابت في ذمة الضامن كما أنه ثابت في ذمة المضمون عنه إذ حقيقة الضمان ضم ذمة إلى ذمة، وإذا ثبت لزوم الدين لذمته فيكون في نذره ووقفه بما يحتاج إليه ما ذكر في غير الضامن فلا يصح منه نذر، ولا وقف له لما ذكرنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/244)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص نذر على آخر بقطعة من داره ثم منع الناذر المنذور عليه من المرور في الدار إلى القطعة هل له ذلك أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى به بقوله: الجواب عن هذه المسألة يحتاج إلى مقدمة وهي أنهم صرحوا بأن بيع الإنسان لقطعة من أرض محفوفة بملكه من سائر الجوانب صحيح وللمشتري الممر من كل جانب وإن لم يقل بعتكها بحقوقها لتوقف النفع عليها فهو كبيعها بحقوقها، فإن شرط الممر من جانب ولم يعينه أو نفاه لم يصح البيع لتعذر الانتفاع بالمبيع حالاً، وإن أمكن تحصيل ممر له بعدو شرط البغوي عدم إمكان تحصيله وحيث اشترى ما يلي ملكه أو الشارع مر في أحدهما لا في ملك البائع إلا أن قال بحقوقها ومن باع داراً واستثنى لنفسه بيتاً منها مر منها إليه ما لم يتصل البيت بملكه أو شارع كما ذكره القاضي حسين فإن نفى الممر ولم يمكن تحصيله لم يصح البيع كبيع ذراع من ثوب ينقص بالقطع، وصرحوا أيضاً بأن ما جاز بيعه جازت هبته ومالاً فلا غالباً فيهما ومن غير الغالب نحو حبتي الحنطة فتجوز هبتهما وإن امتنع بيعهما ذكره في المنهاج واعتمده الأذرعي وغيره إذ لا محذور في التصدق بتمرة أو بشقها فكذا في الهبة، لكن قال ابن النقيب : أن ما في المنهاج سبق قلم أو وهم لما في الرافعي من أن ما لا يتمول كحبة حنطة أو زبيبة لا يباع ولا يوهب اهـ، والذي يتجه أنه لا خلاف بل الأوّل محمول على ما إذا أراد بهبته نقل اليد عنه كما مال إليه الإمام والثاني محمول على ما إذا أراد تمليكه لتعذر تمليكه إذا تقرر ذلك فنذر قطعة الأرض المذكورة يحتمل تخريجه على بيعها فيأتي في نذرها ما ذكرناه في بيعها فيصح النذر بها وإن احتفت بملك الناذر من سائر الجوانب وللمنذور له الممر من كل جانب وإن لم يقل الناذر بحقوقها ويبطل إن شرط له الممر من جانب مبهم أو نفاه وإذا نذرله بما يلي ملكه أو الشارع مر في أحدهما لا في ملك الناذر إلا إن قال بحقوقها، ومن نذر بدار(6/245)
واستثنى لنفسه بيتاً منها مر منها إليه ما لم يتصل البيت بملكه أو بشارع، فإن نفى الممر ولم يكن تحصيله لم يصح النذر هذا كله ما يقتضيه قياس النذر على البيع بجامع أن كلاً يقتضي الملك وإن افترقا من وجوه كثيرة، ويحتمل تخريجه على هبتها فيأتي في نذرها ما ذكرناه في هبة ما لا يتمول فعلى ما في المنهاج يصح نذرها مطلقاً وللمنذور له الممر إليها ما لم يتصل بملكه أو بالشارع لأنه حينئذ لا حاجة به إلى المرور في ملك الغير، وأما على ما قلناه من الحمل فلا يأتي ذلك إلا إن أراد بالنذر بها في الصورة التي لا ينتفع بها فيها بأن شرط الناذر عدم الممر إليها من ملكه ولا يمكن تحصيل ممر آخر لها نقل اليد عنها لا تمليكها، وأما على ما في الرافعي وكذا على ما بحثناه إن أراد بالنذر بها في الصورة المذكورة تمليكها فلا يصح النذر بها والذي يتجه من الاحتمالين هو الثاني أعني قياس النذر على الهبة لا على البيع، لأن بين البيع والنذر تجانساً أعم وهو مطلق إفادة الملك وبين النذر والهبة تجانساً أخص وهو إفادة ذلك مع كون كل منهما قربة بذاته ولا شك أن التشابه الأخص أولى رعاية من التشابه الأعم فكان إلحاق النذر بالهبة أولى وأحق وحينئذ فيصح نذر القطعة المذكورة مطلقاً حتى في الصورة التي لا يصح بيعها فيها بناء على ما مر عن المنهاج وكذا على ما مر عن غيره إن أراد نقل اليد لا التمليك وللمنذور له الممر من ملك الناذر إليها ما لم يتصل بملكه أو بشارع هذا ما ظهر لي في هذه المسألة ولم أر فيها نقلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/246)
وسئل رحمه الله تعالى هل نذرت عليك بكذا صيغة صحيحة أو لا وكيف كيفية الصيغة التي لا خلاف فيها لمن أراد النذر بمال على آخر؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله المعتمد: إن نذرت من صرائح النذر لكن قال بعضهم محله حيث كان الملتزم قربة أو أضيف لما يتقرب به كنذرت للفقراء بخلاف نذرت لفلان بكذا، قال فهذه محتملة للنذر وغيره فيظهر أنها كناية اهـ، وكلام الأنوار قد يدل لما قاله ومع ذلك فالأوجه أنها صريح مطلقاً لشهرتها وورود أصلها، ولا فرق بين نذرت لك ونذرت عليك بكذا والأولى لمن أراد أن ينذر لغيره بمال أن يقول لله عليّ أن أعطيك أو أتصدق عليك به أو بكذا أو نحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا أراد الشخص أن ينذر بمال على مسجد أو مشهد صالح كيف الصيغة وإذا أراد أن يقف قطعة من الأرض ليحصل من غلتها زاد ويصرف على المحتاجين في مسجد معين أو مشهد صالح معين، أو أراد أن يقفها ليشتري من غلتها شمع أو نحوه ليسرج فيهما أو في أحدهما كيف كيفية الصيغة؟. فأجاب بقوله: كيفية صيغة ما ذكر في السؤال أن يقول لله عليّ كذا لهذا المسجد أو لمصالحه أو لمصالح هذا المشهد أو المقيمين به أو نحوهم أو أن يقول وقفت هذا على المحتاجين بمحل كذا ليشتري من غلته زاد ويصرف إليهم أو وقفت هذا على أن يشتري من غلته شمع أو نحوه ليسرج في محل كذا، ومر أن صحة الوقف على إسراج نحو الشمع مقيدة بما إذا كان هناك من ينتفع بالوقود ولم يقصد التقرب إلى من في القبر ولا التنوير عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن حكم النذر للكافر؟. فأجاب بقوله: يجوز النذر للكافر لأن الصدقة عليه قربة كما يجوز للغني لذلك.(6/247)
وسئل عن الشخص إذا نذر لولده شيئاً فهل له الرجوع فيه أم لا؟ أفتى الفقيه جمال الدين الوصي المشهور بالبصال وغيره بأنه ليس له الرجوع، وأفتى بعضهم بأن له الرجوع. قال الأزرق في شرح التنبيه: والأول أقوم. ففي الروضة الصدقة المذكورة كالزكاة والدين على المشهور وكما لا يرجع فيما دفعه إليه من لحم الأضحية فما الأرجح من ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: إن مأخذ من أفتى بالرجوع إلحاق النذر في الحكم بالصدقة مسلوكاً به مسلك جائز الشرع، وقد قال في الهبة من أصل الروضة: أنه لو تصدق على ولده فله الرجوع على الأصح المنصوص، لأن الصدقة نوع من الهبة، وقد أطلق في الحديث الرجوع في الهبة لكن صحح الرافعي في الشرح الصغير منع الرجوع، قال: لأن قصد المتصدق الثواب في الآخرة وهو موجود به فعلى ما في الشرح الصغير لا وجه للإفتاء بالرجوع في مسألة النذر، وأما على ما في الكبير والروضة وهو الأرجح فله وجه لكن أوجه منه مفارقة النذر للصدقة من حيث الوجوب بالنذر فالراجح منع الرجوع فيه حيث وجدت صيغة نذر صحيحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/248)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص نذر لآخر بربع ماله مثلاً معلقاً بشيء كقبل مرض موته بيوم إن مات بمرض وساعة إن مات فجأة ثم توفي فهل يتناول النذر المعلق المذكور ما حدث من مال الناذر ولو بعد النذر وقبل وجود الصفة أو لا يتناول إلا ما كان موجوداً حال تلفظه بالنذر وهل هو كالوصية في ذلك أو لا؟ وهل لصاحب النذر المعلق بصفة التصرف في شيء عينه للنذر بالبيع وغيره قبل وجود الصفة أم لا؟ وما المعتمد المفتى به في ذلك فقد اضطرب في ذلك فتاوى المتأخرين. فأجاب بقوله: كلامهم أن ما حدث بعد النذر وقبل وجود الصفة لا يتناوله النذر. ففي الجواهر وغيرها أن من نذر بنخلة إن شفى الله تعالى مريضه مثلاً لم تدخل ثمرتها الحادثة قبل وجود الشرط وهو الشفاء في صورتنا بخلاف الحادثة بعد الشرط فإنها تتبع الأصل. قال بعضهم: وقضية كلام الجواهر أن ثمرة النخل الموجودة قبل وجود الشرط لا تتبع الأصل تأبر أو لا وفيه نظر اهـ، ومادة نظره النظر إلى ما في البيع من التفصيل بين المؤبر وغيره ويجاب بأن البيع أقوى من النذر فاقتضى استتباع غير المؤبر بخلاف النذر فإنه قبل وجود شرطه ضعيف لاحتمال أن لا يوجد شرطه فيكون لغواً من أصله فلم يقتض الاستتباع قبل وجود الشرط مطلقاً وهذا فرق ظاهر لا غبار عليه وسيأتي قريباً ما يعلم منه فرق آخر وإذا علمت ذلك علمت منه ما ذكرته لأن الثمرة المتولدة من غير المال المنذور بعد النذر وقبل الشرط إذا لم تدخل فيه فأولى أن لا يدخل فيه ما حدث له من مال لم يكن حال النذر هو ولا أصله فإن قلت يمكن الفرق بأن ما حدث من المال يشمله قوله بربع مالي فليدخل فيه بخلاف الثمرة المذكورة فإنها لا تدخل في مسمى النخلة المنذورة، قلت نفي عدم دخولها مطلقاً ممنوع بل تدخل في مسماها في بعض الصور، ولذا قال بعتك هذه الشجرة دخلت ثمرتها غير المؤبرة، وقد علمت أنها لا تدخل هنا مطلقاً فعلمنا أنه ليس الملحظ في عدم دخولها شمول الاسم لها أو عدمه،(6/249)
وإنما الملحظ في ذلك إلحاقهم النذر بالطلاق والإعتاق في تقييده بالمملوك وإلغائه في غيره للخبر الصحيح: لا نذر إلا فيما تملك، فلهذه القاعدة لم يدخل في ماله المنذور بربعه ما حدث بعد النذر لأنه لو دخل لم يكن سبب دخوله إلا النذر والنذر غير صالح لأن يتناول غير المملوك عند صيغته فتعذر دخول ما حدث فيه سواء أكان تابعاً أو مستقلاً وكذا الثمرة الحادثة بعده وقبل الشرط غير مملوكة عنده فلم يشملها ولم تتبع أصلها في ذلك لما تقرر فاستوت الصورتان أعني نذره بربع ماله ونذره بهذه الشجرة في هذا المعنى الظاهر الذي قررته، وبه ظهرت أيضاً أولوية عدم دخول المال الحادث لأن الثمرة التبعية فيها للشجرة أقوى منها في المال الحادث بالنسبة إلى الموجود حال النذر بل عند التحقيق لا تبعية هنا لأن كلا من الحادث والموجود مستقل بنفسه غير متوقف وجوده على وجود غيره، ثم رأيت
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/250)
ابن الصلاح ذكر ما يؤيد الفرق الذي ذكرته فإنه سئل عن نذر التصدق بثلثي ما يحصل له من غلة أرض وقفها في سبيل الله هل يلزم الوفاء به، فأجاب بأنه لا يلزمه لأنه لم يكن حال النذر مالكاً لما يتحصل له من المغل قياساً على عدم صحة الطلاق والعتق فيما لا يملكه للخبر الصحيح، ثم ذكر أن في التتمة ما يتوهم منه خلاف هذا وأن الأظهر عنده التفصيل بين أن يعلق زوال ملكه عن المغل بحصوله أي يصير صدقة بذلك فهذا ونحوه لا يصح كما ذكر وبين أن يلتزم أن يتصدق به حينئذ فيصح اهـ. والفرق بين صورتيه هاتين أن الأولى فيها نذر التصدق بمعين قبل ملكه وهو باطل بخلاف الثانية، فإنه ليس فيها إلا التزام التصدق في الذمة وهو صحيح، ثم رأيته في الروضة ذكر ما يصرح بهذا الفرق حيث قال يشترط في نذر القرب المالية كالصدقة أن يلتزمها في الذمة أو يضيف إلى معين يملكه، فإن قلت فما الفرق بين النذر والوصية فإنها تتناول ما حدث وأيضاً فقد ألحق بها في صحته بالمجهول. ففي نفائس الأزرق النذر بالمجهول كالوصية به ذكره بعض الفقهاء وهو قويم، فقد أفتى الفقيه أحمد بن حسن الحلي بأنه يصح النذر بحمل البهيمة. وفي فتاوى ابن الصلاح : أنه لو نذر بثلثي غلة ستحصل له صح نذره أي بتفصيله السابق اهـ. وأفتى القاضي بما هو صريح في ذلك أيضاً حيث قال لو قال إن شفى الله تعالى مريضي فللّه عليّ أن أتصدق بخمس ما يحصل لي من المعشرات فشفى لزمه التصدق بذلك، ومما هو صريح فيه أيضاً قول الأصحاب لو نذر الهدية أو الصدقة لزمه ما يقع عليه الاسم وقول الأنوار لو نذر أن يتصدق بأحد الشيئين أو يعتق أحد العبدين فتلف أحدهما لزمه التصدق بالباقي أو إعتاقه، وفي الكفاية ما يخالف ذلك والأول أوجه كما ذكرته في شرح العباب وبينت فيه أن البغوي أفتى بذلك ويوافق ذلك أيضاً إفتاء البلقيني بصحة النذر بثمرة بستانه، قلت: الفرق بين النذر والوصية في تناولها ما حدث بخلافه ظاهر فإن الإلزام والالتزام فيه(6/251)
في الحال بخلافها فإن ذلك لا يكون إلا بعد الموت، ولهذا كانت عقداً جائزاً يجوز الرجوع فيها بخلاف النذر. وقال كثيرون بصحتها من السفيه وببطلانه منه فناسب كون الإلزام والالتزام فيه حالاً اعتبار وجود ما علق النذر به حال النذر وعدم تعديه إلى ما حدث بعده لانقضاء الالتزام فيه بانقضاء صيغة النذر، وأما الوصية فلما أنيط الالتزام فيها بالموت لم يعتبر المال الموجود عندها بل عندما نيطت به وهو الموت، ومن الفرق الواضح بينهما أيضاً أن الوصية تصح بالموجود والمعدوم والطاهر والنجس ولا كذلك النذر، فعلم أنهم توسعوا فيها ما لم يتوسعوا فيه، فإن قلت فما باله ألحق بها في صحته بالمجهول، قلت الجامع بينهما أن كلاً لا معاوضة فيه، وإنما هو محض تبرع فساواها من هذه الحيثية وصح بالمجهول لأن الجهل إنما يؤثر فيما فيه معاوضة ونحوها حذراً من الغرر المنهي عنه ولا يلزم من تساويهما في هذا الحكم لظهور الجامع بينهما فيه تساويهما في حكم آخر غيره سيما مع ظهور الفارق بينهما فيه فتأمل ذلك فإنه مهم وإن لم أر من صرح به، وأما المسألة الثانية فالكلام فيها ينبني على رفع الخلاف فيها بين الأصحاب وهي ما لو علق شفاء مريضه بعتق عبد معين له ثم علقه أيضاً بقدوم غائبه فالقاضي يقول كما فهمه عنه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/252)
الأذرعي في توسطه بعدم انعقاد النذر الثاني ويعتق عن الأول الذي هو الشفاء وإن سبقه القدوم لأنه بان بالشفاء أن العتق لا يكون إلا عنه لسبقه والعبادي يقول بانعقاد النذر الثاني كالأوّل ويعتق بالسابق منهما فإن وجدا معاً أقرع بينهما وثمرة الإقراع وإن اتحد الزمن في عتقه حينئذ بيان وقوعه عمن خرجت القرعة له من أحد النذرين وإن كنا لا نوجب للآخر شيئاً كما في السبق هذا ما نقله في الروضة عن فتاوى القاضي عن العبادي، وأقره وجزم به ابن المقري في روضه واعترض بأن الذي في فتاوى القاضي عن العبادي غير ذلك وهو أن النذر الثاني موقوف فبالشفاء قبل القدوم أو معه يتبين أن الثاني لم ينعقد والعبد مستحق العتق عن الأوّل وإن مات انعقد الثاني وعتق العبد عنه وهذا هو الذي ارتضاه البغوي وجرى عليه في فتاويه لكن خصه بما إذا قال إن شفي مريضي فللّه عليّ أن أعتق هذا، ثم قال إن قدم غائبي فللّه عليّ أن أعتقه وشبهه بما إذا أعتق عبداً، وقال: هذا عن كفارة قتل إن كان على كفارة قتل وإلا عن كفارة اليمين فعتقه عن اليمين موقوف فإن بان أنه كفر عن القتل وقع عن اليمين وإلا فعن القتل وقال فيما إذا أبدل فعليّ أن أعتق بقوله فعبدي هذا حر أو فعليّ عتقه أنهما حصلا ولا عتق للعبد عنه وإن وقعا معاً عتق ولظهور عدم الفرق فيما نحن فيه بين فعليّ أن أعتق وعليّ عتق وعبدي هذا حر وإن افترقا من حيث أن الصيغة الأولى أن يقول من إنشاء عتق بخلاف نحو فعبدي حر. قال القمولي ومن تبعه: الظاهر أن الصورة الأولى أن يقول إن شفى الله تعالى مريضي فعليّ أن أعتقه وإلا فإن قدم غائبي فعليّ أن أعتقه، ويدل له التشبيه الذي ذكره وحينئذ اتضح الوقف في الأولى لأن قوله وإلا الخ، ظاهر في ترتب ما بعد إلا على عدم الشفاء فإن لم يوجد الشفاء نفذ الثاني وإن لم يوجد لم ينفذ وهذا عين الوقف الذي سبق بخلافه مع إسقاط إلا فإنهما يكونان تعليقين مستقلين فكل واحد منهما وجد أولاً عمل عمله(6/253)
فاتضح كلام البغوي وتفرقته المذكورة وعليه فكأنه لما رأى شيخه القاضي أطلق إلغاء النذر الثاني و العبادي على ما في الروضة أطلق انعقاده وعلى ما في غيرها أطلق وقفه أراد أن يجمع بين الإطلاقين بحمل كل على حاله مما ذكر عنه باعتبار تأويل كلامه بما مر هذا ما في هذه المسألة للأصحاب ويتخرج عليها مسألتنا فعلى ما مر عن القاضي تكون التصرفات في النذر المعلق قبل وجود المعلق به باطلة، لأن القاضي إذا قال هنا ببطلان التعليق الثاني حتى لو وجد القدوم أوّلاً لم يقع العتق المعلق به، فأولى أن يقول ببطلان التصرف في المنذور ببيع أو نحوه، ووجه الأولوية أن الشارع متشوف إلى العتق ومع ذلك لم يقل به فيما إذا وجد القدوم أوّلاً لما تقرر من أن تعليقه باطل لوجوده بعد استحقاق المنذور العتق بالنذر الأول المعلق بالشفاء، ولو قلنا بصحة الثاني لزم في صورة تقدم القدوم إلغاء الأول كما أنا لو قلنا بصحة نحو البيع لزم إلغاء العتق مثلاً فإذا لم يسمح بما يوجب بطلان الأول وإن كان مثله في ترتب العتق عليه أيضاً بل قد يكون الترتب عليه ناجزاً وقطعياً في صورة تقدم القدوم فأولى أن لا يسمح بما يوجب بطلان المنذور لا إلى خلف بالكلية وهو البيع ونحوه وهذا كله بناء على كلام القاضي، وأما على كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/254)
العبادي الذي في الروضة فيصح التصرف في المنذور المعلق وإن أدى إلى بطلان النذر ما لم يلاحظ الفرق الآتي، وعلى كلام البغوي الذي وافق عليه العبادي على ما مر يكون التصرف موقوفاً، فإن وجد الشرط المعلق عليه بان بطلان ذلك التصرف وإلا فلا. فإن قلت فما الراجح من هذه الأوجه الثلاثة في مسألة الأصحاب حتى نعرف الراجح في صورة السؤال، قلت الراجح ما مر عن الروضة وإن اعترض بما سبق، فقد صرح في المجموع وغيره بما يؤيده من أنه لو قال إن قدم زيد فللّه عليّ أن أصوم تالي قدومه وإن قدم عمرو فعليّ صوم أول خميس بعد قدومه فقدما معاً يوم الأربعاء صار الخميس عن أول نذريه لسبق وجوبه وقضى يوماً للنذر الثاني لتعذر صومه وإذا علم أن الراجح هو ما في الروضة علم أن الراجح في صورة السؤال عند من لم يلحظ ما سنقرره من الفرق الواضح بينهما صحة التصرف وكان هذا هو مستند إفتاء الشيخ الفتى بصحة التصرف في صورة السؤال وتبعه تلميذه الكمال الرداد فقال حين سئل عما لو علق النذر على صفة ثم باع العين المنذور بها قبل وجود الصفة هل يصح البيع أن في شرحه على الإرشاد في الإيلاء الجزم بالصحة وأنه أفتى به مراراً وكذا شيخه التقي الفتى وأنه وجد في فتاوى القاضي و البغوي خلافه، ثم أطال الكلام لكن بما فيه أنظار شتى لا تخفى على المتأمل ولولا الإطالة لبينتها، وأفتى بذلك أيضاً جماعة آخرون وقاسوه على المعلق عتقه بصفة فإنه لا يجوز التصرف فيه بالبيع ونحوه، فإن قلت هل يمكن فرق بين صورة الأصحاب والمعلق عتقه بصفة وبين صورة السؤال حتى يتوجه كلام القائلين في صورة السؤال ببطلان التصرف ولا يتخرج على مسألة الأصحاب، قلت نعم وهو أن صورة الأصحاب إنما جرى فيها هذا الخلاف لأن التعليق الثاني لا يضاد الأول من كل وجه بل يوافقه من وجه وهو أنه عتق مثله فلم يفت على المعلق عتقه شيء بالتعليق الثاني فلذا صح ويخالفه من وجه وهو أن العتق قد يترتب على الأول دون الثاني كما(6/255)
أنه قد يترتب على الثاني دون الأول فلذا جرى فيها الخلاف السابق بسطه، وأما صورة السؤال فالبيع ونحوه يضاد النذر ويبطل ما استحقه المنذور من كل وجه فكان ينبغي بطلانه وإن قلنا بما مر عن الروضة في مسألة الأصحاب من صحة التعليق الثاني ويفرق بين ما نحن فيه وجواز التصرف في المعلق عتقه بصفة بأن صورة السؤال، أعني النذر المعلق بنحو الشفاء من شأنه أن فيه مقابلة وشوب معاوضة، لأن الناذر جعل العتق مثلاً في مقابلة الشفاء مثلاً فاقتضت تلك المقابلة العائد نفعها على الناذر المعلق غالباً تأكد ثبوت حق المنذور، فلذا امتنع التصرف فيه لأنه يشبه المكاتب لأن عتقه وإن كان في الحقيقة معلقاً على صفة إلا أن فيه معاوضة ومقابلة فكما امتنع التصرف في المكاتب نظراً لما فيه من المعاوضة والمقابلة فكذا يمتنع في المنذور المذكور نظراً لتلك الشائبة التي فيه بخلاف المعلق عتقه بصفة من غير نذر ولا كتابة، فإنه لم يثبت له ذلك التأكد لأن التعليق هنا محض تبرع أي من شأنه ذلك فناسب أن لا يضيق على المتبرع بسببه حتى يمنع من التصرف فيه وهذا فرق واضح كما أن الفرق السابق بين صورتنا وصورة الأصحاب واضح وبه اتضح أن للقائلين بامتناع التصرف في صورة السؤال وجهاً وجيهاً من حيث المعنى والقياس على المكاتب المذكورين وأن تخريج صورة السؤال على مسألة الأصحاب السابقة أو على مسألة المعلق عتقه بصفة لم يتم لما علمت من وضوح الفرقين المذكورين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/256)
وسئل رحمه الله تعالى عما في الإسعاد في باب الزكاة عند قوله، أي الإرشاد وما جعل نذراً أو أضحية مما يدل على أنه لو قال إن شفى الله مريضي فهذا المال صدقة لله زال ملكه بهذا القول وامتنع تصرفه فيما عينه للصدقة إذا حصل هذا الشفاء فهل يؤخذ من ذلك عدم جواز تصرف المشتري الناذر بعد إيقاع الإقالة إذا رد البائع مثل ثمنه أم لا؟ بينوا ذلك. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ما أفاده كلام الإسعاد من زوال ملك المنذور المعين بالشفاء فيمتنع تصرف الناذر فيه بعد الشفاء صحيح، فقد صرحوا بأنه لو قال عليَّ أن أتصدق بهذا المال أو بهذه الدراهم تعين ذلك للصدقة ولو لم يقل لله وزال ملكه عنها بمجرد قوله ذلك بخلاف ما لو نذر عتق عبد بعينه فإنه وإن تعين عتقه لكن لا يزول ملكه عنه إلا بعتقه، لأن الملك فيه لا ينتقل بل ينفك عن الملك بالكلية وفيما مر ينتقل إلى المساكين ولهذا لو أتلف وجب تحصيل بدله بخلاف العبد لأنه المستحق للعتق وقد تلف ومستحقو ما ذكر باقون ولو التزم بنذر أو غيره التصدق بدراهم في ذمته ثم عين عنها دراهم لم تتعين وألحق بها كل ما لا يصلح للأضحية والعتق وذلك لأن تعيين كل من نحو الدراهم عما في الذمة ضعيف فلم يؤثر في زوال الملك بخلاف ما لو التزم أضحية أو عتقاً ثم عين عن ذلك شاة أو عبداً فإنه يتعين كما لو عين ذلك ابتداء هذا ما يتعلق بما في الإسعاد، وأما ما أراد السائل نفع الله تعالى به أن يأخذ منه بقوله فهل يؤخذ من ذلك الخ، فلم يظهر من عبارته ما الذي أراده بذلك فليبين مراده حتى يعرف فيبين حكمه فإذا أراد أن المشتري نذر التصدق بعين المبيع إن شفى مريضه فشفي ثم أراد التقايل فيه هو والبائع فهل يجوز ذلك، قلنا نعم تجوز الإقالة حينئذ وإن كان المبيع قد زال ملكه عنه بالشفاء كما لو أتلف المبيع أو تلف فإنها تجوز بعد تلفه ويلزم البائع رد عين الثمن إن بقي وإلا فرد بدله ويلزم المشتري رد بدل المبيع ولا تقاس(6/257)
الإقالة على امتناع التصرف فيه بعد الشفاء لأنها ليست تصرفاً فيه بل في بدله كما علمت من أنها إذا وقعت بعد الشفاء تصح وفائدتها رجوع البائع عليه ببدله من مثل أو قيمة، وإن أراد أن المشتري الناذر ما مر أراد أن يتصرف فيه قبل الشفاء فهل يجوز له ذلك قلنا هذا السؤال لا يتقيد بالمشتري وإنما يجري في أصل المسألة فيقال من نذر التصدق بعين مال إن شفى الله تعالى مريضه هل له أن يتصرف فيه قبل الشفاء لأنه إلى الآن لم يزل ملكه أو ليس له التصرف فيه لتعلق حق النذر بعينه والذي صرحوا به هو الثاني حيث قالوا إن تعلق النذر بعينه يمنعه من التصرف فيه وإن أراد غير ذلك فليبينه وعبارته على غلاقتها التامة لا يمكن أن يتخيل منها غير ما ذكرته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/258)
وسئل رحمه الله تعالى عمن نذر متى استحق مبيعك أو ادعى عليك أو ما أشبه ذلك فلك عليّ كذا فهل يصح النذر أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله المنقول المعتمد: أنه لا يصح ذلك كما ذكرته بما فيه في شرح الإرشاد وعبارته أفتى الغزالي بأن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقاً فعلي أن أهبك ألفاً لغو ما لم يحكم بصحته حاكم يراه بمذهب معتبر، وأقره الشيخان لأن الهبة وإن كانت قربة إلا أنها على هذا الوجه كالمباحة ونظر فيه بما لو قال إن فعلت كذا فللّه علي أن أصلي ركعتين وقد يجاب بأن الالتزام في هذه يصدق بوجه صحيح وهو إن وفقني الله سبحانه وتعالى لفعله كما يعلم مما يأتي في نذر اللجاج. وفي مسألتنا لا يحتمل كذلك لأنه علق بخروج المبيع مستحقاً وهو لا يتصور فيه ذلك ونحوه مما يأتي ثم فتفصيل بعضهم بين أن يكون الموهوب له ممن يقصد التقرب بالهبة له كالعالم والصالح فيلزم وبين غيره فلا يرد بما تقرر انتهت عبارة الشرح المذكور، ثم قلت فيه بعد ذلك واعلم أن الأذرعي قال إن كلامهم ناطق بأن النذر المعلق بالقدوم نذر شكر على نعمة القدوم فلو كان قدوم فلان لغرض فاسد للناذر كأجنبية أو أمرد فالظاهر أنه لا ينعقد كنذر المعصية ورده شيخنا، أي زكريا رحمه الله تعالى بأنه سهو منشؤه اشتباه الملتزم بالمعلق به والذي يشترط كونه قربة الملتزم لا المعلق به والملتزم هنا الصوم وهو قربة فيصح نذره سواء أكان المعلق به قربة أم لا اهـ وفيه نظر، بل هو السهو كيف وكلامهم مصرح بما ذكره الأذرعي فقد نقلوا عن الروياني وأقروه أنه لو قال إن هلك مال فلان أعتقت عبدي لم ينعقد لأنه حرام وكما أن طلب هلاك مال الغير حرام كذلك طلب قدوم من مر، فالمسألتان على حد سواء وقد ضبط الصيمري ما يكون النذر في مقابلته بأنه ما يجوز الدعاء به. وفي كلام ابن الرفعة ما يصرح بأن كون المعلق عليه في النذر أمراً مباحاً متفق عليه، وإنما الخلاف في أنه هل يكفي مطلق المباح(6/259)
أو يختص بمباح يقصد ويندر حصوله فالحاصل أنه يشترط في المعلق عليه أن لا يكون قربة فهما يفترقان من هذه الحيثية ويتحدان من حيثية انتفاء المعصية عن كل منهما والذي ذكره الأذرعي إنما هو اشتراط انتفاء المعصية من المعلق عليه لا اشتراط كونه قربة فالقضاء عليه حينئذ بالسهو هو السهو لما تقرر فاستفده انتهت عبارة الشرح المذكور واعتمدت أيضاً في شرح العباب كلام الغزالي فإني لما نقلته عنه فيه، وقلت وجه جعل الغزالي هذا من المباح مع أن الهبة قربة كما صرح به كثيرون أنها وإن كانت قربة إلا أنها على هذا الوجه الخاص أعني تعليقها وجعلها في مقابلة ما ذكره ليست قربة ولا محرمة فكانت مباحة والملتزم بالنذر لا يكون إلا قربة كما مر، وأما توجيهه أيضاً بأن مراده ما إذا كان الموهوب له ممن لا يقصد بالهبة له التقرب إلى الله تعالى كهبة الفقير للغني أو بأن هذا فيه تعليق للنذر بغير مقصود وشرط النذر المعلق أن يكون مقصوداً على ما في الحاوي الصغير ففيه نظر، أما الأول فلما قررته قبله وأما الثاني فلأن إطلاق اشتراط كونه مقصوداً غير صحيح كما يعلم مما مر ويأتي انتهت عبارة شرح العباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/260)
وسئلت عمن نذر على آخر بثواب طاعاته ما حكمه؟. فأجبت بقولي الذي دل عليه كلامهم بطلان النذر بثواب طاعاته، لأن شرط المنذور كونه قربة غير واجبة وهذا ليس كذلك بل لا يسمى نذراً بالكلية فإن النذر لغة الوعد بخير أو شر أو التزام ما ليس بلازم أو نحو ذلك، وأما شرعاً فهو التزام قربة غير واجبة ونذر الثواب لا التزام فيه ولا وعد، فإن الإنسان إنما يعد أو يلتزم بماله أو يقدر عليه وأما ما ليس له ولا يقدر عليه فلا يتصور الوعد به ولا التزامه على أن الثواب غير محقق الحصول لأنه مشروط بشروط. منها: الموت على الإسلام وأنى لإنسان أن يتحقق ذلك من غير أن يخبره به معصوم بل سبيله الخشية ومزيد الخوف من سوء الخاتمة والعياذ بالله سبحانه وتعالى وهذا هو الذي آل بكثير من السلف إلى ما أثر عنهم من استيلاء سلطان الخوف عليهم حتى أذاب قواهم وطهر سرهم ونجواهم. ومنها: موافقة ظاهر الأمر لباطنه فقد يظن الإنسان صحة عباداته لظنه استيفاء شروطها مع أن بعضها قد يكون مفقوداً في نفس الصلاة كخبث أو تحوّل عن عين الكعبة لا يعلمه ومن صلى صلاة فاسدة في نفس الأمر صحيحة في ظنه لا يثاب عليها من حيث كونها صلاة وإن أثيب على ما فيها من نحو ذكر وقرآن وعلى كل تقدير فالثواب ليس قابلاً للنذر به بوجه فكان الوجه عدم صحة نذره، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/261)
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة نذرت لزوجها بجميع ما تملكه وهي مريضة ثم توفيت ولم يعلم هل توفيت بذلك المرض أو به مع غيره أو بمرض آخر ما حكم نذرها؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله النذر للزوج بذلك وصية لوارث فيتوقف على إجازة بقية الورثة بناء على أن النذر في مرض الموت للأجنبي يحسب من الثلث وهو ما نقله ابن الرفعة عن الفوراني واعتمده البلقيني في فتاويه فقال: العمل على أنه يحسب من الثلث لأنا لو قلنا يحسب من رأس المال لكان للمريض مرض الموت أن ينذر الصدقة بماله كله فيضيع على الوارث حقه بطريق لا يقدر الوارث على نقضه فالمعتمد الحساب من الثلث وفي كلام غير الفوراني ما يقتضيه. وفي البحر للروياني إشارة إلى ما ذكره الفوراني فقال بعد أن حكى القولين في الحجة المنذورة أهي من رأس المال أم من الثلث أن بعض الأصحاب بخراسان قال إن محل القولين فيما إذا صدر النذر في الصحة، أما إذا صدر النذر في مرض الموت فإنه يكون من الثلث قولاً واحداً، وما ذكره الروياني عن بعض الأصحاب بخراسان يشير به للفوراني، وقد صرح الإمام في النهاية بما قررناه فقال: والنذر الذي يصدر من المريض في مرضه المخوف من الثلث لا خلاف فيه وكذا الكفارات التي تجري أسبابها في المرض وما ذكره الإمام في الكفارة فيه وقفة، وقد يرجح أنه من رأس المال بأن مثل ذلك لا يقصد به حرمان الوارث بخلاف النذر، ومما يدل على أن النذر في مرض الموت يحسب من الثلث في حق الأجنبي أنه لو نذر أن يتصدق على بعض ورثته بشيء وكان النذر في مرض الموت أنه لا اعتراض لبقية الورثة عليه، وهذا لا سبيل إليه بل لبقية الورثة رده وإن خرج من الثلث لئلا يلزم أن يزيد بعض الورثة على بعض وهو ممنوع منه اهـ. وأفتى أيضاً فيما لو نذر من به مرض مخوف أو نحوه بصدقة بأن ذلك يحسب من الثلث وأطال في بيانه وذكر ما مر عن الإمام وتعقب قوله السابق في الكفارات بأنه بعيد، قال: والقياس أنها من رأس المال اهـ،(6/262)
وبما تقرر يعلم أن المنقول المعتمد بل المتفق عليه كما مر عن الإمام أن النذر في المرض يحسب من الثلث إن كان للأجنبي ويتوقف على إجازة بقية الورثة إن كان لوارث وحيث اتصل الموت بالمرض الواقع فيه النذر أضيف الموت إلى ذلك المرض وكان النذر أو التبرع الواقع فيه محسوباً من الثلث ولا عبرة باحتمال حدوث مرض آخر مخوف لأن الأصل عدم ذلك فلا يراعى ولا ينظر إليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/263)
وسئل رحمه الله تعالى عمن نوى أو نذر أن يعمر مسجداً معيناً أو يبني مسجداً في موضع معين فلم يتيسر له ذلك فهل له أن يعمر بذلك مسجداً آخر في موضع آخر أو لا؟ وهل يفرق في ذلك بين الموضع الذي يجتمع الناس فيه غالباً أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: النية في ذلك لا يجب بها شيء فله البناء في الموضع المعين وغيره مطلقاً، وأما نذر بناء مسجد في محل معين يحل البناء فيه فصحيح سواء اجتمع الناس ثم غالباً أم نادراً، وخرج بيحل بناؤه في مقبرة مسبلة فإنه حرام فلا ينعقد نذره وهل يلحق به بناؤه في المحل المكروه كبنائه على قبر لم يندرس في أرض مملوكة واتخاذه في المحال التي تكره الصلاة فيها ومنها الأراضي الملعونة أو التي نزل بها عذاب هذا إن بقي المعنى الذي كرهت الصلاة لأجله كالمقبرة المملوكة بخلاف اتخاذ حمام مسجداً فإن الوجه زوال الكراهة لزوال علتها كما بينته في شرح العباب رداً على ابن العماد أو لا يلحق بذلك، بل لا يصح نذر بنائه ولو في المحل المكروه للنظر في ذلك مجال وكلامهم في باب النذر صريح في صحة نذر المكروه لكن لا لذاته بل لغيره كصوم يوم الجمعة وما هنا الظاهر أنه لذاته، لأن الكراهة إنما جاءت من حيث كونه مسجداً، وحينئذ فالظاهر أنه لا يصح نذر بناء المسجد في المحل المكروه المذكور ثم إذا صح نذر بنائه في محل معين، فالقياس أنه لا يجوز له إبداله بغيره مطلقاً لاختلاف الأغراض باختلاف المحال فقد يكون المحل المعين للبناء أحل أو أبعد عن المؤذيات بمن به أو نحو ذلك، وبهذا يفرق بين ما ذكرته من التعيين هنا وعدمه في مسائل كالاعتكاف والصلاة في غير المساجد الثلاثة، ومما يؤيد ما ذكرته أيضاً قولهم لو نذر التصدق بدرهم فضة لم يجز له التصدق بدله بدينار أي لاختلاف الأغراض باختلاف الأعيان.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/264)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص نذر على نفسه نذراً وكتبه بخطه فقال أشهد على نفسه مسطر هذه الأحرف فلان أني نذرت على نفسي نذر قربة وتبرر أن أنفق على عيال ابن عمي فلان مدة حياته الموجودين والمتجددين في كل يوم ثلاث قطع فضة سليمانية وهذا خطي شاهد عليّ وكفى بالله شهيداً، وأشهد على نفسه بمضمون ذلك جماعة عدولا فهل يلزم هذا النذر أو لا؟ وإذا قلتم يلزم ولم ينفق هل يصير ديناً عليه أو لا؟ وإذا قلتم يصير فمن الذي يطالبه به أهو ذو العيال أم العيال أنفسهم وإذا ادعى الإنفاق وأنكر ذو العيال فمن المصدق؟ أفتونا مأجورين. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قد كثر اختلاف المتأخرين في نذرت هل هو صريح أو كناية أو إقرار فقال بكل جمع وانتصروا له والمعتمد كما بينته في شرح العباب وغيره أنه صريح مطلقاً واشتراط ذكر الله في الصراحة بعيد وحينئذ فالنذر المذكور صحيح لازم وإذا مضت عليه أيام ولم ينفق فيها صارت حصة الماضي ديناً عليه وإن أعسر أخذاً مما لو نذر التصدق على فلان كل يوم بدرهم وأعسر فإنه يستقر في ذمته حصة ما أعسر عنه على المنقول خلافاً لما وقع في جامع المختصرات في الصوم والمطالب هو المنذور له إن كان كاملاً وإلا فوليه والمصدق في عدم الإنفاق هو المنذور له أو وليه، فعلى الناذر البينة لأنه أدى المنذور به إلى المنذور له إن كان كاملاً وإلا فإلى وليه، وقوله والمتجددين اختلف فيه المتأخرون فقال بعضهم إنه مبطل للنذر تنزيلاً له منزلة الهبة، وفرق بينه وبين الوقف بأن العين الموقوفة موجودة وإنما للموقوف عليهم المنفعة فيمكن أن يصل من سيوجد إلى المنفعة بخلاف النذر فإنه إذا صح على الموجودين نفذ تصرفهم في العين المنذور بها بما يزيل الملك فإذا تصرفوا فيها بذلك لم يدرك من سيوجد شيئاً من ذلك. وقال بعضهم يصح النذر على الموجودين بالقسط خاصة لا على غيرهم فعلى هذا إن حدث لابن عمه عيال صح على الموجودين بالقسط وإن لم(6/265)
يحدث له عيال وأيس من حدوثهم صح النذر على الموجودين بالنصف وبطل في النصف إذ هو بمنزلة إذا أوصى لأولاده الموجودين والمعدومين الذين يمكن وجودهم فإن مقتضى القواعد الفقهية الصحة في النصف وكأن الموجود شيء والمعدوم شيء ولا ينافيه قول أهل السنة المعدوم الممكن وجوده خارجاً ليس بشيء ولا ثابت ولا موجود لأن ذاك اصطلاح لهم فروا به من ضلالة وقع فيها غيرهم وإلا فمقتضى اللغة إطلاق الشيء على المعدوم على أن ما نحن فيه، قد صرح فيه بالمعدوم الممكن وجوده فليس هو من مبحث الأصوليين المختلفين فيما ذكر، وفي هذه إمكان حدوث عيال بوقف المنذور وقف تبين ثم يترتب الحكم على ما ذكرناه ولا يشكل على ما مر قولهم لو أوصى لحملها فأتت بحي وميت فالكل للحي والميت كالمعدوم لأنه هنا لم ينص على المعدوم وفيما نحن فيه نص عليه صريحاً، وأطلق بعضهم صحة النذر للموجودين في النصف كالوصية بجامع أنها تمليك ولا يصح تمليك المعدوم وأفتى بعضهم بصحة النذر وإعطاء الموجودين الكل ويشاركهم من حدث كما لو قسمت التركة بين الورثة ثم حدث وارث هذا حاصل ما للناس في هذه المسألة وقد يرجح الأخير لا لما نظر به قائله لوضوح الفرق بين ما هنا والإرث، فإن الوارث لا بد أن يكون موجوداً عند الموت وهو لا يقول بنظير ذلك في مسألتنا وإنما الذي يوجه به ذلك القياس على الوقف والفرق السابق لا يجدي عند تأمله وقولهم تمليك المعدوم لا يصح يحمل على تمليكه استقلالاً أما تبعاً فإنه يصح، وقد يرجح والذي قبله قياساً على الوصية كما ذكره قائل ذلك وعليه فيفرق بين ما هنا والوقف بأن القصد من الوقف الدوام على البطون والطبقات المتجددة بعد أن لم تكن فلم يضر ذكر المعدوم فيه تبعاً لأنه تصريح يقتضيه بخلاف الوصية والنذر فإنه ليس القصد منهما إلا تمليك عين الموصى به والمنذور لموجود فإذا أضاف إليه معدوماً صار كأنه جمع بين ما يصح أحد ذينك عليه وما لا يصح وحينئذ فيصح في النصف على الرأي(6/266)
الثالث أو بالقسط تارة وفي النصف أخرى على الرأي الثاني والقول ببطلان النذر من أصله بعيد جداً فالحاصل أن الأقرب القياس على الوصية لا الوقف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل رحمه الله تعالى عمن نذر لولده فهل له أن يرجع كالهبة؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: أفتى بعضهم بأنه ليس له الرجوع بخلاف الهبة ولم يفرق بينهما بشيء وفي إطلاقه نظر، ولو قيل إنه في نذر التبرر يرجع لأنه كالهبة بخلاف نذر المجازاة لا يرجع لأنه كالمعاوضة لم يبعد.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يصح النذر مع التأقيت وبما لا يقدر على تسليمه وبالنجس؟. فأجاب بقوله: إن وقع التأقيت في النذر للمنفعة فظهر أنه يصح كالوصية بها بتفصيلها أو للعين فإن كان بمدة حياة المنذور له كنذرت لك بهذا عمرك، فظاهر أنه يصح أيضاً قياساً على الهبة على صورة العمرى فيملكها المنذور له وورثته من بعده ولا تعود للناذر مطلقاً أو لا بمدة حياة المنذور له فالأوجه كما أفتى به بعضهم أنه لا يصح لأنه ليس لنا عين تملك بصيغة مدة ثم ترجع إلى المملك بعد انقضاء تلك المدة من غير رجوعه لا بالوصية وغيرها وإذا امتنعت الوصية بها كذلك مع أنها أوسع من النذر فالنذر أولى وأيضاً فالتوقيت بغير عمر المتبرع عليه لم يعهد في الأعيان بل في المنافع ويصح بمغصوب ونجس يقتنى كالوصية.(6/267)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه اتفقا عى بيع شيء ثم قال المشتري إن لم أوفك الثمن فعليّ مائة دينار نذراً ثم أبى الشراء فهل تلزمه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لا تلزمه المائة إذ يحتمل أن يقال إن النذر لم ينعقد لأنه نذر إن لم يوف الثمن وبامتناعه عن الشراء لم يوجد الثمن بل صار غير ممكن الوجود وبه فارق قوله في نذر اللجاج أن كلمته فعليّ كذا لأنه ممكن الوجود ويحتمل أن يقال إنه منعقد لأن الشراء ممكن ولو بعد الامتناع وعليه فهو نذر لجاج فيتخير بين ما التزمه والكفارة.
وسئل رحمه الله تعالى عمن نذر لمقرضه بكذا إن اعتاض عما في ذمته فهل ينعقد أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نعم ينعقد لكنه يحتمل اللجاج والتبرر كما صرحوا به في نظيره فإن كان الاعتياض مرغوباً له لما فيه من الرفق فنذر تبرر وإلا فلجاج.
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه نذر لاثنين من غلة أرضه كل سنة بكذا فمات أحدهما فهل ينتقل نصيب الميت لوارثه أم لصاحبه؟. فأجاب بقوله: ينتقل لوارثه لما يأتي في الجواب عن مسألة ما إذا قال لآخر في حال صحته نذرت لك الخ، ويفرق بين هذا والوقف على اثنين ثم على ثالث بأن الوقف لا يقتضي الانتقال للوارث بخلاف النذر وأيضاً فثم شرط في الانتقال لمن بعدهما موتهما فانتقلت حصة الميت لصاحبه الموجود عملاً بشرط الواقف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/268)
وسئل هل يملك المنذور بمجرد اللفظ قهراً فلا يرتد بالرد وهل للمنذور له التصرف فيه قبل القبض وهل يصح بالمعدوم كما ستحمله هذه الدابة وبالمرهون وإذا نذر بدين لغير من هو عليه من يطالب الناذر أو المنذور له وهل يبرأ الناذر بمجرد قبض المنذور له؟. فأجاب بقوله: إن كان نذر تبرر ملكه بمجرد اللفظ أو نذر مجازاة لم يملكه إلا بعد وجود الشرط ولا يملك قهراً كما يصرح به قول الروضة لو نذر لغيره ولم يقبل بطل، ومراده بلم يقبل أنه رد لا أنه سكت، لأن الشرط عدم الرد لا خصوص القبول للمسامحة في النذر كالوصية، ومن ثم صح بالمجهول وبغير ما يملكه إن علقه بملكه كأن ملكت هذا فعليّ عتق بخلاف عليّ عتق هذا وهو ملك غيره فإنه لغو ومثله الوصية في ذلك كما ذكره الرافعي في الكتابة وعليه يحمل قول الروضة في الوصايا تصح الوصية بملك غيره أي بأن يقول إن ملكت هذا فقد أوصيت به لفلان وله التصرف قبل القبض فيما قبله أي لم يرده كما مر سواء في ذلك الأعيان والديون إذ هبة الدين وبيعه لغير من هو عليه جائزان على المعتمد في الروضة بشروطه المقررة في محله فكذا نذره بل أولى لأن النذر يتسامح به في البيع وغيره ويصح النذر بالمعدوم كالوصية كما قاله كثير من معاصري مشايخنا وغيرهم وهو أوجه من قول آخرين لا يصح، فقد قال بعض الأولين أنه وجد الصحة مصرحاً به في كلام بعض المتقدمين ويصح أيضاً بالمرهون لكن إن علقه بالفكاك كما هو ظاهر لتعلق حق الغير به، نعم إن كان المنذور العتق تأتي فيه تفصيل عتق المرهون ومتى حكمنا بملك المنذور له كان هو المطالب به سواء الدين والعين، وقول بعضهم لا يتولى قبض الدين إلا الناذر مطلقاً بعيد.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/269)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه ما حاصل أحكام النذر لقبور الأولياء وللمساجد وللنبي بعد وفاته، وما حاصل ما يجب في قسمة ذلك النذر هل هو على سكان مشهد المنذور له مع التسوية بينهم ومن سبق منهم وأخذ النذر يفوز به أو يشاركه فيه الباقون؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: النذر للولي إنما يقصد به غالباً التصدق عنه لخدام قبره وأقاربه وفقرائه فإن قصد الناذر شيئاً من ذلك أو أطلق صح وإن قصد التقرب لذات الميت كما يفعله أكثر الجهلة لم يصح وعلى هذا الأخير يحمل إطلاق أبي الحسن الأزرق عدم صحة النذر للميت. وفي العزيز في النذر لقبر جرجان ما هو صريح فيما ذكر وحذفه في الروضة لإيهامه صحة النذر للقبر مطلقاً لكن مراد الرافعي كما في الخادم أن العرف اقتضى أن يتصدق به على فقراء جيران مشهده أو خدمته والنذر للمسجد صحيح لأنه حر يملك وحينئذ يصرف لمصالحه كالوقف عليه فلا يعطي خدمته منه شيئاً إلا أن صرح الناذر بأنه قصدهم وحيث صح النذر للقبر عمل في قسمة المنذور على الفقراء والخدام والأقارب وغيرهم بالعادة المطردة في ذلك وقت النذر إن علمها الناذر أخذاً من كلامهم في باب الوقف من أنه يعمل فيه بالعادة بهذه الشروط ومن ثم قالوا في العادة الموجود فيها هذه الشروط أنها بمنزلة شرط الواقف فكذا نقول هنا العادة المذكورة بمنزلة شرط الناذر فيعمل بجميع ما حكمت به فلو اعتيد أن من خرج وسبق إلى الناذر وأخذ منه فاز به عمل بذلك على ما أفتى به بعضهم. قال السيد السمهودي رحمه الله تبارك وتعالى بعد ذكره نحو ما قدمته وكذا القول فيمن نذر به للنبي فإن قصد الناذر خدامه أو جيرانه عمل به وإن لم يعلم قصده واطرد العرف بشيء من ذلك حمل النذر عليه اهـ، ولم يقيد هو ولا غيره ذلك بما قدمته أن شرط العمل بالعادة أن يعرفها الناذر حين النذر ولا بد من ذلك لما علمته من كلامهم في الوقف فإن علم من حال الناذر أنه لا يعرف تلك العادة المطردة في(6/270)
وقت أو شك في ذلك فالذي يظهر في حالة الشك حمله على العادة، لأن الظاهر أن الناذر أحاط بها، وأما في حالة العلم بعدم معرفته بها فيتردد النظر فيه ولا يبعد أن يقال ينظر لعرف أهل بلد الناذر في نذرهم للقبور فإن لم يعرف بلده أو لم يكن لهم عرف في ذلك اعتبرت العادة التي يقصدها أغلب الناس.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عمن قال لآخر في حال صحته نذرت لك بصاع مثلاً من أرضي كل سنة مدة حياتك ثم مات المنذور له فهل يبطل النذر أو يسلمه لورثته؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لا يبطل النذر بموته بل يسلمه لورثته كل سنة لأنه لما نذر له بذلك من أرضه وصح النذر صار ذلك حقاً للمنذور له متعلقاً بعين تلك الأرض فينتقل لورثته كما أفتى به البلقيني وبحث بعض متأخري اليمن أنه بعد الموت يعتبر المنذور به من الثلث فينفذ فيه إن خرج منه وإلا فبالحصة مردود بأنه خلاف ما أطلقه الأصحاب من أن الوصية إنما تعتبر من الثلث إذا علقها بالموت أو وقعت في المرض، وأما التصرف في الصحة فهو نافذ من رأس المال اهـ، وفي هذا الرد نظر بل الوصية معتبرة من الثلث وإن وقعت في الصحة لأن الاستحقاق فيها إنما يوجد بالموت فلا يقاس ما نحن فيه بها وإنما غاية ما لمحه ذلك الباحث أن الناذر علق بتلك الأرض استحقاقاً في صحته واستحقاقاً في مرضه وبعد موته فما في صحته أمره واضح وما في مرضه وبعد موته غايته أنه كالوصية في صحته، وقد صرحوا فيها بأنها تعتبر من الثلث فكذا فيما نحن فيه، ويحتمل الفرق بأن الوصية وقعت معلقة بالموت ابتداء وقصداً وفيما نحن فيه إنما وقع التعليق بما بعد الموت تبعاً وفي الأثناء يغتفر في التابع والواقع في الأثناء ما لا يغتفر في المقصود والواقع في الابتداء.(6/271)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يجوز النذر بدين السلم أو لا كالحوالة؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: مشى جمع متأخرون على الجواز لمن هو عليه وغير من هو عليه لأنه عقد تبرع وقربة ولا معاوضة بخلاف نحو بيعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى هل يصح النذر لأحد الرجلين أو لأحد هؤلاء الجماعة أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: لا يصح النذر لأحد الرجلين كالوصية بل أولى لأنه يغتفر فيها ما لا يغتفر فيه.
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه ما تقولون فيما قالوه من أنه لو نذر التصدق في زمن معين أنه لا يتعين لكن يخالفه ما نصوا عليه في الوقف من أنه لو خصص الصرف بزمن كالجمعة ورمضان مثلاً أنه يتبع تخصيصه فما الفرق بينه وبين النذر؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: الفرق بين النذر والوقف واضح وهو أن الغالب في النذر أنه يسلك به مسلك الواجب من جنسه وهو هنا الزكاة وهي يجوز تقديمها على وقتها لا تأخيرها عنه على ما فصلوه فيها، فألحق النذر بها في ذلك فهذا هو المراد من قولهم المحكي في السؤال، وأما الوقف فأحكامه مستقلة بنفسها فاتبع فيه تعيين الواقف، إذ لا موجب للخروج عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267
وسئل هل يصح النذر مؤقتاً؟. فأجاب بقوله: نعم يصح مؤقتاً في المنفعة كالوصية لا في العين لأنه لا يمكن توقيت الملك ثم عوده نعم إن قيده بمدة عمره صح لأنه لا توقيت فيه في الحقيقة.(6/272)
وسئل هل يجوز النذر للحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة والسلام وللأولياء والصلحاء مطلقاً أو على تفصيل وما مصرفه وما محصل كلام الرافعي في الوصية لقبر جرجان وهل الوقف على الحرمين يصرف لساكنهما أو لمصالحهما وتصح الوصية لعمارة دار بخلاف الوقف فما الفرق؟. فأجاب بقوله: عبارة الرافعي وفي التهذيب وغيره: لو نذر أن يتصدق بكذا على أهل بلد عينه وجب أن يتصدق به عليهم ومن هذا القبيل ما لو نذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان فإن ما يجتمع به على ما يحكي يقسم على جماعة معلومين اهـ. قال الإسنوى وغيره أسقط من الروضة الأولى والثانية مع الاحتياج للثانية وغرابتها اهـ، ومراده غرابتها من حيث النقل لا من حيث الحكم وإلا فقد اتفقت الأئمة كما قاله الإمام وغيره على أن العادة منزلة منزلة شرط الواقف ومثله الناذر في وقفه صريحاً والعادة هنا جارية بأن المجتمع يقسم على جماعة معلومين فصار النذر للقبر نذراً لأولئك الجماعة عملاً بالعادة، ومن ثم نقل القمولي كلام الرافعي وأقره ولا ينافي ذلك ما ذكره الأذرعي في نذر الشموع حيث قال: وأما النذر للمشاهد الذي بنيت على قبر ولي أو نحوه فإن قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا وإن قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو نسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد، فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لا تفهم، ويرون أن النذر لها مما يدفع البلاء قال: وحكم الوقف كالنذر فيما ذكرناه اهـ، ووجه عدم المنافاة أن من الواضح الفرق بين نذر ما يوقد ونذر غيره فما يوقد إن قصد به الإيقاد على القبر وحده أو مع التنوير أو تعظيم البقعة أو التقرب لمن فيها بطل لفساد هذا القصد بخلاف ما إذا قصد به مجرد التنوير وكان هناك من ينتفع بذلك النور فإن هذا قصد صحيح فيلزم، وأما نذر الدراهم فلا يتأتى فيه هذا التفصيل جميعه فإن أمكن أن يتأتى فيه أنه قصد بهذا النذر(6/273)
التقرب لمن في القبر بطل لأن القرب إنما يتقرب بها إلى الله تعالى لا إلى خلقه على أن محل هذا كله حيث لا عرف مطرد في زمن الناذر أو الواقف، أما حيث اطرد العرف بأن الشموع والأموال التي تأتي لهذا القبر تصرف في مصالحه أو مصالح المسجد أو لأهل البلد الذي هو فيه أو طائفة منهم ولم يقصد بالنذر التقرب لمن في القبر، فإن ذلك صحيح ولا يسع الأذرعي ولا غيره المخالفة في ذلك ويصرف لمن اعتيد صرفه له والأذرعي إنما قال فيما ذكره
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/274)
الرافعي في قبر جرجان هذا كلام مضلة لأنه فهم أن الرافعي يقول بالصحة وإن قصد التقرب للقبر وليس ذلك بل كلام الرافعي مصرح بأن الناذر لم يقصد ذلك، بل إما أن يكون أطلق فتكون العادة الجارية مخصصة لهذا الإطلاق ومفيدة له عملاً بقول الأئمة السابق، وإما أن يكون نوى الصرف إلى من اعتيد الصرف إليهم وعلى كل تقدير فالذي ينبغي في المسألة اعتماد التفصيل الذي ذكرته أخذاً من كلامهم من أن الناذر أو الواقف حيث علم بعادة اطردت في ذلك القبر الذي نذر له أو وقف عليه صح وعمل في المنذور والموقوف بما اطردت به العادة وحيث لا عادة فإن كان له مصالح يقصد الصرف فيها كعمارة مسجد هو فيه ونحو ذلك وجب الصرف لها وإن لم يكن له مصالح ولا عادة أو قصد التقرب بذلك إلى صاحب القبر، وإن كان نبياً لم يصح مطلقاً هذا إن كان المنذور أو الموقوف غير شمع أو زيت وإلا اشترط مع ذلك أن يكون أحد ينتفع بإيقاده هناك وإلا لم يصح أيضاً هذا ما ظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى وبما تقرر علم الجواب عن النذر للحجرة الشريفة وأنه يصرف لمصالحها ما لم يقصد صرفه إلى أناس معينين ويكون الناذر أو الواقف من أهل ذلك يقصد صرفه إلى أناس معينين ويكون الناذر أو الواقف من أهل ذلك العرف، وأما الجواب عن الثاني فقد صرحوا بأنه لو نذر الذبح بمصر مثلاً ولم يتعرض لتفرقة اللحم على أهلها بلفظ ولا نية لم ينعقد نذره خلافاً للمزني و أبي إسحاق فإن ذكر لفظ التصدق أو نواه أو لفظ الأضحية تعين الذبح بها وتفرقته على فقرائها وبأنه لو نذر أن يهدي مالاً معيناً للحرم كدراهم وغيرها لزمه ما سمى ويجب صرفه إلى مساكينها أو لغير الحرم، فإن صرح بصرفه في عمارة مسجد هناك أو قربة أخرى أو نوى صرفه فيه صرف لمساكينه المقيمين أو الواردين، وقد أفتى الولي العراقي فيمن وقف على الحرمين الشريفين، وأطلق هل يصرف لمصالحهما من الحصر والقناديل أو للفقراء المجاورين بها وملخص جوابه اختلف أصحابنا(6/275)
فيما لو وقف على مسجد من غير تعيين كبقية الصرف فيه، فقبل لا يصح فعليه الوقف المسؤول عنه باطل والمعتمد الصحة وعليه قال البغوي هو كما لو وقف على عمارة المسجد وحينئذ فلا حق في هذا الوقف للفقراء والمساكين المجاورين بالحرمين الشريفين، وإنما يصرف ذلك في عمارة الجدران والتجصيص الذي فيه أحكام ونحو ذلك إلى آخر ما ذكره ثم قال آخر كلامه وظهر مما ذكرناه أنه يصرف في الصورة المسؤول عنها إلى عمارة الحرمين الشريفين وإلى المكانس ونحوها وإلى الفراشين والأئمة والمؤذنين ولا يجوز لفقرائهما اهـ، وهذا كله مبني على أن المراد بالحرمين الشريفين المسجدان بأن علم من الواقف ذلك، أما لو أطلق وأراد بالحرمين الأعم من المسجدين فالذي يتجه من كلامهم أنه يتعين الصرف إلى مساكينهما المقيمين والواردين ثم رأيت عن نص
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/276)
الشافعي رضي الله عنه التصريح بذلك وهو ما صرح به في الخادم في باب النذر في نذر التصدق، وعبارته وقال صاحب الذخائر: إن عين قوماً تعينوا وإن لم يعين فلم أر للأصحاب فيه شيئاً، ويحتمل أن يقال يصرف إلى من تصرف إليه الزكاة سوى العاملين بناء على أن مطلق النذر يحمل على الواجب الشرعي أو على أقل ممكن هذا في غير الحرم، فإما أن نذر للحرم فنص الشافعي رضي الله عنه على تعيين مساكينه اهـ. فظهر أن ما بحثته منصوص عليه من صاحب المذهب فللّه أتم الحمد وأكمله على ذلك وغيره من نعمه المتواترة، وأما الجواب عن الثالث فالفرق بين الوصية والوقف أنها أوسع منه بدليل صحتها للحمل بشرطه بخلاف الوقف، ووجهه أن الوقف يستلزم الخروج عن الملك حالاً بخلاف الوصية، وبدليل صحتها للعبد سواء أطلق أو قصد تمليكه بخلاف الوقف فإنه إذا قصد تمليكه بطل ووجهه أن الاستحقاق هنا منتظر فقد يعلق قبل موت الموصي فيستحق أولاً فلمالكه بخلافه ثم فإنه ناجز وليس العبد أهلاً للملك وحينئذ فقد يفرق بين صحة الوصية على عمارة دار ريد دون الوقف فإنه لا يصح إذا كانت غير موقوفة بأن الوقف عليها إذا صح يكون وقفاً على مالكها فيكون الموقوف عليه غير مقصود وإنما المقصود غيره والوقف لا يقبل النقل بخلاف الوصية فإنها تقبل، ومما يؤيد ذلك أن الوصية لها هل يتعين صرفها فيها قياساً على علف الدابة أو يفرق بأن علف الدابة يقصد التقرب به لأنه ذاته قربة بخلاف عمارة الدار كل محتمل، فإن قلت فما الفرق بين العمارة وعلف الدابة إذا قصده، قلت الفرق ما مرت الإشارة إليه من أن العلف قربة ذاتية فصح قصده وإن كان هو الموقوف عليه بخلاف العمارة فإنها غير مقصودة وإنما المقصود غيره وذلك ممتنع.(6/277)
وسئل عن النذر للأولياء هل يصح ويجب تسليم المنذور إليهم إن كانوا أحياء أو لأي فقير أو مسكين كان وإذا كان الولي ميتاً فهل يصرف لمن في ذريته أو أقاربه أو لمن ينهج منهجه أو يجلس في حلقته أو لفقيره أو كيف الحال وما حكم النذر بتجصيص قبر أو حائطه فهل يصح أو لا؟. فأجاب بقوله: النذر للولي الحي صحيح ويجب صرفه إليه ولا يجوز صرف شيء منه لغيره، وأما النذر لولي ميت فإن قصد الناذر الميت بطل نذره وإن قصد قربة أخرى كأولاده وخلفائه أو إطعام الفقراء الذين عند قبره أو غير ذلك من القرب المتعلقة بذلك الولي صح النذر ووجب صرفه فيما قصد الناذر وإن لم يقصد شيئاً لم يصح إلا أن اطردت عادة الناس في زمن الناذر بأنهم ينذرون للميت ويريدون جهة مخصوصة مما ذكرناه وعلم الناذر بتلك العادة المطردة المستقرة فالظاهر تنزيل نذره عليه أخذاً مما ذكروه في الوقف من أن العادة المستقرة المرادة في زمن الواقف تنزل منزلة شرطه والنذر للتجصيص المذكور باطل، نعم يؤخذ من كلام الأذرعي و الزركشي وغيرهما أنه يصح ذلك في قبور الأنبياء والأولياء والعلماء وكذا لو كان القبر بمحل لا يؤمن على الميت الذي فيه من السبع أو سرقة الكفن أو إخراج نحو مبتدعة أو كفار له إلا بالتجصيص فحينئذ يجوز بل يندب ويصح نذره لما فيه من المصلحة كما تصح الوصية به.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/278)
وسئل عما إذا نذر مدين لدائنه كل يوم بكذا ما دام دينه في ذمته أو رهنه بدينه أرضا ونذر له بمنفعتها ما دام الدين باقياً بذمته هل يصح النذر ويلزم؟. فأجاب بقوله: أفتى جماعة من متأخري المصريين واليمنيين بالصحة وخالفهم آخرون، لأن النذر حينئذ شبيه بالمعاوضة أو فيه شائبة معاوضة، والنذر يصان عن المعاوضة إذ هو التزام قربة، وأجاب بعض الأوّلين بأنه لا دلالة على تلك المشابهة من لفظ الناذر بل من قصده النذر بذلك في مقابلة صبره عليه، وذلك شبيه بالقرائن والمواطأة في العقود ومذهب الشافعي رضي الله عنه عدم اعتبار تلك القرائن والمواطأة كما هو معلوم من كلامهم في البيوع والنكاح وغيرهما وإذا دار الأمر بين دلالة الألفاظ ودلالة القرائن غلبت الأولى، فإن قلت صرحوا بأن القصد يصير العقد مكروهاً في نحو حيل الربا ونكاح المحلل فقياسه إن قصد ذلك بالنذر يصير مكروهاً ونذر المكروه لا ينعقد، قلت إطلاق إن النذر المكروه لا ينعقد غير صحيح فقد صرحوا بنذر صوم الجمعة مع كراهته وأخذت منه في شرح العباب وغيره أن المكروه على قسمين مكروه لذاته ومكروه لعارض مع كونه قربه والأوّل هو الذي لا ينعقد نذره بخلاف الثاني ثم على الصحة. قال بعض الأوّلين في صورة الأرض أن النذر لا يبطل بموت الناذر بل يبقى لورثته ويحسب من الثلث وقد مر بسط نظير ذلك في جواب قبل هذا واعترض بعضهم عدم بطلانه بموته فإن تأخير قضاء الدين بعد موت المدين حرام مع الطلب ومكروه مع عدمه وكل من الحرام والمكروه لا يصح نذره، قال: فالذي يحرم به البطلان بموت الناذر وكان نذره اشتمل على قربة وغيرها فصح في القربة وبطل في غيرها قال وقد رأيت لبعض علماء اليمن ما هو صريح في ذلك اهـ وفيه نظر، لأن النذر وقع خالياً عن ذكر ذلك الحرام والمكروه وإنما كل منهما شيء طرأ بعد انعقاد النذر ولزومه فلا يبطل النذر فيه لأنه أمر تابع لا مقصود.(6/279)