وسئل: عمن عليه دراهم عجز عن تحصيلها وأراد أن يعوض دائنه فمن الخيرة إليه منهما. فأجاب: بقوله أتى بعضهم بأن الخيرة فيما يعتاض به إلى الدائن لا المدين قال ووقع في كتب المذهب ما يوهم خلاف ذلك وليس مراداً.
وسئل: عمن له زبير عليه شجرة فأظلت زرع غيره وأفسدته بظلها فهل يضمن وإن لم يؤمر بإزالتها. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بضمانه مطلقاً وقاسه على التالف بالميزاب وقال إذا وجد الضمان فيما لم يصل لملكه وهو الميزاب فأولى فيما انتشر ووصل إلى ملكه ولا فرق في الضمان بين المباشرة والسبب أ هـ .
وفيه نظر ظاهر ويفرق بينه وبين الميزاب بأن الميزاب تصرف واضعه في هواء الطريق بإخراجه إليه فاشترطنا لجواز تصرفه في ذلك الهواء سلامة العاقبة فحيث لا سلامة ضمن وأما غارس الشجرة فقد تصرف في محض ملكه وهوائه فلم يمكن أن يقال إن تصرفه مشروط بسلامة العاقبة فإذا جاوزت تلك الشجرة ملكه وخرجت إلى غيره لم يمكن أن يضمن به إلا إن طولب بإزالته فامتنع لتعديه حينئذٍ فهذا هو الفقه الذي يتعين اعتماده فاحفظه ولا تغتر بغيره.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/268)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه طلب صاحب الأعلى أن يتملك السقف الذي أحدثه الأسفل فهل له ذلك وهل له إحداث علو ثالث. فأجاب: بقوله إن امتنع من بناء سقف نفسه كما كان لم يتملك لتقصيره وإن أحدث الأسفل السقف قبل امتناع الأعلى المالك للسقف من الإِعادة فللأعلى هدمه كما ذكروه فيما لو بنى الأعلى قبل امتناع الأسفل فإنهم قالوا للأسفل هدمه ما لم يبن الأعلى وللأعلى حينئذٍ طلب تملك السقف بالقيمة كما ذكروا نظيره في تملك صاحب السفل بالقيمة حيث بنى الأعلى الأسفل والعلو الجامع بينهما أن كلاً منهما أحدثه بناء في ملك الآخر قبل امتناعه ولما ذكر بعضهم ذلك قال لا يقال إن السقف الذي أحدث صاحب السفل أحدثه في ملكه إذ الجدران له فلا ينبغي أن يمكن صاحب العلو من التملك والهدم بخلافه في تلك فإن صاحب العلو أحدث في ملك صاحب السفل فمن ثم قلنا له التملك والهدم فافترقا لأنا نقول هو موجود فيما يملك صاحب العلو الانتفاع به فكأن صاحب السفل أحدثه في ملك صاحب العلو فلذا قلنا له التملك والهدم ولا يجوز لصاحب العلو أن يبني منزلاً ثالثاً فوق علوه كما نقله السبكي عن الماوردي في الصلح وجزم به الأذرعي في قوته في القسمة.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن أراد نقل الطريق عن موضعها إلى قريب منه فهل يجوز مطلقاً أو لا. فأجاب: بقوله نعم يحرم نقل الطريق العامة عن محلها بل هو كبيرة كما بينته في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر للحديث الصحيح ملعون من غير منار الأرض وأما الخاصة كأن استأجر جمع محصورون المرور في أرض فلهم بتوافق المؤجر نقله إلى محل آخر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55
باب الحوالة(2/269)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيمن عليه دين الغائب فأراد أن يقيم بينة على أن المدين أبرأه وأني قضيت الديون من غير سبق خصومة ما المفتى به في ذلك من قول القفال وابن الصلاح أفتونا مأجورين. فأجاب: بقوله أما القفال فلم أرَ له حيلة في هذه الصورة وإنما الذي رأيته حيلة للقاضي حسين في فتاويه في نظير ذلك لكنها بنية على الضعيف أن غريم الغريم غريم وأحسن ما في ذلك ما قاله ابن الصلاح من أن طريق ذلك أن يدعي إنسان أن رب الدين أحاله به فيعترف المدعى عليه بالدين لربه وبالحوالة ويدعي أنه أبرأه منه أو أقبضه فتسمع الدعوى بذلك والبينة وإن كان رب الدين حاضراً بالبلد أ هـ .
وأقره القمولي وغيره كشيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله عهده لكن تعقبه الأذرعي فقال وهو صحيح في دفع المحتال وأما إثبات البراءة من دين المحيل فلا بدّ من إعلامه والأقرب أنه لا تكفي إقامة البينة في وجه المحتال بل لا بدّ من إعادتها في وجه المحيل والله أعلم.(2/270)
وسئل: عمن نذر عدم المطالبة لفلان بما له عليه من الدين فهل يلزمه وإذا قلتم نعم فهل تصح حوالته به أو عليه بدين حال أو مؤجل ويبطل بالحوالة النذر وللمحتال المطالبة به أو لا. فأجاب: بقوله المعتمد الذي صرحوا به اللزوم لكن هل يصير الدين بالنذر المذكور مؤجلاً أو حالاً امتنعت المطالبة به لمانع الأوجه كما رجحه جمع متأخرون الثاني فإن قلنا بالأول صحت الحوالة به وعليه إن كان الدين الآخر مؤجلاً لا حالاً وإن قلنا بالثاني انعكس الحكم وإذا قلنا بصحة الحوالة على الثاني فهل يمتنع على المحتال المطالبة حالاً كالمحيل أو لا لأن من التزم قربة لا يلزم سريانها في حق غيره والمحيل هو الملتزم عدم المطالبة بالنذر فاختص به كل محتمل لكن ما رجحه بعض المتأخرين من أن الناذر لو مات كان لوارثه المطالبة حالاً لأنه نذر و هم لم ينذروا يقتضي أن الأوجه هنا الثاني واعتمده بعضهم وعلى مقابله فللمحتال الخيار إن جهل الحال لأن امتناع المطالبة بمنزلة العيب في المبيع فإن قلت يلزم من هذا عدم صحة الحوالة حيث قلنا بهذا المقابل لأنه لا بدّ فيها من تساوي الدينين وأحدهما معيب قلت هو كذلك لكن قد يقال الدين في نفسه لا عيب فيه فالتساوي حاصل في ذات الدينين وتوابعهما اللازمة وامتناع المطالبة للأمر العارض وإن نزل منزلة العيب لا يقتضي إلحاقه به من كل وجه فإن قلت الحوالة باطلة حتى على الثاني من وجه آخر وهو عجز المحيل عن التصرف في الدين المحال به بسبب نذره والشرط قدرته على التصرف فيه قلنا الشرط في المعارضات قدرة الآخذ لا المعطى أخذاً مما ذكروه من أن الشرط في البيع قدرة المشتري على التسلم وإن عجز البائع عن التسليم خلافاً لما توهمه عبارة المنهاج فيصح بيع المغصوب القادر على انتزاعه وإن عجز عنه البائع وهذا جار في كل عوض كالأجرة وعوض البضع صداقاً وبدل خلع وعتق على عوض فتلخص من ذلك أنه لا يشترط إلا قدرة المحتال على تسلمه لا قدرة المحيل على(2/271)
تسليمه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 67
وسئل: هل تجري الإِقالة في الحوالة. فأجاب: بقوله جزم الرافعي أوائل التفليس بعدم جوازها ولم يطلع على ذلك البلقيني وهو عجيب فقال إنه كشف كتباً كثيرة فلم يرَ ذلك ثم قال والذي يظهر الجواز لأن الصحيح أنها بيع وأن الخوارزمي صرح بالخلاف في ذلك وبتصحيح الجواز وقيد ذلك بأن يكون ذلك بدون إذن المحال عليه ومقتضاه أنه إن كان بدون إذنه صح وجهاً واحداً أ هـ .
والمعتمد ما ذكره الرافعي ويردّ تعليل البلقيني بأنها وإن كان الصحيح أنها بيع لكن التحقيق كما في الروضة أنه لا يطلق القول فيها بأنها بيع ولا بأنها استيفاء لأن بعض فروعها يقتضي الأول وبعضها يقتضي الثاني لكن فروع الأول أكثر فمن ثم اشتهر أنها بيع لا استيفاء ونظير ذلك الخلاف في الإِبراء هل هو إسقاط أو تمليك وفي الرجعة هل هي ابتداء نكاح أو استدامته وفي النذر هل يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزة.
وسئل: هل يجوز للولي قبول الحوالة بمال موليه. فأجاب: بقوله بحث بعضهم عدم الجواز لما فيه من التغرير بخلاف الحوالة على الطفل فتجوز ويطالب الولي بالتسليم وذكر المرعشي أنه لو كان لأحد طفلين على أخيه مال فأحاله الأب بماله على أخيه على نفسه أو على ابن آخر له صغير جاز.
وسئل: هل يجب على الغني أداء الدين فوراً. فأجاب: بقوله نعم إن خاف فوت أدائه إلى المستحق أما بموته أو بمرضه أو بذهاب ماله أو خاف موت المستحق أو طالبه رب الدين أو علم حاجته إليه وإن لم يطالبه ذكر ذلك البارزي.(2/272)
وسئل: عمن أحال بدين له به رهن أو كفيل فهل ينتقل الدين إلى المحتال مع وصف الكفالة والرهن. فأجاب: بقوله نعم ينتقل إليه بصفة الكفالة والرهن كصفة الأجل والحلول ولا يعتبر رضا الراهن أو الكفيل كما ينتقل الدين إلى ورثة الدائن بصفة الرهن والكفيل من غير اعتبار رضاهما وفارق هذا ما لو أحال المديون دائنه بدين له به رهن أو كفيل فقبل فإنهما ينفكان لبراءة ذمة المحيل اللازم منها براءة كفيله وانفكاك رهنه هذا ما أتى به البارزي وبين في الوقت ما فيه من اعتراض وغيره فلينظر منه.
وسئل: هل تصح الحوالة بالزكاة وعليها. فأجاب: بقوله تجوز الحوالة بها كما في أصل الروضة نقلاً عن المتولي بناءً على أن الحوالة استيفاء وقيده الإسنوى بما إذا تلف النصاب بعد التمكن ليصير ديناً وقال غيره بل هو مع بقائه أيضاً لأن الذمة لا تخلو عنها على أن ما نظر فيه السبكي نظر فيه وغيره وتجوز عليها كما صرح به المتولي أيضاً قال الزركشي إن انحصر المستحقون وتعينوا وإلا فالوجه البطلان مطلقاً وهو ظاهر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 67
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل عليه دين أحال به دائنه وقبل الحوالة ثم طالب المحال عليه فأنكر وقال ليس لمحيلك عليّ دين فرجع للمحيل فقال أنت قبلت الحوالة فلا مطالبة لك عليّ فهل يقبل منه ذلك فلا يرجع عليه بشيء أو لا. فأجاب: بقوله ليس للمحتال الرجوع على المحيل بشيء لأن قبوله للحوالة وإن لم يعترف بالدين متضمن لاستجماع شرائط الصحة فيؤاخذ بذلك لو أنكر المحال عليه وهل له تحليف المحيل أنه لا يعلم براءته فيه وجهان ذكر ذلك ابن الرفعة في مطلبه قال غيره وأوجه الوجهين إن له تحليفه أنه لا يعلم ذلك.(2/273)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص أحيل عليه بحب لشخص فدفع له البعض وباعه ما بقي في ذمته بثمن من غير حضور ذلك فهل يصح بيع ما في ذمته ويلزم الثمن أم لا. فأجاب: بقوله لا تصح الحوالة بالحب إلا إذا كان على المحال عليه حب موافق لما على المحيل من الحب جنساً ونوعاً وقدراً وصفة وحلولاً وأجلاً فإذا وجدت هذه الشروط صحت الحوالة وانتقل حق المحتال إلى ذمة المحال عليه وإن فقد شرط منها فالحوالة باطلة ولا شيء للمحتال على المحال عليه ثم إذا صحت الحوالة لم يصح استبدال المحتال عن الحب وغيره لأن شرط صحة الاستبدال أن لا يكون المستبدل عنه ربوياً بيع بجنسه والحوالة بيع دين بدين فالمستبدل عنه ربوي بيع بجنسه فلم يصح بيعه المذكور في السؤال والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 67
باب الضمان(2/274)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ ورحمه عن قن مملوك يعمل صنعة فجاء له شخص دفع له سلعة ليصنعها له فأخذها وأتلفها فجاء إليه وألزمه بقيمتها من غير اطلاع سيده وكتب عليه حجة بقيمتها فجاء شخص آخر فضمنه فيما لزمه من القيمة فهل يلزم العبد ما التزم بغير إذن سيده وهل يصح الضمان كما أفتى به بعض المفتيين بمكة بعد أن كان أفتى بعدم صحته أم لا. فأجاب: التناقض الصادر من المفتي المذكور كأنه نشأ من إغفاله النظر إلى أن هذا المال أعني قيمة العين المتلفة هل يلزم العبد أو لا فتوهم أوّلاً أنه لا يلزمه فأفتى بعدم صحة ضمانه ثم توهم ثانياً أنه يلزمه فأفتى بصحة ضمانه وصحة ضمان الأجنبي للعبد في ديون المعاملة أي مثلاً مذكور في الروضة وغيرها وما وقع للمفتي المذكور تخليط نشأ من عدم التأمل والجواب الحق في ذلك إن شاء الله تعالى الذي دل عليه صريح كلامهم خلافاً لما وقع في الحاوي الصغير في إتلاف الوديعة فإنه من تفرده وقد رده غير واحد من أكابر المتأخرين وإن انتصر له بعضهم بما لا يجدي أن السيد هنا إن كان أذن لقنه في أخذ السلع ليصنعها لأربابها كان الضمان على السيد لأنه بإبقائها مسلط له على الإِتلاف وإن لم يكن أذن له في ذلك تعلق الضمان برقبة القن دون ذمته على الأصح فيباع منه بقدر قيمة ما أتلفه وفي كل من الصورتين لا يصح ضمان الضامن المذكور للعبد المذكور لأنه لم يلزمه شيء حتى يضمن عنه بل الملزوم بذلك هو السيد فيهما إلا أن القيمة تتعلق في الأولى بجميع أمواله وفي الثانية برقبة العبد فإن وقت بها وإلا فلا شيء لصاحب القيمة غير ما ساوته الرقبة وإذ كان السيد هو الملزم بذلك في الصورتين فالعبد غير ملزم أما في الأولى فواضح وأما في الثانية فلأنه محل الحق المستوفي منه فهو كعين تعلق بها حق يستوفي منها فلم يصح ضمانها في الصورتين لما قررته فتأمل ذلك فإنه وقع فيه خبط وتخليط كما أشير إليه في السؤال والجواب والله أعلم.(2/275)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيما إذا أبرأ الأصيل على ظن انتقال الدين عن ذمته إلى ذمة الضمين هل يبرأ الأصيل والضامن معاً أم أحدهما أبسطوا الجواب مع بيان المعتمد في ذلك فقد اختلف فيه جماعة من فقهاء اليمن. فأجاب: بأن الذي دلت عليه صرائح كلامهم أنه يبرأ كل منهما من ذلك قول الروياني في البحر لو قال لرجل أبرأتك من ألف درهم وهو لا يعلم أن له عليه شيئاً ثم علم أنه كان له عليه ألف درهم قال الأصحاب تصح البراءة في الحكم ولا يقبل قوله إني لم أعلم ذلك وهل يبرأ في الباطن فيما بينه وبين الله تعالى وجهان المذهب المنع لأنه إذا لم يعلم الدين فهو مجهول أ هـ .
ونقله البلقيني والزركشي وغيرها عن الشيخ أبي حامد واعتمدوه ومن ذلك أيضاً قول النووي في فتاويه لو استوفى دينه من غريمه وكان الوفاء من مال حرام ولم يعلم القابض أنه حرام ثم أبرأه صاحب الدين إن أبرأه براءة استيفاء لم يصح ويبقى الدين في ذمته وإن أبرأه براءة إسقاط سقط قال الزركشي فيما لو أطلق والظاهر حمله على الاستيفاء فلا يسقط أ هـ .
ونظير مسئلتنا ما لو أبرأه براءة إسقاط وقد علمت صحة البراءة وسقوط الدين حينئذٍ فكذلك في مسئلتنا ولا يحمل الإِطلاق فيها على الاستيفاء لأنه لا استيفاء فيها بخلافه في مسئلة النووي فإن فيها استيفاء فحمل الإِطلاق عليه ومن ذلك ما نقله الأذرعي عن بعض الفضلاء واعتمده وقال إنه مقتضى القواعد وهو أن البراءة من الصداق من الرشيدة ينبغي نفوذها وإن كانت إنما أبرأته بناء على كونه صفة لوقوع الطلاق فبان عدم وقوعه ومن ذلك أيضاً قول الأصبحي في فتاويه رجل أراد أن يختلع امرأته فحضر آخر وقال اخلعها إلى ذمة أمها بمهر مثلها فخلعها الزوج إلى ذمة أمها بمهر مثلها فظن أنه قد برئت ذمته من المهر لأنه رجل من العامة لا يعرف الفقه ثم قال: الواسطة تبارىء أنت وصهرتك فأبرأها الزوج ظناً منه أنه(2/276)
برىء من المهر فهل تصح براءته للصهرة مما ثبت في ذمتها له من عوض الخلع الذي ظن أنه قد برىء من مثله الذي بذمته للزوجة أم لا الجواب لا يقبل قوله أنه لا يعلم ذلك بل يحكم بصحة الإِبراء في الظاهر إن كان قد نشأ بين المسلمين أ هـ .
وهذا كالنص في مسئلتنا أنه لا يقبل من المبرىء دعواه أنه ظن انتقال الدين من الأصيل إلى ذمة الضامن إن كان نشأ بين المسلمين بخلاف ما إذا لم يكن نشأ بينهم وشهدت قرائن أحواله بأن يجهل هذه المسئلة فلا يبعد حينئذٍ بطلان البراءة لأنه في هذه الحالة لم يقصد بها معناها الشرعي إلا أن كلامهم كالصريح في خلاف ذلك لتصريحهم بأن العبرة في العقود بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف ولم يخصوا ذلك بمن عذر بذلك الظن ومن ثم صح بيع وعتق وتزويج وإبراء من ظن أن لا ولاية له ثم بان أن له ولاية ولم يفرقوا بين من عذر في ظنه أو لا فتقييد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/277)
الأصبحي بقوله إن كان قد نشأ بين المسلمين مخالف لكلامهم وإن كان له وجه فالأوجه أنه لا فرق فتنفذ البراءة مطلقاً نشأ بين المسلمين أم لا ثم رأيت الفقيه الصالح عبد الله أبا مخرمة أفتى بما أفتيت فقال في صورة السؤال يبرأ المضمون عنه والضامن عن الدين المذكور فلا عبرة بالظن البين خطؤه فإن قلت ينافي ما ذكرته عن أبي مخرمة قول الأنوار لو اشترى طعاماً في الذمة وقضى ثمنه من حرام فإن سلمه البائع قبل قبض الثمن بطيب قلبه وأكله المشتري قبل أداء الثمن حل أداه من الحرام أو لم يؤدِ أصلاً والثمن باقٍ في ذمته فإن أداه من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بحرمته برىء ولكن أثم برواحه وإن أبرأه بظن الحل لم يبرأ أ هـ .
ووجه المنافاة أن الظن هنا أثر فلم لا أثر في صورة السؤال قلت لا منافاة لأن كلام الأنوار يتعين حمله على التفصيل السابق عن النووي في عين مسئلته وهو أن الصورة أنه أبرأه براءة استيفاء أو أطلق بخلاف ما لو أبرأه براءة إسقاط فإن البراءة تصح حينئذٍ وهذه هي نظير مسئلتنا لأنه لا استيفاء فيها حتى يقصد أو ينزل الإِطلاق عليه فتعين حمل الإِبراء عليها على براءة الإِسقاط وقد صرح النووي بصحته مع ظن الحل فقياسه صحته في مسئلتنا ولو مع ظن انتقال الدين إلى ذمة الضامن فإن قلت سلمنا عدم المنافاة فيما ذكر لكن ينافيه ما صرح به الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب من أنه لو صالحه على إنكار ثم قال أبرأتك من الحق أو برئت منه لم يبرأ وردوا على من قال إذا صرح بالإِبراء بعد الصلح سقط حقه وقول الذخائر أن الشاشي حكى هذا عن المذهب ولم يحكِ سواه غلط وإنما حكاه الشاشي مقالة وأفسدها ومحل الخلاف إن ظن صحة المصالحة فإن علم فسادها ثم أبرأه نفذ الإِبراء لا محالة ولا ينافي ما تقرر إطلاق الرافعي وغيره أنه لو أبرأ المدعى عليه وهو منكر وقلنا لا يفتقر الإِبراء إلى القبول صح لأنه مستقل به لأن محله إذا لم تجر مصالحة قلت لا ينافي شيئاً مما(2/278)
ذكرناه لأن السبكي رحمه الله صور مسئلة الصلح بما إذا صالح مع الإِنكار من ألف على خمسمائة وأبرأه من الباقي فحينئذٍ لا يبرأ ويلزمه ظاهراً رد ما قبض حتى لو أقام عليه بينة بالألف أخذها جميعها وعلل ذلك نقلاً عن الماوردي بأن الإِبراء كان مقروناً بملك ما صالح به فلما لزمه رده لعدم ملكه بطل إبراؤه لعدم صفاته كمن باع عبداً بيعاً فاسداً فأذن لمشتريه في عتقه فأعتقه المشتري بإذنه لم يعتق لأن إذنه كان لملك العوض فلما لم يملكه بالعقد الفاسد لم يعتق عليه للإِذن ا هـ كلام الماوردي ووافقه حتى على مسئلة العتق القاضي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/279)
أبو الطيب و الجرجاني و الروياني في البحر وبه يتجه عدم المنافاة التي ذكرتها لأن الإِبراء هنا وقع عوض معاوضة لاقترانه بملك ما صالح به ويلزم من بطلان أحد العوضين بطلانه في الآخر بخلافه في مسئلتنا فإن الإِبراء فيها لم يقع في مقابلة شيء حتى إذا فسد فسد الإِبراء فمن ثم صح مطلقاً كما قدمته ومما يزيد ذلك وضوحاً قول السبكي أيضاً وما ذكر عن الماوردي لا شك فيه إذا اقتصر على قوله صالحتك من الألف على خمسمائة كما سبق أطلقها أو عينها ويعلل عدم حصول البراءة وإن انكشف الحال بعد ذلك ببينة أو إقرار بأن البراءة هنا إنما كانت في ضمن الصلح فإذا فسد الصلح فسدت أما لو زاد بعد ذلك فقال أبرأتك من الخمسمائة الأخرى فالإِبراء هنا وجد مستقلاً لكنه بطريق التبعية وكلام الماوردي هنا يقتضي الفساد أيضاً والذي صرح به المتولي أنه لو قال له بعد الصلح أبرأتك فإن اعتقد صحة الصلح لم يبرأ كما لو قال لمكاتبه بعد قبض النجوم أنت حر ثم استحقت يرد للرق وإن اعتقد فساده برىء لكن إنما يأتي ما قاله على قول شيخه القاضي والبغوي وغيرهما في الرهن ونظائره على ظن الوجوب بالفساد والذي اختاره الشيخ أبو محمد و الإِمام و الغزالي والمصنف يعني النووي الصحة وهو الأصح وقياسه أن يكون الأصح هذا كذلك أي فيصح الإِبراء وقوله في مسئلة الكتابة أنت حر محتمل للإِقرار والقرينة الظاهرة صارفة إليه فلم يقع به عتق بخلاف أبرأتك فإنه صريح في الإِنشاء فوقعت به البراءة أ هـ .
وبتأمله يزيد إيضاح ما قدمته من أن مسئلة الصلح لا تنافي ما ذكرته لأنا إن قلنا بصحة الإِبراء مطلقاً وهو ما اعتمده السبكي فواضح موافق لما قلناه أو بفساده وهو ما اعتمده البلقيني وأطال فيه فلكونه وقع عوضاً في مقابلة ملك ما صالح عليه فإذا فسد أحدهما فسد الآخر لأن هذا هو شأن العقود الفاسدة وهذا لا يتأتى فيما نحن فيه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/280)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيما لو قال أبرىء فلاناً من دينك أو أبرئي فلاناً من مهرك وهو في أرضي الفلانية أو أنا به ضمين فأبرأ أو أبرأت فهل يصح هذا الالتزام وهل يفرق بين أن يكون الدين على ميت أو حي وفي المسئلة بالنسبة للميت كلام جمعته في تعليقة من فتاوى المتأخرين أوضحوا ذلك بنقل ما هنالك وأبسطوا واذكروا الحاصل المراد آخر الكلام. فأجاب: بأن الذي صرح به المتولي أنه يجوز بذل العوض في مقابلة الإِبراء حيث قال الآخر إن رددت عبدي فقد أبرأتك عن ديني عليك صح وإذا رد يبرأ وإن قلنا الإِبراء إسقاط فهو إسقاط يجوز بذل العوض في مقابلته فيجوز أن يكون العوض منافع بدنه أ هـ .
قال السبكي وهذا ينبغي أن يكون مستثنى من قول المارودي وغيره أن تعليق الإِبراء لا يصح أ هـ .
إذا علمت ذلك فمن قال لدائن أبرىء فلاناً من دينك بهذه العين فقال أبرأته بها بريء وملكها الدائن بخلاف ما لو قال أبرئه وأنا به ضمين فإنه لا يصح لأنه حينئذٍ ضمان بشرط براءة الأصيل وهو باطل على المشهور هذا كله في المدين الحي وأما المدين الميت فهو في الحالة الأولى أعني بذل العين في مقابلة إبرائه كالحي بل أولى فيصح البذل ويبرأ سواء أكان الباذل وارثاً أم أجنبياً وأما في الحالة الثانية فيحتمل أن يكون كذلك فيصح الإِبراء والضمان ويغتفر حينئذٍ كونه ضماناً بشرط براءة الأصيل تعجيلاً وتحصيلاً لمصلحة براءة ذمة الميت ويحتمل أنه كالحي في ذلك فلا يصح الضمان وكذا لا يصح الإِبراء إن جعل في مقابلة صحة الضمان والأصح الإِبراء وإن لم يصح الضمان فإن قلت ما الذي يترجح من هذين الاحتمالين قلت الكلام على الراجح منهما يحتاج لمقدمة لا بأس بذكرها وإن أدت إلى طول وهي أن الأصحاب قالوا ينبغي أن يبادر إلى قضاء دين الميت إن تيسر في الحال أي بأن يكون في التركة جنس الدين وهو حاضر قال في الأم وإن كان يتأخر أي قضاء دين الميت سأل غرماءه يحللوه ويحتالوا به عليه أ هـ .
وجرى عليه(2/281)
الأصحاب وعبارة القاضي أبو الطيب يتوصل إلى أن يحيل غرماء الميت على من للميت عليه دين وهي فرد من أفراد ما دل عليه كلام الشافعي والأصحاب فليست قيداً ثم كلامهم مصرح بأن هذه الحوالة مبرئة للذمة وبه صرح في المجموع فقال ظاهر كلام الشافعي والأصحاب البراءة بتحمل الولي وفيه إشكال لأن ظاهره أنه بمجرد تراضيهم على مصيره في ذمة الولي يبرأ الميت ومعلوم أن الحوالة لا تصح إلا برضا المحيل والمحتال وإن كان ضماناً فكيف يبرأ المضمون عنه ثم يطالب الضامن وفي حديث أبي قتادة لما ضمن المال عن الميت أن النبي قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/282)
الآن بردت جلدته حين وفاه لا حين ضمنه ويحتمل أن الشافعي والأصحاب رأوا هذه الحوالة جائزة مبرئة للميت في الحال للحاجة والمصلحة أ هـ .
وتبعه في الخادم فقال كلامهم مصرح بأن هذه الحوالة مبرئة للذمة ونازع فيه صاحب الذخائر لأن الحوالة تفتقر إلى محيل وهو مفقود في هذه الصورة ويجاب بأنه اغتفر ذلك مصلحة للميت كما فعل أبو قتادة لما امتنع النبي من الصلاة على المديون حتى قال عليّ دينه واستفدنا من هذا الحديث أنه لا يتوقف ذلك على احتيال الولي بل الأجنبي كذلك أ هـ .
وتوقف فيه النشائي أيضاً في جامعه ولا توقف لما مر عن المجموع ثم قضية كلامه ككلامهم أنه لا فرق في تحمل الولي المقتضي لانتقال الدين إليه وبراءة الميت به للمصلحة بين أن يراد بالحوالة أن يحيل الولي عن الميت في إيجابها واحتملت وإن كانت من غير جنس الدين ومن غير رضا المحيل والمحتال للمصلحة ومن ثم قال جمع متقدمون إن كان التركة نقد أقضي الدين منها أو غير نقد سأل الولي غرماء الميت أن يحتالوا عليه ليصير الدين في ذمته وتبرأ ذمة الميت ولا بين أن يراد بها تحمل الولي الدين عن الميت برضا الغريم فيحصل انتقاله لذمته من غير نظر إلى أن الميت خلف تركة أو لا نظراً لكونه حينئذٍ يشبه الضمان بشرط براءة الأصيل لأنا إن قلنا بصحته على الضعيف فظاهر وحينئذٍ الأجنبي كالولي لما صح في قصة أبي قتادة لما ضمن الدينارين عن جابر فقال فجعل النبي يقول هما عليك والميت منهما بريء فقال نعم فصلى عليه وإن قلنا ببطلانه وهو المعتمد فهذا مستثنى للمصلحة كما علم مما مر وقيل المراد من قوله وبرىء منهما الميت براءته من رجوع أبي قتادة لأنه ضمان بغير أمره اهـ. وفيه نظر والحاصل أن تحمل الولي بقسميه المذكورين مغتفر لمصلحة براءة الميت كما دل عليه إطلاق كلام الشافعي والأصحاب وبه يعلم أن الراجح من الاحتمالين اللذين أبديتهما أولهما فحينئذٍ يفارق الميت الحي في هذه الصورة لما تقرر من احتياج(2/283)
الميت لبراءة ذمته أكثر فاغتفر فيه ما لا يغتفر في الحي ثم رأيت الريمي ذكر في تفقيهه ما يؤيد ما ذكرته بل يصرح به حيث قال وصورة ما قاله الشافعي من الحوالة أن يقول لرب الدين أسقط حقك عن الميت وعليّ عوضه فإذا فعل ذلك رب الدين برىء الميت ولزم الملتزم ما التزمه لأنه استدعاه إتلاف ماله لغرض صحيح ثم استدل لذلك بكلام صاحب البيان حاصله أن الحوالة على من لا دين عليه تسمى حوالة حقيقية عند العراقيين وضماناً بشرط براءة الأصيل عند الخراسانيين ويؤيد ذلك أيضاً قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/284)
الأصبحي في فتاويه ذكر في البيان أول ما يبدأ به ولي الميت أن يقضي دينه أو يحتال به على نفسه وأراد بذلك أن يلتزم لغريم الميت دينه في ذمته بمعاوضة إن أمكنه ذلك أ هـ .
فقوله أن يتلزم الخ. ظاهر فيما ذكرته من صحة الضمان عن الميت بشرط براءته وتنظير بعضهم فيه ليس بواضح ومما يدل لذلك أيضاً أن البخاري ترجم للحديث السابق بباب الحوالة ثم بباب الكفالة قال الحافظ ابن حجر والثاني هو ظاهر الحديث. وقال غيره: إنما ترجم بالحوالة ثم أدخل الحديث وهو في الضمان لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان وإليه ذهب أبو ثور لأنهما ينتظمان في كون كل منهما فيه نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة سواء بسواء أ هـ .
وفيه تصريح بما قدمته من استواء الضمان والحوالة في حق الميت وأنهما إنما اغتفر فيهما عدم وجود شروطهما لمصلحة براءة الميت ومن ثم قال الخطابي في الحديث أن الضمان عن الميت يبرئه إذا كان معلوماً سواء خلف الميت وفاء أم لا وذلك أنه إنما امتنع من الصلاة عليه لارتهان ذمته بالدين فلو لم يبرىء ضمان أبي قتادة لما صلى عليه والعلة المانعة قائمة أ هـ .
لا يقال الحديث إنما هو حجة للوجه المرجوح القائل بصحة الضمان بشرط براءة الأصيل لأنا نقول ليس كذلك بل هو حجة للمعتمد الذي قدمناه ودل عليه كلامهم أنه يصح الضمان عن الميت ولو بشرط براءته ولا يضر هذا الشرط لأنه من مقتضيات العقد إذ يلزم من صحة الضمان براءته بمجرد الضمان كما مر عن الشافعي والأصحاب في التحمل الصادق بالضمان والحوالة واغتفروا ذلك هنا تعجيلاً لبراءة ذمة الميت ورعاية لمصلحته لأنه أحوج لذلك الحي لانقطاع سعيه فاغتفروا فيه ما لا يغتفر في الحي.(2/285)
تتمة: قال السيد السمهودي في حواشي الروضة بعد إيراده ما مر عن المجموع فالحاصل أنهم اغتفروا في هذه الحالة لحاجة الميت ومصلحته كون الولي محيلاً ومحالاً عليه مع فراغ ذمته من الدين واكتفوا برضاه مع رب الدين بذلك فلرب الدين مطالبته بدينه بمقتضى ذلك وإن تلفت التركة وهل ينقطع تعلقه بعين التركة بمجرد ذلك فيه نظر والمتجه دوامه لأن تسويغ ذلك لمصلحة الميت والتعلق وبالعين من مصلحته وكأن الولي استدام تعلق الدين بها عن جهته فهو كتجدد رهنها من جهتها بعد انتقال الدين إلى ذمته سيما إذا تعرض رب الدين لاشتراط ذلك على الولي ليكون باعثاً على تعجيل القضاء أ هـ .
وتعقبه بعضهم فقال والاتجاه في دوام التعلق وادعاء مصلحة الميت فيه ممنوع فليتأمل أ هـ .
والتعقب أوجه لأن رضا الدائن بذمة الولي فيه فك منه للتركة عن الرهنية فكيف مع تعلق حقه بذمة الولي وانتقاله من ذمة الميت وفراغها منه تبقى التركة مرهونة بدين ليس على الميت منه شيء ودعوى أن مصلحة الميت تقتضي التعلق غير صحيحة لما تقرر أن ذمته برئت من الدين بكل وجه فلا يعود عليه منفعة بتعلق الدين بالتركة وعدم تعلقه بها لأنه بعد أن استقر في ذمة الولي وفرغت ذمة الميت منه صار لا يمكن عوده لذمته سواء أداه الولي أم لم يؤده نعم إن تعرض الدائن لاشتراط ذلك على الولي احتمل أن يقال بصحة الشرط والعمل بمقتضاه وأن يقال ببطلانه وعليه فهل يبطل أصل التحمل لاقترانه بشرط فاسد أو لا كل محتمل والأول أعني صحة الشرط والعمل بمقتضاه غير بعيد لما فيه من المصلحة للميت إذ الفرض أن الدائن لم يرض بتحمل الولي إلا بهذا الشرط فلو لم نصححه لبقي التعلق بذمة الميت مستمراً والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/286)
وسئل: هل يصح الضمان لغائب على غائب وهو عارف للمضمون عنه والمضمون له وبه. فأجاب: بأنه يصح الضمان المذكور فقد قالوا شرط الضامن أهلية التبرع وشرط المضمون له معرفة عينه فلا يكفي معرفة وكيله كما بينته في شرح الإِرشاد ولا يشترط قبوله ولا رضاه بل يلزمه أداء ضامن والمؤدي بإذن الغريم ولا يشترط رضا المضمون عنه ولا قبوله ولا أن يكون له مال فيصح الضمان عن المعسر والرقيق والمجهول والمنكر وشرط المال المضمون أن يكون ديناً ثابتاً لازماً أو أصله اللزوم معلوم الجنس والقدر والصفة والله أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجل يعلم دين مورثه الذي على زيد ولا يعلم كم نصيبه منه فأبرأ زيداً منه ما الحكم. فأجاب: إذا علم دين مورثه الذي على زيد ولم يعلم كم نصيبه فأبرأ من الجميع المعلوم له صح الإِبراء أخذاً من قولهم نقلاً عن نص البويطي وغيره يستثنى من الإِبراء بالمجهول ما إذا ذكر غاية يعلم إن حقه دونها فإنه يصح الإِبراء وإن لم يعرف قدر حقه فكما صح هنا مع جهله بقدر دينه فكذلك يصح في مسئلتنا لأنه أبرأه من قدر معلوم يعلم أن حقه دونه بل هذه المسئلة داخلة في كلامهم ذاك لأن من صوره أن يبرئه من مائة وهو يتحقق أن دينه دونها لكنه لا يعلم قدره وصورته أن يعلم أن مال مورثه مائة ولا يعلم كم له منها فإذا صح الإِبراء في تلك صح في هذه فالصورتان داخلتان تحت كلامهم الذي ذكرته وكذا تحت قول الأنوار وإذا أراد أن يبرىء من مجهول فالطريق أن يذكر عدداً يعلم أنه لا يزيد الدين عليه فلو كان يعلم أن حقه لا يزيد على مائة مثلاً أو ألف فيقول أبرأتك من مائة أو ألف ثم رأيت الأصبحي أفتى بما ذكرته والله أعلم.(2/287)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ أحاله ثم قضاه فهل يرجع على المحال عليه. فأجاب: إذا أحال دائنه على مدينه انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فإذا قضى المحيل المحتال ذلك الدين الذي أحاله به من غير أن يأذن له المحال عليه في الأداء عنه كان المحيل حينئذٍ متبرعاً بالأداء فليس له الرجوع على أحد نعم قياس كلامهم في البيع والشرط أنه لو أدى إليه ظاناً أن ذمته مشغولة له إلى الآن وأن الحق لم ينتقل لذمة المحال عليه أو انتقل إليها مع بقائه في ذمته أيضاً كان ذلك عذراً له مقتضياً لرجوعه على من أدى إليه بما أداه إليه لأنه بنى الإِعطاء له على ظن بان خطؤه ولا يقال لا عبرة بالظن البين خطؤه لأن ذلك في نحو العبادات وحيث لا عذر وإلا فقد يعولون على الظن وإن بان خطؤه إذا عذر الظان بقيام قرينة تقتضي ما ظنه والقرينة هنا قوية وهي أن ذمته كانت مشغولة بالدين وكونه ينتقل عنها بالكلية بالحوالة أمر يخفى على كثير من العوام فمن ظن خلافه معذور بلا شك والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/288)
وسئل: هل يجوز للولي بيع مال اليتيم بدون ثمن المثل إذا خشي عليه التلف. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله نعم يجوز له ذلك فقد أفتى القفال عن ضيعة خراب يطلب مالها عن الصبي ويستأصل ماله فقال يجوز بيعها ولو بدرهم لأن المصلحة فيه وقضيته أن له بيع كل ما خيف غصبه أو هلاكه بدون ثمن مثله ويؤيده إفتاء الغزالي بأنه يجوز للأب نقص الصغيرة عن مهر المثل للمصلحة وأخذ منه ابن عجيل مسئلتنا ومثله بما لو أبق عبد المحجور المكتسب مالاً وتعذر استرداده وما معه فباعه ممن يقدر على انتزاع الكسب منه بدون ثمن المثل وشرط أن يرد له الكسب جاز ولا نظر لكون هذا وعداً لأن الظاهر بقاؤه عليه نظير قولهم لو زاد راغب وقد باع الوكيل في زمن الخيار انفسخ البيع وإن كان له الرجوع لأن الظاهر بقاؤه على الزيادة ويؤيده تجويزهم تعييب مال اليتيم إذا خيف أخذ ظالم له كقضية السفينة مع الخضر ومن ثم أفتى الأزرقي بأنه لو كان له ثوبان سرق أحسنهما ولم يرده اللص إلا بأخذ الأدون جاز إعطاؤه والله تعالى أعلم.(2/289)
وسئل: في شخص قيم على محجور بالغ دفع إليه مبلغاً ليتجر فيه ويختبر به حاله فأتلفه فهل إذا دفع إليه القدر المذكور بغير إذن القاضي وتلف والحالة هذه يحسب على المحجور أو لا وهل إذا استدان المحجور عليه ديناً ولم يحكم بدفعه حاكم شرعي لرب الدين ووفى القيم عنه ذلك يحسب على المحجور أو لا وما حكم الله في ذلك أفتونا مأجورين. فأجاب: إذا دفع الولي المال إلى محجوره قبيل البلوغ للمماكسة التي يتبين بها اختباره فتلف في يد المحجور لم يضمنه الولي لأنه مأمور بالتسليم إليه فإذا دفعه له بعد البلوغ كذلك ضمن بناء على الأصح أن الاختبار وقته قبيل البلوغ وأما استدانة المحجور إن كان من غير رشيد مطلقاً أو من رشيد وتلف بعد المطالبة برده والامتناع منه يضمنه المحجور فإذا أداه وليه عنه من مال المحجور لم يضمنه الولي لأنه يلزمه الأداء حينئذٍ وإن كان من رشيد وتلف قبل المطالبة برده لا يضمنه المحجور فإذا أداه الولي حينئذٍ ضمنه وقولنا لم يضمنه المحجور إنما هو باعتبار الظاهر لما نص عليه الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم في باب الحجر والإِقرار أن المحجور يضمنه بعد انفكاك الحجر والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/290)
وسئلت: عما لو قيل لامرأة أبرئي فلاناً من مهرك وهو في أرضي الفلانية وفي الضمان والرهن من القوت ما ينبغي مراجعته في ذلك. فأجبت: الذي دل عليه كلامهم صحة البراءة ولا شيء على القائل لأنها إذا أبرأته لم يبق لها شيء حتى تتعلق بأرضه مثلاً فليس من باب ضمان الدين في رقبة عين لأن الدين هناك موجود ثابت عند الضمان فصح تعلقه بعين من أعيان أموال الضامن وأما هنا فإنه اشترط عليها التعلق المهر بأرضه مثلاً إبراءها منه وبالإِبراء منه لم يبق لها شيء حتى تتعلق بغيره فاتضح أن هذا لغو فلا يلزم به شيء وإحالة السائل نفع الله به وبعلومه وبركته على ما في القوت إن كانت باعتبار أن كلامه يؤخذ من عمومه ذلك فلا خصوصية للقوت بذلك وإن كانت باعتبار أن المسئلة فيه بخصوصها فالأمر بخلاف ذلك بحسب النسخة التي عندي فإني فتشت فيها بابي الضمان والرهن فلم أرَ لخصوص مسئلة السؤال ذكرا فيه أصلاً فإما أن السائل أراد المعنى الأول أو أن في نسخته زيادة فإن كان الأمر كذلك فلينظر ما قلته مع ما في نسخته فإن وافقه فللّه أتم الحمد وأكمله وإن خالفه فليرسل إليّ بالعبارة حتى أنظر فيها وفي الروضة عن الماوردي ما يقرب من مسئلتنا وهو أنه لو قال بع عبدك من زيد بألف عليّ لم يصح التزامه لأنه ضمان ما لم يجب ولا جرى سبب وجوبه فلو باع على ذلك لم يصح لاشتراط الثمن على غير مالك المبيع نعم إن تولى الآمر العقد صح لكن إن تولاه بولاية أو وكالة وقع الشراء للمشتري وإلا وقع له ولزمه الثمن فيهما وله الرجوع في الأولى وإن قال بعه منه بألف وأنا أدفعه لك فهو وعد لا يلزم فلو باعه صح ولا يلزم الآمر شيء لعدم التزامه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/291)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يستثنى من قاعدة إن الحال لا يطرأ عليه التأجيل بعد لزومه حالاً شيء أو لا. فأجاب: بقوله استثنى المتولي و الروياني مسئلتين إحداهما إذا قال الدائن لله علي أن لا أطالب المدين به إلا بعد شهر مثلاً لزم وقضية كلام الرافعي اعتماده الثانية إذا أوصى أن لا يطالب به إلا بعد شهر فإنه تنفذ وصيته وزاد ابن الرفعة ثالثة وهو ما لو باع بثمن حال ثم ألحق الأجل في مجلس العقد و الزركشي رابعة وهي إذا ثبت الإِفلاس على المدين فلم يطالبه حتى أيسر وارتفع الحجر عنه فإنه يعدو مؤجلاً ذكرها القفال في فتاويه وخامسة وهي ما إذا أسلم إليه في شيء وأطلق انعقد حالاً ولنا خلاف هل السلم أصله الحلول أو التأجيل إن قلنا بالأول فأجل بعد ذلك في المجلس صار مؤجلاً والكلام على ذلك يحتاج إلى بيان ومزيد بسط فنقول أما مسئلة النذر فقال الزركشي في قواعده مستشكلاً لها إن كانت الصورة في معسر فإنظاره واجب والواجب لا يصح نذره وإن كانت في موسر مؤدِ لم يصح أيضاً لأن أخذه منه واجب ولا يصح إبطال الواجب بالنذر ويؤيده قول ابن الرفعة إن كان من عليه الدين ميتاً فلا أثر لنذر تأخير المطالبة لأن المبادرة إلى براءة ذمة الميت واجبة فلا يؤثر النذر حتى ولو رضي رب الدين والوارث بذلك ويجاب بأنه قد يتصوّر كون الإنظار مندوباً لا واجباً فيصح نذره ويصير واجباً بالنذر وذلك في موسر بغير جنس الدين فإنه لو طالبه بالوفاء وجب عليه بيع أمتعته حينئذٍ وإن كان في ذلك فوات ربح يؤمله فيها فإذا علم الدائن ذلك من حاله ندب له كما هو ظاهر أن ينظره إلى أن يحصل له ما يؤمله في أمتعته من الربح فإذا نذر في هذه الحالة عدم مطالبته إلى مدة معلومة لزم النذر لأنه نذر قربة مقصودة غير واجبة فهذا هو محمل كلام المتولي وغيره وأما مسئلة المعسر والموسر بجنس الدين الباذل له والميت فمعلوم من كلامهم في باب النذر عدم صحة النذر فيها فلا يصح أن تكون واحدة منها(2/292)
مرادة للمتولي فاتضح بذلك كلامه على أن التحقيق كما قاله البلقيني ورجحه الإسنوى و الزركشي أنه لا استثناء بل الحلول مستمر ولكن منع الطلب لعارض كالاعسار للعلم بحاله أو لقيام الرق فيما يتبع به العبد إذا عتق وقول المتولي لو قال لله عليّ أن لا أطالبه إلا بعد شهر لزم ليس فيه تصريح بلزوم الأجل بل كلام محتمل لأن يريد لزوم الأجل أو لزوم النذر وإطباقهم على أن الحال لا يؤجل يومىء إلى أن مراده الثاني ويكون سماه تأجيلاً مجازاً لما بينهما من علاقة منع المطالبة وفاءً بالنذر ولا بدع أن يكون الدين حالاً وتمتنع المطالبة به لعارض كالمعسر فإنه إذا حجر عليه بدينه الحال لم يقل أحد أنه تأجيل وإنما صرحوا بأنه لا يطالب مع أن مسئلته هي الأصل في الكلام على تأخير الحال وحلول المؤجل على ما هو معروف في بابه فإن قلت هل يظهر للقول بأنه مؤجل أو حال امتنع طلبه لعارض أثر قلت نعم يظهر لذلك أثر في مسائل منها إذا عجله المديون قبل المدة لغرض البراءة هل يجبر رب الدين جزماً على أحد الأمرين الإِبراء أو القبول كسائر الديون الحالة لا سيما أن هذه المدة لم تقع برضا المديون أو لا يجبر لأنه مؤجل ومنها الحنث إذا حلف لا مال له وقلنا بالتفصيل بين الحال والمؤجل ومنها مسئلة الزكاة وتحريرها أن النذر إما أن يكون بعد تمام الحول فلا إشكال في إخراج الزكاة غير أنه هل يستثنى ذلك القدر من وجوب الإنظار فيه لأن الملك فيه لغيره بناءً على الصحيح وهو أن الفقراء شركاء رب المال أو يجب الإنظار فيه وهو ما رجحه بعض المتأخرين لكونه قادراً على تمام نذره لجواز الإِخراج من غيره كما قلنا به فيما إذا رهن مالاً زكوياً وحال عليه الحول قال بل مسئلتنا أولى لأن الرهن سابق على الوجوب بخلاف النذر وأما أن يكون قبل تمام الحول احتمال لأن النذر في هذه الحالة تصرف منه قبل تعلق حق الفقراء وقياس مسئلة الرهن كما قاله الإسنوى وجوب الإِخراج من غيره عند القدرة ومنه(2/293)
عند عدمها ومنها ما لو مات الناذر فإن قلنا بالتأجيل لم يكن لورثته المطالبة وإن قلنا ببقائه على صفة الحلول فهل لهم ذلك لأن الدين حال والناذر مات وهم لم ينذروا أم عليهم الإِمهال لأن الحق انتقل إليهم كذلك كل محتمل والظاهر كما قاله بعض المتأخرين الأول هذا كله ظاهر إن كانت الصورة ما مر عن المتولي وهي ما لو قال لله عليّ أن لا أطالبه إلا بعد شهر فلو قال لله عليّ أن مالي عليه من الدين يصير مؤجلاً إلى شهر أو نحو ذلك فهل يأتي فيه ما مر من كونه مستمراً على الحلول ويكون التزام التأجيل معناه التزام عدم المطالبة أو يقال هنا أنه تأجيل للنص على التزام التأجيل بخصوصه كل محتمل وأما مسئلة الوصية ففيها ما مر في مسئلة النذر حرفاً بحرف إذ لا يلزم من تنفيذها بتأخير الطلب تأجيل الدين بل هو باقٍ بصفة الحلول ولكن تنفيذها منع من المطالبة به على حكم الحلول كالمعسر إذا ثبت إعساره ويؤيد ذلك قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/294)
الرافعي والروضة لو أوصى من له دين حال بإمهاله مدة فعلى ورثته إمهاله ولم يقولا إن الدين تأجل وأما مسئلة ابن الرفعة التي زادها وادعى أنها أولى ممنوعة كما قاله بعض المتأخرين لأن الثمن إما أن يراد به ما وقع به العقد أو ما استقر عليه العقد مع اعتبار اللواحق في مجلس التخاير والراجح الثاني إذ اللاحق في المجلس كالواقع في صلب العقد وحينئذٍ فالثمن إنما هو مؤجل لأنه الذي استقر عليه العقد فكأنه إنما عقد به بصفته لا أنه كان حالاً ثم تأجل لأن الثمن كما يراعى في مقداره تراعى صفته ويظهر أثر ذلك في نحو عقد التولية هل يدخل الملحق في زمن الخيار والمذهب أنه يدخل ودعوى ابن الرفعة التأجيل بعد الحلول لا تتم إلا إذا ثبت تعلقه بذمته وكونه مملوكاً وذلك إنما يصح إذا ملك المشتري المبيع والبائع الثمن الذي في ذمته وما دام زمن الخيار لهما باقياً فالانتقال غير واقع لأن الخيار إذا كان للبائع فملك المبيع له أو للمشتري فملكه له أولهما فموقوف سواء في ذلك خيار الشرط والمجلس لكن صورة ابن الرفعة إنما تتأتى إذا كان الخيار لهما لأن إلحاق الأجل ونحوه إنما يصح حيث كان الخيار لهما وإلا فمتى لزم من جهة أحدهما أو انفسخ لم يمكن الإِلحاق فمراد ابن الرفعة بقوله ثم ألحق الأجل في مجلس العقد ما إذا كان الخيار لهما ولم يلزم العقد ولو من جهة أحدهما ولا انفسخ و أما مسئلة القفال وهي أن المفلس إذا ثبت إفلاسه حل عليه الدين فذلك وجه أو قول والمذهب أنه باقٍ بأجله بل بقية كلام القفال تدل على أن آثار الأجل باقية لم تنقطع قطعاً حقيقياً لعوده مؤجلاً كما كان إذا أيسر ولم يطالبه حتى انفك الحجر وأما مسئلة السلم فقد علم جوابها من مسئلة ابن الرفعة.(2/295)
وسئل: عن رجل زوّج ابنه على صداق ضمنه بغير إذنه فمات الابن عن تركة تفي به فأراد وارثه أخذ الصداق من الأب الضامن وتبقى التركة ميراثاً لضمانه بلا إذن فهل يجاب أو لا. فأجاب: بقوله أفتى التاج الفزاري و البرهان المراغي بأن للضامن الامتناع من الإِداء حتى يقضي الدين من التركة قال الأول لأن الدين تعلق بتركة الميت بالموت وإذا تعلق الحق بالذمة والعين كان لمن الدين في ذمته أن يمتنع من الأداء حتى يستوفي من العين بدليل أن من عليه دين به رهن لا يلزم بأداء إذا أمكن استيفاء الدين من الرهن وأيضاً فالدين لا ينفك بالضمان من ذمة الأصيل فإذا مات تعلق بتركته ولا ميراث إلا بعد قضاء الدين بنص القرآن فلو جاز إلزام الضامن بالأداء وأن تبقى التركة للوارث لقدم الإِرث على الدين قال ثم وجدت في مختصر النهاية لشيخنا العز بن عبد السلام فإن مات الأصيل فأراد الكفيل إلزام رب الدين بقبضه من التركة أو أن يبرئه من الضمان فله ذلك على أظهر الوجهين وفي النهاية ومما يتعلق بتمام هذا الأصل أن الأجل إذا ثبت مقصوداً في حق الضامن ولو مات المضمون عنه وحكمنا بحلول الدين عليه فكانت تركته عنده وافية فلو قال مستحق الدين لست أطلب حقي من التركة فهل للضامن أن يقول إما أن تأخذ حقك منها ناجزاً أو تبرئني فعلى وجهين أظهرهما في النقل أن له ذلك والثاني لا وهو ظاهر القياس أ هـ .
وما أفتى به مما ذكر ظاهر إن كان الطالب لذلك هو وارث الابن غير الزوجة فإن كان الطالب له هو الزوجة التي هي المضمون له فالأوجه أن لها أن تطالب الأب بذلك لأنها مخيرة بين الرجوع على التركة وعلى الضامن فإذا اختارت الرجوع عليه كان لها ذلك إذ لا مانع منه وكلام النهاية ومختصرها يدل على ذلك وإن نافاه ظاهر ما ذكره الفزاري.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/296)
وسئل: هل يشترط إقرار المضمون عنه بالدين حتى لو أنكر أصل الدين واعترف به إنسان ثم ضمنه يصح ويلزمه أم لا. فأجاب: بقوله الأصح كما في الكفاية أن ذلك لا يشترط فيصح ويلزمه.
وسئل: رضي الله عنه بما لفظه في المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وفي مكة المشرفة يريد الإِنسان أن يقترض من آخر دراهم ثم يرهنه بها رهناً مملوكاً للغير بغير رضاه فلا يتم توثقه فيتولى طامعه على أنه يأتي له بضامن يضمن له صحة الرهن فيقرضه ثم يرهن عنده الرهن ثم يقول آخر ضمنت لك صحة الرهن من غير زيادة على ذلك لكنهما يضمران أنه متى خرج الرهن مستحقاً صار الضامن المذكور ضامناً لذلك الدين المرهون بسببه أو لمثل هذا الرهن ليأتي به إلى المقرض ليبقى توثقه فهل يصح هذا الضمان وإذا خرج مستحقاً يكون ضامناً للدين أو لمثل الرهن. فأجاب: بقوله يحتمل تخريجه على ما قرروه من صحة ضمان درك المبيع أو الثمن بجامع الحاجة إليهما في معاملة من لا يعرف حاله ويحتمل وهو الأقرب عدم تخريجه عليه إما لأن ذلك على خلاف الأصل لخروجه عن القاعدة كما قرروه فلا يقاس عليه كما وقع للفقهاء نظيره في مسائل خرجت عن الأصل فلا يقيسون عليها وإن وجد ذلك المعنى الذي خرجت لأجله هذا إن سلم أن بين المسئلتين جامعاً وقد يقال لا جامع بينهما أصلاً فلا تقاس مسئلة الرهن على مسئلة البيع لعدم وجود شرط القياس لوجود الفارق بينهما وهو أن في تصحيح الضمان المذكور في مسئلة البيع الأمن من ضياع المقابل من كل المبيع أو الثمن أو ما نقص ففيه مصلحة تعود على نفس العقد المشتمل على ذلك من أمن غائلة من لا يدري حاله وأما في مسئلة الرهن فليس فيه مصلحة تعود على نفس عقد الرهن لأنه أمر تابع وبخروج المرهون مستحقاً لا يمكن إلزام الضامن بمثله بل يكون ضامناً لدين القرض فالمنفعة لم تعد إلا عليه وهو أجنبي عن المضمون لأنه ليس بمقابل له بخلافه في مسئلة البيع فعود المصلحة إليه غير مضطر إليه(2/297)
لثبوته ورضا المقرض بذمته قبل الضمان المذكور حيث لم يشترط الرهن في عقد القرض وإلا فاشتراطه كافٍ لأنه على تقدير خروج المرهون مستحقاً يطالبه برهن غيره وأيضاً فهو في دين القرض متمكن من التوثق عليه بغير ذلك بأن يشرط عليه في العقد الإِتيان بمن يكفله فلا ضرورة له إلى ضمان درك الرهن بخلافه في مسئلة البيع فإنه لا يمكن اشتراط الكفيل والرهن إلا على ما في الذمة من المعين فإذا خاف آخذه من خروجه مستحقاً أو ناقصاً كان مضطراً إلى وجود من يضمن له دركه لأنه لا مندوحة له عنده لعدم تأتي الضمان الأصلي فيه فاغتفر له اشتراط ضمان دركه للضرورة فهي محققة في مسئلة البيع فجاز فيه ضمان الدرك المخالف للأصل والقاعدة غير محققة بل غير موجودة في مسئلة الرهن فلم تجر فيها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن ضمن ديناً معيناً ورهن به ملكه ثم إن الدائن أبرأه من الضمان فهل ينفك الرهن أيضاً. فأجاب: بقوله أجاب بعض المتأخرين بعد فكره فيها مدة أنه لا ينفك الرهن بذلك لأن الضامن التزم هذا الدين بطريقين أحدهما تعلقه بعين الرهن والآخر جعله في ذمته وأحدهما منفك عن الآخر فالإِبراء عن الضمان لا يكون فسخاً للرهن وقال غيره هما متعلقان بدين واحد فإسقاط أحدهما إسقاط للآخر ورد بأنه إنما يتم لو أبرأه عن المطالب بالدين لا عن خصوصية الضمان.
وسئل: عمن قال أنت في حل في نصيبي هل هو صريح أم كناية. فأجاب: بقوله قال الأذرعي الصحيح أنه صريح ويؤيده قول ابن يونس ألفاظ الإِبراء تسعة عفوت وأبرأت وأسقطت وحططت وتركت ووهبت وأحللت ووضعت وملكت.
وسئل: عن إبراء المضمون عنه ظاناً تحول الحق عنه بالضمان فهل يبرأ. فأجاب: بقوله نعم يبرأ هو والضامن ولا عبرة بظن بان خطؤه ونظيره إذا طلق رجعياً ثم ثانية في العدة ظاناً أنه قد بانت منه بالأولى فإن الثانية تقع أيضاً.(2/298)
وسئل: عمن طالب مدينه فقال له آخر اتركه والذي لك عليه عندي أو قال أبرئه ولك عندي كذا فهل يلزمه ما ذكره. فأجاب: بقوله لا يلزم القائل بذلك شيء لأن لفظ عندي للظرفية ولا إشعار لها باشتغال الذمة بذلك فإن قال عليّ أو في ذمتي كان ضماناً لكنه معلق على شرط فلا يصح.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه في المجموع أن ظاهر كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب رحمهم الله تعالى براءة ذمة الميت عن الدين بتحمل الولي واستشكله وصوّره بعضهم أخذاً من كلام الشامل بأن يقول الوارث للدائن أبرىء مورثي أو أسقط حقك عنه وعلي عوضه فإذا أبرأه برىء ولزم الوارث ما التزمه وبعضهم في شرحه كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ بذلك أيضاً وقال إنه استدعاء إتلاف مال لغرض صحيح ومع ذلك هو مشكل بقولهم في باب الضمان أن التحمل وغيره من ألفاظ الضمان لا يحصل به براءة المضمون عنه وإذا برىء الأصيل برىء الضامن وفي تعليق الشيخ أبي حامد إذا لم يمكن المبادرة إلى قضاء دين الميت استحب أن يحتال الولي حتى يسقطه عن الميت ويصير في ذمته فما صورة ذلك وما المراد بالولي وعلى الأول إذا تحمل بعض الورثة يختص به أو لا أو يفرق بين أن يكون فيهم قاصر أو لا وإذا قال الوارث أو غيره ضمنت دينك على فلان فأبرئه أو أبرئه وأنا ضمينك بما عليه فهل يبرأ. فأجاب: بقوله ما ذكر عن المجموع وتصويره بما ذكر صحيح معتمد ولا يشكل عليه ما في الضمان فإنه ليس على حقيقة الضمان المشهور المفتقر إلى أصيل بل هو من قبيل استدعاء إتلاف مال بعوض لغرض صحيح وهو براءة ذمة الميت مما نفسه معلقة به كما صح في الحديث فالمسارعة إلى فكاكها من المقاصد الصحيحة المطلوبة فهو كما ذكروا في أطلق هذا الأسير أو اعف عمن لك عليه قود أو أطعم هذا الجائع ولك عليّ كذا أو ألقِ متاعك في البحر وعلى ضمانه وما ذكر عن الشيخ أبي حامد هو نص الشافعي(2/299)
ـ رضى الله تعالى عنه ـ وحمل على التصوير السابق ويؤيده حكاية المراغي له في شرح المنهاج والمراد بالولي هنا الوارث وهو جري على الغالب وإلا فالأجنبي كذلك كما في نظائره وإذا التزم ذلك بعض الورثة اختص به فلا يرجع به على البقية إلا إن أذنوا له ولا عبرة بإذن الولي إذ لا مصلحة للمولى عليه في ذلك وإذا التزم ذلك أجنبي أو وصي فلا رجوع له إلا إن أذن له الوارث بشرط الرجوع أو أطلق على الأوجه والظاهر أن ذلك لا يجري في غير دين الميت ويؤيده قول البغوي في فتاويه لو قال اقضِ ديني على أن ترجع عليّ أو دين فلان على أن ترجع عليّ لم يرجع عليه حيث لم يكن القائل ضامناً عن فلان أ هـ .
وظاهر أن استدعاء إبراء الغير كاستدعاء الأداء عنه وقد ذكر فيه البغوي ما علمت والأوجه في المسئلة الأخيرة قال بعضهم وهو الذي دل عليه النقل أن البراءة لا تصح فإنه لم يبرئه براءة تبرع وإنما أبرأه على أن يتم له ما جرى ولم يتم لفساد الضمان ففي المهمات أوائل الباب الثالث من أبواب البيع عن النص أن الصلح إذا فسد لكونه جرى على الإِنكار فهما على أصل حقهما ويصير المدعي على دعواه وإن قال أبرأتك مما ادعيت عليك أو من بدله من قبيل أنه إنما أبرأه على أن يتم له ما أخذه منه أ هـ .
وعلى ما اقتضاه هذا النص جرى في الأنوار في كتاب الصلح أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا قال إن رددت عبدي فقد أبرأتك عن الدين فهل يصح. فأجاب: بقوله المنقول عن التتمة الصحة إذا أبرأه برىء لأنا إن قلنا الإِبراء تمليك فهو كما لو قال وهذا الثوب لك أو إسقاط فهو إسقاط يجوز بذل العوض في مقابلته.(2/300)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل إذا كان لشخص على آخر دين حال فصار يعطيه في كل وقت شيئاً على سبيل أنه من دينه والآخر يظن أنه هدية فيرسل إليه طعاماً يساوي ثمن ذلك فهل يقع ذلك عن الدين أو يصير مقابلاً له وذمة كل واحد معلقة للآخر إلى أن يقع بينهما مقاصصة أم لا. فأجاب: بقوله العبرة فيها بنية من عليه الدين فيسقط عنه ما أداه لصاحب الدين وإن ظن صاحب الدين أنه إنما يدفع له ذلك هدية وما يرسله صاحب الدين للمدين على جهة مكافأته بما ظنه هدية منه فهو تبرع لا رجوع له به عليه فعلم أن ذمة المدين تبرأ مما دفعه بنية الدين وأنها لا تشتغل بشيء مما أرسله له صاحب الدين.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا كان على شخص دين لآخر وله عليه مثله ولم يقع بينهما مقاصصة فهل تكون ذمتهما معلقة وإن تعذرت المقاصصة بأن كان بينهما مسافة طويلة ذات مفاوز أم تبرأ ذمتهما للتعذر. فأجاب: بقوله إذا كان الدينان المذكوران فيها نقدين واتفقا جنساً وحلولاً وصفة سقط أحدهما بالآخر بلا رضا بخلاف ما إذا اختلفا في الجنس أو الصفة كصحاح ومكسرة أو الحلول والتأجيل أو في قدر الأجل وإن كانا غير نقدين أو أحدهما نقداً والآخر عرضاً فلا تقاص وإن تراضيا ولا فرق فيما ذكر بين أن تطول المسافة بينهما أو تقصر.
وسئل: عما إذا صالح الضامن عن الدين بشيء رجع بالأقل بخلاف ما لو باع عيناً بالدين فإنه يرجع بالدين ما الفرق. فأجاب: بقوله الفرق أن لفظ الصلح يشعر بقناعة المستحق بالقليل عن الكثير كما نقله الرافعي عن البغوي و المتولي بخلاف البيع فإنه يشعر بتفاوت المبيع والثمن في القيمة فعملنا في كل بما هو الأغلب فيه وهذا فرق صحيح وأن سوّى الأذرعي وغيره كالسبكي بين المسئلتين وقالوا وإلا فما الفرق.(2/301)
وسئل: هل يبطل ضمان المريض وارثه مطلقاً أم فيه تفصيل الأجنبي. فأجاب: بقوله الذي ذكروه إن الضمان في مرض الموت إن كان بحيث يثبت الرجوع بأن أذن الأصيل للضامن في الضمان والأداء أو في الضمان فقط أو في الأداء بشرط الرجوع ووجد الضامن مرجعاً فمن رأس المال ولا فرق حينئذٍ بين الوارث وغيره وإن لم يجب رجوع ولا وجد مرجعاً فإن كان الضمان عن وارث فهو وصية له وإن كان عن أجنبي فمن الثلث فإن زاد عليه وأجاز الوارث نفذ وإلا بطل في الزائد فقط وما ذكر عن الأنوار محمول على هذا التفصيل أو مبني على ضعيف وهو بطلان الوصية للوارث.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
وسئل: عمن ادّان مبلغاً وضمنه جماعة فهل يكون كل ضامناً للجميع أو بالقسط. فأجاب: بقوله إن قالوا معاً ضمناه فكل بالقسط وإن قال كل على حدة فكل ضامن للجميع أخذاً من كلام الشيخين وغيرهما في مسئلة الق متاعك في البحر وأنا والجماعة ضامنون أو أنا ضامن والجماعة ضامنون فإنه في الأولى يضمن بالقسط وفي الثانية يضمن الجميع وعلى هذا التفصيل الذي ذكرته يحمل ما مال إليه الأذرعي ونقله عن جماعة أنه لا يكون ضامناً إلا بالقسط وما صححه السبكي تبعاً للمتولي من أنه يكون ضامناً للجميع.(2/302)
وسئل: عن تعيين ضمان الدرك في ملك معين يصح تبعاً أم لا وضمان أرش العيب الذي يخاف من حصوله يصح ويدخل في ضمان الدرك أم لا. فأجاب: بقوله ضمان الدرك هو ضمان الثمن للمشتري إن خرج المبيع المعين مستحقاً مثلاً أو أخذ بشفعة أو ضمان المبيع للبائع إن خرج الثمن المعين مستحقاً مثلاً أو أخذ بشفعة سابقة على البيع ببيع آخر أو ضمان درك رداءة جنس الثمن للبائع أو المبيع للمشتري إذا كان كل منهما في الذمة وشك المستحق عند القبض هل المقبوض من جنس المعقود عليه أو أردأ وكذا لو شرط أحدهما في العوض صفة وخشي أن تكون تلك الصفة غيرها أو ضمان درك نقص صنجة وزن بها الثمن أو المبيع ومثلها الكيل والذراع أو ضمان درك عيب يظهر في المبيع بأن يرد الثمن إذا رد المبيع بالعيب أو في الثمن بأن يرد المبيع إذ رد الثمن بالعيب أو ضمان درك فساد يظهر في العقد بسبب غير الاستحقاق كتخلف شرط معتبر في البيع أو اقتران مفسد به فيصح الضمان في جميع هذه الأنواع للحاجة كما هو مقرر في محله وإذا تقرر ذلك علم منه أن ضمان الدرك لا يجري في غير المبيع والثمن لا استقلالاً ولا تبعاً لأنه إنما جرى فيما مر على خلاف القياس لأجل الحاجة فلا يلحق به غيره لأن ما جاز لضرورة يتقدّر بقدرها وأنه أعني ضمان الدرك إنما يدخل في صور العيب فيما ذكرته وهو صحة ضمان درك عيب يظهر في المبيع بأن يرد الثمن إذا رد المبيع بالعيب أو يظهر في الثمن بأن يرد المبيع إذا رد الثمن بالعيب وأما ضمان درك أرش عيب يجب في المبيع أو الثمن من غير رد لعينهما بأن يقول للمشتري ضمنت لك درك ضمان ما يجب لك على البائع من عيب قديم إن وجدته وسقط ردك لحدوث عيب عندك أو للبائع نظير ذلك فهو باطل كما دل عليه كلامهم في مواضع فقد صرحوا بأن ضمان الدرك إنما يصح فيما مر بعد قبض ثمن إن كان التدارك به أو مبيع إن كان التدارك به قالوا لأن ضامن الدرك إنما يضمن ما دخل في ضمان البائع أو المشتري ولزمه رده على(2/303)
تقدير الاستحقاق أو نحوه وقبل القبض لم يتحقق ذلك أ هـ .
فكذا الإِرش المذكور لم يوجد موجبه حال العقد فلم يحتج إلى ضامنه حتى يجري فيه ضمان الدرك على خلاف الأصل قالوا ولو ضمن لمشتري أرض لغرس أو بناء عهدة ثمنهما وأرش نقص الغراس والبناء لو قلعا باستحقاق صح ضمان عهده الثمن دون الأرش لعدم وجوبه عند ضمانه ومن ثم لو ضمنه فقط قبل القلع ولو بعد ظهور الاستحقاق فإنه يصح إن علم قدره أ هـ .
فكذا يقال في ضمان أرش عيب مطلع عليه في المبيع أو الثمن إن كان بعد ظهوره وعلم قدره صح ضمانه ولا يكون من ضمان الدرك وإن كان قبل ذلك لم يصح ضمان الدرك لعدم وجوبه ومما يؤيد ذلك ما في الروضة وغيرها من أنه لو ضمن عهدة الثمن للمشتري فبان فساد العقد بشرط أو غيره ما عدا الاستحقاق أو فسخ العقد بعيب أو وجب به أرش لحدوث ما يمنع الرد به كحدوث عيب عنده أو انفسخ البيع قبل القبض بتلف المبيع أو نحوه أو بعده بخيار أو تقايل لم يطالب بالثمن أو الأرش ضامن العهدة بل البائع وحده لأن المتبادر من ضمانها إنما هو الرجوع على الضامن بسبب الاستحقاق وفي الروضة وغيرها قبل ذلك لو ضمن عهدة فساد البيع بغير الاستحقاق أو عهدة العيب أو التلف قبل قبض المبيع صح للحاجة إليه ولا يندرج ذلك تحت ضمان العهدة لأن المتبادر من ضمانها إنما هو الرجوع بسبب الاستحقاق أ هـ .
ومعنى ضمان عهدة العيب فيما ذكر كما يعلم بتأمل كلامهم المذكور ما قدمته من أنه يرد الثمن إذا رد المبيع بعيب أو يرد المبيع إذا رد الثمن بالعيب وإذا كان هذا هو المراد بضمان عهدة العيب كما يصرح به كلام الروضة وغيرها فلا تعرض فيها لصورة السؤال بطريق التصريح أصلاً خلافاً لما يتوهم منها ببادىء الرأي وإنما اقتضى كلامها في موضع الصحة في مسئلة السؤال وفي مواضع عدمها وهو الذي يتجه كما قدمته ثم رأيت المسئلة منصوصة بعينها لأئمة المذهب لكنهم اختلفوا فيها فمنهم من رجح الصحة ومنهم من رجح عدمها وعبارة(2/304)
الجواهر لو قال ضمنت لك أرش ما يظهر من عيب فوجهان أحدهما يصح وهو قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
ابن سريج وأورده سليم وثانيهما لا يصح وصححه الماوردي وجزم به الطبري ولتأخر هذين عن ابن سريج واستدراكهما عليه كان ما قالاه أولى بالاعتماد وهو الذي رجحته فيما مر ويوجه أيضاً بأن عدم الصحة في ضمان الدرك هو الأصل مع عدم الحاجة إذ لم يدخل وقته عند العقد بخلاف نحو الفساد أو نقص الصنجة فإنه موجود عند العقد ويخشى معه من فوات عين المبيع أو الثمن كله أو بعضه فمست الحاجة إلى ضمان درك عينهما وأما العيب فلا يترتب على ظهوره وعدم صحة ضمان دركه فوات عين أصلاً لا بعضاً ولا كلاً وإنما يترتب عليه فوات وصف من أوصاف الثمن أو المبيع مع أن سبب ذلك الفوات هو تعاطيه الرد باختياره ومع صحة البيع في جميع المبيع أو الثمن لو لم يرد فلم يكن به حاجة إلى ضمان أرش ذلك العيب فلم يصح كما قلته أوّلاً تخريجاً ثم ظهر أنه المنقول على أحد ذينك الوجهين الذي هو أولاهما بالاعتماد لتأخر الماوردي والطبري عن ابن سريج المصحح لمقابله وإطلاعهما على تصحيحه مع عدم الالتفات إليه على أن الطبري لم يعتد بذلك الوجه المقابل القائل بالصحة حيث جزم بعدمها من غير نظر إلى القائلين بها وقد سبق القمولي إلى حكاية الوجهين السابقين في عين صورة السؤال شيخه ابن الرفعة فنقل عن ابن سريج فيها الصحة ويرجع بالأرش على الضامن وأن بعضهم قال وجهاً واحداً ثم قال وحكى الماوردي إن الضمان في هذه الصورة لا يصح قال وفيه وجه أ هـ .
فأشعر قوله أعني ابن الرفعة عن الماوردي أنه حكى عدم الصحة وقوله وفيه وجه بأن مقالة ابن سريج وجه ضعيف في المذهب وأن المعتمد عدم صحة ضمان أرش العيب وهو ما قدمته ولله الحمد.(2/305)
وسئل: عن مظلوم أذن لآخر في دفع مظلمة عنه فهل له الرجوع عليه أم لا. فأجاب: بقوله نعم له الرجوع عليه كما قالوه في الأسير إذا قال الآخر أفدني بكذ يرجع عليه وإن لم يشرط الرجوع.
وسئل: عن شخص قال من ضمن لي ألف درهم فزوجتي طالق فضمن له الألف شخصان أو أكثر من شخصين معاً أو مرتباً فهل يصح الضمان ويقع الطلاق بائناً أم لا ولو كانت المسئلة بحالها فضمن له كل واحد من زيد وعمرو الألف معاً فهل يقع الطلاق بذلك بائناً وله مطالبة كل واحد منهما بالألف أو لا يطالب كل واحد منهما إلا بخمسمائة. فأجاب: بقوله المراد بالضمان هنا حيث أطلق الالتزام فمتى التزم له بالألف واحد أو أكثر وقع الطلاق بائناً فإن التزم كل من اثنين أو أكثر بالألف معاً فالذي يظهر أنه يتخير في مطالبة أي منهما أو منهم به أو مرتباً وقع بالأول فيطالب بالألف وحده فإن التزم كل ببعض الألف وقع الطلاق عند تمام التزام الألف ويطالب كل بما التزمه إلا الأخير فإنه إذا التزم ما يوفي الألف وزيادة لا يطالب إلا بتتمة الألف لا غير وإنما قلنا ذلك لأن لفظ من يشمل الواحد والزائد عليه ولفظ الضمان المراد به الالتزام أو المنصرف إليه يقع الطلاق في مقابلته وحيث وقع الطلاق في مقابلة مال راجع إلى الزوج فهو بائن ولفظ الألف مع رعاية من يشمل وجود التزامه من واحد أو أكثر كما تقرر كما أنه إذا أراد وقوع الطلاق في مقابلة التلفظ بالضمان لا التزامه فتلفظ به واحد أو أكثر فإنه يقع الطلاق أيضاً لكنه رجعي لا بائن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68(2/306)
وسئل: عما إذا صرح المالك بإبراء الغاصب عن ضمان الغصب والمغصوب باقٍ في يده صحح الرافعي أنه لا يبرأ وصحح النووي أنه يبرأ وحكى الرافعي وجهين فيما إذا صارت الوديعة مضمونة على المودع فأبرأه المالك وصحح أنه يعود أميناً فهل ذلك تناقض في كلام الرافعي أو بين المسئلتين فرق وما الراجح في ذلك. فأجاب: بأن المعتمد ما صححه الرافعي من أنه لا يبرأ وقول السائل أن النووي صحح أنه يبرأ ليس بصحيح لأنه لم يصحح شيئاً من عند نفسه وإنما الذي وقع له في أصل الروضة أنه لما ذكر تصحيح الرافعي عدم البراءة زاد أن غير الرافعي كالبغوي صحح البراءة وهي ظاهر النص في الشامل والمهذب أي وصرح بها المارودي أيضاً ومع ذلك كله المعتمد ما صححه الرافعي كما جرى عليه مختصر والروضة والمتكلمون عليها وغيرهم وقد أشار بعض المحققين إلى وجه ضعف ما فيها وهو أن ما ذكر عن هؤلاء من البراءة إنما هو وجه مبني على صحة البراءة عما لم يجب ووجد سبب وجوبه والأصح أنها لا تصح فكذا هنا ويفرق بين هذا وما قاله الشيخان في الوديعة من أنها إذا صارت مضمونة بانتفاع أو غيره فأحدث له المالك استئماناً أو إبراءً أو إيداعاً أو إذناً في حفظها فإنه يبرأ بأن الإِيداع لا يجامع الضمان لتأصل الأمانة فيه فبالخيانة فيها صارت غير وديعة ومن ثم لزمه ردها فوراً فإذا أحدث له المالك ما ذكر صار ذلك استيداعاً جديداً ويلزمه ارتفاع حكم الأول وما ترتب عليه من الضمان لما تقرر أن الضمان لا يجامع الإِيداع أصلاً وأما الغصب فهو باقٍ لا يرتفع بالإِبراء وإنما المرتفع به على القول بصحة الإِبراء حكمه من الضمان فقط سواء أقلنا بصحة الإِبراء أم لا فتمحض الإِبراء فيه إلى أنه أبرأ عما لم يجب ووجد سبب وجوبه وقد علم أن الأصح عدم صحته.(2/307)
وسئل: عن تضمين وكيل المالك نصيب الفقراء من الزكاة هل يقول ضمنت موكلك أو جعلته ضامناً الرطب بكذا كما في نظيره فيما لو وكله بالضمان حيث قالوا صيغته أن يقول جعلت موكلي ضامناً لك بكذا أم يقول غير ذلك وما هو وكذلك الوكيل في الجعالة إذا أراد أن يجاعل لموكله شخصاً هل يقول إن فعلت كذا فعلى فلان كذا أم لا فأجاب بعضهم بما لفظه أن الوكيل بالتزام الجعل في الجعالة كوكيل الزوجة بالتزام عوض الخلع فله التصريح بإضافة المال إلى الموكل وبالوكالة معاً وبأحدهما فقط كان يقول إن رددت عبد زيد أو حججت عنه فلك في ذمته كذا وذلك بوكالته أو وصايته إليّ ولا يقول فعليّ كذا لأن ذلك استقلال بالتزام المال وتلغو نيته إن نوى ذلك فهل ما قاله صحيح أم لا. فأجاب: بقوله ما ذكر فيه غير صحيح كما هو واضح أما ضمنت موكلك فلخلوه عن الخطاب فهو كبعت موكلك وهو لا يصح لعدم انتظام الصيغة بين البائع والوكيل بل لا بدّ من بعتك لموكلك فكذا هنا لا بدّ من ضمنتك لموكلك وأما جعلته ضامناً فلأنه ليس وكيله حتى يجعله ضامناً وبهذا فارق قول وكيل الضمان جعلت موكلي ضامناً وكيف تقاس تلك على هذه فتعينت الصيغة الأولى ونحوها وما ذكر عن بعضهم في وكيل الجعالة غير بعيد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 68
باب الشركة(2/308)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجلين اشتركا في مال بالسوية وعقدا عليه عقد شركة وتسلم المال أحدهما وتبرع بعمله لصاحبه وتبرع الثاني للمتبرع المذكور بمؤنته من أصل الشركة وربحها من غير أن يعين قدراً معلوماً فإذا قلتم بعدم الصحة في المتبرع الأول والثاني فهل للمتبرع الأول الرجوع على صاحبه بأجرة المثل وهل للثاني مطالبته بالمؤنة أم لا. فأجاب: بقوله إن جعلا المؤنة في مقابلة العمل وجب للعامل أجرة المثل في مقابلة عمله في حصة شريكه وإن لم يجعلاها في مقابلة شيء فلا أجرة له وفي الحالين التبرع بالمؤنة غير صحيح فللشريك الرجوع بحصته منها مطلقاً والله أعلم.(2/309)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته سئل بعض المفتين عن كتاب مشترك لجماعة وفيهم محجور عليه فهل يجوز لأحد مطالعة الكتاب بإذن بعض الشركاء من غير إجازة حيث لا ضرر فإن قلتم لا يجوز فما الفرق بين هذه المسئلة وبين ما نقل عن الجويني من أنه يجوز دخول الدار المشتركة بإذن الشركاء فأجاب بقوله يجوز لكل واحد من الشركاء مطالعة الكتاب المشترك بشرط سلامته والخوف عليه من الأرضة والتراب والغبار وخوف الفساد ولا يجوز لأجنبي أن ينظر في الكتاب إلا بإذنهم والحالة هذه والله أعلم أ هـ .
جوابه فهل جوابكم كذلك. فأجاب: بقوله لا يجوز لشريك ولا لغيره المطالعة في المشترك إلا بإذن جميع الشركاء الكاملين فإن كان فيهم قاصر لم يجز لوليه أن يأذن لأحد في المطالعة فيه إلا بأجرة المثل بشرط المصلحة فإن كان تحت يد أمين كشريك أو وديع وخشي عليه من التلف إن لم يتعهده بالنفض وغيره لزمه ولا يجوز له المطالعة فيه لأجل ذلك خلافاً لما ذكر عن هذا المفتي وكأنه توهم ذلك من قولهم يجب على الوديع لبس نحو الصوف والجوخ وليس كما فهمه لوضوح الفرق بين المسئلتين فإن العت في الثياب لا يندفع إلا أن عبقت فيه رائحة الآدمي فلأجل ذلك جاز اللبس بل وجب بخلاف الأرضة هنا فإنها تندفع من الكتب بمجرد التقليب والنفض من غير توقف على المطالعة فلم تجز نعم إن فرض أنه نظر فيها حال النفض ولم يمضِ زمن لأجل المطالعة لم يبعد القول بحل ذلك ولا ينافي ذلك ما نقل عن الجويني لأن العادة اطردت بأن الشركاء إذا سامحوا بعضهم بسكنى المشترك سامحوه في أن يأذن لمن أراد في الدخول إليه ولا كذلك في الكتب إذ كثيراً ما يسمح الشخص لواحد ويضن به عن أشخاص ويؤيد ما قاله الجويني قول الفتاوى عن الأصحاب يجوز المرور في ملك الغير إذا لم يصر بذلك طريقاً للناس قال في الأنوار ولو منعه المالك منه لم يلزمه الامتناع أ هـ .
فعلم بهذا صحة ما قاله الجويني بالأولى.(2/310)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 82
وسئل: عن رجل أتى بآخر جاهل بالبضائع والأثمان لمنزله وعرض عليه أصنافاً من بضاعته قوّمتها بدراهم معلومة بحسب اختياره ووزن بعضها وفتاه بعضها وجعلها ضمن خيش ومع ذلك الرجل دارهم قدر قيمتها فباعه نصفها بنصف تلك الدراهم من غير أن يميزها ثم عقدا شركة عليها وعلى الدراهم وأذن له في السفر بهما والشراء بهما ما أحب فسافر ثم باعها فنقصت عن تقويمه فهل الخسارة عليهما وهل البيع صحيح والشركة كذلك أولاً وهل يلزم المتصرف مثلها أو قيمتها أو يقبل قوله في مبيعها لأنه أذن له فيه ويرجع بما صرفه عليها وحلفه أنه لم يخنه في وزنها. فأجاب: بقوله إذا لم يرَ المشتري تلك الأصناف الرؤية المميزة لكل منهما عن غيره فالشراء باطل وكذا عقد الشركة فالدراهم كلها على ملك مالكها والأصناف كلها على ملك مالكها لكن تصرف المشتري قد وقع في نصفها بناءً على أنه مشترك فيلزمه في المثلى منها المثل وفي المتقوّم أقصى قيمه من حين القبض إلى التلف وفي نصفها الآخر بناءً على أنه وكيل فيه فلا يلزمه إلا ما باع به إن كان ثمن المثل في المحل المأذون له فيه وليس عليه من الخسارة في هذا النصف شيء وما صرفه على النصف الأول لا يرجع به وما صرفه على النصف الثاني بالإِذن يرجع به ولو تنازعا في قدر وزنها صدق القابض بيمينه في أنه لم يضع يده إلا على القدر الفلاني منها وعلى المقبض البينة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 82
باب الوكالة(2/311)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن تأمل مضمون هذه الألفاظ وما احتوت عليه من التوكيل والإِذن من الموكلة لوكيلها الشرعي وهل هي وكالة من الموكلة عنها وعن ولدها كافة هذه الألفاظ عن الموكلة وعن ولدها أم هي مقتصرة على التوكيل من الموكلة فقط غير داخل فيها ولا في معانيها التوكيل عن الولد وبينوا أن الموثق قال في الوثيقة وكلت فلانة الفلانية فلانة الفلانية في جميع تعلقاتها وجهاتها وإيجار ما ترى في إيجاره من كامل العقار ومشاعه الكائن بكذا وكذا بأجرة المثل فما فوقها وفي قبض الأجرة وغيرها وفي الدعوى بحقوق الموكلة لدى السادة القضاة وغيرهم وكالة صحيحة شرعية مطلقة في ذلك غير مقيدة أقامتها في ذلك مقام نفسها ورضيت بقولها وفعلها وأذنت لها في ذلك كله عن نفسها وعن محجورها ولدها فلان المشمول بحجرها بطريق الوصية عليه من قبل والده المذكور إذناً شرعياً وإذا اتصل بقاضي الشرع الشريف هذا الإِيصاء أو بثبوت الوصي الذي أثبته تصح ذي الوكيلة عن هذا المحجور أم لا. فأجاب: بأن الذي دلت عليه هذه الألفاظ المذكورة أن ذلك وكالة عنها وعن محجورها لأن قوله وأذنت لها في ذلك كله يرجع إلى قوله جميع تعلقاتها وجهاتها وهذا يشمل ملكها ومالها التصرف فيه بالوصية أو غيره فصح رجوع قولها عن نفسها وعن محجورها إلى جميع ما قبله مما يتعلق بها من ملكها وملك محجورها فللوكيل حينئذٍ الدعوى عن هذا المحجور لكن إن وجدت فيه شروط الوكالة عن ولي المحجور والله تعالى أعلم.(2/312)
وسئل: عما لو قال أنت وكيل ببيع كذا وتجيئني بالثمن هذا اليوم وإن لم تجيئني به فلست بوكيل فباع الوكيل ولم يأته بالثمن لكنه قبضه أو لم يقبضه. فأجاب: بأن الذي دل عليه سياق لفظ الموكل أن معنى قوله وإن لم تجيئني به فلست بوكيل إن لم تجيئني به اليوم فلست بوكيل فيه ولا فيما بعده فإذا كان هذا هو مراده أو جهل حالة عملنا بقضيته اتباعاً لمراده في الأول وهو ظاهر ولما دل عليه سياق لفظه في الثاني وتلك القضية إنه إذا لم يجيئه به ذلك اليوم كان معزولاً فيه وفيما بعده فبيعه المذكوران وقع في ذلك اليوم ولم يجيئه بالثمن كان فاسداً لأن الوكالة حينئذٍ موقتة بزمن ومعلق عزلها بشرط وحكمها ما ذكر وحيث صح بيعه فلم يقبضه فلا ضمان عليه وإن قبضه والبيع فاسد كان مضموناً عليه أو والبيع صحيح لم يكن مضموناً عليه إن كان مأذوناً له في قبضه وإلا ضمنه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/313)
وسئل: عن شخص وكل شخصاً معيناً في شيء معين ثم وكل كل مسلم عند تعذره في تعاطي ذلك المعين المذكور فهل يسوغ توكيل الثاني أم لا لجهالته ويكون الحكم كذلك في الوصية أم لا أوضحوا لنا ذلك مرتباً وأزيلوا اللبس أثابكم الله الجنة وفسح في مدتكم ببلده الحرام وبلغكم جميع المرام بجاه محمد عليه الصلاة والسلام. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ توكيل الثاني المجهول صحيح أي إن أراد بعند التعذر أنه شرط للتصرف وفاسد إن أراد به تعليق الوكالة وعلى كل منهما ينفذ تصرفه إذا وجد شرطه أو ما علقه به ولا يضر الجهل به كما بحثه شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقي الله عهده قال وعليه العمل أ هـ .
ويوجه بأنه قياس نظيره الذي ذكروه في الموكل فيه والذي يظهر أنا وإن قلنا بهذا في الوكيل لا نقول بنظيره في الوصي ويفرق بأنه يحتاط فيه بالعدالة وغيرها ما لا يحتاط به في الوكيل فاغتفر الجهل هنا تبعاً ولم يغتفر ثم مطلقاً ولا ينافي ذلك صحة الوصاية مع التعليق والشرط بخلاف الوكالة وإن نفذ التصرف فيها لأن وضع الوصاية على التعليق إذ هي تعليق تصرف بالموت فلم يكن التعليق منافياً لها بخلاف الوكالة فإن وضعها على التنجيز فنافاها كل من التعليق والشرط والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/314)
وسئل: عن شخص وكل آخر في بيع ما هو مرسل صحبته من البضائع من أصناف التجارة ومن فتح حاصل له آخر في بلد آخر معلومة وفي قبض ما فيه وبيعه من البضائع وأذن له في البيع والشراء فيما يراه من الأصناف وإرسال ما يراه من البعض بحراً وبراً إلى بلد الموكل فتصرف في بعض ما أذن له فيه بالبيع وجهز له في تجهيزه صحبة من أذن الموكل أن يكون المرسل من الصنف المذكور صحبته في مركب عينه فجهز الوكيل الصنف المذكور وأكرى عليه براً وبحراً وسلم جميع الكرى عن ذلك وهو نحو ثلاثين حملاً ثم بعد تسلم الجمالة الحمل المذكور والكرى عنه وخرجوا خارج البلد المذكور ورد كتاب من الموكل المذكور بعد إخراج المصنف المذكور إلى الوكيل بعد تسليم الجمالة للحمل المذكور والكرى والحال أن لا قدرة للوكيل على رده لتعذره وعجزه عن ذلك وفي هذه الحالة هربت الجمالة خشية من خروج العمارة الخنكارية والعساكر السلطانية وتضييقهم الدروب والطرق وعسر رد الجمالة والحمل إلى البلد ورد ما أخذوه وقبضوه من الكرى لذلك وفواته عليه ويحتاج في رده إلى مصرف كبير لعوده من خارج البلد بعد تحصيل الجمالة وخلاص الكرى منهم والحمل وحمله وتدخيله إلى مال كثير فرأى إبقاءه على الإِرسال ورأى ذلك رفقاً بمال الموكل من تكرر الكلف والمصروف عليه وتعذره عليه وعجزه عن ذلك فوصل الحمل المذكور إلى المركب المذكور الإِرسال فيه معيناً كما أذن في ذلك فجرى عليه الغرق فما حكم الله في ذلك هل الأَعذار المذكورة أعلاه مقبولة من الوكيل المذكور وتبرأ عهدته من ذلك ولا ضمان عليه لعجزه وتعذره عليه وهل تقبل منه البينة بذلك أو حلفه على ذلك وإذا أقام الموكل المذكور بينة تنافي بينة الوكيل أو حلف يعمل ببينة الموكل أو بينة الوكيل. فأجاب: بأنه إذا عجز الوكيل عن تخليص الأحمال المذكورة ممن أعطاها لهم بأن امتنعوا من إعطائها له لشوكتهم أو هربهم وثبت عجزه ببينة أو بحلفه إن لم يكن له بينة لم يضمن ما غرق منها(2/315)
ولا عبرة بوصول الكتاب إليه حينئذٍ وإن قدر على تخليصها منهم بنفسه أو بالحكام فترك لما رأى في ذلك الحظ للموكل بترك ما يصرف على ردها إلى محلها فإن ثبت أو صدق الوكيل على أن الكتاب الذي جاء خط الموكل أو أمر به وصدقه الوكيل أيضاً على أنه أراد بكتابته ما دلت عليه ألفاظه أو حلف الموكل على ذلك ضمن الوكيل ما أرسله لتقصيره بالإِرسال حينئذٍ ولا عبرة بكونه قصد بعدم الرد الرفق بمال الموكل وأما إذا لم يثبت ولا صدق لوكيل على أن ذلك الكتاب بخط الموكل ولا بأمره أو لم يصدق على أنه أراد بكتابته ذلك فإنه لا ضمان على الوكيل حينئذٍ وإذا أقام الوكيل بينة بالعجز عن الإِرسال وأقام الموكل بينة بالقدرة على الإِرسال قدمت بينة الوكيل كما هو ظاهر لأنها ناقلة عن الأصل الذي هو القدرة على الإِرسال وبينة الموكل مستصحبة لأصل القدرة وعلى القول بعدم تقديم بينة الوكيل هما متعارضتان فيصدق الوكيل بيمينه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال وكلتك تقبض لي جميع أملاكي ببلد فلان وهو ناءٍ عنه وأملاكه عقار ومنقول وبعض المنقول ما يساوي أجرة النقل لو نقل إليه فهل له بيع العقار وما يشق نقله ثم ينقل ثمنه أم لا فما الحكم. فأجاب: ليس للوكيل البيع فيما ذكر في السؤال لأنه لم يؤذن له فيه خصوصاً ولا عموماً بخلاف ما لو أذن ولو عموماً كان أمره بفعل الأصلح أو ما أراد فله في الأولى البيع إن كان أصلح وله في الثانية البيع مطلقاً والله أعلم.(2/316)
وسئل: هل يقوم الوكيل مقام الموكل بقبض الزكاة له من البلد البعيدة عن بلد الموكل. فأجاب: لا يقوم الوكيل مقام الموكل في قبض الزكاة في الصورة المذكورة في السؤال لأن الموكل لم يثبت له حق حتى يوكل في استيفائه وبه يعلم أنه لو انحصر المستحقون في بلد بأن كان فيه من كل صنف ثلاثة فأقل حال حولان الحول مع التمكن جاز لمن سافر معهم بعد ذلك أن يوكل من يقبض له حصته لأن المستحقين إذا انحصروا كذلك ملكوا الزكاة الواجبة في أموال تلك البلد ملكاً حقيقياً يورث عنهم ويستحقون المطالبة به فإذا غاب أحدهم بعد الوجوب ووكل من يطالب له بحقه أو يقبضه له نفذ ذلك التوكيل والله أعلم.
وسئلت: عمن وكل في شراء بقرة فاشتراها وسلم الموكل ثمنها وقبضها فبقيت معه مدة حتى كثر نسلها ومؤنتها فقال الوكيل لم اشترها إلا لي وأراد أخذها ونسلها وتغريم موكله منافعها ما الحكم. فأجبت: بقولي يصدق الوكيل بيمينه في أنه اشتراها لنفسه ما لم يثبت أنه قال اشتريت لموكلي أو نحوه مما لا يمكن معه وقوع العقد للوكيل وإذا صدقناه بيمينه أخذها ونسلها وغرم واضع اليد عليها تعدياً أجرة مثلها مدة وضع اليد وطلبه شراها منه اعتراف له بالملك فليس له بعده الدعوى به فإن طلب شراء بعض نسلها كان اعترافاً فيما طلب شراءه فقط.(2/317)
وسئل: عن الوكيل إذا أخل بشرط بأن قال له لا تبع بالنسيئة ولا تدخل البلدة الفلانية ونحو ذلك وخالف فهل تفسد الوكالة فإذا قلتم بفسادها وتصرف فيها بعد الفساد فهل يكون تصرفه هذا صحيحاً وربح ذلك لمن يكون وإذا تلف المال هل يضمن وهل الوكالة والإِذن سيان بمعنى واحد أو بينهما فارق كقوله أذنت له ببيع هذا أو وكلته ببيع هذا أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: إذا أخل الوكيل بالشرط كأن قال له موكله لا تبع أو لا تشترِ بنسيئة فباع أو اشترى بها بطل البيع أو الشراء ولا ربح للوكيل ولا لموكله بل العين باقية على ملك مالكها لم تخرج عنه فلا يتصور هنا ربح لأن العقود الواردة عليها من الموكل والوكيل وفروعهما كلها باطلة وإذا خالف الوكيل الشرط وباع فاسداً وسلم المبيع ضمنه لتعديه وكذا لو استرده وتلف في يده والوكالة أخص من مطلق الإِذن بدليل قولهم حيث فسدت الوكالة ولم يفسد الإِذن فتصرف الوكيل على وفقه صح التصرف رعاية لعموم الإِذن دون خصوص الوكالة وفائدة صحة الوكالة مع نفوذ التصرف في فاسدها استقرار الجعل المسمى إن كان بخلافه في الفاسدة فإنه يسقط وتجب أجرة المثل والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/318)
وسئل: عن شخص أرسل لآخر فضة ليبيعها له بقدر معين فلم تسوِ إلا دون ذلك فأمر صاحب الفضة شخصاً آخر بأن يطالب ذلك الشخص الأول بالفضة ويأخذها منه ويأتي بها لصاحبها فجاء وأخذها ثم سافر بها إلى مالكها ليدفعها له ثم قال إنها سرقت أو أنها سقطت مني ولا علم لي وقال أنا أعطي ثمنها وأعطي مالكها بعض الثمن ثم إنه امتنع من إعطاء باقي الثمن فما حكم الله في ذلك. فأجاب: بقوله إن قصر قابض الفضة المذكورة في حفظها بأن لم يحكم ربطها أو جعل الربطة من داخل الثوب فانحلت ضمنها وإن لم يقصر في حفظها أو ادعى أنها سرقت منه أو أنه لم يقصر في ربطها ولا فيها صدق يمينه ولا غرم عليه وله الرجوع بما غرمه إن أعطاه على ظن أنه واجب عليه والله أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن نذر عدم مطالبة مدينه صح ولزم فلو وكل من يطالبه فهل تصح الوكالة وللوكيل مطالبته أو لا. فأجاب: بقوله قضية ما ذكروه في الأيمان وغيرها الصحة والمطالبة حالاً إذ النذور والأيمان أخوان وعليه جرى بعض المتأخرين لأنه علق النذر بفعل نفسه وفعل الوكيل غير فعله ويدل لذلك أنه لو علق النذر بقربة فقال لله عليّ إن طالبت فلاناً بشيء قبل مضي شهر مثلاً عتق عبدي سالم ثم طالبه عتق سالم بخلاف ما لو وكل فإنه لا يعتق اتفاقاً فإن قلت شرط الموكل أن يكون قادراً على مباشرة ما وكل فيه قلنا هذا أغلبي لا كلي فقد استثنوا من ذلك مسائل كثيرة كالأعمى يوكل في نحو البيع ومن حلف لا يشتري من زيد مثلاً فوكل صح مع عجزه عن مباشرة ذلك بنفسه بمقتضى الحلف وإنما منعوا ذلك في النكاح لأن الوكالة فيه سفارة محضة وقد جعلوا التوكيل من الطرق الموصلة إلى انحلال الدور في مسائله.(2/319)
وسئل: عما إذا مات الوكيل ببيع عين ولم توجد في تركته ولا وصي بثمنها وجهل الورثة حاله فيها وقد كان غرق في البحر ونهب في البر فهل يضمن ومن يصدق في قيمته. فأجاب: بقوله مقتضى كلامهم في المودع وعامل القراض أنه يضمن وإن بحث الغزي خلافه وذكر مثله في البيان ومحل ضمانها التركة كالدين ولو وصى بها في مرضه أيضاً مميزاً لها عن غيرها ولم توجد فلا ضمان والمصدق في القيمة الغارم ويؤيد ما ذكرته قول التوشيح إذا لم يعرف من حال الأمانة شيء وجب ضمانها في التركة ولا فرق بين الوديعة وغيرها من سائر الأمانات نعم إذا ادعى الوارث مسقطاً من تلف أو رد مورثه وحلف عليه فلا ضمان كما اقتضاه ما في الروضة عن الإِمام وصورة حلفه أنه إن ادعى التلف حلف عليه وإن اختلفا في التفريط حلف على نفي العلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83
وسئل: رضي الله عنه عما إذا وكل ببيع داره وهو يجهلها هل يصح. فأجاب: بقوله نعم يصح لأنه لا يشترط علمه عند توكيله كما في فتاوى القفال.(2/320)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص له أمة في يد وكيله فهربت إلى دار رجل فحفظها ونادى عليها فظهر الوكيل فقال له امضِ معي إليها فامتنع ومالكها غائب والرجل جاهل برفع الأمر إلى الحاكم فبعد ذلك هربت من عنده من غير تفريط فهل يضمنها ولو أنه وجدها خارج بيته فأخذها إليه وطلبها الوكيل فقال أعطني أشرفيين وخذها فلم يعطه ثم هربت من بيته فهل يضمنها وإذا ادعى مالكها أن وكيله طلبها من هي معه فامتنع إلا بتسليم أشرفيين وأقام بينة وادعى الآخر أن الوكيل امتنع من أخذها وأقام بينة فأيهما تقدم. فأجاب: بقوله إذا دخلت الجارية المذكورة دار رجل من غير تعرض منه لها ولم ينقلها فهربت لم يضمنها وإن عرف مالكها ولم يخبره بالحال فإن أخذها بيته ثم امتنع من تسليمها للوكيل بعد الطلب وثبوت وكالته ضمن ولا تعارض بين البينتين المذكورتين لأنه متى ثبت امتناعه من تسليمها للوكيل ضمنها وإن امتنع الوكيل من القبض بعد نعم لو أرختا الامتناعين بتاريخ واحد تعارضتا ولا ضمان وقد يتصور اجتماع الامتناعين في زمن واحد مع تضمين أحدهما وذلك حيث طلب من الوكيل أن يقبضها بشرط أن يسلم الأشرفيين فامتنع الوكيل من ذلك.
وسئل: عمن وكل غيره في فسخ عقد في عين وبيعها من آخر فهل يصح. فأجاب: بقوله نعم الأوجه أنه يصح.(2/321)
وسئل: عن إنسان وكيل عن آخر على متجر تحت يده باع فيه واشترى أسوة أمثاله فلما أراد الحضور إلى موكله ترك بعض البضاعة بحاصل موكله وحمل بعضها في البحر وبعضها في البر فورد عليه كتاب من موكله بمنعه من الحضور بالصنف الفلاني مثلاً والحال أن الوكيل ما ورد عليه الكتاب إلا وقد جهز الصنف الذي ظهر أنه نهاه عن الحضور به مع العرب وأكرى عليه معهم وتفرقوه وظهروا به إلى ظاهر المدينة التي ورد إليها كتاب الموكل المذكور فجاء الوكيل لما عسر عليه عود الصنف المذكور وفوات الكراء على الصنف المذكور براً وبحراً إلى بعض التجار وعرفهم بورود الكتاب عليه من موكله وأنه منعه من الحضور بالصنف الفلاني وقال لا أقدر على عود ذلك وأخشى أن يفوت الكراء على موكلي عند الجمالة وصاحب المركب وتوكلت على الله وأرسله والحال أن الصنف المذكور نحو تسعة وعشرين حملاً فحصل على الصنف المذكور أمر الله وفات منه نحو الثلثين وسلم الثلث فهل إذا عجز الوكيل عن إعادة الصنف المذكور إلى محله لعذر واضح هو في أوان خروج العمارة الخنكارية والباشا والعساكر وتضييقهم في الدواب والتضييق على أربابها وجاء لهم في تلك الأيام يضمن الوكيل ما فات أم لا وإذا وجد بينة تشهد بذلك تقبل أم لا. فأجاب: بقوله إذا عجز الوكيل عن تخليص الأحمال المذكورة ممن أعطاها له ليحملها إلى موكله وكان موكله قد أذن له في حملها إليه فتلف بعضها أو كلها في الطريق من غير تقصير من الوكيل فلا ضمان عليه إن أثبت العجز المذكور أو حلف عليه ولا عبرة بوصول الكتاب المذكور إليه حينئذٍ على أن الكتاب لا يعمل به في غير هذه الصورة إلا أن ثبت وصدق الوكيل على أنه خط موكله أو أمر به وصدقه الوكيل أيضاً على أنه أراد بكتابته ما دلت عليه ألفاظه وقد ذكر الغزالي رحمه الله في فتاويه ما يدل على ما ذكرته أوّلاً من عدم الضمان وذكر الماوردي و الروياني ما يصرح بما ذكرته في مسئلة الكتاب.(2/322)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83
وسئل: هل يجوز التوكيل بالخصومة والاستيفاء والمصالحة بما يرى الوكيل أم لا. فأجاب: بقوله نعم يجوز كما صرحوا به فقد قالوا يصح التوكيل في الخصومات من جانب المدعي والمدعى عليه وفي استيفاء العقوبات والحدود التي للآدمي وسائر الحقوق قالوا ولو قال له بع بما شئت صح وكان إذناً في بيعه بالعرض فكذا قوله صالح بما ترى يصح أيضاً وأفتى ابن الصلاح بأنه لو وكله في المطالبة بحقوقه فله المطالبة بما ثبت منها للموكل بعد الوكالة كما يصح توكيله في بيع ثمر شجرته الذي يحدث وفارق بطلانه ببيع عبد سيملكه وما لو وكله في التصرف في أملاكه ثم حدث له ملك بإرث فإنه لا ينفذ تصرفه فيه كما أفتى به التاج الفزاري وغيره بأن الأولى الحق فيها موجود لكن لم يثبت حالاً وفي الثانية مالك لأصل الثمرة بخلاف الثالثة والرابعة فإنه توكيل فيما لم يملكه ولا ملك أصله ولا هو موجود حال الوكالة ومن ثم صرح الشيخ أبو حامد بصحة توكيله فيما يملكه الآن وما سيملكه فالحاصل إن شرط الموكل فيه أن يملك الموكل التصرف فيه حين التوكيل أو يذكره تبعاً لذلك أو يملك أصله.
وسئل: عن الموكل إذا طلب من وكيله بياناً لتصرفاته فيما وكل فيه هل يلزمه البيان وهل تعتبر دفاتره وهل تقبل دعواه زيادة على مصروف كتبه أو لا. فأجاب: بقوله أطلق بعض الأئمة أن كل أمين طلب منه البيان والحساب لزمه و لا عبرة بما في الخط وإنما العبرة بما يقع في الجواب والدعوى وإذا أقر بأنه صرف كذا عن كذا ثم ادعى زيادة لم يقبل لكن يؤخذ من كلام الأئمة في بعض المواضع أنه حيث ذكر عذراً يقبل بالنسبة لتحليف الموكل أنه لا يعلم ذلك والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/323)
وسئل: هل يجوز التوكيل في إخراج الزكاة من مال الوكيل أو من دين عليه للموكل وإذا كان له في ذمة وكيله ألف فقال له أسلمه في كذا من طعام فأسلمه هل يصح أيضاً. فأجاب: بقوله صرح الشيخان بجواز التوكيل في إخراج زكاته من مال الوكيل ويرجع بما أداه على ما ذكر في التوكيل بقضاء الدين ولو باعه قدر الزكاة أو النصاب كله لم يصح في الأولى ولا في قدر الزكاة في الثانية فلو تلف المبيع فأذن البائع للمشتري في إخراج قدر الزكاة صح وجرى التقاص فلو قال له ادعني من ديني الذي عليك لم يقع عن الآذن فيما يظهر لأنه لا يصح كونه قابضاً لما في ذمته من نفسه ومقبضاً له عن المالك للمستحقين وقال بعضهم يظهر أنه لو أدى وقع الموقع واستدل له بأن الوكالة الفاسدة إذا عمل الوكيل فيها بعموم الإِذن الضمني صح تصرفه وبأنه لو أذن للمستأجر خارج العقد في صرف ما في ذمته من الأجرة على العمارة صح وبقول الغزي في أدب القضاء لو قال للمديون إذا مت ففرق مالي عليك من الدين وهو كذا إلى الفقراء فالذي يظهر صحة هذا وهو إيصاء وبقول القاضي حسين لو كان له في ذمة إنسان درهم فأمره أن يشتري له به طعاماً فاشترى كما أمر ودفع الثمن إلى البائع وقبض الطعام وتلف في يده فذمته بريئة من الدرهم ويصير في التقدير كأنه وكل البائع بقبض ذلك الدرهم من الذي في ذمته وإن لم يكن معيناً كما لو اجتمع لها عليه النفقة فأمرته أن يكيل فيدفع إلى الطحان كذا فيطحنه ففعله فالطحان يكون من جهتها كالوكيل ولا يشترط تعيينه كما لو قالت أطعم عن كفارتي عشرة مساكين عشرة أمداد من طعام كذا يجوز وإن لم تكن المساكين متعينين أ هـ .
ويجاب عن الأول بأن محل النظر لعموم الإِذن في الوكالة الفاسدة حتى يصح التصرف ما لم يقترن بمانع وقد اقترن هنا بمانع وهو أن الموكل لا يدخل الدين في ملكه إلا بقبض صحيح ولم يوجد فلم يؤدِ من دينه الذي في ذمته وحينئذٍ فلا يصح التصرف لأن الإِذن لم يشمله لأنه إنما أذن له(2/324)
في الأداء من دينه وقد علمت أن الدين لا يتعين إلا بقبض صحيح ولم يوجد وأما ما ذكروه في مسئلة العمارة فخارج عن القاعدة ومن ثم قال ابن الرفعة ولم يخرجوه على اتحاد القابض والمقبض لوقوعه ضمناً أي لا مقصوداً وسببه أن ذلك وقع بعد انبرام العقد فلم يكن مقصوداً به فيصح أن يقال لا يقاس عليه لخروجه عن القاعدة ويصح أن يقال الفرق بينه وبين مسئلتنا أن تلك الإِذن فيها وقع بعد انبرام العقد فلم يقصد بالعقد وأيضاً فالمستأجر يعود عليه من ذلك مصلحة في بقاء العين فسومح له في ذلك رعاية لبقاء العقد ما أمكن فإن المؤجر قد لا يعمر فيفسخ وأما هنا فعقد الوكالة وقع التصريح فيه بالأداء من الدين فلم يقع ضمناً بل مقصوداً ولا يعود عليه منفعة كالمنفعة في تلك فافترقا وأما مسئلة الغزي فالمتجه فيها أنه إن كان له ورثة توقفت صحة التفرقة على قبضهم منه ثم إقباضهم له وليس في كلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/325)
الغزي ما ينافي ذلك فإنه قال والذي ظهر لي صحة هذا وهو إيصاء أي صحة قول الموصى له ذلك لأنه إيصاء له وأما صحة التفرقة فلم يتعرض لها فلا حجة فيه وإن لم يكن له ورثة قام الحاكم مقامه وأما كلام القاضي فيوافقه قول الماوردي لو وكله في شراء سلعة وصفها بثمن من جملة دين له عليه فاشتراها لموكله بثمن وأداه من جملة دينه صح وبرىء الوكيل من ذلك أ هـ .
لكن صرح ابن كج بالبطلان وبه يعلم أن القاضي والماوردي ماشيان على أنه لا يضر اتحاد القابض والمقبض وقد صرح الشيخان بخلافه وأما مسئلة السلم المذكورة في السؤال فقال ابن سريج فيها بالصحة فإذا قبض الألف برئت ذمته ووافقه القاضي أبو الطيب ويوافقه كلام القاضي والماوردي السابق لكن قال الشيخ أبو حامد أنه سهو مخالف للنص وبه يعلم ضعف ما مر عن القاضي والماوردي قال الشيخ أبو حامد فطريقه أن يوكل في إسلام الألف في كذا فإذا فعل الوكيل قال له الموكل حصل عليّ ألف لهذا ولي عليك ألف فادفع الألف الذي لي عليك إليه فإذا فعل صح أي لأنه صار حوالة قال ابن سريج ولو قال أسلم لي في كذا وأدّ رأس المال من مالك وارجع على ففعل صح وقيل لا يصح كذا في أصل الروضة زاد النووي الأصح عند صاحب العدة والشيخ أبي حامد أنه لا يصح قال أبو حامد ما قاله أبو العباس سهو مخالف وقد نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على أنه لا يجوز قال فطريقه أن يقول أسلم ألفاً في كذا فإذا عقد العقد قال اقضِ عني ألفاً لأَدفع إليك عوضها وعليه فيفارق اشتر لي عبد فلان بثوبك هذا حيث يصح ويقع عن الآمر ويرجع عليه كما قال الشيخان في الباب الثالث من الوكالة بأن السلم ضيقوا فيه فلم يكتفوا بالأمور التقديرية بخلاف نحو البيع فيقدر دخول الثوب في ملك الآمر كما في أعتق عبدك عني على كذا وبهذا تعلم صحة ما ذكره أبو حامد ثانياً من الطريقة الثانية خلافاً لابن الصباغ إذ ليس فيها تقدير دخول شيء في ملك الموكل لأنه لما عقد له بالألف صارت في(2/326)
ذمة الموكل فإذا أذن في المجلس للوكيل في دفعها عنه كان ذلك قضاء لدينه وهو جائز بخلافه في مسئلة ابن سريج فإنه إذا جعل رأس المال من ماله احتيج إلى تقدير دخوله في ملك الموكل وذلك لا يكفي في السلم كما تقرر وقول بعضهم مسئلة التوكيل في السلم مساوية لمسئلة التوكيل في الشراء مردود لمخالفته لصريح كلام الشيخين وعلم مما قررناه في المسئلة الأولى أن الورع لمن اشترى زكوياً ممن يظن أنه لا يزكي أن يستأذنه في إخراجها عنه من المبيع ويتبرع بذلك فلا يرجع بمقابله من الثمن فإن تعذر البائع فالساعي فإن تعذر فالقاضي بناءً على شمول توليته للنظر في أموال الزكاة وهو ما نقله الشيخان عن الهروي هذا إن لم يعلم موت المالك وإلا استقل بالإِخراج إذ للأجنبي التبرع عن الميت بإخراج الزكاة عنه وبتبرعه يتبين الملك في قدر الزكاة من المبيع للورثة فيجب تسليمه إليهم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/327)
وسئل: عن غريب استناب في قبض الزكاة فهل تصح وإن غاب وهل يجوز التوكيل في إخراج زكاة الفطر. فأجاب: بقوله في أصل الروضة عن النص يستحقون أي الأصناف الزكاة يوم القسمة وعن نص آخر يستحقون يوم الوجوب وعن الأصحاب حمل الثاني على ما إذا لم يكن في البلد إلا ثلاثة أو أقل أي من كل صنف ومنعنا النقل فيستحقون يوم الوجوب حتى لو مات أحدهم فنصيبه لورثته وإن غاب أو أسر فحقه بحاله وإن قدم غريب لم يشاركهم وحمل الأول على ما إذا لم ينحصروا في ثلاثة أو كانوا وجوّزنا النقل فيستحقون بالقسمة فلا حق لمن غاب أو مات أو أسر بعد الوجوب وقبل القسمة وإن قدم غريب شاركهم أ هـ .
وبه يعلم أن الموكل إن كان من المحصورين وحضر يوم الوجوب صحت استنابته وإن غاب بعد لاستقرار ملكه وإلا لم تصح إذ لا حق له وإن كان من غير المحصورين استحق إن كان حاضراً عند القسمة ولا يكفي حضور وكيله حينئذٍ كما اقتضاه كلامهم وصرح به ابن رزين تلميذ ابن الصلاح وإن تردد الأصبحي ووجهه أنه لم يتعين له حق حتى يوكل في قبضه لأن للمفرق أن يحرمه ويعطي غيره فأي شيء تعين له حتى يوكل في قبضه وأما التوكيل في إخراج زكاة الفطر فيجوز وفيه وجه مرجوح وشرط الجواز كما اقتضاه كلامهم أن يكون بعد دخول رمضان إذ لا يجوز تفريقها إلا حينئذٍ وأما قبله فلا يجوز التوكيل فيها لامتناع إخراجها وقد قالوا شرط الموكل والوكيل صحة مباشرة كل منهما ما وكل أو وكل فيه ولا يضر كونهم أوردوا على عكس ذلك وطرده صوراً كثيرة لأن أكثر قواعد الأصحاب أكثرية لا كلية ومع ذلك يستدلون بها فيما لم يصرحوا بدخوله ولا خروجه عنها ورجح بعض المتأخرين الصحة ولو قبل رمضان وأطال في الاستدلال له بما لا يجدي وقد أشرنا إلى كثير من شبهه بقولنا ولا يضر الخ. وأما ما قاس عليه ما ذكره من أنه لو وكل المحرم وكيلاً ليزوّجه بعد التحلل أو أطلق صح فكذا هنا فجوابه وضوح الفرق بين المسئلتين وهو ثبوت الولاية للولي قبل الإِحرام(2/328)
واستمرارها فيه ولهذا لو وكل ثم أحرم لم ينعزل فالإِحرام مانع طارىء للمباشرة لا للإِذن كما صرح به الرافعي وغيره لأن أهليته وولايته موجودة ومن ثم لو زوّج القاضي حال إحرامه كان مزوّجاً بالنيابة عنه كما ذكروه في بابه فصح توكيله وأما هنا فالموكل لم يثبت له قبل رمضان ولاية التصرف بإخراج الزكاة بوجه من الوجوه فكيف يصح أن يوكل غيره حينئذٍ سواء أطلق أو قال لتخرج بعد دخول رمضان وإذا تأملت هذا الفرق اندفع عنك كثير من شبه المخالف وقياس مسئلتنا ما قاله الشيخان في مسئلة التوكيل بتزويج ابنته المزوجة والمعتدة من أنه لا يصح لأنه لا يملك التزويج حينئذٍ فبطل توكيله فيه لعدم ملك الموكل ما وكل فيه وفارقت هذه مسئلة الإِحرام بأن الولاية في المحرم باقية كما مر بخلافها هنا ومن ثم لو وكل ثم أحرم لم ينعزل ولو وكل في تزويج بنته وهي غير مزوجة ثم زوّجها الولي أو وكيل له آخر انعزل فلو طلقت وزال المانع لم يكن له أن يزوّج بتلك الوكالة لأن خروج محل التصرف عن ملك الموكل يقتضي انعزاله وعجيب من قول المخالف ومعلوم أن المتوقف على دخول رمضان إنما هو الإِخراج لا الإِذن فيه إذ الإِذن إنما يتوقف على الأهلية وهي غير موجودة وإن منع مانع من صحة ذلك التصرف الخاص في الحال فهو غير قادح في الأهلية إذ الأهلية لا تتجدد بدخول الوقت كما لا تتجدد بزوال الإِحرام ألا ترى أنه يصح من هذا الموكل الآن إخراج فطرة العام الماضي ولهذا لم يقيد الأصحاب صحة التوكيل بذبح الأضحية والهدي وتقديم النية فيهما وتفويضها للوكيل بدخول الوقت إلى آخر ما ذكره ووجه العجب أن قوله ومعلوم إلى قوله ألا ترى كله دعوى لا دليل عليها فليس بمعلوم ولا مظنون وأما قوله ألا ترى فلا يصلح دليلاً وأما قوله ولهذا الخ. فليس في محله لأن كلامهم في باب الوكالة يفهم أنه لا بدّ في صحة التوكيل فيما ذكر من دخول الوقت أيضاً. قال: وقد اتضح لي دليل ذلك من حديث الصحيحين عن عائشة رضي(2/329)
الله تعالى عنها قالت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83
فتلت قلائد هدي النبي ثم أشعرها وقلدها أو قلدتها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حل وفي رواية لهما أيضاً عنها أنها فتلت قلائد هدي رسول الله ثم بعث بها مع أبي بكر فلم يحرم بها على رسول الله شيء أحله الله تعالى له حتى نحر الهدي وجه الاستدلال أن وقت ذبح الهدي المتطوّع به إنما يدخل بدخول وقت الأضحية عندنا أو ببلوغ المحل على القول به والبعث المذكور مع أبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ في حجه بالناس عام سنة تسع كما قاله الحافظ ابن حجر وهو واضح في كونه قبل الوقت المذكور إلى آخر ما ذكره وجوابه إن هذه واقعة حال تطرق إليها احتمال إن هذه هدي منذور أو متطوع به وليس في الحديث ما يقتضي كونه تطوّعاً فهو احتمال قريب فسقط بها الاستدلال والمنذور يجوز إرساله مع الغير كما قالوه في أواخر باب النذر وهو وإن كان فيه توكيل قبل الوقت إلا أن الضرورة ألجأت إلى ذلك لأنه يتعين إرساله وقد لا يتيسر له السفر فجوّز له التوكيل في ذلك قبل الوقت للضرورة وما جاز لضرورة يقدر بقدرها فلا يقاس عليه ويؤيد ذلك صحة الإِجارة على الحج قبل وقته إن كانت وقت السير المعتاد وصحة إذن المغصوب فيه مطلقاً وأيضاً تطرق إليها احتمال أنه ملكها لأبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ وطروق هذا كافٍ في دفع الاستدلال المذكور.(2/330)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن أعطى وكيله ديناراً وقال له اشترِ بهذا شيئاً فهل هو كقوله اشترِ بعينه حتى إذا اشترى في الذمة يقع للوكيل دون الموكل أو لا فيتخير. فأجاب: بقوله قضية كلامهم هنا وصريحه في قولهم لو قال له اشترِ بهذا الدينار شاة جاز أن يشتري بعينه وفي الذمة أنه هنا مخير بين الشراء في الذمة بالعين وفي الحالتين يقع الشراء للموكل لكن سوّى بعض الأصحاب بين الصيغتين فعليه إذا اشترى في الذمة يقع له وإلى اختيار هذا يومىء كلام بعض شراح المنهاج.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/331)
وسئل: عن رجل وكل آخر في طلاق زوجته فخالع فهل يقع الطلاق أم لا. فأجاب: بقوله عبارة الروضة ولو وكل رجلاً في طلاقها فخالع فإن قلنا الخلع فسخ لم ينفذ وإن قلنا طلاق قال البوشنجي الذي يجيء على أصلنا أنه لا ينفذ أيضاً لأنه يمنعه الرجعة إن كان بعد الدخول قال ولو وكله في الطلاق فطلق على مال إن كان بحيث تتصوّر الرجعة لم ينفذ وإن لم تتصوّر بأن كان قبل الدخول أو كان المملوك له الطلقة الثالثة فذكر في نفوذ احتمالين لأنه حصل غرضه مع فائدة أخرى لكنه غير مفهوم من التوكيل المطلق وقد يتوقف في بعض ما ذكره حملاً ودليلاً أ هـ .
وعبارة أصلها في المسئلة الأولى الذي يجيء على أصلنا أنه لا ينفذ أيضاً لأن للخلع صيغة وللطلاق صيغة فإن كان ذلك بعد الدخول فيقطع بعدم النفوذ لأنه وكل بطلاق رجعي فليس للوكيل قطع الرجعة أ هـ .
وعبارته في المسئلة الثانية كعبارتها المذكورة فيها ووجه توقفهما ما نقله الأذرعي أن الخلع أحد نوعي الطلاق والتوكيل في جنس توكيل في أنواعه لكن متى اقتضى العرف التخصيص بنوع حمل عليه أ هـ .
وما نقله الزركشي من أنه فرق بين أن يأتي بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق وذكر في الثانية احتمالين وجزم في الأولى بعدم النفوذ مع أنه لا فرق بينهما لأن الخلع إما صريح في الطلاق أو كناية فإن كان صريحاً لم يضر اختلاف اللفظين بلا خلاف كما لو قالت طلقني بألف فقال خالعتك أو خالعني بكذا فقال طلقتك أو وكل وكيلاً بالطلاق فقال: فارقتك أو سرحتك وإن كان كناية فكذلك على المذهب أ هـ .
وأقول يؤيد هذا التوقف قولهم في الوكالة لو أمره بالشراء بالعين أو في الذمة تعين لاختلاف أحكامهما فإن وكله في الشراء ولم يعين له شيئاً تخير بين الشراء بالعين والشراء في الذمة لأن الشراء يتناول الأمرين فكل منهما مأذون فيه فكذا يقال هنا التوكيل المطلق يتناول الطلاق بعوض وغير عوض فلم يخالف الموكل فكان القياس الوقوع في المسئلتين فجزم ابن المقري في الثانية(2/332)
وهي ما لو وكله في الطلاق فطلق بمال بعدم النفوذ حيث تصوّرت الرجعة قياساً على الأولى وهي ما لو وكله فخالع فيه نظر لما تقرر ويؤيده أيضاً ما نقله الأذرعي وأقره وإن عبر عنه بقيل لأنها في مثل ذلك ليست للتضعيف من أن الاحتمال الذي أبداه البوشنجي في الثانية وهو بعيد جداً ومن أن ما ذكره في الأولى من عدم الوقوع فيه نظر قال والأشبه أنه يقع لأنه وكله بالطلاق فإذا أوقعه بأي لفظ كان ينبغي أن يقع ولا يثبت المال حيث كان في ثبوته ضرر على الموكل كما لو وكله أن يطلق وكان بعد الدخول لأن قضية قوله أن يطلق طلاقاً رجعياً فإذا طلق في هذه الحالة لا يثبت لكن هل يقع الطلاق هذا محل النظر والأشبه الوقوع كما أفهمه كلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/333)
القفال ولا ينظر حينئذٍ إلى تخالف لفظ الخلع والطلاق لأن لفظ الخلع إما صريح في الطلاق أو كناية ولو قال له طلق زوجتي فطلقها بصريح أو كناية ونوى وقع على المشهور وأيضاً فلو قالت له طلقني على كذا فقال خالعتك وقع إذا قلنا إن الخلع طلاق أ هـ .
ثم قال الأذرعي وأما الاحتمال الثاني للبوشنجي أي وهو عدم الوقوع الذي جزم به ابن المقري فقد يوجه بأن قضية توكيله أن يملكها بضعها مجاناً فإذا ملكها إياه بعوض لغا تصرفه كما لو وكله أن يهبها عيناً فباعها منها فتأمله أ هـ .
وفيما وجه به نظر إذ قوله قضية توكيله أن يملكها بضعها مجاناً ممنوع بما قدمه من أن التوكيل في الطلاق جنس تحته نوعان هما الطلاق بعوض وغير عوض فالتوكيل في الطلاق لا يقتضي عدم العوض كما أنه لا يقتضي العوض بخلاف التوكيل في الهبة فلم يصح قياسه ما هنا على التوكيل في الهبة فإن قلت قوله طلقها ليس بعام في الرجعي والبائن فليحمل على الرجعي لأن المال لم يتعرض له والأصل عدمه قلت هو وإن لم يكن عاماً لكنه مطلق والمطلق فيه شمول أيضاً لكن على طريق البدلية بخلاف العام فإن الشمول فيه على جهة المعية وعلى كل فلفظ الموكل يتناول الأمرين لكن إن قلنا بالعموم تناولهما معاً أو بالإِطلاق تناولهما على البدل فلا فرق بين العام والمطلق فيما نحن فيه فليتأمل والحاصل أن كلام الشيخين في المسئلة الأولى يقتضي تقرير البوشنجي على ما قاله من عدم الوقوع فيها إلا أن يجعل توقفهما في الحكم في قولهما حكماً عائداً إليها وحينئذٍ فالأوجه من حيث المعنى وقياس كلامهم في الوكالة كما قدمته الوقوع فيها وفي الثانية واعترض الإسنوى ما ذكراه هنا عنه من عدم النفوذ حيث أدّى إلى بطلان الرجعة بما نقلاه بعد عن القفال وهو المعتمد من أنه لو وكله في تطليق زوجته ثلاثاً فطلقها واحدة بألف وقع رجعياً فلا مال ورد بأن صورة ما هنا كما يومىء إليه كلامهم أن لا يخالف الوكيل الزوج في العدد وكلام القفال فيما(2/334)
إذا خالف فيه ولك أن ترد هذا الرد بأنه كان مقتضى القياس عدم الوقوع أصلاً في مسئلة القفال للمخالفة الصريحة كما لو وكله في عتق عبد فأعتق نصفه فإنه لا يعتق منه شيء على وجه للمخالفة فإذا لم ينظروا هنا لصريح المخالفة بل أوقعوه معها فلأن يقع في مسئلة البوشنجي بقسميها بالأولى لأنه لا مخالفة لما مر من تناول التوكيل بالطلاق للتطليق بعوض وغير عوض ومن ثم نقل الأذرعي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83(2/335)
كلام الإسنوى المذكور وأقره قال الشيخان وقضية كلام القفال أنه لو طلقها بالألف لا مال أيضاً ولا يبعد ثبوته وإن لم يتعرض الزوج له كما لو قال له خالعها بمائة فخالعها بأكثر قال الرافعي لأن الموكل به الطلاق وهو قد يكون بمال وقد يكون بغيره فإذا أتى بما وكل به على الوجه الذي هو خير وجب أن يجوز أ هـ .
وهو كما قال وبه يتأيد ما قدمته في رد كلام البوشنجي واعتراض الأذرعي له بأنه وكله أن يطلقها بلا عوض فهو كما لو وكله بهبة شيء لزيد فباعه له لم يصح ولو وكله ببيع شيء بمائة فباعه بأزيد جاز وإدخال العوض في ملك الموكل من غير تعرض له جملة بعيد وليس ذلك كالزيادة التابعة مردود كما علمت مما مر من أن قوله لأنه وكله أن يطلقها بلا عوض ممنوع إذ التوكيل في الطلاق لا يقتضي عدم العوض غايته أنه لا يقتضي العوض بخلاف التوكيل في الهبة لكن قولهما ومقتضاه الخ. معترض بأن ذلك ليس مقتضاه لأن كلامه إنما هو فيما إذا خالف الوكيل الزوج في العدد والمقتضي المذكور فيما إذا لم يخالف فيه ويرد هذا الاعتراض بأن كلام القفال اشتمل على المخالفة في شيئين النقص من العدد وذكر المال فربما يقتضي أن مطلق المخالفة يقتضي عدم المال ولا شك أنه لو طلقها ثلاثاً بالألف كان فيه مخالفة وكون كلامه إنما هو فيما إذا خالف في العدد دعوى مراد وهو وإن سلم لا يدفع الإِيراد واعترض قول الرافعي أيضاً على الوجه الذي هو خير بأنه لا خيرية فيه لتفويته الرجعة عليه وهو غفلة عن صورة المسئلة إذ الصورة أنه وكله في التطليق ثلاثاً فكيف يقال فوّت عليه الرجعة فإذا قال له طلقها ثلاثاً فخالف فمخالفته قد تكون في العدد والصفة وهي مسئلة القفال وذلك بأن يطلق واحدة بعوض وقد تكون بالصفة فقط بأن يطلق ثلاثاً بعوض وهي مسئلة الرافعي التي ألزم بها القفال فإن قلت فما الفرق بين المسئلتين غير ما أشير إليه فيما مر حيث لم يثبت المال في الأولى وثبت في الثانية قلت المخالفة في الأولى(2/336)
أفحش فوقع الطلاق لشدة تعلقه ولزومه ولم يثبت المال لعدم التصرف على الوجه المأذون فيه بخلاف الثانية فإن من رضي بإيقاع الثلاث مجاناً فلان يرضى بها بعوض أولى ولا يقال قد يقصد محاباة الزوجة لأنا نقول الطلاق إنما يكون عن تباغض وتنافر فكان قصد المحاباة فيه بعيداً فلم يلتفت إليه بخلاف نظير ذلك في الوكالة فيما إذا عين له الثمن والمشتري كبعه بمائة لزيد فإن القرينة قاضية هنا بقصد المحاباة ثم الضمير في قول الشيخين ولا يبعد ثبوته راجع إلى مسئلتهما التي أبدياها وهي ما لو طلقها ثلاثاً بالألف كما علم مما مر لا إلى مسئلة القفال خلافاً لمن وهم فيه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 83
باب الغصب
وسئل: لو أتلف زرعاً لغيره أوّل خروجه أو ثمراً كذلك بحيث يكون لا قيمة له أو له قيمة قليلة ولو بقي إلى وقت كماله لتضاعفت قيمته فماذا يجب عليه فيما أتلفه هل يجب عليه قيمته لو بقي إلى حالة كماله كما قال بذلك إسماعيل الحضرمي صاحب ثمرة الروضة أو الواجب غير ذلك. فأجاب: بأنه إذا أتلف ما لا قيمة له لا شيء عليه سوى التعزير أو ما له قيمة قليلة لزمه قيمته عند تلفه ولا نظر إلى أنه لو بقي إلى وقت كماله لتضاعفت قيمته لأن النظر في قيمة المتلف إنما هو إلى وقت إتلافه كما صرحوا به قالوا ولا عبرة بالزيادة بعد التلف كما لا عبارة بالنقص بالكساد وما نقل عن إسماعيل الحضرمي مما يخالف ذلك اختيار له غريب أو شاذ فلا يعوّل عليه والله أعلم.(2/337)
وسئل: عمن أتلف زرعاً لا قيمة له عند الإِتلاف أو له قيمة قليلة ما حكمه. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بأن من أتلف زرعاً لا قيمة له عند الإِتلاف لا شيء عليه غير التعزير كما صرح به أصحابنا حيث قالوا لا يصح بيع ما لا يتموّل كحبتي بر أو زبيب ومع هذا يحرم غصب ذلك ويكفر مستحله ويجب رده فإن أتلف فلا ضمان إذ لا مالية لذلك وقضيته أن التعبير بحبتي حنطة مثال ومن ثم عبرا في التتمة والبحر بحبات حنطة وبه يعلم أن كل ما لا يعد مالاً في العرف لقلته لا يضمن ولا يصح بيعه وهو ما اعتمده الزركشي قال: كعشرين حبة خردل بخلاف عشرين حبة حنطة أ هـ .
واعترض تمثيله بذلك بما رددته في شرح الإِرشاد وأما إذا كان له قيمة قليلة فإنها تلزمه ويعزر أيضاً وشرط تعزيره مطلقاً أن يتعمد الإِتلاف عالماً بحرمته فإن قلت ما تقرر من أن نحو الحبتين من الحنطة والزبيب لا يعد أن مالاً معترض وإن جرى عليه الشيخان في البيع بأنهما صرحا في الإِقرار بأن الزبيبة حيث يكون لها قيمة مال قلت كذا زعمه الإسنوى لكن رده الزركشي بأن المراد ههنا أنه لا يعد مالاً يتمول لا أنه لا مالية فيه أصلاً واستدل لذلك بكلامهما هنا وثم وضبط الإِمام المتمول بأنه الذي يقدر له أثر في النفع أو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار والمال بخلافه هنا أ هـ .
والذي يضمن إنما هو المتمول دون مطلق المال فإن قلت قال القفال ومن تبعه من أتلف حبتي حنطة ضمنهما قلت هذه مقالة ضعيفة والمعتمد ما مر من عدم الضمان فإن قلت يلزم على عدم الضمان عدم سماع الدعوى بذلك فكيف قلتم يعزر قلت لا يلزم ذلك بل تسمع الدعوى به لأن فائدتها لا تنحصر في التغريم بل قد يكون من مقاصدها إثبات فسقه وطلب تعزيره والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/338)
وسئل: في دار مشتركة بين ورثة مشاعاً فقام أحد الورثة وهدم وبنى وعمر وأصلح وأدخل فيها أنقاضاً من ماله كأحجار وغير ذلك بحيث تعذر تمييز الأنقاض القديمة من الأنقاض الحادثة المستجدة وزاد فيها أيضاً زيادات من المنافع والسكنى بأنقاض منفردة حادثة من ماله بغير إذن شركائه فهل لهم المطالبة برفع الزيادات المنفردة المستجدة بأنقاضه أو يجبرون على إبقائها بأجرة المثل أم لا فإذا قلتم بنقضها ورفعها وتسوية أرضها فهل يلزمهم بسبب نقضها لذلك شيء أم لا وما الحكم في الأنقاض القديمة والأنقاض الحادثة المختلطة التي تعذر تمييز بعضها عن بعض إذا لم يصطلحوا على شيء. فأجاب: لبقية الورثة مطالبة المتعدي المذكور برفع بنائه ولا يجبرون على إبقائه بأجرة ولا غيرها ولا يضمنون بسبب هدمه ويلزمه تسوية الأرض بعد الهدم والأجرة من حين وضع بنائه إلى إزالته وإذا تعدى بخلط أنقاضه بأنقاض غيره التي وضع يده عليها تعدياً وتعذر التمييز غرم قيمة أنقاض غيره والله تعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ سعى بآخر إلى ظالم فأخذه منه مالأهل يرجع على الساعي. فأجاب: ليس على الساعي المذكور ضمان وإنما عليه الإِثم الشديد إذ السعاية من الكبائر وفي نهاية الغريب حديث الساعي متلب أي مهلك بسعايته نفسه والمسعى به وإليه والله أعلم.
وسئل: اعتيد في جهة أن الدابة لا يرغب في استئجارها في بعض أيام الأسبوع فلو غصبت فهل تعتبر أجرة مثلها في مدة أيام الأسبوع. فأجاب: نعم يعتبر ذلك فإن المنافع كالأعيان فالقيمة فيها ذاتية وجد راغب بالفعل أم لا ومن ثم أفتى بعض شراح الإِرشاد في أرض لا تؤجر قط بأنها تعتبر بأقرب البلاد إليها والله أعلم.(2/339)
وسئل: عن شخص دفع إليه ثوب وقال أحرقه أو ارمه في البحر فاستعمله ثم حرقه أو رماه فهل يضمنه. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ أبدى فيها القاضي وجهين أحدهما نعم لأنه دخل في ضمانه بالاستعمال والإِلقاء والثاني لا قال الأذرعي و الزركشي والأول أقيس أ هـ .
وعليه فالمراد بالدخول في الضمان أنه يضمن أجرته مدة استعماله أو يضمن جملته كل محتمل ولعل الثاني أقرب ولا نسلم أن الإِتلاف مأذون فيه الآن لأنه لما استعمله صار غاصباً له لتعديه باستعماله فيما لم يؤذن له فيه والغاصب لا يبرأ إلا بالرد ولم يحصل وأما فعله ما أمر به فلا يضاف حينئذٍ إلى الإِذن لأنه لما استعمله أعرض عن الإِذن وصار متصرفاً فيه لنفسه فلزمه بعد التصرف فيه رده إلى مالكه وإلا ضمنه والتعبير يدخل في ضمانه لا ينافي ضمان جميعه بل جعله الإِلقاء سبباً للضمان ظاهر في ضمان جميعه إذ لو ضمن أجرة استعماله فقط لم يكن للإِلقاء دخل في الضمان مطلقاً فإن قلت هو وكيل وتعديه لا يمنع تصرفه قلت ممنوع لأن التوكيل في المعاصي باطل والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92
وسئل: عمن أوصل غصناً له بشجرة غيره عدواناً فأثمر فالثمرة لمن. فأجاب: بقوله أفتى البغوي بأنها لصاحب الغصن فقط وقاضي حماه البارزي بأنها بينهما نصفين لأنها حصلت من ملكهما والأوجه الأول كما لو غرسه في أرض غيره عدواناً فصار شجرة فأثمر بل يلزم الثاني أنه لو أنزى فحله على شاة غيره عدواناً كان النتاج بينهما لتولده من ملكيهما ولا قائل بذلك من أصحابنا.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا زرع أحد الشريكين في الأرض المشتركة بغير إذن شريكه فهل للشريك الآخر قلعه مجاناً. فأجاب: بقوله نعم له ذلك وغلط من قال له أجرة المثل ولا يقلع مجاناً لأنه انتفع بماله فيه شركة وذلك لأنه غاصب لنصيب شريكه فلا حرمة لما فعله.(2/340)
وسئل: عمن ركب فرساً مشتركاً بينه وبين غيره وأجهده في السوق فأسقطت مهراً ميتاً فهل يضمنه. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بأنه يضمنه والأصح خلافه.
وسئل: عمن نجس ثوب آخر ولم ينقص بالغسل فهل يلزمه تطهيره. فأجاب: بقوله لا يلزمه بل ولا يجوز له بغير إذن صاحبه وإن كان لغسله مؤنة فإن طهره فنقص ضمن أرش النقص ولو رده نجساً فمؤنة التطهير عليه وكذا الأَرش اللازم منه.
وسئل: عمن أخذ من الصبي شيئاً لم يبرأ برده إليه مطلقاً بخلاف العبد فما الفرق. فأجاب: بقوله الفرق أن العبد أهل لليد في الجملة فما احتوت عليه يده بإذن سيده كانت كيد السيد بخلاف الصبي فإن يده كلايد إذ ما فيها عرضة إلى الضياع لهذا جاز أخذه للرد على وليه أو الحاكم حسبة بخلاف ما بيد العبد ولا فرق بين ملبوس الصبي وغيره فيما مر.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن غصب شيئاً فاستأجر من يحمله فهل يستحق الأجير أجرة المثل أو المسمى. فأجاب: بقوله الذي ذكره الرافعي في الاستئجار لحج التطوّع أنه يستحق أجرة المثل لا المسمى وبه صرح في البيان وقيده ابن عجيل بما إذا لم يعلم الغصب وإلا لم يستحق شيئاً بل يضمنه أيضاً.
وسئل: عمن غصب أرضاً ولم يعتد إيجارها إلا بطعام فما الذي يلزمه. فأجاب: بقوله نقل بعضهم عن جماعة من المحققين في نظيره أنه يجري على عادة البلد فيما يقوّم به من طعام وغيره فإذا يلزمه من الطعام ما يستأجر به عادة وقال بعضهم أنه يلزمه قيمة ذلك الطعام الذي يستأجر به من نقد البلد ونقله عن غيره.(2/341)
وسئل: عمن قطع لسان بقرة مثلاً فتركها المالك بلا ذبح حتى ماتت فهل يضمن الإِرش فقط كما لو ذبحها فتركها المالك حتى أنتنت. فأجاب: بأنه يضمنها في المسئلة الأولى بجميع قيمتها لأن التلف حصل بسرايته فهو كما لو جرح رجلاً فسرى لنفسه ومات مع قدرته على مداواتها بخلافه في الثانية فإن الأرش استقر عليه بالذبح وما حدث بعده من كون الأنفس صارت تعافها ليس من سرايته وأيضاً فلحمها لم يحرم بالنتن بخلافه في الأولى فإنه حرم بواسطة فعله.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن غصب عبداً فمرض عنده ثم رده مريضاً فمكث في يد السيد مدّة ثم زال مرضه فهل عليه أجرة مثل المدّة التي كان مريضاً فيها في يد السيد. فأجاب: بقوله كلام البغوي في فتاويه صريح في وجوب ذلك وهو متجه خلافاً لبعض المتأخرين حيث قال لا أجرة لأنه بالرد إلى المالك زال الضمان والنقص الذي قد حصل بالمرض في يده قد ضمنه بالأرش أ هـ .
ويردّ بأن هذا متولد من فعله فضمنه بالأجرة وإن كان ضمنه أوّلاً بالأرش.
وسئل: عمن غصب أرضاً أو اشتراها شراءً فاسداً وهي تزرع براً وذرة وغيرهما فما الذي يضمنه. فأجاب: بقوله الذي يضمنه هو أجرة مثل أعلاها منفعة كما لو غصب عبداً يحسن صناعات مختلفة فإنه يضمن أعلاها.(2/342)
وسئل: عمن سعى بآخر إلى السلطان فغرمه لأجل السعاية شيئاً فهل يرجع به على الساعي. فأجاب: بقوله قضية قواعد مذهبنا أنه لا يرجع عليه بشيء وهو كذلك خلافاً لابن عبد السلام ويفرق بينه وبين تغريم الشاهد إذا رجع بأن الشاهد ألجأ الحاكم شرعاً إلى الحكم المقتضي لتغريم المشهود عليه بخلاف الساعي فإنه لم يلجىء السلطان لذلك ويفرق أيضاً بينه وبين ما لو قال هذه الدار لزيد بل لعمرو بأنه ثم أحال بين عمرو وبين داره بإثباتها للأول بطريق شرعي ناقضها قوله بعد ذلك فناسب أن يغرم لتحقق حيلولته بين عمرو وبين حقه وهنا لم يتحقق منه حيلولة ولا إلجاء شرعي فلم يضمن شيئاً.
وسئل: عمن أتلف ولد بهيمة فنقص لبنها فهل يلزمه أرش النقص. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بأنه يلزمه فتقوّم لبوناً تحلب كل يوم كذا وتقوّم ناقصة عما كان وهو كذا فما نقص من القيمة وجب عليه غرمه.
وسئل: عمن غصب طعاماً وأضاف به المالك برىء هل هو على إطلاقه. فأجاب: بقوله إن قدمه له على حاله أو بعد تغيره ولم تنقص قيمته فلا كلام في البراءة أو بعد أن نقصت ولم يسر للتلف ضمن نقصها وبرىء من الباقي أما إذا قدمه وقد صار سارياً للتلف فلا يبرأ بأكل المالك حينئذٍ كما بحثه بعضهم بناءً على أن حكم ذلك حينئذٍ حكم التالف وهو الأصح فالضمان قد صار مستقراً في ذمة الغاصب قبل الأكل فلا يسقط به وأيضاً فإن قلنا ببقائه عند صيرورته إلى هذه الحالة على ملك المالك فلا كلام أو بانتقاله إلى ملك الغاصب فقد حمله عليه ضيافته فلا يسقط به ما استقر في ذمته من الضمان.(2/343)
وسئل: بما لفظه اطردت عادة أهل بلد بإجارة أراضيهم بنوع من الحبوب فغصب شخص أرضاً منها فهل تلزمه الأجرة حباً أو نقداً. فأجاب: بقوله قال بعض المتأخرين المحقق عند جماعة من المحققين في نظيره أنه يجري على عادة البلد فيما تقوّم به من طعام وغيره وقد يؤيده قولهم لو غلب من جنس العروض نوع كالطعام انصرف الذكر إليه عند الإِطلاق في عقد البيع كالنقد فإلحاقه بالنقد في ذلك يومىء إلى إلحاقه به في غرامة المتلفات.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92
وسئل: عمن أكل من يد آخر طعاماً وكان في الأصل مغصوباً ولم يعلم فهل يؤاخذ به في الآخرة. فأجاب: بقوله نقل الغزي عن البغوي أن المأكول منه إن كان معروفاً بالصلاح لم يؤاخذ به الآكل وإلا أوخذ به ثم قال الغزي وأظنه لا يوافق عليه أي بل لا يؤاخذ به مطلقاً لعدم العلم وقد يقال مقتضى المطالبة بما يتلفه ناسياً أو جاهلاً المطالبة هنا مطلقاً لأن هذا من باب خطاب الوضع فليست مطالبته بفعل حرام بل بإتلاف ماله وإن كان جاهلاً.
وسئل: عن شخص غصب عيناً مثلية وأتلفها وقلتم يضمن مثلها وإن أعوزه ووجده بأكثر ضمنها بقيمة المثل وقت المحاكمة والتأدية وإن لم يكن لها مثل ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف مفهوم ذلك أنه إذا كان أكثر القيمة ما بين الغصب والتلف دون ثمن المثل فله قبوله بينوا لنا صورة الأقل والأكثر في القيمة في المدة وأوضحوا ذلك مفصلاً. فأجاب: بقوله الحاصل في هذه المسئلة أن من غصب عيناً مثلية وأتلفها يلزمه مثلها فإن فقده أو وجده بزيادة على ثمن مثله لزمه أقصى قيمه من وقت الغصب إلى وقت فقد المثل فلو كان وقت الغصب يساوي مائة ووقت الفقد يساوي مائتين وفيما بين الوقتين يساوي ألفا لزمه الألف وقس على ذلك وأما المتقوم فيضمن بأقصى قيمه من الغصب إلى التلف والله أعلم.(2/344)
وسئل: عمن شغل بقعة من المسجد بمتاع له فهل يحرم عليه وتلزمه أجرة المثل. فأجاب: بقوله نقل النووي رحمه الله في فتاويه عن الغزالي أن تلزمه أجرة البقعة ما لم يغلق باب المسجد وإلا لزمه أجرة جميعه ثم قال وهذا صحيح معتبر وتصرف الأجرة في مصالح المسجد وظاهر حرمة ذلك وإن لم يضيق على المصلين.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته قالوا لو غصب خشبة وأدرجها في سفينة لم تقلع منها في اللجة إن خشي تلف نفس أو مال محترم ما المراد بالمحترم. فأجاب: بقوله المراد بالمحترم في غير هذا الباب ما حرم قتله أو إتلافه ويحتمل إلحاق هذا الباب بغيره ويحتمل خلافه والذي يتجه أن يقال إن خشي إتلاف نفس اشترط أن لا تكون محترمة كحربي ومرتد وزان محصن وإن خشي إتلاف مال فإن كان حيواناً فهو محترم وإن كان لغير محترم وإن كان غيره فقد صرحوا بأن مال الحربي غير محترم ويحتمل إلحاق المرتد به لقول بعضهم كنفس الحربي وماله فأتى بالكاف الدالة غالباً على عدم الحصر في مدخولها ويحتمل الفرق بأن مال المرتد لبيت المال إن مات مرتداً وإلا فهو له وأيضاً من استولى عليه لا يملك شيئاً منه بخلاف مال الحربي وأيضاً فالحربي إذا مات على حرابته انتقل لوارثه الحربي وهو غير معصوم بخلاف المرتد فإنه إذا مات على حالته انتقل للمسلمين فلهم حق متأكد في ماله بخلاف مال الحربي.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/345)
وسئل: عمن خلط المغصوب وصار غير متميز فهل يملكه أو لا. فأجاب: بقوله إذا خلطه بما لا يتميز عنه ملكه سواء أكان من جنسه أو غيره وسواء أكان ما خلطه به له أو لمالك آخر هذا هو المعتمد مذهباً ولا يكلف المالك أن يأخذ من المختلط بغير جنسه مطلقاً بخلاف المختلط بجنسه فإنه يجبر على أخذ بعض المختلط بالأجود أو المثل لا الأردأ وظاهر كلامهم أن الغاصب يجوز له التصرف بنفس الخلط سواء أعطي المالك البدل أو لا ويؤيده قولهم إن الحق انتقل بالخلط إلى ذمته لكن لو قيل إنه يحرم عليه التصرف قبل رد البدل وأنه لا ينفذ منه لم يبعد قياساً على الورثة حيث يحرم عليهم التصرف في تركة مورثهم إذا كان مديناً مع أنها ملكهم والدين في ذمة مورثهم ولو بعد الموت رعاية لصاحب الدين ولا يقال إن التركة مرهونة بالدين شرعاً بخلاف هذا لأنا نقول والعين المختلطة بما يجبر على القبول منها ينبغي أن تكون مرهونة بحق المالك كذلك رعاية لحقه.
وسئل: هل تجب إراقة الخمر الغير المحترمة وإن قصد صاحبها التخلل وما هي. فأجاب: بقوله الأوجه أنها التي عصرت بقصد الخمرية وحينئذٍ فتجب إراقتها فوراً ولا يجاب للحيلولة بينه وبينها إلى التخلل نعم إن قصد قبل تخمرها اتخاذها للخلية لم تجب إراقتها لأنه أبطل النية الأولى بالنية الثانية.(2/346)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن قول الإِرشاد وضمن آخذ من غاصب لا بنكاح وفي شرح المنهاج في باب الغصب لو زوج الغاصب الأمة المغصوبة ففاتت منافعها تحت يد الزوج فغرمها رجع بها على الغاصب وإذا ماتت عنده وغرم قيمتها رجع بها أ هـ .
وهذا يناقض ما اقتضته عبارة الإِرشاد من عدم الضمان فتأملوا الجمع بينهما بأي شيء أثابكم الله. فأجاب: بقوله لا تنافي بين عبارة الإِرشاد وعبارة شرح المنهاح المذكورة بل هما متحدتان مفادهما واحد كما يفهمه قول الإِرشاد عقب لا بنكاح ورجع الخ. إذ معنى لا بنكاح أن من تزوج المغصوبة من الغاصب جاهلاً فتلفت عنده لا يطالب بقيمتها لأن الزوجة من حيث هي زوجة لا تدخل تحت اليد نعم قال الزركشي ينبغي تخصيصه بما إذا تلفت بغير الولادة وإلا فيضمنها كما لو أولد أمة غيره بشبهة وماتت بالولادة فإنه يضمنها كما قالوه أ هـ .
وفيه شيء بينته في شرح الإِرشاد وإذا علم أن الغاصب لا يضمن قيمتها لو تلفت عنده فلو غرمها له المالك رجع بها على الغاصب كما أفاده قول الإِرشاد ورجع الخ. وكذا منافعها الفائتة في يد الزوج من غير فعله لا يضمنها لما تقرر أن الزوجة من حيث هي زوجة لا تدخل تحت اليد فإذا غرمه المالك إياها رجع بها على الغاصب كما يفيده قول الإِرشاد ورجع الخ. بخلاف ما لو غرمه مهر وطئه أو أجرة المنافع التي استخدمها فيها فإنه لا يرجع بها لأنه شرع في العقد على أن يضمن المهر ولأن الغاصب لم يسلطه بالتزويج على الاستخدام فظهر لمن له أدنى تأمل أن لا تخالف بين العبارتين بوجه وإن توهم المخالفة بينهما إنما نشأت عن الغفلة عن معنى قوله لا بنكاح وعن قوله عقبه ورجع الخ.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/347)
وسئل: عمن غصب عبداً يعرف صنعة فنسيها وقلنا يغرم قيمة هذا الوصف من المصدق في النسيان فلو تذكر فادعى الغاصب أنه متذكر فلا عليه غرم والمالك أنه متعلم فالغرم من المصدق منهما هذا على قول الفرق بين التذكر والتعلم. فأجاب: بقوله الذي دل عليه كلامهم أن الغاصب هنا هو المصدق لأن المالك يدعي عليه إحسان قنه لحرفة فاتت في يده فلزمه قيمتها والغاصب يدعي بقاء تلك الحرفة أو عدمها من أصلها فلا يلزمه شيء والأصل براءة ذمته مما يدعيه عليه المالك حتى يثبت موجبه وأيضاً فإن اتفقا على وجود تلك الحرفة واختلفا في النسيان فالأصل دوامه وإن لم يتفقا على وجودها بأن اختلفا فيه فالأصل عدمها وكل من هذين الأصلين مساعد لأصل براءة ذمة الغاصب فقوي جانبه باعتضاد دعوانا أصل براءة الذمة مع أصل الدوام في الأولى أو أصل العدم في الثانية ومما يشهد لتصديقه قولهم لو اختلفا في كون المغصوب كاتباً أو محترفاً صدق الغاصب بيمينه لأن الأصل براءة ذمته وعدم ما ادعاه المالك وقولهم لو رد الغاصب المغصوب أعمى مثلاً وقال هكذا غصبته وقال المالك: بل حدث عنده صدق الغاصب بيمينه لأن الأصل براءة ذمته عما يزيد على تلك الصفة فتأمل هذا كالذي قبله تجده صريحاً في تصديق الغاصب في صورة السؤال والمعتمد الذي صرح به الشيخان وغيرهما. أن تعلم الصنعة كتذكرها وعلى الفرق بينهما الذي ذكره السائل فالمصدق فيما ذكره الغاصب أيضاً كما علم مما قررته على الأصح في صورة اختلافهما في النسيان.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/348)
وسئل: عن مغصوب تحقق جهل مالكه هل هو حرام محض أو شبهة وهل يحل التصرف فيه كاللقطة أو كغيرها. فأجاب: بقوله لا يحل التصرف فيه ما دام مالكه مرجوّ الوجود بل يوضع عند قاض أمين إن وجد وإلا فعالم كذلك فإن أيس من معرفة مالكه صار من جملة أموال بيت المال كما في شرح المهذب فإنه قال: ما ملخصه من معه مال حرام وأيس من معرفة مالكه وليس له وارث فينبغي أن يصرفه في المصالح العامة كالقناطر والمساجد وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء ويتولى صرفه القاضي إن كان عفيفاً وإلا حرم التسليم إليه وضمنه المسلم بل ينبغي أن يحكم رجلاً من أهل البلد ديناً عالماً فإن فقد تولاه بنفسه وأخذ الفقير للمدفوع إليه حلال طيب وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إن كانوا فقراء والوصف موجود فيهم بل هم أولى من يتصدق عليهم وله أن يأخذ منه قدر حاجته لأنه أيضاً فقير كذا ذكره الأصحاب ونقل عن معاوية و أحمد و الحارث المحاسبي وغيرهم. من أهل الورع لأنه لا يجوز إتلاف المال ولا رميه في البحر فلم يبق إلا مصالح المسلمين اهـ. وقد سبقه إليه الغزالي في الإِحياء وغيره هذا في الحرام المحض كما تقرر أما ما لم يتحقق فيه ذلك فهو شبهة والاشتراء منه مكروه وإن غلب الحرام كما في شرح المهذب وقال الغزالي : حرام قيل ويستثنى من الأوّل ما قاله الشيخ عز الدين من أنه لو اختلط ثوب مباح بنحو ألف ثوب مغصوب فيجب الجزم بتحريم الشراء لأن المباح مغمور تافه بالنسبة إلى الحرام ويؤيده قولهم في باب الصيد لو اختلط حمام مملوك غير محصور بحمام مباح محصور حرم الاصطياد منه أ هـ .
وما مر من وضع ما لم ييأس من مالكه في يد من مر هو قضية كلام الأصحاب وصرح به الأذرعي وقول ابن الصلاح في كتب المسلمين التي بيد الفرنج هل يحل شراؤها إن استنقاذها حسن ثم لا يجوز القراءة والانتفاع بها حالاً والظاهر أنها إذا عرفها سنة جاز تملكها كاللقطة مردود وممن رده الأذرعي فقال في توسطه الأقرب أنه لا يلحق(2/349)
باللقطة بل يحفظ إلى اليأس من العثور على مالكه ثم يصنع به ما يصنع بالمال الضائع أي يصرفه في المصالح عند اليأس من معرفة مالكه.
وسئل: عن أرض لا تؤجر قط فماذا يلزم غاصبها. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بأنه تجب أجرة أقرب الأراضي إليها وهو محتمل منقاس ويقاس به غيره.
وسئل: عن دار مشتركة بين أخوين فسكنا فيها ولم يستأجر أحدهما من الآخر ولا استعار ولا استباح لكن أحدهما وحده والآخر له عيال فهل لكل الرجوع على الآخر أو لا. فأجاب: بقوله نعم لكل منهما مطالبة الآخر بأجرة سكناه في نصيبه بأجرة المثل بقسطه على قدر السكان.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/350)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا اختلط المغصوب أو المنهوب بغيره من المملوك اختلاط امتزاج بحيث لا يمكن تمييزه كزيت وحنطة بيضاء بمثلها فهل يملكه الغاصب بمجرد ذلك وكيف يمكن القول بذلك مع تعديه. فأجاب: بقوله هذه المسئلة لم تزل معروفة بالإِشكال قديماً وحديثاً ولكن الذي صححه الشيخان أن المغصوب كالهالك حتى يتمكن الغاصب من إعطائه قدر حقه من غير المختلط ولنا قول أنهما يشتركان ونصره جمع فيرجع في قدر حقه من نفس المخلوط نفسه ووجه بأن خلط بالمثل اشتركا أو بالأجود أو الأردأ فكالهالك والمعتمد أنه كالهالك مطلقاً وانتصر جماعة للقول بالاشتراك بالقياس على ما لو سالت صبرة أحدهما على صبرة الآخر وفرق السبكي بأنه ليس هناك تصرف مكلف يحال الضمان عليه بخلافه هنا فالضرورة هنا لم تدع إلى الاشتراك وأجاب صاحب الذخائر عن إشكال هذه المسئلة بما حاصله مع الإِيضاح أنه لما تعذر وصول المالك لعين حقه بسبب خلط الغاصب المقتضي لضمانه جعل المخلوط كالتالف وجعل شغل ذمته بالغرم وتمكين المالك من أخذه حالاً مقتضياً لملك الغاصب بخلاف المغصوب منه إذ لم يتصرف في ملك الغاصب حتى يضمنه فيدخل في ملكه بالتعذر المذكور وتعدي الغاصب لا يقتضي جعل عين ماله مملوكاً للمغصوب منه مجاناً إذ الظالم لا يظلم بل ينتصف منه والعبد المغصوب إذا أبق مرجو العود فلم يتعذر رده بإباقه فتوجه فيه ضمان القيمة للحيلولة بخلاف ما نحن فيه لتعذر رده مطلقاً فالواجب فيه يكون للفيصولة وقد قال جمع وإن كان المعتمد خلافه إن اختلط تمر البائع بتمر المشتري يفسخ البيع لتعذر التسليم المستحق فإذا جعلوا الملك في المبيع منتقلاً للبائع بسبب تعذر التسليم وإن لم يكن الخلط من فعله فكذلك هنا وعلى الراجح لو أراد القسمة بحسب القيمتين امتنع للربا ورجح السبكي قول الشركة وفرع عليه ما مر وأطال في الانتصار له وأن قول الهلاك باطل لكن أطال الزركشي وغيره في الرد عليه وأنه ناقض نفسه(2/351)
وكيف يكون باطلاً وهو موجود في المذاهب الأربعة قال بعضهم والحاصل أنه لا يخلو قول من الأقوال في هذه المسئلة من محذور وأن القول بالهلاك يندفع محذوره بما قاله الزركشي في شرح المنهاج و ابن المقري في تمشيته من أنا وإن قلنا بملك الغاصب ذلك فإنه يمنع من التصرف فيه حتى يعطي المغصوب منه ما وجب له لأن له حق الحبس فيما ملكه إياه بعوض ورضي فكيف إذا ملكه بغير رضاه قيل وهو حسن وإن كان ظاهر كلام الأصحاب خلافه ويظهر أن محله إذا كان موسراً قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/352)
السبكي وقد يتوهم من فرض المسئلة في الزيت والحنطة اختصاصها بالمثلى وليس كذلك بل خلط المتقوم كذلك ثم حكى عن ابن الصباغ وغيره أنهم جزموا بأن قول الهلاك لا يأتي في خلط الدراهم بمثلها ووجهه بأن كل درهم متميز في نفسه وإن لم يتميز لنا وليس كالزيت فإنه يحصل له بالاختلاط حقيقة أخرى ورد بأن ما ذكر لا يأتي في خلط القمح بمثله لتميز كل حبة في نفسها ومقتضى كلام الشيخين أن الدراهم كالحنطة فيما مر فيأتي فيها ما تقدم أيضاً من كلام الزركشي وابن المقري ولو غصب من اثنين زيتاً ثم خلطه. قال السراج البلقيني : فالمعروف عند الشافعية أن الغاصب لا يملك شيئاً من ذلك ولا يكون كالهالك لكن حكى صاحب البحر وجهين فيما إذا غصب دراهم من اثنين وخلطها أحدهما تقسم بينهما والثاني يتخيران بين القسمة والمطالبة بالمثل أ هـ .
وفي فتاوى النووي رحمه الله ورضي عنه إذا اخذ المكاس من إنسان دراهم فخلطها بدراهم المكس ثم رد عليه قدر دراهمه من ذلك المختلط لا يحل له إلا أن يقسم بينه وبين الذي أخذت منه وهو يرجح الوجه الأول من وجهي البحر ورجح الشيخان أيضاً أنه لو حدث في المغصوب ما يسري للتلف كبل الحنطة وتعفنها وجعلها هريسة وغصب تمر ودقيق وسمن وجعله عصيدة فهو كالهالك ويغرم بدل كل مغصوب مما ذكر من مثل أو قيمة وقيل يرده مع أرش النقص وقيل يتخير المالك بين موجب القولين واستحسنه في الشرح الصغير واختاره السبكي وقيل يتخير الغاصب بين إمساكه وغرم بدله ورده مع أرش النقص وعلى الأول فهل المغصوب لمالكه أو للغاصب فيه وجهان وجه الأول القياس على ما لو قتل شاة فإن المالك يكون أحق بجلدها مع قيمتها ووجه الثاني أن الغاصب غرم له ما يقوم مقام التالف من كل وجه فالأول لا وجه له كما قاله المتولي ومن ثم صحح الثاني وقال ابن الرفعة أنه مقتضى كلام الإِمام فإنه استبعد مقابله وفارق مسئلة الشاة ببقاء المالية هنا وقول الزركشي النظائر تقتضي ترجيح الأول فيه نظر(2/353)
ولا فرق على الثاني بين أن يكون للحنطة والهريسة مالية أم لا وعلى الثاني فهل يأتي هنا ما مر من أنه لا يحل للغاصب التصرف حتى يغرم البدل أو يفرق بأن منعه هنا يؤدي إلى إتلاف مال بخلافه ثم فإن التأخير ليس فيه إتلاف له محل نظر والثاني منقدح إن لم يجد قاضياً يقوم مقام المالك أو كان معسراً كما مر ولو غصب خشباً وأحرقه فالرماد كالهريسة فيما مر والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/354)
سؤال وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه الحمد لله وحده أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يمن ويتفضل علينا وعلى المسلمين بطول حياة سيدنا ومولانا وعمدتنا وعدتنا وملاذنا وسيدنا وبركتنا وشيخنا وأستاذنا شيخ مشايخ الإِسلام عمدة الأنام من إليه المرجع وعليه المعوّل شهاب الدين أحمد بن حجر حفظه الله وأطال بقاءه لنا وللمسلمين وبعد فتفضلوا بوضع جوابكم الشافي الوافي لا زلتم أهلاً وملاذاً لحل المشكلات ورفع المعضلات على إشكال في مسئلة ذكرها في العباب في الغصب في فرع كما ذلك غير خاف على شيخنا حيث قال فرع لو غصب حنطة قيمتها خمسون فطحنها فعادت عشرين فخبزها فبلغت خمسين ثم تلفت ضمن ثمانين بسبب نقص الطحن ولا عبرة بزيادة قيمة الخبز كأن نسي العبد الحرفة وتعلم أخرى أ هـ .
ما في العباب ونقل هذا في التجريد عن القاضي حسين وكذلك في أدب القضاء للغزي وتبعه الشيخ زكريا في مختصره ونقلها في الجواهر وكذلك موسى بن الزين في كوكبه وكلهم ساكتون عنها مع أنها مشكلة على القاعدة في أن المثلى إذا تغير من حالة إلى أخرى ضمنه الغاصب بالأغبط منهما ففي التمشية والأنوار أنه إذا غصب حنطة وطحنها ثم خبزها فللمالك الأغبط فإن قلت في تصوير العباب زيادة وهي نقصان القيمة ثم عودها قلنا القاعدة أن المثلى لا يتغير ضمانه بنقص القيمة اللهم إلا أن يقال هذا إن لم يصر متقوّماً كما في العباب أو يقال إن الفرع الذي في العباب معروف للقاضي الحسين وقد عرف من الروضة أن طريقة القاضي أن المثلي يضمن بالقيمة الجواب لا عدمكم المسلمون ولا أخلى الوجود منكم وهدى بكم كل ضال آمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/355)
سؤال آخر: ذكر في الإِرشاد تبعاً للشيخين أن زوج المغصوبة إذا كان جاهلاً وتلفت عنده لا يضمن لا طريقاً ولا قراراً وصرح به في الروض وأقره عليه الشيخ زكريا في شرحه عليه وكذلك في العباب كل ذلك في أول الباب وفي آخره ذكر في الروضة إذا غرم قيمتها يرجع بها على الغاصب وكذا أجرة المدة التي لم يستخدمها فيها وجريا في الروضة والعباب على الأجرة وسكتا عن القيمة ولم يظهر بينهما فرق والذي في آخر الباب يشكل على الذي في أوله فما الظاهر ما ذكر أوّلاً أو آخراً أو كل منهما مقرر وعليه فما الفرق. الجواب: ما في العباب هو المنقول المعتمد ولا يخالف ما ذكروه في المثلي لأن هذا من صور ما إذا صار المثلي متقوّماً لأن العبرة في ذلك بالآخر وهو باعتباره كذلك وحينئذٍ فلا نظر لكونه صار مثلياً ثم متقوّماً وقد صرحوا في هذا القسم بأنه يجب المثل إلا أن يكون المتقوّم أكثره قيمة فتجب قيمته فعلم وجوب الثمانين هنا لأنها الأغبط وإن اختلف سبب وجوبها أما الخمسون فلأنها القيمة حين التلف وأما الثلاثون فلأنها أرش جنايته على المغصوب بطحنه الذي نقصت به قيمته وقاعدة الباب أن ما ضمنه بجنايته لا يعود بفعله فيه ما ساوى قيمة أرش تلك الجناية ومن ثم شبه القاضي هذه بما إذا غصب عبداً يعرف حرفة تزيد بها قيمته فنسيها عنده فإنه يضمن أرش نقصها وإن علمه حرفة أخرى تساويها أو تزيد عليها لأن فعله في المغصوب ولو بما يزيد فيه غير محترم فلا يقابل بمال ومن ثم قال في أصل الروضة لو نسي صنعة وتعلم أخرى أو أبطل صنعة الحلي وأحدث أخرى فلا انجبار بحال وعلى هذا لو تكرر النقص وكان الناقص في كل مرة مغايراً للناقص في المرة الأخرى ضمن الجميع حتى لو غصب جارية قيمتها مائة فسمنت وبلغت ألفا وتعلمت صنعة فبلغت ألفين ثم هزلت ونسيت الصنعة وعادت قيمتها مائة يردها ويغرم ألفاً وتسعمائة أ هـ .
وبه كالذي قبله يعلم أن محل قولهم المثلي لا يتغير ضمانه بنقص القيمة حيث كان(2/356)
النقص لمجرد الرخص أما إذا كان من فعله فيضمنه وإن انجبر وزاد من فعله أو غير فعله كما تقرر وبهذا يجاب عن قول السائل نفع الله بعلومه فإن قلت الخ. وذلك لأن إطلاق نقص القيمة في إشكاله وجوابه غير معوّل عليه وإنما النقص الذي يضمن ما كان عن فعله عاد أم لا بل وكذا إن لم يكن عن فعله لما تقرر في النسيان عنده والذي لا يضمن هو ما كان عن الرخص فقط ورد العين كما هي وحينئذٍ فالجواب لا يلاقي السؤال لأن النقص الذي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92(2/357)
في عبارة العباب مما يضمن وحينئذٍ فقول السائل ثم عودها يوهم ارتفاع هذا النقص بعود القيمة للخمسين وليس كذلك لما تقرر من وجوب الثلاثين مطلقاً ومن وجوب قيمة الصنعة الفائتة وإن خلفتها صنعة أخرى أزيد قيمة منها والنقص الذي في جوابه وهو قوله لا يتغير ضمانه بنقص القيمة مما لا يضمن كما هو واضح مما قررته فليتأمل وقوله اللهم الخ. جوابه أن صيرورته متقوماً لا دخل لها في وجوب أرش النقص الذي يضمن لما تقرر من وجوبه وإن عاد ما يجبره ورد المتقوم كالعبد به لإِلغاء فعل الغاصب والزيادة في يده فلم ينجبر بهما نقص ضمنه وقوله أو يقال إن الفرع الخ. جوابه أن كلام القاضي في هذا الفرع ماش على كلام الأصحاب فلا يؤثر فيه أن له رأياً يخالف كلامهم في المثلي على أنه لا يخالفه من كل وجه كما استعلمه نعم يشكل على كلامه أن مقتضى كلامهم في المثلي أنه في صورة القاضي يرد مثل الحنطة والثلاثين التي هي أرش جنايته أما الأول فلأنهم في صورة ما إذا صار المثلي متقوماً أوجبوا المثل حيث لم يكن المتقوم أغبط وهنا ليس الخبز أغبط من الحنطة لأن قيمتها خمسون وقيمته خمسون فهما متساويان فلا أغبط وحيث لا أغبط تعين المثل فإيجاب القاضي القيمة وهي خمسون مخالف لكلامهم وأما الثلاثون فلأنها أرش جنايته فلتجب وإن رد المثل فإن قلت في الروضة عن القاضي فيما إذا غصب حنطة ثم طحنها ثم جعلها خبزاً وأتلفه وقلنا لا مثل للدقيق أنه يغرم أكثر القيم ولا يطالب بالمثل أي لأنه تلف وهو متقوّم كما علله به بعضهم وكلامه السابق إنما يأتي على هذا لأنه لما تلف وهو متقوم وجبت الخمسون مع الثلاثين وكلامه هذا ضعيف فكيف سكتوا عليه قلت ليس كلامه هذا ضعيفاً من كل وجه بل هو موافق لقولهم لو صار المثلي متقوّماً وجب المثل إلا أن يكون المتقوم أكثر قيمة إلا في صورة ما لو كانت قيمة الحنطة في صورة الروضة أكثر فعند القاضي تجب قيمتها وعلى الأصح يجب مثلها وليست هذه الصورة نظيرة(2/358)
لصورتنا فلا يضرنا ضعف كلامه فيها وما لو ساوت قيمتها قيمة الخبز فعلى الأصح يجب مثل الحنطة وقضية كلام القاضي وجوب القيمة نظراً للتعليل السابق وهو كونه ينظر إلى حالة وقت تلفه أي فيما إذا ساوت القيمة أو زادت قيمته متقوماً وكذا لو زادت مثلياً ويوجه اعتباره القيمة في هذه بيوم التلف بأنه يعتبره فيها بالنسبة لأصل وجوب القيمة وإذا اعتبرت القيمة وجب النظر لأكثر أحوالها وإذا تقرر هذا فكلام القاضي في فرع الجواهر وغيرها. إنما يوافق رأيه في صورة الروضة ولك أن تقول يمكن تخريجه على الأصح أيضاً كما أشرت إليه بقولي أوّلاً لأنها الأغبط وإن اختلف سبب وجوبها وإيضاحه أن الثلاثين لما كانت مقابلة لنقص أجزاء العين وجب ضمها إليها فصارت مساوية الثمانين لا لخمسين والثمانون أغبط من قيمة الحنطة فوجبت حتى على الأصح وحينئذٍ يؤخذ من هذا تقييد قولهم حيث لا أغبط في صورة إذا صار المثلي متقوماً يجب المثل ما لم يكن الغاصب ضمن جزءاً من المثل إذا ضم أرشه إلى قيمة المتقوم صار أغبط فتجب القيمة هنا نظراً لما قررته من وجوب تبعية الأرش للعين لأنه بدل جزئها ومع هذا لا يخلو كلام القاضي عن نظر ونقد وإن أقره عليه في فرع القمولي وضعفوا كلامه في فرع الروضة إلا أن وجه تقريرهم يقربه ما ذكرته فتأمله هذا ما يتعلق بالمسئلة الأولى وأما الثانية فلا تخالف فيها في كلامهم لأنهم بينوا أول الباب أن يد الزوج ليست يد ضمان بالنسبة للقيمة وفي آخره أن الأجرة فيها تفصيل فإن فوّت المنافع لزمته أجرتها وإلا فلا وإنما الذي يشكل من ذلك قول الروضة أنه إذا غرم قيمتها يرجع بها على الغاصب فإن هذا يقتضي أنه طريق في الضمان وليس كذلك ولأجل هذا الإِيهام حذفه الروض لكن الجواب عنه أنه علم من كلامه أنه غير طريق فوجب حمل قوله إذا غرم قيمتها على ما إذا أداها للمالك ظاناً أنها تلزمه ثم علم أنها لا تلزمه فله الرجوع بها عليه لتبين فساد الأداء إذ لا عبرة بالظن(2/359)
البين خطؤه والله سبحانه أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 92
باب العارية
وسئل: حيث اقتضى الحال أن المعير يتملك بالقيمة هل يدخل في ملكه قهراً من غير لفظ أم لا بدّ من لفظ فإن قلتم لا بدّ فهل يشترط العلم بالقيمة حال التملك أم لا وهل يكتفي باللفظ قبل تسليم القيمة أو لا بدّ من تسليمها أو رضا المستعير بذمته. فأجاب: بقوله أن الذي ذكره الرافعي في العزيز نقلاً عن التهذيب صريح في أنه لا يدخل في ملك المعير قهراً وأنه لا بدّ من عقد وعبارته بعد أن حكي الخلاف في المسئلة وليس له التملك إلا بإذن المستعير لأنه بيع أو إجارة أ هـ .
وعبارة التهذيب بعد أن ذكر أنه يخير بين القلع مجاناً والأخذ بالقيمة أو الإِبقاء بالأجرة فإن أراد القلع لا يحتاج إلى إذن المستعير وإن أراد التملك بالقيمة أو التقرير بالأجرة يحتاج إلى إذنه لأنه بيع أو إجارة وربما يريد المستعير نقله انتهت وحاصلها أنه لا يستقل بالتملك أو بالإِبقاء بالأجرة بخلاف القلع لأن في التملك إخراج ملكه عنه وفي الإِبقاء بالأجرة إلزام ذمته مالاً وهو قد لا يريد ذلك بل يريد القلع واعتمد الإسنوى وغيره ما ذكر وحينئذٍ فإذا اختار المعير التملك أو الإِبقاء بالأجرة فإن رضي المستعير قلنا لهما لا بدّ من إنشاء عقد بيع في الأول أو إجارة في الثاني وإن لم يرض المستعير بواحد منهما كلف تفريغ الأرض وأما إذا امتنع المعير من التخيير والمستعير من بذل الأجرة وقد طلبها المعير فإنهما يهملان إلى أن يختار المعير ماله اختياره أو يبذل له المستعير الأجرة ويرضى فإن قلت ما الفرق بين هذا والتملك بالشفعة حيث لم يتعين فيه اللفظ لأنه يحصل بعد رؤية الشقص وعلم الثمن أما بنحو تملكت بالشفعة مع قبض المشتري عوض ما سلمه للبائع قبضاً كقبض المبيع وأما بأن يرضى المشتري بذمته حيث لا ربا وإن لم يتسلم الشقص وأما بأن يتملك عند القاضي ويحكم له بالشفعة وإن لم يسلم(2/360)
الثمن قلت الفرق بينهما إن دفع الضرر الذي هو سبب الأخذ بالشفعة لا طريق له سوى تملك الشقص المذكور فلذلك كان التملك فيها قهرياً بخلاف الضرر في مسئلتنا فإنه يندفع بالقلع أو بالتبقية بالأجرة كما يندفع بالتملك فلم يكن قهرياً وإذا بان أنه غير قهري بان اتضاح توقفه على رضا المستعير لأنه قد يريد دفع الضرر بغيره وهو القلع وإذا توقف رضاه ورضي احتيج إلى ناقل له عن ملكه إلى ملك المعير ولا يكون ذلك إلا بعقد فلذلك اشترط هنا وبما تقرر علم أنه لا بدّ من معرفة المعير والمستعير بالقيمة أو أجرة المثل حتى يقع عقد البيع أو الإِجارة بعوض معلوم وأنهما حيث عرفا القيمة أو الأجرة وعقدا بها في الذمة صح ولا يشترط تسليمها لصحة العقد بل يصح وإن لم يسلمها ثم يطالب المستعير المعير في الأولى وعكسه في الثاني فإن تنازعا في البداءة بالتسليم يأتي فيهما ما في المتبايعين وإن امتنع المستعير من العقد بالقيمة في الذمة وأبى إلا أن يقع العقد على عينها فإن وافقه المعير فذاك وإلا أعرض الحاكم عنهما فيما يظهر نظير ما مر والله أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101(2/361)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن مسئلة الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل اليمني في فتواه أنه إذا كانت بهيمة بين اثنين ينتفع بها أحدهما برضا من صاحبه فتلفت في يده وجب عليه ضمان نصيب الآخر لأن ذلك عارية وكذا ولدها حكمه حكم ولد المستعار فإن كان ثم مهايأة كان حكمه في يد هذا ويد هذا حكم العين المستأجرة فلا ضمان ما صورة المسئلة والسبب الموجب لضمان نصيب الآخر وما صورة المهايأة المذكورة في السؤال. فأجاب: بقوله ما ذكر عن ابن عجيل من ضمان نصيب الآخر لأنه عارية ومن أن ولدها كولد المستعار صحيح وحكم ولد العارية أنه إن حدث بيد المستعير كان أمانة شرعية وكذا لو ساقها فتبعها ولدها الذي ولدته قبل العارية وعلم به المالك فسكت فيكون تحت يده أمانة شرعية أيضاً فإن تلف بتقصيره ضمنه وإلا فلا وما ذكره في مسئلة المهايأة مبني على أن المهايأة هل هي إجارة أو عارية فيه خلاف وقضية تجويزهم الرجوع فيها أنها عارية وقضية قولهم لو تهايآ فرجع السابق بعد أن استوفى المنفعة لزمه لصاحبه أجرة مثل المنفعة التي استوفاها أنها إجارة والذي يظهر ترجيحه أنه لا يطلق القول بأنها إجارة محضة ولا عارية محضة بل فيها شائبة من كل منهما لكن شائبة الإِجارة أظهر لأن وضعها استيفاء منفعة في مقابلة منفعة إذ صورتها أن تكون بين اثنين مثلاً عين مشتركة فيتفقان على قسمة منافعها مياومة أو مشاهرة أو مسانهة بأن تكون عند أحدهما زمناً معيناً وعند الآخر زمناً كذلك فإذا تراضيا على ذلك جاز وكان في معنى الإِجارة لأن المنافع المستوفاة ضمناً لم تكن في غير مقابل وإنما نافع كل مقابلة لمنافع الآخر وهذا شأن الإِجارة ووضعها دون العارية فظهر أن المغلب فيها معنى الإِجارة وإذا غلب فيها ذلك كان حكم ما في يد أحدهما مدة المهايأة حكم المؤجرة وهو الأمانة فمن تلف عنده منهما بغير تفريط لا يضمنهما فظهر بما قررته صحة ما قاله الإِمام ابن عجيل أعاد الله علينا من بركاته وصالح(2/362)
معاملاته والله أعلم.
وسئل: رضي الله عنه في شخص قال لجماعة أعينوني بأثواركم بكرة للحرث والعادة أن معير الأثوار يحرث عليها بنفسه أو أجيره أو عبده فسرحوا معه بكرة فأحد الجماعة يحرث على ثوريه بنفسه والثاني حرث على ثوريه عبده والثالث أجيره والرابع مشترك هو وآخر في الثورين وآله الحراثة وفي أجرة الأجير كذلك فأمر الأجير يحرث عليهما في حول المستعير بغير إذن شريكه فحرثوا إلى نحو ربع النهار فجاء متلصصون أخذوا بعض الأثوار وأتلفوا البعض وقتلوا الحراثين جميعاً وأخذوا آلة الحراثة والدواب التي تحملها ما الحكم. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ الحكم في صورة الأثوار أن على الآمر لمالكها بإعانته بها في أرضه ضمانها وضمان جميع ما استعاره من آلة الحرث وغيرها والذي يظهر أنه لا يضمن العبد لأن قوله لمالكه أعني بثورك لا يستلزم استعارة العبد لما ذكر في السؤال من أن الحراث تارة يكون المالك وتارة يكون أجيره أو عبده فلم يتعين العبد وإذا لم يتعين لم يكن مستعاراً بخلاف ما لو قال له أعني بثورك وعبدك فإن كلام من الثور والعبد مستعار حينئذٍ وواضح أن الرابع يضمن أيضاً حصة شريكه في الثورين والآلة المشتركة لتعديه باستعمال حصة شريكه فيما لم يأذن فيه وقرار الضمان على المستعير والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101(2/363)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن شرب من سقاية في المسجد فانكسر منه كوزها أو انكسر منه قنديل المسجد أو أخذ كوزاً من سقاء ليشرب منه فانكسر أو استعار قنديلاً مسرجاً أو دواة فانكسرا أو شمعة ليقدها أو انكسر إناء من بعض الضيوف أو تصدق على من أعيى بركوب دابته فماتت تحته أو استعمل ظرف الهدية فهل يضمن في كل ذلك أم في بعضه أم لا يضمن في كله. فأجاب: بقوله في ذلك تفصيل أما الأولى والثانية فإن كانت الكيزان أو القناديل التي للاستصباح دون غيرها فإنها تضمن مطلقاً وقفت على الشاربين أو شريت من ريع الوقف حيث شرط الواقف فلا ضمان إن لم يفرط ومثلهما الأباريق الموقوفة على من يتوضأ فإن بقيت على ملك واضعها ضمن كاسرها وإن لم يفرط وأما الثالثة فإذا أعطي عطشاناً كوزاً ليشرب فوقع منه وانكسر ضمنه كالماء الذي فيه إن زاد على كفايته فيضمن الزائد على الأوجه لأنه قبضه لغرض نفسه وإن كان بإذن المالك فإن أعطاه له بعوض ضمن الماء فقط لأنه مملوك بالشراء الفاسد لعدم رؤيته دون الكوز لأنه مأخوذ بالإِجارة الفاسدة وأما الرابعة والخامسة فإن استعار ليستصبح أو يكتب فالقنديل والدواة مضمونان بالعارية دون الزيت والحبر لأنهما مأخوذان بالهبة الفاسدة فإن استعار ليكتب ببعضه فقط ضمن الزائد على ما مر وأما السادسة فإن صرح بالعارية فإن اعتبرنا الصيغة ضمن أو المعنى فلا ونظرهم للأول أكثر وعلى الثاني فإن استعارها لا يقاد كلها أو بعضها يأتي ما سبق وإن لم يصرح بها لم يضمن وكذا يقال في كل ما لا تصح إعارته مما يستهلك وأما السابعة فالأوجه فيها الضمان كما مر فيمن أخذ كوزاً ليشرب منه بلا عوض وأما الثامنة فيضمن فيها الدابة وأما التاسعة فإذا جرت العادة برد الظرف ضمنه وإن لم يستعمله فإن تلف في يد الرسول قبل قبض المهدى له فإن كان عبده ضمن لأن يده كيده أو وكيله فالذي يظهر أنه إن أرسله ليطلب ذلك دخل في ملكه بقبض الوكيل فيضمن الظرف بتلفه في يد وكيله(2/364)
بلا تقصير وإن لم يرسله لم يدخل في ملكه إلا بقبضه ولم يوجد فلا يضمنه الوكيل أيضاً لأنه في هذه الحالة وكيل المهدي لا المهدى له.
وسئل: عن مستعير سرق من عنده المستعار فحلون عليه فهل يلزمه الحلوان. فأجاب: بقوله نعم لأنه من تمام الرد الواجب عليه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل الإِباحة من ألفاظ التمليك أو لا وهل قولهم في باب المبيع قبل قبضه وإباحة الطعام للفقراء يفهم التقييد بالفقراء أم لا وهل الصدقة كالإِباحة. فأجاب: بقوله الذي دل عليه كلام الزركشي أول قواعده في مسائل متفرقة وغيره أخذاً من كلام التاج السبكي أن لفظ الإِباحة صريح في جواز الانتفاع بالشيء المباح ثم إن كان الانتفاع به لا يمكن إلا بذهاب عينه كانت الإِباحة قبل إتلافه غير لازمة فهو باقٍ على ملك مالكه وله التصرف فيه بأي وجه أراد وليس للمباح له التصرف فيه بغير الوجه الذي أبيح له وهو أكله مثلاً فإذا أتلفه بأكله أو نحوه تبينا أنه ملكه قبيل إتلافه على الخلاف المذكور في الضيف وإن كان الانتفاع به ممكناً مع بقاء عينه كالأرض كانت الإِباحة مفيدة لجواز انتفاعه لا لملكه العين ولا المنفعة فلا يجوز له إجارته ولا إعارته لأنه إنما ملك أن ينتفع ولا فرق في ذلك كله بين أن يقيد الإِباحة بمدة أو يطلقها لأنه إذا جاز تعليقها كما رجحه الزركشي إذ لا تمليك فيها فتوقيتها أولى وإذا تأملت ما قررته علمت الجمع بين مسائل ذكرها الزركشي وغيره ظاهرها التناقض وعلمت الفرق بين الصدقة والإِباحة لأن الصدقة تقتضي الملك حيث قبضها المتصدق عليه سواء أكانت بنحو طعام أو أرض أو غيرهما. ولا فرق في الصدقة والإِباحة بين أن يكونا على فقير أو غني كما أشار إلى ذلك التاج السبكي في قواعده وإن أوهم قول الفقهاء في باب المبيع قبل قبضها وإباحة الطعام للفقراء خلافه.(2/365)
وسئل: عمن وجد غلطاً في كتاب مستعار معه أو موقوف هل له إصلاحه وما ظنه غلطاً هل له أن يكتب فوقه لعله كذا كما يفعله كثير. فأجاب: بقوله نقل الإسنوى وغيره عن العبادي وأقروه أنه إذا استعار كتاباً فرأى فيه خطأ لا يصلحه إلا أن يكون قرآناً فيجب أ هـ .
وظاهره أنه لا فرق بين الموقوف وغيره ولا بين حسن الخط وغيره في الصورتين المذكورتين وللنظر فيه مجال وفي فتاوى القاضي لا يجوز رد الغلط في كتب الغير وحمله الريمي على ما لا يغير الحكم وإلا وجب رده لا سيما على الثبت اليقظ وكتب الوقف أولى وما ذكره ظاهر عند تيقن الغلط فلا يجوز بمجرد الظن أن يكتب لعله كذا في ملك أو وقف كذا قاله بعضهم وأخذ الأذرعي بجواز ذكر عيب الخاطب لأجل النصيحة جواز إصلاح الخطأ في الكتب المستعارة ثم نقل عن العبادي ما مر ثم قال واعلم أن إطلاق إصلاح الخطأ في المستعار خطأ فنقول وإن علم رضا المعير وهو أهل للإِصلاح جاز قطعاً أو كراهته فلا قطعاً وإلا فإن كان خط المستعير كخط الكتاب المستعار أو يقاربه فهذا محتمل وجه الجواز أنه إحسان فالظاهر رضا المعير به ووجه المنع أنه تصرف في ملك الغير بغير أمره وإن كان خط الكتاب في غاية الحسن لم يجز قطعاً أو بالعكس ففي الجواز نظر لأن الإِصلاح بتخريج الساقط بالخط الحسن يبين قبح خط الأصل ويفضحه وهذا إن لم يحصل بالإِصلاح كشط مكتوب أو تعييب أو ضرب فإن هذا يظهر أنه لا يجوز إلا بعد العلم برضا المعير وينبغي أن يفرق بين الموقوف على جماعة مسلمين وبين الملك والموقوف على معين فكل ما جاز فيهما جاز في الموقوف على العموم من باب أولى وكل ما امتنع فيهما هل يمتنع فيه هذا موضع تروّ وتفصيل يدركه النبيه أ هـ .
ملخصاً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101(2/366)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته ذكر أبو شكيل شارح الوسيط أن رجلاً استعار عبدين من مالكهما فقتل أحدهما الآخر عمداً فاقتص المالك ضمن قيمتهما فهل هو معتمد. فأجاب: بقوله مقتضى قول الأصحاب إذا قتل السيد العبد القاتل لعبده في يد الغاصب برىء لأن المالك هو المتلف أنه لا يضمن لأن الغاصب أسوأ حالاً منه فما ذكره أبو شكيل فيه نظر وإن وافقه بعضهم وفرق بين الغاصب والمستعير بأن المستعار تضمن رقبته دون جنايته والمغصوب ضمن رقبته وجنايته فإذا اقتص المالك من المغصوب فقد استوفى متعلق الغصب وسقط عن الغاصب حكم الغصب في الرقبة وفي هذه الجناية وإذا استوفى المعير فقد استوفى شيئاً لا تعلق له بالعارية ولا يضمنه المستعير فيبقى حكم العارية بحاله وهو ضمان العبدين المذكورين على المستعير وهل يطرد ذلك في جميع العواري إذا أتلفها المعير قبل أن يقبضها قال بعضهم لو أتلف أجنبي المستعار قبل أن يقبضه المعير فإن لم يضمن بأن أتلفه لصيال أو قصاص ضمنه المستعير فقط وإلا فهو طريق والقرار على المتلف وحينئذٍ فإتلاف المعير كذلك ففي الحالة الأولى الضمان على المستعير ولا يسقط عنه بإتلاف المعير بخلاف الغصب في القصاص لما مر من الفرق بينهما وفي الحالة الثانية يسقط الضمان عنه إذ لا فائدة في تغريمه وهو يرجع به على الآخر أ هـ .
وهو مبني على ما مر من الفرق بين الغاصب والمستعير.
وسئل: عن شخص قال لآخر منحتك كذا فهل هو كأعرتك أو كوهبتك. فأجاب: بقوله صرح في البيان في الهبة بأن المنحة هبة لكن كلامه في العارية صريح أو كالصريح في أن المنحة هي العارية وهو الذي دلت عليه الأحاديث واللغة والاستعمال واعتمده بعض شراح الوسيط.
وسئل: عمن استعار عبداً فهل يضمن ثيابه. فأجاب: بقوله لا يضمنها لأنه لم يأخذه مستعملاً لها بخلاف أكاف الدابة.(2/367)
وسئل: عمن استعار كتاباً موقوفاً فتلف عنده بلا تقصير فهل يضمنه أو لا. فأجاب: بقوله قال في الروضة في أواخر كتاب الوقف إذا سبلت كيزان على حوض أو نهر فتلف منها شيء في يد أحد لم يضمن إلا بالتعدي ومنه استعماله في غير ما وقف له وبه يعلم أن الكتاب المذكور إن كان وقفاً على المستعير بأن كان من جملة الموقوف عليهم فلا ضمان عليه وكذا إن لم يكن وقفاً عليه بأن كان وقفاً على إنسان بخصوصه فاستعاره منه كما صرح به البلقيني قياساً على ما لو استعار من مستأجر وألحق بذلك الاستعارة من كل من يستحق المنفعة استحقاقاً لازماً دون الرقبة قال وعليه لو أصدق زوجته منفعة أو صالح عليها أو جعلها رأس مال سلم لم يضمن المستعير من هؤلاء أ هـ .
وهو بحث متجه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101
وسئل: عن دابة مستعارة عثرت حالة الاستعمال وماتت ما الحكم. فأجاب: بقوله إن كان سبب تعثرها هو الاستعمال المأذون فيه لم يضمنها المستعير لأنها حينئذٍ تلفت بالاستعمال المأذون فيه وإن تعثرت لا بسبب أو بسبب هو الاستعمال لكنه غير المأذون فيه ضمنها كما لو تلفت بآفة سماوية في الطريق والله أعلم.
وسئل: عمن أبرأه عن عين فأبرأه الآخر عن دين فهل يصحان. فأجاب: بقوله لا يصح الإِبراء عن العين بل عن الدين لكن بحث جمع متأخرون أنه لو قصد بالإِبراء عن الدين جعله في مقابلة الإِبراء عن العين لم يصح.(2/368)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن قولهم في العارية وقلع مجاناً بذر ونواة حمله سيل فنبت في أرضه فهو باقٍ على ملك صاحبه فإن أعرض عنه فهو لصاحب الأرض هذا فيما لا قيمة له كنواة أما غيره فهو باقٍ لمالكه ذكره ابن أبي شريف في شرحه زاد في الأسني وعلى مالكه القطع لأن مالك الأرض لم يأذن فيه فهو كما لو انتشرت أغصان الشجرة في هواء داره وعليه التسوية للأرض لأن ذلك لتخليص ملكه وفي فتاوى السمهودي وإن كان ذلك يسيراً يعرض الناس عن المطالبة به عادة ألحق ذلك بالسواقط التي جرت العادة بالإعراض عنها وفي الأسني بعد ما تقدم فإن أعرض عنها وكان ممن يصح إعراضه فهي لمالك الأرض أ هـ .
ولا يخفى مناقضة ما ذكر لما ذكره ابن أبي شريف فما المعتمد. فأجاب: بقوله كلام الإِسعاد لا يخالفه ما ذكر بعده ومن ثم جريت عليه مبيناً لمراده في شرح الإِرشاد حيث قلت وعلى مالك الأرض رده أي ما حمل من نحو نوى وحب لمالكه إن حضر وإن لم يكن له قيمة كحبة ونواة لم يعرض عنها وذلك لأن تقييده الإِعراض بما لا قيمة له الموهم أن ماله قيمة لا يزول الملك عنه بالإِعراض يحمل على أن المراد قيمة لها وقع عادة أما ما ليس لها وقع كذلك فهي كالعدم وكلامه في باب الصيد والذبائح دال على ذلك وعبارة شرحي على المنهاج فرع يزول ملكه بالإِعراض عن نحو كسرة خبز وسنابل الحصادين وبرادة الحدادين فيملكها آخذها على المعتمد أي عند النووي وغيره خلافاً لقول الرافعي ومن تبعه أنها تصير مباحة ولا تملك أ هـ .
وينفذ تصرفه فيها أخذاً بظاهر أحوال السلف ومنه يؤخذ أنه لا فرق في ذلك بين ما تتعلق به الزكاة وغيره مسامحة بذلك لحقارته عادة فبحث الزركشي ومن تبعه التقييد بما لا تتعلق به مردود لذلك نعم محل جواز أخذ ذلك كما هو ظاهر ما لم تدل قرينة من المالك على عدم رضاه كأن وكل من يلقطه له انتهت عبارة الشرح المذكور والحاصل أن الإِعراض المهلك المكتفي فيه بالقرينة يجري فيما لا قيمة له بالكلية(2/369)
وفيما له قيمة تافهة وأما ما له قيمة لها وقع فلا يكتفى فيه بالقرائن بل لا بدّ فيه من التمليك أو صريح الإِباحة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 101
باب الشفعة
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل للشفيع بعد العلم الاشتغال بصلاة النفل. فأجاب: بقوله له الاشتغال بنافلة مؤقتة كما شمله كلامهم وهل يلحق بها النافلة المطلقة أو لا كل محتمل والأقرب الثاني لأن هذه لا يخشى فوتها بخلاف تلك وعلى كل فلو علم وهو فيها فهل يجب عليه الاقتصار على ركعتين بعد العلم أو له أن يصلي ما شاء كل محتمل أيضاً ولكن الأول أقوى مدركاً.(2/370)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا اشترى زيد حصة من عمرو من أرض مشتركة ثم باع المشتري الشقص من مشترٍ آخر مثلاً بعشرين درهماً فادعى الشفيع على المشتري بالشفعة وأيضاً ادعى أن المشتري الثاني المدعى عليه بالشفعة أقر بأن المشتري الأول إنما اشترى هذا المبيع بعشرة دراهم يريد الشفيع الشفعة على المشتري الثاني بالعشرة دراهم مؤاخذة له بإقراره هل له ذلك أم لا بل نقول لا نؤاخذ المشتري الأول بإقرار المشتري الثاني بل أنت أيها الشفيع مخير إن أردت الشفعة على الثاني بقيمة الذي اشترى به وهو عشرون وإن أردت فاترك عقده على حاله وأثبت على المشتري الأول أن ثمنه هو العشرة الدراهم واشفع فهل هو قول صواب أو للشفيع ما أراد من المؤاخذة يريدا دفع الثمن القليل إلى المشتري الثاني المدعي إقراره وأخذه المبيع منه. فأجاب: بقوله ما ذكر من تخيير الشفيع هو الصواب كما يعرف بأدنى نظر في كلامهم فقد قالوا لو باع المشتري لثانِ وهو لثالث وهو لرابع وهكذا تخير الشفيع في الأخذ من أيهم شاء لأن الثمن قد يكون في نحو البيع الأوّل أو الثاني أقل أو من جنس عليه أيسر أ هـ .
فعلم أن النزاع في كون الشراء المذكور في السؤال بعشرة لا فائدة له بل مهما أثبته الشفيع من أي الأثمان شاء أخذ به وواضح أن إقرار أحد المشتريين أنه اشترى بكذا إنما يؤثر في حقه فقط وأن المشتري منه أو البائع له إنما كان شراؤه بكذا لا عبرة به حيث لم يكن الشقص بيده وإنما يؤاخذ كل بإقراره فيما يتعلق بشرائه فقط.(2/371)
وسئل: عما إذا وكلت امرأة زيداً في طلب الشفعة من عمرو فلم يبادر الموكل بالشفعة بأن حضر مجلس القاضي ومضى عليه زمن يمكنه الشفعة فيه فهل هذا يسقط شفعة موكلته لأن المبادرة واجبة على الموكلة والوكيل وإذا قلتم بسقوط الشفعة بذلك فادعى الوكيل الطلب من القاضي وأنكر المدعى عليه الطلب ووافقه القاضي على عدم الطلب فأراد الوكيل إقامة بينة على الطلب من القاضي وسماعه للطلب هل له إقامة البينة أم لا ولا سيما بعد حكم القاضي بسقوط الشفعة. فأجاب: بقوله إذا تراخى الوكيل من غير عذر ألجأ إلى ذلك كان حضر مجلس القاضي ولم يبادر بطلت الشفعة لموكله من غير عذر له مسقط لشفعة موكله كما صرحوا به حتى في المختصرات وإذا ادعى الوكيل أنه بادر بالطلب من القاضي وأقام بذلك بينة لم تسقط شفعة موكله ولا عبرة حينئذٍ بقول القاضي ولا بحكمه الناشىء عن علمه أو عن بينة أخرى أما الأول فلتصريحهم بأن محل الحكم بالعلم حيث لا بينة تخالفه وأما الثاني فلأن بينة الإِثبات وهي بينة الوكيل مقدمة على بينة النفي وإن كان معها حكم لأن حكم القاضي ليس من المرجحات كما بينته في شرح الإِرشاد فإن فرض حصر بينة النفي له بأن أثبتت بينة الوكيل طلبه في مجلس محصور ونفته بينة خصمه في ذلك المجلس تعارضتا فيتساقطان ويصدق الشفيع بيمينه في عدم تقصيره في الطلب لأن الأصل بقاء حقه نعم للحاكم هنا الحكم بعلمه لسقوط حقه لكن إن كان ثقة أميناً على الأوجه ومما صرحوا به أنه لو أخر الطلب ثم اعتذر بنحو مرض أو مطر وأنكر المشتري صدق الطالب بيمينه إن عرف منه ذلك وإلا فالمشتري.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 105(2/372)
وسئل: عما إذا مات زيد وخلف ورثة ثم مات بعض الورثة وورثه الباقون فادعى على الباقي من الورثة اشتراء شقص من الوارث الميت فأنكر أحد بقية الورثة الاشتراء فأقام المدعي حجة على ذلك فأراد المنكر الشفعة بعد الإِنكار فهل له الشفعة أم لا أم يفرق بين تخصيص الإِنكار بحصته وعدم تخصيصه قياساً على مسئلة ما في الصلح من قوله في الإِرشاد وشفع منكر خصص أم لا يرجع إلى التخصيص وعدمه بل إلى إنكاره أصل الشركة مطلقاً فلا شفعة وبين إنكار الشراء فيشفع لأنه لا يلزم من إنكار الشركة إنكار مطلق الشركة. فأجاب: بقوله لا شفقة للمنكر هنا مطلقاً لزعمه بطلان البيع من أصله المترتب عليه الأخذ بالشفعة إذ فرض السؤال أنه لما ادعى الشراء من الميت قال له أحد ورثته لم تشترِ منه شيئاً فإذا ثبت الشراء منه لم يشفع ذلك المنكر لما تقرر أنه أنكر أصل البيع المستلزم لإِنكاره استحقاقه الأخذ بالشفعة وليس هذا نظير مسئلتهم المذكورة في الصلح لأن صورتها أن المدعي ادعى جميع الدار التي في يد اثنين ففصلنا فيمن لم يقر له بين أن ينكر ملكه لحصته فقط فيشفع لأنه لم ينكر حينئذٍ بطلان البيع الذي تضمنه الصلح المترتب عليه الأخذ بالشفعة بل قضية تخصيصه الإِنكار بما بيده فقط اعترافه بصحة ملك المقر له وذلك يستلزم اعترافه بصحة البيع المذكور فجاز أن يأخذ بالشفعة وبين أن يعمم إنكاره لملك شيء من الدار المدعي بها فحينئذٍ إذا صالح المقر له لم يكن للمنكر الأخذ بالشفعة لاعترافه ببطلان البيع المذكور المترتب عليه الأخذ بالشفعة وقد ذكرت في شرح الإِرشاد أن قضية كلام مصنفه في شرحه أن المقر له لو باع النصيب لأَجنبي غير المقر لا يأخذه المنكر بالشفعة مطلقاً وليس كذلك بل فيه التفصيل المذكور كما هو ظاهر أي لأن المدار على اعتراف الشريك بصحة البيع فيأخذ بالشفعة أو ببطلانه فلا يأخذ بها فإن قلت يشكل على ما ذكرت قولهم لو كان بينهما عرصة مشتركة فادعى أجنبي نصيب أحدهما(2/373)
وشهد له الآخر فردت شهادته ثم باع المشهود عليه نصيبه لآخر فللشاهد أخذه بالشفعة فقد صححوا أخذه بالشفعة مع اعترافه ببطلان البيع المترتب عليه الأخذ قلت لا إشكال في ذلك لأنهم لم يصححوا أخذه بالشفعة وأبقوه له بل أوجبوا رده عليه للمشهود له لاعترافه بشهادته السابقة أنه ملكه فإذا صار في يده آخذناه بقضية شهادته فكان هذا أعني رده إلى مالكه هو المسوّغ للأخذ بالشفعة وإن كان الآخذ بها يزعم بطلان البيع وقول السائل نفع الله به بل إلى إنكاره أصل الشركة الخ. عجيب فإنه لا فرق كما هو جلي بين إنكار الشركة وإنكار الشراء إذ كل منهما من الشريك القديم مانع من أخذه بالشفعة لأن كلاً منهما يوجب إقراره بعدم ملك المشتري من الشريك القديم وإذا أنكر ملك المشتري للشقص فكيف يتصوّر أخذه له وقوله لا يلزم من إنكار الشركة إنكار مطلق الشركة أعجب لأنه إن أراد بالشركة الأولى نوعاً خاصاً منها لزم من إنكاره إنكار مطلقها وإن أراد بالشركة الأولى مطلقها كانت هي عين الثانية فيلزم من إنكار إحداهما إنكار الأخرى ولعل في ذلك تحريفاً والأصل أنه لا يلزم من إنكار الشراء إنكار مطلق الشركة وهذا اللزوم الصحيح لا يفيد في مسئلتنا أيضاً لأن المدار إنما هو على الاعتراف ببطلان البيع فحيث اعترف به لم يأخذ بالشفعة سواء أنكر أصل الشركة أم أنكر الشراء كما في صورة السؤال.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 105(2/374)
وسئل: عما إذا تملك الشفيع بما ذكروه من الصيغ وبشرطه ثم لم يسلم الثمن قالوا يمهل ثلاثة أيام فإن لم يسلم فسخ الحاكم تملكه ثم استطرد في الدميري خلافاً حتى قال وقيل يحبس الشفيع فهل المشتري يتخير بين الفسخ وبين إجبار الشفيع على التسليم أو ليس للمشتري إلا فسخ الشفعة كما هو ظاهر قولهم فسخ الحاكم تملكه. فأجاب: بقوله عبارة الدميري التي أجملها السائل إذا تملك الشفيع الشقص بغير الطريق الأول لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن وإن لم يسلمه المشتري قبل أدائه ولا يلزمه أن يؤخر حقه بتأخير البائع حقه وإذا لم يكن الثمن حاضراً بأن غاب ماله وقت التملك أمهل ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يحضره فسخ القاضي تملكه وقيل إذا قصر في الأَداء بطل حقه وقيل إن المشتري يفسخ وقيل يحبس الشفيع حتى يوفي الثمن انتهت وهي واضحة الدلالة على أن الحبس قول ضعيف وعلى أن المشتري عقب مضي الأيام الثلاثة في صورة غيبة الثمن يخير بين أن يصبر إلى حضوره وبين أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليفسخ وليس له الاستقلال بالفسخ ولا إجبار الشفيع على التسليم.(2/375)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن قول الدميري في شرح قول المنهاج ولو باع أحد الشريكين نصف حصته لرجل ثم باقيها لآخر فالشفعة في النصف الأول للشريك القديم لأنه ليس معه في حال بيعه شريك إلا البائع والبائع لا يتصوّر أن يأخذ ما باعه بالشفعة أ هـ .
هل لقائل أن يقول هذا البيع في الابتداء إما بعد أن يأخذ الشريك القديم فيأخذ البائع بالشفعة بقسطه مما يملك الشريك القديم بالشفعة محتجاً بأن تملك الشفعة معاوضة قلنا هذا يمنع ذلك ولا سيما في الأنوار في هذا المحل ما هو أصرح من ذلك بقوله حتى لا يتمكن أي البائع من أخذه الخ. فأجاب: بقوله كأن السائل نفع الله به يشير إلى أن البائع لما باع نصف حصته وأخذها شريكه بالشفعة كان هو حين الأخذ شريكاً قديماً بالنسبة إلى وقت الأخذ فلم لم يأخذ من الشفيع بقسط ما بقي له لأن أخذ الشفيع بمنزلة الشراء فكأن الشفيع اشترى الشقص المشفوع والشفيع له شريك قديم فكان القياس أن يشاركه هذا حاصل ما يمكن أن يفهم من كلام السائل نفع الله به والذي دل عليه كلامهم بل صرح به قولهم إن البائع لا يتصور أن يأخذ ما باعه بالشفعة أن البائع لا شفعة له على الشفيع مطلقاً ويوجه بأن علة ثبوت الشفعة إما دفع ضرر مؤنة القسمة وهو الأصح أو دفع سوء المشاركة وكل من هاتين العلتين يمنع أخذ البائع من الشفيع لأنه لما باع بعض حصته لغير شريكه كان منه نوع تعد إذ أدخل عليه من يضره بطلب القسمة أو من يسيء مشاركته فدفع الشارع ذلك كله عنه بأن أثبت له الأخذ بالشفعة من المشتري حتى تنتفي علية كل من ضرر القسمة وسوء المشاركة وإذا كان هذا هو السبب في علة ثبوت الشفعة للشريك القديم علم منه أنها لا تثبت للبائع على الشفيع لأن الشفيع لم يصدر منه نوع من أنواع التعدي على البائع بالأخذ بل إنما قصد بأخذه منع تعدي البائع عليه بالبيع من غيره فكيف يتوهم حينئذٍ أن البائع يأخذ مع أنه المتعدي بالبيع والشفيع غير متعد بالأخذ وأيضاً فالبائع(2/376)
ببيعه بعض حصته لثالث قد وطن نفسه على ما يأتي من الثالث من ضرر القسمة وسوء المشاركة وشريكه القديم لم يوطن نفسه على ذلك وإنما البائع أدخل عليه ذلك الضرر فناسب ثبوت الشفعة له لعذره ولم يناسب أخذ البائع لشيء من المشفوع لما تقرر أن علة أخذه منع آثار تعدي البائع وإذا كانت هذه هي العلة فهي غير موجودة في البائع فتعذر أخذه هذا حاصل ما يوجه به كلامهم وهو توجيه ظاهر جلي لا غبار عليه فليتأمل.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 105(2/377)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أخوين مشتركين في أرض باع أحدهما لأجنبي ثم مات الآخر الذي لم يبع قبل أن يسقط حقه وورثه الآخر البائع فهل للبائع أن يشفع فيما باع لأنه قام مقام أخيه في ذلك أم لا. فأجاب: بقوله أن للبائع الوارث أن يشفع كما هو ظاهر إذ لا مانع له من ذلك لأنه أخذه بالشفعة للوصف الذي طرأ وهو الإِرث غير الوصف الذي باع به وتبدل الأوصاف كتبدل الذوات وليس هذا كفروع ذكروا فيها سقوط حقه بإرثه لأن تلك الحق فيها له على الميت فإذا صار هو الوارث تعذر طلبه لذلك الحق وهنا الحق للميت على المشتري فإذا مات انتقل حق الميت لوارثه وإن كان هو البائع فله حينئذٍ الأخذ به خلافة عن مورثه الآن وكونه بائعاً وصف انقضى وخلفه وصف آخر فعمل به لإِطباقهم على أن ما يثبت للميت يثبت لوارثه إلا في مسائل ليست هذه منها فإن قلت صرحوا بأنه لا شفعة للشريك الوارث فيما بيع في دين مورثه فهل يؤخذ من هذا المنع في مسئلتنا قلت لا يؤخذ منه ذلك بوجه لوضوح فرقان ما بينهما إذ سبب المنع هنا أنه قادر على ترك بيعه وأداء الدين من ماله كذا قيل وفيه نظر والوجه أن سببه أن الوارث يملك التركة وإن كان الدين مستغرقاً فالشقص المبيع ملكه حالة البيع فكيف يتصور أخذه بالشفعة على أنه قد لا يقدر على ترك بيعه لكون الميت أوصى ببيعه في دينه ثم رأيت بعضهم قال الظاهر أن المنع لكونه نائب مورثه فلو شفع لكان كالشافع فيما باعه بنفسه أي لنفسه وهو موافق لما ذكرته لكن ما ذكرته أوضح لما ذكروه أنه يملك التركة ملكاً حقيقياً وإن استغرقها الدين فليس كالبائع فيما باعه لنفسه بل هو هو حقيقة وظاهر كما علم مما تقرر أن الكلام في وارث حائز أو غيره لكن بالنسبة لما يخص قسطه من الإِرث دون قسط غيره والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 105
باب القراض(2/378)
مسئلة: نقل شيخ الإِسلام في تخريج أحاديث الرافعي والزركشي في الخادم وغيرهما عن ابن حزم وأقروه أن كل باب من أبواب الفقه له أصل في الكتاب والسنّة إلا القراض مع قيام الإِجماع عليه لكنه إنما يكون عن أصل فهل هو كما قال وكيف ساغ لهؤلاء الأئمة تقريره مع حديث ابن ماجه ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وخلط التمر بالشعير للبيت لا للبيع . الجواب: الحديث المذكور لا يرد عليهم لأنه موضوع كما قاله البخاري وعلى التنزل وأن له أصلاً فهو ليس بهذا اللفظ أعني المقارضة بالقاف خلافاً لمن وهم فيه اغتراراً بكون ابن ماجه ذكره في الشركة والمضاربة أي المقارضة وإنما صوابه بالعين أي بيع العرض بالعرض فاتضح قول ابن حزم ما مر وتقريرهم عليه لكن يرد عليهم ما اشتهر في السير أنه سافر تاجراً لخديجة قبل النبوة وحكى ذلك وأقره بعدها فدل على جوازه جاهلية وإسلاماً وثبت أن للقراض أصلاً أصيلاً والله أعلم.(2/379)
وسئل: عما لو اختلف الدافع والمدفوع له بعد تلف المدفوع فادعى المدفوع إليه أنه قراض وادعى الدافع أنه قرض فما المعتمد في ذلك وما وجه الاستدلال مع ملاحظة كلامهم آخر العارية. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بأن الذي جرى عليه صاحب الجواهر والخادم وغيرهما تصديق المالك لأن المدعى عليه يدعي سقوط الضمان مع اعترافه بتصرفه فيه المقتضي لشغل الذمة والأصل عدم ذلك ويؤيده قول ابن علي الثقفي لو دفع إليه ألفاً فتصرف فيها فربح ألفاً ثم اختلفا فقال القابض كان مضاربة بالنصف مثلاً وقال المالك كان بضاعة أي وكالة صدق الدافع وجزم به في البحر ورجحه الأذرعي لأن الأصل عدم ما ادعاه القابض ويؤيده أيضاً قولهم لو قال مالك الدابة لراكبها أجرتكها فعليك الأجرة، وقال الراكب أعرتني صدق المالك لأن الأصل عدم إذن المالك في إباحة منافع دابته مجاناً وخالف في مسئلتنا ابن الصلاح فأفتى بأن القول قول القابض في نفي الضمان لأنهما اتفقا على الإِذن في التصرف واختلفا في شغل الذمة والأصل براءتها أ هـ .
وما قاله ممنوع وإن تبعه الدميري و الجوجري وغيرهما، لأنا تيقنا بالتصرف اشتغال الذمة والقابض يدعي سقوطه فكانت دعواه مخالفة للأصل فلم تسمع منه ومال الجلال البلقيني إلى ما رجحه ابن الصلاح وأيده بقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 108(2/380)
البغوي لو دفع ألفاً لإِنسان فقال المدفوع إليه كان وديعة فهلك فقال الدافع بل أخذته قرضاً فالقول قول المدفوع إليه مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته بخلاف ما لو قال غصبتني فقال لا بل أكريتني فالقول قول المالك على الأصح لأنه أتلف منفعة ماله ثم ادعى إسقاط الضمان بعد الاتفاق على أخذه لحق نفسه أ هـ .
ولا شاهد فيه لما قاله ابن الصلاح خلافاً لما زعمه الجلال لأن مسئلة البغوي الأولى أعني قول المدفوع إليه قراض وقول الدافع قرض لم يحصل فيها تصرف يقتضي شغل الذمة بل الذمة باقية على أصل براءتها فلذا صدق المدفوع إليه لأن أصل براءة ذمته لم يعارضه شيء أما في مسئلتنا فقد تيقنا الصرف وهو مقتض لشغل الذمة فبطل أصل براءتها ولزم من بطلان هذا الأصل تصديق الدافع لأن دعواه عضدها تيقن شغل الذمة الموافق لها على أن مسئلة البغوي الثانية تؤيد ما قلناه كما علم مما قدمته من التوجيه فكلامه لنا لا علينا فتأمل وممن تبع ابن الصلاح أيضاً الولي العراقي أبو زرعة فرجح تصديق العامل بعد التلف وفرق بينه وبين مسئلة العارية السابقة بأنهما ثم متفقان على عدم انتقال ملك العين للآخذ بل هي باقية على ملك مالكها وقد انتفع بها ومدع عدم العوض والأصل عدم سقوطه فإن الانتفاع بملك الغير يقتضي العوض أ هـ .
ويرد بما تقرر من أنا في مسئلتنا تيقناً التصرف وهو مقتض لشغل الذمة فلم يصدق الآخذ فاتضح أن المسئلتين على حد سواء وإن كلامهم في مسئلة العارية شاهد عدل على تصديق الدافع ثم ما ذكره البغوي في المسئلة الأولى هو المعتمد ومن ثم جرى عليه في الأنوار وقال البغوي أنه متعين وبه أفتى شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله عهده وأما ما في منهاج القضاة من أنه لو دفع إليه مالاً وتلف في يده فقال دفعته قرضاً وقال الآخر وكالة صدق الدافع أ هـ .
فهو ضعيف والمعتمد تصديق المدفوع إليه نظير مسئلة البغوي وبما قررته يعلم أن الكلام في مسئلتنا فيما إذا كان التلف بعد تصرف(2/381)
القابض فيصدق الدافع حينئذٍ لما قدمته أما إذا وقع التلف قبل التصرف فالمصدق حينئذٍ هو القابض وعليه يحمل ما مر عن ابن الصلاح وغيره لأنهما اتفقا على الإِذن واختلفا في شغل الذمة والأصل براءة ذمتهما قال الشيخان ولو أقام كل منهما بينة بما قاله قال صاحب العدة والبيان بينة القابض أولى في أحد الوجهين أ هـ .
واعترض بأن الحق التعارض وفيه نظر بل الأوجه ما بحثه أبو زرعة من ترجيح بينة الدافع لأن معها زيادة علم بالانتقال إلى الآخذ والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 108
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قارض شخصاً فاشترى وباع فلما نض الثمن ولم يظهر فيه ربح أخذ العامل مالاً من عنده وأضافه إلى مال القراض بإذن المالك ثم عملا فيه فما حكم الربح الحاصل بعد ذلك. فأجاب: بقوله إن جرى ذلك بعد فسخ عقد القراض أو استرداد المالك رأس المال فهو محض شركة وإلا صحت الشركة مع بقاء عقد القراض على حاله فيعمل في الربح الحاصل بمقتضى العقدين شركة وقراضاً فإن تساويا في المال فالربح بينهما نصفين وللعامل من حصة المالك ما كان شرطه له من الربح.
وسئل: عما إذا مات المالك فتصرف العامل في مال القراض جاهلاً فهل يضمن وهل الوكيل مثله. فأجاب: بقوله من المعلوم ارتفاع العقد بالموت فتصرف العامل حينئذٍ كتصرف الغاصب فإن كان بعين المال بطل والأصح وما صرفه من مال القراض مضمون عليه وإن جهل وكذا حكم الوكيل إذا تصرف بعد الموت أو العزل.(2/382)
وسئل: عن شخصين دفعا لإِنسان قراضاً فدفع أحدهما ألف أشرفي والآخر ألفي أشرفي فالجملة ثلاثة آلاف واتفقا على أن يكون للعامل الثلث من الربح ولكل واحد منهما الثلث ورضي العامل بذلك وثبت ذلك عند قاض شافعي المذهب وسافر ذلك الإِنسان وربح ربحاً كثيراً فامتنعا أن يدفعا له ما وقع الاتفاق عليه فهل يجب عليهما دفع ذلك أم لا. فأجاب: بقوله القراض المذكور فاسد فيستحق العامل أجرة مثله ولا شيء له من الربح والله أعلم.
وسئل: عمن قال قارضتك على إحدى هاتين الصرتين ثم عين إحداهما في المجلس صح بخلاف ساقيتك على إحدى هاتين الحديقتين ثم عين إحداهما في المجلس فإنه لا يصح فما الفرق بينهما. فأجاب: بقوله قد يفرق بأن القصد هنا وقوع العقد على شيء مربح من غير خصوص شيء معين وذلك حاصل في المسئلة الأولى لأن الربح لا يختص بواحدة دون الأخرى فلا يختلف الغرض في تعين أي واحدة منهما ولا نظر فيها إلى كون واحدة أروج من الأخرى لأنه لا ينافي كون الأخرى فيها ربح وهو المقصود دون الربح والقصد في المساقاة وقوع عقدها على شيء معين يثمر غالباً وذلك غير حاصل في المسئلة الثانية لأن الغرض فيها يختلف باختلاف عين الحديقة لأن القصد الثمرة وهي تختلف باختلاف الأمكنة اختلافاً كثيراً فوجب تعيين محلها لاختلاف الغرض به.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 108(2/383)
وسئل: عن رجل دفع إلى آخر مالاً نقداً قدره عشرون ألف محلق على سبيل المضاربة الشرعية فاشترى العالم بذلك بضائع ومتاجر وسافر بذلك بإذن رب المال إلى بعض البلاد وباع واشترى في ذلك أيضاً ثم حضر إلى رب المال وذكر له أن المتحصل في ذلك ربحاً ثلاثة عشر ألف محلق ثم رجع عن ذلك وقال إن المتحصل في ذلك ربحاً إنما هو ستة آلاف محلق فسأله رب المال عن تفصيل بيعه وشرائه وربحه ومصارفه ومحصولاته فأجاب بأنه لا يلزم بيان ذلك ولا الجواب وأن القول قوله في ذلك فهل يلزمه بيان ذلك وتفصيله ومحاسبة رب المال عن الأصل والربح وتفصيلات التصرف أم لا يلزمه ذلك والحال أن التجار المسافرين معه إلى البلد التي سافر إليها بمثل البضائع التي سافر بها ربحوا فيها أكثر من ضعف ربح العامل المذكور مع أن بيعهم وشراءهم في أوان واحد على كيفية متقاربة وماذا يلزم العامل المذكور إذا صمم على عدم المحاسبة إذا فصل تفصيلاً بعيداً عن تفصيل أمثاله من التجار وإذا لم يكن مع رب المال بينة باعتراف العامل المذكور بأنه ربح في ذلك ثلاثة عشر ألف محلق فماذا يلزمه في ذلك وما حكم الله تعالى في ذلك. فأجاب: بقوله إذا قال له ربحت كذا ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه وإن ذكر شبهة لغلطه لكن له تحليف المالك أنه لا يعلم ذلك سواء ذكر شبهة أم لا على الأصح وإذا فصل ما صرفه فإن كان قدراً لائقاً محتملاً في العادة صدق بيمينه وإن كان قدراً غير لائق لذلك لم يصدق بالنسبة للزائد على اللائق فيطالب به وإذا لم يفصل وامتنع من المحاسبة ألزم بها أخذاً مما قالوه في ناظر الوقف وفائدتها أنه إذا ذكر مقادير المصاريف نظر فيها هل هي لائقة أم لا ويأتي فيها ما ذكرناه وأما المحاسبة عن كيفية الربح ومقاديره فلا يلزم بها كما هو ظاهر إذ لا ضابط له يوقف عليه بها بخلاف المصاريف فإن لها مقادير عند أهل العرف لا تنخرم غالباً وإذا عدم المالك البينة باعتراف العامل الأول أو لم يعدمها جاز له تحليفه(2/384)
على أنه ما اعترف له أوّلاً بما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ثم رأيت شيخنا قال في أدب القضاء لا يطالب أحد منهم أي الأمناء كالوكيل والوصي والمقارض والمرتهن بإقامة حساب بل إن ادعى عليه جناية فالقول قوله بيمينه ذكره ابن الصلاح في الوصي و الهروي في أمناء القاضي ومثلهم بقية الأمناء لكن الأوجه كما يؤخذ من كلام القاضي حسين أن الأمر في ذلك كله يرجع إلى رأي القاضي بحسب ما يراه من المصلحة أ هـ .
وينبغي حمله على المحاسبة عن كيفية الربح ومقداره وأما على المصاريف فالذي يتجه فيه ما ذكرته أخذاً مما ذكروه في ناظر الوقف كما قدمته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 108
وسئل: عن رجل دفع مائة لآخر يسافر براً وبحراً بشرط أنه إذا عاد بالسلامة يسلم إليه مائة وعشرين سواء ربح في تلك المائة أضعافاً أو خسر خسراناً بيناً ومع ذلك إذا تلف المال لا يصير القابض ضامناً كما جرت به عادة أهل الهند ويتعاملون بهذا الشرط فالمسؤول بيان حكم هذه المسئلة فقد عمت البلوى بها فإن قلتم بعدم الجواز لوجود الشرط فهل حكم ذلك كحكم الربا أو القراض أوضحوه لنا إيضاحاً وافياً أثابكم الله ثواب المحسنين. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله الشرط المذكور باطل ومبطل لعقد القراض المذكور والمال المأخوذ به محرم شديد التحريم لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ومن أخذ بهذا الشرط مالاً فهو عاص آثم فعليه التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى فإن قلت فما حكم المال الذي أخذه العامل بهذا الشرط قلت هو قراض فاسد فيد العامل يد أمانة والربح كله للمالك والخسر عليه ثم إن طمع العامل في زيادة ربح له على المائة والعشرين فله أجرة المثل وإلا فلا لأن من عمل غير طامع في شيء لا شيء له.(2/385)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه لو طلب الرصدي نقداً ولم يكن في مال القراض أو تعسر إحضاره أو كانت المصلحة أن لا يباع لذلك في تلك الحالة فأعطاه من ماله وأشهد عند عجزه عن الرفع إلى الحاكم فهل له الرجوع كنظائره أو لا وهل يجري ذلك في الوكيل والمودع ونحوهم حيث جاز لهم الدفع من المال الذي بأيديهم لمن ذكر أم لا. فأجاب: بقوله إن ما ذكروه في هرب عامل المساقاة والجمال ونحوهما قاض بأنه إذا طلب من عامل القراض أو نحوه ما يحسب على المالك كما يأخذه الرصدي والمكاس وتعذر أو تعسر وزنه من المال فأعطاه العامل أو نحوه من ماله بإذن القاضي أو مع إشهاده على أنه أعطاه ليرجع أو بشرط الرجوع لفقد القاضي أو تعسره لكونه فوق مسافة العدوي أو للخوف منه على المال كما هو الغالب الآن رجع به على المالك وإن اختل شرط من ذلك لم يرجع به لتبرعه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 108
باب الإِقرار(2/386)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو أقر لأَولاده بمال وفيهم حي وميت فهل يدخل الميت في الإِقرار ويكون لوارثه كما لو خصه بالإِقرار أم لا. فأجاب: بقوله أن الذي يظهر أن الميت من الأولاد يدخل فيهم ويكون لورثته أخذاً من قول الروياني لو قال لهذا الميت عليّ كذا فظاهر كلام المختصر جواز الإِقرار بتقدير كان له عليّ أ هـ .
ويؤخذ من تقدير كان له عليّ أن تخصيصه بالإِقرار له ليس هو ملحظ صحة الإِقرار له وإنما ملحظة أن كونه ميتاً لا ينافي صحة الإِقرار له لأن الميت وإن لم يكن يمكن تصور الملك له حين الإِقرار يمكن تصوّره له قبل ذلك بالتقدير المذكور فلم يكن الموت مانعاً لصحة الإِقرار وإذا اتضح أنه لا منافاة بين الموت وصحة الإِقرار اتضح العمل بعموم قوله عليّ لأولادي كذا لأنه لا تخصيص لأحدهم فدخلوا كلهم أحياؤهم وأمواتهم لاستواء وصف الموت والحياة بالنسبة إلى صحة الإِقرار فإن قلت يعارض ذلك قولهم لو أطلق الإِقرار للحمل بالمال وانفصل حي وميت استحق الحي جميع المال المقر به وكان الميت كالمعدوم قلت الفرق بين هذه الصورة ومسئلتنا واضح فإن الإِقرار للحمل لا يصح إلا إن أسنده إلى نحو إرث أو أطلق وانفصل حياً لوقت يعلم وجوده عند الإِقرار لأن الحمل لا يمكن أن يتصوّر له الملك حقيقة أو احتمالاً إلا بذلك فالميت المنفصل لا يتصور له الملك قبل ذلك فلم يصح الإِقرار له وصح للحي بخلاف الميت في مسئلتنا فإنه عهد له قبل الآن ملك والإِقرار إخبار عن حق سابق فصح إسناد الملك إليه والإِقرار له به فدخل في مطلق الإِقرار للأولاد لشمول اللفظ له مع عدم شيء يخرجه ولا نظر إلى المتعارف الغالب من أن الإِقرار لا يكون إلا لحي لأنا لو نظرنا لذلك لم يصح الإِقرار للميت وإن نص عليه فإن قلت فرق بين النص والظاهر قلت فرق بينهما من حيث علم الأصول ومباحثه وأما في الأحكام الفقهية فهما مستويان غالباً فإن قلت فإن وقف على أولاده لم يتناول الموتى منهم حتى لا(2/387)
يصرف منه شيء لورثتهم قلت الفرق بين الإِقرار والوقف جلي فإن الإِقرار إخبار عن حق سابق والحق السابق الميت فيه والحي سواء بخلاف الوقف فإنه إنشاء تمليك المنافع للموقوف عليه فاشترط فيمن يوقف عليه أن يكون عند الوقف ممن يمكن تمليكه الآن والميت ليس كذلك فلم يمكن القول بدخوله فيه فالملحظ في البابين مختلف بل بينهما من البون ما لا يخفى على من له أدنى تأمل والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/388)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخص أقر أن جميع كامل البستان الصغير من أرض وأخشاب وبناء المعروف بمحمد بن يحيى الصائر إليه بالشراء الشرعي وجميع البيت الصائر إليه بالشراء من أولاد إدريس الكائنين بالحجاز بجميع حقوق ذلك من سقية ومنافع وحقوق ملك لبنته فاطمة ثم وجد في مكتوب شراء البستان المذكور لهذا المقر من محمد بن يحيى أنه اشتراه أي اشترى منه سقيته وهي ثلاثة عشر قيراطاً فهل تستحق البنت المذكورة جميع البستان بجميع السقية المعينة في مكتوب الشراء لأن قوله بجميع حقوق ذلك من سقية ومنافع إنما هو قيد لكامل البستان الصغير فالضمير في سقيته راجع إليه والمرجع إنما هو مقيد بمن هو المعروف به البستان وهو المشتري منه فتكون السقية أيضاً مقيدة بقيد مرجع الضمير كما هو الظاهر المتبادر سيما عند عدم المانع وإلا يكن القيد لغواً محضاً في الوصية فالمقر به إنما هو جميع السقية المعروفة بالمشتري منه لا السقية المطلقة فحينئذٍ لو فرضنا أن هذه السقية تكون زائدة على كفاية البستان المرجع للضمير مع أنها ليست كذلك على ما هو عادة أرض أهل الحجاز بحسب اختلاف الفصول فهل هذه الزيادة داخلة في الإِقرار ويكون للمرأة المقر لها جميع السقية المعروفة بمحمد بن يحيى أم على قدر العادة ثم لو فرضنا أنها أقل من الكفاية فكيف العمل فيها أيضاً. فأجاب: بقوله نعم تستحق البنت المذكورة جميع البستان وسقيته ثم الذي دل عليه كلام أئمتنا أن المراد بسقيته سقيته الموجودة له حال الإِقرار سواه أكانت زائدة على السقية المذكورة في مستند الشراء أم لا فمما يدل لذلك قولهم لو قال لمالك هذه الدابة عليّ كذا حمل على مالكها الآن لأنه الظاهر وإن احتمل أن تكون لمالك آخر قال الأذرعي لكن قد يعهدها ولا يعلم انتقالها عنه إلى غيره وقد يشتريها أو يتهبها أو يرثها أو يقبل الوصية بها فيقول آخر في ذلك المجلس ذلك فلا يمكن حمله على مالكها الآن قطعاً أ هـ .
فتأمل رعايتهم(2/389)
للظاهر وهو الحمل على المالك حال الإِقرار وإعراضهم عن كونه ملكاً للمقر له فيجب تقديم المخبر عنه على المخبر فهو إخبار عن حق ثابت ويكفي في ثبوته سبقه على الإِقرار بلحظة وأيضاً فمالك اسم فاعل وهو حقيقة في مالكها حال الإِقرار مجاز في مالكها قبله فحمل اللفظ على حقيقته دون مجازه ومحل حمله على حقيقته ومجازه الذي ذهب إليه الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا أرادهما المتكلم إذا تقرر ذلك فالسقية مختلفة أيضاً فيكفي في استحقاق المقر لها ثبوته لها قبيل الإِقرار بلحظة على القاعدة المقررة فإذا علم أنها إنما ثبتت لها في ذلك الزمن لا فيما قبله فلينظر إليها حال الإِقرار وينزل الإِقرار عليها ولا نظر لسقيته المذكورة في مستند الشراء إذا كانت أزيد أو أنقص من سقيته الثابتة له يوم الإِقرار لأن مبنى الإِقرار على اليقين أو الظاهر القوي وطرح المشكوك فيه والظاهر أن المراد سقيته حال الإِقرار دون التي قبل ذلك إذا تخالفتا فحملنا لفظه عليها عملاً بالظاهر دون السقية السابقة طرحاً للمشكوك فيه وكون الضمير في سقيته يرجع إلى البستان المقيد بأنه مشتري من محمد بن يحيى لا يقتضي ثبوت السقية الموجودة حال الشراء للمقر لها للاتفاق على أنها لا تملك البستان قبيل الإِقرار دون ما قبل ذلك وإذا لم يكن لها حق فيما قبل ذلك من حيث الملك فأولى أن لا يكون لها حق فيما قبل ذلك من حيث معرفة قدر السقية فوجب النظر إليها حال الإِقرار والإعراض عن النظر لما قبله فاندفع ادعاء أن الظاهر أنها مقيدة بقيد مرجع الضمير على أن ههنا مانعاً يمنع من حملها على الموجودة حال الشراء لأنه إذا فرض أنه حينئذٍ كان شربه ثلاثة عشر قيراطاً فتصرف فيها المشتري وجعل له عشرة قراريط أو زاد حتى بقيت عشرين قيراطاً ثم أقر فلو حملنا إقراره على الموجودة حال الشراء دون الإِقرار لكان ذلك مخالفاً للقاعدة وكلامهم إذ اعتبار السابق المقتضي والأعراض اللاحق الموجود بعيد مع أن(2/390)
الألفاظ إنما تحمل على مدلولاتها حال التلفظ بها والأذهان إنما يتبادر إليها من الألفاظ حملها على مدلولها حال التلفظ بها ويؤيد ذلك أنه لو قال كان لك عليّ ألف لم يكن لا في جواب دعوى إقراراً قالوا لأنه لم يعترف في الحال بشيء والأصل براءة الذمة ولا يلزم على ذلك أن القيد لغو خلافاً لما في السؤال لأن فائدته في البستان تعريفه وتمييز عن غيره وفائدة رجوع الضمير في سقيته للبستان بذلك القيد ربط السقية المقر بها بذلك البستان المقيد إذ لو حذف الضمير فقال وسقية لكان إقراراً بمجهول مطلق لا تعلق له بالبستان المذكور فوجب رجوع الضمير إلى البستان حتى ترتبط السقية به ومما يدل لذلك أيضاً أنه لو قال له عليّ مائة درهم ودراهم البلد مغشوشة أو ناقصة وتعذرت مراجعته حمل على دراهم البلد المتعامل بها حالة الإِقرار حملاً على المعهود ولا نظر لدراهمها قبل ذلك وما ذكرته هو ما قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/391)
الأذرعي أنه الصواب المنقول المنصوص في المعاملات ولأنه المتيقن ولم أرَ من صرح بخلافه ولا تغتر بما زعمه الإسنوى في المهمات من نقل ما يخالفه أ هـ .
ووجه الدلالة من هذا أنهم حملوا الدراهم في هذه الصورة على الموجود حال الإِقرار وأعرضوا عن القاعدة العامة وهي أن الدراهم حيث أطلقت في باب الإِقرار حملت على دراهم الإِسلام وهي الوارثة الخالصة إلا فيما استثنوه فإذا خالفوا القاعدة تحكيماً للمعهود حال الإِقرار حتى حملوها عليه فأولى أن تحمل السقية في مسئلتنا على السقية المعهودة حال الإِقرار وإن سلمنا أن رجوع الضمير للبستان بقيده قرينة على أن المراد السقية الموجودة حال الشراء لأن هذه القرينة عارضها ما هو أقوى منها مما قدمناه ومما سيأتي ومنه قولهم لو قال له عندي جارية أو شجرة فكانت الجارية حاملاً والشجرة مثمرة لم يدخل الحمل ولا الثمرة قالوا لأنهما لا يتناولانهما لأن الإِقرار إخبار عن حق سابق كما مر وربما كانت الجارية والشجرة له دون الحمل والثمرة بأن كانا موصى بهما فإذا أخرجوهما لهذا الاحتمال البعيد فأولى إخراج السقية الموجودة حال الشراء لاحتمال أن المقر تصرف فيها بزيادة أو نقص حال كون البستان على ملكه ثم إذا انتقل عنه لم يكن له إلا ما استقر عليه أمره من السقية ووجودها حال الإِقرار قرينة ظاهرة على أنها الذي استقر عليها أمر هذا البستان وأنها التي أقر بها دون السقية الموجودة حال الشراء ثم رأيت ما هو أصرح في مسئلتنا مما مر وهو ما في الأنوار وغيره حيث قالوا قال القفال وغيره وضابط ما يدخل تحت مطلق البيع يدخل تحت الإِقرار وما لا فلا إلا الثمرة المؤبرة والحمل والجدار أي فإنها تدخل في البيع ولا تدخل في الإِقرار لبناء الإِقرار على اليقين وبناء البيع على العرف أ هـ .
وإذا تأملت هذا الضابط وجدته شاملاً لمسئلتنا فتكون منقولة إذ ما دخل تحت كلامهم كذلك يصدق عليه أنه منقولهم كما صرح به النووي في مجموعة ووجه(2/392)
شموله لها أنه لو قال بعتك هذا البستان الذي اشتريته من فلان وسقيته وكانت سقيته الموجودة وقت البيع دون تلك السقية السابقة وهذا مما لا يشك فيه المتفقه فضلاً عن الفقيه وقد علمت من الضابط أيضاً أن الإِقرار أولى بعدم التناول من البيع لأنا وجدناه لا يتناول أشياء مع أن البيع يتناولها فإذا لم يتناول البيع شيئاً كان الإِقرار أولى بعدم تناوله لما تقرر أن مبناه على اليقين أي أو الظن القوي لما مر فاتضح بما ذكرته سيما من هذا الضابط أن قول المقر إنما يتناول الموجودة حال الإِقرار سواء أكانت موافقة للسقية حال الشراء أم أنقص عنها أم أزيد وسواء أكفت السقية الموجودة حال الإِقرار البستان أم زادت عنه أم نقصت والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/393)
وسئل: في شخص اشترى داراً وقبضها ثم أسكنها شخصاً آخر ثم بعد مدة أقر بأن الدار المذكورة ملك من أملاك الساكن المذكور وصدقه الساكن على ذلك ولم يزل مستمراً على سكناه إلى أن توفي المقر المذكور فادعى بعض ورثته أعني المقر المذكور أن الدار المذكورة حال الإِقرار مبيعة لشخص معلوم بيع عدة وأمانة فهل تسمع هذه الدعوى من الوارث أو لا بدّ من دعوى المشتري أو تسمع من كل منهما وإذا سمعت الدعوى ممن تسوغ له وثبت ما ادعاه فهل تنزع الدار من الساكن أو لا وإذا انتزعت فعادت إلى الوارث بإقالة أو غيرها هل يجب عليه ردها للمقر أو لا وهل عودها إلى الوارث بغير إقالة كعودها بها أو لا وأجرة المثل مدة السكنى بالدار المذكورة تلزم الساكن إذا قلتم بفساد الإِقرار أم لا. فأجاب: بقوله بيع العدة الخالي عن الشرط المفسد صحيح عندنا فليس للوارث الدعوى به لأن الحق متمحض لغيره وهو المشتري وتسمع دعواه بذلك فإن أثبت الشراء من الوارث قبل إقراره انتزع العين من المقر له ويلزمه للمشتري أجرة مثلها مدة وضع يده عليها وهي ملك المشتري وحيث عادت للوارث فإن كان مصدقاً للمورث في إقراره انتزعها المقر له منه مطلقاً وإلا فإن عادت إليه من جهة مورثه فإن كان سبب العود إليه إرثه كالإِقالة انتزعها منه أيضاً لأنه خليفة مورثه أولاً من تلك الجهة لم ينتزعها منه أخذاً من قولهم لو تزوّج مجهولة فاستلحقها أبوه ولم يصدقه لم ينفسخ نكاحه والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/394)
وسئل: في شخص أقر في مرض موته بدين ثم بدين آخر ثم بآخر مرتباً ثم بوقف سابق ثم بهبة صحيحة مقبوضة سابقة ثم بعتق سابق ثم أوصى لجهات ثم دبر ثلاثة أعبد مرتباً واحداً بعد واحد ثم بجناية ثم برهن والحال أن التركة لم تفِ بذلك كله فمن المقدم في ذلك كله أوضحوا لنا وصدر البعض في مجلس والبعض في مجالس لكنه مرتباً كما ذكر أفتونا مأجورين. فأجاب: بقوله إن الديون المقر بها المترتبة تستوي كلها في كونها تتعلق بالتركة فتوزع عليها إن لم تفِ بها ولا يقدم بعضها على بعض إلا لموجب آخر وأما التقدم في الإِقرار فليس مقتضياً لتقدم وفاء ولا تعلق وأما الإِقرار بالوقف السابق على المرض وبالهبة الصحيحة المقبوضة السابقة على المرض أيضاً وبالعتق السابق عليه أيضاً فهو صحيح فيخرج المقر به في الثلاثة من رأس المال ولا يتعلق به دين ولا تزاحمه وصية ولا يحتاج لإِجازة ورثته ويصح أيضاً إقراره بالجناية والرهن فإن أقر بهما في عبد مثلاً وقدم الإِقرار بالجناية تعلقت الجناية بعينه ولم يتعلق به الرهن إلا إن عفا ذو الجناية عنه وإذا أوصى لجهات ثم دبر ثلاثة أعبد فهذه كلها تبرعات متعلقة بالموت وحكمها أنه يسوّى بينهما سواء أكانت مترتبة أم غير مترتبة وسواء أكان فيها عتق أم لاشتراكها في وقت نفاذها وهو وقت الموت فسقط الثلث على الوصايا وعلى المدبرين باعتبار القيمة فقط أو مع المقدار فإذا كانت قيمة المدبرين مائة والوصايا بمائة والثلث مائة عتق نصف كل من المدبرين وكان لأرباب الوصايا خمسون والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/395)
وسئل: أفاض الله تعالى عليه إنعامه وبلغه في الدارين مرامه في شخص أقر أنه لا يستحق في الوقف الكائن بكذا ولا في معلومه شيئاً قل ولأجل والحال أنه لم يعلم له فيه حقاً حال الإِقرار ثم ظهر له بعد ذلك أن له فيه حقاً هل يؤاخذ بإقراره ويسقط حقه وهل يكون الحكم كذلك إذا علم به أم لا أفتونا مأجورين. فأجاب: بقوله الذي أفتى به السبكي أنه لا عبرة بالإِقرار المخالف لشرط الواقف لأن شرط صحة الإِقرار أن لا يكذبه الشرع فإن كان له احتمال ما آخذنا المقر به ولا يثبت حكمه في حق غيره وأفتى غيره بأنه يقبل إقراره في حق نفسه مدة حياته أي وإن خالف إقراره شرط الواقف وقد نقل الغزي وغيره هذين الافتاءين ولم يرجحوا منهما شيئاً والذي يتجه ترجيحه هو الثاني وعليه يدل قول الماوردي وجزم به بعضهم لو وقف داراً ثم أقر بها لشخص وصدقه الموقوف عليه لم يبطل الوقف بل يسقط حق الموقوف عليه من الغلة ويصرف إلى من بعده من أهل الوقف فأفهم إطلاقه صحة إقراره بالنسبة لسقوط حقه مدة حياته سواء أخالف شرط الواقف وكان له احتمال ما أم لم يكن له احتمال وهو ظاهر لأنه وإن لم يكن له احتمال ظاهراً يمكن أن يكون له احتمال باطناً والمقر أعرف بنفسه فآخذناه بإقراره مطلقاً وليس الشرع حينئذٍ مكذباً للإِقرار خلافاً لما ادعاه السبكي لأن الشرع حيث راعى ما قلناه لم يكن مكذباً للإِقرار فاندفع تعليل السبكي بذلك هذا كله إن أقر وهو عالم بأنه وقف فإن كان جاهلاً وعذر بجهله لغا إقراره أخذاً من قولهم لو باع دار أبيه فادعى على المشتري أن البائع كان وقفها عليه أو على أولاده وأقام بينة بطل البيع فلو أقام المشتري بينة بإقرار المدعي أنها كانت ملكاً لأبيه حين باعها وثم أطفال من أولاد أولاده سمعت وبطلت دعوى الوقفية في نصيبه دون نصيب الأطفال وليس له أن يدعي نصيب أولاده لأنه خرج بإقراره عن كونه فيما لهم ويجوز أن ينصب المقر مدعياً قاله القاضي حسين قال البغوي كما قال(2/396)
العبادي ولو ادعى المقر جهله بالوقف حال الإِقرار صدق بيمينه قال الأذرعي وهذا هو الصحيح ويجب الجزم به إذا دلت القرائن على صدقه بأن كان طفلاً وقف الوقف أ هـ .
فكلام العبادي والأذرعي صريح فيما ذكرته في مسئلتنا من إلغاء إقراره إذا دلت القرائن على صدقه فلا يبطل حقه بما ظهر له بعد إقراره لعذره فالحاصل نفوذ الإِقرار من العالم مطلقاً لا من الجاهل سيما إذا دلت القرائن على صدقه أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ ادعى وارث على ورثة أن أباكم أقر لي بأرض كذا التي تحت أيديهم فهل تسمع دعواه وبينته. فأجاب: بقوله اختلف في ذلك علماء زبيد كيوسف المقري وأهل عصره والوجه سماع الدعوى والبينة بالإِقرار ولا تسمع بينتهم أن الأرض لهم لبطلان يد مورثهم الذي تلقوا عنه بإقراره والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخص قال ليس لي عند أو مع فلان شيء هل يشمل العين والدين. فأجاب: الذي قاله البلقيني في ليس لي على فلان أو في ذمته شيء أنه إقرار بالبراءة من الدين والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/397)
وسئل: في امرأة أعارت بنتها مصاغاً وحلياً وفرشاً وأواني وغيرها وأقرت البنت أن جميع ما بيدها من حلي ومصاغ وغيرهما وعددت أنواع ذلك ملك لأمها وأنه في يدها عارية لا حق لها فيه ولا في شيء من منافعه سوى بشخانة وجارية اسمها كذا ولم يزل جميع ذلك بيدها إلى أن ماتت في عصمة زوجها فوضع يده على جميعه وادعى أنها زفت به إليه وأن إقرارها لم يكن إلا وهي في عصمة زوج غيره وأن على والدتها إثبات أن هذه الأعيان ملك لها وأنها استجدت أمتعة ومصاغاً بعد إقرارها فهل تسمع دعاويه هذه جميعها أو بعضها وهل المصدق هو أو أمها في جميعها أو بعضها. فأجاب: بقوله إقرار المرأة لأمها بما ذكر صحيح معمول به سواء أكان حال الزفاف أم بعده أم قبله بشرط أن تكون بالغة عاقلة مختارة رشيدة ودعوى الزوج الثاني أن الإِقرار لم يقع وهي في عصمته لا يلتفت إليها لأنه يؤاخذ بحكم ذلك الإِقرار وإن وقع منها وهي في عصمة غيره وأما طلبه من الأم أنها تثبت أن الأعيان التي ماتت عنها هي التي كانت موجودة عند الإِقرار فهو صحيح فعليها إثبات ذلك فإن لم تثبته واختلفا في الأعيان التي ماتت عنها كلها أو بعضها هل كانت موجودة حال الإِقرار أم لا صدق الزوج بيمينه أخذاً مما في الروضة وغيرها من أنه لو قال ما ينسب إليّ أو ما في يدي لزيد ثم نازعه زيد في عين هل كانت في يده حينئذٍ صدق المقر بيمينه أن تلك العين لم تكن في يده حال الإِقرار وعلى المقر له البينة وكذا لو قال ليس لي مما في يدي إلا كذا والباقي لزيد قال جمع ومثل المقر وارثه ولا يشكل على ما تقرر عن الروضة قول القاضي حسين في فتاويه لو قال هذه الدار وما فيها لفلان ثم مات ونازع وارثه المقر له في بعض الأمتعة فقال الوارث لم يكن هذا في الدار يوم الإِقرار وعاكسه المقر له صدق المقر له لأنه أقر له بها وبما فيها ووجدنا المتاع فيها فالظاهر وجوده فيها يوم الإِقرار أ هـ .
وكالوارث في هذا المقر ووجه عدم إشكال هذا على(2/398)
ما مر ما علم من كلام القاضي وهو أنه هنا وجدت قرينة تؤيد صدق المقر له فقوي بذلك جانبه على جانب المقر فصدق المقر له بيمينه لذلك مع مساعدة أصل الاستصحاب لدعواه وأما مخالفة البغوي للقاضي في ذلك بقوله وعندي لا تسمع الدعوى بأنه كان في الدار حالة الإِقرار لأنه غير مقيد يدعي أن الميت أقر له بها ويحلف الوارث على نفي العلم بإقرار المورث ففيه نظر كما قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/399)
القمولي في جواهره لأن الإِقرار له بما في الدار صحيح وكلام البغوي لا يتأتى إلا على أن الإِقرار بذلك غير صحيح وقد علمت أن المذهب صحته فإن قلت يشكل على ما قاله القاضي ما في فتاوى ابن الصلاح من أنه لو أقر بأن جميع ما في هذا البيت ملك زوجتي ثم مات وأقامت بينة بذلك فقال الوارث هذه الأعيان لم تكن موجودة عند الإِقرار حلف الوارث على نفي العلم أن هذه الأعيان ولا شيئاً منها لم يكن موجوداً في البيت وقت الإِقرار ولو كانت الزوجة ساكنة معه في الدار كان لها أن تحلف على استحقاق نصف هذه الأعيان ثم لها بعد ذلك حصتها من الميراث من النصف الآخر قال ولا يكفي حلفه أن المدعي لا يستحق هذه الأعيان إلا إذا لم يقم المدعي حجة ومن ذلك وأطال فيه واعتمد ما قاله الغزي وغيره وجعلوه مستثنى من قولهم يكفي قول الخصم في الجواب لا يستحق علي شيئاً قلت ما قاله لا يشكل على كلام القاضي إذ هو الموافق لما مر عن الروضة وقد علمت الفرق بين ما فيها وما قاله القاضي ولا نظر هنا إلى كونه عين البيت نظير ما مر في كلام القاضي لأن الصورة هنا أنه لم يجعل البيت مقراً به حتى يكون ما فيه تابعاً له في الإِقرار به فلم تقوِ حينئذٍ القرينة مع المقر له بخلافه فيما مر عن القاضي فإنه جعل فيه الدار وما فيها مقراً بهما فاستتبعت الدار ما فيها حتى يعلم خلافه فلذا قوي جانب المقر له وصدق وما قاله ابن الصلاح فيما لو كانت الزوجة ساكنة معه أخذه من قولهم إذا اختلف الزوجان ولو بعد الفرق في متاع البيت ولا بينة ولا اختصاص لأحدهما بيد فلكل منها تحليف الآخر فإذا حلفا جعل بينهما وإن حلف أحدهما فقط قضي له كما لو اختص أحدهما باليد وحلف ومثلهما وارثاهما ووارث أحدهما والآخر وسواء أصلح لهما أو لأحدهما فإن قلت إذا أقر بأن جميع ما بيده ملك فلان وأشهد عليه ومات فما كيفية شهادة الشهود قلت الذي صرحوا به أن كل ما علم الشهود أنه كان بيده وقت إقراره عليهم أن يشهدوا به(2/400)
دون غيره وبما تقرر يعلم الجواب عن جميع ما في السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئلت: عن رجل قال فلان أو هذا ابن عمي أو وارثي ثم مات المقر فهل يرثه المقر به مطلقاً أو لا أو فيه تفصيل. فأجبت: إذا قال هذا ابن عمي وبين أنه ابن عم لغير أم صح إلحاقه له بعمه بشروطه المقررة في كتب الفقه ومنها أن يكون المقر ذكراً مكلفاً مختاراً والمقر به مجهول النسب لم يجر عليه رق للغير ولا ولد على فراش الغير وإن نفاه وأن يمكن كونه ولد للملحق به وهو العم في هذه الصورة وأن يصدقه المقر به إن كان أهلاً للتصديق وأن يكون الملحق به ميتاً وأن يكون المقر وارثاً حائز التركة العم الملحق به لو قدر موته حين الإِلحاق به كما بينته في شرح الإِرشاد مع رد إشكال لابن الرفعة وغيره أوردوه على ذلك فإذا وجدت هذه الشروط ومات المقر ولا وارث أقرب إليه من هذا المستلحق ورثه أما إذا قال هذا ابن عمي وأطلق فلا يرث المقر به منه شيئاً لاحتمال كونه ابن عم لأم وإن قال هذا وارثي ففيه خلاف بين الهروي والقفال قال الهروي في إشرافه لو أقر أن هذا وارث فلان لا تقبل ولو قال هذا وارثي قبل قال وهذه مسئلة حسنة غريبة لا يعرفها إلا من تبحر في الفقه وقال القفال في فتاويه لو قال فلان عصبتي ووارثي إذا مت من غير عقب لم يكن هذا شيئاً لأن المقر به إن كان معروف النسب فلا فائدة في إقراره هذا وإن كان مجهول النسب فلا يصح أيضاً ما لم يفسر لأنه قد يريد بعصبته أنه أخوه وربما يريد أنه عمه أو ابن عمه ثم بعد التفسير ينظر فيه فإن قال هو أخي يجب أن يكون هو جميع وارث أبيه وإن كان عما فيكون هو وارث جميع مال جده وإن كان ابن عمه يجب أن يكون هو وارث عمه فيصح منه الإِقرار بالنسب على طريق الخلافة عنه ثم الميراث مبني عليه عندنا ولو قالت امرأة فلان ابن عمي وهو وليي في النكاح ووارثي إذا مت، ثم ماتت فجاء يطلب(2/401)
ميراثها قال القفال : لا يكون له ميراثها ولم يصح ذلك التزويج إن كان قد زوّجها لأنها بذلك الإِقرار ألحقت نسباً بجدها وهي ليست بوارثة جميع مال الجد فلم يصح التزويج ولا يرثها أ هـ .
وما ذكره القفال أوجه معنى ونقلاً أما المعنى فلأنه إذا قال لمجهول النسب هذا أو فلان وارثي كان مجملاً غير مبين فيه جهة الإِرث لشموله للوارث بفرض أو عصبة وعلى كل فيحتمل أنه ألحقه بنفسه حيث لم يقل إذا مت من غير عقب أو بأبيه أو جده أو عمه مثلاً ولإِلحاقه بنفسه شروط وبغيره شروط منها تلك الشروط وزيادة كونه وارثاً حائزاً لتركة الملحق به كما تقدم ولا يتحقق استيفاء تلك الشروط إلا مع بيان جهة الإِرث من بنوة أو أخوة أو غيرهما، ثم يبحث عن تلك الشروط هل وجدت في هذا الاستلحاق أو لا فكان في هذا الإِقرار من الإِبهام ما يوجب تعذر العمل به فوجب إلغاؤه وإن قال لمن ذكر هذا عصبتي كان فيه من الإِبهام المذكور نحو ما تقرر لشموله العصبة بنفسه وبغيره ومع غيره وعلى التنزل وأن المراد الأول لأنه المتبادر من إطلاق العصبة فهو شامل لعصبة البنوة والأخوة والأبوة والعمومة والجدودة وغير ذلك وعند شموله لتلك الجهات وتردده فيما بينها يتعذر العمل به فوقع لغواً غير معتدٍ به كما تقرر في الذي قبله وأما النقل فلأنه الموافق لما في الروضة وغيرها. أن من ادعى أنه وارث التركة احتاج إلى ذكر الوراثة وجهتها من نحو بنوة أو أخوة فإن أقام بينة لم تسمع إلا إن ذكرت هذين أعني الوراثة أي كونه وارثاً وبينت جهتها وقالت: لا نعلم وارثاً سواء وكانت من أهل الخبرة بباطن حال مورثه بنحو صحبة أو جوار فإن لم يقولا لا نعرف له وارثاً سواء أو قالاه ولم يكونا خبيرين بباطن الحال وكان سهمه غير مقدر أو كان مقدراً لكن كان ممن يحجب لم يعطِ شيئاً من التركة حتى يبحث القاضي عن حال مورثه في البلاد التي سكنها أو طرقها فيكتب إليها أو يأمر من ينادي فيها أن فلاناً قد مات فإن كان له(2/402)
وارث فليأتِ القاضي فلاناً أو يبعث إليه فإذا فعل ذلك وغلب على ظنه أنه لا وارث له سواء أعطاه حقه بلا يمين عملاً بالظاهر وإن كان سهمه مقدراً وهو ممن لا يحجب أعطي أقل فرضيه عائلاً بلا بحث وأكثرهما بعد البحث ولو قالا: وهما غير خبيرين لا وارث له سواء لم يقدح في شهادتهما وإن أخطأ من جهة القطع بها من غير تحقق لأنهما إنما شهدا بما اعتقداه ولم يقصدا الكذب وإن شهدا بأنه ابنه أو أخوه مثلاً ولم يذكرا كونه وارثاً نزع المال ممن هو بيده وأعطيه بعد بحث القاضي كما صرح به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
ابن الرفعة ونقله عن الجمهور إذا تقرر ذلك علم منه أنه موافق لما قاله القفال دون ما قاله الهروي فتعين اعتماد كلام القفال دون كلام الهروي اللهم إلا أن يحمل كلام الهروي على ما إذا صدر ذلك من فقيه عارف بشروط الاستلحاق وبحقيقة قوله هذا وارثي وما يشترط له ثم مات من غير أن يحتمل حدوث حاجب للمقر به فحينئذٍ يقبل منه هذا الإِقرار لأن تلك الاحتمالات التي نظر إليها القفال منتفية حينئذٍ ومنه يؤخذ أنه لا بدّ في ذلك الفقيه المقر من أن يكون مذهبه موافقاً لمذهب الحاكم في باب الإِلحاق بالنفس وبالغير فإن تلك الاحتمالات لا تنتفي إلا عند موافقة مذهب الحاكم لمذهب المقر فيما ذكرناه وإلا فتلك الاحتمالات قائمة فلا يفيد إقراره شيئاً لأن القاعدة الغالبة في الإِقرار التي بنى عليها الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ غالب أحكامه أو جميعها أنه يطرح الشك ويأخذ باليقين ولا يستعمل الغلبة كما نص ـ رضى الله تعالى عنه ـ على ذلك.(2/403)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل أقر لآخر بدين وأقر المقر له أن مالي عندك دين ولا بقية دين وأن ابن الصلاح أفتى بتقديم بينة الإِقرار بالدين المثبتة فهل يخالف ما ذكر في الروضة من أنه لو أقام بينة أني أستحق عليك ألفاً فقال المدعى عليه لي بينه أنك أقررت أن مالي عندك دعوى فإنها تقدم ويبطل دعواه أم لا وما هو المعتمد في ذلك. فأجاب: بقوله أن عبارة ابن الصلاح في فتاويه رجل أقر لرجل بدين معلوم وأقر المقر له أنه لا يستحق على المقر ديناً ولا بقية دين والإِقرار أن جميعاً في يوم واحد معين من غير أن يبين أيهما قبل فبأيهما يعمل وهل يمنع ذلك من المطالبة بالدين أجاب يحكم ببينة الإِقرار المثبتة فإنه ثبت به شغل ذمته إذ لولاه لجعلنا إقرار المقر له تكذيباً للمقر ولا يصار إلى ذلك بالاحتمال وإذا ثبت أصل الشغل والقول بتصديق الإِقرارين معاً فلا يصار إلى تصديقهما بتقدير تأخر الإِقرار النافي عن الإِقرار المثبت بناءً على احتمال طريان البراءة والإِسقاط فإنا لا نترك أصل الشغل باحتمال تعقب المسقط فتعين تصديقهما بتقدير وقوع الإِقرار النافي قبل الإِقرار المثبت فإذا ادعى المقر له هذا فذلك مقبول أ هـ .
كلام ابن الصلاح وينازع فيه أمور منها قول الشيخين وغيرهما. نقلاً عن فتاوى القفال وأقروه لو أقام شاهداً بألف ادعاه ليحلف مع شاهده وأقام خصمه شاهداً بإقراره أن لا شيء له عليه حلف المدعى عليه مع شاهده وسقطت دعوى المدعي لأن الأصل براءة الذمة أ هـ .
فأصل براءة الذمة هنا اقتضى ترجيح الشاهد بإقراره أنه لا شيء له عليه فقدم على الشاهد بشغل الذمة بالألف فكذا في مسئلة ابن الصلاح ينبغي أن تقدم البينة النافية على المثبتة لاعتضاد الأولى بأصل براءة الذمة وقول ابن الصلاح أنه يثبت بالمثبتة شغل ذمته يرد بأنه لا يثبت بها ذلك إلا مع عدم المعارض لها وأما عند وجود النافية المعارضة لها فلا يتحقق شغل ذمته وحينئذٍ فتقدم النافية لاعتضادها(2/404)
بالأصل فليس في ذلك ترك أصل الشغل باحتمال تعقيب المسقط خلافاً لما زعمه لأن كلاً من طرفي الإِثبات والنفي هنا محتمل فإذا وجد مرجح لأحدهما عمل به والمرجح موجود بالنسبة للنفي لا للإِثبات فليقدم طرف النفي على الإِثبات لاعتضاده وعدم اعتضاد مقابله فإن قلت يمكن الفرق بين مسئلة الشيخين ومسئلة ابن الصلاح بأن مسئلته فيها حجة تامة في كل من الطرفين فكان أصل الشغل محققاً ويلزم من تحققه انتفاء أصل براءة الذمة فلم يلتفت إليه في مسئله وأما مسئلتهما فليس فيها حجة تامة بل بعضها فلم يتحقق فيها شغل فنظروا حينئذٍ إلى أصل براءة الذمة وجعلوه مرجحاً لطرف النفي الموافق له دون طرف الإِثبات المخالف له قلت هذا الفرق وإن أمكن أن يتخيل لا تأثير له فإنه في الحقيقة يرجع إلى الفرق بالصورة دون المعنى وهو غير مؤثر ولا يلتفت إليه وذلك لأن المسئلتين في المعنى سواء لأن البينة المثبتة في مسئلته لما عارضتها البينة النافية لم يبق حينئذٍ حجة شرعية لما تقرر أوّلاً من وجود المعارض لها واعتضاده بالأصل دونها فساوت حينئذٍ الشاهد وحده في مسئلة الشيخين فكما رجحا النافي على المثبت لما مر كذلك ينبغي ترجيح النافية على المثبتة في مسئلته لذلك ومنها أن الأذرعي نازعه فيما ذكره بقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/405)
شريح في روضته إذا شهدت بينة بالمال وأخرى بالإِبراء منه فبينة الإِبراء أولى إن أطلقتا وإن وقتتا فالمتأخرة وإن أطلقت بينة وأرخت بينة فبينة البراءة أولى لأنها إنما تكون بعد الوجوب ويحتمل أن يجعل كما لو ذكرنا وقتاً واحداً فيتعارضان أ هـ .
كلام شريح وقال الأذرعي عقبه وهذا قد ينازع فيما ذكره أبو عمرو رحمه الله تعالى أ هـ .
ومنازعته فيه ظاهر سيما ما ذكره في الصورة الأولى فإن قياس ما قاله أبو عمرو أن بينة المال مقدمة لأنه تحقق بها شغل الذمة فلا يترك ذلك باحتمال تعقيب المسقط وهو الإِبراء وإذا لم ينظر شريح إلى ذلك في مسئلته فلا ينظر إليه في مسئلة أبي عمرو فإن قلت يمكن الفرق بين مسئلتيهما بأن مسئلة أبي عمرو فيها إقراران متعارضان لا يستدعي أحدهما قدم الآخر لأن الإِقرار بعدم الاستحقاق لا يستدعي وجود شيء مستحق أقر بانتفائه بل كثيراً ما يصدر هذا ممن لا دين له ولا حق بالكلية بخلاف مسئلة شريح فإن الإِبراء يستلزم مبرأ منه فتكون الشهادة به متأخرة عن الشهادة بالمال فلذا قدمت عند الإِطلاق بينة الإِبراء لأنها متأخرة فتقديمها لاعتضادها بما ذكر مستلزم لتأخرها عن شغل الذمة ورفعها لما اشتغلت به ولا كذلك في مسئلة أبي عمرو قلت يرد ذلك بأنا وإن سلمنا أن كثيراً ما يصدر ذلك ممن لا حق له ولا كذلك في الإِبراء لكن ذلك لا يرفع احتمال تقدم الإِبراء من دين آخر أولاً من دين بالكلية على ثبوت المال الشاهدة به البينة المعارضة لبينة الإِبراء فليس تقديم بينة الإِبراء لذلك فحسب وإن توهم ذلك من قول شريح لأنها إنما تكون بعد الوجوب بل لكونها اعتضدت بأصل براءة الذمة فالحاصل أن تقديم بينة الإِبراء له سببان استلزامها أنها بعد الوجوب واعتضادها بأصل براءة الذمة فيقاس عليها البينة النافية في مسئلة أبي عمرو لاعتضادها بذلك الأصل وإن انتفى عنها السبب الأول على أنه لا ينبغي النظر إليه مستقلاً لأنها وإن استلزمت ذلك لكن هذا(2/406)
الاستلزام لا يقتضي تقديمها إلا إذا كانت تستلزم أنها بعد وجوب ذلك المال الذي شهدت به الأولى بخصوصه وواضح أنها لا تستلزم هذا الخاص فكان الأولى تعليل تقديمها باعتضادها بأصل براءة الذمة فإن قلت بل يستلزم ذلك الخاص بنفسه لأن الأصل عدم وجوب غيره والإِبراء منه قلت وإن كان ذلك هو الأصل إلا أنه لا يقتضي استلزامه بخصوصه وإنما يشير إليه لكن لما اعتضدت تلك الإِشارة بأصل براءة الذمة اقتضت ترجيح بينة الإِبراء وكذلك البينة النافية في مسئلة أبي عمر واعتضدت بذلك الأصل وإن لم يكن معه شيء آخر يعضده فينبغي أن يعمل به ومنها قولهم لو ادعى داراً في يد غيره فقال اشتريتها من زيد فأقام المدعي بينة على إقرار زيد له بها قبل البيع وأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعى بها لزيد قبله وجهل التاريخ أقرت في يد المدعى عليه اهـ. وسبب ذلك أن تاريخ البينتين لما أنبهم تعارضتا فتساقطتا وبقي الأصل المحقق وهو أن الأصل في وضع اليد أن يكون بحق وأنها تدل على الملك حتى يثبت ما يرفعه وحينئذٍ فقياس هذا في مسئلة أبي عمرو أن يقال إن البينتين لما انبهم تاريخها تعارضتا فتساقطتا وبقي الأصل المحقق وهو براءة الذمة هذا وإن كان غير ما قدمناه في الأمر الأول والثاني من تقديم البينة النافية إلا أن مآل هذا وذينك إلى عدم استحقاق المدعي وبراءة المدعى عليه فانتفت الأمور الثلاثة من هذه الحيثية وإن اختلفت من حيثية أخرى كما علم مما تقرر والحاصل أنه يقال لأبي عمرو إما أن تنظر إلى أن لإِحدى البينتين مرجحاً فهو للنافية فقط وإما أن تنظر إلى أن لا مرجح لواحدة منهما وكل من هذين يقتضي براءة المدعى عليه وعدم ثبوت شيء في جهته وأما دعوى أن الأصل شغل ذمته وأن هذا مرجح للبينة المثبتة فهذا محل النظر والنزاع لأنا إن سلمناه قلنا عارضه أصل البراءة المرجح للنافية وإن منعناه نظراً إلى معارضة قلنا فيتساقطان وكل من هذين يقتضي براءة المدعى عليه كما تقرر(2/407)
ومنها ما أفتى به أبو عمرو نفسه فيما إذا قامت بينة بأن مالك هذه الدار رهنها من فلان وأقبضها في ربيع الأول سنة تسع وسبعمائة مثلاً وأقام آخر بينة بأنه أقر له بها سنة تسع ولم يذكروا شهراً من أنهما يتعارضان بناءً على الأصح من أن صحة الرهن تمنع صحة الإِقرار فيتساقطان فلا يثبت الرهن ولا الإِقرار أ هـ .
فكما حكم بالتعارض هنا ولم ينظر إلى أن البينة المثبتة للرهن تحقق بها شغل العين وشككنا في تقدم الإِقرار الشاهد به البينة الأخرى وتأخره عنه فلا يسقط أعني الرهن بالاحتمال فكان قياس ما قاله هنا من التعارض أن يقول به في مسئلته السابقة وأما كونه يقول في الأولى بتقديم المثبتة ويقول هنا بالتعارض فهذا فيه نظر أي نظر لاستواء المسئلتين ومجيء نظير ما علل به تلك في هذه حرفاً بحرف كما لا يخفى على متأمل ويلزم من مجيء علته التي قالها ثم هنا استواؤهما فيما ذكرناه فعدوله عنه إلى الفرق بينهما في الحكم مع اتحادهما في العلة يقدح فيما قاله في تلك وتبين أن الوجه نظير ما قاله في هذه من تعارض البينتين ثم أيضاً وبراءة ذمة المدعى عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/408)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن امرأة ساكنة في بيت استأجره زوجها قال لها المالك: إنك وجدت في الدار كيساً لمورثنا ضمنه عشرة آلاف دينار فأجابت بأنها لم تجد إلا ألف دينار فهل هذا الإِقرار معتبر فيلزمها ما أقرت به لمالك الدار وهل يقبل تفسيرها للدينار بغير مفهومه الشرعي وهل اليد على الدار للمستأجر أم للمالك وهل في ذلك إقرار بمجهول وعلى تقديره فما الذي يلزمها وهل عدم تعيينها بمحل مخصوص في الدار يوجب عدم اعتبار مؤاخذتها بالإِقرار وهل إذا شهدت البينة بصورة ما أقرت به هل الشهادة صحيحة أم لا وإذا لم يستفسرها الحاكم في مجلس الحكم ثم استفسرها في مجلس آخر يقبل تفسيرها أم لا. فأجاب: بما صورته إن كانت صيغة إقرارها لم أجد له إلا ألف دينار كان إقراراً معتبراً بخلاف ما إذا لم تقل له فإنه يكون لغواً أخذاً من قولهم لو قال لي عليك ألف فقال في جوابه خذه أو لست منكراً أو لا أنكر أو قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقراراً لاحتماله غير الإِقرار أيضاً والأصل في الإِقرار العمل باليقين كما نص عليه الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ قالوا ولو قال لي عليك ألف فقال: غير عشرة لم يكن إقراراً أيضاً ولو قال لي عليك ألف فقال: مع مائة لم تجب الألف ولا المائة فهذا كله صريح فيما ذكرته وإذا قلنا الإِقرار صحيح لم يقبل تفسيرها للدينار بغير مفهومه الشرعي إلا أن وصلته به فليس في ذلك إقرار بمجهول واليد على الدفين الذي في الدار للمستأجر باتفاق الشافعي وأصحابه إلا المزني وغلطوه بأن الدار وما فيها في يد المستأجر قالوا لكن محل تصديق المستأجر أن احتمل صدقه ولو على بعد فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يحتمل دفنه في مدة يده فالمصدق المالك بلا خلاف هذا كله إذا وجد الدفين والدار في يد المستأجر أما لو وجد بعد عودها إلى المالك فإن قال المالك أنا دفنته بعد عود الدار إليّ فالقول قوله بيمينه بشرط الإِمكان وإن قال كان مدفوناً قبل وضع المستأجر يده(2/409)
صدق المستأجر لأن المالك اعترف بحصول الكنز في يده فيده تفسخ اليد السابقة ولهذ لو تنازعا قبل الرجوع كان القول قوله أي المستأجر كما مر بتفصيله ذكر ذلك جميعه النووي في شرح المهذب وكذا هو في الروضة وأصلها وغيرهما وإذا صح الإِقرار كما ذكرناه لم يشترط أن يعين محلاً مخصوصاً من الدار وعلى الحاكم وفقه الله تعالى وسدده أن ينظر في اللفظ الذي شهدت به البينة ويحرره ويحكم بموجبه مما ذكرناه وغيره فإن لم يتحرر عنده لفظ الشهود بالإِقرار استعاد شهادتهم ورتب عليها مقتضاها وتقبل شهادة البينة حينئذٍ ثانياً كما يعلم بالأولى من قول الغزي لا يجوز للحاكم تعليم الشاهد كيفية الشهادة فلو فعل وأدّى الشاهد بتعليمه اعتد بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئل: هل يصح تعليق الإِقرار. فأجاب: بقوله أما تعليق الإِقرار فلا يصح كقوله له عليّ ألف إن قدم زيد ما لم يقصد به التأجيل والأصح ولو قال معسر له عليّ ألف إن أيسرت فإن قصد التعليق بطل أو التأجيل صح وإن تعذر استفساره صح على نزاع فيه.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا أقر بشخص لآخر في غيبة المقر له فهل يملكه المقر له أم لا بدّ أن يسمع ما أقر له به. فأجاب: بقوله من أقر لشخص بشيء لم يجز له التصرف فيه حتى يبلغ الخبر المقر له ويرد الإِقرار فإن شرط صحة الإِقرار عدم تكذيب المقر له فإن كذب بطل الإِقرار والأصح فعلم أنه لا يشترط في ملكه أن يسمع حتى لو مات قبل أن يبلغه الخبر ملكه ورثته إن لم تكذب المقر له والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/410)
وسئل: عما إذا كان لشخص على آخر دين شرعي بمستند شرعي ثابت محكوم به في الشرع الشريف وله عقارات فمرض مرضاً مات به فأقر في المرض المذكور أن ولده فلاناً يستحق من العقارات كذا وابنته تستحق كذا وفلاناً كذا إلى أن تصرف في جميع العقارات ولم يترك شيئاً يوفي به دينه ومات فهل إقرار المريض لولده بعقار هو معروف به وعليه الدين مانع لرب الدين من المطالبة على الولد إن كان حياً أم يحمل على تبرع المريض في المرض ويكون وصية ولا يسري إلا في الثلث ولا يمنع رب الدين من المطالبة. فأجاب: بقوله الذي قاله البلقيني أنه لو أقر في مرض موته أنه ملك وارثه كذا وقال في عين عرف أنها كانت للمريض هذه ملك لوارثي فلينزل ذلك على حالة المرض ذكره القاضي حسين في باب التفليس عند الكلام على إقرار المفلس بدين مطلق أن المرأة المريضة لو أقرت بإبراء زوجها من الصداق ينزل على الإِبراء في المرض وله نظير في إقرار الوالد بملك للابن إذا لم يفسره بالهبة والكلام فيه معروف أ هـ .
وقد اختصر البلقيني كلام القاضي وحاصله أنها لو أقرت في المرض أنها أبرأت زوجها من صداقها ففيه الخلاف فيمن أقر في المرض بأنه وهب لوارثه في الصحة أي والأصح منه القبول ثم فكذا هنا قال ولو أطلق المريض الإِقرار بالعتق حمل على عتقه في المرض وكذا لو أقر بهبة عين مطلقاً حمل على أنه وهبها في المرض ويحسب من ثلثه ولو أطلقت المريضة أنها أبرأت زوجها من صداقها حمل على أنه في المرض فلا يصح أي إن لم يجزه بقية الورثة أ هـ .
والراجح في النظير الذي ذكره البلقيني عند النووي وغيره ك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/411)
ابن الصلاح و الهروي أن له الرجوع أي تنزيلاً على أضعف الملكين وأدنى السببين وهو أن الولد إنما ملك ذلك بطريق أن الأب وهبه له فكذا في مسئلتنا ينزل الإِقرار على الأضعف وهو وقوع التمليك في حالة المرض حتى يكون تبرعاً وللدائن رد التبرع محسوباً من الثلث إن كان لغير وارث وإلا وقف على إجازة بقية الورثة لكن يشكل على ما ذكر عن القاضي في المسئلة الأولى أنه رجح في النظير المذكور مقابل ما مر عن النووي وغيره فيه فقال في تعليقه لو أقر بأن هذه العين ملك ابني وهي في يدي أمانة ثم ادعى بعد ذلك أن المقر به كان له ثم وهبه له ثم رجع فيه وكذبه الولد فالقول قول الولد أ هـ .
ورجح هذا في فتاويه فقال إنه الظاهر وحينئذٍ فقد يتوهم بين كلاميه في المسئلة تناف ولا تنافي لظهور الفرق بينهما لأن الأصل في الأولى تأخر الإِقرار إلى حالة المرض فاعتضدت دعوى وقوعه فيه بذلك الأصل فقبلت والأصل في النظير المذكور بقاء ملك الابن فاعتضدت دعواه تكذيب الوالد بذلك الأصل فصدق دون الوالد لأنا تحققنا ملكه وشككنا في السبب المقتضي لرفعه وهو الهبة فلم يصدق مدعيها وهذا وإن دفع التناقض عن القاضي إلا أنه لا يقتضي اعتماد ما قاله في النظير المذكور لما مر من رده بأن الإِقرار ينزل على أقل السببين وأضعفهما ومن ثم لما نقل ابن الصلاح عن العبادي موافقة القاضي هنا متمسكاً بأن الأصل بقاء الملك رده بأنا نتمسك بأن الإِقرار المطلق منزل على أقل السببين وأضعفهما كما ينزل على أقل المقدارين استصحاباً للأصل القديم وهذا الأصل متقدم على الأصل الذي تمسك به العبادي فكان الأخذ به أولى ولا يرد هذا أنه لو أقر مطلقاً ثم فسر بثمن مبيع لم يقبضه أو بدين مؤجل لم يقبل لأن ذلك يمنع المطالبة والإِلزام في الحال فهو مناقض لموجب قوله عليّ نعم بشكل على ما قاله القاضي في المسئلة الأولى قول النووي لو وهب وأقبض ومات وادعى الوارث كون ذلك في المرض وادعى المتهب كونه في الصحة(2/412)
فالمختار أن القول قول المتهب أ هـ .
وقد يجاب بأن الأصل في الهبة مع القبض أن تكون مستلزمة لملك المتهب فادعاه الوارث وقوعها في المرض فيه معارضة لهذا الأصل ورفع له والأصل عدم رفعه حتى يتحقق وقوعه في المرض فصدقنا المتهب لذلك إذ لا قرينة ولا أصل يدلان على خلاف دعواه وأما في مسئلة القاضي فالقرينة تصدق الوارث وهي وقوع الإِقرار في المرض وكون العين معروفة بأنها له إلى حالة مرضه وحينئذٍ فتنزيل الإِقرار على حالة المرض ظاهر لأنه إخبار عن سابق ويكفي في تحقق سبقه كونه قبل وقت الإِقرار بلحظة فنزل عليها للاعتضاد بهاتين القرينتين الظاهرتين في ذلك كما لا يخفى وبهذا الذي قررته يندفع اعتماد البلقيني جزم الماوردي بخلاف ما مر عن النووي في المسئلة الأخيرة ويندفع أيضاً قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/413)
القمولي مقتضى كلام القاضي تنزيل الإِقرار في مسئلة النووي على المرض قال الزركشي بعد أن ساق كلام النووي والماوردي والظاهر أنهما لو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لزيادة علمها وقد أفتى النووي بتقديم بينة المرض على بينة الصحة لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة أ هـ .
وبما تقرر اتجه كلام القاضي في المسئلة الأولى التي هي صورة السؤال وذكر الزركشي ما يوافقه فقال أطلقوا الخلاف أي في صحة إقرار المريض بالعين وينبغي أن يستثنى منه ما إذا تحقق ملكه للعين إلى حالة مرض الموت فإنه إذا أقر بها مطلقاً وقالت الورثة هو عن هبة وقال المقر له بل عن معاوضة لا محاباة فيها فالقول قول الوارث بيمينه لأن الأصل عدم المعاوضة وهي نظير الأب يقر لولده بشيء ثم يفسره بالهبة ليرجع فيقبل على الأصح أ هـ .
وسبقه إلى ذلك شيخه البلقيني في فتاويه وكأنه أخذه منها فقال فيها شخص أقر لبعض الورثة في مرض موته بأعيان هل يحتاج لإِجازة بقية الورثة أجاب إذا ظهر ما يقتضي صدور انتقال ذلك عنه في الصحة لمن ذكر أو في مرض الموت بعوض لا محاباة فيه فإنه لا تعلق لبقية الورثة به وكذا لو لم يعرف أنه كان مالكه فإن عرف أنه كان مالكه إلى حالة المرض المذكور وقال بقية الورثة إنه انتقل عنه في المرض بغير عوض وقال المقر له بل كان بعوض لا محابة فيه فالقول قول من قال إنه كان بغير عوض بيمينه وحينئذٍ يحتاج إلى إجازة أ هـ .
وفي الإِشراق للهروي لو أقر بشيء ثم قامت بينة أنه كان في ملكه إلى أن أقر به لم يصح الإِقرار قال السبكي وهذا في بينة واحدة أما إذا شهدت بينة بالإِقرار وبينة بالملك فالذي يظهر أنه يقدم بينة الإِقرار لأن الشاهدة بالملك تعتمد الظاهر أ هـ .
وبهذا يعرف أن محل ما قاله القاضي من صحة الإِقرار وتنزيله على حالة المرض محله ما إذا لم تقم بينة بأنه كان في ملكه إلى أن أقر به وإلا لم يصح إقراره فإن قامت بينة بالإِقرار وبينة بالملك قدمت بينة الإِقرار ونزل على(2/414)
حالة المرض والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه ذكروا فيما لو قال بعني ما تدعيه أنه يكون إقراراً فهل أجرني كذلك. فأجاب: بقوله هو كذلك بالنسبة لتضمنه الإِقرار بالمنفعة دون العين.
وسئل: رضي الله سبحانه وتعالى عنه عن قول الشيخين شرط ملحق النسب بغيره أن يكون وارثاً حائزاً لتركة الملحق به ولو بواسطة كأن أقر بعم وهو حائز تركة أبيه الحائز تركة جده الملحق به فإن كان مات أبوه قبل جده فلا إلحاق قال ابن الرفعة وهو يفهم أنه يعتبر كون المقر وارثاً حائزاً لميراث الملحق به لو قدر موته حين الإِلحاق وكلامهم يأباه لأنهم قالوا لو مات مسلم وترك ولدين مسلماً وكافراً ثم مات المسلم وترك ابناً مسلماً وأسلم عمه الكافر فحق الإِلحاق بالجد لابن ابنه المسلم لا لابنه الذي أسلم بعد موته ولو كان كما قيل لكان الأمر بالعكس فما المعتمد من ذلك. فأجاب: بقوله المعتمد ما أفهمه كلام الشيخين وقد يجاب عما احتج به ابن الرفعة بأن حق الإِلحاق ثبت للابن المسلم على انفراده ثم انتقل بموته لابنه لأن ما ثبت للمورث يثبت لوارثه فطرو إسلام الابن لا يرفع ما ثبت لابن المسلم من حق الإِلحاق فاختص به من غير أن يشركه فيه عمه لقيام المانع به وهو الكفر حين موت أبيه فلا ينافي ما ذكروه في هذه المسئلة ما أفهمه كلام الشيخين كما يعلم لمن تأمل ما ذكرته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/415)
وسئل: عمن أقر لولده يدور بمكتوب لكن صيغة لفظ المكتوب وأقر المشهد المذكور أن الدور المخلفة عن والده ملك لولده فلان فهل هذا الإِقرار صحيح معمول به سواء علم قصد المقر أو جهل لموته من المرض الذي كان به حال الإِقرار أم لا. فأجاب: بقوله الذي جزم به في الأنوار أنه لو قال الدار التي ورثتها من أبي لفلان لم يكن إقراراً إلا أن يريد ووجهه ما في كلامه من التناقض فيما هو كالجملة الواحدة فهو كقوله داري لفلان فإنه لغو لما تقرر وإن احتمل أن الإِضافة فيه للسكنى أو المعرفة لأن الأصل في الإِضافة الملك وهو مستلزم للتناقض واستشكال الإسنوى الأولى بعد أن نقلها عن فتاوى البغوي بأن الملكين فيها لم يتواردا على وقت واحد ممنوع بل تواردا عليه بالمعنى الذي قررته نعم يشكل على كلام البغوي هذا قوله نفسه وجرى عليه في الروضة ولو قال الدار التي تركها أبي لفلان بل لفلان سلمت للأول فهذا صريح في صحة الإِقرار فينا في ما مر من عدم صحته ويجاب بأن قوله تركها أبي ليس فيه إضافة ملك له صريحاً ولا لزوماً بخلاف ورثتها من أبي فإنه صريح في ملكه لها بالإِرث ومما يدل على ذلك ما في الأنوار أيضاً أنه لو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقرار بالملك لفلان ولا لوارثه ويكون إقراراً باليد قال شارحه أي لصدق اللفظ على ذلك والأصل عدم زيادة عليه وهذا هو قاعدة الباب وهو إلزام اليقين وإطراح الشك أ هـ .
فعلم أن قوله تركها أبي لا يستدعي ملكه ولا ملك أبيه لها فيصح إقراره بها معه إذ لا مانع فيه بخلاف ورثتها من أبي لوجود المانع وهو الإِضافة المقتضية للملك المنافي للإِقرار إذا تقرر ذلك فقول الموثق وأقر المشهد الخ. يحتمل أن يكون حكاية للفظ كلام المقر من غير زيادة ولا نقص وأن يكون عبر عما سمعه منه بذلك بحسب ما أداه إليه فهمه فيرجع إليه فإن كانت الصيغة التي سمعها منه الدور التي ورثتها من أبي لولدي فلان فالإِقرار باطل إلا أن يريده فإن تبين ذلك(2/416)
قبل موته وإلا فهو محكوم ببطلانه وكذا إن كانت الدور المخلفة لي عن والدي وأما إن كانت الدور التي تركها أو خلفها والدي لفلان فالإِقرار صحيح فإن تعذر استفسار الموثق فقاعدة باب الإِقرار من العمل باليقين ما لم يكن اللفظ نصاً أو ظاهراً قوياً في خلافه تقتضي بطلان الإِقرار المذكور لما تقرر أن لفظ الموثق المذكور أعني قوله وأقر الخ. يحتمل معنيين صحيحين ومعنيين باطلين وليس هو في أحد تلك المعاني أظهر منه في الآخر فلا وجه لترجيح بعضها على بعض إلا بأن يقال الظاهر من حال الموثق أنه يحكي لفظ المقر من غير تصرف فيه بزيادة ولا نقص فحينئذٍ يترجح العمل به فيصح الإِقرار إن سلم أن ذلك هو الظاهر وأن مثل هذا الظاهر يرجح به في باب الإِقرار وفي النفس من ذلك شيء بل أشياء وميل النفس الآن إلى عدم العمل بعبارة الموثق المذكورة لاحتمالها وعدم ترجيح بعض معانيها على بعض بمرجح قوي ومن تأمل كلام أئمتنا في باب الإِقرار ومبالغتهم في عدم النظر إلى ظواهر اللفظ وتحري اليقين ما أمكن علم صحة ما ذكرته والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئل: عمن غاب فادعى عليه عند شافعي أنه أقر أن جميع ما بيده شركة بينه وبين المدعي ولم يعين ما بيده وشهدت بينة بذلك كذلك فهل تسمع هذه الدعوى والبينة مع الجهل. فأجاب: إذا وجدت شروط الدعوى على الغائب سمعت الدعوى المذكورة وقبلت شهادة البينة المذكورة ثم ما علم أنه كان بيده يوم الإِقرار يكون شركة بينهما وما لم يعلم فإن اختلفا في عين أو أعيان هل كانت بيده إذ ذاك يصدق المقر بيمينه أنها لم تكن في يده في ذلك الوقت وعلى المقر له البينة ومثلهما وارثاهما كما هو ظاهر.(2/417)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا قال شخص ذو أولاد معه في بلده لي ولد في بلد ولم يزد على ذلك فهل يصح هذا الإِقرار فإذا مات فللقاضي أن يأخذ من أولاده حصة ولد ويحفظها إلى أن يتبين الحال. فأجاب: بقوله الأوجه أنه لا يصح الإِقرار المذكور أخذاً من أنه لو كان له أمتان فأتت كل واحدة بولد فقال أحد هذين الولدين ابني فهل يوقف ميراث ابن فيه وجهان: أصحهما: لا يوقف فكذا يقال في صورة السؤال.
وسئل: عما إذا ثبت دين على ميت فأقر وارثه بأعيان التركة لشخص فهل يصح إقراره. فأجاب: بقوله نعم يصح كإقرار المفلس بالأعيان بل أولى وبذلك صرح الشمس الجوجرى في شرح الإِرشاد.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا استلحق شخص وصدق المستلحق بأنه أبوه ثم بعد مدة انتسب لشريف وأقام بينة باستلحاقه أو ولادته على فراشه فهل يقبل منه. فأجاب: بقوله لا تسمع دعواه الثانية ولا بينته نعم إن شهدت حسبة باستلحاق الشريف له في صغره قبل استلحاق الثاني سمعت وكذا إن شهدت أنه ولد على فراشه فإن قالت بعقد نكاح اشترط تعرضها لشروطه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/418)
وسئل: عن شخص أقر بإقرار صورته أقر فلان أن في ذمته لبناته مبلغاً جملته كذا وأن ذلك ترتب في ذمته لهن بمقتضى أنه باع لهن أماكن مختلفة عن والدتهن فلانة بوادي كذا وقبض لهن صراً ومعاليم وأجرة بيوت وغلالاً وتصرف في ذلك لنفسه والحال أن والدة البنات أقرت لبناتها أن جميع ما بيدها من العقار ملك لهن ثم توفيت الأم بعد وضع يد والدهن على العقار وباع منه شيئاً بعد وفاتها وتضمن هذا الإِقرار وغيره مسطور شرعي وكتب عليه حاكم شافعي المذهب ثبت عندي ذلك وحكمت بموجبه فهل يتضمن حكم الشافعي غير مقاصد المحكوم به أو يكون مقصوراً على مقاصده وإذا قلتم بشموله للمقاصد وغيرها فهل يتسلط على قوله باع لهن الخ. ويكون حكماً بصحة ما تضمنه هذا اللفظ من كون الأماكن مخلفة عن والدتهن حتى يكون لوارث غيرهن التمسك بهذا اللفظ والمطالبة بما يخصه من هذا المخلف وإذا قلتم بشموله وأن له المطالبة فهل يكون قوله لهن متعلق بقوله باع فقط أو به وبقوله مخلفة فيكون حينئذٍ مانعاً للغير من المطالبة بمقتضى أنه لم يبع إلا ما هو مخلف لهن أو يكون مقصوراً على التعلق بقوله باع ويكون قوله مخلفة مطلقاً عن التقييد بالجار المذكور وإذا قلتم بعدم شمول الحكم للمقاصد فهل لحاكم آخر أن ينظر في غير المقاصد وما تضمنه اللفظ من الأقارير بما يقتضيه نظره أولاً. فأجاب: بقوله الذي صرح به الولي أبو زرعة وغيره أن الحكم بموجب كذا أو بالموجب في كذا إذا صدر من الحاكم فقد أتى بصيغة شاملة لجميع الأحكام فكأنه نص على جميع الآثار وهذا صريح في تناوله الآثار المقصودة وغيرها فيتسلط قول الحاكم وحكمت بموجبه على جميع ما سبقه ومنه قوله باع لهن الخ. ومع شموله لذلك وكونه حكماً بما يضمنه فليس لوارث غيرهن مطالبتهن من هذا المخلف بما يخصه لأن هذا اللفظ ليس صريحاً بل ولا دالاً دلالة قوية على أن المقر المذكور وضع يده على مخلف تلك الوالدة جميعه وأتلفه أو تصرف فيه وإنما الذي يدل عليه(2/419)
أن الدين المترتب في ذمته لبناته له أسباب من جملتها بيع أماكن لهن مخلفة عن والدتهن فجعله هذا سبباً من أسباب ثبوت الدين فيه تصريح بأنه لم يبع لهن إلا ما خصهن من مخلفها وأنه لم يبع ما خص غيرهن لأن الكلام وسياقه ينبو عن بيعه ما خص غيرهن على أنه محتمل واللفظ المحتمل لا يعمل به الإِقرار عندنا فقد قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أصل ما أبني عليه الإِقرار أن ألزم اليقين وأطرح الشك ولا أستعمل الغلبة قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/420)
الشيخ أبو علي : أي ما غلب على الناس والمراد باليقين في كلامه ما يشمل الظن القوي ولهذا قال في موضع آخر ولا ألزمه إلا ظاهر ما أقر به بيناً وإن سبق إلى القلب غير ظاهر ما قال ومن هنا قال الهروي وغيره من أصحاب الشافعي يلزم في الإِقرار باليقين وبالظن القوي لا بمجرد الظن والشك إذ الأصل براءة الذمة وبهذا يعلم ظهور ما تقرر من أن قول المقر مخلفة عن والدتهن لا يقتضي أنه استولى على جميع مخلفاتها ولا على بعضه الشامل لحصة بقية الورثة وأن ذلك وإن سلم أن اللفظ يحتمله فهو احتمال بعيد لا يعوّل عليه بل ولا يصلح أن يلزم به ذمة الميت بشيء للوارث حتى يطلبه من تركته وأنه لا فرق فيما تقرر بين أن يعلق قوله لهن بمخلفة على ما فيه من بعد وبين أن يعلق بباع وعلم مما قررته أوّلاً أنه ليس لحاكم مخالف للشافعي أن يحكم بخلاف ما شمله حكمه بالموجب في شيء من مقاصد ذلك المحكوم بموجبه وغير مقاصده من جميع الآثار ثم رأيت ما يصرح بما ذكرته في مخلفة عن والدتهن وهو قول الأنوار ولو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقراراً بالملك لفلان ولا لوارثه ويكون إقراراً باليد قال شارحه أي لصدق اللفظ على ذلك والأصل عدم زيادة عليه وهذا هو قاعدة الباب وهو إلزام اليقين وإطراح الشك أ هـ .
وهذا نص ظاهر بل صريح فيما ذكرته من أن قوله مخلفة عن والدتهن لا يقتضي الرجوع للوارث على تركة المقر بشيء لما علمت من أنه ليس فيه إقرار بالملك لا للوالدة ولا لوارثها والله أعلم.(2/421)
وسئل: عن شخص أقر في مكتوب وصيته لولديه محمود وعبد الله مثلاً بالسوية بملك جميع البستان الكبير الكائن بالحجاز بضيعة كذا وما اشتمل عليه من أرض وبناء وأخشاب وفواكه وسائر حقوقه ملكاً شرعياً وأقر أيضاً لابنته فاطمة مثلاً بملك جميع البستان الصغير الكائن بالحجاز بالضيعة التي بها البستان الكبير المذكور أعلاه بجميع حقوقه من سقية وبناء هذا صورة لفظه في مكتوب وقفه ثم توفي إلى رحمة الله تعالى ولم يبين قدر سقية كل بستان منهما من قرار الضيعة المسماة أعلاه الكائن بها البستانان المذكوران فإذا كان بيد المقر المذكور سقية معلومة في حال حياته يتصرف فيها بما شاء في البستانين المذكورين هل تقسم بين البستانين بالسوية أم لا. فأجاب: بقوله إذا كان لكل من البستانين سقية معلومة معتادة حال الإِقرار نزل الإِقرار عليها فلا يستحق مالك كل بستان إلا قدر تلك السقية المعلومة المعتادة فإن لم يكن عادة نزل الإِقرار المذكور على ما يكفي كلا من البستانين فلا يستحق صاحب كل بستان إلا قدر ما يكفي بستانه لأن المقر عبر فيهما بقوله وسائر أو جميع حقوقه والحق إنما ينصرف لما ذكرته من التفصيل المذكور تفقهاً والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/422)
وسئل: عن امرأة بغي رميت بابنها بزنا فنفاه لأنه لم يسبق له معها نكاح ولا وطء ثم بعد مدة قال هذا ولدي جاهلاً بما يترتب عليه فهل له الرجوع عن هذا الإِقرار لجهله وهل لو قال لمجهول الأب هذا ولدي على سبيل الشفقة يلحقه أو لا. فأجاب: بقوله نفيه الأوّل لا يمنع من صحة استلحاقه فيلحقه بقوله هذا ولدي حيث وجدت شروط الاستلحاق وإن جهل ما يترتب على ذلك أو ظن أن نفيه الأوّل يمنع مؤاخذته بإقراره الثاني كما اقتضاه إطلاقهم وحينئذٍ فرجوعه غير مقبول خلافاً لابن أبي هريرة ووفاقاً للشيخ أبي حامد و العمراني وصاحب الانتصار و الفارقي قال الشيخ لأن النسب المحكوم بثبوته لا يرتفع بالاتفاق ونقل الشيخان هاتين المقالتين قبل ولم يفصحا بترجيح وعدم تصريحهما بالترجيح ظاهر لكنهما تركاه للعلم به من كلامهما إذ قياس ابن أبي هريرة ذلك على ما لو أقر له بمال ورجع وصدقه المقر له معلوم ضعفه من كلامهما من أن النسب يحتاط له بخلاف المال ومن نقلهما بعده عن أبي حامد ما مر من الاتفاق وأقراه ومن ثم قال في الروضة لو استلحق صغيراً فكذبه بعد بلوغه لم يندفع النسب لأنه يحتاط له فلا يندفع بعد ثبوته كالثابت بالبينة ثم قال فعلى هذا لو أراد المقر له تحليفه قال ابن الصباغ ينبغي أن لا يمكن لأنه لو رجع لم يقبل رجوعه فلا معنى لتحليفه أ هـ .
فقد أقر الشيخان ابن الصباغ على هذا وقضيته أنه لا أثر لاتفاقهما على ما يخالف الإِقرار وقولهما عن ابن الصباغ ينبغي غير ما في شامله إذ الذي فيه الجزم بذلك وهو ما في الذخائر وغيرها. وأنت خبير بأن هذا كله إذا اتفقا على الرجوع فإن انفرد المستلحق لم يقبل جزماً وإن ادعى جهلاً ونحوه. من ثم قالوا لو قال هذا أخي وفسره بأخوة الإِسلام أو الرضاع لم يقبل لأنه خلاف الظاهر وبه يعلم الجواب عن قول السائل لو قال هذا ولدي على سبيل الشفقة وهو أنه يصير ولده ولا عبرة بدعواه ذلك لما قدمته فإن قلت يشكل على ذلك قول أصل الروضة في(2/423)
اللقيط ولا فرق في ذلك أي في ثبوت نسب المستلحق بين الملتقط وغيره لكن يستحب أن يقال للملتقط من أين هو لك فربما توهم أن الالتقاط يفيد النسب أ هـ .
وظاهر أنه لو قال بعد إقراره في جواب قولنا من أين هو لك هو من الالتقاط لأني أراه يفيد النسب قبول ذلك منه فيلحق به ما إذا قال أقررت به معتقداً أن ولد الزنا يلحق الزاني قلت لا يشكل على ذلك ولا يلحق به ما ذكر وذلك لأن الالتقاط أمر ظاهر يمكن إحالة الأمر عليه ويعتقد كثير أنه يفيد النسب فسن سؤاله ليزال توهم إفادته للنسب ويبطل ما يعتقده من كونه ولده بهذا الإِقرار بل نبطله وإن استمر عليه لأنا علمنا استناده إلى أمر ظاهر يقع في اعتقاد كثير مثله بخلاف ما نحن فيه فإنه إذا أقر أن مجهولاً ولده ليس هناك قرينة ظاهرة ولا خفية تخالف حقيقة هذا اللفظ حتى يحتمل إسناده إليها فلم يقبل رجوعه مطلقاً إعمالاً للفظ في حقيقته التي ليس لها معارض ألبته ودعواه اعتقاد أن ولد الزنا يلحق الزاني لا يقبل منه لأنه لا قرينة تساعده ولا ظاهر يستند إليه فأعملنا اللفظ في حقيقته وبما قررته يعلم أنه حيث علم استناد إقراره إلى الالتقاط قبل رجوعه وزال نسب اللقيط عنه مطلقاً فقول الأزرقي كابن عجيل يقبل رجوعه فيما له دون ما عليه حتى إذا مات ورثه اللقيط ولا عكس ضعيف بل الأوجه أنه يقبل مطلقاً لما قررته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/424)
وسئل: عن شخص أقر أن الدار ونحوها ملك لشخص بالغ مكلف أو قاصر فهل يملك الشخص المقر له بتصديقه أو القاصر بتصديقه بعد بلوغه أو وليه أو الحاكم الشرعي في حال قصوره بمقتضى هذا الإِقرار المجرد عن القبول والإِذن في قبضه إذا قلتم أن الإِقرار إخبار عن حق سابق أم لا بدّ من القبول والإِذن في حوزه إذا جعلتموه إنشاء. فأجاب: بقوله إذا أقر بالملك في دار لآخر صح الإِقرار وإن لم يذكر شيئاً من شروطه ولا يحتاج إلى قبول المقر له لأن الشرط عدم تكذيبه.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص اشترى كتاباً مثلاً من شخص مع علم المشتري أو غلبة ظنه بقرائن الأحوال أن هذا الكتاب موقوف فهل يصح شراء هذا الشخص المذكور إذا قصد بشراء هذا الكتاب استخراجه واستنقاذ الوقف من الاستيلاء عليه واندراسه بتداول الأيدي عليه بالبيع والشراء كما قال الأصحاب في كتاب الإِقرار لو اشترى مسلم أسيراً مسلماً حراً من كافر صح استنقاذاً لا تمليكاً وشبهوا ذلك بمن شهد بطلاق امرأة فرد ثم اختلعها من زوجها فيصح ويلزمه العوض وكما لو قال في عبد في يد غيره هو حر ثم اشتراه صح تنزيلاً للعقد على قول من صدقه الشرع وهو البائع لكونه ذا يد وكما لو أقر أن عمر أغصب عبداً من زيد ثم اشتراه من عمرو صح الشراء استنقاذ الملك الغير كما يستنقد الحر أو لا يصح شراء هذا الشخص المذكور كما لو أقر بأن فلانة أخته فإنه لا يجوز له نكاحها. فأجاب: بقوله إن علم الوقف كان شراؤه افتداء نظير المسائل المذكورة وإن ظنه صح شراؤه ظاهراً وأديرت عليه جميع الأحكام لأن الأصل في اليد الملك فيعمل به حتى يوجد ما يرفعه ومجرد ظن المشتري وإن اعتضد بقرائن لا يرفعه وما ذكرناه أوّلاً لا ينافيه ما قالوه في فلانة أختي من أنه لا ينكحها بل لا تشبه ما نحن فيه عند التأمل والله تعالى أعلم.(2/425)
وسئل: عن شخص أقر أن هذا ابنه لكن من زناه ثم مات المقر فهل يرثه المقر به. فأجاب: بقوله إذا قال هذا ابني وجدت شروط الاستلحاق المقررة في كتب الفقه لم يقبل قوله بعده من زنا بل يصير ولده يرثه بعد موته لأن ذلك من باب تعقيب الإِقرار بما يرفعه وهو أعني ذلك الرفع لا يقبل فهو نظير ما لو قال له عليّ ألف لكن من ثمن خمر فإنه يعمل قوله عليّ ألف ويلغو قوله من ثمن خمر فيلزمه الألف فكذا يصير هنا ابنه ويلغو قوله لكن من زنا فإن قلت قد ينافي هذا قولهم لو قال هذا أخي فإن قال منفصلاً أردت من الرضاع لم يقبل أو متصلاً قبل فهلا جرى هذا التفصيل في صورة السؤال قلت فرق ظاهر بين هذا وصورة السؤال لأن قوله من زنا رافع للإِقرار من أصله فلو قبلناه لرفعنا إقراره بكونه ابنه وأبطلناه من أصله فلذلك لم يقبل مطلقاً وأما تفسيره الأخوّة بأخوّة الرضاع فهو غير رافع للإِقرار بل مخصص له فإن الرضاع وإن كان كالنسب لكن لا في كل الأحوال وشأن المخصص للإِقرار أنه يقبل إن اتصل لا إن انفصل كما لو قال له عليّ درهم وفسره بناقص أو رديء والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئل: عن رجل أقر أن فلاناً وارثه ليس له وارث سواه ما الحكم. فأجاب: يصح إقراره بشرط أن لا يكذبه الحس ولا الشرع ويقبل حصره الإِرث فيه كما أفتى به ابن الصلاح فإنه سئل عن رجل أقر أنه لا وارث له إلا أولاده هؤلاء وزوجته فقال يثبت حصر ورثته فيهم بإقراره وكما يعتمد إقراره في أصل الإِرث يعتمد في حصره فإنه من قبيل الوصف له قال هذا هو الظاهر وفي فتاوى القاضي ما يدل عليه أ هـ .
ولا بدّ من تقييده بما أشرت إليه أولاً وهو أن لا يكذبه في الحصر الشرع فلو ثبت نسب ولد منه بنكاح أو وطء شبهة ولم توجد شروط النفي لم يقبل حصره الورثة في غير ذلك الولد كما هو ظاهر والله أعلم.(2/426)
وسئل: رضي الله عنه عما لو أقر لزيد بوقفية ملك في يده لعمرو ثم أقر بالملك لبكر يؤاخذ بالإِقرار الثاني أم لا وما معنى المؤاخذة قال في باب الإِقرار ويشترط في المقر به أن لا تكون يده نائبة عن غير جهة وقف أو يتيمم وفي حاشية الأنوار الموقوف عليهم لو أقر بعضهم آخذناه بما يخصه للجامع بينهما. فأجاب: بقوله الذي صرح به الأصحاب أنه يشترط في صحة الإِقرار والحكم بثبوت ملك المقر له أن يكون المقر به تحت يد المقر وتصرفه حساً أو شرعاً وكونه مستقلاً باليد فإن لم يكن تحت يده كذلك كان كلامه لغواً لأنه إما دعوى عين للغير بغير إذنه وإما شهادة بغير لفظها لكنه إذا حصل في يده عومل الآن بقضية إقراره ولزمه تسليمه للمقر له فلو أقر أجنبي على ميت بدين ثم ملك تركته قضى ذلك الدين منها معاملة له بإقراره إذا تقرر ذلك علم منه أن من كان تحت يده عين لعمرو وديعة مثلاً فأقر بوقفيتها ثم أقر بأنها ملك لعمرو يكون إقراره الآن لغواً لأنها ليست تحت يده واستقلاله حتى يصح إقراره فيها ويؤاخذ به ثم إن لم تدخل تحت يده فواضح أنه لا يلزمه شيء وإن دخلت تحت يده بنحو شراء أو هبة لزمه تسليمها للموقوف عليهم وغرم قيمتها لبكر لأنه أحال بينه وبينها بإقراره بوقفيتها قبل إقراره له بملكها فلزمه ذلك كما أفاده كلامهم ومنه قولي في شرح الإِرشاد وإن أقر بمثلى أو متقوّم كدار في يده لزيد ثم أقر بها على التراخي أو الفورية لعمر وبعد إقراره لزيد كأن قال هذا لزيد ثم لعمرو أو بل لعمرو أولاً بل لعمرو أو غصبته من زيد ثم أو بل أو لا من عمر أو غصبته من زيد وغصبته من عمرو سلم المقر به لزيد لسبق الإِقرار له ولأن الإِقرار بحقوق الآدميين لا يرجع عنه كما صرح به أصله وحذفه لفهمه من قوله أول الباب يؤاخذ مكلف وغرم المقر قيمته ولو مثلياً أخذاً من التعليل الآتي وإن تلف ذلك المثلى في يد زيد فيما يظهر لاحتمال رده للإِقرار فيغرم لعمرو مثله فلم يكن غرم المقر إلا(2/427)
للحيلولة ولو مع التلف لعمرو وإن كان الذي سلم لزيد هو الحاكم أو لم يتعمد أي المقر ما ذكر بل أخطأ فيه للحيلولة بإقراره للأول إذ هي توجب المال كالإِتلاف بدليل أنه لو غصب عبداً ثم أبق عنده لزمه قيمته للحيلولة ولو باع عيناً لآخر وأقبضها له ثم أقر بعد خياره أو خيارهما ببيعها لآخر أو بعضها منه لم يبطل بيعه الأول وغرم قيمتها للآخر لأنه فوّتها عليه بتصرفه وإقباضه وقضيته أنه لا غرم عليه قبل الإِقباض وهو ظاهر إذ لا حيلولة حينئذٍ وأنه لا فرق بين قبض الثمن وعدم قبضه وبه صرح القاضي وهو متجه وإن اقتضى كلام الشيخين خلافه أ هـ .
المقصود من عبارة الشرح المذكور فإن قلت لا دليل في ذلك كله لأنهم قيدوه بقولهم كدار في يده وما في صورة السؤال ليس كذلك قلت هذه غفلة عما قدمته أول الباب من أن من أقر بشيء ليس في يده ثم صار في يده صار إقراره السابق كأنه واقع الآن فيعامل به ويكون كمن أقر له وهو في يده وما أشار إليه السائل من قولهم يشترط في المقر أن لا تكون يده نائبة الخ. معناه ما صرحوا به من أنه يشترط في اليد الاستقلال فلو كانت يده نائبة عن غيره بأن أقر بمال الآخر وذلك المال إنما هو تحت يده ليتيم أو جهة وقف مثلاً لم يصح إقراره أي الآن لأن العين المقر بها إلى الآن لم تدخل في يده فإذا دخلت في يده بشراء أو نحوه عومل بذلك الإِقرار وسلمت لمن أقر له بها لأنها الآن صارت تحت يده واستقلاله فلا تكفي اليد بدون استقلال ومن ثم لو أقر مفلس بعين في يده لم يصح لأنها وإن كانت في يده لكنها ليست في ولايته فلو اشتراها بعد فك الحجر أخذها المقر له لأنها الآن صارت تحت يده وولايته قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/428)
ابن الصلاح وفيما إذا أقر ناظر الوقف به لآخر ثم قسمه على الموقوف عليهم لا يغرم قطعاً ولا يخرج على قول الغرم بالحيلولة لأن اليد ليست له كما لو أقر أن الدار التي كانت في يد زيد لعمرو أ هـ .
وفي الروضة في الصلح لو بنى بأرض مسجداً وأقربها لمدعيها غرم له قيمتها لأنه حال بينه وبينها بوقفها ومراده ببناء مسجد بها أنه وقفها مسجداً أوغيره كما عبر به بعض مختصريها وما ذكره السائل عن حاشية الأنوار معناه أن الموقوف عليه لو أقر بالعين الموقوفة لآخر انتزعت منه وسلمت للآخر مدة استحقاق المقر لا مطلقاً لأن إقراره إنما يسري فيما يتعلق بحقه دون حق غيره وهذا موافق لما قدمته من صحة الإِقرار والمؤاخذة به إذا صدر فيما تحت يد المقر واستقلاله ولا شك أن العين الموقوفة ما دامت مستحقة للمقر هي تحت يده واستقلاله وإن لم يكن ناظراً وفارق المفلس فيما مر بصحة عبارة الموقوف عليه وإلغاء عبارة المفلس في الأعيان لأنه محجور عليها لحق الغير.(2/429)
وسئل: رضي الله عنه تعالى عنه عما لو قال إنسان لمال في يده ليس لي في هذا المال شيء لا ينزع منه وله أن يدعيه هل هذا مخصوص بما إذا كان في يده حتى لو كان في يد غيره لم يكن الحكم كذلك بل يكتفي حقيقة بمجرد الإِقرار أم لا. فأجاب: بقوله ما ذكر أوّلاً وجهه ظاهر لأن قوله ليس لي في هذا المال شيء إنما ينفي ملكه فقط وأما كونه في يده وديعة أو عارية أو نحوها فإنه لا ينفيه وإذا تقرر أن هذا معناه فله أن يدعي ملكه بعد ذلك ويثبته بطريقه وإذا كان هذا لا ينفي الملك مع كون الإِقرار وهو بيد المقر فبالأولى إذا أقر وهو بيد الغير فله أن يدعيه ويثبت ملكه ومنافعه فإن قلت ما نقله السائل عنهم هل ينافيه قول الروضة وغيرها. لو قال بيدي مال لا أعرف مالكه كان مؤداه أنه إقرار بمال ضائع فيكون إقراراً صحيحاً. قلت: لا ينافيه لأنه هنا نفى صريحاً أن له عليه ولاية ملك أو استيفاء منفعة أو أمان فوجب على القاضي نزعه منه وأما فيما مر فهو لم ينفِ إلا ولاية الملك دون غيره فلم ينزع منه وبقي تحت يده ومكن من دعوى ملكه بعد ذلك.(2/430)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن أقر أن ثمرة بستانه لزيد. ثم قال: إنما موضوع إقراري إباحة وأريد أرجع في الإِباحة فهل يقبل منه أو لا. فأجاب: بقوله لا يقبل منه ما ذكر لأن قوله ثمرة بستاني لزيد صريح في الإِقرار بالملك فدعواه أن مراده به إباحة ذلك مخالفة لصريح لفظه فلا يلتفت إليها ويحكم بملك الثمرة للمقر له وقد أطبقوا على أن تعقيب الإِقرار بما يبطله باطل وهذا يشبهه وقد صرحوا بأنه لو قال ليس لي عليك شيء ولكن لي عليك ألف درهم لم تسمع دعواه لأنه قال أوّلاً ليس لي عليك شيء فإن قلت هذا مشكل على ما قالوه من صحة الاستثناء وأنه من النفي إثبات وعكسه قلت لا يشكل لأن قوله ليس لي عليك شيء صريح في نفي جميع الأشياء لا يقبل تأويلاً فكان قوله بعده ولكن الخ. مناقضاً له من كل وجه فلم يمكن اجتماعهما حقيقة ولا مجازاً بخلاف بقية صور الاستثناء فإنه لا تناقض فيها صريحاً فصح الاستثناء وعمل به.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/431)
وسئل: بما لفظه لم لا قيد الإِرشاد في باب الإِقرار في قوله وألف وألف وألف ثلاثة بلا فصل واختلاف عند قوله إن لم يؤكد الثاني كما قيده في الطلاق. فأجاب: بقوله العبارتان متساويتان في أن كلاً منهما تفهم ما تفهمه الأخرى فلا تحتاج الأولى إلى التقييد المذكور كما أشرت إليه في شرح المحلين المذكورين وإيضاحه أن داعي الاختصار لما ألجأه إلى إدخال حكم ألف وألف وألف فيما قبلها أدخلها فيها لكنها تميزت عما قبلها باحتياجها إلى شروط ثلاثة قصد التوكيد واتفاق اللفظ وعدم الفصل قيدها بتلك الثلاث لاستفادتها من قوله إن لم يؤكد الثاني فاحترز بقوله إن لم يؤكد عما إذا قصد الاستئناف أو أطلق لاقتضاء العطف التغاير وبقوله الثاني عما لو أراد تأكيد الأول بالثاني أو الثالث لعدم اتفاق اللفظ فيهما وتخلل الفصل بينهما في الأخيرة أعني تأكيد الأول وبالثالث ومن ثم استفيد من هذا اشتراط عدم الفاصل باللفظ أو بسكتة فوق سكتة التنفس والعي لأن سبب امتناع تأكيد الأول بالثالث شيئان اختلاف اللفظ لزيادة الواو في المؤكد بكسر الكاف وتخلل الفاصل بينهما بالثاني فظهر أن تلك الشروط الثلاثة التي ذكرها في الطلاق صريحة مستفادة من قوله هنا إن لم يؤكد الثاني فلم تحتج هذه العبارة إلى ما ذكره في الطلاق لاستفادته منها استفادة ظاهرة كما تقرر وأما حكمة تصريحه بهذه الشروط الثلاثة في الطلاق فهي أنه لم يساعده الاختصار على تكرير اللفظ ثلاثاً كما في الإِقرار لطول أنت طالق مثلاً فضلاً عن تكريرها ثلاثاً فلما تعذر عليه هذا التكرير احتاج إلى إجمال يشمله فقال: وما تكرر عدّ ولما أتى بهذا لم يمكنه الإِشارة إلى شروط العد إذ لا تمكنه الإِشارة إلا لو كرر وقال: إن لم يؤكد الثاني كما في الإِقرار صرح بها. فقال: بلا فصل واختلاف فخرج بقوله بلا فصل تأكيد الأول بالثالث فتقع الثلاث لتخلل الفاصل، وكذا لو فرقها بفوق سكتة التنفس والعي وبقوله: واختلاف تأكيد الأول(2/432)
بالأخيرين المقترنين بالعاطف فيقع ثلاث أيضاً لأن كلاً من الأخيرين مخالف للأول ولاقترانهما بحرف العاطف وتجرده أعني الأول عنه بخلافه في نحو أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن تأكيد الأول بالأخيرين صحيح فتقع واحدة فقط فاتضح بما قررته معنى العبارتين وحكمة الإِتيان بهما في المحلين كذلك لأن الأولى ذكرت تلك الثلاثة فيها بطريق الإِيماء والإِشارة المكتفى بها في مثل الإِرشاد والثانية ذكرت تلك الثلاثة فيها بطريق التصريح فتأمل ذلك تعرف تحقيق صاحب الإِرشاد ودقة نظره وجلالة مقصده وكمال حكمته رحمه الله تعالى وإياناً بمنه وكرمه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/433)
وسئل: عن إقرار أحد الشريكين في المشترك ينزل على الشيوع أو الحصر في حصة المقر ويؤخذ جميع المقر به أم من الحصة. فأجاب: بقوله قد اضطرب ترجيح الشيخين في هذه المسئلة وأطال المتأخرون الكلام فيها وقد لخصت ذلك في شرح الإِرشاد وعبارته ولو أقر أحد شريكين بنصف المشترك انحصر في نصيبه كما في الروضة هنا بخلاف الوارث لأنه خليفة مورثه لكن رجح في العتق الإِشاعة واعتمده الإسنوى وغيره أي لذهاب الأكثرين إليه وضعفوا ما هنا وهذا من أفراد القاعدة المضطرب فيها أعني قاعدة الحصر والإِشاعة والمرجح في الخلع الإِشاعة بخلاف البيع والرهن والوصية والصداق والعتق انتهت عبارة الشرح المذكور. ومنها يعلم أن المعتمد تنزيل إقرار الشريك على الإِشاعة فإذا كان بينهما مائة شركة نصفين فأقر أحدهما بنصفها لثالث نزل إقراره على الإِشاعة حتى يبطل في خمسة وعشرين ويصح في خمسة وعشرين وهي نصف حصته وعلى قول الحصر يصح في الخمسين التي هي قدر حقه فيأخذها كلها المقر له فإن قلت ما الفرق بين الإِقرار حيث نزل على الإِشاعة على ما تقرر وبين البيع والرهن والوصية والصداق والعتق حيث ينزل على الحصر قلت يفرق بأن الإِقرار إخبار عن حق سابق فلا بدّ من تيقن ثبوت ذلك السابق بأن يكون اللفظ الدال عليه صريحاً في دخوله تحت مدلوله أو ظاهراً ظهوراً متبادراً من ذلك اللفظ فإذا قال: أقررت لك بنصف هذا العبد وهو مشترك نصفين بينه وبين غيره لم يكن هذا اللفظ صريحاً ولا ظاهراً في أن الإِقرار وقع بنصف العبد المختص بالمقر بل هو محتمل لذلك ولكون النصف المقر به شائعاً بينه وبين شريكه فلا نوجب به إلا المتيقن وهو ربعه لا نصفه لقاعدة الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ المشهورة في الإِقرار المشار إليها بقوله أصل ما أبني عليه مسائل الإِقرار أن ألزم اليقين أي الظن القوي كما يقيده كلامه في موضع آخر وأطرح الشك أي ومجرد الظن ولا أستعمل الغلبة أي ما غلب على الناس لأن الأصل براءة(2/434)
الذمة وأما البيع وما ذكر بعده فهي من حيز الإِنشاءات والإِنشاء إذا أطلق في شيء إنما ينصرف للمملوك دون غيره فإذا قال بعتك نصف هذا المشترك بينه وبين غيره انصرف البيع لجميع حصته وانحصر فيها دون حصة شريكه لما علمت أنه إنشاء كما صرحوا به ولما كان القصد من الخلع تخليص العصمة ومن ثم صح بالمغصوب ونحوه ولم يوجد فيه المعنى المقرر في الإِنشاءات فمن ثم ألحقوه بالإِقرار في تنزيل عوضه على الإِشاعة فتأمل ذلك فإنه مهم ولم أرَ أحداً فرق بين تلك الأبواب وسر تخالف مدارك الأئمة فيها وقد اتضح سبب تخالفها ولله الحمد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
وسئل: عمن أقر لورثة فلان بشيء فهل يقسم كإرثهم من فلان أو بالسوية. فأجاب: بقوله يقسم بالسوية بينهم كما نص عليه في الأم لأن غالب الاستحقاقات المساواة كالهبة والوصية لهم والوقف عليهم.(2/435)
وسئل: عمن أقر بأن فلان ابن فلان عمي لا وارث لي غيره ورثه عمه كما قاله القزويني أ هـ .
فهل ذلك إذا بين جهة العمومة لأبوين أو لأب كما في الدعوى والشهادة بها أم يكفي الإِطلاق وهل ذلك في معروف العمومة فيكفي الإِطلاق فيه دون مجهولها فلا بدّ من البيان. فأجاب: بقوله ما قاله القزويني صحيح على أنه لم ينفرد به بل ذكره غيره أيضاً ولا يحتاج مع قوله لا وارث لي غيره إلى بيان جهة العمومة لأنه حينئذٍ بمعنى قوله عمي من جهة الأب أو الأبوين مع ما فيه من زيادة اعترافه بانحصار الإِرث فيه فإن قلت ينافي هذا ما أفتى به القفال أن من قال هذا وارثي ومات قبل بيان جهة الإِرث لا يرثه وكذا قال العبادي ومثله في فتاوى القاضي فيمن قال فلان عصبتي أو وارثي إن لم يكن لي عقب وجرى على ذلك الجلال البلقيني وغيره. لكن نقل الأذرعي عن بعضهم أنه إذا قال فلان وارثي قبل قلت لا يخالفه لأنه بين جهة الإِرث مع انحصاره فيه بقوله فلان عمي لا وارث لي غيره بخلاف ما في مسئلة القفال فإنه لم يبين فيها جهة الإِرث فضلاً عن انحصاره فيه فإن قلت فما المعتمد من ذلك المذكور عن القفال وغيره قلت: قد يؤخذ من كلام الشيخين في الشهادة التي يحتاط فيها ما لا يحتاط في الإِقرار كما صرحوا به في مسائل منها أنه لو شهد بأنه ابن عمه أو أخوه لم يقبلا لصدقه بابن العم للأم وهو غير وارث وبأخوة الإِسلام بخلاف من أقر بأخوة مجهولة فإنه يقبل وإن كانت الأخوة للأم لا تثبت بالإِقرار على خلاف كلام المارودي الذي اعتمده البلقيني و أبو زرعة كما بينته مع ما فيه في شرح الإِرشاد أي حملاً لكلام المقر على ما للإِقرار فيه مدخل إذ المكلف يحمل كلامه على الصحة ما أمكن ولا نظر أيضاً لاحتماله لأخوة الرضاع والإِسلام قالوا لأن المقر يحتاط لنفسه فيما يتعلق به ولا يقر إلا عن تحقيق أن كلام القفال ومن وافقه يتعين حمله على أنه لا يرثه قبل البحث عن ورثته وكلام غيرهم على أنه يرثه بعد(2/436)
البحث وبيان ذلك يعلم بسياق كلام الشيخين وغيرهما. وحاصله أن دعوى الإِرث لا بدّ لصحتها من ذكر جهة كالأخوة وأن الحكم به أي حالاً لما يعلم مما يأتي لا بدّ لصحته من ذكر الجهة والإِرث بأن يشهد خبيران بباطن حال المورث لصحبة أو جوار حضر أو سفر بأن هذا وارثه وأنهما لا يعرفان له وارثاً سواه فتدفع له التركة وإن كان ذا فرض وشهدا له كذلك أعطي فرضه ولا يقدح في شهادتهما قطعهما بأنه لا وارث له سواه وإن أخطآ به لأنهما إنما شهدا بما اعتقداه ولم يقصدا الكذب أما إذا لم يقولا لا نعرف له وارثاً سواه أو قالاه ولم يكونا خبيرين بباطل حاله فإن كان سهمه غير مقدر أو مقدراً لكنه ممن يحجب لم يعط شيئاً من التركة حالاً بل بعد بحث القاضي عن حال الورثة فيما سكنه الميت أو طرقه من المحال مع النداء فيها أن فلاناً مات فمن كان له وارثاً فليأت أو يوكل فإذا غلب على ظنه أنه لا وارث له غيره أعطاه حقه بلا يمين ولم يكن ثقة موسراً أو مقدراً وهو لا يحجب أعطي أقل فرضه عائلاً حالاً من غير بحث ثم الباقي بعد البحث وعدم ظهور غيره ولو شهدا أنه ابنه أو أخوه ولم يذكرا كونه وارثاً نزع بشهادتهما المال ممن هو بيده وأعطيه بعد البحث كما رجحه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/437)
ابن الرفعة ونقله عن الجمهور فإذا اكتفوا في الشهادة بأن هذا وارثه وإن لم يقولا لا نعرف له وارثاً سواه لأن هذا إنما هو شرط لإِعطائه حالاً من غير بحث وليس شرطاً لصحة الشهادة لإِعطائه بعد البحث كما تقرر فأولى أن يكتفى في الإِقرار بقوله هذا وارثي لما مر أنه يحتاط للشهادة ما لا يحتاط للإِقرار فحينئذٍ بتعين حمل كلام القفال ومن وافقه على ما ذكرته وإلا فهو ضعيف لمنابذته لكلام الشيخين كالأصحاب في الشهادة كما تقرر فإن قلت كلام الأصحاب هنا مفروض في شهادة بعد ذكر جهة في الدعوى فكانت الجهة مذكورة في الشهادة وحينئذٍ فهذا لا يلاقي كلام القفال لأن فيه ذكر الجهة والقفال إنما منع الإِقرار الخالي عن ذكر الجهة قلت هو مع ذلك ملاقيه لما عرفت أنهم شددوا في الشهادة بما لم يشددوا به في الإِقرار فلم يبعد مع ملاحظة ذلك أن يؤخذ منه حمل كلام القفال وغيره على ما قررته ثم رأيت بعضهم حمل كلام القفال على ما إذا عرف أن مراد المقر جهة معينة وعرف انحصارها في المقر به وما ذكرته أوجه كما يظهر للمتأمل فإن قلت ما أفاده كلام القزويني السابق من ثبوت حصر الورثة بالإِقرار هل ذكره غيره قلت نعم ذكره غيره لا سيما الإِمام أبا عمرو بن الصلاح فإنه قال في رجل أقر أنه لا وارث له إلا أولاده هؤلاء وزوجته يثبت حصر ورثته فيهم بإقراره فكما يعتمد إقراره في أصل الإِرث يعتمد في حصره فإنه من قبيل الوصف له قال هذا هو الظاهر وفي فتاوى القاضي ما يدل عليه فإن قلت ما ذكر من كلام الشيخين وغيرهما في الشهادة بالإِرث من أنه لا بدّ من بيان جهة خصه بعضهم على ما نقل عنه بما إذا لم يقل الشاهدان نشهد أن هذا وارثه لا وارث له غيره فإن قالا ذلك لم يحتج لبيان جهة الإِرث واستدل على ذلك بكلام السيد السمهودي والجمال محمد بن أحمد بافضل الحضرمي فهل ذلك صحيح معتمد أو لا قلت الذي دل عليه كلام الأصحاب والشيخين والمتأخرين أن ذلك غير صحيح ولا يعتمد لأنهم كلهم(2/438)
مطبقون على أن شرط سماع الدعوى ذكر الجهة وعبارتهم ولو ادعى أنه وارث فلان وطلب إرثه وجب بيان جهة إرثه من نحو أخوة فيقول أنا أخوه ووارثه ويبين أنه أخوه لأبويه أو لأب أو لأم لأن شرط صحة الدعوى أن تكون معلومة ولا تعلم إلا بعد بيان ما ذكر ثم قالوا: تقبل الشهادة المطلقة من غير ذكر السبب إلا في مسائل يجب فيها تفصيل الشهادة كالدعوى وذكروا من هذه المسائل المستثناة الشهادة بأن هذا وارث فلان لا بدّ من جهة الإِرث على طبق ما ذكر في الدعوى فإذا تقرر ذلك علم أن الحصر لا يكفي عن ذكر الجهة وإنما فائدته أنه إذا انضم لذكر الجهة من خبيرين بباطن الميت أفاد الحكم بالإِرث وإعطاء التركة حالاً وإن لم ينضم لذكر الجهة بأن اقتصر الشاهدان عليها أو ضماه وليسا خبيرين لم يفد ذلك فلا يعطى إلا بعد البحث القوي على الظن أن لا وارث آخر فذلك هو فائدة ذكر الحصر وأما ادعاء أنه يكفي عن ذكر الجهة فهو منابذ لقولهم لا بدّ من التفصيل في الشهادة بالإِرث كالدعوى به فإن قلت لم لم يكفِ تفصيل الدعوى عن تفصيل الشهادة هنا قلت: علته الالتباس على أكثر الناس في جهات الإِرث وتميز بعضها عن بعض ومن يحجب ويحجب وغير ذلك فوجب على الشاهد بيان الجهة سواء أضم لذلك الحصر أم لا. وهذا أولى بالوجوب مما اعتمد فيه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/439)
ابن الرفعة كغيره وجوب التفصيل حيث قال، قال: ابن أبي الدم هل للشاهد أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهماً مثلاً إذا عرف سببه كأن أقر له به فشهد أن له عليه درهماً فيه وجهان: أشهرهما: لا تسمع شهادته وإن وافق الحاكم في مذهبه لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سبباً ولأنه ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره أو ما شاهده من الأفعال ثم الحاكم ينظر فيه فإن رآه سبباً رتب عليه مقتضاه قال ابن الرفعة وهذا ظاهر نص الأم والمختصر أ هـ .
فإذا كان الإِطلاق في هذا الشيء الظاهر لكل أحد لا يكفي فأولى في مسئلتنا فإن قلت: قد خالف ابن أبي الدم ابن الصباغ فقال كغيره بعد إطلاعه على النص المذكور أن ذلك يكفي وهو مقتضى كلام الروضة وأصلها، قلت: هذا بفرض اعتماده لا يؤيد عدم وجوب ذكر جهة الإِرث في الشهادة لوضوح الفرق بين الصورتين لأن الاستحقاق بعد نحو الإِقرار ظاهر لغالب الناس بخلاف الإِرث إذ له أسباب وموانع يعز على أكثر الناس معرفتها مع كثرة الخلاف فيها فوجب بيان جهته مطلقاً على أن كلامهم صريح في الفرق فإنهم جعلوا مسئلة الإِرث مستثناة مما يكفي فيه الإِطلاق كما مر فأفهم أنه لا بدّ فيها من التفصيل مطلقاً وأن خلاف ابن أبي الدم وابن الصباغ لا يأتي فيها وهو واضح كما تقرر وأما الاستدلال بكلام السيد السمهودي على ذلك التخصيص السابق عن بعضهم فليس في محله بل كلامهم موافق لكلام الأصحاب ومنزل عليه وبفرض مخالفته له لا يلتفت إليه لكنه مع تأمله غير مخالف له فإن السؤال مات شخص مشهور النسب من قبيلة وادعى كل واحد منهم أنه أقرب من الباقين أو ادعى بعضهم القرب والباقون المساواة ولم يقم مع واحد منهم بينة بما ادعاه فما الحكم فقال: الجواب أن من ادعى وراثته منهم لكونه أقرب عصوبة والحالة هذه أو ادعى المساواة لمدعي الأقربية ومشاركته في وراثته فلا يسلم الحاكم لواحد منهم حتى يقيم بينة شرعية من(2/440)
أهل الخبرة بباطن حال الميت في قديم الزمان وحديثه وسفره وحضره أن هذا وارثه وأن هؤلاء ورثته لا يعرفون له وارثاً سواه أو سواهم لاحتمال وارث آخر في بعض البلاد فإن لم تكن الشهود من أهل الخبرة الباطنة بحاله أو كانوا من أهلها ولم يقولوا لا نعلم له وارثاً فلا يعطى المشهود له شيئاً في الحال كما في أصل الروضة بل يبحث القاضي ثم يعطيه بعد غلبة الظن أن لا وارث له غيره أ هـ .
المقصود منه وهو موافق لكلام الشيخين وغيرهما الذي قدمته فإن السؤال مفروض في مشهور النسب من قبيلة وأن بقية القبيلة مختلفون في الأقرب إليه فجهة الإِرث وهي بنوّة العم لأبوين أو لأب معلومة متفق عليها مذكورة في الدعوى وإنما الخلاف في الأقرب منهم للميت فتقبل البينة بأن هذا وارثه وأن هؤلاء ورثته لا يعرفون له وارثاً سواه أو سواهم كما أنه مفروض في ذكر الجهة وإن ذكر الحصر إنما هو شرط للإِعطاء حالاً لا غير وكلام السيد مصرح بالأمرين كما هو واضح بأدنى تأمل وأما كلام الجمال الحضرمي في إقرار لا في شهادة وقد مر الفرق بينهما على أن فيه ذكر الجهة وهو قوله عمي واكتفى عن ذكر كونه لأَبوين أو لأب بقوله لا وارث له سواه كما مر أول الجواب فلا دليل فيه بوجه أيضاً والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب ومنه الهداية وإليه المآب لا رب غيره ولا مأمول إلا خيرة إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
رفع الشبه والريب عن حكم الإِقرار بأخوّة الزوجة المعروفة النسب
تأليف كاتبه فقير عفو ربه وكرمه الملتجي إلى بيته وحرمه عياذاً به من بوائقه وزلله وجرمه أحمد بن حجر الهيتمي سامحه الله بغفرانه وأفرغ عليه سجال قربه ورضوانه إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.(2/441)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رافع غياهب الغويصات وغرائب المشكلات بواضح الدلائل ومانع ثواقب الأفهام عن سوابق الأوهام في معضلات المسائل ومانح سواطع البصائر أحكام البواطن والظواهر والظفر منها بكل طائل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنجو بها من الهوي وأعوذ بها من التوي الموجب لاتباع الحظوظ والرذائل وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الأواخر والأوائل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلاماً دائمين متكررين بتكرر البكر والأصائل آمين.
وبعد: فهذا كتاب لقبته رفع الشبه والريب عن حكم الإِقرار بأخوّة الزوجة المعروفة النسب دعاني إلى تأليفه أنه كان بلغني اختلاف علماء مصر فيها اختلافاً كثيراً وتناقضهم في الإِفتاء فيها تناقضاً عجيباً شهيراً لكن على طريق الإِجمال لا التفصيل فإنا لم نسمع ذلك إلا من غير ذوي التحصيل إلى أن قدم بعضهم إلى مكة المشرفة أواخر ذي القعدة الحرام سنة ثمانِ وخمسين وتسعمائة فأخبر بأن ما أشيع من اختلافهم ليس له أصل أصيل ولا عليه شيء من التعويل وإنما اتفقوا كلهم على جانب واحد هو حرمتها عليه ظاهراً لا باطناً وبذلك أفتى سبعة وعشرون شافعياً وشذ بعضهم فأفتى بالحل ظاهراً وباطناً وبعضهم فأفتى بالحرمة ظاهراً وباطناً فلما سمعت منه ذلك وكان مخالفاً لما انقدح عندي في تلك المسائل تعجبت من هذه الإِطلاقات وقلت لا بدّ وأن أنتدب لبيان ما في هذه المسئلة من التفصيلات فحينئذٍ بادرت إلى بيان ما في كل من تلك الاحتمالات ثم إلى ترجيح أظهرها نقلاً وأدقها مدركاً وعقلاً وما عليه منها التعويل وما هو الأَوفق بما حققوه من التفريع والتأصيل بتأليف هذا الكتاب ورفع ذلك الارتياب ورتبته على ثلاث مقدمات وثلاثة أبواب راجياً من الله الكريم الوهاب الإِعانة والتوفيق للصواب مع القبول وجزيل الثواب لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه مآب.(2/442)
المقدمة الأولى: في بيان الواقعة بحسب ما بلغنا هي أن رجلاً بدمنهور الوحش بلدة كبيرة بإقليم البحيرة من ريف مصر بينه وبين أخته المعروفة من أبيه تخاصم في إرث طال بينهما فيه التنازع وعظم التخاصم والتمانع وأراد أن ينجو منها بحيلة وإن باء بأقبح رذيلة فجاء بزوجته المشهورة النسب إلى قضاة الشرع وشهوده الذين خاصم أخته المعروفة إليهم بين أيديهم مراراً متعددة وأحلها عندهم وقال لهم هذه أختي فلانة التي من أبي وقد أبرأتني فاشهدوا عليها فاسترعوا عليها فكشفوا وجهها. ثم كتبوا حليتها ثم شهدوا عليها بالإِبراء العام وحكم به فلما علمت الأخت جاءت إليهم منكرة عليهم فكشفوا سجلهم فرأوا حليتها غير ما عندهم فأحضروا أخاها ولم يزالوا به حتى أقر أنه اصطنع ذلك وافتعله ليبرأ عنها فقبض عليه ثم اعترض عليه في بقاء زوجته بعد ذلك في عصمته فكتب سؤال المفتي تلك البلد فأفتى بتحريمها عليه فخالفه بعض فضلائها فأرسلوا يستفتون عن ذلك علماء مصر فقيل إن بعضهم أفتى بحلها له ظاهراً وباطناً وبعضهم بحرمتها كذلك وبعضهم بحلها باطناً لا ظاهراً ثم رفع الأمر لحاكم الشوكة فنفذوا الإِفتاء الأول ومكنوه منها واستمر على ذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111(2/443)
المقدمة الثانية: في تحرير السؤال الذي أجابوا عليه ولم يتضح لنا تحريره إلى الآن فوجب أن نحرره ليقع الكلام في صورة خاصة ويتوارد المختلفون على شيء واحد فنقول إن كانت صورة السؤال أنه قال لهم هذه أختي فلانة ذاكراً لاسم زوجته أو هذه أختي التي وقع الخصام بيني وبينها عندكم كما يدل عليه ذكر الواقعة السابق فيتعجب من الخلاف فيها حينئذٍ لأنه ليس فيها تصريح منه بالإِقرار بأختيتها له أصلاً وإنما فيه الحكم بأن هذه الصورة الشخصية هي تلك الصورة الذهنية وهذا أمر يكذبه الحس فيه وكل إقرار يكذبه الحس فيه لا يرتبط به حكم أصلاً اتفاقاً كما يعلم مما يأتي في نحو هذه بنتي أو أختي أو ابنة أختي أو بنتي لمن لا يتصوّر فيها ذلك وإن كانت صورة السؤال هذه أختي من أبي فهذه هي التي يتجه فيها جريان الخلاف بل هي المنقولة في كلامهم بالشخص لا بالأخذ.(2/444)
المقدمة الثالثة: في تحرير الجواب على سبيل الاختصار أن الذي دل عليه كلامهم تصريحاً وتلويحاً أن من قال لزوجته المعروفة النسب هذه أختي أو أنت أختي سواء أضم إليه من أبي أم سكت عنه لم تحرم عليه بمجرد ذلك سواء أقصد الكذب أم أخوّة الإِسلام وكذا إن لم يقصد شيئاً على خلاف ما يقتضيه كلام الخوارزمي الآتي بما فيه بخلاف ما إذا قصد الاستلحاق أو صرح به وهي ممن يمكن لحوقها بأبيه لو فرض جهل نسبها كما يأتي فإنه إن صدق لكونها ملحقة بفراش بحكم الظاهر وهو يعلم لحوقها بأبيه بحكم الباطن لوطئه أمها بشبهة كانت محرمة عليه باطناً وهذا مما لا ينبغي أن يطرقه خلاف كما هو واضح وكذا ظاهراً على ما يأتي من الخلاف فيه مؤاخذة له بإقراره وهذا حاصل ما يتحصل من كلامهم في هذه المسئلة كما ستعمله مما يتلى عليك وبه يزداد عجبك من الإِطلاقات السابقة وإن أمكن أن يحمل كلام القائلين بالحل ظاهراً وباطناً على ما إذا قصد الكذب أو أخوّة الإِسلام أو لم يقصد شيئاً والقائلين بحرمتها كذلك على ما إذا قصد الاستلحاق وصدق فيه والقائلين بحرمتها ظاهراً وحلها باطناً على ما إذا قصد الاستلحاق وكذب فيه وهذا الحمل متعين وإلا لم يكن لتلك الإِطلاقات وجه ألبتة كما هو ظاهر بأدنى تأمل وإذ قد تقرر ذلك فلنشرع الآن في ذكر الأبواب الثلاثة المشتملة على تلك الأجوبة الثلاثة وتتكلم على كل منها مما يشفي العليل ويبرد الغليل بتوفيق الله وهدايته ورحمته وإسعافه ومشيئته ووقايته بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 111
الباب الأول
في الكلام على الحل من غير تفصيل(2/445)
اعلم أن مسئلة من قال أنت أو هذه أختي لزوجته المعروفة النسب فيها وجهان في كلام الأصحاب لكن لا مطلقاً بل عند استلحاقها بذلك ففي الجواهر وغيرها لو كان المستلحق لا المكذب زوجة المستلحق ففي ارتفاع النكاح وجهان جاريان فيما إذا كانت مشهورة النسب من غيره أ هـ .
ففيه التصريح في الزوجة المجهولة والمعروفة النسب إذا استلحقها زوجها بجريان وجهين أحدهما الحل والثاني الحرمة وسيأتي في كلامهم ما يدل لترجيح الأول وقد يؤخذ ما يدل لترجيح الثاني كما يأتي مع الجواب عنه وبهذا يعلم أن لكل من الإِفتاءين الأولين مستنداً من كلامهم وسيأتي أن للإِفتاء الثالث مستنداً أيضاً لكنه من بحث الأذرعي بقيده الآتي مع بسط الكلام عليه وفي الجواهر وغيرها أيضاً لو مات وخلف ابنين مستغرقين فأقر أحدهما بأخ ثالث وأنكره الآخر لم يثبت النسب أي إجماعاً كما حكاه غير واحد وظاهر المذهب وهو المنصوص أن الميراث لا يثبت وخرج ابن سريج وجهاً أنه يثبت ويتأيد بمسائل يثبت فيها الفرع دون الأصل منها لو قال أحد الابنين فلانة بنت أبينا ففي حلها للمقر وجهان وقال القاضي إن كانت مجهولة النسب حرمت عليه وإن كانت معروفة النسب فوجهان أ هـ .
وعبارة الروضة لو أقر أحد الابنين المستغرقين بأخ فأنكر الآخر فالصحيح المنصوص أنه لا يرث لأن الإِرث فرع النسب ولم يثبت وفي وجه يرث ويشارك المقر فيما في يده كما لو قال أحدهما فلان بنت أبينا هل يحكم بعتقها وجهان. انتهت قال في التوسط هذا كلام سقط صدره من بعض نسخ الرافعي وصوابه ما في النسخة الصحيحة وهو ما في الكتب غيرها. ولو قال أحد الابنين فلانة بنت أبينا وأنكر الآخر حرم على المقر نكاحها مع أن حرمته فرع النسب الذي لم يثبت ولو قال أحدهما لعبد في التركة أنه ابن أبينا هل يحكم بعتقه فيه وجهان وفي النهاية وغيرها. ولو قال لامرأة أنت أختي من النسب وكذبه أخوه وهي مجهولة النسب حرم نكاحها وإن كانت معروفة النسب ففي التحريم(2/446)
وجهان، قال الإِمام : وذكر الخلاف فيها عظيم ثم لا خلاف فيه مع تسليم الحرمة في مجهولة النسب أ هـ .
ما في التوسط إذا علمت ذلك علمت أن منقول المذهب في معروفة النسب من غير أبيه عند استلحاقها وجهان وأنه لا فرق بين أن يقول لها ذلك وهي في نكاحه أو قبله وأن منازعة الإِمام في حكايتهما فيها قبل النكاح مردودة ومن ثم أعرض عنها القمولي وغيره حيث حكوا الوجهين فيها بل صنيع القمولي السابق صريح في أنهما محكيان حتى في المجهولة النسب وأن التفرقة بينهما إنما هي للقاضي فإنه رجح في المجهولة التحريم دون المعروفة وسيأتي الفرق واضحاً بينهما بما يعلم به رد ما قاله الإِمام وقد صرح غير القمولي بحكايتهما في المجهولة ولا ينافي ما تقرر من حكاية الوجهين في المعروفة ما مر عن نسخ الرافعي فإنه في المجهولة كما هو معلوم من كلامه وكلام غيره وإذا تقرر أن في المعروفة عند استلحاقها وجهين سواء كانت في نكاحه أم لا تعين المصير إلى الراجح منهما والذي يدل لترجيح الوجه القائل بالحل أمور منها أن كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في مواضع من الأم والمختصر ظاهر فيه حتى في المجهولة لكنه غير مراد فيها لما يأتي من الفرق الواضح بينهما وعبارة
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 134(2/447)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو مات عن ابنين وأقر أحدهما بأخ وشهد على أبيه أنه أقر أنه ابنه لم يثبت نسبه ولم يكن له من الميراث شيء لأن إقراره جمع أمرين أحدهما له والآخر عليه فلما بطل الذي له بطل الذي عليه ألا ترى أن رجلاً لو قال لرجل لي عليك مائة دينار فقال بعتني بها دارك هذه فهي لك فأنكر الرجل البيع أو قال باعنيها أبوك وأنت وارثه فهي لك عليّ ولي الدار كان إقراراً باطلاً لأنه إنما أثبت على نفسه مائة يأخذ لها عوضاً فلما بطل عنه العوض بطل عنه الإِقرار اهـ. فقوله فلما بطل الذي له بطل الذي عليه ظاهر في أن مسئلتنا إذا بطل الذي له وهو الأخوّة الموجبة للإِرث ونحوه بطل الذي عليه وهو الأخوة الموجبة للتحريم وانفساخ النكاح لو كان فإن قلت أي فرق بين المجهولة والمعروفة عند القاضي وغيره ممن رجح في المجهولة التحريم ووقف في الترجيح عن المعروفة قلت الفرق بينهما ظاهر جلي وهو أن المجهولة حرمتها عليه شرعاً ممكنة بعد تصديق أخيه أو موته والانحصار فيه فإن نسبها حينئذٍ يثبت وتصير أخته شرعاً فتعين ترجيح حرمتها احتياطاً وأما المعروفة فلا يمكن شرعاً أن تصير أخت المقر ظاهراً أصلاً لا في الحال ولا في المستقبل كما صرحوا به في كل معروف نسب استلحق وما لا يمكن شرعاً لا يتصور الاحتياط فيه ولا المؤاخذة بالإِقرار به فقد شرط الأئمة لصحة كل إقرار بنسب أو غيره وللمؤاخذة به أن يكون ممكناً شرعاً وبهذا الذي ذكرته يجاب عن قول الإِمام وذكر الخلاف فيها عظيم الخ. ووجهه أنه بان واتضح أن للاحتياط بالتحريم في المجهولة وجهاً واضحاً ولا كذلك المعروفة فإن قلت هل يمكن فرق بين عدم ثبوت الإِرث في هذه المسئلة لأنه لم يثبت أصله وهو النسب وبين ثبوت الفرع دون الأصل في المسائل التي استشهد بها كثيرون لتخريج ابن سريج كمسئلة ثبوت الشفعة مع عدم ثبوت الملك وثبوت الضمان مع عدم ثبوت المال المضمون وثبوت البينونة مع عدم ثبوت المال المخالع(2/448)
عليه وحرمة تزوج امرأة ادعت نكاح من كذبها وحلف على أحد وجهين مع عدم ثبوت النكاح قلت نعم يمكن ذلك بل هو واضح فإن إقراره في هذه المسائل كلها لم يخالف الشرع بل هو محتمل الصدق ظاهراً شرعاً فليس في المؤاخذة به ما يخالف الشرع إذ من اعترف لغيره بمقتضى شفعة أو ضمان أو بينونة أو نحوها لم يقع في إقراره شيء يكذبه الشرع فيه لإِمكان ثبوته شرعاً بخلافه في مسئلة الإِرث فإن إقراره مخالف للشرع لبطلان استلحاقه شرعاً فلم يمكن ثبوت فرعه وهو الإِرث فهو نظير عدم حرمة المعروفة على القول به لأن الشرع كذبه في استلحاقها فلم يمكن القول بالفرع مع عدم ثبوت الأصل وأما ما مر في المجهولة فهو نظير تلك النظائر وأمكن القول فيها بثبوت الفرع وإن لم يثبت الأصل بجامع أن الشرع لم يكذبه في الفرع وإنما انتفى الأصل لعدم وجود شرطه مع أنه بصدد أن يوجد بتصديق الأخ الآخر وأما المعروفة فالشرع مكذب له فيما ذكره فيها وشتان بين من كذبه الشرع حالاً ومآلا ومن لم يصدقه الشرع الآن ويصدقه بعد إذا وجد الشرط وإذا تأملت ما أجبت به من هذه النظائر علمت أنه أحسن وأوضح من جوابي الإِمام عنها وأنه لا يأتي ما تعقبها به وقد بسطهما الأذرعي في التوسط مع تسليمه له قوله عقبهما وعقب استبعادهما وكل هذا تكلف ومن لم يعترف بإشكال هذه المسئلة فليس من التحقيق على نصيب قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 134(2/449)
الأذرعي والأمر على ما قال الإِمام أ هـ .
وهذا جرى منهما على انتصارهما للوجه الضعيف الذي خرجه ابن سريج ومن جملة ما انتصر له به الأذرعي أنه مذهب الأئمة الثلاثة كما قاله الرافعي وأن الإِمام اختاره وقوّاه بمقتضى أنه قياس تلك النظائر أ هـ .
لكن قد ظهر واتضح الفرق بينهما وبين عدم الإِرث وأن نص الأم والمختصر يرد ذلك التخريج فتأمل هذا الموضع فإنه مما ينبغي أن يتأمل ويستفاد لتعين الانتصار للمذهب وأهله على من وجد لذلك سبيلاً فإنهم أطبقوا على ضعف التخريج مع تقريرهم في تلك النظائر ما يؤيده حتى قال الإِمام ما قال لولا ما ظهر بحمد الله وتوفيقه من الجواب الواضح عنها لمن تدبره وتأمله فإن قلت هل يمكن أن يفرق بين عدم الإِرث وثبوت الحرمة في المجهولة بأنه لا يلزم من النسب الإِرث إذ قد يمنع منه نحو الرق أو القتل بخلاف النسب وحرمة نحو الأخت فإنه يلزم من ثبوته ثبوتها قلت يمكن ذلك لولا تصريح القاضي حسين و العبادي وحكاه المزني عن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وتبعهم المتأخرون بأن من تزوّج مجهولة النسب فاستلحقها أبوه ولم يصدقه لم يبطل نكاحه مع ثبوت نسبها وكونها أخته فلا تلازم أيضاً ومنها قول الجلال البلقيني عقب قول الشيخين قال: زيد أخي ثم فسره بأخوّة الرضاع حكى الروياني عن أبيه أن الأشبه بالمذهب أنه لا يقبل لأنه خلاف الظاهر ولهذا لو فسره بأخوة الإِسلام لم يقبل أ هـ .
محل هذا ما إذا كان مجهول النسب وكان المقر حائزاً لإِرث الوالد الذي ألحق هذا به أما معروف النسب فلا يحتمل إلا أخوة الإِسلام أو أخوة الرضاع فسواء فسره بذلك أم لا لا يحمل إلا على أخوة الإِسلام هل يقبل فيه نظر أ هـ .
وبتأمل قوله فلا يحتمل إلا أخوّة الإِسلام الخ. يعلم أنه مصرح بإلغاء الإِقرار في المعروف النسب من أصله وأنه لا يترتب عليه حكم أصلاً فحينئذٍ يكون مصرحاً بترجيح ما ذكرناه من الحل ثم تنظيره في المرأة إنما هو مع جهل نسب المقر به ووجه النظر(2/450)
حينئذٍ واضح وإن كان المعتمد ما أطلقه الشيخان مع عدم القبول ومنها ما جزم به صاحب الأنوار ومن تبعه أنه لو قال لزوجته أنت أختي كان كناية طلاق ويلزم من كونه كناية طلاق أنه غير صريح في حرمتها المؤبدة وإلا كان تنافياً إذ من لازم كونه طلاقاً بقاء العصمة حيث لا نية ورجوعها بالمراجعة مع النية ومن لازم كونه اعترافاً بحرمتها عليه ومؤاخذته بذلك بينونتها منه بينونة فسخ بمجرد قوله لها ذلك فتنافى الموضوعان وإذا تنافيا لزم من تصريحهم بأنه كناية طلاق ترجيحهم لأحد الوجهين السابقين في معروفة النسب القائل بعدم حرمتها باستلحاقها وهذا ظاهر لا غبار عليه وبه علم أن صاحب الأنوار ومن تبعه مرجحون لأحد الوجهين المطلقين في كلام الرافعي وغيره وكفى بصاحب الأنوار سلفاً وسنداً في الترجيح فإن قلت كلام كافي الخوارزمي الآتي في الباب الثالث يرد ما ذكر وكذا كلام القفال الآتي ثم أيضاً، قلت ممنوع كما سأقرره بعد فتأمله ومنها قول الشيخين وغيرهما. لو قال امرأتي هذه بائن مني بينونة لا تحل لي أبداً أو امرأتي هذه لا تحل لي أبداً لم تحرم لاحتماله وقيل يحكم عليه بالبينونة بمقتضى ذلك مؤاخذة له بمقتضى إقراره ولا نظر إلى أنه قد يعتقد التحريم مؤبداً خطأ لأن الإِنسان مؤاخذ بموجب إقراره وإن احتمل ما ذكر أ هـ .
فتأمل ذلك تجده صريحاً ظاهراً في ترجيحهم للوجه السابق القائل بالحل ووجه ظهوره في ذلك أن هذا الذي ذكروه في تعليل الوجه الضعيف هو تعليل الوجه المقابل للأول هو القائل بحرمتها عليه بقوله لها أنت أختي وإذا أعرضوا عن ذلك التعليل والمعلل وهو الحرمة في هذه المسئلة كانوا معرضين عن ذلك الوجه في مسئلتنا بالأولى لأنه أصرح من مجرد قوله هذه أختي بدليل ما يأتي عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 134(2/451)
الخوارزمي أنها تحتمل أخوة الدين وأنه يقبل تفسيره بها ومنها ما أفهمه كلام بعض المتأخرين من ترجيحه لأحد الوجهين القائل بالحل وعبارته لو قالت لرجل أنت أخي من النسب وهو معروف النسب من غير أبيها ففي تحريمها عليه وجهان ولو قال ذلك رجل لزوجته فكذبته وهي مجهولة النسب انفسخ نكاحها على الصحيح فأفهم أن معروفة النسب لا ينفسخ نكاحها بذلك وهو موافق لما مر من أنه فيها كناية وسيأتي قريباً عن قواعد الزركشي ما يؤيد هذا ومنها فرقهم بين قبوله إقرار الرجل دون المرأة بفرقين ثانيهما أنها إذا أقرت بالنسب فأنها تقر بحق عليها وعلى غيرها وقد بطل إقرارها في حق الغير فيبطل في الجميع واعترض هذا بأنه لا يلزم من بطلانه في حق الغير بطلانه في الجميع بل ينبغي أن تؤاخذ به في حق نفسها كما في الإِقرار بالمال أ هـ .
فالفرق مصرح بإلغاء الإِقرار من أصله فيؤيد به الوجه القائل بالحل وأما اعتراضه المذكور فيرده ما مر عن نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فإنه على طبقه حرفاً بحرف فما كان جواباً عن النص فهو الجواب عنه.(2/452)
تنبيه أول: ما مر من أنه لا فرق في جريان الوجهين في المعروفة النسب بين أن يقول أنت أختي من النسب لمن في نكاحه وغيرها قد ينافيه صنيع الزركشي في قواعده وعبارته لو قال أحد الابنين فلانة بنت أبينا وأنكر الآخر ففي حلها للمقر وجهان. وقال القاضي الحسين : إن كانت مجهولة النسب حرمت وإن كانت معروفة النسب فوجهان والذي جزم به في النهاية في اللقيط تحريمها وهو المعمول به فقد ثبت الفرع دون الأصل ولو قال لزوجته أنت أختي من النسب وهي معروفة النسب ففي تحريمها عليه وجهان ولو كانت مجهولة النسب وكذبته انفسخ نكاحها على الأصح فرجح في الأولى التحريم بقوله وهو المعمول به وسكت عن الترجيح في الثانية المفروضة في الزوجة مع ذكره لها عقب الأولى فدل كلامه على الفرق بين الصورتين وهو ظاهر من حيث الترجيح وأما حكاية الوجهين فهي في الصورتين كما صرح به هو وغيره كما مر وحينئذٍ فكلامه موافق لما قدمته من أنه لا فرق لا مخالف له لأن ذاك في جريان الوجهين وهذا في ترجيح أحدهما في غير الزوجة وكان الفرق أنه قبل النكاح لا تهمة في استلحاقه من حيث الزوجية فأثر عند الزركشي كالإِمام وأما مع الزوجية فهو متهم بإبطاله باستلحاقها حقها من النكاح كالمسمى الزائد على مهر المثل فمن ثم توقف الزركشي عن الترجيح في هذا فتأمله.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 134(2/453)
تنبيه: ثان قولهم وكذبته في مجهولة النسب انفسخ نكاحها على الصحيح ليس قيداً في انفساخ نكاحها وحرمتها عليه بل الظاهر أنه قيد لجريان الخلاف في الانفساخ لما قررته آنفاً أنه يريد بذلك إبطال حقها أما إذا صدقته فواضح انفساخ نكاحها وحرمتها عليه قطعاً وإذا تقرر ذلك في المجهولة فهل يأتي نظيره في المعروفة على الوجهين السابقين فيهما أو لا الأوجه الثاني لما مر أن كل إقرار كذبه الشرع لا يدار عليه حكم بوجه ولأن العصمة بيد الزوج فإذا لم يقبل إقراره وحده لا يقبل تصديقها له ولأجل ذلك مر في المجهولة أنه لا فرق بين تصديقها وتكذيبها ومما يؤيد اعتبار قول المرأة في الحرمة لا النسب فرق البغوي بين قولهم قالت أمة لشخص بيني وبينك رضاع محرم إن كان قبل الملك حرمت أو بعد التمكين من الوطء فلا أو قبل التمكين فوجهان وقولهم لو قالت بيني وبينك أخوة نسب لم تقبل في حكم ما بأن النسب أصل مبني عليه أحكام كثيرة كلها أهم وأعظم من أمر التحريم فلا يثبت بقول المملوك أ هـ .
تنبيه: ثالث قد علمت مما تقرر أن محل الوجهين السابقين إنما هو فيما إذا قالت أنت أخي من النسب ويلحق بذلك ما إذا قال أنت أختي فقط ولم يقصد ذلك بأن كانت مجهولة النسب جرى على الخلاف فيها فيما يظهر أو معروفته فلا كما مر عن الجلال البلقيني وسيأتي عن الخوارزمي ما يؤيد ذلك.
تنبيه: رابع جميع ما تقرر محله حيث لم يعلم باطناً ما يخالف الظاهر وإلا حرمت عليه باطناً بلا خلاف ولحوقها كإن علم أنها بنت أبيه من وطء شبهة الفراش بما هو في حكم الظاهر فقط كما مر.
تنبيه: خامس محله أيضاً حيث أمكن لحوقها بأبيه لو استلحقها بفرض جهل نسبها وإلا كأن كانت أكبر من أبيه أو أصغر منه بسن لا يحتمل كونها بنته أو كانت أمها منه بمسافة يستحيل اجتماعه بها عادة فلا أثر لإِقراره اتفاقاً كما صرحوا به في استلحاق يكذبه الحس أنه لا أثر لإِقراره في تحريم ولا غيره اتفاقاً.(2/454)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 134
الباب الثاني
في الكلام على حرمتها عليه من غير تفصيل
قد سبق أنه وجه مشهور في المذهب لا مساغ لإِنكاره واحتماله ومما يؤيده ترجيحاً قول الزركشي في قواعده لو قال أحد الابنين فلانة بنت أبينا وأنكر الآخر ففي حلها للمقر وجهان وقال القاضي حسين إن كانت مجهولة النسب حرمت وإن كانت معروفته فوجهان والذي جزم به في النهاية في اللقيط تحريمها وهو المعمول به فقد ثبت الفرع دون الأصل اهـ. وقول الروضة لو قال لعبده أنت ابني ومثله يجوز أن يكون ابناً له ثبت نسبه وعتقه إن كان صغيراً أو بالغاً وصدقه وإن كذبه عتق أيضاً وإن لم يثبت النسب وإن لم يمكن كونه ابنه بأن كان أصغر منه على حالة لا يتصور كونه ابنه لغا قوله ولم يعتق لأنه ذكر محالاً هذا في مجهول النسب فإن كان معروف النسب من غيره لم يلحقه لكن يعتق على الأصح لتضمنه الإِقرار بحريته ولو قال لزوجته أنت بنتي قال الإِمام الحكم من حصول الفرق بينهما وثبوت النسب كما في العتق أ هـ .
ومما يؤيده أيضاً ما يأتي عن القفال والخوارزمي ووجه التأييد في هذه المذكورات لترجيح الوجه القائل بالحرمة غير خفي لأن الزركشي كالإِمام مرجحان للتحريم في غير الزوجة ومثلها الزوجة والفرق السابق بينهما إقناعي عند التحقيق ولأن كلام الروضة المذكور صريح في التحريم في الزوجة إذ لا فرق بين أختي وبنتي وهو أعني التحريم في الزوجة وغيرها هو الأحوط مؤاخذة له بإقراره بحرمتها عليه وإن لم يثبت النسب وللقائلين بترجيح الحل أن يجيبوا عن ذلك بأمور منها أن جزم الإِمام بالتحريم مبني على ما مر عنه من استعظامه جريان الخلاف وقد مر ردّ هذا الاستعظام وما يترتب عليه فراجعه وقول الزركشي وهو المعمول به فيه ما مر عن شيخه الأذرعي من اختياره لمقالة الإِمام المبنية على اختياره لتخريج ابن سريج مع اعترافه بخروجها عن المذهب فتأمله على أن قول الزركشي وهو(2/455)
المعمول به ليس صريحاً في الترجيح على ما قيل في نظيره فيما وقع في المنهاج ومنها أن قول الإِمام بحصول الفرقة يحتمل أن يريد بها فرقة الفسخ أو فرقة الطلاق وهما وجهان كما يفيده قول الجواهر فيمن قال لزوجته يا بنتي بناءً على وقوع الفرقة به عند احتمال البنتية ولا نية له هل هي فرقة فسخ أو طلاق وجهان جاريان فيما إذا كانت مشهورة النسب من غيره أو كبيرة وكذبته وإذا ثبت أن كلام الإِمام محتمل لفرقة الطلاق انتفى الاحتجاج به على التحريم المؤبد لأنه لا معنى لفرقة الطلاق إلا حلها له بالرجعة فحينئذٍ لا دلالة في كلام الإِمام على الحرمة المؤبدة ظاهراً ولا باطناً على أن قول القمولي جار فيما إذا كانت مشهورة النسب من غيره أو كبيرة وكذبته ظاهر في جريان الوجهين في نفس أنت بنتي لأن التصديق والتكذيب إنما يتجه في هذا دون النداء لاحتماله للكرامة احتمالاً ظاهراً بخلاف أنت بنتي وبذلك يزيد إيضاح ما ذكرته من أنه لا حجة في كلام الإِمام هذا على التحريم المؤبد أصلاً ومنها احتمال الفرق بين أنت بنتي وأنت أختي وذلك أن حكاية الخلاف في أنت أختي مشهورة في كلام الأصحاب قبل وجود الإِمام بزمن طويل فلا يكون ما ذكره الإِمام حجة عليهم ومنها أن ما ذكره الإِمام قيده
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 137(2/456)
الأذرعي بما إذا قصد الاستلحاق فإنه قال عقب كلام الروضة المذكور قلت وكأن صورة المسئلة إذا قال ذلك على وجه الاستلحاق أما لو قاله على وجه الملاطفة أو قال قصدت به ذلك أي الفراق لا حقيقة البنتية فقد سبق بيانه أ هـ .
وأشار بقوله قد سبق بيانه إلى ما سأذكره عنه قريباً وذكره في باب الطلاق وبه يعلم أن ما ذكره الإِمام هنا لا يستدل به على حرمة ولا فرقة في الواقعة السابقة لأن الزوج لم يقصد فيها استلحاقاً قطعاً كما يأتي وحينئذٍ فالاستدلال بكلام الإِمام هذا على الحرمة فيها ظاهراً وباطناً أو ظاهراً لا باطناً يرد بما ذكره وسأذكره فليكن ذلك على ذكر منك وقد مر أن محل الوجه القائل بالحرمة إنما هو إذا قصد بأنت أختي الاستلحاق فلو فرضنا أن هذا الوجه هو المعتمد لم يكن فيه حجة على التحريم في تلك الواقعة أصلاً إذ ليس فيها قصد استلحاق قطعاً كما تقرر ومنها فرقهم في بعض المسائل بين قبول الإِقرار بالبنوّة لا بالأخوّة بفروق متعددة منها أن الإِقرار بالبنوّة حق واجب عليه بخلاف الأخوة فاحتيط لذلك ما لا يحتاط لهذا ويفرق أيضاً بأن الإِنسان يعلم فيما يتعلق بنفسه ما لا يعلمه فيما يتعلق بغيره فجاز أن يؤثر إقراره فيما يتعلق بنفسه كالبنوّة ما لا يؤثر إقراره فيما يتعلق بغيره كالأخوة ويؤيده أنهم اشترطوا في الإِلحاق بالغير شروطاً زائدة فدل على تراخي رتبة الأخوة عنها بالبنوة وحاصل ذلك كله أن ما ذكره الإِمام وأقره عليه الشيخان في البنوّة لا يرد نقضاً لما ذكره الأصحاب في الأخوة لما تقرر موضحاً فإن قلت في تقرير الشيخين للإِمام على ذلك أوضح حجة على ضعف الوجه القائل بالحل لأنا إن جعلناها فرقة فسخ فواضح أو فرقة طلاق فأين الحل وفيه أيضاً رد ما مر من دعوى أن الإِقرار الذي كذبه الشرع لا يعمل به أصلاً قلت قد مر لك أن أختي يحتمل أخوة الدين وأخوة النسب ومع هذا الاحتمال المنضم إليه تكذيب الشرع له في إقراره بنحوالأخوة يندفع قياس(2/457)
الإِقرار بالبنوّة عليه لأنه لا احتمال ظاهر فيه كما صرح به جمع في فرقهم بين يا بنتي وأنت بنتي فإن الأول ظاهر في الكرامة بخلاف الثاني فاتضح أن ما هنا لا يدفع شيئاً مما ذكر في السؤال فتأمله فإنه دقيق.
تنبيه أول: في ثبوت الحرمة بدون ثبوت النسب هنا تأييد لما مر من تخريج ابن سريج لكن قد سبق الجواب عنه.
تنبيه ثان: قد علمت من فرضهم الوجهين السابقين عن الجواهر وغيرها. في الباب الأول في صورة الاستلحاق أنه حيث لا استلحاق فلا حرمة حتى على هذا الوجه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 137
تنبيه ثالث: مر أيضاً أن الخلاف إنما هو بالنسبة للظاهر أما بالنسبة للباطن فلا يتجه فيه خلاف بل يجب القطع بأنه إن صدق فيما ذكره حرمت عليه باطناً وإن كذب لم تحرم عليه باطناً وهذا مما لا شبهة فيه وبهذا يعلم أن ما يأتي عن الأذرعي من الحرمة ظاهراً هو هذا الوجه الثاني ومن الحل باطناً إن كذب أي والحرمة إن صدق هو مما لا خلاف فيه وحينئذٍ فكلام الأذرعي ليس خارجاً عن ذينك الوجهين خلافاً لمن فهم أنه احتمال ثالث وجريت عليه إرخاء للعنان مع ذلك الوهم ثم بينت حقيقة الأمر في ذلك فتدبر ذلك وشد به يديك لتحفظ من الوهم الذي ربما راج عليك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 137(2/458)
الباب الثالث في الكلام على حرمتها ظاهراً وحلها له باطناً إن كذب
اعلم أن الأذرعي أبدى هذا بحثاً لكن قيده بقيد ربما يغفل عنه وقد مر آنفاً أنه الوجه الثاني من الوجهين السابقين ثم ذكر الأذرعي من كلام الخوارزمي ما قد يدل لما ذكره وما قد يرده كما ستعرفه وبيان ذلك أن الشيخين نقلاً عن القفال أنه لو قال لامرأته التي هي ثابتة النسب يا بنتي وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن كما لو قاله لعبده أو أمته زاد النووي قلت المختار في هذا أنه لا يقع به فرقة إذا لم يكن له نية لأنه إنما يستعمل في العادة للملاطفة وحسن المعاشرة أ هـ .
قال الأذرعي في توسطه عقب ذلك قلت لفظ العبادي إذا قال لامرأته التي هي ثابتة النسب يا بنتي فإنه تقع الفرقة بينهما إذا احتمل أن يكون مثلها ابنته وكذا لو قال يا أخي أو قال يا أمي أو قال أنت أمي أنت أختي أما إذا قال لعبده يا ابني وإن كان ثابت النسب فإنه يعتق عليه إذا جاز أن يكون ابناً له وكذا لو قال لجاريته يا بنتي فإنها تعتق عليه وإن كانت ثابتة النسب إذا أمكن أن يولد له مثلها واعلم أن قوله قلت: المختار أنه لا يقع به فرقة إذا لم يكن له نية يوهم الموافقة على صورة العتق وليس كذلك بل استعمال الملاطفة للعبد والأمة بهذا اللفظ غالب بخلاف الزوجة فإنه لا يستعمل فيها ذلك وقوله إذا لم يكن له نية إن أراد به نية إيقاع الطلاق ففيه نظر لأن هذا اللفظ لا إشعار له بذلك وإن أراد به قصد الاستلحاق حيث يمكن كونها منه فحينئذٍ يكون مقراً بعدم الزوجية فإن كان كاذباً فلا فرق باطناً ويحكم بها ظاهراً ثم رأيت الخوارزمي قال: في كافية لو قال لامرأته يا بنتي أو يا أمي أو يا جدتي نظر إن كانت في سن يستحيل أن تكون كذلك فلا يثبت شيء من الحرمة وإن كانت في سن يتصور أن تكون كما يقول تحرم عليه حرمة مؤبدة وإن كانت معروفة النسب فلو قال إنما قلت: ذلك لها بطريق الكرامة أو الاستهزاء يقبل قوله وكذلك لو قال يا أختي ثم قال: عنيت من جهة الدين يقبل أ هـ .
كلام التوسط وذكر كلام(2/459)
الخوارزمي أيضاً بعد ذلك في الفروع المنثورة آخر الطلاق وبيان ما اشتمل عليه الذي أشرت إليه فيما مر بأمور أولها أن ما ذكره من وقوع الفرقة ظاهراً لا باطناً قيده بما إذا قصد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 139
الزوج الاستلحاق كما صرح به قوله وإن أراد بالنية قصد الاستلحاق حيث يمكن كونها منه فحينئذٍ يكون مقراً بعدم الزوجية فإن كان كاذباً الخ. فرتب ما ذكره من الفرقة على ما فرضه من قصد الاستلحاق بقوله يا بنتي وجعل إقراره بعدم الزوجية متوقفاً على ذلك القصد ومعلوم أن معرفة قصد ذلك لا تعلم إلا منه وحينئذٍ فلا دلالة في كلام الأذرعي على وقوع فرقة في صورة المسئلة السابقة في المقدمة لأن الزوج مصرح بأنه لم يقصد استلحاقاً وإنما قصد الكذب حتى تتم له الحيلة التي قصدها وقرائن أحواله تفيد القطع بتصديقه في كونه لم يقصد استلحاقاً وإذا لم يقصد فلا فرقة وهذا على منوال ما قدمته عنه في أنت بنتي كما مر التنبيه عليه فإن قلت هل يعتمد كلامه هذا قلت قد قدمت لك أنه في الحقيقة هو الوجه الثاني القائل بالحرمة المعقود له الباب الثاني كما مر والقول بحرمتها عليه كذلك مع قصده الاستلحاق وكذبه فيه بعيد جداً فتعين ما أشار إليه من التفصيل الذي قدمته أول الباب الأول فتدبره فإنه مما يلتبس. ثانيها: قوله، وقوله: إذا لم يكن له نية إن أراد به نية إيقاع الطلاق ففيه نظر لأن اللفظ لا إشعار له بذلك أ هـ .
يجاب عنه بأنه لا نظر فيه وما علل به ممنوع ومما يرده ما ذكره هو من إفادة الفرقة بقيده الذي ذكره وهو قصد الاستلحاق ومر أن الفرقة فرقة طلاق في وجه وفسخ في وجه وحينئذٍ فله إشعار به أي إشعار. ثالثها: سياقه لكلام الخوارزمي قصد به التأييد لما بحثه هو من تقييده بغير قصد الاستلحاق وهو ظاهر لأن الخوارزمي جعل يا بنتي يا أمي يا جدتي يا أختي إذا أمكن ذلك فيها يوجب التحريم المؤبد وإن عرف نسبها ما لم يقصد الكرامة(2/460)
أو الاستهزاء أو أخوّة الدين فإن قلت قد علم مما مر في الباب الثاني أن الأذرعي أحال في باب العتق بيان ما إذا قصد الملاطفة أو الفراق لا حقيقة البنوّة على ما قدمه في باب الطلاق ولم يذكر فيه ذلك قلت ممنوع بل ذكر هذين القسمين وفيه قصد الاستلحاق أما هذا فقد سبق ذكره له صريحاً وأما الأول أعني قصد الملاطفة فقد ذكره عن صاحب الكافي وأما قصد الفراق فقد ذكره أعني الأذرعي ونظر فيه ورددت عليه نظره كما سبق فإن قلت عبارة فتاوى القفال الآتي ذكرها صريحة في أن أختي صريح في تأبيد الحرمة وبها يتأيد ما مر في الباب الثاني من الحرمة كما هو أحد الوجهين السابقين قلت: هو كذلك إلا أنه لا يتم إلا لو كان رأي القفال معتمداً أما حيث ضعف النووي رأيه كما مر فلا يتم التمسك بكلامه فإن قلت لا يلزم من تضعيف النووي لما ذكره القفال في النداء تضعيفه لم ذكره في أنت أمي أنت أختي لما هو مقرر من الفرق بين النداء وغيره إذ النداء يقع على جهة التلطف ونحوه كثيراً بخلاف أنت بنتي أو أمي ونحوهما. وهذا هو السبب في اعتراض النووي لكلام القفال في النداء وتقريره للإِمام في أنت بنتي على إفادته الفرقة كما مر قلت قول القفال أنت أمي أنت أختي ظاهر في أنه جمع بين اللفظين من غير زيادة وحينئذٍ فلا حجة فيه على ما لو قال أنت أختي لأن الاحتمال فيه لإِخوة الدين وغيرها. أظهر منه فيما لو جمع بينهما على أن القفال يحتمل أن يكون هو صاحب ذلك الوجه الصائر إلى أن أختي يوجب التحريم المؤبد فإن قلت ظاهر كلام الخوارزمي أن بنتي وأمي وجدتي وأختي في النداء ينصرف إلى الحرمة المؤبدة ما لم يرد غيرها. قلت: نعم، ظاهره ذلك فهو موافق للقفال في حالة الإِطلاق وللنووي في حالة إرادة غير الفرقة وقد علم ضعف كلام القفال في حالة الإِطلاق وكذا كلام الخوارزمي وقد يقال بين الخوارزمي أن مراد القفال بالحرمة المؤبدة ما لم يرد غيرها. وحينئذٍ فقد يؤخذ منه أن الوجه الثاني القائل(2/461)
بالتحريم المؤبد في أنتِ أختي محله ما لم يقصد به غير ذلك وبه يتأيد ما بحثه الأذرعي في نحو أنت بنيتي بأن محله ما لم يقصد الاستلحاق أو الملاطفة أو الاستهزاء وكذا أخوة الدين في أنت أختي وحينئذٍ يتجه كما مر أنا ولو قلنا بهذا الوجه الصائر إلى الحرمة المؤبد لا يرد هذا الوجه على من أفتى في السابقة بالحل ظاهراً وباطناً لما تقرر أن محله ما لم يرد غير ذلك كما علم من كلام الخوارزمي الذي أيد به الأذرعي بحثه السابق فتأمل هذا كالذي قبله فإنه مهم وبه يتضح الحق وفقنا الله لسلوك سبيله وحمانا من الشيطان وتسويله وخلصنا من شوائب البقاء مع الحظوظ والنفوس وأزال عن نفوسنا كل هم وغم وبغض وبؤس أنه الرحيم الرحمن الكريم المنان وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. قال مؤلفه عفا الله عنه نجز في دون يومين سلخ ذي القعدة الحرام سنة ثمانِ وخمسين وتسعمائة تقبله الله بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 139
باب المساقاة
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا مات المساقي العامل وكانت المساقاة عينية وقالوا: انفسخت كالإِجارة العينية ما يصير للعامل وربما أثمر النخل وربما لم يثمر ما الحكم في كل منهما. فأجاب: إذا مات العامل وقلنا بانفساخ المساقاة وجب له من الثمر الذي ظهر قبل موته بقدر ما عمل أخذاً من كلام القاضي حسين في فتاويه فإن مات ولم يظهر شيء من الثمرة لم يستحق شيئاً والله أعلم.
وسئل: عن رجل عامل رجلاً على أرض ليزرعها ويقوم على شجرها بجزء منها فعطل أكثر الأرض وبورها فهل يضمن قيمة ما عطله منها. فأجاب: بقوله أفتى التاج الفزاري بأنه إن كان تسلم الأرض من المالك فعليه أجرة مثل ما عطله منها ونقله عن النص وغلط من قال بخلافه وفيه نظر فإن يد العامل ليست يد ضمان حتى يضمن بالتفويت.(2/462)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا مات المساقي العامل والمساقاة عينية وقالوا: انفسخت كالإِجارة العينية ما يصير للعامل مما أثمر النخل ومما لم يثمر. فأجاب: بقوله للعامل أجرة مثل عمله الواقع قبل الموت ولا تتوزع الثمرة على أجرة مثل جميع العمل حتى يجب له منها حصة لأنها ليست معلومة عند العقد حتى يقتضي العقد التوزيع عليها فإن قلت: ذكروا أن المساقاة متى وقعت قبل ظهور الثمرة ملكها بالظهور فكيف لا تورث عنه كلها أو بعضها قلت ملكه لها بالظهور ليس ملكاً ناجزاً بل هو ملك مراعي فإن تم العمل بنن أنه ملكها بالظهور وإلا فلا.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
باب الإِجارة(2/463)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن امرأة وقفت وقفاً على نفسها مدة حياتها، ثم من بعدها على أولادها وأولاد ولدها وشرطت النظر لها مدة حياتها ثم من بعدها لمن عينته ثم إنها بعد أن ثبت الوقف على يد حنفي أجرته مائة سنة، ثم ماتت في أثناء المدّة بعد أن ثبتت الإِجارة على يد شافعي فوقع السؤال هل تنفسخ الإِجارة أم لا فأفتى الشافعي بانفساخها فيما بقي من المدّة فهل هذا الإِفتاء صحيح أو لا أوضحوا لنا الجواب لا عدمكم المسلمون. فأجاب: بأن الإِفتاء المذكور صحيح لكن بقيده الآتي وقد أفتى بما يوافقه شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله عهده فإنه سئل عمن وقف على شخص ثم أولاده وشرط النظر له عليه أيام حياته ثم لمن ينتهي له الوقف ممن ذكر ثم أجر الموقوف عليه الموقوف مدّة ومات قبل انقضائها فأجاب بأن الإِجارة تنفسخ بموته لأن المنافع بعد موت المؤجر لغيره أ هـ .
وكذلك الكمال الرداد شارح الإِرشاد فإنه سئل عن ضيعة موقوفة على الذرية بطناً بعد بطن على الترتيب والنظر فيه للأكبر من كل بطن فأجره الناظر وليس من الذرية من ذلك البطن غيره فهل تنفسخ الإِجارة بموته وهل يصح إيجاره بدون أجرة المثل فأجاب بقوله نعم تنفسخ الإِجارة ولا تصح إجارة الناظر بدون أجرة المثل أ هـ .
ولما كان في إطلاق الانفساخ في هذين الافتاءين نظر خالف الأول أجل تلامذته شيخنا الشهاب الرملي والثاني ولده العلامة المحقق وعبارة فتاوى الأول وقف على أولاده ثم أولادهم، وهكذا شرط الواقف النظر للأَرشد أو الأصلح منهم وآل النظر والاستحقاق لأحدهم بموت أخوته فأجر مدة ومات قبل انقضائها فهل تنفسخ الإِجارة بموته بالنسبة للمستقبل لأن المنافع لغيره وكذا النظر فلا نظر له على الغير لأن الواقف منعه من الاستحقاق حال نظره وجعل استحقاقه حال نظر غيره بلا ولاية له عليه ولا نيابة إذ البطن الثاني إنما يتلقى من الواقف لا من الأول فلا ينفذ تصرفه في حق من بعده ولقول المحلي بعد قول(2/464)
المنهاج ويتولى الوقف إلا في صورة ذكرها بقوله ولو أجر الخ. بخلاف ما إذا كان الناظر حاكماً أو أجنبياً أو مستحقاً والوقف وقف تشريك أو ترتيب وبقي من في درجته أو أحدهم فإنها لا تنفسخ بموته مطلقاً في غير الأخيرة وفيها بالنسبة إلى من في درجته لأنه ناظر للجميع في غير الأخيرة ولمن في درجته فيها وهل يفرق بين التشريك والترتيب أجاب إجارة ناظر الوقف لا تنفسخ بموته لدخولها في قول الأصحاب ولا تنفسخ الإِجارة بموت متولي الوقف فليست من مسئلة إجارة البطن الأول مثلاً لأن صورتها أن يشرط الواقف النظر لكل مستحق على حصته خاصة ولا يخفى أن مسئلتنا ليست كذلك لأن شرط الواقف النظر فيها للأرشد أو الأصلح من الموقوف عليهم يتناول ثبوت النظر له حالة استحقاقه من الوقف وحال عدم استحقاقه حتى لو وجد في بطن سافل كالثاني والثالث من هو أرشد وأصلح من أهل بطن عال كالأول ثبت له النظر وإن لم يستحق شيئاً من الوقف مع وجود أحد من بطن أعلى منه فعلم أن ولاية من هو من البطن العالي لم يقيدها الواقف بحالة استحقاقه أو لو تصور أن يستحق معه أحد من بطن أسفل منه ثبتت ولاية نظره على استحقاق ذلك السافل فعدم ولايته على من هو أسفل منه لعدم تصور استحقاقهم مع وجوده لا لعدم شمول ولايته لهم فالترتيب في البطون لاستحقاق الريع لا لثبوت النظر وقد علم جواب بقية السؤال والحاصل أن إجارة ناظر الوقف لا تنفسخ بموته إلا في مسئلة شرط الواقف النظر لكل مستحق على حصته خاصة وقد يجاب عن عبارة شيخنا زكريا بأن قول السائل ثم لمن ينتهي إليه الوقف معناه أن الواقف قيد نظره باستحقاقه لأن شرطه لمن ينتهي إليه الوقف بمنزلة شرطه لكل بطن على حصته فيكون النظر حينئذٍ مقيداً بالاستحقاق ويلزم من تقييده به الانفساخ بالموت كما يأتي فلا اعتراض على الشيخ ولا إطلاق في كلامه فتأمله نعم تعليل الانفساخ بأن المنافع بعد موت المؤجر لغيره فيه نظر لأن هذا ليس هو الملحظ في الانفساخ(2/465)
وعدمه وإنما الملحظ عموم نظره أو خصوصه كما يعلم مما يأتي مبسوطاً وعبارة الثاني بعد أن ذكر ما مر عن أبيه وقد نزلت المسئلة عليّ بعد وقال شيخنا: الوالد رحمه الله تعالى وأجبت بجواب مبسوط مشتمل على نقول ناصة على عدم انفساخ الإِجارة إذا كان التأجير ممن ذكر بأجرة المثل من ذلك ما في فتاوى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
القفال إذا أجر البطن الأول الوقف ثم ماتوا فإن كان البطن الأول متولياً في ذلك صحت إجارتهم وليس للبطن الثاني فسخه إذا كان بأجرة المثل وفي حاوي الماوردي وحلية الروياني إن كان متولياً وله حق في غلته لكونه وقفاً عليه فأجره ثم مات هل تبطل الإِجارة وجهان والأصح أنها لا تبطل لأنه أجره في حق نفسه وحق من بعده بولاية وفي حواشي الروضة لجلال الدين البلقيني لو فرضنا أن الناظر انفرد بالاستحقاق فإن أجر بأجرة المثل لم تنفسخ إجارته وإن أجر بدونها انفسخت لأنه إنما يحابي في حق نفسه لا في حق الغير أ هـ .
نعم ما أطلقه من عدم الانفساخ غير صحيح كقول والده في الصورة التي سئل عنها بانفساخ لأن صورته هي عين صورة شيخنا الرملي وقد سبق كلامه فيها الجاري على غاية التحقيق والإِتقان فليعتمد إذ شرط النظر للأكبر كشرطه للأصلح فهو شرط نظر عام فيها لتصوّر بقائه مع عدم الاستحقاق بخلاف شرطه لكل بطن على حصته فقط كما يأتي بسطه، وعبارة أبي زرعة في مختصر المهمات والظاهر أن هذا مأخذ إفتاء شيخنا الرملي بما مر فلعل جعل النظر للأرشد فانتقل بعض الوقف للبطن الثاني والأرشد من الأول فأجر الأرشد ثم مات فالمتجه عدم الانفساخ لأن ولايته عليهم وإن لم يكن أجنبياً إذا تقرر ذلك فلنذكر من كلام الأئمة ما يتبين به الراجح في هذه المسئلة فنقول صرح الشيخان كالأصحاب بأن الإِجارة لا تنفسخ بموت ناظر الوقف سواء أكان حاكماً أو نائبه أو مشروطاً له النظر المطلق لأنه حينئذٍ ناظر للجميع ولا يختص تصرفه ببعض(2/466)
الموقوف عليهم وحكى جمع الاتفاق على هذا الحكم ثم قال الشيخان كالأصحاب أيضاً ولو أجر البطن الأول مدّة ومات قبل تمامها انفسخت واستشكل كثيرون الجمع بين هاتين المقالتين وتصوير إجارة البطن الأول بأنه إن شرط له النظر فهو يتولى الوقف وقد سبق أنها لا تنفسخ بموته وإن لم يشرطه له فلا تصح إجارته إلا على قول ضعيف يبعد التفريع عليه وأجاب المحققون من المتأخرين ك الإسنوى و أبي زرعة و الزركشي وغيرهم تبعاً لصاحب الاستقصاء و ابن الصباغ و سليم و ابن الصلاح بتصويرها بما إذا شرط النظر لكل بطن على حصته خاصة فلا يتعلق بما بعده فحينئذٍ انفسخت بموته لعدم عموم نظره لأنه مقيد صريحاً بمدة استحقاقه وعلى هذا يحمل قول جمع منهم الماوردي و الجرجاني و
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/467)
الإِمام يشترط في الناظر أي الذي لا تنفسخ بموته أن لا يكون موقوفاً عليه ليكون نظره لكل كنظره للآخر أي فإن كان موقوفاً عليه وتقيد نظره بحصته مدة استحقاقه انفسخت بموته ويدل على هذا التقييد قول هؤلاء ليكون نظره لكل كنظره للآخر كما لا تنفسخ بموت الناظر العام كذلك لا تنفسخ بموت الموقوف عليه من البطن الأول أو غيره لما تقرر من أن العاقد ناظر على سائر البطون وهذه الصورة هي المرادة من قول الشيخين وأما إذا أجر المتولي فموته لا يؤثر فالضمير في موته راجع للبطن الأول لا للمتولي ويستثنى من عدم انفساخها بموت الناظر العام ما لو أجره الناظر للبطن الثاني فمات البطن الأوّل فإنها تنفسخ بموته لانتقال المنافع إليهم بجهة الوقف والشخص لا يستحق على نفسه لنفسه شيئاً وإذا اتضح لك أن شرط الانفساخ بموت الناظر الموقوف عليه أن يقيد نظره بحصة خاصة مدة استحقاقه فهل من التقييد ما في السؤال من كونها وقفت على نفسها مدة حياتها وشرطت النظر لنفسها مدة استحقاقها ويحتمل أن يقال ليس ذلك من التقييد وهذا هو الأقرب لأنه يتصوّر هنا بقاء النظر مع عدم الاستحقاق بأن تقر باستحقاق البطن الثاني فإنه يسري ذلك عليها وتؤاخذ به في الاستحقاق كما أفتى به بعضهم ومع ذلك لا يبطل نظرها فتصوّر بقاء نظرها مع عدم استحقاقها فكان نظرها عاماً لا خاصاً بخلاف شرط النظر للموقوف عليه على حصته فقط مدة استحقاقه فإنه لو أقر باستحقاق من بعده من البطون بطل استحقاقه ونظره فلم يتصور بقاء النظر مع عدم الاستحقاق فكان النظر خاصاً ويوافق ما رجحته ما مر من كلام شيخنا الرملي بل هو صريح فيه فتأمله فإن قلت ينافي ذلك قول صاحب العباب نعم لو أجر الموصي بمنفعته مدة حياته أو الموقوف عليه حيث جعل الواقف النظر لكل بطن في حصته مدة حياته ثم مات في أثنائها انفسخت في الباقي فقط أ هـ .
ووجه المنافاة أنه عبر بمدة حياته ومع ذلك قال بالانفساخ قلت لا ينافيه بل يوافقه ألا ترى(2/468)
أنه لم يكتفِ بقوله مدة حياته بل ضم إليه قوله في حصته فقيده بالحصة حتى إذا انتقل الاستحقاق لغيره لم يتصور بقاء نظره له فليس نظير ما في السؤال لأن الذي فيه ليس فيه تقييد بالحصة بل بمدة الحياة وقد علمت أن التقييد بها لا يقتضي سلب النظر عند عدم الاستحقاق بخلاف التقييد بالحصة فافترقا وقد مر عن المتقدمين والمتأخرين أن المدار على التقييد بالحصة وبينا أن التقييد بالحياة ليس مثلها فلا يلحق أحدهما بالآخر فاتجه ما رجحته من أن التقييد بمدة الحياة لا يقتضي الفسخ والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وحسبنا الله ونعم الوكيل.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
وسئل: عن رجل استأجر أرضاً من جماعة ووضع يده عليها وزرعها ثم إن شخصاً ادعى على المستأجر للأرض المذكورة لدى حاكم شرعي بأنه استأجر الأرض قبله وأظهر في يده ما يشهد بذلك ثم إن الحاكم حكم على المستأجر الأول برفع يده عن الأرض المذكورة فهل للمستأجر الأول أن يقعد على زرعه إلى حين حصاده ويلزمه أجرة المثل أو يلزم بقلع زرعه ويرجع على المدعي بالقدر الذي يده على الأرض أم لا. فأجاب: لمن ثبت أن الأرض في إيجاره أن يقلع زرع المستأجر الثاني وأن يطالبه بمثل أجرة تلك الأرض في المدة التي شغلها بزرعه ولا رجوع للمستأجر الثاني بشيء على المستأجر الأوّل نعم له الرجوع بإرش نقص زرعه المقلوع على الذي أجره والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(2/469)
وسئل: عن رجل كان استأجر أرضاً ببلاد الريف من وقف الحرمين الشريفين بأجرة معينة في كل سنة تؤخذ منه سواء رويت منه أم لا فغرس في جانب منها غرس نخل وحفر فيها بئراً ثم بعد ذلك توفي الرجل فاستولى عليها ابنه بالأجرة التي كانت تؤخذ من والده في كل سنة ثم توفي الآخر وخلف أولاداً ذكوراً وإناثاً فوضع أحد الورثة من الذكور وهو أكبرهم يده على الأرض المذكورة ليزرعها وصار يقسم بينهم ثمر النخيل المذكور ويدفع أجرة الأرض إلى أربابها وكان يظهر في الأرض المذكورة في بعض السنين المكسب في زرعها فطلب منه بقية الورثة أن يقسم الأرض بينهم بطريق أنها آلت إليهم من والدهم فامتنع من ذلك فهل يلزمه ذلك أم لا. فأجاب: إذا صحت الإِجارة المذكورة ولم تنفسخ بالموت استحق منفعة الأرض المذكورة جميع ورثة المستأجر فلا يجوز لأحدهم وضع يده عليها بل تقسم بينهم على حسب إرثهم والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/470)
وسئل: في مسئلة الإِجارة المدرجة التي صورتها أجرتك هذه الأرض مائة سنة بمائة محلق كل سنة بمحلق عقوداً مختلفة يتلو بعضها بعضاً هل تصح هذه الإِجارة أم لا فإذا قلتم بصحتها فهل يجري ذلك في المملوك والموقوف أم في المملوك فقط أم لا يصح في كل منهما وما يكون إذا حكم حاكم بصحة ذلك فإذا قلتم بصحتها في المملوك والموقوف وكان من شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنتين فهل تصح الإِجارة بهذا العقد هذه المدّة أم على شرط الواقف ولا يصح التدريج وإذا قلتم بصحتها في العقود المختلفة وإن زادت على شرط الواقف فهل تنفسخ الإِجارة بموت البطن الأول سواء أكان الوقف وقف ترتيب أم تشريك أم لا وإذا قلتم بصحتها في الموقوف فهل تكون كالصحيحة تسقط أجرة المثل فيما مضى أم تكون كالمقبوض بعقد فاسد وبطلت أجرة المثل فيما مضى بينوا لنا جواب ذلك ما الصحيح من مذهب الشافعي ومذهب الغير أثابكم الله. فأجاب: إجارة الأرض المملوكة مائة سنة صحيحة وكذا الموقوفة لكن بشرط أن تخرب تلك الأرض فتحتاج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة وأن لا يكون للوقف حاصل يعمر به وأن لا يوجد من يقرض القدر المذكور المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإن انتفى شرط من ذلك لم تجز إجارتها تلك المدّة الطويلة هذا حاصل ما ذكره الولي أبو زرعة في فتاويه وأطال في بيانه وتحقيقه وحيث شرط الواقف أن لا تؤجر أكثر من سنتين لم تجز إجارتها أكثر منهما في عقد واحد ولا تنفسخ الإِجارة بموت البطن الأول ولا من بعده سواء أكان الوقف وقف ترتيب أم وقف تشريك إلا في مسئلة واحدة وهي ما لو شرط الواقف النظر لكل مستحق على حصته ما دام مستحقاً فحينئذٍ تبطل الإِجارة بموت المؤجر المستحق وحيث انفسخت بالموت وجب حصة ما مضى من المسمى ورجع المستأجر بما بقي من المسمى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/471)
وسئل: عن رجل دفع إلى رجل آخر عشرة دراهم وأمره أن يشتري له بالدراهم المذكورة من رجل وسقين تمراً مثلاً وكتب معه كتاباً إلى صاحب التمر المذكور فلما أن وصل أعطى صاحب التمر الدراهم فأعطاه وسقاً واحداً، وقال له: التمر في هذا الوقت غالٍ وصاحب الدراهم قد التزم للرسول إذا جاء بالتمر أعطاه أشرفياً فإذا لم يأتِ إلا بواحد هل يستحق أجرة الجميع لقوله أعني صاحب الدراهم اشترِ لي بها أي بالدراهم وسقين تمراً وأعطيك على حملها أشرفياً أم لا يستحق إلا بقدر الحصة وإذا كان في عرف ذلك الحي أنه إذا قال خذ لي كذا وأعطيك أشرفياً بغير لفظ إجارة ولا وجه من وجوه العقود الصحيحة. فأجاب: بأنه لا يستحق إلا أجرة مثل حمل الوسق المذكور سواء أكان أشرفياً أم أقل أم أكثر لأنها إجارة فاسدة ولا نظر لعرف أهل الناحية المذكورة ومن قال لغيره افعل لي كذا ففعله له ولم يجر بينهما تسمية أجرة ولا ما يشعر بها لم يستحق الفاعل على المفعول له شيئاً سواء اطرد العرف بأخذ شيء في مقابلة ذلك الفعل أم لا بخلاف ما لو قال له افعل لي كذا ولك كذا أو أنا أرضيك ولا أضيع تعبك فإنه إذا فعل له ما أمره به استحق عليه ما سماه له إن كان صحيحاً وإلا كالصورتين الأخيرتين استحق عليه أجرة المثل والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن الصيغة المعتبرة المختصرة التامة في الإِجارة للحج وزيارة قبره . فأجاب: صيغة الإِجارة للحج والزيارة استأجرتك لتحج عن مورثي مثلاً وتدعو له عند قبر النبي بكذا وكذا درهماً والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/472)
مسئلة: شخص أجر شخصاً محلاً معلوماً مدة معينة سنة مثلاً بعشرين مثلاً، ثم أجر المستأجر المؤجر يوم تاريخه فهل الإِجارتان صحيحتان وينفسخان بانهدام الدار في نصف المدة أو باستحقاقها للغير أو بالتقايل وإذا انفسختا هل يرجع المؤجر الأول على الثاني في الإِجارة الأولى بنصف المسمى وهو عشرة ويرجع الثاني على الأول في الإِجارة الثانية بنصف مسماها وهو خمسة عشر أو بأجرة المثل وما الحكم أيضاً إذا حصل الانفساخ بالتقايل. الجواب: الإِجارتان صحيحتان وإن لم يتسلم المستأجر الأول المحل المؤجر على ما صححه النووي لكن الذي اقتضاه كلامه بعد كالرافعي عدم صحتها قبل التسلم كما لا يصح بيع المبيع قبل قبضه واعتمد هذا الثاني جماعة متأخرون لقول القاضي أبي الطيب وغيره أنه المذهب المشهور فعليه لا يصح للمستأجر أن يؤجر مؤجره إلا أن قبض ذلك المحل القبض المعتد به في البيع فحينئذٍ تصح الإِجارة الثانية أيضاً ثم إذا انهدمت تلك الدار بحيث صارت لا تصلح للسكنى ولو بهدم المستأجر فإن كان ذلك قبل القبض أو بعده وقبل مضي مدة لها أجرة انفسخت في الباقي منها دون الماضي لاستقراره بالقبض ومن ثم لم يتخير فيه على الأصح وللمؤجر من المسمى قسط الماضي من المدة موزعاً على قيمة المنفعة وهي أجرة مثل ما مضى وما بقي من المدة لا على المدتين لأن ذلك يختلف فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين لكثرة الرغبات في ذلك الشهر فإذا كانت المدة سنة مضى نصفها وأجرة مثله ضعف أجرة المثل في النصف الثاني وجب من المسمى ثلثاه وإن كان بالعكس فثلثه قال القاضي وغيره والعبرة بتقويم المنفعة حالة العقد لا بما بعده إذا تقرر ذلك فتنفسخ الإِجارتان بالانهدام في نصف المدة وحينئذٍ فنقوّم تلك المنفعة حال الإِجارة الأولى ونوجب للمؤجر الأول ما يخص الماضي باعتبار أجرة المثل لا باعتبار المدتين ونقوّمها حال الإِجارة الثانية ونوجب للمؤجر الثاني ما يخص الماضي بذلك الاعتبار أيضاً فإن(2/473)
استوى النصفان حال عقد كل من الإِجارتين وجب للأول نصف المسمى وهو عشرة وللثاني نصف المسمى وهو خمسة عشر وإن اختلفا وجب لكل القسط بالاعتبار الذي ذكرناه أما لو لم تنهدم كلها بأن انهدم بعضها فلا تنفسخ الإِجارة بل إن أمكن إصلاحه حالاً وأصلح لم يتخير وإلا تخير وإذا بان استحقاق الدار المؤجرة في نصف المدة مثلاً بان بطلان الإِجارة من أصلها ولا يقال انفسخت وحينئذٍ فيرجع من أثبتت له على ذي اليد ومن ترتبت يده على يده بأجرة ما مضى والقرار على من تلفت المنافع تحت يده وإذا تقايلا بعد مضي نصف المدة مثلاً تأتي هنا ما مر في الانفساخ لأن الأصح أن الإِقالة فسخ فيرجع كل على الآخر من المسمى بقسط ما مضى بالاعتبار السابق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/474)
وسئل: في رجل أجر زيداً أن يحمل له في سفينة له مشهورة مائة حمل مثلاً من بندر جدة إلى عدن مع تعيين أجرة الحمل ومعرفته للمتعاقدين قدراً ونوعاً ثم بعد تطليع القدر وشحنه تغيرت السفينة المذكورة بعارض ريح أو مطر أو نحو ذلك فهل يستحق المؤجر الأجرة أم قسطاً أم لا يستحق شيئاً وهل ثم فرق بين تغيرها قبل السفر أم بعده ولو يوماً أو يومين بينوا وأوضحوا أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة وإذا جرت العادة بأن نقل الأسباب التي بالسفينة له أجرة لها وقع يقوم بها الأجير بحيث يصير الفاضل له من أجرته نحو الثلاثة الأرباع هل تلزم ذلك الأجير عملاً بالعادة التي يعلمها أم تلزم ذا المال الذي هو المستأجر. فأجاب: إذا تغيرت السفينة فتلفت الأحمال المذكورة بغرق أو غيره لم يستحق الأجير شيئاً من الأجرة أخذاً من قولهم لو خاط نصف الثوب فاحترق أو تركه أو بنى بعض الحائط فانهدم أو تركه فلا شيء له أي لأن العمل لم يقع مسلماً للمالك ولا ظهر أثره على المحل ومن ثم لو وقع مسلماً إليه بأن كان بحضرته استحق القسط ويوافق ما ذكرته أوّلاً قول الأنوار لو دفع للأجير وقرا من متاع ليحمله إلى موضع كذا فحمله على الدابة فسقط وانكسر لم يضمن وسقطت الأجرة وإن لم تتلف تلك الأحمال فالذي أفتى به بعض مشايخنا في نظير ذلك وهو ما لو استأجره لحمل متاع إلى مكة فماتت الدابة في أثناء الطريق أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة قال لأنه يعتبر في وجوب القسط في الإِجارة وقوع العمل مسلماً وظهور أثره على المحل ومثلها الجعالة أ هـ .
ومحله إن سلم حيث لم يكن المالك معه وإلا استحق القسط أخذاً من قول الأنوار لو استأجر دابة إلى بلد إياباً وذهاباً فعرجت هناك وتعذر ردها فتركها عند حاكم أو أمين وفسخ أو مضت المدة لم يجب إلا نصف الأجرة ولا يلزمه الرد أ هـ .
فانظر إلى إيجابهم القسط عليه مع كون العمل لم يظهر أثره عليه وما ذاك إلا لوقوعه مسلماً إليه فكذا في مسئلتنا لأنه بحضرته(2/475)
يقع مسلماً إليه وإن لم يظهر أثره على المحل على أن الذي يتجه أن له القسط في صورة السؤال وصورة شيخنا وقوله أن العمل فيها لم يظهر أثره على المحل ممنوع كيف وحصوله له في بعض الطريق يقابل بأجرة فكفي بتوفرها على المالك ظهور أثر عليه فإنه لو أراد الآن أن يكريه إلى مقصده أكراه بدون أجرته من ابتداء السير غالباً فلولا ظهور أثر عليه لما نقصت الأجرة في مقابلة حصوله في محل التلف ويؤيد ما ذكرته قول العمراني
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/476)
لو استأجره ليحمل كتاباً إلى رجل ويرد جوابه فأوصله إليه ومات قبل رد الجواب فللأجير من الأجرة قدر ذهابه أ هـ .
فافهم أن المراد بظهور الأثر حصول نفع للمؤجر يقابل بأجرة بسبب العمل وهذا موجود في المسئلتين السابقتين أيضاً وأطلق القاضي في هذه أنه لو مات الأجير في البلد المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه أو وجده غائباً استحق نصف الأجرة بناءً على ما لو شرع الأجير في الإِحرام أي بالحج أو بالعمرة ثم مات قال القمولي والظاهر أنه محمول على ما لو شرط عليه رد الجواب أ هـ .
وهو كما قال إذ لا يمكن القول بأن له نصف الأجرة إلا إذا شرط عليه رد الجواب واستفيد من بناء القاضي أنه لا فرق في ظهور الأثر بين ما يعود إلى النفع الدنيوي والأخروي وهو ظاهر ويوافق كلام العمراني والقاضي قول الأنوار لو استأجره ليذهب إلى بلد فيبتاع له فيها فذهب ولم يجد فله أجرة الذهاب فقط أ هـ .
وهذا يفهم وجوب القسط في المسئلتين السابقتين بالأولى لأن المستأجر هنا لم ينتفع بشيء من عمل الأجير ومع ذلك لزمه له نصف الأجرة لعدم تقصير الأجير وإتيانه ببعض ما شرط عليه وفي كل من تينك المسئلتين انتفع المستأجر بعمل الأجير فلزمه له القسط في مقابلة ذلك وفي الأنوار أيضاً لو استأجره ليحمل أغناماً إلى بلد ويبيعها هناك. وقال: إن قل العلف في الطريق فبعها بكذا. فقل العلف ووجد من يشتريها بما عين فلم يبع ومضى ضمن الأغنام واستحق من الأجرة بقدر ما مضى على أمره دون ما خالفه أ هـ .
فإيجاب القسط هنا يفهم إيجاب القسط في مسئلتنا بالمساواة إن لم يكن بالأولى لأن النفع العائد على المستأجر في مسئلتنا أظهر كما لا يخفى ومما يصرح أيضاً بما ذكرته قولهم لو حمل المكتري الدابة متاعه وسلمه إلى المؤجر فعرض في الطريق خوف فليضعه مع أمين هناك فإن رده ضمنه ولا أجرة له وإن لم يجد الأمين فله بقدر ما عمل من المسمى أ هـ .
فظهر بجميع ذلك ما ذكرته من وجوب القسط في تينك المسئلتين(2/477)
وأجرة نقل تلك الأحمال على المستأجر ولا عبرة باطراد العرف بأنها على الأجير لأن الواجب عليه إنما هو التخلية بين المستأجر ومتاعه فلا يكلف زيادة على ذلك وإن أطرد العرف بها والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يلزم المستأجر لنسخ مصحف نقطه وشكله. فأجاب: بقوله إن اعتيد ذلك لزمه وإلا فلا ومتى اضطربت العادة في ذلك وجب البيان وإلا بطلت الإِجارة ويلزم الكاتب كتابة الغلط أو أرشه لا خصوص المقابلة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
وسئل: عما إذا استؤجر للقراءة على ميت وأطلق فهل تلزمه القراءة على قبره. فأجاب: بقوله نعم يلزمه ذلك على ما نقل وهو متجه إن علم قبره في بلد الإِجارة وإلا فالذي يظهر أنه لا يلزمه ذلك عملاً بالعرف في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عما إذا استأجر الكافر مسلماً إجارة عين هل يحرم على المسلم إتمام الإِجارة بنفسه. فأجاب: بقوله لا يحرم على المسلم إتمام الإِجارة بنفسه بل يكره له نعم إن كانت الإِجارة فيما يمتهن به كالأعمال الدنيئة الغير اللائقة به اشتدت الكراهة بل قيل بالحرمة حينئذٍ.(2/478)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص استأجر أرضاً فهل يدخل مالها من نخيل وشجر وما بالتبعية كالبيع أو لا يدخل شيء دون شيء آخر سواء أنص على ذلك أم لا وإذا قلتم بصحة الإِجارة بدخول شيء دون شيء فتوزع الإِجارة كتفريق الصفقة أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله الذي دل عليه كلام أئمتنا أن ما ينقل الملك كالبيع يتناول ما في الأرض مثلاً من بناء وشجر ونحوهما وما لا ينقله كالرهن لا يتناول ذلك وكالبيع الصداق والخلع وغيرهما. من سائر الأعواض قاله الأذرعي والهبة كما ذكره جمع وفي معناها الصدقة والوقف كما اقتضاه كلام الرافعي وصرح به بعض شراح التنبيه والوصية كما قاله الدارمي وكالرهن العارية كما ذكره جمع والإِقرار كما اقتضاه كلام الرافعي وجزم به غيره وإفتاء القفال بأنه كالهبة فيه نظر إذا تقرر ذلك علم أن الإِجارة كالرهن والعارية فلا تتناول نخلاً ولا شجراً ولا غيرهما لضعف الرهن وما ألحق به بخلاف البيع وما ألحق به فإنها قوية تنقل الملك فتستتبع نعم لا يدخل في بيع الأرض عند الإِطلاق مسيل الماء ولا شربها من قناة أو نهر مملوكين إذا كان ذلك خارجاً عنها بخلاف الداخل فيها فإنه لا ريب في دخوله أرضاً وبناء كما قاله جمع وأما استئجارها لزرع أو غراس فهو يستلزم دخول ذلك وإن خرج عنها والفرق أن المنفعة المستأجر لها لا تحصل بدونه فاستتبعته الإِجارة مطلقاً لتوقف مقصودها عليه بخلاف البيع فإن القصد منه ملك المبيع وما اشتمل عليه والخارج ليس كذلك ثم اعلم أن الأرض متى صلحت لزرع وبناء وغراس اشترط لصحة الإِجارة بيان ما يستأجر له من هذه المنافع أو أن يقول لتنتفع بها بما شئت أو كيف شئت فيفعل ما شاء إن لم يضر بها لجريان العادة بأنها إذا زرع فيها شيء في سنة أريحت منه في أخرى قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/479)
الزركشي : وغيره ومتى لم تصلح إلا لجهة واحدة كفى الإِطلاق كأرض بعض البساتين فإنه يغلب فيها الغراس وإذا عين الزراعة أو الغراس أو البناء لم يلزمه بيان نوع المزروع أو المغروس أو المبني لتقارب في ذلك الاختلاف نعم إن أجر عن غيره بنيابة أو ولاية لم يكف الإِطلاق لوجوب الاحتياط ذكره الزركشي وغيره. وما تقرر في الشرب بالنسبة للإِجارة محله إذا كان هناك عرف مطرد فإن اضطرب العرف ولم يشترط دخول الشرب بطلت الإِجارة كما لو استثناه نعم إن وجد لها شرب غيره صح وإنما يصح استئجارها للزراعة قبل سقيها إن كان لها ما يوثق به من نحو نهر أو بئر أو يغلب حصوله من نحو مطر معتاد ولا يكتفى بمجرد الإِمكان وما تقرر أيضاً من عدم تناول إجارة الأرض لما فيها من نحو الشجر محله عند الإِطلاق فإن نصا على دخول الشجر للانتفاع بنحو ربط شيء فيه صحت الإِجارة فيه أيضاً. وانتفع به المستأجر فيما استأجره له دون غيره فإن تعطل انتفاعه به لجائحة أو نحوها. تخير المستأجر فإن أجاز لم يلزمه إلا القسط من المسمى وإن فسخ ارتفع العقد وعليه أجرة المثل للماضي ويتخير أيضاً بانقطاع ماء الأرض المذكور ما لم يبذله المؤجر من مكان آخر ووقت الزراعة باقٍ ولم يمضِ مدة لمثلها أجرة وبما تقرر علم أنه حيث تخير بتلف بعض المؤجر وأجاز لزمه القسط من المسمى كما في نظيره من تفريق الصفقة بخلاف ما إذا فسخ فإن العقد يرتفع ويلزمه أجرة المثل للمدة الماضية والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/480)
وسئل: عن أمير بلد له إقطاع فأسلم له في قدر من حبوب غلاله مبلغ فضة وتصرف فيه واستؤجر منه أرض موقوفة على من كان أميراً ببلده مدة ثم توفي فولي بعده أمير ولم يمكن المستحق من الغلة ولا من الأرض المؤجرة وزعم أن السنة التي باشرها الميت لا يستحق معلومها فهل الأمر كذلك أو لا. فأجاب: بقوله إذا عين للمسلم فيه الحال أو المؤجل أرضاً أو ناحية فإن كانت كبيرة بأن اطردت العادة الغالبة بأن القدر المسلم فيه يحصل من غلة تلك الأرض أو الناحية المعينة غالباً وإن وقعت فيها آفة صح السلم وإن اختل شرط من ذلك فالسلم فاسد وإجارة الأمير الأرض الموقوفة على من ذكر صحيحة إن جعل الواقف النظر للمستحق وإلا ففاسدة وإذا صحت فإن قيد الواقف نظره بمدة استحقاقه انفسخت الإِجارة بموته وإلا لم تنفسخ ثم حيث صح السلم وجب للمسلم في تركة الأمير ومنها ما استحقه بمباشرته القدر المسلم إليه فيه وحيث فسد لم يجب للمسلم في تركة الأمير المذكور إلا أرش ماله وحيث صحت الإِجارة استوفى المستأجر ما استحقه وحيث فسدت أو انفسخت رجع على تركة الأمير بكل الأجرة في الأولى وبقسط ما انفسخ فيه في الثانية إذا تقرر ذلك فمعلوم السنة التي باشرها الميت من جملة تركته كما تقرر فيتعلق بها ديونه ولا حق فيها للأمير الثاني والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يجوز أن يكون أجيراً أو عامل جعالة عن أشخاص متعددين في زيارته في سفرة واحدة. فأجاب: بقوله نعم يجوز كما أفتى به كثيرون لعدم المزاحمة بخلاف الحج في غير إجارة الذمة وقال بعضهم: لا يجوز إلا أن علم الجاعلون الحال ولو جوعل فعجز عن الزيارة فجاعل غيره استحق المسمى.(2/481)
وسئل: بما صورته إذا لم تعرف أجرة المثل في موضع لعدم الاستئجار أو للمسامحة بالسكنى فبم تعرف. فأجاب: بقوله تعرف بأقرب البلاد إليهم أما في الأولى فواضح وأما في الثانية فكذلك وفيه احتمال أنها تقدر بعرف قوم لا يسامحون بذلك.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن استؤجر لرعيه غنماً فاستناب غيره فهل يضمن ما تلف. فأجاب: بقوله إن استناب من هو مثله في الحفظ والأمانة والإِجارة إجارة ذمة لم يضمن ما تلف من غير تفريط وإلا ضمن.
وسئل: بما صورته استأجر إجارة فاسدة ثم حرث الأرض وزادت قيمتها بذلك قبل علمه بالفساد فهل له الرجوع بأجرة فعله. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بأن له ذلك أخذاً من قاعدة أن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه وفيه نظر والقاعدة لا تشهد له كما يظهر بالتأمل ثم رأيت هذا المفتي نفسه أفتى فيما لو كانت الإِجارة صحيحة وصرف على عمارة الأرض مالاً بأنه لا يرجع به وهو مفسد احتجاجه بالقاعدة المذكورة فالأوجه خلاف ما ذكره.
وسئل: عمن استأجر بئراً وفيها ماء فهل تصح الإِجارة أم لا كما أفتى به بعضهم. فأجاب: بقوله تصح الإِجارة كما أفهمه صريح كلامهم ويقع استيفاء الماء تبعاً ولا وجه للإِفتاء بعدم الصحة فقد صرحوا في استئجار القناة بما ذكر وبأن الإِجارة قد يستحق بها عين تبعاً لضرورة أو حاجة حاقة تلحق تلك العين بالمنفعة.
وسئل: عمن استأجر من يعلم ولده القرآن جميعه بثلاثين ديناراً فعلمه ستة وعشرين حزباً وعلمه الخط حتى أحكمه إحكاماً تاماً فما يجب له من الأجرة. فأجاب: بقوله أفتى غير واحد بأن الخط يقابله ربع الأجرة فعليه يجب هنا ربع الأجرة وثلثها وعشرها وهذا بعيد جداً وما أدري ما مستند الموجبين لربع الأجرة في مقابلة الخط بل القياس أنه لا شيء له في مقابلة الخط حيث لم ينص عليه فإن نص عليه اعتبرت الأجرة موزعة على ذلك ووجب ما يقابله.(2/482)
وسئل: بما صورته لو قال إنسان ألزمت ذمتك الحج عني لتفعله بنفسك صح بخلاف ما لو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب لتفعله بنفسك فإنه لا يصح فما الفرق. فأجاب: بقوله في الفرق بينهما عسر ولما لم يظهر لبعض المتأخرين فرّ إلى تضعيف أحد الموضعين وقد يفرق بأن الغرض في المسئلة الأولى يختلف باختلاف الأشخاص وإن استووا كلهم في أن كلا منهم يحسن الحج، بل ربما يقدم العارف بأعمال الحج على الأعرف منه لمزيد زهد أو ورع أو غيرهما. مما هو سبب في الإِجابة والقبول وأما المسئلة الثانية فلا يختلف الغرض فيها باختلاف الأشخاص بعد استوائهم في خياطة الثوب مثلاً لأنه ليس وراء ذلك شيء يختلف باختلاف الذوات والسرائر بخلافه في المسئلة الأولى وهذا فرق واضح لا غبار عليه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/483)
وسئل: فسح الله سبحانه وتعالى في قبره بما صورته في الإحياء لا يجوز أخذ عوض على كلمة يقولها طبيب على دواء ينفرد بمعرفته إذ لا مشقة عليه في التلفظ وعلمه به لا ينتقل إلى غيره فليس مما يقابل بعوض بخلاف ما لو عرف الصقيل الماهر إزالة اعوجاج السيف والمرآة بضربة واحدة فله أخذ العوض عليها وإن كثر لأن هذه الصناعات يتعب في تعليمها لتكتسب ويخفف عن نفسه كثرة التعب أ هـ .
فهل هو المعتمد أم المعتمد ما أفتى به البغوى من أن الاستئجار لا يصح وهل الفصد ونحوه. كذلك أو لا. فأجاب: بقوله الأوجه ما قاله الغزالي كما اعتمده الأذرعي وغيره ويؤيده تصريحهم بصحة الاستئجار للفصد ونحوه. مع أنه عمل لا يتعب قال الأذرعي واسأل عن الفرق بين هذا وبين استئجار البياع على كلمة لا تتعب أ هـ .
ويؤخذ من كلام الغزالي السابق الفرق بينهما وحاصله أن علة البطلان مركبة من عدم المشقة وعدم انتقال العلم للغير وعدم التعب في تعلمها لتكتسب ويخفف عن النفس كثرة التعب وهذا موجود في كلمة البياع وكلمة الطبيب أما الأول فواضح وأما الثاني فلأن المقول له تلك الكلمة لا ينتقل إليه علمها وأيضاً فليس من شأن علم الطب أن يتعب في تحصيله ليخفف عن النفس كثرة التعب بل لتتحلى النفس بكمال العلوم أو بعضها بخلاف كلمة الماهر فإن علمها ينتقل إلى من عرّفه إياها لأنه لا يذكرها إلا لمن شاركه في صنعته لكن خفيت عليه هذه الدقيقة وأيضاً فمن شأنها ونحوها التعب في تحصيله للتخفيف المذكور وبتأمل ذلك يتضح الفرق بين الفصد وكلمة البياع ونحوها من الرد على من غلط فيها لا يقال تعلم القرآن يتعب في تحصيله أيضاً لأنا نقول مثل هذه الكلمة لا يتعب في تحصيلها أو يتعب لا للتخفيف المذكور بل لما مر.(2/484)
وسئل: عمن استأجره لقلع سنه الوجعة فبرأت انفسخت الإِجارة هل هو سواء أكان له سن أخرى وجعة مثلها أولاً أو خاص بالثاني وعلى الأول فما الفرق بين هذا وجواز إبدال الرضيع بمثله. فأجاب: بقوله ظاهر كلامهم هنا أنه لا فرق وهو متجه ويفرق بينه وبين ما ذكر في السؤال بأن الرضيع مشاهد يمكن الإِحاطة به فجاز إبداله بمثله بخلاف السن فإنه وإن فرض مساواتها لسن أخرى لكنه إنما هو باعتبار الظاهر منهما وأما باعتبار أصلهما المستور باللثة فلا يتحقق مساواتهما فيه فلم يجز الإِبدال هنا بخلافه ثم.
وسئل: بما صورته لو قال في أرض صالحة للزرع والغراس والبناء أجرتك لتزرع أو تغرس لم يصح ما وجهه. فأجاب: بقوله وجهه أن أو لترديد فليس فيه الإِذن في شيء بعينه نعم إن نوى بها التخيير فينبغي أن يصح ويدل له قولهم لو قال إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس صح وليس ذلك إلا لأنه خيره بين ما شاء من كل من المنفعتين ويفرق بينه وبين الترديد بأن الترديد فيه إبهام مطلق لا يرجى تعيينه من غير المؤجر بخلاف التخيير فإن الأمر معلق بما يختاره المستأجر وما يختاره معين فلو أطلق فهل يحمل على الترديد فتبطل أو على التخيير فتصح لأن الأصل في العقود الصحة كل محتمل ولعل الأقرب الأول لأن وضع أو في مثل ذلك إلى الترديد أميل وإنما يكون الأصل في العقود الصحة حيث لم يقو ظهور وجه المبطل ثم رأيت عن التقريب أنه لو قال ذلك على معنى أنه يفعل أيهما شاء صح وهو صريح فيما ذكرته ولو قال لتغرس أو لتبني وأطلق صح وغرس وبنى ما شاء لتقارب الاختلاف في ذلك نعم إن أجر عن غيره بولاية أو نيابة لم يكف الإِطلاق لوجوب الاحتياط ذكره الزركشي وغيره.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/485)
وسئل: عمن أجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها ثم رأى المستأجر فيه عيباً وفسخ به فهل ترجع المنافع للعبد أو لسيده وهل قياسه أنه لو أجر داره ثم وقفها ثم رأى المستأجر بها عيباً وفسخ به أن ترجع منافعها للواقف أو للموقوف عليه. فأجاب: بقوله المعتمد أن المنافع ترجع للعبد لا لسيده وعليه فهل يرجع المستأجر بحصة ما يخص بقية المدة على العبد لرجوع المنافع له أو على السيد لأنه المؤجر القابض للمسمى كل محتمل ولعل الأقرب الثاني وقياس ذلك أن المنافع ترجع للموقوف عليه لا للواقف لخروج الدار بوقفه عن رجوع منافعها إليه بوجه وأن حصة بقية المدة يرجع بها المستأجر على الواقف دون الموقوف عليه لأنه المؤجر الذي قبض المسمى.(2/486)
وسئل: عمن أجر داراً فيها صهريج لمدة سنة ولم يذكر الصهريج في عقد الإِجارة فهل يدخل الصهريج في الدار فينتفع به المستأجر تبعاً للدار أو لا. فأجاب: بقوله الذي يظهر أنه إن جرت العادة في ذلك المحل بأفراد الصهريج عن الدار بالإِجارة لكثرة منافعه لم يدخل وإلا دخل ويؤيد ذلك قولهم يدخل الشرب في استئجاره الأرض إن جرت العادة باستئجارها معه وما أفتى به الإِمام الأصبحي من أنه إذا اكترى داراً وفيها مدافن للحب وهي المسماة في بلاد مصر بالمطامير فإن كان ذلك في بلد يتعارف فيها أنه إذا استأجر الدار للسكنى ترك الحب في المدافن دخلت فيه إذ هو المتعارف وإن كان في بلد العرف إفرادها بالإِجارة لكثرة منفعتها لم تدخل في ذلك أ هـ .
فإن قلت قضية كلامهم دخول البئر في الدار مطلقاً قلت: إنما أطلقوا ذلك لأن الغالب فيها بل المطرد أنها لا تفرد عن الدار بإجارة فإن فرض ذلك واعتيد في بلد لم يبعد أن يقال فيها بعدم الدخول فإن قلت صرحوا في باب الأصول والثمار أن نحو بيع الأرض والساحة والبقعة ونحوها. يتناول ما فيها من شجر وبناء بخلاف نحو رهنها وفرقوا بأن نحو البيع قوي يستتبع الملك بخلاف نحو الرهن وأخذ بعض المتأخرين منه عدم دخولهما في الإِجارة وقضية ذلك عدم دخول الصهريج المذكور مطلقاً قلت الفرق بين البناء والشجر والصهريج أنه إذا دخل في مسمى الانتفاع بالدار يدخل حيث لم تطرد العادة بعدم دخوله فيها بخلافهما فإنهما غير داخلين في مسمى الانتفاع بها فلم يدخلا وهل ما يدخل في بيع الدار من حجر الرحى الأسفل والأعلى والرفوف والسلالم وغيرها. يدخل في إجارتها أو لا قضية أخذ بعض المتأخرين المذكور عدم الدخول وفيه نظر والذي يتجه أن كل ما دخل في بيعها وكان من متممات السكنى ولم تجر العادة بأفراده عنها بإجارة خاصة يدخل في إجارتها وما لم يكن كذلك لا يدخل.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/487)
وسئل: عما إذا قال الواقف فلان ناظر على وقفي هذا ولم يزد على ذلك أو قال ناظر مدة حياته فقط ولم يذكر على حصته إذا كان مستحقاً هل يكون قوله هذا نظر عام متسحب على سائر البطون حتى لو أجر الوقف مدة بشرطه لم تنفسخ بعد موته إلى انقضاء المدة في المسئلتين أو أحدهما وهل يكون الحكم كذلك لسائر النظار من بعده إذا قال الواقف النظر لفلان ثم من بعده لفلان الخ. وإذا قلتم بعدم الانفساخ وحكم به حاكم هل لحاكم شرعي نقضه أم لا وهل الناظر المستحق والأجنبي والحاكم الشرعي في ذلك سواء في المسئلتين أم لا وما الفرق بين الناظر العام والخاص. فأجاب: بقوله الحاصل أنه لا تنفسخ إجارة الناظر بموته إلا أن صرح بتخصيص نظره بحصته وأما فيما عدا هذه الصورة فلا انفساخ سواء قيد بمدة الحياة أم لا ولا فرق في ذلك بين المشروط نظره من البطن الأولى وما بعدها ابتداء أو بشرط موت فلان مثلاً وإذا حكم بعدم الانفساخ قاض يراه لم يكن لغيره نقضه والناظر المستحق والأجنبي والحاكم الشرعي سواء في التفصيل الذي ذكرته وقد بسطت الكلام في جواب طويل مشتمل على بيان أن ذلك التفصيل هو المنقول المعتمد خلافاً لجماعة ومن أراد تحقيق ذلك فلينظر ذلك الجواب من الفتاوى والفرق بين العام والخاص واضح وهو أن العام صيره متكلماً على غيره فهو كما لو أجر ولي صبياً مدة فبلغ بالاحتلام أو سيد عبده ثم أعتقه فإذا اقتضى نظره مدة يؤجر لها لم تنفسخ بموته لسريان فعله على غيره لتعميم الواقف لنظره بخلاف الخاص فإن الواقف لم يرض بتكلمه عن غيره وبموته انتقل الحق لغيره فانفسخ فيه والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/488)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن استأجر دواب بأجرة معلومة إجارة عين إلى بلد معلومة وشرط عليه السفر صحبة الركب اليماني مثلاً أول شهر كذا فاحضرها له المؤجر في الوقت المذكور وأناخها ببابه فحصل للمستأجر عذر كمرض أو حبس أو غيبة في محل لا يعرف فهل لمؤجر الجمال الفسخ ودفع الأجرة إن كان قبضها لوكيل المستأجر أو لحاكم شرعي أو تستقر في ذمته وهل له إجارتها بمقتضى ذلك للغير والسفر بها إلى أي محل أراد أم ليس له الفسخ فإذا قلتم لا فسخ يلزم من ذلك تخييره وضرره على نفسه ودوابه لمؤنه ومؤن دوابه المضرة الشديدة والحديث لا ضرر ولا ضرار ولا سيما إن طال مرض المستأجر أو حبسه أو غيبته وإذا أناخها المؤجر بباب المستأجر عند تعذره أو سلمها لوكيله أو له وليس له عذر ومضت مدة زمن إمكان السفر إلى البلدة التي وقع عليها العقد من غير استعمالها مدة زمن المضي إلى البلدة المذكورة هل يكون كالمتسلم لها كالمتسلم مفتاح الدار المستأجرة من غير مانع شرعي من غير انتفاع بها هل تسقط الأجرة بمقتضى ذلك وما ذكره المستأجر من الشروط المتقدمة في صلب الإِجارة المذكورة صحيح أم تخل بها وتبطل الإِجارة من أصلها أوضحوا لنا الجواب عن ذلك. فأجاب: بقوله تستقر الأجرة المسماة إن صح العقد وإلا فأجرة المثل على المكتري بتسلمه الدابة ومضي قدر نحو المدة أو العمل المقدر به سواء استوفى المنفعة أم لا وسواء أكان عدم الاستيفاء لعذر أم لغيره وشرطه صحبة الركب غير مفسد للعقد فليس للمؤجر فسخ ولا يلزمه رد الأجرة وليس له إيجارها لشخص ثانٍ لما تقرر من استقرار الأجرة بمضي إمكان استيفاء ما قدر به ولا يلزم مما قلناه تضرر المؤجر بوجه لأنه إذا تعذر عليه الجلوس عند دابته يوكل من يقوم عنه في الإِنفاق عليها وتعهدها فإن لم يرَ وكيلاً ولا وثق بالمستأجر رفع الأمر إلى الحاكم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/489)
وسئل: عن رجل كارى جمالاً على أحمال معلومة الوزن فحملها الجمال أياماً فانقطعت جماله فوزنت الأحمال فوجدت زائدة زيادة كثيرة على ما اتفقا عليه فهل يضمن الجمال بسبب ذلك. فأجاب: بقوله إذا حمل المكتري ذلك الزائد وليس صاحب الدابة معها ضمنها كلها وإن تلفت بغير الحمل لأنه غاصب أو وصاحبها معها أو سلم المكتري ذلك للمكري فحمله جاهلاً بالزيادة بأن كذب عليه في قدره ضمن قسط الزائد إن تلفت بالحمل مؤاخذة له بقدر الجناية ويضمن مع ذلك أجرة مثل الزيادة.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه استأجر زيد نحو أرض أو دابة وسافر قبل قبضها فهل تستقر عليه الأجرة إذا قبضها منه القاضي للمستأجر أم لا وهل يجوز للقاضي قبضها للمستأجر في هذه الحالة أم لا وهل يكون العرض من المؤجر على القاضي كالعرض على المستأجر أم لا. فأجاب: بقوله يجوز للقاضي قبض العين المؤجرة للغائب ثم يؤجرها وتستقر على المستأجر الأجرة وليس مجرد العرض عليه كهو على المستأجر.
وسئل: عمن قال لآخر ازرع أرضي واحرثها ولك نصف غلتها ففعل ثم باعها المالك ما حكم بيعه. فأجاب: بقوله بيعه صحيح إن باعها لمن رآها قبل الزرع أو بعده ولم يسترها وللحارث الزارع عليه أجرة مثل عمله.
وسئل: رضي الله سبحانه وتعالى عنه حول وقف فيه عناء لذمي وهو ما يزيد في ثمنها بسبب الحرث والإِصلاح فأراد أن ينقله إلى آخر كيف الصيغة في ذلك. فأجاب: بقوله هذا بنفسه متعذر النقل للغير لأن نحو الحرث والإِصلاح صفة تابعة فإن كان للذمي في مقابلته أجرة صحيحة مستقرة أمكن نقلها للغير بهبة ونحوها. وإن لم يكن له في مقابلته أجرة فالعمل وآثاره يتعذر نقلهما لأنهما حينئذٍ لا يقابلان بمال.(2/490)
وسئل: عن مستأجر لرعي إبل فندت عليه واحدة ولم يدرِ أين توجهت ثم بان تلفها ما الحكم. فأجاب: بقوله إن ندت من غير تقصير منه لم يضمنها وإلا ضمنها وذكروا من أمثلة التقصير المضمنة للأجير أن يرعى البهائم التي استؤجر لرعيها في مسبعة أو مكان مخوف أو يترك بعضها في المرعى ويذهب عنه وإن كان ذلك لأجل نسيانه له أو تقع واحدة منها في حفرة من غير شعوره فلم يأتِ إلا وقد هلكت.
وسئل: عمن سلم بقرة لصغير أو كبير ليرعاها ولم يسم أجرة فتلف بعضها ما الحكم. فأجاب: بقوله إذا لم يسم أجرة ولا ذكر ما يشعر بالأجرة كأرضيك من غير أن يقول الأجير لا أريدها لم يستحق الأجير أجرة لأنه بذل منفعته لا في مقابل ويظهر أن محله في الرشيد وأن غيره تجب أجرته مطلقاً لأنه ليس أهلاً للتبرع بمنافعه وأما التلف عنده فإن كان بغير تقصير لم يضمنه مطلقاً وإن كان بتقصير ضمنه الرشيد دون غيره بخلاف إتلافه فإنه يضمن به وإن كان غير رشيد لأن إعطاءها له ليرعاها ليس فيه تسليط له عليها بخلاف نظيره في البيع له فإن فيه تسليطاً له على الإِتلاف فلم يضمنه به.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
وسئل: عمن أجر أرضاً مدة معينة معلومة ثم مضت وبقي في الأرض أثر العمارة بحيث تزيد قيمة الأرض بها هل للمستأجر مطالبة المؤجر بها. فأجاب: بقوله ليس للمستأجر مطالبته بأثر نحو حرث أو إصلاح لأن ذلك إنما فعله ليعود عليه نفعه إلى انقضاء مدته دون ما زاد عليها فهو موطن نفسه على بقاء تلك الآثار للمؤجر وأيضاً فهي صفات تابعة لا تقابل وحدها بمال إذ لا تقبل انتقالاً للغير والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/491)
وسئل: عن شخص استأجر داراً موقوفة ذات مساكن ومنافع مدة طويلة بشروطها ثم هدم منها البعض وبنى بأنقاضها وزاد فيها أنقاضاً من ماله كخشب وأحجار وغير ذلك وأحدث فيها مساكن ومنافع بحيث تغيرت هيئة الوقف عما كانت عليه وتعذر تمييز الأنقاض الحادثة من القديمة فصار لا يعرف أنقاض الملك من الوقف فلما انقضت المدة طلب المستحق المؤجر من المستأجر رفع يده عن الدار الموقوفة فما الحكم في ذلك وكيف الوصول إلى استحقاقه من الوقف بعد تغير هيئته وعدم معرفة الأنقاض القديمة من الحادثة فهل يجبر المستأجر على هدم الأنقاض القديمة والحادثة وعلى عود الوقف على هيئته كما كان سواء أكان بالأنقاض المشتركة أو بغيرها من ماله لعدم تميزه عن بعضها بعضاً أم يدفع المستأجر للمستحق قيمة أنقاض الوقف بعد اجتهاده بشيء والتقويم لذلك ويجبر المستحق على أخذ ذلك ويملكه المستأجر أم لا فإذا قلتم غير ذلك فكيف الوصول إلى حقه وهو وقف لا يصح فيه بيع ولا هبة ولا قسمة ولا إجارة لجهالة أنقاض الوقف ولا صلح أيضاً وإذا اجتهد المستأجر في الأنقاض القديمة والحادثة وميزها عن بعضها بعضاً هل يقبل قوله في ذلك بلا يمين أم لا بدّ من اليمين وما الحكم أيضاً إذ تعذرت معرفة الوقف من أصله من الملك وغم علينا ذلك بمقتضى تغير الهيئة الأولى بالبناء الحادث وكيف وصول كل منهما إلى حقه من ذلك أوضحوا لنا ذلك وضوحاً شافياً. فأجاب: بقوله الكلام على هذا السؤال من وجوه الأوّل ما أشار إليه السائل نفع الله تعالى به من أنه غير هيئة الوقف وأن ذلك هل يقتضي هدم بنائه وحاصل كلام الأئمة في التغيير أنه لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته فلا يجعل الدار بستاناً ولا حماماً ولا بالعكس إلا إذا جعل الواقف إلى الناظر ما يرى فيه مصلحة الوقف وفي فتاوى القفال أنه يجوز أن يجعل حانوت القصارين للخبازين قال الشيخان وكأنه احتمل تغير النوع دون الجنس أ هـ .
وظاهر كلامهما جواز التغيير حيث بقي الاسم(2/492)
والجنس سواء أكان يسيراً أو كثيراً وسواء اقتضته المصلحة أم لا وسواء كان فيه إذهاب شيء من عين الوقف أم لا والظاهر أن ذلك غير مراد لهما كالأصحاب إذ يلزم عليه خرق عظيم ومفاسد لا تخفى ومن ثم اشترط السبكي ما سأذكره عنه وأقروه عليه وفي الخادم والضابط في المنع تبدل الاسم أي مع الجنس لما تقرر قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
الأذرعي وذكر الغزالي في علة منع تزويج الأمة الموقوفة أنه ينقص الوقف ويخالف غرض الواقف قال ابن الرفعة وهذا يفهم أن أغراض الواقفين وإن لم يصرح بها ينظر إليها أ هـ .
وقد صرح بذلك القفال فقال لا بدّ من النظر إلى مقاصد الواقفين. ثم قال ابن الرفعة : ولهذا كان شيخنا عماد الدين رحمه الله تعالى يقول إذا اقتضت المصلحة تغيير بعض بناء الوقف في صورته لزيادة ريعه جاز ذلك وإن لم ينص عليه الواقف بلفظه لأن دلالة الحال شاهدة بأن الواقف لو ذكره في حالة الوقف لأَثبته في كتاب وقفه وقلت لشيخ الإِسلام في وقته تقي الدين القشيري أي ابن دقيق العيد رحمه الله سبحانه وتعالى عن فعل القضاة من تغيير باب من مكان إلى مكان وذكر عنه كلاماً أشعر برضاه بذلك وبين في الخادم ذلك الكلام فقال عن ابن الرفعة بعد قوله في كتاب وقفه وقد قضى بذلك قاضي القضاة تاج الدين وولده قاضي القضاة صدر الدين في تغيير باب من مكان إلى مكان وهما في العلم والدين بالمحل الأعلى وقلت ذلك لابن دقيق العيد فقال: كان والدي يعني الشيخ مجد الدين يقول كان شيخي المقدسي يقول بذلك وبأكثر منه قال ابن الرفعة : فأشعر هذا الكلام من ابن دقيق العيد برضاه قال في التوسط قال السبكي وكان هذا الرجل قدوة زمانه في العلم والدين فلذلك اغتبط بما استشعره من رضاه بذلك وكان بحيث يكتفي منه بدون ذلك قالا: أعني الأذرعي في التوسط والزركشي في الخادم، قال السبكي: والذي أراه في ذلك الجواز بشرطين هذه عبارة التوسط وعبارة الخادم(2/493)
بثلاثة شروط أحدها: أن يكون يسيراً لا بغير مسمى الوقف الثاني أن لا يزيل شيئاً من عينه بل ينقل بعضه من جانب إلى جانب فإن اقتضى زوال شيء من العين لم يجز لأن الأصل الذي نص الواقف ووقع في بعض نسخ الخادم الشارع وهو تحريف على جنسه تجب المحافظة عليه زاد في التوسط وهو العين والرقبة وهي مادة الوقف وصورته المسماة من دار أو حمام أو نحوهما. فيجب المحافظة على إبقاء المادة والصورة وإن وقع التسمح في بعض الصفات واستند إلى ما سبق عن فتاوى القفال في حانوت الحداد أ هـ .
زاد في الخادم الثالث أن يكون فيه مصلحة للوقف وعلى هذا ففتح شباك الطبرسية في جدار الجامع الأزهر لا يجوز إذ لا مصلحة للجامع فيه وكذلك فتح أبواب سطح الحرم المكي لا حاجة للحرم بها وإنما هي لمصلحة ساكنيها فلهذا لا تجوز قال: ولهذا كان شيخنا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/494)
ابن الرفعة لما زينت القاهرة سنة اثنتين وسبعمائة زينة عظيمة أفتى بتحريم النظر إليها. قال: لأنها إنما تعمل للنظر إليها فهو العلة الغائية المطلوبة منها ففي تحريم النظر إليها حمل على تركها فكذا هنا وحيث امتنع الفتح امتنع الاستطراق نعم من لا قدرة له على التغيير إذا كان ساكناً في شيء من البيوت المتصلة بالحرم فيحتمل جواز دخوله منه ويقوي عند الحاجة إليه بدخول الليل ويخاف من درج الحرم أ هـ .
وما قاله في منع فتح باب من أحد المساجد إلى الآخر غير ظاهر بل الوجه الجواز لأن المساجد المتصلة لها حكم المسجد الواحد على الصحيح في القدوة وغيرها على مقتضى كلام الأصحاب وفي صحيح البخاري أن النبي قال: لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر وفيه دليل على جواز سد الأبواب الزائدة على مقدار الحاجة العامة ويلزم على مقتضى ما دل الحديث على جوازه إشكال على المذكور أوّلاً وهي أن هذه الأبواب إن كانت من أصل الوقف التي وضع المسجد عليها لزم عليه جواز تغيير معالم الوقف وخروجه عن الهيئة التي وضع عليها أولاً وإن كانت محدثة لزم عليه فتح باب في جدار المسجد وكوّة يدخل منها الضوء وغيره مما تقتضيه مصلحته حتى يجوز وفي نسختين من الخادم لا يجوز وهو تحريف بدليل قوله الآتي ولا شك أنه ممنوع لآحاد الرعية أن يفتح في داره المجاورة للمسجد باباً إلى المسجد في حائط المسجد ولا شك أن ممنوع ويحتمل أن تقول يجوز ذلك للواقف دون غيره لأنه هو الذي وقف المسجد لكن الوقف يزول عن ملك الواقف إلى الله سبحانه وتعالى فالأقرب إلى لفظ الخبر الجواز مطلقاً عند اقتضاء الحاجة العامة أو الخاصة ذلك وفي فتاوى ابن الصلاح رباط موقوف اقتضت مصلحة أهله فتح باب مضاف إلى بابه القديم أجاب إن استلزم تغيير شيء من الموقوف عن هيئته التي كان عليها مثل أن يفتح إلى أرض وقفت بستاناً مثلاً فيستلزم تغيير محل الاستطراق ويجعل ذلك طريقاً بعد أن كان أرض غرس وزراعة فهذا(2/495)
وشبهه غير جائز وإن لم يستلزم شيئاً من ذلك ولم يكن إلا مجرد فتح باب جديد فهذا لا بأس به عند اقتضاء المصلحة وفي الحديث ما يدل على تسويغه وهو قول النبي لولا حدثان عهد قومك بالكفر لجعلت للكعبة بابين قال ابن الأستاذ: وهذا حسن صحيح وقد قال ابن العربي في الأحوذي في النهي عن إيطان المسجد يعني أن يتخذ وطناً يستحق إلا أن يكون معلماً يتخذ منه موضعاً فقد بنى النبي في المسجد موضعاً من طين ليجلس عليه للناس لينظر إليه القريب والبعيد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/496)
وهذا رواه النسائي في العلم من سننه واستدلال ابن الصلاح بحديث الكعبة لا حجة فيه لأن البابين كانا في زمن إبراهيم على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام ففتح الثاني لرد ما كانت الكعبة عليه في الأول وقال ابن الصلاح لا بدّ أن يصان ذلك عن هدم شيء لأجل الفتح على وجه لا يستعمله في موضع آخر من المكان الموقوف فلا يجوز إبطال الوقف فيه ببيع وغيره، فإذا كان الفتح بانتزاع حجارة بأن يجعل في طرف الحجر من المكان فلا بأس اهـ. ويؤخذ من هذا أنه يجوز الفتح بهذه الشروط في باب جديد في الحرم إذا ضاقت أبوابه من ازدحام الناس ونحوهم. ففتح فيه باب آخر ليتسعوا أ هـ .
كلام الزركشي وسقته مع طوله لأبين ما فيه فقوله عقب كلام السبكي من منع فتح باب من أحد المساجد المتلاصقة إلى الآخر غير ظاهر الخ. هو الذي ليس بظاهر وما استدل به من جعلهم المساجد المتلاصقة كالمسجد الواحد في القدوة وغيرها. لا يشهد له لأن صحة الاقتداء ونحوه. أحكام لا يعود منها ضرر على تلك المساجد بوجه وأما الفتح في جدرانها فإن فيه ضرراً أي ضرر وهو لا يجوز إلا بمسوغ اضطر إليه ولا ضرورة هنا إلى الفتح فاتجه أن الحق ما قاله السبكي لا الزركشي وأن كلام الأصحاب لا يشهد له فتأمله وقوله عقب حديث البخاري وفيه دليل الخ. هو كما قال وقوله ويلزم على مقتضى ما دل الحديث على جوازه إشكال الخ. يجاب عنه بأنه لا إشكال في ذلك لأنا وإن جعلناها من أصل الوقف لا يلزم على سدها ما ذكره من تغيير معالم الوقف لما سبق أن المحذور ليس هو كل تغيير بل تغيير يؤدي إلى زوال الاسم والجنس كما مر تحقيقه ومن الجلي أن سد الأبواب لحاجة اقتضته ليس فيه شيء من ذلك التغيير الممتنع وقوله وإن كانت محدثة لزم عليه الخ. يقال عليه لا يلزم عليه ذلك بإطلاقه لأن هذه وإن كانت واقعة حال قولية وترك الاستفصال فيها يقتضي عمومها إلا أن من قواعدهم أنه يستنبط من النص معنى يخصصه وبيان ذلك أن(2/497)
الظاهر أنه أذن في فتحها إذ يبعد كل البعد فتحها في حياته مع عدم إذنه وبفرض أنه لم يأذن فتقريره قبل أمره بسدها دليل على الجواز مطلقاً بمقتضى القاعدة الأولى لكنا عملنا بالقاعدة الثانية فقيدناه بالشروط المذكورة لأن من المعلوم احترام الوقف وأن المسجد حر يملك فلا يجوز التصرف فيه إلا بما فيه مصلحة تعود عليه أو على عموم المسلمين وأما مجرد المصلحة الخاصة فلا يكتفى بها في مثل ذلك فاتضح أنه لا يجوز إلا للمصلحة الخاصة بالمسجد أو العامة لعموم المسلمين ولا تتحقق تلك المصلحة إلا بتلك الشروط فلم نجوزه إلا بها وقوله ويحتمل أن نقول يجوز ذلك للواقف الخ. هذا احتمال ضعيف كما ذكره بعد وقوله فالأقرب الخ. صريح فيما ذكرته أوّلاً وفي رد قوله لزم عليه جواز فتح باب في جدار المسجد وكوّة الخ. وقوله وفي فتاوى ابن الصلاح الخ. ما ذكره غير بعيد واعتراض الزركشي استدلاله بحديث لولا قومك الخ. يرد بأن ردها لما كانت عليه مصلحة في نظره اقتضت جواز الفتح في جدارها فأخذ منه جواز الفتح للمصلحة وقوله: ويؤخذ من هذا الخ. هو فقه ظاهر لكن بالشروط السابقة وللأذرعي في مسئلة تغيير معالم الوقف اختيار ذكره في موضع آخر من توسطه فلا بأس بذكره ليستفاد قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/498)
القاضي لو أرادوا أن يغرسوا في أرض الوقف هل لهم ذلك يحتمل وجهين أحدهما لهم ذلك والثاني لا يجوز لأن فيه تغيير شرط الواقف قال أبو الحسن السبكي وينبغي أن يكون هذا هو الصحيح إلا أن ينص الواقف على أنه ينتفع بها بجميع الانتفاعات وعلى هذا ينبغي أن يكون حكمه حكم تحكير الأرض ليبني فيها إلا أن تكون معروفة بذلك وعلى هذا ما كان بستاناً لا يجعل حكراً وما كان حكراً لا يجعل بستاناً وفيه نظر إذا اقتضت المصلحة ذلك مع إطلاق الواقف وعدم منعه منه ولا كان هناك اسم تجب المحافظة عليه ومن ثم لو وقف بستاناً فانقلع شجره لم يجز إيجاره للبناء لأن فيه تغيير الاسم الذي ورد الوقف عليه كما لا تجعل الدار حوانيت ولا حماماً فإنا نحافظ على أن معالم الوقف لا تغير أ هـ .
ويطرق هذا قول الشيخين السابق لا يجوز تغيير الوقف والمختار الأقوى الجواز وإن لم يشترط الواقف التغيير ما لم يصد عنه نص أو إجماع إذ غرض الواقف الاستعمال وتكثير الريع على الموقوف عليه بلا شك لا مسمى البستان ونحوه. وقد قال القفال إنه لا بدّ من النظر إلى مقاصد الواقفين وكل أحد يجزم بأن غرضه توفير الريع على جهة الوقف وقد يحدث على تعاقب الأزمان مصالح لم تظهر في الزمن الماضي وتظهر الغبطة في شيء يقطع بأن الواقف لو اطلع عليه لم يعدل عنه فينبغي للناظر أو الحاكم فعله والله يعلم المفسد من المصلح ولا سيما إذا عظمت الأجرة وتضاعفت الفائدة والتسمية بالدار أو البستان إنما يقصد به غالباً التعريف لإِبقاء الاسم مع ظهور المصلحة الظاهرة في غيره ظهوراً عظيماً كدار ظهرها مجاور لسوق أخذت أجرتها في الشهر عشرة مثلاً ولو عملت حوانيت فبلغت مائة أو مائتين مع خفة عمارتها ومرمتها فيما يستقبل وحينئذٍ فلا معنى للجمود على بقاء اسم الدار من غير تنصيص من الواقف عليه وقول الشروطي وقف جميع الدار أو البستان للتعريف والمختار من وجهي القاضي حسين الأول عند ظهور المصلحة في الغرس وعليه العمل(2/499)
ببلاد الشام في قرى الاستغلال من غير نكير فهذا ما ظهر لي فإن يكن صواباً فمن الله سبحان وتعالى وتوفيقه وإلا فهو مني وأكثر الواقفين يقول في شرطه وعلى الناظر فعل ما فيه النماء والمزيد لغلائه ونحو ذلك أ هـ .
كلام الأذرعي وهو مصرح فيه كما ترى بأن اختياره هذا خارج عن المذهب إذ المذهب كما علم مما مر أنه متى أدى التغيير إلى تغيير الاسم مع الجنس كأن يجعل الدار بستاناً أو حماماً امتنع بخلاف جعل حانوت الحداد حانوت قصار لبقاء الاسم وإنما المتغير النوع دون الجنس وبهذا يعلم أن الأرجح من وجهي القاضي المختلف فيهما ترجيح السبكي والأذرعي كما علمت الثاني إن نص الواقف على أن الأرض للسكنى أو الزرع وعليه يحمل ترجيح السبكي والأول إن أطلق أو ذكر أنه يعمل فيها بالمصلحة أو ينتفع بها بجميع الانتفاعات وعليه يحمل ترجيح الأذرعي وفي الخادم قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(2/500)
القاضي و المتولي لا يجوز جعل الأرض القراح داراً ولا بستاناً فإن فعل وجب رده إلى ما كان قال القاضي ولا خلاف فيه وعدى ذلك إلى ما لو خرب وعمره ومنه يعلم أن الأرض المحكرة إذا خرب بناؤها لا يجوز أن يبنى عليها إلا نظير ما كان أ هـ .
إذا تقرر ذلك كله علم أن ما وقع من المستأجر المذكور في السؤال من زيادة مرافق ومساكن ليس فيه تغيير ممتنع فلا محذور عليه فيه من هذه الجهة وإن كان فيه محذور من جهات أخرى كما يعلم مما يأتي الثاني ما أشار إليه السائل من هدم المستأجر وبنائه وأنه هل يسوغ له ذلك وجوابه أنه لا يسوغ له ذلك إلا بإذن الحاكم أو الناظر وأما بغير إذنهما فهو متعد فيلزمه التعزير وأرش ما هدمه بأن يقوم قائماً مبنياً، ثم منهدماً وينظر ما بينهما من التفاوت فيؤخذ منه ليصرف في جهة الوقف الثالث ما أشار إليه من أن المستأجر إذا عمر في الوقف هل يرجع بأنقاضه أو بدلها أو يكون متبرعاً لا يرجع بشيء وإن انهدم ما عمره وتميزت أنقاضه وجوابه أن في المسئلة تفصيلاً وهو أنه لا يرجع بشيء مما صرفه بغير إذن الناظر والحاكم الشرعي وإن كان إنما عمر لامتناع الناظر من العمارة نعم إن عدما أعني الناظر والحاكم أو غابا واضطر إلى العمارة فعمر بنية الرجوع وأشهد على ذلك رجع فيما يظهر أخذاً مما ذكروه في هرب الجمال ونحوه. وأما ما صرفه بإذن أحدهما السائغ فيرجع به وحيث قلنا لا رجوع له بما صرفه فهل يدخل في ذلك أعيان ماله من خشب وحجر وغيرهما. فلا رجوع له فيها أيضاً وإن انهدمت وتميزت عن الوقف لما تقرر من أنه متبرع أو هي باقية على ملكه وإن كانت مبنية في الوقف مختلطة بأنقاضه المصرح به في كلامهم الثاني وإن كان فيه أيضاً ما يدل للأول كما ستعلمه والفرق بين الأعيان وغيرها من المصاريف كأجر البنائين ونحوهم، أن تلك الأجر أخرجها من يده إلى غيره آذناً لهم في إتلافها فلم يكن له الرجوع بها عليهم بهذا الإِذن ولا على الوقف لأنه كالمتبرع بها(3/1)
وأما الأعيان الباقية فهي لا تخرج عن ملكه إلا بلفظ ولم يوجد ومما يدل لما قلته أن المصرح به في كلامهم الثاني قول الماوردي و الروياني وأقرهما ابن الرفعة و القمولي و السبكي و البلقيني و الإسنوى والزركشي وغيرهم. فهو المعتمد وإن خالف فيه الفارقي إذا بني مسجداً في موات صار مسجداً بالبناء والنية ويزول ملكه عن الآلة بعد استقرارها في موضعها وهي قبله على ملكه إلا أن يقول إنها للمسجد فتخرج عن ملكه ولو بنى بعضه لم يجبر على إتمامه ولو سقط على شيء لم يضمنه سواء أذن الإِمام أم لا قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/2)
القمولي و البلقيني وفي قوله تخرج عن ملكه بقوله أنها للمسجد نظر وينبغي توقفه على قبول من له النظر وقبضه أ هـ .
ولم ينازعاه في أن قوله أنها للمسجد يفيد التمليك حتى يحتاج للقبول مع قبوله للمنازعة لأنه إما إقرار فلا يتوقف على قبول أو كناية هبة فلا بدّ من نيتها وجوابه أنهم فهموا من ذلك أنه كناية هبة وأنه نواها كما دل عليه سياق كلام الماوردي قال البلقيني : والظاهر أنه لا يملك البقعة تقديراً ويجري ذلك في البئر المحفورة في الموات للسبيل وما يحيى بقصد تسبيله مقبرة ونحو ذلك قلته تخريجاً أ هـ .
ووجه السبكي خروج هذه الصورة عن نظائرها المتوقف وجود الوقف فيها على اللفظ ولا تغني عنه النية بأن الموات لم يدخل في ملك من أحياء مسجداً وإنما احتيج إلى اللفظ لإِخراج ما كان في ملكه عنه وصار للبناء حكم المسجد تبعاً أ هـ .
وقضيته أنه لو بني في الموات ونيته الوقف على معين أو جهة كانت وقفاً بالبناء والنية ويؤيده ما قاله الزركشي ك البلقيني و الإسنوى من إجراء ما ذكره الماوردي في المدارس والربط والبئر المحفورة في الموات للسبيل والمقبرة المحياة في الموات وغيرها. أخذاً من كلام الرافعي في إحياء الموات إذا علمت ذلك علمت منه أنهم مطبقون على أن آلات العمارة لا تخرج عن ملك بانيها من ماله من غير كونه نائباً في ذلك عن أحد إلا باللفظ ولا تغني عنه النية لأن الاستثناء معيار العموم وهم لم يستثنوا من اشتراط اللفظ في الوقف إلا هذه الصورة وحينئذٍ فالآلات في صورة السؤال لم تخرج عن ملك بانيها المتعدي ببنائها فلتكن باقية على ملكه وإن نوى بوضعها الوقف أو التبرع لما تقرر أن النية لا يكتفى بها وحدها إلا في صورة الموات ومما هو صريح أيضاً فيما قلته من بقاء الآلة على ملكه قول الروياني إذا عمر إنسان المسجد الخراب ولم يقف الآلة كانت عارية يرجع فيها متى شاء أ هـ .
وهذا صريح أي صريح في أنه في مسئلتنا يرجع في آلته متى شاء لكن إن ترتب(3/3)
على رجوعه هدم للموقوف غرم أرشه ليعاد به كما كان فإن قلت نظر بعضهم في كلام الروياني حيث قال عقبه وفيه نظر وكلام البغوي قد يخالفه وهو قوله ولو قال لقيم المسجد اضرب اللبن من أرضي للمسجد فضربه وبنى به المسجد صار له حكم المسجد وليس له نقضه كالصدقة التي اتصل بها القبض وله استرداده قبل أن يبني به قال ولو أعار الطين والخشب لقيم المسجد ليبني بهما لم يجز إذ مقتضى الإِعارة الاسترداد والشيء إذا صار مسجداً لا يجوز استرداده بخلاف إعارة الأرض للدفن فإن له غاية أ هـ .
قلت ذلك البعض استند في نظره إلى ما ادعاه من أن كلام البغوي قد يخالفه وأنت إذا حققت النظر في قول البغوي كالصدقة الخ. وفي فرضه الكلام في قوله للقيم ما ذكر وأن هذا يتضمن الهبة نظير ما مر آنفاً عقب كلام القمولي والبلقيني وجدته غير مخالف لكلام الروياني لأن كلام الروياني فيما إذا بنى المسجد بآلة نفسه وهو ساكت فالآلة باقية على ملكه لأنها لا تخرج عنه في غير مسئلة الموات السابقة إلا بلفظ ولم يوجد وأما كلام البغوي فهو مفروض فيما إذا قال للقيم ما ذكر وهذا قول متضمن للتمليك للمسجد وهو حر يملك فإذا قبضه ناظره بأن بنى به فيه ملكه المسجد كالصدقة التي اتصل بها القبض فعلم وضوح الفرق بين المسئلتين واندفع القول بأن كلام البغوي قد يخالف كلام الروياني ووجه اندفاع هذا أن كلام البغوي مخالف له صريحاً لكن لمدرك يخصه كما قررناه ومسئلة السؤال إنما تشبه فرض مسئلة الروياني لا فرض مسئلة البغوي فنتج من ذلك إيضاح ما ذكرته أن كلام الروياني صريح في مسئلتنا وأن كلام البغوي لا يخالفه ولا يخالف مسئلتنا أيضاً فلا يرد علينا ولا على الروياني ومما هو صريح فيما ذكرته أيضاً قولهم يصح وقف المستأجر لما بناه في الأرض المؤجرة ولو بعد المدة فإن كانت موقوفة تعين الإِبقاء بالأجرة على ما فيه مما هو مبسوط في محله مع قولهم إنما صار المبني في عمارة الموقوف وترميمه وقفاً بالبناء(3/4)
لجهة الوقف ولم يحتج لإِنشاء وقفه بخلاف بدل الموقوف إذا قتل لأن الأرض الموقوفة باقية والمبني به كالوصف التابع بخلاف المقتول فإنه فات بالكلية فإذا تأملت كلامهم هذا مع الذي قبله علمت أن هذا فيما إذا بني في الموقوف من له الولاية كالناظر أو الحاكم أو مأذون أحدهما فبمجرد بناء أحد هؤلاء يصير المبني وقفاً من غير احتياج لإِنشاء وقف لوقوعه تابعاً للموقوف الموجود ممن له الولاية عليه وعلمت أن الأول في بناء غير هؤلاء في أرض موقوفة فلا يصير بناؤه وقفاً بمجرد بنائه لما علمت من تصريحهم بصحة وقفه المستلزمة لكونه مالكاً له وهذا هو عين ما قلناه من أن المستأجر إذا بنى متعدياً في الأرض أو الدار الموقوفة المستأجرة لا يخرج بناؤه عن ملكه بمجرد بنائه بل ولا بنية أنه للوقف كما مر فإن قلت صرحوا في غرس الشجرة في المسجد باعتبار نية الغارس وقالوا فيما إذا غرسها مسبلة للأكل أنه يجوز أكل ثمرها بلا عوض وكذا إن جهلت نيته حيث جرت العادة بأنها تغرس مسبلة للأكل فما بال النية أثرت هنا ولم تؤثر في مسئلتنا قلت: ما ذكروه هنا من تأثير النية وحدها مشكل خارج عن القواعد فلا يقاس عليه وممن صرح بإشكاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/5)
الإسنوى فقال: كيف يخرج المغروس عن ملك الغارس بلا لفظ وقد سبق أنه لو بنى مسجداً لم يخرج عن ملكه بالقصد أي في غير الموات بل لا بدّ من اللفظ وأجاب عنه الأذرعي بما لا يشفي فقال القرينة الظاهرة قد يكتفى بها هنا و النووي رحمه الله تعالى يختار جواز البيع والهبة والصدقة بالمعاطاة فلا يبعد القول بالاكتفاء بذلك هنا إذا جوّزنا الغرس لأنه لا يقصد بذلك إلا التبرع للمسجد والمسلمين المصلين بالاستظلال ولا خفاء أن من وضع خابية على الطريق وكيزاناً أنا نقطع بأنه قصد بذلك التسبيل للماء بحكم العادة أ هـ .
وفيه نظر إذ الاكتفاء بالقرينة الظاهرة إنما هو بالنسبة لجواز الأكل مع جهل نية الغارس ولا كلام لنا في ذلك وإنما كلامنا في أنا لو تحققنا أنه غرسها بنية التسبيل للأكل خرجت عن ملكه بمجرد النية وجاز الأكل من ثمرها بلا عوض وبهذا يظهر اندفاع قوله والنووي يختار الخ. وأي جامع بين ما نحن فيه وبين المعاطاة لأنا إن قلنا في المعاطاة أنه لا بدّ من لفظ من أحد الجانبين فهي لا تشبه مسئلتنا بوجه وإن قلنا إنه يكتفي فيها بالأخذ والعطاء مع السكوت من الجانبين تحكيماً للقرينة ففيه نوع شبه بمسئلتنا لكن القول بجواز المعاطاة ضعيف في المذهب فلا يصح الاستناد إليه في الإِشكال الوارد على المذهب من أنه لا بدّ هنا من اللفظ وقوله ولا خفاء الخ. لا دليل فيه أيضاً لأنه قرينة ظاهرة مجوّزة للشرب وليس مما نحن فيه نظير ما سبق آنفاً من القرينة الظاهرة والذي يتجه في الجواب عن اكتفائهم بالنية في نحو الغرس للتسبيل أنهم سامحوا في المأكولات والمشروبات لغلبة وقوع المسامحة من الناس في جنسها بما لم يسامحوا به في سائر الأموال لغلبة وقوع المشاحة فيها فاكتفوا في خروج الأولى عن الملك بالنية واشترطوا لخروج الثانية عن الملك اللفظ وإذا تقرر أن ما بناه المستأجر من الأنقاض باقٍ على ملكه وطلبه فالظاهر كما يأتي أنا نمكنه من أخذه لكن بشرط أن يغرم أرش ما(3/6)
هدمه من بناء الوقف ليعاد الوقف بذلك الأرش كما كان فإن كان ما يريد هدمه هو الذي عمره كله من ماله متعدياً فلا أرش عليه للهدم الرابع ما أشار إليه السائل نفع الله به من أنه يجبر المستأجر على هدم الأنقاض القديمة والحادثة وعلى عود الوقف على هيئته الخ. وجوابه أنه لا يجبر على الهدم إلا إذا طلب أنقاضه فحينئذٍ يمكن منه بشرط غرمه للأرش هذا إن لم يغير هيئة الوقف التغير الممتنع وإلا أجبر على هدم جميع ما حصل به ذلك التغير وأخذ منه أرشه ويلزم الناظر رده به إلى ما كان كما صرح بذلك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/7)
القاضي و المتولي وقدمته عنهما في أواخر الوجه الأول الخامس ما أشار إليه من أنه إذا بنى متعدياً واختلطت أنقاضه بأنقاض الوقف وتعذر التمييز وطلب أخذ أنقاضه فهل يجاب إلى الهدم ثم يجتهد ويأخذ أنقاضه ويغرم أرش الهدم أو لا يجاب إليه ويجبر على تعيين قيمة أو مثل أنقاضه ويأخذها من غلة الوقف صيانة للوقف عن الهدم أو يملك الكل ويلزمه البدل كل محتمل ثم رأيتني سبق مني في جواب سؤال قريب من ذلك أني قلت: وإذا تعدى المستأجر بخلط أنقاضه بأنقاض الوقف وتعذر التمييز فقضية كلامهم أنه يملك أنقاض الوقف ويلزمه بدلها من مثل في المثلي وقيمة في المتقوم فإن اختلطت بلا تعد صارت شركة بينهما أ هـ .
وأصل ذلك قولهم لو خلط المغصوب من واحد وكذا من اثنين كما اقتضاه كلام الرافعي واعتمده غيره لكن قال البلقيني : المعروف عند الشافعية وأفتى به النووي أنه ليس كالهالك فلا يملكه بماله وتعذر تمييزه كان كالهالك لأنه لما تعذر رده أبداً أشبه التالف ولأنا لو جعلناه مشتركاً احتجنا للبيع وقسمة الثمن في بعض الصور فلا يصل المالك لعين حقه ولا لمثله والمثل أقرب إلى حقه من الثمن فانتقل إلى ذمته وملك المغصوب الذي خلطه بملكه بطريق التبعية له ولهذا لا يتصرف في المغصوب إلا بعد إعطاء مالكه مثل المغصوب وبقولنا بطريق التبعية له فارق هذا ما مر عن البلقيني وغيره فيما لو غصب مال اثنين وخلطه ولا فرق فيما ذكر بين خلط الشيء بجنسه أو بغير جنسه وله دفع البدل من غير المخلوط وكذا منه إن كان كالمغصوب أو أجود لا دونه إلا برضا المستحق وقولهم لو انصب زيت رجل على زيت غيره أو خلطاه اشتركا فيه لعدم التعدي فإن تماثلا اقتسماه وإن كان أحدهما أجود فأعطى صاحب الأجود شريكه قدر ملكه من المخلوط وجب قبوله لأن بعضه عين حقه وبعضه خير منه ولصاحب الأجود قبول قدر حقه منه فإن أبى بيع الكل وتقاسما الثمن بنسبة القيمة ولا يجوز لهما قسمة المخلوط بنسبتها للتفاضل في الكيل(3/8)
ونحوه. ولو اختلفا في قدر الملكين صدق بيمينه من انصب على ماله أ هـ .
وهو صريح أو ظاهر في أنه لا فرق في جميع ذلك بين أن يكون المغصوب وقفاً وأن يكون ملكاً ويؤيده تعليلهم الملك بأنه لما تعذر رده أبداً أشبه التالف إذا تقرر ذلك علم منه أن الذي دل عليه كلامهم أنه إذا خلط آلاته بأنقاض الوقف وبنى بالجميع وتعذر التمييز كان الكل ملكه وحينئذٍ فله هدمه وأخذه بل يجبر عليه ما لم يتركه لجهة الوقف إذ يلزم ناظره حينئذٍ قبوله منه حيث لا ضرر يعود منه على الوقف ثم يغرم للوقف بدل أنقاضه ثم إن كان هدمها لزمه أرشها أيضاً ويصرف الناظر ذلك في بناء مثل المهدوم وتلزمه أيضاً الأجرة لمدة بقاء ملكه في أرض الوقف لأنه بتعذر التمييز ملك الكل فهو من يومئذٍ مستعمل لأرض الوقف في ملكه فيلزمه أجرة مدة بقائه فيها ويلزمه أيضاً تسويتها وأرش نقصها إن نقصها بناؤه هذا كله إذا تعذر التمييز كما تقرر فإن بنى بالجميع ولم يتعذر التمييز وحكمنا ببقاء آلاته الحادثة على ملكه وطلب أخذ ملكه فظاهر أنه يجاب إليه وإن أدى إلى الهدم لأن البناء من فعله فهو لم يفوت بالهدم شيئاً مملوكاً للوقف نعم يلزمه ما نقص من قيمة أنقاض الوقف وأرضه باستعمالهما في البناء ثم الهدم لأنه متعد بذلك السادس ما أشار إليه السائل نفع الله به من أنه إذا اجتهد المستأجر في الأنقاض القديمة والحادثة وميز بعضها عن بعض هل يقبل قوله في ذلك بلا يمين أو لا وجوابه أن الذي صححه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/9)
النووي في المجموع في باب الآنية فيما لو اختلطت حمامة لغيره بحمام له أنه له أكله بالاجتهاد إلا واحدة كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره واعتمده السبكي وغيره فما حكاه الروياني من أنه ليس له أن يأكل واحدة منه حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه ضعيف وأن نقله في المجموع في باب الصيد والذبائح بعد الأوّل ولم يرجح واحداً منهما ويوافق الأول قول القاضي لو اشتبهت غنمه أو طيوره بغنم المسلمين أو طيورهم أو رحله برحالهم جاز له الاجتهاد فإن نازعه ذو اليد فالقول قول ذي اليد ويوافق ذلك أيضاً قول البغوي في فتاويه إذا خربت محلة واشتبهت جاز لكل واحد أخذ ملكه بالتحري كما لو اختلطت حمامة بحمام الغير وإذا جوّزنا له الاجتهاد ونازعه الناظر فإن كانت اليد للمستأجر صدق بيمينه أو للناظر صدق هو دون المستأجر ثم رأيت في فتاوى البغوي ما يؤيد ما ذكرته آخر الخامس من أن المستأجر يجاب للهدم وعبارة فتاويه رجل وقف جامعاً على قوم فانهدم ولم يبق من الآلة شيء فأجر المتولي عرصته من إنسان أربعين سنة ليبني فيها فبنى ثم إن الباني وقف عمارته على آخرين غير الأولين قال لا يصح الوقف بعد مضي المدة المستأجرة فتكون العمارة في حكم الوقف الأول فلو كان المستأجر أدخل فيها شيئاً من آلاته فأراد أن يرفعها ويضمن أرش النقصان الذي دخل الأرض له ذلك وليس للمتولي أن يقلع ويغرم أرش النقص وعلله بأن القلع ليس من مصلحة الوقف فإنه ما دام بناؤه فيها يستحق أجرة العرصة فلزمه ذلك إحياء للوقف الأوّل أ هـ .
المقصود منه فتأمل قوله فلو كان المستأجر أدخل فيها شيئاً من آلاته الخ. تجده صريحاً فيما ذكرته فإن قلت قوله فتكون العمارة في حكم الوقف الأوّل ينافي ما قدمته أن ما عمره المستأجر باقٍ على ملكه قلت هذا فرعه على ما اختاره من عدم صحة الوقف والمنقول المعتمد صحة وقف البناء والغراس في الأرض المستأجرة أو المستعارة سواء المملوكة والموقوفة قبل مضي مدة الإِجارة والعارية(3/10)
وبعدها على أنه يتعين حمل قوله فتكون العمارة في حكم الوقف الأوّل على أنه أراد بذلك أنها بالوقف لا تنسلخ عن أحكام الوقف الأوّل من لزوم أجرتها لمصرفه لأن وقفها على غيره مصرفه باطل على ما اختاره وإذا كان باطلاً لزم بقاء العمارة على حكمها الأوّل من أن مالكها يغرم أجرة محلها لمصرفه وإنما قلنا ذلك لأنه يبعد كل البعد أن مثل البغوي يقول بأن من استأجر عرصة موقوفة للبناء فيها أن بناءه يصير وقفاً قهراً عليه لأن ذلك ينافي وضع الإِجارة ولأن الأئمة مطبقون على خلافه كما يعلم من بابي الإِجارة والوقف وقد ذكرت آنفاً ما هو صريح فيه بقولي والمنقول المعتمد الخ. فإن قلت إذا أراد الناظر أن يتملك للوقف آلات المستأجر المختلطة بآلات الوقف التي يمكن تمييزها فلم لم يجب لذلك قلت المصرح به في باب الإِجارة أن تخيير المؤجر بين التملك والقلع مجاناً والتبقية بالأجرة إنما هو عند عدم اختيار المستأجر القلع أما إذا اختاره فإنه يقلع وعليه الأرش والتسوية للأرض ولا يجاب المؤجر إلى واحدة من تلك الخصال سواء في ذلك الأرض الوقف والملك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
فائدة: لو أراد الناظر بعد المدة القلع وغرم الأرش من مال الوقف ولم يقتضه شرط الواقف لم يجز وكذا لو أراد التملك للإِبقاء وكان يتغير به مقصود الوقف من بقاء الأرض مكشوفة فإنه لا يجوز له ذلك أيضاً والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(3/11)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أمره في مرضه الذي مات فيه الصحابة بسد أبوابهم النافذة إلى مسجده إلا خوخة أبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ من رواه وما حكم ذلك بعد وفاته . فأجاب: رواه الشيخان وغيرهما. بل بلغت طرقه حد التواتر كما بينه الحافظ السيوطي شكر الله تعالى سعيه وفي بعض طرقه وسندها حسن أن أبا بكر لما بكى إذ سمع قوله إن عبداً خيره الله الخ. قال له على رسلك أفضل الناس عندي في الصحبة وذات اليد ابن أبي قحافة انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر فإني رأيت عليه نوراً وفي رواية أخرى رجالها ثقات انظروا إلى هذه الأبواب اللاصقة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر وإني لا أعلم أحداً كان أفضل عندي في الصحبة منه قال العلماء ولا يعارض هذه الأحاديث الأخرى الكثيرة المتواترة أيضاً المصرحة بسد الأبواب كلها حتى باب أبي بكر إلا باب علي لأنهما قضيتان فقضية علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ كانت متقدمة وهي في سد الأبواب الشارعة وقد كان أذن لعلي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن يمر في المسجد وهو جنب ويدل على تقدمها رواية البزار عن علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال لي رسول الله : انطلق فمرهم أن يسدوا أبوابهم فانطلقت فقلت لهم ففعلوا إلا حمزة فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة فقال: قل لحمزة فليحوّل بابه فقلت: إن رسول الله يأمرك أن تحوّل بابك فحوله فهذا صريح في أن واقعة علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ كانت قبل أُحد وقضية أبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ متأخرة في مرض الوفاة في سد طاقات كانوا يستقربون الدخول منها وهي الخوخ. وقال الحافظ ابن حجر: قضية علي في سد الأبواب وأما سد الخوخ فالمراد بها طاقات كانت في المسجد يستقربون الدخول منها فأمر بسدها إلا خوخة أبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ في ذلك إشارة إلى استخلاف أبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ لأن الخليفة يحتاج إلى المسجد كثيراً وعلم من تلك الأحاديث الصحيحة بل المتواترة(3/12)
كما مر أنه منع من فتح باب شارع إلى مسجده ولم يأذن في ذلك لأحد حتى لأبي بكر والعباس إلا لعلي ـ رضى الله تعالى عنه ـ
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
لمكان ابنة رسول الله منه ومن فتح خوخة صغيرة أو طاقة أو كوة ولم يأذن في ذلك لأحد حتى لعمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ إلا لأبي بكر ـ رضى الله تعالى عنه ـ خاصة لمكان الخلافة ولكونه أفضل الناس يداً عنده كما نص عليهما في الأحاديث وهذه خصيصة له لا يشاركه فيها غيره ولا يصح قياس أحد عليه فيها إلى يوم القيامة فإن عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ استأذن في كوّة فلم يأذن له والعباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ في فتح باب صغير بقدر ما يخرج منه فلم يأذن له وفيها أيضاً أنه لم يسد ما سد ولم يفتح ما فتح إلا بأمر من ربه عزّ وجلّ وأن ذلك كان في مرض الموت في آخر مجلس جلسه على المنبر وأن ذلك من جملة ما عهده لأمته ومات عليه ولم ينسخه شيء فوجب استمرار حرمته وأنه لا رأي للإِمام فيه لنصه على منع وإسناده ذلك إلى الله تعالى لا إليه ولا نظر لتغيير معالم المسجد وجدره والزيادة فيه لأن حرمة الفتح منوطة بالمسجد من حيث هو لا بتلك الجدر بعينها ومن ثم وسع مرات في الصدر الأول ولم يقدر أحد على فتح شيء فيه قال الحافظ السيوطي بعد ذكره نحو ما مر أكثر مفتي عصرنا أفتوا بجواز فتح الباب والكوّة والشباك من دار بنيت ملاصقة للمسجد الشريف وكان ذلك منهم استرواحاً وعدم وقوف على مجموع الأحاديث الواردة في ذلك ثم روجع كل منهم في مستنده فيما أفتى به فأبدوا شبهاً كلها مردودة منها قول بعضهم لا نقل في هذه المسئلة لأهل مذهبنا ونقول بالجواز استحساناً حيث لا ضرر وجوابه لا استحسان يعتد به مع النصوص النبوية المصرحة بالمنع وإذا منع عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ من فتح كوة ينظر منها حين يخرج للصلاة فكيف ينهدم الحائط كله بل أقول لو أعيد حائط المسجد وبني خلفه جدار أطول منه وفتح في أعلاه كوّة يطلع منها(3/13)
إلى المسجد فينبغي المنع احتياطاً فإن انضم لذلك أن الشبابيك تصير معدة لمن يجلس فيها مرتفعاً والقبر الشريف تحته فهذا أشد وأشد والواجب على كل متحر الاحتياط لدينه حيث علم أن هذا الحكم منصوص عليه من صاحب الشرع وأنه لا رأي لأحد فيه بعد نصه وأن حكم الحاكم وإفتاء المفتي بما يخالف النص يرد والتوصل إلى خلافه بالحيل الفاسدة كجعله في غير جدار المسجد من باب قوله لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله سبحانه وتعالى بأدنى الحيل ومنها القياس على سائر المساجد حيث رأى الناظر ذلك ويرد بأنه لا قياس مع النص فقد دلت الأحاديث على تمييز المسجد النبوي بذلك ومنها قول بعضهم الأمر منوط في ذلك برأي الإِمام وجوابه لا رأي لأحد مع النص ومنها قول بعضهم تلك الأحاديث المانعة مخصوصة بزمنه وهذا باطل من وجوه أحدها أنه لا دليل لهذا التخصيص. ثانيها: أن القصة أمر بها أواخر حياته إذ لم يعش بعدها إلا دون عشرة أيام فدل على أنه شرع مستمر بعد وفاته إلى يوم القيامة. ثالثها: لو كان التخصيص مراد البينة وإلا كان مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة لا سيما وهي آخر جلسة جلسها للناس. رابعها: استمرار الصحابة على هذا الحكم دليل على أنهم فهموا شرعاً مؤبداً. خامسها: يقال لزاعم التخصيص ما وجه منع الصحابة في زمنه والإِذن لمن بعدهم والصحابة أجل وأحق بكل خير وهل يتخيل متخيل أنه يرخص لأهل القرن الأرذل ما منع منه أشرف الأمة وخيارهم معاذ الله تعالى ومنها قول بعضهم المنع مخصوص بجداره فإذا هدم وأعيد غيره كان ملكاً للمعيد فيفتح منه ما شاء ولا يصير وقفاً حتى يوقفه وهذا مردود بوجوه الأول أن الحكم ليس متعلقاً بخصوص الجدار كما فهم هذا القائل بل بعموم المسجد وقصده كما دلت عليه الأحاديث أن لا يتطرق لمسجده من باب دار تلاصقه ولا يطلع عليه من كوة في دار تلاصقه والمعاد يقوم مقام الأول في هذا الحكم الثاني أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وقد(3/14)
قال:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
انظروا هذه الأبواب الشوارع إلى المسجد فسدوها فرتب الأمر بالسد على وصف كونها شوارع إلى المسجد وإن فتحت في غير جداره ومن ثم لما هدم عمر وعثمان جداره وأعاداه لم يفتحا فيه شيئاً فدل على أنهم فهموا تعلق الحكم بالمسجد لا بالجدار وإلا لفتحوا لهم أبواباً وكوات نظراً إلى أن الجدار ملك بانيه وحاشاهم من ذلك أخرج أحمد وأبو يعلى والبزار أن عمر قال: لولا أني سمعت رسول الله يقول ينبغي أن يزاد في مسجدنا هذا ما زدت فيه الرابع أن زعم أن الجدار المعاد ملك المعيد يقال عليه هدم الأوّل إن كان لغير مصلحة فإعادته واجبة على الهادم فإذا أعاده كان بدل متلف لا ملكاً له أو لمصلحة فإعادته واجبة من مال المسجد أو بيت المال وحينئذٍ يكون المعاد وقفاً لا ملكاً ولو ادعاه الإِمام أو غيره من مال نفسه على نية إعادته للمسجد فكذلك أو على نية التملك لم يجز الخامس أن المعاد أن تمحض جداراً للمسجد وجب فصل الدار منه ولم يجز أن ينتفع بجدار المسجد في الدار أو للدار الملاصقة وجب على الإِمام أو الناظر إعادة جدار المسجد ولا يتركه مهدوماً على أن بناء جدار الدار إن كان في أرض المسجد هدم أولها يعاد جدار المسجد كما كان وهذا هو الذي الكلام فيه. السادس أن قوله سدوا الأبواب الملاصقة في المسجد يدل على أنه لم يخص الحكم بجداره بل علقه باللصوق في المسجد أي كونه متصلاً به فشمل ذلك كل باب لصق به من أي جدار كان السابع أن حديث لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء يدل على أن ما يحدث فيه بعده كما كان بزمنه في الحكم فكذا الجدار الثامن لو قدر والعياذ بالله تعالى احتياج بعض حيطان الكعبة إلى هدم وإصلاح فهدمها الإِمام وأعادها قيل الحائط المعاد ملكه يتصرف فيه كيف أراد حتى يوقفه فإن قيل بذلك ففي غاية السقوط وإن لم يقل بذلك فجدار المسجد النبوي كذلك إذ الحرمان الشريفان مستويان في غالب(3/15)
الأحكام وقياس المدني على المكي أولى من قياسه على بقية المساجد التاسع ذكر ابن العماد أن الظاهر بيبرس هو المحدث لمقصورة الحجرة الشريفة سنة ثمان وستين وستمائة وأنه أساء بذلك لأنه حجر به طائفة من الروضة الشريفة عن صلاة الناس فيها فإذا حكم بإساءته بذلك مع قصده التعظيم وعدم نص بالمنع فيه فكيف يفتح باب أو شباك مع ما فيهما من عدم التعظيم والأدب لارتفاعهما كما مر العاشر لا يتوهم أن تخصيص الجدار للحرص عليه أو لخشية ضعفه بل إنما هو لمنع الاستطراق والاطلاع إلى مسجده مع قطع النظر عن خصوص الجدار حسبما أمره به ربه الحادي عشر أسند المنع للوحي ولم يبين علته فإن كانت تعظيم المسجد استمر التحريم والمنع وإن لم يدرك له علة استمر أيضاً تعبداً وزعم أنها لخصوص الجدار وخوف ضعفه ساقط الثاني عشر أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/16)
ابن الصلاح سئل عن رباط موقوف على الصوفية اقتضت المصلحة أن يفتح فيه باب جديد ملصقاً لبابه القديم فأجاب بالجواز بشروط واستدل بفعل عثمان رضي الله سبحانه وتعالى عنه حيث فتح في المسجد النبوي أبواباً زيادة على ما كان وأقره على ذلك السبكي وغيره. وهذا منهم دليل على أنهم فهموا أن الجدار المعاد له حكم الجدار الأوّل لأن عثمان إنما فتح في جداره الذي أعاده ولو اختلف الحكم بطل الاستدلال بإبداء فرق بأن جدار الرباط جدار الوقف وجدار عثمان ليس جدار الوقف بل هو ملك عثمان الثالث عشر صرح العبادي و الجويني بأن من التمس من الناس آلة لبناء مسجد فأعطوه صار مسجداً بنفس البناء ولا يحتاج لإِنشاء وقف كما لو أحيا أرضاً مواتاً بنية جعلها مسجداً وهذا يبطل زعم أن الإِمام إذا أعاد حائط المسجد كانت ملكه فتحتاج لإِنشاء وقف وذلك لأن القرائن متظافرة على أنه ما نوى بعمارتها إلا إعادة حائط المسجد ومما يبطل ذلك أيضاً قول الماوردي إذا بنى مسجداً في موات أغنى فعله مع النية عن التلفظ بالوقف وزال ملكه عن الآلة بعد استقرارها في مواضعها من البناء وقبل الاستقرار هي باقية على ملكه إلا أن يقول إنها للمسجد فتخرج عن ملكه ومن ثم لم ينقل عن عثمان ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه حين وسع المسجد صرح بوقف ولا ذكر لفظاً وكذا من بعده مع كثرتهم وتوفير العلماء في زمنهم نظراً إلى أن البناء المجدد تابع للمسجد القديم وفي الروضة وأصلها نقلاً عن الإِمام ولا شك في انقطاع تصرف الإِمام عن بقاع المساجد فإن المساجد لله أ هـ .
وهذا صريح في منعه من أن يبني حائطاً على بقعة المسجد ويضم إليها زيادة في البناء موصولة بها متملكاً ذلك يتصرف في المجموع بفتح شبابيك أو غيرها. الرابع عشر لا أظن فقيهاً يسمح بأنه يجوز لأحد إعادة حائط المسجد من مال نفسه على نية التملك والتصرف فيه بما يشاء مع وجود سهم المصالح أو ريع وقف المسجد الخامس عشر لا شك أن جميع ما بأيدي الملوك(3/17)
الآن هو مال بيت المال وليس في أيديهم شيء يثبت أنه ملكهم بالطريق الشرعي وأي جهة فرضت ففيها الجواب الشافي فالحائط الذي يعيده الإِمام الآن ليس ملكه السادس عشر صرح ابن العماد بأنه لا يجوز رفع جدر بين مساجد متلاصقة وجعلها مسجداً واحداً لأنه يؤدي إلى تغيير معالم الوقف فكذلك لا يجوز ترك جدار المسجد النبوي والاقتصار على جدار واحد يجعل للمدرسة التي تلاصقه مكتفياً به عن جدار المسجد على جهة الاختصاص بالمدرسة أو الاشتراك بينها وبين المسجد بل لا بدّ من جدار للمسجد متميز منفصل عن جدار غيره مختص به ويجري عليه أحكام غيره أ هـ .
حاصل كلام الجلال مع حذف كثير منه لعدم الحاجة إليه وفيه نقد يميزه التأمل الصادق ولكن أكثره حسن قال: وقد تعرض جماعة من متأخري أصحابنا للمسئلة وعمومها في سائر المساجد سئل
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/18)
السبكي عن باب فتح في سور المسجد هل بعد فتحه يجوز الاستطراق منه للمسجد أم لا فأجاب بأن الكلام في مقامين جواز فتح الباب المذكور والذي يظهر على قواعدنا أنه لا يجوز ولا تكاد الشافعية يرتابون في إنكار ذلك فإنهم يحترزون عن تغيير الوقف جداً ولما فتح شباك الطيبرسية في جدار الجامع الأزهر عظم ذلك عليّ ورأيته من المنكرات ولما فتح الشيخ علاء الدين في بيته بالمدرسة الشريفية بالقاهرة شباكاً لطها لأجل الضوء خشي الإِنكار عليه فقال لي: إنه استند إلى كلام في المطلب هو كلامهم معهم أن أغراض الواقفين وإن لم يصرح بها ينظر إليها ولهذا كان شيخنا عماد الدين يقول إذا اقتضت المصلحة تغيير الوقف في صورته لزيادة ريعه جاز وإن لم ينص عليه الواقف لأن دلالة الحال شاهدة بأن ذلك لو ذكره الواقف حالة الوقف لأَثبته في كتاب وقفه ثم نقل ابن الرفعة عن التقي ابن دقيق العيد ما يشعر بجواز ذلك واغتبط به ابن الرفعة لأن التقي كان قدوة زمانه علماً وديناً قال السبكي والذي أراه جواز ذلك إن قل بحيث لا يغير مسمى الوقف أي وإن لم ينص الواقف على منعه كما أفاده كلام ابن الصلاح ولم يزل شيئاً من عينه بأن ينقل بعضه من جانب إلى جانب وكان في ذلك مصلحة الوقف وفتح شباك الطيبرسية لا مصلحة فيه للجامع الأزهر فلا يجوز وكذا فتح أبواب للحرم لا حاجة للحرم فيها وإنما هي لمصلحة ساكنها فلا يجوز على مقتضى قواعد مذهب الشافعي ولا على مذهب غيره إذا لم يكن فيه مصلحة وقد أفتى ابن الصلاح بنحو ذلك مما هو مبسوط في فتاويه لكن في استدلاله على باب الكعبة نظر لأن بابيها كانا في زمن إبراهيم وكذا بفعل عثمان لأنه كان هدماً بالكلية لمصلحة عامة للمسلمين فلا يلزم طرده في كل وقف قال ابن الصلاح : ولا بدّ أن يصان ذلك عن هدم شيء لأجل الفتح على وجه لا يستعمل في موضع آخر من الموقوف ويظهر من هذا أنه إنما يجوز الفتح بهذه الشروط في باب جديد في الحرم إذا ضاقت أبوابه من(3/19)
ازدحام الحجيج المقام الثاني جواز الاستطراق فيه بعد فتحه والذي يظهر لي فيه أنه حيث جاز الفتح جاز الاستطراق وحيث لا فلا لكن على بسط فيه ذكره في فتاويه وفي أحكام المساجد للزركشي وظاهر خبر الأمر بسد الأبواب مشكل وهو أنها إن كانت من أصل الوقف لزم عليه جواز تغيير معالمه وإن كانت محدثة لزم عليه جواز فتح الباب في جدار المسجد وكوّة يدخل منها الضوء وغير ذلك مما تقتضيه مصلحة حتى يجوز أن يفتح من داره المجاوره للمسجد باباً إلى المسجد في حائط المسجد وقد تقدم أنه ممنوع ويحتمل أن يقال يجوز ذلك للواقف دون غيره لأنه هو الذي وقف المسجد أ هـ .
وهو إشكال ساقط لأن الفتح أوّلاً كان بأمر الله تعالى ثم نسخ بوحي بالسد فهو من قبيل الناسخ والمنسوخ في الأحكام الشرعية فلا إشكال.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/20)
خاتمة: سبب هذه الواقعة التي اختلف العلماء فيها أن السلطان قايتباي لما أراد أن يبني بجوار المسجد النبوي مدرسة ويجعل الحائط مشتركاً بين المسجد والمدرسة ويفتح فيه باباً يدخل منه إلى المسجد وشبابيك مطلة عليه منع نائبه من ذلك جماعة من أهل المدينة فأرسل يطلب مرسوماً من السلطان بذلك فبلغه منع أهل المدينة فقال: استفتوا العلماء فأفتاه القضاة الأربعة وجماعة بالجواز ومنع آخرون من ذلك ومن العجب زعم قاضي القضاة الشافعي أن الأحاديث مختصة بالجدار النبوي وقد أزيل وهذا الجدار ملك للسلطان يفتح فيه ما شاء ولا يصير وقفاً إلا بوقفه ثم لم يتم لهم فتح باب وعدلوا إلى الفتح من الجهة الغربية واستدلال بعض الحنفية على جواز الفتح بان باب أبي بكر كان من تلك الجهة ولو كان له باب مفتوح فيفتح نظيره مردود بأن الثابت في الأحاديث السابقة وقرره العلماء أن أبا بكر لم يؤذن له في فتح باب بل أمر بسد بابه وإنما أذن له في خوخة صغيرة فلا يجوز الآن فتح باب كبير قطعاً وليس لأحد إن يقول أن المعنى الاستطراق فيستوي الباب والخوخ في الجواز لأن نص الشارع صريح بالتفرقة لأمره بسد بابه وإبقاء خوخته ومن ثم لو بقيت دار أبي بكر واتفق هدمها وإعادتها أعيدت بتلك الخوخة كما كانت من غير زيادة ولا تحويل لها عن محلها لكن دار أبي بكر هدمت وأدخلت في المسجد زمن عثمان وفي جواز بناء دار بإزائها وفتح خوخة منها نظير تلك تردد واحتمال والمنع أقرب لأن تلك خصوصية لها فلا تتعدى لغيرها ذكره الجلال وأبدى لاحتمال الجواز وجهين وشرطين يتعذر وجودهما إلا أن يكون ما يفتح بقدر تلك الخوخة لا أوسع وعلى سمتها لا في محل آخر والأمران متعذران للجهل بقدرها ومحلها.(3/21)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص تصدق على بوابين للمسجد الشريف النبوي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام بصدقة أو وقف وقفاً على البوابين المذكورين وللمسجد المذكور أبواب متعددة وبعض الأبواب له بوابان وبعضها له بواب واحد فهل تقسم الصدقة أو غلة الوقف المذكورتان على عدد الأبواب أو على عدد البوابين. فأجاب: بقوله يصرف على عدد الأبواب وما يخص كل باب يصرف على عدد من به من البوابين بالسوية بينهما في الأول وبينهم في الثاني ومأخذ ذلك كلام الأئمة فيما لو أوصى لجيرانه يقسم على عدد الدور لا على عدد السكان قال السبكي وتقسم حصة كل دار على عدد سكانها هذا كله إن لم يختلف العمل في البوابة بالتعدد للبوابين في الأبواب وإلا قسم على عدد البوابين لأن عملهم الآن مقصود فإذا استووا فيه استووا فيما وقف عليهم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141
وسئل: عن شخص دخل إلى الحرم الشريف النبوي وأعطى البوابين به وهم تسعة أنفار لكل نفر منهم خمسين محلقاً والتسعة الأنفار بعضهم مقرر بالأصالة في وظيفة البوابة بتقرير الناظر الشرعي وبعضهم نائب بالأجرة عن صاحب الوظيفة فأخذ البواب جميع المبلغ المتصدق به ولم يدفع للمقررين بطريق الأصالة شيئاً فهل لهم ذلك أو يؤخذ جميع المبلغ المذكور ويدفع للمقررين فقط ويكتفي البواب بالأجرة أو يقسم ذلك على التسعة الأنفار المكتوبين بأسمائهم في دفتر المتصدق لكل واحد خمسون محلقاً. فأجاب: بقوله ما أعطاه المتصدق بنفسه لا رجوع به على المعطي إلا بعد مسوّغ شرعي وليس منه كونه نائباً عن غيره في البوابة بل لو قال المتصدق بعد الإِعطاء إنما ظننت أنه أصلي لا نائب لم يكن ذلك بمجرده مقتضياً للرجوع على الآخذ بل لا بدّ من يمينه بل ومع اليمين في ذلك تردد منشؤه خلاف ذكره الأئمة في التنازع في دعوى القرض والهبة أو نحوهما.(3/22)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن مبلغ قدره نحو سنة وخمسين ذهباً وردت من غلة وقف على بوابي الحرم الشريف النبوي وقبض البواب عن البوابين المقررين جميع المبلغ المذكور ولم يدفعوا للبوابين المقررين بطريق الأصالة شيئاً فهل ذلك جائز لهم أو لا يستحق جميع المبلغ المذكور إلا البوابون المقررون والنواب لهم الأجرة أو يقسم المبلغ المذكور بينهم أو ما الحكم في ذلك. فأجاب: بقوله المسئلة فيها تفصيل ذكره البلقيني في فتاويه وحاصله أن الاستحقاق إن تعلق بسد الوظيفة كما هو الظاهر في نحو البوابة ولم يكن في شرط الواقف ما يقتضي جواز الإِنابة أو لا عذر مقتض لجوازها فالمعلوم كله للنائب وإلا فللأصيل ما لم يعلق الاستحقاق بالتولية والسد للوظيفة وإلا لم يستحق واحد منهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 141(3/23)
باب إحياء الموات
وسئل: رضي الله سبحانه وتعالى عنه في مدرسة جعل واقفها لها أربعة مدرسين من المذاهب الأربعة وحضوراً وجعل بإزائها خلاوي يسمى مجموعها في العرف رباطاً ومع ذلك لم تنقطع نسبتها عن تلك المدرسة بل يقال خلوة بمدرسة كذا ولم يعلم لواقفها شرط في سكان تلك الخلاوي وإنما جرت عادة تلك البلد بأن لا يشترط فيهم تفقه بل ولا تصوّف فهل إذا قرر ناظره إنساناً محترفاً في واحدة منها مع كونه عارياً عن التفقه مشتغلاً بحرفته عن الإِقامة بتلك الخلوة وثبت ذلك التقرير على يد حاكم شرعي شافعي وحكم به ينفذ ذلك التقرير أو لا ابسطوا لنا الجواب عن ذلك فإن الاختلاف فيه كثير وكثير من الأذهان متشبثون فيه بما استحسنوه من غير أن يسندوه إلى قاعدة أو كتاب وإنما يسندوه إلى العرف والعادة في تلك البلد معتقدين أن المعوّل في نحو ذلك عليهما دون غيرهما. أجاب: فقال الجواب عن ذلك يحتاج إلى مقدمة هي أن الذي صرح به الأئمة أن ينظر في نحو ذلك إلى الغرض الذي بني له ذلك المحل ويعرف ذلك الغرض بقرائن الأحوال والأزمنة والأمكنة ولا شك أنه يختلف باختلافها فما قضت به تلك القرائن المطردة اتبع سواء أوافق العرف والعادة أم لا إذا تقرر ذلك فالغرض من وضع بيوت المدرسة أنها تكون سكناً للمشتغلين بالدرس فيها ومن ثم بحث في الروضة ما حاصله وتبعه المتأخرون كابن الرفعة و السبكي ، و النشائي ، و الإسنوي ، و الأذرعي ، و البلقيني ، و الزركشي وغيرهم. أنه يمنع حيث لا شرط للواقف غير الفقهاء من سكنى بيوت المدرسة سواء وافق ذلك عرف البلد أو خالفه وفيه احتمال إذا خالفه زاد الزركشي أنه لا فرق هنا بين عرف زمن الواقف وما بعده وأن الاحتمال المذكور إنما يجري في الأول دون الثاني وهو ظاهر وقول شيخه الأذرعي أن الاحتمال غلط إذا وقفت المدرسة على طائفة معينة هو الغلط لأن كلام الروضة كما عرفت حيث لا شرط وفي هذه الصورة شرط ويوجه عدم نظرهم للعرف هنا وإن كان في(4/1)
زمن الواقف على ما قاله الزركشي مع قولهم إن العادة المطردة في زمنه كشرطه بأن القرينة الوضعية أقوى من القرينة العرفية لأن تلك لا تتغير باختلاف الأزمنة والأمكنة بخلاف هذه فإنها تتغير بذلك تغيراً كثيراً كما هو مشاهد ولا شك أن وضع المدرسة قاض بأن بيوتها خاصة بمن قدمناه فلا يقرر فيها غيرهم. سواء اقتضى عرف أهل تلك البلدة ذلك أم لا كما قدمناه وقد ألغى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/2)
ابن عبد السلام ومن تبعه شرط الواقف في مسائل لكونه عارضه ما هو أقوى منه فأولى هنا أن تقدم تلك القرينة الوضعية على العرف المنزل منزلة شرطه لأنها أقوى منه كما تقرر وبما قررته يعلم أن المراد ببيوت المدرسة في كلام الأئمة البيوت المنسوبة إليها سواء أسميت مع ذلك رباطاً لتلك المدرسة أم بيوتاً لها لأن المدار على نسبتها لها وهي موجودة في كل من الحالين كما يدل على ذلك الوضع الذي قررناه وإيضاحه أن وضع تلك المدرسة بإزاء تلك البيوت إنما قصد به سكنى من يشتغل في تلك المدرسة فاشترط في سكانها ما مر ولم يختص ذلك بالبيوت التي هي داخلها بل يشمل ما فيها وما خرج عنه مما ينسب إليها كما قررناه وأوضحناه وأما الرباط فهو على قسمين كما يصرح به كلام الأئمة أيضاً والمحكم في كل منهما القرينة الوضعية كما صرحوا به أيضاً هنا ووجه انحصاره في القسمين أنه إما أن يوضع بالطرق أو أطراف البلاد وإما أن يوضع داخل البلد فالقرينة الوضعية في الأول بقسميه قاضية باختصاصه بالمسافرين ومن في حكمهم كما قرروه وأطالوا الكلام فيه بما لا غرض لنا في بسطه وقاضية أيضاً بأن نازله لا يشترط فيه شيء ومن ثم قال في المنهاج ولو سبق رجل إلى رباط مسبل فلم يخص نازله بوصف بخلاف غيره فإنه قال: عقبه أو فقيه إلى مدرسة أو صوفي إلى خانقاه والقرينة الوضعية في الثاني قاضية باختصاصه بمن يأتي في الوقف على الصوفية ومما يدل على هذا الاختصاص تفسيرهم للرباط بأنه المكان المسبل للأفعال الصالحة أخذاً من قوله فذلكم الرباط ثلاثاً إشارة إلى نحو كثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فعلم من القرينة الوضعية وتفسيرهم المذكورين أنه لا بدّ في ساكنه مما يأتي من الأوصاف بخلاف المحترف ونحوه ممن لا يعد من أهلها فإنه لا يستحق سكناها وأما الخانقاه فهي ديار الصوفية كما صرحوا به وبتفسيرهم لها وللرباط بما ذكر يعلم أن بينهما تساويا أو قريباً من التساوي فيشترط في(4/3)
المنزلين بها ما يشترط في الصوفية الموقوف عليهم وهو أن يكونوا متعبدين في أكثر الأوقات معرضين عن الدنيا مع العدالة وترك الحرفة قال الغزالي : نعم، لا بأس بنحو الوراقة والخياطة أحياناً في رباط لا حانوت ولا تقدح قدرة الكسب ولا الوعظ والتدريس ولا ملك نصاب الزكاة وما لا يفي بخرجه دون الثروة الظاهرة والعروض الكثيرة ويشترط أيضاً زي القوم ومساكنتهم دون لبس مرقعة من شيخ أ هـ .
وسبقه إلى ذلك صاحب التتمة ومما يصرح بتساويهما أيضاً قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/4)
الفارقي في فوائد المهذب يجوز للفقهاء الإِقامة في الربط وتناول معلومها ولا يجوز للمتصوف القعود في المدارس وأخذ شيء منها لأن المعنى الذي يطلق به اسم التصوف موجود في المتفقهة من غير عكس أ هـ .
ويوافقه صنيع الشيخين وغيرهما. فإنه لمن تدبره قاض بأن الربط تطلق على جميع الأقسام السابقة أعني المدرسة وبيوتها والخانقاه وخانات الطرق وأطراف البلاد وأنه ليس لنا نوع رابع ويوافقه أيضاً عبارة وسيط الغزالي وبسيطه فإنه قال في الأولى لو طال مقام ساكن المدرسة أزعج بعد تمام غرضه فإن لم يكن للغرض مرد كرباط الصوفية ففي إزعاجه وجهان وأشار في الثاني إلى أن الراجح غير هذين الوجهين فقال يفوّض الأمر في الخوانق للوالي لاختلاف ذلك باختلاف البقاع والأشخاص والأحوال فإذا رأى المصلحة في إخراج واحد فله ذلك أ هـ .
فجعل رباط الصوفية هو الخانقاه فحينئذٍ كلام الفارقي والغزالي والشيخين مصرح بما قدمته من أن وضع المدارس وبيوتها للفقهاء والمتفقه ووضع الربط التي داخل البلدان للصوفية والمتصوّفة فمن لم يكن فقيهاً ولا متفقهاً ولا متصوفاً ولا تابعاً لأحدهما صوفياً ولا كالبواب والخادم فلا حق له في سكنى بيوت مدرسة ولا رباط لأنه خارج عن أهلها فعلم من ذلك ومما قررته أخذاً من صريح كلامهم أن المحترف في حانوته ومن لا يعد من المتفقهة ولا من الصوفية لا حق له في سكنى بيوت مدرسة ولا رباط وأن تقريره في أحدهما لغو سواء أحكم به شافعي أم لا قال الغزالي في بسيطه والمحل المبني لتعليم القرآن كالمدرسة أي فيشترط في نازله ما يشترط نحوه في نازلها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/5)
وسئل: في أرض متحاذية بعضها بجنب بعض وعروق شجر كل مالك لهذه الأراضي المذكورة متصلة بأرض الآخر بحيث لا يمكن الخلاص منها إلا بالإِتلاف فأراد بعض الملاك أن يحفر في ملكه حفراً عميقاً مخالفاً للعادة ليقطع به عروق شجر جاره فهل للجار منعه أو لا لأنه إذا قطع العروق مات الأصل والحال أن عادة أهل هذه البلاد المذكورة قديماً وحديثاً إذا كان مالك الأرض يتضرر بعروق شجر الجار في أرضه وأراد مالك الأرض إزالتها بسبب من الأسباب منعوه من ذلك لأن في مصلحته ما يؤدي إلى إتلاف ملك الغير فهل يعمل بعادتهم ويجبر صاحب الشجرة على إزالة عروقها من ذلك الغير إن لم يكن ذلك الغير أذن له في غرس الشجرة وإرسال عروقها في أرضه وإلا فهو معير فإن منع فله أجرة المثل أ هـ .
فهل ما قاله صحيح معتمد أم هو مخالف لقول الشيخ محيي الدين النووي وغيره لكل من الملاك أن يتصرف في ملكه على العادة فإن تعدى ضمن أي لمخالفة العادة وقالوا أيضاً إن تصرف بما يضر الملك فله منعه وإن تصرف بما يضر المالك فلا منع واختار المنع جماعة من كل مؤذ لم تجر العادة به مطلقاً وقالوا أيضاً الضرر لا يزال بالضرر فما الراجح عندكم أوضحوا لنا الجواب. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله قد جاء هذا السؤال من بلادكم المرة بعد المرة وأنا أكتب عليه بما هو مذهبنا الموافق لغيرنا فكان أهل بلادكم لا يمتثلون الشرع وهذه مصيبة عظيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون والحاصل أن الذي عليه أئمة الشافعية رضوان الله تعالى عليهم في هذه المسئلة إن انتشرت عروق شجرة الغير إلى أرضه جاز له مطالبة المالك بتحويلها أو قطعها من ملكه فإن امتنع فله تحويلها فإن لم يمكن فله قطعها وقلعها بنفسه ولا يحتاج إلى إذن الحاكم له في ذلك ومتى كلف مالكها قلعها فنقصت الأرض بذلك لزم القالع أرش نقصها ويلزمه أيضاً تسوية الحفر الحاصلة بالقلع ولا فرق في إجبار مالك العروق على قلعها بين أن يتضرر بذلك أو يموت به شجره أو(4/6)
لا ولا بين أن يعتاد أهل البلد قلع العروق المنتشرة إلى أرضهم أم لا ولا بين أن يحفر الأرض مالكها حفراً عميقاً مخالفاً للعادة حتى تظهر العروق فيطالب مالكها بقلعها أو تكون العروق ظاهرة على وجه الأرض نعم من اشترى الأرض من أول انتشار العروق إليها ثم عظمت وأضرت به لم يكن له إزالتها لعلمه حال الشراء بأنها ستزيد ولا ينافي ما ذكرنا ما نقله السائل عن النووي وغيره كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/7)
وسئل: عن قول الروضة ومن أخذ منه أي من الماء المباح شيئاً في إناء وجعله في حوض ملكه وقال: غيره وفي معناه الإِناء وسوقه إلى بركة أو حفرة في أرضه ونحو ذلك، ثم قال: فيها وإن دخل منه شيء ملك إنسان بسيل فليس لغيره أخذه إلى آخر المسئلة. ثم قال: في النهر المملوك بإن حفر نهراً يدخل فيه الماء من الوادي فالماء باقٍ على إباحته لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل ملكه فليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين وأما الشرب والاستعمال وسقي الدواب أي فليس له المنع إلى آخر ما قال فما الفرق بين جعله في الحوض وسوقه إلى بركة ونحوها. من أملاكه حيث يملكه وبين دخوله الأملاك من نهر ونحوه، حيث لا يملكه فلم لا يعتبر القصد في ذلك كما اعتبر في سقي الأرض لتوحل الصيد والبناء لتعشيش الطير حيث يملك الصيد والبيض والفرخ بذلك لأن القصد مرعي في التملك وقوله في النهر المملوك ليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين وأما الشرب والاستعمال فليس له المنع فما الفرق بين سقي الأرضين وما ذكروه بعدها وهل هذا تفريع على القول ببقاء الماء على إباحته أما إذا قلنا بملكه فيأتي فيه ما ذكروه في فاضل البئر والقناة أم يفرق بين الداخل في النهر من السيل لاتساعه غالباً للعرف المطرد فيما يعتاد من ذلك وعلى القول بمنع سقي الأرضين لو سقى به الغير أرضاً فماذا يجب عليه هل الواجب عليه قيمة الماء كما قاله في الروضة في الماء المملوك أو الواجب عليه ما بين قيمتها والماء فيها مستوٍ عليها غير مكسورة وبين قيمتها الآن يابسة كما قال بذلك بعض العلماء فيما إذا كانت أرض الغير مستوياً عاليها الماء فأجرها شخص آخر وما حقيقة الجعل والسوق في قولهم جعل في حوضه أو ساقه إلى أرضه فإن الجعل في الإِناء في العرف إبقاؤه فيه ولا نظن أن ذلك مرادهم هنا والسوق لم نفهم ما المراد منه هنا فإن السوق في العرف حث السائق للمسوق من خلفه وجوانبه إلى جهة مقصده. فأجاب: بأن الإِباحة متأصلة في الماء(4/8)
وقوية فيه ومن ثم جرى لنا وجه بأن الماء لا يملك وإذا ثبت تأصل الإِباحة فيه احتيج في تملكه إلى سبب قوي دال على ذلك صريحاً وذلك السبب القوي إما أخذه في إناء كما عبر به في الروضة ومراده بذلك حيازته فيه كما عبر به بعضهم ويؤخذ منه أنه لو أدخل كوزاً في ماء مباح فملأه منه ملك ما حواه وإن لم يرفع الكوز من الماء بل أبقاه فيه لأن هذا حيازة لا أخذ إذ هي الاحتواء على الشيء وإن لم ينقله فهي أعم مطلقاً وأما جعله في حوض مسدود المنافذ وليس المراد بالحوض خصوصه كما قد يتوهم من عبارة الروضة وأصلها وإنما المراد به ما صرح به غيرهما. ك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/9)
القمولي ، و الأذرعي ، و الزركشي ، وآخرين مما يشمل البركة والصهريج والحفرة في أرضه ونحو ذلك وحينئذٍ فالمراد بجعله في ذلك وسوقه إليه واحد وهو حصول الماء في واحد مما ذكر بفعله كان يفتح سداً بين نحو الحوض والماء المباح فيدخل فيه وخرج بالسبب القوي السبب الضعيف فإنه لا يقتضي ملك الماء لما تقرر وإنما غاية ما يقتضيه كون المتسبب به أحق بما يدخل في ملكه من الماء وذلك السبب الضعيف أما مجرد دخول الماء ملك إنسان لا يفعله ولابما يقوم مقام فعله بل بسيل ونحوه. وأما دخوله في ملكه بفعله الذي لا يدل على الملك لضعفه كأن يحفر نهراً يدخل فيه الماء من الوادي العظيم أو من النهر المنخرق منه فالماء باقٍ على إباحته لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل في ملكه وإنما جعلوا فعله هنا وهو الحفر لا يقتضي ملكاً بخلافه فيما مر في صورة الحوض ونحوه. لأن العادة مطردة بأن يقصد بحفرها في العادة الانتفاع بمائها في سقي المزارع ونحوها فلذلك جعلوه سبباً في كونه أحق به من غيره ولكون هذا الاستحقاق لا يخرج الماء عن أصله من الإِباحة اكتفى فيه بالسبب الضعيف وهو مجرد دخوله في ملكه بخلاف ملكه فإنه ينافي أصله المذكور فاحتيج فيه إلى سبب قوي وهو حيازته أو ما يقوم مقامها من إدخاله محلاً يقصد في العادة بحيازته فيه ملكه والتصرف فيه بالبيع وغيره كالحوض والصهريج فبان بهذا الذي قررته فرقان ما بين إدخاله لنحو الحوض فإنه يملك به وإدخاله لنحو النهر فإنه لا يملك كما يصرح به كلام الأذرعي الآتي على الأثر وبان به أيضاً الجواب عن قول الأذرعي في توسطه وكنت أودّ لو قيل أن أجري حافر النهر أو القناة الماء فيما حفره منها ملكه كما لو حازه في إنائه أ هـ .
ووجه الجواب عنه ما تقرر من أن إجراءه في نحو النهر لا يقصد به تملكه عادة بخلاف حوزه في إناء ونحوه، وإنما لم يعتبر القصد في الإِجراء إلى نحو النهر واعتبروه في مسئلة سقي الأرض لتوحل الصيد ونحوها. لما(4/10)
قررته أيضاً من أن السقي لتوحل الصيد والبناء لتعشيش الطائر لا يفعل عادة إلا لقصد تملك الصيد والطير فجروا فيهما على مقتضى العادة المطردة المحكمة في مثل ذلك وفي المياه وتملكها واستحقاقها وجروا في الحفر على مقتضاها أيضاً، من أنه لا يقصد منه أهلها إلا الارتفاق بالمياه والانتفاع بها دون تملكها والتصرف فيها بالبيع ونحوه، كما هو ظاهر معروف ألا ترى أن مياه نحو الصهاريج والبرك لا تتخذ في العادة إلا للتصرف فيها بالبيع ونحوه. بخلاف مياه الأنهار فإنها لا تتخذ لذلك في العادة ولا شك أن من قصد ما يوافق العادة اعتد بقصده بل ما يوافقها لا يحتاج في العمل به إلى أن يقصد ومن ثم يملك الماء في مسئلة نحو الحوض السابقة وإن لم يقصد تملكه وما خالف العادة لا يعتد به وإن قصد ومن ثم لم يكتفِ بالإِجراء في النهر وإن قصد به التملك فإن قلت لم فرق في مسئلة سقي الأرض لتوحل الصيد ونحوها بين القصد وعدمه ولم يفرق في الماء كذلك فإنه في مسئلة نحو الحوض يملكه وإن لم يقصد وفي مسئلة الإِجراء إلى النهر لا يملكه وإن قصد قلت حكمة ذلك ما تقرر من أن الإِباحة متأصلة في الماء فإذا وجد سبب قوي يخرجه عن أصله لم يحتج معه إلى قصد وإن لم يوجد سبب قوي لم يؤثر معه القصد وأما نحو الصيد والطير فليس الأصل فيه ذلك لأنه لم يجر لنا خلاف في أنه يملك بالحيازة فأدير الأمر في التسبب إلى ملكه بين أن يقصد به تملكه أو لا فإن قلت ذهب الإِمام إلى أن ما دخل في نهره أو قناته يملكه كالمحرز في إنائه وتبعه الشيخان في باب الصيد وهذا يدل على ضعف الفرق الذي قررته فيما سبق قلت لا دليل فيه على ذلك لأنه ضعيف منابذ لتصريح الأصحاب بخلافه كما بحثه الأذرعي في توسطه بل قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/11)
المحاملي أنه غير مملوك بلا خلاف وحينئذٍ فاختيار ابن الرفعة له مردود أيضاً والشيخان إنما لم يضعفاه في باب الصيد للعلم يضعفه مما ذكراه هنا فبان أنه لا حجة فيه ولا معوّل عليه فإن قلت سلمنا ذلك في كلام الإِمام لكن يعكر عليه وعلى الفرق ما في فتاوى ابن الصلاح ونقله المتأخرون عنه وأقروه من أن الدولاب الذي يديره الماء إذا دخل الماء في كيزانه ملكه صاحب الدولاب بذلك كما لو استقاه بنفسه أ هـ .
قال غيره: وفي معناه ما يديره بدابته من طريق أولى قلت لا يعكر عليه فأن هذا فيه حيازة الماء في إنائه بفعله وهو نصبه للدولاب على الماء أو إدارته له بدابته وحيازة الماء في الإِناء من شأنها في العادة أن يقصد بها ملك الماء فأخذ ابن الصلاح ومن تبعه بالقاعدة في هذه الصورة وإن فرق فيها بخصوصها أن القصد بالماء الذي يديره الدولاب أو الدابة لا يقصد به إلا ما يقصد بإجراء الماء في النهر إلحاقاً لشاذ الجنس بغالبه وطرداً للباب وقول السائل نفع الله تعالى به وقوله في النهر المملوك ليس لأحد مزاحمته الخ. جوابه ظهور الفرق بين سقي الأرض وما بعده فإن العادة جارية ومطردة بأن النفوس تسمح من الماء المذكور بنحو الشرب والاستعمال لقلة ما يذهب بسببهما من الماء بخلاف سقي الأرض فإنها لم تجر بالمسامحة به لكثرة ما يذهب بسببه فإن قلت: يعكر عليه أنه في الروضة ضم إلى الشرب والاستعمال سقي الدواب حكاية في الثلاثة عن أبي عاصم العبادي و المتولي ولا شك أن سقي الدواب يتناول الكثير منها وهو يذهب بسببه ماء كثير ولا يسمح به مع كثرته غالب الناس قلت ما نقله عن العبادي والمتولي لم ينفردا به بل جرى عليه أيضاً المحاملي في مجموعة وسليم في تقريبه وصاحب البيان وظاهر كلام هؤلاء كالروضة وغيرها. أنه لا فرق بين كثير الدواب وقليلها ولا بين أن يظهر بسبب سقيها نقص في الماء أو لا وحينئذٍ فيشكل بمنع سقي الأرضين ويجاب بأن من شأن سقي الأرض أنها تحتاج لماء(4/12)
أكثر مما تحتاجه الماشية وأن ملاك القنوات والأنهار يشحون بالتمكين من سقي الأرض وإن صغرت بخلاف سقي الدواب وإن كثرت وأيضاً فسقي الأرض يلزم على التمكين منه الضرر على صاحب النهر فإنه لو لزمه التمكين منه كان ذلك مقتضياً عند تقادم العهد أن مالك تلك الأرض قد يدعي بأن لها استحقاق شرب من ذلك النهر فكانت خشية ذلك الضرر مانعة من التمكين من سقي الأراضي من النهر المذكور وإن كان ماؤه باقياً على إباحته وأما قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/13)
الإِمام وتبعه في الوسيط كل من تصرف في مائها يعني الأنهار والقنوات المملوكة بما ينقصه ويظهر نقصه فهو ممنوع منه حتى بسقي المواشي والتصرف الذي لا يظهر له أثر كالشرب أو سقي دواب معدودة أو أخذ قرب فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر واستمسكوا بقوله الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ وهذا بعينه هو الذي نقلته عن شيخي فإنه انتفاع وذهب القاضي وطبقة المحققين إلى إجراء القياس والمصير إلى أن للملاك أن يمنعوا من هذا وما درج عليه الأوّلون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإِباحة أ هـ .
فهو كما بينه الأذرعي في توسطه مفرع على رأيه الضعيف السابق عنه وهو أن ماء الأنهار والقنوات المملوكة مملوك كماء البئر المملوكة وكلام الأولين أعني العبادي ومن ذكر معه مفرع على الصحيح وهو أنه غير مملوك على أن ابن عبد السلام قال: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإِذن العرفي مقام اللفظي فلو أورد ألفاً من الإِبل إلى جدول ضعيف فيه ماء يسير فلا أرى جواز ذلك فيما زاد على المعتاد نعم لو كان النهر لمن لا يعتبر إذنه كاليتيم والأوقاف العامة فعندي فيه وقفة لأن صريح إذن المستحق لا يؤثر ههنا فكيف يؤثر ما قام مقامه في العرف أ هـ .
ملخصاً وخالفه البلقيني فيما توقف فيه وأفتى بالجواز ويجاب عن علة توقفه بأن الإِذن هنا ليس شرطاً وإنما الشرط عدم المنع ويعلم بالعادة أن نحو الصغير لو رشد لم يمنع فاكتفى بذلك في إباحة تناول ما ذكر لعدم توقفه على الإِذن والأصل عدم المنع وبما تقرر من أن كلام الإِمام السابق مفرع على الضعيف وكلام غيره مفرع على الصحيح وهو بقاء الماء على إباحته يعلم الجواب عن قول السائل وهل هذا تفريع على القول ببقاء الماء على إباحته وقوله أما إذا قلنا بملكه فيأتي فيه الخ. جوابه أنه كذلك كما(4/14)
دل عليه كلامهم وأشار إليه ابن الرفعة وقول السائل أم يفرق الخ. جوابه أنه لا وجه للفرق لأن ملحظ إيجاب بذل فضل الماء خبر الصحيحين لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ أي من حيث إن الماشية إنما ترعى بقرب الماء فإذا منع من الماء فقد منع من الكلأ كذا قالوه وهو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين ماء البئر والقناة والنهر إذا قلنا إن ماءه مملوك بل هو أولى منهما بذلك لأنهما إذا وجب بذل فاضل مائهما بشرطه مع قلة مائهما فلان يجب ذلك في النهر المتسع الماء من باب أولى فإن قلت ما تقدم من التفصيل السابق في الماء ينافيه ما ذكروه في الحطب من أنه حيث كان مباحاً لم يكن لمن أشعل ناره فيه منع أحد من الانتفاع بها وعليه وعلى الشق الأخير الآتي يحمل الحديث وحيث كان مملوكاً جاز المنع من الانتفاع بها بالأخذ منها ونحوه. وعليه حمل
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/15)
القمولي إطلاق صاحب العدة أن له المنع وحمل قول المتولي أما الأسطلاء أو الاستصباح بها أو منها فلا منع وعليه حمل القمولي أيضاً، قول المتولي إن لم يحتج إليها منعه وإن احتاج لدفع برد أو تجفيف ثوب لم يمنعه ولا يأخذ منه عوضاً فإن منفعته لا تقابل بعوض بيع ولا إجارة أ هـ .
قلت الفرق بين الماء وغيره أن غيره كالحطب لا يستخلف في الحال ويتموّل في العادة بخلاف الماء فيهما فلذلك سامحوا فيه ما لم يسامحوا به في غيره على أن لك أن تقول الحطب كالماء فإنه إنما لم يجز المنع في الحالة الأولى لأن إشعال النار فيه لا يقتضي ملكه ولا الاختصاص به فهو باقٍ على إباحته ولا في الحالة الثالثة لأن الاستضاءة منه متسامح بها عادة فهي كالشرب من المملوك وإنما جاز المنع في الحالة الثانية لأنه لا يتسامح به فهو كأخذ ما لا يتسامح به من الماء وقول السائل نفع الله تعالى به فماذا يجب عليه الخ. جوابه أن ما في الروضة هنا من وجوب قيمة الماء ينبغي حمله على الحالة الآتية فإن المعتمد ما صرحوا به في باب الغصب من أنه مثلي قال ابن الرفعة ما لم يغل بالنار نعم محل وجوب مثله إن كان له قيمة كما بينت ذلك في شرح الإِرشاد في بابي التيمم والغصب وعبارته في الأول وإنما يجوز له أخذه قهراً بقيمة له في ذلك المكان والزمان وإن كان مثلياً لما في أمره بأخذ المثل من الإِجحاف به لأن الماء في الحضر تافه إذ الفرض أنه أخذه في مفازة وإن غرم القيمة في الوطن ونحوه، مما لا قيمة للماء فيه فإن فرض الغرم بمحل الشرب أو بمحل آخر للماء فيه قيمة دون قيمة يوم الإِتلاف وإن كانت يسيرة غرم مثل الماء كسائر المثليات كما في البحر والعدة واستشكل وجوب المثل عند كونها يسيرة وأجيب بأنه الأصل وإنما يعدل حيث لا مالية له ولا نظر لزيادة قيمة المثل ونقصها كما لا نظر لتفاوت الأسعار عند رد العين وهو وجيه وقول الشارح أي الشمس الجوجرى الإِشكال أقوى لأن قيمته إذا كانت في تلك الحالة(4/16)
درهماً وفي مكان الإِتلاف وزمانه ألفاً فإيجاب دون القيمة إجحاف بالمالك وهم إنما عللوا العدول إلى القيمة بدفع الإِجحاف يرد بأن تعليلهم بذلك إنما هو عند عدم القيمة بالكلية إذ به يتحقق الإِجحاف وأما حيث كان للمثل قيمة فلا عدول عنه كما يصرح به كلامهم الآتي في الغصب وأجاب المصنف أي صاحب الإِرشاد بأن الماء وإن كان مثلياً لنقله مؤنة ومن أتلف شيئاً لنقله مؤنة إذا ظفر به المالك في غير بلد التلف لا يطالبه بالمثل بل بقيمة بلد التلف ولا يكلف المالك قبول المثل ويرد بأن الأليق بكلامهم ما مر من التفصيل سواء أكان لنقله مؤنة أم لا واعتبار مؤنة النقل أمر مر زائد على ذلك قد يجامعه وقد لا فحيث كان المثل متقوماً ولم يكن لنقله مؤنة وجب ولو في غير محل الإِتلاف وإن كانت القيمة فيه دون قيمة بلد الإِتلاف وحيث لم يكن متقوّماً لم يجب وإن لم يكن لنقله مؤنة وما اقتضاه جوابه من أنه ليس له أن يؤدي الماء في غير محل الإِتلاف إذا كان له فيه قيمة دون قيمة محل الإِتلاف مخالف لصريح كلامهم انتهت عبارته في التيمم وعبارته في الغصب نعم إن خرج المثلى عن أن يكون له قيمة كما لو غصبه في مفازة وتلف أو أتلفه هناك بلا غصب وكجمد غصبه وتلف أو أتلفه في الصيف ثم اجتمعا عل شاطىء النهر أو بمحل قيمته فيه تافهة كهي على الشط أو أعلى منها بقليل في الأول أو في الشتاء في الثاني لزمه قيمة المثل في تلك المفازة أو في الصيف ثم إذا اجتمعا في مثل تلك المفازة أو في الصيف فلا ترادّ وقضية كلامهم أنه لا فرق بين أن يكون الماء بمحل الغالب لا قيمة له أصلاً أوله قيمة تافهة وقضية كلامهم التصوير بما إذا لم يكن له قيمة فإن كانت ولو يسيرة وجب المثل قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/17)
ابن النقيب ثم استشكله وأجاب عنه أبو زرعة بأن الأصل المثل وهو متجه وإن نازع الشارح أي الشمس الجوجري فيه وفي اقتضاء كلامهم لما ذكره ابن النقيب ما لا يخفى رده على المتأمل إذ قوله إنما وجبت القيمة رفقاً بالمالك وأي رفق إذا كانت قيمته بالمفازة ألفاً وبمحل الإِعطاء دانقاً يرد بأنه يلزمه مثل ذلك فيما لو غصب براً مثلاً يساوي ألفاً فرد مثله وهو يساوي درهماً فإنه يجوز كما شمله قولهم لا أثر للرخص والغلاء وقوله لا نسلم أن الماء لا قيمة له على الشط يرد بأن الغالب ذلك حيث لا صفة زائدة على ما في النهر كصفاء وبرودة ولو وجده لا على الشط ونحوه. بل في مفازة أخرى طالبه بقيمة محل التلف إن كان الحمل الماء مؤنة وإلا فلا كما علم مما مر انتهت عبارته في باب الغصب وبها مع ما قبلها يتبين ما في إطلاق الروضة من وجوب القيمة وأن قول الإسنوى وأن ما فيها سهو والصواب إيجاب مثل الماء لا قيمته فإن الماء مثلى كما سبق في الغصب ولم يخالفوا هذه القاعدة في الماء إلا إذا غصبه في مفازة ثم قدم البلد فإنه لا يرد مثله لأنه لا قيمة له هناك غالباً أ هـ .
فيه تحامل ولو حمله على ما حملت عليه عبارتها لكان أصوب وقد جرى ابن الصلاح في فتاويه على ما يوافق ما ذكرته فإنه سئل عمن له دولاب على نهر عظيم غير مملوك يديره الماء بنفسه ويرتفع الماء إليه في مواضع مهيأة له فهل يدخل الماء في ملكه بمجرد صيرورته في كيزان الدولاب كما لو استقاه بنفسه في إناء ولو كان الماء ينصب من الدولاب في ساقية مختصة بملك صاحب الدولاب فجاء جار له فخر الساقية حتى انصب الماء إلى أرض الجار وسقي به أرضه فما الذي يلزمه أمثل الماء أم ثمن مثله أم أجرة مثل الدولاب للمدة التي انتفع فيها الغاصب بالماء وأجرة ما يجري مجراه من الساقية وغيرها. أم يجب عليه ثمن الماء والأجرة جميعاً فأجاب: نعم يملكه بمجرد حصوله في كيزان الدولاب ويجب على الجار الغاصب مثل ذلك الماء محصلاً في(4/18)
الموضع الذي كان المأخوذ معد السقية به فإن تراضيا على أخذ قيمته جاز وهذا بخلاف ما لو أخذ في البادية ماء أخذاً يوجب الضمان حيث قلنا يضمنه في الحضر بقيمته لا بمثله لأن المقدر بقدره في الحضر ليس مثلاً لما بينهما من التفاوت العظيم في المالية وهذا على الوجه المذكور لا تفاوت فيه والماء مثلى أ هـ .
ووقع للأذرعي في توسطه أنه اعترض عليه بما فيه نظر وبيان ذلك أنه قال وفيما أطلقه نظر من وجهين أحدهما أن الماء ربوي على المذهب ومعرفة مقدار ما اغتصب من ماء القناة ونحوها. وسقي الأرض به كيلاً أو وزناً لا يكاد ينضبط أصلاً ولا سيما إذا طالت المدة فكيف السبيل إلى معرفة المماثلة في المقدار وإذا تعذر ذلك ولا شك فيه في معظم الأحوال فلا سبيل إلى الإِلزام بمثل مجهول لأنه يوقع في الربا وحينئذٍ فيغرم القيمة للضرورة تخميناً أ هـ .
وفيه نظر من وجهين أحدهما أن الربا لا يكون إلا في ضمن عقد دون نحو فسخ وأخذ البدل ليس عقدا فاندفع قوله أن ذلك يوقع في الربا ثانيهما كونه فرق بين اغتفار الجهل بالمقدار بالنسبة للقيمة دون أخذ المثل وهو يشبه التحكم لأنه كما يحتاط الإِلزام المثل كذلك يحتاط لإِلزام القيمة فكيف يقال حينئذٍ بوجوبها على سبيل التخمين على أنه لا تخمين ولا تعذر في معرفة المماثلة في المقدار خلافاً لما زعمه لأن المالك لا يقبل دعواه إلا إذا بين قدر ما غصب منه ثم إن وافقه الغاصب على ذلك القدر ألزم بإعطائه مثله وإن ادعى قدراً أنقص صدق بيمينه لأنه غارم ولزمه دفع مثل ما حلف عليه ثم قال والثاني أنه قد غصبه في وقت الحاجة الحاقة إليه ويكون له قيمة خطيرة ذلك الوقت لحاجة الزرع ونحوه إلى السقي فإذا رام رد مثله في حالة الاستغناء عنه كانت قيمته تافهة أو لا قيمة له كما لو ردّه في الشتاء وأيضاً، فقد يكون في تحصيله مثله في موضعه المأخوذ منه أضرار بمالكه لأن قناته ونحوها ملآنة بمائه الحادث بعد الغصب من الدولاب لا تسع لغيره(4/19)
فلو أمر برد ذلك إلى موضعه لا ضر بالمالك والملك فكيف يجبر على قبول مثله هناك لو تصوّر معرفة مقداره وإذا كان كما وصفنا فليس لكلامه مأخذ صحيح أو مأخذ أ هـ .
المقصود منه وفيه نظر أيضاً لما قدمته من إنه لا يجب رد مثل الماء إلا إذا كان له قيمة لها وقع دون ما إذا لم يكن له قيمة أوله قيمة تافهة كهي على الشط أو أعلى منها بقليل فحينئذٍ تجب قيمته يوم تلفه إذا كان له قيمة في ذلك الوقت أكثر من ذلك وهذا هو محمل كلام الروضة كما مر ومن حيث أنه كان له قيمة يوم التلف والرد فلا نظر إلى تفاوت القيمتين بل يجب رد المثل فقوله فإذا رام رد مثله في حالة الاستغناء عنه الخ. لا يصلح للاعتراض على كلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
ابن الصلاح وغيره لما تقرر أنهم قائلون في هذه الحالة برد القيمة لا المثل كما لو غصب جمداً في الصيف ثم رام رد مثله في الشتاء وقوله وأيضاً فقد يكون الخ. يرد بأن محل رد المثل هنا حيث طالبه به المالك وإلا لم يستقل برده أخذاً مما قالوه فيمن غصب تراباً وأتلفه وأراد رد مثله من أنه حيث لم يطالبه المالك برده فليس له رده بغير إذنه لأنه تصرف في ملك الغير كما مر وأن المعتمد أن الماء الذي لم يغل مثلى إلا في الحالة السابقة وما نقله السائل عن بعض العلماء من أن الواجب عليه ما بين قيمتها الخ. فهو لا يوافق قواعد مذهبنا إلا أن فرض أنه حصل في الأرض تعييب بأخذ الماء منها فيجب حينئذٍ ما نقص من قيمتها وقول السائل نفع الله تعالى به وما حقيقة الجعل الخ. جوابه علم مما مر أوّل هذا الجواب وتفسيره الجعل والسوق بما ذكر غير مراد للفقهاء كما علم مما مر أيضاً والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/20)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا كانت الأرض الواحدة بعضها مرتفع وبعضها منخفض ولو سقيا معاً لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق أفرد كل بعض بالسقي وطريقه أن يسقي المنخفض ثم يسده ثم يسقي المرتفع فلو كانت هذه الأرض لاثنين وتضرر الذي يتأخر سقيه فهل يتعين حينئذٍ قسمة الماء لئلا يتقدم شريك على شريك أم لا فإن قيل يفرد المرتفع بحاجز فالحاجز الذي يرد الماء هل هو عليهما معاً أو على أيهما فلو كانت هذه الأرض الواحدة منقسمة بين جماعة قطعاً متفرقة ووجدنا عليها حاجزاً يرد الماء فهل الملك فيه لمن يلي ملكه منهم كالجدار المتصل بملكه مع أنه مختص بما حصل عليه من نبات وحشيش ونحوهما، أم هو للجميع بانتفاعهم برد الماء إلى أملاكهم وحبسه عن الخروج عنها فيكون حريماً لهذه الأرض ولأن العادة مطردة في جهة السائل في البيع عند الإِطلاق إذا بيع كل ذراع بشيء معلوم من هذه الأرض وأمثالها أنه يحط هذا الحاجز من غير مقابلة بعوض وكذا يحطون شيئاً من الثمن في مقابلة شيء من الأرض المبيعة بسبب وجود شجر فيها لأجنبي أو مصب ماء ونحو ذلك مما يضعف بسببه الإِنبات هكذا اطرد العرف بذلك في جهتنا فهل هذه العادة متبعة معمول بها أم لا. فأجاب: بأن قول السائل نفع الله تعالى به إذا كانت الأرض الخ. أخذه من الروضة وعبارتها ولو كانت أرض إلا على بعضها مرتفعاً وبعضها منخفضاً ولو سقيا معاً لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه قلت طريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين ثم يسده ثم يسقي المرتفع والله سبحانه وتعالى أعلم أ هـ .
وهذه الطريقة التي ذكرها محلها إن أمكنت وإلا حبس فيها من الماء بقدر ما لو اعتدلت لبلغ الكعبين كما في المطلب وعبارته قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/21)
الماوردي ولو كان في ملك واحد أرض بعضها مستغل وبعضها عالٍ إن حبس الماء فيها حتى يبلغ العالي زاد على الكعبين في المستفل وإن حبس في المستفل قدر الكعبين لم يبلغ العالي فلا يعمل بواحد من هذين ولكن نحبس فيها من الماء بقدر ما لو اعتدلت لبلغ الكعبين قلت، وهذا إذا لم يمكن سقي المستفلة أوّلاً حتى يصل إلى الكعبين، ثم يسد عليها ويرسله إلى العالية أما إذا أمكن ذلك تعين فعله أ هـ .
وعبارة جمع من شراح المنهاج وكأن هذا إذا لم يتيسر سقي العالية أوّلاً حتى يبلغ الكعبين ثم يسد عليها الماء ويرسله إلى السافلة فإن أمكن ذلك فمقتضى كلام الأصحاب تعينه قاله ابن الرفعة ، و القمولي ولا تخالف بين هذا وما قبله بل حيث أمكن سقي المستفلة أوّلاً أو العالية أوّلاً كما ذكر تعين وقول السائل فلو كانت هذه الأرض لاثنين الخ. جوابه أن أرضيهما إن كانتا تسقيان من ماء مباح أقرع بينهما كما اقتضاه قول الروضة ولو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يميناً وشمالاً فهل يقرع أو يقسم بينهما أو يقدم الإِمام من يراه فيه ثلاثة أوجه حكاها العبادي قلت أصحها يقرع والله أعلم أ هـ .
قال الأذرعي وكأن الصورة فيما إذا أحييا دفعة واحدة أو جهل أسبقهما أ هـ .
وهو ظاهر والكلام عند ضيق الماء وإلا سقى كل منهم متى شاء أما إذا كانت أرضاهما تسقى من ماء مملوك لهما فإنه لا يقدم هنا إلا على على الأسفل وحينئذٍ فإذا لم يمكن سقيهما معاً ولا بنصب خشبة مستوية الأعلى والأسفل في عرض النهر ويفخ فيها ثقب متساوية أو متفاوتة على قدر حقيهما ولم يرضيا بقسمته بالمهايأة كيوم ويوم وطلب أحدهما قسمته بقطعة من أول الأراضي في الموضع الذي إذا قسم أمكن كل واحد أن يسقي أرضه بما يصيبه من الماء أجيب طالب القسمة حينئذٍ وأجبر صاحبه عليها كما يصرح به كلامهم في باب القسمة لأن الماء من المثليات وقسمتها قسمة إجبار إذ الممتنع منها يجبر عليها وإن كانت(4/22)
الأنصباء متفاوتة إذ لا ضرر عليه فيها وهذه القسمة إفراز لا بيع على المعتمد فيجوز في الربوي وإن لم يوجد فيه التقابض في المجلس مثلاً ومن ثم جازت القسمة فيها بالمهايأة كما صرحوا به بقولهم وإن اقتسموا الماء بالمهايأة جاز وقد يكون الماء قليلاً لا ينتفع به إلا كذلك وبهذا يعلم الجواب عن قول الأذرعي وإذا قلنا إنه أي الماء المملوك فكيف ينقدح القول بالقسمة مهايأة على القول بأن القسمة بيع هذا لا سبيل إليه وأما إذا قلنا إنها إفراز حق فهذا موضع تأمل ولم أرَ له ذكراً في كلامهم هنا فتأمله أ هـ .
ولا يحتاج لذكرهم له هنا لأنهم استغنوا بذكرهم ما يصرح بحكمه في القسمة كما علم مما قررته وقول السائل فإن قيل ينفرد المرتفع الخ. جوابه أنه حيث أمكنت القسمة من غير أن ينفرد المرتفع بحاجز كما في الطريق التي ذكرناها لم يحتج إلى حاجز وحيث لم يمكن إلا بحاجز فالظاهر وجوبه عليهما لأن المصلحة العائدة منه لا تختص بأحدهما بل هي عائدة عليهما لأنه طريق إلى استيفاء كل منهما حقه ولا نظر إلى إمكان سقي أرض أحدهما بدونه لأن اشتراكهما في الماء منع النظر إلى هذا الإِمكان وصير أرض كل منهما لا يمكن سقيها من هذا الماء المشترك إلا بهذا الحاجز فاتضح عود منفعته عليهما وقوله فلو كانت هذه الأرض الخ. جوابه أن الذي دل عليه صريح كلامهم في باب إحياء الموات أن الحاجز المذكور وما ينبت عليه ملك لجميع أرباب الأراضي التي تنتفع به برد الماء عنها فقد قالوا وتبعهم الشيخان في الروضة وأصلها ولو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصابهم جعل على قدر الأرضين على الأصح لأن الظاهر أن الشركة بحسب الملك وكل أرض وجد في يد أهلها نهر لا تسقى الأرض إلا منه ولم يدر أنه حفر أو انخرق حكم لهم بملكه لأنهم أصحاب يد وانتفاع فلا يقدم بعضهم على بعض والمراد بالنهر في الأولى ومثله الثانية الذي لا يعرف له أصل إلا أنهم يسقون أراضيهم منه كما قاله(4/23)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
المتولي وبكلامه يعلم رد قول الأذرعي والظاهر أن صورة المسئلة أن منبعه في أراضيهم المملوكة لهم فيملكونه أما لو كان منبعه بموات أو كان يخرج من نهر عام كدجلة ونحوها، فلا بل هو باقٍ على الإِباحة أ هـ .
وأما تنظير السبكي في ذلك بأن الأصل عدم الحفر وكثير من الأنهار غير مملوكة والمحقق من اليد فيه الانتفاع والسقي منه ولا يكفي ذلك لدلالة اليد على الملك إذ اليد التي تدل على الملك هي التي يكون معها الاستيلاء ومنع الغير فإن وجد ذلك دل على الملك وإلا فينبغي أن لا يحكم بكونه مملوكاً لهم نعم ذلك ظاهر في قناة أو ساقية يظهر اختصاصهم بها واستيلاؤهم عليها بحيث لا يستنكر أن يحموها ويسدوها فيرده أنا وإن سلمنا أن الأصل ما ذكره وإلا فهو لا يدل على الملك وكون المحقق من اليد فيه الانتفاع لا يمنع الحكم بالملك أيضاً عملاً بالظاهر وكون ذلك لا يكفي لدلالة اليد على الملك ممنوع ودعوى أنها لا تدل على الملك إلا إن كان معها استيلاء ومنع الغير إن أراد منعه بالفعل فممنوع أيضاً أو بالقوة فهو لازم الاستيلاء وبقية نظره علم رده مما تقرر فالصحيح ما قالوه من دلالة ذلك على الملك وحينئذٍ فكما أن السقي منه يدل على الملك لجميع الذين يسقون منه كما تقرر عن المتولي رد الحاجز هنا عن أرضين يدل على ملك أهلها له ولا نظر هنا لاتصاله بملك أحدهما ويفرق بينه وبين الجدار الذي ذكره السائل بأن الجدار ليس على ملكه لأحدهما بخصوصه قرينة إلا اتصاله بملك أحدهما اتصالاً لا يمكن إحداثه فحيث وجد هذا الاتصال حكمنا بملكه لمن اتصل كذلك بملكه وإلا حكمنا بأنه مشترك بينهما والحاجز هنا على ملكه لأَرباب الأراضي جميعهم قرينة وهي انتفاعهم به فعملنا بها ولم ننظر إلى اتصاله بأحدهما مطلقاً لأنه عارضه ما هو أقوى منه وأما الجدار فالاتصال المذكور فيه لم يعارضه شيء فلهذا حكمنا بقضيته وما ذكرته من(4/24)
أن ما ينبت عليه ملك للجميع هو المعتمد وقول البصريين ما نبت بنفسه لا يملكه مالكها ضعيف وكذلك قول الماوردي ما نبت بنفسه في مرصدة للزرع والغرس لا يملكه مالكها بخلاف المرصدة للكلأ فتفصيله ضعيف بل قال ابن الرفعة أنه غريب وقول السائل فهل هذه العادة متبعة معمول بها أم لا جوابه أنه لا عبرة بها في حط شيء من الثمن بسبب ما ذكر لأن البيع إذا وقع بثمن معلوم ملكه البائع واشتغلت به ذمة المشتري وقضية العادة لضعفها لا تقوى على إزالة شيء مما اشتغلت به الذمة يقيناً بل لا طريق هنا إلا الإِعطاء أو الإِبراء وأما اطرادها بأنه إذا بيع كل ذراع بشيء معلوم فلا يحتاج إليه أما إذا قلنا إن الحاجز المذكور ملك لجميع الأراضي كان بمنزلة حريم الدار لأن الحريم هو ما يتم به الانتفاع وبيع الدار دون حريمها لا يصح بشرطه المقرر في محله بخلاف ما إذا شرط دخوله أو لم يتعرض له فكذا يقال في هذا الحاجز أن شرط عدم دخوله بطل البيع والأصح ودخل حصة المبيع منه وإن لم يتعرض لدخوله والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/25)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو كانت أرض بين شخصين لواحد أعلاها وللآخر أسفلها فأخرب السيل أعلاها وأصلحه مالكها لكن بقي منخفضاً يأخذ أكثر من حقه ولا يجري إلى الأسفل إلا بزيادة على ذلك وطلب الأسفل حقه فما حكم ذلك وهل الإِصلاح على من أخرب السيل ملكه منهما واجب ليصل صاحبه إلى سقي ملكه سواء أوجبنا العمارة أم لا أو الحكم غير ذلك وما هو ذلك فلو انخفضت أرض الأسفل ولم يستقر الماء في أرض الأعلى إلا بعد الزيادة في السفلى على قدر الحاجة أو انخفض الحاجز الذي يرد الماء ولم يرد لصاحبه إلى شريكه ما يكفيه من الماء وأوجبنا العمارة لكن تعسر أو تعذر ردها على ما كانت عليه فما يكون الحكم في ذلك هل يغرم من وجب عليه الرد منفعة أرض صاحبه مدة التعطيل إلى أن يكمل الإِصلاح الواجب عليه كما في هدم السقف المستحق البناء عليه بجامع وجوب الإِعادة عليهما أو لا إذ لا تعدي من صاحب الأرض وهل رد الحاجز على من أخرب السيل ملكه المجاور للحاجز أو عليهما أو عمارة الحاجز تابعة لملكه فإن كان الملك فيه لهما فالعمارة عليهما أو لأحدهما فعليه أوضحوا لنا الجواب عن ذلك أثابكم الله الجنة. فأجاب: بأن صاحب الأعلى الذي أخربه السيل إذا أراد إصلاحه يلزمه أن يعيده كما كان فإذا أصلحه وبقي منخفضاً لزمه أن يفعل ما يمنعه من أخذ أكثر من حقه كأن يطمه حتى يرتفع إلى ما كان عليه أوّلاً فإن تعذر وقف حتى يصطلحا ولا يجب عليه إصلاح ملكه وإن توقف عليه سقي ملك الأسفل أخذاً من قولهم لا يجبر شريك على إعادة الجدار أو البيت المشترك إذا انهدم ولو بفعله كما لا يجبر على زرع الأرض المشتركة ولأن الممتنع يتضرر أيضاً بتكليفه العمارة نعم يجبر في الأرض على إجارتها وبهذا يندفع الضرر قال الشيخان : ويجري ذلك في النهر والقناة والبئر المشتركة واتخاذ سترة بين سطحيهما قال القاضي وغيره ولا يجبر أيضاً على سقي النبات من شجر وغيره وقول الحوري يجبر عليه اتفاقاً ضعيف وصرحوا(4/26)
أيضاً بنظير مسئلتنا وهو أنه لو كان علو الدار لواحد وسفلها لآخر وانهدمت فليس للأول إجبار الثاني على إعادة السفل ولا للثاني إجبار الأول على معاونته في إعادته انتهى فإن قلت صرحوا هناك أيضاً بأن للشريك إعادة المشترك بآلة نفسه لأن له غرضاً في وصوله إلى حقه بخلافه بآلة شريكه أو بالآلة المشتركة وبأن لصاحب العلو في الصورة السابقة بناء الأسفل بماله وقياسه هنا أن للأسفل إصلاح العليا إذا توقف وصوله لحقه عليه لأن له غرضاً في وصوله إلى حقه قلت يمكن أن يقال قياس الصورة الأولى ذلك وقد يومىء إليه قول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ فإن قيل أساس الجدار بينهما فكيف جوّزتم له بناءه بآلته وأن ينفرد بالانتفاع به بغير إذن شريكه قلنا لأن له حقاً في الحمل عليه فكان له الإِعادة أ هـ .
وكذا يقال في مسئلتنا له حق الإِجراء في العليا فإذا امتنع صاحبها من إصلاحها كان للأسفل إصلاحها حتى يصل إلى حقه ويمكن أن يفرق بين مسئلتنا ومسئلة الجدار المشترك بأن الشريك مالك للبعض وله حق الحمل على المنهدم فساغت له الإِعادة بخلاف الأسفل هنا فإنه ليس كذلك وأما الصورة الثانية أعني قولهم لصاحب العلو بناء الأسفل بما له فقياسها أن للأسفل هنا الإِصلاح أيضاً بجامع أن كلاً من صاحب العلو هنا والسفل ثم ليس مالكاً لشيء مما بنى فيه فكما سامحوا للأعلى في ذلك مع عدم ملكه للعرصة المبني فيها ولا لشيء منها حتى يصل لحقه وهو الحمل على ما بناه فقياسه أن يسامح هنا لذي السفلى في إصلاح العليا حتى يجري منها إلى أرضه وإذا انخفضت السفلى ولم يستقر الماء في العليا إلا بعد الزيادة المذكورة لم يلزم مالك السفلى ذلك نظير ما مر في التي قبلها نعم إن أراد إصلاحها ألزمه أن يردها إلى ما كانت عليه فإن تعذر وقف الأمر حتى يصطلحا وقياس ما مر أن لصاحب العليا إصلاح السفلى المتوقف عليه سقي أرضه ليصل إلى حقه وإذا انخفض الحاجز الذي يرد الماء فإن كان مختصاً بأرض(4/27)
أحدهما فإصلاحه إليه إن شاء فعله وإن شاء تركه وإن كان مشتركاً بين أرضيهما فإن اتفقا على إصلاحه فذاك وإلا لم يجبر أحدهما نظير ما مر في الجدار المشترك إذا هدمه أحدهما فعلم أنه لا يتصور وجوب إعادته وبهذا يتضح الفرق بينه وبين تشبيه السائل له بالسقف الذي ذكر نعم إن كان استحقاق الأسفل الإِجراء في ملك الأعلى بعقد بيع وأحزب الأعلى محل الإِجراء غرم للأسفل قيمة حق الإِجراء كما صرحوا به للفرقة بينه وبين حقه بما فعله حتى إذا أعيد محل الإِجراء أعيد الإِجراء ورد القيمة لزوال الحيلولة وما تقرر من غرم القيمة مبني كما في الروضة وأصلها على أن من هدم جدار الغير يلزمه أرش النقص لا إعادة الجدار وهو المعتمد سواء أكان الهادم هو المالك أو غيره خلافاً لما صوّبه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/28)
الإسنوى ك السبكي لأن الجدار ليس مثلياً كما جزم به الرافعي نعم إن أراد أنه إذا هدم جدار نفسه الذي استحق غيره البناء عليه لزمه إعادته لا من حيث كونه مثلياً بل من حيث إنه فوت بالهدم على المشتري المنفعة التي استحقها عليه بالعقد فلزمه تحصيلها بإعادة محلها اتجه ما قالاه ومنه يعلم أنه يجب هنا على الأعلى الذي أخرب محل الإِجراء الذي استحقه الأسفل بعقد البيع أن يعيده من حيث إنه فوّت عليه المنفعة التي استحقها عليه بالعقد فلزمه تحصيلها بإعادة محلها واعلم أن هادم الجدار لا يغرم أجرة البناء لمدة الحيلولة قال الإِمام لأن الحق على التأبيد وما يتقدر لا ينحط مما لا يتناهى دل الإسنوى وفي كلامه إشارة فيما إذا وقعت الإِجارة على مدة والمتجه عدم الوجوب لأن وجوب الأجرة للحيلولة إنما محله عند قيام العين أ هـ .
وبه يعلم عدم صحة التشبيه في قول السائل هل يغرم من وجب عليه الرد منفعة عين صاحبه مدة التعطيل إلى أن يكمل الإِصلاح الواجب عليه كما في هدم السقف المستحق للبناء عليه اهـ. ووجه رده ما تقرر في مسئلة البناء أنه لا يغرم أجرته لمدة الحيلولة فلو قال السائل هل يغرم من وجب عليه الرد قيمة حق الإِجراء الذي أحال بينه وبين مستحقه كما في هدم السقف الخ. لصح التشبيه كما يعلم مما قدمته وبما تقرر أوّلاً علم الجواب عن قول السائل وهل رد الحاجز الخ.
فائدة: إذا انهار النهر المشترك أو القناة المشتركة وانقطع ثم تولى أحد المستحقين إصلاحها أو عمارتها لم يكن له منع الباقين عن الماء لأنه ينبع مشتركاً بينهم وليس لأحد أن يمنع المالك من الارتفاق بملكه والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/29)
وسئل: عما لو كانت أرض لاثنين لأحدهما أعلاها أي من المكان الذي يلي مصب الماء وللآخر أسفلها والماء يجيء فيه التراب فأراد الأسفل أن يجعل في ملكه حاجزاً لمنع التراب الآتي في الماء ويترك في الحاجز فتحاً يجري منها الماء إلى أرضه ويترك الضرر من التراب على صاحبه الذي أرضه مجاورة لمصب الماء فهل له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه أو لا لإِضراره بملك صاحبه لأن القاعدة أن الشخص يتصرف في ملكه بما يضر الملاك لا الأملاك فلو لم يكن ثم تراب يخشى الضرر بسببه هل يجوز ذلك أم لا ولو انعكس الحكم بأن أراد صاحب مصب الماء وهو الأعلى أن يجعل في أرضه حاجزاً أو يترك للأسفل فتحاً يخرج منه الماء إلى الأسفل هل له ذلك أم لا فلو كانت أرض الأسفل يخشى خرابها فخاف الأعلى أن يخرج الماء عن جميع أرضيهما فأراد الأعلى أن يجعل الحاجز لأجل ذلك فهل له ذلك أم لا فقد أفتى بعض فقهاء تلك الجهة بالمنع معللاً ذلك بأن الأسفل يستحق الشرب من جميع أجزاء الأرض العليا من غير تخصيص بالبعض فهل ما قاله مقرر أم لا ويفرق بين الضرورة وعدمها. فأجاب: بأن الذي يتجه في ذلك أنه إن اعتيد نصب مثل الحاجز المذكور في نظير ذلك جاز له ذلك وإن أضر أرض جاره فإن لم يعتد ذلك وضر أرض جاره منع منه ويشهد له قولهم في باب إحياء الموات متى تصرف في ملكه على العادة جاز وإن تضرر به جاره ولا ضمان عليه إذا أفضى إلى تلف كما لو اتخذ بئراً على الاقتصاد المعتاد في داره أو حفر فيها بالوعة كذلك فاختل بأحدهما حائط جاره أو نقص به ماء بئره أو تغير بالنجس بخلاف ما لو جاوز العادة فإنه يمنع مما يضر بالملك دون المالك أ هـ .
وإذا أراد صاحب العليا أن يجعل فيها حاجزاً أو يترك منافذ يخرج الماء منها إلى الأسفل لم يجز له ذلك إلا بإذن صاحب السفلى لأن من استحق السقي بطريق لا يجوز أن يفعل له بدلها إلا برضاه ولا نظر إلى أن هذه المنافذ تكفي أرضه لأن الماء قد يقل فيرده الحاجز عن السفلى فلا(4/30)
يصل لها من المنافذ ما يكفيها أو ما يساوي ما كان يصل لها لو لم يكن هناك ذلك الحاجز ومما يصرح بذلك قول التتمة لو استحق إجراء الماء في نهر في أرض إنسان فأراد تحويله إلى موضع آخر من الأرض لم يمكن منه وفي وجه أنه إذا كان تحوله إلى بقعة هي أقرب إلى أرضه من الموضع الأول يلزمه لأنه روي فيه عن قضاء عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ وإسناده منقطع أ هـ .
فانظر إلى كونه منع تحويله إلى موضع آخر وإن كان إلى أصلح وأنفع من الأول فامتناع ما في مسئلتنا أولى لأن ما يريد يفعله من فتح المنافذ أدون من الأول الذي كان يستحقه الأسفل وبهذا يعلم أن ما نقل في السؤال عن بعض الفقهاء من أنه أفتى بالمنع في الصورة المذكورة في السؤال صحيح مقرر مؤيد بتصريح صاحب التتمة بما يوافقه ولا نظر في مثل ذلك للضرورة ولا لعدمها كما اقتضاه قول التتمة أيضاً لو كان لصاحب الأرض نهر ممتد في الأرض إلى طرف ملك جاره وليس لجاره نهر يجري فيه الماء إلى ملكه فأراد إجراء الماء في نهر جاره واحتاج صاحب الأرض إلى سقي أرضه وسوق الماء فيه لم يلزمه تمكينه وإن لم يكن مالكه محتاجاً إلى سوق الماء فيه كما لا يلزمه تمكين الغير من سكنى داره التي لا يحتاج إليها أ هـ .
ملخصاً فإن قلت هذا الحاجز لمصلحتهما فلم لم يجبر الممتنع منه عليه إذا لم يكن فيه ضرر بوجه قلت غايته أن فيه إصلاحاً للملك أو عمارة له وقد تقرر أن لا إجبار على ذلك مطلقاً فإن قلت: سلمنا أن الممتنع لا يجبر لكن لم جاز للأسفل المنع منه كما قررته مع ما فيه من الإِصلاح وعدم الضرر فيه على الأسفل بل فيه عود مصلحة على ملك الأسفل قلت لا ضرورة إلى كون الحاجز يفعل في أرض الأعلى ويفتح منها منافذ يخرج منها الماء لأرض الأسفل لإِمكان أن يجعل الحاجز في آخر أرض الأسفل وعلى تقدير أن لا يمكن ذلك فالشخص لا يجبر على السكوت عن حقه لمصلحة غيره وإن كان فيه مصلحة تعود عليه نعم إن كان ذلك الحاجز يسيراً تمكن إزالته في(4/31)
الحال واضطر إلى وضعه وأراد وضعه زمناً قليلاً بقدر الضرورة ثم رفعه ولم يحصل للأسفل منه ضرر بوجه بأن يحول الماء الجاري إلى أرضه إلى محله كإن وضع الحاجز المذكور في مجراه وفتح فيه منافذ تكفي أرض الأسفل احتمل حينئذٍ أن يقال بأنه يمكن من ذلك أخذاً بإطلاق التتمة السابق والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو وجدنا في أرض حواجز والماء يخرج بين الحواجز إلى أسفل هذه الأرض وأعلاها لجماعة وأسفلها لآخرين فادعى بعض الأسفلين حدوث الحواجز بغير حق وطلب إزالتها وسقي نصيبه من جميع الأرض العليا من غير تخصيص بفتح وثبت ذلك في حقه واعترف بعض شركائه بكون الحواجز موضوعة بحق فما حكم ذلك ولو ادعى ذلك جميع الأسفلين لكن حلف بعضهم ونكل بعض فما الحكم في ذلك. فأجاب: بأن دعوى بعض الأسفلين حدوث الحواجز بغير حق مسموعة لكن يلزم من أنكر أحداثها ومن ادعى أنها موضوعة بحق الحلف على ذلك فإن نكل من لزمه يمين كذلك عنها حلف المدعي على أنها موضوعة بغير حق ثم يزال حينئذٍ ما يخص الناكل منها فإن نكل الأعلون جميعهم حلف الأسفلون وأزيلت كلها وبما تقرر علم أن من ادعى أحداثها بغير حق لا يقبل قوله بمجرده بل لا بدّ من بينة على ذلك وإلا صدق من ادعى أنها موضوعة بحق بيمينه لأن الظاهر وضعها بحق كما يصرح بذلك قول الشيخين وغيرهما. لو وجدنا جذعاً لإِنسان موضوعاً على جدار لآخر ولم نعلم كيف وضع فالظاهر أنه وضع بحق فلا ينقض ويقضي له باستحقاقه دائماً فلو سقط الجدار وأعيد فله إعادة الجذع ولمالك الجدار نقضه إن كان مستهدماً وإلا فلا أ هـ .
فإن قلت يعكر على ذلك ما أفتى به البغوي من أنه لو كان يجري ماء في ملك غيره فادعى المالك أنه كان عارية قبل قوله قلت: أما الفرق بين هذه وصورة السؤال فواضح لأن اليد في الحواجز لجميعهم واليد تدل على الملك والاستحقاق فلذا لم يقبل قول من(4/32)
يدعي عدم الاستحقاق لأن الأصل عدم التعدي بخلاف من يدعي ملك المجرى في صورة البغوي فإن اليد ليست له بل لمالك الأرض التي فيها المجرى فإذا ادعى أنه ليس ملك الآخر وأنه إنما يجريه فيه عارية قبل قوله لقوّته بكون اليد عليه له وهي تدل على الملك على أنه لم يدع تعدي صاحب الماء فلا جامع بين مسئلته وصورة السؤال وأما الفرق بين صورة البغوي وصورة الشيخين فيما إذا ادعى صاحب الجدار وضع الجذع عليه بغير حق وادعى صاحب الجذع وضعه بحق فيحكم لصاحب الجذع بالظاهر من أنه موضوع بحق وتفرض مسئلة البغوي فيما إذا اتفقا على أن الماء يجري بحق لكن قال المالك عارية وقال مالك: الماء إجارة أو بيع فيصدق المالك لأن العارية أدنى الأنواع الثلاثة فهي محققة وما عداها مشكوك فيه والأصل عدمه فلذا صدق المالك وهذا أقرب عندي وبه يعلم أنهما لو اتفقا في مسئلة الجدار على وضع الجذع بحق وقال المالك: عارية وقال مالك: الجذع إجارة أو بيعاً صدق المالك وأن مالك الأرض في مسئلة البغوي لو قال هذا الماء يجري بغير حق وقال مالكه بل يجري بحق ولم يعلم كيف وضع قضى له باستحقاقه دائماً وهذا جمع حسن إن شاء الله ولعله مرادهم وإن لم يصرحوا به بل يتعين المصير إليه توفيقاً بين كلام الشيخين والبغوي فإن كلامه نقله جمع متأخرون وأقروه مع ذكرهم كلام الشيخين السابق قبله بقليل ولم يعترضوا أحدهما بالآخر فدل على أن كلاً من الكلامين معتمد وقد علمت ما فيهما وأنه لا يصح الجمع بينهما إلا بهذا الحمل الذي ذكرته والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والهداية وهو أعلم بالصواب ثم رأيت عبارة البغوي في فتاويه تومىء لما ذكرته فإنه قال فيها رجل يجري ماء بحر إلى ملك الغير فقال: صاحب الملك لا حق لك فيه إنما هو عارية وادعاه من كان يجري الماء فالقول قول صاحب الملك مع يمينه أ هـ .
فأفهم قوله لا حق لك فيه إنما هو عارية أن المراد لا ملك له فيه وقوله؛ وادعاه من كان يجري أنه إنما ادعى(4/33)
ملكيته وهذا هو عين ما قدمته في تصوير كلامه قبل أن أرى عبارته هذه والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال: في الروضة في الأراضي التي تشرب على التعاقب ولم يحبس الأول الماء في أرضه وجهان الذي عليه الجمهور أنه يحبس حتى يبلغ الكعبين والثاني يرجع في وقت السقي إلى العادة والحاجة وعليه فهل للعادة مقدار مقدر يعرف به ما تحتاجه الأرض العليا من الماء أي السيل الأول ثم ما يليه إذا اتبعت السيول فإن عادة أهل البحار الأسف على الماء خصوصاً في جهتنا ما يخرجون شيئاً من الماء إلا وهم يقدرون على حفظه وهل يقال إن العادة في ذلك ما يرد به الشجر والثمر والزرع ونحوها. أم هو غير ذلك وما هو. فأجاب: بأن معنى تقديم الأول فالأول المذكور في الروضة وغيرها أن كل واحد يحبس الماء إلى أن يبلغ الكعبين للحديث الصحيح أنه قضى بذلك والتقدير به هو ما قاله الجمهور للحديث وتبعهم الحاوي الصغير كالمحرر وغيره. لكن نقل الشيخان بعد عن الماوردي أن الأولى التقدير بأن كل واحد منهما إنما يقدم بقدر حاجته على ما اعتادوه في ذلك واعتمد ذلك السبكي و الأذرعي وغيرهما، وجزم به المتولي وما في الحديث واقعة حال مع احتمال أنه عادة أهل الحجاز فمن ثم كان الأولى والأضبط التقدير بالحاجة لأنها تختلف باختلاف الأرض وباختلاف ما فيها من زرع وشجر وبوقت الزراعة وبوقت السقي وبهذا يعلم الجواب عن قول السائل وعليه فهل للعادة الخ. لأن المراد بالعادة الحاجة كما تقرر ومن ثم قال: في الروضة إلى العادة والحاجة فبين بعطف الحاجة على العادة أن المراد الحاجة على قدر عادة أهل تلك الناحية والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/34)
وسئل: لو ثبت أن هذه الساقية أي النهر مسقى لأهل هذا النخل وأن هذا النخل يشرب أوّلاً، ثم هذا ثم إن النخل المقدم المتقدم شربه تعطل بأن ارتفع على من خلفه بسبب إهمال مالكه فصار لا يدخله إلا قليل من الماء بحيث لا يصل إلى من خلفه الذي مترتب شربه على شربه فهل يجبر الأول على تعميق المرتفع من أرضه حتى يسقي من خلفه فإن قلتم نعم فامتنع وأراد من خلفه أن يعمقه ليصل الماء إليه فهل يمكن من ذلك فإن قلتم نعم فذاك وإن قلتم لا فقد تعطل شرب من خلفه بسببه وهذا إضرار. فأجاب: بأن الجواب عنه مر مبسوطاً في الجواب الرابع والعشرين والخامس والعشرين وحاصله أن الأول لا يجبر على تعميق المرتفع من أرضه وأن لمن خلفه أن يعمقه حتى يصل الماء إليه كما مر ثم مع بيان ما يؤيده وإذا فرض أنه أصلحه عاد حق الأول بحاله وصار مقدماً على من بعده كما علم بالأولى مما مر في الفائدة المذكورة آخر الجواب الرابع والعشرين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو جرت العادة ببلد أن الأوّل يسد الماء على من بعده بتراب معلوم أو حجر معدود أو بخشب أو سعف نخل هل هذه العادة لازمة متبعة مع عدم انضباطها وإن اطردت أم لا مع أنه لا خفاء أن التراب يسد جميع الماء بحيث أنه لا يخرج إلى الأسفل شيء بخلاف ما ذكر بعده. فأجاب: بأنه لا خفاء أن الحق للأول فيسد إلى تمام حاجته عمن بعده بما شاء من حجر وغيره نعم أن اعتيد السد بشيء ينزل من خلاله شيء إلى أرض من بعده وكان في ذلك نفع لها بما يصلها من هذا الماء القليل قبل أن يأتيها الماء الكثير وأطردت العادة بذلك فلا يبعد أن يجب على الأول أن يسد بذلك ولا يجوز له السد بما يمنع أكثر مما اعتيد فضلاً عن أن يسد بما يمنع بالكلية والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/35)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في أرضين مستويتين أو عليا وسفلى بينهما حاجز هل اليد فيه لمالكيهما على السواء أو يختص به صاحب العليا وكلامهم في المياه يقتضي الأول ولو كان عليه شجر كنخيل هل يختص به صاحب الشجر دونهما أو ببعض منه. فأجاب: بأنه يعلم مما مر مبسوطاً أواخر الجواب الحادي والعشرين وحاصله أن الذي دل عليه كلامهم أن اليد في الحاجز المذكور لملاك الأرضين وإن ما ينبت عليه لهم أيضاً ولا يختص به أحدهم نعم إن كان فيه شجر لغيرهم فاليد فيه لمالك الشجر فيما يظهر لأن دلالة الشجر على ملك مغرسه لمالكه أقوى من دلالة انتفاع الأراضي به من حيث حبسه للماء حتى يعمها ويسقيها على ملك مالكيها له لأن الأول أمر حسي متصل به وثابت والثاني مجرد انتفاع وهو أمر تقديري منفصل عنه ولا خفاء أن الأول أقوى فيدل على أن الملك فيه لمالكه فإن قلت يحتمل أن النخل كان لهم وباعوه لأجنبي من غير شرط القلع وحينئذٍ فهو إنما يستحق بقاءه فيه من حيث استحقاقه منفعة المغرس ما بقي الشجر فيه قلت: لا نظر لهذا الاحتمال على أنه يحتمل أيضاً أن الأرض لصاحب النخل وإنما ساقياه على تلك الأراضي ويكون مالكها أذن لهم في جعلها حاجزاً لمياههم فلما تعارض الاحتمالان قدمنا الأقوى في الدلالة على الملك وهو النخل هذا كله حيث لا بينة لهم وإلا قدم من شهدت له البينة بملكه ولأصحاب الأرض تحليف صاحب النخل أن الملك له هذا كله إن كان الحاجز هو مغارس النخل أما لو كان غير المغارس فيكون هو لملاك الأرض وتكون هي لمالك الشجر والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/36)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو ادعى جماعة على شخص أنهم يستحقون الشرب من أرضه لأرضهم أو شجرهم ولا بينة لهم ورد اليمين عليهم فحلف بعضهم ونكل بعضهم والحال أنه لا يمكن أفراد نصيب الحالف بالسقي فما حكم ذلك وكذلك لو ادعوا استحقاق الشرب من نهره لأرضهم واقتضى الحال تحليف بعضهم ونكول بعض فهل يفوت حق الحالف حذراً من استحقاق من لم يحلف بيمين غيره أو يرسل للحالف بمقدار نصيبه من الشرب فقط وإن أدى إلى أن يسقى بذلك القدر المرسل بينه وبين من لم يحلف وفي فتاوى الفقهاء المتأخرين من جهة السائل كلام ظاهره التناقض. فأجاب: بأن المدعين لاستحقاق الشرب إما أن تكون أرضهم واحدة وهم مشتركون فيها على الإِشاعة أو متعددة متمايز بعضها عن بعض وتعذر سقي نصيب أحدهم في الصورة الأولى ظاهر بخلافه في الصورة الثانية وعلى كل فمن حلف بعد نكول جاحد استحقاق الشرب من أرضه أو نهره استحق نصيب شرب أرضه من أرض الناكل أو نهره ثم إن قسمت المشتركة في الصورة الأولى وأمكن سقي نصيبه فيها وفي الثانية فواضح وإن لم يقسم أو فرض على بعد عدم سقي أرضه أو شجره لم يسقط حقه بل إذا طلبه أرسل له بقدره ولا نظر لعود نفعه على غيره إذا رضي هو بذلك فإن قلت: ينافي ذلك قول الروضة لو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء وسقى به أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر منع منه لأنه يجعل لها شرباً لم يكن قلت: كلام الروضة إنما هو كما نرى فيمن أراد أن يأخذ نصيبه ويسقي به أرضاً ليس لها رسم شرب بالكلية وهذا لم يرد سقي أرض شريكه أصلاً وإنما أراد سقي أرض نفسه التي ثبت لها رسم شرب لكنه لا يمكن إلا بسقي أرض شريكه أو جاره إن فرض فلا يمكن أن يفوت عليه حقه مع عذره بخلاف ما في مسئلة الروضة فإنه متمكن من سقي أرضه التي لها رسم شرب فإذا أراد مع ذلك أن يأخذ نصيبه الذي لها ويصرفه إلى أرض أخرى له أو لغيره منع منه لما ذكره في الروضة ويؤيد ما ذكرته ما أفهمه كلام الروياني من أن(4/37)
محل المنع ما إذا ساق الماء إلى الأرض التي ليس لها رسم شرب ابتداء أما لو ساقه إلى أرضه المستحقة للشرب ثم نقله منها إلى أخرى فإنه يجوز ويوافقه قول الروضة وأصلها في مبحث قسمة الماء ويسوق كل واحد نصيبه في ساقيته إلى أرضه وله أن يدير رحى بما صار له أ هـ .
فدل كلامهما على أن له أن يدير به الرحى ولو في أرض أخرى له وحينئذٍ فإذا جاز له ذلك فلأن يجوز له ما ذكرناه في صورة السؤال بالأولى لأن الأرض الأخرى التي يدير الرحى فيها هنا منفردة لا ضرورة إلى الإِدارة فيها بخلاف سقي أرض الشريك أو الجار من نصيبه في مسئلتنا فإنه مضطر إليه لتوقف سقي ملكه عليه فإن قلت: قيد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/38)
المحاملي ما في الروضة وأصلها بما إذا كان يديرها في أرضه التي لها رسم شرب منه قلت: كلامهما لا يقتضي هذا التقييد فيحتمل اعتماد إطلاقهما ويحتمل الأخذ بقضية التقييد وعليه فلا ينافي ما قلناه لما علمته من الفرق بينه وبين مسئلتنا من أن هذا لا ضرورة إليه بخلاف ما في مسئلتنا فإن قلت ما ذكره فيها هل هو في النهر المباح أو المملوك قلت: ظاهر كلامهما أنه في المملوك ويوافقه قول الروياني وإن كان الشرب في نهر غير مملوك فأراد أن ينقل إلى أرض أخرى فينبغي أن يجوز إذا لم يضيق الماء وإلا قدم الأسبق وتنظير الأذرعي فيه في قوته بأنه قد لا يضيق الآن ويضيق فيما بعد فيثبت له على طول الأمد شرب فيه لا أصل له يرد بقول الروضة وأصلها في النهر المباح ولو أراد رجل إحياء موات وسقيه من هذا النهر فإن ضيق على السابقين منع لأنهم استحقوا أرضهم بمرافقها والماء من أعظم مرافقها وإلا فلا منع وسلك في توسطه طريقة أخرى وهي أن ما في الروضة من المنع محله إذا قلنا إنهم لا يملكون الماء وما في غيرها. كالكافي وجرى عليه الدارمي وغيره من عدم المنع في صورة الروضة محله ما إذا كان الماء مملوكاً لهم فله أن يفعل بنصيبه بعد إفرازه ما شاء وإذا امتنعوا من ذلك أجبروا عليه وهذه الطريقة ضعيفة لأن صريح كلام الروضة يردها كما علم مما تقرر وبحث ابن الرفعة أن محل المنع في كلام الروضة في أرض يجعل لها رسم شرب وهو أعلى الساقية لأن فيه إثبات حق التقديم لها بخلاف ما إذا كانت في أسفلها بحيث لم يبق بعدها أرض لها حق شرب فيجوز لأنه بذلك لا يعطل على غيره حقاً. قال الأذرعي : وفيه نظر ظاهر لأنه يثبت لها حقاً عند تقادم العهد لم يكن استدلالاً بظاهر الحال عند انطواء معرفة أصل ذلك أ هـ .
وهو ظاهر فبحث ابن الرفعة ضعيف.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/39)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن قول الروضة لو اشترك جماعة في الحفر اشتركوا في الملك على قدر عملهم ثم لهم قسمة الماء بنصب خشبة مستوية الأعلى والأسفل في عرض النهر ويفتح فيها ثقب متساوية أو متفاوتة على قدر حقوقهم هل ذلك على سبيل الإِجبار إذ لا يستوي النصيب من الماء إلا بذلك أم لا وهل يقوم البناء بالحجر ونحوه مقام الخشبة أم لا قال في الروضة لو تنازع الشركاء في قدر أنصبائهم هل يجعل على قدر الأرضين أم لا وصحح الأول هل ذلك إذا لم يكن ثم قواسم للماء فإن كانت فهل تدل على اليد أم لا فلو وجدنا الثقب متساوية مع تفاوت الأرضين أو بالعكس وذلك هو مع جهلنا بملك النهر في الأصل ولكن وجدنا عمل أهله الآن معلوماً فيه عند احتياجه إلى العمارة فما الراجح من ذلك عند تعارض الأرضين أو القواسم أو الرصدات بينهم أو العمل في عمارة النهر إذا لم يعلم أصل له. فأجاب: بأن قول الروضة لهم قسمة الماء بنصب خشب الخ. يدل على أنه لا إجبار على ذلك ويحصل الاستواء في الماء بغير هذه الطريق كما قدمته أوائل الجواب الحادي والعشرين فراجعه إذ يدل على ذلك أيضاً، قول الروضة: ولو أرادوا قسمة النهر وكان عريضاً جاز ولا يجري فيها الإِجبار كما في الجدار الحائل فإن قلت: يعارضه ما فيها وفي غيرها في الشفعة من أن من جملة ما يجبر عليه الطاحون والحمام والبئر والنهر إذا أمكن جعل كل اثنين وكذا مسيل الماء إلى الأرض وبئر الزراعة قلت: الأول محمول على ما إذا كان النهر بين مزارع وهي على حافتيه من الجانبين أو أحدهما كما يدل له تشبيه ذلك بالجدار الحائل والثاني محمول على حفر أنهار وسواق يأتي إليها الماء من الأودية العظيمة والفرق أن في ترك القسمة هنا ضرراً عظيماً فأجبرا عليه إزالة له بخلاف الأول فإنه لا ضرر في عدم القسمة بل فيها نفع والبناء بنحو الحجر إن أمكن أن يجعل فيه ثقب كما يجعل في الخشبة قام مقامها وإلا فلا ثم ما ذكر من عدم الإِجبار على القسمة(4/40)
بنصب الخشبة محله إن أمكنت القسمة بغير هذا الطريق كما تقرر أما إذا لم تمكن إلا بها فيجبر الممتنع عليها كما صرح به الأذرعي في توسطه حيث قال: عقب قول الروضة ثم لهم قسمة الماء بنصب خشبة الخ. قلت: ويتعين هذا الطريق عند التشاجر وعدم التراضي بالمهايأة لأنه طريق يصل به كل إلى جهة حقه في وقته من غير تأخير إذ في المهايأة تأخير أحدهم عن حقه فاشترط فيها التراضي أ هـ .
وما صححه في الروضة من أنه لو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصبائهم جعل على قدر الأرضين هو المعتمد وصورة المسئلة كما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/41)
المتولي أن النهر لا يعرف له أصل إلا أنه مملوك لهم يسقون أراضيهم منه واعترض البلقيني ما في الروضة بأن الأصح بمقتضى القواعد أنه بينهم بالسوية لأن القرائن لا ينظر إليها، قال: وقد ذكر في الروضة كأصلها في كتابة عبدين خسيس ونفيس على نجوم متفاوتة بحسب قيمتهما فاحضرا مالاً وادعى الخسيس أنه سواء بينهما والنفيس أنه متفاوت على قدر النجوم فالأصح أن القول قول الخسيس عملاً باليد ولا فرق بين الصورتين، وقال الشافعي : في الجدار لا أنظر إلى من إليه الدواخل والخوارج ولا إنصاف اللبن ولا معاقد القمط ونص في متاع البيت يختلف فيه الزوجان على أنه إذا كان في أيديهما يحلفان وهو بينهما ولا نظر إلى ما يختص بالرجل عادة ولا ما يختص بالمرأة أ هـ .
وتبعه ولده الجلال فقال: ينبغي أن يترجح أنه بالسوية لأنه في أيديهم، وذلك يقتضي الاستواء أ هـ .
وقد يفرق بين ما هنا وفي الكتابة بأن اليد هنا على النهر حكمية لا حسية لأن النهر ليس في قبضتهم يقيناً كما يعلم مما مر عن المتولي وإنما نزل استحقاقهم الشرب منه منزلة الاستيلاء عليه ويد المكاتبين على ما أحضراه حسية لا حكمية ولا شك أن اليد الحسية أقوى فلم ينظر لمعارضها من تفاوتهما في القيمة لأنه ضعيف مع دلالة اليد الحسية على الاستواء فعملوا به وهنا وجد لليد الحكمية الدالة على الاستواء معارض حسي وهو تفاوتهم في الأنصباء المستلزم غالباً أن النهر تكون الشركة فيه كذلك والحسي أقوى من الحكمي فقدم هذا المعارض لقوّته على اليد الحكمية لضعفها فاندفع قوله ولا فرق بين الصورتين فظهر أن بينهما فرقاً واضحاً وأما ما ذكره الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في مسئلة الجدار فاليد عليه حسية أيضاً، وتلك القرائن غير مطردة بل ولا غالبة فلم تقو على معارضتها فألغي النظر إليها وكذلك الزوجان يدهما على أمتعة البيت حسية وقد تكون يد الزوجة على ما يختص بالزوج وعكسه فلم يقو ذلك على دفع ما اقتضته اليد الحسية من(4/42)
الاستواء فظهر أن المسائل الثلاثة التي أوردها على مسئلتنا لا تشبهها لأنه وجد فيها يد قوية ومعارضها ضعيف والموجود في مسئلتنا يد ضعيفة ومعارضها قوي فلا جامع بينها وبين ما ذكره فاتجه ما صححه النووي رحمه الله واندفع ما أورده عليه البلقيني ومن تبعه وإذا قلنا بما في الروضة من أن الأنصباء تجعل على قدر الأرضين ووجدنا الأرضين متفاوتة والثقب متساوية لم يكن تساويها بمجرده مقتضياً للتساوي في الأرضين أخذاً من قولي الروضة وأصلها ويجوز أن تكون الثقب متساوية مع تفاوت الحقوق إلا أن صاحب الثلث يأخذ ثقبة والآخر ثقبتين أ هـ .
فإذا تنازع الشركاء حينئذٍ وزعم بعضهم الاستواء في السقي لاستواء الثقب وبعضهم الاختلاف فيه على قدر الأرضين وأنه يستحق من الثقب المتساوية على قدر ملكه صدق الثاني لأن الظاهر معه إذ الاختلاف في الأنصباء يدل على الاختلاف في الأرضين والتساوي في الثقب لا يدل على الاستواء في الأنصباء لما علمته من عبارة الروضة المذكورة أما لو اتفقوا على استوائهم في الثقب وادعى بعضهم الاختلاف في الأنصباء عملاً باختلاف الأرضين وبعضهم الاستواء فيها عملاً بتساوي الثقب فإن الثاني هو المصدق بيمينه فيما يظهر لأن الاستواء في الأنصباء يمكن مع اختلاف الأرضين من غير تراض بل قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/43)
البلقيني : أنه الصواب كما مر عنه مع الرد عليه والاختلاف في الأنصباء لا يمكن مع الاستواء في الثقب إلا بالتراضي فلم يكن اختلاف الأرضين مرجحاً في هذه الصورة وكان الاستواء في الثقب مرجحاً فقدم وحكم الاستواء في العمارة حكم الاستواء في الثقب فإذا اتفقوا على الاستواء فيها وادعى بعضهم الاختلاف في الأنصباء عملاً باختلاف الأرضين وبعضهم الاختلاف فيها عملاً بالتساوي في العمارة صدق الثاني لنظير ما تقرر فإن تعارض هذان الأمران بأن استووا في الثقب وتفاوتوا في العمارة أو بالعكس فهو محل نظر ويتجه تقديم الثقب لأنها علامات مستمرة يكثر فيها المنازعة والمشاحة فيبعد الاتفاق فيها على التراضي باستوائهما مع اختلاف الأنصباء وباختلافهما مع تساوي الأنصباء بخلاف العمارة فإنها خصلة واحدة لا يكثر وقوعها ويغلب فيها المسامحة بين الشركاء فكانت دلالتها ضعيفة بالنسبة لدلالة الثقب وإن كانت قوية في نفسها ومن ثم لو انفردت عن الثقب عملنا بها كما مر وبما قررته يعلم الجواب عن قول السائل نفع الله به فلو وجدنا الثقب متساوية الخ. السؤال والله أعلم.(4/44)
وسئل: لو وجدنا ثقباً في نهر بعضها مرتفعاً وبعضها منخفضاً أو بعضها متسعاً وبعضها ضيقاً مع إمكان إحداث الارتفاع والانخفاض والسعة والضيق ونحوه. هل يدل شيء من ذلك على اليد أم لا ولو رفعها الرفعة أرضه بسيل أو وضع تراب من المالك وامتنع الآخر من غير ضرر على الممتنع وقال للطالب اخفض أرضك لينالها الماء والخفض يشق عليه أو يضعف بسببه الإِنبات ورفع القواسم أسهل فمن المجاب منهما. فأجاب: بأن الذي دل عليه كلامهم أنا إذا وجدنا ثقباً في النهر متفاوتة في السعة والضيق والارتفاع والانخفاض ولم نعلم أصل ذلك هل هو قديم أو حادث حكمنا بأنه قديم موضوع بحق دال على اليد لمستحقيه وأقررناه على حكمه فمن ادعى حدوث شيء من ذلك بغير حق كلف البينة فإن لم يكن له بينة حلف له المدعى عليه ولا يجبر الممتنع من تغييرها عما هي عليه سواء أكان عليه ضرر في ذلك أم لا وإنما على صاحب الأرض التي رفعها السيل تنظيفها إن أراد سقيها سواء أشق عليه ذلك وضعف بسببه الإِنبات أم لا كما علم مما قدمته عن التتمة في الجواب الخامس والعشرين أما إذا أراد إصلاح الثقب المتعلقة به وحده من غير تغيير لها عن محلها ولم يكن على شركائه ضرر في ذلك بوجه فلا يجابون إلى منعه لأنه محض تعنت مع تصرفه فيما يستحقه دون غيره بل يجاب هو إلى ذلك سواء أكان لإِزالة ضرر أم لزيادة نفع لأرضه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/45)
وسئل: لو كان لاثنين أرضان إحداهما تشرب قبل الأخرى وماء السفلى يخرج من العليا فأراد صاحب العليا أن يرفع مخرج الماء إلى الفتحة التي في الزبير التي يخرج منها الماء إلى الأرض السفلى وأراد أن يحول الفتحة إلى مكان آخر من الزبير مع أن الماء ينزل في الأرض السفلى في الحالين فهل له ذلك أم لا وقد قال بالمنع في صورة رفع الفتحة بعض أكابر فقهاء الجهة معللاً ذلك بأن الرفع يؤدي إلى أن تأخذ العليا فوق قدر الحاجة لمنع خروج الماء برفع منفذ الماء فهل هو كما قال أم لا. فأجاب: بأن الذي دل عليه صريح كلام التتمة السابق في الجواب الخامس والعشرين أنه حيث أراد تحويل المنفذ من محله إلى محل آخر ولم يرض شريكه منع مطلقاً سواء أكان يحوله إلى محل أصلح له من الأول أم لا والتفصيل بين الأصلح وغيره وجه ضعيف مر ثم عن التتمة استدلالاً بفعل عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ لكنه مردود بأن أثر عمر منقطع ويوافق ذلك قول الروضة وأصلها ولو أراد أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى أرضه أو تأخيره لم يجز بخلاف ما لو قدم باب داره إلى باب السكة المنسدة لأنه يتصرف هناك في الجدار المملوك وهنا في الحافة المشتركة أ هـ .
وعلى هذا يحمل ما أفتى به من ذكرتموه من بعض أكابر فقهائكم وحيث أبقي المنفذ على محله وسعته أو ضيقه وإنما أراد إصلاحه بما يعود منه نفع على أرضه وأرض من بعده أو على أرضه فقط ولا ضرر في ذلك على من بعده بوجه فإنه لا وجه لمنعه حينئذٍ من ذلك ولا ينافي ذلك قول الروضة وأصلها ولو أراد الشركاء الذين أرضهم أسفل توسيع فم النهر لئلا يقصر الماء عنهم لم يجز إلا برضا الأولين لأن تصرف الشريك في المشترك لا يجوز إلا برضا الشريك ولأنهم قد يتضررون بكثرة الماء وكذا لا يجوز للأولين تضييق فم النهر إلا برضا الآخرين أ هـ .
ووجه عدم المنافاة أن ما في مسئلة الروضة إضرار وتصرف في السعة والضيق بخلاف ما في مسئلتنا فإنه ليس فيه شيء من ذلك فإن(4/46)
قلت الإِصلاح الذي في مسئلتنا فيه تصرف في المشترك وقد صرح الشيخان بامتناعه قلت: محل امتناعه حيث لم يقصر الشريك بدليل قولهم لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحدهما بناءه بخالص ماله بعد امتناع صاحبه جاز كما مر مبسوطاً بما فيه في الجواب الرابع والعشرين فكما جاز هناك فليجز ما ذكرناه هنا إذا امتنع شركاؤه من الإِصلاح معه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو وجدنا أرضين يشربان معاً وتحت أحد الأرضين أرض ثالثة تشرب من التي فوقها بعد ريّ الأخرى وقلنا إن العبرة عند الاختلاف بقدر الأراضي فهل يدخل المتأخر شربه في التقدير أو يختص التقدير بالمتقدم شربه وهل على المتأخر شربه مثل المتقدم في مصروف عمارة النهر إذا قلنا بالإِجبار وهل يعرف التقدير في الأرضين بالمساحة أو بالتقويم فإن أرضاً قليلة المساحة قد تكون خيراً من أرض كثيرة المساحة. فأجاب: بأن الذي دل عليه كلام الروضة أن الأرض المتأخر شربها إذا كان شربها من ذلك النهر دون غيره تدخل في التقدير فيستحق صاحبها من النهر بحصتها وعبارة الروضة كل أرض أمكن سقيها من هذا النهر إذا رأينا لها ساقية منه ولم نجد لها شرباً من موضع آخر حكمنا عند التنازع بأن لها شرباً منه انتهت والمعتمد أنهم لا يجبرون على عمارة النهر كالشركاء لا يجبرون على إعادة المشترك إذا انهدم ثم إذا اجتمعوا على الإِصلاح جبراً على الضعيف أو اختياراً على الصحيح. قال الماوردي في حاويه: اختلف الناس في مؤنة الحفر كيف تكون بينهم فذهب أبو حنيفة إلى أنهم يجتمعون مع الأول فيحفرون معه حتى إذا انتهى إلى آخر ملكه خرج وحفر الباقون مع الثاني فإذا انتهى لآخر ملكه خرج وحفر الباقون مع الثالث وهكذا حتى ينتهي إلى الأخير فينفرد وحده بحفر ما يليه وسبب ذلك أن ماء النهر كله يجري على أرض الأول فاشترك الجميع في حفره وماء الأول لا يجري على الثاني فلم(4/47)
يلزمه أن يحفر معه وذهب الشافعي رحمه الله تعالى والجمهور إلى أن مؤنة الحفر مقسطة بينهم على قدر أملاكهم إلا أن منهم من قسطها على مساحات الأرضين وقدر جريانها لأن الماء الجاري يسيح عليها على قدر مساحتها وجريانها ومنهم من قسطها على مساحة الأرضين التي على النهر وهو أشبه بمذهب الشافعي وقول أصحابه لأن مؤنة الحفر تزيد بطول مساحة الوجه الذي على النهر وتقل بقصره فوجب أن يكون معتبراً به أ هـ .
كلام الحاوي ملخصاً وهو مشتمل على فوائد وتبعه الروياني كعادته على ذلك في بحره وعبارة الشيخين توافق ذلك وتنقية هذا النهر وعمارته يقوم بها الشركاء بحسب الملك وهل على واحد عمارة الموضع المستفل عن أرضه وجهان أحدهما لا وبه قطع ابن الصباغ لأن المنفعة فيه للباقين وبما تقرر يعلم أن الذي دل عليه كلامهم أن التوزيع في الأرضين إنما هو بحسب مساحتها لا قيمتها لأن الأرض كلما زادت مساحتها زاد شربها فلزم صاحبها أكثر من صاحب ما هي أصغر منها ولا نظر لتفاوت القيم لأن ذلك لا دخل له هنا كما هو جلي والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/48)
وسئل: لو كانت أرض مقدمة في الشرب على غيرها من الأراضي ولم تجر العادة فيها إلا بالزرع وما في معناه مما يكتفي بالماء القليل فهل لصاحبها أن يحدث فيها شجراً ونحوه مما يحتاج لزيادة ما يعتاد من الماء أم لا لأن الأرض قد تكون مشاعة فيشترطون عند القسمة الانتفاع بنوع خاص للمقدم بالشرب فهل يصح هذا الشرط ويلزم أو يكون مفسداً وما الذي يصح من الشروط في القسمة بتقديم في السقي أو تأخير على خلاف المعهود أو بشرط الزرع دون الغرس وما الذي لا يصح من ذلك. فأجاب: بأن من أراد إحداث نحو شجر في أرضه مما يحتاج لزيادة سقي لا يطلق القول بمنعه بل فيه تفصيل كما هو ظاهر وذلك لأن أرضه تكون بعدها أرض أخرى تستحق الشرب مما يصل إليها زيادة أو لا يكون بعدها شيء بأن تكون هي آخر الأراضي التي تشرب من ذلك النهر ففي الحالة الأولى يمنع من إحداث ما ذكر فيها لأن فيه إضراراً على من بعده وفي الحالة الثانية لا وجه لمنعه لأن ما ينزل في أرضه من الماء لا حق لأحد فيه فله أن يتصرف فيه بما أراد وفي الحالة الأولى لو أراد بعضهم أن يحدث في أرضه ما لم تجر العادة به مما يأخذ أكثر مما يعتاد من الماء فمنعه شركاؤه فقال أنا أسوق له من محل آخر ما يكفيه من الماء فهل يجاب هو أو هم وقضية ما مر عن الروضة في الجواب الحادي والثلاثين من أنه لو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر منع لأنه يجعل لها رسم شرب لم يكن أنهم يجابون لأنا إذا مكناه من غرس ما ذكر كان فيه أضرار بهم على طول الزمان لأنه حينئذٍ قد يستدل بغرسه في الأرض المستحقة للشرب أنه يستحق الشرب أيضاً فإن قلت يمكن الفرق بين الصورتين بأنه هنا لم يفعل ما فيه ضرر عليهم الآن لأن الفرض أن ما أحدثه من الغرس ساق له من الماء ما يكفيه وثم أحدث ما يضرهم الآن وهو إجراء ماء أراضيهم إلى غيرها. وفرق بين الضرر الحاصل والمتوقع قلت: هذا الفرق ممنوع فإنه لم يفعل ما(4/49)
يضرهم الآن وإنما جاء الضرر من أنه إذا استمر يسقي تلك الأرض من مائهم وتقادم العهد على ذلك حتى مات من يعرف أصلها ظن حينئذٍ أن لها رسم شرب فمن ادعاه صدق فيه عملاً بظاهر الحال فالضرر فيها إنما هو متوقع أيضاً فإن قلت: هذا يتصرف في ملكه هنا بالغرس ونحوه. فكيف يمنع من التصرف في ملكه قلت: وهنا يتصرف في مائه الذي هو ملكه أو مستحق له فكما قالوا: ثم بمنعه من التصرف في ملكه لكونه سبباً لجر الضرر على الشركاء في المستقبل لا يقينا بل احتمالاً فكذلك الضرر يمنع هنا من التصرف في ملكه بما يكون سبباً لذلك كذلك وأما الشرط في القسمة فإن كانت إفرازاً لم يؤثر لأنها ليست عقداً حتى يتأثر بالشرط الفاسد ويلزم فيها الشرط الصحيح وإنما معناها أنها تبين أن ما خرج لكل من الشريكين كان ملكه وإن كانت كذلك فلا يعتد بالشرط فيها مطلقاً وإن كانت بيعاً تأتي فيها التفصيل في الشروط الواقعة فيه وهو أنه ما وافق مقتضى العقد كان لازماً وإن لم يشرط فلا فائدة لذكره إلا التأكيد وما نافى مقتضاه يبطله إن وقع في صلبه أو في مجلسه وما لا ينافيه ولا يقتضيه يكون لغواً وجوده كعدمه فالأرض التي يقتسمونها هنا إن كانت مستوية الأجزاء صحت القسمة ولم يعتد بما وقع فيها من الشروط مطلقاً وإن لم تكن مستوية الأجزاء كانت قسمتها تعديلاً أو رداً وكلاهما بيع فإذا شرط فيها تقديم أو تأخير أو زرع فقط وكان ذلك ينافي مقتضاها بطل وأبطلها وإلا فلا والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/50)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو كان النهر الأصلي المملوك يتفرع منه سواق تنقسم على أراض فارتوى أحدهم أي أحد أهل السواقي المتفرعة قبل شريكه فهل يجب على المرتوي صرف الماء إلى شريكه في الفرع أو له صرفه كيف شاء فإن قلتم يجب الصرف إلى الشريك واحتاج صرف الماء إلى كلفة ومؤنة فهل ذلك على المرتوي أو على المصروف إليه وإذا ارتوى جميع المتفرعين عن النهر الأصلي فهل يجب عليهم صرف ما أخذوه من الماء إلى النهر الأصلي أم لهم صرفه كيف أرادوا فإن قلتم بصرفه إلى النهر الأصلي فهل يجب صرفه على المتقدم أم على المتأخر أم على الجميع أم على من تضرر بالماء أو يفرق بين الماء المباح وغيره. فأجاب: بأنه لا يجب على المرتوي صرف الماء إلى من بعده في السقي وإنما الذي يلزمه التخلية بين من بعده وبين الماء الذي استحق من بعده سقي أرضه منه فحينئذٍ إذا احتاج إلى مؤنة وكلفة كانت عليه لأن المنفعة بهذا الماء حينئذٍ خاصة به وليس على من ارتوى إلا التمكين فقط وعدم التصرف في الماء بما يضر من استحق السقي به لأنه لما فرغت حاجته منه صار مستحقاً للغير وما استحقه الغير لا يجوز التصرف فيه بما يضر ذلك الغير وإذا ارتوى جميع المتفرعين عن النهر الأصلي فتارة يكون ماء النهر مباحاً وتارة يكون مملوكاً لهم فإن كان مملوكاً لهم فكذلك لأن ما يصل إلى أرض كل منهم بالقسمة يملكه ملكاً مقيداً قبل استغناء من بعده ممن يستحق الشرب من أرضه ومطلقاً بعد استغناء من بعده وإذا ملكه ملكاً مطلقاً جاز له أن يتصرف فيه كيف شاء ولا يجب عليه رده إلى النهر أيضاً، نعم إن اعتيد رده إلى النهر المباح أو المملوك ليكون محفوظاً فيه إلى الارتواء منه لشركائه ثانياً حرم عليه التصرف فيه بما يمنع رده إلى النهر ولم يلزمه الرد إليه بل التخلية بينهم وبين رده إليه ومر في الجواب الحادي والثلاثين أن من أراد أن يأخذ نصيبه من ماء مباح أو مملوك على ما مر فيه ويسقي به أرضاً ليس لها رسم(4/51)
شرب من هذا النهر منع فلا يغب عنك استحضار ذلك هنا فمحل تصرفه فيه هنا كيف شاء ما لم يصرفه لأرض ليس لها رسم شرب من هذا النهر وإلا منع من ذلك لما مر ثم مبسوطاً ولو كان الماء مملوكاً لواحد وأباح لآخر السقي منه أو أعاره له بطريقه بأن أعاره محل نبعه جاز له التصرف فيه أيضاً كيف شاء ما لم يرجع المبيح أو المعير أما إذا رجع فيلزمه رده إليه والمؤنة عليه كما صرحوا به في المستعير والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: لو وجدنا ساقية يتفرع منها فروع بعضها في بطنها بناء بالحجارة كالثقب في الخشبة وبعضها أي الفروع خالية عن البناء فطلب الذي في بطن ساقيته البناء بقية شركائه أي أهل الفروع الذين لا بناء في سواقيهم أن بينوا مثله فهل يجبرون حيث لا ضرر عليهم سوى كلفة البناء أم لا ولو حصل الطلب من أحد الذين لا بناء عليهم في سواقيهم وطلب بعضهم بعضاً هل يجبر عليه الممتنع حيث لا ضرر على المطلوب منه أم لا وفائدة البناء الفرار من أن يخفض أحد الشركاء أرضه والساقية التي يجري فيها الماء فيفوز بكل الماء أو أكثره دون شركائه وبالبناء يزول المحذور في ذلك. فأجاب: بأنا حيث وجدنا بعض الفروع في باطنه بناء بالحجارة وبعضها ليس كذلك ولا ندري هل وضع كل من ذلك كذلك في الابتداء أو لا حكمنا بحقية كل ساقية أو فرع على ما هو عليه ولا يجب من طلب استواءها في البناء أو عدمه لأن الظاهر في كل موضوع لا يعلم أصله أنه وضع بحق فلا يجاب من طلب تغييره عما هو عليه سواء أكان في ذلك ضرر أم لا ولا نظر إلى أن أحدهم قد يخفض أرضه وساقيته فيفوز بكل الماء أو أكثره ولا إلى أن البناء يزيل هذا المحذور لأن الأصل عدم فعل ذلك وعلى تقديره فمن لم يفعل متمن من رفع الفاعل إلى الحاكم ليمنعه من ذلك والله الموفق للصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/52)
وسئل: لو أراد أحد الشركاء أن يأخذ نصيبه من هذا الماء المباح ويسقى به أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر المملوك أو يحيي تحتها مواتاً ويسقي ما أحياة بما صار إليه من هذا الماء هل له ذلك أم لا أو يفرق بين أن يكون ثم من يحتاج لفاضل الماء أم لا ولو كان يحتاجه في وقت دون وقت فما حكمه وقول الإِرشاد لا حادث ضيق يشير إلى الجواز عند عدم الضيق وما المراد من هذا الضيق المانع من سقي الحادث وعبارة الروضة ولو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر منع منه لأنه يجعل لها شرباً لم يكن أ هـ .
قال السمهودي في فتاويه وبهذا يعلم أنه لو زاد في الأرض التي لها رسم شرب من هذا النهر منع لأنه يجعل لتلك الزيادة شرباً لم يكن لكن قد يكون الماء الجاري في النهر واسعاً فإن منعناه أضررنا به وإن تركناه يحيي ويسقي أضررنا بشركائه إذا حكمنا عند التنازع بأن لها شرباً لم يكن ويجعل الملك في النهر على قدر الأرضين عند طول الزمان واندراس الحقوق وهل يفرق بين النهر والماء المملوكين والمباحين في ذلك كله أو شيء منه أم لا أفتونا مأجورين. فأجاب: قد مر الجواب مبسوطاً آخر الجواب الحادي والثلاثين فلا نطيل بذكره هنا وكان الأنسب تأخيره إلى هنا لكنه عند كتابته ثم لم أدر أنكم أفردتموه بسؤال مستقل وحاصل الذي مر ثم أن من أراد أن يأخذ نصيبه من النهر المملوك كما يدل عليه سياق عبارة الروضة ويسقي به أرضاً أخرى له أو لغيره ليس لها رسم شرب من ذلك النهر منع وكذا لو أراد أن يحيي تحت أرضه مواتاً ويسقيه بما صار إليه من هذا الماء فيمنع من ذلك أيضاً أما لو أراد أن يفعل ذلك من نهر مباح فإن كان يضيق به على من استحقوا الشرب منه منع وإلا فلا كما صرح به في الروضة في مسئلة الإحياء وتبعه في الإِرشاد واقتضاه كلامهما في غير ذلك ومنازعة الأذرعي في تصريح الروياني بذلك في مسئلة غير الإحياء رددتها ثم بكلام الروضة في(4/53)
مسئلة الإحياء والمراد بالضيق المانع من إحداث الأحياء أن لا يكون الماء يفي بالحادث مع القدماء أما إذا كان يفي بالجميع أي بقدر حاجاتهم المختلفة باختلاف الزمان والمكان وأنواع المزروعات والمغروسات فلا يمنع الحادث من الإحياء بل يسقي كل ما شاء متى شاء وما ذكره السمهودي أنه يستفاد من عبارة الروضة صحيح وقول السائل لكن قد يكون الماء الجاري الخ. جوابه أنه لا نظر لسعته حيث أضرت بشركائه ولو في المستقبل عند كون النهر مملوكاً لهم أما عند كونه مباحاً فينظر إلى سعته وضيقه كما مر والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/54)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أهل بلدة اجتمعوا على أن يعظهم أحد من علماء زمانهم فقال حاكم تلك البلدة إني لا آذن لكم أن يعظكم الرجل العالم لأجل الخصومة الواقعة بيني وبينه هل يجوز أن يقول الحاكم ذلك أم لا وهل يجوز للعالم أن يعظ الناس بدون إذن الحاكم أو هل يجوز لأهل البلدة أن يتعظوا بدون إذن الحاكم حين يخالف الحاكم لخصومته. فأجاب: إن كان فيمن يريد وعظ الناس أهلية لذلك ولم يكن يسلك ما يسلك وعاظ هذا الزمن من الأحاديث الباطلة الموضوعة والقصص الكاذبة وكان يجلس لذلك في بيته أو مسجد صغير ولم يترتب على وعظه فتنة جاز له الوعظ من غير إذن الحاكم وأما إذا لم يكن فيه أهلية للوعظ بأن لم يحسن ما يحتاج إليه من الفقه والتفسير والحديث والإِنهاء فلا يجوز له الوعظ وإن أذن له الحاكم نعم إن كان يعظ من كتاب موثوق كالإحياء للغزالي ولم يكن يلحن فيما يقرؤه من الأحاديث جاز له أن يعظ الناس من ذلك الكتاب وأما إذا كان يذكر في وعظه شيئاً من الكتب الباطلة المشتملة على الأحاديث أو القصص الكاذبة فيجب على الحاكم أصلحه الله منعه وزجره زجراً يليق به وأما إذا كان فيه أهلية كما ذكر ولم يذكر في وعظه شيئاً مما ذكر وأراد الجلوس لذلك في المسجد الكبير فإن جرت عادة تلك البلد باستئذان حاكمها عند الجلوس لذلك ونحوه. لم يجلس إلا إن أذن له الحاكم وإن جرت عادتهم بأنهم يجلسون لذلك بلا إذنه لم يحتج لاستئذانه هذا كله حيث لم يصرح الحاكم له بالمنع أما إذا منعه من الوعظ فيجب عليه امتثال نهيه امتثالاً لما أمر الله تعالى به عباده المؤمنين من إطاعة أولى الأمر ومن ثم قال: أئمتنا تجب طاعة الإِمام في كل ما يأمر به أو ينهي عنه مما ليس بمعصية هذا فيما يتعلق بالممنوع وأما الحاكم المانع له فلا يحل له أن يمنع من تأهل لوعظ أو غيره من أن ينفع به المسلمين ليرد به شاردهم ويستتيب بصواعق تخويفهم عاصيهم ومتى فعل الحاكم ذلك لحظ نفسه فقد عرض نفسه لمقت(4/55)
الله وغضبه وكان خصماً لرسول الله فإنه حرض من تأهل لذلك من أمته على فعله تحريضاً شديداً أكيداً ونهى عن السعي في تعطيل أسباب الخير نهياً بليغاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم والله أعلم.
وسئل: رضي الله عنه عن بركة في مسجد يتحصل إليها ماء من ماء المطر هل يجوز الأخذ من مائها إلى البيوت للطهور أو غيره. فأجاب: لا يجوز لأحد أن ينقل من ماء تلك البركة شيئاً لا لطهوره ولا لغيره لأن المسجد صار مختصاً بماء تلك البركة التي هي ملك له أو وقف عليه وإذا اختص بمائها لم يجز نقله منها وفي الخادم عن العبادي أنه يحرم حمل شيء من الماء المسبل إلى غير ذلك المحل كما لو أباح لواحد طعاماً ليأكله لا يجوز لأحد حمل الحبة منه ولا صرفه إلى غير ذلك الآكل ثم قال: وفي هذا تضييق شديد وعمل الناس على خلافه من غير نكير وعلى الأوّل الأَوجه فهل المراد بالمحل في كلامه المحلة التي هو فيها كنقل الزكاة أو موضعه المنسوب إليه عادة بحيث يقصد المسبل أهله بذلك محل نظر والثاني أقرب والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/56)
وسئل: هل لأحد أن يحيي مواتاً في طريق السيل يزرعه ويسقي به قبل من لهم أملاك تسقي بالسيل المذكور أو لا فإن كان له أحداث الأحياء المذكور فهل له أن يسقي قبل من له الأملاك المتقدمة على إحيائه الحادث أو لا وإذا قلتم ليس له ذلك فما معنى قول الفقهاء يشرب الأعلى فالأعلى هل المراد بالأعلى المتقدم ملكه على الإِحياء الحادث أم المراد بالأعلى الأقرب إلى مجرى السيل وإن كان إحياؤه حادثاً فإن قلتم المراد بالأعلى هو السابق ملكه على الأَحياء الحادث فهل للملاك الأقدمين منع المحيي الحادث من التقدم بالسقي أم لا وإذا قلتم لهم منعه من ذلك فهل منع بعض الملاك كافٍ في منعه من التقدم على الجميع أم ذلك خاص بالمانع فقط وهل يتفرق الحال في منعه من التقدم بالسقي بين منعهم كلهم أو بعضهم أو إذنهم كلهم أو بعضهم أو بسكوتهم كلهم أو بعضهم أو لا وهل إذا تقدم بالسقي مدة طويلة ومات وله ورثة هل يمنعون من ذلك كما يمنع هو لو كان حياً أم لا وهل منعه مختص بأهل الضيعة التي أحيا فوقهم أم ذلك لكل من يشرب بالسيل المذكور وإن كان في ضيعة أخرى قربت أم بعدت وهل لمن كان له ملك سابق في الضيعة التي وقع الأحياء فوقها وملك سابق بضيعة أخرى تشرب بالسيل المذكور ومنعه من التقدم بسبب ملكه الذي في الضيعة الأخرى قربت أم بعدت أو لا. فأجاب: أصحاب الأراضي التي تسقى بالسيل يملكون مرافقها ومن جملة تلك المرافق ممر ذلك السيل المستقر له فلكل من ملاك تلك الأراضي المنع من الأحياء في ذلك الممر مطلقاً فإن كان الأحياء خارجاً عن ذلك الممر لم يمنع منه إلا إن أراد سقيه من ذلك الممر المستحق لأولئك فلهم حينئذٍ منعه من نفس الأحياء إذا ضيق عليهم به قال الشيخان لأنهم استحقوا أرضهم بمرافقها والماء أعظم مرافقها وأما إذا كان الأحياء خارجاً عن الممر ولم يرد المحيي سقي ما أحياه منه أو أراده ولم يضيق على أرباب تلك الأراضي فليس لأحد منعه من الأحياء حينئذٍ لكنه لا(4/57)
يستحق السقي من ذلك السيل المستحق لتلك الأراضي إلا بعد أن تشرب جميع الأراضي السابق إحياؤها على إحيائه سواء التي في ضيعته والتي بعدها وإن بعدت وفحش بعدها لأن كل أرض سبق إحياؤها على إحياء هذا الحادث تستحق الشرب قبله وإن كان هو أقرب إلى مجرى السيل منها لأن السبق ليس بالقرب بل بالسبق في الأحياء وحيث قلنا: بأن لهم منعه من الأحياء أو السقي في الصور التي ذكرناها فلا فرق بين كلهم وبعضهم ولا بين سكوتهم عنه مدة ومبادرتهم بالمنع عقب الأحياء فلبعضهم وإن سكت عن ذلك المحيي الحادث إلى أن مات أن يمنع ورثته من الأحياء أو السقي بتفصيلهما السابق والمنع من الأحياء لا يمكن تبعيضه فإذا منع واحد منهم كفى وأما المنع من السقي فيمكن تبعيضه فإذا منعه واحد مثلاً امتنع حتى تسقي أرض السابق إحياؤها سواء اتحدت أم تعددت وسواء أكانت أراضيه في ضيعة واحدة أم ضيع نعم لو تخلل بين أراضي واحد أرض لغيره وأراد ذلك الغير أن يؤثر ذلك الحادث بقدر ما تستحقه أرضه من الشرب فلا يمنع من ذلك وكذا الحكم في كل سابق إذن فيقدم المأذون له على المتأخر عن الآذن بقدر ما يستحقه الآذن فعلم أنه لا عبرة بإذن بعضهم إلا بالنسبة لما يستحقه من السقي فقط وأما بالنسبة للأحياء فلا يكفي إذن بعضهم بل لا بدّ من إذن جميعهم لما مر أن هذا لا يمكن تبعيضه بخلاف الأول ولمن أذن له أن يرجع عن إذنه فإن رجع الكل بعد إذنهم فظاهر وإن أذنوا كلهم ثم رجع بعضهم أثر رجوعه بالنسبة للمنع من بقاء ذلك المحيي لا بالنسبة للمنع من السقي إلا فيما يخصه فقط لما علمت من الفرق بين الحالين نعم يتردد النظر فيما إذا رجعوا عن إذنهم بعد أن أحيا وعمر ولا يبعد أن يأتي هنا نظير ما قالوه في رجوع المعير.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/58)
وسئل: رضي الله عنه هل يحرم المرور في سوق الصاغة. فأجاب: نعم يحرم كما صرح به النووي و ابن عبد السلام وغيرهما. والكلام في المرور حال المعاملة المحرمة كالربا لا مطلقاً لأن ملحظ الحرمة كما هو ظاهر الإِقرار على المعصية وهو حرام بدليل قولهم يحرم الجلوس مع الفساق ولا شك أن المرور على المتبايعين من غير حاجة فيه إقرار لهم على المعصية ويؤيده أيضاً قول ابن الرفعة وغيره يحرم المرور أيام الزينة وملحظه ما فيه من التقرير على المعصية ومما تقرر علم أن ذكر الصاغة مثال وإلا فمحل كل معصية كذلك.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في بئر مشتركة بين أقوام ولكل واحد منهم يوم معلوم وعليها أرض مرتفعة ومنخفضة فالمرتفعة لها رفيع يساق من عليه الأراضي المرتفعة والمنخفضة لها أيضاً رفيع يساق من عليه وتراب الرفيعين معاً ملك لزيد ولباقي الشركاء المرور بالماء إلى أراضيهم من تراب زيد فانهدم الرفيع الأعلى الذي يساق من عليه الأراضي المرتفعة وهي خاصة زيد أعني الأراضي المرتفعة فعجز زيد عن عمارته وهو المالك للتراب المذكور فأراد أن يمضي بمائه من البئر في خالص ملكه من غير ممر الشركاء إلى أرضه المرتفعة فهل له أن يتصرف في ملكه بما يوافقه إذا لم يكن ثم ضرر على شركائه أو للشركاء منعه من التصرف في خالص ملكه وإن أضر به أو لا. فأجاب: رحمه الله نعم لزيد أن يجري الماء إلى أرضه من أي جهة أراد من جهات ملكه الخاصة وليس لأحد من أهل الأراضي المذكورة منعه من التصرف في خالص ملكه بل ولا إجباره على عمارة الممر الذي يستحقونه في أرضه فإن أرادوا عمارته من مالهم حتى يجري الماء إلى أراضيهم لم يكن لزيد منعهم من ذلك والله أعلم بالصواب.
وسئلت: عن أرض لها شرب من أراضٍ متعددة أراد صاحبها الاقتصار على سقيها من بعضها فهل له ذلك لتركه بعض حقه أو لا لحصول الضرر على المسقي منه.(4/59)
فأجبت: القياس في ذلك أنه يعمل بعادة تلك الأرض فإذا اطردت بشربها من أراض متعددة لم يجز لمالكها الاقتصار بشربها جميعها على بعض تلك الأراضي لأنه لما اطرد فيها ذلك لم يثبت لها الاستحقاق إلا بقدر تلك الحصص التي تخصها من كل من تلك الأراضي فإذا أراد مالكها أن يسقيها كلها من أحد تلك الأراضي كان آخذاً أكثر من حقه الذي ثبت له بمقتضى العادة المعمول بها في مثل ذلك وإن لم تطرد بأن كانت مرة تسقي من جميعها ومرة تسقي من بعضها لأنه حينئذٍ لم يثبت لها اختصاص معين من الكل ولا من البعض بل الثابت لها مطلق استحقاق الشرب فلمالكها استيفاؤه من تلك الأراضي كلها ومن بعضها ولا نظر إلى ضرر يلحق بعض مالكي تلك الأراضي لما تقرر من ثبوت ذلك الحق المشترك المتعلق بها لا على التعيين وعند تقرر هذا الثبوت لا ينظر للحوق ذلك الضرر والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيما إذا كان موضع في صحراء يسيل ماؤه في بستان شخص وبينه وبين القرى نحو خمسين ذراعاً فأراد شخص أن يحفر فيه بئراً أو يجري فيه نهراً أو يغرس فيه غرساً أو يبني فيه بيتاً ونحو ذلك فهل يجوز له ذلك بغير إذن أهل القرية إذا كان الموضع المذكور ليس فيه مطرح رماد وسرجين وقمامات لأهل القرية. فأجاب: بقوله أن ذلك المحل الذي أريد فيه أحداث ما ذكر إن كان من حريم البلد أو بعض مزارعها أو أنهارها أو مجاري سيولها التي تروى بها مزارعها أو شيء من بساتينها أو من حريم ذلك البستان المذكور في السؤال أو مجرى مائه لم يجز فيه إحداث ما ذكر إلا بإذن جميع أهل القرية في الأولى أو صاحب البستان في الثانية وإن لم يكن لأحد فيه استحقاق فهو موات فإن سبق إليه إحياؤه ومن أحياه ملكه بشرطه.(4/60)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته سئل بعض المفتين من أكابر المتأخرين عن صحراء يسيل ماؤها في معمور فأراد رجل أن يبني في تلك الصحراء بيتاً بحيث لا يمنع نزول الماء إلى المعمور فهل يجوز له ذلك بغير إذن صاحب المعمور فأجاب بقوله نعم يجوز له أن يبني بيتاً في الصحراء وإن لم يأذن أهل المعمور إذا لم يضر ذلك بهم وهذا من إحياء الموات والله أعلم أ هـ .
جوابه فهل جوابكم كذلك. فأجاب: بقوله أن ذلك المحل الذي يريد البناء فيه إن كان مجرى ماء المعمور أو من حريمه فلأَهل المعمور منعه من البناء فيه مطلقاً وإن لم يكن كذلك فليس لهم منعه مطلقاً نعم ذكر جماعة من أئمتنا أن الأنهار المباحة فضلاً عن المملوكة لا يجوز لأحد أن يبني على حافاتها ولا في حريمها لأن لعامة المسلمين فيها حقاً فهي كالشوارع والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/61)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته قال الشيخ محيي الدين النووي من الباب السابع في الفتاوى إذا أقطع السلطان جندياً أرضاً فهل يجوز له إجارتها أم لا الجواب نعم يجوز لأنه مستحق لمنفعتها ولا يمنع من ذلك كونها معرضة لأن يستردها السلطان بموت أو غيره كما يجوز للزوجة أن تؤجر الأرض التي هي صداقها قبل الدخول وإن كانت معرضة لأن يستردها منها بفسخ أو غيره أ هـ .
قال البرهان الفزاري وكان والدي يفتي ببطلان إجارة الإِقطاع ومستنده أنه لا تصح إجارة الإِقطاع بمجرد الإِقطاع وأنا موافق في ذلك وتحقيق البحث عندي في هذه المسئلة يرجع إلى شيء وهو أن المقطع هل يملك منفعة الأرض المقطعة بالإِقطاع أو لا فإن قيل إنه ملكها فقد يقال إنه تصح الإِجارة بذلك وإن قيل إنه لم يملكها لم تصح بمجرد الإِقطاع وكأنه أبيح له الانتفاع بها كالمستعير فنقول لم يملكها وإنما قلنا ذلك لأن قال في كتابه المؤبد من الإِقطاع يكون تمليكاً ويكون غير تمليك ومنه الحديث لما قدم المدينة أقطع الناس الدور معناه أنزلهم في دور الأنصار ولذلك قال ابن الأثير في النهاية وكان بعضهم يتأوّل إقطاع النبي المهاجرين الدور على معنى العارية فإذا علمت ذلك علم أنه لا يلزم من مجرد الإِقطاع الملك وإذا لم يلزم وكان قبل الإِقطاع لغير المقطع قطعاً احتمل أنه لم يزل والأصل بقاؤه وإذا كان الأصل بقاء الملك المحقق فلا يكون المقطع مالكاً عملاً بالأصل السالم عن المعارض فإنه لم يوجد سوى مجرد الإِقطاع وهو لا يستلزم زوال الملك ولا يصلح معارضاً للأصل المذكور وإذا لم يكن المقطع مالكاً للمنفعة فلا تصح إجارته كالمستعير وإذا عرفت هذا التحقيق عرفت اندفاع القياس الذي ذكره الشيخ محيي الدين وأن الأرض التي هي صداق للزوجة ملكها بالعقد وليس ملك الصداق متوقفاً عندنا على الدخول وإنما الذي يتوقف على الدخول الاستقرار وهنا لم يملك المقطع الأرض بلا شك ولهذا لو أراد بيعها منع منه والتردد(4/62)
واقع في ملكه المنفعة والأصل عدمه فليس المقطع مالكاً لأرض ولا منفعتها والصداق مملوك للزوجة بالعقد وقاس بعضهم إجارة الإِقطاع على إجارة الموقوف عليه فلا يتم هذا القياس أيضاً فإن الموقوف عليه يملك منفعة الوقف وقال الرافعي : في الشرح الكبير زوائد الوقف ومنافعه للموقوف عليه يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم جزم بذلك وحكى قولاً أنه يملك الرقبة أيضاً، وإنما يكون الإِقطاع كالوقف إلا إذا ثبت أن المقطع يملك المنفعة ولم يثبت ذلك وتحقيقه أن الموقوف إذا صح لزم ولم يكن للواقف الرجوع عنه فالإِقطاع إنما يخرجه الإِمام على وجه الجواز لا على وجه اللزوم ولهذا يرجع فيه إذا رأى ذلك وأيضاً فإن الصحيح أن الموقوف عليه ليس له إجارة الوقف لكونه وقفاً عليه وإنما يؤجره إذا جعله الواقف ناظراً أو أذن له فيه من له ذلك شرعاً ونظيره هناك أن المقطع لا يؤجر الإِقطاع بمجرد كونه مقطعاً فإن أذن له الإِمام في الإِجارة جاز حينئذٍ وإذا كان الموقوف عليه ملك منفعة الوقف جزماً والرقبة على قول وليس له أن يؤجره بكونه موقوفاً عليه فالمقطع أولى أن لا يؤجر الإِقطاع بمجرد كونه مقطعاً فإنه لم يملك الرقبة جزماً ولا يثبت ملكه للمنفعة بل الأصل عدمه والله أعلم. وقال الشيخ
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/63)
تقي الدين الحصني في المرشد وللمقطع أن يؤجر الأرض التي أقطعها الإِمام ولو بلا إذنه في المختار وكل من ملك التصرف بملك أو غيره فله إجارته وإعارته والتصرف كيف شاء اهـ. وقال العثماني الصفدي والمشهور والمعروف من مذهب الشافعي والجمهور صحتها قال النووي رحمه الله لأن الجندي يملك المنفعة قال السبكي : ما زلنا نسمع عن علماء الإِسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية يقولون: بصحة إجارة الإِقطاع. فأجاب: جلى الله عن مرآة فلو بنا بفيض مدده ومعلوماته ربقة الإِشكال الكلام في هذه المسئلة يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي أن التقي السبكي قال الإِقطاعات المعروفة في هذا الزمان من السلطان للجند في أرض عامرة تستغلها وتكون لهم فوائدها ومنافعها ما لم ينزعها منهم أو يموتوا لم أجد له ذكراً في كلام الفقهاء وتسميته إقطاعاً مخالف لقولهم أن الإِقطاع إنما يكون في الموات وتجويزه يحتاج إلى أصل يستند إليه وإلى تخريج طريق فقهي حتى يقال: إن المقطع بمجرد الإِقطاع ملك المنفعة والفوائد وأنه لم يملكها وإنما يقوم مقام الإِمام في استغلالها وإيجارها، ثم يستأثر بما تحصل اقتضى تسليط الإِمام على أخذه قبل استئثاره به وأنه ملك لرب المال وكل ذلك مشكل وعلى الفقيه الفكر فيه ولا يختص بالإِقطاعات بل الرزق التي يطلقها السلطان للفقراء وغيرهم. يجري فيها هذا الكلام ومن فوائد النظر في ذلك أنه لو تعدى أحد وزرعها هل نقول يجب عليه أجرتها لصاحبها لأنه ملك منفعتها بالإِقطاع أو الإِطلاق مجرد الاختصاص المتحجر وهي باقية على اشتراك الناس فيها والزارع أحدهم. وقال القاضي عياض : الإِقطاع تسويغ الإِمام من بيت المال شيئاً لمن يراه أهلاً لذلك وأكثر ما يستعمل في إقطاع الأرض وهو أن يخرج منها له ما يجوّزه وأما أن يملكه إياه فيعمره أو يجعل له غلته مدة هذا معنى الإِقطاع الذي في هذا الزمان إلا أن أصحابنا لم يذكروه أ هـ .
قال الأذرعي ولا أظن في جواز الإِقطاع(4/64)
المذكور إذا صدر في محله لمن هو من أهل النجدة قدراً يليق بالحال من غير مجازفة خلافاً بين المسلمين وممن ذكر ذلك أبو علي الفارقي قال ثم بعد هذا وقفت على مصنف قديم لبعض أصحابنا سماه كتاب معرفة أحكام أراضي الإِسلام وتصرف الإِمام ذكر فيه أنه يجوز للإِمام أن يقطع الجندي من أراضي بيت المال ما يحتاج إليه على قدر حاجته من غير زيادة. قال: وما يأخذه الجندي على الزراعة ليس بخراج بل هو أجرة الأرض ويحل لهم تناول الغلة وغيرها إذا كان بالاتفاق والمراضاة وأما الزيادة على ذلك فحرام قطعاً وكذا ما يأخذه المقطعون من الفلاحين والمزارعين من الغنم والدواب والعسل والدجاج فهو جور وظلم أ هـ .
ويعلم من قول السبكي هذه الإِقطاعات المعروفة في هذا الزمان لم أجد لها ذكراً في كلام الفقهاء أن ما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية من إقطاع الاستغلال وجعله على ضربين عشر وخراج ليس هو هذا الإِقطاع المعروف في هذا الزمان فإنه إنما هو إقطاع منفعة الأرض أي أرض بيت المال قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/65)
الماوردي : فأما إقطاع العشر فلا يجوز لأنه زكاة لإِصناف يصير منه استحقاقهم عند دفعها إليهم وقد يجوز أن لا يكونوا من أهلها وقت استحقاقها ولأنها تجب بشروط قد يجوز أن لا توجد فلا تجب قال: وأما الخراج فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه وله ثلاثة أحوال أحدها أن يكون من أهل الصدقات فلا يجوز أن يقطع مال الخراج لأن الخراج فيء ولا يستحقه أهل الصدقات كما لا يستحق الصدقة أهل الفيء وجوّز أبو حنيفة ذلك الثانية أن يكونوا من أهل الفيء ممن ليس له رزق مفروض فلا يصح أن يقطعوه على الإِطلاق وإن جاز أن يقطعوا من مال الخراج لأنهم من نفل أهل الفيء لا من فريضته كما يعطون من غلات المصالح والحالة الثالثة أن يكونوا من مرتزقة أهل الفيء وفريضة الديوان وهم الجيش فهم أخص الناس بجواز الإِقطاع لأن لهم أرزاقاً مقدرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق لأنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذب عن الحرم وأطال الكلام فيه وما ذكره من الأقسام والشروط يجري في إقطاعات هذا الزمان فأما الإِمام فلا يخلو إقطاعه من ثلاثة أقسام أحدها أن يقدر سنين معلومة فيصح إذا روعي فيه كون رزق المقطع معلوم القدر عند باذل الإِقطاع وإلا لم يصح وكون قدر الخراج معلوماً عند المقطع والباذل وإلا لم يصح أيضاً القسم الثاني أن يقطعه مدة حياته ثم لورثته بعد موته فهذا باطل لأنه خرج بهذا الإِقطاع عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة وحينئذٍ فما اجتباه بإذن في عقد فاسد بين أهل الخراج يقبضه ويحاسب به من جملة رزقه فإن زاد رد الزيادة وإلا رجع بالباقي وأظهر له السلطان فساد القبض حتى يمتنع من القبض وهم من الدفع فإن دفعوا بعد إظهار ذلك لهم لم يبرؤوا منه القسم الثالث أن يقطعه مدة حياته ففي صحته قولان أحدهما: يصح إذا قيل إن حدوث زمانته لا يقتضي سقوط رزقه وهو الأصح اهـ. حاصل كلام الماوردي وإذا تقرر عدنا إلى مسئلتنا فنقول كلام النووي في فتاويه يدل على(4/66)
صحة الإِقطاع الواقع في هذا الزمان لأن صحة إجارته فرع صحته وقد مر كلام الأذرعي وما نقله فيه من الصحة الموافقة لما أفتى به النووي فهو الأصح المعمول به وقد كان التقي ابن قاضي شهبة يفتي به ولا فرق بين طول المدة وقصرها لكن إذا خرج الإِقطاع عنه انفسخت الإِجارة والجواب عما قاله الفزاري أما تردده بين كون المقطع يملك المنفعة أو لا فنقول الصحيح أنه يملكها لقول الماوردي في إقطاع الاستغلال لأنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له الخ. فهي عوض في مقابلة عمل فملكها كالأجير ولقول المنهاج وأما الأخماس الأربعة فالأظهر أنها للمرتزقة فاللام تدل على الملك والمراد بقوله المرصدون للجهاد أي بتعيين الإِمام والعجب من الفزاري كيف شبهها بالمستعير مع أنه لم يبذل عوضاً وإذا علم أنه يملكها فالإِجارة صحيح وكذا قياس النووي لأنه تبين أنه ملك المنفعة الحاصلة من أرض الإِقطاع لكونه بذل في مقابلتها ما مر كما أن الزوجة بذلت في مقابلة الصداق والنفقة عوضاً وهو كونها أرصدت نفسها لتمتع الزوج وقياس إجارة الإِقطاع على إجارة الوقف صحيح أيضاً قال في المنهاج هذا حكم منقول الفيء أي أنه يخمس فأما عقاره فالمذهب أنه يجعل وقفاً وتقسم غلته كذلك وقال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/67)
الماوردي : بل يصير وقفاً بمجرد انتقاله لبيت المال وعلى كل حال فأربعة أخماسه وقف على المرتزقة وقد صاروا بتعيين الإِمام من جملة الموقوف عليهم فملكوا منفعة الموقوف لكن فارقوا الموقوف عليهم الذين عينهم الواقف في جواز رجوع الإِمام عنهم لأن القصد حماية البيضة بأي جمع كانوا وبالجملة فتشبيههم بالزوجة الواقع في كلام النووي أولى لأنهم ارصدوا أنفسهم وبذلوها للذب كما أرصدت بضعها وبذلتها للاستمتاع فملكت المنفعة وتصرفت فيها من غير مراجعة الزوج فكذلك المرتزقة لا يحتاجون إلى مراجعة الإِمام في الإِجارة بخلاف الموقوف عليهم لا بدّ من مراجعتهم للناظر لأنهم لم يرصدوا أنفسهم ولم يبذلوها للواقف وقد قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} (9:111) الآية فسمي بذلها بيعاً وجعل ثمنه الجنة وسماه شراء وقال تعالى: {وما أفاء الله على رسوله} (59:6) إلى أن قال: ولذي القربى وكذا في آية: {واعلموا أنما غنمتم} (8:41) فأتى باللام الدالة على الملك والمقتضية لأن ما يصرف للمرتزقة من منقول الفيء ملك لهم رقبة ومنفعة فإن كان من عقاره قبل إنشاء الوقف ورأى الإِمام تمليكهم إياه فله ذلك كما قاله الشيخان واعتمده الأذرعي وغيره وحينئذٍ فيملكونه رقبة ومنفعة وإن كان بعد إنشائه فقد تعذر ملك الرقبة فبقي حكمهم حكم الموقوف عليهم يملكون المنفعة ويدخلون في عموم قوله تعالى: {فللّه} (8:41) الآية حيث آتى بلام الملك فقد زال التردد الذي قاله الفزاري في ملك المنفعة وتبين بالنص أنهم يملكونها وبطل التشبيه بالمستعير لأنه لم يملكها وإنما ملك أن ينتفع.(4/68)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أرض بين اثنين لواحد علوها وللآخر سفلها والماء يدخل من علوها لسفلها فأخرب السيل علوها فأصلحه مالكه لكن بقي منخفضاً يأخذ أكثر من حقه أو انعكس الحال فما يكون الحكم. فأجاب: بقوله إن كانت الأرض تستحق السقي دفعة واحدة وكانت تسقي كذا فخرب أعلاها فعمر وبقي منخفضاً أجبر على تسويته بالتراب حتى يصير في الارتفاع كالسفلى فإن تعذر وقف الأمر حتى يصطلحا ولا سبيل إلى إبطال حق السفلى وكذا في صورة العكس يجب على صاحب السفلى تسويتها كذلك فإن تعذر فالوقف كما ذكر ولا يلزم واحداً منهما عمارة ملكه وإن كان بتقصيره في إخراب السيل لأَرضه كما يصرح به كلامهم في الصلح ولا نظر إلى أن كلا يستحق السقي في ملك صاحبه فعليه أن يوصل صاحبه إلى حقه لأن الذي عليه إنما هو التخلية بينه وبين حقه فإفتاء بعضهم بأنه يلزمه عمارة ملكه مطلقاً نظراً لذلك ضعيف وأفتى بعضهم في نظير ذلك بأنه لو حفر المستأجر ساقية تعدياً وجب عليه أن تعاد كما كانت.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: هل لمالك أرض لها شرب منع الناس من الاستقاء منه ونحوه. فأجاب: بقوله المنقول عن الشيخ أبي حامد أن ما زاد على ما يكفي أرضه ليس له المنع منه.
وسئل: عن قول الروضة في إحياء الموات ولو أرادوا قسمة النهر وكان عريضاً جاز ولا يجري فيه الإِجبار كالجدار المائل هل هو على إطلاقه. فأجاب: بقوله قد يعارضه ما في الشفعة فإنه ذكر من جملة ما يجبر عليه الطاحون والحمام والبئر والنهر إذا أمكن جعل كل واحد اثنين ثم قال: وكذا الشركة في مسيل الماء إلى الأرض وفي بئر المزرعة دون المزرعة كالشركة في الممر وحمل الأول على ما إذا كان النهر بين مزارع وهي على حافتيه من الجانبين أو أحدهما لا على حفر أنهار وسواقي وسوق الماء إليها من الأودية العظيمة ولما في ترك القسمة في هذه من المضرة العظيمة.(4/69)
وسئل: نقل عن الفارقي أن الإِمام إذا أقطع ومات لا يجوز للمقطع أن يستديم ما أقطع إلا بإذن جديد من الإِمام الثاني فهل هو معتمد. فأجاب: بقوله قضية كلام الغزي في باب الهبة من أدب القضاء أنه ضعيف.
وسئل: كم يملك الرجل من الجبل الذي فوق أرضه وإذا كان فوق أرضه وادٍ صغير وأرضه تحتمل جميع ما يرد من الماء فهل يملك هذا المسيل جميعه. فأجاب: إن كانت الأرض مملوكة بالأحياء ملك قدر ذلك أو بغيره فما عرف من حقوقها عند نحو البيع أو الإِرث هو الذي يملكه دون غيره.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن أرسل الماء في بستانه فدخل في ثقب وأفسد دار جاره فهل يضمن. فأجاب: بقوله أفتى القفال بأنه إن كان الثقب موجود أقبل الإِرسال ضمن وأن جهله وإن حدث بعد الإِرسال فلا وقال الشيخ أبو زيد إنما يضمن إن خرج عن عادة مثله في السقي وهذا هو الوجه ومثله كما هو ظاهر ما لو سقي مع علمه بالثقب وكونه ينفذ لدار جاره وإن لم يجاوز العادة.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أرض تسقى من أراض متعددة أراد صاحبها الاقتصار على سقيها من بعضها فهل له ذلك لترك بعض حقه أو لا لحصول الضرر على أهل المستقي منه. فأجاب: بقوله إن كان ذلك الاقتصار يؤدي إلى لحوق ضرر بالأرض المستقي منها فلصاحبها منعه منه وإلا لم يجز له وهذا ظاهر لأن اعتياد شربها من محال متعددة يصير استحقاقها الشرب من كل من تلك المحال بطريق التوزيع لا بطريق الاستقلال فإذا أراد الاستقلال كان مريداً ما لا يستحقه فإن أضر ذلك بالغير منعه منه هذا كله إن كانت العادة أنها تشرب من كل من تلك المحال بعض كفايتها أما لو كانت العادة أنها يأتيها الماء الذي يكفيها من واحد من تلك المحال فهي حينئذٍ تستحق الاستقلال من كل من تلك المحال فإذا أراد الاقتصار حينئذٍ فليس للغير منعه والحاصل أن العادة المستمرة محكمة في مثل ذلك فكل من فعل شيئاً على وفقها لم يمنع منه وإن أضر بغيره وكل من فعل شيئاً لا على وفقها منع منه.(4/70)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
وسئل: عن شخص له حديقة نخل ثم اشترى علوها أرضاً أخرى وغرسها نخلاً وجعلهما حديقة واحدة وجعل سقيهما من أعلى الحديقة ليعمهما الماء فهل لأحد التحجر على صاحب الحديقة بأن لا يسقيها إلا من أسفلها أو ليس له ذلك ولصاحب الحديقة أن يسقيها من أي محل اختار لأن الملك ملكه والماء مستحق له وإذا انتهى زمن استحقاقه للماء سد محل السقية ليذهب الماء إلى من يستحقه بعده. فأجاب: بقوله الماء الذي تسقى منه الحديقة الأولى إن كان من نهر مباح جاز لأهل النهر أن يمنعوا صاحب الحديقة من سقي الحديقة الثانية من النهر قبلهم أن ضيق عليهم والمراد بهم من سبق له استحقاق شرب من النهر قبل شراء الحديقة المذكورة وإن كان من نهر مملوك جاز لهم أيضاً منعه من تقديم رأس ساقيته التي يجري فيها الماء إلى أرضه ومن تأخيره لأن ذلك تصرف منه في الحافة المشتركة بغير إذن الشركاء وبه يعلم أنه لا فرق بين أن يكون اقتسامهم للماء بالزمن كالساعة أو بغيره وأنه لو جعل محل السقي من أعلى الحديقة ولم يكن ذلك في الحافة المشتركة ولا أخذ شيئاً من الماء الذي يستحقه شركائه لم يكن لهم منعه من ذلك وكل أرض وجد بيد أهلها نهر لا تسقى إلا به ولم يدر أنه حفر أو انخرق يحكم لهم بملكه فيأتي فيه ما تقرر في النهر المملوك والله أعلم.(4/71)
وسئل: عن سيل ينزل من جبل عالٍ وعن يمينه ويساره مزارع فوضع رجل أحجاراً وأخشاباً بمجراه فتحول عنه وأتلف الأرض المتحول إليها فهل يضمنها وهل لمالك هذه الأرض أن يتملك المكان الذي عنه تحول. فأجاب: نعم يضمن ما أتلفه السيل الذي حوله إليها إذا تلفت أو نقصت قيمتها به وما تحول عنه إن كان مستحقاً لأصحاب تلك الأرض لم يجز لغيرهم تملكه لأن انتفاع أراضيهم بهذا المجرى المرتب لها يصيره حقاً من حقوقها وإن لم يكن مستحقاً لهم بأن مهد السيل مجرى أو أرضاً في موات ولم يكن في أحدهما استحقاق لأحد جاز لكل من أراد إحياء ذلك إذ لا حق فيه للغير والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165(4/72)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته اقتسم الماء بين مالك أرضين متجاورتين بأن يجعل لكل منهما رسم شرب يجري إلى أرضه ثم يرسل كل منهما الماء من أرضه بعد ريها إلى أرض تحتها له أو لغيره. ثم من بعدهما لمن بعده وهكذا حكم جميع المتفرعين يكون من هو أقرب إلى النهر أحق بجميع حصته وحصة مجاوره من المتأخر ولو جرت عادة بإجراء كل لمن بعده قبل ري المجاور فهل لهذه العادة اتباع أم لا لمخالفتها استحقاق الأعلى فالأعلى وإن قسم الماء أجيبوا جواباً شافياً. فأجاب: بقوله إن كان بين الأرضين المتجاورتين منفذ بحيث إذا خرج من إحداهما ماء نقص ماء الأخرى لم يجز فتح إحداهما لما بعدها حتى يكمل ري كل منهما لأن كلاً منهما أعلى وأقرب إلى النهر مما بعدهما فلا يستحق من بعدهما شرب منه إلا بعد ريهما كما هو المقرر المعروف هذا إذا لم تجر عادة قديمة مطردة بخلاف ذلك وإلا عمل بها كما اقتضاه إطلاقهم العمل بها المقدم على العمل بتقديم الأعلى فالأعلى لأنهم إنما أخذوا بهذا لكون الغالب أن المحيي أولاً يقصد القرب من النهر فهو عمل بظن لم يعارض فحيث عارضته العادة قدمت لأن اتفاقهم على تقديم سافله على عاليه يبطل ذلك الظن الذي هو تقديم إحياء الأعلى كما هو واضح لمن تأمله وإن لم يكن بينهما منفذ وإنما كل منهما مستقل بما يحصل لها من الماء لا حق لمجاورتها فيه فلمالك كل بل عليه أن يفتح بعد ريه لما يلي أرضه ولا يكلف بقاء الماء في أرضه إلى أن يكمل ري مجاوره لأن القسمة بين الأرضين مع السد أوجبت شيئين أحدهما أنها صيرت كلا مستقلة لا حق للمجاورة فيما يصير من الماء لمجاورتها ثانيهما أنها منعت أن يكون كل منهما عليا بالنسبة لما يلي الأخرى لأن العليا هي التي يصل ماؤها لما تحتها وهنا لا يصل ماء كل إلا لما يليه فقط دون ما يلي مجاوره فكان أعلى بالنسبة لما يليه إلا بالنسبة لما يلي مجاوره.(4/73)
وسئل: عن المعدن الباطن كالملح ونحوه إذا كان لا يحصل منه شيء إلا بعمل واعتاد الولاة الاستيلاء عليه بحيث إذا هلك الوالي المستولى عليه خلفه من بعده فتارة يستأجر الوالي عما لا يعملون في المعدن المذكور وتارة يكرههم عى العمل بغير أجرة فلمن يكون المتحصل من المعدن للوالي أم للعامل ولو جاء رجل آخر مثلاً وأخذ من المعدن لنفسه فهل يملكه أم لا. فأجاب: بقوله من أخذ من معدن شيئاً لم يجزه غيره ملكه ما لم ينوِ غيره به بالنسبة لغير الأجير وما لم ينوِ نفسه به بالنسبة للأجير أما إذا نوى الأول نفسه أو أطلق أو نوى الثاني نفسه فيملكه كل منهما وهذا التفصيل الذي ذكرته فيهما ظاهر وإن لم أرَ من صرح بالمسئلة والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 165
باب الوقف
وسئل: أعاد الله علينا من بركاته في الدارين عما لو قال أوصيت أو وقفت كذا على سطح فلان واطرد في عرف القائل أن ذلك لجهة معلومة عند قومه وأهل ناحيته أو ظهر منه تخصيص العرف. فأجاب: بأن الذي يتجه أن سطح فلان إن أطرد عرف القائل بأنه اسم لجهة معلومة تصح الوصية لها والوقف عليها صح الوقف أو الوصية لتلك الجهة بشرطها وإن لم يطرد عرف بذلك لم يصح الوقف ولا الوصية ولا عبرة حينئذٍ بالقرائن الدالة على المراد لأن القرائن لا تأثير لها في نحو ذلك.(4/74)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن مسئلة فأجاب فيها بجواب مختصر ثم بلغه أن بعض المفتين أفتى فيها بخلاف ذلك فصنف فيها تصنيفاً سماه سوابغ المدد في العمل بمفهوم قول الواقف من مات عن غير ولد وقد أردت أن أذكره برمته هنا وإن كان تصنيفاً مستقلاً لأنه في حكم الفتاوى باعتبار أصله كما علم مما تقرر وذلك التصنيف (أحمد) الله تعالى على توفيقه وإنعامه وأشكره على مزايا فضله وإلهامه (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أفوز بها من غضبه وانتقامه وأتبوأ منها معالي الصواب وذروة سنامه. (وأشهد) أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أنقذنا الله تعالى به من سعير الباطل وظلم أوهامه وهدانا بهدايته العظمى إلى سلوك سبيل الحق ومجانبة وعره وآثامه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم قيامه ما صدقت همة عبد عند تزاحم الآراء في إبانة الصواب وكشف خفايا أحكامه. (وبعد) فإني سئلت عن مسئلة في الوقف في شهر ذي القعدة سنة ست وأربعين وتسعمائة فأجبت فيها بالمنقول ثم رأيت كثيرين من المتأخرين اختلفوا فيها لعدم إطلاعهم فعلى ذلك المنقول الذي أجبت به فأحببت أن أفردها بتأليف لطيف وانموذج شريف ليكشف الغطاء عن الحق في ذلك ويصير سبباً للإِحاطة بأكثر ما يقع في كتب الأوقاف من عويصات المسائل الوعرة المسالك وليكون ذلك وسيلة إن شاء الله تعالى إلى فيض الفضل الجزيل والرضاء الذي هو بكل خير كفيل من واهب العطايا ومانح المزايا فإنه لا يخيب من اعتمد عليه ولجأ في سائر أموره إليه فهو حسبي ونعم الوكيل وعليه اعتمادي في الكثير والقليل (وسميته سوابغ المدد في العمل بمفهوم قول الواقف من مات من غير ولد) ورتبته على بابين وخاتمة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 194
كتاب سوابغ المدد
في العمل بمفهوم قول الوقف من مات عن غير ولد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 194(4/75)
الباب الأول في أحد شقي السؤال الذي الكلام فيه
وهو أن شخصين وقفا بيتاً على بنتيهما ثم من بعدهما على أولادهما ثم أولادهم وهكذا ثم قالا على أن من مات منهما عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته فإذا ماتت واحدة منهما عن بنتها فهل تستحق نصيبها بنتها أو أختها التي في درجتها والكلام على ذلك من وجوه الوجه الأول في بيان أن المستحق لذلك هو البنت دون الأخت وهو ما صرح به الروياني في بحره وعبارته وقع بأهل طبرستان أن امرأة وقفت أرضاً على اثني عشر سهماً على أن يصرف منها إلى ابن عمتها زيد سهمان وخمسة أسهم إلى ابن بنتها عمر وخمسة أسهم إلى أخيها بكر وذكرت في قبالة الوقف أنه وقف عليهم ثم على أولادهم ما عاشوا على أن من مات منهم عن غير عقب كان نصيبه مصروفاً لشركائه وأهل طبقته ثم مات ابن عمتها زيد عن سهمين وترك ثلاثة أولاد فانتقل ذلك إليهم ثم مات أخوها بكر بعد عن غير عقب فهل ينتقل نصيبه إلى ابن بنتها عمرو لكونه من أهل طبقته دون أولاد ابن عمتها زيد يحتمل أن يقال ينتقل إلى ولد البنت ويحتمل أن يقال خلافه قال: والدي رحمه الله والأول أظهر وإذا انتقل نصيبه إلى ابن بنتها عمرو فإذا مات هل ينتقل جميع ما أصابه وهو عشرة أسهم من اثني عشر سهماً إلى أولاده دون أولاد ابن عمتها أم لا الجواب أن العشرة تنتقل إليهم ولا يختص بالانتقال إليهم ما كان نصيب الميت في الأصل لأن جميع العشرة الآن صارت حقاً للميت ونصيباً له فالموت كافٍ في الجميع انتهت عبارة البحر ونقلها كذلك الأذرعي في توسطه ثم قال عقبها وهذا الفرع مما تعم به البلوى في الفتاوى أ هـ .
وهي صريحة في أن نصيب الميتة في مسئلتنا لبنتها لا لأختها لتساوي صورتنا وصورتها في العطف بثم وفي التصريح بان من مات عن غير ولد كان نصيبه لشركائه مع عدم ذكر مفهومه وحينئذٍ فقد أخذ الروياني ووالده بمفهوم هذا الشرط المتبادر منه في صورتهما حيث جعلا سهمي زيد لأَولاده مع موته في حياة عمرو وبكر اللذين هما(4/76)
في درجته لأن الواقفة وقفت ما مر عليهم ثم على أولادهم وكان قضية العطف بثم أن لا ينتقل شيء إلى أولادهم ما بقي أحد منهم لكن لما ذكرت الشرط المذكور اقتضى منطوقه أن تلك القضية المذكورة مخصوصة بما إذا مات أحدهم عن غير ولد واقتضى مفهومه المتبادر منه أن من مات منهم عن ولد يكون نصيبه لولده وإن مات في حياة من هو في درجته فلا يكون لمن هو في درجته شيء من حصته حينئذٍ بل هي لولده فكذا يقال في مسئلتنا حرفاً بحرف فإن قلت يحتمل أنهما لم يذكرا انتقال سهمي زيد لأولاده بطريق القصد وإنما وقع في عبارتهما أو في عبارة السائل عن ذلك فذكراه. موافقة لا قصداً واعتقاداً قلت صريح عبارتهما يبطل ذلك وبيانه أنهما ترددا في أن نصيب بكر الميت عن غير ولد ينتقل إلى عمرو الذي في درجته وحده أو إليه وإلى أولاد زيد فقضية ترددهما في انتقال ذلك إليهم أنهما جازمان بما ذكر من انتقال نصيب والدهم إليهم وإنما وقع ترددهما في مشاركتهم لمن في درجة أبيهم وإن رجح والده منه عدم المشاركة وأيضاً فجعلهما نصيب عمرو عشرة فقط صريح في استحقاق أولاد زيد لسهمه إذ لو لم يأخذا بمفهوم قولها على أن من مات منهم عن غير ولد الخ. لكانا يجعلان سهمي زيد الميت أوّلاً لعمرو وبكر فيصير لك ستة أسهم وهما لم يجعلا لبكر إلا خمسة أسهم ولعمرو إلا خمسة أسهم وبقيا سهمي أولاد زيد لهم ثم ترددا في أن العشرة الصائرة لعمرو هل يختص بها أولاده أو لا وسيأتي البحث عن ذلك في الباب الثاني فإن قلت ما وجه الاحتمال الذي أبدياه في موت بكر من غير ولد قلت لأنه جرى خلاف كما يعلم مما يأتي أن العطف بثم هل يقتضي الترتيب في الأفراد والجمل أو لا وسيأتي إشارة إليه وإذا تقرر ذلك لك وبان أن كلام الروياني ووالده وهما من هما صريح في انتقال نصيب الميتة لبنتها في مسئلتنا والفرع لأصله في مسئلته فاقضِ حينئذٍ على من خالف في ذلك من المتأخرين بأنه لم يطلع في هذه المسئلة على هذا النقل الصحيح(4/77)
الصريح إذ لو اطلعوا عليه لم يسعهم مخالفته لأنهما من أجلاء أصحابنا وإذا جزم شخصان من أجلاء الأصحاب بحكم وأقرهما مثل الأذرعي عليه ونبه على أن هذا يحتاج إليه كثيراً في الفتاوى وأشار إلى العمل به فيها ولم يرد في كلام الأصحاب ولا في قواعدهم ما يخالفه بل كلامهم في أماكن وكلام من بعدهم في أماكن دال عليه كما يأتي بسطه فلا سبيل لمن لم يصل إلى مرتبتهم أن يذهب إلى خلافه وكلام المتأخرين الموافق لكلامهما والمخالف له صريح في أنهم لم يطلعوا على نقل في هذه المسئلة كما سيظهر لك ذلك من كلامهم الآتي سيما كلام السبكي وأبي زرعة وكذلك كلام شيخنا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/78)
شيخ الإِسلام زكريا فإنه لما قال تبعاً للزركشي أن الولد لا يستحق قال خلافاً لأبي زرعة فعدوله لذلك عن قوله خلافاً للروياني ووالده صريح في أنه لم يطلع على كلامهما فإن قلت كيف ذلك وهو في توسط الأذرعي وهذا الكتاب نصب عيني الزركشي والشيخ سيما الزركشي فإنه مادة خادمه إلا الفذ الفاذ قلت هو في غير مظنته ولئن سلم فهو لم يسق فيه لبيان حكم مفهوم هذا الشرط وإنما الذي يفهم ببادي الرأي أنه مسوق لبيان التساوي في الصورة الأخير فيه الآتي حكمها مبسوطاً في الباب الثاني ففهم الزركشي ومن تبعه منه ذلك ولم يمعنا النظر فيه ففاتهما ما في أثنائه من التصريح بحكم هذه المسئلة التي أشكلت على كثير منهم وطال النزاع فيها بينهم ومما يدلك على ذلك إنك إذا سبرت كلام المتأخرين رأيتهم في مثل هذه المحال التي يقع فيها النزاع بينهم يفرون إلى الاستدلال بكلام من هو دون هذين الحبرين فعدول كل منهم عن ذلك إلى نصب الخلاف مع أهل عصره أو من قرب منهم يؤكد القطع بأنهم لم يظفروا في المسئلة بنقل ألبتة وإنما تكلموا فيها بحسب ما ظهر لهم فإذا وجد نقل فيها تأيد به كلام الموافق ورد به كلام المخالف لأن الظاهر من حاله أنه لو اطلع عليه لم يخالفه وعلى تقدير مخالفته فلا تسمع منه إلا بدليل وسيأتي أن الأدلة متظافرة على ما قالاه: الوجه الثاني: في بيان من وافق كلامه كلامهما من المتأخرين من غير اطلاع عليه فمن هؤلاء بل أجلهم السبكي على ما يأتي فإنه أفتى بما يوافق ذلك وإن أفتى أيضاً بما قد يخالفه كما يأتي في الوجه الثالث وبيان كونه أفتى بما يوافق كلامهما أنه سئل عن قرية موقوفة على شخص معين أيام حياته وعلى أولاده من بعده ذكراناً وإناثاً للذكر مثل حظ الأَنثيين فمن مات من أولاده الذكور ولم يخلف ولداً أو ولد ولد ولا له عقب ولا نسل كان نصيبه عائداً على أخوته وأخواته الباقين بعده الذكر والأنثى فيه سواء يجري فيه ذلك كذلك قرناً بعد قرن وليس لأولاد(4/79)
البنات اللواتي لا يرجعون بأنساب آبائهم إلى الموقوف عليه أو لا شيء من هذه الصدقة مع من يرجع بنسبه إليه فإذا انقرض عقبه جميعه كانت هذه الصدقة على أولاد البنات اللواتي يرجعن بأنساب آبائهم إلى الموقوف عليهم ثم قال: فإذا انقرضوا رجعت هذه الصدقة للفقراء وقد بقيت للأولاد الموجودين من نسل الموقوف عليه أولاد حفصة بنت زينب بنت حليمة بنت الموقوف عليه أو لا فهل تستحق جميع الوقف أو لا وهل يستحق من شرطه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/80)
له بعد عدم من ينسب إلى الموقوف عليه أو لا مع عدم وجود هذه أم لا فأجاب رحمه الله بقوله هذا اللفظ إذا أخذ مدلوله فقط على ما تضمنه هذا الاستفتاء فيه انقطاع في وسطه لأنه لم يذكر حكم ما إذا مات الأولاد وخلفوا أولاداً ولا حكم ما إذا مات أولاد الأولاد وخلفوا أولاداً فيتطرق إليه خلاف في أن أولادهم يستحقون أو يكون منقطع الوسط والأولى عندي في مثل هذه الصورة الخاصة الاستحقاق بتأويل اللفظ المتقدم كيلا ينقطع وعلى هذا تستحق حفصة المذكورة إذا ثبت انحصار النسل فيها وعلى كل تقدير لا يستحق المشروط الموجود بعدهم ولا نسله شيئاً مع وجودها أ هـ .
كلامه فقوله والأولى عندي الخ. صريح في موافقتهما فيما مر من استحقاق ولد البنت دون من في درجته فتأمل كونه سلم أن في هذا انقطاعاً للوسط ومع ذلك لم يجعل المستحق فيها الأقرب إلى الواقف بل جعل الاستحقاق لأولاد الميت وبان بآخر كلامه أن هذا الانقطاع الذي فيه لم يذكره ليرتب عليه حكمه بل ليكون مقرباً لطروق خلاف فيه من جهة هذا الاعتبار ومن ثم لم يرجح الأخذ بقضيته بل رجح عدم الأخذ بتلك القضية وأخذ بنقيضها المصرح بعدم الانقطاع كما يصرح بذلك أيضاً قوله: بتأويل اللفظ المتقدم كيلا ينقطع وأراد باللفظ المتقدم قوله ولم يخلف ولداً الخ. وبتأويله أن مفهومه وإن كان محتملاً لكن يرجح أحد محتملاته بل أظهرها وهو استحقاق الولد حذراً من الانقطاع الذي لا يقصد غالباً مع اعتضاده بما يأتي مبسوطاً من القرائن اللفظية والحالية وبعد أن بان لك هذا فأحدق النظر فيه فإنه مشفِ للعليل موافق للمنقول والدليل وبه أحكم على أن ما يأتي عنه مما يخالف ذلك ضعيف وعلى أن من تبعه على هذا الثاني كالزركشي لم يرَ إلا أول كلامه في فتاويه فاغتر به ونسب إليه أنه يقول بعدم استحقاق الأولاد ولو رآى كلامه هذا لم يسعه أن ينسب إليه ذلك فإن قلت العطف في صورة الروياني بثم وفي صورة السبكي بالواو وبينهما فرق واضح قلت لا(4/81)
فرق بينهما هنا لأن صريح كلام الواقف في صورة السبكي يقتضي الترتيب أيضاً لأن تخصيصه عود نصيب الميت إلى أخوته بما إذا لم يكن له ولد صريح في أن هذا الوقف ليس وقف تشريك وإلا كان ذلك الكلام كله لغوا وذلك لا يصار إليه حيث أمكن حمله على حالة تصححه وعلى تسليم أنه للتشريك فكلامه فيه أيضاً موافق لكلامهما وبيانه أنه إذا قال باستحقاق أولاد الميت دون أخوته مع أن العطف بالواو يدل على مشاركته لهم ولم يلتفت لذلك أخذاً بمفهوم الشرط لزمه أن يقول باستحقاق الولد في مسئلتنا ولا يقول بقضية العطف بثم من استحقاق الأخت دون البنت أخذاً بمفهوم الشرط أيضاً والحاصل أن مفهوم هذا الشرط كما خصص قضية التشريك في مسئلته بما إذا لم يكن للميت ولد وإلا فلا تشريك بل يفوز الولد بحصة أبيه جمعياً كذلك يخصص قضية انفراد الأخت في مسئلتنا بما إذا ماتت أختها عن غير ولد وإلا كانت حصة الميتة لها نفسها لا لأختها وسبب تساوي الصورتين أنه لا فرق بين حرمان من في الدرجة من البعض كما في مسئلته ومن الكل كما في مسئلتنا لأن الملحظ فيهما واحد ولا عبرة بالتفاوت في النصيب وإنما العبرة بما يتسبب عنه الاستحقاق أو عدمه كثر النصيب المستحق أو لا فأفهم ذلك واعتن به فإنه مهم وقد أفتى أيضاً بما لا يوافق ما قالاه في نظير مسئلتنا حتى في العطف بثم وفي كلامه في ذلك طول فلنلخص المقصود منه وذلك أنه سئل عمن وقف على الطنباء ثم على أولاده أحمد ومحمد وبتار ومن يحدث له ثم على أولادهم ثم أولاد أولادهم ثم أنسالهم للذكر مثل حظ الأنثيين فمن توفي من أولاد الطنباء وأولاد أولاده ونسله عن غير ولد أو ولد ولد أو نسل عادماً كان جارياً عليه من ذلك على من في درجته من أهل الوقف يقدم الأقرب إليه فالأقرب وانتهى الوقف إلى أحمد بن بتار المذكور وانفرد به فولد له محمد وألتي وشقري ثم ولد لمحمد ستيته وعائشة وأمة الرحيم وتوفي محمد عن بناته الثلاث في حياة أبيه ثم توفي أحمد عن(4/82)
بنتيه وبنات ابنه فهل نصيبه لبنتيه فقط أولهما ولبنات ابنه فأجاب بما حاصله هنا مقدمات إحداها هل أولاد الأولاد موقوف عليهم في حياة الأولاد ولكنهم محجوبون بآبائهم أو لا يصيرون موقوفاً عليهم إلا بعد انقراض آبائهم يحتمل الأول لشمول اللفظ وعمومه والثاني بقرينة ثم فكأنه قال على أولاد أولادي الموجودين حين انقراض أولادي فإذ ذاك يصير وقفاً عليهم وهنا شيئان تخصيص أولاد الأولاد بأن يخرج من مات منهم في حياة الأولاد عن شمول لفظ الأولاد والثاني تقييد الواقف بأن لا يصير ولد الولد الباقي بعد الولد مندرجاً في الوقف إلا بعد وفاة الولد وهما اعتباران متغايران فلقائل أن يذهب إلى هذا التخصيص والتقييد لأنه المتبادر إلى الفهم والقائل أن يدفعهما ويذهب إلى الاحتمال الأول وهو أن أولاد الأولاد موقوف عليهم في حياة الأولاد بمعنى أن الوقف شامل لهم ومقتضِ للصرف إليهم وله شرط إذا وجد عمل المقتضي عمله وهذا أقرب إلى قواعده اللغة والفقه وبما قدمناه يتبين لك أن هذه المقدمة انطوت على مقدمتين إحداهما أن كل أولاد الأولاد داخلون في لفظ الواقف ومراده أولاً والثانية هل الوقف عليهم موقوف على انقراض آبائهم أو لا وإذا لم يكن موقوفاً على ذلك فهل يقال إنهم من أهل الوقف أو ليسوا منهم حتى ينقرض آباؤهم لأن أهل الشيء هو المتمكن منه القوي فيه. المقدمة الثالثة: الترتيب المستفاد من ثم ظاهره يقتضي أن لا يصرف لأحد من أولاد الأولاد شيء حتى ينقرض جميع الأولاد وهو موضوع اللفظ لأن اللفظ اقتضى تأخر مسمى أولاد الأولاد عن مسمى الأولاد ومجموعهم ويلزم من ذلك ما قلناه وأما ترتيب الأفراد على الأفراد فليس ظاهر اللفظ ولكنه محتمل فلا يصار إليه إلا بدليل وقرينة في اللفظ تدل عليه. المقدمة الرابعة: أن من مات من الأولاد في حياة باقيهم فإنه ينتقل نصيبه إلى الباقين والفرق أن مسمى الولد باق والوقف على الأولاد كالوقف على الجهة والجهة صادقة على القليل(4/83)
والكثير فما دام واحد منهم موجوداً كان هو المستحق فلذلك لا نقول بالانقطاع ولا بالانتقال إلى من بعدهم وبلغني أن في مذهب الإِمام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195
أحمد رواية أنه ينتقل إلى ولد الولد ويحمل الترتيب على ترتيب الأفراد فإن صحت هذه الرواية فهي كالوجه الذي عندنا فيما إذا وقف على زيد وعمرو وبكر ولكن الفرق بينهما هو الذي أوضحناه نعم لو قال وقفت على أولادي زيد وعمرو وبكر احتمل أن يكون كذلك لأن هنا قد قوي جانب الأعيان وضعف جانب الجهة ولو قال وقفت على زيد وعمرو وبكر كل واحد ثلث ثم على الفقراء فهذا التفصيل يقتضي أنه كثلاثة أوقاف فهنا يضعف القول بأنه إذا مات واحد ينتقل نصيبه إلى الباقين ويقوي القول بأن نصيبه ينتقل إلى الفقراء. المقدمة الخامسة: ترتيب أولاد الأولاد على الأولاد ترتيب جملة على جملة وترتيب الجملة على الجملة تارة يراد به ترتيب الأفراد على الأفراد مثاله أن يكون كل فرع مرتباً على أصله فهنا يصح أن يقال الأفراد مترتبة على الأفراد والجملة مترتبة على الجملة وتارة يراد به ترتيب الجملة على الجملة من غير ترتيب الأفراد على الأفراد وهذا الذي قدمناه أنه ظاهر اللفظ مثاله هنا أنه لا ينتقل لأولاد الأولاد شيء حتى ينقرض جميع الأولاد مثال الأول أنه ينتقل لكل واحد نصيب أصله وقد يكون بين المعنيين واسطة مثاله أن يراد ترتيب الجملة على الجملة إلا في بعض المواضع التي ينص الواقف عليها مثاله أن يقول ليس لأحد من أولاد الأولاد شيء إلا من كان له من الأولاد نصيب قد استحقه ومات بعد استحقاقه فإنه ينتقل لولده فلا يدخل من مات أبوه قبل الاستحقاق وإن كان لو قال يرتب كل فرع على أصله لدخل وإذا دار لفظ مجمل بين المعاني الثلاث وتعذر العمل بظاهرها فلقائل أن يرجح هذا المعنى الثالث على الثاني لأنه أقرب إلى حقيقة اللفظ وإذا تعذر العمل بالحقيقة فكان ما قرب منها أولى. المقدمة(4/84)
السادسة: لفظ النصيب ظاهر في المستحق المتناول ويحتمل أن يراد به ما يخصه من الوقف بحيث لو زال الحاجب لتناوله ولا شك أنه أعني ولد الولد لو زال الحاجب لاستحق قسطاً فذلك نصيب أما بالقوة فقط وأما بالفعل فتناوله موقوف على شرط وهذا ظاهر إذا قلنا إنه موقوف عليه كما مر في المقدمة الأولى. المقدمة السابعة: قد يقول وقفت على زيد ثم على أولاده ثم أولادهم وقد يقول على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده وفي الصيغة الأولى الضمير في أولادهم لأولاد زيد وهل يندرج أولادهم في الظاهر عوداً على لفظ الأولاد لأن المراد به بعضهم فيعود الضمير على المراد فيه احتمالان أيضاً وإن قلنا بالاندراج اندرج أولادهم في الضمير وأما الصيغة الثانية فلا يأتي فيها الاحتمال بل يشمل جميع أولاد الأولاد سواء دخل آباؤهم في الوقف أو لا لصدق أولاد الأولاد عليهم وهذا بعد زوال من يحجبهم فلا إشكال وقد يقال يحجبهم الأعمام فيكون حكمهم حكم آبائهم. المقدمة الثامنة: الضمير في قوله من توفي منهم يعود على من قلنا إنه داخل في الوقف وقد تقدم بيانه وفاقاً واحتمالاً فمن جزمنا بدخوله هناك جزمنا بدخوله هنا ومن ترددنا دخوله هناك ترددنا في دخوله هنا. المقدمة التاسعة: أن قوله من مات منهم فنصيبه لولده الخ. هو كالوقف الكامل يجب النظر في صيغه ودلالته كما سبق. المقدمة العاشرة: أن كل ما أدى إلى قلة التخصيص والتقييد كان أولى مما أدى إلى كثرته والله أعلم إذا عرفت هذه المقدمات العشر فنقول أحمد وبتار المتوفى هو من أولاد أولاد الطنباء وهو داخل في الوقف فلا إشكال يشملهم قول الواقف ثم أولاد أولادهم أي أولاد أولاد أحمد ومحمد وبتار هاتان أي بنتا أحمد من أولاد أولاد بتار وأما أخوهما محمد المتوفى قبل والده ففي دخوله في الوقف وشمول الوقف له ما قدمناه من الاحتمالين ولم نجد نقلاً يعتضد به وقد تكلم شيوخنا في أنه هل هو من أهل الوقف أو لا والظاهر من كلامهم أنه ليس من(4/85)
أهل الوقف وقد قدمنا ما بلغنا عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195
الحنابلة في ذلك وقدمنا الإِشارة إلى أنه لا يلزم من كونه لا يصدق عليه أنه من أهل الوقف أنه لا يصدق عليه أنه موقوف عليه فإنه داخل في حقيقته وأما بناته فإنهن داخلات في قول الواقف ثم أنسالهم فهن موقوف عليهن في الأثناء بلا شك وقد اندرج أصلهن ولم يبق إلا عماتهن والنظر في أنهن حاجبات لهن أو لا والمحقق من ثم حجب أبيهن وأما حجب عماتهن فمحتمل وإلا ظهر من قولهم الحجب وعدم الحجب أيضاً محتمل من ذلك اللفظ كما قدمناه ثم أبدى احتمالاً ثالثاً لاستحقاق كل واحد ما لوالده وأطال في بيانه وإنما تركته لتحريف وقع في نسخة الفتاوى التي رأيتها ولم أرَ لها ثانية ثم قال فصار لاستحقاقهن وجوه من الاحتمالات وحجبهن بعمامتهن يلزم منه تخصيص قوله لولده وتخصيص قوله ثم لولد ولده في بعض الأحوال إذا ماتت شقري وألتي عن ولد وتخصيص من مات منهم إذا قلنا أبوهن دخل في اللفظ فهو ضعف جانب دلالة الترتيب ويبقى التردد فيه هل المراد به حجب كل فرع بأصله فقط أو حجب الجملة للجملة ويخرج عنها بعض الأفراد وإذا كان التردد في ذلك وقد قلنا إن كون ولد الولد موقوفاً عليه في حياة الولد راجح فنقول الاستحقاق محقق والحجب مشكوك فيه فنترك المشكوك فيه ونعمل بالمحقق فنقضي لهن بالاستحقاق ويحتمل أن يقال الأصل قبل الوقف عدم الاستحقاق فلا يحكم به بالشك والاحتمال الأول أرجح والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/86)
تنبيه: لما تجاذبت عندي الاحتمالات ولم أستطع الجزم بالقول باستحقاق أولاد الأولاد في حياة بعض الأولاد وإقامتهن مقام آبائهن لأني لم أرَ فيه سلفاً تطلبت أحكام الحكام الذين سلفوا وأقوال العلماء من المتأخرين والمتقدمين لعل يكون فيها مستند ما إما بهذا وإما بضده لأن هذه المسئلة كثيرة الوقوع تعم بها البلوى وقد رأيت جماعة من أصحابنا الشافعية بالشام قد استنكروا الفتوى بخلاف ذلك ورأيت جماعة من الحنابلة بالشام أفتوا بعدم الاختصاص فقال أحدهم ينتقل النصيب لبنات محمد ويقمن في الاستحقاق مقام والدهن لو بقي حياً ولا يمنع من استحقاقهن ذلك كون والدهن كان محجوباً كتبه أحمد بن الحسن الحنبلي وتحته كذلك يقول عبادة وقال الآخر ينتقل النصف إلى بنات محمد ولا يمنع من استحقاقهن عدم تناول أبيهن فإنه كان محجوباً بأبيه وهو من أهل الوقف ولكن وجود أبيه منعه من التناول مع قيام المقتضي وهذا المانع لم يوجد في بناته والبطن الثاني إنما يتلقون عن الواقف ووجود الأعلى مانع من تناول من دونه وليس تناوله شرطاً في تناول من بعده إذا قام شرط التناول ويؤيد هذا أن أحداً لا يكاد يقصد حرمان أولاد الأولاد الأيتام وإبقاءهن بوصف الحاجة والفاقة وتوفير الوقف كله على من هو نظيرهم في الدرجة والقرب من الواقف فهذا ليس من عادة العقلاء كتبه محمد بن أبي بكر الحنبلي وقال الآخر منهم بنقل النصف إلى بنات محمد لأن الواقف قصد تخصيص الموقوف عليهم وأنسالهم دون غيرهم وأكد ذلك من كتاب الوقف ويقمن بنات المذكور في الاستحقاق مقام والدهن لو كان حياً فإنه لو كان حياً استحق النصف ولكن منع من ذلك مانع وهو وفاته في حياة أبيه فنقل نصيبه إلى أولاده دون غيرهم. ووجود ألتي وشقري لم يكن مانعاً لبنات محمد من التناول لما كان يستحقه والدهن لو كان حياً كتبه محمد بن الشحنا الحنبلي هذه فتاوى الحنابلة وحكم برهان الدين الحنبلي الزوعي بمقتضاها في الثاني من رمضان سنة(4/87)
ثمان وثلاثين وسبعمائة ونفذه في تاريخه مستنيبة قاضي القضاة علاء الدين ونفذه في تاريخه قاضي القضاة عماد الدين الحنفي ونفذه ثالث رمضان قاضي القضاة شرف الدين المالكي ونفذه قاضي القضاة جلال الدين في تاريخه في ثالث رمضان المذكور ثم أذن جلال الدين قاضي القضاة في تاريخه لجلال الدين ناظر الأيتام أن ينظر فيما ثبت من استحقاق البنات الثلاث الأخوات إلى أن يتعين من يستحق النظر في الوقف المذكور وأشهد قاضي القضاة جلال الدين عليه بذلك في الحادي والعشرين من صفر سنة تسع وثلاثين وسبعمائة واستفتى في هذا الحكم إذا رفع إلى حاكم آخر هل يسوغ له نقضه يعني حكم الزوعي وتنفيذه فأجاب جماعة من جميع المذاهب بأنه ليس له نقضه ومنهم من الحنابلة من علل بأنه من المختلف فيه والحاكم إذا حكم في مسئلة الخلاف يرتفع الخلاف كتبه يوسف بن محمد الحنبلي فأما القول الأول والدليل عليه بأنه ينتقل النصف لبنات محمد فدعوى وقوله أنهن يقمن في الاستحقاق مقام والدهن أيضاً دعوى ليس في شرط الواقف تصريح بها وقوله أنه لا يمنع من استحقاقهن كون والدهن كان محجوباً صحيح لكن لا يلزم من كون هذا لا يمنع غيره ولا من كونه يمنع وجود المقتضي للاستحقاق فلم يأتِ بدليل عليه وأما قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/88)
محمد بن إبي بكر وهو ابن القيم الجوزية ينتقل النصف فهو أيضاً دعوى وقوله لا يمنع من استحقاقهن عدم تناول أبيهن جوابه ما تقدم وقوله فإنه كان محجوباً بأبيه الخ. منازع بأن كلام العلماء فيه ما يقتضي أنه لا يصير من أهل الوقف حتى ينقرض من قبله وإنما يطلق أهل الوقف على من يتناول وإن كان الآخر محتملاً فأخذه هنا مسلم ليس بجيد بل يحتاج أن يأتي بدليل عليه وقوله ويؤيد هذا الخ. هذا عمدة الحنابلة وهو الاعتماد على المعنى وفيه نظر لأنه قد يكون للواقف مقصود في مراعاة القرب وقوله والقرب من الواقف ذهول عن صورة الاستفتاء لأنه في الموقوف عليه لا في الواقف وأما ما قال الآخر فجوابه ما سبق فتبين أن فتاوى الحنابلة لم تشتمل على حجة وأما الفتاوى بعدم النقض فكلها لم يبين فيها المستند إلا يوسف بن محمد الحنبلي بقوله من المختلف فيه على ما فيه خلاف للمتقدمين وأما ما يقع لنا فتتجاذب الآراء فيه فلا يقال إنها من المختلف فيه بل ينبغي أن ينظر فيها فإن اتضح دليل عليها اتبع وإلا فلا وإن حكم فيها بحكم ولم يكن عليه دليل ينبغي جواز نقضه وإن كان عليه دليل لم ينقض وهذا الحكم لم نجد في كلام الحنابلة الذي استند إليهم ما يصلح أن يكون دليلاً نعم عندنا دليل آخر وهو ما قدمناه في كلامنا يبقى نظر آخر وهو أن الحاكم الحنبلي إذا لم يستند إلى دليل ولكن استند إلى ما ذكره أصحابه وقد ثبت أنه لا دليل فيه هل تكون مدافعة حكمه لما ذكرناه من الدليل مانعاً من نقضه أم لا هذا محتمل والأقرب أنه لا يصلح أن يكون مانعاً فإن من شرط صحة الحكم الاستناد إلى دليل صحيح فإن وجدنا إسجال الحاكم مطلقاً غير مستند إلى سبب ووجدنا دليلاً صحيحاً لم يكن لنا نقضه بل نحسن الظن به ولا نعتقد أنه استند إلى ما ظهر لنا من الدليل أو إلى دليل مثله وأن بين المستند ورأيناه غير صالح ولا تشهد له قواعد الشريعة بصحته فينبغي أن ينقض ويحكم حكماً مستنداً إلى دليل صحيح لكن أرى من(4/89)
باب المصلحة أن لا ينقض وينفذ لئلا يتجرأ الناس على نقض أحكام الحكام ويجعل التنفيذ كأنه حكم مبتدأ مستقل ولو حكم الحاكم المنفذ بحكم مستند إلى دليل موافق للأول وبقي الأول على حاله كان أولى وأجمع للمصالح والله أعلم أ هـ .
جواب السبكي لكنه لما اشتمل عليه من النفائس يستحق أن لا يترك وإن كان مطوّلاً وكان مبني هذا الكتاب على الاختصار ما أمكن فتأمله تجده مرجحاً لاستحقاق بنات محمد مع عمتيهما وقد صرح بأن ذلك هو الأرجح قبيل التنبيه واعتراضه على الحنابلة الذين ذكرهم ليس من حيث الحكم بل من حيث جزمهم به من غير بيان مستنده أو مع بيان مستند لا ينهض على ما ادعاه في جواب
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/90)
ابن القيم ويدل على ذلك قوله نعم عندنا دليل آخر وهو ما قدمناه في كلامنا فعلم أنه موافقه على الحكم كما دل عليه أول كلامه وآخره وإذا تقرر ذلك فاعلم أن صورة السؤال التي أفتى هو وهم فيها باستحقاق الأولاد هي ما تقدم كما رأيته في النسخة التي اطلعت عليها فإذا كان الأمر كذلك في الواقع فهي عين مسئلتنا فينسب إليه وإليهم أنهم قائلون باستحقاق الأولاد في مسئلتنا وإن لم يكن الأمر كذلك في الواقع بل فيه زيادة وهي أن من توفي عن ولد فنصيبه لولده كما قد يدل عليه بعض كلامه الذي تركته لتحريف النسخة كما أشرت إليه فيما مر لم ينسب إليه وإليهم القول بالاستحقاق في مسئلتنا إلا بطريق الاقتضاء لا الصريح وبيانه أن صورتنا موافقة لصورته في العطف بثم ومع ذلك ألغي العمل بقضيتها لما قرره مما عارضها فكذلك نلغي قضيتها في صورتنا لما عارضها من مفهوم الشرط المتبادر منه المعتضد بما يأتي من القرائن اللفظية والحالية وأيضاً فما وجه به استحقاق بنات محمد مع عمتيهما المخالف لقضيته ثم من أنه لا ينتقل شيء لواحد من بطن سافل وهناك أحد من بطن عال وذلك الذي وجه به وهو ما رجحه من أن ولد الولد موقوف عليه في حياة الولد وإن استحقاقه محقق وحجبه من في درجة أبيه مشكوك فيه فترك المشكوك والعمل بالمحقق يقضي لهن بالاستحقاق في حياة عمتيهما وألغي بذلك قضية الترتيب التي صرح بها الأئمة موجود بعينه في مسئلتنا فإن أولاد الأولاد موقوف عليهم في حياة آبائهم أيضاً وإنما هم محجبون بآبائهم يقيناً وشككنا في حجبهم بمن في درجة آبائهم فتركنا المشكوك فيه وعملنا باليقين مع ما انضم إليه مما يساعده من القرائن اللفظية والحالية الآتي بيانها في صورتنا ولا يتوهم من كلامه أن كون المرتبة الثانية مثلاً يصح أن يقال إنها موقوف عليها في حياة أهل المرتبة الأولى وإنما هي محجوبة بها مما هو بمجرده ملغ لقضية العطف بثم لأن ذلك لا يتمشى على كلام الأئمة في ثم وإنما الذي(4/91)
يلغيها ما ينضم إلى ذلك من القرائن كمفهوم الشرط في صورتنا وصورته بناءً على صحة النسخة التي مرت وكصريح الشرط الذي أشرنا إلى أن كلامه في غضون جوابه قد يدل على وجوده وهو أن من توفي وله نصيب فنصيبه لولده وحينئذٍ فوجه التوقف بناءً على فرض أن هذا في صورته أن محمداً المتوفى هنا قبل والده لا نصيب له فكان قضية اللفظ أن لا ينتقل لبناته شيء من نصيب أبيه لأن نصيبه انتقل لبنته الحاجبتين لبنات أخيهما نظراً لقضية العطف بثم السابقة لكن لما احتمل أن الواقف يريد بالنصيب في قوله من توفي وله ولد فنصيبه لولده النصيب الحقيقي والتقديري وعضده ما قدمه السبكي في جوابه صلح ذلك معمماً للنصيب في المحقق والمقدر فلزم حينئذٍ استحقاق بنات محمد لأن والدهم موقوف عليه في حياة أبيه وإنما هو محجوب به فله نصيب لكنه مقدر أي لو مات أبوه في حياته لاستحقه فأخذ بناته نصيبه ذلك المقدر لا في حياة أحمد أبيه لأن والدهم لا نصيب له في حياة أبيه بل بعد مماته إذ بمماته تحقق أنه لو كان محمد موجوداً لاستحق من أبيه نصيباً فله حينئذٍ نصيب مقدر بموت أبيه فلما مات أبوه استحق بناته نصيبه ذلك الذي كان مقدراً لأنه بعد موت الأب صار موجوداً هذا حاصل ما يوجه به استحقاق أولاد محمد على فرض أن صورة مسئلتهن فيها زيادة ومن توفي عن ولد فنصيبه لولده وإذا خرج النصيب عن ظاهره في هذه الصورة بهذه الطريق التي تقررت وعمم في المحقق والموجود وقضي بسبب ما قدمه السبكي على العمتين باستحقاق بنات أخيهما معهما لأدنى معارض فأولى أن نأخذ بمفهوم الشرط في مسئلتنا ونقضي به على الخالة الموجودة في درجة الميتة باستحقاق بنت أختها معها لقوّة المعارض فيها لقضية ثم كما يأتي بيانه والحاصل أن كلام السبكي ومن ذكر معه في هذا السؤال دال على استحقاق البنت في مسئلتنا أما بطريق التصريح وأما بطريق الاقتضاء كما بان لك ذلك واتضح مما قررته ثم رأيت السبكي بسط الكلام في هذه المسئلة(4/92)
وما يتعلق بها في سؤال آخر فيه الزيادة المذكورة وإبدال العطف بثم بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى وذكر مع ذلك سبع صور تتعين الإِحاطة بها فأنها مهمة ولجميعها تعلق بمسئلتنا نعم سيأتي في الباب الثاني عن البغوي ما يصرح برد ما قاله في هاتين الصورتين فتنبه له فإنه مهم فلم أرَ من تعرض لرد كلامه هنا وفي موضع آخر بكلام البغوي الآتي مع أنه صريح في رده كما سأذكره ثم وممن وافق الروياني ووالده على ما مر عنهما من استحقاق الولد في الصورة السابقة الولي أبو زرعة من غير اطلاع منه على كلامهما وعبارته في فتاويه سئلت عمن وقف على أولاده وأولاد أولاده وذريته ونسله وعقبه طبقة بعد طبقة ونسلاً بعد نسل تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى على أن من مات منهم ولم يخلف ولداً ولا ولد ولد كان نصيبه لإِخوته وأخواته فمات بعضهم عن ولد هل يكون نصيبه لولده أو لإِخوته فأجبت بأنه قد تعارض هنا أمر أن مقتضي قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى أنه لا استحقاق لأولاد المتوفى مع وجود إخوته ومقتضى مفهوم تقييد انتقال ذلك لإِخوته أن لا يكون له ولد استحقاق ولده وقد اختلف في العمل بمفهوم المخالفة في ألفاظ الآدميين فحكي عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/93)
القاضي حسين إنكاره وأنه إنما يعمل به عند القائل به في ألفاظ الشرع ومال إليه من المتأخرين الشيخ الإِمام تقي الدين السبكي بل حكى عن الكيا الهرايسي ما هو أعم منه وهو أن جميع القواعد الأصولية إنما يعمل بها في ألفاظ الشرع لا في كلام الآدميين لكن هذا قول مهجور وعمل الناس على خلافه ولا معنى له فإن صح ما قاله القاضي حسين ومن تبعه تعين انتقال الاستحقاق لإِخوة المتوفى وإن لم يصح وهو الذي يظهر من كلام الأصحاب بل حكي عن الحنفية المنكرين لمفاهيم المخالفة قالوا: بها في ألفاظ الآدميين فالاستحقاق حينئذٍ لولد المتوفى عملاً بالمفهوم فإنه خاص وقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى عام والخاص مقدم على العام والمشهور في الأصول تخصيص العموم بالمفهوم أ هـ .
كلامه وهو حسن كما يأتي تحقيقه وممن وافقهما أيضاً من معاصري السبكي القاضي شمس الدين ابن القماح و القلقشندي و يونس بن أحمد ويوسف بن حماد فإنهم سألوا عمن وقف وقفاً على أربعة أنفس بينهم بالسوية ثم على أولادهم من بعدهم ثم أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم أبداً بطناً بعد بطن وقرناً بعد قرن سهم الذكر والأنثى فيه سواء على أن من توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وأن سفل كان ما يستحقه من هذا عائداً على الثلاثة الموقوف عليهم أوّ لا ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم لا يستحق من الأولاد أحد حتى ينقرض الأعلى من آبائه فمات أحد الأربعة من غير نسل فانتقل نصيبه إلى الثلاثة الموقوف عليهم أو لا ثم مات الثلاثة الموقوف عليهم أو لا فهل ينتقل لولد كل منهم ما كان يستحقه أبوه لو كان حياً أم يشترك جميع الأولاد المخلفين عن الثلاثة الموقوف عليهم أو لا فأجاب عن ذلك القلقشندي بقوله قوة الكلام تشعر بأن من مات منهم انتقل نصيبه إلى أولاده وإن لم يتعرض له وكذلك على جوابه هذان المذكوران بعده وأجاب ابن القماح بقوله لا يدل كلام الواقف على التشريك بل قد يدل على ضده(4/94)
فإنه شرط في صرف نصيب الميت إلى غير أولاده أن يموت عن غير ولد فمتى مات عن غير ولد صرف إليهم فوجود الولد مانع من صرف نصيب الميت إلى غير أولاده وأجاب مرة أخرى بقوله من مات من الثلاثة الموقوف عليهم فنصيبه لأولاده خاصة لا يشاركه فيه أولاد الآخر وكذا حكم بقية الطبقات من الأولاد وإن سفلوا أ هـ .
فانظر كيف أفتى هؤلاء بأن نصيب الميت لولده لا لمن في درجته مع مساواة صورتهم هذه لصورتنا في العطف بثم وفي أنه لم يصرح بمفهوم قوله من مات عن غير ولد كان ما يستحقه عائداً على الثلاثة الذين في درجته بل صورتهم هذه فيها زيادة على صورتنا تقتضي منع الأولاد بالصريح لقوله مع العطف بثم بطناً بعد بطن وقرناً بعد قرن وهذا أظهر في حجب الأولاد من مجرد العطف بثم ومع ذلك لم ينظروا إليه بل خصصوه بمفهوم قوله من مات عن غير ولد عاد ما يستحقه إلى الثلاثة التي في درجته فإذا جعلوا مفهوم هذا مخصصاً في هذه الصورة فأولى أن يجعل مخصصاً في صورتنا كما هو ظاهر ووافق ابن القماح على ما مر عنه بعض المالكية وغيرهم. وبه يعلم أن ما مر عن الروياني ووالده وغيرهما من استحقاق البنت في مسئلتنا لا يختص بمذهب الشافعي بل هو مذهب مالك أيضاً ومر في جواب أبي زرعة عن الحنفية ما يقتضي أنه مذهب أبي حنيفة أيضاً ومر عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/95)
ابن القيم من أجل الحنابلة ومعاصريه من أئمة مذهبه ما يقتضي أن ذلك مذهب أحمد أيضاً فبمقتضى ذلك صار القول باستحقاق البنت ليس من مفردات مذهب الشافعي بل المذاهب الأربعة متفقون عليه على مقتضى ما تقرر فلتراجع كتبهم فإن وجد فيها التصريح بما يخالف ما قلناه عمل به وإلا فالعمل بما نسبناه إليهم أخذاً مما تقرر وهذا كله يبطل قول الزركشي الآتي أن عدم الاستحقاق مجمع عليه وسيأتي الكلام عليه بأبسط من هذا وممن وافقهما أيضاً البلقيني وبيانه أنه سئل عمن وقف على ولديه الرجلين نصيب كل واحد عليه ثم على أولاده من بعده مهما نزلوا للذكر مثل حظ الأنثيين ومن انقرض عن غير ولد فنصيبه لأخيه ثم لأولاد أخيه مهما نزلوا على الفريضة الشرعية فإن انقرضوا كلهم عن غير ولد كان عائداً على من يرثهم من الأقارب وإن لم يكن فعلى من يرثهم من العصبات فآل الوقف إلى أخوين ذكر وأنثى ذكر اسمه عبيد وأنثى فتوفيت الأنثى عن أخيها وبنت تسمى عائشة فتوفيت عائشة عن والدها وأخوة من أبيها وخالها عبيد فلمن تنتقل منافع الوقف عن عائشة ثم مات عبيد عن ولدين ذكر وأنثى ولم يبق من ذرية الواقف غيرهما. فأجاب بقوله تنتقل منافع ذلك لعبيد ويستقل ولداً عبيد بعده بغلة الوقف المذكور للذكر مثل حظ الأنثيين ولا ينتقل شيء من ذلك لأخوتها لأبيها لأنهم ليسوا من ذرية أحد الذكرين الموقوف عليهما أولاً ولا شيء لوالد عائشة لذلك أ هـ .
المقصود من جوابه وهو صريح في استحقاق عائشة نصيب أمها دون أخي أمها الذي في درجتها وهو عبيد مع أن مسئلته نظيرة مسئلتنا في العطف بثم لقضيتها الدالة على استحقاق عبيد دون عائشة أخذاً بمفهوم ومن انقرض عن غير ولد فنصيبه لأخيه فعلم أن مسئلته نظيرة مسئلتنا وأنه قائل باستحقاق الولد دون الأخ وإن من نسب إليه خلاف ذلك فقد وهم وأجاب عنه مرة أخرى بقوله ليس لوالد الصغيرة المذكورة أي عائشة حق في نصيبها ولا لأولاده بل نصيبها لخالها الخ. فانظر تصريحه(4/96)
بأن لعائشة نصيبها وبأنه لا ينتقل لخالها إلا بعد موتها وهذا صريح أي صريح في مسئلتنا باستحقاق البنت دون الأخت. الوجه الثالث: في الرد على من خالف كلامه ما مر عن الروياني وغيره، وإن كان ذلك عن غير قصد منهم وإنما هو شيء ظهر لهم فمن هؤلاء السبكي فإنه أفتى في صورة السؤال التي أفتى فيها ابن القماح ومن معه بما مر بقوله يشترك جميع الأولاد المخلقين عن الثلاثة الموقوف عليهم أوّلاً في جميع الموقوف بينهم الذكر
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/97)
والأنثى فيه سواء ثم أولادهم كذلك تحجب الطبقة العليا أبداً الطبقة السفلى ولا يختص أولاد كل بنصيب والدهم ولا يستحق شيئاً من نصيب والده حتى يتوفى من يساوي والده في الطبقة عملاً بأنه جعل كل الوقف بعد الأربعة لأولادهم ولم يخص ولم يفصل ولم يأت بصيغة تشعر بذلك كما أتى في الطبقة الأولى بقوله أرباعاً ومحافظة على تعميم قوله الذكر والأنثى فيه سواء ولو خصصنا أولاد كل بنصيب أبيهم لزم تخصيص قوله الذكر والأنثى فيه سواء والتخصيص فيه خلاف الأصل وما ذكرناه في الأول لا يلزم منه أمر مرجوح مع دلالة اللفظ عليه دون ما عداه ولا يمنع من ذلك مفهوم قوله على أن من توفي منهم عن غير ولد كان ما يستحقه عائداً على الثلاثة الخ. لأنه إنما قال ذلك لأن موضوع الكلام أوّلاً يقتضي أن الوقف في الطبقة الثانية لأولاد الأربعة فإذا لم يكن لأحدهم ولد قد يقال إن نصيبه لا ينتقل إلى الثلاثة ولا إلى أولادهم لأنه وقفه على أولاد الأربعة ولم يوجد إلا أولاد الثلاثة فيكون ذلك النصيب منقطعاً فبين بهذا اللفظ أن ذلك النصيب يعود إلى الثلاثة وإلى أولادهم على الحكم المشروح ويصير الوقف على الأربعة بعدهم وقفاً على أولاد الثلاثة ومفهوم ذلك أن من مات وله ولد لا يكون الحكم كذلك ونحن نقول به بأن نقول نصيبه للثلاثة عملاً بالترتيب وبعد الثلاثة يعود نصيبهم على أولاده وأولادهم عملاً بقوله ثم على أولادهم ولا ينحصر مفهوم ذلك في أن من مات وله ولد يأخذ ولده نصيبه فذلك لا دليل عليه وما ذهبنا إليه محتمل يكتفي به في المفهوم مع دلالة اللفظ عليه فكان متيقناً ومتى ثبتت المخالفة بوجه ما كفي في العمل بالمفهوم وأما قوله لا يستحق أحد من الأولاد حتى ينقرض الأعلى من آبائه فذلك معمول به على ما قلناه بأن ينقرض الأعلى من آبائه ولا يكون في طبقته من يساويه فعند ذلك يستحق ومتى حصل العمل بالمفهوم في صورة كفي ولا يلزم أن يستحق عند انقراض أبيه مطلقاً على كل تقدير(4/98)
لعدم المقتضي للعموم وإنما أتى الواقف بهذه الجملة ليدل على الذي ثبت في جميع البطون في استحقاق النصيب الأصلي والنصيب العائد لأنه أتى بثم في الأول مرتين وفي الثاني مرة واحدة وأتى بالواو فيما عدا ذلك فلو اقتصر لم يجب الترتيب في بقية البطون ولاحتمل أن نصيب من مات ولا ولد له يرجع إلى الأعلى والأسفل معاً لأنه قد يقال إنهم من أهل الوقف فأتى بهذه الجملة ليزيل هذا الوهم ويتبين أن هذا الترتيب مقصود في كل الطبقات في جميع الوقف وأن كل طبقة تحجب ما تحتها ولم يبق ما فيه احتمال إلا أمران أحدهما أن نصيب كل واحد ينتقل إلى ولده بموت أبيه فيكون الولد محجوباً بموت أبيه أو بموت أبيه ومن يساويه ولم يتبين في الكلام ما يدل على الأول فحملناه على الثاني لأن استحقاق الولد قبل انقراض الطبقة بكمالها مشكوك فيه فلا يستحق للشك والأصل عدم الاستحقاق والمعنى الثاني أقرب إلى ظاهر اللفظ الأمر الثاني إذا انتقل نصيب الطبقة للطبقة التي تحتها هل يكون مشتركاً بين الجميع بالسواء أو تأخذ كل ما كان لأبيهم ولا دليل على الثاني والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فتعين وذلك يبين صحة ما ذكرناه أو لا هذا ما ظهر لي في هذا الوقت وفوق كل ذي علم عليم أ هـ .
ويرد كلامه هذا بأمور منها أن قوله ولم يأتِ بصيغة تشعر بذلك إن أراد به أنه لم يأتِ بما يقتضي تخصيص أحد من أهل الدرجة الثانية بنصيب أبيه ولا بما يقتضي تفضيلاً في ذلك بل جميع أهل الدرجة الثانية يستوون فيما آل إليهم ولا يفضل أحدهم بنصيب أصله فهو ظاهر ومسلم ولا يرد علينا لأن هذا ليس كلامنا فيه الآن وإنما يأتي البحث عنه في الباب الثاني وإن أراد أنه لم يأتِ بما يقتضي أن الولد يأخذ نصيب أبيه الميت في حياة من في درجته فغير ظاهر وغير مسلم لما يأتي من أن مفهوم الشرط المتبادر منه ذلك وقوله ولا يمنع من ذلك مفهوم قوله على أنه من توفي منهم عن غير ولد الخ. صريح في أن كلامه إنما هو في مبحث التساوي لا(4/99)
في مبحث استحقاق الأولاد نصيب أبيهم في حياة من في درجته لكن قوله ولا ينحصر مفهوم ذلك في أن من مات وله ولد يأخذ ولده نصيبه الخ. ظاهر في أن الأولاد في مسئلتنا لا يستحقون وليس كذلك لأن المفهوم وإن لم ينحصر في ذلك لأنه يحتمل أحوالاً أربعة كما يأتي إلا أن المتبادر من هذا الشرط الانحصار كما يأتي بسطه وقوله ولا يلزم أن يستحق عند انقراض أبيه مطلقاً الخ. يقال على ذلك وإن لم يكن لازماً عقلاً ولا وضعاً إلا أنه لازم من هذا الشرط عرفاً والدلالة العرفية يكتفي بها في الأوقاف وغيرها. كما تأتي الإِشارة إلى ذلك في كلام السبكي نفسه وغيره وقوله وإنما أتى الواقف بهذه الجملة الخ. يقال عليه هذا الحصر ممنوع بل الغالب أن الواقفين يأتون بذلك قصداً إلى أن لا تحرم أولاد الأولاد وإن سفلوا لأن الغالب أن أهل الدرجة الثانية مثلاً يكونون محتاجين صغاراً فقراء بالنسبة إلى أهل الدرجة الأولى فيقصد الواقفون النص على ذلك حتى يندفع ما أفهمه العطف بثم من أنه لا يعطي أحد من أهل الدرجة الثانية وهناك أحد من أهل الدرجة الأولى ويدل على ذلك أن أكثر كتب الأوقاف المذكور فيها هذا الشرط لا يكتفي بمفهومه وإنما يصرحون به ليصير منطوقاً لا يقبل النزاع وليس التصريح بهذا المفهوم لا يحتاج إليه اتكالاً منهم على أنه لا يتبادر من ذكر هذا الشرط إلا العمل بمنطوقه وبمفهومه المتبادر منه وهو استحقاق الولد في حياة من في درجة أبيه فيتكلون على ذلك ولا يصرحون بهذا المفهوم إيثاراً للاختصار وهو تساهل منهم ولذا لما كان أكثرهم يحتاط في ذلك وجدناهم بالاستقراء المأخوذ من الاطلاع على فتاوى الأئمة المسطر فيها أكثر ذلك وعلى غيرها يصرحون بهذا المفهوم فعدم التصريح به يحمل على سهو أو تساهل من الموثق مع العلم المأخوذ من الغالب من عادة الواقفين بأنهم لا يقصدون حرمان الصغار من ذرياتهم كما مر التصريح بأبلغ من ذلك في كلام(4/100)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195
ابن القيم ويدل لذلك ما وقع للبلقيني في فتاويه فإنه قضى على بعض الموثقين بالسهو لقرائن ذكرها تقرب من القرائن التي ذكرتها ثم قال: والجمود على مجرد ما كتب وظهر أنه سهو بمقتضى ما قررناه خروج عن طريقة الفقهاء الغائصين على الجواهر المعتبرة أ هـ .
فإن قلت يلزم على ذلك أن العطف بثم لغو قلت: لا يلزم ذلك كما يأتي تحقيقه وقوله: ولم يتبين في الكلام ما يدل على الأول ممنوع بل فيه ما دل عليه كما علم مما مر ومما يأتي وقوله: لأن استحقاق الولد الخ.. ممنوع فإنه لا يكون مشكوكاً فيه إلا إذا لم يدل دليل على استحقاقه وقد دل الدليل على استحقاقه كما علم مما مر ومما يأتي وقوله وهذا ما ظهر لي في هذا الوقت الخ. يتبين أنه لم يطلع على كلام الروياني ووالده الذي قدمته ولما كان في بحثه هذا من قبول المناقشة والرد ما أشرت إليه فيما مر وما سأصرح به فيما يأتي خالفه فيما أفتى به في ذلك جماعة من معاصريه كما قدمت ذلك عنهم ومما يرد ما قاله هنا ما قدمته عنه في الوجه الثاني مبسوطاً وما سأذكر فيه عقب الكلام على ما قاله الزركشي و شيخنا زكريا فأنهما تبعاه في هذا الجواب وغفلا عن بقية كلامه في الأجوبة الأخرى التي مر بعضها ويأتي بعضها ومنهم الزركشي فإنه قال في خادمه على قول الرافعي ولو قال على أولادي ثم على أولاد أولادي ما تناسلوا بطناً بعد بطن فهو للترتيب ولا يصرف للبطن الثاني ما بقي من البطن الأول أحد كذا قاله الجمهور والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الأول أن يجيء في نصيبه الخلاف فيما إذا وقف على شخصين ثم على المساكين فمات واحد إلى من يصرف نصيبه ولم أرَ تعرضاً له إلا لأبي الفرج السرخسي فإنه سوّى بين الصورتين وحكى فيها وجهين أحدهما أن نصيب الميت لصاحبه والثاني لأَقرب الناس إلى الواقفين وكذا ذكر صاحب الإِفصاح أنه يصرف لأقرب الناس إلى الواقف انتهت عبارة(4/101)
الرافعي قال في الخادم فيه أمور أحدها: ما جزم به من أن هذه الصيغة للترتيب خالف فيه العبادي، ثم أطال الزركشي الكلام في بيان ذلك والرد على من توهم أن العبادي يقول إن ثم والواو سواء مطلقاً قال: وليس كذلك إنما قاله فيما إذا أضاف إلى ثم بطناً بعد بطن كما نقله عنه القاضي ووجهه أن ثم تقتضي الترتيب وبطناً بعد بطن يقتضي الجمع فلو قلنا بظاهرهما لأَبطلنا اللفظ للتناقض فاحتاج لطريق تصححه هي أن ثم تستعمل للجمع لغة فنقل الكلام من حقيقته إلى مجازه بقرينة بطناً بعد بطن فإن البغوي لم يصرح بهذا لا فيما تناسلوا سواء أضم إليها بطناً بعد بطن أم لا أما في صورة أفراد بطناً بعد بطن فلم يذكرها ثم قال: والصواب قول القاضي لو قال على أولادي ثم أولادهم ما تناسلوا أو تعاقبوا فهذا وقف مرتب الابتداء لا الانتهاء ومعنى الترتيب في بطناً بعد بطن أنه لا ينتقل لأحد من الطبقة السفلى شيء حتى ينقرض جميع الطبقة العليا ومعنى الترتيب في ثم كذلك عند الإِطلاق وقد يقترن بهاتين الصيغتين من ألفاظ الواقف قرائن تبين أن المراد حجب كل فرع بأصله فيعمل بها الثالث ما حاوله من التخريج يوهم التسوية بين المسئلتين أعني بين مسئلة زيد وعمرو ثم الفقراء وبين مسئلة الأولاد ثم أولادهم وقد اغتر بعضهم بذلك فأفتى فيمن وقف على أولاده ثم أولاد أولاده على أن من مات منهم عن غير ولد ينتقل نصيبه لمن في درجته فمات واحد عن ولد فأفتى أن نصيبه لولده وهذا غلط وآخر كلام الرافعي يبين مراده والصواب أنه لا يعطي أحد من أولاد الأولاد حتى ينقرض الأولاد وما دام واحد منهم لا يستحق واحد من أولاد الأولاد والمسئلة إجماعية ولم يخالف فيها أحد إلا ممن لا يعتد به من المتأخرين وقد سبق من كلام صاحب التقريب ذلك وأنه يصير منقطع الوسط الرابع ما حاوله من التخريج منعه في الروضة وفرق بأن من بقي من الأولاد يسمى أولاداً بخلاف ما إذا مات أحد الشخصين وهو فرق صحيح وقريب منه قول(4/102)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195
البغوي في فتاوى شيخه أنه لوقوف على فلان وفلان ثم على أولادي لا يرجع إلى الآخر عند موت أحدهما بل بخلاف ما لو قال على أولادي ثم أولاد أولادي أ هـ .
الخامس أطلقوا أن ثم للترتيب ولم يعتبروا حقيقتها في اللغة مع الترتيب وهو التراخي والانفصال وقياس ذلك أن يكون الوقف منقطعاً في لحظة ولم يقولوا به ويجيء مثله فيما لو قال وقفت على زيد ثم عمرو أو قال أوصيت إلى زيد ثم عمرو أ هـ .
حاصل كلامه على عبارة الرافعي المذكورة وما ذكره في مسئلتنا صريح في أنه لم يرَ فيها شيئاً لأحد من المتقدمين إذ لو رأى فيها كلام مثل الروياني ووالده السابق لم يسعه أن يقول مع ذلك والمسئلة إجماعية ولم يخالف فيها أحد إلا ممن لا يعتد به من المتأخرين وبعد أن بان لك أن القائل بخلاف ما قاله فيها مثل الروياني ووالده فلا معول على ما ذكره حينئذٍ ولا نظر لقوله إجماعية ولا إلى قوله إلا ممن لا يعتد به من المتأخرين ويقال له إنما كان يمكن أن يسلم لك ما ذكرت أن لو كانت المسئلة لا نقل فيها من مثل الروياني ووالده وغيرهما. مما مر وأما بعد أن وجدت منقولة ولله الحمد فلا معوّل على غير المنقول فيها ثم في كلامه أمور منها أن قوله وقد يقترن بهاتين الصيغتين من ألفاظ الواقف قرائن تبين أن المراد حجب كل فرع بأصله فيعمل بها ظاهر بل صريح في العمل بمفهوم الشرط المتبادر منه في مسئلتنا المعين أن المراد فيها حجب كل فرع بأصله لما احتف به من القرائن الآتية وإذا علم أنه قائل بهذه القاعدة التي يأتي التصريح بها في كلام غيره وأنها تدل على ما ذكرناه في مسئلتنا فليعلم بطلان قوله في صورة الإِفتاء التي ذكرها فيما مر عنه لأنه مناقض لما قدمه قبله بقليل فإن قلت قد لا يسلم أن هذه الصورة قرينة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/103)
قلت : لا يسعه إنكار ذلك لما هو جلي من أن هذا الشرط له مفهوم وأن مفهومه وإن كان محتملاً كما يأتي بيانه لكن ما يأتي من أن العبرة بمقاصد الواقفين وما دل عليه عرفهم يرجح أن المراد بمفهومه أن من مات عن ولد يكون نصيبه لولده على أنه لو لم يكن المراد ذلك لزم أن يكون لغواً وبيانه أن صريح العطف بثم مع قطع النظر عن هذا الشرط يقتضي أنه لا ينتقل شيء لأحد من البطن الثاني ما بقي أحد من البطن الأول كما مر عن الجمهور فلو ألغينا مفهوم هذا الشرط وقلنا إن نصيب الميت عن ولد ينتقل لمن في درجته دون ولده لزم إلغاء هذا الشرط من أصله وإلغاء شرط من شروط الواقف مع إمكان العمل به ومع ظهور وقربه إلى مقاصد الواقفين لا يمكن القول به ويدل على ذلك ما مر أن أكثر كتب الأوقاف مشتملة على تخصيص العطف بثم في المراتب بما إذا لم يكن لأحد من أهل الطبقة المتأخرة فرع وإلا انتقل ما كان له لفرعه ولو في حياة من في طبقة الميت ويصرحون بذلك وإذا كان هذا هو عرف الواقفين وتطابق عليه أكثر كتبهم فليعمل بمفهوم الشرط في مسئلتنا المؤيد لذلك ويحمل الموثق على أنه إنما ترك التصريح بذلك المفهوم لوجه من الوجوه السابقة والحاصل أن الزركشي سلم أنه إذا كان هناك قرينة تنافي العطف بثم ونحوها. عمل بتلك القرينة ونحن نقول إن تلك القرينة في مسئلتنا موجودة كما يأتي بيانها بأبسط مما مر ومن زعم خلافه فليثبته بدليل ولا يظفر به فعلم أن ما قاله الزركشي أو لا يرد ما قاله في صورة الإِفتاء التي ذكرها آخرا وكفي بهذا على فرض أن لا نقل في المسئلة فكيف به مع وجود النقل فيها ومنها أن قوله وقد اغتر بعضهم بذلك فأفتى الخ. يقال عليه هذا الاغترار صحيح وكلام الرافعي مؤيد لما ذكره هذا البعض وأفتى به المواقف للمنقول وقول الزركشي وآخر كلام الرافعي يبين مراده مجرد دعوى والذي ذكره بعد مباين لما نحن فيه وهو قوله على أولادي وأولاد أولادي ومن مات منهم فنصيبه لأولاده فإذا(4/104)
مات أحدهم كان نصيبه لأولاده خاصة ويشاركون الباقين فيما عدا نصيب أبيهم أ هـ .
وهذا ليس مشابهاً لما نحن فيه كما هو جلي فكيف يدعي أنه يبين مراده فيما نحن فيه مع تباين الصورتين فإن في صورتنا العطف بثم وهذه في العطف بالواو المقتضي لأخذ الولد نصيب أبيه ومشاركته الباقين فيما عدا ذلك النصيب كما تقرر من كلام الرافعي وتبعه في الروضة على الجزم به وهو المعتمد وإن قيل إن ظاهر كلام الأصحاب أنه للترتيب ومنها قوله وقد سبق من كلام صاحب التقريب ذلك وأنه يصير منقطع الوسط مراده بذلك ما قدمه على قول الرافعي وقف على شخصين ثم الفقراء فمات أحدهما حكى الأئمة في نصيبه وجهين أظهرهما ويحكى عن نصه في حرملة أنه يصرف إلى صاحبه لأنه شرط في الانتقال إلى المساكين انقراضهما ولم يوجد والثاني عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/105)
أبي على الطبري أنه يصرف إلى المساكين ويقال صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط أ هـ .
كلام الرافعي قال الزركشي فيه أمران أحدهما ما قال إنه القياس ولم يذكره منقولاً وقد ذكره بعد ذلك بقليل عن رواية أبي الفرج عن صاحب الإِقناع وهو أبو علي الطبري أيضاً، ثم قال الزركشي : وما عزاها الرافعي عن صاحب الإِفصاح هو ما بحثه هنا وأيضاً فيكون للطبري في هذه المسئلة وجهان ثم رأيته في التقريب لابن القفال الشاشي احتمالاً له فقال يحتمل هذا وجهين أحدهما: أنه يرجع إلى أقرب الناس للواقف لأنه لم يبين مخرجاً بعد موت من يموت منهم فإنه لم يجعله للباقين ولا لغيرهم والحكم في حصة من مات إذا لم يبين مخرجاً كالحكم فيما إذا ماتوا وهذا قول صحيح ومن قال به قال لو جعله على ولده ثم ولد ولده وله عدة أولاد فمات واحد منهم لم ترجع حصته إلى سائر الأولاد ولا إلى أولاد الأولاد ويرجع إلى أقرب الناس إلى الواقف فإذا انقرض الأولاد كلهم عاد الوقف كله إلى ولد الولد والوجه الآخر أنه يرجع إلى شركائه في الوقف أ هـ .
المقصود من كلام الزركشي فتأمله مع قوله السابق وقد سبق من كلام صاحب التقريب ذلك وأنه يصير منقطع الوسط وحينئذٍ فإن أراد بالإِشارة في ذلك ما أفتى به غيره من استحقاق ولد الولد فغير صحيح كما هو جلي إذ لا مناسبة بين استحقاق ولد الولد هنا وما قاله صاحب التقريب بل بينهما غاية التنافي لأن استحقاق الفرع هنا يخرجه عن الانقطاع في الوسط وما قاله صاحب التقريب يحقق الانقطاع فيه فأين هذا من ذاك وإن أراد الذي قاله هو من استحقاق من في درجة الميت دون ولده هو الموافق لكلام صاحب التقريب فكفي بذلك شاهداً على ضعف ما ذهب إليه بل شذوذه لأن ما قاله صاحب التقريب ثم ضعيف جداً من حيث المذهب وإن وافق بحث الرافعي لأنه لم يبحثه متعمداً له بل مبيناً أن هذا الوجه يمكن القول به بناءً على أن هذه الصورة أعني ما إذا وقف عليهما ثم على الفقراء فمات أحدهما(4/106)
يشبه منقطع الوسط فيأتي فيها جميع الأوجه في منقطع الوسط ومن جملتها الانتقال إلى أقرباء الواقف بل هو أصحها لكن هذا إنما يسلم له لو كانت هذه الصورة فيها انقطاع محقق وليس كذلك لما تقرر من أن الأظهر أنه ينتقل نصيب الميت لصاحبه لأنه شرط في الانتقال للمساكين انقراضهما جميعاً ولم يوجد والحاصل أنه ظهر بذكر الزركشي لذلك أن ما صوبه وغلط من خالفه إنما هو بناءً على الضعيف أن في صورته انقطاعاً في الوسط كما في صورة الرافعي المتقدمة في الوقف عليهما ثم على المساكين وقد علمت أن الصحيح أنه لا انقطاع في الوسط ثم فكذلك هنا بالأولى على أن تخريجه هذه على تلك عجيب مع قوله عقب قوله وقد سبق من كلام صاحب التقريب ذلك وأنه يصير منقطع الوسط أن ما حاوله الرافعي من تخريج هذه على تلك فكيف يخرج هو ويذكر أن ما قاله وصوبه هنا هو ما مر عن صاحب التقريب في تلك فوقع في محذورين التخريج مع وجود الفرق والتخريج على ضعيف في تلك لا على الصحيح فنتج من ذلك ضعف ما صوبه وفساد تغليطه لغيره وبذلك علم أيضاً ضعف ما أفتى به شيخنا شيخ الإِسلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/107)
زكريا سقى الله عهده تبعاً له ك السبكي وذلك أنه سئل عمن وقف على أولاده ابنين وبنتين الذكر أن كل من أم والابنتان من أم بينهم ثم أولاد أولادهم ونسلهم وشرط أن من مات بلا ولد أو نسل عاد نصيبه لمن في درجته ثم يقدم الأقرب للمتوفى فمات أحد الابنين بلا ولد فانتقل نصيبه لأخيه وأخته وإحدى البنتين بلا ولد فهل يختص بنصيبها أخوها أو أختها أو يشتركان وإذا ماتت الأخرى عن أولاد فهل يرجع نصيبها ونصيب أختها لأولادها وأخيها فأجاب بأنه يشترك الأخ والأخت فيما كانت تستحقه الأولى فلا يرجع استحقاق الثانية إلى أولادها وإن أفتى به الولي العراقي رحمه الله تعالى بمفهوم الشرط إذ مفهومه أن الاستحقاق عند وجود الأولاد لا يكون لمن في درجة المتوفى ولا يلزم منه أن يكون لأولاده بل يرجع استحقاقها إلى أخيها لا لشرط الواقف بل لكون الوقف صار منقطع الوسط وأخوها أقرب الناس إلى الواقف أ هـ .
وجرى على نظير ذلك في أماكن من فتاويه ويرد ما ذكره بأن قوله لا يلزم أن يكون لأولاده الخ. ممنوع باعتبار ما مر وما يأتي وعلى تسليمه فهو لا يقتضي الانقطاع الذي ذكره لأنا لا نبني عبارة الواقفين على الدقائق الأصولية والفقهية والعربية كما أشار إليه الإِمام البلقيني في فتاويه وإنما نجريها على ما يتبادر ويفهم منها في العرف وعلى ما هو أقرب إلى مقاصد الواقفين وعاداتهم وقد تقدم في كلام الزركشي أن القرائن يعمل بها في مثل ذلك وكذا صرح به غيره كما سيأتي وإذا تقرر ذلك فهذا الذي ذكره الشيخ وإن لم يلزم إلا أنه المتبادر والمفهوم من ذلك الشرط عادة عرفاً فإنا لو لم نعمل بمفهومه لزم أن يكون الواقف عند وجود الولد لا يرى صرفه له ولا لمن في درجته وهذا بعيد جداً إذ لم يعهد من أحد وإنما الذي يقصدونه بذلك أن الفرع يحوز ما كان لأصله وأنه لا يحرم بمن في درجة أصله لأن معه نصيباً في الوقف والفرع لا نصيب له فيقصد الواقفون رفق الفرع بنصيب أصله وإذا تقرر أن هذا هو(4/108)
مقصودهم وأنهم لا يقصدون غيره لبعده فلا معوّل على غيره لأن أظهر مقاصد اللفظ ما ذكرناه كما هو جلي وقد صرحوا كما يعلم مما يأتي بأن ألفاظ الواقفين إذا ترددة تحمل على أظهر معانيها وبان النظر إلى مقاصد الواقفين معتبر كما قاله القفال وغيره ومن ثم قال الأذرعي في توسطه عن البحر لو قال على أولادي فإذا انقرضوا وأولادهم فعلى الفقراء والمساكين قال بعض أصحابنا يصح الوقف عليهم وإن لم يكن جعل لأولادهم شيئاً قطعاً لأنه قد اعتبر انقراضهم بعد انقراض ولده قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/109)
أبو حامد : هي مسئلة حدثت فاختلف الناس فيها فأفتيت فيها بأن هذا الوقف منقطع الوسط فيخرج على القولين في منقطع الابتداء معلوم الانتهاء أحدهما يبطل والثاني يصح وإلى من يصرف بعد انقراض الولد فيه ثلاثة أوجه والفتوى أنه لأقرب الناس إلى الواقف حتى تنقرض أولاد الأولاد ثم يكون للفقراء قال أبو حامد ويمكن أن يقال عندي ينتقل الوقف إلى ولد الولد على ما ذكرنا أوّلاً وقد ذكر الشافعي في كتاب الشهادات من الأم ما يدل على هذا والصحيح الأول لأنه لم يشرط لهم شيئاً وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم. قال: أعني الأذرعي قلت: والمختار الصرف إليهم لأن ذلك لا يقصد وإنما يجيء هذا غالباً من الكاتب والنظر إلى مقاصد الواقفين معتبر كما قاله القفال وغيره ويحتمل أن يقال إن قوله فإذا انقرضوا وأولادهم قرينة دالة على أنه لم يرد بالأول ولد الظهر خاصة بل هو ولد الولد ثم رأيتني ذكرت في الغنية أن كلام الأكثرين مائل إلى ترجيح أنه منقطع الوسط وقيل يجعل ذكرهم قرينة في دخولهم واختاره ابن أبي عصرون وهو المختار إذ الانقطاع لا يقصد ولا حرمانهم وإعطاء الفقراء مع بقائهم والظاهر أني تبعت في ذلك أبا الحسن السبكي رحمه الله وكأنه أراد بابن أبي عصرون يعقوب فله مؤلف حسن على المهذب وأما أبو سعيد فجزم في مرشده بأنه منقطع الوسط وكذا في انتصاره اهـ. فتأمل قوله أن ذلك لا يقصد وإنما يجيء هذا غالباً من الكاتب وقوله والنظر إلى مقاصد الواقفين معتبر كما قاله القفال وغيره وقوله أن قوله فإذا انقرضوا وأولادهم قرينة دالة الخ. فعلم أن الحق في مسئلتنا ما ذكرناه لأن حرمان الفرع وإعطاء من في درجة الأصل مع وجود الفرع لا يقصد سيما مع التصريح بما يدل على عدم حرمان الفرع في هذه الحالة فليس حرمانه حينئذٍ من مقاصد الواقفين وقوله على أن من مات منهما عن غير ولد قرينة دالة على ما ذكرناه فكان ما قدمته في مسئلتنا من استحقاق الفرع مساوياً لما ذكره الأذرعي في(4/110)
العلة والقرينة حرفاً بحرف فإن قلت ما اختاره ووجهه بما ذكر ليس هو الصحيح كما أشار إليه قلت: الحكم وإن كان غير صحيح إلا أن العلل التي ذكرها يمكن الاستناد إليها والتعويل عليها إذ الغالب في العلل أن يكون متفقاً عليها أو كالمتفق عليها فلا يلزم من ضعف الحكم لمعنى آخر كما في مسئلة الشيخ أبي حامد ضعف علته فإن قلت ما الفرق بين مسئلته ومسئلتنا ولم
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/111)
كان الصحيح خلاف ما قاله في تلك مع تعليله بما ذكر الذي استندتم إليه في مسئلتكم قلت لأن مسئلتنا انضم إلى القرينة الحالية فيها قرينة لفظية هي مفهوم الشرط المذكور وأما مسئلته فليس فيها إلا قرينة حالية وهي بمجردها غير كافية فإن قلت بل في مسئلته قرينة لفظية أيضاً هي ذكر أولاد الأولاد قلت: هذه قرينة لأن ذكرهم مع عدم النص لهم على شيء لا بطريق المنطوق ولا بطريق المفهوم لا يلحقهم بذكر الشرط في مسئلتنا لأن مفهومه المتبادر منه أن الأولاد يعطون فلا تقاس إحدى القرينتين بالأخرى وليست كل قرينة معتداً بها كما أشار إليه السبكي وغيره بل لا بدّ من قرينة قوية لذاتها أو لما انضم إليها ومما يرد ما قاله شيخنا ما أفتى هو به في رجل اسمه نور الدين ملك أجنبياً أرضاً ليقفها عليه ثم على أولاده فلما ملكها وقفها عليه ثم على أولاده الخمسة محمد وعماد الدين ونور الدين وكمال الدين وبركة وعلى من سيحدث لهم من الأولاد ينتفعون بذلك مدة حياتهم على أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد انتقل نصيبه إليه ومن مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته ثم على أولادهم ونسلهم وعقبهم ما تناسلوا بطناً بعد بطن ثم توفي نور الدين وصار الوقف لأولاده الخمسة ثم بدر الدين عن ولديه محمد وفاطمة ثم كمال الدين عن بنته أمة الخالق ثم توفيت هذه عن غير ولد ولعمها محمد ولدان ذكران ولعمها عماد الدين لد ذكر ولعمتها بركة ولد ذكر فهل تنتقل حصتها لبقية أعمامها الثلاثة أو لا أولادهم الأربعة أو لولدي عمها بدر الدين أولاً قرب الناس إلى الواقف وهو الرجل الأجنبي الذي جعل واسطة في ذلك أو لجميع الأولاد فأجاب شيخنا بأنه يحتمل أن يصير حقها لأقرب الناس إلى الواقف لانقطاع الوقف في حصتها عملاً بقضية شرط الواقف في الأولاد ويحتمل أن يصير لمن في درجتها وهم أولاد أعمامها تسوية بين المتعاطفين في المتعلق وإن كان متوسطاً وهذا هو الأوجه لإِطراده بل للقرينة وهي(4/112)
الغالب وغرض الواقف إذ الغالب اتصال الوقف وغرض الواقف في مثل ذلك أن يكون منافع الموقوف له ولذريته ما لم يمنع من ذلك مانع ظاهر أ هـ .
فتأمل كونه جعل الغالب وهو اتصال الوقف قرينة مرجحة وكذا جعل غرض الواقف قرينة مرجحة وإذا جزم بأن هاتين قرينتان مرجحتان هنا مع دلالة اللفظ على خلاف ما دل عليه كما يعلم بتأمله فما ظنك بهما في مسئلتنا فليكونا مرجحين فيها بالأولى فإن لفظ الواقف فيها لا يدل على خلاف ما دلتا عليه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/113)
وإنما يحتمل ما دلتا عليه ويحتمل خلافهما فرجحنا بهما أحد الاحتمالين أو أحد الاحتمالات وبيانه أن قوله على أن من مات منهما عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته يحتمل أموراً أحدها أن من مات عن ولد يكون نصيبه لولده وهذا هو الغالب كما قدمته غير مرة وفيه أيضاً الفرار من الانقطاع الذي هو نادر وغير مقصود ثانيها أن من مات عن ولد تكون حصته لمن في درجة الميت ويكون حينئذٍ مفهوم موافقة لا مخالفة وسيأتي بقية الاحتمالات وإنما قلنا بالاحتمال الأوّل لاعتضاده بتينك القرينتين فرجحناه وعملنا بعين ما قاله شيخنا في جواب هذا السؤال وإنما مشى على ما مر تبعاً للزركشي وهنا لم يتبع أحداً فكان ما قاله هنا من التعليل بما ذكره الذي هو ظاهر أو صريح في مسئلتنا بما قلناه أولى بالاعتماد والأخذ به في الترجيح لموافقته لما مر عن القفال من أن أغراض الواقفين معتبرة ولما مر مبسوطاً عن الأذرعي فتأمل هذا فإنه مهم وبه تسهل مخالفته في إفتائه بما مر تبعاً لما قدمناه ومما يدل على ضعف ذلك الإِفتاء أيضاً ما قاله في جواب سؤال آخر وهو أن شخصاً وقف وقفاً على نفسه وشرط أن يصرف من ريعه بعد موته لجهة عينها ثم باقي الريع يصرف لبنتيه خديجة وفاطمة ولولدي خديجة هذه أحمد وست العجم ولمن يحدث له من الأولاد ويقسم بينهم بالسوية ثم من بعدهم على أولادهم ثم أولاد أولادهم وهكذا الذكر والأنثى فيه سواء ولد الظهر والبطن طبقة بعد طبقة تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى إلى حين انقراضهم خلا ولدي بنت الواقف المذكور على أن من مات منهم وترك ولداً أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه من ذلك إلى ولده أو ولد ولده وإن سفل فإن لم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا نسلاً ولا ذرية انتقل نصيبه من ذلك لمن هو في درجته من أهل هذا الوقف يستقل به الواحد منهم عند الانفراد ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما عند الاجتماع يتداولون ذلك كذلك إلى حين انقراضهم فهل إذا ماتت ست(4/114)
العجم بنت خديجة المذكورة بعد دخولها في الوقف وخلفت أولاداً يدخلون في الوقف المذكور ويستحقون شيئاً من ريعه مع وجود فاطمة بنت الواقف أولاً فأجاب الشيخ بأن ست العجم إذا ماتت وتركت أولاداً فلا يدخلون في الوقف لقول الواقف خلا ولدي بنت الواقف الخ. أي فإن أولادهما لا يستحقون شيئاً هذا هو مدلول هذا اللفظ فإن قلت بل يدخلون ويستحقون ما كانت تستحقه أمهم عملاً بقول الواقف على أن من مات وترك ولداً الخ. ويكون قوله خلا ولدي بنت الواقف الخ. راجعاً إلى قوله تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى أي خلا ولدي بنت الواقف فإنهما لا يحجبان بها وإن كانا أسفل منها وهذا وإن فهم من عطفهما عليها بالواو المشركة لكنه قد يتوهم خروجهما بقوله تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى فصرح بها دفعا لهذا التوهم قلت: ذلك محتمل لكنه لا ينافي الظهور فيما قلنا: على أنه يلزم على ذلك أن يكون الاستثناء المذكور تأكيداً والتأسيس خير منه ولا نظر مع ظهور اللفظ فيما قلنا إلى استبعاده بأن فيه حرمان بعض أولاد الأولاد دون بعض بلا سبب ظاهر اهـ. كلام الشيخ وبتأمله يتضح ما قلناه في صورتنا أتم إيضاح وأظهر وذلك لأن قول الواقف فيها على أن من مات منهما عن غير ولد يكون نصيبه لمن في درجته له مفهوم قطعاً لكن ذلك المفهوم محتمل أموراً تقدم بعضها وحاصلها أنه يحتمل أن مفهومه أن من مات عن ولد يكون نصيبه لولده ويحتمل أن يكون لولد الميت ومن في درجته ويحتمل أن يكون لمن في درجته فقط ويحتمل أنه لا يكون للولد ولا لمن في الدرجة والاحتمال الأول هو الغالب المصرح به في أكثر كتب الأوقاف وهو الأقرب إلى مقاصد الواقفين وليس فيه ارتكاب الانقطاع الذي هو نادر أن يقصده أحد من الواقفين كما قدمته قريباً عن شيخنا فرجحنا هذا الاحتمال لهذه التأييدات وأما الاحتمال الثاني فبعيد كما يشهد به الذوق وأما الاحتمال الثالث الذي مشى عليه الشيخ ومن تبعه فيرد(4/115)
بعين ما مر عن السبكي وغيره مما استوفيناه فيما مر وبعين ما قاله الشيخ هنا وهو أنه يلزم عليه أن يكون قوله على أن من مات منهما الخ. تأكيد لأنه فهم من العطف بثم أنه لا ينتقل شيء لأحد من أهل الطبقة الثانية ما بقي أحد من أهل الطبقة الأولى وهذا يغني عن قوله على أن من مات منهما الخ. لأنا إذا لم نعمل بمفهومه لزم أن يكون الإِتيان به لمجرد التأكيد لأنا كنا نعمل بالانتقال إلى البنت الباقية وإن لم يصرح بهذا الشرط فلم يفد التصريح به إلا مجرد التأكيد بخلاف ما قلنا به فإنه يلزم عليه أن هذا الشرط يفيد بمفهومه شيئاً لم يفده الكلام لو حذف منه هذا الشرط بل كان يفهم خلافه كما تقرر وهذا هو عين التأسيس لأنه خير من التأكيد وإذا كان الشيخ أخذ في جوابه السابق قريباً بقضية التأسيس لأنه خير من التأكيد مع منافاة اللفظ لذلك وما يلزم عليه مما اعترف به كما قرره في جوابه وليس مستنده في هذه المخالفة إلا الأخذ بقاعدة أن التأسيس خير من التأكيد المصرح بها في فتاوى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/116)
السبكي وغيرها. فليكن العمل بهذه القاعدة في مسئلتنا من باب أولى لتعين ما قاله الشيخ ولأن اللفظ في مسئلتنا ليس دالاً على خلافها بل على ما يوافقها مما تقرر في سبب ترجيح الاحتمال الأول فتأمل إفتاء الشيخ هذا أيضاً تجده قاضياً على إفتائه في نحو صورتنا بأنه تبع فيه السبكي والزركشي من غير إعطاء المسئلة حقها من نظر ومن غير تأمل ما قدمته من بعض أجوبة السبكي القاضية برد ما قاله في نحو صورتنا ولو أعطاها حقها من ذلك لأَفتى فيها بما يوافق ما أفتى به في هذا السؤال والذي قبله هذا وفي بعض أجوبة الشيخ التابع فيها لمن مر زيادة على ما قدمه فنذكرها مع ردها وذلك أنه سئل عن امرأة وقفت على بنتها فاطمة وست ريحان ثم على أولادهما ثم على أولاد أولادهما طبقة بعد طبقة على الفريضة الشرعية على أن من انقرض منهم ولم يكن له ذرية كان نصيبه لأخوته الأشقاء فإن لم يكونوا فلأَخوته للأب ثم على أقرب عصبات الموقوف عليهم ثم على الفقراء والمساكين ثم توفيت ست ريحان وتركت أولاداً فاستقلوا بحصتها وتوفيت أختها فاطمة عن ابن يسمى عبد الله وبنت تسمى قمراً ثم توفيت عن ابن وعن أخيها عبد الله فهل تنتقل حصة قمر لابنها أو لأخيها فأجاب الشيخ رحمه الله تعالى بأنه إن كان الأخ أخاً لأم فالحق له ولأولاد ست ريحان عملاً بالترتيب المفاد بقوله ثم على أولادهما ثم على أولاد أولادهما وإن كان أخاً لغير أم فقد تعارض هنا أمر أن مقتضى اعتبار الترتيب المذكور أن الحق لأخي قمر وأولاد ست ريحان لكونهم في درجة واحدة ومقتضى مفهوم تقييد انتقال ما كان لها إلى أخوتها بأن لا يكون لها ولد إن الحق ليس لأخيها لوجود ولدها ولا يلزم منه أن يكون الحق لولدها وإن احتمل على بعد أن يكون له فيكون الحق بمقتضى الترتيب لأخيها ولأولاد ست ريحان لكونهم في درجة قمر ويحتمل أن يكون الحق لأولاد ست ريحان لانتقال القيد المذكور والأوجه الأول وفائدة تقييد الانتقال أنه إذا لم يكن(4/117)
للميت ولد ولا ولد ولد يكون حق الميت لأخوته دون من ساواهم في الدرجة وعلى هذا لو لم يكن لست ريحان أولاد فينبغي أن يكون الحق لأخي قمر لا من حيث أنه أخوها لانتفاء شرط انتقال الحق إليه بل من حيث أنه في درجتها وبذلك علم أن أولاد ست ريحان لا يأخذون شيئاً بموتها مع وجود فاطمة عملاً بمقتضى الترتيب مع ما قلناه أ هـ .
جواب الشيخ فأما قوله ولا يلزم منه الخ. فقد مر رده وأما قوله وإن احتمل على بعد أن يكون له جوابه أنه لا بعد فيه بل هو أقرب من غيره الذي ذكره بشهادة ما مر مبسوطاً وقوله وفائدة تقييد الانتقال الخ. يقال عليه هذا إن أمكن القول به في هذه الصورة فلا يأتي في صورتنا لأن الواقف لم يخص أحداً من أهل الدرجة عند عدم الولد بل جعله لجميع من فيها فلزم من عدم إعطاء الولد أنه لا فائدة له أصلاً كما مر مبسوطاً أيضاً ثم في جواب هذا أنظار أخر لا تعلق لها بما نحن فيه فلذا لم تعول عليها وأحلناها على التأمل الصادق وأما الاحتمال الرابع فبعيد جداً كما لا يخفى أيضاً ومن ثم لم يعوّل عليه أبو زرعة ولا على غيره مما مر وإنما عوّل على الاحتمال الأول وكأنه لما قلناه من قربه وتبادره إلى الفهم مع اعتضاده بما مر بخلاف غيره من الاحتمالات الأخر فإنه بعيد ولم يعتضد بشيء يصلح أن يكون مرجحاً له على غيره ومما يدل أيضاً على ما قلناه ما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/118)
السبكي في فتاويه أيضاً من أن ارتكاب المجاز وإن بعد أولى من إلغاء الكلام وقد أفتى بذلك أيضاً في واقعة أخرى سئل عنها وهي أن تاج الملوك وقف على أولاده الأربعة ثم من بعدهم على أولادهم وإن سفلوا تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى على أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه ومن مات ولا ولد له انتقل نصيبه لأخوته ومن مات ولا ولد له ولا أخوة انتقل نصيبه لأقرب الناس من أولاده وأولاد أولاده فمات رجل وله بنت وابن ابن قد مات أبوه قبل الاستحقاق فأجاب بقوله يأخذ ابن الابن الذي مات أبوه قبل الاستحقاق ما كان يأخذه أبوه لو كان حياً الآن ولا تحجبه عنه عمته ولا يمنع من ذلك قوله تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى لأن معنى ذلك هنا أن كل واحد يحجب ولده جمعاً بين الكلامين وإن لم يكن ذلك لغا قوله من مات منهم قبل الاستحقاق استحق ولده نصيبه أ هـ .
فتأمل كونه اضطر إلى الجمع خوفاً من إلغاء الشرط الذي ذكره فكذلك نضطر في مسئلتنا إلى الجمع بين قوله على أن من مات منهما عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته المقتضي بمفهومه المتبادر منه أن من مات عن ولد فنصيبه له وبين قوله: ثم أولادهم المقتضي بمنطوقه أنه لا ينتقل لأحد من أهل الطبقة الثانية شيء ما بقي أحد من أهل الطبقة الأولى ووجه الجمع أنا نحمل الأول على من مات عن ولد والثاني على من مات عن غير ولد لأنا لو لم نعمل بمفهوم الأول لزم إلغاؤه لأنه يستغنى عن العمل بمنطوقه بثم فإن منطوقه يلزم بعين ما قاله السبكي حمله على حالة بها يحصل الجمع بينه وبين الثاني ولا يتأتى ذلك إلا إذا قلنا بالعمل بمفهوم الأول وإذ قد علم من كلام السبكي في هذا الجواب والذي قبله أن الفرار إلى التجوّز البعيد أولى من الفرار إلى الحكم على بعض كلام الواقف بالإِلغاء فليتعين في مسئلتنا ما قلناه لما يلزم على خلافه من إلغاء قوله على أن من مات منهما عن غير ولد الخ. بل مسئلتنا أولى(4/119)
بذلك مما قاله السبكي لأن غاية ما في مسئلتنا العمل بأحد ما صدقات اللفظ بل بما لا يتبادر من اللفظ غيره وهذا أولى وأقرب من الفرار عنه إلى الفرار إلى التجوز البعيد فإذا جوّز ذلك حذراً من الإِلغاء فلأن نجوّز ما قلناه حذراً من ذلك بالأولى وقال في فتاويه أيضاً ما حاصله أنه إذا تعارض في كلام الواقف عمومان احتيج إلى الترجيح ومن طرقه أن يكون أحد العمومين لا يلزم عليه إلغاء شيء من كلام الواقف والآخر يلزم عليه ذلك فيعمل بالعام الذي لا يلزم عليه إلغاء وبمثله يقال في مسئلتنا فإن أحد محتملات اللفظ الذي فيها يلزم عليه إلغاء والآخر لا يلزم عليه إلغاء كما تقرر فوجب العمل بالمفهوم الذي لا يترتب عليه إلغاء وبهذين يعلم رد ما مر عن فتاويه الموافق لما مشى عليه الزركشي وشيخنا ومن ثم خالفه صاحبه ابن القماح وغيره ممن ذكرناه فيما سبق ومما يضعف ما ذهب إليه أنه لا يقول بمفهوم المخالفة في كلام غير الشارع فلعل ذهابه إلى ما مر لضعف دلالة المفهوم عنده أو عدم الاعتداد بها وإن كان ظاهر كلامه السابق لا يوافق هذا الثاني وقد مر أن هذا الرأي ضعيف وأن المنقول عند أئمتنا وغيرهم. أنه يعتد بدلالته في كلام الشارع وغيره وأن لها قوة تقتضي العمل بقضيتها وتخصيص العموم بها وغير ذلك ومن ثم جرى عليها في مسئلتنا من مر من المتقدمين والمتأخرين ولو نظر الزركشي وشيخنا ذلك مع المدرك الذي قدمته لما تبعاه على ذلك ولجعلوا كلامه مفرعاً على رأيه الضعيف وقد تنبه لذلك المحقق أبو زرعة فأشار في عبارته السابقة إلى أن السبكي قائل بالضعيف وأن استحقاق من في الدرجة دون الأولاد مبني على الضعيف القائل به السبكي أي فلا تغتر بما في فتاويه ومن ثم خالفه فيما مر عنها معاصروه كما مر والدليل على ترجيح ما قلناه أيضاً أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/120)
السبكي نفسه احتج بالمفهوم المنضم إلى غيره في فتاويه فإنه سئل عمن وقف على أولاده ثم أولادهم الخ. بالفريضة الشرعية على أن من مات منهم عن ولد أو أسفل فنصيبه لولده ثم لولد ولده يستقل به الواحد من أهل كل طبقه ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما وإن لم يترك ذلك كان نصيبه لأَخوته وأخواته من أهل الوقف فتوفي شخص عن ولدين ثم أحدهما عن ولد أخ ثم الولد عن غير أخ فهل ينتقل نصيبه لعمه أو إلى الموجودين من البطن الأول فأجاب بقوله نصيبه لعمه دون الطبقة الأولى ولا يرجع إلى الموجودين من البطن الأولى ما دام هذا العم الأقرب موجود الثلاثة أدلة أحدها قوله من مات كان نصيبه لولده الخ. وقال من أهل كل طبقة فالذي خلف ولدين استحقا نصيبه وكلاهما يستحقه كاملاً لولا أخوه فحق استحقاقه كاملاً ثابت له وإنما حجبه أخوه ثم ابنه من بعده فإذا فقد عمل ذلك الاستحقاق عمله وأخذ ما كان يستحقه أبوه من جهة والده لا من جهة أخيه ولا من جهة ابن أخيه الثاني قوله من مات ولا ولد له كان نصيبه لأَخوته اقتضى تقديم الأخ على العم فيقتضي ذلك تقديم العم على الأب وقد ينازع في هذا من جهة أنه قياس والقياس لا يعمل به في كلام الواقف الثالث أنه يصدق في هذه الحالة أن أخا العم المسؤول عنه توفي ولا ولد له إذا لم تجعل هذه الجملة للحال بل يخبر عنه أنه توفي وأنه لا ولد له ينتقل نصيبه لأخيه وهو عم المتوفى وقد ينازع في هذا من جهة أنه جعل الجملة حالية والمعتمد عليه من هذه الأوجه الثلاثة هو الأوّل ويعتضد بأنه المفهوم من عرف الواقفين ولما كان هذا المفهوم يمكن المنازعة فيه لم نجعله العمدة واعتمدنا على اللفظ كما بيناه في الوجه الأول اهـ. فانظر قوله ويعتضد بأنه المفهوم من عرف الواقفين وأما قوله ولما كان هذا المفهوم الخ. فيقال عليه مسلم أن هذا المفهوم في مسئلته يمكن المنازعة فيه فإنه مخالف لصريح العطف بثم ولم يتأيد بما غلب في عرف الواقفين وقصدهم من صرف ما(4/121)
كان للميت لفروعه لأن الفرض أن هذا الميت لا فرع له فلم يعارض قضية العطف بثم المقتضية للانتقال إلى العم شيء من القرائن الحالية ولا اللفظية وإنما غاية ما عضد به هذا المفهوم أن حق الاستحقاق كاملاً ثابت لكل واحد الخ. وهذا يقبل المنازعة بأن يقال لا نسلم مع وجود الاثنين أن حق الاستحقاق ثبت كاملاً لكل وأن أخاه هو الذي حجبه وإنما الذي يتجه أنا نتبين بتعدد الولد أن حق الاستحقاق موزع عليهما وحينئذٍ فقد انتفى قول السبكي فإذا فقد عمل ذلك الاستحقاق عمله الخ. ولئن سلم ما ذكره فقضية العطف بثم المذكورة أقوى من هذا التعسف فإذا رجح السبكي هذا التعسف وألغى به قضية العطف بثم مع قوتها وتصريح اللفظ بها وعدم تصريحه بل دلالته على ذلك التعسف فمن باب أولى أن نلغي نحن قضيتها في مسئلتنا وأن نأخذ بالمفهوم السابق بيانه فيها لاعتضاده بقرينة بل بقرائن مر بيانها بما يعلم منه أن تلك ليست قابلة للنزاع فيها كهذه القرينة التي ذكرها لأن تلك القرائن اعترف بها حتى المخالف كما بان لك من كلامه نفسه وكلام شيخنا الذي قدمته وأما قرينته هذه فلم يعترف بصحتها موافق ولا مخالف لبعدها كما لا يخفى ومما يصرح أيضاً بما قدمناه من أن القرب إلى مقاصد الواقفين وأهل العرف معتبر ومرجح ما ذكره
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/122)
السبكي في فتاويه أيضاً في أثناء جواب طويل من أن غرض الواقفين تعميم النفع في ذرياتهم قال: وقد ذهب بعض العلماء إلى اعتبار ذلك بمجرده ونحن ألغيناه عند انفراده إذ لا نعتبر ما نظن أنه غرض الواقف إلا بمساعدة قرينة لا بمجرده فلا نلغيه إذا اعتضد بغيره وما هنا قد اعتضد بما ذكرناه فكان الاستناد إلى مجموع الأمرين وصلحا بأن ينهض منها دليل ا هـ فانظر إلى ما صرح به وقرره من أن ما يظن أنه غرض الواقف إذا ساعدته قرينة يكون حينئذٍ دليلاً مرجحاً لذلك ومقتضياً للعمل به وفي مسئلتنا كذلك بل أولى كما علم مما مر ويؤيد ذلك ويوافقه قوله في فتاويه أيضاً في أثناء جواب فرجعنا إلى المعنى فرأينا أن تقديم الأقرب إلى الميت أقرب إلى مقاصد الواقفين وإلى مقاصد أهل العرف ما لم يقصد الأقرب إلى الواقف وهنا لم يقصد الأقرب إلى الواقف فلذلك ترجح عند استحقاق هذا الأقرب إلى الواقف إلى المتوفى أ هـ .
فتأمله حق التأمل تجده صريحاً في الترجيح بذلك من باب أولى لأن مسئلته هذه كما يعلم بتأملها مع تأمل كلامه فيها تعارض فيها الترجيح من جهة اللفظ ففر إلى الترجيح فيها من جهة المعنى فحسب وأما مسئلتنا ففيها ترجيحات لفظية ومعنوية كما مرت مبسوطة فتعين العمل فيها بذلك وبان بكلامه هذا وغيره مما مر عنه وعن غيره ضعف ما ذهب إليه في نظير مسئلتنا من عدم استحقاق الولد وتأمل أيضاً تصريحه بأن تقديم الأقرب إلى الميت أقرب إلى مقاصد الواقفين الخ.. يزيد ذلك إيضاح تقديم البنت في مسئلتنا على الأخت لأنها أقرب إلى الميتة من الأخت وإن كانت الأخت أقرب إلى الواقف وقد تقرر من كلامه هذا ومن كلامه وكلام غيره السابق أن الأقرب إلى مقاصد الواقفين وأهل العرف معتبر ومرجح إذا انضمت إليه قرينة فكيف وقد انضمت إليه قرائن لفظية ومعنوية كما سبق بسطها والاستدلال عليها بما لا يبقى معه توقف في أرجحية ما قلناه على غيره من جهة النظر فضلاً عن كونه أرجح من جهة المنقول ومما(4/123)
يزيده وضوحاً أيضاً قوله في وقف شرط فيه النظر للأَرشد فالأَرشد من أولاد الموقوف عليه ونسلهم يقدم الأرشد والأقرب فالأقرب والمنتسب إليه بالذكور على أولاد البنات وبنات البنات وإذا انتهى النظر إلى أنثى كان من شرطها أن تكون ذات زوج يصلح للتقدمة على المجاهدين فوجد من ذرية الموقوف عليه إناث واحدة منهن ذات زوج يصلح لما ذكر وذكر أنزل منهن وقامت بينة لكل من المذكورين بالأرشدية ووجد أنثى أعلى من الجميع قامت بينة لها أنها من نسل الموقوف عليه فلمن يكون النظر قد يتوهم متوهم أن قوله على أولاد البنات يعود إلى جميع ما تقدم وكأنه قال يقدم الأرشد على أولاد البنات والأقرب على أولاد البنات والمنتسب إليه بالذكور على أولاد البنات ويحتج بأن مذهب الشافعي أن الاستثناء وما جرى مجراه يعود إلى جميع الجمل المتقدمة والجار والمجرور يجري مجرى الاستثناء وعطف المفردات أولى بذلك من عطف الجمل ويترتب على هذا أنه إذا وجد في هذا الوقف في المنتسبين بالذكور رشيد وأرشد لا يتقدم الرشيد على الأرشد لما تقدم أن الأرشد إنما يتقدم على أولاد البنات وهذا الوهم يندفع بثلاثة أمور أحدها أن السابق إلى الفهم في هذا الوقف وما أشبهه خلافه وأن الجار والمجرور يختص بالأخيرة وأن كل وصف مما ذكر يقدم على ضده فيتقدم الأرشد على غير الأرشد مطلقاً سواء كان من أولاد الذكور أم من الإِناث ويقدم المنتسب بالذكور على أولاد البنات سواء أكان أرشد أم لم يكن أرشد هذا هو السابق إلى الفهم في هذا الكلام وأشباهه ولا نقول إنه من المسئلة التي يقول فيها الشافعي رضي الله عنه بالعود إلى الجميع لأن القرينة التي ذكرناها من تقدمة كل شيء على ضده صارفة عنه فوجب المصير إلى ما سبق الذهن إليه الأمر الثاني من الأمور الثلاثة القرينة التي ذكرناها فهي مع سبق الذهن شيئان الأمر الثالث أنه لو قيل بهذا التوهم لزم التخصيص أو التقييد في الجملتين الأولتين فلهذه الأمور الثلاثة(4/124)
جعلناه للأخيرة فقط أ هـ .
المفهوم منه فانظر قوله هذا السابق إلى الفهم في هذا الكلام الخ. وقوله فوجب المصير إلى ما سبق الذهن إليه تجده صريحاً ودليلاً أي دليل على رد ما ذهب إليه في نظير مسئلتنا لأنه هنا إذا خالف قاعدة الشافعي والأصحاب من رجوع الوصف والاستثناء ونحوهما. كالجار والمجرور إلى جميع ما تقدمه لأجل مبادرة خلافه إلى الذهن فحسب فكيف لا تجعل هذه المبادرة في مسئلتنا مرجحة مع اعتضادها بما مر من الأدلة الواضحة والقرائن اللائحة وعدم مخالفتها لقاعدة من قواعد الشافعي أو أحد من أصحابه بل ما ذكرناه موافق لما ذكروه كما ظهر ولله الحمد مما مر بسطه وتقريره بأوضح طريق وأتم تقرير وتحقيق ومع ذلك فلا تغفل عن هذا المحل والذي قبله من كلامه فإنه شاهد صدق ودليل حق على ظهور ما ذهبنا إليه تبعاً للمنقول وضعف ما ذهب إليه هو ومن تبعه هذا ما تيسر في هذه المسئلة مع تشتت البال وضعف الحال والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب والمعوّل على فضله وكرمه وجوده في إلهام الحق عند تصادم الآراء وارتباكها في مظان الارتياب أنه أكرم مسؤول وأرجى مأمول.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 195(4/125)
الباب الثاني في الكلام على شق السؤال الثاني
وهو أنكم إذا قلتم بأن نصيب الميتة لبنتها فإذا ماتت الأخت الباقية عن أولاد فهل للبنت نصيب أمها ولأولاد هذه الثانية نصيب أمهم أو تشترك البنت والأولاد في جميع المخلف عن أميهما بالسوية بينهم على حسب الرؤوس وبيان الحق في ذلك من كلام كثير فيه للمتأخرين وغيرهم. أن الوجه في مسئلتنا التساوي ويوجه بأن كل طبقة إنما يتلقون من الواقف لا من الذي قبلهم ومعنى تلقيهم منه أن الاستحقاق لجميعهم بحسب ما نص عليه الواقف من حين الوقف وأما الأحقية فلا تثبت إلا عند وجود مسوّغ الأخذ كما قالوا في الولاء أنه يثبت لجميع العصبات ويقدم في الإِرث به الأقرب منهم فالأقرب وإذا كانوا إنما يتلقون من الواقف والواقف إنما شرط التفاوت في مسئلتنا في المرتبة الأولى دون ما عداها فيكون ما عداها على التساوي إذ ليس في لفظ الواقف في مسئلتنا ما يدل على أن كل فرع كل من البنتين إنما يأخذ جميع ما يستحقه أصله مطلقاً وليس مفهوم على أن من مات منهما عن غير ولد الخ. أن من مات منهما عن ولد ويأخذ ولده نصيبه بتمامه مطلقاً بل مفهومه أن نصيبه ينتقل لولده ما دام أحد من أهل طبقة أصله موجوداً فإذا ماتت بنتا الواقف صار كل من فرعيهما لا يأخذ بقضية مفهوم ذلك الشرط وإنما يأخذ بقضية نص الواقف عليهم بقوله ثم على أولادهما الخ. وإذا تقرر أنه لا يأخذ حينئذٍ إلا بنص الواقف عليه لا بمفهوم الشرط فلا وجه إلا القول بالتسوية بينهم لأن الواقف لم يصدر منه ما يدل على أن كل مرتبة بعد الأولى حكمها في التفاوت أو عدمه فأخذنا في المرتبة الثانية وما بعدها بالأصل وهو التساوي لما تقرر أنه لا معارض له ويدل على ما قررته أمور منها قول الروياني ووالده في جوابهما السابق أول الباب الأول الجواب أن كل العشرة ينتقل إليهم الخ. بناءً على أن الضمير في إليهم يرجع إلى جميع ما قبله من أولاد عمرو وأولاد زيد لكن قوله عقبة ولا يختص بالانتقال إليهم ما كان نصيب الميت في الأصل لأن(4/126)
جميع العشرة الآن صار حقاً للميت ونصيباً له فالموت كافٍ في الجميع يقتضي أن المراد رجوع الضمير في إليهم إلى أولاد عمرو فقط وحينئذٍ فتكون عبارتهما منافية لما قلناه من التساوي فإن قضية ما قررناه أن العشرة التي هي حق لعمرو تنقسم هي وسهما أولاد زيد على جميع أولاد عمرو وزيد بينهم بالسواء ولا يختص أولاد عمرو بالعشرة وأولاد زيد بالسهمين لعين ما قررناه نعم قد يقال أن صورة الروياني هذه تخالف صورتنا فإن الذي في صورتنا أنه وقف على بنتيه بينهما بالسوية ثم على أولادهما الخ. ثم قال على أن من مات منهما عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته فلم يأتِ في المرتبة الثانية بما يدل على التفاوت بينهم عند انتقال الوقف إليهم فعملنا فيهم بالأصل وهو التساوي كما تقرر وأما مسئلته فإن الواقفة أتت فيها بالتصريح بالتفاوت بين أهل المرتبة الأولى وبما يدل على أن أولاد كل من أهل المرتبة الأولى يكون حكمه حكمه ووجه ذلك أنها لما ذكرت في قبالة وقفها أنه أي ما مر من الموقوف عليهم على حسب التفاوت الذي ذكرته وقف عليهم ثم على أولادهم ما عاشوا الخ. اقتضى ذلك أن هذا التفاوت جار في كل طبقة لأنها لما ذكرت التفاوت المذكور ثم عقبته بأن الوقف المتصف بهذا التفاوت وقف على الثلاثة المذكورين ثم على أولادهم الخ. كان ذلك ظاهراً فيما قلناه وحينئذٍ فيتضح ما قاله الروياني ووالده من انتقال العشرة إلى أولاد عمرو ولا يشاركهم فيها أولاد زيد وقد يؤخذ من علتهما أن ما قالاه من انتقال العشرة لأولاد عمرو فقط مبني على الضعيف أن كل طبقة تتلقى مما قبلها لا من الواقف وبيانه أنه لم يجعل سبب اختصاصهم بالعشرة إلا أن جميعها صار حقاً للميت ونصيباً له فاقتضى أنهم إنما يتلقونها عنه وإذا كانوا يتلقونها عنه فلا يمكن أحد أن يشاركهم فيها بوجه لأنهم نازلون منزلته دون غيرهم وممن أفتى بما قدمته من التساوي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/127)
السبكي وقد قدمت كلامه في ذلك أول الوجه الثالث فراجعه وانظر قوله ولا يختص أولاد كل بنصيب والدهم الخ. وقوله الأمر الثاني أنه إذا انتقل نصيب الطبقة التي تحتها هل يكون مشتركاً بين الجميع بالسواء أو يأخذ كل أولاد ما كان لأَبيهم ولا دليل على الثاني والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فتعين ذلك يبين صحة ما ذكرناه أوّلاً هذا ما ظهر لي في هذا الوقت وفوق كل ذي علم عليم أ هـ .
لكن قد يخالف ما ذكره في هذا الجواب ما ذكره في جواب آخر فإنه سئل عمن وقفت على نفسها ثم زوجها ثم أولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ثم أولاد أولادهم كذلك ثم نسله وإن سفل للذكر مثل حظ الأنثيين على أن من توفي منهم عن نسل عاد ما كان جارياً عليه على ولد ولده وإن سفل للذكر مثل حظ الأنثيين ومن توفي عن غير ولد ولا نسل عاد إلى من معه فتوفي زوجها قبلها عن بنته منها نسب وبنت بنت من غيرها. توفيت أمها قبل صدور الوقف اسمها قضاة ثم توفيت الواقفة فانتقل الوقف لنسب ثم توفيت عن ابنها أحمد فحكم حاكم بمشاركة قضاة له وأنه بينهما نصفان، ثم توفيت قضاة عن ابنيها أحمد وأمين الدين فأقر لأخيه بثلثي الوقف وأقر له أحمد بثلثه ثم توفي أحمد عن ولدين، ثم توفي أمين الدين عن أولاد فأجاب بقوله: مقتضى هذا الوقف أن قضاة تشارك أحمد للذكر مثل حظ الأنثيين أما مشاركتهما فلعموم قول الواقفة على كمال الدين ثم أولاده ثم أولاد أولاده فإنه اقتضى دخول أولاد أولاده كلهم وأحمد وقضاة كلاهما من أولاد أولاده وإنما تأخرت قضاة عن مشاركتها لخالتها نسب لأجل الترتيب وقد زال فإن أحمد مساوٍ لها فيشتركان وإن كان هذا يخالف قول الواقفة من مات منهم وله ولد كان نصيبه لولده فإنه يقتضي أن نصيب نسب وهو جميع الوقف كله لابنها أحمد لكنه معارض بعموم قولها أولاد أولاد كمال الدين واقتضائه استحقاقهم فحملنا قول النصيب على النصيب الذي يستحقه لو كانت هي مساوية لقضاة لأنها إنما قدمت عليها لعلوها في الدرجة(4/128)
وهذا الوصف مفقود في ابنها فلا يقدم عليها فإن قلت هذا تجوّز في لفظ النصيب وذاك تخصيص والتخصيص مقدم على المجاز قلت لنا: أن نقول النصيب قدر مشترك فلا مجاز ولو سلمنا أنه مجاز فهو هنا أولى لأن التخصيص إذا قيل به هنا يكون في مجال صدور الوقف وتفاصيله فكان واحد أولى وأيضاً ففرض الواقف يقتضي عموم الذرية إذا عرف هذا فكان الاشتراك بينهما لا يكون بالسوية بل للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون لأحمد الثلثان ولقضاة الثلث لعموم قوله للذكر مثل حظ الأنثيين وقد يقال إنه يراعى ذلك في نصيب كل واحد إذ لا ينتقل لأولاده خاصة مثاله إذا كان ابن وبنت فإنهما يستحقان للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا مات الابن عن بنت والبنت عن ابن انتقل لكل منهما ما كان لأبيه كاملاً ولا يجمع بين نصيبهما ويقال للذكر مثل حظ الأنثيين وترجيح أحد الاحتمالين على الآخر فيه نظر والأقرب الثاني لأنا إنما خرجنا عن ظاهر لفظ النصيب إلى أصل الشركة لأجل العموم ومثله لا يقوي هنا ومع هذا فقضاة تشارك أحمد لأن أحمد إنما له نصيب أمه وأمه لا تفضل عن قضاة في استحقاق النصيب لاشتراكهما في الوالدة وإنما تفضل عليها في التقدم لعلو درجتها وعلى هذا يكون حكم الحاكم بمشاركة قضاة لأحمد ومناصفتهما صحيحاً، ثم لما توفيت قضاة عن ابنيها استحقا نصف الوقف على الاحتمالين اللذين ذكرناهما جميعاً لأنا إن عممنا قوله للذكر مثل حظ الأنثيين فهما ذكران وإن خصصنا فكل واحد يأخذ نصيب أمه وحينئذٍ الإِقرار ليس بصحيح إلا أنه يؤخذ به إذا احتمل أن يكون له مستند غير ما ذكر فإن لم يحتمل فهو باطل ولا يؤخذ به وعلى كل تقدير فالأقرب ما ذكر والحكم الذي حكم به الحاكم لا يلزم حكمهما لمن بعدهما فيأخذ ولدا أحمد ما كان لأبيهما ويأخذ أولاد أمين الدين ما كان لأبيهم فإن كان في أحد الفريقين أنثى مع ذكر كانت القسمة ثلاثة في النصف الذي انتقل إليهما من أبيهما خاصة لا في الجميع على ما رجحناه من أحد(4/129)
الاحتمالين أ هـ .
كلام السبكي وهو ظاهر في المخالفة لما قاله من التساوي في الذي قبله لكن إذا تأملت كلا من الصورتين المسؤول عنهما ظهر لك أن لا مخالفة وبيان ذلك أن صورة السؤال الذي أجاب عنه أوّلاً أنه وقف على أربعة سماهم بينهم بالسواء أرباعاً ثم على أولادهم، ثم أولاد أولادهم ونسلهم الذكر والأنثى فيه سواء على أن من توفي منهم عن غير ولد كان ما يستحقه من هذا عائداً على الثلاثة الموقوف عليهم أوّلاً وإذا تقرر أن هذه الصورة التي أجاب فيها بالتساوي فجوابه به حينئذ ظاهر لأن الواقف ذكر في المرتبة الأولى التسوية وكذا في كل مرتبة بعدها بقوله الذكر والأنثى فيه سواء ولم يخصص هذا بالتصريح بأن كل فرع يأخذ جميع نصيب أصله ومع هذا الذي ذكره لا سبيل إلى القول بأن كل أولاد يأخذون ما كان لأبيهم ومن ثم قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/130)
السبكي أن هذا لا دليل عليه وقال إن التساوي أقرب إلى ظاهر اللفظ فتعين فاتضح حينئذٍ ما قاله في هذه الصورة المناسبة لصورتنا كما يعلم مما يأتي وصورة السؤال التي أجاب عنها ثانياً أن الواقفة جعلت ما في كل طبقة مقسوماً بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ومن توفي عن غير نسل عاد ما كان له على من في درجته فاقتضى هذا الصنيع أن ينتقل لكل من الفروع ما كان لأصله كاملاً ثم إن اتحد الفرع أخذه وإن تعدد ذكوراً أو إناثاً أخذوه بالسواء أو ذكوراً وإناثاً أخذوه للذكر مثل حظ الأنثيين وأنه لا يجمع بين أنصباء الأصول ثم يقسم على الفروع بالسوية إن لم يختلفوا وإلا فللذكر مثل حظ الأنثيين لأن ذلك وإن كان محتملاً وقريباً إلى لفظ الواقفة لكن الأوّل أقرب لتصريحها بأن من مات عن ولد ينتقل نصيبه إلى ولده وهذا ظاهر في فوز الفرع بجميع نصيب الأصل فمن ثم اتجه قول السبكي والأقرب الثاني الخ. لكن لا مطلقاً لما يأتي فتأمل هذا الجمع بين هذين الجوابين وخذ منه قاعدة وهي أنه حيث دل صريح كلام الواقف على اختصاص كل فرع بجميع نصيب أصله اختص به ولم يشاركه فيه من هو في درجته وحيث لم يدل على ذلك كان جميع الوقف مقسوماً بالسوية على أهل الطبقة الثانية مثلاً سواء أكان مقسوماً على أهل الأولى بالسوية أيضاً أم لا ولا يكتفي في التفاوت بالمفهوم لأنه لا يدل على خصوص التفاوت وإن دل على أصل الاستحقاق كما قدمناه في الباب الأول وبهذا يزيد لك إيضاح فرقان ما بين صورتي السبكي فإن الأولى ليس فيها ما يدل على التفاوت وقوله فيها على أن من توفي منهم عن غير ولد كان ما يستحقه من هذا عائداً على الثلاثة الموقوف عليهم أوّلاً لا يدل على أن من توفي عن ولد يكون جميع ما كان له لأولاده في حياته أو في حياة من في درجة الميت وبعد مماته بل على أن جميعه يكون له في حياة ذاك فقط وأما بعد مماته فهو لا يأخذ بقضية المفهوم بل بصريح قول الواقف، ثم أولادهم ولم يفاوت الواقف فعمل(4/131)
بأصل التساوي بخلاف قوله في الثانية من توفي عن نسل عاد ما كان جارياً عليه على نسله الخ. فإنه يقتضي بناءً على ما فهمه السبكي أن ذلك جار في كل مرتبة مطلقاً سواء مات الأصل في حياة من في درجته أم لا وإذ قد بان لك واتضح فرقان ما بين هاتين الصورتين فصورتنا مساوية للصورة الأولى وصورة الروياني ووالده مساوية للصورة الثانية وحينئذٍ فاتضح ما قلناه في صورتنا من التساوي وما قالاه في صورتهما من عدمه واتضح أيضاً ما قاله السبكي في الأولى موافق لما قلناه في صورتنا وما قاله في الثانية موافق لما قالاه وبعد أن تمهد هذا فاعلم أن ما أفتى به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/132)
البغوي لا يخالف ما قلناه ولا نظائره خلافاً لمن زعمه ولفظ فتاويه وقف على عائشة وفاطمة ثم على أولادهما وأنسالهما بطناً بعد بطن وقرنا بعد قرن وكل من مات منهم وأعقب صرف حصته من ذلك إلى عقبه وإلا فلمن في درجته فماتت فاطمة ولا نسل لها وانحصر الوقف في رجل من نسل عائشة هي جدة أمه وله أولاد محمد وعلي وعائشة وغالية فماتت عائشة في حياة أبيها وخلفت ولدين ثم مات أبوها عن بقية أولاده المذكورين ثم مات الأولاد الباقون عن أولادهم فهل ينتقل إلى كل منهم نصيب أبيه أم يشاركهم ولدا عائشة الميتة في حياة أبيها لأن الكل اليوم في درجة واحدة قال: لا يشاركهم أولاد عائشة ووجه عدم مخالفته لما قاله السبكي أنه إنما تعرض لعدم مشاركة ولدي عائشة ولم يتعرض للتصريح بأن كلا ينتقل إليه نصيب أبيه كاملاً أو لا نعم كلامه قد يقتضي ذلك وحينئذٍ فهو ليس مخالفاً لما مر فإن صورة مسئلته مساوية لصورة السبكي الثانية دون الأولى ودون صورتنا لأن صورته هذه نص الواقف فيها في سائر البطون على أن كل فرع يأخذ حصة أصله بقوله وكل من مات منهم وأعقب صرفت حصته من ذلك إلى عقبه وإلا فلمن في درجته فإذا وجد العقب كان النصيب مصروفاً إليه بنص الواقف فلا ينقص عنه أي لا بقيده المستفاد من كلام البلقيني الآتي وأما مسئلتنا فالواقف لم يصرح فيها بنظير ذلك وإنما خص ذلك بالطبقة الأولى فقط فإنه وقف على بنيته ثم على أولادهما الخ. ثم شرط أن من مات منهما أي من بنتيه أي عن غير ولد كانت حصته لمن في درجته فالضمير في قوله: منهما يخص هذا الشرط بهما دون غيرهما. من سائر الطبقات فإذا ماتت إحداهما عن ولد أخذ حصتها عملاً بمفهوم الشرط كما مر فإذا توفيت الأخرى عن أولاد بطل ذلك الشرط ولم يصر أحد من أهل الطبقة الثانية يأخذ به أصلاً وإنما يأخذون بقضية قوله ثم على أولادهم فليست مسئلتنا نظيرة مسئلة البغوي هذه للفرق الواضح بينهما كما تقرر وكذلك مسئلته الأولى فإنها ليست(4/133)
نظيرتها في جواب الصورة الثانية مقتضى هذا الوقف أن قضاة تشارك أحمد الخ. ووجه ذلك أن صورتيهما متحدتان في سائر الأوصاف من العطف بثم وشرط أن من مات عن ولد نصيبه لولده وإلا فلمن في درجته وفي أن قضاة توفت أمها قبل استحقاقها بل قبل صدور الوقف وولدي عائشة توفت أمهما قبل استحقاقهما أيضاً فأفتاه البغوي بعدم استحقاقهما نص صريح في عدم استحقاق قضاة إذ لا سبب لإِفتائه بذلك إلا أن أمهما توفت قبل استحقاقهما وهذا موجود بعينه في أم قضاة فلا تستحق لما قاله البغوي بل أولى وعليه فما وجه به السبكي استحقاقها من عموم قول الواقفة ثم على أولاده الخ. ما قدمته عنه يمكن أن يجاب عنه بأنا لا نسلم حمل قوله النصيب على ما ذكره حينئذٍ بل هو على حقيقته وبه يخص العموم الذي ادعاه لأن التخصيص خير من المجاز وإن تعدد دون المجاز كما اقتضاه إطلاق الأصوليين فاندفع قوله ولو سلمنا أنه مجاز فهو هنا أولى الخ. وقوله لنا أن نقول النصيب قدر يجاب عنه بأنه ممنوع لأن النصيب لا يتبادر منه إلا الموجود حقيقة دون المعدوم حقيقة الموجود تقديراً والتبادر علامة الحقيقة كما صرحوا به وقوله وغرض الوقف يقتضي عموم الذرية يقال عليه محله ما لم يعارضه تصريحه بخلافه وهو هنا قد صرح بخلافه كما تقرر وقد وقع للسبكي رحمه الله تعالى في فتاويه مواضع قريبة أو مساوية لما قاله هنا في النصيب وما تفرع عليه فإياك أن تغتر به قبل أن تتأمله مع كلام البغوي هذا فإنه صريح في رد جميع ما قاله السبكي في هذه الصورة ونظائرها وبالضرورة إذا تعارض إفتاء السبكي والبغوي فالأصل والغالب تقديم إفتاء البغوي إلا لمانع ثم رأيت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/134)
البلقيني أشار في فتاويه إلى جميع ما قدمته عقب كلام الروياني ووالده وإلى ما ذكرته عقب جوابي السبكي من الجمع بينهما بحملهما على ما مر وإلى ما ذكرته عقب إفتاء البغوي من عدم مخالفته لما ذكرته في صورتنا ولما ذكره السبكي في صورته الأولى وبيان ذلك أنه سئل عمن وقف على أولاده الثلاثة وعلى من سيولد له ذكوراً وإناثاً بالسوية بينهم ثم على أولادهم وإن سفلوا تحجب الطبقة العليا السفلى ومن مات منهم عن ولد فنصيبه له وإلا فلمن في درجته ثم حدث له ولدان فقسم الربع بين الخمسة سواء ثم مات الذكران الأوّلان عن أولاد فحازوا نصيبهم ثم توفي الأخيران عن غير أولاد فحازت أختهما نصيبهما إذ هي في درجتهما ثم توفيت عن ولد وعن ثلاثة أخماس من الوقف فأراد ولدها حوز ذلك فإن والدته كانت تأخذه فقال أولاد خالته ليس لك إلا ما كانت تأخذه بطريق الأصالة وهو الخمس والباقي بيننا فما الحكم فأجاب بقوله لا يعمل بما قصده ولد المرأة ولا بما قصده أولاد خالته وإنما الذي يعمل في ذلك أن الغلة تقسم على جميع الطبقة الثانية بينهم بالسوية عملاً بقول الواقف ثم من بعدهم على أولادهم وأما قوله ومن مات منهم وله ولد انتقل نصيبه لولده فذاك عند وجود من يساوي الميت لأنه أراد بذلك أن يبين أن قوله الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى إنما هو بالنسبة إلى حجب الأصل لفرعه وأن الترتيب الذي ذكره بثم ترتيب أفراد لا ترتيب جملة فإذا مات الأخير من طبقة أي طبقة كانت لم يختص ولده بنصيبه وإنما تكون الغلة للطبقة الثانية على حسب ما شرط الواقف من تفضيل وتسوية وصار تقدير الكلام ومن مات منهم وله ولد انتقل نصيبه لولده دون من هو في طبقه أبيه حتى لا يحرم الولد في حياة من يساوي أصله وقد زال هذا المعنى في موت الأخير وهذه المسئلة قد وقعت قديماً فأفتيت بهذا فيها ووافق عليها أكابر العلماء في ذلك الوقت ثم وجدت التصريح بها في أوقاف الخصاف وفيه الجزم بما أفتيت به أ هـ .
كلام(4/135)
البلقيني وتبعه على ذلك السيد السمهودي فإنه سئل عمن وقف على أولاده الخمسة ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم تحجب الطبقة العليا السفلى على أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد انتقل نصيبه لولده فإن لم يكن له ولد فلأَخوته فإن لم يكن له أخوة فلبني أخوته فتوفي أحد الخمسة عن بنين أربعة، ثم الثاني، عن ثلاثة، ثم الثالث، عن ابنين ثم الرابع، عن واحد فصار كل من توفي له أب يتناول حصة أبيه وتقسم بنو الأول نصيبه بينهم أرباعاً وبنو الثاني أثلاثاً وبنو الثالث أنصافاً ويختص ابن الرابع بحصة أبيه، ثم مات الخامس عن غير ولد فهل تدوم تلك القسمة مع قسمة حصة الخامس على عدد رؤوسهم أم يقسم ربع الوقف كله على عدد رؤوسهم فأجاب بقوله إذا مات الخامس صار أولاد البنين كلهم طبقة واحدة وهم عشرة فيستحقون ربع الوقف أعشاراً بالسوية بينهم عملاً بقول الواقف ثم على أولادهم وأما قوله على أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد انتقل نصيبه لولده أو ولد ولده فإنه خصص به حجب الطبقة العليا للسفلى فيعمل به ما دام أحد من الطبقة العليا موجوداً فإذا لم يبق أحد من العليا فقد حصل الاستواء فتتعين القسمة بينهم على السواء عملاً بما تقدم وممن أفتى بذلك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/136)
السراج البلقيني أ هـ .
فإن قلت في كلام البلقيني بعض مخالفة لما ذكره السبكي في جوابه الثاني فما المعتمد منهما قلت: الأوجه في ذلك أن مجرد قول الواقف على أن من مات عن ولد فنصيبه لولده وإلا فلمن في درجته لا يقتضي عموم جريان ذلك في كل مرتبة حتى يأخذ الفرع نصيب أصله مطلقاً وإنما يقتضي أنه يفوز به حيث كان من في درجة أصله لما قرره البلقيني من أن محل العمل بهذا الشرط إنما هو عند وجود من يساوي الميت لأنه أراد به أن يبين أن الحجب المستفاد من ثم في مسئلة السبكي ومنها ومن تحجب العليا السفلى في مسئلة البلقيني إنما هو بالنسبة إلى حجب الأصل لفرعه وأن الترتيب المستفاد من ذلك ترتيب أفراد لا ترتيب جملة فإذا مات الأخير من طبقة أي طبقة كانت لم يختص ولده بنصيبه وإنما تكون الغلة للطبقة الثانية على حسب ما شرط الواقف من تفضيل وتسوية وحينئذٍ فما ذكره السبكي في جوابه الثاني ظاهر إلا بالنسبة لأولاد أمين الدين فإنه إذا مات لا تأخذ أولاده نصيبه لأن الصورة أنه مات آخراً بل يشتركون هم وأولاد أحمد فيما كان بيدهما على حسب رؤوسهم للذكر مثل حظ الأنثيين لأنهم الآن لا يأخذون بهذا الشرط بل بقولهما، ثم أولاد أولادهم كذلك لما تقرر أن هذا الشرط لم يؤت به إلا لتخصيص الحجب المذكور.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/137)
خاتمة: ما قدمته من كلام البغوي يرد كلام السبكي وما وجهت به كلام البغوي بقولي نعم في قول البغوي لا يشاركهم أولاد عائشة رد لقول السبكي الخ. رأيت شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله عهده قد سبقني إليه في فتاويه فإنه سئل عمن وقف وقفاً على ابنته سارة ثم على أولادها، ثم على أولاد أولادها بطناً بعد بطن على أن من مات منهم رجع نصيبه لولده فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد كان لمن في طبقته على حكم الفريضة الشرعية ثم إن الموقوف عليها رزقت ثلاث بنات وابناً، ثم مات في حياة الموقوف عليها بنتان وتركتا أولاداً ثم ماتت الموقوف عليها وتركت ابناً وبنتاً، ثم مات الابن والبنت وتركا أولاداً فهل يشترك أولاد البنتين اللتين ماتتا في حياة الموقوف عليها مع أولاد الابن والبنت اللذين عاشا بعدها فأجاب بأنهم لا يشاركونهم عملاً بقول الواقف على أن من مات منهم رجع نصيبه لولده فإنه مقيد لما قبله وإن كان غرض الواقف غالباً أن لا يحرم أحداً من ذريته إذ لا يعمل بغرضه مع مخالفته لصريح شرطه وقد رفع إليّ هذا السؤال مرة أخرى فكتبت عليه بذلك فقيل قد أفتيت مرة بالتشريك وفاقاً لجماعة فقلت: إن كان كذلك فقد وقع من غير تأمل صادق وبما أفتيت به من عدم التشريك أفتى به جمع منهم البغوي و الشيخ تاج الدين الفزاري كمال سلار شيخ النووي كما نقله عنهما السبكي لكنه أعني السبكي وقع له ولغيره أنهم أفتوا في نظير ذلك بالتشريك تبعاً للخصاف من الحنفية واستدلوا بما لا يشفي الغليل ثم قال أعني السبكي بعد كلام طويل ولا أشتهي أحداً من الفقهاء يقلدني فيه بل ينظر لنفسه فإن هذا نهاية ما وصل إليه نظري أ هـ .
. كلام الشيخ وهو صريح في جميع ما ذكرته عقب كلام السبكي مما مر بسطه فراجعه واعتن به فإنه مهم ويحتاج إليه كثيراً واعلم أنه قد يتوهم من كلام البلقيني أن قول الواقف في مسئلتنا على أن من توفي منهما عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته يكون عاماً في الأخذ بمفهومه(4/138)
في سائر الطبقات ووجه توهم ذلك يعلم بسياق كلامه فإنه سئل عمن جعل نظر وقف لابنه خضر، ثم لأَخوته ثم لأولاد ابنه خضر الذكور وأولاد أولاده بطناً بعد بطن، ثم توفي خضر وأولاده وأولاد الواقف وبقي ابن بنت خضر وبنت ابن ابن خضر هل تدخل البنت وتشارك أو لا تدخل عملاً بشرط الواقف المذكور فأجاب بقوله لا تدخل البنت في ذلك عملاً بقوله الذكور وهذا الشرط مستمر في كل بطن وقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/139)
هدياً بالغ الكعبة وما جعل في الأول يجري فيما بعده أ هـ .
وهذا التوهم غير صحيح لأن ملحظ البلقيني في رجوع قوله الذكور لما بعده أنه وصف متوسط أو متقدم وهو بقسميه يرجع إلى جميع ما بعده لصلاحيته بخلاف قوله في مسئلتنا على أن من مات عن غير ولد فإنه لا يمكن رجوعه لما بعده لأنه لا يصلح له فإن الضمير وإن كان كالصفة في عوده لجميع ما تقدم عليه كما أشار إليه القفال إلا أن محل ذلك في ضمير يصلح للعود للجميع أما ما لا يصلح للجميع فلا يعود إلا لما يصلح له فقط وهو في مسئلتنا لا يصلح إلا للبنتين فلا يعمل به في غيرهما. فاتضح فرقان ما بين صورة البلقيني في فتاويه فإنه سئل عمن وقفت على نفسها ثم من سيحدث لها من الأولاد وعلى والدتها حليمة وعلى زوجها أحمد بالسوية بينهم ثم من بعد وفاتهم على أولادهم ونسلهم بالسوية بينهم من ولد الظهر والبطن الذكور والإِناث في ذلك سواء تحجب الطبقة العليا بالسفلى على أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد انتقل نصيبه إليه ثم توفيت الواقفة عن بنتها كرك وزوجها أحمد ووالدتها ثم والدتها عن غير ولد ثم أحمد عن بنته كرك منها وعن ولده عبد الوهاب من غيرها. فهل تستحق كرك نصيب والدها فأجاب بقوله: نعم تستحق كرك نصيب والدها أحمد ولا شيء لعبد الوهاب ولده لأنه من غير أهل الوقف فلا يدخل في هذا الوقف أ هـ .
وما ذكره من عدم استحقاق عبد الوهاب فيه نظر ظاهر وقضية ما مر عن القفال من أن الضمير يرجع لجميع ما قبله استحقاقه فإن قوله على أولادهم يرجع لجميع ما قبله ومنهم أحمد وكذا قوله على أن من مات منهم وله ولد الخ. يرجع لأحمد أيضاً وإذا رجع إليه فلا فرق بين أولاده من الواقفة وغيرها. إذ لا دليل على التخصيص بأولاده منها بل قوله من ولد الظهر والبطن الخ. صريح في الشمول والعموم على أن لنا قولا ضعيفاً أن الضمير لا يرجع إلا إلى أقرب مذكور وهو هنا أحمد فدخول أولاده مطلقاً متفق عليه فكيف يسوغ حرمان بعضهم(4/140)
فالوجه خلاف ما قاله وقد خالف البلقيني في ذلك جماعة وعقدوا له فيها مجالس لكنه لم يرجع لهم ولعله لشيء ظهر له لكن الحق خلاف ما قاله وإن جلت مرتبته وهذا آخر ما تيسر لي في هذه المسئلة وتوابعها مع تضعضع الحال وقصر الباع عند الوقوع في المهامة والمضايق وسوء الاقتراف من النقائص والبوائق لكن أتوسل إلى الله وجوده وعفوه ورضاه ولطفه ومزيده بمن لا يخيب المتوسلون بجنابه ولا ينقطع المؤملون عن العلوق في رحابه أشرف الأنبياء والمرسلين ووسيلة الرسل والملائكة المقربين محمد وشرف وكرم وعلى آله وأصحابه وتابعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل قرره ناظر شرعي في وظيفة قراءة ما تيسر من القرآن العظيم بالحرم الشريف النبوي على الحال به أفضل الصلاة والسلام بمعلوم قدره لكل سنة أجرة ثلاثة أرباع دار بالمدينة الشريفة، ثم تولى الوقف ناظر غير الأول فهل له عزل الشخص المقرر المذكور بغير جنحة مع أهليته ومباشرته لما قرر فيه أم لا وهل إذا قرر غيره والحال ما ذكر يصح تقريره أو لا. فأجاب: ليس للناظر عزل المقرر المذكور إلا بمسوغ ولا يكتفى بقوله عزلته بمسوّغ اقتضى عزله بل لا بدّ من بيان ذلك المسوغ حتى ينظر فيه هل هو مما يقتضي ذلك أو لا وإذا عزله وقرر غيره من غير بيان ما ذكر لم ينفذ عزله بل ربما يكون ذلك سبباً لانعزاله عن النظر والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/141)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو وقف أرضاً أو أوصى بها على من يؤذن أو يعلم الصبيان ببلد كذا فهل يصح الوقف والوصية أم يصح الوقف دون الوصية كما نقل عن الأصبحي قال لأن الاستحقاق معلق على شرط مجهول لا آخر له ونص غيره على الصحة في الصورتين فما المعتمد في الفتوى وحيث قيل بالصحة فهل إذا أقام الناظر من يؤذن أو يعلم يكون للموقوف والموصي به حكم الموقوف على معين حتى يلزم المؤذن والمعلم زكاته إن بلغ نصاباً وصلح في ملكه أو يكون كالموقوف على جهة عامة. فأجاب: بأن المعتمد الذي دل عليه كلامهم صحة الوقف والوصية في الصورة المذكورة في السؤال وما أشبهها لأن ذلك وقف أو إيصاء لمتصف بصفة معلومة وتعلق كل من الوقف والوصية بالصفات المعلومة صحيح قطعاً ثم إن عين الموصي المؤذن أو المعلم وجب قبوله وإلا فلا وما نقل عن الأصبحي فهو كذلك لكن في نظير الصورة المذكورة وعبارته إذا أوصى أن يوقف على من يقرأ على قبره فهذا ينصرف إلى الغلة لا غير ويحكم العرف في غلة كل سنة بسنتها فمن قرأ جزءاً استحق بقسطه ومن قرأ أكثر كذلك وإن قرأ الجميع استحق غلة ذلك العام وإن كان وصيته بالأرض غير وقف فإن عين مدة القراءة في كل يوم جزءاً إلى مدة كذا كذا فلا يستحق العين الموصى بها إلا من قرأ تلك المدة وإن لم يعين المدة وقعت المدة مجهولة إذ لا آخر لذلك والاستحقاق معلق على شرط مجهول لا آخر له فيشبه مسئلة الدينار وفيها إشكال حتى قال صاحب النهاية في آخر تفريعات هذه المسئلة وهذه المسئلة لا يهتدى إليها وإن كان وقفاً فهو أقرب أو وصية مدة معينة فكذلك وإن كان وصية إلى غير نهاية فمشكل والمسئلة منصوصة في الغرائب أ هـ .
وما ذكره بعضه مقبول وبعضه مردود فلنبينه وإن استدعى بسطاً فنقول وأما قوله ويحكم العرف الخ. ففيه إجمال والذي يتجه فيه أن يقال إذا أوصى أن يوقف أرض مثلاً على من يقرأ على قبره ولم يبين قدر المقرر ولا وقته فهذا أمر مطلق يحتاج إلى بيان فإذا(4/142)
اطرد العرف في زمن الواقف حال الوقف بشيء وجب تنزيل وقفه المطلق عليه كما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
ابن عبد السلام وغيره في نظائر ذلك وإذا نزل الوقف على العرف المذكور فمن وفى بجميع ما اقتضاه العرف استحق كل المعلوم ومن أخل ببعضه نقص من معلومه بقدر ما أخل به فإن لم يوجد عرف كذلك فما الذي ينزل عليه هذا الوقف للنظر فيه مجال وقضية كلام ابن الصلاح أنه يكتفي بأصل القراءة على القبر فلا يضر إخلاله بها في بعض الأيام وعبارته وأما من أخل بشرط الواقف في بعض الأيام دون بعض فينظر في كيفية اشتراط ذلك الشرط الذي أخل به ومستنده فإن كان مقتضياً اشتراطه في الزمان الذي يتركه فيه وبتقيد الاستحقاق في تلك الأيام بالقيام به فيها فيسقط استحقاقه فيها والحالة هذه وإن لم يكن مقتضاه وكان مشروطاً على وجه لا يكون تركه في تلك الأيام إخلالاً بما هو المشروط منه فلا يسقط حينئذٍ استحقاقه في تلك الأيام ومن هذا القبيل إخلال المتفقهة بالاشتغال في بعض الأيام حيث لا يكون الواقف نص على اشتراط وجوده كل يوم فإن ما هو المستند في اشتراط يقتضي اشتراطه على الجملة لا في كل يوم ويلتحق بهذا الإِخلال بحضور الدرس في بعض الأيام على وجه لا يكون خارجاً عن المتعارف حيث لم ينص على اشتراطه كل يوم ومن القبيل الأول ما ذكر من اشتراطه من قراءة جزء من القرآن كل يوم فأي يوم أخل بذلك سقط استحقاقه فيه ولا يتوهم تعدي سقوط الاستحقاق إلى سائر الأيام التي لم يقع فيها إخلال فإن إخلاله بالشرط في بعض الأيام بمنزلة عدم وجود هذا المستحق في بعض الأيام كالأيام التي تقدمته وقضاؤه لما فات من ذلك لا يثبت استحقاقه في تلك الأيام فإن المقيد بوقت لا يتناول ما فعل في غيره أ هـ .
وإذا تأملته علمت أن قول الموصي على من يقرأ على قبري لا يقتضي اشتراط القراءة على القبر كل يوم بل على الجملة هذا كله إن جعل قوله على من يقرأ على(4/143)
قبري شرطاً وقد يتوهم من كلام ابن الصلاح أنه ليس شرطاً فإنه قال ما وقع التردد في كونه من الشروط فلا يجعل شرطاً في الاستحقاق مع الشك وبين ذلك واستدل له ثم قال ومن صورها أن ذكر في كتاب الوقف أموراً غير مقرونة بصيغة الاشتراط فلم يقل فيها وقفت على أنهم يفعلون كذا أو بشرط أنهم يفعلون كذا وما أشبه هذا وإنما قيل فيها ليفعلوا كيت وكيت أو يفعلوا كذا وكذا فمثل هذا متردد بين أن يكون توصية وبين أن يكون اشتراطاً أ هـ .
ومع ذلك فالظاهر أن قوله وقفت على من يفعل كذا أو أوصيت لمن يفعل كذا مما للواقف أو الموصي فيه حظ يعود عليه منه نفع بمنزلة الاشتراط لأنه ربط الوقف أو الوصية بصفة معلومة مقصودة فلا بدّ في الاستحقاق من وجودها بخلاف قوله وقفت كذا على فلان ويفعل كذا فإن مثل هذا هو المتردد بين الاشتراط والتوصية فلا يلحق بالشروط كما مر عن ابن الصلاح ولو تعدد القارؤون على قبره استحقوا الموقوف أو الموصى به على قدر عملهم على الأوجه وليس للناظر ولا للوصي تخصيص بعضهم به لعدم المرجح لتناول لفظ الواقف أو الموصي للكل لأن قوله من يقرأ على قبري ظاهر في العموم وإن احتمل أن تكون من فيه نكرة موصوفة ومما يصرح بذلك قول الماوري إذا قال من قام بوصيتي فله مائة درهم فأي من أقام بها وهو من أهلها فله المائة وإن قام بها جماعة كانت المائة بينهم وإذا قام بها واحد وكان كافياً مع غيره بعد العمل أن يشاركه أ هـ .
وفيه فوائد ويأتي فيمن يؤذن أو يعلم ما تقرر هنا وفيما يأتي فيمن يقرأ وأما قوله فلا يستحق العين الموصى بها إلا من قرأ تلك المدة فمراده لا يستحقها كاملة إذ لو أخل بالقراءة في بعض الأيام لا نقول إنه لا يستحق العين بكمالها وإنما الذي لا يستحقه هو قسط ما فوّته لما مر عن ابن الصلاح ولقوله هو في فتاويه لما سئل عمن وقف أرضاً على رجل ليقرأ على قبر ميت في كل يوم شيئاً معلوماً من القرآن ففاته في بعض الأيام وقضاه إذا ترك القراءة(4/144)
في بعض الأيام أو يوماً واحداً فينبغي أن لا يستحق حصة ذلك من غلة الوقف ولا يفيد القضاء وبين ذلك ثم قال فإذا ترك القراءة في يوم لم يستحق حصة ذلك اليوم فإن استحقاقه مشروط به ولم يوجد والقضاء لا يفيد فيه إذ لا يعود به الاستحقاق فإنه لو عاد لم يكن لشرط الواقف وتقديره فائدة أ هـ .
وأما ما أفتى به ابن عبد السلام فيمن وقف شيئاً على من يقرأ كل يوم في هذه التربة أو نحوه، من أنه لو أخل بالقراءة في بعض الأيام لا يستحق شيئاً من الغلة في مقابلة الأيام التي أدى فيها الوظيفة فضعيف كما بينة الزركشي وغيره وأما قوله وإن لم يعين المدة الخ. فغير صحيح إذ لا أثر للجهل بالمدة في مثل ذلك لأن الاستحقاق معلق بصفة هي القراءة كل يوم فحيث وجدت وجد الاستحقاق وحيث انتفت انتفى الاستحقاق وسيأتي لذلك مزيد قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/145)
بعض المحققين ومما ينبغي أن يتنبه له أن من وقف على من يقرأ على قبره كان آتياً بوقف منقطع الأول وهو باطل فإن قال: وقفت كذا بعد موتي على من يقرأ على قبري صح وكان وصية وأما قوله فيشبه مسئلة الدينار الخ. فغير صحيح أيضاً لأن صورة مسئلة الدينار المشار إليها أن يوصي لشخص بدينار كل سنة فتصح الوصية في السنة الأولى بدينار دون ما بعدها وهذه لا تشبه ما نحن فيه لأن ملحظ عدم الصحة فيها فيما عدا السنة الأولى أنه لا يعرف قدر الموصى به في المستقبل ليخرج من الثلث فالموصى به لم يجهل خروجه من الثلث بخلافه في مسئلة الدينار وإذا لم يجهل خروج الموصى به من الثلث وأناط الموصي استحقاقه بصفة معلومة وجب القول بصحة الوصية فتأمل بعد ما بين المسئلتين وكأنه لحظ أن عدم تعيين مدة الشرط المعلق به الاستحقاق وهو القراءة كعدم العلم بخروج الموصى به فيما عدا السنة الأولى من الثلث في مسئلة الدينار وهذا بعيد إذ لا جامع بين الأمرين حتى يقابل أحدهما بالآخر وأما قوله وإن كان وقفاً الخ. ففرقه بين الوقف والوصية يرده تسوية الفقهاء بينهما في مسائل كثيرة وما فرقوا بينهما إلا في مسائل لا يتأتى نظيرها هنا فوجب أن لا فارق بينهما في هذه المسئلة على أن لك أن ترد ما قاله بأن قضيته أن الوصية أولى بالصحة من الوقف لأنها تقبل من المجاهيل والتعليقات وغيرهما. ما لا يقبله الوقف فإذا قال بصحة الوقف مع تعليقه بشرط مجهول الآخر فليقل بصحة الوصية مع ذلك أولى لأنها تقبل من المجاهيل ما لا يقبله الوقف كما لا يخفى على من تأمل تصاريفهم في البابين وكون الوقف أصله الدوام بخلاف الوصية لا ينفعه في الفرق لأن الوصية أيضاً قد تكون للدوام فالدوام لا يقتضي فسادها وإن لم تكن أصلاً فيه وقول السائل وحيث قيل بالصحة الخ. جوابه أن الواقف إن عين شخصاً أو أكثر وشرط كونه يؤذن أو يعلم مثلاً لزمته الزكاة بشرطها وإن لم يعين أحداً كما اقتضاه كلام السائل فلا تلزمه(4/146)
زكاة أخذاً من قولهم لا زكاة في ربع موقوف على جهة عامة كالفقراء والمساجد لعدم تعين المالك بخلاف الموقوف على معين واحد أو جماعة اهـ. وبهذا يعلم أن الموصى به كذلك فإن عين الموصي من يؤذن أو يعلم لزمته الزكاة وإلا فلا والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
مسئلة: وقف داراً على نفسه ثم أولاده، ثم أولادهم وهكذا وشرط النظر لنفسه ثم لولده المعين ثم للأرشد وحكم بموجب الوقف وبصحته ولزومه حنفي وشرط أن يبدأ بعمارته من أجرته بنظر ولده المذكور فبعد وفاته وضع ولده يده وأجره مائة سنة من غير احتياج لعمارته وحكم بصحة الإِيجار شافعي فهل حكم الحنفي يتناول الحكم ببطلان هذه الإِجارة فإن مذهبه أن لا تجوز إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين. فأجبت: الحكم بالموجب يتضمن الحكم بجميع الآثار التي يراها الحاكم قال أبو زرعة مخالفاً لكلام شيخه الإِمام البلقيني بشرط أن يدخل وقت الحكم بها مثاله أن يحكم حنفي بموجب تدبير فمن موجبه عنده منع بيع المدبر فقد حكم به في وقته لأنه منع للسيد منه فامتنع عليه فإذا أذن له شافعي فيه لم يعتد به لأن فيه نقضاً للحكم الأوّل وليس للشافعي أيضاً الحكم بصحة بيعه لو وقع فإنه وقع باطلاً بقضية الحكم الأول إذا تقرر ذلك علم منه أن حكم الحنفي بموجب هذا الوقف متضمن لحكمه بامتناع إجارته مدة لا يجيزها الحنفي لأن هذا أثر من آثار حكمه وقد دخل وقته فصار كأنه وجه حكمه إليه وحينئذٍ فليس للشافعي الحكم بما يخالف ذلك لأن فيه نقضاً لحكم الحنفي وعلى التنزل وإن حكم الحنفي لا يشمل ذلك فإجارة الناظر الوقف مائة سنة من غير احتياج لذلك باطلة كما حرره الولي أبو زرعة في فتاويه حيث قال ما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائة سن أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القرض المحتاج(4/147)
إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإِجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك فإجارة الناظر المذكورة باطلة عند الشافعي أيضاً على أن الأذرعي قال لا تجوز إجارة الوقف مائة سنة مثلاً مطلقاً لأنه يؤدي إلى استهلاك الوقف فالحاصل أن إجارة الناظر المذكورة باطلة عند الحنفي والشافعي على كل تقدير.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
سئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو وقف أرضاً لتزرع غلتها كل سنة أو لتصرف غلة كل سنة أو قدر معلوم من غلة كل سنة لمن يهلل له كل سنة كذا أو للمعلم أو من يعلم ببلد كذا أو أوصى كذلك وقلتم بالصحة وكانت تزيد على القدر المذكور فهلل وعلم سنة ثم مات أو امتنع أو عزل أو وجد ذلك في أثناء السنة ولم تغل في سننه أو لم تفِ بالقدر فهل يعطي غلة السنة الثانية أو يكمل القدر منها أي من غلتها أو يسترد مما يصرف للأقرب إلى الواقف في ماضي الزمان حيث صرفنا الزائد على المقدر إليه على القول به أو يفرق بين أن يقول وما فضل من غلة كل سنة ونحو ذلك مما يدل على اختصاص الشرط بكل سنة فلا يسترد حينئذٍ أو يطلق فيسترد وقد يقال الواقف أو المؤجر يصرف من غلتها أعني القدر المعلوم في صورته وإن أجدبت أي لم تغل فهل يصح ذلك ويلزم حيث وقع في نفس الواقف أو الوصية أو يفرق بين أن يأتي به بصورة شرط أو لا لأبي زرعة في مختصر المهمات كلام في ذلك كما أحاط به علم سيدي. فأجاب: بأن من وقف أرضاً أو أوصى بها لتصرف غلتها أو جزء منها إلى من يفعل كذا فإن جاءت كل سنة بقدر ما شرط فذاك وإن زادت عليه فالزيادة لأقرب الناس إلى الواقف وإن نقصت عنه لم يستحق شيئاً آخر هذا إن باشر المشروط عليه جميع السنة ولم يكن هناك موقوف عليه غيره أما إذا لم يباشره جميع السنة كأن مات أثناء السنة أو امتنع أو عزل فإنه يستحق من مغل تلك السنة قسط ما باشره فقط وأما إذا كان هناك غيره فإن كان له مقدر فإن وفي(4/148)
المغل بقدريهما فذاك فإن نقص وزع عليهما بالنسبة على مقدريهما فلو كان لأحدهما عشرة وللآخر عشرون استحق الأول ثلث الحاصل والثاني ثلثيه وإن لم يكن له مقدر كمل لصاحب المقدر من ريع السنة الثانية كأصحاب الفروض في الميراث ومن يكون كالعصبة إلا أن يقول الواقف وما فضل بكل سنة فلا يكمل حينئذٍ مغل سنة مما قبلها ولا مما بعدها في الأحوال كلها بل إن وفي مغل كل سنة بأرباب الوقف فذاك وإن زاد فالزيادة لأقرب الناس إلى الواقف وإن نقص وزع عليهم بحسب مقدراتهم كما مر نظيره ولا يخالف ذلك ما اقتضاه كلامهم في فرع ابن الحداد وهو ما إذا أوصى لرجل بدينار كل شهر من غلة داره وبعده للفقراء من أنه لا يكمل للموصى له من ريع الشهر الثاني لوضوح الفرق بين الصورتين فإن الباقي من كل شهر مستحق للوارث تبعاً للرقبة فلا يزاحمه فيه الموصى له بخلاف الوقف فإن الربع مستحق لأصحابه بجهة الوقف فقدم فيه المقدر مطلقاً، قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/149)
البلقيني : ولو كمل المقرر في سنة وأعطى ما فضل منها لمن بقي ممن لا مقدر له ثم نقص في سنة أخرى بعدها فهل يسترد فيما إذا لم يخص كل سنة بها ما صرف لمن بقي منه فيه نظر والأوجه الاسترداد لأن العبرة في الأملاك بما في نفس الأمر وبنقص المقدر في سنة إذا قلنا: إنه يكمل من غيرها يتبين أن من صرف لهم الباقي لا يملكونه الآن وأن ملكهم له قبل ذلك إنما كان ملكاً مراعي وباعتبار أن الأصل فيما قبض باستحقاق أن يستمر المقتضي لذلك الاستحقاق ويدل لما ذكرته في بعض هذا التفصيل إفتاء الشرف المقدسي وهو من معاصري النووي فإنه سئل عن مكان موقوف على جماعة وعليهم وظائف شرطها الواقف وجامكية وجراية معينة لكل واحد بشرط الواقف والجراية في بعض السنين تعجز ما يؤخذ من المسقف عن الوفاء بها وكان في بذلك الوقف مغل قائم من بعض الأوقاف البرانية على الجهة المذكورة فلما حصل المغل تحت يد الناظر أراد حبسه ليصرفه فيما يستقبل من الجامكية والجراية وأراد مباشرو الوقف أن يكمل لهم ما تأخر من معلومهم فأيهم يجاب وهل للمتولي أن يصرف من مغل هذه السنة التي تأخر فيها ما ذكر من سنتهم التي باشروا فيها أو لا فأجاب بما صورته يجاب من كان المغل قائماً في الأرض في زمن مباشرته ويكمل لهم منه معلومهم المشروط لهم على قدر مباشرتهم ولا يجوز أن يصرف في غير السنة التي كان المغل فيها شيء في السنة المستقبلة إلا ما يفضل عن المستحقين في سنة المغل أ هـ .
وأفتى غيره فيمن وقف أرضاً ليصرف من غلتها للمعلم ببلد كذا شيء معلوم فعلم سنة وامتنع ثم علم غيره ولم يحصل في سنة إلا دون ما شرط له فهل يكمل له من السنة الثانية وهل لو مات أثناء السنة يستحق بقسطه في الثانية وأفتى البلقيني فيمن وقف على جهات وذكر لبعضها مقداراً معيناً من كل شهر وما فضل من الريع عما قدره يكون للجهات الفلانية فجاء في سنة الريع أقل من المقدر ثم كثر في السنة الثانية فهل يكمل للمقدر ويعطي الفاضل(4/150)
للمشروط لهم الباقي بما حاصله أن أصحاب المقدر يكمل لهم كأصحاب الفروض في الميراث ومن له الباقي كالعصبة إلا أن يقول الواقف وما فضل كل سنة ونحوه. مما يدل على اختصاص الشرط بكل سنة أ هـ .
وفي مختصر المهمات عن السبكي ما حاصله إن من مات أثناء سنة ولم تغل الأرض إلا بعد موته أعطيت حصته لوارثه وهو شاهد لما مر من أن من مات أثناء سنة يستحق لكن بشرط أن يحصل من تلك الأرض مغل في تلك السنة حتى يستحق منه بالقسط فإن لم يوجد فيها شيء لم يستحق شيئاً وقول الواقف أو الموصي على أن يصرف من غلتها وإن تغل كلام لغو فلا يلتفت إليه ويصح الوقف وإن قال ذلك في صلبه لأن هذا الشرط ليس منافياً لخصوص الوقف حتى يبطله بل لعموم اشتراط الإِمكان في اتحاد الأشياء الممكنة وقوله ذلك متناقض فيكون في حيز النطق بالهذبان والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
مسئلة: هل يصح الوقف بشرط العزوبية. أجبت: الذي ذكره الرافعي لو وقف على الفقراء بشرط العزوبة اتبع شرطه وفي فتاوى البلقيني أنه لا يصح هذا الشرط لمخالفته طلب التزوج المنصوص عليه في الكتاب والسنة وإجماع الأمة أ هـ .
وإنما يتجه ذلك إن كنا نشترط في شروط الواقف أن تكون قربة أما إذا لم نشترط فيها ذلك وهو ما يدل عليه كلام الأكثرين فلا نلغي هذا الشرط وفي الخادم مقتضى قولهم إن الوقف قربة ولا يصح إلا على جهة تظهر فيها القربة أن كل شرط لا يتعلق به قربة لا يصح الوقف عليه وعلى هذا فالوقف بشرط العزوبية باطل أ هـ .
وفيه نظر فليس مقتضى قولهم ذلك إذ لا يلزم من رعاية القربة في أصل الوقف رعايتها في شروطه فتأمله.(4/151)
وسئل: عمن وقف على عياله هل يشمل الذكور والإِناث أو يختص بالذكور وإذا قضى العرف بهذا يعمل به أو لا. فأجاب: بأنه يشمل النوعين لكن المراد بهم هنا كما يصرح به كلامهم الذكور والإِناث من القرابة الذين تلزمه نفقتهم كما يدل عليه الحديث المشهور كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول هذا كله إن لم يكن لبلد الواقف عرف مطرد علمه الواقف قبل وقفه وإلا نزل وقفه عليه لأنه حينئذٍ بمنزلة شرطه كما صرح به الأئمة.
وسئلت: عمن وقف على ولد ولده ثم أولاده ما تناسلوا بطناً بعد بطن فإذا انقرضوا كان على جهات برٍ عينها وشرط النظر للأرشد من الأولين ثم من الذرية فمات الأول عن غير عقب وانتهى إلى الورثة وهم إذ ذاك ولدا الواقف لصلبه ذكر وأنثى وبنت ابن له آخر فمات الولد عن بنته وبنت أخيه المذكورتين وبني عمه ثم بنت الواقف عن أولاد وبني عم فهل لبنت الابن مع عمها وعمتها شيء أو بعدهما وكذا بنو العم وهل هو بالسوية بينهم وهل ما للبنت ينقل لأولادها وهل قوله أولاً بطناً بعد بطن يجري كذلك في الورثة فيفيد انتقاله إلى سائر بطونهم على الترتيب وهل الشرط تابع للاستحقاق أم لا. فأجبت: العبرة في كونهم ورثة بوقت انقراض من قبلهم فحينئذٍ يستحقه الولدان الذكر والأنثى بالسوية بينهما فإذا مات الذكر أخذته الأنثى جميعه فإذا ماتت انتقل إلى الجهات التي عينها بعد الورثة وبطناً بعد بطن لا يفيد ترتيباً ومستحق النظر الأرشد من الوارثين الموجودين عند وجودهما والأنثى عند انفرادها إن كانت رشيدة وإلا فالحاكم والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/152)
وسئل: عن صدقة على وارد مسجد ثم وسع ذلك المسجد لحاجة أو لغيرها وقلنا: لا بدّ من ورودها لأجل الاستحقاق أو لم نقل به فهل الوارد في الزيادة كالوارد في المزاد عليه وتلحق الزيادة به في سائر الأحكام حتى يسرج فيها من صدقته ويشتري لها الحصر من صدقته الموجودة قبل فعل الزيادة وهل تدخل الزيادة في الصدقة الحادثة على المسجد بعد حدوثها عند الإِطلاق مطلقاً كما هو ظاهر أو لا وهل يأتي ذلك في نظائره كبئر عمقه عشرون ذراعاً وله صدقة على رشاه فعمق إلى ثلاثين وهل الورود شرط لاستحقاق الوارد في المسئلة الأولى أو يفرق بين وارد ووارد بحسب العادة فإن قلتم لا فرق فهل يستحق المحدث حدثاً أكبر وذو الجروح السيالة ويلحق بهما الأجذم أو لا وقد أفتى أبو شكيل نفع الله تعالى به بأنه يصلي على باب المسجد وأفتى آخر بالمنع إذا لم يوجد ورود وفي شرح الجلال السيوطي للتنبيه في الكلام عى المعذور عن مبيت مني كلام له تعلق بما نحن فيه فيما أظن فتفضلوا بإيضاحه وبسطه وتحصيل المراد منه لتعظيم فائدته. فأجاب: بأن الذي يتجه لي أن الورود شرط لأن كل صفة وقعت في كلام الواقف فالأصل أنها للاشتراط حتى يوجد من كلامه أو بقرينة خارجية ما يصرفها عن ذلك ومن ثم نقول محل كون الورود شرطاً ما لم يكن العرف حال الوقف في ذلك المحل مطرداً بأن المراد بالورود إلى المسجد ما يشمل دخوله والإِقامة على بابه أو بقربه ويكون الواقف من أهل ذلك العرف فحينئذٍ يتجه أن الورود ليس شرطاً لما هو مقرر معروف أن العرف المطرد في زمن الواقف منزل منزلة شرطه فينزل الوقف على العرف المذكور كما ينزل على شرط الواقف وعلى التفصيل يحمل إطلاق من أطلق أن الورود شرط أو ليس بشرط لأن هذا الذي ذكرته هو الذي ينزل عليه كلامهم ويؤيده إفتاء ابن الصلاح بنظيره وأقروه عليه ولا بأس بذكره وإن كان فيه نوع بسط لما اشتمل عليه من الفوائد وذلك أنه سئل عن مدرسة موقوفة على الفقهاء والمتفقهة ووقف لها(4/153)
شيء على فقهائها ومتفقهيها هل يستحق منه من يشتغل بها ولا يحضر درس المدرس أو يحضر الدرس ولا يحفظ شيئاً ولا يطالع أو يشتغل بالمطالعة وحدها أم لا فأجاب بقوله يلحظ في هذه الأحوال وغيرها شروط الواقف فما كان منها مخلاً بما نص الواقف على جعله شرطاً في الاستحقاق فهو قادح في الاستحقاق وما لم يكن فيه إخلال بشيء مما اشترطه الواقف في الاستحقاق لكن فيه إخلال بما غلب عليه العرف واقتضته العادة فالاستحقاق ينتفي بهذا الإِخلال أيضاً وإن لم يتعرض الواقف لاشتراط ذلك بنفي ولا إثبات لتنزل العرف في هذا منزلة الاشتراط لفظاً على ما تقدم الإِيماء إلى بيانه في الفتيا التي قبل هذه ونعني به العرف الذي قارن الوقف وكان الواقف من أهله وما لم يكن فيه إخلال بما ظهر اشتراطه لفظاً وعرفاً وما لا تردد في كونه من الشروط فلا يقدح في الاستحقاق وما وقع التردد في كونه من الشروط فلا يجعل شرطاً في الاستحقاق مع الشك فلا يمنعنا من الحكم بالاستحقاق كوننا ترددنا والأصل عدمه لأن سببه قد تحقق وشككنا في تقييده بشرط والأصل عدم القيد والشرط والحكم هنا على ذلك وله في باب الوقف نفسه شاهد مسطور وهذا ما ذكره غير واحد فيما لو اندرس شرط الواقف فلم يعلم أنه على ترتيب أو تشريك وتنازع أرباب الوقف في ذلك ولا بينة قالوا يجعل بينهم بالسوية هذا مع أن الشك في الترتيب يوجب شكاً في استحقاقه الآن وكذا الشك في التفضيل يوجب شكاً في استحقاق بعض ما حكم له بتناوله والأصل عدم الاستحقاق لكن أصل الوقف عليه سبب متحقق والأصل عدم التقييد والله أعلم ومع هذا فالأولى في مثل هذه الحالة أن لا يتناول ومن صورها أن يذكر في كتاب الوقف أموراً غير مقرونة بصيغة الاشتراط فلم يقل فيها وقفت على أنهم يفعلون كذا وكذا أو بشرط أنهم يفعلون كذا وكذا فهل هذا متردد بين أن يكون توصية وبين أن يكون اشتراطاً وبعد هذه الحيلة فمن كان من المتفقهة يشتغل بالمدرسة المذكورة ولا يحضر(4/154)
الدرس لا يثبت له الاستحقاق من حيث أن حضور المتفقهة بالمدرسة دروس مدرسها هو العرف الغالب ولم يوجد من الواقف التعرض لإِسقاطه فنزل مطلق وقفه عليه وإذا لم يشترط الواقف الحفظ فمن يحضر الدرس ولا يحفظ ولا يطالع يستحق إن كان فقيهاً منتهياً فيها أو كان يتفقه مما يسمعه من الدرس لكونه يفهمه ويتعلق بذهنه ولا يستحق إذا لم يكن كذلك فإنه ليس من الفقهاء ولا من المتفقهة وإنما وقف عليهم فحسب وعلى هذا فمن لا يحضر الدرس وإنما اشتغاله بالمطالعة وحدها يستحق إن كان منتهياً أو كان ممن يتفقه بذلك ولا يستحق إذا لم يكن بواحد منهما أ هـ .
لفظ ابن الصلاح وما ذكره من أنه إذا اندرس شرط الواقف جعل بينهم بالسوية وهو كذلك لكن محله حيث كان في يد جميعهم أو في يد غيرهم، فإن كان في يد بعضهم فالقول قوله والفتيا التي أشار إليها بقوله على ما تقدم الإِيماء إلى بيانه في الفتيا قبل هذه هي أنه سئل عن المدارس الموقوفة على الفقهاء هل لغيرهم دخول بيوت الخلاء فيها والجلوس في مجالسها والشرب من مائها وما أشبه ذلك فأجاب بقوله يجوز من هذا وأشباهه ما جرت به العادة واستمر به العرف في المدارس وينزل العرف في ذلك منزلة اشتراط الواقف له في وقفه تصريحاً لما تقرر من تأثير العرف في ألفاظ العقود ومطلقات الأقوال ومن أمثلة ذلك تنزل العرف في تبقية الثمار إلى أوان الجذاذ منزلة اشتراط التبقية فيما استبقيت وأفتى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/155)
الغزالي بنظير هذا ونقل الفتيا إلى الإحياء في آخر كتاب الحلال والحرام فيما إذا وقف رباطاً للصوفية فذكر أنه يجوز لغير الصوفي أن يأكل معهم برضاهم مرة أو مرتين فإن الواقف لا يقف إلا معتقداً فيه ما جرت به عادة الصوفية فينزل على عادتهم وعرفهم أ هـ .
لفظه أيضاً ويوافق ما ذكره في العرف نقل الأئمة عن ابن عبد السلام وأقروه ما لفظه في العرف المطرد بمنزلة المشروط، ثم قال وكذلك الحكم في كل شرط بهذا العرف بتخصيصه أ هـ .
وبما ذكراه في ذلك يتضح ما ذكرته من التفصيل السابق في الورود فإن قلت: محل اعتبار العرف فيما لم ينص الواقف على اشتراطه كما يعلم من صدر كلام ابن الصلاح في المسئلة الأولى وقول الواقف على وارد مسجد بمنزلة قوله وقفت هذا على الغني أو الفقير أو نحوهما ومعلوم أن هذا بمنزلة قوله وقفته على فلان بشرط كونه فقيراً مثلاً فيكون قوله على وارد مسجد كذا بمنزلة قوله بشرط وروده مسجد كذا وهو إذا قال هذا الأخير لا ينظر فيه للعرف لأنه إنما ينظر إليه في الألفاظ المطلقة ونحوها. كما مر فكيف حكمتم العرف في هذا ولم لم تقولوا حيث انتفى الورود لا استحقاق أصلاً قلت: يفرق بين الورود ونحو الفقر والغنى بأن تلك الصفات لها ضابط في الشرع فرجع فيها إليه ولم يرجع للعرف لأنه لا ينظر إليه إلا عند تعذر المدلولات الشرعي والحمل عليها وأما الورود فإنه لا ضابط له في الشرع وإنما هو من الصفات التي تختلف باختلاف أحوال أهل العرف وكل لفظ لا مدلول له في الشرع يجب حمله على مدلوله في العرف لأجل ذلك قلنا: في الورود أنه للاشتراط فلا يستحق إلا من ورد المسجد ما لم يطرد العرف بخلاف ذلك فيحمل عليه كما مر وحيث قلنا: إن الورود إلى المسجد شرط في الاستحقاق ترتب على ذلك أمر أن أحدهما هل يشترط في الوارد أن يحل له المكث في المسجد والذي يظهر اشتراط ذلك أخذاً من قولهم لو نوى نحو الجنب الاعتكاف في المسجد لم يصح اعتكافه لأنه معصية من حيث المكث(4/156)
الذي هو شرط في حصول الاعتكاف فكذا يقال هنا بنظير ذلك لأن معصيته من حيث المكث الذي هو شرط في حصول الاستحقاق بخلاف ما لو كانت معصية ودخل المسجد فإنه يستحق كما يصح بنية الاعتكاف ونظير ذلك لابس الخف المحرم له المسح بخلاف ما إذا حرم لذات اللبس كأن كان محرماً ولبسه فإنه لا يجوز له المسح عليه لأنه معصية من حيث اللبس الذي به الرخصة فلا يكون سبباً لاستباحتها وكذلك إذا كانت المعصية هنا من حيث الورود فإنها تمنع الاستحقاق لئلا يتوصل إليه بسبب محرم وهو ممتنع بل لو فرض أن الواقف نص على استحقاقه لغا وقفه أو شرطه لأن الواقف على ذي المعصية أو اشتراط ما فيه معصية كل منهما لغو ثانيهما هل يستحق من ورد إلى زيادة المسجد الحادثة بعد الوقف والذي يظهر لي في ذلك أنه يرجع إلى لفظ الواقف فإن كان قال وقفت هذا على وارد هذا المسجد لم يستحق الوارد إلى الزيادة شيئاً وإن كان قال على وارد مسجد بلد كذا استحق والفرق أن قوله في الأول هذا المسجد لم يتناول الزيادة لأن الصورة أنها حدثت بعد ذلك والإِشارة تختص بالموجود ولا تتناول المعدوم فالوارد إلى الزيادة حينئذٍ لم يتناوله لفظ الواقف فلا يستحق بخلاف قوله مسجد بلد كذا فإنه لا إشعار فيه بالاختصاص بالمسجد الموجود حال الوقف فاستحق الوارد إلى الزيادة لأنها إذا وقفت مسجداً صارت من مسجد بلد كذا ويدل على ما ذكرته ما جزم به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/157)
النووي في مناسكه وغيره. من أن الأفضلية الثابتة لمسجده المستفادة من قوله صلاة في مسجدي هذا خاصة بما كان في زمنه دون ما زيد فيه بعد لأن قوله هذا لا يتناول إلا الموجود حال الإِشارة والزيادة فيه بعد ذلك لا تلحق به في الفضيلة اقتصاراً على ما دل عليه لفظه ولجمع عليه اعتراضات كثيرة بينت في حاشية مناسك النووي الكبرى ردها وأن المعتمد ما قاله النووي فاتضح بما تقرر ما ذكرته من التفصيل ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو أن الرافعي رحمه الله تعالى نقل آخر كتاب الأيمان عن الحنفية فروعاً، وقال في آخرها: وبجميع هذه الأجوبة نقول إلا في مسئلة العلم وذلك أن من تلك الفروع أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل للزيادة حنث قال النووي في الروضة قلت: في موافقتهم في مسئلة زيادة المسجد نظر وينبغي أن لا يحنث بدخولها لأن اليمين لم يتناولها حالة الحلف أ هـ .
قال الإسنوى ويدل لما ذكره من عدم الحنث أن الأفضلية الثابتة لمسجده خاصة بما كان في زمنه دون ما زيد فيه بعد وممن جزم به النووي في مناسكه وغيره أ هـ .
فتأمل قول النووي لأن اليمين لم يتناولها حالة الحلف واستشهاد الإسنوى لذلك بما ذكره في زيادة مسجده ينتج لك ما ذكرته في مسئلة الاستحقاق وأن مسئلة الوقف ومسئلة الحلف والثواب على حد سواء بجامع أن كلاً من المسائل الثلاث وجد فيه التلفظ بهذا المسجد فكما لم تدخل الزيادة في تينك عملاً بقوله هذا فكذلك لا تدخل في مسئلة الوقف عملاً بقوله فيها هذا بخلاف ما إذا قال وارد مسجد بلد كذا فإن وارد الزيادة يستحق لما مر ويدل عليه صريحاً قول الرافعي لو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فدخل في زيادة حادثة فيه حنث أ هـ .
وأقروه مع تضعيفهم ما قاله في هذا المسجد فاقتضى أن بين الصورتين فرقاً وهو ظاهر كما يتضح لك مما قررته ويأتي في إيقاد الزيادة وفرشها وغيرهما من مال الصدقات الموجودة قبلها ما تقرر فإن قال المتصدق على هذ المسجد لم يصرف من صدقته(4/158)
شيء لمصالح تلك الزيادة الحادثة بعد تلك الصدقة وإن قال على مسجد بلد كذا أو بنى فلان صرف من صدقته لمصالح تلك الزيادة وفي أصل الروضة عن الغزالي يجوز بناء منارة للمسجد من الموقوف عليه قال الرافعي أو على عمارته ومحلهما إن جاز بناؤهما بأن احتاج إليهما ولم تمتنع الصلاة عليها ومن ثم علل القاضي حسين إطلاقه منع بنائها بأنها تشغل موضع الصلاة ومثلها حفر البئر فيه فإنه يكره كما في التحقيق نعم الذي يتجه أنه إن ضيق ولم يحتج إليه حرم وإن احتيج إليه ولم يضيق لم يكره وعن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/159)
البغوي وغيره. أن الموقوف على مصلحة المسجد أو على المسجد يجوز شراء الحصر والدهن منه والقياس جواز الصرف إلى المؤذن والإِمام أيضاً اهـ. قال بعض المتأخرين ومحل جواز الصرف على نحو المنارة والبئر والبركة من الموقوف على المسجد أو على مصالحه إن جاز بناء المنارة وحفر البئر والبركة وإلا لم يصرف عليها من ذلك أ هـ .
ملخصاً فإن قلت: فحيث قلنا: بأن الزيادة يصرف على مصالحها من الموقوف على المسجد أو على مصالحه قبل وجودها فهل يتقيد الصرف عليها من ذلك بما إذا جازت بأن اضطر إليها لضيق المسجد بخلاف ما إذا لم يضطر إليها فإنها لا تجوز كما قاله ابن عبد السلام وأقروه قلت: يحتمل أن يقيد جواز الصرف عليها من ذلك بما إذا جازت قياساً على الصرف على نحو المنارة والبئر ويحتمل الفرق بأن الزيادة وإن حرمت تسمى مسجداً فيتناولها قول المتصدق على مسجد كذا والحرمة ليست في اتخاذها بل في هدم جدار المسجد لأجلها وذلك لا يمنع إطلاق لفظ المسجد عليها فمن ثم استحقت أن يصرف عليها من وقفه لشمول لفظه لها مع عدم اتصافها بالحرمة بخلاف نحو المنارة والبئر فأنهما يوصفان بالحرمة من حيث ذاتهما فلم يمكن مع ذلك الصرف عليهما من وقفه لأن فيه حينئذٍ إعانة على معصية على أنهما مع الزيادة على حد سواء لأنا إن أردنا الصرف على الثلاثة حين توجد فصلنا بين جواز اتخاذها وعدمه وإن أردنا الصرف عليها بعد بناء المنارة وحفر البئر وبناء الزيادة جاز ذلك وإن حرم اتخاذها لأن الصرف عليها حينئذٍ ليس من حيث ذاتها بل من حيث انتفاع المسجد بها كالصرف على رشاء البئر ومؤذن على المنارة أو إيقاد عليها عند الاحتياج وعلى نحو حصر وإيقاد للزيادة فالثلاثة سواء فنتج أنه لا فرق بينهما ويسقط السؤال من أصله فإن قلت: ما ذكرته من التفصيل في الزيادة من أن قوله هذا المسجد لا يشملها وقوله مسجد كذا يشملها كلامهم في باب الاقتداء يخالفه ويقتضي أن الزيادة لها حكم المسجد مطلقاً وذلك(4/160)
أنهم ألحقوا رحبة المسجد به وهي الخارجة عنه المحوّط عليها لأجله سواء أبنيت معه أم لا فيحرم المكث فيها على الجنب ويصح الاقتداء لمن فيها بمن في المسجد وإن حال بينهما ما يمنع المرور والرؤية وغير ذلك بل صرح الشيخ أبو حامد شيخ الطريقين بما هو أعم من ذلك حيث قال: فأما الصلاة في المساجد المتصلة بالمسجد وبابها إلى المسجد فالحكم فيمن صلى فيها حكم من صلى في المسجد سواء أكانت أبوابها مغلقة عن المسجد أو مفتحة وإنما قلنا هذا لأنه لا يخلو إما أن كون هذه المساجد بنيت مع الجامع أو بعده فإن كانت بنيت معه فهي من الجامع وإن كانت بنيت بعده فقد أضيفت إليه فهي منه على كل حال أ هـ .
كلامه صريح في أن الزيادة المذكورة حكمها حكم المسجد مطلقاً فلم لم نقل به في مسئلتنا قلت: ملحظ ما نحن فيه غير ملحظ صحة القدوة والاعتكاف وحرمة المكث على الجنب وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالمسجد من حيث كونه مسجداً وهذه كلها متعلقة بالزيادة وبالرحبة ونحوهما. فهما فيه على حد سواء لأن المدار على ما يسمى مسجداً وما يلحق به وهذه كذلك وأما ما نحن فيه فالحكم لم يتقيد بالمسجد من حيث كونه مسجداً فحسب بل من حيث إن الواقف قصر الاستحقاق لوقفه على الورود لموضع معين فكل من ورد ذلك الموضع الذي نص عليه الواقف استحق ومن لم يرده لم يستحق وقصر الاستحقاق على محل معين إنما يكون باللفظ فمن ثم نظرنا للفظ وقلنا إن كان فيه إشارة لم تدخل الزيادة وإلا دخلت عملاً بمدلول اللفظ الذي الكلام فيه ولا نظر لكون تلك الزيادة أعطيت أحكام المسجد لأن ذلك لملحظ آخر كما علم مما تقرر هذا كله فيما يتعلق بالزيادة في المسجد وبقي النظر في قول السائل نفعني الله تعالى ببركاته ومدده وهل يأتي ذلك في نظائره كبئر عمقه عشرون ذراعاً وله صدقة على رشاء فعمق إلى ثلاثين والذي يتجه لي في ذلك أنه يصرف إلى رشاء من الصدقة عليها مطلقاً ويفرق بينه وبين زيادة المسجد بأن رشاء البئر لا(4/161)
ضابط له ولا انحصار فإنه قد يطول وقد يقصر بحسب قلة ماء البئر تارة وكثرتها أخرى فلذلك علمنا أن غرض الواقف ليس التخصيص برشاء معين وإنما قصده أن يصرف من صدقته لرشاء هذه البئر سواء أطال أم قصر فمن ثم لم نقل بتخصيصه برشاء له طول معين بخلاف الوقف على ورود هذا المسجد فإنه قد يقصد به أن الناس يكثر ورودهم له حتى يزيد ثوابه بزيادتهم وقد يكون له غرض في تخصيصه الورود بمحل معين لكونه بناءه أو بناء صديقه أو من يريد إيصال خير له بكثرة صلاة الناس واجتماعهم فيه فالحاصل أن التخصيص برشاء له طول معين لا يزاد عليه فإنه لا يظهر له أغراض تحمل عليه ويكثر وقوعها وقصدها بخلاف التخصيص برشاء له طول معين لا يزاد عليه فإنه لا يظهر له غرض بوجه من الوجوه ألبتة فحملنا لفظه على العموم لأن الخصوص غير مقصود عادة فلم يلتفت إليه وقد مر عن ابن عبد السلام أن العرف قد يخصص الشرط وقياسه أن العرف قد يعممه على أنه في مسئلتنا ليس فيه شيء من ذلك فإنا لم نخرج لفظ الواقف عن موضوعه لأن قوله على رشاء هذه البئر يشمل رشاءها وعمقها عشرون أو ثلاثون لأنه رشاء لها في الحالين ووجود زيادة فيه لزيادة عمقها بعد الوقف عما كان عليه عنده لا يخرج الرشاء عن كونه رشاء هذه البئر بخلاف وارد الزيادة فإنه لا يصدق عليه أنه وارد إلى هذا المسجد لتميز الزيادة عنه حساً ومعنى وقولكم في شرح الجلال السيوطي الخ. جوابه أنه لم يتيسر لي إلى الآن رؤية الشرح المذكور والظاهر أن الذي فيه قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/162)
البلقيني لو شرط الواقف المبيت في خانقاه أو مدرسة مثلاً فبات من شرط مبيته خارج المدرسة لخوف على نفس أو زوجة أو مال ونحوها. فقد أفتيت بأنه لا يسقط من جامكيته شيء كما لا يجبر ترك المبيت أي بمزدلفة أو منى للمعذورين بالدم وهو من القياس الحسن ولم أسبق إليه أ هـ .
كذا نقل عنه وعبارة فتاويه وظيفة في مدرسة شرط واقفها البيات فيها وكذا إذا ظهر عذر شرعي ثم إن صاحب الوظيفة تزوّج ولا يطمئن إلا أن يبيت عند أهله ولا يقدر على مفارقة بيته خوفاً عليه وعلى ما فيه لا سيما بالليل فهل يستحق جميع معلومه فأجاب نعم يستحق جميع معلومه وقد أفتيت بهذا مرات واستشهدت في هذه المسئلة بقضية ترك المبيت بمنى بعذر ولا يلزم الجبر بالفدية وهو استشهاد حسن أ هـ .
ويؤخذ منه أنا حيث قلنا: الورود شرط في مسئلتنا فلو تركه لم يستحق محله ما إذا تركه لغير عذر مما مر فإنه يستحق مع ذلك لكن يبقى النظر في شيء آخر وهو أنهم قالوا: إن المبيت يحمل على معظم الليل فهل يلحق به الورود في ذلك فلا يستحق الوارد إلا أن مكث في المسجد معظم الليل حتى لو خرج منه قبل ذلك يغرم ما تعاطاه من الصدقة على الواردين أو يكتفي بمكثه فيه حتى يأكل محل نظر والذي يتجه أنه حيث كان للورود في ذلك المحل ضابط مطرد حمل عليه كما أشرت إليه فيما مر وحيث لم يكن فيه عرف كذلك حمل على مدلوله اللغوي وهو المكث في المسجد ولو لحظة ويحتمل خلافه ثم رأيت ابن الصلاح أفتى فيمن وقف وقفاً على أن يصرف من مغله لمن يبيت بموضع كذا هل يجب عليه المبيت بعد الأكل وإذا لم يبت يضمن الناظر وهل يجب مبيت الليل كله أو أكثره بأنه لا يجب المبيت ولكن إذا لم يبت غرم ما أكل كابن السبيل إذا أخذ لا يلزمه السفر لكن إن لم يسافر لزمه رد ما أخذه ويحرم الأكل مع العزم على ترك المبيت ويحصل الاستحقاق بمبيت معظم الليل كمن حلف ليبيتن هذه الليلة بموضع كذا قال الأذرعي : في توسطه وفي تغريمه بما إذا لم يبت نظر إذا(4/163)
كان عند الأكل عازماً على المبيت ثم عن له السفر مع رفقة ترحل أو لعذر طرأ إذ الواقف لا غرض له ولا حظ له في المبيت وإنما عبر بذلك على أنه الواقع أو الغالب من أن الغريب إذا قدم إلى رباط مسبل وأمسى به أنه يبيت به ويظهر للمتأمل الفرق بينه وبين ابن السبيل أ هـ .
وما ذكره الأذرعي من أن المبيت ليس بشرط متجه أن اطرد العرف حال الوقف بمدلول لفظ الواقف والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/164)
وسئل: عما لو قال شخص تصدقت بهذا على الفطور أو الوارد فقط من غير بيان مكان يفطر فيه ومكان يرد فيه وجرت العادة بإرادة مكان معين أو لم تجر ما الحكم فيه وهل إذا قلتم بصحة ذلك فهل للناظر أن يفطر فيهما أو يفطر من تلزمه نفقته. فأجاب: بأنه حيث اطردت العادة في زمن الواقف حال الوقف بإرادة مكان معين حمل الوقف عليه أخذاً من قول ابن عبد السلام وغيره أن العرف المطرد في زمن الواقف حال وقفه بمنزلة المشروط في وقفه فلا يعطي إلا من ورد ذلك المكان وأما إذا لم تجر العادة قياساً على قولهم لو قال وقفت هذا على مسجد ولم يعينه ولم تطرد العادة بإرادة مسجد معين بطل الوقف وقولهم لو وقف على أحد الرجلين لم يصح وعلى قول ابن الصلاح أنه لو وقف على من يقرأ على قبره ولم يعلم قبره بطل الوقف وعلى قضية كلام النهاية أنه لو وقف على من يقرأ على قبره ولم يعين للقراءة مدة معلومة لا يصح الوقف وعلى قول بعض المتأخرين في مال موقوف على مصلحة البلاد لا بدّ أن تكون البلاد معينة مسبلة وإلا لم يصح الوقف وعلى قول ابن خيران في اللطيف لو قال وقفت هذه مدة على جميع الناس أو على بني آدم أو على أهل بلد لا تحصى أهله كثرة كبغداد لم يجز ولا على بني تميم ولا على من ولد في هذا العام ولا على من افتقر ولا على من قدم في هذه السنة أ هـ .
ويحتمل أن يقال يصح الوقف لأن قوله على الفطور أو على الوارد لا إيهام فيه من حيث الوصف وإنما فيه إيهام من حيث المكان وذلك لا يضر فهو كما لو وقف على الفقراء وأطلق فإنه يصح لأن الوقف هنا على جهة معينة والجهل فيها بالمكان لا يضر وبهذا فارقت صورة السؤال ما مر عن ابن الصلاح وغيره لأن الوقف ثم ليس على جهة وحيث لم يكن على جهة اشترط تعيين الموقوف عليه بالشخص أو بالوصف المميز له عن غيره وذلك مفقود في تلك المسائل أما مسئلة المسجد وأحد الرجلين فواضح وأما مسئلة ابن الصلاح فلأنه كما ذكره مخصوص بجهة خاصة فإذا تعذرت لغا(4/165)
ويؤيده قولهم: لو قال وقفت هذا ولم يذكر جهة بطل وما اقتضاه كلام النهاية فيه نظر وإن اقتضى كلام الأصبحي اعتماده وما ذكره بعض المتأخرين ليس فيه تعيين للجهة و ما ذكره ابن خيران ضعيف والمعتمد الصحة ويجوز الاقتصار في الصرف على ثلاثة في جميع الصور التي ذكروها وإذا قلنا بالصحة في صورة السؤال ولم تجر العادة بإرادة مكان معين فالذي يتجه أن الناظر الخاص أو العام وهو الحاكم فإن لم يكن ببلد الوقف حاكم فأهل الخير والصلاح من أهلها يتولى صرف هذا الوقف في الفطور أو إطعام الواردين في أي مكان اقتضى نظره أن فيه المصلحة وإن كان غير بلد الوقف لأن الجهة إذا لم يعين للصرف فيها مكان كان الخيرة في الصرف فيها إلى الناظر كما لا يخفى والذي دل عليه كلامهم أن الناظر ليس له أن يفطر منها فقد صرحوا بأنه ليس للناظر من غلة الوقف إلا ما شرط له وبأنه لو عمل من غير شرط لم يستحق شيئاً فليرفع الأمر إلى حاكم ليقرر له أجرة مثل فعله ويحتمل أن له أن يستقل بالأخذ قياساً على الولي لتصريحهم بأنه في مال الوقف كولي اليتيم هذا فيما يتعلق بأخذه لنفسه وأما منع إعطائه لمن تلزمه مؤنته فيحتمل أخذاً من قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/166)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا قال الموصي ضع ثلثي حيث شئت لم يضعه في نفسه وابنه وزوجته ولا ورثة الموصي ولا فيما لا مصلحة فيه للميت وأفتى الدارمي بأنه لو قال فرق ثلثي لم يعط نفسه ولا من لا تقبل شهادته ولا من يخافه أو يستصلحه وقال القاضي أبو الطيب له الصرف لأَبويه وأولاده والمعتمد في الوصي الأول وقياسه أن الناظر مثله لأن الموصي فوّض للوصي الدفع لمن شاء ومع ذلك لو شاء من تلزمه نفقته لم يجز فالناظر كذلك ويحتمل الفرق بأن الوقف هنا على جهة فأفرادها ليسوا مقصودين بطريق الذات بل من حيث دخولهم تحت ضابط تلك الجهة ومسماها بخلاف الوصية فإنها لم يقصد بها الجهة وإنما قصد بها أفراد من الناس لكن وكل تعيينهم إلى الوصي واجتهاده فاختياره من تلزمه نفقته ينافي ما فوّضه إليه من الاجتهاد لأن اختيار أولئك للنفس فيه حظ ويعود عليه منه منفعة فلم يتناوله إذن الموصي وتفويضه التعيين إليه لأنه لا اجتهاد فيه لأن داعية إيثارهم تبطل أنه من حيث الاجتهاد وتقضي أن سببه عود منفعة عليه وهذا المعنى ليس موجوداً في ناظر الوقف لأن الواقف ربط الاستحقاق في وقفه بجهة موصوفة بوصف فكان من وجد متصفاً بتلك الصفة جاز إعطاؤه لأنه لا اجتهاد هنا حتى يقال فيه بمثل ما مر في الوصي والذي يترجح عندي الآن من الاحتمال الأول قياساً على الوصي ولا تأثير للفرق المذكور لما علمت أوّلاً من أنهم صرحوا بمنع أخذه لنفسه ولا شك أن إعطاء ممونه فيه إعطاء لنفسه لأن به تتوفر مؤنة الممون الواجبة عليه نعم لو فرض أنه لا يتوفر عليه بالإِعطاء شيء كأن كان على الممون دين أو كانت الزوجة لا يكفيها ما يجب لها من النفقة فلا يبعد حينئذٍ جواز الدفع إليه أخذاً من قولهم يجوز له حينئذٍ دفع زكاته إليهم ويظهر أن يقال بنظير ذلك في مسئلة الوصية المذكورة وإن اقتضى إطلاق الشافعي والدارمي السابق خلافه فإن قلت: قضية التسوية بين ما هنا والوصية التسوية بينهما في أن الناظر(4/167)
لا يجوز له الدفع إلى ورثة الواقف كما لا يجوز للوصي الدفع إلى ورثة الميت قلت: الفرق بينهما واضح وهو أن الوصية للوارث ممتنعة إلا بإجازة باقي الورثة بخلاف الوقف عليه فلم يحمل لفظ الموصي على ما يشمل وارثه بخلاف لفظ الواقف لصدقته الدائمة وهي على القريب أفضل منها على البعيد بخلاف الوصية فإن أظهر مقاصدها التمليك بعد الموت وهو حينئذٍ ممتنع على الوارث لأنه ملكه بالموت وبهذا يعلم فرقان ما بين الوصية والوقف في هذه الصورة فإن قلت: مر عن الدامي أن الوصي لا يعطي من يخافه أو يستصلحه فهل يقال: بنظيره في ناظر الوقف قلت: يحتمل أن يقال بنظير هذا أيضاً، ويحتمل أن يقال بالفرق وهو الذي يتجه ويفرق بأن غرض الخوف أو الاستصلاح ينافي ما فوّضه إليه من الاجتهاد بخلافه في الوقف فإن الواقف أناطه بصفة فحيث وجدت جاز للناظر الصرف وإن كان لخوف أو غيره، ومن ثم يظهر أنه لو قال لوصيه: فرق ثلثي على الفقراء جاز له الدفع لكل متصف بالفقر والخوف أو نحوه، لأنه قطع اجتهاده بإناطة الإِعطاء بالوصف الذي عينه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/168)
وسئل: عما لو قال شخص تصدقت بأرضي الفلانية على أولادي في غيبة آل فلان وآل فلان إن قاموا بالغيبة فهي بينهم وإلا فهي لمن قام بالغيبة ومراده فيما يظهر بالغيبة ضيافة من ذكر والغالب في مثل ذلك أن يقصد المتصدق إرفاق القائم بهذه المكرمة والحث عليها وأن لا يخل بها. فأجاب: بأن هذه المسئلة متوقفة على فهم المراد منها وهو غير متضح فإن قول الواقف على أولادي في غيبة آل فلان الخ. كلام متناقض لأنه إن أراد بقوله: في غيبة آل فلان أن آل فلان يستعينون بهذه الأرض على ضيافتهم ناقضة قوله على أولادي وإن أراد أن أولاده يستعينون بها في ضيافتهم لآل فلان ناقضه وآل فلان إن قاموا بالغيبة الخ. لأنه صريح في أنهم مضيفون لا أضياف فإن أراد بآل فلان نفس أولاده بأن ذكر ما يصح اتصاف أولاده به صح المراد وكأنه قال: على أولادي في ضيافتهم للناس إن قاموا بها فهي بينهم وإلا فهي لمن قام بها وحينئذٍ فحكمة كونه عدل عن ضيافتهم الذي هو مقتضى ظاهر السياق إلى ضيافة آل فلان ليبين شهرة أولاده لأن العدول عن الإِضمار إلى الإِظهار لا بدّ له من حكمة وعلى فرض أنه أراد هذا المعنى فالحكم الذي يقتضيه كلامهم حينئذٍ أن أولاده لا يستحقون هذه الأرض إلا ما داموا قائمين بالضيافة وأن كل من قام بها من أولاده أو غيرهم يستحق منفعة هذه الأرض فإن ساوت مؤن الضيافة أو نقصت عنها فظاهر أنه يصرفها فيها وإن زادت استحق القائم بالضيافة الزائد، فإن قلت فإذا أتى الواقف بكلام متناقض ما حكمه قلت: الذي يظهر في ذلك العمل بما دل عليه السياق وقرائن الأحوال أخذاً من قول البلقيني في فتاويه في واقفة كتبت في كتاب وقفها وجعلت النظر إلى أن قالت لنفسها: أيام حياتها ثم للأرشد فالأرشد من أولادها ثم من أولاد أولاد أولادهم هذه عبارتها هل ندخل الطبقة الثانية من الأولاد نعم يدخل في النظر الأرشد فالأرشد من الطبقة الثانية وما كتب من قولها من أولادها، ثم من أولاد أولاد أولادهم(4/169)
سهو من الموثق فإنه جاء يكتب من أولادهم ثم من أولاد أولادهم فذكر من أولاد أولادهم سهواً ويدل على هذا أن عاقلاً لا يمنع أولاد الأولاد من النظر ويعطي النظر لأولاد أولاد الأولاد فيمنع العالي ويعطي النازل ويمنع الأصل ويعطي الفرع ويدل لهذا ما كتب قبله بسطور ثم من بعده لأولاده ثم لأولاد أولاده وقوله فيما بعده ثم من بعدهم لأولاد من له أولاد منهم ثم لأولاد أولادهم ومع السهو الذي نسبناه للموثق وأيدناه بما قررناه فإنه يدخل أولاد أولادها في قولها ثم للأرشد فالأرشد من أولادها وتكون القرائن المذكورة قاضية بدخول ولد الولد في الأولاد ثم قال والجمود على مجرد ما كتب وظهر أنه سهو بمقتضى ما قررناه خروج من طريقة الفقهاء الغائصين على الجواهر المعتبرة أ هـ .
فإن قلت: فما الذي يدل عليه السياق وقرائن الأحوال هنا قلت: هو المعنى الثالث الذي قدمته لأنه لا يلزم عليه تنافِ في اللفظ ولا تناقض بخلاف المعنيين الأولين فإن قلت: هذا ظاهر فيما إذا كان المقيد لذلك مكتوب الوقف لإِمكان الغلط أو السهو من الموثق بخلاف ما إذا سمع من الواقف هذا اللفظ قلت: لا خصوصية للموثق بهذا بل إذا سمع من الواقف كلمات متناقضة حكمنا عليه بالسهو في بعضها ورجحنا مقابله وعملنا به بقرائن لفظية أو حالية فإن قلت: فإن فقدت تلك القرائن ما حكمه بأن قال: هنا على أولادي في غيبة آل فلان وذكر وصفاً لا يمكن تنزيله على أولاده بل على أناس مشهورين غيرهم. قلت: الذي يظهر في ذلك إننا نعمل باللفظ الأول لسبقة ونلغي ما حصل به التناقض من اللفظ الثاني ونظيره ما قالوه: فيما لو اختلف الزوجان في الرجعة ولا بينة لأحدهما ولا مرجح بأن لم يعينا يوماً من أن المصدق هو السابق بالدعوى لأن دعواه وقعت صحيحة والثانية وقعت مناقضة لها فعمل بالأولى لسبقها والحكم بصحتها قبل أن تقع الثانية فكذلك يعمل هنا إذا فرض فقد تلك القرائن بالأولى لسبقه والحكم بصحته قبل أن يتلفظ بالثاني(4/170)
فإذا تلفظ به قلنا: هذا باطل لأنه صدر منه أوّلاً ما يبطله وحينئذٍ فيحكم بمدلول قوله على أولادي في غيبة آل فلان ويلغى قوله وآل فلان الخ. لأنه هو الذي حصلت به المناقضة كما تقرر أوّلاً فإن قلت: يمكن تصحيح اللفظ من غير هذا التكلف جميعه بأن يكون المراد أنه وقف هذا على أولاده ليعينوا به آل فلان إذا قام آل فلان بضيافتهم للناس فإن لم يقوموا بها وقام بها غيرهم. فهي لأولئك الذين قاموا بها ويكون فائدة قوله على أولادي أنه إذا لم يوجد من يقوم بالضيافة يكون للأولاد ويصير الوقف على ضيافة آل فلان للناس ثم إن لم يوجدوا وامتنعوا كان على من قام بالضيافة غيرهم، ثم إن لم يقم بها أحد كان على الأولاد يأكلونه من غير أن تجب عليهم ضيافة أحد قلت: نعم يمكن حمله على ذلك لأن تصحيح جميع اللفظ أولى من إهمال بعضه وحينئذٍ فيتعين العمل بقضية ذلك ويمكن حمل كلام الواقف عليه لإِمكانه بل ظهوره فإن الغالب أن الشخص يشدد في الوقف على غير أولاده بما لا يشدد به في الوقف عليهم لما تقرر من أنه لم يشترط في استحقاق أولاده إلا عدم من يقوم بالضيافة غيرهم، فإذا لم يقم بها أحد غيرهم استحقوها وإن لم يضيفوا أحداً فإن قلت قد قال السائل ومراده فيما يظهر بالغيبة الخ. فاشعر أن هذا اللفظ ليس موضوعاً في عرف تلك البلاد للضيافة وإذا لم يكن موضوعاً لها عرفاً ولا لغة فكيف يحمل عليها ببادي الرأي قلت: إنما يحمل اللفظ في باب الوقف ونحوه، على وضعه الشرعي فإن لم يكن فالذي يظهر لي حمله على وضعه العرفي إن كان عاماً والواقف من أهل ذلك العرف وإلا فوضعه العرفي عند الواقف فإن انتفى العرف بقسميه حمل على معناه اللغوي إن أمكن أن الواقف يعرفه وإلا بطل الوقف لتعذر العلم بمدلول لفظ الواقف فهو كما مر فيما لو وقف على من يقرأ على قبره وتعذر العلم بعين قبره بل ما نحن فيه أولى كما لا يخفى فحينئذٍ فلفظ الغيبة إن عهد في عرف الواقف حمله على الضيافة تأتي فيه ما(4/171)
مر وإن لم يعهد استعماله في ذلك وإنما كان حمل عليه ببادي الرأي فلا يعتد بهذا الحمل بل إن تعذر حمله على معنى صحيح لغة وعرفاً حكم ببطلان الوقف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عن خشب على خابية موقوفة اقتضت الضرورة بيعه هل يجوز صرفه فيما يتعلق بمصالح المسجد غير الخابية. فأجاب: بأنه حيث فرض جواز بيع الخشب المذكور وصحة بيعه لا يجوز صرفه على المسجد كما يصرح به قولهم: لا يصرف لحشيش مسجد السقف ما عين لحشيش الحصر ولا عكسه ولا للبود ما عين لأحدهما ولا عكسه وقولهم: لو تعطل مسجد لم ينقض ما لم يخف على نقضه وإلا نقضه الحاكم وبنى به مسجداً آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه وبناؤه بقربه أولى ولا يجوز أن يبنى بنقضه بئراً كما أن البئر لو خربت بنى الحاكم بنقضها بئراً أخرى لا مسجداً ويراعي غرض الواقف ما أمكن أ هـ .
وبما تقرر علم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون محل الخابية عامراً أو خراباً أما إذا كان عامراً فواضح أنه يصرف غلتها وأما إذا كان خراباً بحيث صار لا ينتفع بها فإنه يحفظ غلة الموقوف عليها كما أن المسجد إذا خرب لا يبطل وقفه قالوا: لإِمكان الصلاة فيه ولإِمكان عوده كما كان وكما أن الموقوف على الثغر إذا تسعت خطة الإِسلام وحصل فيه إلا من يحفظها ناظره في زمن الأَمن لاحتمال عوده ثغراً.(4/172)
وسئل: عما لو نقل خشب مسجد خراب بشرطه لمسجد أقرب إليه فعمر به ثم عمرت محلة المسجد الخراب والمسجد فهل يرد خشبه إليه أو لا. فأجاب: بأن الذي يظهر لي فيها أخذاً من كلامهم أن الخشب المذكور لا يرد إلى المسجد الأول وذلك لأن أصحابنا قالوا: لو خرب المسجد وخاف على نقضه نقضه الحاكم وبنى به مسجداً آخر إن رأي ذلك وإلا حفظه وبناؤه بقربه أولى أ هـ .
فأفهم ذلك أنه إذا بنى به مسجداً آخر لا ينقض وإن عمر المسجد الأول ويوجه بأن الأول لما قرب وكانت المصلحة في نقل نقضه إلى غيره كان ذلك الغير مستحقاً لذلك النقض فإذا نقل إليه وبنى به امتنع حينئذٍ هدمه منه ورده إلى محله الأول ونظير ذلك إن غير البطن الأول من مستحقي الوقف لورد الوقف لم يعد إليه ولو قبل حكم الحاكم به لغيره خلافاً للروياني كما بينه الأذرعي وإن سكت الشيخان عليه أي على ما قاله الروياني فإن قلت: يمكن الفرق بأن الراد مقصر فلم يعد إليه معاملة له بتقصيره بخلافه في المسجد قلت: قد يكون معذوراً في الرد كأن يظن عدم صحة الوقف ومع ذلك لا يستحق وإن رجع وقال: كنت معذوراً وبين عذره كما أفهمه إطلاقهم فإن قلت: يؤيد النقل إلى المسجد الأول أنه لو وقف على فقراء أولاده وأرامل بناته استحقوا عند وجود الشرط وهو الفقر وعدم التزوج ومنعوا عند عدمه بأن وجد الغني أو التزوج وهكذا متى وجد عاد الاستحقاق ومتى انتفى انتفى قلت: الملحظ في الاستحقاق وعدمه هنا النظر إلى وجود الشرط وعدمه عملاً بما شرطه الواقف لاختلاف الغرض وأما في مسئلة المسجدين المذكورة في السؤال فليس فيها شرط واقف يدار عليه الحكم ويختلف به الغرض فأدير الأمر فيها على ما تشهد به قرائن الأحوال ويقضي بالوفاء بمقصود الواقف ولا شك أن واقف النقض ليس قصده تخصيص محل به وإنما قصده أن يكون نقضه بمسجد سواء الذي عينه أم غيره فحيث خرب ما عينه ونقل إلى مسجد غيره فقد وفى بمقصوده فإذا عاد ما عينه لا يعود النقض إليه لأنه لا(4/173)
موجب له إذ لا موجب للعود إلا التوفية بمقصود الواقف وذلك غير موجود في مسئلتنا لما تقرر من حصول مقصوده ببناء نقضه في أي مسجد كان ويشهد لذلك فرقهم في المسئلة السابقة أعني الإِعطاء عند وجود الشرط والحرمان عند عدمه وبين ما لو قال وقفت على أمهات أولادي إلا من تزوّجت أو استغنت منهن فتزوجت أو استغنت واحدة منهن فإنها تخرج عن الاستحقاق ولم يعد استحقاقها بطلاقها وفقرها والفرق أنها لم تخرج به عن غيرها. تزوجت أو استغنت وأن غرض الواقف إن بقي له أم له أم ولده ولا يخلفه عليها أحد فمن تزوجت لم تفِ فعلم بذلك صحة ما تقرر من رعاية غرض الواقف من عود الاستحقاق وعدمه فإن قلت: ظاهر كلامهم أن غلة المسجد الخراب تعود إليه بعود عمارته وإن كانت قد صرفت إلى الفقراء والمساكين على ما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
الماوردي وجزم به في البحر أو لأقرب الناس إلى الواقف على ما جزم به في البحر في محل آخر أو لأَقرب المساجد إليه على ما قاله المتولي وهو المتجه إن لم يرج عوده وإلا فالمتجه قول الإِمام أنه يحفظ لتوقع عوده وقضية عود للغلة بعود العمارة أن النقض يعود إليه بعود عمارته قلت: الفرق بينهما ظاهر فإن عود الغلة لا يترتب عليه محذور لأنه شيء خارج عن ذات المسجد بخلاف عود النقض فإنه يترتب عليه محذور وهو هدم المسجد الثاني وكيف يهدم عامر وضع فيه ذلك النقض بحق لرجاء عمارة خراب زال استحقاقه لذلك النقض بحق لخرابه فمن أراد عمارته قيل له إما أن تعمره كاملاً وإما أن تتركه وكونك تعمر فيه البعض وتريد هدم مسجد كامل لتوفية بعض مسجد لا تمكن من ذلك لأن قليل الضرر وهو عدم توفية الأول لا يزال بكثير الضرر وهو خراب الثاني هذا ما يتجه في هذه المسئلة وفوق كل ذي علم عليم.(4/174)
وسئل: عن جماعة شركاء في وظيفة ثم إنه جرت العادة بمباشرة الوظيفة المذكورة لأحدهم ثم إنه غاب الغيبة الشرعية عن المحل الذي فيه الوظيفة المذكورة ثم إن الشركاء طلبوا من المتكلمين على المحل في أن يكونوا مباشرين للوظيفة المذكورة مدة غيبة شريكهم ثم إنهم لم يجيبوهم إلى ذلك ثم بعد ذلك عرضوا عليهم المعلوم وطلبوا منهم الإِشهاد بذلك حسب العوائد القديمة ثم إنهم رجعوا عن أداء المعلوم لمستحقيه فهل يكون عدم إجابتهم تقصيراً منهم ويستحق أهل الوظيفة المعلوم أم لا. فأجاب: بقوله إنما يستحق كل من الشركاء حصته إن باشر بقدرها في الوظيفة المذكورة بنفسه وكذا بنائبه إن كانت غير نحو إمامة أو تدريس أو كانت نحو إمامة والنائب مثل المستنيب علماً وورعاً ونحوهما سواء أقدر المستنيب فيه على المباشرة بنفسه أم لا كما ذكره السبكي لكن مال الأذرعي إلى عدم جواز الاستنابة مع القدرة في نحو الإِمامة مطلقاً ويمتنع على المتكلمين على المحل منع بقية الشركاء من المباشرة وإن جرت العادة بأن أحدهم يباشرها وحدها فيعزرون على ذلك التعزير اللائق بهم ثم من أكره على عدم مباشرة وظيفته هل يستحق معلومها، قال التاج الفزاري : نعم، وقال الزركشي : لا، لأنها جعالة وهو لم يباشرها والذي يتجه من ذلك كلام السبكي في الأول و الفزاري في الثانية ولا نسلم أن ذلك محض جعالة وإلا لم يقل السبكي أن نحو المدرس إذا مات يصرف لزوجته وأولاده مما كان يأخذه ما يقوم بهم وإن نوزع في ذلك من جهة أخرى والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/175)
وسئل: عن شخص وقف أملاكاً على نفسه مدة حياته ثم من بعده على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه وشرط في كتاب وقفه أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة واحدة وأن لا يدخل عقد على عقد وثبت ببينات على يد حاكم شرعي ثم إن الوقف المذكور انحصر استحقاق منافعه في واحد من ذرية الواقف صغيراً فأقام حاكم شرعي قيماً شرعياً على الولد المذكور وأجر بعض الأماكن الموقوفة على شخص والحال أن الولد المذكور غير محتاج إلى إيجار ما أوجر عنه لا إلى النفقة ولا إلى الكسوة ولا لشيء من اللوازم الشرعية فهل الإِيجار صحيح أم لا وهل للولد مطالبته بالوقف المذكور ولو طالت المدة. فأجاب: متى أجر القيم ذلك أكثر من سنة كانت الإِجارة باطلة ومتى أجر سنة فإن كان لمصلحة بقوله تعود على الولد المذكور كانت الإِجارة صحيحة وإن لم يكن في الإِجارة مصلحة كانت باطلة وحيث حكمنا ببطلان الإِجارة طالب بذلك الولد إن كان بالغاً رشيداً وإلا وجب على الحاكم أن ينصب قيماً يطالب بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/176)
وسئل: في شخص وقف داراً مشتملة على عزلتين ومن شروطه يصرف عشرة أشرفية مثلاً في قراءة قرآن وتسبيل ماء مثلاً ثم أجر ناظره الشرعي عزلة واحدة مدة معلومة بأجرة معلومة مقبوضة جميعها، ثم توفي وبعض المدة باقٍ فهل تؤخذ بقية الأجرة من تركته وتدفع لمستحقيها فيبدأ صاحب القراءة وصاحب السبيل بما يخصه كاملاً إن كان بقية الأجرة يحمل ذلك والباقي لمستحقيه إذا كان شرط الواقف له ذلك بعد العمارة وما حكم العزلة الثانية يدفع للقارىء من أجرتها ما يخصه كاملاً وهو العشرة الأشرفية المقرر له بها وما فضل من بقية الأجرة لمستحقيه يقتسمونه بحسب ما شرطه الواقف وما حكم الوقف إذا شرط الانتفاع به سكناً وإسكاناً وشرط فيه أيضاً أن يصرف من ريعه عشرة أشرفية لقارىء مثلاً فإذا اتفق المستحقون على السكنى به يلزمهم أن يدفعوا العشرة الأشرفية المشروطة للقارىء ويستقر ذلك في ذمتهم كالدين الشرعي وإذا أراد البعض السكنى والبعض الآخر الإِجارة وتنازعوا وعطلوا مصالح الوقف بمقتضى ذلك فيؤجر الناظر عليهم قهراً ويؤدي كل ذي حق حقه بعد العمارة أو يعلقوا عليهم أجمعين أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بأن ما قبضه الناظر من حق المستحقين يرجع به على تركته إذا مات وهو باقٍ عنده وما حصل من ريع الوقف جميعه أو بعضه ينظر فيه لشرط الواقف فإن شرط لذي القراءة مثلاً قدراً معلوماً والباقي لغيره قدم بجميع ذلك القدر ولم يستحق من بعده إلا ما فضل عنه وإن شرط له قدراً معلوماً من غير أن يشرط تقديمه فكل ما قبض من الغلة يوزع على المستحقين بقدر حصصهم نعم تقدم العمارة في هذه الصورة والتي قبلها وإن فوّت الموقوف عليهم غلة الوقف لسكنى أو غيرها. لزمهم للقارىء أجرة المثل لما فوتوه عليه فإن كان بقدر أجرته فهو ظاهر أو أكثر صرف الباقي للمستحقين أو أقل لم يكن له غيره، وإذا أراد البعض السكنى والبعض الإِجارة وتنازعوا عند الحاكم أعرض الحاكم عنهما إلى أن يتفقا على شيء ولا يحكم(4/177)
عليهما بفعل ولا غيره. بل يلزم الناظر بفعل ما فيه الأصلح من إسكان طالب السكنى والإِيجار وليست هذه الصورة كصورة الشيخين التي قالا: فيها في باب القسمة يؤجر عليهما لأن الأمر ثم ينحصر فيه فأجر عليهما صيانة للأملاك وهنا الأمر لغيره وهو الناظر فألزمه بما هو لازم له من فعل الأصلح على أنهما ذكرا في باب العارية وغيرها. ما يقتضي أن قولهما في القسمة أجر ليس للتحتم إلا إن أراد التصرف وإلا جاز له الأعراض وقضية ما في القسمة أن قولهما في باب العارية وغيرها. أعرض ليس للتحتم بل له الإِيجار عليهما إلا أن يفرق بأن لكل من المتنازعين أن يستقل بالانتفاع بملكه في صورة العارية ونحوها بالقلع فكان له مندوحة في الوصول إلى ملكه فلم ينحصر الأمر في الحاكم فإذا أعرض في صورة القسمة ليس لأحدهما الاستقلال بالانتفاع بملكه لشيوعه فانحصر الفصل في الحاكم فلزمه الفصل بينهما بالإِيجار عليهما صيانة للملك من التعطيل وهذا فرق واضح يعلم به بقاء ما في كل باب على حكمه المقرر فيه ولا يخرج منه شيء إلى غيره.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عمن وقف قطعة أرض على مسجد وجعل عليها قدراً معلوماً طعاماً في عين كل سنة للمسجد وشرط له النظر ومراده أن ما بقي من غلتها على ما قرره يكون له ثم لمن له النظر من بعده ما الحكم في ذلك. فأجاب: إذا وقف أرضاً على مسجد وشرط لنفسه منها جزءاً فإن كان لاقى مقابلة نظره بطل الوقف وإلا بأن كان النظر لنفسه ببعض الغلة فإن كان ذلك البعض الذي شرطه قدر أجرة مثله صح وإن كان أكثر من أجرة مثله لم يصح والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/178)
وسئل: عمن وقف داراً بشروط منها أن يدفع من ريعها في كل عام عشرة أشرفية جعلا لمن يقرأ كذا ويهديه لشخص عينه ثم قرر الواقف بمقتضى أن له النظر شخصاً وأولاده من بعده في تلك القراءة فهل يصح هذا التقرير وهل للناظر عزله ولو بغير جنحة ولو نازعه في أنه لم يقرأ ولم يهد من المصدق إذ الإِهداء لا اطلاع لأحد عليه. فأجاب: التقرير صحيح للمقري الأول دون من بعده من أولاده فيستحق ما شرط له وليس للناظر عزل من صح تقريره إلا لمسوّغ شرعي له وإلا لم ينفذ عزله وقياس كلامهم في الجعالة أنه لا يستحق إلا إن أقام بينة على أنه أتى بالقراءة والإِهداء المشروطين والبينة لها اطلاع على الإِهداء لأنه الدعاء عقب القراءة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/179)
وسئل: فيما لو وقف شخص يصح منه الوقف شيئاً على مسجد الفلاني ثم أحدث في ذلك المسجد زيادة فهل يصرف إلى تلك الزيادة شيء من غلة الوقف المذكور أم لا فإن قلتم: نعم، فلو قال وقفت على المسجد الفلاني بصيغة التعريف فهل يختلف الحكم أم لا وللرافعي كلام في باب الإِيمان في نظير المسئلة يدل على الفرق. فأجاب: الذي يتحصل من مجموع كلامهم في أبواب متعددة أنه إن أشار بأن قال: وقفت على هذا المسجد لم يجز صرف شيء من غلة ذلك الوقف إلى الزيادة الحادثة بعده لأن الإِشارة إلى شيء تقتضي تعيينه وحضوره وإذا تعين موجود للوقف بالنص من الواقف عليه لم يجز صرف شيء من ذلك الوقف إلى غير المتعين المذكور ويؤيد ذلك بل يصرح به قول النووي ومن تبعه من المحققين أن المضاعفة في مسجده خاصة بما كان موجوداً في زمنه دون الحادث فيه بعده وإن كان المحدث لذلك مثل عمر وعثمان ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما أخذاً من مفهوم الإِشارة في قوله وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فخرج بقوله هذا ما زيد فيه فإن الإِشارة لا تتناوله فلا تضعيف في الصلاة فيه وأما ما اعترض به على النووي من الآثار الكثيرة وأحاديث تقتضي عموم المضاعفة للزيادة وأطالوا في ذلك الاعتراض فقد رددته عليهم في حاشية مناسكه الكبرى وخلاصة ذلك أن ما اعترض به عليه من الآثار والأحاديث لم يصح منها شيء فلم تصلح لمعارضة مفهوم الإِشارة الذي قررناه فعملنا به ويدل على اعتماد ما نقله الشيخان وأقراه من أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد فدخل زيادة حادثة فيه لم يحنث قالوا لأن اليمين لم تتناول الزيادة حال الحلف وهذا صريح في مسئلتنا بما قدمته إذ اليمين والواقف من وادٍ واحد من حيث مراعاة الألفاظ ومدلولاتها ما أمكن وإن لم يشر بأن قال: وقفت على مسجد بلد كذا أو على المسجد الغربي منها مثلاً جاز صرف غلة ذلك الوقف إلى الزيادة الحادثة لأنه لما لم يشر إليه لم يأتِ بما يقتضي التعيين(4/180)
والانحصار في الموجود وإنما أتى بما يشمل الحادث كالأصل لأنهما معاً يسميان باسم واحد وهو مسجد كذا أو المسجد الفلاني فيتناولهما لفظه ومع تناوله لهما لا نظر للخارج لأن القرائن الخارجية لا ينظر إليها إلا إذا لم يقع في اللفظ ما يخالفها ويدل على ذلك بل يصرح به لما مر من اتحاد الوقف والإِيمان من الحيثية التي قدمتها قول الرافعي لو حلف لا يدخل مسجد بني فلان حنث بالزيادة الحادثة فيه ووجهه ما قدمته من أنه حيث لم يشر فكلامه شامل للزيادة أيضاً فحنث بها كالأصل لأن لفظه شامل لهما وإذا ثبت شمول اللفظ لهما في الأيمان ثبت شموله لهما في الوقف لاتحادهما فيما مر وكالإِضافة في هذا المعرفة بالألف واللام بجامع شمول اللفظ فيهما كما يدل عليه قول أئمتنا في قوله في الحديث الصحيح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/181)
وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في مسجدي هذا أن المضاعفة في مسجد مكة تعم الزيادة الحادثة فيه أيضاً ومما يدل على أنه لا فرق بين المعرف والمضاف أن في بعض الروايات مسجد الكعبة وفي رسالة الحسن البصري، وقال : من صلى في المسجد الحرام صلاة واحدة جماعة كتب الله تعالى له ألف ألف صلاة وخمسمائة ألف صلاة وبها يعلم المساواة بينها وبين المسجد الحرام وإذا تساويا في ذلك أخذاً مما تقرر فليتساويا في مسئلتنا أخذاً منه أيضاً لأن المدار فيما نحن فيه على مراعاة الألفاظ ومدلولاتها ما أمكن وما ذكره الرافعي في الأيمان لا يدل على الفرق بين المعرف والمضاف وإنما يدل على الفرق بين المضاف والمشار إليه ونحن نقول بذلك كما قررناه ولكنا نقول أيضاً بأن المعرف كالمضاف أخذاً من الحديث وكلامهم الذي ذكرته فإنهم قائلون بعموم المضاعفة في مسجد مكة لزياداته مع ورود التعبير فيه بالمسجد الحرام ومسجد الكعبة فلو افترقا لقالوا بافتراق الحكم عملاً بافتراقهما فلما قالوا باتحاده مع ورودهما دل ذلك على اتحادهما وهو المطلوب والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/182)
وسئل: في شخص وقف وقفاً على جهة يصح الوقف عليها وجعل النظر في ذلك الوقف لشخص عينه وجعل للناظر المذكور الأكل منه وقضاء ديونه وغير ذلك فهل يصح الوقف المذكور فإن قلتم نعم فهل يفرق بين أن يأتي في ذلك بصيغة شرط فلا يصح أو لا فيصح وحيث قلتم بالصحة مطلقاً أو لم يأتِ بصيغة شرط فهل للناظر الأخذ والاستقلال به من غير مراجعة حاكم وكم القدر الذي يجوز له أخذه وهل للموقوف عليهم الاستقلال بأخذ غلة الموقوف عليهم أو يفرق بين صيغة الشرط وعدمها وبين الجهة والمعين. فأجاب: يصح الوقف مع التنصيص على ما ذكر في الناظر سواء أتى بصيغة شرط أو بما يفهم الشرطية كما شمله قولهم تصح شروط الواقف ويعمل بها ما لم تخالف الشرع وظاهر أن ما ذكر هنا من شرط أكل الناظر وقضاء ديونه لا يخالفه بل قولهم يجوز أن يشرط للناظر أكثر من أجرة مثله شامل لهذه الصورة فهي مما صدقات إطلاقهم والذي يظهر أنه لا يجوز للناظر أن يستقل بأخذ ما شرط له لأنهم ألحقوه بالوكيل في بعض المسائل والوكيل لو قال له موكله أعطِ هذا للفقراء وإن شئت أن تضعه في نفسك فافعل لم يجز له إعطاء نفسه على ما اقتضاه كلام الشيخين لكن نازعهما فيه الزركشي وغيره فعلى الأول المنع في الناظر واضح لأنه إذا امتنع على الوكيل ومثله الوصي إعطاء نفسه مع النص له عليه فأولى أن يمتنع على الناظر لأن الواقف في صورة السؤال لم ينص له على تولي الأخذ بنفسه وكذا على الثاني لما تقرر من الفرق بين الناظر في صورة السؤال والوكيل والوصي لأن الموكل أو الموصي ثم فوّض لنائبه الاستقلال بالأخذ والواقف في صورتنا لم يفوّض له ذلك وسيأتي أن الموقوف عليه لا يستقل بالأخذ وهو صريح في منع الناظر من الاستقلال لأنه موقوف عليه في صورتنا وأخذه له ينافي ذلك فقد قالوا: يجوز أن يشرط للمتولي عشر الغلة أجرة لعمله وسومح فيه تبعاً لبعض المستحقين وإلا فالأجرة لا تكون من معدوم ثم إذا عزله بطل استحقاقه لأنه إنما كان في(4/183)
مقابلة عمله فإن لم يتعرض لكونه أجرة كإن قال: جعلت للمتولي عشرها. استحقه وإن عزله لا يتوقف عليه أ هـ .
وما في مسئلتنا لم يتعرض لكونه أجرة فيستحقه الناظر وإن انعزل عن النظر وحيث منعناه من الاستقلال لزمه رفع الأمر إلى الناظر العام وهو الإِمام أو نائبه ليعطيه ما شرط له وهو الأكل وظاهر أن المراد به كفايته اللائقة به يوماً بيوم كنفقة القريب وليس له إطعام ممونه لأن شروط الوقف يقتصر فيها على مؤدي الألفاظ الدالة عليها ومؤدي ما في السؤال أكله وحده فلم تجز الزيادة عليه من أكل غيره وكسوته هو نعم إن اطرد عرف قوم منهم الواقف في زمنه وعلم به بأن يعبروا بالأكل في نحو ذلك عما يشمل الكسوة ومؤنة من تلزمه نفقته نزل الوقف عليه كما اقتضاه كلام الإِمامين
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/184)
ابن عبد السلام و ابن الصلاح وليس للموقوف عليه الاستقلال بأخذ غلة الموقوف لأن ذلك من وظائف الناظر لقولهم من وظائفه جمع الغلة وقسمتها على المستحقين سواء أشرط الواقف عليه ذلك أم أطلق فإن قلت: ينافي ما تقرر من أن الناظر لا يقبض من نفسه لنفسه قولهم: يمتنع اتحاد القابض والمقبض إلا في مسائل وعدوا منها الساعي فإنه يقبض من نفسه لنفسه وقياسه الناظر بجامع أن كلا متصرف على الغير قلت: لا ينافيه لأن صورة الساعي خرجت عن الأصل لمعنى لم يوجد مثله في الناظر وهو أن الساعي نائب الشرع وليس في الحقيقة نائباً عن أحد مخصوص فلم يتحقق فيه السبب المقتضي لامتناع اتحاد القابض والمقبض بخلاف الناظر فإنه نائب خاص عن شخص خاص هو الواقف مثلاً أو حاكم بلد الواقف فلا يجوز فيه اتحاد القابض والمقبض لاختلاف جهة القبض من غير مميز لذلك الاختلاف وأما الساعي فلم تختلف الجهة فيه لأن كلاً من قبضه وإقباضه إنما هو بجهة السعاية فقط فلم يحتج فيه لمميز ثم رأيت البلقيني أخذ من إفتاء ابن الصلاح أن للولي إذا تبرم بحفظ مال موليه أن يستقل بأخذ ما يقرره له الحاكم لو رفع الأمر إليه أن له ذلك هنا وهذا صريح في مسئلتنا أن للناظر أن يستقل بأخذ ما شرط له وهو ظاهر إن قلنا: بما أفتى به ابن الصلاح لكن ظاهر كلامهم أنه لا يستقل بل لا بدّ من رفع الأمر للقاضي في الولي ومثله الناظر بالأولى على أن قياس الناظر على الولي قابل للمنع كيف وقد صرحوا بأنه لا يجوز للناظر أن يقترض لعمارة الوقف إلا بإذن الإِمام أو نائبه وبأن ولي اليتيم لا يحتاج فيه لذلك وأما منازعة البلقيني في هذا فإني رددتها في شرح الإِرشاد حيث قلت: ونازع البلقيني في اشتراط إذن الحاكم في الاقتراض وقال التحقيق أنه لا يشترط ومال إليه غيره قياساً على ولي اليتيم فإنه يفترض دون ولي الحاكم وقد يفرق بأن الناظر يضيق فيه بما لا يضيق به في ولي اليتيم أ هـ .
ومما يقوي الفرق بين الناظر والولي ما(4/185)
قدمته من الفرق بين الساعي والناظر فإن الولي كالساعي بجامع أن كلاً منهما نائب الشرع فجاز له الاستقلال لما مر وأما الناظر فليس كذلك كما قدمته ويؤيده تصريحهم بأن ما يأخذه الناظر أجرة مطلقاً سواء أكان المشروط له بقدر أجرة مثله أو أكثر وسواء احتاج للأخذ أم لا وأما الولي فلا يأخذ كذلك بل يقدر الحاجة فدل ذلك على أن الولي ليس نائباً عن أحد فلا أجرة له والناظر نائب عن الواقف فاستحق الأجرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/186)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيمن وقف نخلاً مثلاً أو أوصى به على أن تباع غلته ويسبل منها كل سنة في رمضان قربة ماء ويسرج منه سراج بالليل فيه ثم إن القيم بذلك تركه في بعض الليالي عمداً أو سهواً لعذر أو لغيره أو لم يعلم أنها أول ليلة من رمضان عند أهل تلك البلد فهل يجب على القيم بذلك أن يبادر بقضاء ذلك فيسرج سراجين إن فاته ذلك في ليلة مثلاً ويسقي قربتي ماء وهل يتعين القضاء في رمضان أو يجوز تأخيره إلى غيره من الشهور ويفرق بين تركه لعذر فيجوز التأخير أو لغيره فلا يجوز وهل يفرق في ذلك بين الوقف والوصية أم لا. فأجاب: أفتى النووي في واقف شرط أن يفرق كذا في وقت كعاشوراء أو رمضان فتأخر عن ذلك الزمان بأنه لا يؤخر إلى مثله من قابل بل يتعين صرفه عند الإِمكان أ هـ .
ومحله كما هو ظاهر إن لم يشرط كذا لصوّام رمضان فإن قال: ذلك وأخر عنه وجب تأخيره إلى رمضان الثاني ليصرف إلى صوّامه لأنه قيد بغرض مخصوص مقصود مغاير للزمن لا يوجد في غير رمضان بخلاف ما لو قال يصرف في رمضان لأنه لم يعينه لجهة مخصوصة مقصودة وإنما نص على زمن والزمن من ضروريات الصرف فلم يتعين مثل ذلك الزمن عند فواته بل جاز الصرف في غيره لأنه لا حق يتعلق بأحد بطريق القصد حتى يؤخر إليه إذا تقرر ذلك فإن قال: يسرج أو يسبل في رمضان، ثم فات ذلك فيه ولو عمداً أو سهواً لعذر أو غيره لزمه أن يسرج أو يسبل عند الإِمكان على الفور في غيره ولا ينتظر رمضان الثاني وإن قال: يسرج على قوّام رمضان أو يسبل لصوّامه أو للمفطرين من صومه ففات ذلك في رمضان تعين التأخير إلى رمضان الثاني لما تقرر وفي الحالة إذا أخر عن ليلة في رمضان لعذر أو غيره لزمه أن يقضي فيه عند التمكن لأنه أولى من غيره ولا فرق في ذلك بين الوقف والوصية لاتحادهما في أكثر المسائل والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/187)
وسئل: إذا كان السلطان يقبض من غلات المساجد والمدارس ما فضل عن مصالحهما في عين كل سنة ثم يصرف بعض ذلك إلى المحتاجين من علماء بلده والمتعلمين هل يجوز الأخذ من ذلك إذ لو امتنعوا من الأخذ لما رد إلى مصرفه الأصلي والذي يغلب على الظن أن صرف ذلك إلى من ذكر وإن لم يكن على شرط الواقف أحب إليه من صرفه على الجند وشحن الحصون به أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: لا يجوز الأخذ من الفاضل من غلة مسجد إذا خالف ذلك الأخذ شرط الواقف سواء أكان الإِمام يصرف ذلك في مصارفه أم لا ولا نظر إلى قول السائل والذي يغلب على الظن الخ. لأن مثل ذلك لا يجوز العمل بخلاف شرط الواقف والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/188)
وسئل: كيف الحيلة في صحة الوقف على من يقرأ القرآن عليه بعد موته. فأجاب: لا يصح الوقف على من يقرأ القرآن على قبره بعد موته وفي فتاوى ابن الصلاح امرأة وقفت وقفاً بعد عينها على من يقرأ على قبرها بعد موتها ولم يعرف لها قبر فهل يصح هذا الوقف أم لا وهل يصرف إلى من يقرأ ويهدي ثواب القراءة إليها أو يصرف إلى ورثتها والموقوف لا يخرج من ثلثها والوارث لم يجز ما زاد على الثلث أجاب لا يصح هذا الوقف لأنه مخصوص بجهة خاصة فإذا تعذرت لغا ولا يكتفى بعموم تضمنه الخصوص كما لو أوصى قائلاً اشتروا لي عبد فلان فأعتقوه عني فتعذر شراؤه فلا يشترى مطلقاً عبد آخر ويعتق عنه وليس فساد هذا من جهة كونه وقفاً بعد الموت فإن ذلك ليس مفسداً على ما أفتى به غير واحد من الأئمة وهو نوع وصية أ هـ .
ومفهومه أنه لو عرف قبرها صح الوقف فحينئذٍ من أوصى يوقف شيء بعد موته على من يقرأ على قبره ثم مات وعرف قبره وخرج ما أوصى بوقفه وجب وقفه على من يقرأ على قبره فهذه حيلة في الوقف على من يقرأ على قبره بعد موته ومن الحيل أيضاً أن يقف شيئاً على فقهاء بلده مثلاً أو على فلان وأولاده وهكذا أو على أولاد نفسه وأولادهم وهكذا ويشترط في وقفه على كل من آل إليه استحقاق في هذا الوقف أن يقرأ على قبره إن عرف شيئاً معيناً فإن لم يعرف له قبر بأن يقرأ شيئاً ويهديه إليه فهذا شرط يلزم الوفاء به كما شمله كلامهم وبه يحصل مقصود الواقف والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/189)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في مسجد صغير فيه مدرس يدرس بعد صلاة الفرض ثم يحضر من لم يصل فيصلي الفرض والنفل وقت التدريس ولو أخر المدرس التدريس إلى فراغ المصلين لطال التأخير وإن درس خاف أن يشتغلوا بتدريسه عن الصلاة ومن بعد طلوع الشمس إلى الزوال له أشغال فما الحكم في ذلك وإذا قعد في المسجد للتدريس أو المطالعة وكان يشغله من يقرأ فهل له أن يأمره بالقراءة سراً أو جهراً خارج المسجد أم لا. فأجاب: يجب على المدرس أن يفعل ما يوافق شرط الواقف ولا ينظر لأَشغاله ولا لصلاة الناس فإنه يمكنه أن يدرس بخفض صوت ما دام المصلون في صلاتهم وأما إذا لم يكن للواقف في ذلك شرط فإن اطردت عادة المدرسين في زمنه حين الوقف بزمن مخصوص يدرسون فيه دون غيره وجب على المدرس أن يراعي تلك العادة لأن العادة المطردة في زمن الواقف بمنزلة شرطه ثم رأيت ابن عبد السلام صرح بذلك في نفس التدريس فقال العرف المطرد في زمن الواقف إذا علم به كما هو ظاهر بمنزلة الشرط فينزل الوقف عليه فإذا وقف على المدرس والمعيد والفقهاء بمدرسة نزل على العرف من التفاوت بينهم وبين الفقيه والأفقه وكذا ينزل على التدريس في الغدوات فلا يكفي ليلاً ولا عشية ولا ظهراً أ هـ .
وأما من يطالع لنفسه ومن يدرس احتساباً فلا حجر عليه بل له فعل ذلك في أي وقت أراده ما لم يشوش به على نحو مصل أو نائم ولمن اشتغل بتدريس أو مطالعة فقرأ آخر بجنبه أو ذكر بحيث شوش عليه أن يأمره بخفض الصوت فإن امتثل أمره بذلك فله مزيد الثواب وإلا فله رفعه إلى الحاكم وفقه الله تعالى ليأمره بالسكوت فإن أبى أخرجه من المسجد أخذاً من قول الزركشي يجوز إخراج من دخل المسجد وقد أكل نحو ثوم أو بصل أو كراث أي أو فجل فإنه مثلها كما في حديث وجرى عليه الأئمة فإذا جاز إخراج من هذه حاله فليجز إخراج من يشوش بقراءته أو ذكره على المشتغلين بالعلم من باب أولى والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/190)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
مسئلة: شخص وقف محلاً على جماعة وجعل النظر فيه لأحدهم وشرط له زيادة على استحقاقه فهل يستحق هذه الزيادة وإذا جعل النظر لغيرهم وشرط له نصف الغلة يجوز أم لا وإذا لم يشرط للناظر هل يأخذ أجرة مثله وإذا أجر الناظر المستحق أو غيره الوقف مدة طويلة بأجرة مثله وكان له النظر على سائر البطون هل تنفسخ الإِجارة بموته. الجواب: نعم يستحق تلك الزيادة في المسئلة الأولى والنصف في المسئلة الثانية وإن زاد على أجرة مثله وإذا لم يشرط شيء لم يستحق شيئاً وإن عمل ما لم يرفع الأمر للحاكم ليقرر له أجرة مثله ولا تنفسخ الإِجارة بالموت فيما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: في شخص وقف على ولده أحمد مثلاً ثم على أولاده وأولاد أولاده فهل الضمير الثاني عائد عليه أو على أولاد أولاده لأنه محتمل لذلك. فأجاب: بأن الضمير فيها يرجع إلى أقرب مذكور لأنه الأصل ما لم يعارضه ما هو أقوى منه كأن يكون المحدث عنه غير الأقرب ولا يتضح ذلك إلا بذكر عبارة الواقف بسوابقها ولواحقها فإن بذلك يتضح مرجع الضمير في كلامه.(4/191)
وسئل: عن شخص وقف على جماعة وعلى أولادهم الموجودين وسماهم ثم على أولاد أولادهم بطناً بعد بطن على الترتيب فإذا مات واحد من الجماعة المذكورين وله ولد داخل في الوقف مع أبيه حال الوقف هل تنتقل حصة أبيه له مع ما بيده من الوقف إن كان منفرداً وإذا مات أحد عن غير ولد ولم ينص الواقف على أحد من بعده فلمن تكون حصته لشركائه في الوقف أو تسقط وتدخل في مصالح الوقف أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بأنه لا ينتقل شيء إلى من بعدهم إلا بانقراض جميع المذكورين قبلها فإذا مات بعض هؤلاء انتقلت حصته إلى من في درجته على حسب ما شرطه الواقف من تسوية أو تفاضل سواء أكان للميت ولد أم لا فلا يختص الولد بحصة أبيه حيث كان له مشارك في درجته وإلا انتقلت إليه حصة الميت وإن كان غير أبيه والحاصل أنه إذا وقع ترتيب بين البطون لم يستحق أحد من بطن متأخرة شيئاً ما بقي أحد من بطن متقدمة حتى لو لم يبق منها إلا واحد فاز بالجميع إلا إن شرط الواقف أن من مات عن ولد ينتقل نصيبه لولده فيختص الابن حينئذٍ بنصيب أبيه ولو مع وجود مساوي أبيه في درجته وقول السائل وإذا مات أحد عن غير ولد ولم ينص الواقف على أحد من بعده الخ. يعلم جوابه مما قررته وهو أن نصيب الميت ينتقل لمن في درجته في الصورة التي ذكرها السائل قبل ذلك لما علمت في تقريرها أنه لا ينتقل شيء للبطن المتأخر وهناك أحد من البطن المتقدم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/192)
وسئل: عما لو تجمد من ريع وقف مال بعد العمارة والصرف للمستحقين هل يسوغ للناظر أن يشتري به داراً ويوقفه ويجعل ريعه في مصالح الوقف الأول بعد عمارته إذا حصل فيه هدم إذا رأى ذلك مصلحة للوقف الأول والحال أن الواقف لم يشرط ذلك في وقفه وإذا قلتم ليس له ذلك هل للمستحقين أخذ المال المتجمد تحت يده ويقتسمونه زيادة على استحقاقهم لاستغناء الوقف عنه أم يرصد ذلك تحت يد الناظر لحدوث عمارة وغيرها. أم ينزعه الحاكم منه ويكون في مستودع الحاكم للاحتياج إليه لعمارة الوقف وإذا قلتم بصحة الشراء والوقف كيف يسوغ شراء الناظر ووقفه وشروطه والحال أنه ليس واقفاً ولا ناظراً عن الواقف في ذلك وهل يكون الشراء والوقف باسمه أو باسم الواقف ويعين شروطه بعد ذلك أوضحوا لنا ذلك مفصلاً. فأجاب: بأن الوقف الفاضل من ريعه شيء تارة يكون على مسجد وتارة يكون على غيره فإن كان على المسجد فتارة يكون على مصالحه وتارة يطلق وتارة يكون على عمارته ففي الحالين الأولين يدخر من الزائد ما يعمره وأملاكه أو الدور ونحوها. الموقوفة عليه لوجوب ذلك ويشتري له بباقيها ما فيه زيادة غلته ويقفه لأنه أحفظ له والمتولي للشراء والوقف هو الحاكم وهذا الوقف لا يحتاج فيه لشروط ولا لبيان مصرف لأن مصرفه معلوم شرعاً لأنه إذا اشترى للمسجد ووقف صار مصرفه مصالح المسجد من غير شرط وفي الحال الثالث أعني الموقوف على عمارته لا يشتري من زائد غلته شيء بل يرصده للعمارة وإن كثر لأن الواقف إنما وقف على العمارة فلم يجز صرفه لغيرها. وإن كان الوقف على غير مسجد كانت فوائده ملكاً للموقوف عليهم فتصرف إليهم جميع غلته ما لم يحتج لعمارة فحينئذٍ تقدم على حقهم ولا يصرف لهم شيء ما دام الاحتياج للعمارة موجوداً سواء شرط الواقف تقديم العمارة أم لم يشرط وكذلك عمارة عقار المسجد مقدمة على المستحقين وإن لم يشرط الواقف ذلك لأن في ذلك حفظ الوقف والمتولي لصرف ما ذكر للمستحقين هو الناظر(4/193)
الخاص إن كان ولا يحتاج فيه إلى إذن حاكم فإن امتنع رفعوه إلى حاكم وأجبره على الصرف إليهم كما ذكرناه وليس لهم أن يستقلوا بأخذ شيء من غلة الوقف بدون إذن الناظر أو الحاكم وحيث ألزمناه بالصرف إليهم فاشترى من الغلة شيئاً كان شراؤه باطلاً وما نأمره بإمساكه للعمارة يكون تحت يده ولا يحتاج فيه إلى إذن الحاكم وبقولنا فيما مر أن المشتري والذي يقف هو الحاكم اندفع قول السائل كيف يسوغ شراء الناظر الخ. وبقولنا إن هذا الوقف لا يحتاج لشروط الخ. اندفع قوله أيضاً وشروطه ويندفع بذلك أيضاً قوله هل يكون الشراء والوقف باسمه أو باسم الواقف ويعين شروطه بعد ذلك ووجه اندفاع ذلك أن الموقوف ملك لله تعالى فلم يبق للواقف ولا للموقوف عليه دخل فيه وكذلك الناظر وإنما التصرف في الشراء والوقف للحاكم يتولى الشراء والوقف بنيابة الشرع وليس نائباً عن أحد فاتضح ما ذكرناه واندفع جميع ما أورده السائل في ذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: في واقف وقف على زيد مثلاً داراً ثم على أولاده ثم الفقراء وشرط النظر لزيد المذكور الموقوف عليه أوّلاً وأطلق الواقف النظر ولم يعين على حصته ولا على سائر البطون فما الحكم في ذلك فهل يكون النظر لزيد على حصته فقط أو على سائر البطون حتى لو أجر الناظر وهو زيد المذكور الوقف مدة طويلة مضت على سائر البطون لم تنفسخ الإِجارة وهل يكون حكم الناظر من بعد زيد كحكمه أم لا أفتونا مأجورين. الجواب: إن الواقف حيث لم يقيد النظر بحصة الناظر يتناول جميع الوقف فتصح إجارته وتمضي على البطون بعده ولا تنفسخ بموته كما حررته وأطلقت الكلام فيه في غير هذا المحل والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/194)
مسئلة: إنسان وقف داراً على والدته وأخرى على ولده وأخرى على وصيه لينتفع كل بما وقف عليه وشرط أن يصرف للناظر على تركته في كل سنة من ريع الأوقاف المذكورة ثلاثون أشرفياً يوزع ذلك على الدور الثلاثة بنسبة ريع كل منهما إلى مجموع ريعها فلما توفي الموصي سكن كل من الثلاثة الموقوف عليهم ما وقف عليه ولم يؤجر شيء من تلك الدور فهل يستحق الناظر ما شرط له أو لا لكون الواقف إنما شرط ذلك من الريع ولم يوجد ريع لعدم إيجار شيء من تلك الدور وإذا قلتم باستحقاقه فهل يأخذ منها بالتوزيع أو من مال الولد وإذا أخذه من مال الولد فهل يغرم ويحرم عليه ذلك ويكون جنحة فيه أو لا. الجواب: يستحق الناظر ما شرط له بالتوزيع المذكور وليس المراد بالريع إلا مقابل المنفعة المستوفاة سواء استوفاها الموقوف عليه أم غيره لأن شرط الواقف ما ذكر للناظر تخصيص أو تقييد لما أطلقه من الوقف على من ذكر وليس للناظر أخذ حصة داري الوالدة والوصي من مال الولد فإن فعل لزمه غرمه مطلقاً وأما بالنسبة لإِثمه وأن ذلك جنحة فيه فشرطه أن يعلم أن المال المأخوذ هو مال الولد وأن يعلم أيضاً شرط الواقف وحكمه الذي ذكرناه فإذا علم بهذه الأمور الثلاثة أثم بذلك وكان جنحة فيه وإن جهلها أو أحدها فلا إثم ولا جنحة كما نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على نظيره في مواضع من كلامه والكلام فيمن يعذر بجهل مثل ذلك وإلا لم يقبل منه دعوى الجهل.
مسئلة: شخص وقف محلاً على جماعة فحصل فيه ما يحتاج لعمارة فأجره الناظر العام نحو ثمانين سنة مع إمكان إصلاحه بأجرة خمس سنين هل تبطل الإِجارة في الجميع أو فيما زاد على الخمس. الجواب: لا يجوز للناظر أن يؤجره إلا القدر الذي يحتاج لأجرته في العمارة فإن زاد على ذلك بطلت إجارته في الجميع لأنه بالزيادة على المحتاج إليه متعد فينعزل عن النظر فتبطل إجارته من أصلها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/195)
مسئلة: وقف يصرف ريعه سواء أكان دراهم أو حباً أو تمراً على الواردين أو المارين بمحل كذا ولم يقيده بوقت فهل يلزم تعميم الواردين أو يقتصر على ثلاثة منهم وهل يلزم الصرف إليهم وإن تكرروا وماذا يدفع لكل منهم وما قدر الزمن الذي يتقيد به الورود. الجواب: قياس ما ذكروه في بابي الوقف والوصية أن الواردين بمحل كذا لا يجب استيعابهم إلا إن انحصروا وفى بهم ريع الوقف فإن لم ينحصروا فله الاقتصار على ثلاثة ما لم يفضل عن حاجاتهم شيء فيجب صرفه إلى بعض الباقين وإن انحصروا لزمه الصرف لجميعهم إن وفى بهم الريع وإلا فلمن يفي به وما دام عند الناظر شيء من الريع لزمه صرفه للواردين في سائر الأوقات ولا يخص الصرف بواردين في وقت معين عملاً بما دل عليه كلام الواقف من عدم التخصيص والواجب عليه دفعه لكل منهم هو قدر كفايته المدة التي أقامها ولم يخرجه عن كونه مسافراً لأنه ما دام يجوز له القصر لو كان سفره طويلاً بشروطه يسمى وارداً وماراً بخلاف ما إذا لم يجز له ذلك لنحو إقامة أربعة أيام كاملة أو لنية إقامة ذلك فإنه حينئذٍ يسمى مقيماً لا وارداً ولا ماراً فلا يستحق شيئاً والله أعلم.
سئلت: عمن قال إذا مت فضيعتي الفلانية وقف على من يقرأ القرآن على قبري ويهدي ثواب القراءة إليّ هل يصح وقفاً وإذا صح فكم يقرأ القارىء ولو ازدحم على القراءة اثنان ما حكمه.(4/196)
فأجبت: بأن ذلك وصية يجوز الرجوع فيها فإذا مات ولم يرجع وخرجت تلك الضيعة من الثلث كانت وقفاً على من يقرأ على قبره إن عرف قبره فإن لم يخرج إلا بعضها كان ذلك البعض كذلك ومن قرره وصي أو نحوه في ذلك الوقف أجزأه أن يقرأ ما اطرد به عرف بلد الموصي في مثل هذه الصورة لأن العرف المطرد في باب الوقف ومثله الوصية كما هو ظاهر منزل منزلة المشروط كما قاله ابن عبد السلام وغيره فإن لم يطرد العرف بشيء عمل بظاهر لفظه من الاكتفاء بقراءة القرآن على قبره ولو مرة وإذا تزاحم على القراءة اثنان لم يستحق إلا من قرره الوصي أو نحوه منهما أو من غيرهما. وله تقرير واحد ومتعدد لأن من يقرأ في لفظ الوصي يشمل القليل والكثير وما ذكرته من توقف الاستحقاق على التقرير هو الذي يظهر من كلامهم في باب الوقف لأن هذا يبين كونه وصية محضة وإلا بطلت بالموت فتعين أنها تفيد استحقاقاً بشرط وهذا يحتاج في تنفيذه إلى نظر فتوقف الاستحقاق على من يراه الناظر أهلاً ويقرره ويشترط في الاستحقاق الوفاء بما شرطه الموصي من إهداء ثواب القراءة إليه لكن ليس المراد إهداء ثواب القارىء بعينه فإنه مستحيل شرعاً لأن ثواب كل إنسان مرتب على عمله فلا يملك نقله إلى غيره حتى لو أراد موصِ أو واقف بإهداء الثواب هذا المعنى بطلت الوصية أو الوقف لاستحالة أن يوجد ما أراده وإنما المراد إهداء مثل الثواب بأن يقول اللهم اجعل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/197)
وسئل: كيف الطريق لمن أراد أن يقف قطعة أرض على من يقرأ عليه بعد موته. فأجاب: بقوله الجواب عن هذه المسئلة يعلم من قولي في بعض الفتاوى ومما ينبغي أن يتنبه له أن من وقف على من يقرأ على قبره كان آتياً بوقف منقطع الأول وهو باطل فإن قال وقفت كذا بعد موتي على من يقرأ عليّ فهو وصية أ هـ .
ولو قال وقفت كذا بعد موتي على من يقرأ على قبري كان باطلاً لأنه قد لا يعلم قبره فيتعذر الإِتيان بما شرطه بخلاف ما لو قال على من يقرأ عليّ ومعنى كونه وصية في هذه الصورة أن الموقوف إن خرج من الثلث صحت الوصية بوقفه وإن لم يخرج شيء منه من الثلث لم يصح وإن خرج بعضه صحت الوصية في ذلك البعض فقط والله أعلم.
سئلت: عن رجل أراد أن يقف ضيعته ناجزاً وأراد أنه يستنفع بها وبغلتها حينئذٍ مدة حياته فهل من حيله أن يؤجرها من آخر مدة طويلة ثم يقفها. فأجبت: نعم ذلك من حيله بل أحسنها لأن غيرها فيها خلاف قوي بخلاف هذه فإنا لم نرَ من تعقب ابن الصلاح فيها بخلاف بقية الحيل في الوقف على النفس فأنها متعقبة.
وسئل: عن شخص وقف على ذكور أولاده دون الإِناث وغالب الظن أنه قصد حرمانهن من الميراث لأن ناساً من جهة معينة يفعلون ذلك عند كبر سن الواقف وقرب أجله فيتضرر الإِناث بانقطاعهن عن الميراث وبعض الفقهاء أفتى بصحة ذلك فتفضلوا علينا ببيانه. فأجاب: بقوله إن صدر ذلك الوقف في مرض الموت فهو وصية لوارث فإن أجازه البنات نفد وإن رددته بطل وإن صدر في صحته صح وإن قصد حرمان ورثته صح وغاية ذلك القصد أن عليه فيه إثماً وذلك لا يقتضي بطلان الوقف لأنه أمر خارج عنه والله أعلم.(4/198)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في شخص أوصى شخصاً أن يشتري له من ماله المفسوح له فيه شرعاً محلاً يكون مسجداً أو رباطاً وأن يكون ناظراً عليه ثم من بعده لأولاده وعين المال فهل للشخص أخذ المال الموصى به من التركة والشراء به محلاً يجعله رباطاً أو مسجداً كما أوصى به فإذا اشترى ووقف بطريق النظر عن الموصي فما الأفضل أن يسكن القاطنين ببلد الرباط أو الإِفاقية وإذا شرط شروطاً خلاف الأصلح هل يعمل بها أو لا لكون الواقف لم يعين شيئاً أصلاً. فأجاب: أن الوصية فيها بما ذكر صحيحة فيأخذ الوصي المال الموصى به من التركة إذا خرج من الثلث ثم يشتري به محلاً، ثم يجعله مسجداً أو رباطاً كما شرطه الموصي ثم الأولى أن يسكن الرباط الأحوج من المقيمين من أهل البلد والواردين إليها ولا يعتد بشروطه المخالفة لما تحمل الوصية عليه شرعاً وقد ذكر ابن الصلاح وغيره ما يعلم منه حكم ما ذكرناه بالأولى فلا نطيل بذكره أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/199)
وسئلت: عما لو قال حبست مالي على فلان والعرف عند قائل ذلك أن يكون وقفاً على غير فلان من الورثة ويمنع منه فلان فهل يعمل بهذا العرف. فأجبت: لا يعمل بما ذكر من العرف وإنما يعمل بصريح قوله حبست مالي على فلان من أنه حبس عليه ويلغى عرفه أنه حبسه على ورثته دونه ومأخذ ما ذكرته القاعدة المشهورة وهي أن الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام ويعبر عنها بأنه هل يجوز تغيير اللغة بالاصطلاح وهل يجوز للمصطلحين نقل اللفظ عن معناه في اللغة بالكلية أو بشرط بقاء أصل المعنى ولا يتصرف فيه بأكثر من تخصيصه قولان للأصوليين وغيرهم. والمختار الثاني ومن فروعها لو اتفق الزوجان على ألف واصطلحوا على أن يعبروا عن ألف في العلانية بألفين فالأظهر وجوب الألفين لجريان اللفظ الصريح به وقيل يجب الألف عملاً باصطلاحهما قال الإِمام : وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ فلو قال لزوجته إذا قلت أنت طالق ثلاثاً لم أرد به الطلاق أو أريد به طلقة واحدة فالمذهب أنه لا عبرة بذلك وقيل يعتبره وذكر الإِمام أيضاً أنه لو عم في ناحية استعمال الطلاق في إرادة الخلاص والانطلاق ثم أراد الزوج حمل الطلاق في مخاطبته زوجته على معنى التخليص وحل الوثاق لم يقبل ذلك منه والعرف إنما يعمل في إزالة الإِبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح إذا تقرر ذلك علم منه بالأولى ما ذكرته من أنه لا عبرة بعرفهم في أن حبسته على فلان حبس على ورثته دونه لأن هذا العرف ليس بعام وإنما هو خاص والعرف الخاص بل العام لا يعمل به في تغيير مقتضى الصرائح كما علمت من صريح كلامهم فلو عملنا به في مسئلتنا لغيرنا صريح قوله حبسته على فلان بالعرف وهو ممتنع كما تقرر ومما يؤيد ما ذكرته أيضاً قول الشيخين لو تعارض العرف والوضع فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع و الإِمام و الغزالي يريان اتباع العرف أي والمعتمد هو الأول كما دل عليه كلام الشيخين في مسائل ولا يعارضه ما وقع لهما في(4/200)
مسائل أخرى من تقديم العرف لأن محله فيما إذا هجر المعنى اللغوي أو اضطرب وعم المعنى العرفي واطرد واشتهر فحينئذٍ يقدم العرف كما ذكروه في الأيمان وغيرها. فتأمل ذلك فإنه مهم وبه يزول عنك استشكال كثيرين لما وقع للشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى في الأيمان وغيرها من تقديم اللغة تارة والعرف أخرى فالحاصل أنه يعمل بوضع حبسته على فلان ولا ينظر للعرف المخالف له وقد صرح الشيخان في الأيمان بما حاصله أن اللغة إذا عم استعمالها في لسان العرب في شيء قدمت على العرف العام فإذا علمت تقديمها حينئذٍ على العرف العام فما بالك بالعرف الخاص فلتقدم كما في مسئلتنا من باب أولى والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/201)
وسئلت: عما إذا شرطنا القبول في الوقف على المعين أو قلنا بعدمه بشرط أن لا يرد فهل تصرف الموقوف عليه بما ينافي الوقف من غير لفظ رد رد. فأجبت: متى شرطنا القبول فلا بدّ من اتصاله بالإِيجاب الصادر من الواقف كالاتصال المشترط بين الإِيجاب والقبول في البيع والهبة وحينئذٍ فتصرف الموقوف عليه قبل القبول كتصرف الغاصب لأنه لم يخرج عن ملك الواقف فوقع تصرفه في ملك غيره وإن شرطنا عدم الرد فلم يرد الموقوف عليه ثبت له الاستحقاق الذي جعله له الواقف فإذا تصرف بغير ما جعله له الواقف أثم وضمن ولا يكون ذلك رداً منه ويفرق بينه وبين قوله رددت بأن هذا صريح في منافاة الوقف وإبطاله بالنسبة إليه وأما تصرفه المنافي لما جعله له فليس صريحاً في ذلك ولا مقتضياً له إذ كثيراً ما يتصرف الإِنسان في ملكه بما لا يسوغ له فأولى الوقف وأيضاً فدلالة الفعل أضعف بالنسبة لما نحن فيه من دلالة القول لاحتمال الأول وصراحة الثاني فلا يقاس فعل المنافي بقوله رددت لأن الفعل المنافي محتمل للرد احتمالاً ضعيفاً وقوله رددت صريح في المنافاة لأنه لا يحتمل غيرها. والفعل كما يحتملها يحتمل أنه إنما قدم عليه طمعاً في زيادة الانتفاع وهذا الاحتمال أظهر وأغلب فلم يكن الفعل مقتضياً للرد بل لو قصد به الرد لم يكن رداً أيضاً كما هو متجه لأن الرد من مقولة الأحكام المناطة باللفظ كالبيع والهبة والوقف والطلاق والنذر فلا يؤثر فيه الفعل وحده ولا مع القصد كما هو شأن تلك الأحكام المتوقف حصولها على اللفظ الموضوع لها.(4/202)
وسئلت: عما لو قال في وقفه أو وصيته وقفت أو أوصيت بأرضي الفلانية يسرج بغلتها أو للمصباح في رمضان ولم يقل للمسجد وقرينة الحال تدل على أن المراد الجامع أو غيره واطرد العرف بأنه يسرج إلى فراغ الوتر به أو لم يطرد هل يسرج منها جميع الليل. فأجبت: الذي يتجه العمل في ذلك بالعرف المطرد فيه فإذا قال وقفت أو أوصيت بغلة أرضي الفلانية ليسرج بها في رمضان واطرد العرف عندهم بأنهم إنما يريدون الإِسراج في محل مخصوص حملت الوصية عليه ووجب الإِسراج فيه ثم الذي دل عليه كلامه أن جميع غلة الأرض الموصى بها تصرف في السراج فيجب العمل بذلك يعني أنه تؤخذ تلك الغلة وتوزع على جميع ليالي رمضان ويسرج في كل ليلة بما خصها سواء أكفى بعض الليل أم استغرقه نعم إن خص كل ليلة ما يسرج بها جميعها في ذلك المحل الذي نزلنا الوقف أو الوصية عليه اشترط أن يكون هناك من ينتفع بالسراج وإلا لم يسرج إلا القدر الذي يتوقع منه الانتفاع به لأن إسراج ما عداه حرام فلا تحمل الوصية عليه وحينئذٍ فيكون الفاضل هنا وفيما لو فضل عن كفاية جميع ليالي رمضان شيء محفوظاً عند الوصي أو الناظر إلى رمضان القابل فإن لم يخص لياليه بالتوزيع ما يكفي كلاً منها وجب الإِسراج بقدر ما يتحصل ولو زمناً يسيراً من أول كل ليلة لأن قصد الموصي إحياء ذلك المحل بالإِسراج فيه كل ليلة فإن لم يتحصل إلا ما يكفي بعض الليالي فقط لزم إسراجه في ذلك البعض.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئلت: عن أرض فيها صدقة كل ليلة مد فطور وهي بيضاء ثم غرسها الولي نخلاً ثم تصدق بنصيبه صدقة مجزئة في نخل معلوم منها على جهة معلومة ما حكمه. فأجبت: الصدقة بالنخل المذكور صحيحة وإن استحق القلع كما ذكروه في وقف المستأجر أو المستعير بعد انقضاء مدة الإِجارة أو الإِعارة ولذلك تفاريع مذكورة في بابي العارية والوقف لا يبعد مجيئها هنا حرفاً بحرف.(4/203)
وسئل: عن وقف خراب أجرة ناظره الشرعي مدة خمسين سنة مثلاً بأجرة المثل لكل سنة معلوم تفي بعمارتها إجارة شرعية فإذا ترتبت الأجرة لذلك في ذمة المستأجر فهل يتسلمها الناظر ويصرفها على عمارة الوقف شيئاً فشيئاً إلى أن تكمل ثم ينتفع بها المستأجر أو ترصد تحت يد حاكم شرعي ويصرفها بنفسه أو بنائبه إلى أن تكمل فإذا قلتم يتسلمها الناظر أو الحاكم أو تستمر تحت يد المستأجر فهل يجب على من تكون الأجرة في يده عمارة الوقف وإعادته على ما كان أو لا من غير زيادة ولا نقصان ويجبره المستحقون على ذلك ليعود نفعه عليهم بعد انقضاء المدة فإذا قلتم لا يجب عليه ولا يجبر فهل يجب عليه صرف الأجرة كلها للمستحقين كملاً أو شيئاً فشيئاً كل سنة بحسابها فإذا قلتم بلزوم العمارة على الناظر بعد قبض الأجرة كلها وامتنع من ذلك فعمرها المستأجر من ماله وأعاد الوقف على ما كان عليه أوّلاً هل له الرجوع على الناظر بالأجرة التي قبضها منه لكونه أصرف ثانياً من ماله وإذ زيد في الوقف زيادة يسيرة كفتح باب آخر من جهة الشارع وفتح كوّات وشبابيك وإحداث طهارة مثلاً هل له ذلك سواء كان من الأجرة أم من مال تبرع به المستأجر أو الناظر وإذا عمر المستأجر من ماله من غير أجرة الوقف، ثم انتفع به المدة التي يستحقها هل له أخذ الأنقاص والأخشاب التي أحدثها إذا كانت مميزة ويروح ما أصرفه مجاناً أو يرجع به على قابض الأجرة وإذا اختلطت أنقاضه المستجدة بأنقاض الوقف القديمة وتعذر التمييز ماذا يفعل المستأجر هل يقبل قوله فيما أصرفه في ثمن أحجار وأخشاب وأجرة ويرجع به على قابض الأجرة أم لا وإذا امتنع الناظر من العمارة وعمر المستأجر من الأجرة أو من غيرها. من ماله هل يحتاج إلى إذن حاكم في ذلك أم يكفي استئجاره لذلك ومن شهد بأجرة المثل في كل سنة مع القطع بأن الأجرة تختلف بالأماكن والزمان لأنه أمر مظنون لكونه في المستقبل فكيف يشهد بشيء لم يطلع عليه أوضحوا لنا ذلك.(4/204)
فأجاب: إذا صحت إجارة المدة المذكورة لوجود مسوّغها الشرعي تولى الناظر قبض الأجرة جميعها ليصرفها على العمارة إلى أن تفرغ ثم يسلم المؤجر لمستأجره لينتفع به وإذا تسلم الناظر الأجرة لزمه أن يعمرها ولا يجوز له التأخير من غير عذر وأن يعيد الموقوف الذي يريد عمارته على ما كان عليه ولا يجوز له تغييره عما كان عليه كجعل دار حماماً وأرض داراً نعم إن شرط الواقف للناظر العمل بالمصلحة عمر بحسبها وقيد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/205)
السبكي جواز التغيير بما إذا كان يسيراً لا يغير مسمى الوقف وكان فيه مصلحة له ولم يزل شيئاً من عينه بل ينقل بعضه من جانب إلى جانب والواجب عليه صرف الغلة للمستحقين كل سنة بحسابها فإن عجل ضمن ومتى عمر المستأجر من ماله بغير إذن الناظر كان متبرعاً فلا رجوع له به والزيادة اليسيرة إنما تجوز على ما تقرر عن السبكي بشروطها التي ذكرناها عنه سواء أكانت من مال الوقف أم من غيره وللمستأجر أخذ ما تميز من خشبه ونقضه ولا رجوع له بما أصرفه كما مر وإذا تعدى المستأجر بخلط أنقاضه بأنقاض الوقف وتعذر التمييز فقضية كلامهم أنه يملك أنقاض الوقف ويلزمه بدلها من مثل في المثلي وقيمة في المتقوم فإن اختلطت بلا تعد صارت شركة بينهما ومر أنه لا يرجع بشيء مما أصرفه بغير إذن الناظر وإن كان إنما عمر لامتناع الناظر من العمارة نعم إن كان أذن له حاكم شرعي عند امتناع الناظر تعدياً رجع بما أصرفه وليس المراد بأجرة المثل إلا القدر الذي يرغب به في تلك العين حال الإِجارة فلا ينظر فيها للمستقبلات وحينئذٍ فشهادة الشهود بأن أجرة مثل هذه العين إذا أوجرت خمسين سنة بكذا شهادة صحيحة لأنهم لم يشهدوا بأمر مستقبل يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة وإنما شهدوا بأمر منضبط لا يختلف بذلك وهو ما يرغب به فيها حال الإِجارة ومن ثم لو أجر الناظر الواقف سنين متعددة بأجرة متعينة وشهدت بينة أنها أجرة المثل حال الإِجارة ثم زادت الأجرة زيادة كثيرة لم يلتفت لتلك الزيادة ولم يؤثر في صحة الإِجارة بذلك القدر إلا ما نقص لما تقرر أن العبرة بأجرة المثل عند الاستئجار لا بما بعد ذلك والله أعلم.(4/206)
وسئل: عن دار موقوفة مشتملة على مرحاض ومخزنين وسرح ينتفع به أهل المخزنين لكونه حريماً لهما بل يتوقف نفعهما عليه فأجر الدار المذكورة ناظرها بشرط الواقف مدة مائة سنة وحكم بذلك حاكم شرعي يراه فهدم المستأجر المخزنين المذكورين والمرحاض وأعاد بدلهما اثنين دونهما وزاد في السرح المذكور نحو ستة مخازين أخرى وبنى فوق علو ذلك مثله في العدد والقدر فأخرج الدار المذكورة عن وضعها واسمها بحيث صارت الآن تسمى رباطاً لا داراً فهل يلزمه هدم ما بناه وأرش ما هدمه من أعيان الوقف وقيمة الأعيان الموقوفة التي أتلفها بالهدم والتعزير على تعديه في الوقف وتغيير معالمه ورسومه. فأجاب: بقوله الذي صرح به الشيخان وغيرهما أنه لا يجوز لأحد أن يغير الوقف عن هيئته فلا تجعل الدار بستاناً ولا حماماً ولا بالعكس إلا إذا جعل الواقف للناظر ما يرى فيه مصلحة الوقف ورأى الناظر التغيير مصلحة فيجوز له دون غيره قال القفال ويجوز جعل حانوت القصارين للخبازين قال الشيخان فكأنه احتمل تغيير النوع دون الجنس وإذا خرب البناء الموقوف بفعل ظالم فإن تلفت آلاته أخذ منه غرمها وأعيد به مثل البناء الموقوف ووقف وإن لم تتلف أخذ منه الأرش وهو ما بين قيمتها قائمة ومقلوعة وأعيد به المقلوع إذا تقرر ذلك فهدم المستأجر ما ذكر في السؤال حرام عليه ويعزر عليه التعزير البليغ المزاجر له ولأَمثاله عن التعدي على أموال الناس وحقوقهم وعن مثل هذه الجراءة العظيمة وإعادته لتلك الأبنية التي أخرج بها الدار الموقوفة عن اسمها إلى جنس آخر لا يرفع تعديه المذكور بل يلزم الناظر رفعه إلى الحاكم الشرعي ليعزره التعزير البليغ كما ذكرناه ثم يلزمه بهدم ما بناه في الأرض الموقوفة ثم ينظر إن كان نقض البناء الموقوف الذي هدمه موجود ألزمه الأرش السابق الذي ذكرناه وإن كان قد أتلفه لزمه قيمته ثم يلزم الناظر أن يعيد تلك الدار على ما كانت عليه رعاية لغرض الواقف وإدامة لما قصده من دوام(4/207)
القربة والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عن واقف شرط في وقفه أن لا يؤجر أكثر من سنة مثلاً فإذا أجره الناظر عشر سنين في عشر عقود كل سنة بأجرة مثله تلك السنة من شخص واحد فهل يجوز ذلك كما صرح به شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري رحمه الله في كتابه عماد الرضا في بيان أدب القضا أم لا يجوز فيما زاد على العقد الأول نظراً للمعنى كما أفتى به ابن الصلاح وأفتى غيره بالصحة نظراً للفظ تبعاً لشيخ الإِسلام زكريا وقال: وهو أفقه لكن المعتمد الأول الذي أفتى به ابن الصلاح وإذا قلتم بالجواز تبعاً لشيخ الإِسلام زكريا سواء كان الوقف عامراً أم خراباً أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله الذي أفتى به ابن الصلاح من الامتناع نظر فيه إلى المعنى فإنه علله بأن المدتين المتصلين في العقد في معنى العقد الواحد فيخالف شرط الواقف قال صاحب الإِسعاد في بعض نسخة وما أفتى به متجه جداً أ هـ .
وإنما يتم اتجاهه عند النظر للمعنى كما قررته لكن من تأمل كلامهم وتفاريعهم علم أنهم في الغالب يرجحون ما كان أقرب إلى لفظ الواقف مما هو أقرب إلى غرضه دون لفظه ولهذا يظهر ترجيح الجواز ومن ثم جرى عليه ابن الأستاذ وجزم به صاحب الأنوار وتبعهما شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله عهده وغيره فاندفع قول من قال المعتمد ما أفتى به ابن الصلاح ووجه اندفاعه ما قررته من أن الجواز أقرب إلى كلام الأئمة ولذلك اعتمده المحققون وخالفوا ابن الصلاح ولم يبالوا بذلك ولا يجوز لحاكم نقض حكم غيره بالجواز لأنه المعتمد كما علمت ومحل الخلاف حيث لم يشترط الواقف أن لا يدخل عقد على عقد وإلا بطل العقد الثاني وما بعده اتفاقاً لاستلزام القول بصحته مخالفة تصريح الواقف بامتناعه من غير ضرورة داعية لذلك إذ الفرض أن الوقف عامر والله أعلم.(4/208)
وسئل: سؤالاً صورته سئل بعض المفتين من أكابر المتأخرين عن امرأة ماتت وخلفت ورثة منهم أخ وبنت وكانت أقرت في صحتها للأخ أنها وقفت مالها على البنت فأخبر الأخ الورثة بما أقرت به فهل يثبت الوقف بذلك حيث غلب على ظنهم صدقه وحيث قلتم لا يثبت الوقف بذلك فما يكون الحكم في نصيب الأخ المذكور فأجاب بقوله لا يثبت الوقف بذلك ونصيب الأخ الذي أقرت له بذلك تستحقه البنت المذكورة وبقية ذلك يكون لبقية ورثة المقر والله أعلم أ هـ .
جوابه فهل هذا الجواب صحيح معتمد وحيث قلتم: نعم فإذا أخبر شخص أن فلاناً وقف هذه العين على أولاده وغلب على الظن صدقه فهل هي كالمسئلة المذكورة فلا يثبت الوقف بذلك أم لا فإن قلتم لا فما الفرق. فأجاب: بقوله الجواب عن هذه المسئلة حاصله أن الوقف لا يثبت بما ذكره الأخ بالنسبة لغيره ويثبت بالنسبة لنفسه فتستحق البنت نصيبه لأنه أقر لها به ويقسم الباقي بينها وبين بقية الورثة كما ذكره المفتي المذكور من أخبر بوقف لا يجب العمل بقوله إلا على من صدقه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/209)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن وقف هذه صورته هذا ما وقفه وحبسه وسبله وأبده وحرمه وتصدق به أبو الفتح بن محمد بن عيسى بن مكينة على أولاده الموجودين حال هذا الوقف وهم محمد وخديجة ورابعة وأم الكامل وفاطمة وحفصة وعلي من يحدثه الله له من الأولاد غيرهم في أيام حياته ذكراً أو أنثى وقف أبو الفتح بن محمد المذكور على أولاده المذكورين جميع ما ذكر في كتاب وقفه إلى أن قال وقف أبو الفتح بن محمد المذكور جميع ما ذكره من الأراضي المذكورة بمرافقها وجميع سقيتها من آبارها المعروفة بها والداخلة في حكم ذلك الوقف ومنه جميع ما اشتملت عليه هذه الأراضي المذكورة من الأشجار على أولاده المذكورين أعلاه الموجودين حال الوقفية وقف وحبس وسبل وحرم وتصدق بجميع ما ذكر في هذا الكتاب من خالص ومشاع وقفاً مؤبداً وحبساً محرماً مؤكداً وصدقة بتة بتلة على أولاده الموجودين وعلى من يحدثه الله تعالى له من الأولاد غيرهم ذكراً كان أو أنثى للذكر منهم مثل حظ الأنثيين وعلى أولاد أولاده الذكور دون الإِناث فليس لأولادهن حظ ولا نصيب في هذه الصدقة لكونهم غير لاحقين بنسبة هذا المتصدق ثم على أولاد أولاد أولاده أبداً ما تناسلوا ودائماً ما تعاقبوا بطناً بعد بطن وعقباً بعد عقب كل طبقة منهم تشرك الطبقة الأخرى فمن مات من بني هذا المتصدق وبني بنيه وله بنون عاد نصيبه وما كان له من هذه الصدقة على أولاده للذكر سهمان وللأنثى سهم ومن مات من أولاد هذا المتصدق وليس له بنون عاد نصيبه إلى إخوته وأخواته الذين هم في درجته ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم أبداً ما تناسلوا وتعاقبوا ما عدا أولاد البنات من غير من ينسب وينتمي إلى هذا الواقف فإنه لا حظ له في هذه الصدقة ولا نصيب وإن كان ممن ينتمي إلى هذا الواقف بالنسب المذكور كان له فيها الحظ والنصيب على الوجه المشروح فإذا انقرض أولاد الواقف المذكور وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده عادت منافع هذا الوقف(4/210)
إلى الموجودين من نسله وعقبه وعقب عقبه وأسفل من ذلك ما تناسلوا وتعاقبوا إلا أولاد البنات فليس لهم دخول في هذا الوقف إذ كانوا من غير نسله فإذا انقرضوا وإن بعدوا ولم يبق منهم أحد عادت الصدقة جارية إلى الأقرب فالأقرب من ذوي ابن مكينة ثم إلى الأقرب من ذوي محمد بن عبد الله ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم يجري الحال بينهم أيام حياتهم على الوضع المذكور ما تناسلوا دائماً وتعاقبوا بطناً بعد بطن فإذا انقرض من ينسب وينتمي إلى هؤلاء المذكورين ولم يوجد منهم أحد عادت هذه الصدقة جارية على فقراء المسلمين ومساكينهم وذوي الحاجة منهم يتولى النظر في هذا الوقف البالغ الرشيد من ذرية الواقف المذكور الذكور دون الإِناث ثم الرشيد من ذوي ابن مكينة ثم الرشيد من ذوي محمد بن عبد الله ثم إذا صار إلى الفقراء والمساكين يتولى النظر في ذلك حاكم المسلمين يولي النظر فيه لمن شاء من العدول لينظر فيه على ما شرطه الواقف إلى أن قال لا يباع ولا يرهن ولا يؤجر ولا يناقل به ولا يوهب ولا يتلف بوجه تلف قائمة على أصولها محفوظة على شروطها مسبلة على سبلها أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين أولاً ما حكمه هل هو على الذرية مطلقاً أو على أولاده وأولاد أولاده ثم على أولاد أولاد أولاده كما يفهم من بعض كلامه أو على أولاد ثم على أولاد أولاده بشرطه وثانياً ما المراد بقوله عدا أولاد البنات من غير من ينسب وينتمي إلى هذا الواقف فلا حظ لهم في هذه الصدقة ولا نصيب وإن كانوا ممن ينتمي إلى هذا الواقف بالنسب المذكور كان لهم فيها الحظ والنصيب على الوجه المشروح ثم إن أولاد الواقف لم يبق منهم أحد لا ذكور ولا إناث ولم يبق إلا أولاد بنات الواقف وبعضهم أولاد ابن أخ الواقف شقيقه وبعضهم أولاد أخيه لأمه ابن عمه لكن في بني عم الواقف أقرب منهم لأبيه وأمه وإلا أولاد أخ الواقف فهل يستحق هذه الوقفية أولاد البنات(4/211)
أو أولاد أخ الواقف لأبيه وأمه الذين هم عصبة الواقف دون غيرهم من الناس فإن الكل عصبة لكن الأشقاء أقرب وإذا قلتم إنه لأولاد البنات وأنهم ممن ينتمي إلى هذا الواقف بالنسب المذكور فما الوجه المشروح الذي أشار إليه الواقف بقوله على الوجه المشروح وهل يدخل هذا الوقف إجارة أو غيرها من وجوه البيع أو الهبة أو غير ذلك أم لا وهل إذا لم يكن من المستحقين رشيد ينتقل النظر للرشيد من ذوي ابن مكينة وإن لم يكن له استحقاق أم لا. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله الذي دل عليه كلام الواقف المذكور أن وقفه هذا يكون وقفاً على من ينسب إليه مطلقاً بدليل قوله في الأول والثاني أبداً ما تناسلوا الخ. وأنه لا شيء فيه لأولاد البنات من حيث كونهم أولاد بنات مطلقاً لأنهم لا ينسبون إليه وإنما ينسبون إلى آبائهم فإن نسبت آباؤهم إليه استحقوا من هذه الجهة بالشرط المعلوم مما يأتي وقوله لكونهم غير لاحقين بنسب هذا المتصدق صريح في ذلك وأن الوقف على الأولاد وأولادهم وقف تشريك لأنه عطف فيه بالواو بخلاف أولاد أولاد الأولاد فإنه عليهم وقف ترتيب لأنه عطف فيه بثم فلا يستحق أحد منهم شيئاً إلا إن فقدت الأولاد وأولادهم فإن قلت: ينافي هذا قوله: كل طبقة منهم تشرك الطبقة الأخرى، قلت: لا منافاة لأن عطف أولاد الأولاد بالواو ومن بعدهم بثم صريح في الترتيب وقوله: كل ليس صريحاً في عوده لجميع البطون فوجب حمله على أنه عائد للبطون المذكورة بعد ثم المستفادة من قوله أبداً ما تناسلوا الخ. نعم يستثنى من ذلك البطن الرابعة فإنها لا تستحق شيئاً إلا إن فقدت البطن الثالثة كما يفيده صريح قوله فإذا انقرض أولاد الواقف المذكور الخ. ودليل ذلك القاعدة التي استنبطها من كلامهم وهو أن الموثق إذا وقع منه عبارتان متنافيتان فإن أمكن الجمع بينهما بحمل كل منهما على حالة كما هنا وجب المصير إليه وإن لم يمكن ذلك فإن اعتضدت أحدهما بقرينة عمل بها وطرحت الأخرى وإن لم(4/212)
تعتضد واحدة بشيء تعارضتا فتساقطتا وقد أفتى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
البلقيني بنحو ذلك حيث ألغى عبارة بعض الموثقين وحكم عليها بالسهو والغلط أخذاً من قرائن في كلام ذلك الموثق وأن محل التشريك في البطنين الأولين وفيما بعده البطن الثالث والترتيب بين الأولين والثالثة وبين الثالثة وما بعدها ما إذا مات أحد البطون عن غير ولد ولا أخ أما إذا مات أحد من بني الواقف أو بني بنيه عن ولد فيعود نصيبه إلى إخوته وأخواته المساوين له في الدرجة فإن فقدوا فلأَولادهم ثم أولاد أولادهم وهكذا ما عدا أولاد البنات وكذا يقال: فيمن مات عن ولد أخذاً من قولهم إن الضمير كالصفة فيرجع إلى جميع ما قبله مما يصح رجوعه إليه وهو هنا كذلك فإن قوله ثم على أولادهم الخ. واقع بعد قوله: فمن مات من بني هذا المتصدق بقسميه فيرجع إليهما ومن أخذ نصيب والده أو أخيه يشارك الباقين أيضاً كما صرحوا به حيث قالوا: عطف بالواو، ثم قال: من مات منهم فنصيبه لولده فمات أحدهم اختص ولده بنصيبه وشارك الباقين وعلم مما تقرر أن الضمير في قوله: ثم على أولادهم الخ. عائد إلى الأولاد في الصورة الأولى وإلى الأخوة في الصورة الثانية وأن قوله فمن مات الأول خاص بالبنين وبنيهم والثاني خاص بالأولاد فقط أخذا من صريح كلامه فإنه قال: أولاً فمن مات من بني هذا المتصدق وبني بنيه وقال في الثاني ومن مات من أولاد هذا المتصدق فأفهم أن هذا الحكم أعني الانتقال في الأولى للأولاد ثم أولادهم وهكذا خاص بالطبقتين الأوليين فقط لأنه اقتصر عليهما فلا يدخل في ذلك غيرهما. والانتقال في الثانية للأخوة ثم أولادهم وهكذا خاص بالطبقة الأولى فلا يجري فيما عداها لاقتصاره عليها إذ الطبقة الثانية ومن بعدها لا يجري فيها الانتقال للأخوة ثم بنيهم على الترتيب والطبقة الثالثة ومن بعدها لا يجري فيهم الانتقال للأولاد ثم أولادهم على الترتيب اقتصاراً على(4/213)
إفادة لفظ الواقف المذكور والوجه المشروح في كلامه هو ما تقرر من التشريك والترتيب وغيرهما. مما ذكرنا على أن قوله وإن كان ممن ينتمي إلى هذا الواقف بالنسب المذكور كان له فيها الحظ والنصيب على الوجه المشروح لا حاجة إليه لأنه معلوم مما قبله وإنما هو لمزيد الإِيضاح والتوكيد وأفهم قوله فإذا انقرض أولاد الواقف المذكور الذكور الخ. أنه يعود لمن بعد البطون الثلاثة على التشريك بينهم وإن تعددت طبقاتهم وقوله: فإذا انقرضوا وإن بعدوا عادت هذه الصدقة جارية إلى الأقرب فالأقرب من ذوي ابن مكنية الخ. صريح في أنه إذا لم يبق من أولاده وأولادهم أحد عاد الوقف إلى أخيه سواء كان شقيقاً أم لأب لا لأولاد بناته سواء أكانوا أولاد ابن أخيه شقيقه أو أولاد أخيه لأمه ابن عمه لأن أخاه شقيقه أو لأبيه أقرب من هؤلاء فيصرف إليه جميع الوقف فإن لم يكن له أخ عاد لأولاد أخيه لأبيه ثم لأولاد ابن أخيه لأبيه وهكذا يقدم الأقرب منهم فالأقرب من غير نظر إلى كون أحدهم ابن بنت الواقف أم لا لأنه اكتفى بهذه النسبة بما قدمه في كلامه المرة بعد المرة وقوله ثم على أولادهم الخ. راجع إلى الأقرب من ذوي ابن مكينة ثم من ذوي محمد بن عبد الله وقوله يجري الحال بينهم أيام حياتهم على الوضع المذكور أي في أولاده وأولادهم وهكذا على النحو الذي ذكرته مفصلاً فكل ما ذكرناه هناك يأتي نظيره هنا وصريح قوله ولا يؤجر أنه لا يجوز إجارة هذا الوقف مطلقاً ثم إن استحقه واحد فواضح أو جمع تهايؤوا وأقرع بينهم للترتيب وتجوز لهم إعارته وإباحة الانتفاع به للغير من غير مقابل لأن شرط عدم الإِيجار لا يقتضي منع الإِعارة والإِباحة نعم لو خرب ولم يمكن الانتفاع به إلا بإيجاره فلا يبعد أخذاً من كلامهم فيما إذا شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة ولا يورد عقد على عقد فخرب ولم يمكن عمارته إلا بإيجاره سنين جواز الإِجارة هنا بقدر الضرورة ولا يدخل هذا الوقف ولا غيره من الأوقاف شيء من(4/214)
وجوه البيع والهبة ونحوهما سواء أشرط الواقف عدم ذلك أم لم يشرطه وحيث لم يكن من ذرية الواقف ذكر بالغ رشيد انتقل النظر فيه للرشيد من ذوي ابن مكينة ثم ذوي محمد بن عبد الله إلى آخر ما ذكر ولا فرق فيمن انتقل النظر إليه بين أن يكون له استحقاق في الوقف أو لا إذا لا تلازم بين النظر والاستحقاق والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: رضي الله عنه سؤالاً صورته إذا ثبت أن الوقف مستحق للغير وكان الناظر استلم ريعه سنين كثيرة وأصرفها على المستحقين وفي جهاته فعلى من يرجع المستحق على المستأجر أو الناظر أوّلاً ثم يرجع الناظر على من استلم منه من المستحقين وإذا كان أصرفها الناظر في تسبيل ماء أو صدقة كطعام وغيره فهل يرجع عليه أو على الواقف لكونه غره في ذلك وورطه فيه. فأجاب: بقوله إذا وقف إنسان شيئاً فصرفه الناظر على ما شرطه ثم ظهر أنه مستحق للغير فالواقف غاصب إن علم تعديه وإلا فهو كالغاصب وقد ذكروا أن كل يد ترتبت على يد الغاصب أو في معناه فهي يد ضمان يتخير المالك بين مطالبة نحو الغاصب والآخذ منه برد الموجود وضمان التالف وإن جهل الثاني تعدى الأول ثم إذا جهل الآخذ فإن كانت يده موضوعة للضمان كعارية وسوم وهبة وبيع فقرار ضمان الرقبة والتعيب والمنافع المستوفاة على الثاني والمنافع الفائتة على الأول فإن نقص بناؤه وغراسه رجع على الأول بالأرش لا بما أنفق وإن كانت موضوعة للأمانة كالوديعة والمضاربة والتوكيل والرهن والإِجارة والتزويج استقر ضماناً لرقبة والتعيب والمنافع الفائتة على الأول والمفوّتة على الثاني إلا في الإِجارة فإن الأجرة تستقر على المستأجر سواء أفوّت المنفعة أم فاتت في يده ولو أتلف القابض من نحو الغاصب أو عيب فالقرار عليه سواء أتلفه مستقلاً أم حمله الغاصب عليه بأن كان طعاماً فقدمه إليه فأكله ولو جاهلاً نعم لو غصب شاة وأمر قصاباً بذبحها(4/215)
فذبحها جاهلاً بالحال فقرار النقص على الغاصب كما لو غصب ثوباً وأمر خياطاً بقطعه فقطعه وهو جاهل ولو أمر الغاصب إنساناً بإتلاف المغصوب بنحو قتل أو إحراق ففعله جاهلاً بالحال فالقرار على المتلف إذا تقرر ذلك علم منه أن كل من استوفى شيئاً من العين التي ظهرت مملوكة قرار ضمانه عليه سواء أمكن الرجوع عليه أم لا كغير المعينين المذكورين في السؤال وإنّ لمن ظهرت العين له أن يرجع على الواقف إن كان حياً وإلا فعلى تركته وأما الناظر فما فات في يده لا يرجع عليه به بخلاف ما فوّته فإنه يرجع عليه به لأن يده يد أمانة فهو كالوكيل وأما ما صرفه بأمر الواقف فلا يرجع عليه به بمعنى أنه لا يستقر عليه ضمانه لكنه طريق فيه قياساً على ما ذكر في القصاب والخياط بجامع أن النفع عاد على الآمر فقط بخلاف المأمور لأنه محض آلة مع بقاء العين وبه فارق المأمور بالإِتلاف فإنه يصير مستقلاً لا آلة وتصرف الناظر ليس إتلافاً فتعين إلحاقه بالقصاب والخياط وأن المستأجر يستقر عليه الأجرة لما فوّته ولما فات في يده فيرجع عليه بها مستحق العين وما دفعه للناظر أو غيره يرجع عليه به ثم رأيت جامع فتاوى ابن الصلاح والتاج الفزاري والنووي ومعاصريهم ذكر هذه المسئلة ونقل فيها عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/216)
التاج الفزاري ما يوافق ما ذكرته في الناظر فقال وقف بيت على حاكم وحكم به وولى عليه ناظراً يصرف أجره في المصاريف المذكورة في كتاب الوقف فباشر الناظر ذلك مدة بأمر الحاكم ثم ظهر استحقاق الوقف وأنه ملك فإذا ثبت ذلك وبطل الوقف هل يرجع على الناظر بما صرفه في مصارف الوقف أو لا عرضت على شيخنا تاج الدين فتوقف فيها فأقامت مدة لا يكتب عليها أحد ثم عرضت عليه ثانياً لأنه كان رحمه الله المرجع إليه والمعول في المعضلات عليه فكتب فيها أنه لا يرجع عليه بما صرفه إلى ذلك وخرجه على أصل مذكور في الغصب في المشتري من الغاصب جاهلاً بالغصب وهو أن ما لم يلزم ضمانه يرجع به جامعاً بينهما بأن كل واحد منهما تصرف تصرفاً مأذوناً فيه ظاهراً ثم بان خلاف ذلك وهو معذور بالجهل بذلك فاتبع ظنه في ذلك والتزامه ولا شك أن ناظر الوقف لم يلتزم ضمان ما يصرفه فلا يلزم ضمانه أ هـ .
ومراده بعدم لزوم ضمانه عدم استقراره عليه لما قدمته أنه طريق فيه وما قررته من قياسه على القصاب والخياط أظهر مما قرره من قياسه على المشتري كما لا يخفى فتأمل ذلك فإنه مهم وعجبت من الأصحاب حيث لم يذكروا مسئلة السؤال بالصريح مع كثرة الاحتياج إليها والله أعلم.(4/217)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص وقف محلين على جمع وجهات لله كتسييل ماء وقراءة وصدقة من ريع ذلك فإذا أجر الناظر عليه أحد المحلين وتعطل الثاني بهدم أو استيلاء ظالم عليه أو لم يجد مستأجراً أو وجده بدون أجرة المثل فما يجعل في أجرة المحل المستأجر يوزعه على المستحقين بحسب استحقاقهم مرتباً أو متساوياً أم لا وإذا باع أو رهن الوقف هل يعزل ويفسق بفعله ذلك ويقيم الحاكم الشرعي غيره سواء كان من قبل الواقف أو غيره وإذا جن أو كان صبياً وقلتم يؤول إلى الحاكم ويقيم نائباً عنهما فإذا فاق أو كمل الصبي هل تعود ولايتهما أم لا. فأجاب: بقوله إن رتب الواقف صرف الغلة أو بين للمستحقين وجب العمل بما رتبه وإلا فما وجد من الغلة يقسم على الموقوف عليهم بحسب استحقاقهم وإذا تعدى الناظر بنحو بيع أو رهن انعزل ولزم الحاكم أن يولي غيره وإن كان من قبل الواقف وكذا إذا جن أو كان صبياً فإذا زال مانعه عادت ولايته إن كان نظره مشروطاً في الوقف منصوصاً عليه بعينه وإلا لم تعد والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/218)
وسئل: عن قاضي مكة وناظر الحرم إذا أناب من يقبض غلات أوقافه وأذن له في التصرف فيها بإيجارها وإصلاحها وعمارتها وقبض مستغلاتها وإيصالها إلى الحرم وأن يتصرف فيها بما يراه من مصلحة الموقوف والموقوف عليه فحصل غلة واحتاج لما يصرفه عليها إلى أن يصل بها إليه فاستدان وأصرف لما رآه من المصلحة فهل يثبت الدين على الوقف وهل له الاستقلال بقضائه. فأجاب: بقوله لا يرجع نائب الناظر المذكور بما صرفه إلا إن أذن له القاضي في الاقتراض كما في الروضة ومخالفة البلقيني فيه رددتها في شرح الإِرشاد وإن تبعه غيره وسبقه إلى الإِشارة لذلك ابن الصلاح وقياسه أن إنفاقه من مال نفسه ليرجع لا يقتضي الرجوع إلا إن أذن له فيه القاضي إن تيسر وإلا فيظهر أنه لا يشترط وأذن الناظر فيما ذكر في السؤال لا يفيده لأن الناظر نفسه لو أصرف من مال اقترضه أو من مال نفسه ليرجع احتاج إلى إذن القاضي وكون المستنيب هنا قاضياً لا يفيده أيضاً لأن الذي يظهر أن المراد بالقاضي هنا قاضي بلد الوقف وإن قلنا أن الولاية لقاضي بلد الموقوف عليه لأن ولاية الأول كما اقتضاه تشبيه ما هنا بالقاضي بالنسبة للولاية على مال اليتيم من حيث الحفظ والتصرف بما تقتضيه المصلحة من الحفظ ونحوه. وولاية الثاني من حيث التصرف فيه إذا وصل إليه بالتفرقة والاستنماء وغيرهما. ولا شك أن ما نحن فيه من الإِذن في الاقتراض والإِنفاق إنما يرجع إلى الولاية الأولى دون الثانية وله الاستقلال بقضاء الدين المترتب على الوقف كما قاله القفال وأقروه الله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/219)
وسئل: عن شخصين بينهما وقف مشترك ولأحدهما النظر والتكلم والعمارة وصرف ما يحتاج صرفه إليه كما شرطه واقفه فإذا استقل الشريك الثاني الذي ليس له نظر ولا تكلم بالسكنى والإِجارة والعمارة من غير إذن شريكه الذي له النظر على ذلك كله هل له ذلك وهل للناظر عليه منعه من ذلك وأخذ الأجرة للمدة الماضية منه ليصرفه في مصالحها أو أخذ أجرة المثل ممن آجره الشريك بغير إذن الناظر وهل للناظر أيضاً إجارة الوقف مدة طويلة أو قصيرة إذا شرط الواقف ذلك بغير إذن المستحقين فإذا قلتم له ذلك فأجره وقبض الأجرة هل يدفع لشريكه في الوقف جميع ما يخصه من ذلك أو شيئاً فشيئاً كل سنة. فأجاب: بقوله لا تصح إجارة الشريك الذي ليس له نظر من غير إذن الناظر وللناظر منعه من ذلك فلو أجر من غير إذنه فأجازه لم ينقلب العقد بإجازته صحيحاً بل لا بدّ من استئنافه وحيث فسدت الإِجارة فمضت مدة والعين في يد المستأجر لزمه أجرة مثل المدة الماضية والمتولي لقبضها هو الناظر دون غيره ويصرفها فيما هو الأصلح وله إجارة الوقف مدة طويلة وقصيرة حيث رأى المصلحة في ذلك ولم يخالف شرط الواقف رضي المستحقون أم سخطوا ثم الأجرة متى استقرت باستيفاء المنفعة أو بتفويتها صرفت للموقوف عليه في الحال وأما إذا لم تستقر بأن أجره الناظر سنين مستقبلة فالمنقول أنه يمنع من التصرف في كل الأجرة وأن الناظر لا يصرف له جميعها جملة خشية موته وانتقالها لغيره بل يصرفها إليه شيئاً فشيئاً مراعياً ما استقر منها حتى لا يصرف له ما لم يستقر فإن فعل ضمن وبذلك أفتى القفال فقال لو وقف على أولاده ثم على أولادهم ثم نسلهم ثم الفقراء فآجر أي الناظر عشر سنين وأخذ الأجرة لم يجز له أن يعجل لهم الأجرة وإنما يعطي بقدر ما مضى من الزمان فإن دفع أكثر فمات الآخذ فعلى القيم الضمان أ هـ .
ونحوه قول الإصطخري في أدب القضاء وكذلك إذا كانت داراً تكرى فإذا مضى وقت فقد حصل لهم أجرة ذلك الذي مضى اهـ. ونقل(4/220)
ذلك ابن الرفعة عن بعض القضاة العلماء من أهل عصره أنه كان يمنعه من التصرف في كل الأجرة ولا يصرفها له خشية انتقالها لغيره لكن الذي رجحه أعني ابن الرفعة واقتضاه إطلاق المنهاج وغيره أنها تصرف إليه جميعها في الحال وإن احتمل عدم بقائه لمدة الإِجارة قال الزركشي وهو القياس كما تتصرف المرأة في الصداق قبل الدخول وإن كان ملكها عليه غير مستقر لاحتمال عود الشطر إلى الزوج بالفراق وغير ذلك من الصور أ هـ .
وهذا متجه مدركاً وقياساً لكن قد علمت أن الأول هو المنقول وهو الأحوط والفرق بين الوقف وغيره أن الوقف اختص عن غيره بمزيد احتياط وأيضاً فنحو الزوج متصرف عن نفسه فكان تصرفه مقتضياً للملك والتصرف فيه ولو مع عدم الاستقرار وأما الناظر فهو متصرف عن غيره بطريق الولاية والعموم فوجب عليه التصرف بالأصلح واختص تصرفه بمزيد احتياط لا يشركه فيه المتصرف لنفسه بنفسه أو بوكيله فعلم أن المنقول الذي هو الأول له وجه واضح وأنه لا يرد على القائلين به تلك الصور فلا محيد للعدول عنه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/221)
وسئل: عما إذا قرر الشيخ زمان الدرس ومكانه والطلبة جماعة متعددون وقرر أنه يبدأ بالسابق فلو قدم أحد إلى الدرس في غير زمان الدرس واستمر وجاء آخر أول زمانه فهل للأول باعتبار تقدمه في غير زمان الدرس تقدم فيستحق القراءة قبل من قارنه في أول زمان الدرس. فأجاب: بقوله اختلف أصحابنا في أن التقديم في ذلك واجب أو مندوب فقال كثيرون منهم بالندب وظاهر كلام الإِمام و الغزالي في النهاية والبسيط بل صريحهما ترجيحه وقال آخرون منهم بالوجوب وهو المعتمد الذي صرح به الشيخان وغيرهما. في نظير ذلك من القاضي بل صرح به في المجموع في المفتي حيث قال يجب على المفتي عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الافتاء فإن تساووا وجهل السابق قدم بالقرعة والصحيح أنه يجب تقديم المرأة والمسافر الذي يشد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن الرفقة ونحو ذلك على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كبير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة ثم لا يقدم أحد إلا في فتيا واحدة وقولي والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة الخ. هو ما رأيته في النسخة التي عندي ونقل الأذرعي الوجوب في ذلك وكلام الشيخين في القاضي صريح في الجواز وبحث الأذرعي أنه لا يلزمه تقديم السابق في الإِفتاء إلا إن ظهر له جوابه وإلا لم يحبس المتأخر إلى البحث فإنه قد يبحث ولا يظهر له شيء وهو متجه وفيه في موضع آخر فإن ذكر دروساً قدم أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصلين ثم المذهب ثم الخلاف ثم الجدل وقال أيضاً في الطالب ولا يؤثر بنوبته فإن الإِيثار بالقرب مكروه فإن رأى الشيخ المصلحة في ذلك في وقت فأشار به امتثل أمره فإن قلت: قوله فإن رأى الشيخ المصلحة الخ. يقتضي أن الخيرة إلى رأى الشيخ وأنه لا يلزمه تقديم بالسبق وبه يتأيد القول بالندب وينافي ما قدمه من الوجوب في الإِفتاء إذ لا فرق بينه وبين(4/222)
التدريس قلت: يمنع ذلك كله بأن هذا محتمل وذاك أعني الوجوب مصرح به والصريح يقضى به على المحتمل ولا عكس فالحق الوجوب ومعنى قوله امتثل أمره أي ندباً على أنه أعني الوجوب هو أن المفتي لو رأى المصلحة في تقديم المسبوق لأَنوثة أو سفر جاز فتحمل المصلحة هنا عليها ثم وحينئذٍ لا تخالف بين كلاميه أصلاً فقد علمنا من مجموعهما أن شرط وجوب تقديم السابق على الشيخ أن لا يرى المصلحة الحاقة في تقديم غيره فحينئذٍ يجوز له التقديم بحسبها وسيأتي أنه في غير فرض الكفاية يقدم من شاء فيمكن حمل كلام المجموع الأخير على هذا أيضاً فإن قلت ما ذكره في الموضع الثاني ينافيه قول عصريه شيخ الإِسلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/223)
البدر بن جماعة والد العز بن جماعة رحمهما الله تعالى إذا تعددت الدروس قدم الأشرف فالأشرف والأَهم فالأهم فيقدم تفسير القرآن ثم الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم المذهب ثم الخلاف أو النحو أو الجدل قلت: لا ينافيه وإنما هو بيان له فإن النووي أجمل تقديم الأصلين ولم يبين أيهما المقدم فبين البدر أن أصول الدين مقدم على أصول الفقه وهو ظاهر لأنه أشرف منه فإن قلت هو أشرف من التفسير والحديث أيضاً نظراً إلى غايته إذ العلوم إنما تشرف بشرف غاياتها قلت: هو وإن كان كذلك إلا أنهما أصلان له فهو فرع عنهما لاستمداد أكثر مسائله منهما فكانا أشرف منه بهذا الاعتبار فقداما عليه وأيضاً النووي بين ترتيب ما بعد المذهب ووجهه ظاهر والبدر زاد النحو وتردد في أي الثلاثة أحق بالتقديم فلم يجزم فيه بشيء والعمدة على ما رتبه النووي لظهوره وظاهر كلامه أن النحو مؤخر عن الخلاف والجدل وله وجه ظاهر لأنهما بما قبلهما أشد تعلقاً عند تقريرها وإن كان هو ينبغي أن يكون أسبق في التعلق بل ينبغي تقديم تعلم أصول مسائله على الكل إذ لا يتم فهم حقائقها إلا به فإن قلت قد تقرر أن التقديم واجب بالسبق وإلا فبالقرعة فبأحدهما يجب التقديم ولو كان المقدم به متأخراً في الرتبة فما وجه هذا الترتيب قلت: إذا تأملت قول المجموع فإن ذكر دروساً قدم الخ. علمت أن الكلام ههنا في إلقاء الشيخ العلوم على الطلبة من غير قراءة منهم فحينئذٍ الأولى له أن يرتب كما ذكر لأنهم قابلون لإِلقاء الكل فناسب أن يقدم في الإِملاء عليهم الأشرف فالأشرف أو يحمل على طالب واحد له دروس متعددة في تلك العلوم وأراد قراءتها في مجلس واحد فحينئذٍ يقدم الأشرف فالأشرف إذ لا معاوض للنظر إلى الأشرف حينئذٍ إذا تقرر ذلك وأن المعتمد وجوب التقديم بالسبق وإلا فبالقرع فلنرجع إلى قول السائل نفع الله به فهل للأول الخ. فنقول صرح الشيخان في الروضة وأصلها بأن القاضي يقدم عند ازدحام المدعين(4/224)
بالسبق إن عرف السابق فإن جهل أو جاؤوا معاً قدم بالقرعة فإن كثروا وعسر الإِقراع كتبت أسماؤهم في رقاع وصبت بين يديه فيأخذها واحدة واحدة ويسمع دعوى من خرج اسمه ثم قالا: والمفتي والمدرس يقدمان أيضاً عند الازدحام بالسبق أو بالقرعة ولو كان الذي يعلمه ليس من فروض الكفاية فالاختيار إليه في تقديم من شاء أ هـ .
فأفهم سياقهما أنه يأتي في المفتي والمدرس ما قالوه في القاضي وقد صرح به في المجموع كما مر عنه وظاهر كلامهم أن الاعتبار بالسبق إلى محل القضاء ولو قبل مجيء القاضي فليكن المفتي والمدرس مثله بل صريح كلام جماعة من الأصحاب ذلك في القاضي وعبارتهم ويستحب للقاضي أن يقدم كل يوم ثقة إلى مجلس حكمه حتى يثبت أسامي الخصوم ويكتبها الأسبق فالأسبق فإذا جلس يقدم من سبق على الترتيب فتأمل قولهم أن يقدم وقولهم فإذا جلس يقدم تجد ذلك صريحاً في أن العبرة بالسبق إلى مجلس القضاء ولو قبل جلوس القاضي فكذا في مسئلتنا يكون السابق إلى محل الدرس ولو قبل جلوس الشيخ وقيل: زمنه الذي عينه مستحقاً للتقديم على من تأخر عنه سواء أجاء أيضاً قبل الوقت أم أوله والمعنى في ذلك ظاهر للمتأمل والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/225)
وسئل: أدام الله النفع بعلومه عن قرية فيها مسجد له وقف ومنه وقف على مدرس فيه ولم يوجد فيها طالب علم فضلاً عن مدرس وفي قرية أخرى مدرس لكنه لو قصدها للتدريس فيها ضاع يومه بغير نفع وفي قريته طلبة علم فهل له أن يدرس لهم في قريته إذا لم يذهب أحد منهم معه إلى ذلك المسجد ويأخذ ما عين للتدريس أو لا وهذه واقعة مهمة جداً. فأجاب: بقوله إذا تعذر وجود مدرس وطلبة في ذلك المسجد جاز لناظره وللحاكم نقل التدريس لأقرب المساجد إليه التي يمكن فيها ذلك أخذاً مما أفتى به ابن عبد السلام أنه لو شرط واقف مدرسة أن لا يشتغل بها هذا المعيد أكثر من عشر سنين فمضت ولم يوجد في البلد معيد غيره جاز استمراره وأخذ الجامكية لأن العرف يشهد أن الواقف لم يرد شغور مدرسته بل أراد أن ينتفع هذا مدة وغيره مدة قال وكذا الحكم في كل شرط شهد العرف بالصورة التي أخرجها عن لفظ الواقف ا هـ، وصورة السؤال من هذا القبيل لأن العرف يشهد بأن الواقف لم يقصد بالوقف على المدرس والطلبة إلا دوام إحياء العلم وظهور شعاره وهذا حاصل بوجود المدرس في غير مدرسته إذا تعذر وجوده في مدرسته ومما يصرح بما ذكرناه في صورة السؤال قول جمع لو خرب المسجد نقل الحاكم ما فيه من حصر وقناديل ونحوها. إلى غيره عند الخوف عليها وقول القاضي و المتولي و ابن الصباغ و الخوارزمي لو تعطل مسجد وتفرق الناس عن بلده أو خرب فإن لم يخش من أهل الفساد على نقضه ترك بحاله وإن خيف منهم عليه حفظ فإن رأى الحاكم أن يبني به مسجداً آخر جاز قال المتولي والأولى أن ينقل لأقرب الجهات إليه ويجوز إلى الأبعد والحاصل من ريع وقف عمارة هذا المسجد يصرف إلى عمارة مسجد آخر، وقال المتولي و القاضي : يصرف إلى عمارة المسجد المنقول إليه ولا ينقل إلى غير نوع المسجد إلا أن لا يوجد نوعه فيصرف إلى غيره كالربط والقناطر والآبار للضرورة فتأمل ما قالوه في نقل الحصر والقناديل ونحوها. ونقل النقض ونقل ريع الوقف(4/226)
تجد ذلك كله صريحاً فيما ذكرناه وخالف الماوردي ما مر في نقل الريع فقال: لو خربت محلة مسجد صرف ريعه للمساكين لأنه مصرف لا ينقطع لبقائهم على الأبد قال الأذرعي : وكذا جزم به الروياني في البحر وجعله في موضع منقطع الآخر ويوافقه أن في فتاوى الحناطي نقل وجه أنه يصرف للمصالح ووجه أنه يصرف لأقرب الناس إلى الواقف ونقل عن فتاوى الإِمام ابن عجيل اليمني في الوقف والوصية والسقاية والمدرسة أنه لا يجوز نقله والحالة هذه إلى غيره بل يحفظ إلى أن يرجع الناس لذلك الموضع بعينه أو إلى أقرب محل للمسجد أو لطريق السقاية ومن نقله ابتداء أثم وضمن وإن حكم به حاكم نقض حكمه وهذا لا يرد على ما قدمته في صورة السؤال لأن محله إذا رجي عود الناس كما هو ظاهر على أنه جوّز فيه النقل للأقرب وكذا فيما قدمته في صورة السؤال لتعبيري فيه كما مر بالتعذر فأفهم أنه لو لم يتعذر بأن رجي على قرب عود مدرس وطلبته في محل الوقف فحينئذٍ لا يجوز النقل إذ لا ضرورة إليه وإنما الكلام حيث أيس عادة من عود من ذكر على قرب عرفاً فحينئذٍ ينقل لمدرس وطلبة في محل آخر ولو وقف قدراً على أهل محلة فخربت جاز نقله إلى أخرى كما أفهمه كلامهم وهذا أيضاً يؤيد ما قدمته والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/227)
وسئل: عمن وقف على ذكور أولاده دون إناثهم قاصداً بذلك حرمانهن فهل يصح الوقف. فأجاب: بقوله إن شرطنا لصحة الوقف القربة وهو ما نقله الإِمام عن المعظم لم يصح وبه أفتى جمع ك عمر الفتى وتلميذه الكمال الرداد وغيرهما. وإن اشترطنا لصحته انتفاء المعصية صح إن قلنا إن قصد حرمان الوارث بالتصرف في الصحة غير محرم لكن قضية عموم ما روي من خبر من قطع ميراث فريضة قطع الله ميراثه من الجنة أن ذلك حرام والحاصل أنه حيث وقع ذلك في صحته صح أخذاً من قول الشيخين الذي دل عليه كلام الأكثرين أن المغلب في الوقف التمليك لا القربة ومن المعلوم أن تمليك أولاد الذكور دون الإِناث أو عكسه صحيح لكنه مكروه وما ذكر عن الإِمام إنما هو بالنسبة للجهة فلا تعارض وحينئذٍ فلا حجة لأولئك المفتين فيه قال بعضهم: وأنا أقول للقاضي أن يقلد ما ذكر عن الإِمام ويحكم ببطلان الوقف لأنه الذي عليه الجمهور أ هـ .
وقد علمت رده.
وسئل: عن شجر المقبرة ما يفعل به إذا انقطع وما مصارفها التي يصرف فيها وهل للقاضي قلعه إن رآه وأعطاء ما فضل عن مصالحها لمصالح المسلمين. فأجاب: بقوله للقاضي بيع شجرها وثمره وصرفه في مصالحها كتراب يمنع نبش القبور وزبير يمنع نسف الريح وإزالة المطر لترابها أو مرور الدواب ونحوها، إذا أضر القبور ووجوه المصالح كثيرة ومناطها نظر القاضي العدل الأمين ولو لم يوجد لها مصالح حفظ ثمن ذلك إلى ظهور مصالح لها ولا تصرف لغيرها، كما لو وجب للمسجد مال على من شغل بقعة منه فإنه يصرف لمصالحه لا لمصالح المسلمين كما قاله النووي رحمه الله تعالى ك الغزالي خلافاً لابن رزين ك المتولي قال بعضهم وأما قطعها مع قوّتها وسلامتها فيظهر إبقاؤها للرفق بالزائر والمشيع أ هـ .
والذي يظهر أنه يرجع فيها لنظر القاضي المذكور فإن اضطر لقطعها لاحتياج مصالح المقبرة إلى مصرف وتعين فيها قطعها وإلا فلا والله أعلم.(4/228)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن مستأجر دار موقوفة أذن له ناظرها في عمارتها من ماله ففعل ثم مات الناظر فهل يرجع المعمر على تركة الناظر أو على الواقف. فأجاب: بقوله إن ترتب في ذمة المستأجر أجرة فأذن له الناظر في صرفها في العمارة لم يكن له الرجوع على تركته بشيء وإن لم يترتب في ذمته شيء فاقترض منه الناظر ولو بالإِذن له في التصرف في العمارة رجع على تركته بما صرفه لا على الواقف ثم ما أخذه من تركة الناظر ليس لورثته الرجوع به على الواقف إلا إذا كان الواقف شرط له الاقتراض للعمارة أو أذن له القاضي فيه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عن رباط به طهارات ودرجة يصعد منها إلى دور علوي أشار بعض المهندسين من البناة بتأخير بعض الطهارات والدرجة عن موضعهما الأصلي قليلاً مع بقاء نفعهما الذي كانا عليه وإنشاء ثلاثة دكاكين في محل ذلك لينتفع بأجرتهم في مصالح الرباط المذكور كما اختاره السبكي رحمه الله وهل ما اختاره السبكي معتمد معمول به أم لا. فأجاب: بقوله كلام الأصحاب صريح في منع ذلك وكذا كلام ابن الصلاح على ما فيه بل وكلام السبكي أيضاً فإن ما اقتضاه كلامه أن ما اختاره خارج عن المذهب بشرط أن يكون التغيير يسيراً لا يغير مسمى الوقف وأن لا يزيل شيئاً من عينه بأن ينتقل بعضه من جانب إلى جانب ولا شك أن جعل المطهرة دكاكين فيه تغيير لمسمى الوقف فقد صرح الأصحاب بأن جعل الدار حماماً وعكسه تغيير عن هيئته نعم في المطلب عن جمع كشيخه عماد الدين وقاضي القضاة تاج الدين وولده قاضي القضاة صدر الدين وشيخ الإِسلام المجتهد ابن دقيق العيد وسبقهم إليه المقدسي قال ابن دقيق العيد وناهيك بالمقدسي ما يقتضي جواز ما في السؤال ومع ذلك فهذا كله خارج والذي أراه الكف عن ذلك إلا إن قال به أحد من الأئمة الثلاثة فيقلد حينئذٍ ويعلم بمذهبه.(4/229)
وسئل: عن وقف على مصالح مسجد به أئمة وخطيب ومؤذنون ومعلمون للقرآن والوقف لا يفي بهم فمن يقدم. فأجاب: بقوله الذي يظهر تقديم الإِمام فالخطيب فالمؤذن.
وسئل: عمن وقف وقفاً وشرط للناظر فيه شيئاً معلوماً فانحط الوقف إلى أنه لم يبق من أجرته إلا مقدار ما شرطه له أو قريب منه فهل يأخذه بأجمعه أو لا. فأجاب: بقوله الذي يظهر أنه يقسطه بنسبة ما كانت الأجرة عند الوقف لأن الظاهر من حال الواقف أنه لم يشرط ذلك القدر إلا مع وجود شيء يقابله يصرف فيما شرطه فحيث لم يبق إلا ذلك القدر وزع على ما شرطه الواقف من مصارفه بحسب النسبة هذا إن عين الواقف كمية وإلا فعلى أجر مثل تلك المصارف حال الوقف نعم إن كان انحطاط الأجرة بسبب الاحتياج إلى العمارة وجب تقديمها على جميع المصارف والمرتبات ومن جملتها الناظر فيجب أن لا يأخذ بسبب النظر قبلها وإنما يستحق ما يفرض له من أجرة عمله.
وسئل: عما يفضل من أوقاف المساجد والرباطات ونحوها ما حكمه. فأجاب: بقوله نقل الزركشي عن فتاوى ابن البزري أنه يجوز للناظر فيه أو الحاكم أو نائبه أن يشتري به للموقوف عقاراً إن رأى ذلك ولا يكون وقفاً ويجوز بيعه قال ورأيت في فتاوى منسوبة للغزالي إذا رأى الحاكم وقفه على جهة فعل وصار وقفاً وعجيب أنه يصح الوقف من غير المالك أ هـ .
والأوجه أنا وإن قلنا بتصور الوقف من غير المالك لا يصح وقف من ذكر كذلك لأنه لا ضرورة إليه بل بقاؤه على الملكية للمسجد ونحوه، أولى لأنه قد يضطرنا الحال إلى بيعه نعم إن فرض أنه بوقفه ترتفع عنه يد ظالم أو خراج مرتب عليه ظلماً أو نحو ذلك فلا يبعد أن يقال بصحة وقفه حينئذٍ للضرورة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/230)
وسئل: عن شخص بيده وظيفة كقراءة أو عمل كجباية أو استحقاق كخلوة ونحوها. ثم أسقط حقه من ذلك لشخص معين أو مطلقاً بنزول أو غيره أو غاب غيبة طويلة وشغرت بمقتضى ذلك فقرر أجنبياً في ذلك ناظر شرعي خاص أو عام عند غيبة الخاص الغيبة الشرعية فإذا رجع في الإِسقاط المذكور قبل التقرير أو بعده أو رجع من غيبته الطويلة هل يستحق الوظيفة المذكورة بعد التقرير وأخذ ما يستحقه من معلوم الوظيفة حال غيبته أم لا وهل للناظر الخاص إبطال ما قرره الناظر العام في غيبته الطويلة أو بجنحة شرعية وما قدر الغيبة الطويلة فإن قلتم مرجعها إلى العرف فإذا كان العرف شهراً مثلاً فهذا بالوظيفة بعدم القراءة أو العمل أو السكنى من غير استنابة عنه فيها في هذه المدة فما الحكم في ذلك وإذا استناب عنه حال غيبته الطويلة أو القصيرة بعذر أو غيره هل يستحق النائب الاستحقاق كملاً أو ما شرطه له المستنيب أو يستحقه المستنيب وليس للنائب شيء أو ليس لهما شيء وإذا لم يأذن الواقف في الاستنابة مطلقاً هل لصاحب الوظيفة الاستنابة بعذر وبغير عذر أم لا وإذا تعذر معرفة شرط الواقف أو العرف في زمنه ما الحكم في ذلك هل تعتبر السكنى في الخلوة ليلاً ونهاراً مع الملازمة أو ليلاً فقط أو نهاراً أو التردد فيها أي وقت أراد من ليل أو نهار وهل يكفي أيضاً وضع أمتعته فيها وغلق بابها من غير تردد إلا في النادر وإذا قلتم نعم في شيء من ذلك هل يستحق معيره الوظيفة أم لا وهل لمالك المنفعة في الخلوة إعارتها في حال غيبته الطويلة أو القصيرة ويستحق معلومها دون المستعير إذا قلتم للمعير أن يعير وهل يسوغ هذا الإِسقاط عن الوظيفة بغير نزول عنها أم لا وهل للناظر منع صاحب الوظيفة من إسقاطها للغير إذا قلتم به وله التقرير بذلك للغير أوضحوا لنا ذلك مفصلاً ومرتباً. فأجاب: بقوله إذا أسقط ذو وظيفة حقه منها وهو رشيد سقط ومن غاب عن وظيفته بقصد مفارقة بلدها وتوطن غيرها بطل حقه منها بذلك(4/231)
وكذا إن لم يقصد ذلك لكن طالت غيبته عرفاً بغير عذر فيقرر الناظر في هذه الصور كلها غيره ومن قرره استحق وإن عاد الغائب لبطلان حقه فلا يعود إلا بتقرير شرعي وإذا غاب الناظر الخاص ولا نائب له فالنظر للعام فيمضي ما فعله مما لا مخالفة فيه لشرط الواقف والغيبة المسقطة لحق ذي الوظيفة المدار فيها على الطويلة عرفاً فإن كانت قصيرة أناب الناظر عنه من يباشر وأعطاه المعلوم حيث لا مخالفة في ذلك لشرط الواقف وأفتى النووي رحمه الله تعالى ورضي عنه بأن من استناب لعذر لا يعد بسببه مقصراً تكون الجامكية للمستنيب وأما النائب فإن ذكر له جعلا استحقه وإلا فلا شيء له لأنه متبرع وإن استناب على صفة يعد معها مقصراً لم يستحق المستنيب شيئاً من الجامكية وأما النائب فإن أذن له الناظر فيه استحق الجامكية وإلا فلا يستحقها وإذا تعذرت معرفة شرط الواقف والعرف المطرد في زمنه رجع إلى عادة النظار المطردة كما قاله النووي وغيره قال: فإن شك في شيء سن الاحتياط وقضية كلامه أنه إذا لم تكن له عادة أو اختلفت رجع لاجتهاد الناظر وقضية كلامه أيضاً أن الناظر متى أسكن شخصاً أمضى ما لم تتحقق مخالفته لشرط الواقف وبهذا علم الجواب عن قول السائل هل تعتبر السكنى الخ. ومتى شرط الواقف سكنى المستحق امتنعت إعارته وإجارته وإلا فلا وإسقاط الحق من الوظيفة مرادف للنزول عنها فينفذ وإن منع منه الناظر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: بما لفظه عزل ناظر وقف بشرط الواقف نفسه فهل ينعزل. فأجاب: بقوله الذي رجحه السبكي وقال إنه لم يرَ فيه خلافاً أنه لا ينعزل لكنه لا يجب عليه النظر بل يرفع الأمر لقاضِ أو للواقف إن كان حياً وقلنا له ذلك ليقيم غيره مقامه وحمل كلام ابن الصلاح المقتضي لانعزاله على ما إذا صدر منه ذلك قبل القبول فيكون رداً ثم اختار خلافه في هذه الحالة أيضاً ورد على من أفتى بانعزاله ولو قبل الرد.(4/232)
وسئل: بما لفظه قال في الروضة: ومما يتفرع على الضعيف أنه لا يستحق غلة مدة الحمل أنه لو كان في الموقوف نخلة فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل لا يكون له من تلك الثمرة شيء كذا قطع به الفوراني و البغوي وأطلقاه وقال الدارمي في الثمرة التي أطلعت ولم تؤبر قولان هل لها حكم المؤبرة فتكون للأول أو لا فتكون للثاني قال وهذان القولان يجريان هنا فما المعتمد في ذلك. فأجاب: بقوله نقل السبكي في شرح المنهاج عن القاضي أن الثمرة إذا برزت قبل انفصال الحمل وقبل موت البطن الأول لم يكن لمن حدث ولا للبطن الثاني منها شيء ونقل عنه أنه أفتى أيضاً في بستان وقف على رجل ثم على بطن آخر فمات الموقوف عليه بعد خروج الثمرة وعليه دين هل يتعلق الغرماء بالثمرة بأن ثمرة غير النخل للميت تقضى منها ديونه وكذا ثمرة النخل إن مات بعد التأبير وإلا فوجهان وكذا إذا ترك جارية حاملاً أو شاة ماخضاً فولدت بعد الموت قال ابن الرفعة أي وقلنا ولدها للموقوف عليه هل يقضي حق الغرماء من الولد أو يكون للبطن الثاني فيه وجهان بناءً على أن الحمل هل له قسط من الثمن قال ابن الرفعة : والذي يتجه القطع به ما اقتضاه إطلاق الجمهور وقضية إجراء الخلاف في ثمرة النخل أن نظر فيما ألحقناه بها في التأبير وعدمه والحمل يترتب على الثمرة وأولى أن يكون للبطن الثاني لأن الثمرة يمكن فصلها في الحال ولا كذلك الحمل ثم قال السبكي : وهذا الفرع ينبغي الاعتناء به فإن البلوى تعم به والكلام فيه لا يختص بالتفريع على عدم استحقاق مدة الحمل بل على الوجه الآخر إذا خرجت الثمرة قبل انفصال الحمل بأقل من ستة أشهر ولا يختص أيضاً بوقف الترتيب بل يكون فيه النزاع بين البطن الثاني وورثة البطن الأول ويكون في وقف التشريك بين الولد الحادث وبقية الذين يشاركهم في الوقف هل يختصون بالثمرة أم يشاركونه فيها والذي اقتضاه نظري فيه موافقة الجمهور في أن المعتبر وجود الثمرة لا تأبيرها لأنها إذا وجدت(4/233)
كانت ملك من هو موجود من أهل الوقف لم تنتقل عنه ويبعد أن يقال بأن الثمرة حكمها حكم الرقبة في الملك حتى يتناولها والتأبير وإن كان اعتبره الشرع فلان بوجوده تصير الثمرة ظاهرة كعين أخرى وقبلها نقله المالك لها تبعاً للرقبة فليس مما نحن فيه في شيء ثم قال: وهذا كله في الوقف على الأولاد والفقراء ونحوهم، مما ليس على عمل ولا شرط الواقف فيه صرف مسانهة أو مشاهرة أو مياومة أما ما كان موقوفاً على عمل كأوقاف المدارس والوقف على الأولاد ونحوهم. إذا شرط لواقف تقسيطه على المدة وقد تكون تلك الأرض لا يأتي مغلها إلا مرة في سنة والبستان لا يأتي ثمره إلا كذلك وأجرة المنافع تختلف ففي بعض السنة كثيرة وبعضها قليلة فالذي ينبغي في مثل هذه الأشياء عند وجود المغل والثمرة ونحوها. أن تقسط على المدة ويعطى منه لورثة من مات عن المدة التي باشرها وإن كانت الغلة ما وجدت إلا بعده وهكذا الإِقطاعات يقسط مغل السنة عليها ويعطى لكل واحد قسطه ولو شرط الواقف خلاف هذا كله اتبع شرطه ومما وقع في المحاكمات في هذه الأيام واقف وقف على نفسه ثم على غيره وحكم به من يراه وكان في الموقوف كرم فمات الواقف وهو حصرم وأراد من بعده أخذ الحصرم وحرمان ورثة الواقف عنه فمنعته والواقف في هذه الصورة أولى بالاستحقاق من البطن الأول إذا كان غير الواقف أ هـ .
وإنما سقته بطوله لاشتماله على تحقيق وفوائد يتعين إمعان النظر فيها والاعتناء بها فإنها عزيزة النقل إلا في هذا الكتاب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/234)
وسئل: عمن وقف ضيعة على أهل العلم فصرف إليهم وليسوا معينين فخرجت مستحقة فقرار الضمان على من. فأجاب: بقوله أفتى الغزالي بأنه على الواقف لتغريره فإن عجز عنه فكل من سكن الموضع أو انتفع به من العلماء وغيرهم غرموا الأجرة فإن أجر الناظر وأخذ الأجرة وسلمها إلى العلماء فرجوع مستحق الملك على المستأجر لا على الناظر والعلماء ورجوع المستأجر بما سلمه على من سلم إليه أو وصلت دراهمه إليه فأنها لم تخرج عن ملكه لفساد الإِجارة وقرار غرم الدراهم على من تلفت في يده.
وسئل: عما إذا استغنى مسجد عن العمارة وبقربه مسجد آخر يحتاج إليها فهل يجوز للناظر أن يقترض لها من مال المسجد الغني عنها. فأجاب: بقوله ذكروا أن إقراض مال الوقف كمال الطفل وذكروا أنه يجوز للقاضي أي ومن في معناه إقراض مال الطفل وإن لم يكن ضرورة بخلاف نحو الأب فلا يجوز له ذلك إلا لضرورة وقضية ذلك أن مال المسجد كمال الطفل فالاقتراض لعمارة المسجد جائزة لذلك كالاقتراض لعمارة الوقف بل أولى وقد ذكر الرافعي ما مقتضاه أنه يجوز للإِمام أي أو القاضي أن يقترض لعمارة الوقف وصرح بأنه لا يجوز ذلك للناظر بغير إذن الإِمام أي ومن في معناه وأفتى ابن الصلاح بأنه يجوز ذلك للناظر وإن لم يؤذن له فيه لأن النظر ولاية تقبل مثل هذا وعليه فيلحق به الصورة المسؤول عنها إلحاقاً لعمارة المسجد بإصلاح ضياع الطفل.
وسئل: بما لفظه خوابي ونحوها. عند مسجد وبها مياه ولا يدري على أي جهة وقفت فما الحكم. فأجاب: بقوله يتبع فيها العادة المستمرة من غير نكير أخذاً من قاعدة أن العادة محكمة.
وسئل: هل يصح وقف نحو مصحف على عامي أو أعمى ليقرأ فيه. فأجاب: بقوله الظاهر الصحة في الأول لإِمكان تعلمه وقراءته فيه بخلاف الثاني.(4/235)
وسئل: عن وقف الورق الأبيض على من يكتب فيه هل يصح. فأجاب: بقوله ظاهر كلامهم أو صريحه الصحة حيث كان المكتوب فيه مباحاً وقول بعضهم لا يصح لأن شرط الموقوف أن يكون الانتفاع به بغير إتلافه والكتابة فيه إتلاف له فيه نظر بل لا وجه له.
وسئل: عن النخل الموقوف على معين إذا حدث له أولاد ما حكمها. فأجاب: بقوله هي كالأصل على ما أفتى به جمع وأفتى آخرون بأنها للموقوف عليه لأنها من الفوائد الحادثة بعد الثمرة فتلحق بالثمرة ونحوها.
وسئل: عمن وقف هذا على زيد وعمرو وبنيهما من اتصف منهم بالفقه فمات زيد عن أولاد غير فقهاء فهل يستحق عمرو الكل إلى أن يتفقهوا. فأجاب: بقوله نعم يستحق الكل إلى أن يتفقهوا كلهم أو بعضهم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عمن وقف داراً ثم أقر بها لآخر وصدقه الموقوف عليه فهل يبطل الوقف أو حق الموقوف عليه. فأجاب: بقوله لا يبطل الوقف بل يسقط حق الموقوف عليه من الغلة وتصرف لمن بعده وظاهر أنه لا فرق بين أن يعود الموقوف عليه ويصدق بصحة الوقف أو لا وهو ظاهر.
وسئل: عمن وقف داره بعد موته على أولاده فما حكمه. فأجاب: بقوله هو وصية يجوز الرجوع فيها.(4/236)
وسئل: عمن وقف على سبيل البر ذكروا أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف فهل يختص بالفقراء كما إذا انقرض الموقوف عليه أم يفرق. فأجاب: بقوله يصرف لأَقاربه ثم لأهل الزكاة كما قاله الرافعي قيل وظاهر كلامهم دخول القريب البعيد والغني في ذلك وفارق مسئلة الانقراض بأن المصرف المعين من الواقف فيها تعذر فاحتيج لمرجح وأقواه القرابة لأن الصدقة على الأقارب أفضل ولما كانت القرابة مشتملة على جهات راعينا أفضلها وهي من جهة الفقر والقرب فإن كان واحد غنياً والآخر فقيراً رجحنا بالفقر لأن الصدقة عليه أفضل وأما في مسئلتنا فالواقف نص على الجهة المعبر عنها بسبيل البر وقد عين الشرع أنها الأقارب فلا نظر إلى المرجحات لشمول لفظ الواقف لكل فدل على أن مراده صلة الرحم فشموله للفقير والغني والقريب والأقرب واضح من لفظه وما في تفقيه الريمي مما يقتضي استواء مسئلة الانقراض ومسئلة الوقف على القرابة في الاختصاص بما مر من تصرفه.
وسئل: عما إذا أشغرت وظيفة نحو التدريس مدة فهل يستحق معلومها من قرر بعد في الوظيفة أو ما يفعل به. فأجاب: بقوله بحث بعض اليمنيين أنه يصرف إلى من تصدى بعد أخذاً من قولهم في الحاصل من ريع وقف المسجد أنه إذا خرب يصرف لعمارة مسجد آخر وفيه حكماً وأخذاً نظر والقياس صرفه لمصالح المسجد الذي فيه تلك الوظيفة فإن كانت في غير مسجد فمحل نظر وقياس مسئلة المسجد الذي خرب أنه يصرف لبقية مدرسي البلد وإلا فمدرس أقرب البلاد إليهم.
وسئل: عمن وقف أرضاً على معين فهل يجوز غرسها. فأجاب: بقوله حكى ابن الملقن في ذلك وجهين قال أحدهما: نعم وإليه يشير كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وظاهره أنه مائل إليه ولو قيل المعتبر العادة المطردة في تلك الأرض في زمن الواقف فلا يجوز تغيير الأرض عما كانت معتادة له حينئذٍ لم يبعد.(4/237)
وسئل: عمن قال في مرض موته اشهدوا أن مالي وقف على أولادي هل يحمل على الإِقرار أو الإِنشاء فيحتاج إلى إجازة. فأجاب: بقوله أفتى ابن الصلاح ك الغزالي أن قوله اشهدوا على أن لفلان عليّ أو في ذمتي كذا ليس إقراراً بل صيغة أمر لا صيغة إخبار ولا يجوز للشهود الإِشهاد عليه ومثله عليّ الدبيلي بما إذا قال اكتبوا لزيد عليّ ألف درهم قال: لأنه لم يقر بل أمر بالكتابة ويؤخذ من ذلك أن ما في السؤال ليس بإقرار ولا إنشاء إلا أن يفرق بأنه هنا يحتمل الإِنشاء الأقوى من الإخبار فحمل عليه بخلافه فيما مر فإنه لا يحتمل الإِنشاء ويؤيده ما في فتاوى الغزالي أيضاً من أنه لو قال اشهدوا على أني وقفت جميع أملاكي وذكر مصرفها ولم يحد منها شيئاً صار الجميع وقفاً وإن جهل الشهود الحدود ولا يعارض هذا ما مر عنه لأنه هنا أمر بالشهادة على إنشائه للوقف وقد أنشأه بقوله وقفت وهناك أمر بها على إخباره ولم يخبر ويشهد له قول الدبيلي السابق لأنه لم يقر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/238)
وسئل: عمن وقف على المسجد وعرف بلده أن الوقف يكون على الوارد وإذا وقف على الوارد هل يدخل فيه من كان غائباً من أهل البلد ثم قدم وإذا طلب الوارد عشاءه ليشتري به شيئاً ويصبر بلا عشاء يجاب وإذا اعتيد في تلك أن الضيافة يوم وليلة هل يجوز ثلاثة أيام وهل يشمل الوارد الغني والفقير ومن يريد الإِقامة أكثر من ثلاث ومن ضيف ثم ذهب لبلد قريبة ثم رجع. فأجاب: بقوله إذا وقف على مسجد معين وعلم مراد الواقف من ذلك كالوارد حمل عليه فإن لم يعلم مراده وأطلق فهو كالتنصيص على العمارة ذكره البغوي وإذا لم يعين المسجد بطل الوقف كما في أدب القضاء للغزي وإن وجد وقف على مسجد ولم يعلم حاله سلك به ما هو عليه ويتبع فيه وفي جميع ما ذكر في السؤال العرف المطرد العام المعلوم فيما تقدم من الزمان من الوقف إلى الآن من غير نكير إذ هو بمنزلة المشروط فينزل الوقف عليه كما قاله ابن عبد السلام وغيره. وفي فتاوى الأصبحي أرض موقوفة على أن تكون غلتها طعاماً للواردين إلى مسجد كذا فقدم غريبان لقراءة القرآن فيه فإن أراد بالواردين الأضياف لم يصرف إليهم شيء بعد ثلاثة أيام أو من لم يقم فهما مقيمان فلا يستحقان شيئاً أو من لم يتوطن فهما غير متوطنين فيستحقان وعلى الجملة فالمسئلة محتملة وتحكيم العرف لائق بالحال أ هـ .
وهو موافق لما مر وأفتى بعضهم في الوقف على وارد المسجد بأن الذي ينبغي أن أهل ذلك المسجد ومن تلزمه الجمعة بسماع ندائه لا يستحقون شيئاً في هذا الوقف وإن شملهم اسم الورود لأنهم منسوبون إلى أهل ذلك المسجد والتقييد بالوارد إليه يقتضي غير أهله عرفا بل لو قيل بمسافة القصر لم يبعد كما في حاضري المسجد الحرام ثم قال: والأقرب أن الوارد يعطى ما دام في حكم السفر أي أربعة أيام ونحوها في ورود واحد.(4/239)
وسئل: هل لولي الصدقة الأكل مع الضيف أو يخلط عشاءه بعشائه تأنيساً وما حد المدة التي يعطى الضيف من الصدقة الموقوفة عليه. فأجاب: بقوله ولي الصدقة كولي الطفل فيما ذكروه فله أن يخلط عشاءه مع عشائه وحد المدة ثلاثة أيام.
وسئل: عمن تصدق بثمر نخله على عشاء ليلة الجمعة فهل يصرفه الناظر في ليلة أو ليالي. فأجاب: بقوله الأمر راجع إلى نظره فما رآه مصلحة وجب عليه فعله.
وسئل: هل قوله صدقة بر كقوله صدقة محرمة فيكون صريحاً في الوقف. فأجاب: بقوله نعم ولفظ الصدقة إنما يكون كناية في الجهة العامة وتمليكاً في المعين إذا تجرد عن القرائن اللفظية كما قاله الرافعي وحينئذٍ يكون الموقوف وقفاً على جهة البر وهي أقارب الواقف.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عما إذا مات الناظر ولم يكن في تلك الناحية حاكم فلمن يكون النظر. فأجاب: بقوله يكون للعلماء والصلحاء بذلك المكان.
وسئل: بما لفظه استفيض في أرض أنها وقف لمسجد في بلد كذا وفي ذلك البلد مساجد فما يفعل في غلتها. فأجاب: بقوله ذكروا في الوقف الذي عمى مصرفه خلافاً مشهوراً فيحتمل أن هذا مثله ويحتمل صرفه إلى ما يراه الحاكم من تلك المساجد وبه أفتى بعض المتأخرين.
وسئل: عما إذا وقف بعد موته على من يقرأ على قبره كل يوم جزءاً فهل يشترط حفظه لجميع القرآن وقراءته على الترتيب مطلقاً أو يفصل. فأجاب: بقوله لا يشترط ذلك غيباً ولا نظراً ولا قراءته على الترتيب بل لو لزم قراءة جزء واحد دائماً جاز كما أفتى بجميع ذلك جمع وأفتى البرهان المراغي فيمن شرط عليهم قراءة كل يوم فقرؤوا نحو يس وغيرها. بأنهم إن قرؤوا قدر جزء أجزأهم ومما ينبغي أن يتنبه له أن من وقف على من يقرأ على قبره كان آتياً بوقف منقطع الأول وهو باطل فإن قال وقفت كذا بعد موتي على من يقرأ عليّ فهو وصية.(4/240)
وسئل: عن مال موقوف لم يدر على أي جهة لكن اشتهر واستفيض أنه موقوف على كذا وجرت نظاره على ذلك من قديم الزمان فهل يجب على الناظر المتأخر اتباعهم في ذلك. فأجاب: بقوله يجب صرفه على ما جرت به عادة الأولين فيه ويجري على الحال المعهود من أهل ذلك المحل فيه من غير نكير من عمارة وغيرها ويتبع في جميع ذلك العرف المطرد العام المعلوم فيما تقدم إلى الآن من غير نكير فإن العرف المطرد بمنزلة المشروط كما قاله العز بن عبد السلام وغيره ويحمل ذلك المتعارف على الجواز والصحة وكان المال الموقوف لذلك المعهود هذا إن علم أن صرف النظار من ذلك المال وإلا فلا عبرة بظن ذلك.
وسئل: عمن وقف على جهات وذكر لبعضها مقداراً معيناً من كل شهر وما فضل من الريع عما قدره يكون للجهات الفلانية فجاء في سنة الريع المقدر ثم كثر في الثانية فهل يكمل للمقدر ويعطي الفاضل للمشروط لهم الباقي. فأجاب: بقوله المنقول عن البلقيني أن أصحاب المقدر يكمل لهم كأصحاب الفروض في الميراث ومن له الباقي كالعصبة إلا أن يقول الواقف وما فضل عن كل سنة ونحوه. مما يدل على اختصاص الشرط بكل سنة وهذا يقتضي في فرع ابن الحداد أن يكمل للموصى له من ريع الشهر الثاني ولم يتعرض له السراج ولكن الفرق أن الباقي من كل شهر مستحق للوارث تبعاً للرقبة فلا يزاحمه فيه الموصى له بخلاف الوقف فإن الريع مستحق لأَصحابه بجهة الوقف فقدم فيه المقدر مطلقاً نعم لو كمل المقدر في سنة وأعطينا ما فضل لمن بقي ثم نقص في السنة الأخرى هل يسترد منه فيه وقفة وفي فرع كل سنة ما يشهد للاسترداد ولو أفتى بالمنع لم يبعد أ هـ .
وفرع ابن الحداد هو ما إذا أوصى الرجل بدينار كل شهر من غلة داره وبعده للفقراء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/241)
وسئل: عمن أوصى بوقف نخله على فلان وذريته ما تناسلوا فمات الموصى له قبل الوقف عن ورثة فهل يصح وعلى من توقف بعد موت الموصي وهل المراد الذرية عند الموت أو الوقف. فأجاب: بقوله الوصية صحيحة قال بعضهم: والظاهر أنه يوقف على من كان من الذرية موجوداً عند الوصية منفصلاً عند موت الموصي ويوزع النخل عليهم وعلى أصلهم وترجع حصته لورثة الموصي إرثاً ولا يتعدى الوقف إلى سائر ذريته ولا ذرية الموقوف عليهم فيما يظهر أ هـ .
وفيه تأمل ثم رأيت الزركشي بحث فيما إذا أوصى أن يوقف على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات زيد قبل الواقف أن حصته لا ترجع إلى الورثة ولا تكون لعمرو بل توقف على الفقراء قيل ولا منافاة لاتفاق الكلامين على بطلان الوقف على الميت بالنسبة إلى حصته وأنه لا يكون لشريكه فيرجع للورثة لتعذر صرفه للموجودين من الذرية كما تعذر صرفه في مسئلة الزركشي إلى عمرو ولا سبيل إلى الوقف على من سيحدث من الذرية لأنه عليهم إنما يصح بالتبعية وقد تعذر الوقف على المتبوع وهو الأب وهم في لفظ الموصي تابعون له لا للموجودين من الذرية وفي مسئلة الزركشي لما تعذر الوقف على زيد ووجد ثم من يصح الوقف عليه وهم الفقراء في لفظ الموصي فإذا تعذر الوقف على البطن الأوّل لم يتعذر على البطن الثاني المنصوص عليه في الوصية لأن الميسور لا يسقط بالمعسور والوقف في مسئلة الزركشي على بطنين وهنا وقف تشريك فهو كبطن واحدة أ هـ .
ونقل الجوجري عن الخصاف وغيره ما قد ينازع في جميع ما ذكر فانظره.(4/242)
وسئل: عما إذا أشغرت وظيفة نحو التدريس أو الإِمامة فهل تصرف غلتها لنظيره في أقرب مكان. فأجاب: بقوله سئل الأصبحي عن أرض وقفت على أن تصرف غلتها لمعلم القرآن بمحل كذا فلم يوجد من يتعلم فأجاب بأنه لا يستحق شيئاً إلا بالتعليم ولا يجوز نقله لقرية أخرى على رأي المتقدمين ورأي المتأخرين جواز ذلك أ هـ .
قال غيره والفتوى والعمل على الثاني وظاهره أنه لا فرق بين الأقرب والأبعد لكن الأقرب أولى كما ذكروه أ هـ .
وسئل: هل يصرف لنحو المدرس جميع غلة السنة أولها أو لا يدفع له إلا ما باشره كما إذا أجر الناظر الوقف مدة طويلة فإنه لا يدفع الغلة لأهل الوقف دفعة بل كلما مضت مدة دفع إليهم بقدرها. فأجاب: بقوله إن علم شرط الواقف في ذلك فواضح وإلا صرفت الغلة على ما جرت به عادة الأولين المطردة المعلومة من غير نكير فإن كان الوقف حادثاً اعتبرت العادة المقارنة له زمن الواقف فإنها حينئذٍ بمنزلة شرطه كما قاله العز بن عبد السلام فينزل وقفه عليها فإن لم تطرد العادة أو جهلت رجع في ذلك لرأي الناظر واجتهاده ويفرق بينها وبين مسئلة الإِجارة بأن الأجرة ثم معرض عقدها الموجب لها بانهدام الدار وتعيب الأرض أو إتلافها فاحتيط لحق المستأجر ولم يدفع للمستحقين بخلافه هنا فإن الغلة قد حصلت وأمن عليها من تطرق استحقاق الغير لأجلها ففوّض أمرها للناظر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/243)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه في أدب القضاء للغزي أنه لو وقف على ولده وله حمل أنه لا يستحق والقياس استحقاق الأخ كيف ذلك. فأجاب: بقوله صورة المسئلة أنه وقف على ولده ثم على ولد ولده ثم على أخي الواقف فمات ولده وله حمل لم يستحق الحمل لأنه لا يسمى ولداً وقال السبكي القياس استحقاق الأخ إلى أن ينفصل الحمل قال الغزي والمتبادر إلى الذهن أن الريع يوقف إلى الانفصال ويجاب بأنه إنما يأخذ عند كونه يسمى ولداً ولا يسماه إلا بعد انفصاله فلا فائدة للوقف لأنه إن بان حياً لم يستحق إلا من حين الانفصال وإن بان ميتاً فالاستحقاق للأخ فلما كان الاستحقاق له على كل تقدير وجب الصرف إليه مدة الحمل فاتضح بذلك كلام الأصحاب في كون الحمل لا يستحق شيئاً وبحث السبكي من الصرف للأخ ورد ما بحثه الغزي ولبعض اليمنيين هنا أوهام يجب تجنبها.
وسئل: عمن وقف أرضاً على من رزقها من المسلمين فهل يجب الصرف لثلاثة أو لا وعليه فهل للناظر أن يخص نفسه. فأجاب: بقوله الظاهر أنه لا يجب الصرف لثلاثة لأن لفظ من يشمل القليل والكثير ولا يختص بفقراء المسلمين لشمول لفظ الواقف للأغنياء وليس للناظر الخاص ولا للعام أن يختص بها بل النظر في التخصيص إلى الحاكم الذي فوقه ويشهد لذلك قول الروضة لو قال ضع ثلثي حيث رأيت أو فيما أراك الله لم يكن له وضعه في نفسه.(4/244)
وسئل: عمن قال فرق ثلثي فهل له أن يعطي نفسه وإن ذكر صفة تشمله. فأجاب: بقوله لا يجوز كما اقتضاه كلام الروضة وأصلها أواخر الوكالة حيث قال: ولو قال فرق ثلثي على الفقراء وإن شئت أن تضعه في نفسك فافعل فعلى الخلاف فيمن أذن له في البيع لنفسه أ هـ .
وجزم بما اقتضاه كلامهما هذا من المنع بعض مختصريها وبه ينظر في قول الزركشي ما اقتضاه كلامهما من المنع مردود نقلاً وتوجيهاً أما النقل فقد نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على الجواز كما نقله الروياني ورجحه الجرجاني وأما التوجيه ف الرافعي وجه المنع ثم أي في البيع لنفسه بوجهين أحدهما تضاد الغرضين وهو منتف هنا بل فيه وفاء بمقصود الآذن والثاني اتحاد الموجب والقابل وهو منتف أيضاً لأنه هناك توكيل في صيغة عقد فيؤدي إلى الاتحاد وهو منتف هنا أ هـ .
والذي في التوسط عن الصميري لو قال ضع ثلثي في نفسك جاز خلافاً للجرجاني وعن الشيخ أبي حامد لو قال فرق هذه الدراهم للفقراء والمأمور فقير هل له الأخذ منها وجهان أحدهما لا يجوز اعتباراً باللفظ والثاني يجوز اعتباراً بالمعنى وهو الفقر قال أبو سعيد الهروي إذا قال الموصي ضع ثلثي حيث شئت قال الشافعي لا يضعه في نفسه وابنه وزوجته ولا ورثة الموصي ولا فيما لا مصلحة فيه للميت فإن وضعه في ورثة الموصي لم يصح الاختيار ولا يختار ثانياً لأنه انعزل ويحتمل أنه كوكيل باع بيعاً فاسداً أ هـ .
كلام الأذرعي ويؤيد احتماله الأخير المقتضي لصحة اختيار الوصي ثانياً ما في الروضة آخر خيار البيع مما يدل على جواز التصرف للوصي ثانياً إذا لم يفسق بالتصرف الأول أي بأن كان الوصي هنا جاهلاً بصرفه لورثة الموصي ونقل الغزي في فتاويه عن الدارمي أنه لو قال: فرق ثلثي لم يعطِ نفسه ولا من لا تقبل له شهادته ولا من يخافه أو يستصلحه وقال القاضي أبو الطيب : له الصرف لأبويه وأولاده.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/245)
وسئل: عما إذا شرط الواقف أن يفرق كذا يوم عاشوراء فهل يلزم وإذا تعذر التفريق فيه يؤخر لعاشوراء الثاني أو لا. فأجاب: بقوله يجب أن يفرق يوم عاشوراء فإن اتفق تأخيره عنه فرق عند الإِمكان ولا يؤخر إلى عاشوراء الثاني نعم لو شرط كذا لصوّام رمضان فأخر عنه وجب تأخيره إلى رمضان الثاني كما هو ظاهر بخلاف ما لو قال يصرف في رمضان.
وسئل: عمن وقف أرضه أو أوصى بها لإِطعام الضيوف فهل يتعين صرف غلتها ويكفي صرف القمح للضيوف حباً أو لا. فأجاب: بقوله إذا تجرد لفظه عن القرائن اللفظية المقتضية لصرف الأرض أو غلتها اتبع عرف زمن الواقف المطرد وإعطاء الحب ليس بضيافة فلا يجزىء عنها.
وسئل: عمن وقف أرضاً ليصرف من غلتها كل شهر لفلان وللفقراء كذا فهل يصح الوقف وما مصرف الفاضل. فأجاب: بقوله الوقف صحيح ويصرف الفاضل إلى أقرب الناس إلى الواقف على كلام فيه.(4/246)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال أرضي الفلانية صدقة على من يقرأ على قبري كل جمعة يس فهل هو وقف أو وصية وهل تجزىء القراءة ليلاً ونهاراً وتعيين القراءة على القبر وإن جهل فما يفعل فيه. فأجاب: بقوله لفظ التصدق صريح في التمليك إذا كان على معين وإلا فهو كناية في الوقف فإن أراده به فهو باطل لأنه منقطع الأول نعم إن قال هي صدقة بعد موتي الخ. صح وكان وصية وحيث صح الوقف أو الوصية أجزأت القراءة ليلاً ونهاراً وتتعين على القبر وإن لم يعتد في تلك الناحية وفي فتاوى ابن الصلاح ما يصرح بأنه إذا جهل القبر بطل الوقف قال: لأنه مخصوص بجهة خاصة فإذا تعذرت لغا أي كما لو قال وقفت هذا ولم يذكر جهة وقضية كلام الأصبحي أخذاً من كلام النهاية أنه إذا لم يعين للقراءة مدة معلومة لا يصح الوقف ولا الوصية وفيه وقفة وكفى بقوله كل جمعة تعييناً في الجملة بل ينبغي في وقفت هذا بعد موتي على من يقرأ على قبري ولم يزد على ذلك أنه إذا قرأ على قبره شيئاً من القرآن استحق الموصى به ولم يلزمه بذلك قراءة على ذلك القبر عملاً بمدلول ذلك اللفظ نعم إن أطرد عرف ثم بان المراد من ذلك اللفظ مدة معلومة وقدر معلوم وجب الحمل عليه أخذاً مما ذكروه في الوقف الحقيقي لأن عرف الواقف المطرد في زمنه بمنزلة شرطه.
وسئل: عمن وقف أرضاً ليصرف من غلتها للمعلم ببلد كذا شيء معلوم فعلم سنة وامتنع ثم علم غيره ولم يحصل في سنته إلا دون ما شرط له فهل يكمل السنة الثانية وهل لو مات أثناء السنة يستحق بقسطه. فأجاب: بقوله لا يكمل ويستحق بقسطه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/247)
وسئل: هل تجوز الاستنابة في نحو التدريس وإذا عطله أياماً في الشهر تحسب عليه من جامكيته وهل يعمل بالعادة في الأشهر الثلاثة. فأجاب: بقوله تجوز الاستنابة لعذر ولا يجب أن يكون النائب مثل المستنيب خلافاً لبعضهم ومن عطل ما ذكر قطع من جامكيته بنسبته كما أفهمه كلام النووي في فتاويه وبه صرح ابن الصلاح وما نقل عن ابن عبد السلام مما يخالف ذلك ضعيف وترك التدريس في الأشهر الثلاثة يعمل فيه بالعادة المطردة في زمن الواقف فإن جهلت لم تجز البطالة ولا في شهر رمضان خلافاً لمن استثناه.
وسئل: عمن وقف على أولاده وليس له إلا ولد واحد فهل يصح الوقف والوصية ويصرف إليه الثلث أو الجميع. فأجاب: بقوله ذكر الجيلي أنه لو أوصى لأَقارب زيد ولم يكن له إلا قريب أن فيه وجهين أصحهما يصرف له الجميع لأن القصد الصرف إلى جهة القرابة فقياسه أن يصرف في مسئلتنا إليه الكل فإن حدث أحد من الأولاد شاركه.
وسئل: عمن قال وقفت هذا لله فهل يصح وما مصرفه. فأجاب: بقوله قياس قولهم لو قال وقفته لسبيل الله صح أنه يصح الوقف هنا لكن المنقول عدم صحة الوقف في الوقف لله ويفرق بأن سبيل الله مصرف معلوم يحمل الوقف عليه ولله فقط لا يفهم منه مصرف معلوم فبطل وإنما صحت الوصية لله لأن الغالب فيها أنها تصرف للفقراء فحملت عليهم نظراً لذلك الغالب بخلافه وقولهم لو قال أوصيت لله تعالى صح وصرف إلى الفقراء لأنه يصرف هنا للفقراء.(4/248)
وسئل: عمن وقف وقفاً على أولاده وأولاد أولاده وهكذا وجعل النظر لنفسه ثم زوجته ثم أولاده فهل ينتقل النظر بعد الأولاد لأولادهم أو للحاكم. فأجاب: بقوله ينبغي بناء ذلك على أن ولد الولد هل يطلق عليه حقيقة أنه ولد وفيه خلاف فإن قلنا بأنه يطلق عليه حقيقة فالنظر لأولاد الأولاد وإلا فالنظر للحاكم ويؤيد ترجيحهم الثاني قولهم لا تدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد وقول الأزرقي عن العبادي لو قال بنو آدم كلهم أحرار لم تعتق عبيده بخلاف عبيد الدنيا وعلله بأن إطلاق الابن على ابن الابن مجاز فلم تدخل عبيده في كلامه الأول بخلاف الثاني إذا تقرر ذلك فالوجه أن النظر للحاكم لا إلى أولاد الأولاد.
وسئل: عن نقض المسجد وتوسيعه هل يجوز. فأجاب: بقوله جوّزه ابن عجيل اليمني ومنعه الأصبحي وقال بعض شراح الوسيط يجوز بشرط أن تدعو الحاجة إليه ويراه الإِمام أو من يقوم مقامه فقد فعل في مسجد مكة والمدينة مراراً في زمن العلماء والمجتهدين ولم ينكر على ذلك أحد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عما إذا وجدنا صورة مسجد ولم ندر هل وقف مسجداً أم لا فهل تثبت له أحكام المساجد. فأجاب: بقوله الظاهر أنه يثبت له ذلك عملاً بظاهر الحال ثم رأيت بعض المتأخرين أفتى بذلك وفي فتاوى ابن الصلاح في باب الوقف ما هو صريح في ذلك وجرى عليه السبكي عملاً بالقرينة هذا إن لم تستفض تسمية الناس له مسجداً وإلا حكم بكونه مسجداً بلا توقف والكلام في غير مساجد منى غير مسجد الخيف فإنه لا يمكن وجود مسجد فيها غيره لأنه يمنع بناء مسجد فيها.
وسئل: هل للناظر إقراض غلة الوقف والاقتراض لعمارته. فأجاب: بقوله لا يجوز له إقراض ذلك إلا إن غاب المستحقون وخشي تلف الغلة أو ضياعها فيقرضها لمليء ثقة وله الاقتراض لعمارة الوقف بإذن الحاكم.(4/249)
وسئل: هل يرد الوقف برد الموقوف عليه مطلقاً. فأجاب: بإنما يرتد برده قبل رضاه وقبضه وأما إذا رضي وقبضه فلا يرتد برده لأنه لزم حينئذٍ هذا ما أفهمه كلام المهذب وصرح به في الشامل وفرق بين الوقف والوصية في ذلك وكذا صرح به غير من ذكر.
وسئل: عما إذا وقف شيء على من يقرأ على قبر فلان شيئاً معلوماً من القرآن كل يوم فترك القراءة في بعض الأيام فهل يقضيها ويستحق. فأجاب: بقوله لا يستحق شيئاً من معلوم ذلك اليوم الذي فوّت قراءته سواء أقضاه أم لا.
وسئل: عمن وقف شيئاً وقف ترتيب على أولاده فادعاه آخر وصدقه أهل الطبقة العليا مثلاً فهل يسري تصديقهم على من بعدهم. فأجاب: بقوله لا يسري تصديقهم على من بعدهم بل على أنفسهم فتكون المنفعة للمقر له مدة حياتهم فإذا ماتوا انتقلت للبطن الثانية ولا يقبل قول المقر له عليهم إلا أن أقام بينة تشهد له بملك تلك العين بشرطه.
وسئل: عمن ألحق في مجلس وقفه شروطاً فهل تلزم. فأجاب: بقوله يحتمل لزومها قياساً على ما لو ألحق شروطاً في مجلس البيع ويحتمل إلغاؤها حيث كانت منفصلة عن تلفظه بالوقفية بغير سكتة تنفس وعي وهذا هو الوجه ويفرق بينه وبين البيع بأن البيع يثبت فيه خيار المجلس فجاز فيه إلحاق شروط في ذلك المجلس كإلحاق الإِجازة والفسخ لأنه لم يلزم إلى الآن بخلاف الوقف فإنه يلزم بمجرد فراغ التلفظ به فلا يمكن أن يلحقه شرط.
وسئل: عمن أثبتت بقاء مهرها في ذمة زوجها الميت وتعوّضت أرضه التي لم يخلف غيرها. ثم وقفتها فجاءت أخرى وأثبتت نكاحها منه ومهرها عليه فهل تشارك الأولى في الأرض. فأجاب: بقوله القياس بطلان الوقف في قدر ما يخص الثانية من الأرض لو وزعت في قدر المهرين وأما ما أفتى به الأصبحي من صحة الوقف وبقائه في الجميع ويجب على الأولى الغرم للثانية بقدر حصتها فغير منقاس كما يعلم بتأمل كلامهم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/250)
وسئل: عمن عمر طبقة كانت بمسجد وخربت ثم مات فهل لغيره سكناها بغير إذن ولده وهل يستحق ولده سكناها. فأجاب: بقوله لا يملك الباني إلا الآلة ولا يستحق ولده السكنى بمجرد ذلك وليس لغيره السكنى فيها بغير إذنه لما فيها من الانتفاع بالآلة الباقية على ملكه.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن درس في مكة شغرت وظيفته منه فقرر فيها قاضي مكة لغيبة الناظر بمصر أو الشام فهل يصح تقريره وليس للناظر إذا بلغه ذلك أن يقرر غير من قرره وهل النظر على وظائف الدرس المذكور لقاضي بلد الوظائف إذا غاب الناظر فيقرر فيها كما يزوج مولية الغائب. فأجاب: بقوله الذي أفتى به السراج البلقيني وولده جلال الدين أنه يصح تولية قاضي مكة الوظيفة لمن ذكر وليس للناظر أن يولي غير من ولاه وأن النظر على وظائف الدرس المذكور لقاضي بلد الوظائف المذكورة.
وسئل: عمن قال وقفت نصف كذا على زوجتي والباقي على أولادي ثم عتقائي فإذا انقرض الأولاد وكانت الزوجة عتيقة له فهل تشارك عتقاءه. فأجاب: بقوله نعم تشاركهم لوجود الصفة فيها وفارق ما لو قال وقفت نصفه على زوجتي والباقي على عتقائي فإنها لا تشاركهم حينئذٍ وإن كانت عتيقة لأن العطف يقتضي التغاير فهو نظير ما قالوه فيما لو أوصى لزيد بدينار والباقي للفقراء فإنه لا يشارك الفقراء لما ذكر.
وسئل: بما لفظه من يزوج الجارية الموقوفة على معين أو جهة. فأجاب: بقوله يزوّجها الحاكم من غير إجبار بإذن الموقوف عليه إن كان أهلاً وإلا فعلى الولي رعاية المصلحة في الإِذن وعدمه فإن امتنع الموقوف عليه من الإِذن استقل الحاكم على ما بحثه بعضهم إن اقتضته المصلحة تحصيناً لها وبحث أن مثلها في ذلك الموقوفة على مسجد أو غير معين فيستقل الحاكم بتزويجها.(4/251)
وسئل: هل يجوز تزويج العبد الموقوف على معين. فأجاب: بقوله لا يجوز كما أفتى به الأصبحي وغيره وهو ظاهر إذ الملك فيه لله سبحانه وتعالى وإنما صح تزويج الموقوفة لأنه ليس فيه منافاة لغرض الواقف بوجه بخلاف تزويج العبد فإن منافعه أو أكثرها تصير مستغرقة للزوجة.
وسئل: عما إذا أجر الناظر سنة مثلاً وقبض أجرتها ثم صرفها للمستحقين فمات بعضهم قبل مضي السنة فمن الضامن الناظر أو الميت. فأجاب: بقوله ليس للناظر أن يصرف إلا بقدر ما مضي فإن زاد ضمن الزائد قال بعضهم وليس له الرجوع في تركة المدفوع إليه لتقصيره بالدفع قبل استحقاقه إذ لا عهدة على القابض فيما قبضه والحالة هذه حتى يرجع عليه أ هـ .
وفيه نظر والقياس أنه يرجع لأن القابض أخذ ما لا يستحقه فيده ضامنة له وإن ترتبت على يد الناظر وهي يد ضمان والقرار على القابض والناظر إنما هو طريق فقط.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: هل للموقوف عليه النذر بمنفعة الموقوف مطلقاً أو مدة حياته لآخر. فأجاب: بقوله صرح ابن الرفعة بأن شرط جواز إعارة الموقوف عليه نصيبه أن يكون نظر الوقف إليه وبه يعلم صحة نذره إن كان النظر إليه.
وسئل: عن دار موقوفة بناها الموقوف عليه بآلاته ثم باع بناءه لآخر ثم مات وانتقل الوقف إلى آخر فهل يجبر المشتري على هدم هذا البناء. فأجاب: بقوله ذكر ابن الصلاح في فتاويه فيما لو بنى مستأجر أرض موقوفة فيها ما يقتضي عدم إجبار المشتري هنا بل يبقى بناؤه بأجرة نعم للناظر أن يبذل أرش النقص من ماله لينقض.
وسئل: عما إذا تعطلت البئر والخابية والقنطرة والتدريس ونحوها. فهل ينقل ما وقف عليها. فأجاب: بقوله نعم إذا تعطل ذلك نقلت غلة الموقوف عليها إلى مثلها في جهة أخرى.(4/252)
وسئل: عمن وقف على تحصيل ماء الطهارة في نحو خابية مسجد فهل تجوز الطهارة منها لمن يريد الصلاة في غير ذلك المسجد. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بجواز ذلك لشمول لفظ الواقف له ما لم ينص الواقف على تخصيص ذلك بمن يريد الصلاة في ذلك المسجد فلا تجوز الطهارة منها إلا لمن يريد الصلاة فيه.
وسئل: عن الماء المتصدق به للطهور في المساجد عندنا هل يجوز لأحد نقله إلى خلوته وادخاره فيها للطهر به مع منع الناس منه والحاجة إليه في المسجد وهل يجوز مع عدم ذلك أو لا. فأجاب: بأن من تصدق بماء أو وقف ما يحصل منه الطهور بمسجد كذا لم يجز نقله منه لطهارة ولا لغيرها منع الناس منه أو لا لأن الماء المسبل يحرم نقله عنه إلى محل آخر لا ينسب إليه كالخلوة المذكورة في السؤال نعم من دخل المسجد وتوضأ منه لا يلزمه الصلاة فيه وإن احتمل أن الواقف أراد ذلك تكثيراً لثوابه لأن لفظه يقصر عما يفهم ذلك هذا كله إن لم يطرد عرف في زمن الواقف ويعلمه وإلا نزل وقفه عليه لأنه منزل منزلة شرطه.
وسئل: عمن وقف أرضاً على مالك منفعتها فهل يصح. فأجاب: بقوله الأوجه ما بحثه بعضهم من عدم الصحة حيث ملك منفعتها على الدوام أو مدة عمره لخلو الوقف حينئذٍ عن الفائدة العاجلة والآجلة بخلاف البيع لأنه يستفيد به ملك الرقبة فإن قيدت المنفعة بما يمكن تقدمه على موت الموصى له صح الوقف عليه لأن المنفعة متوقعة.(4/253)
وسئل: عمن وقف نخلة لها أولاد وبعضها يضر بقاؤه فهل يجوز قطع المضر وما الذي يفعل به إذا قطع. فأجاب: بقوله يجوز قطع المضر ثم ما حدث بعد الوقفية أفتى جمع بأن حكمه حكم الأصل فيكون وقفاً ويشهد له ما قاله السبكي في شجر اللوز وأفتى آخرون بأنه للموقوف عليه واختلفوا في الموجود حال الوقفية قال بعضهم والذي تحرر لي بعد التثبت أياماً أنه إن أمكن نقله إلى مكان آخر فعل وإلا بيع ويشتري بثمنه نخل أو يشارك به في نخل يقوم مقام الأصل وتجري عليه أحكامه وتصرف غلته في مصارفه ولذلك شاهد من كلامهم أ هـ .
وهو متجه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عمن عمر في موقوف عليه ثم مات فهل لورثته طلب ما أصرفه. فأجاب: بقوله ليس لهم ذلك لأنه متبرع نعم بحث بعضهم أنه لو كان أدخل عيناً في العمارة وهي باقية كان لهم طلبها وفيه نظر.
وسئل: عما إذا وقف شخص على مسجد شيئاً وشرط في الوقف أن يصرف لأَرباب الوظائف كذا وما فضل للعمارة والمصالح فعمر الناظر المسجد وبعض الأماكن ثم عمر أخلية يرتفق جماعة المسجد وغيرهم بها والحال أن واضعها في الأصل هو الواقف ولم ينص على إرشاد شيء لعمارتها فهل تكون داخلة في المصالح أم لا بدّ من عمارة بقية الوقف قبل عمارتها ولا يحسب له شيء من عمارتها إلا بعد عمارة الوقف. فأجاب: بقوله إن كانت الأخلية المذكورة ينتفع بها أهل المسجد كانت من جملة مصالحه ثم الواجب على الناظر أن يبدأ بعمارة الأهم فالأهم إن عمرها وهي أهم من غيرها حسب له ما صرف على عمارتها وإلا فلا.(4/254)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص وقف وقفاً على نفسه أيام حياته وحكم به من يراه ثم على أولاده الذكور والإِناث في ذلك سواء ثم على أولاد أولاده الذكور دون الإِناث ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ثم على أبنائهم وأعقابهم أبداً ما تناسلوا ودائماً ما تعاقبوا بطناً بعد بطن ونسلاً بعد نسل الطبقة العليا منهم تحجب الطبقة السفلى من نفسها يستقل بها الواحد عند الانفراد ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما عند الاجتماع وعلى أن من مات منهم وترك ولداً أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه من ذلك إليه واحداً كان أو أكثر ذكراً كان أو أنثى من ولد الظهر فهل إذا مات الواقف المذكور وترك ولدين ذكرين وبنتا ومات أحد الابنين عن بنت هل تستحق من الوقف شيئاً أو لا تستحق. فأجاب: بقوله الذي استقر عليه كلام أئمتنا وهو المنقول المعتمد أن الصفة في لفظ الواقف ومثلها بدل البعض والاشتمال والحال ترجع إلى سائر ما تقدم عليها وتأخر عنها من الجمل والمفردات المعطوفة بالواو وثم والفاء دون لكن وبل وقضية كلام الشيخين في غير باب الوقف أن غير المعطوفة كذلك وكأن الأذرعي لم يستحضره حيث نقل عن بعضهم ما قد يوافقه ثم بحث خلافه إذا تقرر ذلك فغير خفي أن قول الواقف ثم على أولاد أولاده الذكور دون الإِناث يحتمل ثلاث احتمالات مختلفة المعنى الأول أن يكون قوله الذكور دون الإِناث بدلاً من المضاف والمضاف إليه فحينئذٍ لا يستحق من أهل الطبقة الثانية إلا ذكر من ذكر فلا حق لبنت الابن ولا لأولاد البنت الثاني أن يكون من المضاف فقط فلا يستحق من أولئك إلا الذكر سواء أكان من ذكر أم أنثى فيستحق ابن البنت دون بنت الابن وعلى هذين الاحتمالين فلا حق لبنت الابن المذكورة في السؤال ولا ينافيهما قوله آخراً ذكراً أو أنثى من ولد الظهر لما سيجيء الثالث أن يكون بدلاً من المضاف إليه فقط وعليه فالمستحق كل من أدلى بذكر ذكراً كان هو أو أنثى فتستحق بنت الابن المذكورة دون(4/255)
ولد البنت ومن المعلوم أن عبارة الواقف إذا احتملت أمرين فأكثر وجب المصير إلى المرجح فإن وجد لكل مرجح وجب المصير إلى ما قوي مرجحه فمرجح الأول أمور منها ما اقتضاه كلامهم الذي قدمته من رجوع نحو الصفة إلى سائر ما تقدمها من المفردات وإن لم تكن معطوفة ومنها أن تخصيصه بأحد الجزأين مع صلاحيته لهما لا دليل عليه وبقيت مرجحات أخر يشترك فيها هو والثاني كما يأتي التنبيه عليها ومرجح الثاني أمور أيضاً منها ما دل عليه كلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/256)
السراج البلقيني حيث أفتى فيمن جعل نظر وقفه على أولاد ابنه خضر الذكور ثم أولاد أولاده بما حاصله أن يكون قوله الذكور مقدراً في المعطوف فيكون راجعاً للمضاف فلا تستحق بنت ابن خضر شيئاً ويحتمل كلامه أنه راجع للمضاف إليه مع رجوعه للمضاف فيكون من مرجحات الأول ومنها ما دل عليه كلام شيخنا زكريا خاتمة المحققين سقى الله تعالى عهده صوب الرحمة والرضوان من أن لفظ الواقف إذا احتمل أمرين أحدهما يترتب عليه أن ما صرح به بعد يكون تأكيداً والآخر يترتب عليه أن يكون تأسيساً رجح الثاني لأن التأسيس خير من التأكيد وهذا من مرجحات الأول أيضاً وبيان ذلك فيهما أنه لا سبيل إلى إلغاء قول الواقف الذكور دون الإِناث وأن قوله آخراً ذكراً أو أنثى من ولد الظهر ينافيه فيجب الجمع بينهما وطريق ذلك أن قوله على أن الخ. دافع لما أفهمته القاعدة السابقة المقتضية بتقدير قوله الذكور دون الإِناث في سائر الطبقات بعده من أنه لا حق للأنثى في غير الطبقة الثانية أيضاً ووجه دفعه لذلك أن يقتصر بقوله الذكور دون الإِناث على الطبقة الثانية ولا يقدر فيما بعدها عملاً بصريح قوله آخراً ذكراً أو أنثى فعلم أن في قوله آخراً ذكراً أو أنثى تأسيساً أي تأسيس سواء أقلنا بالاحتمال الأول أم الثاني بخلافه على الاحتمال الثالث فإنه يصير لمجرد التأكيد كما هو جلي لا يقال بل يأتي التأسيس على الثالث أيضاً لصحة تقدير قوله الذكور فيما بعده عليه لأنا نقول ذلك ممنوع إذ لمعنى عليه وعلى أولاده من أولاده والعطف ليس على المضاف إليه المقيد بذلك بل على المضاف الأعم فلا قيد في المعطوف عليه حتى يقدر في المعطوف بخلافه على الأولين فإن المعطوف عليه مقيد بقيد فاعتبر في المعطوف وإنما لم يتعرض إلى الأرجح من الأول أو الثاني لأن كلاً منهما يقتضي أنه لا حق لبنت الابن المسؤول عنها وأما مرجح الثالث فهو شيء واحد وهو أنه يبعد عادة أن الواقف يعطي بنت ابن ابنه أو ابن بنته ولا(4/257)
يعطي بنت ابنه وقد نظر إلى هذه القرينة العادية وكونها مرجحة البلقيني في بعض فتاويه لكن كلامهم لا يساعده حيث أشاروا إلى أن لفظ الواقف كنص الشارع في النظر في التعميم والتخصيص وغيرهما. مع قطع النظر عن العادة وكون الواقف ممن يعرف العربية أم لا خلافاً لمن يثبت باحتمال التفصيل وقد ذكر هو نفسه ونقله عن التاج السبكي وأقره أنه لو وقف على البنين لم تدخل الإِناث وإن احتمل التغليب احتمالاً ذائعاً شائعاً لأنه خلاف ظاهر اللفظ مع أنه يبعد عادة أن الإِنسان يقف على ابنه دون بنته فإخراجه البنت بهذا الاحتمال فقط لظهوره مع شهادة العادة بخلافه دليل ظاهر لما قلناه وللعمل بظاهر اللفظ وإن خلي عما مر من المرجحات وظاهر لفظ الواقف هنا أن قوله الذكور بدل من المضاف إذ المضاف متى كان هو المحدث عنه تعين كون الصفة ومثلها البدل راجعة إليه إلا لصارف على أن كلام البلقيني إذا تؤمل علم منه أنه لم يحكم بالقرينة العادية بمجردها فقط بل باعتضادها بقرينة لفظية وأنه لم يحكم بها مع ذلك مطلقاً بل في صورة تعرف بمراجعة كلامه وفي مسئلتنا لم تعضد القرينة العادية قرينة لفظية فلا نظر إليها ومما يضعف الاحتمال الثالث أيضاً ما صرح به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/258)
الأذرعي وغيره من أن قول الواقف على الخ. بمعنى الاستثناء وعلى تقدير كون الذكور بدلاً من المضاف إليه لا يصح الاستثناء بالنسبة للطبقة الثانية ولا لما بعدها لما بيناه من أن كلا من الطبقات على الاحتمال الثالث يشمل الذكر والأنثى وحينئذٍ فيلزم اتحاد المستثنى والمستثنى منه في الحكم وهو باطل بخلاف ما إذا جعل بدلاً من غيره فإنه يكون استثناء بالنسبة لما عدا الطبقة الثانية لأن قضية العطف كما مر أن أحداً من الإِناث في غير الطبقة الثانية أيضاً لا يستحق شيئاً فأخرج ذلك بقوله على الخ. الذي هو بمعنى الاستثناء ولا يصح أن يكون مستثنى من الطبقة الثانية لأنه يلزم عليه إلغاء قوله فيها الذكور دون الإِناث من كل وجه وهو خلاف قاعدة الاستثناء فالحاصل أنه على الاحتمال الثالث يصير المستثنى متحداً مع المستثنى منه في الحكم وعلى غيره يصير الاستثناء لو جعلناه راجعاً إلى الطبقة الثانية مبطلاً لقوله فيها الذكور دون الإِناث فتعين الفرار من هذين والقول برجوع الاستثناء لمن عدا الطبقة الثانية هذا ما سنح لي ولا أجزم بأنه الصواب فعلى من تأهل للنظر الإِمعان فيه ليظهر له صوابه أو خطؤه ولا يبادر إلى اعتماده حذراً من الوقوع في حرمان مستحق أو إعطاء محروم وليس فائدة ذلك إلا بيان المآخذ والتنبيه على ما يصلح مرجحاً والله يعلم المفسد من المصلح وهو سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ثم رأيت الولي أبا زرعة في فتاويه ذكر ما يؤيد ما ذكرته من عدم استحقاق بنت الابن ولفظه سئلت عمن وقف على أولاده ثم أولاد أولاده ثم أولاد أولاد أولاده ثم نسله وعقبه الذكور دون الإِناث من ولد الظهر دون ولد البطن هل يعود الوصف بالذكوريه فيكون الموقوف عليه من ولد الظهر خاصة إلى الطبقة الأخيرة فقط أو يعود إلى سائر الطبقات فأجبت بعوده إلى سائر الطبقات عملاً بقاعدة الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في عود المتعلقات المذكورة بعد جمل أو مفردات من شرط أو استثناء أو وصف أو(4/259)
غيرها إلى جميع ما تقدم من غير اختصاص بالأخيرة ثم رد على من خالفه في ذلك وأطال فيه بما يؤيد ما ذكرته أولاً من أنه لا فرق بين الواو وثم والفاء وبتأمل ما ذكره من العود إلى سائر الطبقات الخ. يعلم أنه مصرح بعود قول الواقف الذكور دون الإِناث من ولد الظهر إلى المضاف والمضاف إليه في سائر الطبقات التي سبقت فيكون نصاً في عدم استحقاق بنت الابن المذكورة في السؤال والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/260)
وسئل: عن وظيقة بوابة بالمسجد الحرام المكي باسم شخص وأخيه غاب الأخ المذكور غيبة انقطاع بنواحي مصر مدة تزيد على ثلاثين سنة ولم يزل ذلك الشخص المذكورة مباشراً جميع الوظيفة المذكور حتى نزل بجميعها الرجل وثبت النزول على يد قاضي مكة وناظر مسجدها وقرر المتولي له في جميع الوظيفة المذكورة وباشر مدة خمس سنين وقبض معلومها المدة المذكورة فرفع شخص إلى قاضي مصر قصة أنهى فيها وفاة أخي النازل وسأل في تقريره فيما كان باسمه من الوظيفة المذكورة فهل يصح تقرير قاضي مصر في ذلك والحال أنه سبق التقرير من قاضي مكة للمنزول له في الوظيفة المذكورة جميعها لغيبة الأخ وانقطاع استحقاقه لغيبته وعدم مباشرته أم لا يصح تقريره في ذلك ويعمل بما سبق من التقرير الصادر من قاضي مكة للمنزول له المذكور أم لا. فأجاب: بقوله التقرير في الوظيفة المذكورة لناظر المسجد ما لم يكن الموقوف على تلك الوظيفة بغير البلد وتطرد العادة بأن المولى فيها هو قاضي تلك البلدة فالحق في التقرير له فإذا تقرر ذلك فتقرير الناظر هو المعمول به حيث لم توجد العادة المذكورة وإلا فهو لقاضي تلك البلد ومحل هذا كله حيث فقد شرط الواقف وإلا فوّض لناظر المسجد التقرير في جميع وظائفه وإن كانت أوقافها في غير بلد المسجد فإن كان هناك شرط واقف عمل به وإن لم يكن وفوّض للناظر ما ذكر عمل بتقريره هنا مطلقاً وأجاب مرة أخرى بعد تغيير في بعض السؤال فقال: إن كان الوقف بمكة فالتقرير لقاضيها لا غير وإن كان بمصر مثلاً فإن شرط الواقف شيئاً عمل به وإلا فإن اطردت العادة في زمنه فإن كلا من قاضي مكة ومصر يقرر فتقرير قاضي مكة هو الصحيح لسبقه وإن لم تجر العادة كذلك فالولاية لقاضي مصر فليس لقاضي مكة أن يولي إلا على جهة النيابة في تلك الوظيفة حتى ينتهي الأمر إلى قاضي مصر ويقرر فيها من يراه هذا حاصل كلام السبكي و الأذرعي وكلام البلقيني في فتاويه والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/261)
وسئل: عن واقف شرط في وقفه أن يصرف ريعه في جهات متعددة منها قراء يقرؤون ما تيسر من القرآن في كل يوم فهل يستحقون معلوم كل يوم من الأجرة المقبوضة أو بعضها بحسابه أم لا يستحقون إلا بعد انقضاء الإِجارة والحال أن الواقف لم ينص على شيء من ذلك وإذا حصل في الوقف هدم أو خلل فيه فتوقف الناظر عن عمارته وإصلاحه من ريعه فهل للمستحقين مطالبته بذلك لئلا يتمادى إلى خرابه كله فيفوت غرض الواقف وهل للمستحقين محاسبته بالأجرة في كل سنة ليعلم كل منهم ما يخصه من ذلك فإن الأجرة تزيد وتنقص باختلاف الزمان والمكان وهذا محسوس لا خفاء فيه وإذا قلتم لهم ذلك فهل لهم تحليفه إذا لم يصادقهم على شيء خفي أو القول قوله من غير محاسبة وهل لهم أيضاً محاسبته في العمارة أيضاً. فأجاب: بقوله يستحقون ما يخص كل يوم قرؤوه بمضيه ولا يتوقف استحقاقهم لذلك على انقضاء المدة ويجب على الناظر العمارة وإن لم يشرطها الواقف فإن تركها مع التمكن فسق وانعزل عن النظر وللمستحقين مطالبته بها ولهم أيضاً مطالبته بالحساب إذا كانوا معينين كما قاله النووي وغيره. وقد صرح النووي ك شريح وغيره بأن الناظر لو ادعى صرفه على المستحقين وهم معينون وأنكروا فالقول قولهم ولهم المطالبة بالحساب وبه يعلم الجواب عن جميع ما في السؤال.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/262)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن وقف ربعة شريفة وقرر فيها صوفية وشيخاً لهم وقرر لكل إنسان مبلغاً معلوماً في كل سنة وشرط في كتاب وقفه شروطاً منها أن من غاب أكثر من ثلاثة أشهر لغير ضرورة ظاهرة أخرجه الناظر أو الشيخ وقرر في وظيفته غيره وكان الواقف قرر شخصاً في أول وظيفة تشغر على مذهب من يرى ذلك فشغرت بعد مدة وظيفة بموت صاحبها وكان الشخص المقرر بالتعليق مسافراً إذ ذاك في بلاد بعيدة لم يبلغه شغور الوظيفة فهل تكون غيبته في البلاد البعيدة وعدم علمه بالشغور ضرورة ظاهرة لأنه سافر قبل الشغور وإذا قلتم إنها ضرورة ظاهرة فهل للمتكلم عن الغائب إقامة نائب عنه إلى حين حضوره. فأجاب: بقوله متى ثبت للمقرر بالتعليق حق الوظيفة المذكورة بأن استوفيت شروط ذلك عند من يراه وحكم به لم يبطل حقه من الوظيفة المذكورة إلا بعد علمه ومضى ثلاثة أشهر قبل حضوره ولم يكن له عذر شرعي في عدم الحضور كخوف الطريق أو عدم الأمن على أهله أو ماله لو سافر من عندهم وقد صرح بما ذكرته آخراً وبنظير ما ذكرته أوّلاً تلويحاً شيخاً الإِسلام أبو حفص السراج البلقيني و أبو زرعة الولي العراقي قال ولذلك شواهد كثيرة.(4/263)
وسئل: عن شخص حبس جهات له على عشرة أشخاص من المقيمين بمكة المشرفة على أن يقرأ كل واحد منهم جزءاً من القرآن الشريف بالمسجد الحرام وشرط أن من غاب منهم ثلاثة أيام لضرورة يسامح في ذلك من غير نائب ومن غاب ثلاثة أشهر في سفر حج أو زيارة أو صلة رحم سومح بإقامة نائب في تلك المدة وإن غاب لغير ذلك ولو في المدة المذكورة أو أكثر من المدة المذكورة ولو في سفر حج أو زيارة تنزع منه الوظيفة ويقرر فيها غيره وشرط الناظر في ذلك لنفسه التغيير والتبديل على حسب ما يقتضيه رأيه وثبت ذلك على مذهب من يرى صحة ذلك ورفع له شخص قصة تتضمن أنه من المقيمين بالبلد المشترط فيها قراءة الجزء بها وسأله أن يقرره في أول جزء يشغر من ذلك فأجاب سؤاله وقرره في ذلك والحال أنه استمر مقيماً بغير البلد المشترط بها القراءة إلى أن رفع للواقف الناظر المشار إليه أعلاه شخص آخر قصة تتضمن ما تضمنته القصة الأولى فأجاب الناظر سؤاله وقرره في أول جزء يشغر وأشهد على نفسه الناظر في ذلك وأثبت تلك القصة على يد حاكم الشرع الذي يرى صحة ذلك فانتقل بالوفاة أحد المستحقين فأظهر الثاني من المقررين قصته المثبوتة المشهود فيها على الواقف المذكور أعلاه فمكن من المباشرة وباشر عامين ثم إن والد المقرر الأول نازع الثاني عن ولده بحسب ما بيده من القصة العارية عن الثبوت وعن الإِشهاد على الناظر المذكور أعلاه ورفع أنه محجور مع أن المقرر الأول من يوم قرر إلى الآن غائب عن البلد المشترط القراءة فيها فهل تسمع دعواه عن ولده بحسب حجره له أم لا وإذا قلتم لا فهل استمرار غيبته بعد الشغور وإظهار الثاني المقيم بالبلد المشترط فيها القراءة قصته المحكوم بها وتمكينه من المباشرة والمباشرة لتلك المدة مبطل لما بيد الأول من التقرير ويوجب الاستحقاق للثاني أم لا. فأجاب: بقوله إذا ثبت أن الناظر الذي هو الواقف اشترط لنفسه التغيير والتبديل على حسب ما يراه وحكم بصحته وبصحة(4/264)
التقريرين المذكورين من يرى ذلك كان تقريره للثاني إبطالاً لتقريره للأول إن كان حال تقرير الثاني ذاكراً لتقرير الأول وصرح بالرجوع عنه أو دلت على ذلك قرينة وإلا اشتركا في الوظيفة المذكورة ويدل لذلك قول أصحابنا لو أوصى بعين لزيد ثم أوصى بها لعمرو شرك بينهما فإن قال الذي أوصيت به لعمرو كان رجوعاً عن الوصية الأولى وفي الحالة الأولى لو رد أحدهما كان للآخر الجميع أ هـ .
وبه يعلم أنا إذا قلنا بالتشريك بين المقررين في السؤال فبطل حق الأول لعلمه بالموت وغيبته المدة التي اشترطها الواقف لغير عذر شرعي استحق الثاني جميع الوظيفة المذكورة وحيث ثبت للأول حق ناب عنه وليه أو وكيله الثابتة ولايته أو وكالته وإلا فلا.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا جدد مسجد وزيد على حدوده التي كان عليها فهل للمزيد حكم المسجد في صحة الاعتكاف ونحوها. وهل يفرق بين كون الأرض التي زيد فيها مواتاً أو ملكاً للمسجد وبين نية جعله مسجداً والإِطلاق وإذا لم يثبت له حكم المسجد فهل تجوز الزيادة فيه أو لا. فأجاب: بقوله إنما يكون للمزيد حكم المسجد في صحة الاعتكاف وغيرها. إن وقفت تلك الزيادة بأرضها مسجداً بأن تلفظ الواقف بذلك أو كانت أرض الزيادة مواتاً ونوى بالبناء فيها إحياءها مسجداً وإن لم يتلفظ بذلك فإن انتفى قيد مما ذكرناه لم يكن للزيادة حكم المسجد وتجوز الزيادة في المسجد حيث كان فيها مصلحة ولم يترتب عليها ضرر كهدم جدار المسجد أو إحداث ما يضره كوضع الجذوع على جداره فإن انتفى شرط مما ذكر امتنعت الزيادة والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/265)
وسئل: عما إذا قال أحد وقفت كذا وجعلت زيداً والياً عليه وهو بحل مما يأخذ من الوقف هل يؤثر هذا الإِحلال أثراً أم لا. فأجاب: بقوله أما قوله وجعلته والياً عليه فلا يفيد شرط النظر له على إطلاقه ففي شرحي للأَرشاد قال السبكي : ومورقو كتب الأوقاف تارة يقولون وشرط الواقف النظر لفلان ويفهمون بينهما معنى واحداً وهو الاشتراط والظاهر أن ذلك إنما يكون بمنزلة الشرط إذا دلت القرينة عليه بأن يجعله في ضمن الكتاب ويشهد عليه بأنه وقف على هذا الحكم وما أشبهه حتى لو قال في الكتاب وبعد تمام الوقف جعل النظر لفلان أو شرطه له لم يصح فالحاصل أنه إذا ورد الوقف على صفة دل عليها بصيغة الشرط أو الجعل أو التفويض أو غيرها. لزم جميع ما دل عليه كلامه الذي أورد الوقف عليه بخلاف ما إذا أورد الوقف وحده ثم ذكر تلك الشروط متراخية أو متعاقبة فإنها لا تلزم ولا تصح وفي إطلاقه ذلك نظر يتلقى مما مر في وقفت وشرطت ويجاب بأن ما ذكر إنما هو في عبارات كتب الأوقاف المحتملة لصدورها من الواقف على ما هي عليه وعلى غيره فاحتيط لها بما ذكر وما مر إنما هو في لفظ الواقف المحقق فعمل بما يدل عليه انتهت عبارة الشرح المذكور وأما قوله وهو بحل الخ. فلا أثر له لأن هذا بمنزلة الإِباحة لا الشرط كما هو ظاهر والإِباحة لا تتصور من الواقف لأنه بالوقف خرجت العين الموقوفة عن ملكه فلا تنفذ إباحته فيها على أن مثل تلك الصيغة لو صدرت من حي لآخر في ماله لم يستبحه بها فبالأولى أن لا يستبيح بها من الواقف شيئاً وقد صرحوا بأنه لو قال أبحت لك ما في داري من الطعام أو ما في كرمي من العنب جاز له أكله لا بيعه وحمله وتقتصر الإِباحة على الموجود ولو قال: أبحت لك جميع ما في داري أكلاً واستعمالاً ولم يعلم الجميع لم تحصل الإِباحة ا هـ، فالصورة الأخيرة هي التي نظير مسئلتنا وقد علمت أنها مع الجهل لا تفيد الإِباحة فبالأولى أن لا تفيدها في صورة السؤال كما هو جلي مما(4/266)
قررته على أن للعماد ابن يونس احتمالاً في نظير مسئلتنا بالبطلان فإنه سئل عمن قال وقفت داري هذه على مسجد كذا ولأمي السكنى بها حتى تموت فأجاب بأن المسئلة تحتمل وجهين أحدهما صحة الوقف وإلغاء الشرط كقوله أنت طالق وعليك ألف تطلق ويلغو الالتزام والثاني بطلانه لأنه شرط فيه استيفاء منفعته مدة مجهولة وهي حياتها فهذا الاحتمال يجري في مسئلتنا ولكن الأوجه من احتمالي ابن العماد الأول ويجاب عما علل به الثاني الجاري في مسئلتنا نظيره بأن ما ذكره ليس نصاً في الشرطية إذ قوله ولأَمي الخ. بالوعد أو الإِباحة أشبه كما قلناه في مسئلتنا فمن ثم رجحنا بطلانه هو لا بطلان الوقف من أصله وكذا في مسئلة السؤال.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عما إذا استغل الموقوف عليه الغلة وانتفع بها بغير صرف من الناظر فتقع الموقع أم لا. فأجاب: بقوله نعم تقع الموقع كما يعلم بالأولى مما ذكروه في مبحث الوصاية من أن للمستحق لعين في التركة أن يستقل بأخذها بشرط أن لا يتصرف في ملك غيره بنحو فتح باب وحل وكاء ويشترط هنا أيضاً أن لا يكون الناظر أرصدة تحت يده لعمارة أو نحوها، وأن لا يكون استحق صرفه في ذلك لوجود الداعي إليه فحينئذٍ متى أخذه ضمنه لأنه لا يستحقه حينئذٍ كما يصرح به قول الأنوار وغيره يبدأ من فوائد الوقف بعمارته سواء أشرط الواقف ذلك أم لم يشرطه.(4/267)
وسئل: عمن وقف بستاناً على أحد واشترط عمارة داره الموقوفة من غلة البستان فاستغل الموقوف عليه البستان مدة ثم وقع الخراب بالدار هل يؤخذ لعمارة الدار مما استغله الموقوف عليه من البستان قبل الخراب شيء أم لا. فأجاب: بقوله أما الشرط المذكور فالظاهر صحته أخذاً من قولي في شرح الإرشاد ولو شرط الواقف أن العمارة على الساكن وشرط أن تلك الدار لا تؤجر فالذي ظهر لي من كلامهم بعد الفحص أن الشرط الأول صحيح كما شمله عموم قول المصنف إن لم يشرط أي نفقته في كسبه ثم في بيت المال إن لم يشرط وقولهم يجب العمل بشرط الواقف ما لم ينافِ الوقف أو الشرع وفائدة صحته مع تصريحهم بأن العمارة لا تجب على أحد فلا يلزم بها الموقوف عليه لأن له ترك ملكه بلا عمارة فما يستحق منفعته بالأولى توقف استحقاقه على تعميره فهو مخير فيما إذا أشرفت كلها أو بعضها على الانهدام لا بسببه وبين أن يعمر ويسكن وبين أن يهمل وإن أفضى ذلك إلى خرابها نعم على الناظر إيجارها المتوقف عليه بقاؤها وإن خالف شرط الواقف عدمه لأنه في مثل هذه الحالة غير معمول به كما علم مما مر لا يقال شرط العمارة على الساكن ينافي مقصود الواقف من إدخال الرفق على الموقوف عليه إذ شأنه أن يغنم ولا يغرم لأنا نقول قد قطع السبكي وغيره بالصحة فيما لو وقف عليه أن يسكن مكان كذا كما مر وهذا صادق بما إذا عين مكاناً لا يسكن إلا بأجرة زائدة على أجرة مثله وإن لم يحتج الموقوف عليه لسكناه أو زادت أجرته على ما يحصل له من غلة الوقف فكما أوجب الاستحقاق هنا السكنى بالأجرة المذكورة مع عدم الاحتياج إليها فكذلك تجب العمارة لاستحقاق السكنى إن أرادها وإلا سقط حقه منها فعلم أن الموقوف عليه قد يغرم وقد يحصل له رفق بالموقوف وأن هذا الشرط غير منافٍ للوقف حتى يلغو كشرط الخيار فيه مثلاً وإنما غايته أنه قيد استحقاقه لسكناه بأن يعمر ما تهدم منه فإن أراد ذلك فليعمره وإلا فليعرض عنه ثم رأيت بعض(4/268)
مشياخنا أيد الصحة بالقياس على ما لو أوصى لزيد بألف إن تبرع لولده بخمسائة فإنه يصح وإذا قبل لزمه دفعها إليه ويؤخذ من ذلك أنه لو شرط النفقة على الموقوف عليه لزمته بمعنى أن استحقاقه يتوقف على بذلها انتهت عبارة الشرح المذكور وأخذ صحة الشرط منها في مسئلة السؤال ظاهر جلي كما لا يخفى ومما يصرح به أيضاً قولهم لو وقف دابة وجعل الركوب لواحد والدر والنسل لآخر جاز قطعاً كما صرح به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/269)
الإِمام وقولهم نفقة العبد والبهيمة الموقوفين إن شرطها الواقف في كسبهما اتبع شرطه قال ابن الصباغ و الروياني وكذا أن شرطها في مال نفسه وفي معناه ما إذا شرطها في وقف آخر وقفه ثم إذا صح الشرط فإنما يستحق الصرف إلى الدار بعد خرابها أو خراب بعضها أو إشرافه على الخراب فمن الآن يمنع الموقوف عليه من أخذ شيء من الغلة حتى تكمل العمارة لاستحقاق صرفها لغيره وهو العمارة المذكورة فإن أخذ منها شيئاً غرمه وأما ما استغله قبل الإِشراف على الانهدام فإنه يفوز به لأنه قد ملكه بالظهور من غير تعلق حق أحد به وعلى هذا لو استغل ثمرة سنة ثم وقع خراب بها بعد الاستغلال فاز به الموقوف عليه واستمرت الدار معطلة إلى غلة السنة الثانية وقد صرحوا بأن الموقوف عليه يملك أجرة الدار الموقوفة ومع ذلك فقد أفتى القفال وصرح الإصطخري بأنه لو أجره الناظر سنين بأجرة معجلة لم يجز أن يعجل الأجرة للموقوف عليه وإنما يعطي بقسط ما مضى ووقع لابن الرفعة أن له التعجيل وهو ضعيف فإن عجل الناظر فمات الآخذ ضمن الناظر كما أفتى به القفال أيضاً وصرحوا أيضاً بأن للناظر منع الموقوف عليه من سكنى الدار الموقوفة عليه ليؤجرها لعمارة اقتضاها الحال وإلا لأدى ذلك إلى الخراب وقولي السابق بالظهور سبقني إليه القاضي في ثمرة غير النخل وهو أحد وجهين حكاهما في ثمرة النخل وعبارة فتاويه إذا مات الموقوف عليه بعد خروج الثمرة إن كانت ثمرة غير النخل فهي للميت وإن كانت ثمرة النخل فكذلك إن مات بعد التأبير وقبله وجهان انتهت قال الغزي: في أدب القضاء وكذا لو ترك شاة أو جارية حاملاً فولدت بعد موته ففيه الوجهان بناءً على أن الحمل هنا له قسط أولاً أ هـ .
وقضية بنائه أن الأرجح من الوجهين أن الحمل للميت لأن الأصح أنه يعلم ويقابل بقسط من الثمن قال بعضهم: ولم يذكر الغزي حكم ما إذا مات وقد سنبل الحب والقياس أنه بعد الاشتداد كبعد تأبير النخل وقبله على الوجهين أ هـ .
ومما(4/270)
يصرح بقولي وأما ما استغله قبل الإِشراف فإنه يفوز به الخ. قول ابن الصلاح في فتاويه لو وقف وقفاً على الفقهاء والمتفقهة المقيمين بدمشق من أهلها والواردين إليها من الشام دون غيره فحصل من الوقف حاصل وتأخرت قسمته حتى ورد وارد من الموصوفين لم يساهمهم كما لو أوصى لفقراء وهم محصورون أ هـ .
فتأمل إفتاءه بعدم المساهمة فيما ذكره تجده صريحاً فيما قدمته من أن كل ما ظهر من الثمرة قبل استحقاق العمارة يفوز به الموقوف عليه ولا يلزمه صرف شيء منه لها وإنما يلزمه الصرف من الغلة التي قارن ظهورها وجود سبب العمارة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عمن قال وقفت على زيد ثم على أولاده فقبل زيد ثم مات ثم رد بعض الأولاد فحصته لمن. فأجاب: بقوله هذا وقف منقطع الوسط حيث لا زيادة على ما ذكر في السؤال ومصرف منقطع الوسط أقرب الناس رحماً إلى الواقف يوم انقراض الموقوف عليهم وفي صورتنا لا يصرف للأقرب إليه شيء إلا بعد انقراض جميع الأولاد أو ردهم كلهم فإذا مات بعضهم أو رد وبقي بعضهم صرف الكل إلى من بقي ولو واحداً وهذا ظاهر جلي من كلامهم.(4/271)
وسئل: عمن بنى في موضع مملوك بناء للصلاة وغيرها. ثم جعله مسجداً من غير وقف الأرض فهل يصير بذلك مسجداً أو لا وهل يجوز بناء المسجد في أرض مستعارة أو مستأجرة أو لا. فأجاب: بقوله عبارة شرح العباب قال الإسنوى ك القمولي قال بعضهم ولا يصح الاعتكاف في بناء أرض مستأجرة إلا أن يثبت فيه دكة أو بلطه بأحجار ووقفت مسجداً واعتمداه هما وغيرهما. وهو أوجه مما وقع للزركشي من صحة الاعتكاف فيه وإن لم يبن فيه مسطبة بل عند التأمل لا وجه لما قاله لأنه وإن وقف ذلك البناء مسجداً وقلنا بصحة وقفه هو لا قرار له والاعتكاف إنما يصح باللبث في مسجد ولبثه هنا ليس في مسجد بخلافه في الدكة المذكورة لأنها مسجد فاللبث فيها لبث في مسجد ثم رأيت بعضهم قال: عقب قول الزركشي المتجه صحته في الأرض وإن لم يغرس بالبناء تبعاً للحيطان والسقف وإن جلس على الأرض لأن الهواء يحيط به أ هـ .
ملخصاً وما قاله عجيب والصواب خلافه لأن الاعتكاف إنما يصح على السقف لا تحته انتهت عبارة شرح العباب وهي صريحة كما ترى في صحة وقف البناء دون الأرض مسجداً سواء أكانت الأرض مستأجرة أم مستعارة أم لا وعبارة شرح الإرشاد الرابع المعتكف فيه فلا يصح الاعتكاف إلا في مسجد للاتباع رواه الشيخان وللإِجماع ولا فرق بين سطحه وصحنه ورحبته المعدودة منه وأفهم كلامه أنه لا يصح في مصلى بيت المرأة ولا فيما وقف جزؤه شائعاً مسجداً ولا في مسجد أرضه مستأجرة وهو كذلك نعم رجح الإسنوى قول بعضهم لو بنى فيه مسطبة ووقفها مسجداً صح كما يصح على سطحه وجدرانه وقول الزركشي يصحة وإن لم يبن مسطبة مردود إذ المسجد هو البناء الذي في تلك الأرض لا الأرض ومن هنا علم أنه يصح وقف العلو دون السفل مسجداً كعكسه انتهت وهي أيضاً مصرحة بصحة وقف البناء دون الأرض مسجداً فالمصلى في هوائه كأنه مصل بالمسجد ولو سقف ذلك البناء صح على سقفه الاعتكاف وأعطى سقفه جميع أحكام المسجد وذكر(4/272)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
القمولي في باب الاعتكاف نحو ما قدمته فقال يصح وقف العلو دون السفل مسجداً وعكسه فعلى هذا لو أراد بناء مسجد في أرض موقوفة للسكنى وقلنا: لا يجوز البناء فيها وهو المرجح فالحيلة أن تبنى العرصة بالآجر والنورة فيصير مسجداً إذا وقفه قياساً على وقف العلو دون السفل أ هـ .
وقال الماوردي لو بنى مسجداً في موات صار مسجداً بالنية ويزول ملكه عن آلاته بعد استقرارها في موضعها وهي قبله ملكه إلا أن يقول إنها للمسجد فتخرج عن ملكه ولو بنى بعضه لم يجبر على إتمامه ولو سقط على شيء لم يضمنه سواء أذن الإِمام أم لا أ هـ .
قال القمولي و البلقيني وفي قوله تخرج آلاته عن ملكه بقوله إنها للمسجد نظر وينبغي توقفه على قبول من له النظر وقبضه قال البلقيني والظاهر أنه لا يملك البقعة تقديراً ويجري ذلك في البئر المحفورة في الموات للتسبيل وما يحيى بقصد تسبيله مقبرة قلته تخريجاً أ هـ .
فتأمل كونه حكم بأن البناء مسجد مع بحثه أن الباني لا يملك الأرض تقديراً وأنها باقية على كونها مواتاً ليزيد بذلك اتضاح ما مر من صحة وقف البناء مسجداً دون الأرض وقول الفارقي لا يصير مسجداً لأن الحق فيه لجميع المسلمين ينتفعون به فلا يجوز تخصيصه بالصلاة بغير إذنهم ضعيف كما قاله بعضهم إلا أن يحمل على أنه بالنسبة للأرض دون البناء فيوافق ما مر عن البلقيني وقول الماوردي السابق أنه يزول ملكه عن الآلة بعد استقرارها في موضعها رد بما نقله القمولي بعده عن الروياني وأقره من أنه لو عمر مسجداً خراباً ولم يقف الآلة كانت عمارته له يرجع فيها متى شاء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/273)
وسئل: عمن وقف كتبه هل يدخل مصحفه. فأجاب: بقوله الظاهر من كلامهم أنه يدخل لأنه يسمى كتاباً لغة وشرعاً أخذاً من قولهم إن بيت الشعر يسمى بيتاً لغة وهو واضح وشرعاً لقوله تعالى {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم} فكذلك نقول المصحف يسمى كتاباً شرعاً لأن الله سبحانه وتعالى سماه في القرآن كتاباً في آيات كثيرة فثبت أنه يسمى كتاباً لغة وشرعاً وبفرض أنه لا يسماه عرفاً لا اعتبار به فقد صرحوا بأنه لا يجوز تغيير مقتضى اللغة باصطلاح وصرح الإِمام بأن العرف إنما يعمل به في إزالة الإِبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح وقد صرح القاضي حسين بأنه إذا تعارضت اللغة والعرف العام قدمت اللغة ثم قال متى كان اللفظ مطلقاً وجب العمل بإطلاقه عملاً بالوضع اللغوي ويوافقه قول الرافعي وغيره متى عمت اللغة قدمت على العرف وقوله إذا اختلفت اللغة والعرف فكلام الأصحاب يميل إلى ترجيح اللغة و الإِمام و الغزالي يريان اعتبار العرف أي في الأيمان ونحوها. فإن قلت: قد قدموا العرف على اللغة فيما يشبه مسئلتنا فقالوا: لو قال زوجتي طالق، لم تطلق سائر زوجاته عملاً بالعرف وإن اقتضى وضع اللغة الطلاق لأن اسم الجنس إذا أضيف عم وكذا لو قال الطلاق يلزمني لم يحمل على الثلاث وإن كان في اللغة الألف واللام للعموم ولو أوصى للقراء لم يدخل من يقرأ في المصحف ولا يحفظ عملاً بالعرف لا باللغة ذكره الرافعي وغيره قلت: يجاب عن الصورتين الأولتين بأن دخول الزائد على الواحدة فيهما خلاف المقصود بحسب الظاهر وقد صرحوا بأن شرط دخول غير المقصود في العام أن لا تقوم قرينة على إخراجه وإلا لم يخل فيه قطعاً والقرينة هنا اطراد استعمال ذلك مراداً به الواحدة لا زائد عليها بخلاف مسئلتنا فإنه لا يقال إن المقصود فيها إخراج المصحف بل المقصود إدخاله لأن قصد الواقف الثواب وهو في وقف المصحف أكثر فلم يعارض الوضع اللغوي فيه شيء فأبقي على عمومه وعن الثالث(4/274)
بنظير ما قبله وحاصله أننا لما نظرنا في أكثر الوصايا رأينا أنهم لا يقصدون بالقراء فيها إلا الحفاظ فحملنا لفظ القراء عليهم دون غيرهم وإن خالف الوضع اللغوي عملاً بما تقرر أن شرط شمول العام للصورة المقصودة أن لا تقوم قرينة على إخراجها وهنا قامت القرينة على عدم إرادة مطلق من يحسن القراءة فعملوا بذلك هذا ما يؤخذ من كلامهم على سبيل العموم وأما ما يؤخذ منه على سبيل الخصوص مما يقتضي أو يصرح بالدخول في مسئلتنا فأمور الأول أن كلامهم في الوقف مصرح بأن المدار فيه غالباً على الوضع اللغوي لا العرفي ومن ثم لما قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/275)
الرافعي والعشرة العشيرة على الأصح اعترضه النووي بأن أكثر من جعلهم عشيرة خصصهم بالأقربين ونقل فيه عبارات جمع من أهل اللغة ثم قال: ومقتضى ما قالوه إنه يدخل فيهم ذريته وعشيرته الأدنون وهو الظاهر المختار أ هـ .
وترجيح الأذرعي الأول بأنه الأقرب إلى العرف يرد بما قررته أن الذي يصرح به كلامهم في أماكن من صور الوقف أن اللغة مقدمة على العرف من ذلك شمول المولى الموقوف عليه للأعلى والأسفل فإن الأكثرين والمحققين قالوا به ووجهوه بأن اللفظ يتناولهما وانفرد الفارقي فصحح أنه لا يتناول المعتق قال: لأن اللفظ في عرف الاستعمال ينصرف إلى العتيق فيحمل عليه فتأمل إطباقهم إلا الفارقي على تقديم الوضع اللغوي على العرفي ومن ذلك أيضاً الكلام المشهور فيما إذا حدث أحدهما بعد الوقف على الآخر ومن ذلك أيضاً، ما اقتضاه كلامهم من دخول أولاد البنين والبنات فيما لو قال الواقف إذا كان امرأة وقفت على من ينسب إليّ من أولاد أولادي وأجيب عن الإِشكال المقرر هنا بأن العبرة فيها بالنسبة اللغوية لا الشرعية فإن قلت: قال الأذرعي ، في قولهم على عيالي هم من في نفقته ولو والداً أو ولداً وعلى حشمي هم من في نفقته سوى الوالد والولد وعلى حاشيته هم المتصلون بخدمته مأخذ ذلك كله العرف اهـ. وهذا يؤيد القول بالعرف فلا يدخل المصحف قلت: فرق ظاهر بينهما فإن اللغة لم تضبط تلك الألفاظ الثلاثة حتى يرجع إليها فيها فالرجوع فيها إلى العرف إنما هو لتعذر الوضع اللغوي أو اضطرابه فيها لا لتقدمه على الوضع اللغوي بخلاف مسئلة السؤال فإن الوضع اللغوي فيها مطرد اطراداً ظاهراً أن المصحف يسمى كتاباً فقدم هذا الوضع على العرف سيما وقد عضد اللغوي الشرعي كما مر ويؤيد ما ذكرته من أن الرجوع للعرف إنما هو لعدم اطراد اللغة أنها لما اطردت في الغلمان والجواري والفتيان والشبان رجعوا إليها فيها فقالوا الأول لمن لم يبلغ من الذكور والثاني لمن لم يبلغ من الإِناث(4/276)
والثالث والرابع من بلغ إلى أن يجاوز ثلاثين سنة ولما لم يطرد فيمن بلغ أشده قالوا: يرجع فيه لرأي الحاكم الثاني قولهم في الإِقرار الأضعف من الوقف في الشمول كما صرحوا به في أن الوقف كالبيع في الشمول بخلاف الإِقرار ولو أقر أو أوصى بثياب بدنه دخل فيه حتى الطيلسان واللحاف والقلنسوة ومنازعة الإسنوى في نحو الأخيرين ردوها عليه فهذا صريح في رعايتهم لمقتضى اللغة لا العرف وإذا راعوا ذلك في الإِقرار الأضعف من الوقف كما تقرر وفي الوصية المساوية للوقف فليراعوه في الوقف بالأولى في الأول والمساواة في الثاني.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/277)
سئل: عمن وقف على أولاده ثم أولادهم وهكذا وجعل للذكر مثل حظ الأَنثيين ثم شرط أن من مات منهم انتقل حقه لورثته بالنسب للذكر سهمان وللأنثى سهم فمات رجل منهم وخلف بنتاً وأخاً فهل لبنته النصف اعتباراً بظهور قصده من أنه أراد إجراء الوارث على فريضة الله سبحانه وتعالى وإن قصرت عبارته لجريها على الأعم الأغلب أو لها الثلث اعتباراً بعموم لفظه فإن قلتم بأحد الأمرين فقد مات الأخ أيضاً وهو الأخير من الطبقة الأولى ولم يخلف في الطبقة الثانية إلا ابن الأخ وبنت الأخ المذكورة فهل لها الثلث باعتبار أن الثانية ترجع في مقام الأولى كما قال البلقيني : وجماعة أو لا يكون له شيء ويفوز ابن الأخ بالجميع باعتبار الشرط كما مال إليه السيد السمهودي . فأجاب: بقوله ظاهر كلام أئمتنا في باب الوقف بل صريحه كما بسطته في كتابي المسمى بالتحقيق فيما يشمله لفظ العتيق أن المدار على ما يعطيه لفظ الواقف ما لم تقم قرينة ظاهرة معتبرة على أنه أراد غير ما دل عليه لفظه وحينئذٍ فلفظه هنا ظاهر في عموم شرط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فيعمل به ويكون لها الثلث وله الثلثان ولا يعتبر بالميراث حتى يكون لها النصف لأنه لم تقم من لفظه قرينة ظاهرة على أنه أراد في مثل هذه الصورة رعاية الإِرث واستثناها من ذلك العموم وبهذا يرد قول بعضهم الذي ينبغي اعتماده أن لها النصف باعتبار قصده أن للذكر ضعف ما للمرأة فيما استووا فيه في كيفية الإِدلاء إلى الميت الموقوف عليه كأخ وأخت وابن وبنت لا فيما لم يستويا فيه كذلك كبنت وأخ فإنه يعمل بالقصد لقوته لا بعموم اللفظ لأن أصحابنا قالوا في النكاح إنما يعتبر العموم في كلام الشارع وهو الله تعالى ورسوله لأنهما يعلمان ما انطوى تحت عموم كلامهما بخلاف غيرهما إذ لا يستحضر حال نطقه ما انطوى من المعاني تحت عموم لفظه فيكون للبنت النصف عملاً بقوة القصد لأن الصورة المسؤول عنها ليس هي مما يكون للذكر فيه مثل حظ الأنثيين(4/278)
وكذا نقول في ابن أخ وبنت أخ فإنها لا شيء لها في الإِرث مع أخيها وهنا لها الثلث لأن قصده ليس الإِرث بل القرابة فلا تحرم فيما يظهر ويحتمل أن لها النصف إذ لا تعصيب لها في الفرائض وهو الذي يقوى عندي عملاً بقصده وهو مطلق القرابة وليس المقام مما لا يكون فيه للذكر ضعف ما للمرأة إذ لا إرث هنا بخلافه في الفرائض أ هـ .
وقد أشرت أولاً إلى رد أكثر ما قاله على أن كلامه لا يخلو عن تناف وقع في أطرافه وبيان ذلك أن قوله إن قصده أن للذكر ضعف ما للمرأة فيما استووا فيه الخ. دعوى من غير دليل وكما أن هذا القصد لا يدركه إلا فقيه كذلك العموم لا يدركه إلا فقيه فلم اعتبر قصده المذكور مع عدم دلالة عليه ولم يعتبر العموم المذكور مع صراحة اللفظ به فكان ما زعمه من النظر إلى القصد دون العموم في غاية السقوط وما نقله عن الأصحاب فبتقدير وقوعه في كلام بعضهم مقالة لا يعوّل عليها ولا ينظر إليها وكم في كلام الأئمة من الاستدلال بعام من لفظ الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أو أحد من الأصحاب على أحكام وقضايا وحوادث بل في كلام المتأخرين في الاستدلال بعموم ألفاظ الواقفين ما لا يحصى كثرة وقوله: لأن الصورة المسؤول عنها الخ. لا يشهد له أيضاً لأن قوله ليس هو الخ. إنما هو باعتبار الإِرث ونحن إنما نفرع على أن الاستحقاق هنا إنما هو بالقرابة مع شرط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فالمراد كما دل عليه صريح اللفظ كل قريبين اقتضى شرط الواقف استحقاقهما يكون ذلك الاستحقاق على وجه هو أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله فإنه لا شيء في الإِرث مع أخيها وهنا لها الثلث الخ. أدل دليل على ما ذكرته من أنا لا نعتبر كيفية الإِرث ولا نقيس عليه وإنما نعتبر ما ذكرناه من أنه حيث اقتضى لفظ الواقف دخول اثنين في وقفه في زمن واحد كان للذكر منهما مثل حظ الأنثيين وبهذا يظهر لك أن المعتمد ما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/279)
البلقيني وغيره. وإن قول ذلك البعض ويحتمل أن لها النصف الخ. غير صحيح فتأمل ذلك فإنه مهم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن وقف داراً للسكنى على بناته وأولادهن وهكذا فكثروا وصاروا غير محارم أو ضاقت الدار عنهم فهل لهم الإِجارة ويؤجر الحاكم عليهم أو القسمة أو الإِعارة وهل تسكن الزوجة والخادم مع متبوعهما مع أنهما غير موقوف عليهما. فأجاب: بقوله ليس لهم إجارة ولا إعارة ولا يجوز الإِيجار عليهم وإنما ذلك في الملك المطلق إذا تنازعوا فيه وهنا الإِجارة منافية لشرط الواقف ومقصوده من سكناهم فيها وعند تنازعهم يدعوهم الحاكم إلى السكنى جميعاً إن أمكن حساً وشرعاً بأن لم يكن هناك اختلاط محرّم بين الرجال والنساء الأجانب وإلا تهايؤها على ما يراه الحاكم فإن امتنعوا أعرض عنهم إلى أن يصطلحوا ويجوز إسكان الخادم مع مخدومه كما صرح به البلقيني في فتاويه وأما زوجة الموقوف عليه وزوج الموقوف عليها فأفتى فيهما محمد بن عبد السلام الناشري اليمني بمنعهما إذا امتنع بعض الموقوف عليهم لأنهما غير داخلين في الوقف والإِعارة هنا ممتنعة كالإِجارة وأقره على ذلك فقهاء عصره وفي قوله: إذا امتنع بعض الموقوف عليهم نظر لأنه إذا سلم أن يسكن التابع إعارة وأن الإِعارة ممتنعة وإن رضي الموقوف عليهم فليمنعنا وإن رضي جميع الموقوف عليهم فاشتراطه في المنع امتناع بعض الموقوف عليهم غير صحيح على أن بعض اليمنيين ممن تأخر عن عصر أولئك خالفهم فأفتى بجواز سكنى الزوج والزوجة وإن لم تخدم زوجها لأن ذلك من تتمة الانتفاع بخلاف الإِجارة والإِعارة لمخالفتهما لمقصود الواقف.(4/280)
وسئل: هل يصح بيع الأرض التي فيها أموات مدفونون سواء أعرفت قبورهم أم لا ويصح وقفها مسجداً أم لا. فأجاب: بقوله نعم يصح البيع مطلقاً لإِمكان الانتفاع بها مع وجود الدفن فيها أما بالفارغ فواضح وأما غيره فبعد الانمحاق وحيث صح البيع صح الوقف كما قالوه فيما لو وقف أرضاً مسجداً وفيها أشجار فإنه يصح الوقف ولا تدخل الأشجار بخلاف ما لو وقفها غير مسجد فإن الأشجار تدخل.
وسئل: هل يعتمد على التاريخ المكتوب في المساجد والمقابر أو لا. فأجاب: بقوله لا اعتماد على ذلك نعم ينبغي أنه يفيد نوعاً من الاحتياط فإذا رأينا محلاً مهيأً للصلاة ولم يتواتر بين الناس أنه مسجد لم يجب التزام أحكام المسجد فيه لكن إذا رأيناه مكتوباً في بعضه ذلك تأكد ندب الاحتياط في أمره والتزام أحكام المسجدية له لأن الغالب في المواضع المهيأة للصلاة أنها مساجد لا سيما المبني في الموات إذ المبني فيها بنية المسجد لا يشترط فيه التلفظ بالوقف بل يصير مسجداً بمجرد النية ثم رأيت السبكي أوجب إجراء أحكام المسجدية على ما هو على هيئة المساجد وجهل حاله وله وجه وجيه وأما المقبرة فالمدار في كونها مسبلة أو غير مسبلة على اعتياد أهل البلد الدفن وعدم اعتيادهم فإن اعتادوه في محل حكم بأنه مسبل ويهدم كل ما بني فيه وإن لم يعلم أنه موقوف وإن لم يعتادوه بقي على أصله من الملك في غير الموات والإِباحة في الموات هذا حكمها الشرعي فإن رأينا تاريخاً يحالف شيئاً مما تقرر كوقفها على طائفة معينة مثلاً لم يجب التزام العمل به لكن ينبغي العمل به احتياطاً أو تورعاً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/281)
وسئل: عمن وقف كتاباً مكرساً في جلد أو كان محبوكاً وتكرس على جماعة معينين أو أهل رباط معينين هل يجوز لكل واحد منهم أخذ كراس ينتفع به وإن كان في جلده أحفظ أو لا فإن قلتم يجوز لأنه لا يمكن انتفاع الكل في وقت واحد إلا على هذه الكيفية فهل يجوز لواحد أن يأخذ كراساً بعد كراس للانتفاع وإن انتفت تلك العلة أو لا وهل يجوز لهم أن ينتفعوا به خارج الرباط أو لا فإن جاز لهم فهل يجوز لأحدهم أن يعيره لغيرهم أو لا فإن لم يجز له لأن الحق غير منحصر فيه فهل يجوز لهم إذا اتفقوا على الإِعارة كلهم أو لا ومن وقف كتاباً على أهل رباط هل يقدم به الأسبق أم الأكثر انتفاعاً أم يكون الانتفاع به مشاهرة وعمن وقف زيراً وقدراً وقصعة على أهل رباط هل يجوز لأحدهم أن يخرجها عن الرباط لينتفع بها أو لا فإن قلتم لا يجز لأحدهم هل يجوز لهم إذا رضوا جميعاً أو لا فإن قلتم يجوز عند الاتفاق على إخراجه من الرباط هل لهم أن يعيروه أو يؤجروه فإن جاز هل تقسم الأجرة بيهم أو ترصد لمصالح الرباط. فأجاب: بقوله إن كان هناك عرف مطرد في زمن الواقف عرفه عمل بقضيته لأنه منزل شرطه ويجري ذلك في سائر المسائل المذكورة وإن فقد ذلك فإن وقف الكتاب محبوكاً لم يجز فكه لأنه مظنة نقصه وضياعه أو مكرساً جاز انتفاع الموقوف عليه ببعضه انتفاعاً بحسبه ويلزمه وقايته مما يؤدي إلى نقصه ولا يجوز إخراج الموقوف على أهل محل منه أخذاً مما ذكره العبادي وغيره من حرمة نقل الماء المسبل وعبارة شرحي للعباب وفي الخادم عن العبادي أنه يحرم حمل شيء من المسبل إلى غير ذلك المحل كما لو أباح لواحد طعاماً ليأكله لا يجوز له حمل الحبة منه ولا صرفه إلى غير ذلك الأكل ثم قال وفي هذا تضييق شديد وعمل الناس على خلافه من غير نكير وعلى الأوّل الأوجه فهل المراد بالمحل في كلامه المحلة التي هو فيها كنقل الزكاة أو موضعه المنسوب إليه عادة بحيث يقصد المسبل أهله بذلك محل نظر والثاني أقرب(4/282)
انتهت وبها يعلم ما ذكرته من حرمة نقل الموقوف من كتاب أو قدر أو غيرهما على أهل محل مخصوص عنه ولا يجوز لأحد منهم إعارته بل ولا لكلهم وما حكي عن النووي رحمه الله تعالى مما قد يخالف ذلك لعله اختيار له ويقدم الأسبق بقدر حاجته في الزمن الذي يحتاج إليه فيه ويجب عليه أن يعطيه لغيره في غير ذلك الزمن ولا تأتي المشاهرة ونحوها هنا ولا يجوز لهم ولا لأحدهم إجارة الموقوف عليهم وإنما ذلك للناظر حيث رآه مصلحة ولم يخالف شرط الواقف ولا غرضه ومتى صحت إجارته له لزمه صرف الأجرة في الأهم فالأهم من مصالح الوقف وإلا فللموقوف عليهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/283)
وسئل: عمن وقف كتاباً على أهل محلة أو قرية أو رباط معين ولم يعلم هل جعل الواقف النظر لناظر الرباط أو لا أو جعل لمن لا أهلية له والنظر إنما هو للناظر العام ثم أراد أحد الموقوف عليهم أخذ الكتاب لينتفع به على مقتضى ما شرطه الواقف فهل يشترط إذن الناظر الخاص أو العام أو لا. فأجاب: بقوله الذي يتجه لي في ذلك أخذاً من صريح كلامهم الآتي أنه حيث كان هناك شرط للواقف اتبع وهو واضح وقد صرحوا بأن العرف المطرد في زمن الواقف إذا علمه يكون بمنزلة شرطه فيتبع ذلك أيضاً وهو واضح أيضاً وأنه حيث لم يكن هناك عرف ولا شرط أو لم يعلم ذلك لم يتوقف حل انتفاع الموقوف عليه بالموقوف سواء الكتاب وغيره على إذن الناظر سواء العام والخاص لأن المدار في الحل على الاستحقاق وهو موجود وإن لم يأذن الناظر وإنما الذي يتوقف على الناظر تقديم الأحق عند تزاحم جماعة من الموقوف عليهم لسبق أو أحوجية أو عموم انتفاع أو عدم خوف من بقاء الوقف تحت يده أو نحو ذلك مما يقتضيه النظر السديد فإذا ازدحم جماعة على الكتاب الموقوف مثلاً تعين على الناظر إيثار أحقهم به رعاية لغرض الواقف من وصول مزيد الثواب إليه ومما يصرح بما ذكرته أوّلاً من عدم توقف حل الانتفاع على إذن الناظر قول الروضة من سبق إلى موضع من رباط سبل صار أحق به وليس لغيره إزعاجه سواء أدخل بإذن الإِمام أم بغيره ثم قال وكذا الحكم في المدارس والخوانق إذا نزل بها من هو من أهلها وهذا كما ترى صريح فيما ذكرته من أنه لا يحتاج لإِذن الناظر بالنسبة لحل الانتفاع وعبارة المتولي تجوز السكنى أذن الإِمام أم لا إلا أن يشترط الواقف أن لا يسكن أحد إلا بإذن الإِمام أو من له النظر فمن سكن بغير إذنه لا يمكن من المقام أ هـ .
قال الإِمام التقي أبو الحسن السبكي وليس في كلامه هذا تصريح باشتراط إذن الناظر ولا بعدمه وينبغي أن لا يشترط حيث لا شرط للواقف كما هو ظاهر كلام المنهاج وغيره أ هـ .
فإن قلت قد(4/284)
ينافي ذلك قول الأذرعي بعد ما مر عن الروضة وقيد ابن الرفعة أحقية السابق إلى المدارس والخوانق والربط أي للسكنى بما إذا لم يكن فيه ناظر فإن كان لم يجز النزول فيه إلا بإذنه إن أمكن للعرف وكذا إذا كان للمدرسة مدرس دون ما إذا فقد أ هـ .
قلت: لا ينافيه بدليل قوله أحقية السابق فكلامه إنما هو في الأحقية وهي عند التنازع إنما يرجع فيها النظر الناظر فلا يتقدم أحد المتنازعين إلا بإذنه وحينئذٍ فمعنى قوله لم يجر النزول فيه إلا بإذنه أي لم يستمر حقه إلا بإذنه وتقريره ويفرض الأخذ بظاهر هذه العبارة من أن إذنه شرط لحل الانتفاع به يكون كلامه ضعيفاً لما علمت من مخالفته لكلام الروضة والمنهاج وغيرهما. واعتماد السبكي هذا دون كلام شيخه ابن الرفعة فإن قلت: يؤيده قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/285)
النووي رحمه الله تعالى في فتاويه يجوز للفقيه الذي ليس بمنزل سكنى المدرسة إذا أسكنه الناظر أ هـ .
قلت لا يؤيده لأن مراده بجواز السكنى استمرارها كما تقرر على أن الإسنوى اعترض هذه العبارة فقال ولا يستقيم أن يقال المنزل لا يشترط في حقه الإِذن بخلاف غيره لأن السكنى حق آخر مغاير لحق التنزيل أ هـ .
لكن قال الأذرعي فيما قاله الإسنوى نظر لأن التنزيل يشعر بالإِذن ولا شك في أنه يكفي إذا كان شرط الواقف السكنى بها اكتفاء بشرطه أ هـ .
ومما يصرح بما ذكرته أوّلاً وآخراً قول القاضي في نحو الرباطات الموقوفة على الفقراء والمدارس الموقوفة على الصوفية والمتفقهة كل من يسكنها من أهلها بإذن الإِمام أو بغير إذنه كان أولى فإذا جاء فقير آخر فليس له أن يزعجه عنه ويسكن فيه ولا يجوز لأحد إخراجه لأنه بصفة الاستحقاق اللهم إلا إذا رأى الإِمام المصلحة في أن يجعلها متساوية بين الفقراء أو مخافة أنه إذا طال مقام واحد فيه تملكه ويندرس الوقف فله أن يزعجه ويسكن فيه آخر أ هـ .
فتأمل ذلك فإنه يظهر لك ما قلته ووضحته وحررته والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/286)
وسئل: واقف صورة شرطه أنه أوقف على نفسه ثم على ولده أحمد ثم من بعده على أولاده ثم على أولاد أولاده وإن سفلوا الذكور والإِناث من ولد الظهر والبطن طبقة بعد طبقة ونسلاً بعد نسل للذكر مثل حظ الأنثيين الطبقة العليا أبداً تحجب الطبقة السفلى على أن من توفي من أهل هذا الوقف وترك ولداً أو ولد ولد أو أسفل من ذلك من ولد الظهر أو من ولد البطن انتقل ذلك إلى ولده أو ولد ولده وإن سفل على الحكم المشروح فيه وعلى أن من توفي منهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك انتقل ما كان يستحقه من ذلك إلى إخوته وأخواته المشاركين له في هذا الوقف على الحكم المشروح فيه مضافاً إلى ما يستحقون من ذلك وعلى أن من توفي منهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك ولا أخاً ولا أختاً انتقل ما كان يستحقه من ذلك إلى من هو في درجته وذوي طبقته مضافاً إلى ما يستحقون من ذلك وحكم بذلك من يراه ثم انتهى الوقف المذكور إلى ولدين من ذرية الواقف وهما عزيز وعلى ولدا شرعان بن أحمد ثم توفي على عن ولده أبي القاسم وبنته خوبذة ثم توفي عزيز عن أولاده شرعان وأجود ومحمد وفاطمة وشميسة ثم توفي أبو القاسم عن غير ولد ورجع ما كان يستحقه إلى أخته خوندة بمقتضى الشرط ثم توفيت شميسة عن أخوتها المذكورين وهما شرعان وأجود ومحمد وفاطمة ثم تزوج أجود ابنة عمه خوندة ورزق منها مصباحاً ثم توفيت خوندة عن زوجها أجود وبنتها مصباح ثم توفيت مصباح عن والدها أجود وعن أخت لها من أبيها تسمى مجيبة فهل تستحق مجيبة ما كان لأختها مصباح أو يكون الاستحقاق لوالدها أجود ولطبقته وإن قلتم باستحقاق مجيبة ورزق والدها أجود أولاداً أخر من جهة ثانية فهل يستحقون مع مجيبة شيئاً أو تكون قد استحقت ذلك باعتبار انفرادها عند موت أختها مصباح قبل وجود الأخوة المذكورين أفتونا مأجورين وبينوا وأوضحوا ما أشكل أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة بمنه وكرمه آمين. فأجاب: رضي الله تعالى(4/287)
عنه بما لفظه قد وقع في نظير هذه المسئلة أعني أن الاستحقاق والمشاركة المذكورين في كلام الواقف هل يحملان على ما بالقوة نظراً لقصد الواقف أنه لا يحرم أحداً من ذريته أو على ما بالفعل لأنه المتبادر من لفظه فيكون حقيقة فيه والحقيقة لا تنصرف عن مدلولها بمجرد غرض لم يساعده اللفظ اضطراب طويل بين أئمتنا المتقدمين والمتأخرين والذي حررته في كتابي سوابغ المدد أن الراجح الثاني ثم رأيت بعد ذلك شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله سبحانه وتعالى عهده قد استقر أمره في فتاويه عليه تبعاً لجماعة أئمة كالبغوي والتاج الفزاري والكمال سلار شيخ النووي وردّ أعني شيخنا ما أفتى به قبل من خلافه الذي مشى عليه السبكي وجماعة لكن قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
السبكي لا أشتهي أحداً من الفقهاء يقلدني فيه وممن جرى على الأول السراج البلقيني ومن تبعه وعليه فحصة علي وهي النصف لولديه أبي القاسم وخوندة أثلاثاً وحصة عزيز وهي النصف لأولاده أثماناً وحصة أبي القاسم وهي ثلثا النصف لأخته خوندة لأنها حين موته من أهل الوقف مضافاً لما تستحقه فيكمل لها النصف وحصة شميسة وهي ثمن النصف لأخوتها المذكورين أسباعاً وحصة خوندة وهي النصف كاملاً لبنتها مصباح وحصة مصباح وهي النصف كاملاً لأبيها أجود وأخوته عملاً بقول الواقف الطبقة العليا أبداً تحجب الطبقة السفلى دون قوله وعلى الثانية وقوله وعلى الثالثة لأنه شرط في الأخوة والأخوات وأن يكونوا مشاركين للميت فيما يستحقه وأن ما ينتقل منه إليهم مضاف لما يستحقونه ومجيبة وأخوتها لا حق لهم في الوقف الآن فلم يوجد فيهم الآن شرط الواقف لأن من في درجة مصباح غير مستحقين فتعين العمل بما قلناه وفوق كل ذي علم عليم والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/288)
وسئل: نفع الله تعالى بعلومه عن شخص شرط أن يكون النظر في وقفه لأولاده وفيهم قاصر فهل يستحق النظر ويقوم وليه الشرعي مقامه أو لا وفيما لو وقف على أولاده ثم على أخوات زيد فانقرض أولاده ولزيد أخت واحدة ثم ظهر له أخوات بعد سنتين من استحقاق الأخت الموجودة للوقف فهل يشتركن معها أم لا وفيما لو شرط الواقف أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة ثم خرب الوقف المذكور وتعينت إجارته لبقاء عينه فهل تصح ويباشرها الناظر ولا ينعزل بذلك أم لا تصح منه بل من الحاكم أم لا تصح الإِجارة أصلاً وفيما لو شرط أنه متى أجر الناظر الوقف كان معزولاً قبيل إجارته وقلتم بجواز إجارة الناظر فهل يلغى هذا الشرط أم يصح ويكون محل جواز الإِجارة إذا تعينت ما لم يشرط ما ذكر وهل هذا الشرط في نفسه معتبر مؤثر أم لا. فأجاب: بقوله لا نظر للقاصر ولا لوليه بل للقاضي ولا شيء له في مقابلة ذلك وتشارك الحادثات الموجودة وتصح الإِجارة فيما ذكر في القدر الضروري ويباشرها الناظر ولا ينعزل بذلك إذ لا يؤثر الشرط المذكور حينئذٍ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عن منقطع الوسط أنه يصرف إلى الأقرب إلى الواقف فما المراد بقولهم الأقرب إلى الواقف هل المراد ما ذكروه في الوصايا بقولهم وأقرب قريب فرع ثم أصل إلى آخر ما ذكروه أم المراد غير ذلك وما هو. فأجاب: بأن المراد كما صرحوا به الأقرب إلى الواقف رحماً وهو ما ذكروه في باب الوصية والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/289)
وسئل: عن شخص وقف داراً وجعل ثلث غلتها لولده والثلث الثاني لبنته والثلث الثالث يصرف منه في عمارة الوقف ما يحتاج إليه وما فضل بعد العمارة يصرف منه أشرفيان في كل سنة لمعتوقه مبارك ليتعاطى إجارة البيوت وعمارتها وما بقي بعد ذلك من الثلث يدفع لأم ولده المذكور أعلاه ووقف داراً أيضاً على أن يصرف من غلتها لأربعة قراء يقرؤون القرآن في المسجد لكل شخص أشرفيان في كل سنة ولتسبيل ماء في كل سنة أشرفيان وما فضل يصرف منه في عمارة الدار المذكورة ما يحتاج إليه ثم ما بقي بعد ذلك يدفع لأم ولده المذكورة ولم يذكر جهة يصرف إليها غير المذكورين بعد انقراضهم فمات المعتوق المذكور وأم الولد فوضع يده الولد وأخته المذكوران أعلاه على الأماكن المذكورة واقتسما ما كان يعطى للمعتوق ولأم الولد نصفين والحال أن لولد ولد الواقف المذكور ولداً وبنتاً فقراء وطلباً أن يصرف لهما ما كان للمعتوق وأم الولد المذكورين فهل يصرف لهما ذلك لاستحقاقهما له بصفة الفقر أم يصرف لأولاد الواقف المذكور وإن كانوا أغنياء لكونهم أقرب إلى الواقف المذكور. فأجاب: بقوله الفاضل عن العمارة وعن حصتي الولد والبنت في الأولى وعن حصتي القراء والتسبيل في الثانية يجب صرفه للولد والبنت اللذين هما ولداً ولد الواقف لفقرهما ولا يصرف منه شيء لولد الواقف وبنته ما داما غنيين والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/290)
وسئل: عمن وقف وقفاً على أولاده لصلبه وهم حينئذٍ عودة بن أحمد بن أبي بكر وعلي بن أحمد بن أبي بكر وبناته وهن رقية ابنة أحمد بن أبي بكر ومريم ابنة أحمد بن أبي بكر ونفيسة ابنة أحمد بن أبي بكر وخيرة ابنة أحمد بن أبي بكر وأم هانىء ابنة أحمد بن أبي بكر البالغين كلهم وعلى من يحدثه الله سبحانه وتعالى من الأولاد غيرهم ذكراً كان أو أنثى في باقي عمره أيام حياته ثم من بعدهم للأولاد الذكور من ولده ليس لأولاد البنات دخول في ذلك وشرط الواقف المذكور أن يقتسموا غلة هذا الوقف الموصوف بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وليس لأحد من الأبناء دخول في ذلك مع الآباء إلا أن ينقرض أحد ويترك ولداً فتكون أولاده على مثل نصيب أبيهم من هذا الوقف المنعوت يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا انقرض أولاد الميت كلهم ذكورهم وإناثهم رجع هذا الوقف إلى الذكور من أولاد ذكرانهم أولاد الذكور وإناثهم يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ولا تدخل الأبناء مع الآباء في شيء من ذلك إلا أن ينقرض أحد فيترك ولداً فتكون أولاده على مثل نصيب أبيهم وليس لأحد من بني بنات المحتسب الواقف دخول في شيء من هذا الوقف ولا لأحد من بني بنات بنيه شيء من ذلك إذ كان وقفه هذا إنما هو على أولاده لصلبه وعلى بني أولاده الذكور دون أولاد بناتهم حسبما تقدم ذكره يجري الحال بينهم في ذلك على الوصف المذكور طبقة بعد طبقة ونسلاً بعد نسل فإذا انقرضوا كان ذلك وقفاً على الأقرب فالأقرب من عصبات الواقف المذكور يجري الحال بينهم أيام حياتهم على الوضع المذكور ثم على من بعدهم فإذا انقرضوا ولم يبق أحد منهم كان ذلك وقفاً على فقراء المسلمين يتولى النظر في ذلك البالغ الرشيد من أولاده ثم من أولاد أولاده فإذا انقرضوا ولم يبق لهم نسل تولى النظر في ذلك الأرشد فالأرشد من عصبات الواقف فإذا انقرضوا ولم يبق أحد تولى النظر في ذلك حاكم المسلمين يولي النظر فيه لمن شاء من العدول(4/291)
هذا لفظه فإذا آل الوقف إلى أقرب عصباته بشرطه وهم سليمان وإبراهيم وعمر ومحمد فتوفي عمر المذكور وترك ولده عبد اللطيف على الربع ثم توفي إبراهيم المذكور وترك ولده أحمد على الربع أيضاً ثم توفي محمد المذكور عن غير ولد وانتقل الربع المختص به لسليمان المذكور ثم توفي سليمان المذكور وترك ولده عبد العزيز على النصف ثم توفي أحمد وترك ولده محمداً على الربع حصة والده ثم توفي عبد اللطيف المذكور وترك أولاده وهم عيسى وعبد الله ومبارك وعائشة وحورية على الربع حصة والدهم ثم توفي عبد الله المذكور وترك ثلاثة صبيان وخمس بنات وتوفي عيسى المذكور عن غير ولد وتوفيت بنت من بنات عبد الله المذكور عن غير ولد فهل حصة عيسى وحصة البنتين المذكورتين تنتقل لعبد العزيز المذكور لكونه أقرب الطبقات إلى الواقف أم لأخوتهم المذكورين أعلاه وما الحكم الشرعي في هذا. فأجاب: بقوله الذي دل عليه كلام الواقف المذكور أن العصبات حكمهم حكم الأولاد في جميع ما ذكره فيهم لقوله على الأقرب من عصبات الواقف المذكور يجري الحال بينهم أيام حياتهم على الوضع المذكور ومن الوضع المذكور في الأولاد أنه ليس لأحد من الأبناء دخول في ذلك مع الآباء إلا أن ينقرض أحد ويترك ولداً فتكون أولاده على مثل نصيب أبيهم ومن مات من الأبناء ولم يترك ولداً فنصيبه راجع إلى كل من عليه الوقف يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين هذا هو المذكور في الأولاد فيجري مثله في العصبات لنص الواقف عليه كما علمت فحينئذٍ حصة محمد المتوفى عن غير ولد لا تختص بسليمان خلافاً لما زعمه السائل بل يشترك فيها على السواء عبد اللطيف وأحمد وسليمان فإذا توفي سليمان كان لولده عبد العزيز الربع وثلث الربع لا النصف خلافاً لما زعمه السائل وإذا توفي أحمد كان لولده الربع وثلث الربع وإذا توفي عبد اللطيف كان لأولاده الربع وثلث الربع وهو ثلث الكل فيكون لهم ثمانية أسهم من أربعة وعشرين سهماً على سبعة(4/292)
رؤوس فيخص عبد الله سهم وسبعا سهم ينتقلان لأولاده ونصيب عيسى الميت عن غير ولد وهو سهمان وسبعا سهم ينتقل لعبد العزيز ولمحمد بن أحمد ولمباركة وعائشة وحورية ولأولاد عبد الله يقتسمون هذين السهمين والسُبعَين للذكر مثل حظ الأنثيين ونصيب البنتين الميتتين عن غير ولد من أبيهما عبد الله ينتقل لعبد العزيز ومن ذكر معه للذكر مثل حظ الأنثيين والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/293)
وسئل: عمن أوصى آخر بأن يقف بعد موته أرضاً على قارىء يقرأ القرآن على شفير قبره وعين ختمات شريفة معلومة بالسنّة أو بعضها وتفضل من مغل الأرض شيء كثير زائد على أجرة القارىء فهل الزائد للورثة إرثاً أو غيره أو لغيرهم وإذا لم يعين قدر الختمات فهل القراءة بقدر أمثال الأرض أو يستأجر بالكل. فأجاب: بقوله إنما يصح وقف الأرض الموصى بها لما ذكر إن خرجت من الثلث وإلا فما يحتمله منها ثم إذا وقفت فإن كان الموصي قال أوصيت بأن توقف تلك الأرض على من يقرأ كذا وكذا ختمة على شفير قبري بعد موتي ولم يزد على ذلك فالذي يعلم من كلامهم في باب الجعالة أن القارىء لا يستحق شيئاً من الوقف إلا إن قرأ ما عين له وحينئذٍ يستحق جميع مغل الأرض وإن كثر وزاد على أجرة مثله لأن هذا كالجعالة فإذا أتى بالعمل المشروط عليه استحق كل الجعل وهو مغل الأرض ما دام حياً فإذا مات صار الوقف منقطع الآخر فيصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف رحماً لا إرثاً بشرط الفقر فإن استوى جماعة في الأقربية صرف إليهم بحسب رؤوسهم وإن قال على من يقرأ ولم يعين شيئاً فإن كان في محل الموصي حال الوصية عرف مطرد في القراءة على القبر قدراً وزمناً عمل بذلك العرف ونزل كلام الموصي عليه لتصريحهم بأن العرف المطرد في زمن الواقف منزل منزلة شرطه وفي هذه الحالة يستحق كل من قرأ كالجعالة ولا ينتقل شيء من الوقف إلى غير القراء لأنه حينئذٍ غير منقطع الآخر لأنه لم يجعل للقراءة حداً تنتهي إليه فيكون الوقف مستمراً على القراءة وإن لم يكن هناك عرف مطرد كما ذكرناه استحق من الوقف كل من قرأ على القبر ولو شيئاً يسيراً فيعطيه الناظر ما يراه لائقاً بعمله والوقف في هذه الحالة غير منقطع الآخر أيضاً فلا يصرف منه شيء لغير القراء ثم رأيت في فتاوى الأصبحي ما قد يتوهم منه مخالفة لبعض ما ذكرته فلا تغتر به ولفظه إذا أوصى بأن يوقف على قبره فهذا ينصرف إلى الغلة لا غير ويحكم العرف في غلة كل(4/294)
سنة لسنتها فمن قرأ جزءاً استحق بقسطه ومن قرأ أكثر كذلك وإن قرأ الجميع استحق غلة ذلك العام وإن كان وصية بالأرض من غير وقف فإن عين مدة القراءة في كل يوم جزءاً إلى مدة كذا فلا يستحق العين الموصى بها إلا من قرأ تلك المدة وإن لم يعين المدة وقعت المدة مجهولة إذ لا آخر لذلك والاستحقاق معلق على شرط مجهول لا آخر له فيشبه مسئلة الدينار وفيها إشكال وتصويرات حتى قال صاحب النهاية في آخر تفريعاتها وهذه مشكلة لا يهتدى إليها وإن كان وقفا فهو أقرب أو وصية مدة معينة فكذلك وإن كان وصية إلى غير نهاية فهو مشكل والمسئلة منصوصة في الغرائب أ هـ .
وما ذكره في المدة المجهولة مردود كقياسه له على مسئلة الدينار قبل فإذا قرأ القارىء على قبره كل يوم جزءاً من القرآن مدة حياته استحق الوصية وإلا فلا.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/295)
وسئل: عمن قال وقفت كذا على وارد المسجد ولم يزد على ذلك فهل يصح الوقف ويصرف للوارد في مسجد ما فإن كان لا يصح فما وجهه. فأجاب: بقوله قضية كلامهم بطلان الوقف لتصريحهم بأنه لو قال وقفت هذا على المسجد ولم يعينه لم يصح أي لإِبهام الموقوف عليه فيتعذر الصرف إليه وذلك ينافي مقصود الواقف فبطل وظاهر أن مثل هذا قوله على وارد المسجد لأن الوراد وإن كان معيناً بوصفه إلا أنه صار مبهماً من حيث انبهام محله لأن الواقف لم يطلقه وإنما قيده بمحل مبهم فلزم من انبهام القيد انبهام المقيد فتعذر الصرف للموقوف عليه فبطل الوقف كما تقرر في الوقف على المسجد من غير تعيين وإنما لم يصح نظراً إلى أن المسجد محلى بأل فيعم لاستحالة ذلك حينئذٍ لأن مدلول العام كلية فكأنه قال وقفت هذا على وارد كل مسجد وورود الشخص لكل مسجد المشروط في استحقاقه بالتقرير الذي تقرر محال فلم ينظر إليه كما أنهم لم ينظروا إليه في وقفت هذا للمسجد وصرفه للوارد في مسجد ما لم يدل عليه اللفظ فلم ينظر إليه لأنه إن كان عاماً كما تقرر فواضح أن ذلك ليس مدلوله أو غير عام بأن كانت أل فيه عهدية فالإِبهام فيه حاصل للجهل بذلك المعهود فبطل على كل تقدير نعم لو قال الواقف أردت مسجد كذا فيظهر قبول قوله لاحتماله فيصح الوقف.(4/296)
وسئل: عن التحشية في الكتب الموقوفة أتجوز أو يفرق بين محش ومحش وتحشية دون تحشية. فأجاب: بقوله القياس منع التحشية في الكتب الموقوفة لأن الكتابة على حواشيها استعمال لها فيما لم يأذن فيه الواقف والأصل امتناعه إلا إذا اقتضت المصلحة خلافه وحينئذٍ فلا يبعد جوازها إن اقتضتها المصلحة بأن كان الخط حسناً وعاد منها مصلحة على الكتاب المحشى عليه لتعلق الحواشي بما فيه تصحيحاً أو بياناً وإيضاحاً أو نحو ذلك مما يكون سبباً لكثرة مطالعة الناس له وانتفاعهم به لأن الواقف لو اطلع على ذلك لأحبه لما فيه من تكثير الثواب له بتعميم النفع بوقفه ومتى انتفى شرط مما ذكرته لم تجز التحشية وهذا كله وإن لم أره منقولاً لكن كلامهم في باب الوقف دال عليه فإن قلت قضية قولهم يكره نقش المسجد بما فيه أحكام تبرعاً جواز الحواشي هنا مطلقاً ويؤيده قول الزركشي يكره أيضاً كتابة شيء من القرآن في قبلته قاله مالك أ هـ .
فكما جاز النقش في جداره مع عدم إذن الواقف فيه فكذا تجوز التحشية في حواشي الكتاب الموقوف وإن لم يأذن الواقف فيه قلت النقش إنما يجوز أن يفعل في جداره تعظيماً لشعائر الإِسلام كما صرح به البغوي حيث قال ليس تزويقه من المناكير التي يبالغ فيها لأنه يفعل تعظيماً لشعائر الإِسلام وقد أباحه بعض العلماء وإنما كره ذلك لما فيه من إشغال قلب المصلي وأما الحواشي التي لا تعود منها مصلحة على ما في الكتاب فلا تعظيم فيها فلذلك قلنا بامتناعها على أن من شأن كتابة الحواشي أنها تضر بمحلها من الورق ففيها نوع ضرر للعين الموقوفة فعند المصلحة يحتمل لأن المصلحة محققة والمضرة موهومة والمحقق مقدم على الموهوم وأما التزويق فلا ضرر فيه للجدار بوجه على أنه يمكن مسحه وإزالته عنه بخلاف الحواشي فاتضح الفرق بين التزويق وكتابة الحواشي.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/297)
وسئل: عن واقفة وقفت على جماعة نسوة نحو سبعة مثلاً على بناتهن وبنات بناتهن إناثاً غير ذكور مرتباً بطناً بعد بطن ثم من بعدهن على غيرهم وقفا شرعياً ثم شرطت أن يبدأ بالعمارة من ريعه وأن يدفع للمستحقات استحقاقهن وأن يدفع من أجرته لقارىء شرطته في وقفها عشرة دنانير مثلاً فهذا صورة لفظها في وقفها فهل يأخذ القارىء العشرة المشروطة له أو ما فضل بعد العمارة قبل الموقوف عليهن وإن فضل شيء يكون لهن بالسوية كما شرطت أم يوزع الباقي بعد العمارة بين القارىء والموقوف عليهن بالسوية والقصد التأمل الشافي في عبارة الواقفة فإن ما فيها ترتيب بل يفهم من قولها تقديم استحقاق القارىء عليهن يدفع للقارىء من ريعه عشرة دنانير ويدفع للمستحقات استحقاقهن أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله ما فضل عن العمارة يصرف منه للقارىء قدر أجرة مثل قراءته لأنه مقدم بذلك على غيره ممن لا عمل عليه وما فضل عن أجرة مثله مما سماه له الواقف إن فضل منه شيء يقسم ما بقي من الغلة عليه وعلى الموقوف عليهن لأنه يضاربهن به كما أفتى البلقيني بنظيره.(4/298)
وسئل: عمن وقف على أولاده ثم شرط أن من مات من أهل الوقف فنصيبه راجع إلى الباقين بالسوية بينهم ومن حدث من الذراري فهو بنصيبه مع الموجودين حال ظهوره سواء بسواء للذكر مثل حظ الأنثيين فهل يرجع نصيب الميت إلى الباقين وإن كان أحدهم أقرب ويستحق من حدث وإن كان أبوه من أحد الموجودين. فأجاب: بقوله من المعلوم أن الوقف على الأولاد لا يدخل فيه أولادهم وكذا يقال في المرتبة الثانية والثالثة وهكذا وأنه يدخل في الوقف على الأولاد الذكور والإِناث وفي أولاده وأولاد أولاده البنون والبنات ما لم يقل على من ينسب إليّ منهم إذا تقرر هذا فالذي دلت عليه عبارة الواقف المذكورة أوّلاً وآخراً أن نصيب الميت من أهل الوقف يرجع إلى الموجودين بالسوية بينهم وإن كان أحدهم أقرب إلى الميت من الباقين وأن الذكر والأنثى هنا سواء وأن من حدث من أولاد البطون أو أولاد الظهور شارك الموجودين لكن إن كان ذكراً فله مثل الذكر منهم وإن كان أنثى فله نصف ما للذكر وأنه لا فرق بين أن يكون الحادث من ذرية الموجود أيضاً أو لا وهذا آخر ما كتبته في جواب السؤال وبقي فيه شيء ننبه عليه وهو أنه لم لم يرجع قوله للذكر مثل حظ الأنثيين إلى مسئلة الميت أيضاً فالجواب أن هذا سياق آخر وذلك لأن السياق الأوّل فيه من الشرطية وجوابها بقوله فنصيبه راجع إلى الباقين بالسوية بينهم والثاني فيه من أيضاً وجوابها بقوله فهو نصيبه الخ. فتخصيص قوله سواء بسواء المقتضي للتسوية بينهم من كل وجه بقوله للذكر مثل حظ الأنثيين وقع في جواب هذا الشرط الثاني وجواب الأوّل لم يخصص فيه الاستواء بشيء فعملنا بقضية قولهم والصفة المتقدمة على جمل معطوفة كوقفت على فقراء أولادي وأحفادي وإخوتي وكذا المتأخرة كعلى أولادي وإخوتي المحتاجين والاستثناء كقوله إلا أن يفسق واحد منهم تعتبر في الكل قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/299)
الإِمام إلا أن عطف بثم أو تخلل كلام طويل وإلا اختصت بالأخيرة لا ينافي ما قررته لأن قوله للذكر مثل حظ الأنثيين وقع في جواب شرط غير الشرط الأوّل فلم يكن من باب تأخير الصفة عن جمل متعاطفة وإلا لزم أنه لو قال موضعه إن كانوا فقراء أنه يرجع إلى الباقين في مسئلة الميت وهو في غاية البعد نعم لو قال والذكر والأنثى سواء اتجه أن يقال إنه راجع للمسئلتين إذ لا تعلق له بشيء فحمله على العموم هو قاعدة الباب وهل يتقيد قوله للذكر مثل حظ الأنثيين بقوله قبله مع الموجودين لأنه لم يشترط ذلك إلا إن كان هناك موجودون غيره فلو حدث ولا موجود غيره تساوى الذكر والأنثى أو لا يتقيد به لأن هذا قيد في استحقاقه مطلقاً الأقرب الثاني.
وسئل: بما لفظه كيف يمثل الأصحاب لتأخير الصفة عن الجمل المعطوفة أو تقدمها عليه أو الاستثناء بعدها بقولهم وقفت على محتاجي أولادي وأحفادي وإخوتي مع أن هذه مفردات لا جمل. فأجاب: بقوله ذلك إطلاق مجازي ومن ثم مثل الإِمام لذلك في الأصول بقوله وقفت على أولادي داري وحبست على أقاربي ضيعتي وتصدقت على عتقاني ببستاني الخ. وقد استبعد الولي العراقي كون ما ذكروه من عطف الجمل وإن قدر لكل واحد عامل ووجهه أن الأصل عدمه ولا دليل عليه نعم ينبغي أن يكون مبنياً على القول بأن العامل في المعطوف فعل مقدر بعد العاطف لا العامل في المعطوف عليه.(4/300)
وسئل: عمن وقف شيئاً على من يصلي الخمس في هذا المسجد أو من يشتغل بالعلم في هذه المدرسة أو يقرأ كل يوم في هذه التربة فأخل بشيء من ذلك في بعض الأيام فهل يستحق بقسطه أم لا. فأجاب: بقوله قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام لا يستحق شيئاً من الغلة في مقابلة الأيام التي أدى فيها الوظيفة بخلاف ما لو استؤجر لخياطة خمسة أثواب فخاط بعضها والفرق أنا نتبع في الأعواض والعقود المعاني وفي الشروط والوصايا الألفاظ والوقف من باب الأرصاد والأرزاق لا من باب المعاوضات فمن أخل بشيء من الشروط لم يستحق شيئاً أ هـ .
قال الزركشي وفيه نظر بل ينبغي أن يقال يستحق قدر ما عمل وعليه عمل الناس ويدل له قول الأصحاب أن من استؤجر للنيابة في الحج فمات وقد بقي عليه بعض الأركان أنه يوزع وهو واضح أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/301)
وسئل: عما إذا استناب أمام المسجد من يصلي عنه بغير عذر فهل يستحقان شيئاً. فأجاب: بقوله الذي أفتى به النووي رحمه الله تعالى و ابن عبد السلام أن الإِمام والنائب لا يستحقان شيئاً من الجامكية ثم إن جعل للنائب جعلاً استحقه وإلا فلا قالا فإن أذن له الناظر في الاستنابة جازت واستحق النائب المشروط للإِمامة دونه وليس هو نائباً عنه بل هو وكيله في هذه التولية فإن تواطآ على أن يأخذ كل بعضاً لم يجز وفي صحة التولية حينئذٍ نظر مبني على أن المعلوم كالمشروط ولو شرط ذلك في التولية بطلت ولم يستحق القائم بالإِمامة شيئاً فإن لم يجر شرط ولا تواطآ فتبرع الإِمام على الوكيل فلا بأس به أ هـ .
وخالفهما التقي السبكي وغيره فأفتوا بجواز الاستنابة قال السبكي أخذاً من كلامهم إذا استعان المجعول له بغيره وعمل غيره بقصد الإِعانة منفرداً أو مشاركاً استحق المجعول له كمال الجعل فقياسه أن المستنيب هنا يستحق جميع المعلوم لأن النائب معين له قال لكني أشترط أن يكون النائب مثل المستنيب أو خيراً منه لأن الغرض هنا يختلف باختلاف الأشخاص بخلافه في الجعالة إذ الغرض رد العبد مثلاً فالعالم والجاهل فيه سواء فإن كان دونه لم يستحق واحد منهما إن كانت التولية شرطاً وإلا استحق المباشر لاتصافه بالإِمامة المقتضية للاستحقاق والاستنابة فيها تشبه التوكيل في المباحات وفي معنى هذا كل وظيفة تقبل الاستنابة كالتدريس وهذا فيما لا يعجز عن مباشرته بنفسه وإلا فلا إشكال في الاستنابة أ هـ .
(4/302)
وسئل: عمن وقف على مدرس يقرىء الناس في مسجد أو مدرسة كل يوم واعتيد ترك الإِقراء يوم الجمعة فهل عليه الإِقراء فيه أيضاً. فأجاب: بقوله الذي أفتى به ابن الصلاح أن عليه ذلك لأن قوله كل يوم تصريح بالعموم فلا يترك بعرف خاص قال ثم إن كان مريدو القراءة محصورين فلا بدّ من استيعابهم وإلا اكتفى بثلاثة وظاهر كلام الشيخ عز الدين يخالفه فإنه قال العرف المطرد بمنزلة المشروط فينزل الوقف عليه فإذا وقف على المدرس والمعيد والفقهاء بمدرسة كذا نزل على ما يقتضيه العرف من التفاوت بينهم وبين الفقيه والأفقه وكذلك ينزل على إلقاء الدرس في الغدوات ولا يكفي إلقاؤه ليلاً ولا عشية ولا ظهراً.
وسئل: عما إذا أجر متولي المسجد حانوته بشرط أن يعمره المستأجر من ماله ويكون ما أنفقه محسوباً له من الأجرة فهل تصح الإِجارة ويحسب له ذلك. فأجاب: بقوله الذي صرح به الرافعي رحمه الله تعالى آخر الإِجارة عدم صحة الإِجارة لأنه عندها غير منتفع وعليه فالظاهر أنه لا يحسب له ذلك لأنه متبرع إذ لا أجرة عليه حتى يحسب منها ما أنفقه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/303)
وسئل: عمن وقف على عمارة المسجد هل يجوز صرف الريع إلى نحو نقشه ومؤذنيه وقوامه. فأجاب: بقوله لا يجوز صرفه إلى النقش والتزويق قاله في الروضة قال وفي العدة أي والحاوي ولا إلى أئمته ومؤذنيه ويجوز إلى قوامه والفرق أن القيم لحفظ العمارة واختصاص الأئمة والمؤذنين بأحوال المصلين قال: ولا يشتري منه الدهن بخلاف البواري قال الرافعي وكان الفرق أن ما يفرش حافظ للعمارة ومنفعة الدهن تختص بالمصلي قال الزركشي وغيره والذي ذكره صاحب التهذيب وأكثر من تعرض للمسئلة أنه لا يشتري به الدهن ولا الحصر والتجصيص الذي فيه أحكام معدود من العمارات ولو وقف على مصلحته لم يصرف إلى النقش والتزويق أيضاً وتجوز عمارته وشراء الحصر والدهن ونحوهما، قال الرافعي : والقياس جواز الصرف إلى الإِمام والمؤذن أيضاً ولو وقف على المسجد مطلقاً صح قال البغوي : وهو كما لو وقف على عمارته وفي الجرجانيات حكاية وجهين في جواز الصرف إلى النقش والتزويق والمعتمد الأول وما فضل عن العمارة قال ابن أبي هريرة يحفظ للمسجد وقال ابن القطان يشتري به عقار ويوقف له.
وسئل: عمن وقف على دهن السراج في المسجد هل يجوز إسراجه جميع الليل وإن لم يكن فيه أحد. فأجاب: بقوله الذي أفتى به النووي أنه إنما يكون جميع الليل إن انتفع من بالمسجد ولو نائماً فإن لم يكن به أحد ولا يمكن دخوله لم يسرج لأنه إضاعة مال وقال ابن عبد السلام يجوز إيقاد اليسير من المصابيح ليلاً مع خلوه احتراماً له وتنزيهاً عن وحشة الظلمة ولا يجوز نهاراً لما فيه من السرف والإِضاعة والتشبيه بالنصارى ومن كلامه هذا يؤخذ تحريم إكثار الوقود في المساجد بحيث يزيد على الحاجة قطعاً أيام رمضان ونحوها وإن لم يكن من مال الوقف.(4/304)
وسئل: عن المدارس الموقوفة على الفقهاء هل يجوز لغيرهم دخول أخليتها والشرب من مائها والجلوس فيها أو لا. فأجاب: بقوله أفتى ابن الصلاح بجواز ذلك على ما جرت به العادة واستمر به العرف في المدارس وينزل العرف في ذلك منزلة شرط الواقف له في وقفه صريحاً قال وبذلك أفتى الغزالي .
وسئل: عما إذا كان للمسجد مؤذن ووقاد وكناس فعجز ريع الوقف فمن المقدم منها. فأجاب: بقوله يقدم الثاني كما قاله السبكي وأطال في الاستدلال له قال ومحله إن كان من مال المسجد فإن كان من مال المصالح فالمؤذن أولى لعظم موقعه في الدين وأفتى ابن الفركاح فيمن وقف على مصالح جامع عليه ترتب أئمة وخطيب ومؤذنون وقومة وأناس يلقنون الكتاب العزيز والوقف لا يفي بجميعهم بأنه يجب تقديم المؤذنين والإِمام والخطيب على غيرهم من الملقنين ومن في معناهم ووافقه على ذلك جماعة ولا ينافي ما ذكره السبكي كما هو ظاهر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/305)
وسئل: عن شخص وقف حوشاً به ثلاثة حواصل على ثلاثة أنفار ثم على أولادهم ونسلهم ثم أنهى أحد الثلاثة المستحقين إلى الناظر الشرعي الذي له ولاية النظر العام أن الحوش وما به من الحواصل المذكورة خرب منهدم متساقط واستأجره من قيم شرعي أقامه الناظر المشار إليه أعلاه في ذلك والحال أن الحواصل المذكورة قائمة على أصولها وقت الإِيجار لم يحصل بها هدم ولا خراب ولم يذكر المؤجر شيئاً من الحواصل المذكورة في الإِيجار المذكور لكن حدد الحوش بحدود شملت الحواصل المذكورة فهل للموقوف عليهم أو لورثتهم المطالبة بأجرة الحواصل المذكورة في المدة التي وضع فيها المستأجر يده عليها لكون المؤجر لم يذكرها ولم يتعرض لها أم لا أو تدخل في الحدود المذكورة وتشملها الإِجارة لكون الحدود شاملة لها مع كونها لم تذكر في الإِجارة والحال أن الأجرة المستأجر بها دون أجرة المثل فهل تصح الإِجارة بدون أجرة المثل أم لا وإذا ثبت أن الأجرة أجرة المثل حين الإِجارة وحكم بذلك فهل تقدم البينة الشاهدة بأن الأجرة دون أجرة المثل أم لا وهل ينقض الحكم المترتب على ثبوت الأجرة السابقة أم لا. فأجاب: بقوله إذا أجر الناظر أو نائبه الحوش المذكور لأجل كونه خربا وكان خرابه هو المسوّغ للإِيجار فبان أنه لم يكن خراباً وقت الإِيجار بأن بطلان الإِيجار وكذلك يبطل إيجاره إن وقع بدون أجرة المثل وإذا شهدت بينة بأن ما أجر به أجرة المثل وشهدت أخرى بأنه دون أجرة المثل قدمت الثانية وإن حكم حاكم بقضية الأولى على المعتمد في ذلك خلافاً للسبكي ومن تبعه نعم إن كان المحل باقياً على حاله إلى يوم التنازع ولم يختلف الراغبون فيه بل كانت رغبتهم فيه يوم الإِيجار رغبتهم فيه عند التداعي وقطع المقوّمون بأن الأجرة التي حكم بها الحاكم بأنها أجرة المثل هي أجرة مثله ولم يبين الشاهدان بأنها دون أجرة المثل سبباً يقتضي ما شهدا به قدمت البينة الشاهدة بأن ذلك أجرة المثل لأنه لا معارض(4/306)
لها حينئذٍ وعلى هذه الصورة يتعين حمل كلام السبكي وحيث قلنا بصحة الإِجارة دخل فيها ما تناولته الحدود المذكورة في عقد الإِجارة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عمن وقف وشرط النظر للأرشد فالأرشد من الذرية فأثبت بعضهم أرشديته ببينة ومكث ست سنوات ثم أثبت آخر أرشديته ببينة أخرى فهل يشارك الأول في النظر أو لا. فأجاب: بقوله قال في الروضة نقلاً عن فتاوى ابن الصلاح لو شرط النظر للأرشد أي فالأرشد من أولاده فأثبت كل منهم أنه الأرشد اشتركوا في النظر من غير استقلال إذا وجدت الأهلية في جميعهم فإن وجدت في بعضهم اختص بذلك لأن البينات تعارضت في الأرشد فتساقطت وبقي أصل الرشد فصارت كما لو قالت البينة برشد الجميع من غير تفصيل وحكمه التشريك لعدم المزية وأما عند الاستقلال فكما لو أوصى إلى شخصين مطلقاً أ هـ .
وتبعه على هذا الإِطلاق جماعة ومقتضاه أنه لا فرق في التشريك بينهم إذا أثبت كل منهم أنه الأرشد بين أن يقيما البينتين معاً أو تتقدم بينة أحدهما وهو متجه إذ التعارض حاصل في كلا الحالين وقد صرح بأن التعارض يلزمه تساقط البينتين وبقاء الرشد وذلك صريح أو كالصريح في مشاركة الثاني المذكور في السؤال للأوّل من حين تثبت أرشديته وأنه لا أثر لتقدم ثبوت رشده وهو وجيه معنى ونقلاً وأما ما قاله الروياني ك الماوردي من أنه لو شرط للأفضل فالأفضل من بنيه كان لأفضلهم حالة استحقاق النظر فلو تجدد أفضل منه لم يكن له نعم إن تغير حاله انتقلت الولاية إلى من هو أفضل منه فلو جعلها للأفضل من ولده ففي دخول الإِناث وجهان ثانيهما يراعي الذكور لأنهم أفضل أ هـ .
فهو وإن كان صاحب الأنوار نقله وأقره لكن الأوجه خلافه كما علم مما مر ومن ثم لما نقله الأذرعي عنهما قال وعندي فيه وقفة فيما لو تجدد فيهم من هو أفضل أنه لا يستحق وينبغي أن يستحق وينعزل الأول عملاً بقضية كلام الواقف أ هـ .
وبتأمل قوله وينبغي(4/307)
الخ. يعلم أن الصورة أنه لا تعارض في مسئلة الماوردي والروياني بأن يعلم تجدد الأفضلية للثاني على الأول حتى لو فرض التعارض هنا كأن أقام كل بينة أنه الأفضل وجب التساوي بينهم وحينئذٍ فلا ينافي ما قالاه ما مر عن الروضة لأن كلامهما كما علمت فيما إذا حصل تعارض فيجب الحكم بالتساوي إذ لا مرجح بخلافه هنا فإنه لا تعارض فوجب اتباع لفظ الواقف وهذا نص فيما ذكره الأذرعي وليس بظاهر فيما ذكره الماوردي والروياني فوجب تضعيفه والعمل بما مر وبما قررته آخراً تعلم وجه اعتمادي ما بحثه الأذرعي وتضعيفي لكلام الماوردي والروياني ووجه عدم اعتمادنا لمقتضى تنظيره في كلام ابن الصلاح لوضوح الفرق بينهما كما عرفت ثم قولهما نعم الخ. فيه نظر أيضاً وإن مشى ابن الرفعة على مقتضاه إذ مقتضى النص انتقال النظر إلى الحاكم كما لو غاب الأهل وفارق انتقال ولاية النكاح إلى الأبعد بفسق الأقرب أن الثاني هنا لم يجعل له النظر إلا بعد الأول ولا سبب في حقه غيره وأولياء النكاح السبب المقتضي موجود في جميعهم وهو القرابة وقدم الأقرب عند أهليته فإذا لم يكن فيه أهلية عمل المقتضى في الأبعد عمله ثم رأيت السبكي قال لو شهدت بينة بأرشدية زيد ثم أراد آخر أن يثبت أرشديته فإن كان قبل الحكم أو بعده وقصر الزمن بينهما بحيث لا يمكن صدقهما تعارضتا ثم يحتمل سقوطهما ويحتمل اشتراكهما أ هـ .
قال غيره وبالثاني أفتى ابن الصلاح قال أعني السبكي وإن طال الزمن فمقتضى المذهب أنه يحكم بالثانية إن صرحت بأن هذا أمر متجدد أ هـ .
قال غيره بل مقتضاه ما صرح به الماوردي وغيره أنا نحكم بالثانية إذا تغير حال الأرشد الأول.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/308)
وسئل: عمن شرط في كتاب وقفه مبلغاً في كل سنة لإِمام مسجد فهل للناظر على المسجد صرف المبلغ في عمارته إذا صار خراباً أو لا وهل صرف مبلغ الإِمام في مدة خراب المسجد وإن لم يباشر وهل له صرف المبلغ في ثمن حصر وقناديل وإذا قلتم لا فما حكم المبلغ المتحصل. فأجاب: رضي الله سبحانه وتعالى عنه بقوله قال الشيخان وغيرهما. وتقدم عمارة عقار المسجد على حق الموقوف عليهم أي لما في ذلك من حفظ الوقف ومنه يؤخذ بالأولى أنه لو تعذر إعادة المسجد أو المنهدم منه إلا بصرف مبلغ الإِمام وغيره صرفه في ذلك لما ذكر من العلة وأما المسئلة الثانية فقد قال الزركشي لو تولى وظيفة وأكره على عدم مباشرتها أفتى تاج الدين الفزاري باستحقاقه المعلوم والظاهر خلافه لأنها جعالة وهو لم يباشر أ هـ .
وفي فتاوى شيخنا شيخ الإِسلام زكريا كفتاوى السراج البلقيني ما يوافق الأول لكن الأوجه الثاني وأما المسئلة الثالثة فالظاهر فيها أن مبلغ الإِمام لا يصرف إلى نحو القناديل لأن إقامة الجماعة بالمسجد أقرب إلى غرض الواقف والشارع من وقوده وفرشه وأما غلة وقف المسجد المتعطل فقال الروياني ك الماوردي تصرف للفقراء والمساكين وقال في محل آخر أنه منقطع فتصرف غلته لأقرب الناس إلى الواقف وقال المتولي يصرف لأقرب المساجد إليه وقال الإِمام يحفظ لتوقع عوده وهو قياس ما ذكروه في غلة وقف الثغر أ هـ .
والذي يتجه ترجيحه إن رجى توقع عوده ووجد موثوق به يحفظ وإلا فالذي يتجه ما ذكره المتولي وأما الزائد من غلة المسجد على ما يحتاج إليه فيدخر منه ما يعمره بتقدير هدمه ويشترى له بالباقي عقار أو نفقة لأنه أحفظ له لا بشيء من الموقوف على عمارته لما في ذلك من حفظ الوقف هذا حاصل ما ذكره ابن كج والقفال وإن نظر فيه الأذرعي.(4/309)
وسئل: هل يصح وقف الإِمام من بيت المال على معين أو جهة. فأجاب: بقوله أفتى ابن الصلاح و النووي برد الله تعالى مضجعهما بصحة ذلك تبعاً لجمع لكن قال السبكي الذي أراه أنه لا يجوز وقفه على معين ولا على طوائف مخصوصة وأطال الكلام فيه ومما يؤيده قولهم إن الإِمام في أموال بيت المال كالولي في مال موليه وقد صرحوا هنا بأنه لا يصح وقف الولي فليكن الإِمام مثله لكن قد يجاب عن ذلك بأن الإِمام لما كان متمكناً من الإِقطاع لما يرى فيه من المصلحة وكان الوقف على معين أو جهة قريباً من ذلك لا من كل وجه سومح له في أن يقف ما يراه مصلحة على من يراه أهلاً لذلك لأنه وإن كان كالولي فيما ذكر إلا أنه أوسع نظراً منه فلم يعطِ حكمه من كل وجه وقولهم شرط الموقوف أن يكون مملوكاً جرى على الغالب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/310)
وسئل: عمن قال وقفت هذا على زيد ثم على رجل ثم على الفقراء فهل بعد موت زيد يصرف إلى من وما مدة الصرف. فأجاب: بقوله يصرف بعد موت زيد إلى الفقراء لتعذر معرفة أمد الانقطاع هذا ما مشى عليه ابن المقري قال شيخنا في شرح الروض وهذا أخذه من تفريع الأصل له على القول بصحة وقف منقطع الأول أ هـ .
وهذا يحتمل أن يكون تضعيفاً له ويحتمل خلافه أي ولا يمنع من ذلك أخذه إياه من التفريع على ضعيف لأنه لا يدل على ضعفه لكن اعتمد بعضهم الأول واستدل بعبارة المنهاج والروضة وجامع النشائي ورد بأن محل هذه العبارات في مجهول يمكن انتظاره وفيه نظر فإن الرجل الآخر يمكن انتظاره بما سنذكره وإذا قلنا إن ما ذكره ابن المقري ضعيف فيصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أي أفقر الأقرباء إليه حينئذٍ وأما مدة الصرف فالظاهر أنها تقدر بزمن حياة ذلك الرجل المبهم لو كان معيناً وعليه فهل يقدر العمر الطبيعي وهو مائة وعشرون سنة لأنا قبل ذلك نشك في استحقاق الفقراء حينئذٍ أو يقدر العمر الغالب وهو ما يحكم بموته لو غاب كل محتمل والأقرب الثاني أيضاً لأن الرجل إنما يطلق في أشهر إطلاقاته على البالغ والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/311)
وسئل: عما إذا جدد مسجد بآلات جدد فهل يجوز صرف ما بقي من آلاته القديمة في عمارة مسجد آخر قديم محتاج للعمارة أو لا وحينئذٍ فهل تباع ويحفظ ثمنها أو تحفظ هي لحاجات ذلك المسجد آجلاً ولو نوى أو نذر أن يعمر مسجداً معيناً وجمع لذلك آلات فلم يتيسر له فهل له أن يعمر مسجداً آخر أو لا وهل يفرق بين النذر والقصد أو لا ولو نذر أن يبني مسجداً في موضع معين فهل له أن يبني في غير ذلك الموضع أو يصرف ما نذره في عمارة مسجد آخر أو لا وهل يجوز استعمال حصر المسجد وفراشه لحاجات كحاجة العرس وكعرض شيء كالكتب على الشمس إذا لم يكن منه بد أم لا. فأجاب: بقوله لا يجوز صرف تلك الآلات التي قد يحتاج إليها مسجدها في عمارة مسجد آخر ولا بيعها بل يجب على الناظر حفظها لحاجات ذلك المسجد ولو نذر أن يعمر مسجداً معيناً أو في موضع معين لم يجز له أن يعمر غيره بدلاً عنه هذا إن تلفظ بالنذر فإن قصد ذلك لم يلزمه بمجرد القصد شيء ولا يجوز استعمال حصر المسجد ولا فراشه في غير فرشه مطلقاً سواء أكان لحاجة أم لا واستعمالها في الأعراس من أقبح المنكرات التي يجب على كل أحد إنكارها وقد شدد العلماء النكير على من يفرشها الأعراس والأفراح وقالوا يحرم فرشها ولو في مسجد آخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/312)
وسئل: عمن جدد مسجداً أو عمره بآلات جدد وبقيت الآلة القديمة هل تجوز عمارة مسجد آخر قديم بها أو لا فتباع ويحفظ ثمنها أو لا. فأجاب: بقوله نعم تجوز عمارة مسجد قديم أو حادث بها حيث قطع بعدم احتياج المسجد الذي هي منه إليها قبل فنائها ولا يجوز بيعها بوجه من الوجوه فقد صرحوا بأن المسجد المعطل لخراب البلد إذا خيف من أهل الفساد على نقضه نقض وحفظ وإن رأى الحاكم أن يعمر بنقضه مسجداً آخر جاز وما قرب منه أولى والحاصل من ريع المسجد المذكور يصرفه لعمارة مسجد آخر قال المتولي إلى عمارة المنقول إليه وكذا الرباطات والآبار المسبلة ينقل نقضها وريع وقفها إلى مثلها لا إلى نوع آخر إلا إذا فقد نوعها فتصرف لغيره للضرورة وكذا قال القاضي ويفعل الحاكم بما في المسجد الخراب من حصر وقناديل ونحوها ذلك فينقلها إلى غيره عند الخوف عليها والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: بما لفظه وقف ترتيب على بطون مضت عليه مدد وإنسان ساكن فيه فطالبه ناظر مستحق الآن الجميع ما مضى إن لم يقم بينة بدفعه لمن قبله فهل تسمع مطالبته. فأجاب: بقوله تسمع مطالبته بما في استحقاقه وأما بما مضى في استحقاق غيره فإن كان الوقف يحتاج لعمارة سمعت ليأخذه ويصرفه فيها لأنها مقدمة على المستحقين لكن يبقى النظر فيما لو كان في زمن الأولين عامراً إلى مضي زمن استحقاقهم ولم يطرأ خرابه إلا بعد ذلك فهل يصرف فيه ما لم يقبضه المتقدمون لأنهم إلى الآن لم يملكوه ملكاً مستقراً فتقدم عمارة الوقف عليهم أو يفوزون به لأن العمارة لما حدثت بعد تعلقت بغلة زمن حدوثها لا غير للنظر فيه مجال والمتبادر هو الثاني وإن لم يكن عمارة لم يطالبه إلا بعد طلب المستحق أو وارثه لأن الغلة إذا تمحضت لمستحق جاز له أن يسامح بها وإن لم يرض الناظر فاشترط في طلبه عدم مسامحة المستحق كما هو ظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/313)
وسئل: عن امرأة ماتت وهي تستحق حصة معلومة في وقف نخل معلوم وكان موتها بعد اطلاع بعض ذلك النخل وتأبير بعضه فهل يستحق ورثتها حصتها من ذلك النخل الموقوف بمجرد اطلاع بعضه ولا يشترط اطلاع كله وتأبيره أو لا وإنما يستحقون فيما اطلع قبل الموت دون ما اطلع بعده وأيضاً لو اطلع بعض النخل قبل موتها واطلع باقيه بعده فهل يختلف الحكم في ذلك أو يستحقون ذلك جميعه ويكون ذلك البعض كافياً في الاستحقاق أفتونا مأجورين فقد اختلف فيما اطلع بعد الموت فقيهان. فأجاب: بقوله المعتمد أنه متى وقع الموت بعد وجود الثمرة استحقها ورثة الميت وإن لم تتأبر وقد بسطت الكلام في ذلك في إفتاء سبق وفي شرح المنهاج فراجعه فإنه مهم والإِفتاء بخلاف ما ذكر غير معتمد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/314)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بالمدينة المنوّرة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام في سنة تسع وخمسين وتسعمائة في عشر رمضان الأخير بما صورته بيت وقف بالمدينة المشرفة على من يوجد بها من الحضارم مقدماً منهم أهل السفلة والكثير وذوو عن وداوي عمد على غيرهم الذكر المحتاج المتزوج من الجهات المذكورة فإن لم يوجد منهم أحد أو انقرض من وجد أجر الوقف المذكور لمن يسكن فيه سنة بعد سنة وأصرفت أجرته على الفقراء المقيمين بالمدينة المشرفة من الجهات المذكورة فإن لم يوجد منهم أحد أو انقرض من وجد فعلى ثلاثة من الفقراء فأكثر من المجاورين بالمدينة هذا لفظ الواقف فما المراد بالحضرمي هل هو المتولد فيها وإن لم يستوطنها أو من قد استوطن بها وإن لم يولد فيها أو من أبوه أو جده منها وإن لم يولد هو فيها وسئل عن العبد المملوك لأحد من أهلها وقد أسكنه فيها أو أعتقه فيها هل هو حضرمي أو لا وهل المراد بالمحتاج من يجوز له أخذ الزكاة وإن كان معه مسكن أو من لم يكن معه مسكن وإن كان قادراً على تحصيله بكراء ونحوه وهل يقدم المتزوّج بالسكنى فقط أو بالسكنى والأجرة أن أوجر وإن لم يسكن وقول الواقف على الفقراء المقيمين ما المراد بالإِقامة هل هو الإِقامة الشرعية أربعة أيام أو المجاورة سنة أو سنتين أو الاستيطان لأن لفظ الواقف متى خرج أحد من الموقوف عليهم من المدينة بغير نية العود بطل استحقاقه وإذا حضر مستحقون فهل يقدم منهم الناظر من شاء باجتهاده أو الأسبق والسبق هل يعتبر بكونه إلى المدينة أو إلى الناظر فإن تشاحوا فهل يكري من بينهم أو يسكنه أحدهم بأجرة ما يخص الباقين وإذا أعرض المتزوجون عن السكنى وأكرى هل يختصون بالأجرة أو يشاركهم فيها الأعزاب وهل يستحق من حضر وقت لزوم عقد الإِجارة أو وقت استقرار الأجرة. فأجاب: بقوله الذي دل عليه لفظ الواقف ويتعين العمل به أنه إذا وجد بالمدينة ذكر محتاج متزوّج وهو لا أبوه من أهل تلك المحال الخمسة استحق(4/315)
ذلك المكان سكناً أو إسكاناً اتحدا وتعدد نوى الإِقامة والاستيطان بالمدينة أم لا ما دام موجوداً بالمدينة أو خارجها إن كان عازماً على العود إليها وإن طال زمن غيبته عنها كما يأتي وأن المراد بأهل تلك المحال الخمسة من سكنها هو لا أبوه أيضاً على جهة الاستيطان بها سواء أكان من القبيلة المسماة بحضرموت أم لا لأن فحوى عبارته أنه لم يعتبر إلا كونه من أهل تلك المحال لا غير وأهل تلك المحال يكونون من تلك القبيلة وغيرهم بل أكثرهم من غيرهم بل لا نظر إلى خصوص تلك القبيلة في هذه الأعصار للجهل بهم أو خفائهم فلم يعتبر الواقف كأهل العرف العام في الحضرمي إلا ساكن حضرموت وإن لم ينسب لتلك القبيلة وقد صرح الأئمة بأن العرف المطرد في زمن الواقف إذا علم به ينزل عليه لفظه ويكون ذلك بمثابة شرطه العمل به في صلب عقد وقفه والمراد بساكن حضرموت المتوطن محلاً من ذلك الإِقليم ولو قنا على ما أفهمه كلام بعضهم في الوقف على جهة غير محصور أهلها أنه يتناول من لا يصح تملكه ومنهم الأرقاء فيكون لساداتهم وعليه فلا يفرق بين الحر وغيره إلا عند النظر للقبيلة إذ لا يدخل فيهم مواليهم فضلاً عن أرقائهم وقد علم أن القبيلة غير مرادة هنا نعم إن ثبت أن الواقف أرادها عمل بذلك ولم يدخل مملوكهم ولا مولاهم وخبر مولى القوم منهم المراد به في الشرف ومن ثم حرمت الزكاة على مولى بني هاشم والمطلب لا في التسمية باسمهم حتى يدخل فيما وقف عليهم مثلاً وفرق واضح بين اعتبار الشرف الذي هو أمر اعتباري يكتفي فيه بأدنى ملابسة واعتبار التسمية التي هي في الأصل إنما تنشأ عن أمر وجودي والمحتاج هنا من له أخذ الزكاة وإن كان له مسكن أو قدر على تحصيله وقد علم مما مر أنه سواء اتحد أم تعدد يستحق السكنى أو الإِسكان فإن وجد جماعة متصفون بتلك الصفات غير محصورين جاز أن يقتصر على ثلاثة منهم أو محصورين استحقوا كلهم ثم إن كان كل يريد السكنى تهايؤوا فيها وإلا أجره(4/316)
الناظر وقسم غلته على الموجودين منهم حال عقد الإِجارة وكان السائل نفع الله تعالى به فهم أن في الإِجارة خياراً حتى صرح فيها باللزوم وليس كذلك حتى خيار المجلس على المعتمد فتعين أن المراد الموجود حال وجوب الغلة وهي تجب بالعقد وإن لم تستقر إلا بمضي المدة والذي دل عليه كلام الواقف أيضاً أنه إذا لم يوجد ذكر محتاج متزوج من تلك الجهات الخمسة بأن لم يوجد أحد من أهلها أصلاً أو وجد أحد منهم لا بتلك الصفات ووجد أحد من بقية الحضارم تعينت إجارة تلك الدار وصرفت أجرتها على الفقراء الحضارم ومر ما يعلم منه أنه من توطن بنفسه محلاً من إقليم حضرموت المقيمين بالمدينة الشريفة والخارجين عنها بنية العود إليها وإن طال زمن خروجه على ما اقتضاه إطلاق الواقف والذي يظهر أنه يصدق في نية العود بلا يمين لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته وبحث غير واحد الاكتفاء في الإِقامة بما لا يعد أي عرفاً معه غريباً أي بأن نوى الاستيطان وإن قلت إقامته أو مكث مدة ثم بحيث صار أهل العرف يعدونه مقيماً بذلك المحل ولا يكتفي هنا بمجرد الإِقامة المانعة للترخص بنحو القصر لأن ألفاظ الواقفين إنما تحمل غالباً على الأمور المتعارفة دون الدقائق الشرعية وإذا وجد من هؤلاء جماعة فإن كانوا عند عقد الإِجارة غير محصورين جاز للناظر الاقتصار على إعطاء ثلاثة أو محصورين لزم استيعابهم وقول السائل نفع الله سبحانه وتعالى به فإن تشاحوا الخ. قد علم جوابه أنهم في القسم الأول إن تهايؤوا وإلا أوجر لأن الواقف بمقتضى ما دل عليه صنيعه خير ثم بين السكن والإِسكان وفي القسم الثاني أعني المقيمين ممن لم توجد فيهم تلك الصفات حين إيجاره فلا حق لهم في سكناه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/317)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما وظيفة الناظر في الوقف. فأجاب: بقوله وظيفته العمارة وجمع الغلة وقسمتها على مستحقيها وتوابع ذلك لا نحو تنزيل طلبة للدرس على خلاف في ذلك.
وسئل: عن وقف صورته وقف داره المعينة على نفسه أيام حياته ثم على بناته الأربع ومن سيحدث له من الأولاد الذكر والأنثى فيه سواء على أن من مات منهم وإن كان له ولد أو ولد ولد كان نصيبه لمن في طبقته من أخوته ثم على أولاد أولاده الذكر والأنثى وعلى ولد ولد أخته محمود ومن مات منهم وله ولد أو ولد ولد كان نصيبه لولده أو ولد ولده ونسله وعقبه فإذا انقرضوا كان وقفا على جماعة سماهم وقال في كتاب وقفه تحجب الطبقة الأولى من دونها ولا تحجب من دونها من هو أسفل منه من أولاد من هو في طبقته إذا مات من هو في الطبقة ثم مات الواقف عن بناته الأربع ثم محمود في حياتهن عن ولد ثم ثلاث منهن لا عن ولد ثم الرابعة عن أربعة أولاد لها وثلاثة أولاد لولد لها مات قبلها فهل يشترك الكل حتى ولد محمود أو لا. فأجاب: بقوله الذي دل عليه كلام الواقف أن الوقف بعد موت بنت الواقف الأخيرة ينتقل كله إلى الأولاد الثمانية المذكورين بالسوية بينهم لأنه صرح بأن الوقف بعد انقراض الطبقة الأولى لسائر الطبقات بعدها وبانه لا حجب فيما بعد الأولى وبان من مات يكون نصيبه لولده وإن مات قبل الاستحقاق لقوله ولا تحجب الطبقة من هو دونها الخ. الصريح في استحقاق الولد نصيب أبيه بفرض حياته ومحمود لو عاش مع أولاد بنت الواقف الأربعة كان مشاركاً لهم بنص الواقف وكذا ولد بنت الواقف الميت في حياتها لو عاش كان مشاركاً لهم بنص الواقف أيضاً فكذا ولد محمود وأولاد هذا يكونون مشاركين لهم بنص الواقف أيضاً وبما قررته يعلم أنه لا يأتي هنا الخلاف المشهور بين أئمتنا المتقدمين والمتأخرين أن لفظ النصيب والاستحقاق ونحوهما مما يذكر في كتب الأوقاف هل يحمل على ما يعم النصيب المقدر مجاز القرينة وهو ما عليه جماعة(4/318)
كثيرون وكاد السبكي في بعض المواضع أن ينقل إجماع الأئمة الأربعة عليه أو يختص بالحقيقي لأنه الأصل والقرائن في ذلك ضعيفة وهو المنقول وعليه كثيرون أيضاً لأن محل هذا الخلاف كما يعلمه من أحاط بحجج الفريقين في لفظ يشمل ذا النصيب المقدر ويجعله من جملة الموقوف عليهم وهذا لا يأتي في مسئلتنا مع قول الواقف ولا تحجب من دونها الخ. وهذا واضح لمن تأمله والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/319)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن أرض مشتركة على الإِشاعة ثلاثة أرباعها وقف للغراس تبعاً لغيرها من سائر الضيعة وربعها طلق وقد صار لبعض أرباب الوقف بطريق الشراء وفي تلك الأرض مسجد صغير بناه الأوائل قبل أن يقف صاحب الثلاثة الأرباع حصته فاتفق أن أهل البلد يتركون تلك الضيعة بعض السنة من خوف الإِفرنج ولم يكن في هذه الضيعة ماء سوى بركة واحدة بقرب المسجد المذكور واحتاجوا لمسجد فجاء بعض الناس وأحدث دكة شرقي المسجد بنية القربة ليصلي الناس عليها وجاء آخر وأحدث دكة أخرى قبلي المسجد أيضاً واتصلت المنافذ من المسجد إلى الدكتين وأقاموا على هذا مدة ولما رأى بعض أرباب الوقف حاجة الناس إلى المسجد واستمرت عادة البلد بالنقلة إلى هذه الضيعة في كل سنة انتهض لعمارة تلك البقعة فأخرب الدكتين والمسجد وجعلهما مسجداً وقد بناه وجصصه بالجص سطحه وصحنه فمنذ شرع في عمارته إلى الآن نحو اثني عشرة سنة والآن جمع شيئاً من النورة وأراد ترميم المسجد وتقويته فأشار إليه بعض طلبة العلم الشريف بأن بناء الأرض الموقوفة لا يجوز وإن رضي أهل الوقف وكان الفقيه حفظه الله تعالى لم ينظر المسئلة فيما مضى من الزمان أو لم يحضره علم بالوقف وإلا فهذا الفقيه نفسه قد رام بناء هذه البقعة لما رأى حاجة الناس إلى المسجد فالآن المسجد قد بني والناس محتاجون له ولا في المكان مسجد آخر غيره وقد بدا الخلل في سطحه وشرافاته إن لم يتدارك ويتعهد بالترميم والأخرب رأساً وأيضاً عامر المسجد هو صاحب الربع الطلق فلو أراد أن يعوّض أهل الوقف بمثل ساحة المسجد أو بمثليها أو يترك ربعه كله ويكون وقفاً على مقتضى الوقف الأول فهل يثاب على ذلك ويخرج عن عهدة الإِثم فإن قلتم نعم فكيف صورة ذلك وإن قلتم لا فهل من حيلة أو رخصة ولو بتقليد بعض المذاهب في تبقيه المسجد والاستمرار على عمارته وتعهد ولا تروا على المملوك بالسؤال عن الرخصة فالأمر كما علمتم ولا يخفاكم مقصوده فإن(4/320)
قلتم لا رخصة ولا حيلة فهل تشيرون بخراب المسجد ومنع الصلاة فيه أم بالبقاء على حاله ونكف عن ترميمه لا غير وما الحكم لو أن ذلك الذي بني بني بإذن أرباب أهل الوقف الكاملين فهل يسوغ لهم وله ذلك أم لا فإن قلتم لا يسوغ له ذلك وإن أذن له أرباب الوقف مراعاة لحق من سيأتي بعدهم من باقي البطون فهل تجب عليه المبادرة إلى هدّ مورد الأرض إلى الحالة التي كانت عليها أو لا فإن قلتم نعم يجب عليه ذلك فلو أن الذي بناه امتنع من هدمه وحاول تبقيته ولم يرض بذلك فهل يجوز لكل أحد من الناس الصلاة والقعود فيه على الدوام ويصح الاعتكاف فيه لمريد الاعتكاف فيه أيضاً أو لا وهل يحرم على الجنب المكث فيه أو لا ولو أن ذلك الذي بناه وقفه مسجداً ما حكمه بعد ذلك هل توجبون هدمه أم لا ولو أن في ذلك المسجد إماماً يصلي بالجماعة فيه دواماً فهل الأولى للشخص الصلاة معهم لأجل تحصيل ثواب فضيلة الجماعة أو الأولى تركه واعتزاله عنه وصلاته منفرداً بينوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله يجب هدم المسجد المذكور على كل من قدر على ذلك وإعادته على حالته الأولى لأن الواقف لما وقف بعض تلك الأرض للغراس أبطل سائر وجوه الانتفاع بها بغير الغراس فلو جوّزنا بناء مسجد فيها ولو بإذن الموقوف عليهم لزم إبطال غرض الواقف وتغيير معالم الوقف وذلك لا يجوز مطلقاً سواء احتاج الناس لمسجد أم لا وسواء أعوّض باني تلك الزيادة على المسجد الأول أهل الوقف أضعافها أم لا نعم يجوز أن يرفع الأمر إلى حاكم يرى التعويض فإذا رفع إليه وحكم به جاز بناء تلك الزيادة والصلاة فيها وأما قبل الحكم بذلك فلا يثبت لتلك الزيادة أحكام المسجد ولا يجوز لأحد أن يقر بانيها على بنائها أو ترميمها ولا الصلاة فيها ولا الاعتكاف لأن الأرض حينئذٍ مغصوبة فيترتب على بانيها أحكام الغاصب إثماً وضماناً ورداً وغيرها ولو كان باني تلك الزيادة يملك بعض أرضها فوقف ذلك البعض مسجداً ثبت له حكم المسجد في حرمة(4/321)
الجلوس فيه على الجنب لا فيما سوى ذلك ووقفه ذلك البعض مسجداً لا يمنع حرمة البناء ووجوب الهدم عليه بل يحرم عليه البناء ويجب هدمه ولا يجوز لأحد صلاة ولا اعتكاف فيه وإن كان قد وقف ما ملكه مسجداً والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: في وقف على فطور المسجد هل يحل للفقير والغني أم يختص بالفقير وهل يحل للمفطر المعذور وهل يجوز للمقيم بالمسجد التفضيل بين آحاد الناس وهل يجوز إخراجه من المسجد لغير من صلى فيه وهل يحل للعبيد والصغار ومن لا يصلي وإذا أخذ بعض من صلى في المسجد شيئاً وخرج به لغير من صلى فيه من غني أو فقير أو لمن لا يصلي لكنه حضر المسجد هل يجوز ذلك أو شيء منه وهل يجوز لمن أخذه أن يعطيه لمن لا يصوم أو يصرفه في حوائجه وأغراضه أو يبيعه أو يبقيه لسحوره أو يتصدق به بينوا لنا ذلك فقد وقفنا على جوابات في هذه المسئلة لم يتحرر لنا ما التحقيق فيها وهذه المسئلة من الوقائع عندنا فبينوا لنا حكمها وابسطوا لنا الكلام فيها أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة. فأجاب: بقوله لا يتضح الجواب عن ذلك إلا أن علم لفظ الواقف لأن أحكام الأوقاف منوطة بألفاظ الواقفين دائماً إلا إذا عرفت مقاصدهم كأن اطردت عادة زمنهم بأشياء مخصوصة فتنزل عليها ألفاظهم وحينئذٍ فما ذكر من الوقف على الفطر في المسجد إن كان لذلك عادة مطردة في زمن الوقف وعلم بها الواقف كان وقفه منزلاً عليها لتصريح الأئمة بأنها حينئذٍ منزلة منزلة شرطه فحينئذٍ ما قصدت به من الاختصاص بالفقير أو الصائم أو الأكل في المسجد أو أن ما يعطاه يأكله فوراً أو لا يعطيه غيره أو غير ذلك يعمل بالعادة فيه من غير توقف ولا إشكال وأما إذا لم يكن عادة لذلك فلا بدّ لنا من نظر عبارة الواقف لنرتب عليها مقتضاها وبفرض أن الواقف لم يقل إلا وقفت كذا على من يفطر في رمضان في مسجد كذا فحكم ذلك المتبادر منه اغتنام فضيلة(4/322)
تفطير الصائمين وفضيلة تعجيلهم للفطر وحينئذٍ فلا فرق بين الغني والفقير ويتقيد الإِعطاء بمن في المسجد وبالصائم حقيقة فلا يعطي لمن أفطر لنحو مرض ولا لمن نسي النية وإن لزمه الإِمساك ويعطي مميز صام وقن كذلك ويجب على من أعطى شيئاً أن يفطر به ولا يجوز له أن يخرج به من المسجد ولا أن يؤخره لسحوره ولا أن يعطيه لغير من هو في المسجد ولا أن يتصرف فيه بغير الفطر عليه كل ذلك تقديماً لغرض الواقف وتحقيقاً لما قصده من عظيم ثواب تفطير الصائمين وتعجيلهم للفطر والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/323)
وسئل: عن بقعة من الأرض تشتمل على قدر عشرين عوداً من النخل وصفة ذلك النخل في البقعة المذكورة إن بين كل نخلة ونخلة مسافة قدر عشرة أذرع تقريباً ثم ما ذكرناه من النخل المذكور في البقعة المذكورة ليس هو مما يشرب من النهر أو غيره وإنما يشرب في أول الأمر عند غرسه بحمل الماء إليه في قرب ونحوها فإذا اشتد وصار حياً لم يحتج إلى الماء بعد ذلك لاستغنائه عن الماء بجذب عروقه واكتفائه بذلك إذا عرف هذا فما ذكرناه من الأرض والنخل على الهيئة المذكورة مشترك بين زيد وعمرو مشاعاً لزيد فيه ربعه ولعمرو ثلاثة أرباعه فاتفق من حال الشريكين المذكورين أنهما اتفقا على قسمة النخل المذكور دون أرضه بأنهما اتفقا على تبقيتها بينهما على الإِشاعة إلى وقت ما فاقتسما كذلك فخرج لكل منهما نصيبه عدداً من النخل على قدر ما اقتضته شركتهما في ذلك مفرقاً في جميع جهات الأرض المذكورة فأخذاً على ذلك مدة مديدة وكل منهما يعرف ما يخرج له من النخل بالقسمة ثم إن عمراً صاحب الثلاثة الأرباع المذكورة وقف نصيبه في النخل والأرض جميعاً على أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا ثم بعد مدة أيضاً طلب ورثة عمرو الواقف بعد موته من زيد الشريك المذكور قسمة الأرض المشغولة بما ذكر من النخل والفرض أن النخل الذي اقتسماه كله أو معظمه باقٍ في تلك الأرض لم يزل منها فأجاب زيد إلى ذلك واقتسما الأرض المذكورة فخرج لزيد ربع بياض الأرض في طرف معين مشغولاً بشيء من نخله ونخل شركائه أصحاب الوقف ولأرباب الوقف ثلاثة أرباع بياض الأرض المذكورة وثلاثة أرباع النخل مفرقاً أيضاً في سائر جهاتها فالثلاثة الأرباع المذكورة صارت مشغولة كذلك بشيء من نخلهم ونخل زيد المذكور فداموا على هذا الوصف مدة ثم إن بعض أرباب الوقف انتدب لبناء مسجد في تلك البقعة بين بياض الأرض والنخل وإن كان بعض النخل من الجهتين يقع في بعضه داخلاً وذلك لحاجة الناس إليه وتعويلهم في ذلك عليه فبناه بإذن أرباب(4/324)
أهل الوقف في ناحية من البياض الذي صار للوقف وكان من صورة بنائه فيه أنه اختط بقعة قدرها عشرون أو ثلاثون ذراعاً وبناها بناءً محكماً وأوقفها مسجداً على المصلين وغيرهم. واستمر الحال بعد بنائه وتردد الناس إليه وصلاتهم فيه مدة من الزمان يزيد قدرها على عشر سنين ثم إن بعض المدرسة المتفقهة وصل إلى ذلك المكان الذي اتفق فيه وقوع ذلك البناء وجرى له مع صاحب المكان الذي اتفق له وقوع ما ذكر من البناء في أرض الوقف بحث في جواز البناء وعدمه فقال ذلك المتفقه أن ذلك البناء لا يجوز ويجب على بانيه أن يهدمه ولا يجوز أن يصلي فيه ولا ثواب للجماعة فيه بل لا يثبت لذلك البناء حكم من أحكام المسجد لا حلاً ولا حرمة فتخرج الذي بناه وطال لأجل ذلك عناه وذلك لوجوه متعددة وأمور غير واحدة منها أنه قد تعب في بنائه تعباً شديداً وأنفق في إنشاءه مالاً كثيراً ومنها إن أهل المكان الذي بني ذلك المسجد من أجلهم وبسببهم وبرأيهم حاجتهم إلى إبقائه في ذلك الموضع متأكدة وذلك لأنهم لا يجدون مكاناً تصلي فيه الجماعة غيره ولا يجدون ما يتوضؤون ويغتسلون فيه إلا عنده ومنها أن في هدمه وإزالته عن مكانه سبب افتراق شمل الجماعة التي كانت تصلي فيه لا سيما مع ضعف أهل المكان وعدم قدرتهم على إنشاء مسجد آخر فهل ترون طريقاً لهذا المستفتي في إبقاء ما بناه وتقرير ما عناه فقد طال تعطشه لذلك وتطلبه لما هنالك أو تجدون في ذلك وجهاً نختاره ونقتفي مناره أو ترون في بعض مذاهب الأئمة إساغة التقليد في هذه المهمة فإن رأيتم ذلك وعرفتموه فأوضحوه لنا وما الذي تعدونه بعد ذلك أيضاً صواباً التقليد للضرر الأكيد والاحتراز منه والتخلي عنه أوضحوا لنا حكم هذه المسئلة بأدلتها وأحكامها وأقسامها إيضاحاً شافياً وبينوا لنا المقصود من الغرض في التقليد وعدمه بياناً شافياً وافياً وليعلم سيدنا شرف الله قدره وأعلى في الطيبين ذكره إن هذا الذي بني ما ذكرناه لم يبنه إلا بعد أن(4/325)
استشار أهل الوقف واستشار صاحب الربع الطلق أيضاً فصوّب الجميع رأيه وأذن في بنائه فهل ترون ذلك له مفيداً أو تجدون لما ابتلي به تسديداً. فأجاب: بقوله قسمة النخل دون الأرض جائزة بالتراضي وكذا قسمة الثلاثة الأرباع الوقف عن الربع الملك لكن بشرط أن تكون القسمة إفرازاً بأن تستوي جميع أجزاء الأرض ولم يقع رد من المالك وإذا اقتسماها كذلك صار ما خرج بالقسمة لجهة الوقف تجري عليه أحكامه ولجهة الملك تجري عليه أحكامه وأما في حصة كل من نخل الآخر فيجري فيه كما رجحته في شرح المنهاج ما ذكروه آخر العارية مما هو مبسوط في كتبهم هناك وإذا تقرر أن ما خرج بالقسمة لجهة الوقف وقف تجري عليه أحكام الوقف فلا يجوز لأحد من أهل الوقف ولو بإذن الباقين تغيير ما قصده الواقف من كونه وقفا على ذريته ينتفعون بغلته بأن يجعله مسجداً فحينئذٍ يجب هدمه ولا يثبت له شيء من أحكام المسجدية ويجب على بانيه الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والتوبة مما اقترفه إن علم حرمة ذلك وإلا فلا إثم عليه لكن يجب عليه هدم بنائه وإن تعب وأصرف أموالاً وإن احتاج الناس أو اضطروا إليه ولو تفرقت الجماعة بسبب هدمه ولو كان له قصد صالح في البناء والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل نعم إن رأى له في مذهب من المذاهب الثلاثة وجهاً مسوّغاً لبقاء بنائه مسجداً فلا حرج عليه في رفع الأمر للحاكم به ليحكم له بذلك فإن لم يجد حاكماً ووجد قولاً معتمداً في أحد تلك المذاهب بذلك فله تقليده لكن لا يقلد في اعتقاده إلا رجلاً عالماً ثقة عرف بالتقدم في ذلك المذهب ويميز معتمده من غيره والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/326)
وسئل: عمن قال وقفت على من ينسب إليّ من أولاد أولادي لم يدخل أولاد البنات هل هو سواء أكان الواقف رجلاً أو امرأة أو لا. فأجاب: بقوله الذي اقتضاه كلام الأصحاب دخول أولاد البنين دون أولاد البنات سواء أكان الواقف رجلاً أو امرأة فإن قلت هو في المرأة مشكل بقولهم في النكاح وغيره أنه لا مشاركة بين الأم والابن في النسب قلت يمكن الجواب عن ذلك بأن معنى ذلك أنه لا مشاركة بينه وبينها في الانتساب إلى من تنسب هي إليه لأنه لا ينسب إلى أبيها لكونه ابن ابنته وإن كان ينسب إليها لكونه ابنها فدخل ابنه في قولها ما تقدم بخلاف ابن بنتها فإنه إنما ينسب إلى أبيه وأبوه لا نسب بينه وبين أم أمه بخلاف ابن ابنها فإنه ينسب إلى أبيه وأبوه منسوب إلى أمه بالمعنى الذي قررته وإذا تأملت ما قررته علمت أنه لا مخالفة بين ما هنا وما في النكاح وغيره وأن ذلك أولى من قول شيخنا في شرح الروض بعد أن ذكر الأشكال السابق إلا أن يقال ذكر الانتساب هنا لبيان الواقع لا للإِخراج فتدخل أولاد أولاد البنات أيضاً ولا يلزم إلغاء الوصف أصلاً فالعبرة فيها بالنسبة اللغوية لا الشرعية ويكون كلام الفقهاء محمولاً على وقف الرجل أ هـ .
وسئل: عمن وقف على أولاده فلان وفلان وفلانة أن عملاً لها حلياً فهل يصح الوقف ويلزم الشرط أولاً ولا. فأجاب: بقوله هذا الوقف باطل سواء قصد تعليق صحة الوقف عليه أو لم يعلم له قصد أما في الأول فظاهر وأما في الثاني فلان الصيغة ظاهرة في الشرط وإن ذكره بعد أن صدر منه الوقف وهو قاصد عدم تعليقه على شيء فينبغي أن يصح.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/327)
وسئل: عن شخص يستحق وقفاً كاملاً بمفرده وشرط له الواقف النظر بعده ثم من بعده يستحق الوقف أولاده إلى آخرهم ثم عصباتهم إلى آخرهم ثم الفقراء فخرب الوقف بعد موت الواقف ولم يجد الناظر المستحق من يستأجره بأجرة المثل وخشي على أنقاضه الفوت فأجره بدون أجرة المثل هل يصح منه ذلك لكونه رأى الحظ والمصلحة في ذلك ولا تنفسخ بموته سواء أصرفها في عمارته أم لا لكونه يستحق ذلك كله في حياته بشرط الواقف وإذا قلتم ببطلانها لورثته أو لعصبات الموقوف عليهم من بعدهم الرجوع بالأجرة كلها أو بأجرة ما بقي من المدة حال موته وإذا أجرها بأجرة المثل وأصرف بعضها في عمارته والباقي أصرفه على نفسه لكونه يستحقه فهل تنفسخ الإِجارة بعد حياته وإذا قلتم بعدم الانفساخ فهل يستحق وارثه بقية الأجرة من تركة مورثه والحال أن الوقف والتركة صارت إليه بموته وإذا قلتم له ذلك كيف صورة ذلك وهل يكون حكم الوارث والأجنبي الموقوف عليه في ذلك سواء أم يفترقان وإذا أصرف الناظر المستحق من ماله بإذن حاكم شرعي في صرف عمارته ليرجع على ريعه بذلك هل يسوغ منه ذلك أم لا يسوغ لكونه يستحق ريعه ويروح عليه مجاناً فإذا قلتم يسوغ له ذلك كيف يحاسب بشيء يستحقه وقد أشكل علينا ذلك أوضحوه لنا وضوحاً شافياً. فأجاب: بقوله يصح للناظر المستحق وحده أن يؤجر بدون أجرة المثل لكنه إذا مات تنفسخ الإِجارة بموته فيما بقي منها لأن الاستحقاق ينتقل لمن بعده وهو لم يرض حال استحقاقه بإيجاره بدون أجرة المثل فإن أجر بأجرة المثل لم تنفسخ الإِجارة بموته وإن مات معسراً وضيع الأجرة جميعها لكنها أعني ما يخص ما بعد موته من الأجرة يصير للطبقة الذين بعده ولو كانوا أولاده ديناً عليه لأنهم لا يتلقون منه بل من الواقف وفائدة ذلك أنه لو كان عليه دين آخر قسمت تركته بين الكل بالحصة وحيث قدم استحقاق الناظر على العمارة لشرط الواقف ذلك فاصرف من استحقاقه عليها بإذن الحاكم ليرجع رجع وإلا فلا(4/328)
وكذا يرجع إن صرف من ماله بإذن الحاكم وفائدة الرجوع مع أنه المستحق وحده أنه لو مات صار ما أصرفه ديناً لورثته على الوقف وكذا لو فرض بطلان استحقاقه في حياته فيصير ما أصرفه ديناً له على الوقف فعلم أن كونه المستحق لا ينافي أنه يثبت له دين على الوقف.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عن رجل وقف وقفاً على أولاد ذكور خمسة قاسم الرجل الرشيد وأحمد الرجل الرشيد أيضاً حسبما اعترف بذلك والدهما الواقف المذكور كما هو مذكور في كتاب الوقف وإبراهيم المراهق وحسن المميز وحسين السداسي بالسوية بينهم ثم من بعدهم على أولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم للذكر منهم سهمان وللأنثى سهم على أن من مات منهم عن ولد أو ولد ولد وإن سفل انتقل نصيبه له وأن من مات منهم عن غير ولد ولا ولد ولد وإن سفل انتقل نصيبه لأهل درجته وذوي طبقته تحجب أبداً الطبقة العليا السفلى للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا انقرضوا بأسرهم وأبادهم الموت عن آخرهم كان ذلك وقفاً على الفقراء والمساكين القاطنين بمكة والواردين إليها وجعل الواقف المذكور النظر في ذلك للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم فمات الواقف المذكور ثم مات قاسم وترك ولداً يدعى جساراً ثم مات جسار المذكور ولم يعقب ومات أحمد وحسين ولم يعقبا والموجود الآن من ذرية الواقف ذكر أن أخوان شقيقان أحدهما يدعى مباركاً والآخر يدعى علياً من ذرية إبراهيم بن الواقف أحد الأخوة الخمسة الموقوف عليهم وبنت تدعى شميسة يتصل نسبها بحسن ولد الواقف فما يستحق الأخوان وما تستحق شميسة من الوقف المذكور هل يكون بينهم أثلاثاً النصف للبنت والنصف للأخوين المذكورين أو الخمس للبنت أم كيف الحال ومبارك وعلى الأخوان المذكوران هما ولدا إبراهيم بن إبراهيم بن علي الذي هو الواقف وشميسة المذكورة هي بنت إبراهيم بن محمد بن عيسى بن حسن بن علي الواقف أفتونا مأجورين. فأجاب: بقوله أما شميسة فلها(4/329)
الخمس بيقين على كل تقدير وأما الأخوان المذكوران علي ومبارك فلهما الخمس كذلك وأما الأخماس الثلاثة الباقية فيحتاج الكلام فيها إلى معرفة من كان موجوداً عند موت جسار وأحمد وحسين من أولاد الواقف أو ممن بعدهم لاختلاف الحكم بذلك فإن جد شميسة إن تأخر موته عن جسار وأحمد وحسين وإبراهيم كانت تلك الأخماس الثلاثة لها وحدها وإن كان المتأخر موته هو جد الولدين كانت تلك الثلاثة لهما وحدهما وإن تأخر موت الجدين عن موت أولئك الثلاثة كانت تلك الأخماس الثلاثة بينهما وانتقلت إلى أولاد أولادهما شميسة والأخوين كذلك فإن عرف ذلك فقد بينا حكمه وإن لم يعرف فالقياس أنه توقف الأخماس الثلاثة بين شميسة والأخوين إلى أن يعرف ذلك أو يصطلحوا فيه على شيء والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/330)
وسئل: عمن وقف على جماعة بالسوية شرط فيه لقارىء بمبلغ معلوم ولجهة صدقات بمبلغ معلوم من غير ترتيب فيهم فهل يقدم من ريعه بعد عمارته أحد إذا لم يفِ ريعه بهم أجمعين أم يوزع بينهم وإن تفاوتت الحقوق على قدر استحقاقهم وإذا قلتم بالتوزيع وكان ريعه في سنة أربعين أشرفياً وكان للقارىء عشرة أشرفية ولجهات البر خمسة عشر أشرفياً مثلاً ما يأخذ القارىء من استحقاقه وأصحاب البر من استحقاقهم إذا كان بالسوية بينهم وماذا يأخذه الجماعة الموقوف عليهم إذا كان بينهم بالسوية وما الحكم بينهم إذا كان الوقف عليهم مرتباً ولم يفِ ريعه بهم فهل يعطى القارىء كملاً أو لا ثم جهات البر كملاً إن كان أو ما فضل والباقي لجماعة الوقف إن كان بقي شيء وإلا فلا شيء لهم وإذا سكن بعض الموقوف عليهم أو من له استحقاق فيه بإجارة من الناظر هل له أن يقاصص بما يخصه من الريع ويسقط عنه ويدفع الباقي للمستحقين أم لا وإذا أرادا لبعض السكنى بأجرة مثله وأبى البعض وأرادوه لأنفسهم وتنازعوا في ذلك هل للناظر أن يؤجر من شاء منهم بأجرة مثله أو يؤجر أجنبياً أو يغلق ذلك عليهم إلى أن يصطلحوا وهل يتوقف إغلاق الباب عند التنازع على إذن الحاكم مع وجود الناظر الخاص أم لا وإذا سكن البعض تعدياً من غير إجارة من ناظره هل له إخراجهم ويطالبهم بأجرة المثل للمدة الماضية أم لا وإذا غاب الناظر الخاص غيبة طويلة ولم يوكل وكيلاً أو امتنع من الإِجارة لغير عذر هل يقوم الحاكم مقامه وإذا كان للوقف ناظران وأراد أحدهما استئجار الوقف لنفسه هل للناظر الثاني أن يؤجره أو الحاكم الشرعي وإذا لم يحصل في الوقف أجرة المثل في بعض السنين فهل للناظر أن يؤجره بدون أجره المثل رضي أرباب الحقوق أم لا وهل تنفسخ إجارته بذلك أم لا تنفسخ إذا رأى الحظ في ذلك للوقف خصوصاً لأجل عمارته وهل يقبل قوله في ذلك أم لا بدّ من البينة أن هذا حظ ومصلحة للعمارة وإذا خرب بعض الوقف وعمره الناظر من ريعه(4/331)
أو من غيره هل يرجع إذا اقترضه بنية الرجوع عليه بإذن حاكم شرعي وهل يقبل قوله فيما أصرفه وعمر به قليلاً كان أو كثيراً أو لا بدّ من بينة شرعية تشهد بذلك وهل يشترط في الشهادة التفصيل بما أصرفه في ثمن نورة وأحجار وأجرة غير ذلك أم يكفي قول الشاهد أنه أصرف كذا وكذا من غير تفصيل وهل يقبل قول الناظر أن الوقف خراب أم لا بدّ من البينة أوضحوا لنا ذلك مرتباً مفصلاً أثابكم الله تعالى الجنة. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يقدم أحد من الموقوف عليهم إذا كان بالسوية بينهم بعد العمارة بل يوزع عليهم بحسب استحقاقهم فلو كان الريع خمسة والمشروط لواحد عشرة ولآخر خمسة عشر قسمت الخمسة بينهما أخماساً فيأخذ ذو العشرة اثنين وذو الخمسة ثلاثة وأما مثال السائل فلا توزيع فيه لأنه إذا فرض أن الريع أربعون وأن لواحد عشرة ولآخر خمسة عشرة كان الريع أكثر من مجموع حقيهما فيأخذان حقيهما ويفعل في الفاضل ما شرط الواقف فيه وإلا أرصده لنحو عمارة الوقف فإن كان وقف ترتيب لم يستحق المؤخر شيئاً حتى يستوفي المقدم جميع ما شرطه له ولا تقلص في مسئلة السكنى المذكورة لفقد شرطه فيدفع جميع الأجرة للناظر ثم يفرقها الناظر في مصارفها ويتخير الناظر بين إيجار بعضهم وغيرهم ولا يجاب طالب خلاف ذلك من غلق وغيره بل لا يجوز للناظر إجابة طالب الغلق ومن سكن منهم تعدياً أخرجه الناظر قهراً عليه وأخذ منه أجرة المثل للمدة التي سكنها أو وضع يده على الوقف فيها ويقوم الحاكم مقام الناظر لنحو غيبة أو امتناعه وإذا شرط اجتماع الناظرين على تصرف لم يؤجر أحدهما الآخر وإلا جاز له إيجاره وله الإِجارة بدون أجرة المثل برضا الموقوف عليه المعين أو لضرورة العمارة ونحوها. أخذا مما قالوه في ولي اليتيم ولا يكتفي بقوله بل لا بدّ من إثبات تلك الضرورة ويقبل قوله في القدر المحتمل الذي صرفه في نحو العمارة وللحاكم تحليفه إن اتهمه والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/332)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
وسئل: عن موضع في مدرسة للفقراء فانهدمت وتعطلت وخيف على أحجارها وأخشابها ممن يأخذها فهل لرجل أن ينقلها إلى موضع قريب منها ويبنيها مدرسة حيث لم تكن موقوفة أم لا يحل. فأجاب: بأنه يجوز النقل في الصورة المذكورة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن وظيفة تدريس هل يجوز أن يشترك اثنان فيها. فأجاب: بقوله نقل السبكي في طبقاته عن ابن رزين امتناع ذلك وكأن ملحظه أنه خلاف المعهود أو أنه يلزم من الاشتراك نقص انتفاع الطلبة بمغايرة ما يلقي إليهم من تقرير كل وأسلوبه وكل ذلك لا يخلو عن وقفة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عمن وقف قطعة أرض على من يقرأ على ولي معين ولم يعلم هل مراده يقرأ عند قبره أو يقرأ وإن لم يكن عنده ويدعو الله أن يوصل ثواب قراءته إليه ما الحكم وإذا كان الغالب من أهل بلده أنهم يريدون الصورة الثانية ما الحكم. فأجاب: بقوله حيث علم أنه قال وقفت هذا على من يقرأ على فلان لم تجب القراءة على القبر ولا يبحث عن مراد الواقف لأن لفظه يدل على أن القراءة على خصوص الأرض غير واجبة وإن لم يعلم الصورة التي تلفظ بها الواقف فالأوجه أنه لا تتعين القراءة على القبر أيضاً لأن الأصل أجزاؤها على القبر وغيره حتى يعلم تخصيص الواقف لها بمحل معين ولم يعلم ذلك فعملنا بالأصل نعم إن اطردت عادة بلد الواقف حين الوقف بأن مرادهم الوقف على من يقرأ على القبر دون غيره فتتعين القراءة على القبر وحيث قلنا لا يتعين القبر فالأحوط والورع أن تكون عليه لأنها حينئذٍ مبرئة للذمة بيقين والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/333)
وسئل: عن شخص وقف محلاً على قراء ثلاثة من طائفة معلومة ثم من بعدهم على غيرهم كهم ثلاثة بعد ثلاثة إلى ما لا ينتهي وقفاً صحيحاً شرعياً ثم شرط أن يخرج من ريع وقفه بعد المصاريف الباقي للقراء المذكورين وشرط ذلك لهم في مقابلة قراءتهم في كل ليلة في المسجد الحرام مثلاً ما تيسر من كتاب الله تعالى العزيز وأن يهدوا مثل ثواب ذلك في صحائف الأنبياء والعلماء والصالحين ثم في صحائف الواقف حياً كان أو ميتاً وفي صحائف والديه والمسلمين فهل هذا الوقف صحيح بشروطه المذكورة وإذا قلتم بصحته فهل ما تأخذه القراء من ريع الوقف في مقابلة القراءة صحيح ويكون كالأجرة إذا أتوا بالعمل المشروط على وجهه وإذا أخل واحد منهم بعذر كمرض وسفر ونحوه. أو بغير عذر ولم يستنب عنه فيهما هل يسقط من حقه بقدر ما أخل به من الأيام مثلاً وهل له أن يستنيب إذا لم يشرط له الواقف وإذا قلتم لا فهل يقرر الناظر غيره ويسقط حقه من الريع في حالة العذر وبعد زواله أم يستنيب عنه الناظر إلى أن يزول العذر ويعطى له بقدر ما يستحقه من العمل أم تستمر القراءة شاغرة إلى حين زوال العذر ويعمل ويأخذ ما كان يستحقه حالة العذر وهذا الأخير كما لا يخفى عن علمكم الكريم مستحيل لأن الاستحقاق في مقابلة عمله ولا عمل وما قدر ما يلزم القارىء من القراءة المشروطة في قول الواقف أن يقرأ ما تيسر هل يلزمه أن يأتي بثلاث آيات وهو أقل الجمع أو أكثر من ذلك أم يتبع عرف بلد الواقف وهل يصل ثواب القراءة إلى الواقف في حال حياته كما شرط وإذا قلتم لا فإذا شرط أن يهدي له عقب القراءة في الدعاء بعد مماته ولوالديه وأطلق ولم يعين قبراً ولا غيره هل يصح ذلك ويهدي لهم حيثما كانوا سواء أعرف قبورهم أم لا وإذا شرط القراءة على قبره ولم يعلم له قبر هل يصح ذلك أم لا ويبطل وقفه كما أفتى به ابن الصلاح تبعاً لشرط الواقف وإذا شرط أن يهدي مثل ثواب ذلك إلى الأنبياء والعلماء والصالحين والمسلمين حيثما(4/334)
كانوا هل يصح ذلك ويصل إلى جميعهم وما صيغة الإِهداء بعد القراءة للواقف وغيره وهل يقول ثواب القراءة أو مثلها أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة. فأجاب: بقوله الوقف صحيح بشروطه ومعنى إهدائه مثل ثواب ذلك في صحائف الواقف الحي الدعاء له بأن الله يجعل مثل ثواب قراءتهم له وهذا غرض صحيح لرجاء قبول مثل ذلك ووصوله له إذ هو للغير مقبول حياً كان أو ميتاً ومن ثم قال لعمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ لما استأذنه في العمرة
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/335)
لا تنسانا من دعائك ثم رأيت شيخنا زكريا سقى الله تعالى عهده يفتي بنحو ما ذكرته فإنه سئل عن إجارة من يقرأ لحي أو ميت بنحو وصية أو نذر ختمة هل يصح من غير تعيين زمن ومكان وهل تصح الإِجارة للقراءة وإذا فرغ القارىء من القراءة فما صورة ما يدعو به وهل يهديه أوّلاً للأنبياء والصالحين ثم للمستأجر له أو يعكس فأجاب بما حاصله تصح لقراءة ختمة من غير تقدير بزمن ولقراءة قرآن بتقدير ذلك سواء أعين مكاناً أو لا وقد أفتى القاضي بصحتها بالقراءة على القبر مدة قال الرافعي والوجه تنزيله على ما ينفع المستأجر أما بالدعاء له عقبها إذ هو حينئذٍ أقرب إجابة وأكثر بركة وأما بجعل ما حصل من الأجر له واختار النووي صحتها مطلقاً كما هو ظاهر كلام القاضي لأن محلها محل بركة وتنزل الرحمة وهذا مقصود ينفع المستأجر له وبذلك علم أنه لا فرق بين القراءة على القبر وغيره وله الدعاء بثواب ذلك ومثله إذ المعنى عليه وله أن يهديه للأنبياء والصالحين ثم للمستأجر له بل هو أولى لما فيه من التبرك بتقديم من يطلب بركته وهو أحب للمستأجر غالباً فالأجرة المأخوذة في مقابل ذلك حلال لما قلناه ولعموم خبر البخاري إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله أ هـ .
على أن بطلان جملة من كلام الواقف لا يقتضي بطلان الوقف كنظيره فيما لو قال وقفت داري هذه على مسجد كذا ولأمي السكنى بها ففي فتاوى العماد بن يونس احتمال وجهين أحدهما صحة الوقف وإلغاء الشرط كقوله أنت طالق وعليك ألف تطلق ويلغو الإِلزام والثاني بطلانه لأنه شرط استيفاء منفعة مدة مجهولة وهي حياتها أ هـ .
والأوجه الأول وليس هذا شرطاً فيه نصاً بل هو محتمل فلا يبطل به الوقف المحقق ثم رأيت ابن الصلاح صرح بما يؤيد ما ذكرته فإنه قال وإن ترددنا في اشتراط شيء لم يمنع ذلك من الاستحقاق كما لو قال وقفت لتفعلوا كذا وتفعلوا كذا فإنه متردد بين كونه توصية واشتراطاً والاحتياط أولى وما يأخذه القراءة من ريع الوقف في(4/336)
مقابلة القراءة سائغ بل هو من أطيب وجوه الكسب كما دل عليه خبر البخاري السابق وهو كالأجرة أو الجعالة فيتوقف استحقاقهم على إتيانهم بالعمل المشروط على وجهه ومن أخل منهم به في بعض الليالي سقط من معلومه ما يقابل ذلك وإن اطردت العادة بالترك في ذلك الزمن الذي أخل به ففي فتاوى ابن الصلاح لو وقف على مقرىء يقرأ للناس بموضع كذا في كل يوم وجرت عادة البلد بترك الإِقراء يوم الجمعة ليس له ترك الإِقراء فيه لأن قوله كل يوم صريح في العموم فلا يترك بعرف خاص فكذا قوله هنا كل ليلة صريح في ذلك فلا يجوز ترك القراءة في بعض الليالي بعرف خاص وفي فتاويه أيضاً لو شرط قراءة جزء من القرآن كل يوم فتركه أياماً ثم قضاه هل يجزئه ذلك وهل يستحقون في أشهر البطالة رجب وشعبان ورمضان أجاب بعد أن ذكر أنه تلحظ شروط الواقف فما كان فيه إخلال بما شرطه منع الاستحقاق وما لم يكن فيه إخلال به لم يمنعه إلا أن يقتضيه العرف وتنزل العادة منزلة الشرط والمعتبر العرف المقارن للوقف إذا كان الواقف من أهله بقوله وأما من أخل بشرط الواقف في بعض الأيام دون بعض فينظر في كيفية اشتراطه فإن اقتضى اشتراط الزمن الذي ترك فيه سقط استحقاقه فيه وإلا لم يسقط كإخلال المتفقهة بالاشتغال في بعض الأيام حيث لا نص للواقف على وجوده في كل يوم وكذلك ترك الدروس في بعض الأيام على وجه لا يخرجه عن المعتاد ومن القبيل الأول اشتراط جزء من القرآن كل يوم فأي يوم تركه فيه سقط استحقاقه ولا يتعدى إلى غيره من الأيام ثم قال وأما البطالة في الأشهر الثلاثة فالواقع منها في رمضان ونصف شعبان لا يمنع الاستحقاق حيث لا نص للواقف على الاشتغال فيهما والواقع قبلهما يمنع لأنه ليس فيه عرف مستمر ولا وجود له في أكثر التأثير منزلة العرف العام والظاهر أنه يترك ولا يخفى وجه الاحتياط أ هـ .
وما ذكره من أن الإِخلال بالشرط بعض الأيام يسقط استحقاق ذلك اليوم فقط ولا يتعدى إلى غيره خالفه فيه(4/337)
الشيخ
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
عز الدين بن عبد السلام في أماليه حيث قال لو وقف على من يصلي الصلوات الخمس أو من يشتغل بالعلم في هذه المدرسة أو يقرأ في كل يوم كذا في هذه التربة فأخل الإِمام والمشتغل والقارىء بهذه الوظائف في بعض الأيام لم يستحق شيئاً من الغلة في مقابلة الأيام التي أدى فيها الوظيفة بخلاف ما إذا استأجره لخياطة خمسة أثواب فخاط بعضها فإنه يستحق حصته من الأجرة والفرق أنا نتبع في الأعواض والعقود المعاني وفي الشروط والوصايا الألفاظ والوقف من باب الأرصاد والأرزاق لا المعاوضات فمن أخل بشيء من الشروط لم يستحق شيئاً لانتفاء شرط الاستحقاق أ هـ .
واعترضه جمع من محققي المتأخرين بل غلطه الزركشي كما يأتي وقال السبكي ما قاله في غاية التضييق ويؤدي إلى محذور فإن أحداً لا يمكنه أن لا يخل بيوم ولا بصلاة إلا نادراً ولا يقصد الواقفون ذلك أ هـ .
ويؤيده أن ابن عبد السلام قائل بمنع الاستنابة مطلقاً كما يأتي وبه يزيد التضييق ويقوي المحذور المذكور وقال شيخنا زكريا ما قاله ابن عبد السلام اختيار له يليق بالمتورعين وقال بعضهم ما قاله ابن الصلاح أقوم وهو كما قال وما فرق به بين الإِجارة والوقف لا ينهض عند التأمل بل الوقف إذا كان أرصاداً وأرزاقاً أوسع من المعاوضات لأنه يتسامح فيما فيه شائبة البر والإِحسان ما لا يتسامح به فيما هو مبني على استقصاء المتعاوضين لغرضيهما من غير مسامحة صاحبه بشيء منه ما أمكنه فإذا كان الإِخلال بما ذكر في مسئلة الإِجارة لا يمنع استحقاقه أجرة ما عمله فأولى أن لا يمنع ذلك في الوقف ثم رأيت السبكي صرح بذلك فإنه قال ظن بعضهم أن الجامكية على الإِمامة والطلب ونحوهما من باب الإِجارة حتى لا يستحق شيئاً إذا أخل ببعض الصلوات أو الإِمامة وليس كذلك بل هو من باب الأَرصاد والأرزاق المبني على الإِحسان والمسامحة بخلاف الإِجارة فإنها من باب المعاوضة(4/338)
ولهذا يمتنع أخذ الأجرة على القضاء ويجوز أرزاقه من بين المال بالإِجماع وإنما امتنع أخذ الأجرة على هذا لأنه فعل العبادة لغرض دنيوي وهو يمنع من مشروعيتها أ هـ .
فتأمل فرقه بين الأرصاد والأرزاق وبين مما يحتاج لتأمل فإن قلت: يؤيد ما قاله ابن عبد السلام قول النووي في التبيان ما حاصله ينبغي أن يحافظ على البسملة أول كل سورة سوى براءة فإن أكثر العلماء قالوا: إنها آية من غير براءة فإذا قرأها تيقن قراءة الختمة أو السورة وإلا كان تاركاً لبعض القرآن عند الأكثرين فإن كانت القراءة في وظيفة عليها جعل كالأسباع والأجزاء التي عليها أوقاف وأرزاق كان الاعتناء بالبسملة أشد ليستحق ما يأخذه يقيناً فإنه إذا أخل به لم يستحق شيئاً من الوقف عند من يقول البسملة من أوائل السورة وهذه دقيقة متأكد الاعتناء بها وإشاعتها أ هـ .
قلت: لا يؤيده لأن معنى قوله لم يستحق شيئاً أي: لما أخل به إذ الفرض أنه شرط عليه قدر معين فإذا أخل منه بشيء لم يستحق وعلى التنزل فهو اختيار له أيضاً يليق بمزيد ورعه وزهده على أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/339)
الزركشي أشار إلى تغليط ابن عبد السلام حيث قال: لو وردت الجعالة على تحصيل شيئين ينفك أحدهما عن الآخر كقوله من رد عبدي فرد أحدهما استحق نصف الجعل قال وعلى هذا يتخرج غيبة الطالب عن الدرس بعض الأيام إذا قال الواقف من حضر شهر كذا فله كذا فإن الأيام متفاضلة فيستحق بقسط ما حضر تفطن لذلك فإنه مما يغلط فيه أ هـ .
ولا فرق فيما ذكر بين أن يترك المباشرة لعذر أو غيره فيستحق لما باشره ما يقابله ويسقط ما يقابل ما لم يباشره مطلقاً وأفتى النووي و ابن عبد السلام بمنع الاستنابة وعدم استحقاق واحد منهما أما النائب فلأن الواقف لم ينصبه وأما المستنيب فإنه لم يأتِ بالشرط وخالف السبكي فإنه استنبط من استحقاق المجعول له تمام الجعل عند قصد المشارك إعانته جواز الاستنابة في الإِمامة والتدريس ونحوهما. من الوظائف بشرط أن يستنيب مثله أو خيراً منه لأنه إذا لم يكن بصفته لم يحصل الغرض به وشبه الاستنابة في ذلك بالتوكيل بالمباحات قال ويستحق والحالة هذه كل المعلوم أ هـ .
وأشار الزركشي للرد عليه والاعتماد على ما قاله الأوّلان بقوله ومدركهما في ذلك أن الريع ليس من باب الإِجارة ولا الجعالة لأن شرطهما أن يقع العمل فيهما للمستأجر والجاعل والعمل لا يمكن وقوعه للجاعل فلم يبق إلا الإِباحة بشرط الحضور ولم يوجد فلا يصلح إلحاق ما قالاه بمسئلة الجعالة قال: وهذا إذا كان بغير إذن الواقف فإن أذن فهو كما لو فوض إليهما القضاء والوكالة وأذن له فاستناب وفي كون النائب والحالة هذه يتولى عن الوكيل أو الموكل وجهان أصحهما الثاني وعلى هذا لا يتمكن المستنيب من عزله ولا ينعزل بانعزاله لأنه نائب عن الأول وينبغي طرده هنا أ هـ .
وذلك رد ما قاله أوّلاً فإنا لم ندع أن ذلك من الإِجارة أو الجعالة حقيقة وإنما المراد أن فيه شائبة من كل منهما وقوله العمل لا يمكن وقوعه للجاعل لا يضرنا لأنه يقع له نظيره إذ القصد به الثواب والدال على الخبر فضلاً عن(4/340)
المستنيب فيه له مثل أجر فاعله وقوله فلم يبق الخ. ممنوع بل حضور الغائب كحضور المستنيب فلم يفت الحضور من أصله وبهذا اتضح كلام السبكي ويؤخذ من آخر كلام الزركشي أن محل الخلاف في الاستنابة لغير عذر وأنها لعذر كالقدر العاجز عن مباشرته سائغة بلا شك وبه صرح الدميري فإنه قال بعد بحث السبكي السابق وهذا فيما لا يعجز عن مباشرته بنفسه فإن عجز عنها فلا شك في جواز الاستنابة وهو محتمل أن يكون من كلامه وأن يكون من كلام السبكي ثم نقل عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/341)
الفخر ابن عساكر أنه كان معه مدارس بدمشق يدرس فيها وكان معه الصلاحية بالقدس يقيم بهذه أشهراً وبهذه أشهراً في السنة مع علمه وورعه قال: وقد وقع السؤال عمن ولي تدريس مدرستين في بلدين متباعدين كحلب ودمشق فأفتى جماعة بجواز ذلك ويستنيب منهم قاضي القضاء بهاء الدين السبكي والشيخ شهاب الدين البعلبكي وشمس الدين القرني والشيخ عماد الدين الحسباني ومن الحنفية والمالكية والحنابلة آخرون ومنع ذلك طائفة غيرهم وهذا الأشبه لأن غيبته في أحدهما لأَجل الحضور في الأخرى ليست بعذر أ هـ .
والحاصل أن في الاستنابة آراء أحدها لا تجوز مطلقاً وعليه ابن عبد السلام و النووي و الزركشي إلا أن أخذنا بقضية كلامه السابق ومما يؤيد أنه قائل بالإِطلاق قوله من ولي وظيفة وأكره على عدم مباشرتها لا يستحق معلومها لأنها جعالة وهو لم يباشر أ هـ .
لكن يؤخذ من تعليله أنه لو أكره فاستناب استحق والثاني الجواز مطلقاً وعليه ابن عساكر و البهاء السبكي كأبيه إلا على احتمال مر عن الغزي و البعلبكي و الحسباني ومن ذكر معهم والثالث إن كان له عذر استحق وإلا فلا وعليه السبكي على احتمال مر عن الزركشي على ما اقتضاه آخر كلامه و الدميري وهو الأوجه ويوافقه إفتاء التاج الفزاري باستحقاق المكره السابق إذ المكره شرعاً كالمكره حساً وحيث منعناه من الاستنابة فغاب غيبة تشعر بالإعراض قرر الناظر غيره وحيث جوزناها له فإن استناب فواضح وإلا قرر غيره بشرطه المذكور وإذا شرطت قراءة ما تيسر فإن كان ثم عرف مطرد حال الشرط علمه الواقف نزل عليه وإلا اكتفى بما يسمى قراءة كجملة أفادت معنى مستقلاً لصدق الاسم عليها حينئذٍ وقد قالوا لو قال لقنه إن قرأت القرآن بعد موتي فأنت حر لم يعتق إلا بقراءة جميعه أو قرآناً عتق بقراءة بعضه والفرق التعريف والتنكير وهذا صريح فيما ذكرته لأن قرآناً وما تيسر من القرآن سواء في المعنى لكنهم أطلقوا البعض والذي يتجه ما قدمته ويصل للواقف ثواب(4/342)
الدعاء والإِعانة على القراءة وإيصال البر للموقوف عليهم لا نفس ثواب القراءة لأنه للقارىء بالنص فلا يمكن نقله لغيره ومر بعض ذلك فإن دعا بوصول مثله للواقف حصل له مثله من حيث الدعاء لا من حيث القراءة وإذا شرط الإِهداء له ولآخرين عينهم وجب الإِهداء إليهم وإن جهلت قبورهم لأن ذلك يصل إليهم مطلقاً والوقف على من يقرأ على قبره باطل لأنه منقطع الأول إذ قد لا يعلم قبره فيتعذر الإِتيان بما شرطه فإن قال وقفت بعد موتي على من يقرأ عليّ فهو وصية فإن خرج من ثلثه صح الوقف وإلا فلا وإن خرج بعضه صحت فيه فقط ويصح شرط إهداء الثواب أو مثله في صحائف من ذكر وصورة ما يدعو به أن يقول اللهم اجعل ثواب ذلك أو اللهم اجعل مثل ثواب ذلك إذ المعنى على مثل ثواب ذلك كما لو أوصى لزيد بنصيب ابنه فإنه يصح على معنى مثل نصيب ابنه أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/343)
وسئل: عن مسئلة وقع فيها خلاف طويل بين علماء مصر ونقلت مع أجوبة العلماء فيها إليه نفع الله تعالى بعلومه بمكة المشرفة في عدة أعوام لطلب جوابه فيها وهو يمتنع من الكتابة فيها لأن بعض الأجوبة التي فيها لبعض مشايخه فخشي من تغير خاطره إن وقع منه مخالفة لأحد منهم ثم لما تأكد الطلب لجوابه استخار الله سبحانه وتعالى واستعان به في أن يلهمه موانح التوفيق ويقطع عنه موانع التحقيق إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم وأفرد ذلك بهذا التأليف (وسماه التحقيق لما يشمله لفظ العتيق) سائلاً من الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يحله تقبل الله تعالى منه بفضله أعالي جنات النعيم آمين قال ـ رضى الله تعالى عنه ـ أما السؤال فصورته ما قولكم رضي الله تعالى عنكم ونفع بعلومكم المسلمين في مكتوب وقف عبارته جعل ذلك وقفاً على عتقاء الواقف بالسوية الذكر والأنثى والطواشية في ذلك سواء مدة حياتهم ومن توفي منهم وله ولد أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه إليه فإن لم يكن انتقل إلى باقي العتقاء المذكورين ويستمر الحال في ذلك كذلك إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين خمسون نفراً فإذا بقي منهم خمسون نفراً قسم ريع الموقوف المختص بالعتقاء المذكورين شطرين شطر يصرف للعتقاء الخمسين الباقين على الحكم المشروح والشطر الثاني يصرف للخدام بالحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة والسلام والفراشين والوقادين بالحرم الشريف النبوي فهل قوله إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين خمسون نفراً يختص بمن باشره العتق أم لا فإذا قلتم يختص وقد انقرض العتقاء الذين باشرهم العتق بأسرهم وبقي الآن من أولادهم وذريتهم عدد يزيد على الخمسين فهل يكون ذلك مانعاً من قسمة الريع شطرين بينهم وبين جهة الحرم الشريف ويستحق أولاد العتقاء جميع الريع لأن العتيق الزائد على الخمسين كأنه موجود بوجود ولده المستحق لنصيبه أم لا وما حكم الله في ذلك أفتونا مأجورين هذا(4/344)
لفظ السؤال وأما الأجوبة عنه فمنها أنه أراد الواقف بقوله إلى أن يبقى من العتقاء خمسون نفراً ما يشمل حقيقته ومجازه لأن إزالة الرق عن الأصل تتضمن إزالة الرق عن الفرع فكأنه أعتقه ويؤيد ذلك قوله انتقل نصيبه إليه فلا يدخل لجهة الحرم ريع الوقف ما بقي من ذرية العتقاء أكثر من خمسين نفراً لاستحقاقهم حينئذٍ لجميع الريع ومنها قول الواقف إلى أن يبقى من العتقاء خمسون نفراً لا يختص بمن باشره العتق فإذا انقرض
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/345)
العتقاء الذين باشرهم العتق بأسرهم وبقي من أولادهم عدد يزيد على الخمسين كان ذلك مانعاً من قسمة الريع شطرين بينهم وبين جهة الحرم الشريف النبوي ويستحق أولاد العتقاء جميع الريع لأن العتيق الزائد على الخمسين كأنه موجود بوجود ولده المستحق لنصيبه فالموجود بوجود أولاده هو العتيق الذي باشره العتق فهو لم ينقرض بل هو موجود بوجود نصيبه والحاصل أن عصبة كل عتيق يقومون مقام ذلك العتيق فكأن ذلك العتيق بعينه موجود وإذ كان موجوداً بوجود عصبته فلم ينقرض العتقاء الخمسون بل من وجدت ذريته وأولاده فهو موجود ومنها حيث كان الأولاد الذين يستحقون عدد جملتهم تزيد على الخمسين نسلوا عن عتقاء يزيد عدد جملتهم على خمسين فجوابي كهذا الجواب من أن الأولاد المذكورين يستحقون جميع الريع دون قسمته بينهم وبين خدمة الحرم الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام لأن الواقف جعل الفرع قائماً مقام أصله وحائزاً لنصيبه فيكون الأصل العتيق موجوداً شرعاً بوجود فرعه حساً وهذه الأجوبة الثلاثة متفقة على أن أولاد العتقاء قائمون مقامهم وخالف قائليها آخرون فأجابوا بأجوبة مخالفة لها ورادّة عليها منها لا يشك شاك أن العتقاء حقيقة فيمن باشره العتق ولا يجوز حمله على مجازه وهو من شمله نعمة العتق لأن أقصى ما يتمحل لهذا المجاز بعد تسليمه علاقة مصححة لإِرادة المجاز بعد اللتيا والتي وهذا المقدار غير كافٍ في صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه بل لا بدّ من قرينة تمنع إرادة الحقيقة كما صرح به علماء الأصول فإن قلت إزالة الرق عن الأصل تتضمن الإِزالة عن فرعه فكأنه أعتقه ويؤيد ذلك قوله انتقل نصيبه إليه قلنا إن أردت أن إزالة الرق عن الأصل إزالة عن فرعه الموجود فهو باطل لم يقل به أحد من ذوي المذاهب الأربعة وإن أردت به الفرع الذي سيوجد فهو باطل أيضاً لأنه لم يمسه رق حتى يزول عنه على أن الفرع إذا وجد حراً لم تكن حريته من قبل أبيه ألا ترى أن العتيق المذكور(4/346)
إذا تزوّج بأمة الغير فأولدها كان الولد رقيقاً للغير فأي رق أزاله عن فرعه بإزالته عن أصله وأما قوله انتقل نصيبه إليه فليس مطلقاً بل مغياً إلى غاية مخصوصة لا يجوز إلغاؤها وهي بلوغ عدد العتقاء خمسين فإن قلت إذا بقي من أولاد العتقاء عدد يزيد على الخمسين كان ذلك مانعاً من قسمة الريع شطرين لأن العتيق الزائد على الخمسين إذا مات عن ولد صار كأنه موجود بوجود ولده المستحق لنصيبه لأن عصبة كل عتيق يقومون مقام ذلك العتيق فلم تنقرض العتقاء الخمسون قلنا: لا نسلم أن استحقاق الولد لنصيب الأب يجعل الأب في حكم الموجود وعصبة العتيق لا تقوم مقام العتيق في وجوده بل تستحق نصيبه الذي كان له لا غير إلى الغاية التي عينها الواقف على أنه إذا قلتم أن العصبة قائمة مقام العتيق يلزم أن ينظر في الأولاد الموجودين الآن الزائدين على الخمسين هل هم أولاد خمسين من العتقاء فما دونهم يلزم أن يقولوا بقسمة الريع شطرين لأن العصبة تعددوا يقومون مقام أصلهم الواحد فتحققت الغاية فكيف يكون العدد الزائد على الخمسين من الأولاد مطلقاً مانعاً من قسمة الريع فإن قلت: الواقف جعل الولد قائماً مقام أصله وحائزاً لنصيبه فيكون الأصل العتيق موجوداً شرعاً بوجود فرعه حساً قلنا: الواقف لم يجعل الفرع قائماً مقام الأصل في الوجود وإنما جعله مستحقاً لنصيبه بعد موته ولا يلزم من ذلك أن يكون موجوداً شرعاً بل الموجود شرعاً وحساً إنما هو فرعه لانتقال نصيب والده الذي قد مات إليه لا يسع أحداً أن ينكر ذلك من ذوي العقول سيما من مارس المنقول والمعقول وإذا تقرر ذلك علمت أن الحق الذي لا يستراب والصواب الذي لا يشك فيه أولو الألباب أنه إذا انقرض العتقاء الذين باشرهم العتق وبقي من أولادهم عدد يزيد على الخمسين سواء نشأوا عن خمسين فما دونهم من الأصول أو عن أكثر من خمسين منهم قسم ريع الوقف شطرين شطر للحرم الشريف النبوي وشطر لأولاد العتقاء المذكورين على حكم ما(4/347)
شرطه الواقف عملاً بصريح قوله بظاهر عبارته ولا يتشبث بما توهمه المخالفون من ارتكاب التمحلات البعيدة والتكلفات الشديدة الغير سديدة التي ينبو عنها الطبع السليم والذهن المستقيم ومنها الجواب عن ذلك يستدعي تمهيد مقدمة وهي أن الأصل في الكلام الحقيقة فإذا أراد أحد أن يخرجه عن حقيقته إلى المجاز فلا بدّ له من داع يدعوه لترك الحقيقة إلى المجاز وإلا لكان عبثاً ثم علاقة تربط بين المعدول عنه والمعدول إليه والأصح إطلاق كل لفظ على كل معنى ثم قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وإلا تبادر لكونه الأصل وهذا القدر مما لا نزاع لفاضل فيه لإِطباق كتب الأصول بل وكتب البلاغة عليه غالباً ولو أردنا الاستشهاد على ذلك من كلامهم لطال الحال وادعى إلى الملال لا يقال إن الداعي إلى التجوّز والقرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة واحد لاجتماعهما في أن كلاً يصرف عن إرادة الحقيقة لأنا نقول افتراقهما في عد كل شرطاً على حياله يأبى ذلك وأيضاً فالداعي شرط للعدول ومعناه جواز ترك الحقيقة إلى غيرها والقرينة شرط لمنع تبادر الحقيقة لأَصالتها واختلاف الأثرين يدل على اختلاف المؤثرين وأيضاً فاعتبار القرينة بعد اعتبار الداعي بل وبعد اعتبار العلاقة لما لا يخفى من أن طلب ما يصحح الإِطلاق المجازي لا يحسن إلا بعد معرفة ما يجوز المصير إليه وإن طلب ما يمنع مبادرة الأصل إنما يتأتى بعد صحة استعمال الفرع وإنما تعرضنا لذلك لادعاء بعض الأعيان له عند مناظرته فيما كتب به في هذه المسئلة غير أنه رجع إلى الحق في ذلك لما عرفه وإذا تمهدت هذه القاعدة وتأكدت هذه الفائدة فاعلم أن حامل العتيق في هذا السؤال على ما يشمل ولده لا يخلو إما أن يسلك الطريق الجادة وهي أن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه مجاز أيضاً كما هو معتمد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/348)
ابن الحاجب و شارحه العضد و التاج السبكي وغيرهم. بدليل سوقهم ما عدا ذلك مساق الآراء الضعيفة والمذاهب المرجوحة لتصديرهم الأوّل وترجيحه وتأخيرهم الثاني وتوهينه أو يسلك طريق الشافعي رحمه الله تعالى وهي استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه على التوزيع وعلى كلا التقديرين فالمتجوز مطالب بالداعي لما سبق فإن زعم أنه الاختصار لو عبر عن المعنيين بلفظ واحد أما حيث عبر عن كل معنى بلفظ فإني يدعي له الاختيار وكيف يدعي زيادة البيان والمعنى المجازي أما فرع العتيق أو المركب من العتيق مع فرعه وكون لفظ العتيق بمفرده أوضح دلالة على الفرع أو عليه مع أصله من لفظ الولد أو العتيق وولده مما لا يدعي إلا سهواً أو عناداً لما علم من أن الحقيقة ما لم تهجر أوضح دلالة على المعنى من المجاز ولو احتف بقرائن شتى لأن قصاري أثر القرائن أن تلحق المجاز في الوضوح بالحقيق وأني له بالقرائن بل بالقرينة الواحدة فكيف بالمساواة فضلاً عن الزيادة ولا يرد على ذلك زعم صدر الشريعة رحمه الله تعالى عند تعديد أقسام الداعي أن بعض المجازات أوضح دلالة من الحقيقة لقول السعد في التلويح بعد ما أورد ذلك إن أراد بالمعنى ما يقصد من اللفظ حقيقة أو مجازاً كالحجة والعلم مثلاً فلا خفاء في أن دلالة لفظ الموضوع له عليه أوضح عند العلم بالوضع من دلالة لفظ الشمس والنور ولو مع ألف قرينة فإن فرضنا الظفر بالداعي بقيت المطالبة بالقرينة المصححة فإن قيل هي كون الولد قائماً مقام أبيه وحائزاً نصيبه عند عدمه ومكتسب الحرية عن حريته قلنا هذه العلاقة مع ما فيها قصاري أمرها أن تصحح إطلاق العتيق مجازاً على ولده ليس غير وليس هذا المجاز هو المراد هنا على كلتا الطريقتين لما لا يخفى فيبقى الطلب متعلقاً بعلاقة هذا المجاز الخاص الذي هو الكل المجموعي وعز أن يظفر بذلك فقد قال المولى سعد الدين في حاشية العضد عند الكلام على هذا المقام إن أريد المجموع لا من حيث تعلق الحكم(4/349)
بالمجموع من حيث هو بل من حيث تعلقه بكل واحد كان شاملاً للمعنيين لكن تصحيح هذا المثال وبيان العلاقة فيه مشكل وحديث استعمال الجزء في الكل كاذب لما سمعت يشير بذلك إلى ما أسلفه عن ذكر الثالث من أحوال المشترك وهو إطلاقه على مجموع المعنيين بحيث لا يكون كل منهما مناطاً للحكم من قوله ثم ولا نزاع في امتناع ذلك حقيقة وجوازه مجازاً إن قامت علاقة مصححة فإن قيل علاقة الجزء والكل متحققة قطعاً قلنا ليس كل ما يعتبر جزءاً من مجموع يصح إطلاق اسمه عليه للقطع بامتناع إطلاق الأرض على مجموع السماء والأرض بناءً على أنها جزؤه وهذا منه تصريح أو كالتصريح بالعجز عن إثبات العلاقة لهذا النوع من المجاز وإن أبلغ ما يتبادر علاقة ما أبداه ودفعه على تقديري الكل المجموعي والكل الإِفرادي فإن قلت الذي استظهرت به من باب استعمال المشترك في معنييه ومسئلتنا من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه قلت هما من وادٍ واحد حتى قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/350)
السعد في الحاشية المذكورة عند ذكر الرابع من أحوال المشترك وعلى هذا قياس الجمع بين الحقيقة والمجاز بل ربما يستغنى عنه بذكر المشترك نظراً إلى أن اللفظ موضوع للمعنى الحقيقي بالشخص والمجازي بالنوع سلمنا الاقتدار على إبداء العلاقة بقيت المطالبة متعلقة بالقرينة فإن قيل إن القرينة قيامه مقام أبيه إلى آخر ما مر في العلاقة قلنا دعوا الحيرة وأنتم بالخيرة وبين أن تجعلوا ما ذكرتم علاقة كما تواردتم عليه في الجواب عن هذه الحادثة وبين أن تجعلوه قرينة فإن اخترتم الأول فقد أسلفنا إبطاله أو الثاني بينا إهماله وذلك أن ما يصرف عن الشيء ويبعد عن إرادته غير ما يقرب منه ويربط به وإذا صار هذا من الوضوح بهذه المرتبة فأي مجاز لا داعية إليه ولا قرينة عليه {سبحانك هذا بهتان عظيم} (24:16) وإن لم تكن الجادة سبيل هذا المتجوز وهو ممن رأى ما رأى الشافعي رحمه الله تعالى على ما سبق بيانه فبعد مطالبته بالداعي والعلاقة في المجاز واعترافنا بأن ما زعمه ثم علاقة يمكن هنا لنا في تضعيف معتمده وتوهين مستنده طرق أحدها إن ما نسب إلى الشافعي رضي لله تعالى عنه من ذلك مسوق كما مر مساق الأقوال السقيمة والآراء الضعيفة لما قدمناه ويؤيد ما ذهبنا إليه قول الكمال بن أبي شريف في حاشية شرح جمع الجوامع عند قول المتن وعن الشافعي حقيقة وفي التعبير بعن إشارة إلى أن القول بأنه حقيقة غير مجزوم به عنده بأنه قول الشافعي لما ذكرنا يشير إلى قوله أوّل القولة أما الشافعي فحكاه عنه الآمدي وقال الأصفهاني أنه اللائق بمذهبه لكن نقل النقشواني في التلخيص عنه أنه مجاز كما مال إليه إمام الحرمين واختاره المصنف وابن الحاجب تبعاً للآمدي أ هـ .
ولا ينافي اختيار التاج السبكي لذلك ما نقله في شرحه لمنهاج البيضاوي عن ابن الرفعة من أنه ذكر في باب الوصايا من مطلبه أنه أخرج نصه من الأم على ذلك لقوله في خاتمة بحث المشترك عن الرافعي أنه قال الأشبه أن اللفظ(4/351)
المشترك لا يراد به جميع معانيه ولا يحمل عند الإِطلاق على جميعها، ثم قال السبكي : فسياق كلامه لا يقتضي أن الشافعي رأى ذلك وكيف وقد جعل الأشبه خلاف ذلك أ هـ .
ثاني الطرق أن محل الخلاف في الحمل على الحقيقة والمجاز كما قال الكمال بن أبي شريف في حاشية جمع الجوامع للمحلي تبعاً للشارح هو ما إذا قامت قرينة على إرادة المجاز مع الحقيقة فإن قامت قرينة على قصد الحقيقة وحدها فيحمل عليها أو على قصد المجاز وحده فيحمل عليه فقط أو لم تقم قرينة على قصد المجاز ولا انتفائه فيحمل على الحقيقة فقط كذا قرره المصنف في شرح المنهاج ونقله في شرح المختصر عن والده قال وكنت أسمعه يقول إذا لم يظهر قصد فلا مدخل للحمل على المجاز فإن اللفظ إنما يحمل على مجازه بقرينة أ هـ .
فأنت ترى كلام الكمال على هذا المطلب كمال الكلام فإن رجعتم إلى ادعاء أن القرينة قيام الفرع مقام أصله فجوابكم ما أسلفناه على أنا تدعي أن القرينة على قصد الحقيقة كنار على علم وذلك أن الواقف وقف على عتقائه وهم بالاتفاق حقيقة فيمن باشره العتق وسوّى بين ذكرهم وأنثاهم وضديهما ثم قال إن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد انتقل نصيبه إليه ومعلوم بلا مرية ومقرر بلا شبهة أن الولد هنا حقيقة في فرع من باشره العتق أليس الدلالة على الفرع بلفظ حقيقته مما يعين أن المراد بالعتيق حقيقته فقط دون مجازه فكيف يسوغ لمدع أن يدعي أن لفظ عتيق مستعمل في هذه العبارة فيمن باشره العتق وفي فروعه سواء أقلنا أن ذلك مجاز أو حقيقة ومجاز على التوزيع أفتحفظ أن أحداً من الفضلاء بل من العقلاء قال إذا اجتمع من لافظ واحد في تعبير واحد حقيقتان ألغينا مدلول أحدهما اعتباطاً وجعلناه مدلولاً مجازياً للأخرى وهل ذلك إلا بمثابة رأيت رجلاً شجاعاً إذا غاب الأسد خلفه في شجاعته فالأسد بمثابة العتيق لتأصل الوصف فيه والغيبة بمثابة الموت والرجل الشجاع بمثابة الولد والخليفة في الشجاعة بمثابة قيام ولد(4/352)
العتيق مقامه في حوز نصيبه ولا يليق بلبيب ولا ينبغي لا ريب أن يخالجه شك أو يزاحمه وهم في أن المراد بالأسد في هذه العبارة الهيكل السبعي المخصوص فقط وبالرجل الشجاع الذكر البالغ من بني آدم وإلا لزم إهمال المعنى الحقيقي مع تأتيه وأعمال المعنى المجازي مع عدم تأتيه وكلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
الرافعي رحمه الله تعالى شاهد صدق على ما ادعيناه وهو ما حكاه عن الأصحاب أنه لو قال وقفت على أولادي هل يدخل أولاد الأولاد وجهان أصحهما لإِثم قال وقد يقترن بما يقتضي الجزم بخروجهم كقوله وقفت على أولادي فإذا انقرضوا فعلى أحفادي فهل ذلك إلا أن ثم حقيقتين أعلم كل منهما في مدلوله فإذا لم يجد له المدلول المجازي مكاناً تنزلنا حيث لا منزل وكلفنا القول بمساواة التبر للترب الأسفل وسلمنا ما ادعيتموه وقرينة أفلا تجعلونه مساوياً لقرينتنا فيتعارضان فيتساقطان ونرجع إلى العمل بالحقيقة لما سبق من كلام الكمال فإن قلت: إن الكمال عقب ما حكيته عنه بقوله وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر استعمال المجاز كثرة يوازي بها الحقيقة بحيث يتساويان فهما عند الإِطلاق كما نقله المصنف عن القواطع لابن السمعاني قلنا: كفي بنفسك اليوم عليك حسيباً أتقول إن لفظ عتيق في دلالته على من باشره العتق كهو في دلالته على ولده وحده أو معه وأن المعنيين متساويان فهما وبدارا إلى الذهن عند الإِطلاق لا أحسب أن أحداً يلتزم ذلك اللهم من أغشى التعصب بصر بصيرته وحلى ظاهره بتعطيل سريرته وإذا تقرر ما أشرنا إليه وتبين ما نبهنا عليه فالحق الذي لا مرية فيه والصواب الذي لا خطأ يعتريه أن يستحق أهل الحرم الشريف النبوي مشاطرة العتقاء في الريع عند بلوغ العتقاء بالتناقص خمسين نفراً كما شرطه الواقف وعدم قيام أولاد الزائدين على خمسين مقامهم في العد على أهل الحرم لحرمانهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل هذا بعض ما تيسر من(4/353)
الأجوبة على هذا السؤال والثاني منها لمالكي والرابع لحنفي والبقية للشافعية فهل تعتمدون في هذه المسئلة ماذا منها فإن الخطب فيها عظيم بين المفتين والتنازع الشديد تحريرها قد تفاشى بين أئمة المسلمين من أرباب المذاهب الأربعة وولاة الشريعة المطهرة بحيث إن كثيرين أفتوا ثم رجعوا ثم أفتوا وصمموا ولم تزل العلماء في ذلك على التناقض والتخالف فلعل بجوابكم يحصل التوافق والتآلف جزاكم الله سبحانه وتعالى خيراً عن الإِسلام والمسلمين ومتعكم بقربه وجوده وكرمه في بلده الأمين آمين. فأجاب: بقوله ما ذكر في الأجوبة الثلاثة الأول من قيام الولد مقام أبيه للقرينة التي أشاروا إليها بناءً على أن ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من باب المشترك وذكر القرينة لمزيد التقوية ودفع الخلاف لا للاشتراط لما يأتي فيه هو اللائق بالقواعد الفقهية والاستعمالات الشرعية أو العرفية التي عليها مدار كتب الأوقاف كما ستراه مصرحاً به في كلام الأئمة وما ذكر في الجوابين الأخيرين من عدم قيام الولد مقام أبيه لعدم اتضاح الداعي إلى التجوّز والعلاقة المصححة والقرينة المانعة من إرادة الحقيقة بناءً على أن ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز هو اللائق بالقواعد الأصولية لكن المدار في الفتاوى إنما هو على كلام الفقهاء وتصرفاتهم التي ذكروها في كلام الواقفين دون تدقيقات الأصوليين والنحاة وغيرهما. ومن ثم قالوا ليس للأصولي الماهر الإِفتاء لأن المفتي إن كان مجتهداً فعلم الأصول وحده لا ينفعه في استخراج الأحكام في الوقائع الجزئية كما هو واضح وإن كان مقلداً فهو مرتبط بكلام أئمة الفروع دون أئمة الأصول فاتضح أن علم الأصول وحده مثلاً لا يدار عليه الإِفتاء في المسائل الجزئية وإنما المدار على علم الفروع وتصرفات أهله حتى لا يسوغ للمفتي الخروج عن تصرفاتهم وقواعدهم وحينئذٍ فلنا هنا كلامان (الكلام الأول) في بيان الأدلة الواضحة من كلام الفقهاء على(4/354)
شمول العتقاء في عبارة الواقف السابقة في السؤال لأولادهم (الكلام الثاني في الكلام) على تلك الأجوبة واحداً فواحداً وبيان ما في كل منها من المقبول وغيره والكلام الأول فيما ذكر وفيه مبحثان:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
المبحث الأول: في تحقيق خلاف ما أطبقت عليه الأجوبة الخمسة من أن أولاد العتيق لا يتناولهم لفظه إلا مجازاً وبيان ذلك أن الروياني من أئمة أصحابنا وناهيك به يقول لو أحرقت كتب الشافعي رحمه الله تعالى أمليتها من حفظي قال في بحره الذي هو من أجل كتب المذهب إثر الكلام على مسئلة الوقف على الموالي فرع لو قال على موالي من أسفل ولولده موالٍ من أسفل لم يدخل في ذلك إلا مواليه ولم يدخل فيه موالي ولده ثم قال فرع قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في البويطي ويدخل فيه أولاد الموالي ولا يدخل فيه موالي الموالي لأن ولاية مواليهم لهم دونه وولاية أولادهم له دونهم أ هـ .
فتأمل كلام الشافعي هذا وفرقه بين أولاد الموالي وموالي الموالي بأن الأولين ولاؤهم له والآخرين ولاؤهم لمواليه لا له تجده قاضياً في مسئلتنا بأن العتقاء يشمل أولاد المعتقين بالمباشرة حقيقة لا مجازاً فيكون مشتركاً بينهم وبين أولادهم وأولاد أولادهم وهكذا فيصدق على الكل صدقاً واحداً بناءً على جواز بل وجوب حمل المشترك على جميع معانيه سواء أكان بلفظ المفرد المنكر أم المعرف أم بلفظ الجمع خلافاً لمن فرق وهو مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ونقله إمام الحرمين في تلخيصه لتقريب القاضي أبي بكر الباقلاني عن مذاهب المحققين وجماهير الفقهاء وقال صاحب الكبريت الأحمر أنه مذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ وحكاه أبو سفيان في العيون عن أبي يوسف ومحمد وحملوا من حلف لا يشرب من الإِناء على الكرع والشرب من الإِناء وحمله أبو حنيفة على الكرع ونسبه القاضي عبد الوهاب لمذهبهم قال وهو قول جمهور أهل العلم وعلى جواز(4/355)
استعماله في جميع معانيه اختلفوا هل هو بطريق الحقيقة أو المجاز قال الأصفهاني واللائق بمذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه بطريق الحقيقة لأنه يوجب حمله على الجميع ونقله السيف الآمدي عن الشافعي والقاضي كسائر الألفاظ العامة في صيغ العموم ولهذا حملت عند التجرد عن القرائن على الجميع وقيل إنه بطريق المجاز ونقل عن الشافعي أيضاً ومال إليه إمام الحرمين واختاره ابن الحاجب وغيره والمعتمد عند أصحابنا الأول ومن ثم قال الأستاذ أبو منصور من أكابرهم أن وجوب حمله على جميع معانيه إذا تجرد عن قرينة صارفة هو قول أكثر أصحابنا وقال ابن القشيري أن كلام الشافعي دال على ذلك قال جمع ولأن ذلك لو لم يجب فأما أن يحمل على واحد منها ويلزم التحكم أو تعطيل النص لأن العمل بالدليل واجب ما أمكن وليس من عادة العرب تفهيم المراد باللفظ المشترك من غير قرينة فيصير انتفاء القرينة المخصصة قرينة أي قرينة على التعميم ولما فيه من الاحتياط على ما يأتي وقول الرافعي في التدبير الأشبه أن المشترك لا يراد به جميع معانيه ولا يحمل عند الإِطلاق على جميعها ردوه بأنه بحث مخالف لمنقول المذهب فلا يعوّل عليه ومن ثم قال الزركشي ليس كما قال وإنما هذا مذهب الحنفية كما قال أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة على أنه أعني الرافعي صرح بخلافه في مواضع فتعين أن بحثه لذلك إنما هو تبع لبعض الأصوليين كابن القشيري قال لأنه ليس موضوعاً للجميع بل لآحاد مسمياته على البدل أ هـ .
ومحل الخلاف كما علم مما تقرر حيث لا قرينة تعين أحد معانيه بعينه فإن وجدت حمل عليها قطعاً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/356)
تنبيه: ما قدمناه عن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ من أنه يوجب حمل المشترك على جميع معانيه هو ما اشتهر عنه في كتب المتأخرين من الأصحاب وأنكر ذلك ابن تيمية وقال: ليس للشافعي نص صريح فيه وإنما استنبطوا هذا من نصه فيما لو أوصى لمواليه أو وقف عليهم وله موالٍ من أعلى ومن أسفل أنه يصرف للجميع وهذا استنباط لا يصح لاحتمال أنه يرى أن اسم المولى من الأسماء المتواطئة وأنه موضوع للقدر المشترك بين الفريقين وعند هذا الاحتمال فكيف يحكى عنه ذلك قاعدة كلية أ هـ .
والقول بالتواطىء بأن يكون موضوعاً لمعنى واحد على جهة التواطىء وهو الموالاة والمناصرة نقلة ابن الرفعة عن شيخه عماد الدين في المطلب ثم رده بما فيه خفاء وتوضيحه أنه لو كان من باب التواطىء لم يأتِ الخلاف هل تصح الوصية والوقف أو لا وعلى الصحة هل يحمل عليهما أو على المولى من أعلى أو على المولى من أسفل أو يوقف أقوال فاختلافهم فيه كذلك صريح في أنه من باب المشترك لا من باب التواطىء فاندفع اعتراض ابن تيمية أيضاً وبان أن تجويزه احتمال التواطىء في لفظ المولى غير صحيح وأن استنباط الأئمة المذكور صحيح لا اعتراض عليه ولقد قال السبكي عن ابن تيمية وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة النبي وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل تفرد به لمسارعته إلى النقل بفهمه ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جسداً وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتساع خياله وشغب كثير ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون أ هـ .
وإنما ذكرت المبالغة في الرد(4/357)
عليه ثم عقبته بكلام السبكي هذا لأني رأيت من يعترض على الشافعية في حملهم المشترك على جميع معانيه ويحتج بكلام ابن تيمية هذا وقد دل كلام الشافعي في مواضع من الأم وغيرها على حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه كما قررت في محلها والاعتراض بأنه لم يحمل الشفق على معنييه الأحمر والأبيض غفلة عن أن سبب تخصيصه له بالأحمر ورود التقييد به في حديث وكذا حيث خصص مشتركاً بأحد معانيه فإنما هو لدليل أو قرينة كما يعرف بتأمل مواقع كلامه واستنباطاته ثم الخلاف في حمل المشترك على جميع معانيه إنما هو في الكلي العددي أي في كل فرد فرد وذلك بأن يجعله يدل على كل منها على حدته بالمطابقة في الحالة التي يدل على المعنى الآخر بها وليس المراد الكل المجموعي أي يجعل مجموع المعنيين مدلولاً مطابقاً كدلالة الخمسة على آحادها ولا الكلي البدلي أي يجعل كل واحد مدلولاً مطابقاً على البدل ومن هنا قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/358)
ابن عبد العزيز في شرح البزدوي محل الخلاف فيما إذا أريد بالمشترك كل واحد من معنييه وأما إرادة المجموع من حيث هو مجموع فلا نزاع فيه لأنه يصير كل واحد من المعنيين جزء المعنى بخلاف الأوّل فإنه يصير كل واحد منهما هو المعنى بتمامه وقيل الخلاف في الكلي المجموعي لأن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشافعي كالعام أ هـ .
وهذا النقل عن الأكثر يعرف بتحرير أن حمل المشترك على معانيه هل هو من باب العموم أو الاحتياط وفيه طريقان أحدهما وعليه إمام الحرمين و الغزالي و ابن القشيري و الآمدي و ابن الحاجب أنه كالعام وأن نسبة اللفظ المشترك إلى جميع معانيه كنسبة العام إلى جميع أفراده والعام إذا تجرد عن القرائن يجب حمله على جميع أفراده بطريق الحقيقة فكذا المشترك وتضعيف النقشواني له بأنه يلزم عليه أن اللفظ حينئذٍ متواطىء لا مشترك وبأن الأئمة لم يريدوا العموم وإنما وهم الناقل عنهم ذلك مردود بأن توهيمهم الناقل عن الأئمة وهم ومرادهم أن المشترك كالعام في معنى استغراقه لمدلولاته ووجوب حمله على جميعها حيث لا قرينة فهو كالعام من هذا الوجه لا أن الأفراد الداخلة تحت المشترك كالأفراد الداخلة تحت العام حتى يلزم التواطؤ لا من كل وجه كيف وأفراده محصورة بخلاف العام وقد حملوه على معانيه حتى في النكرة المفردة والفعل مع أنه لا عموم فيهما ثانيهما وعليه الفخر الرازي أنه من باب الاحتياط لأنا إن قلنا: بالتوقف لزم تعطيل النص لا سيما عند الحاجة أو حملناه على أحدها لزم التحكم فلم يبق إلا الحمل على الجميع وهو أحوط لاشتماله على مدلولات اللفظ بأسرها ولأن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع فإذا جاء وقت العمل بالخطاب ولم يبين أن المقصود أحدها علم أن المراد الكل وعلى ذلك جرى ابن دقيق العيد فقال إن لم تقم قرينة على تعيين أحدها حملناه على الكل لا لأنه مقتضى اللفظ وضعا بل لأن اللفظ دال على أحدها ولم يتعين ولا يخرج عن عهدته إلا بالجميع(4/359)
إذا تقرر ذلك ظهر واتضح ما مر من أن المولى مشترك وإن لم يحمل على جميع معانيه وأن ما قاله الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ من تناوله لأولاد العتيق هو الحق الواضح الذي لا غبار عليه ولا نقض يتطرق إليه وإذا ثبت فيه ذلك ثبت في العتقاء فإن قلت: ما الجامع بينهما حتى يكون مشتركاً كالأوّل قلت: الجامع بينهما أن كلاً منهما لم تعلم حقيقته ومدلوله ومسماه إلا من جهة الشارع حيث قال في الخبر المتفق على صحته
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/360)
إنما الولاء لمن أعتق فكان من الحقائق الشرعية وهي غالباً مقدمة على الحقائق اللغوية والعرفية والفرق بين هذه الحقائق الثلاث يعرف من قولهم الوضع المعتبر أما وضع اللغة وهي اللغوية كالأسد للحيوان المفترس وأما وضع الشرع وهي الشرعية كالصلاة للأركان وقد كانت لغة للدعاء وأما وضع العرف وهي العرفية بأن ينقل اللفظ أهل العرف عن وضعه الأصلي إلى ما يتعارفونه بينهم والأصل اللغوية إذ كل من الشرع والعرف ناقل للموضوع اللغوي إلى غيره فالوضع في اللغوية غيره فيهما إذ الأوّل تعليق اللفظ بإزاء معنى لم يعرف بغير ذلك الوضع والثاني والثالث بمعنى غلبة الاستعمال في غير ما وضع له لغة إذ لم ينقل عن الشارع أنه وضع لفظ نحو الصلاة والصوم بإزاء معانيها الشرعية بل غلب استعماله لهذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني حتى صارت الحقيقة اللغوية مهجورة وكذلك العرف فإن أهله لم يضعوا القارورة مثلاً للظرف من الزجاج على جهة الاصطلاح كما أن الشرع لم يضع لفظ الزكاة لقطع طائفة من المال لنحو الفقراء بل صارت هذه الألفاظ شرعية وعرفية بكثرة الاستعمال دون أن يسبقه تعريف بتواضع الاسم والتحقيق أن للشرع وضعاً كاللغة فإن الوضع تعليق لفظ بإزاء معنى لكن يختلفان في سبب العلم بذلك فهو في اللغة إعلام الغير بأنه وضع لذلك وفي الشرع والعرف كثرة الاستعمال وفي المحصول وغيره المراد بالشرعية اللفظة التي استفيد وضعها للمعنى من جهة الشرع وهو معنى قول غيره ما كان معناه ثابتاً بالشرع فالاسم موضوع له فيه وقال ابن برهان تارة يستفاد المعنى من الشرع واللفظ من اللغة وتارة عكسه والكل أسام شرعية قال الزركشي وهل المراد بالحقيقة الشرعية كل ما ورد على لسان حملة الشريعة مما هو مخالف للوضع اللغوي أو وإن وافقه الظاهر الأوّل فإطلاق حملة الشرع لفظ الصلاة على الدعاء في مواضع لا ضرورة بنا إلى صرفه عن حقيقته اللغوية إلى مجازه الشرعي إذ الحقيقة اللغوية متى أمكنت لم يكن بنا(4/361)
حاجة إلى ادعاء المجاز الشرعي وتنقسم الحقيقة الشرعية إلى أربعة أقسام الأوّل أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى كلفظة الرحمن لله الثاني أن يكونا غير معلومين لهم كأوائل السور الثالث أن يعلموا اللفظ دون المعنى كلفظ الصلاة الرابع عكسه كلفظ الأب لما تأكله البهائم ولهذا لما نزل قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} قال عمر ما الأب ونوزع في بعض هذه الأقسام بأنه يستحيل نقل الشرع لفظة لغوية إلى معنى مجازي لغة ولا يعرفهما أهل اللغة ونوزع أيضاً في وقوع الشرعية والأصح عند جمهور الفقهاء والمتكلمين وقوعها وأجمع عليه أصحاب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ إلا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/362)
أبا حامد المروزي فإنه زعم أن جميع الأسامي باقية على وضعها اللغوي قبل الشرع أي والشرع إنما اعتبر زيادة أركان وشروط وقيود للاعتداد بها وعلى هذا أبو الحسن الأشعري والقائلون بالوقوع اختلفوا ففرقة على أنها حقائق وضعها الشارع مبتكرة لم يلاحظ فيها المعنى اللغوي أصلاً وليس للعرب فيها تصرف فليست مجازات لغة فإن وجدت علاقة بين المعنى اللغوي والشرعي فهو أمر اتفاقي غير منظور إليه وفرقة وهم جمهور أهل العلم على أنها مأخوذة من الحقائق اللغوية تجوزا بأن استعير لفظها للمدلول الشرعي لعلاقة واختاره الإِمام في المحصول ونص الأم صريح فيه فالحاصل أن الذي عليه جمهور أهل العلم وكافة أهل اللغة أنها أسماء قد كان لها في اللغة حقيقة ومجاز فحقيقتها ما نقلها الشارع عنه ومجازها ما نقلها إليه لعلاقة بينهما ثم المثبتون اتفقوا على الوقوع في الفرعية وإنما اختلفوا في الدينية كالإِيمان هذا هو المشهور ومنهم من عكس ذلك وبين القاضي حسين في تعليقه أن الشارع قد تصرف بالزيادة من كل وجه كالصلاة فإنها لغة الدعاء فأبقاه وزاد عليه معتبرات أخر وبالنقص من كل وجه كالحج فإنه لغة القصد وبالزيادة من وجه والنقص من وجه كالصوم فإنه لغة الإِمساك وشرعا إمساك مخصوص مع النية واعلم أن الشرعية تطلق على ما في كلام الشارع وما في كلام حملة الشرع من المتكلمين والفقهاء كما ذكره القاضي عضد الدين قال لكن الثانية ليست حقيقة شرعية بل عرفية وأن هذه الأسماء إذا وجدت في كلام الشارع مجردة عن القرينة محتملة المعنى اللغوي والشرعي فعلى أيهما تحمل فمن أثبت النقل وهو الأصح كما مر قال إنها محمولة على عرف الشارع لأن العادة أن كل متكلم يحمل لفظه على عرفه وقيل يجب الوقف ومحل الخلاف في التي في كلام الشارع أما التي في كلام حملة الشرع فتحمل على المعنى الشرعي بلا خلاف لأنها بالنسبة إليهم حقائق عرفية لا حاجة لهم فيها إلى القرينة كما هو حكم سائر الحقائق وإذ قد(4/363)
اتضح ما قررناه وتأيد ما بيناه في الحقيقة الشرعية كالولاء اتضح ما قلناه في العتيق من أنه كالمولى للجامع الذي قدمناه وبيانه أن ثبوت الولاء للمعتق على العتيق وفروعه وتسميتهم موالي وعتقاء له إنما عرف من الشارع سيما عند توهم أقوام في قضية بريرة أن الولاء يكون لغير المعتق فبالغ في الرد عليهم على منبره الشريف وبين أن الولاء خاص بمن أعتق فأفهم أن بينهما تلازما في
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/364)
الإِثبات والنفي وحينئذٍ كما سميت أولاد العتيق موالي حقيقة شرعية كما مر عن نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وظهر بما تقرر من مباحث الحقائق الشرعية فكذا يسمون عتقاء شرعاً أيضاً لأن ذلك أعني انجرار آثار العتق إليهم المستلزم لتسميتهم عتقاء لم يعرف إلا من الشارع فليكن إطلاق لفظ العتيق عليهم حقيقة شرعية لأن الشارع بين بإلحاق الأبناء بالآباء في أنه يثبت لهم ما لآبائهم أن الكل يسمون عتقاء شرعاً حقيقة وإن كان إطلاق العتيق على الأولاد إنما هو مجاز لغوي لما مر أن الأصح أن الحقائق الشرعية مأخوذة من الحقائق اللغوية تجوّزا وقد تقرر قريباً أن الحقيقة الشرعية التي لم تستفد إلا من كلام حملة الشرع تحمل على المعنى الشرعي بلا خلاف وأن التي استفيدت من كلام الشارع تحمل على ذلك على الأصح وما ذكرناه في المولى والعتيق من شمولهما لأولادهما مستفاد من كلام الشارع وأئمة الشرع كما قررناه فتأمله حق التأمل يظهر لك أنه الحق الواضح والصدق الناجح وأن ما سواه لا يصل شفاه وإذ بان ذلك تعين حمل كلام الواقف عليه من غير خلاف في ذلك ولا احتياج القرينة وحينئذٍ اتضح ما استفيد من الأجوبة الثلاثة الأول فليعمل بما قالوه من أنه متى بقي من أولاد العتقاء أكثر من خمسين لا يصرف شيء إلى جهة الحرم النبوي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام وتأمل تصريح الأصحاب بأن الولاء على قسمين ولاء المباشرة وولاء الاسترسال والسراية قالوا وهو الذي يثبت على أولاد العتيق وأحفاده تبعاً لثبوته على أبيهم فصرحوا بأن ثبوت الولاء على فروع العتيق إنما هو بطريق التبعية ومع ذلك صرحوا بأن لفظ المولى مشترك بين العتيق وفروعه فهو حقيقة فيهما أي شرعاً كما قدمته ولم يبالوا بأن ثبوته في أحدهما إنما هو بطريق التبع لما قررته من أن أئمة الشرع أطلقوه على الفريقين إطلاقاً واحداً واحتجوا بأن النعمة على الأصل نعمة على الفرع وهذا الإِطلاق من علامات الحقيقة فلما كان حقيقة(4/365)
فيهما كان مشتركاً وهذا جميعه جار بعينه في إطلاق العتيق على من باشره العتق ومن سرى إليه من فروعه فكان حقيقة شرعية فيهما أيضاً فليحمل عليهما من غير قرينة كما تقرر فإن قلت يشكل على ذلك إطلاق أكثر أصحابنا على أن الأصح أن الوقف على الأولاد لا يتناول أولاد الأولاد قلت: الفرق بين هذا ولفظ المولى والعتيق ظاهر جلي وبيانه أن هذين لم يعرف مدلولهما إلا من الشارع وأئمة الشرع فحسب فلم يكن للغة فيهما مدخل حتى يقضي بها عليهما بخلاف الأولاد فإن له مدلولاً لغوياً لم ينقله الشارع عنه ولا صرفه إلى غيره فتعين حمله على مدلوله اللغوي إذ لا معارض له كما هو القاعدة المقررة ومدلوله اللغوي هو الأولاد حقيقة وأولاد الأولاد مجازاً وإذا تعارض الحقيقة والمجاز حمل على الحقيقة ولم يحمل على المجاز معها أو وحده إلا بقرينة وعلى هذا جرى أصحابنا في باب الوقف فقالوا: لا يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد إلا بقرينة وأما إلحاقهم أولاد الأولاد بالأولاد في باب الفرائض وغيره فلا دلة ومدارك تخصها فظهر أن ما ذكروه في الأولاد وأولاد الأولاد في سائر الأبواب لا ينافي ما ذكروه في المولى ولا ما ذكرناه في العتيق الذي هو بمعناه كما تقرر فتأمل ذلك فإنه مما يستفاد ويحتاج إليه إذ به ينكشف إشكال ربما يورد على ما قالوه في دخول الأولاد دون أولاد الأولاد ودخول المولى وأولاده في الوقف على المولى ومثله العتيق فيدخل فيه من باشره العتق وأولاده فإن قلت: ينافي ما قررته في هذا المبحث قول السبكي في أثناء إيراد أورده على نفسه ونحن إنما نرجع في الأوقاف إلى ما دل عليه لفظ واقفها سواء أوافق ذلك عرف الفقهاء أم لا قلت لا ينافيه لأن محل ذلك حيث لم يمكن تنزيل لفظ الواقف على عرف الفقهاء أما إذا أمكن تنزيله عليه فلا يعدل عنه كما صرح به
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/366)
السبكي نفسه في أثناء جواب هذا الإِيراد فإنه لما بين أن كلام الواقف في صورة النزاع لم يخالف كلام الفقهاء قال: فقد ظهر إمكان حمل كلام الواقف على ما لا يخالف الشرع وكلام الفقهاء وإذا أمكن ذلك لم يجز حمله على غيره أ هـ .
المبحث الثاني: في بيان أنا إذا تنزلنا وقلنا إن لفظ العتيق لا يشمل أولاده إلا مجازاً وأن قول الواقف السابق إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين فيه جمع بين الحقيقة والمجاز اللغويين فالأوجه ما ذكره أصحاب الأجوبة الثلاثة الأول لأمور بعضها ذكره أئمتنا في الأصول وبعضها ذكره أئمتنا في باب الوقف وبعضها دل عليه كلام الواقف الأول مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وجمهور أصحابنا كما في الروضة في الأيمان جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد وكأن الرافعي لم يقف على النقل عندنا في ذلك فقال إن استعماله فيهما مستبعد عند أهل الأصول وهو على منوال ما سبق عنه في المشترك ومر رده ومن نقل عن القاضي الباقلاني المنع وأطلق فقد وهم لأنه إنما منع الحمل لا الاستعمال حيث قال في تقريبه وتبعه الإِمام في تلخيصه اعلم أن إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز إنما تصح ممن لا يخطر له التعرض للحقيقة والمجاز لكن يقتصر على إرادة المسميين من غير تعرض لكون وجه الاستعمال حقيقة أو مجازاً وأما الشافعي فجرى على منوال واحد فجوّز استعماله فيهما وحمله عند الإِطلاق عليهما وأخرج ابن الرفعة في باب الوصية من المطلب نصه على ذلك في الأم عند الكلام فيما إذا عقد الرجل على امرأتين ولم يعلم السابق منهما وقال الإِمام و ابن القشيري أنه ظاهر اختيار الشافعي أي بل هو صريح كلامه لأنه لما تمسك بقوله تعالى { أو لامستم النساء} (4:43) قيل له أراد بالملامسة الجماع فقال أحمله على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازاً وكذلك صرح في قوله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (4:43) بأنه محمول على الصلاة حقيقة بدليل حتى تعلموا ما تقولون وعلى محلها(4/367)
وهو المسجد مجازاً بدليل إلا عابري سبيل وأما نصه في البويطي على أنه لو أوصى لمواليه ولهم عتقاء لم يدخلوا مع أنهم مواليه مجازاً بالسببية وقوله لو وقف على أولاده لم يدخل أولاد أولاده فليس ذلك لأجل الجمع بين الحقيقة والمجاز بل لأن القرينة هنا عينت الحقيقة وحدها أما في الأوّل فلأن ولاء مواليهم لهم دونه كما مر عن الشافعي وأما في الثاني فقال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/368)
الغزالي التعميم بين الحقيقة والمجاز أقرب منه بين حقيقتين أ هـ .
وفيه خفاء يحتاج لتوضيح وتوضيحه أن الأولاد حقيقة لغوية في البطن الأول وأولاد الأولاد حقيقة لغوية في البطن الثاني فإرادة هذين الحقيقتين باللفظ الأوّل بعيدة إذ لا تقريب للاستعمال حينئذٍ بخلاف ما لو سمي أولاد الأولاد أولاداً مجازاً من تسمية المسبب باسم السبب وأطلق عليهم لفظ الأولاد لتلك العلاقة مع إرادة معناه الحقيقي فإنه لا بعد فيه نظراً لما بينهما من العلاقة المقربة للاستعمال فاتضح أن قول الشافعي بعدم دخول أولاد الأولاد في الأولاد لا ينافي قوله بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز لما تقرر من الفرق بين المقامين مع ما في الأوّل من البعد بخلاف الثاني هذا والأولى في الفرق ما أشرت إليه بالفرق الذي قدمته قبل المبحث الثاني فتأمله فإنه أوضح مما أشار إليه الغزالي وحاصله أن الجمع بين الحقيقة والمجاز لا بدّ فيه من إرادة اللافظ أو قيام قرينة على إرادته والكلام في واقف لم تعلم إرادته ولم تقم قرينة على إرادته لأولاد الأولاد ثم رأيت كلام الغزالي في المستصفى وهو يؤيد ما مر عنه وذلك أنه قطع بمنع الجمع بين حقيقتين وتردد في الجمع بين الحقيقة والمجاز فقال في الجمع بينهما هو عندنا كالمشترك وإن كان التعميم فيه أقرب قليلاً أ هـ .
وسبب الأقربية ما أشرت إليه قريباً فتأمله وأما ما اقتضاه كلام القاضي الباقلاني من جواز الجمع بين الحقيقتين وامتناعه بين الحقيقة والمجاز فهو بعيد فإن قلت: يؤيده ما تقرر عن مذهب الشافعي من حمل المشترك على معانيه عند الإِطلاق بخلاف الجمع بين الحقيقة والمجاز قلت: لا تأييد في ذلك لأن الامتناع في الأخيرة عند الإِطلاق إنما هو لضرورة وجود المجاز بخلاف المشترك لا مجاز فيه فلم يحتج لقرينة فالاحتياج لها وعدمه أمر خارج عما نحن فيه وهو أن الجمع مع وجودها أقرب منه في الجمع به في المشترك كما هو جلي وما أشار إليه القاضي من أن الجمع(4/369)
بين الحقيقة والمجاز يلزمه محاولة الجمع بين نقيضين يرد بأن ذلك إنما يلزم حيث كان الجمع بينهما من حيثية واحدة ومع اعتبار واحد أما إذا كان من حيثيتين باعتبارين مختلفين فلا يلزم منه محاولة جمع بين نقيضين وقطعاً فتأمله فإني لم أرَ أحداً من الأصوليين تعقب القاضي في كلامه هذا وهو جدير بالتعقب والرد كما علم مما قررته ثم رأيت ما ذكرته عن ابن السمعاني وهو صريح فيما رددت به كلام القاضي ومنع الحنفية وبعض أصحابنا الجمع بين الحقيقة والمجاز مطلقاً ونقض عليهم
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/370)
ابن السمعاني بقولهم لو حلف لا يضع قدمه في الدار فدخل راكباً أو ماشياً حنث نظراً للحقيقة والمجاز وقولهم لو قال اليوم الذي أدخل فيه الدار عبدي حر عتق بدخوله لها ولو ليلاً وقولهم لو أخذ الأمان لبنيه دخل بنوه وبنو بنيه والظاهر من مذهبنا عدم الحنث في الأول إذا دخل راكباً إذ لا قرينة على إرادة المجاز وفي الثاني موافقتهم أخذاً من قول الرافعي وغيره عن التتمة أنه لو قال أنت طالق اليوم طلقت حالاً ولو ليلاً ويلغو ذكر اليوم لأنه لم يعلق وإنما سمي الوقت بغير اسمه كذا قيل والذي يتجه عندي أنه لا يعتق لأن قوله اليوم الذي أدخل فيه الدار في معنى التعليق بدخولها في اليوم ولم يحصل المعلق عليه بدخولها ليلاً بخلاف قوله أنت طالق اليوم فإنه لم يحصل فيه تعليق باليوم بوجه فألغي وفي الثالث عدم الدخول كما في الوقف على الأولاد وحيث حملنا اللفظ على حقيقته ومجازه فشرطه أخذاً من قول ابن السمعاني لا يحمل على المجاز إلا أن يقوم الدليل على أنه مراد به وقيام الدلالة على إرادة المجاز لا تنفي عن اللفظ إرادة الحقيقة أ هـ .
قيام قرينة على المجاز فلا يحمل عليهما عند الإِطلاق أي عن القرينة حتى لا ينافي قولهم السابق وحمله عند الإِطلاق عليهما لأن المراد بالإِطلاق ثم إنا لم نتيقن إرادة المتكلم للمجاز فحينئذٍ إن وجدت قرينة عليه حمل اللفظ عليها وإلا اختص بالحقيقة ولو لم تقم عليها قرينة خلافاً لمن اشترط القرينة فيها أيضاً فقال لا يحمل على واحد منهما إلا بدليل وقال بعض المتأخرين محل الخلاف في الحمل عليهما ما إذا ظهر قصد المجاز بقرينة مع السكوت عن الحقيقة أو بقصدهما معاً أما إذا قصدها فقط فيحمل عليها قطعاً أو قصده فقط فيحمل عليه قطعاً فإن لم يظهر قصد لم يحمل عليه إذ اللفظ إنما يحمل على مجازه بقرينة ولهذا قالوا لا يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد على الأصح وكذا في نظائره ونظيره لو أوصى لأخوة فلان وله أخوة وأخوات قال(4/371)
الإِمام في النهاية مذهب أبي حنيفة وظاهر مذهب الشافعي أن الوصية تختص بالأخوة دون الأخوات وقال أبو يوسف و محمد يدخلن أيضاً وكلام ابن السمعاني يقتضيه وقد أفاد أنهما إذا تساويا في الاستعمال بأن يكثر المجاز كثرة توازي الحقيقة تساوياً فيهما عند الإِطلاق فلا يحتاج حينئذٍ إلى قرينة والحاصل أن الصور أربع إحداها أن تدل قرينة على إرادة المجاز مع السكوت عن الحقيقة ثانيها أن تدل على إرادتهما جميعاً ثالثها أن لا يكون قرينة ولكن للمجاز شهرة يوازي بها الحقيقة والخلاف ثابت في الكل والصحيح عندنا كما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/372)
الزركشي الحمل عليهما رابعها حالة الإِطلاق مع عدم شهرة المجاز فلا يحمل فيها على المجاز بلا خلاف وحيث حملنا اللفظ على الحقيقة والمجاز فقال ابن السمعاني هو حقيقة ومجاز باعتبارين وهو ظاهر ومن ثم أشار الزركشي إلى ضعف مقابله فقال وزعم ابن الحاجب أنه مجاز قطعاً لأنه حينئذٍ استعمال في غير ما وضع له أ هـ .
لكن وافق ابن الحاجب جمع محققون إذا تقرر ذلك علم أن الصحيح المعتمد من مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز بشرط أن يشتهر المجاز شهرة يوازي بها الحقيقة أو تقوم قرينة قوية على إرادته وما في السؤال من عبارة الواقف اشتملت على قرينة تدل على إرادة الأولاد بل على قرائن كما سيأتي تحقيق ذلك وبيانه الأمر الثاني أن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ نص في البويطي على أنه إذا وقف على أولاده لا يدخل أولاد أولاده وتبعه الأصحاب واعترض بأنه نص في المختصر على أنه إذا أوصى لواحد بمثل نصيب أحد ولديه وله بنت وبنت ابن وعصبة أعطى السدس قال القاضي حسين وهذا من كلام الشافعي دليل على أن اسم الولد عند الإِطلاق يتناول ولد الولد حتى لو وقف على أولاده دخل فيه أولاد أولاده اهـ. وأجاب عن ذلك ابن الرفعة بأنه ليس في كلام الشافعي دليل على ما ادعاه القاضي لأن قوله أحد ولديه ولا ولد له من الصلب إلا واحد قرينة دالة على إرادة المجاز بإطلاق اسم الولد على ولد الولد فاستعمل فيه لأجل القرينة وأما عند الإِطلاق وهو ما ذكره في الوقف فلا دلالة فيه على شمول الولد لولد الولد هذا حاصل كلام ابن الرفعة ومن تبعه وهو مأخوذ من قول الشيخين وغيرهما. عن التتمة وغيرها لو وقف على أولاده ولم يكن له إلا أولاد أولاد حمل اللفظ عليه أي للقرينة الحالية الدالة على أنه أراد بالولد ما يشمل ولد الولد وإذا تأيد جواب ابن الرفعة بهذا فهو متعين لا محيد عنه حتى يجتمع به أطراف كلام الشافعي وينتفي عنه توهم التناقض الذي ظنه بعضهم وحينئذٍ(4/373)
فهو شاهد صدق على أنه يكتفي في شمول الولد لولد الولد بأدنى قرينة فكذا في العتقاء المذكورين في السؤال يكتفي في شمولهم لأولادهم بأدنى قرينة ولا شك أن قول الواقف عليهم ومن توفي منهم وله ولد أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه إليه فإن لم يكن انتقل إلى باقي العتقاء المذكورين دليل على أن مراده بقوله بعد ذلك إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين الخ. ما يشمل العتقاء حقيقة وأولادهم وإن سفلوا مجازاً فتأمل ذلك فإنك إذا لا تجد بين هذه القرينة التي في كلام ابن الرفعة وغيره فرقاً أصلاً بوجه من الوجوه بل هذه القرينة أوضح وأقوى لأن هذه قرينة لفظية متصلة وتلك قرينة حالية منفصلة والقرينة اللفظية أقوى لأن الحالية قد يغفل عنها على أن تلك القرينة لا تتم لابن الرفعة في سائر صور هذه المسئلة فإن ظاهر كلام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/374)
الشافعي المذكور في الوصية أنه لو أوصى بمثل نصيب أحد ولديه ولا ولد له ثم مات عن بنت وبنت ابن وعصبة كان الحكم كما مر عنه لأن العبرة بحالة الموت لا الوصية مع أنه في هذه الحالة لا يتأتى جواب ابن الرفعة لانتفاء القرينة التي ذكرها فلا مساغ إلا أن يقال يحتمل أن يؤخذ من جواب ابن الرفعة أن الموصى له في هذه الحالة يأخذ مثل نصيب البنت ولا تدخل بنت الابن لعدم القرينة الدالة على دخول ولد الولد في الولد أو يقال يحتمل أن يأخذ مثل نصيب بنت الابن والقرينة على شمول الولد لها أن المدار في الإِعطاء بالوصية على اليقين وهو السدس الذي هو مثل نصيب بنت الابن لا النصف الذي هو مثل نصيب البنت فتكون هذه القاعدة المقررة قرينة على أن مراده أدنى أنصباء أهل التركة ويلزم من هذا أنه إذا اجتمع ولد وولد ولد وكان نصيب ولد الولد أقل أعطي الموصى له مثل نصيب ولد الولد لأنه الأقل والأقرب الاحتمال الأول فإن قلت إنما تتم القرينة في الصورة التي حكاها القاضي عن الشافعي وهي ما سبق في قوله بمثل نصيب أحد ولديه لا في الصورة التي حكاها المتولي عن الشافعي حيث قال قال الشافعي في الوصايا لو أوصى لإِنسان بمثل نصيب أحد أولاده وله بنت وبنت ابن أعطي الموصى له مثل نصيب بنت الابن فعده أي ولد الولد ولداً أ هـ .
فذكر في هذه الصورة الأولاد بلفظ الجمع ولم يذكر أن مع البنت وبنت الابن عصبة فأي قرينة على شمول الأولاد لبنت الابن هنا قلت القرينة موجودة هنا أيضاً لأنه لما أوصى بمثل نصيب أحد أولاده ولا موجود له إلا ولد وولد ولد دل على أن مراده بالولد في الحالة الراهنة ما يشمل ولد الولد وعلى أن مراده بالجمع في الحالة المترقبة ما يشمل الزائد على الواحد بفرض أن يأتي له ولد أو أكثر قبل موته وحينئذٍ فهذه القرينة في غاية الضعف كما ترى وقد اكتفى بها الشافعي في استعمال الجمع في الاثنين وفي شمول الولد لولد الولد فلتكف القرينة التي ذكرناها في صورة(4/375)
العتقاء بالأولى فإن قلت ما مساغ الحكاية للخلاف عن الشافعي قلت اختلاف نصوصه وكتبه فيكون القاضي نقل نصاً وتلميذه المتولي نقل نصاً آخر فلا تنافي بين النقلين لذلك كما لا تنافي بين المنقولين لما قدمته فإن قلت ينافي ما مر عن ابن الرفعة من اعتبار القرينة التي ذكرها أنه لو وقف على أولاده وله ولد وأولاد ولد اختص به الولد على الأصح فلم يعتبروا هنا القرينة الحالية فكيف اعتبرها ابن الرفعة فيما مر وجعلها محط جوابه قلت عدم اعتبار هذه القرينة هنا غير متفق عليه بل اعتبرها بعضهم فقال يظهر أن يقال قوله أولادي قرينة دالة على إرادة ولد الولد لأنه أتى بصيغة جمع مع فقده في أولاده فكان ذلك قرينة على أنه أراد ما يشمل ولد الولد حتى عبر بالجمع وعلى الأصح يفرق بين هذه الصورة وصورة ابن الرفعة بما قدمت الإِشارة إليه من أن الوصية لما كان لها قاعدة مقررة وهي إعطاء مثل أقل الأنصباء اختلف الحال فيها بوجود الأولاد وأولاد الأولاد الوارثين فأثرت القرينة التي هي التعبير بالجمع فيها بخلاف الوقف فإنه ليس له مثل تلك القاعدة فلم يكن للفظ الجمع فيه تأثير فأعملنا الحقيقة وجعلناه للولد وألغينا المجاز فلم نعطِ ولد الولد منه شيئاً لأنه لا قرينة هنا على إرادة التجوّز ومجرد لفظ الجمع هنا لا أثر له لتصريحهم بأن المراد بالأولاد في هذا الباب الجهة رداً على من زعم أنه لو وقف على أولاده وليس له إلا ولد واحد أنه يكون منقطع الأوّل فيبطل لأن الموقوف عليه أوّلاً لم يوجد ووجه الرد عليه أن لفظ الأولاد صار حقيقة عرفية في جهة الفروع المنتسبين إليه من غير واسطة قلوا أو كثروا فأدرنا الأمر على المتعارف فيه وألغيناه بالنسبة إلى اللفظ لأن الدلالة العرفية أقوى من الدلالة اللغوية غالباً لأنها كالناسخة لها فتأمل ذلك فإنه نفيس وبه يجتمع أطراف كلام الشافعي في الوقف والوصية وأطراف كلام الأصحاب في رعاية الجمع تارة وعدم رعايته أخرى وخذ من ذلك(4/376)
اتضاح ما مرت الإِشارة إليه من شمول العتقاء لأولادهم للقرينة الواضحة التي مر بيانها الأمر الثالث أنا سبرنا كلام الأئمة في فتاويهم ومصنفاتهم المتعلقة بالأوقاف فلم نرهم قط بحثوا عن علاقة المجاز وجوداً ولا عدماً ولا عوّلوا على ذلك بوجه وإنما الذي أطبقوا عليه أنه إذا وقع في كلام الواقف تجوّز بحثوا عن قرينته فإن وجدوا له قرينة دل عليها كلام الواقف أو غرضه أو حاله عوّلوا عليها وعملوا بالمجاز لأجلها سواء أوجدت علاقة لذلك المجاز أم لا وإن لم يجدوا له قرينة أعرضوا عن العمل به هذا ما علمناه من كلامهم وأنت من وراء النظر فيه والتأمل لمداركه على أن ذلك الذي دل عليه صنيعهم ظاهراً لمعنى جلي المغزي فإن كلام الواقفين غالباً إنما ينزل على الأمور المتعارفة بين الناس والعلاقة لا شغل لها بذلك لأن البحث عنها إنما يليق بكلام أهل الأصول والبلاغة وأما كلام الواقفين فلا يرتبط بذلك وإنما الذي يرتبط به هو القرينة الدالة على التجوز فتأمل ذلك فإنه مهم وقد صرح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/377)
البلقيني في فتاويه بما يوافق ما ذكرته وحاصل عبارة فتاويه رجل وقف على أولاده ثم على ذكور أولادهم الذكور فهل يستحق ابن البنت كما زعمه بعضهم لأن قوله الذكور تأكيد لفظي للمضاف في قوله ذكور أولادهم أم لا يستحق كما ذكره بعضهم لأنه بدل من الضمير المضاف إليه أولاد ولا يقال الإِبدال من ضمير الغيبة ممتنع على المختار لأنه في غير بدل البعض وما نحن فيه منه ولا يرد على هذا أن بدل البعض يحتاج إلى ضمير يعود على المبدل لأنه هنا مقدر كما في قوله تعالى {من استطاع إليه} أي ذكور أولاد الذكور منهم وابن البنت من ذكور الأولاد لا من ذكور أولاد الذكور وحمل الكلام على التأسيس خير من حمله على التأكيد فمن هو المصيب من هذين فأجاب لا يستحق ابن البنت لأنه ليس من أولاد الذكور ثم قال ولا ينظر في ذلك إلى البدل من ضمير الغائب ولا إلى بدل بعض من كل لأن الألفاظ من المقرين والمنشئين لوقف أو وصية أو إعتاق تحمل على ما يفهمه أهل العرف لا على دقائق العربية فإن الواقف قد لا يكون له معرفة بشيء من العربية ولا دقائقها ولا البدل ولا المبدل فتنزيل كلامه على ما لا يعرفه لا يستقيم ولو لحن في الإِعتاق بتذكير أو تأنيث لم يؤثر في الإِعتاق عملاً بالعرف ولو كان الواقف يعرف العربية فإنه لا يقضى على لفظه الذي له محتملات من جهة العربية بأحد المحتملات إلا أن يثبت ببينة إرادة ذلك قال: ومسئلة البدل لنا عليها عمل ليس هذا موضع بسطه فإن المقصود الفتوى ووجه تأييده لما ذكرنا أن ما ذكرناه من شمول العتقاء لأولادهم دل عليه اللفظ والقرينة المتعددة كما مر ويأتي وكلامه أوّلاً إنما هو في فهم شيء لا يدل عليه اللفظ بقرينة ولا غيرها فهذا هو الذي لا يعتمد على فهمه وما ذكره في قضية أوس ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا ينافي ذلك لأن الظهار كان عندهم طلاقاً فهو فاهم للفظه معتقد به مدلوله الذي عندهم لكن خفف الشارع عنه بإلغاء الطلاق الذي كانوا يتعارفونه وإيجاب(4/378)
الكفارة فهو لم يؤاخذ بغير ما يفهمه من اللفظ بل سومح في مقتضى اللفظ باعتبار عقيدته فتأمله مع قول الزركشي ولكنا ننظر في ذلك الخ. تجده صريحاً فيما قلناه من حمل العتقاء على ما ذكر لأنه الذي دل عليه لفظه شرعاً سواء علمنا أن الواقف فهم ذلك وقصده أم لا وهذا غاية في الحجة لنا على ما فهمناه من لفظ العتقاء وعملنا به لوجود عاضده وقرينته باستحقاق من ذكر أو عدم استحقاقه ثم بين خارج هذا الجواب كلامه الذي دل على البدل بأن بدل الظاهر من الضمير إنما يمتنع عند من يمنعه من ضمير المتكلم أو المخاطب فأما ضمير الغائب فلا يمتنع البدل منه اتفاقاً فما أورد على ذلك أي في السؤال غير صحيح والجواب عنه أيضاً غير صحيح وما ذكرناه في الفتوى من أنه لا ينظر في ذلك للبدل لم يقرر مدعيه على دعواه وإنما أردنا أن مثل هذه الأمور التي في العربية لا تعتمد فيما ذكرناه اهـ. فتأمل قوله لأن الألفاظ من المقرين أو المنشئين لوقف أو وصية أو إعتاق تحمل على ما يفهمه أهل العرف لا على دقائق العربية الخ. وقوله مثل هذه الأمور التي في العربية لا تعتمد فيما ذكرناه تجد ذلك صريحاً أي صريح فيما ذكرته من أن كلام الواقفين إنما ينزل على ما يتعارفه الناس لا على دقائق البلاغة ونحوها، وأن البحث عن العلاقة وجوداً وعدماً لا يليق بكلام الواقفين وتأمل وضوح الدليل على ذلك من كلامهم وهو قولهم لو قال لرجل زنيت بكسر التاء أو لامرأة زنيت بفتحها كان ذلك قذفاً وكذا في العتق ونحوه. ولا أثر للحن في ذلك لأن المدار على المتعارف بين الناس دون المتعارف بين أهل العربية ونحوهم فإذا ألغوا النظر إلى اصطلاح أهل العربية ونحوهم عملاً بالمتعارف بين الناس فكذا فيما نحن فيه وحينئذٍ فذكر الواقف أولاد العتقاء وأن لهم نصيب آبائهم لا يقبل النزاع في أن ذلك قرينة على أنه أراد بوقفه رفق أولاد العتقاء وأن لهم استحقاقاً في وقفه وإذا ثبت ذلك اتضح أنه أراد بالعتقاء ما يشمل(4/379)
أولادهم سواء أوجد لهذا المجاز علاقة أم لا لأنه إذا استعمله من غير علاقة فغاية الأمر أنه كاللاحن وقد علمت من كلامهم أن اللحن ونحوه لا يؤثر وأفتى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
البلقيني أيضاً فيمن شرط أن لا يكون في وظائف مدرسته عجمي ثم نزل فيها عتيقه الرومي فهل للناظر بعده عزله بأنه ليس له عزله لأن هذا اللفظ يطلق في العرف على الطائفة المخصوصة الخارجة عن الترك والروم الذين لغتهم غير لغة العجم فتأمل تحكيمه العرف وإعراضه عن مدلول العجم لغة وشرعاً تجد ذلك صريحاً أي صريح فيما ذكرته أن ألفاظ الواقفين إنما تحمل غالباً على الأمور المتعارفة بين الناس دون غيرها وذلك من الواضح الذي لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه ومما يؤيد ما قلناه ويصرح به قول الزركشي في قواعده الأمر الرابع أفتى البلقيني في واقفة جعلت النظر للأَرشد فالأرشد من أولادها ثم أولاد أولاد أولادهم بأن أولاد أولادها يدخلون في قولها من أولادها وبأن الموثق سها فأسقط مرتبة وهي أولاد الأولاد واستدل على ذلك بقرائن ثم قال ومع السهو الذي نسبناه للموثق وأيدناه بما قررناه فإنه يدخل أولاد أولادها في قولها ثم للأرشد فالأرشد من أولادها وتكون القرائن المذكورة قاضية بإدخال ولد الولد في الأولاد أ هـ .
فتأمل إفتاءه بإدخال أولاد الأولاد في الأولاد للقرائن تجده صريحاً في دخول أولاد العتقاء فيهم في مسئلتنا للقرينة الدالة على ذلك وقول البلقيني للقرائن لا يقتضي أنه يشترط في نحو ذلك أكثر من قرينة لأنه إنما ذكر الجمع لأنه الواقع في تلك القضية لا لأنه يشترط في الجمع بين الحقيقة والمجاز لاتفاقهم على الاكتفاء فيه بقرينة واحدة وقد اكتفى هو بالقرينة الواحدة في مواضع منها أنه قال في جواب له وقول الواقف إلى أقرب أهله من العصبات الظاهر فيه أن المراد منه عصبات أهل الوقف لا العصبة مطلقاً لأن قضية التخصيص بالأولاد المذكورين ثم(4/380)
أولادهم يقتضي أن لا يدخل معهم غيرهم أ هـ .
فتأمل جعله ذكر الأولاد وأولادهم قرينة على تخصيص العام وقصره تجده صريحاً أي صريح في أن ذكر أولاد العتقاء وأولاد أولادهم قرينة على أنه أراد بالعتقاء المذكورين بعد ذلك ما يشمل أولادهم والجامع بين هذا وصورة البلقيني أن قصر العام على بعض أفراده يحتاج إلى قرينة بل دليل بخلاف تعميم العتقاء لأولادهم فإنه يكتفى فيه بالقرينة ولا يحتاج فيه إلى دليل فإذا اكتفى البلقيني فيما يحتاج لدليل بمجرد قرينة ذكر الأولاد وأولادهم على تخصيص العام وجب أن يكتفى بمجرد قرينة ذكر الأولاد وأولادهم في مسئلتنا على شمول العتقاء المذكورين بعد ذلك لأولادهم وأولاد أولادهم وهذا في
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/381)
غاية الوضوح والجلاء الذي لا يقبل منعاً ولا تشكيكاً فإياك ثم إياك أن تفعل عنه فإنك إذا تأملته اتضح لك ما أفتى به أصحاب الأجوبة الثلاثة الأول من دخول أولاد العتقاء فيهم على أن لنا أن نقول في صورة السؤال أن فيها أكثر من قرينة تدل على دخول أولاد العتقاء فيهم وذلك لأن قوله ومن توفي منهم وله ولد أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه إليه يدل على دخول أولادهم وأولاد أولادهم فيهم والدليل على أن هذا قرينة أن البلقيني جعل نظيره من القرائن الدالة على دخول أولاد الأولاد في الأولاد فاتضح أن هذا قرينة صحيحة على دخول فروع العتقاء فيهم والقرينة الثانية قوله أولاً إلى باقي العتقاء وثانياً إلى أن يبقى من العتقاء فعند نصه على عدم الولد عبر بباقي العتقاء وعند عدم نصه على ذلك عبر بالعتقاء ولم يذكر باقي ولا قال إلى أن يبقى منهم فعدوله عن الضمير إلى الظاهر مع تعبيره أوّلاً بباقي وثانياً بالعتقاء دليل ظاهر وبرهان واضح على أنه يفرق بين الحالتين ولا يتحقق ذلك الفرق إلا أن قلنا إنه حيث لا ولد مراده بالعتقاء ما يشمل أولادهم فمن ثم لم يعبر هنا بباقي لأنه إذا جعل الفروع في منزلة الأصول لم يتضح التعبير بالباقي ومثل هذا التغاير في التعبير الذي مستند إدراك الفرق فيه إلى مجرد الذوق يكفي في القرينة لأنه لا يشترط فيها الوضوح بحيث لا تقبل المنع كما يعلم بتصفح كلام الفقهاء بل والبلغاء في القرائن التي يرجحون بها إرادة المجازات والقرينة الثالثة قوله ويستمر الحال في ذلك إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين خمسون نفراً ووجه القرينة في هذا أن معنى ذلك الاستمرار أن كل مرتبة من مراتب الفروع يكون الحكم فيهم كما كان في المرتبة الأولى من أن كل من مات عن ولد انتقل نصيبه إليه ومن مات لا عن ولد انتقل نصيبه لأهل درجته ولا يزالون كذلك إلى أن يبقى من العتقاء خمسون نفراً وإذا كان هذا هو معنى ذلك كان ذلك ظاهراً في شمول العتقاء(4/382)
لفروعهم إذ لا يتأتى جريان ذلك الشرط في انتقال نصيب الميت لولده وإلا فلأهل طبقته إلا إذا أريد بالعتقاء ما يشمل الكل في سائر الطبقات وأما إذا أريد بهم حقيقتهم فقط فليس معنا إلا مرتبة واحدة استفيدت من قوله أولاً ومن توفي منهم وله ولد الخ. فلو قصرنا الحكم على هذه المرتبة لزم أما إلغاء قوله ويستمر الحال في ذلك كذلك وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من ذوق وأما كونه تأكيداً لما قبله وهذا بعيد من جهة اللفظ والمعنى كما هو جلي على أن الذي صرح به الأئمة في الكلام على كتب الأوقاف وغيرها إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس فالتأسيس أولى ولا شك أن ما قلناه صريح في أن قوله ويستمر الحال في ذلك كذلك تأسيس لأنه أفاد ما لا يفيده قوله أوّلاً ومن توفي منهم وله ولد الخ. بخلاف ما إذا قصر لفظ العتقاء على حقيقته فإنه يلزم عليه أن قوله ويستمر الحال في ذلك كذلك إما لغو أو تأكيد وكلاهما باطل كما تقرر فتأمل ذلك حق التأمل فإنك حينئذٍ تجده قرينة جلية واضحة بل صريحاً لائحاً على دخول فروع العتقاء فيهم وأن مراد الواقف بقوله إلى أن يبقى من العتقاء خمسون العتقاء حقيقة أو مجازاً لأنه سوّى بين الكل بقوله ومن توفي الخ.. وقوله ويستمر الحال الخ. فأشار إلى ذلك بتعبيره بباقي العتقاء أولاً وبالعتقاء ثانياً وثالثاً والقرينة الواحدة من هذه الثلاثة كافية فكيف وقد اجتمعت كلها بل يأتي قريباً قرينة رابعة أيضاً وهذا أعدل شاهد وأوضح برهان على أن الواقف لم يرد بالعتقاء الحقيقة فحسب وإنما أراد بهم الحقيقة والمجاز لما بيناه وقررناه وأيدناه وحررناه فوجب العمل بذلك واتضح به ما قاله أصحاب الأجوبة الثلاثة الأول من دخول فروع العتقاء فيهم وبالله سبحانه وتعالى التوفيق والعصمة وإليه الضراعة في التأييد والحفظ من الزلل والوصمة إنه أكرم كريم وأرحم رحيم آمين الأمر الخامس أفتى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/383)
البلقيني أيضاً بما هو صريح في دخول أولاد العتقاء فيهم في مسئلتنا وذلك لأنه قال في أثناء جواب طويل ويدل على أن غرض الواقفة إدخال جميع ذريتها على ما رتبت قولها وتوفيت الواقفة عن غير ولد ولا أسفل من ذلك فإن قضية هذا التعميم فتأمل جعله قولها وتوفيت الواقفة عن غير ولد ولا أسفل من ذلك قرينة على دخول جميع فروعها في وقفها تجده صريحاً على دخول فروع العتقاء فيهم في مسئلتنا بالأولى ووجه الأولوية أن الواقف في مسئلتنا ذكر انتقال نصيب الأصل للفرع إن وجد وإلا فللمساوي وهذان قرينتان بمقتضى قياس هذه القرينة التي نظر إليها البلقيني وما فيه قرينتان أولى مما فيه قرينة بل لو فرض أنه ليس في مسئلتنا إلا القرينة الأولى لكان أولى أيضاً وذلك لأن دلالة انتقال نصيب الأصل للفرع على دخول الفرع أقوى من دلالة جعل فقد الفرع شرطاً لانتقاله لغير الفرع على دخول الفرع إن وجد لأن هذا مفهوم وذاك منطوق قوي فاتضح أن فيما قلناه قرينتين وأن إحداهما بانفرادها أقوى من قرينة البلقيني فكان ما قلناه من شمول العتقاء لأولادهم وسائر فروعهم أولى بالشمول مما ذكره البلقيني فتفطن لذلك فإنه من الصرائح في مسئلتنا فإن قلت ينافي هذا الذي ذكره البلقيني ما يأتي في الأمر العاشر من مقتضى كلام الأكثرين من أن شرط انقراض أولاد الأولاد في الصرف على الفقراء لا يدل على استحقاق أولاد الأولاد لشيء من الوقف قلت يفرق بينهما بأن البلقيني لم يأخذ من قولها ذلك استحقاق أهل مرتبة شيئاً لم يتعرض له الواقف وإنما الذي أخذه منه أن قولها ولا أسفل من ذلك عام فأخذنا بمفهومه من أنه حيث كان له أسفل من ذلك صرف إليه وهذا أخذ ظاهر دل عليه مفهوم كلام الواقفة كما تقرر وأما صورة الأكثرين فإنه لم يقع فيها في كلام الواقف ما يفهم عندهم استلحاق أولاد الأولاد لأنه خص الوقف بالأولاد ثم جعل انقراض أولاد الأولاد شرطاً في إعطاء الفقراء وهذا لا يفهم منه وضعا أن لأولاد(4/384)
الأولاد شيئاً وسيأتي لذلك مزيد الأمر السادس ولم أظفر به إلا بعد كتابة جميع ما سبق أفتى البلقيني في عين مسئلتنا بما قدمناه من شمول العتقاء لفروعهم للقرينة السابقة وذلك لأنه قال وقد ذكرت الواقفة في أمر العتقاء ما نصه ثم من بعد من له ولد منهم يصرف ما كان له من ذلك إلى أولاده ثم إلى أولاد أولاده وذريته وعقبه ونسله ثم قال وقد قالت الواقفة بعد ذلك فإن انقرض العتقاء المذكورون فيه ولم يبق منهم أحد أو لم يبق بوجه الأرض أحد منهم حين وفاة الواقفة المذكورة صرف ما هو معين لهم من ذلك إلى أولاد الواقفة المذكورة ثم إلى أولاد أولادها الخ. فهذه الصورة هي عين صورة سؤال المفتي المذكور أوّل هذا الاستفتاء ومع ذلك أفتى البلقيني فيه بأنه يعم ذرية العتقاء حيث قال بعد العبارة الأولى وقضية هذا تعميم ذرية العتقاء ولو كان بعض أولاد العتقاء مات قبل صدور الوقف وهذا منه تصريح بأن قول الواقفة آخراً فإذا انقرض العتقاء المذكورون الخ. لم ترد به حقيقة العتقاء وإنما أرادت بهم ما يشمل أولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا أخذاً بقولها أوّلاً ثم من بعد من له ولد منهم يصرف الخ. فتصريحه بشمول العتقاء لفروعهم لقرينة ذكر أولادهم ونسلهم حتى أن أولاد الواقفة لا يستحقون من حصة العتقاء شيئاً ما بقي أحد من فروعهم ولا نظر لتعبيرها آخراً بالعتقاء لشمولهم لفروعهم لأجل تلك القرينة تصريح في مسئلتنا بشمول العتقاء فيها لفروعهم لأن الصورة في المسئلتين أعني مسئلة البلقيني ومسئلتنا واحدة والقرينة فيهما واحدة فإذ قال في تلك بشمول العتقاء لفروعهم كان قائلاً في هذه بشمول العتقاء لفروعهم بل في الحقيقة البلقيني مفت في مسئلتنا بعينها بشمول العتقاء لفروعهم لما تقرر من أنها هي عين صورة مسئلتنا من غير زيادة ولا نقص وإذا كان البلقيني مفتياً في مسئلتنا بذلك فكفى به حجة ومستنداً لما قلناه وحررناه وبيناه ولم لا والمحقق أبو زرعة الذي قيل في ترجمته(4/385)
ما رأى مثل نفسه يقول في حق شيخه السراج البلقيني بعد أن أطنب في ترجمته وبالجملة فقد كملت في شيخنا هذا شروط الاجتهاد المطلق أ هـ .
فللّه سبحانه وتعالى أتم الحمد وأكمله وأزكاه وأنماه وأشمله وأفضله إذ وافقت أنا وأصحاب الأجوبة الثلاثة الأول هذا الحبر في القول بأن لفظ العتقاء يشمل فروعهم إذا قامت قرينة على ذلك وهذا وإن كان كافياً في الحجة ولذا لو اطلعت عليه في الأول لاكتفيت به ولم أتعب نفسي فيما سبق ولا فيما يأتي لكن في ذلك فرائد وفوائد وقواعد لا بأس باستفادتها فإنها تزيد الحق وضوحاً وظهوراً وتبلج الصدر سروراً وحبوراً وتعين على إدراك غويصات الوقائع التي ليس فيها بخصوصها منقول ولا يهتدى لدرك الحكم فيها بمجرد المعقول يسر الله لنا سبحانه وتعالى ذلك وجعلنا ممن تحقق بإدراك هذه المسالك بمنه وكرمه آمين الأمر السابع قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/386)
الأذرعي في توسطه ما حاصله أن الأئمة اختلفوا في قول الواقف ومن مات قبل أن ينتقل الوقف إليه كان لولده إذا انتقل إليه ما كان جارياً على أبيه فكان الميت امرأة زعم القاضي بهاء الدين بن الزكي أن نصيبها لا ينتقل إلى ولدها بحكم هذا الشرط لأنه مذكور بلفظ الأب فلا يتناول الأم وأن التاج الفزاري أمام الشافعية في زمنه وكان من معاصري النووي لكنه كان أشيخ وأشهر من النووي قال إن لفظ الأب جاء للتغليب ولا فرق بين الذكر والأنثى وأفتى بذلك قال الأذرعي وساعده جماعة كثيرة وبلغه أن السؤال عرض على الشرف المقدسي والزين بن عمر مكي فامتنعا من الكتابة عليه لأجل القاضي بهاء الدين فحوقل الشيخ رحمه الله واسترجع لذلك أ هـ .
كلام الأذرعي وهو صريح منه على أنه موافق للتاج وموافقيه ومنكر على البهاء الزكي ومن امتنع من الكتابة لأجله وإذا علمت أن هؤلاء الأئمة مصرحون بأن الأب استعمل في حقيقته ومجازه ولم يبينوا لذلك قرينة فكيف لا يستعمل العتقاء في حقيقته ومجازه للقرائن الظاهرة التي سبق تقريرها فإن قلت كيف ساغ لهؤلاء الأئمة أن يعملوا اللفظ في حقيقته ومجازه بلا قرينة سيما مع تصريح رئيسهم التاج الفزاري بالتغليب المستلزم للتجوّز قلت الظاهر أنهم اكتفوا بوضوح القرينة المفهومة من لفظ الواقف فإنه صرح أوّلاً بأولاده الذكور والإِناث وبأن من مات منهم انتقل لولده ما كان له كما يعرف بمراجعة كلام التوسط وجامع فتاوى التاج الفزاري وأئمة عصره لبعض تلامذته ومنه نقل الأذرعي فتأمل هذا فإنك تجده نصاً في شمول العتقاء لفروعهم فإن هؤلاء الأئمة أخذوا من قول الواقف أوّلاً أن من مات عن ولد يكون نصيبه لولده أن مراده بالأب المذكور بعد ذلك ما يشمل الأم تغليباً فاكتفوا بهذه القرينة الواحدة في ذلك وحينئذٍ فقياسه أنه يكتفى في شمول العتقاء لفروعهم بمثل تلك القرينة وقد مر قريباً مثلها مع قرائن أخرى فليكن الشمول في مسئلتنا أولى فعلم أن هذا الذي أفتى(4/387)
به هؤلاء الأئمة نص قاطع للنزاع في مسئلتنا فلا يسوغ لأحد العدول عنه الأمر الثامن قال ابن الصلاح في أثناء جواب طويل ثم إنه لا يتوقف الحكم باستحقاق المذكورين على رجحان هذا المحمل على ما يعارضه بل يثبت ذلك وإن كان محتملاً متساوياً فإنه قد تقدم على ذلك ذكره لفظ النسل والعقب فيجري على إطلاقه ما لم يظهر تقييده ولا يجوز تقييده بمحتمل لذلك انتهى المقصود منه وجرى على ذلك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/388)
السبكي في فتاويه فإنه ذكر في صورة وجوهاً للاستحقاق ووجوهاً لعدمه وبينها ثم قال الاستحقاق محقق والحجب مشكوك فيه فيترك المشكوك فيه ويعمل بالمحقق فيقضى لهن بالاستحقاق ويحتمل أن يقال الأصل قبل الوقف عدم الاستحقاق فلا يحكم به بالشك والاحتمال الأول أرجح أ هـ .
وكل من هذين النقلين لهذين الإِمامين نص في مسئلتنا أيضاً باستحقاق أولاد العتقاء وأولاد أولادهم وهكذا وبيانه أنا تيقنا استحقاق فروع العتقاء بنص الواقف عليهم أوّلاً بقوله ومن توفي منهم وله ولد أو ولد ولد الخ. ثم شككنا في قوله فإذا بقي منهم خمسون هل أراد من العتقاء دون فروعهم أو منهم ومن فروعهم وعند الشك يجب الرجوع للمتيقن وهو استحقاق الفروع فيحكم لهم به ما لم يظهر خروجهم بدليل غير محتمل أخذاً من قول ابن الصلاح المذكور فيجري على إطلاقه ما لم يظهر تقييده ولا يجوز تقييده بمحتمل لذلك ولو سلمنا أنه ليس هنا يقين ومشكوك فيه كان قول ابن الصلاح وإن محتملاً متساوياً الخ. مقتضياً لاستحقاق الفروع في مسئلتنا لأن ابن الصلاح استدل على الاستحقاق بتقدم ذكر النسل والعقب فأجرى على إطلاقه ما لم يظهر تقييده بغير محتمل وهذا بعينه جار في صورتنا لأنه قد تقدم ذكر الولد وولد الولد وأسفل من ذلك وإذا جرى فيها ذلك جرى فيها ما قاله ابن الصلاح من استحقاق الفروع وإن سلمنا تساوي الاحتمالين لأنه قد تقدم على ذلك ذكر الفروع فيخرجون على الاستحقاق ما لم يظهر مخرج لهم منه بغير محتمل ولا يمكن مدعياً هنا أن يزعم إخراجهم بغير محتمل لأن حمل العتقاء على حقيقته في هذا المقام لو سلم أنه لا قرينة له كان من أظهر قرائنه تقدم استحقاق الفروع والنظر إلى أن الأصل في كل ثابت دوامه ويكون ذلك مانعاً له من ادعاء انصرافه إلى حقيقته فقط وإذا منعه من ذلك لزم العمل بالمتيقن أوّلاً وهو استحقاق الفروع بنص الواقف فإن قلت هل يصدق على أولاد العتقاء في مسئلتنا أنهم موقوف عليهم في حياة آبائهم(4/389)
أو لا يصدق عليهم ذلك إلا بعد موت آبائهم قلت كل من هذين محتمل ولكن الأول هو الأقرب إلى قواعد اللغة والفقه كما قاله السبكي ثم استنتج منه أن كل أولاد الأولاد داخلون في لفظ الواقف ومراده أولاً والترتيب بينهم بثم إنما هو شرط لكون المقتضى إذا وجد عمل عمله وله في ذلك كلام طويل في إفتاء آخر حاصله أنه وإن كان موقوفاً عليه إلا أنه لا يصدق عليه من كل وجه أنه قبل استحقاقه يسمى من أهل الوقف وإنما بينهما عموم وخصوص وجهي وبين ذلك الأمر التاسع قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/390)
السبكي بعد ذكره أمرين متعارضين في الاستحقاق لبعض الموقوف عليه وعدمه فهذان الظاهران تعارضا وهو تعارض قوي صعب وليس الترجيح فيه بالهين بل هو محل نظر الفقيه وخطر لي فيه طرق منها أن الشرط المقتضي لاستحقاق أولاد الأولاد جميعهم متقدم في كلام الواقف والشرط المقتضي لإِخراجهم بقوله من مات انتقل نصيبه لولده متأخر فالعمل بالمقدم أولى وليس هذا من باب النسخ حتى يقال العمل بالمتأخر أولى أ هـ .
وهذا نص قاطع في مسئلتنا لأن غاية التنزل فيها أن يقال الشرط المقتضي لاستحقاق العتقاء متقدم في كلام الواقف والشرط المقتضي لإِخراجهم بناءً على أن العتقاء في قوله إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين الخ. المراد بهم العتقاء حقيقة فقط متأخر والعمل بالمتقدم أولى بنص هذا الحبر ويوجه ما قاله من أن العمل بالمتقدم أولى بما عرف مما سبق في كلام ابن الصلاح من أن الأول أفاد بيقين إدخالهم وشككنا في الثاني هل أخرجهم أو لا فأبقينا المتيقن على حكمه من دوام الاستحقاق ولم نرفعه بالثاني لأنه لم يقو على ذلك مع معارضته للأول فتأمل ذلك يزداد لك به وضوح ما قلناه من دخول فروع العتقاء وأشكر الله على وضوح الحق في هذه المسئلة المشكلة والواقعة العويصة المعضلة الأمر العاشر قال السبكي قال أصحابنا إذا قال وقفت على أولادي وإذا انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء صرف إلى الأولاد فإذا انقرضوا وبقي أولاد الأولاد فوجهان أحدهما وكلام الأكثرين مائل لترجيحه يكون منقطع الوسط الثاني أنه يصرف إلى أولاد الأولاد واختاره ابن أبي عصرون وليس لأجل المفهوم لأن المفهوم إنما يدل على أنه عند وجود أولاد الأولاد لا يكون للفقراء وهو من مفهوم الشرط وإنما انصرف لأولاد الأولاد على أحد وجهين لأن قرينة ذكرهم وتوقيف الصرف إلى الفقراء على انقراضهم دليل على أنه أرادهم بقوله أولادي وأنهم داخلون فيهم وتجوّز بإطلاق الأولاد وإرادة الأولاد وأولادهم بل بعضهم يقول إن(4/391)
ذلك حقيقة فليس هذا من المفهوم في شيء ولا يلزم أيضاً جريانه فيما إذا قال وقفت على أولادي فإذا انقرض أولادي وانقرض زيد الأجنبي فعلى الفقراء بل الذي يتجه ههنا القطع بكونه منقطع الوسط لأن زيداً لا يدخل في اسم الأولاد بوجه فلم يبق إلا كونه معلقاً عليه وهو لا يصلح أن يكون سبباً للاستحقاق أ هـ .
كلام السبكي فتأمل ما وجه به الوجه القائل باستحقاق أولاد الأولاد من أن قرينة ذكرهم وتوقيف الصرف عليهم دليل على أنه أرادهم بقوله أولادي وأنه تجوّز فأطلق الأولاد على الأولاد وأولادهم فإنك تجده صريحاً في شمول العتقاء لفروعهم لأن السبكي إذا اكتفى في أن لفظ الأولاد جمع فيه بين الحقيقة والمجاز بمجرد ذكر أولاد الأولاد وتوقيف الصرف على انقراضهم فهو يكتفي في الجمع بين الحقيقة والمجاز في مسئلتنا فهو في غاية القوّة كما لا يخفى على أحد فليكتف فيها في الجمع بين الحقيقة والمجاز قطعاً فيكون لفظ العتقاء شاملاً للعتقاء حقيقة ومجازاً فيشمل سائر فروعهم وبهذا يظهر لك أن الوجهين الجاريين في المسئلة الأولى لا يجري نظيرهما في مسئلتنا لأن الأكثرين إنما مال كلامهم إلى ترجيح عدم استحقاق أولاد الأولاد لضعف تلك القرينة كما ظهر لك مما قررته وأما مسئلتنا فالقرينة فيها قوية جداً بل ومعها قرائن أخرى كما مر بيانها فلا يأتي نظير كلام الأكثرين في مسئلتنا لأن غاية ما يعللون به إن جعل انقراض أولاد الأولاد شرطاً في الصرف للفقراء لا يدل وضعاً لا منطوقاً ولا مفهوماً على الصرف لهم والأصل عدم استحقاقهم فعملوا بذلك وأما في مسئلتنا فلا يمكنهم أن يقولوا بنظير ذلك لأن الواقف لما ذكر الأولاد ونص على أن لكل ما كان لأبيه دل ذلك صريحاً على دخولهم في وقفه ولفظه فوجب العمل بدوام استحقاقهم إذ لا رافع له وبتقدير أن له رافعاً بعده لا يعمل به كما مر عن السبكي قريباً في الأمر التاسع.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/392)
الكلام الثاني: في بيان ما في تلك الأجوبة أما ما يتعلق بالجواب الأول فقوله أراد الواقف الخ. كلام يتعين تأويله بأن المراد به أنه وجد في كلام الواقف من القرائن المتعددة كما قدمت بيانها وإيضاحها ما يدل على أن مراده ذلك وقوله ما يشمل حقيقته ومجازه ينبغي حمله على أن ذلك على جهة التنزل لما مر أن التحقيق في ذلك أنه من باب استعمال المشترك في معانيه لا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقوله لأن إزالة الرق الخ. بيان لعلاقة ذلك المجاز وقوله ويؤيد ذلك بيان للقرينة الدالة على أن مراد الواقف من لفظ العتقاء ما يشمل مجازه أيضاً وقد قدمت من القرائن والأدلة على ذلك ما ينشرح له الصدر وتقر به العين ويتضح به الحق ويزول عن إدراك عورة كثائف الرين والغين وقوله فلا يدخل الخ. هو الوجه الذي دل عليه كلام الواقف ومر عن البلقيني التصريح بنظيره وعنه وعن أئمة آخرين أمور كثيرة مصرحة به لا تقبل تأويلاً ولا تحتاج دليلاً وأما ما يتعلق بالجواب الثاني فقوله لا يختص الخ. لا ينافي الذي قبله لأن مراده به أنه إذا لم يبق من العتقاء حقيقة إلا خمسون ولم يوجد أحد من أولاد الميتين لم يكن ذلك مانعاً من الصرف لجهة الحرم وأنه إذا اجتمع العتقاء وأولادهم قدم العتقاء حقيقة إن زادوا على خمسين لنص الواقف على ذلك أولاً بقوله ومن توفي منهم وله ولد الخ. فهذا هو المراد بالاختصاص الذي ذكره بدليل قوله فإذا انقرض الخ. نعم قضية قوله فإذا انقرض الخ. أنه لو بقي أكثر من خمسين لكن بعضهم عتقاء حقيقة وبعضهم من فروع الميتين أن ذلك لا يمنع من قسمة الريع شطرين وليس هذا مراداً لأن الأكثر من خمسين إذا كانوا من محض الفروع ومنعوا من ذلك بنص هذا المجيب وبقي من أولادهم الخ. فأولى أن يمنع الأكثر من خمسين الذين بعضهم من العتقاء وبعضهم من الفروع والحاصل أن هذه الصورة معلومة من كلامه فلا ترد عليه وإن أوهم ظاهره خلافها عند عدم التأمل وأنه متى وجد من(4/393)
العتقاء حقيقة وبعضهم من الفروع فإن هاتين الصورتين هما محل الخلاف بين هؤلاء المجيبين وقد علمت أن الحق أن الفروع كالأصول في المنع لكن المراد بالفروع فروع من مات لا من هو موجود لأن نص الواقف بقوله ومن توفي منهم وله ولد الخ. أفاد أن الولد لا ينزل منزلة أبيه في تناول لفظ العتقاء له إلا أن مات أبوه لما مر أن القرينة الظاهرة على دخوله قوله ومن توفي منهم الخ. لكن هذا إنما يتأتى إن قلنا إن دخولهم في لفظ العتقاء
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/394)
من حيث أنه أريد به الجمع بين الحقيقة والمجاز بقرينة قوله ومن توفي منهم الخ. أما على ما قدمناه من أنه مشترك فتدخل الفروع ولو مع وجود آبائهم بل قضية ما قدمته أواخر الأمر الثامن عن السبكي دخولهم هنا مطلقاً ويجاب بأنه لا يلزم من مجرد اتصافهم بالدخول وأنهم موقوف عليهم أنهم يحجبون غيرهم لأن الحجب حكم مغاير لمجرد الإِطلاق والتسمية فمن ثم كان الوجه أن الفروع الموجود آباؤهم لا مدخل لهم في حجب جهة الحرم حيث لم يبق من العتقاء حقيقة ومن فروع الموتى إلا خمسون فتفطن لذلك فإن هذه الأجوبة ظاهرها التنافي في ذلك إذ ظاهر هذا الجواب هنا ما قلناه وظاهر الحاصل الذي ذكره عنده تأمل آخره وظاهر الجواب الأول أن الفرع ينزل منزلة والده مطلقاً ولكنه غير مراد لما بيناه وقوله الزائد على الخمسين الظاهر أنه تصوير لا تقييد بدليل قوله كأنه الخ. وقوله عصبة كل عتيق المراد منهم فروعه لا مطلقاً كما هو ظاهر وأما ما يتعلق بالجواب الثالث فقوله كان الأولاد الخ. الظاهر أنه أخذ هذا التقييد مما قرره أن كل أصل موجود شرعاً بوجود فرعه حساً وإذا كانت الأصول كأنها موجودة بوجود فروعها فلا بدّ عند تمحض الفروع الأكثر من خمسين أن يكون كل واحد من الفروع الموجودين نشأ عن واحد من العتقاء حتى تكون العتقاء حقيقة كأنهم موجودين لكن هذا لا يتم له بإطلاقه لأن قول الواقف انتقل نصيبه إليه يشمل الفرع الواحد والمتعدد وإذا شمل ذلك اقتضى أنه لو مات واحد من العتقاء الأكثر من خمسين عن أكثر من خمسين ولداً ثم مات الأكثر من الخمسين من العتقاء حقيقة وبقيت الفروع الأكثر من خمسين الذين أبوهم واحد منع هؤلاء الصرف لجهة الحرم لأنا لا ننظر إلى أن مقصود الواقف بمقتضى القرائن التي قدمناها أن الفروع يسمون عتقاء فيدخلون في لفظ العتقاء في كلامه وإذا دخلوا فيه وصاروا بمنزلة آبائهم اتجه ما قلناه لا ما قاله فالوجه ما أفاده الجوابان الأوّلان مما يوافق ما قررناه(4/395)
وأما ما يتعلق بالجواب الرابع فما أفاده فيه من أنه لا يصرف لفروع العتقاء شيء موافق لقواعد أهل مذهبه من منع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه واستعمال المشترك في جميع معانيه لكنه أشار إلى رد الأجوبة الثلاثة بما يمكن الجواب عنه فقوله لأن أقصى الخ. جوابه إن هذا التدقيق لا يبحث عنه في عبارة الواقفين كما أطبق عليه فتاوى أئمتنا وغيرهم في كتب الأوقاف وعبارات الواقفين تصريحاً وتلويحاً وقد قدمت في تلك الأمور العشرة شواهد صدق على ذلك من كلامهم وفتاويهم وقوله بل لا بدّ من قرينة تمنع إرادة الحقيقة الخ. جوابه أن هذا لم يقع التصريح به إلا ممن يمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز وأما من يجوّزه بل يوجبه كما هو المعتمد من مذهبنا كما مر فالقرينة عنده على قمسين قرينة تمنع إرادة الحقيقة وقرينة تدل على انضمام المجاز إلى الحقيقة حتى يشملهما لفظ واحد وأصحاب الأجوبة الثلاثة الأول بنوا كلامهم على الثاني فلا يعترض عليهم بالأول إذ لا يشترط في القرينة منع إرادة الحقيقة مطلقاً إلا ممن يمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز وقوله أن الخ. فهو رد لما قاله المجيب الأول ويجاب عنه بأن المراد الإِزالة عن الموجود والذي سيوجد لكن لا بمعنى أن معتق الأصل باشر عتق الفرع ولا أزال عنه رقاً حقيقياً لأن بطلان ذلك بديهي فلا يورد مثله ولا يراد وإنما أراد المجيب الأول بذلك قول أصحابنا إن مس الميت رق فالعصبة الوارث له بعد عصبة النسب هو معتقه ثم عصبته وإن لم يمسه رق وإنما مس أحد آبائه فالعصبة الوارث له هو معتق ذلك الأصل الذي انجر الولاء منه إلى ذلك الفرع لأن النعمة على الأصل نعمة على الفرع فمن أمه حرة أصلية وأبوه عتيق الولاء عليه لموالي أبيه لأن الانتساب إلى الأب وهو حر مستقل لا ولاء عليه فليكن الولد مثله أ هـ .
فبهذا يظهر معنى قول المجيب الأول أن إزالة الرق عن الأصل إزالة له عن الفرع فأراد بإزالة الرق إزالة آثاره لأن تلك الإِزالة تستلزم(4/396)
الإنعام على كل من الأصل والفرع أما الأصل فظاهر لأن النعمة باشرته حقيقة وأما الفرع فلأنه حصل له بذلك زوال العار عنه برق أصله ومكافأته للمرأة التي تساويه في حرية الأصول إذ لو بقي أصله رقيقاً لم يكن كفؤاً لمن أصلها عتيق ولو كان له أصلان عتيقان لم يكن كفؤاً لمن لها ثلاثة أصول عتقاء وكذا في تحمل الدية عنه من جهة العقل لأن أباه لو استمر رقيقاً لم يتحمل أحد من غير أقربائه عنه لو جنى فلما عتق أصله صار معتق أصله يتحمل عن ذلك الفرع لو جنى ولا موجب لهذا التحمل عنه إلا نعمته الصادرة منه على أصله السارية من أصله إليه المقتضية لكونه صار كقريبه الذي هو من جلدته ومن ثم قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/397)
الولاء لحمة كلحمة النسب فظهر أن الفرع اكتسب شرفاً وفوائد من جهات عديدة بسبب عتق أصله فكأن ذلك العتق سرى إليه باعتبار وصول آثاره إليه وحينئذٍ فتسمية الفرع عتيقاً بهذا الاعتبار مجاز واضح للعلاقة الظاهرة التي أشرت إليها وقوله على أن الفرع إذا وجد حر الخ. جوابه ما تقرر من أنه مع كونه حراً من غير جهة أبيه حصل له فوائد كثيرة من جهة حرية أبيه أوجبت له أن تكون النعمة على أبيه نعمة عليه فتفطن لذلك وقوله فليس مطلقاً بل مغياً إلى غاية مخصوصة لا يجوز إلغاؤها وهي بلوغ عدد العتقاء خمسين جوابه أن المجيبين الأولين لا يخالفون في هذه الغاية ولا يقول أحد منهم بإلغائها وإنما الخلاف في المراد بلفظ العتقاء فيها فهم قائلون بأنه يشمل مجازه كحقيقته للقرينة بل والقرائن التي قدمت إيضاحها ومخالفوهم يقولون بأن المراد به حقيقته فقط إلغاء لتلك القرينة أو القرائن لأنها لم تقوَ عندهم وهذا هو منشأ الخلاف بين الفريقين مع اتفاق الكل على أن تلك الغاية لا بدّ من اعتبارها لكن الأولون يعتبرون فيها الفروع أيضاً والآخرون يعتبرون فيها الأصول فقط وقوله لا نسلم أن استحقاق الولد لنصيب الأب يجعل الأب في حكم الموجود الخ. جوابه أن قائل هذا الجعل لم يرد به إلا ما أشار إليه المجيب الأول وهو الذي قررته ووضحته فيما بسطته سابقاً وذلك أن الواقف لما نص على أن الفروع يستحقون ما كان لأصولهم وأن ذلك يجري في سائر طبقات الفروع كما أفاده قوله أو أسفل من ذلك ثم قوله بعده ويستمر الحال في ذلك كذلك إلى أن يبقى من العتقاء المذكورين خمسون كان هذا النص الذي ذكره قرينة أي قرينة على أنه أراد بالعتقاء في الغاية جميع من نص عليهم فيما قبل الغاية وهم العتقاء وفروعهم إعمالاً للفظ في حقيقته ومجازه لوجود العلاقة وهي ما مر من أن النعمة على الأصل نعمة على الفرع حتى صار كأنه عتيق لذلك المعتق لما اكتسبه منه من دفع العار ووجود الشرف وتحمل الدية وغير ذلك(4/398)
كما مر ولوجود القرينة وهي نصه على قيام الفروع مقام أبيهم في الاستحقاق الموجب لكونه متيقناً فيهم وشككنا في ارتفاعه عنهم بإرادة العتقاء حقيقة في الغاية فلزمنا العمل باليقين وطرح الشك كما مر التصريح به عن الأئمة على أنه مر عن البلقيني في عين مسئلتنا التصريح بشمول العتقاء لفروعهم وكفى بذلك حجة في تأييد القائلين بذلك وقوله على أنه إذا قلتم الخ. جوابه أن المجيب الثالث قد نظر لذلك بخلاف الأولين كما قدمت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/399)
الكلام على ذلك مبسوطاً عند بيان ما في الجواب الثالث وأن الحق ما أفاده الجوابان الأوّلان لا ما ذكره الثالث وقوله يلزم أن يقولوا بقسم الريع الخ. جوابه أني قدمت أن الحق في ذلك أن الأكثر من الخمسين لو كانوا أولاد عتيق واحد منعوا قسمة الريع شطرين لأنا لا ننظر إلى وجود أصولهم لا شرعاً ولا حساً خلافاً لما نظر إليه صاحب الجواب الثالث وإنما الذي ينظر إليه أن الفروع يسمون عتقاء مجازاً وأنهم داخلون بمقتضى العلاقة والقرينة السابقتين في لفظ العتقاء في قوله إلى أن يبقى من العتقاء خمسون وإذا كان الفروع داخلين في ذلك وأولد بعض العتقاء أكثر من خمسين ولداً ثم مات الكل إلا فروع ذلك العتيق منعوا من قسمة الريع شطرين كما مر لأن الغاية لم توجد إذ لم يوجد من العتقاء مجازاً خمسون فقط بل أكثر من خمسين فظهر أن النظر ليس لتقدير وجود الأصل حتى يلزم عليه ما مر وإنما هو لتسمية الفروع عتقاء ودخولهم في قول الواقف إلى أن يبقى من العتقاء خمسون وقوله قلنا الواقف الخ. جوابه أن النظر إلى تقدير وجود الأصل من أنه لا معوّل عليه حتى أنه لو حمل على أن مراد قائله أن ذلك التقدير مرجح لإِرادة الواقف بلفظ العتقاء ما يشمل فروعهم لكان له بعض إيضاح وآل إلى ما قلناه من أن النظر إنما هو لتسمية الواقف الفروع عتقاء بمقتضى ما دل عليه كلامه وقوله أن الحق الذي لا يستراب الخ. جوابه أن هذا صحيح بالنسبة لقواعد مذهبه فتغليطه على من خالفه بما ذكره إنما يتوجه إلى من خالفه من أهل مذهبه لا غير لأن أهل كل مذهب أعرف بقواعد مذهبهم من غيرهم فلا يسع غيرهم أن يشنع عليهم إلا بعد أن يطالع كتب فروعهم وفتاوى أئمتهم فإذا أحاط بذلك ساغ له أن يشنع على من خالف قواعد مذهبه كما وقع للسبكي رحمه الله تعالى مع جماعة من الحنابلة والمالكية والحنفية في مواضع متعددة أنه يعترض عليهم بكلام أئمتهم وذكر نصوصهم مع بيان أنهم خالفوها بل وقع له مع ابن تيمية في مسئلة(4/400)
في الوقف نقل فيها كلام الشافعية والحنابلة وغيرهم أنه سفه جميع ما قاله عن الشافعية والحنابلة وغيرهم وبين سبب وهمه في كلام الرافعي حتى فهم منه غير المراد ونقله عن الشافعية وساق كلام الرافعي الظاهر منه سبب الوهم وأنه مخطىء في فهمه وبين أيضاً سبب وهمه في كلام أئمة مذهبه ثم ساق نصوصهم على خلاف قوله وكذا فعل مع من بقي وأطال في بيان ذلك فمن نظر مثله في كلام المخالفين ورد عليهم بكلام أئمتهم قبل منه ومن لا فلا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/401)
وأما ما يتعلق بالجواب الخامس فمرت الإِشارة إلى أن قائله نظر إلى كلام أهل الأصول ولم يمعن النظر في كلام أئمة فروع مذهبه إذ لو أمعن ذلك لم يفته ما قدمته عنهم في الأمور العشرة التي بسطت الكلام فيها على أنه لو جعل العتقاء مشتركاً كما بسطت بيانه في المبحث الأول لظهر له أن الحق ما مر من قيام الفروع مقام آبائهم ولم يورد شيئاً مما أورده على القائلين بالجمع بين الحقيقة والمجاز على أنه يمكن أن يجاب عما أورده عليهم بأن يقال قوله تمهيد مقدمة الخ. جوابه أن تلك المقدمة في غاية التحقيق لكن ما برهنت عليه من أنه لا بدّ من داع للتجوّز لا يرد على مخالفيه لما مر عن الأئمة أن تدقيقات النحاة وغيرهم لا تدار عليها كتب الأوقاف ولما أطبقوا عليه أنهم في المجاز الواقع في كتب الأوقاف لا يبحثون عن الداعي إليه أبداً وإنما يبحثون عن وجود قرينة عليه فإن وجدت أداروا الحكم عليه وإلا فلا ومر بيان سبب إعراضهم عن البحث عن الداعي والاكتفاء بالنظر إلى القرينة فحسب فراجعه على أن هنا داعياً ظاهراً وبيانه أن الواقف قصد بتجوّزه بتسمية الفروع عتقاء أن يبين السبب الحامل له على أخذ الفروع حصص أصولهم مع أنهم لم تشملهم نعمة عتقه مباشرة فكأنه قيل له ما سبب إلحاقك الفروع بأصولهم مع بعدهم عنك فقال سبب ذلك أن نعمة عتقي شملت الجميع فكما أوجب عليّ الشرع تحمل الدية عنهم وأوجب لي أني أرثهم ندبني إلى برهم وإلحاقهم بآبائهم في وصول بري لجميعهم وذلك كله مستفاد من تسميته آباءهم عتقاء ولو عبر بالعتقاء مريداً بهم حقيقتهم وبفروعهم لم يستفد منه هذه الفائدة فلذا عدل عن الحقيقة وحدها إلى ما يشمل مجازها بياناً لهذه الفائدة الظاهرة والعائدة الباهرة فتأمل ذلك فإنه يتضح به أن في عدوله عن قوله إلى أن يبقى من العتقاء وفروعهم إلى الاقتصار على لفظ العتقاء مريداً به ما يشمل الفروع داعياً أيَّ داع إلى هذا التجوّز وإن انضم إلى ذلك رعاية الاختصار(4/402)
وزيادة البيان اللذين ادعيا ازداد وضوحاً لكنا لا نعولّ إلا على الأول لظهور مغزاه وإيضاح معناه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل وقوله قلنا قد كان يتأتى الخ. جوابه أنا لا نشترط في الداعي الذي يدعيه المتجوّز انحصار الأمر فيه وأنه لا يمكن غيره وهذا ظاهر من كلامهم وإذا كانوا في الضرورات الشعرية لا يشترطون ذلك فأولى ما نحن فيه لأن الضرورات لا يبيحها إلا الاضطرار إليها ومع ذلك يجعلون منها ما
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/403)
يقع في نحو الشعر وإن سهل العدول عنه وأما الداعي فهو ما يصح أن يخرج به المتجوز عن كونه عابثاً وحيث كان له وجه في العدول خرج عن ذلك سواء أمكن وجود سبب آخر مثل الأول أو دونه أو أعلى منه وحينئذٍ فمن قال إن الداعي الاختصار أو زيادة البيان لا يرد عليه بما ذكر كما لا يخفى مما قررته فتأمله على أنا لو سلمنا فساد الداعي لم يضرنا لأن ظاهر اشتراطهم الداعي ليخرج به المتجوز عن العبث أن العبرة في كونه داعياً وصحيحاً باعتقاد المتجوّز لأنه مع اعتقاده وجود الداعي خارج عن العبث في اعتقاده فيكفيه ذلك وإن اعتقد غيره فساد ذلك الداعي ويفرق بين هذا والعلاقة والقرينة فإنه لا بدّ من ظهورهما للسامع كما دل عليه كلامهم أيضاً بأن القصد من المتجوّز إفادة غير الحقيقة التي هي الأصل ولا يتم ذلك بل ولا يوجد إلا إن كان هناك رابط بين المعدول عنه والمعدول إليه وقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي أو دالة على انضمام المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي عند من يجوّز جمعهما فكل من هذين يتعلق بالسامع فلا بدّ من كونهما ظاهرين له بحيث يستفيد بهما ذلك المعنى المجازي وأما الداعي إلى التجوّز فهو لا يرتبط بالسامع أصلاً وإنما يرتبط بالمتجوز حتى يصون قوله عن العبث فاشترط فيه صحة ذلك الداعي عند المتجوز لا عند السامع إذ لا حاجة به إلى البحث عنه فافهم ذلك كله فإني لم أرَ من تعرّض له مع خفائه ونفاسته وقوله وأنى له بالقرائن الخ. جوابه أنه لا استبعاد في ذلك فقد سبق بيان حدودها مبسوطاً وقوله فإن فرضنا الظفر بالداعي الخ. جوابه أنه قد بان وجوده واتضح فلا حاجة لتقدير فرض وجوده وقوله بقيت المطالبة بالقرينة المصححة ثم فسرها بما حكم عليه بأنه العلاقة قد يقال عليه هذا ما قدمه تبعاً للأئمة من مغايرة العلاقة للقرينة وقد يجاب بأنه تجوز بإطلاق إحداهما على الأخرى إلا أنه يرد عليه أنه لا يخلو إما أن يكون أراد معنى العلاقة وهذا هو ظاهر عبارته(4/404)
لتعبيره بالقرينة المصححة وبقوله أن يصحح والمصحح للتجوز إنما هو حقيقة العلاقة لا القرينة كما علم مما قدمه أيضاً وإذا كانت العلاقة هي المرادة هنا انحل الاعتراض إذ لا نزاع في أن بين العتيق وأولاده اشتراكاً في شمول نعمة المعتق لهما فصح إطلاق لفظ العتيق عليهما من باب إطلاق السبب على المسبب أو ما بالفعل على ما بالقوة أو الأصل على الفرع أو غير ذلك وإما أن يكون أراد بهما معنى القرينة الحقيقية وحينئذٍ انحل الاعتراض
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215(4/405)
أيضاً لأنه إذا سلم وجود القرينة وقد بينا بما لا يمكن دفعه وجود العلاقة اتضح مدعانا ولم يبق مساغ للاعتراض عليه وقوله وليس هذا المجاز هو المراد هنا الخ. يقال عليه لا يخلو إما أن تريد البناء على ما قدمته عن ابن الحاجب وغيره وزعمت أنه المعتمد أو على ما قدمته عن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وزعمت أنه غير المعتمد فإن أردت الأول احتيج إلى قرينة تدل على التجوّز بالجمع بين العتيق مباشرة والعتيق سراية في لفظ واحد وقد قدمنا قرائن دلت على أن مراد الواقف من لفظ العتقاء في كلامه كل من القسمين أعني من باشرهم العتق ومن سرى إليهم وإن أردت الثاني احتيج إلى قرينة تدل على بقاء المعنى الحقيقي على حاله من مبادرة الذهن إليه من اللفظ وعلى انضمام المعنى المجازي إليه مع ذلك في فهمه من ذلك اللفظ أيضاً وكل من القرائن التي قدمنا بسطها على ذلك فراجعها على أن الواقف لما ذكر أنه وقف على عتقائه مدة حياتهم وأن من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إليه وأن ذلك يجري في سائر البطون إلى أن يبقى من العتقاء خمسون علم من صنيعه هذا أنه مدخل لفروع عتقائه في وقفه ودلالة كلامه على هذا تكاد أن تكون ضرورية وإذا دخلوا في وقفه كذلك لم يخرجوا منه إلا بيقين كما مر نقله عن الأئمة وإذا لم يخرجوا عنه بمحتمل كالعتقاء المحتمل لأن يراد بهم المعنى الحقيقي وحده أو مع المعنى المجازي كانوا داخلين في العتقاء استصحاباً لما كانوا عليه حتى يتيقن وجود ما يخرجهم وهذه قرينة حالية غير القرائن اللفظية التي قدمناها وبها يظهر أن مراد الواقف بالعتقاء حقيقته ومجازه وكون المجاز هنا من الكل المجموعي الذي يعز وجود العلاقة له أو من الكل الإِفرادي الذي يسهل ذلك فيه من الأمور الغامضة على أكثر الناس فلا يجري مثله في كتب الأوقاف كما مر عن البلقيني وغيره فالإعراض عن هذا صفحاً أحق والتناسي للكلام فيه هنا أليق وقوله قلنا دعوا الحيرة الخ. جوابه أنه قد بان بما قررته(4/406)
وجود العلاقة والقرينة بل القرائن وأن إحداهما لا تلتبس بالأخرى فلا حيرة حينئذٍ وإذ لم يصرح أحد من أرباب الأجوبة الثلاثة الأول بأن ما ذكره علاقة ولا قرينة وإنما الذي اقتضاه صنيعهم أن ما ذكروه قرينة لا علاقة لأن من عنده أدنى مسكة من ذوق الفقه يفهم العلاقة بين العتيق مباشرة والعتيق سراية فلم يحتاجوا لبيانها بخلاف القرينة فإنها التي يعسر إدراكها فاحتاج كل منهم أن يشير إليها فهم وإن اختلفت عباراتهم عنها ببادىء الرأي لكنها لم تختلف في الحقيقة كما قدمت ذلك في الكلام عليها واضحاً مبسوطاً وقوله أو الثاني بينا إهماله الخ. جوابه أن هذا مبني على أن القرينة هي التي تمنع من إرادة الحقيقة وقد بينت فيما مضى أنه لا يفسرها بذلك فحسب إلا من يمنع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وأما من يجوّزه فيتعين أن يفسر القرينة الدالة عليه بأنها التي تدل على انضمام المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي في لفظ واحد وإرادتهما منه وهذا التفصيل الذي قررته وإن لم أرَ من ذكره ظاهر لا غبار عليه وحينئذٍ فلم يتبين إهمال ما قالوه بل بان ظهوره واتضاحه وأنه لا يرد عليه بأن ما يصرف عن الشيء ويبعد عن إرادته غير ما يقرب منه ويربط به لأن هذا الرد مبني على انحصار القرينة في المانعة عن إرادة الحقيقة وقد علمت أنه لا يفسرها بذلك وحده إلا من يمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن إنما بنينا الكلام في هذه المسئلة على جوازه الذي هو الحق عندنا كما مر ويأتي وقوله مسوق مساق الأقوال السقيمة الخ. فيه جفاء على الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وما كنت أود لهذا المجيب مع أن عنده من تعظيم الشافعي ما لا أصفه مما أعلمه منه أن يكتب ذلك بقلمه ولا أن يتفوّه به بفمه وإن سلمنا أنه نوزع في نسبته للشافعي على أن النزاع في ذلك غير مقبول كيف وقد قال في الروضة وناهيك بذلك إن مذهب الشافعي وجمهور أصحابه جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد ولم يشترطوا قرينة فدل ذلك(4/407)
على أنه حقيقة عنده وعندهم وقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
الرافعي أن ذلك مستبعد عند أهل الأصول ردوه بأنه لم يقف على هذا النقل وقد قدمت ذلك مبسوطاً من كلام الشافعي نفسه في أول المبحث الثاني فراجعه وقوله عن الرافعي أنه قال الأشبه الخ. مر أنهم ردوه بأن هذا الأشبه إنما يليق بقواعد أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأما منقول مذهبنا فهو أن المشترك يراد به جميع معانيه وبهذا يندفع ما نقله الكمال عن السبكي من قوله فسياق كلامه الخ. وقوله هو ما إذا قامت قرينة على إرادة المجاز مع القرينة وأن من ادعى تجوّزا منضماً إلى الحقيقة لا يكلف بغير بيان القرينة لخفائها وقوله وضديهما مع قوله قبله بين ذكرهم وأنثاهم سهو وقوله أليس الدلالة على الولد الخ. جوابه أن القياس ممتنع في كلام الواقفين كما صرح به الأئمة فلا يؤخذ من إرادته بالولد حقيقته فقط أنه أراد بالعتقاء حقيقتهم فقط فضلاً عن أن ذلك يعين هذا وحينئذٍ اندفع ما بناه على ذلك بقوله فكيف يسوغ لمدع الخ. وقوله أفتحفظ الخ. جوابه أنا لم نقل ذلك ولا ادعينا شيئاً منه وإنما ادعينا أن لفظ عتقاء الأوّل في كلام الواقف مستعمل في حقيقته فقط وهذا لا مرية فيه ولفظ الولد وولده وأسفل منه كل منها مستعمل في حقيقته ثم لما مهد ذلك كذلك قال ويستمر الحال في ذلك كذلك ثم قال بعد أن عبر بباقي العتقاء تارة وبالعتقاء أخرى ولم يعد الضمير عليهم مع أن المقام يقتضيه إلى أن يبقى من العتقاء خمسون فاحتمل هذا أن يريد الحقيقة وحدها وأن يريد به المجاز معها فنظرنا في كلامه فرأينا فيه قرائن دالة على الثاني وترجحت بأن دخول الأولاد في وقفه واستحقاقهم للأخذ منه أمر يقيني واليقيني لا يرفع بالمحتمل فأوجب لنا ذلك كله كما بسطناه وحررناه فيما مر حل العتقاء على جميع ما مر من العتقاء وفروعهم فتأمل بعد ما أحطت بهذا التحقيق غير مرة وتلي على سمعك هذا التدقيق غير كرة(4/408)
وانظر هل تجد حقيقة الغيت اعتباطاً أو لدليل وهل هذا نظير أو قريب رأيت رجلاً شجاعاً الخ. واحكم حينئذٍ بما هو الإِنصاف لتتخلص من ورطة التعصب والاعتساف وقوله وكلام الرافعي الخ. قد مر مبسوطا أن كلامه هذا مع كلام الأصحاب الذي قدمناه أعدل شاهد وأصدق برهان على صحة ما قلناه وحقيقة ما حررناه لإطباقهم على أن محل خروج أولاد الأولاد عن الأود حيث لا قرينة تدل على إرادتهم أما مع القرينة الدال على ذلك فإنهم يدخلون قطعاً كما أنهم مع القرينة الدالة على خروجهم يخرجون قطعاً فمحل الخلاف في دخولهم حيث لا قرينة أصلاً وإذا دخل أولاد الأولاد في الأولاد بقرينة فكيف لا يدخل أولاد العتقاء فيهم بقرينة بل بقرائن بل مر أن شمول العتقاء لأولادهم يصح أن يكون من باب المشترك ولا كذلك الأولاد لأولادهم ومر الفرق الواضح على ذلك فإذا اكتفوا فيما هو من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز قطعاً بالقرينة فكيف لا يكتفون بها فيما هو دائر بين أن يكون من ذلك أو من باب الاشتراك وقوله ونرجع إلى العمل بالحقيقة الخ. جوابه ما قدمته عن السبكي كابن الصلاح أنه لو فرض تساويهما وتساقطهما وجب إعطاء الفروع استصحاباً لليقين الذي كانوا عليه من الأخذ وطرحا للشك حذراً من منع المتيقن استحقاقهم بغير دليل فإن ذلك لا يليق بحقير ولا جليل في كثير ولا قليل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فهو حسبي ونعم الوكيل الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والحمد لله أوّلاً وآخراً ظاهراً وباطناً حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فعياذاً اللهم برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك وصلاة وسلاماً على خير أنبيائك ومبلغ أنبائك سيدنا محمد عبدك ورسولك ونبيك النبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى(4/409)
آله وصحبه وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وكما تحب وترضى عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين آمين.
هذا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 215
كتاب الاتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف
تقبله الله تعالى بمنه وكرمه تأليف الشيخ
الإِمام العالم العلامة أحمد بن حجر عفا الله عنه بمنه وكرمه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أتحفنا باتباع الحق حيثما كان ولم نرقب في ذلك من سواه حسب الإِمكان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أتبّوأ بها أعلى فراديس الجنان وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المخصوص بأشرف الأوصاف والأديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ما زالوا يظهرون الحق ولم يبالوا بخلاف أهل العناد والبهتان.(4/410)
أما بعد: فإنه رفع إليّ سؤال أوائل سنة اثنين وخمسين وتسعمائة في إجارة وقف فكتبت عليه ثم بلغني إني خولفت فيه ثم رفع إليّ سؤال بصورة أخرى فكتبت عليه ثم سؤال بصورة أخرى فكتبت عليه حتى أضجرتني هذه الواقعة ولم أكتب فيها إلا بعد مزيد استخارة وتثبت وتفحص حتى لقد اطلعت من تصانيف أئمتنا المعتبرة على ما يزيد على سبعين مؤلفاً منها ما طالعته كله ككتاب الأَشباه والنظائر ومنها ما طالعت أكثره ككتب الفتاوى ومنها ما طالعت مواضع عديدة منه فلما كثرت مني الكتابات في ذلك أردت أن أجمعها مع الزيادة عليها في هذا التأليف وسميته (الإِتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف) أسأل الله أن يجعله وسيلة لي يوم الدين وعدة أدخرها عنده إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ورتبته على مقدمة وبابين وخاتمة المقدمة في السؤال الأوّل وهو شخص وقف داراً على نفسه ثم على أولاده ثم أولادهم وهكذا وشرط النظر لنفسه ثم لولده المعين ثم للأرشد وحكم بموجب الوقف وبصحته ولزومه حنفي وشرط أن يبدأ بعمارته من إجارته بنظر ولده فبعد وفاته أجره ولده مائة سنة من غير احتياج لعمارته وحكم بصحة الإِيجار شافعي فهل حكم الحنفي يتناول الحكم ببطلان هذه الإِجارة فإن مذهبه أنه لا تجوز إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين فأجبت الحكم بالموجب متضمن للحكم بجميع الآثار التي يراها الحاكم بشرط أن يدخل وقت الحكم بها على الخلاف المشهور فيه مثاله أن يحكم حنفي بموجب تدبير فمن موجبه عنده منع بيع المدبر فقد حكم به في وقته لأنه منع للسيد منه فامتنع عليه فإذا أذن له شافعي فيه لم يعتد به لأن فيه نقضاً للحكم الأوّل وليس للشافعي أيضاً الحكم بصحة بيعه لو وقع فإنه وقع باطلاً بقضية الحكم الأوّل إذا تقرر ذلك علم منه أن حكم الحنفي بموجب هذا الوقف متضمن لحكمه بامتناع إجارته مدة لا يجيزها الحنفي لأن هذا أثر من آثار حكمه وقد دخل وقته فصار كأنه(4/411)
وجه حكمه إليه وحينئذٍ فليس للشافعي الحكم بما يخالف ذلك لأن فيه نقضاً لحكم الحنفي وعلى التنزل وإن حكم الحنفي لا يشمل ذلك فإجارة الناظر الوقف مائة سنة من غير احتياج لذلك باطلة كما حرره الولي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326
أبو زرعة في فتاويه حيث قال ما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإِجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك أ هـ .
فإجارة الناظر المذكورة باطلة عند الشافعي أيضاً على أن الأذرعي قال لا تجوز إجارة الواقف مائة سنة مثلاً مطلقاً لأنه يؤدّي إلى استهلاك الوقف فالحاصل أن إجارة الناظر المذكورة باطلة عند الحنفي والشافعي على كل تقدير أ هـ .
جوابي ثم بلغني أن بعض الناس نازع فيه بإطلاق قول الشيخين في باب الإِجارة أن الوقف كالملك زاعماً أن قضيته صحة الإِجارة مطلقاً وروّج به على القاضي الحنفي فكتبت إليه أبين بطلان ذلك الاعتراض فقلت ما أفتيت به من بطلان الإِجارة ذكرت له سببين أولهما حكم الحنفي بالموجب وإفساد هذه الإِجارة مائة سنة ظاهر مما قررته فيه تبعاً لما صرح به جمع من أئمتنا فلا مساغ لإِنكاره لا يقال ليس الوقف كالتدبير لتشوّف الشارع إلى العتق ولأن البيع ينافي التدبير بخلاف الإِجارة لا تنافي الوقف لأنا نقول الشارع تشوّف إلى الوقف أيضاً كما صرحوا به وزعم أن البيع ينافي التدبير بخلاف الإِجارة لا تنافي الوقف غلط فاحش فإن النظر هنا إلى مذهب الحاكم الحنفي والإِجارة الطويلة منافية للوقف عنده أيضاً فالمسئلتان على حد سواء ثانيهما ما حكيته عن أبي زرعة والأذرعي فأما ما قاله الأذرعي فإطلاقه بعيد عن قواعدنا فلذا لم أذكره في الجواب إلا لتقوية(4/412)
كلام أبي زرعة وأما ما قاله أبو زرعة فهو حسن وقواعدنا لا تخالفه بل تؤيده وتقويه كما سأذكره فإن قيل ينافيه قول الروضة وأصلها في باب الإِجارة بعد أن ذكر أن الأرض تؤجر مائة سنة وأكثر والوقف كالملك فظاهر التشبيه جواز إجارة الوقف مائة سنة ولو كان عامراً بدون أجرة المثل لأن الملك يجوز فيه ذلك وقد شبه الوقف به فليعطِ حكمه قلت لا قائل من الشافعي بظاهر هذا التشبيه المذكور وإنما سبب توهم هذا منه الغفلة عن كلامهما أعني الروضة وأصلها في باب الوقف إذ بتأمله يعلم أن مرادهما بقولهما الوقف كالملك أي في أنه لا يقدر بمدة معينة لا يجوز للناظر الزيادة عليها فهذا هو المراد من تشبيه الوقف بالملك وأما حكم إجارة الناظر من الصحة تارة والفساد أخرى فقد تعرضوا له في باب الوقف حيث أشاروا فيه إلى أنه يلزم الناظر أن يتصرف في مال الوقف كالوصي بالمصلحة بالنسبة لرعاية مقصوده وبقاء عينه لا بالنسبة لرعاية مصلحة المستحق وصرحوا أيضاً بأن الناظر في مال الوقف كالوصي والقيم في مال اليتيم والوصي والقيم لا يجوز لهما التصرف إلا بالغبطة والمصلحة ولا يكتفى فيهما بقولهما بل لا بدّ من إثبات إحداهما عند القاضي فكذلك الناظر لا يجوز له أن يؤجر الوقف المدة الطويلة إلا لحاجة أو مصلحة تعود للوقف لا للمستحق وقد ثبتت عند القاضي ومتى تصرف على غير هذا الوجه فتصرفه باطل هذا ما دل عليه كلام أئمتنا في باب الوقف صريحاً واقتضاه وتشبيه الشيخين الوقف بالملك في باب الإِجارة لا ينافيه كما تقرر لما ذكرته أن معنى التشبيه أنه لا يتقيد بمدة وإنما هو مقيد بكونه على وفق الغبطة أو المصلحة أو الحاجة المتعلقة بالوقف دون مستحقه على أن الشيخين إنما قصدا بذلك التشبيه الرد على بعض أصحابنا في قوله لا تجوز إجارة الوقف أكثر من سنة فمن ثم قالا عقبه وهو غريب لكن انتصر له في الخادم وتعجب من استغرابهما له وبين وجه ذلك قالا أعني الشيخين نقلاً عن(4/413)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326
المتولي أن الحكام اصطلحوا على أن لا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس ثم تعقباه بقولهما وهذا اصطلاح غير مضطرد وبين الزركشي أن الحكام من أئمتنا مالوا في ذلك إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه أحوط ولذلك قال أبو زرعة وصاحب الأنوار إن ما فعلوه من ذلك الاصطلاح هو الاحتياط وقال السبكي منتصراً لهذا الاصطلاح لعل سببه أن إجارة الوقف تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة ضعيف قال وفيه أيضاً توقع الانتقال إلى البطن الثاني وقد تتلف الأجرة فتضيع عليهم ومع ذلك فقد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها فالحاكم يجتهد في ذلك ويقصد وجه الله تعالى اهـ. كلام السبكي وهو متجه إذ يجب على ناظر الوقف رعاية المصلحة في إيجاره فلا يؤجره المدة الطويلة إلا لمصلحة تتعلق ببقاء عينه وقد انحصرت في إيجاره تلك المدة كما بينه أبو زرعة في فتاويه ولا يؤجره مدة طويلة لرعاية مصلحة المستحق وعليه يحمل قول الأذرعي يمتنع عليه إجارة المدة الطويلة أ هـ .
ولا يظن بأبي زرعة أنه ذكر ما مر عنه في المدة الطويلة من امتناعها إلا بشروطها المذكورة غافلاً عن قول الشيخين السابق أن الوقف كالملك بل قرره أوّلاً واعتمده ورد ما يخالفه ثم ذكر حكم إجارة المدة الطويلة فحينئذٍ لا يعترض عليه بكلامهما لأنه قائل بكلامهما ومبين أن ما ذكره في المدة الطويلة لا يخالف ما ذكراه وسببه ما قدمته من أن كلامهما كالأصحاب في باب الوقف دال على ذلك وناطق به وعبارة الروضة وأصلها فيه وظيفة المتولي العمارة والإِجارة وتحصيل الريع وقسمته على المستحقين وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط أ هـ .
فقوله على الاحتياط راجع إلى كل مما قبله ومنه الإِجارة فهي صريحة في أن إجارة الناظر إنما تنفذ منه إن كانت على جهة الاحتياط وأن لا تؤجر المدة الطويلة إلا أن احتيج إليها وكان فيها(4/414)
مصلحة لعين الوقف وسبقهما الجرجاني إلى ذلك وعبارته ويتصرف من إليه النظر على الاحتياط ويكون ذلك في يده على وجه الأمانة كالوكيل والوصي انتهت وكونه كالوصي صرح به الشيخان أيضاً فقالا لا بدّ من صلاحية المتولي لشغل التولية والصلاحية في الأمانة والكفاية في التصرف واعتبارهما كاعتبارهما في الوصي والقيم انتهت وقالا أيضاً في فتاوى البغوي إنه لا يبدل بعد موت الواقف القيم الذي نصبه كأنه يجعل بعد موته كالوصي أ هـ .
وذكر
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326(4/415)
الشيخان أيضاً أنه لا بدّ في استقراض الناظر من إذن الإِمام واعترض السبكي عليهما بأنه لا معنى لاشتراط إذنه واعترض عليهما البلقيني أيضاً وغيره بأن الناظر كولي اليتيم وقد صرحوا فيه بأنه يقترض بدون إذن القاضي وجواب الأوّل أن له معنى ظاهراً فإنه محل نظر واجتهاد وهو من وظيفة الحاكم دون الناظر وذلك لأنه إثبات دين في رقبة الوقف متعلق بسائر البطون فلا يستقل به الناظر فإنه ليس له النظر إلا مدة حياته أي وإن بقيت آثار تصرفه الشرعي بعد موته فاحتيج إلى إذن له ممن له النظر العام على الجميع وهو الحاكم ذكره الزركشي في الخادم وغيره وجواب الثاني أنه يضيق في الناظر ما لا يضيق في ولي اليتيم ومن ثم جرى خلاف في الفسخ بالزيادة على ما أجر به أثناء المدة ولم يجر نظير ذلك في إيجار ولي اليتيم وهو صريح في أنا حيث جوّزنا إجارة الوقف نحو مائة سنة بشروطها لا بدّ من إذن الحاكم في ذلك لأنه محتاج إلى نظر واجتهاد إذ الإِجارة إثبات حق برقبة الوقف متعلق بسائر البطون فلم يستقل به الناظر وقال ابن الرفعة في المطلب إيجار الموقوف على معين مشبه بإيجار ملك اليتيم وهذا أبلغ تصريح فيما تقرر من أنه لا بدّ في إيجار الموقوف من الغبطة أو الحاجة وبهذا الذي صرح به ابن الرفعة صرح البلقيني و الزركشي و أبو زرعة وغيرهم بل في أدب القاضي للإصطخري حكاية الإِجماع على ما يصرح بأن ناظر الوقف كالوصي فإنه لما ذكر أن للواقف تولية النظر لمن شاء مطلقاً وعزله قال وقد أجمعت الأمة على أن من له أن يوصي له أن يخرج الوصي وأخذ الأذرعي من تشبيهه بالوصي أنه لا ينعزل بعزله لنفسه إذا خاف ضياع الوقف بسبب ذلك كما لا ينعزل الوصي بعزله لنفسه حينئذٍ وعبارة الخوارزمي في كافيه الدار الموقوفة إذا انهدمت وخربت وتعطلت منافعها لا يجوز بيعها ولا بيع شيء منها ولا نقل شيء منها إلى موضع آخر ولكن القاضي يتحرى فيه المصلحة فيختار ما هو الأقرب إلى رعاية شرط الواقف ثم(4/416)
قال وهذا هو المنقول عن عامة الأصحاب أ هـ .
قال الأذرعي وفي فتاوى الإِمام العالم العلامة تقي الدين بن رزين صاحب ابن الصلاح أنه سئل عن خان موقوف دائر وبقيت ساحته فيها بعض مخازن هل يجوز أن يؤجر ثلاثين سنة لمن يبنيه داراً إذا رآه مصلحة فأجاب إن حصل اليأس من العود إلى ما كان عليه أو إلى ما هو أقرب إلى تلك الصفة جاز إيجاره لمن يعمره مدة لا ينسى في مثلها الوقف أ هـ .
فليتأمل قوله مدة لا ينسى فيها هذا مع أنه خراب دائر فكيف بعامر لا يحتاج لشيء أصلاً وذكر
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326(4/417)
أبو سعيد الإصطخري في أدب القضاء له الذي نختاره أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة أو ثلاث سنين ولا يزيد على الثلاثة إلا أن يقع في ضرر فيزيد ويعمل ما فيه الصلاح في الاستغلال فأما ما يدخل على المستحقين به ضرر بين فلا يجوز فإن أجره وفيه ضرر عليهم وجب فسخه ثم قال وكذلك في أموال اليتامى والمولى عليهم قال في التوسط وظاهر كلامه التسوية فيما ذكره بين أموال اليتامى والمحجورين والأوقاف وهو غير بعيد أ هـ .
وأفتى البلقيني فيمن اشترى أرضاً وغرسها وبناها ووقف ذلك على أولاده ثم مصالح الحرمين ثم ثبت أن الأرض وقف للحرمين بأنه لا يجوز أن تؤجر هذه الأرض لغير معمرها إن كان في إبقاء ما ذكر مصلحة للوقف بأخذ أجرة محققة منه وإن احتمل أنها لو قلع منها ذلك تؤجر ثم قال فعلى الناظر الإِبقاء بالأجرة وإن كان في باب الأملاك للمالك القلع لأن المالك لا يتعين عليه أن يفعل لنفسه الأصلح والناظر يتعين عليه ذلك فيما نحن فيه فإن قيل المشتري شراء فاسداً كالغاصب فللناظر القلع مجاناً قلنا هذا معارض بأن الناظر ينظر في المصلحة والمصلحة في إلى يترك المحقق للموهوم وهذا يتقيد به إطلاقهم وهو من النفائس اهـ. كلامه وهو صريح في أن تصرف الناظر منوط بالمصلحة فيتقيد بها ولا يتعداها مطلقاً وأفتى البلقيني أيضاً في ناظر أجر داراً ثلاث سنين بأجرة معلومة قبض منها أجرة الأولى ومات المستأجر معسراً بأنه يلزمه فسخها في المنفعة الباقية لتنفرد جهة الوقف بها قال ويتعين عليه اختيار الفسخ ولا يجوز له اختيار الإِمضاء لما فيه من الضرر على جهة الوقف كما لو اشترى الولي لمحجوره ثوباً فظهر معيباً والمصلحة في رده فإنه يتعين عليه وفي الخادم قضية إلحاق الوقف بالملك مطلقاً جواز إجارته مائة سنة ونحوها. وهو بعيد فإنه يؤدي إلى استهلاكه ويخرج من كلام ابن سراقة و أبي الفرج الجزم بالجواز مطلقاً في الخراب وهو ظاهر إذا اقتضته المصلحة ليحتكر أ هـ .
فاشترط لإِجارة(4/418)
الخراب المصلحة فكيف بالعامر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326
أبو سعيد الإصطخري في أدب القضاء له الذي نختاره أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة أو ثلاث سنين ولا يزيد على الثلاثة إلا أن يقع في ضرر فيزيد ويعمل ما فيه الصلاح في الاستغلال فأما ما يدخل على المستحقين به ضرر بين فلا يجوز فإن أجره وفيه ضرر عليهم وجب فسخه ثم قال وكذلك في أموال اليتامى والمولى عليهم قال في التوسط وظاهر كلامه التسوية فيما ذكره بين أموال اليتامى والمحجورين والأوقاف وهو غير بعيد أ هـ .
وأفتى البلقيني فيمن اشترى أرضاً وغرسها وبناها ووقف ذلك على أولاده ثم مصالح الحرمين ثم ثبت أن الأرض وقف للحرمين بأنه لا يجوز أن تؤجر هذه الأرض لغير معمرها إن كان في إبقاء ما ذكر مصلحة للوقف بأخذ أجرة محققة منه وإن احتمل أنها لو قلع منها ذلك تؤجر ثم قال فعلى الناظر الإِبقاء بالأجرة وإن كان في باب الأملاك للمالك القلع لأن المالك لا يتعين عليه أن يفعل لنفسه الأصلح والناظر يتعين عليه ذلك فيما نحن فيه فإن قيل المشتري شراء فاسداً كالغاصب فللناظر القلع مجاناً قلنا هذا معارض بأن الناظر ينظر في المصلحة والمصلحة في إلى يترك المحقق للموهوم وهذا يتقيد به إطلاقهم وهو من النفائس اهـ. كلامه وهو صريح في أن تصرف الناظر منوط بالمصلحة فيتقيد بها ولا يتعداها مطلقاً وأفتى البلقيني أيضاً في ناظر أجر داراً ثلاث سنين بأجرة معلومة قبض منها أجرة الأولى ومات المستأجر معسراً بأنه يلزمه فسخها في المنفعة الباقية لتنفرد جهة الوقف بها قال ويتعين عليه اختيار الفسخ ولا يجوز له اختيار الإِمضاء لما فيه من الضرر على جهة الوقف كما لو اشترى الولي لمحجوره ثوباً فظهر معيباً والمصلحة في رده فإنه يتعين عليه وفي الخادم قضية إلحاق الوقف بالملك مطلقاً جواز إجارته مائة سنة ونحوها. وهو بعيد فإنه يؤدي إلى استهلاكه ويخرج من كلام ابن سراقة و أبي(4/419)
الفرج الجزم بالجواز مطلقاً في الخراب وهو ظاهر إذا اقتضته المصلحة ليحتكر أ هـ .
فاشترط لإِجارة الخراب المصلحة فكيف بالعامر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326
فائدة: ينبغي التنبه لها كما قاله ابن العماد وهي أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين وصوّروا ذلك بصور منها إذا حكم حنبلي بأن الخلع ثلاث مرات فسخ فعنده تجوز إعادة المختلعة من غير محلل وعند الشافعي لا يجوز إلا بمحلل فلو أراد الشافعي بعد ما حكم الحنبلي بأن ذلك فسخ أن يزوجها بلا محلل لم يجز له ذلك لأن عقد الزواج حينئذٍ باطل عند الشافعي فكيف يتعاطاه فإذا تعاطاه نقض بخلاف ما لو تعاطاه حنبلي ومنها لو حكم مالكي بثبوت الوقف على النفس بالخط وحكم حنفي بصحته فهذا لا يعتد به لأنه باطل الآن باتفاق الحاكمين المالكي من حيث كونه وقفا على النفس والحنفي من حيث كونه لم يثبت إلا بالخط وهذا كله مقيس على ما لو توضأ ومسح بعض رأسه مقلداً للشافعي ثم صلى وبه نجاسة كلبية مقلداً للمالكي فصلاته باطلة بالإِجماع لأنه لم يصلها على مذهب مجتهد بل ركب فيها قول مجتهد مع قول آخر فصار كل من الإِمامين قائل ببطلانها الشافعي من النجاسة والمالكي من جهة عدم مسح كل الرأس قال ابن العماد بعد أن ذكر نحو ذلك فكذلك القاضي متى لفق قول مجتهد مع مجتهد آخر نقض حكمه قال وكثير من القضاة المنسوبين للشافعية يفعلون ذلك ومثل هؤلاء القضاة يجب عزلهم ولا تحل توليتهم أ هـ .
إذا تقرر ذلك فمسئلتنا من هذا القبيل إذ الإِجارة فيها وإن فرض أنها مستوفية لشروطها عند الشافعي باطلة باتفاق الشافعي و أبي حنيفة الأول من جهة أنه وقف على النفس والثاني من جهة زيادتها على ثلاث سنين فحكم الشافعي بها ملفق من قول مجتهدين فلتكن باطلة إجماعاً لما تقرر لا يقال الحكم بشرطه ينفذ ظاهراً وباطناً فبعد حكم الحنفي صار الوقف صحيحاً باطناً أيضاً لأنا نقول معنى كونه صحيحاً باطناً إنا(4/420)
ننفذه ونلزم به وندير عليه الأحكام لكننا نراعي مع ذلك مذهب الحاكم الأول فلا نأتي بما يخالفه وإلا لزم التلفيق المحذور وقد علمت بطلانه نعم يأتي قريباً آخر مسئلة حكم مياه مر الظهر أن ما فيه الجواب عن كلام ابن العماد فانظره فإنه مهم.
تنبيه: أفتى ابن الصلاح بأنه إذا حكم حاكم بصحة الوقف على النفس وكان ممن يراه جاز التصرف فيه ببيع ووقف وغيرهما كسائر الأملاك في الباطن لأن حكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر قال ما معناه وإنما منع منه في الظاهر سياسة شرعية ويلحق بهذا ما في معناه وأقره الشرف الغزي وشيخنا شيخ الإِسلام زكريا في أدب القضاء لكنه مع ذلك لا يخلو من نظر ظاهر لما تقرر أن حكم الحاكم بشرطه ينفذ ظاهراً وباطناً وكأنه فرع ما قاله على الضعيف أنه لا ينفذ باطناً بدليل قوله لأن حكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر إذ لا معنى لقولهم ينفذ باطناً إلا أنه يغير ما في نفس الأمر وقد يجاب عنه على بعد بأن معنى نفوذه باطناً في شفعة الجوار مثلاً إذا حكم بها حنفي يجوز للمحكوم له أخذها ولا عقاب عليه وإن كان شافعياً وأما المحكوم عليه بها الشافعي فله في باطن الأمر أن لا يعمل بقضية الحكم أو يقال محل نفوذه باطناً وتغييره ما في نفس الأمر حيث كان هناك خصمان كما في شفعة الجوار مثلاً بخلافه في نحو الوقف على النفس فإنه ليس هناك خصمان فلم يلزم الواقف العمل بقضية هذا الحكم لفقد تحقق التغاير فيه بين المحكوم له وعليه وللنظر في كل ذلك مجال فتأمله ثم رأيت الزركشي صرح بما ذكرته أولاً من أنه مبني على الضعيف المذكور وبعض مشايخنا جزم ببنائه على ذلك فلا يدرى أرأى كلام الزركشي هذا أم وافقه من غير قصد وحينئذٍ يزول الاشكال لأنه يجب إجراء أحكام الوقف عليه ظاهراً وباطناً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326(4/421)
فائدة: سئلت عن مسئلة مهمة فأحببت إثباتها هنا وهي مسئلة أرض موقوفة هي ومياهها شرط واقفهما شروطاً منها أن لا تؤجر أكثر من سنة ولا تؤجر السنة الثانية حتى تنقضي السنة الأولى وحكم بموجب الوقف حنفي ونفذه شافعي وغيره فأجر ناظره منه أراضي ومياهها مائة سنة مثلاً في مائة عقد من نفسه لنفسه لمحجوريه ابني ابنه وحكم بهذه الإِجارة شافعي وذكر مورقه ما يعتاده المورقون في كل مستند وحكم وهو حكماً صحيحاً شرعياً مستوفياً شرائطه الشرعية فهل يعمل بهذه الإِجارة المخالفة لشرط الواقف لقول المورق المذكور أو لا يعمل بها لأنه لم يثبت لها مسوغ لمخالفته شرط الواقف والمورقون يقولون ذلك ولا يفهمون معناه ولا يكون مطابقاً للواقع في كثير من الأحيان والمسؤول من تفضلات السادة العلماء الذين هم نجوم الهدى ومصابيح الاقتداء وعليهم المعوّل في النوائب وإليهم الملجأ في المصائب بيان حكم الله سبحانه وتعالى في هذه الإِجارة التي أكل بها مال الوقف بالباطل لأنه لم يثبت لها مسوغ في مستند الإِجارة ولا في الخارج مع مخالفتها لشرط الواقف نصاً وإيضاح حكم ذلك وبسطه كما هو الواجب عليهم ليصل كل ذي حق إلى حقه ويرجع المتعدي عن تعديه وعناده وخرقه. فأجبت: هذه الإِجارة باطلة من وجهين أحدهما كون الناظر آجر ابني ابنه المحجورين له واستأجر لهما وهذا باطل ولو بأجرة المثل فأكثر كما صرحوا بنظيره في الوصي والقيم وقالوا كما في الروضة وغيرها أن ناظر الوقف كالوصي والقيم في مال اليتيم فيمتنع عليه ما يمتنع عليهما ويجوز له ما يجوز لهما وفي أدب القضاء للإصطخري حكاية الإِجماع على ما يصرح بأن ناظر الوقف كالوصي وهذا الوجه أظهر من الثاني وهو مخالفة تلك الإِجارة لشرط الواقف وذلك مقتضي لبطلانها وإن قال المورق ما ذكر لأن كلامه في مثل ذلك لا يعول عليه ووجه كون الأوّل أظهر أن إبطاله للإِجارة لا يمكن تداركه وإن حكم به الشافعي وقال إنه استوفى المسوغات الشرعية(4/422)
لأن هذا لا مسوغ له فأبطل الإِجارة مطلقاً بخلاف الثاني فإنه يمكن وجود مسوغ له بأن تشهد الآن بين عادلة بأن الوقف كان خرب ولم يبق من غلته ما يعمر خرابه ولا يمكن اقتراض ما يعمره ولم تمكن عمارته إلا بأجرة تلك المائة سنة إذ هذا مجوز لمخالفة شرط الواقف ومع وجود هذا المسوغ وإقامة هذه البينة الشاهدة به لا تمكن صحة هذه الإِجارة لما تقرر في المبطل الأول المشتملة عليه أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 326(4/423)
الباب الأول في السؤال الثاني:
وهو أجر ناظر على وقف بشرط الواقف المكان الموقوف بأجرة معينة ثبت عند الحاكم الشرعي أنها أجرة المثل فحكم بصحة الإِجارة أو بموجبها ثم بعد ذلك قامت بينة أخرى أكثر من الأولى أو مساوية لها بأن تلك الأجرة دون أجرة المثل فهل يتبين انفساخ الإِجارة الأولى عملاً بالبينة الثانية أو لا تنفسخ عملاً بالبينة الأولى لتفويتها بالحكم ولا يخفى ما في هذه المسئلة ونظائرها من إفتاء ابن الصلاح ومخالفة السبكي له وافتراق المتأخرين إلى معتمد كلام ابن الصلاح ومتوقف فيه فما المعتمد من ذلك كله بينوا ذلك وأوضحوا الحق فيه بياناً شافياً فإن الحاجة داعية إلى ذلك الجواب قد استفيت قديماً في هذه المسئلة وكان الرافع للسؤال شخصاً من فقهاء مكة وأفاضلها ألزم بالاستفتاء والبحث عنها لأنها واقعة بين جماعة من أكابر الدولة فأفتيت فيها بقريب مما سأذكره فرفعت لشافعي ليحكم فيها فأراد الحكم بها حتى يخلص المستأجر بالوعد بإرضاء ورثة المؤجر بمال له صورة ثم أرسل المستأجر إلى زبيد وغيرها ليستفتي عن المسئلة فاختلفت عليه الفتاوى فأظهر ما يوافقه فلم يلتفت إليه تمسكاً بما أفتيت به ثم تممت صورة ذلك الصلح وإنما حكيت ذلك لأني سمعت عن بعض المساعدين في تلك الواقعة على نقض الحكم والقيام التام على المستأجر وصياحه في الملأ في مواطن عديدة بأن نقض الحكم هو مذهب الشافعي أنه الآن مخالف في ذلك ومشدد النكير على من يعتمد إفتاء ابن الصلاح فتأمل اختلاف الأغراض كيف يلجىء غير الموفق إلى ماذا والحاصل أن الحق في هذه المسئلة الموافق للقواعد والبريّ إن شاء الله تعالى من الهوى والتعصب تفصيل يوافق عليه كل من له أدنى مسكة من فهم وإحاطة بتصرفات كلام الأصحاب وأما عموم كلام ابن الصلاح في النقض وعموم كلام السبكي في كثير من المواضع بعدمه فغير ظاهر فلا تعول عليهما لما سأمليه عليك مما يبين أن الحق ما ذكرته من ذلك التفصيل فأقول قد أشبعت الكلام في هذه المسئلة في(4/424)
شرح الإرشاد وحاصله مع الزيادة عليه أن حكم الحاكم ببينة لا يقتضي ترجيحها كما ذكروه بل متى كان في إحدى البينتين معنى يقتضي ترجيحها قدمت وإن حكم الحاكم بالأخرى خلافاً لما قد يتوهم من بعض العبارات إذا تقرر هذا فقد أفتى ابن الصلاح بأنه لو احتيج لبيع مال يتيم فشهدت بينة بالحاجة وبأن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم بذلك وحكم حاكم أي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 331
شافعي كما هو ظاهر أن غيره يرجع في نقض حكمه إلى قواعد مذهبه دون مذهب غيره بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأنه بيع بلا حاجة أو بدون ثمن المثل نقض الحكم وحكم بفساد البيع قال لأنه إنما حكم بناءً على أن البينة سالمة من المعارض وقد بان خلافه فهو كما لو أزيلت يد الداخل ببينة الخارج ثم أقام ذو اليد بينة فإن الحكم ينقض لذلك وفيه وجه يجيء هنا أ هـ .
وما ذكر في البيع بلا حاجة يأتي توجيهه وخالفه السبكي وصنف فيه مصنفاً فقال الذي أراه أنه لا ينقض إذ لا ينقض الحكم بالشك وإنما نقض فيما قاس عليه ابن الصلاح لأجل اليد وقد قال الأصحاب بأنه لو شهد شاهدان بأنه سرق ثوباً قيمته عشرة وشهد آخران بأن قيمته عشرون وجب أقل القيمتين لأنه المحقق اهـ. ورده شيخنا شيخ الإِسلام زكريا سقى الله تعالى ثراه في عماد الرضا في أدب القضاء فقال عقبه ويجاب عنه أي عما أورده من ذلك على ابن الصلاح بأنا لا نسلم أن ذلك نقض بالشك وما قاله الأصحاب قبل الحكم بخلاف مسئلتنا ولهذا لو وقع التعارض فيها قبل البيع والحكم امتنعا كما صرح هو أي السبكي به أ هـ .
ووجه عدم تسليمه لما قاله السبكي ما قدمته من أن الحكم ليس مرجحاً وحينئذٍ فغاية ما أفادته البينة الأولى الظن ومفاد البينة الثانية الظن أيضاً فقدمت لما مر عن ابن الصلاح من أن الحاكم إنما حكم بناء على أن البينة سالمة من المعارض وقد بان خلافه فإن قلت كلام الشيخ في شرح الروض ربما يقتضي ضعف كلام ابن الصلاح(4/425)
لأنه جعله مخالفاً لما ذكروه في مسئلة التقويم من تقديم بينة الأقل فيه لأن مدركها الاجتهاد وقد تطلع بينة الأقل على عيب فمعها زيادة علم قلت كلامه لا يقتضي ذلك كما هو ظاهر لأن كلام ابن الصلاح يخالف كلامهم باعتبار الظاهر وعند عدم التأمل وأما عند التحقيق فلا يخالفه وقد أشار الشيخ إلى ذلك حيث نقل عن بعضهم وهو أبو زرعة أنه حمل كلامه على حالة وكلامهم على حالة أخرى كما سأذكره عنه وأقره الشيخ على ذلك وعلى التنزل فكتابه أدب القضاء متأخر عن شرح الروض والقاعدة أنه يؤخذ من أقوال الإِنسان بالمتأخر منها على أن أدب القضاء أمس بتحرير ذلك من غيره فالاعتناء يكون فيه بالمسائل المتعلقة بالقضاء أكثر فهو نظير قول الأئمة إن ما صححه الشافعي أو غيره في بابه أولى بالاعتماد مما صححاه في غير بابه لأن الاعتناء بتحرير المسائل في أبوابها أكثر منه في غيرها قال الأذرعي وما ذكره ابن الصلاح في هذه المسئلة يجري في نظائرها أي كصورة السؤال وغيرها هذا والذي يتجه في ذلك التفصيل الذي أشرت إليه فيما مر وهو أن العين إن كانت باقية قائمة على صفاتها وقت نحو البيع أو الإِجارة وقطع بكذب البينة الشاهدة بالزيادة لم يلتفت إليها وحكم الحاكم باقٍ على حاله حتى عند ابن الصلاح كما هو جلي وإن كانت كذلك وقطع بكذب البينة الأولى الشاهدة بالنقص عملاً بالثانية ونقض الحكم حتى عند السبكي فإنه لا يخالف في هذه الصورة وأن الحكم ينقض فيها كما دل عليه كلامه في مواضع منها قوله شرط العمل بالبينة أن لا يكذبها الحس وإلا لم تسمع ولا يجوز الحكم ولا شك أن العين إذا كانت كما ذكرناه يكون الحس مكذباً للبينة الشاهدة بالنقص فتكون شهادتها ملغاة والحكم المستند إليها لغو ومنها قوله في فتاويه في منازعته لابن الصلاح وأيضاً بينة القيمة تعتمد التقويم والتقويم حدس وتخمين ويفرض على ثلاثة أحوال أحدها أن تشهد الآن أن قيمته الآن كذا فهذه لا تعارض البينة السابقة يوم(4/426)
البيع بلا إشكال الثانية أن تشهد الآن أن قيمته يوم البيع كذا فهذه ينبغي أن لا تسمع وعلله واستشهد له بما فيه نظر الثالثة أن لا تقوم الآن لكن تشهد أن قيمته في ذلك الوقت عند الناس كذا فإن الأسعار المعروفة عند عموم الناس تنضبط في أوقاتها لكن هذا ليس تقويماً بل شهادة بأمر خارج فهذه تسمع وليس شهادة قيمة والغالب أن هذا إنما يكون في المثليات وأما الأملاك فلا يحصل فيها هذا إذا عرفت هذا فإن كانت البينة الثانية شهدت بالحالتين الأولتين فلا أثر لها وشهادتها بالحالة الثالثة في الملك إما ممتنع أو بعيد أ هـ .
المقصود منه وفيه التصريح بأنه موافق على ما قلناه من أن العين إذا كانت قائمة باقية على صفاتها لم يتغير منها شيء وقطع أهل العادة بأن ما يبعث أو أجرت به ليس ثمن أو أجرة مثلها عادة سمعت شهادتهم ونقض الحكم المستند للبينة الشاهدة بالنقص للقطع بكذبها حينئذٍ ووجه أخذ ذلك من كلام السبكي أنه إذا قال بسماع البينة في الحالة الثالثة وإن استبعد تصورها فأولى أن يقول به في صورتنا ووجه الأولوية أن صورته ليس فيها القطع بكذب البينة الأولى كما هو في صورتنا فنتج أنه لا يخالف في صورتنا وأنه موافق لابن الصلاح على النقض فيها فإن قلت لا يلزم من سماع البينة في الحالة الثالثة التي ذكرها نقض الحكم قلت ممنوع إذ لا فائدة لسماعها إلا نقضه أي لتبين أن له معارضاً يقضي عليه بأنه وقع لغواً ومنها قوله بعد ما مر عنه فإن قلت لو كانت هذه المعارضة قبل الحكم لم يحكم قلنا نعم لأنه لا يحكم مع الشك وكذلك لا ينقض مع الشك وصرح في مواضع أخر من فتاويه بنحو هذا من أن سبب مخالفته لابن الصلاح أن البينة الثانية غايتها أنها أورثت شكاً فيما شهدت به الأولى فكيف ينقض الحكم بالشك فتأمل تعليله هذا وأنه إنما خالف ابن الصلاح لذلك تعلم بلا مرية أنه قائل بأن البينة الثانية إذا أفادت القطع بكذب الأولى كما في الصورة التي قدمتها ينقض الحكم بها عنده(4/427)
أيضاً لأن الحكم حينئذٍ لم ينقض بشك بل بيقين على أن الأئمة ذكروا النقض بالظن وبه يقوي ما مر عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 331
ابن الصلاح ويضعف ما علل به السبكي وذلك أنهم قالوا لو حكم بشهادة شاهدين ثم بانا فاسقين عند الحكم نقض على الأصح وقيل لا ينقض لأن عدالة البينة غير مقطوع بها فيكون الفسق الثابت بها مظنوناً والفسق المظنون لا نقض به انتهى فتأمل ذلك تجد أن ما علل به القول الضعيف هو عين ما استند إليه السبكي في مخالفة ابن الصلاح وتجد أن ما قاله ابن الصلاح من النقض هو الموافق للأصح هنا القائل بالنقض ولم يلتفت لما علل به الضعيف لأن الفسق وإن لم يقطع به إلا أنه بان به أن الحكم لم يسلم من معارض فألغي وفي هذا الذي ذكرته تأييد لإِطلاق ابن الصلاح النقض أي إلا في الصورة السابقة أوّلاً أعني التي قطع فيها بكذب البينة الثانية وذلك الإِطلاق هو ما ارتضيته في شرح الإِرشاد من حيث النظر مع أن كلام ابن الصلاح دال عليه أيضاً وقد رأيت في فتاوى البغوي ما هو صريح فيه فإنه سئل عما لو ادعى على إنسان بمال فأنكر وأقام المدعي بينة وقضى له القاضي بالمال ثم المدعى عليه أقام بينة بعد قضاء القاضي أن المدعي أقر بوصول هذا المال إليه قال تسمع البينة وعلى القاضي أن يحكم ببراء ذمته لأن بينة مدعي البراءة لما كانت مقدمة على بينة المدعي قبل القضاء فالقضاء لا يمنع إقامة الحجة عليه ثم استدل البغوي لذلك وأطال وأفتى البغوي أيضاً بأنه لو قال باعني هذه وأقام بينة وحكم له بها القاضي ثم ادعى آخر أنها رهن منه مقبوض له قبل البيع وأقام بينة بذلك حكم بالرهن وبطل البيع أ هـ .
فتأمل ما قاله سيما تعليله للمسئلة الأولى تجده موافقاً لما مر عن ابن الصلاح بل نص فيه ولو استحضره ابن الصلاح لاستدل به على ما قاله فإن علة البغوي هي بعينها علة ابن الصلاح أو قريبة منها إذ حاصلها أن البينة إذا كانت مقدمة على(4/428)
أخرى قبل الحكم تكون مقدمة عليه بعده ومر أن ابن الصلاح إنما قدم البينة الشاهدة بالزيادة لأنهما لو تعارضتا قبل الحكم امتنع الحكم كما صرح به السبكي وكلام البغوي الذي ذكرته صريح في ذلك وبهذا الذي علمت أنه منقول البغوي يتضح لك رد ما أطال به السبكي في فتاويه وغيرها رداً على ابن الصلاح فتأمل ذلك فإنه مهم وسائر الناقلين لكلام ابن الصلاح لم يؤيدوه بشيء من كلام الأصحاب غير ما أيد هو به مما هو وبحمد الله قد تأيد بمسائل من كلام الأصحاب فللّه الحمد ومع ذلك فإنما لم أمشِ هنا على إطلاقه النقض بل خصصته بصورة واحدة وهي ما إذا قطع بكذب الأولى لأنه الأحوط اللائق بالفتاوى سيما مع ما غلب في هذه الأزمنة من شهادات الزور والأحكام الباطلة من القضاة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ومنها قوله أعني
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 331(4/429)
السبكي في فتاويه أيضاً أن قاضي المقدس أذن لمن عوض امرأة مرتهنة ما رهنه الدائن عندها لغيبته بعد أن شهد عنده شاهدان أن قيمته مائتا درهم ثم بعد ذلك قامت بينة أن قيمته يوم التعويض ثلثمائة وأن نائب الحكم بالقدس أرسل إلى دمشق فتاوى في ذلك فكتب له علماؤها إذا ثبت أن قيمة الرهن أكثر من ذلك قدمت البينة التي شهدت بالزيادة ثم لم ينازعهم السبكي في هذا الإِفتاء ولم يعترضه من حيث الحكم وإنما نازع النائب المذكور بأن ما ذكر في هذه الفتاوى كلام مخلص لكنه لا يفيد ذلك النائب وبين ذلك وبهذا تعلم أن علماء دمشق الذين في زمن السبكي كانوا موافقين لابن الصلاح فإن قلت مسئلتنا هذه لا حكم فيها فلا تشبه صورة ابن الصلاح قلت بل فيها حكم لأن تصرف الحاكم في قضية رفعت إليه وطلب منه فصلها حكم وهذه الصورة كذلك وإذا تقرر لك عن السبكي ما ذكرته اتضح أنه هو وابن الصلاح وغيرهما متفقون في الصورة التي قدمتها على نقض الحكم فيها وأنها ليست من محل الخلاف ويوافق ما ذكرته فيها قول أبي زرعة في فتاويه ما حاصله أنه سئل عن ناظر شرعي أجر بأجرة شهدت بينة أنها أجرة المثل وحكم بها فشهدت بينة أخرى بأن أجرة المثل أزيد من ذلك بكثير وبان بها أن الأولى ليست من أهل الخبرة بأجرة الأراضي فهل ينقض حكم الحاكم بموجب الأولى فأجاب بأنه لا سبيل إلى نقض الحكم بعد وقوعه إلا بأحد أمرين أولهما إذا بان أن البينة الأولى ليست من أهل الخبرة بما شهدت به واستشكله بأنه كيف يتبين بالبينة وهي شهادة نفي أو باعترافهما وهو لا يفيد بعد الحكم ويجاب بالتزام تبينه بالبينة ولا يضر كونها شهادة نفي لأنه نفي محصور والشهادة به مسموعة ويدل له ما قدمته عن ابن الصلاح ونقله عنه غير واحد من أن شهادة البينة بأنه بيع بلا حاجة مقبولة ولم ينظروا إلى أن هذا نفي لما ذكرته من أنه نفي محصور ثانيهما أن تفيد البينة الثانية تعين كذب الأولى بأن تبلغ حد التواتر إذ لا ينتهي الحال في(4/430)
البينتين عند التعارض إلى القطع بكذب إحداهما إلا أن وصلت الأخرى إلى حد التواتر فإن التواتر متى خالف الآحاد علم كذب الآحاد ثم بين أن أجرة المثل قد تختلف باختلاف قوّة مالك الأرض وضعفه اختلافاً كثيراً ثم قال قد يخالف ما أفتيت به ما ذكره ابن الصلاح وذكر ما مر عنه ثم اعترضه بالفرق بين صورته وما استشهد به بأن البينة التي أقامها الداخل لو كان أقامها قبل امتنع الحكم لغريمه ووجوب الحكم له بخلاف صورة الإِجارة فإن البينة المعارضة لو أقيمت من الأول منعت الحكم من الجانبين لتعارضهما وتساقطهما فلا مرجح لأحدهما على الأخرى بل قد ترجحت المحكوم بها بالحكم والحكم لا ينقض بالاحتمال ولك رد اعتراضه هذا بأنه فرق صوري وهو غير مقبول وقوله بل قد ترجحت إلى آخره مر ما يرده من أن الحكم لا يعد مرجحاً ثم اعترضه أيضاً بنحو ما مر عن السبكي وقد مر رده السبكي قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 331(4/431)
أبو زرعة والذي يتحرر لي في ذلك أنه إذا قطع بكذب البينة الأولى كأن تقوم الحجارة التي هي على شاطىء النيل بمائة درهم في كل شهر مثلاً نقض الحكم بها للقطع بكذبها فصارت البينة الأخرى لا معارض لها وأما مع الاحتمال فلا نقض للحكم وبدون الحكم مع الاحتمال أما أن ترجح الناقضة وأما أن يتعارضا ويتساقطا انتهى كلام أبي زرعة وهو صريح في الصورة التي قدمتها من أن القطع بكذب الأولى مبطل للحكم وأن ذلك لا نزاع فيه ومما يصرح به أيضاً إجماع الأصوليين على أنه لا يمكن التعارض بين قطعي ومظنون فعلم أن هذه الصورة متفق عليها بين ابن الصلاح والسبكي وغيرهما وأنه لا مجال للخلاف فيها واستفيد من تمثيل أبي زرعة بما ذكر أن القاضي إذا علم استحالة أمر استندت إليه بينة أو حكم ألغاه ولا يتوقف على ما يتوقف عليه في غير ذلك واستدل التاج السبكي لأبيه بمسئلة في الرافعي لكنني بينت في شرح الارشاد أنه استدلال في غير محله وأن ما ذكره عن الرافعي لا يدل لما مر عن أبيه من إطلاق عدم النقض نعم قد يشكل على ما مر عن ابن الصلاح قول البغوي وغيره لو شهدت بينة بصحة البيع وأخرى بفساده قدمت بينة الصحة لأن معها زيادة علم وأخذ منه الإسنوى وغيره أنه لو شهدت بينة أنه باع بثمن المثل وأخرى أنه باع بدونه رجحت الأولى قال الأزرقي وبه أفتى أهل زبيد لكن أفتى العمراني بأنهما يتعارضان واستدل عليه بكلام صاحب المهذب ويجاب بأن السبكي المخالف لابن الصلاح لا يقول بتقديم الشهادة بالبيع بثمن المثل بل يقول بما قاله صاحب البيان من التعارض فكان ما قاله البغوي وغيره وما أخذه منه الإسنوى وغيره وارداً على ابن الصلاح والسبكي معاً ويوجه خروج هذه عن قاعدة تقديم بينة الصحة بأن القيمة أمر تخمين والشاهد بها إنما هو معتمد على مجرد ظن فلم يعول على ظنه إلا حيث لم يعارضه ظن آخر فإذا عارضه فإن كان قبل الحكم تساقطا وإن كان بعده بان أن الحكم بني على ظن وتخمين لم يسلم عن(4/432)
معارض ففات شرطه من أن محل الاعتماد على الظن والتخمين حيث لم يعارضه ظن وتخمين ولو مثله فتأمل ذلك فإنه مهم وبه يظهر لك أن التحقيق مع ابن الصلاح وأن جميع ما اعترض به السبكي يرده ما قررته فاحفظ ذلك ولا تغفل عنه فإنه مهم نفيس ثم هذا كله إنما هو على جهة بيان المدارك والمآخذ وإلا فالذي يتحرر الإِفتاء به مما لا شك فيه ولا شبهة بوجه أنه متى علم كذب البينة الأولى بالطريقة التي قدمتها بان بطلان شهادتها والحكم المستند إليها فينقض بمعنى أن القاضي يظهر بطلانه ويمنع من العمل به ويجب عليه ذلك إذا سئل فيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 331(4/433)
الباب الثاني في السؤال الثالث:
وهو بيت وقف بمكة المشرفة عامر لا يحتاج لعمارة ولا يخشى انهدامه لمكنة بنائه وأحكامه ومع ذلك أجرة ناظره بشرط الواقف مائة سنة وحكم شافعي بموجب الإِجارة وعدم انفساخها بموت المتآجرين وذكر في مكتوب الإِجارة أن الأجرة المعينة فيه أجرة المثل بشهادة فلان وفلان وأن الحظ والمصلحة والغبطة لجهة الوقف وللموقوف في إيجارة بالأجرة المعينة فيه بمقتضى أن الأجرة المذكورة أجرة المثل وزيادة فهل إجارة المدة المذكورة صحيحة أو لا وهل الحظ والمصلحة والغبطة تتقيد بقوله بمقتضى أن الأجرة إلى آخره أو لا وإذا تقيدت فهل يكفي في المصلحة كون الأجرة زائدة على أجرة المثل كما أفتى به بعضهم أخذاً من أن ذلك مصلحة في بيع عقار اليتيم أو لا بدّ من مصلحة غير ذلك وإذا قلتم بأنه لا بدّ من مصلحة غير ذلك فما تلك المصلحة وهل يفترق الحال بين أن يقول الواقف للناظر أن يؤجر ما رآه وأن لا يقول ذلك أو لا وهل الحكم بالموجب يستلزم الحكم بالصحة مطلقاً كما أفتى به بعضهم مستدلاً بما في أدب القضاء لشيخ الإِسلام زكريا رحمه الله تعالى أولاً وهل إذا تعرض الحاكم الشافعي لعدم انفساخ الإِجارة بموت المتآجرين يكون للحنفي الحكم بانفساخها بذلك أم لا وهل العادة في مدة الإِجارات معتبرة أو لا وما معنى الباء في قوله في المكتوب بمقتضى إلى آخره وما حكم الله في ذلك كله أفتونا مأجورين وابسطوا الكلام على ذلك فإن الحاجة داعية لذلك لاختلاف المفتين بمكة فيه وتباين آرائهم وأفهامهم الجواب أما عن المسئلة الأولى فالذي صرح به الشيخان كالأصحاب أن من وظيفة ناظر الوقف حفظ الأصول والغلات على الاحتياط ومن وظيفته أيضاً إجارته على الاحتياط فأوجبوا عليه الاحتياط في كل من هذين كغيرهما ومن ثم قال الشيخ في التنبيه ولا يتصرف الناظر إلا على وجه النظر والاحتياط وصرح التاج السبكي بأنه يجب على كل متصرف عن الغير أن يتصرف بالمصلحة فإن كان في شيء مصلحة ومفسدة واستويا لم يتصرف(4/434)
ويشهد له نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وكلام ابن الرفعة وغيره في وجوب أخذ الولي بالشفع لمحجوره إن كان في الأخذ مصلحة وتركه إذا عدمت في الأخذ والترك معاً واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335
الإنعام: 152 والإسراء: 34) a50 وعند استواء المصلحة والمفسدة لم توجد الأحسنية فامتنع القربان وناظر الوقف كولي اليتيم كما صرح به أئمتنا فكان مثله في ذلك ومن ثم صرح البلقيني في فتاويه بأنه يجب على ناظر الوقف فعل الأصلح وكلام الأئمة في باب الزكاة صريح في ذلك فإذا تقرر أنه يلزمه الاحتياط في بقاء عين الوقف وفي إيجاره وأنه يلزمه فعل الأصلح من إيجاره المدة الطويلة والقصيرة إذا كان في كل منهما مصلحة وأنه إذا كان في أحدهما مصلحة وفي الأخرى مفسدة واستويا امتنع عليه التصرف علم وظهر أنه لا يجوز للناظر أن يؤجر المدة الطويلة إلا أن كانت الإِجارة أصلح من بقاء عين الوقف بلا إجارة بخلاف ما إذا كان في الإِجارة الطويلة مفسدة وفي بقاء عين الوقف بدون تلك الإِجارة مصلحة أو بالعكس واستوت تلك المصلحة والمفسدة فإنه لا يجوز له الإِيجار إذ لا مصلحة فيه حينئذٍ لأنهما لما استوتا تعارضتا فتساقطتا وبعد أن اتضح لك أنه لا بدّ في الإِجارة الطويلة من تحقق كونها أصلح من بقاء العين بلا إيجار فلا بدّ في صحة الإِجارة من ثبوت ذلك كله عند القاضي كما صرح به الأئمة حيث جعلوا ناظر الوقف كالوصي وصرحوا في الوصي بأنه لا يجوز للحاكم أن يسجل بيعه إلا إذا ثبت عنده أن للمحجور فيه المصلحة والغبطة بخلاف الأب والجد لوفور شفقتهما ثم لا بدّ في شهادة الشهود عند القاضي من بيان المصلحة ولا يكفي قولهما نشهد أن فيه مصلحة وغبطة كما أفهمه كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم والمختصر قاله ابن الرفعة عن ابن أبي الدم وأقره وهو الأشهر من وجهين في نظير(4/435)
مسئلتنا الآتية قال فلا نسمع شهادته المطلقة وإن وافق الحاكم في مذهبه لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سبباً ولأنه ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره أو ما شاهده من الأفعال ثم الحاكم ينظر فيه فإن رآه سبباً رتب عليه مقتضاه وأما قول ابن الصباغ كغيره لو علم الشاهد استحقاق زيد على عمرو درهماً مثلاً بأن عرف سببه كان أقر له به جاز أن يشهد باستحقاقه عليه درهماً وتسمع شهادته وإن لم يبين السبب وهو مقتضى كلام الروضة وأصلها فيتعين حمله كما هو جلي على شاهد فقيه موافق للحاكم في مذهبه بحيث يوثق بعلمه وإحاطته بتفاصيل الأسباب ومعرفة أحكامها بخلاف من ليس كذلك فإنه لا مساغ للحاكم في قبول شهادته المطلقة على أن كلام هؤلاء وإن أمكن أن يقال به في مثالهم لظهور حكمه حتى للعوام فلا يمكن أن يقال به في مسئلتنا فإن المصلحة المسوغة للإِجارة الطويلة في غاية الخفاء حتى أخطأ فيها بعض المفتين كما يأتي فكيف مع ذلك يجوز لقاض شهد عامي عنده أن المصلحة في إجارة كذا مائة سنة ولم يزد على ذلك قبول هذه الشهادة هذا مما لا يسع شافعياً أن يقول بعمومه وأما عن المسئلة الثانية فعبارة المكتوب المذكور صريحة في تقييد الحظ والمصلحة والغبطة بكون الأجرة أجرة المثل وزيادة هذا مما لا مرية فيه على جميع احتمالاته وحينئذٍ فالذي دلت عليه هذه العبارة أن الشاهدين لم يشهدا عند الحاكم إلا بأن المصلحة في إيجاره مائة سنة بكذا بمقتضى أن هذه الأجرة أجرة المثل وزيادة فحصر المصلحة التي شهدا بها في هذا الفرد الخاص وصارا كالمصرحين بأنه لا مصلحة في الإِيجار غير ذلك وإذا ظهر من عبارة مكتوب الإِجارة المذكور ما ذكرناه واتضح منه ما قررناه فاعلم أن ما ذكر عن ذلك المفتي من أن مجرد زيادة الأجرة على أجرة المثل تكون مصلحة مسوغة لإِجارة مائة سنة مثلاً عجيب غريب وقياسه على بيع عقار اليتيم أعجب وأغرب ومما يبطل قياسه(4/436)
أنهم لم يكتفوا في بيع عقار اليتيم لغبطة بمجرد زيادة الثمن على ثمن المثل وإنما شرطوا ثم في الغبطة كما جرى عليه الشيخان وأكثر الأصحاب بل نقله ابن يونس عن الأصحاب وبه يرد على من نازع فيه تلك الزيادة مع كونه يجد مثل ذلك العقار ببعض ذلك الثمن قال كثيرون منهم أو الأكثرون أو يجد خيراً من ذلك العقار بكل ذلك الثمن فحينئذٍ تتحقق الغبطة لأنه حصل له مثل عقاره مع بقاء فضلة من الثمن أو خير منه من غير أن يغرم من ماله شيئاً آخر زائداً على ذلك العقار إلا دون وكل من هذين غبطة ظاهرة فجاز بيع العقار حينئذٍ بخلاف مجرد زيادة الثمن وإنما اكتفوا في بيع غير نحو العقار بمجرد ربح قليل بل قال التاج السبكي وغيره بلا ربح بخلاف العقار ونحوه لأنه يؤمن عليه من النهب والسرقة والضياع مع أن له غلة وفوائد بخلاف غيره فإنه ليس كذلك واحتمال خرابه ليس كاحتمال ضياع غيره لقرب هذا وبعد ذاك وإذا تقرر أنه لا بدّ في بيع عقار اليتيم مما ذكر فكيف يسوغ لمن له أدنى تأمل أن يأخذ من ذلك أنه يكتفي في إجارة المدة الطويلة بمجرد الزيادة على أجرة المثل وليته إذا أخذ ذلك قيده بزيادة لها وقع وإلا فالاكتفاء بمطلق الزيادة لا يكفي في البيع على اليتيم ومن ثم قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/437)
القفال لا يبيع العقار إلا بغبطة طاهرة وهي مما لا يستهين به أرباب العقول بالنسبة إلى شرف العقار مع التمكن من تحصيل عقار للطفل ونحوه أكثر قيمة وريعاً مما يبيعه فإن لم يكن كذلك فلا خير في بيع العقار اهـ. فتأمل ضبطه للغبطة بما ذكر لتعلم ما في كلام ذلك المفتي من التساهل على أنه لو فرض أنهم اكتفوا في بيع عقار المحجور بمجرد الزيادة لم يقس به ما نحن فيه لوضوح الفرق بينهما فإن من مقاصد الولاية على المحجورين التجارة لهم وموضوعها إدخال الأعيان وإخراجها لتحصيل الريح والمقصود من الولاية هنا حفظ الأصول وتحصيل غلتها على الاحتياط فيهما وشتان ما بين المقصودين فإن مجرد الزيادة على ثمن المثل ثم لا ينافي التجارة المقصودة فلم يؤثر على القول به وأما مجرد الزيادة على أجرة المثل هنا من غير أن يكون هناك مصلحة أخرى فإنه ينافي المقصود هنا من بقاء العين سليمة عما يؤدي إلى تملكها وانقطاع حق الموقوف عليهم من عينها فاتضح فرقان ما بين البابين على كل تقدير فلا عذر لذلك المفتي في ذلك القياس بوجه من الوجوه ولا اعتبار من الاعتبارات ومما يبطل ما قاله أيضاً ما في فتاوى الإِمام الكمال الرداد شارح الإرشاد فإنه سئل عن متعد على وقف له ناظر فطلب ناظره من الحاكم رفع يد المتعدي هل يلزم الحاكم إجابته فأجاب بقوله نعم يجب على الحاكم رفع يد المتعدي عنها ويؤجرها الناظر على من ترجح له أن فيه مصلحة بأجرة المثل فأكثر أ هـ .
فاشترط مع المصلحة أجرة المثل أو أكثر فافهم أن الإِيجار بأكثر من أجرة المثل وحده لا يكفي فبطل ما زعمه ذلك المفتي من أنه يكفي وقال الكمال المذكور أيضاً وأما تأجير الناظر ثلاثين سنة فالمنقول الصحة مع مراعاة الغبطة وكونها أجرة المثل فأكثر فانظر إلى هذا التصريح أيضاً من هذا الإِمام بأنه لا بدّ من اجتماع الغبطة وكونها بأجرة المثل فأكثر وقال أيضاً على الناظر العمل في الوقف بما يتوجه شرعاً من البداءة بعمارته(4/438)
وتأجيره بالمصلحة والغبطة بأجرة المثل فأكثر على ثقة ملىء أمين أ هـ .
وبذلك كله علم أن زعم الاكتفاء بالزيادة على أجرة المثل وحدها باطل صريح لا يلتفت إليه ولا يعول عليه وإذا تقرر أنه لا بدّ من مصلحة غير زيادة الأجرة ظهر أن مستند الإِجارة المذكورة لا يفيد شيئاً لأن الذي استند إليه الحاكم إلى الحكم بالموجب فيه هو شهادة الشاهدين بالمصلحة التي هي زيادة الأجرة وهذه الشهادة لا تفيد صحة الإِجارة فإذا استند الحكم إليها دون غيرها كان مستنداً إلى ما لا يجوز الحكم به ولا الاستناد إليه وحده فبان أنه غير واقع موقعه وأنه غير مصادف لما يصححه فكان لغواً من أصله وسيأتي بيان الحكم بالموجب وأنه لا يستلزم الحكم بالصحة وأما عن المسئلة الثالثة فالمراد بالمصلحة المجوزة لإِجارة المدة الطويلة هي المصلحة التي ترجع إلى بقاء عين الوقف وقد انحصرت في إيجاره تلك المدة لا إلى مجرد مصلحة المستحق أما الأول فلما يأتي عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/439)
أبي زرعة وغيره وأما الثاني فالدليل عليه ما قررته من كلام صاحب الإرشاد وغيره من أن مجرد زيادة أجرة المثل لا تجوز إجارة المدة الطويلة وقد صرح به السبكي حيث قال لعمارة ونحوها كما يأتي عنه فخص الجواز بالعمارة ونحوها وعلى ما ذكرته من أن الإِجارة لمجرد زيادة الأجرة لا تجوز ينبغي أن يحمل إطلاق الأذرعي امتناع الإِجارة الطويلة لأنها تؤدي إلى تملك الوقف ومفاسد أخرى تعلم مما سأذكره فمحل امتناعها إذا كانت المصلحة عائدة للمستحقين فقط وأما إطلاقه امتناعها وإن عادت إلى عين الوقف فلا يتجه كما بينه أبو زرعة في فتاويه وسيأتي فتعين حمل كلامه على ما ذكر وكذلك يحمل على ذلك قول تلميذه الزركشي جواز إجارة الوقف مائة سنة ونحوها بعيد فإنه يؤدي إلى استهلاكه ويدل على حمل كلامه أعني الزركشي على ما ذكرته قوله أيضاً ويخرج من كلام ابن سراقة وأبي الفرج الجزم بالجواز مطلقاً في الخراب وهو ظاهر إذا اقتضته المصلحة ليحتكر أ هـ .
فافهم أن استبعاده الأول إنما هو غير الخراب ويوجه بأن المصلحة في غير الخراب إنما تعود على المستحق فلم تكن مسوغة للإِجارة الطويلة لاشتمالها على مفاسد فلا تفعل إلا لمصلحة ترجع إلى عين الوقف لأن رعاية حفظة بالعمارة أولى من رعاية توهم تملكه ومما يؤيد اشتمالها على مفاسد قول الزركشي أن الحكام من أئمتنا القائلين بأن الوقف لا يؤجر أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس مالوا إلى مذهب أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ لأنه أحوط وقول أبي زرعة وصاحب الأنوار ما فعلوه من ذلك الاصطلاح هو الاحتياط وقول السبكي منتصراً لهذا الاصطلاح لعل سببه أن إجارة الوقف تحتاج إلى أن يكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب قال وفيه أيضاً توقع الانتقال إلى البطن الثاني وقد تتلف الأجرة فتضيع عليهم ومع ذلك قد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها فالحاكم يجتهد في ذلك ويقصد وجه الله تعالى أ هـ .
قال الكمال الرداد شارح(4/440)
الإرشاد وما قاله ظاهر لا سيما في هذا الوقت وقد شاهدنا كثيراً إجارة بعض الحكام الوقف مدة طويلة أدت إلى تملكه وإبطال وقفيته واندراسه والاحتياط متعين في هذا الزمان بلا شك أ هـ .
وقال أيضاً في امرأة أرادت أن تؤجر وقفا خمسين سنة بإذن الحاكم فراراً من البطن الذي بعدها لا يجوز لها ذلك ولا يجوز للحاكم الإِذن لها في تلك المدة المذكورة لأن التقويم لأجرة المثل المدة البعيدة صعب ولأنه يخشى على الوقف إذا أجر المدة المذكورة اندراسه كما رأينا ذلك وشاهدناه على أن القاضي وتلميذه البغوي والمتولي ذكروا أن الحكام اصطلحوا على منع إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين هذا في زمانهم فكيف في زماننا الذي لا يوجد فيه قاض أمين أهل للولاية بل قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/441)
الأذرعي قضاة العصر كقريبي العهد بالإِسلام وهذا في زمانه فكيف في زماننا أ هـ .
وقال أيضاً وقد كثرت المفاسد من نظار الوقف في تأجير المدة الطويلة حتى صار كثير من أماكن الأرض الموقوفة مندرس الوقف ويتصرف فيه تصرف الملك ولا شك أن ذلك قادح في نظرهم فعلى الإِمام ونوابه أصلحهم الله سبحانه وتعالى إزالة هذه المفاسد أ هـ .
فظهر من كلام هؤلاء الأئمة أن في الإِجارة الطويلة مفاسد فلذا وجب الاحتياط فيها أكثر ولا يتم ذلك الاحتياط إلا أن انحصرت المصلحة في العمارة ونحوها مما يتعلق بعين الوقف وبقائه كما صرح به الإِمام أبو زرعة محقق عصره باتفاق من بعده ومن ثم ترجموه بأنه ما رأى مثل نفسه لأنه جمع فقه شيخيه الإسنوى والبلقيني وحديث والده حافظ المتأخرين وحاصل عبارته في فتاويه أنه سئل عما يفعله حكام مكة من إجارة دور مكة الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها مما يقوم بعمارتها ويقدرون ذلك أجرتها في مدة الإِجارة ويأذنون للمستأجر في صرفه في العمارة ويقرون الدار معه بعد عمارتها على حكم الإِجارة السابقة من غير زيادة في الأجرة هل هذا التصرف حسن يسوغ اعتماده وتكراره أم لا لأن هذه المدة تؤدي إلى تملك الوقف غالباً وذلك أعظم ضرراً من الخراب وأطالوا في السؤال فأجاب وأطال وملخصه أن منافع الوقف كمنافع الطلق يتصرف الناظر فيها بالمصلحة وقد تقتضي المصلحة تكثير مدة الإِجارة وتقليلها وحينئذٍ فيجوز إجارة الدار الموقوفة مدة تبقى إليها غالباً ويختلف ذلك باختلاف الدور وباختلاف البلاد في أحكام ما يبنون به واتقانه ومدة بقائه غالباً فما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإِجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك وإنما(4/442)
استحسناه وسوغناه لأن فيه بقاء عين الوقف وهو مقدم على سائر المقاصد وقد تعينت الإِجارة المذكورة طريقاً لذلك ثم قال ولأَنظر لخشية تملك الوقف حينئذٍ لأن الأمور إذا ظنت مصلحتهما في الحال لأَنظر في إبطالها إلى احتمال مفسدة مستقبلة ولأَنظر إلى أن العمارة إنما يحصل النفع بها للمستأجر فقط لأن مدته لا تفرغ إلا وقد عادت الدار خربة كما كانت لحصول غرض الواقف مع ذلك بعمارته لها وذلك الغرض هو بقاء العين الموقوفة منفكة عن ملك الآدميين لرقبتها مملوكة لله سبحانه وتعالى فيبقى ثوابه مستمراً حتى يجري عليه ولو لم ينتفع الموقوف عليه بريعها والصورة التي تكلمنا عليها أن الإِجارة المذكورة تعينت طريقاً لبقاء عين الوقف فإنه تداعى للسقوط ولم يوجد ما يعمر به من ريع حاصل والقرض والأولى إذا خرب الوقف ولم ينهض بعمارته إلا أجرة مائة سنة أن يؤجر المدة المذكورة ليعمر جميعه بالأجرة لأن بقاء عين الوقف مقصود شرعاً في غرض الواقف ولأَنظر إلى خشية الإِفضاء إلى تملكه لأن ذلك غير محقق وبالجملة فمتى أمكنت المبادرة إلى عمارة الوقف وبقاء عينه كما كانت فهو حسن فليفعل ذلك بكل طريق ممكن شرعي ويحترز عما يتوقع من المفسدات بما أمكن الاحتراز به ولا تترك المصالح المظنونة للمفاسد الموهومة أ هـ .
حاصل كلام الولي رحمه الله تعالى وهو صريح لمن عنده أدنى تأمل لما ذكرته أنه لا بدّ في الحاجة المسوغة للإِجارة الطويلة من عودها إلى عين الوقف لتوقع بقائها على ذلك ألا ترى إلى قوله عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القرض المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإِجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك وإنما استحسناه الخ. فتأمل قوله لأجل العمارة وقوله إذا لم يكن للوقف الخ. وقوله من غير احتياج لذلك تجد ذلك كله كبقية كلامه صريحاً فيما ذكرته من(4/443)
أنه لا يجوز إجارة المدة الطويلة إلا عند تحقق الحاجة الراجعة إلى العمارة ونحوها وهذا أمر ظاهر من كلامه لا ينكره إلا معاند مكابر لا يلتفت إليه ويوافقه قول السبكي السابق ومع ذلك فقد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها فإن قلت الحاجة أخص من المصلحة وهم لم يشترطوا في إجارة الناظر إلا المصلحة ولا يلزم من اشتراط الأعم اشتراط الأخص وإذا أجره بزيادة على أجرة المثل كان ذلك مصلحة فلم لا يسوغ أن زيادة أجرة المثل هنا بمجردها تكون مصلحة مسوغة للإِجارة وإن طالت مدتها وكلام السبكي إنما هو في الحاجة وهي منحصرة في نحو العمارة فلا ينافي ما ذكرناه من جواز الإِجارة للمصلحة التي ذكرت قلت أما كون الحاجة أخص من المصلحة فواضح وأما اشتراطهم في الناظر ما ذكر فإنما هو لكونه شرطاً في كل إجارة ثم بعض الإِجارات كالذي نحن فيه يشترط فيه زيادة على ذلك وهو الحاجة وبعضها كإجارة المدة القليلة يكفي فيه مطلق المصلحة وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى الزيادة على أجرة المثل بل حيث كان في الإِجارة مصلحة اكتفى فيها بأجرة المثل وحيث لم يكن لم يكتفِ فيها إلا بالزيادة كما مر عن الكمال شارح الإرشاد فعلمنا أن الزيادة بمجردها ليست مصلحة كافية عن غيرها لا في الإِجارة القصيرة ولا في الطويلة فبطل اعتبار تلك الزيادة ولم يجز النظر إليها وبهذا علم الجواب عنه فإن قلت لم اشترطتم في الإِجارة الطويلة الحاجة واكتفيتم في القصيرة بمجرد المصلحة قلت لأن الطويلة فيها مفاسد شتى كما مر وهذا متفق عليه بين المطلقين للمنع والمجوزين لها بالشروط السابقة وإذا اشتملت على مفاسد منافية لغرض الواقف والشارع من بقاء عين الوقف فكان الأصل امتناعها وما كان الأصل امتناعه لا يجوز إلا لضرورة أو حاجة حاقة ولا شك أن العمارة إذا توقفت على الإِجارة الطويلة كان ذلك أما ضرورة أو حاجة فمن ثم جوزوها حينئذٍ وأما إذا لم يكن ضرورة ولا حاجة بأن كان المكان عامراً لا(4/444)
يخشى عليه انهدام ولا يحتاج لترميم ونحوه من العمارات فالمنع باقٍ بحاله خشية من تلك المفساد ويؤيد ذلك أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335
الولي قال في رده منع الأذرعي الطويلة مطلقاً لأنه يؤدي إلى استهلاكه لم أرَ من قاله هكذا في كل شيء على الإِطلاق لا نظير يشهد له ومنع الإِجارة بأمر يتوهم وهو إفضاء الأمر إلى استهلاكه لا دليل عليه ولا تقتضيه قواعدنا وكيف نثبت أمراً بالشك وليس من مذهبنا سد الذرائع أ هـ .
فرده لهذا مع تقييده الجواز بما مر عنه صريح في أنه إنما قصد بذلك رد إطلاق المنع لا أصل المنع وإلا لم يشترط في الجواز ما قدمته عنه ونتج من كلامه أن الطويلة لا تجوز إلا لحاجة وليس علته إلا ما قررته فأفهمه فإن قلت ينافي ما ذكرته كلام الكمال شارح الإرشاد في فتاويه فإنه سئل عن رجل وقف بيتاً يملكه على ولدي ابن له ليسكناه ويؤجراه وينتفعا به وجعل النظر في ذلك إليه مدة حياته ثم بعده إلى الموقوف عليهما ثم مات الواقف وأحد الولدين صغير لم يبلغ فاحتاج إلى الكسوة والنفقة فنصب الحاكم الابن البالغ على أخيه اليتيم فأجر المنصوب حصة أخيه اليتيم بالمصلحة لحاجته وضرورته إلى النفقة والكسوة على أخيه بأجرة زائدة على أجرة المثل في الوقف مدة مائة سنة وقبض له الأجرة فهل تصح هذه الإِجارة أم لا فأجاب نعم تصح الإِجارة المذكورة أ هـ .
قلت لا ينافي ما ذكرته أما أولاً فلأنه أطلق هنا الصحة وقد قدمت عنه عدة أماكن من فتاويه مصرحة بأنه لا بدّ في الإِجارة الطويلة من مصلحة غير زيادة الأجرة وأما ثانياً فلأن جوابه منزل على ما قاله السائل وهو أنه أجر الحصة بالمصلحة ولحاجة اليتيم بأجرة المثل فأكثر فذكر هنا ثلاثة أسباب المصلحة وحاجة اليتيم وزيادة أجرة المثل فتعين أن المصلحة راجعة لعين الوقف وليت مستند الإِجارة في السؤال ذكر فيه مثل هذه الثلاثة إذ لو ذكر فيه ذلك المذكور لكان أمره واضحاً جلياً(4/445)
وقد علمت أنه لم يذكر فيه إلا أن المصلحة التي للوقف والموقوف عليه مقيدة بزيادة الأجرة على أجرة المثل وقد علمت مما قررته ووضحته أن مجرد هذه غير كافٍ في الإِجارة الطويلة فاعلم ذلك وتنبه له فإن بعض المعاندين ربما اطلع على كلام الكمال هذا فجعله مستنداً له صحة مكتوب الإِجارة الذي في السؤال وليس فيه مستند لذلك بوجه لما علمت من إيضاح الفرق بينهما ثم رأيت بعد فراغي من جواب المسائل السابقة والآتية الرافعي صرح في الكلام على ألفاظ الوجيز بما هو صريح فيما قدمته عن أبي زرعة وغيره من أنه لا بدّ من مصلحة تعود للوقف دون الموقوف عليه فإنه قال في قول الوجيز وتأثيره أي لزوم الوقف إزالة الملك وحبس التصرف على الموقوف ويجوز أن يغير قوله وحبس التصرف على الموقوف بقصر التصرف على ما يلائم غرض الواقف ويمنع الموقوف عليه أ هـ .
كلام الرافعي فتأمل تفسيره كلام الغزالي بقصر التصرف الذي لا يكون إلا من الناظر على ما يلائم غرض الواقف ويمنع الموقوف عليه تجده قاضياً بما قلناه من أن مصلحة التصرف لا بدّ وأن ترجع إلى غرض بقاء الوقف وأنه إذا تعارض هذا مع غرض المستحق قدم الأول ومنع المستحق من غرضه المنافي له فإن قلت: لا شاهد في هذه العبارة لأن من غرض الواقف نفع الموقوف عليه قلت نعم هو منه لكن إنما يراعي حيث لم يعارض غرض الوقف أما عند المعارضة فيقدم غرض الوقف وفي مسئلتنا ولو جعلنا مجرد زيادة الأجرة مسوغاً للإِجارة الطويلة المؤدية إلى استهلاك الوقف من غير حاجة الوقف إلى ذلك لكنا قدمنا غرض المستحق على غرض الواقف وهو ممتنع كما علمت من كلام الرافعي هذا ومما يؤيد ذلك أيضاً قولهم لو قال الموقوف عليه أسكن الدار وقال الناظر أؤجرها لأرممها بأجرتها أجيب الناظر فهذا فيه التصريح منهم بتقديم مصلحة الوقف على مصلحة المستحق وقولهم في موقوف له منافع يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف وأجرى الرافعي ذلك في الدار(4/446)
المشرفة على انهدام ففيه تصريح منه بأنه إذا تقابل غرض الواقف وغرض المستحق قدم غرض الواقف وما نحن فيه تقابل غرضاً هما فليقدم غرض الواقف من عدم الإِجارة الطويلة على غرض المستحق وقولهم يراعي غرض الواقف ما أمكن فانظر قولهم ما أمكن تجده صريحاً فيما قلناه ومما يصرح بذلك أيضاً قولهم في باب التفليس والعبارة للشيخين يؤجر الموقوف على المفلس المرة بعد المرة إلى أن يفي الدين وتبعهما المتأخرون على ذلك فتأمل قولهم المرة بعد الأخرى ولم يقولوا يؤجر مدة طويلة تراه شاهداً لما قررته من رعاية غرض الواقف دون المستحق وإلا لم يحتج إلى تكرر الإِجارة وأوجر مدة طويلة رعاية لغرضه مع قوته بأن الحجر يدوم عليه حتى ينفي الدين على ما فيه ومع ذلك لم تلتفت الأئمة إلى هذا الغرض ويجوزون الإِجارة لأجل ارتفاع الحجر مدة طويلة تفي بالدين بل أوجبوا أن يؤجر المرة بعد المرة وإن أدى إلى دوام الحجر فإن قلت قد خالف السبكي كلام الشيخين وغيرهما فقال في شرح المهذب الوجه أن يقال إذا كان أي العين الموقوفة مما تؤجر غالباً لمدة قريبة يغلب البقاء فيها ألزم بذلك لأن جملة تلك المدة كالمال الحاضر عرفاً وتضاف تلك الأجرة إلى بقية أمواله ويقسم بين الغرماء ويفك الحجر عنه وقال في غيره الأقرب أنه يؤجر دفعة واحدة بأجرة معجلة لا مرة بعد مرة خلافاً
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/447)
للشيخين قلت لأنظر لمخالفته هذه فإنه نفسه صرح بأن هذا رأي له ولم يره منقولاً وإذا تعارض رأيه ومنقول الشيخين وغيرهما. قدم المنقول ولم يجز العمل بذلك الرأي كما هو بديهي لمن عنده أدنى إلمام بأصول المذهب ومأخذه فتأمل جميع ذلك فإنه مهم وفيه دلالات ظاهرة أو صريحة لما قررته فإن قلت ما وجه دلالة عبارتهم على امتناع إيجار المدة الطويلة هنا قلت صراحة عبارتهم على ذلك لا تحتاج إلى برهان وكفاك شاهداً على ذلك مخالفة السبكي المذكورة إذ لولا أن تلك العبارة للاشتراط لما قال خلافاً للشيخين ولما قال عما قاله هذا ما رأيته ولم أره منقولاً وأما عن المسئلة الرابعة فهو أن كلامهم مصرح بأنه لا فرق في الشروط التي اشترطوها في الناظر بين أن يشرط له الواقف العمل بما يراه وأن لا وما ذاك إلا أن اشتراط تلك الشروط فيه ليس لحظ الواقف فحسب لأن الملك انقطع عنه وإنما هو لأن الملك في رقبة الموقوف صار ملكاً لله سبحانه وتعالى بمعنى أنه انقطع عن رقبته اختصاص الآدميين وإلا فجميع الأشياء ملكه سبحانه وتعالى على الحقيقة بكل تقدير وإذا صار الملك لله سبحانه وتعالى فللموقوف عليهم تعلق بمنافعه لأنهم يملكونها وحينئذٍ فيكون الناظر متكلماً على الغير بطريق الولاية يشترط فيه ذلك فلا أثر لشرط الواقف المذكور فإن قلت شرط الواقف مراعي كنص الشارع قلت محل مراعاته حيث لم يخالف غرض الشارع على أن شرطه على الناظر العمل بما يراه لا يقتضي أنه يؤجر بدون أجرة المثل ولا مدة طويلة بلا مصلحة لأن إطلاقه هذا يجب تنزيله على أن المراد ما يراه مما يوافق غرض الشارع فإن صرح بعمله بما يراه وإن لم يوافق ذلك كان لغواً يجب الإِعراض عنه وأما عن المسئلة الخامسة فهو أن الحكم بالموجب أعم من الحكم بالصحة فلا يستلزمه إذ الأعم كالحيوان لا يستلزم الأخص كالإِنسان وبما ذكرته أفتى شيخنا شيخ الإِسلام خاتمة المتأخرين سقى الله سبحانه وتعالى ثراه فإنه سئل عن شافعي حكم(4/448)
بموجب البيع في أماكن ملكها البائع من والدته وثبت عنده التمليك وحكم بموجبه أيضاً فهل له أن يرجع عن حكمه فأجاب بأن ثبوت الشيء عند الحاكم لا يقتضي صحته فقد ثبت الشيء عنده ثم ينظر في كونه صحيحاً أو لا والحكم بموجب الشيء لا يقتضي الحكم بصحته لتوقفه على ملك ذلك الشيء للعاقد فيجوز للحاكم بل يجب عليه أن يرجع عن حكمه بالموجب أن يثبت عنده ما يقتضي رجوعه عنه كعدم ثبوت الملك للعاقد أ هـ .
وكلامه في أدب القضاء يوافق ذلك فإنه جعل كأصله وغيره للحكم بالصحة ثلاثة شروط أهلية المتعاقدين وثبوت الملك واليد في غير الإِقرار حالة العقد ووجود الصيغة المعتبرة وللحكم بالموجب ثبوت الأهلية ووجود الصيغة قال فالحكم بالصحة أخص من الحكم بالموجب ثم قال فقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/449)
السبكي أن الحكم بالموجب حكم بالصحة إلا أنه دونه في المرتبة فيه نظر بل الحكم به حكم بما تقتضيه البينة فيه فإن كان صحيحاً فصحيح أو فاسداً ففاسد أ هـ .
وقد بينت في كتابي في بيع الماء والحكم بالموجب حاصل ما قاله السبكي والبلقيني وأبو زرعة وغيرهم في الحكم بالصحة والحكم بالموجب وما يتفرع على ذلك مما لا يوجد مثله مجموعاً في كتاب وبينت فيه أن السبكي لم يطلق أن الحكم بالموجب حكم بالصحة وإنما جعله حكماً بها في شيء خاص وهو أن الحكم بموجب الإِقرار يستلزم الحكم بصحة الإِقرار وصحة المقر به لكن في حق المقر ووارثه ومن صدقه دون غيرهم فالحكمان إنما يفترقان فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقاً على كل أحد ففي هذا الحكم بالموجب لا يستلزم الحكم بالصحة وقد أوضح ذلك السبكي بزيادة تبين أنه قائل بأن الحكم بالموجب أعم في كتابه الموعب في القضاء بالموجب فقال ما حاصله فإن قلت أما السؤال الأول فجوابه أن الموجب هو الأثر الذي يوجبه ذلك اللفظ والصحة بكون اللفظ بحيث يترتب عليه ذلك الأثر وهما مختلفان والأول حكم شرعي والثاني شرعي وقيل عقلي وإنما يحكم الحاكم به لاستلزامه لحكم شرعي والحاكم لا يحكم إلا بحكم شرعي وهو الإِيجاب أو التحريم أو الصحة أو الفساد أو السببية أو الشرطية أو المانعية بخلاف الكراهة أو الندب إذ لا التزام فيهما ولا استلزام والفرق بين موجب الإِقرار وصحة الإِقرار أن الأول ثبوت المقر به في حق المقر ومؤاخذته به والثاني كونه بحيث يترتب عليه ذلك وشرط الصحة اختياره وصحة عبارته وأن لا يكذبه حس ولا عقل ولا شرع وصحة صيغته فالحكم بصحة الإِقرار يقتضي حصول ذلك كله فلا يحكم بها إلا بعد علمه بحصول هذه الشروط كلها ولا يضر احتمال كذب المقر في نفس الأمر ومتى لم يكن المقر به في يد المقر فالإِقرار فاسد ظاهراً فإذا صار في يده صح الحكم بصحة إقراره السابق ومتى علم القاضي فوات شرط الصحة أو علم حجراً وشك في زواله لم يحكم(4/450)
بصحة الإِقرار ولا بموجبه بل بفساده في غير مسئلة الشك أما فيها فلا يحكم بصحة إقراره ولا بموجبه حتى يثبت زواله وقول القاضي لو شهدوا على إقرار مطلق حمل على الصحة وإن احتمل عوارض يمنعها محله حيث لا معارض حصل بسببه شك لم يثبت فحينئذٍ يقتصر على الحكم بالموجب لأن الحكم بالصحة يقتضي أنه تبين عنده حالها والحكم بالموجب لا يقتضي إلا أنه سبب للمؤاخذة وإن توقف على شرط أو انتفاء مانع فالحكم بموجب الإِقرار حكم بسببية المؤاخذة ثم ينظر فإن لم يوجد مانع أعملنا السبب وأثبتنا المؤاخذة به ويحتمل أن يقال إنه يحكم بحصة الإِقرار اعتماداً على الأصل وعليه يتلازم الحكمان وعلى الأول الحكم بالصحة أخص وبه ظهر عذر الحكام في توقفهم في الحكم بالصحة دون الحكم بالموجب وشروط الإِقرار التي لا بدّ أن يعلمها الحاكم بالبينة عند التردد وإلا اكتفى بعلمه بظاهر الحال فيها ثلاثة صحة الصيغة وإمكان المقر به ورشد المقر وما سوى ذلك مانع والفرق بين موجب الإِنشاء وصحة الإِنشاء أن موجبة أثره المترتب عليه شرعاً وصحته كونه بحيث يترتب عليه أثره الشرعي وللصحة شروط ترجع إلى المتصرف والمتصرف فيه وكيفية التصرف فإن ثبتت حكم بصحة التصرف وإن ثبت فقد بعضها حكم بفساده وإن تردد فما رجع للصيغة أو الحال المتصرف ظاهر مما سبق في الإِقرار أو لحال المتصرف فيه فما كان من الشروط الوجودية كالملك ونحوه اشترط ثبوته للحكم بالصحة أو العدمية ككونه لم يتعلق به حق الغير ونحوه لم يشترط ثبوته فحيث لم يثبت الملك ولا عدمه وثبت ما سواه من الأمور المعتبرة لم يحكم بالصحة ولكن التصرف صالح وسبب لترتب أثره عليه في المملوك فيحكم بموجبه وله فوائد كون ذلك التصرف سبباً يفيد الملك بشرطه حتى إذا كان مختلفاً في إفادته كالوقف على النفس والحاكم ممن يراه ارتفع الخلاف ومؤاخذة الواقف بذلك وكذا وارثه وكل من هو بيده إذا أقر للواقف بالملك وصرف الريع للموقوف عليهم باعتراف ذي(4/451)
اليد ولا يتوقف ذلك على الحكم بصحة الوقف في نفس الأمر بل وقف الواقف لما في يده أو اعتراف ذي اليد له كافٍ فيه كما في الإِقرار فالحكم بالموجب في الحقيقة حكم بالسببية وبثبوت أثرها في حق من أقر بالملك كالواقف ومن تلقى عنه وفي حق غيرهم بشرط ثبوت الملك فإن حكم البينة لازم لكل أحد وحكم الإِقرار قاصر على المقر ومن تلقى عنه فإذا ثبت الملك بالبينة بعد ذلك كان الحكم الأول لازماً لكل أحد وإن لم يثبت كان لازماً لذي اليد ومن اعترف له ولا نقول إن الحكم على كل أحد معلق على شرط بل الحكم مستمر على وجه كلي يندرج فيه من ثبت الملك عليه إما بإقرار وإما ببينة والحكم بالصحة يزيد على ذلك بشيئين الحكم بالشرط وانتفاء المانع وصحة التصرف في نفسه مطلقاً ويلزم من ذلك الحكم بثبوت أثره في حق كل أحد فالحكم بالموجب حكم بثبوت الأثر في حق كل من ثبت الملك عليه بإقرار أو بينة ولو متجددين بعده ويلزم منه الحكم بالصحة في حقهم لا مطلقاً والحكم بالصحة حكم بالمؤثرية التامة مطلقاً ويلزم منها ثبوت الأثر في حق كل أحد ثم القسمان يشتركان في الحجة ما لم يأتِ المحكوم عليه بدافع وقول الحاكم في إسجاله بعد استيفاء الشرائط المعتبرة يستدعي ثبوت الملك عند الحاكم إلا عند من يرى أنه لا يجوز له الحكم إلا بعد ثبوت الملك تحسيناً للظن به وإلا كان حكمه باطلاً وأما عندنا فلا خلاف أنه ليس بشرط للحكم مطلقاً بل في الحكم بالصحة فلا يدل ذلك على ثبوت الملك بل معناه أنه إن استوفى الشرائط المعتبرة استلزم ذلك حكمه بالملك وإلا لزم القدح فيه على أن بعد الخ. تأكيد فإن الحاكم الأمين الدين إنما يحكم بالصحة بعد استيفاء ذلك نعم تردد الأصحاب في شاة في يد رجل حكم له بها حاكم وسلّمها إليه ولم يعلم سبب حكمه وقامت بينة أنها لغيره على وجهين ذكرهما
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/452)
ابن أبي عصرون وقال أقيسهما لا ينقض لأنه يجوز أن يكون قدم بينة الخارج ويجوز أن يكون ثبت عنده عدالة البينة الأخرى فلا ينقض بالشك أ هـ .
المقصود من كلام السبكي رحمه الله تعالى وهو مشتمل على فوائد بتأملها يعلم أنه لم يخالف غيره في أن شرط الحكم بالصحة ثلاثة شروط وإن شرط الحكم بالموجب أمران وأن الحكم بالصحة أخص من الحكم بالموجب وأن القول بتلازمهما إنما هو احتمال له وأن الحكم بالصحة يزيد على الحكم بالموجب بشيئين الحكم بوجود الشرط وانتفاء الموانع بصحة التصرف في نفسه مطلقاً وبهذا تعلم أن حكم الشافعي بالموجب في مستند الإِجارة لا يستلزم حكمه بوجود شروط الإِجارة وانتفاء موانعها وإذا لم يستلزم حكمه ذلك وثبت انتفاء بعض الشروط بأن بطلان الحكم بالموجب وفي صورة السؤال بأن فوات بعض الشروط وهو وجود المصلحة المسوغة للإِجارة الطويلة فكان الحكم فيها بالموجب باطلاً كما علمت من كلام السبكي فإن قلت صرح ابن دقيق العيد بأن الحاكم إذا حكم في واقعة وثبت ذلك عنده ولم يذكر أنه استوفى الأوضاع الشرعية في حكمه عمل بحكمه إذا كان حاكماً شرعياً ولا يتوقف إلى أن حكمه وافق الشرائط الشرعية اهـ.(4/453)
كلامه وهذا منافٍ لما قدمته ومؤيد للعمل بمكتوب الإِجارة السابق في السؤال قلت لا ينافيه بل يوافقه وغاية ما فيه أنه أحد الوجهين الذي مر آنفاً عن ابن أبي عصرون أنه الأقيس ووجه عدم منافاته تعرف بطريقين أحدهما أن الحاكم في كلامه لم يصرح بأنه حكم بصحة ولا بموجب وإنما الذي دل عليه كلام ابن دقيق العيد أنه ثبت عنده الحكم ولم يعلم هل حكم بصحة أو بموجب فحملنا حكمة على السداد ولم نتعرض له بالشك ولا كذلك الحكم في مسئلتنا فإن الحاكم فيها صرح بأنه حكم بالموجب فحكمنا عليه بما يقتضيه الحكم بالموجب ثانيهما وهون الأحسن أن كلام ابن دقيق العيد كما ترى في حكم مطلق لم يقيد بشيء وكلا منا إنما هو في حكم قيد بأن المصلحة فيه هي زيادة الأجرة على أجرة المثل والحكم إذا أسند لسبب وكان ذلك السبب باطلاً يكون الحكم باطلاً والذي في مسئلتنا كذلك فإن الحكم فيها أسند لذلك السبب الباطل فكان باطلاً فبان بون ما نحن فيه لما في كلام ابن دقيق العيد فليكن ذلك كله منك على ذكر فإنه مهم وهو مما يلتبس ويخفى على من أراد التسور على من لم يتأهل للرقي إليه والتشبع بما لم يعطِ فكان إفتاؤه منادياً بالخسارة والبوار عليه أعاذنا الله سبحانه وتعالى من نقمه بمنه وكرمه آمين وأما عن المسئلة السادسة فهو أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/454)
البلقيني قال إذا حكم شافعي بموجب إجارة امتنع على الحنفي الحكم بإبطالها بالموت لأن من موجبها الدوام والاستمرار للورثة بخلاف حكمه بالصحة فإنه لا يمنعه من ذلك واعترضه تلميذه الولي أبو زرعة فقال ما ذكره ممنوع فإن الحكم بموجب الإِجارة وقع قبل موت المستأجر فلا يمكن توجيهه إلى عدم الانفساخ لأنه لم يجىء وقته ولم يوجد سببه ولو وجه حكمه إليه فقال حكمت بعدم انفساخها إذا مات المستأجر كان لغواً نظير ما مر في الحكم بتعليق طلاق أجنبية إذ هما من وادٍ واحد أ هـ .
لكن فرقت بين هاتين الصورتين في كتابي المذكور فراجعه فإنه مهم وقد أفتى الولي بما قاله هنا فإنه سئل عمن استأجر عيناً موقوفة من ناظر شرعي بأجرة المثل على وجه لا يخالف شرط الواقف بل يوافقه وثبت ذلك عند الحاكم واستوفى شروطه وحكم بموجب الإِجارة وبعدم انفساخها بموت المتآجرين أو أحدهما وبعدم انفساخها بزيادة الأجرة أثناء المدة فهل هذا الحكم صحيح أو لا فأجاب بأن حكمه بالموجب صحيح ومذهبنا أنها لا تنفسخ بموت الناظر على سائر البطون ولا بموت المستأجر ولا يلتفت إلى زيادة الأجرة في أثناء المدة ولكن حكم الحاكم بهذا قبل وقوعه لا معنى له وليس هذا حكماً وإنما هو فتوى وكيف يحكم على شيء قد يقع وقد لا لأنه قد تزيد الأجرة وقد لا وقد يموت أحد المتآجرين وقد لا فإذا وجد شيء من ذلك فمن رفعت له القضية من الحكام فحكم بما يقتضيه مذهبه نفذ سواء حكم باستمرار الإِجارة أم بانفساخها ولو صدر من شافعي الحكم حين صدور الإِجارة بعدم انفساخها فإنه ليس حكماً كما قدمته وإنما هو فتوى وبتقدير كونه حكماً فلم يصادف محلاً فإنه حكم في غير محل الحكم وتعجيل للشيء قبل وقته انتهى وأما عن المسئلة السابعة فهو أن البلقيني صرح في فتاويه بأنه إذا جرت العادة بمدة في وقف لم تجز الزيادة عليها فإن زيد عليها بطلت الإِجارة من أصلها ولم تتفرق الصفقة لأن القدر الجائز بمقتضى العادة قد يزيد قليلاً(4/455)
وقد ينقص قليلاً فلم يتعين القدر الذي يختص بالإِبطال انتهى ويؤيده ما أطبق عليه أئمتنا أن العادة المطردة في زمن الواقف إذا عرفها تكون بمنزلة شرطه فإن قلت هذا الذي ذكره البلقيني إنما يظهر إذا كانت العادة حين الوقف قد اطردت في الأشياء المماثلة للموقوف أنها لا تؤجر إلا مدة معينة فحينئذٍ ينزل ذلك الوقف عليها ويمتنع إيجاره مدة أكثر من تلك المدة لما تقرر أن العادة المذكورة كشرط الواقف قلت هو كذلك وقد يقال يحمل كلامه على ما لو اطردت عادة نظار وقف على إجارته مدة معينة وقد جهل شرط الواقف فهنا يلزم الناظر الجائي بعد أولئك المتقدمين عليه أن يجري على منوالهم فلا تجوز له الزيادة على ما درجوا عليه كما صرح بنظيره جماعة من أئمتنا من أن شرط الواقف إذا جهل في شيء واطردت عادة نظار الوقف بشيء وجب اتباعهم وامتنعت مخالفتهم لأن الظاهر من حالهم أنهم إنما استندوا في ذلك لشرط الواقف أو العادة المطردة في زمنه المنزلة منزلة شرطه والله سبحانه وتعالى أعلم وأما عن المسئلة الثامنة فهو أن من الواضح أن الباء في قوله بمقتضى أن الأجرة الخ للسببية أو العلة فهما هنا سواء وإن كان بينهما فرق بل فروق لا بأس ببيانها لمسيس الحاجة إلى ذلك لخفائه وندرة من نبه عليه فتقول الفرق بينهما ظاهر في كتب الفقه واللغة والنحو فأما في اللغة فالسبب كلما يتوصل به إلى غيره ومنه قوله سبحانه وتعالى:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/456)
{فليمدد بسبب إلى السماء} (الحج: 15) أي حبل إلى سقف بيته والعلة المرض وكلمات يدور معناها على أمر يكون عنه معنى آخر أو يؤثر في معنى آخر ومرادهم بالتأثير ما لا يتخلف عادة لا الاختراع ويطلق على غير ذلك قال التاج السبكي وذكر النحاة ما يؤخذ منه أنهم يفرقون بينهما حيث ذكروا أن اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية وقال أكثرهم الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل وقال ابن مالك الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غير أن ومثل للسببية بقوله سبحانه وتعالى: {فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} (البقرة: 22) والعلة بقوله سبحانه وتعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} (النساء: 160) وذكروا أيضاً أن باء الاستعانة غير معنى السبب والعلة وحينئذٍ فالباء الداخلة على الاسم الذي له قدرة أثر في وجود متعلقها ثلاثة أقسام باء الاستعانة وباء السبب وباء العلة وذلك لأنها إن صح نسبة القائل إلى مصحوبها مجازاً فهي باء الاستعانة نحو كتبت بالقلم وتعرف أيضاً أنها الداخلة على أسماء الآلات وإلا فإن كان ما تعلقت به إنما وجد لأجل وجود مجرورها فهي باء العلة نحو: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} فوجود التحريم ليس إلا لوجود الظلم وتعرف بأنها الصالحة غالباً لحلول اللام محلها وإن لم يكن ما تعلقت به كذلك فهي باء السببية نحو: {فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} فإخراج الثمرات مسبب عن وجود الماء ولم يكن لأجل الماء بل لأجل مصلحة العباد فعلم أن باء الاستعانة لا تصح في الأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه وتعالى هذا منتهى قول الناقلين عن العرب وأما أهل الشرع فالسبب والعلة يشتركان عندهم في ترتب المسبب والمعلول عليهما ويفترقان من وجهين أحدهما أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به والعلة ما يحصل به وأنشد ابن السمعاني في كتابه القواطع ألم ترَ أن الشيء للشيء علة
.
يكون به كالنار يقدح بالزند(4/457)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335
ولكنه اختار في تعريف السبب بأنه ما يوصل إلى المسبب مع جواز المفارقة بينهما وقيل تقدم يعقبه مقصود لا يوجد إلا بتقدمه ولا أثر له فيه وذلك كالحبل سبب للوصول للماء ثم الوصول بقوة النازح لا بالحبل والطريق سبب الوصول للمقصد ووصوله بقوة الماشي لا بالطريق وحل القيد سبب لفرار المقيد وفراره بقوته لا بالحل ومنه فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى فضربه ببعضها سبب الحياة ولا أثر له فيها وكذا ضرب موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين البحر بعصاه قال فدل هذا على أن السبب هو الموصل مع جواز المفارقة وأطال في تعريف السبب والعلة والشرط وعقد لذلك باباً مستقلاً ثانيهما أن المعلول يتأثر عن علته بلا واسطة بينهما ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده والسبب إنما يفضي إلى الحكم بواسطة أو وسائط ولذلك يتراخى الحكم عنه حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذ لا شرط لها بل متى وجدت أوجبت معلولها اتفاقاً كما قاله إمام الحرمين و الآمدي وغيرهما. ووجهوه بدلائل كثيرة وهذا وإن كان في العلة العقلية إلا أن العلة الشرعية تحاكيها أبداً لا يفترقان إلا في أن تلك موجبة بنفسها بخلاف هذه قال الإِمام وليس المراد بكونها توجب المعلول أنها تثبته كما تقتضي القدرة حدوث المقدور لكنا أردنا بالإِيجاب تلازم العلة والمعلول واستحالة ثبوت أحدهما دون الثاني أ هـ .
وهذا في الحقيقة هو الفرق الأول السابق بين العلة والسبب فإنه لا يلازم المسبب لجواز تخلفه لمانع أو فقد شرط والعلة سالمة من ذلك فالملازم فيها موجودة أبداً فأنتِ طالق من نافذ طلاقه علة لأنه يستعقب الوقوع من غير توقف على شيء وإن دخلت فأنتِ طالق سبب لتوقفه على الدخول فالسبب موجود والمسبب مفقود ولا كذلك العلة والأصوليون لم يعتنوا بتحقيق الفرق بينهما بل ربما وقع في كلامهم أنهما(4/458)
سواء لأن مقصدهم الوصف الذي ترتب بعده الحكم وله مدخل فيه وليس ذلك إنكاراً منهم للفرق بل لما لم يحتاجوا إليه لم يذكروه وهو واقع لا محالة واستعمله الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى في الفقهيات على نحو ما أبديناه فقال في الجراح ماله دخل في الزهوق فإن لم يؤثر فيه ولا فيما يؤثر فيه فالشرط كالحفر وإن أثر فيه وحصله فالعلة كالقد وإن لم يؤثر فيه بل في حصوله فالسبب كالإِكراه واعترض بأنه سمى الحفر سبباً في الغصب وأجاب ابن الرفعة
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/459)
بأن ضمان الغصب يترتب على الحفر وإن انعدمت التردية وفي الجراح لا قصاص به إذا انعدمت ومن ثم جعل الحفر سبباً للدية لترتبها عليه وإن انعدمت التردية فالحفر صالح للسببية والشرطية فإذا ترتب عليه المسبب كان سبباً وحينئذٍ فالروابط بين الأحكام والأسباب إما مستقلة يضاف الحكم إليها ولا يتخلف عنها وهي العلل وإما غير مستقلة فما له دخل في التأثير ومناسبة أياً كان في قياس المناسبات فهو السبب وما لا مدخل له ولكنه إذا انعدم ينعدم الحكم فهو الشرط فالعلة أعلى رتبة منهما ومن ثم وجب القصاص بالمباشرة وهي العلة دون الشرط مطلقاً ودون السبب على تفصيل فيه فهو رتبة وسطى بين العلة والشرط نعم الشرط يلزم من عدمه العدم وهو من هذه الجهة أقوى من السبب إذ هو لا ملازمة بينه وبين المسبب انتفاءً وثبوتاً بخلاف الشرط ومن ثم فرق القفال الكبير بين الثلاثة بأنه ما جرى مقارناً للشيء أو غير مقارن ولا تأثير فالسبب وما يختلف الحكم بوجوده فالشرط فهو مقارن غير مقارن كالعلة سواء إلا أنه علامة على الحكم ولا تأثير له أصلاً بخلاف العلة وقال ابن السمعاني الشرط ما يتغير الحكم بوجوده أي لكونه علامة عليه والسبب لا يوجب تغيره بل يوجب مصادفته وموافقته ويتخرج على ما تقرر قول الوسيط أجمعت الأمة على أن البيع سبب لإِفادة الملك وإنما لم يقل أنه مفيد للملك احترازاً عن زمن الخيار فإنه مانع لإِفادة الملك على تفصيل فلم يكن البيع مفيداً للملك دائماً بل سبب لإِفادته إن وجدت شروطه وانتفت موانعه كالخيار فسببية البيع مجمع عليها ثم عندنا السبب متصل بالمسبب حتى في زمن الخيار على تفصيل فيه وعند الحنفية لا ومن فرق الفقهاء بين العلة والسبب قولهم لو قال أنتِ طالق برضا فلان لم يقع إلا إن رضي بخلاف أنتِ طالق لرضا فلان فإنه يقع وإن لم يرض والظاهر أن هذا لا يخالف ما مر في الفرق بينهما بل يوافقه فإن جعله الرضا سبباً يقتضي أنه لم يجزم بوقوعه فعلقنا الوقوع(4/460)
بتحقق الرضا بخلاف جعله علة فإنه جزم بوقوعه المستلزم للوقوع فآخذناه بمقتضاه لكن يلزم على هذا أن ذلك لو صدر من عامي أو نحوي وقال أردت بالعلة معنى السبب أنه لا يقع إلا إن وجد الرضا وهو متجه قياساً على ما قالوه في أنتِ طالق إن دخلت الدار بفتح أن إذا تقرر ذلك فلنرجع إلى الكلام على قوله بمقتضى أن الأجرة إلى آخره فنقول اختلفوا في المقتضي الواقع في لفظ الحاكم ومثله الشاهد فنقل الولي أبو زرعة
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/461)
عن بعضهم أن المقتضي لا انفكاك له ثم رده فإنه مفعول اقتضى أي طلب والطلب قد يكون مع إلزام ومع عدمه ثم المقتضى هنا هو كون الأجرة أجرة المثل وزيادة إذ إضافة مقتضى إلى ما بعده إضافة بيانية أو إضافة أعم إلى أخص وعلى كل تكون الأجرة كذلك مقتضى أي مطلوباً وحينئذٍ فالتقدير أن المصلحة في إيجار المكان المذكور بالأجرة المعينة ثبتت بمطلوب هو أن تلك الأجرة زائدة على أجرة المثل أي بسببه أو من أجله وكل من السبب والعلة يقتضي توقف المسبب أو المعلل على وجوده سواء قلنا إن المقتضي يتخلف أو لا يتخلف وإنما يختلفان في أن الوجود عند السبب لا به وبالعلة لا عندها أو في أنه يتوقف على واسطة بخلافها وكل من هذين الفرقين لا يختلف به حكم هنا وليس ما هنا نظير ما قدمناه في مسئلتي الطلاق لما هو ظاهر مما قررناه آنفاً فيهما وإذا اقتضى كل من ذينك أن المصلحة في الإِيجار المذكور متوقفة على وجود المقتضي المذكور اقتضى أنها ليست مترتبة إلا عليه وأنه لا علة ولا سبب لوجودها غير هذا المقتضي ألا ترى إلى ما مر في قوله سبحانه وتعالى: {فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} (البقرة: 22) وقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا} (النساء: 160) من أن الإِخراج والتحريم إنما ترتبا على الماء والظلم دون غيرهما وإذا انحصرت المصلحة في المقتضى المذكور دل على ما قدمناه من أنه لا مصلحة في تلك الإِجارة إلا الزيادة على أجرة المثل وقد بسطنا لك القول فيما مر أن هذا وحده كافٍ غير ومسوغ في الإِجارة الطويلة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/462)
الخاتمة: في السؤال الرابع وهو ما قولكم في مستند إيجار مكان وقف مدة مائة سنة صدر من ناظر شرعي حكم شافعي فيه بالموجب بعد أن ثبت عنده بشهادة شاهدين معرفة المكان المذكور وأن الأجرة التي قدرها كذا أجرة المثل يومئذٍ للعين المؤجرة فيه وأن الحظ والمصلحة والغبطة الوافرة كما شرح بمقدمة المستند المذكور في إيجار تلك المدة المعينة أعلاه بالأجرة المعينة فيه بمقتضى أن الأجرة المعينة أعلاه أجرة المثل وزيادة فهل قوله بمقتضى أن الأجرة إلى آخره يتعلق بالحظ والمصلحة والغبطة الوافرة فيتقيد بذلك أو يتعلق بشيء آخر مع أن الموثق للمستند المذكور لم يتعرض لذكر ثبوت خراب المكان المذكور ولا لإِشرافه على الخراب حتى يكون من جملة المسوغات المقتضية لإِيجار المكان المذكور المدة المعينة وهل يحتاج في إيجار الأوقاف المدة الطويلة إلى ثبوت المصلحة للوقف في ذلك أم لا وإذا قلتم بالاحتياج فهل الزيادة على أجرة المثل تعد منفعة أو لا وهل الحكم بالموجب من الحاكم الشافعي المذكور أعلاه حكم بالصحة أو لا وهل الإِيجار المذكور صحيح على النص المذكور المشروح أو لا. فأجبت: الذي دل عليه المستند المذكور أن حكم الحاكم إنما استند فيه إلى شهادة الشاهدين المذكورين وإن حاصل صيغة تلك الشهادة أشهد أن المكان الموصوف بكذا أجرة مثله كذا لمدة مائة سنة وأن الحظ والمصلحة والغبطة الوافرة لجهتي الوقف والمستحقين في إيجاره تلك المدة بتلك الأجرة بمقتضى أن الأجرة المذكورة أجرة المثل وزيادة وإذا تقرر أن هذا هو حاصل لفظ الشاهد الذي استند الحكم إليه فقط فلا بدّ من بيان مؤدى هذا اللفظ ثم حكمه فمؤداه أن الحظ وما بعده لتينك الجهتين في ذلك الإِيجار سبب أو معلول عن كون تلك الأجرة أجرة المثل وزيادة إذ الباء إما للسببية أو العلة والمقتضى المطلوب وإضافته لما بعده بيانية أو من إضافة الأعم إلى الأخص والباء بقسميها متعلقة بمتعلق خبر أن المحدث عنه أو بخبر مبتدأ(4/463)
محذوف وعلى كل منهما فمدلول اللفظ ما ذكرته من حصر الحظ وما عطف عليه من زيادة الأجرة إذ الحكم إذا علق بسبب وهو ما يوجد عنده الحكم بواسطة أو بعلة وهي ما يوجد بها من غير واسطة دل ذلك التعلق على أنه لا سبب له أو لا علة له إلا ذلك المذكور فقط إذ لو كان له سبب آخر أو علة أخرى لزم أن لا يكون المذكور سبباً ولا علة وإنما السبب أو العلة مجموع المذكور والمحذوف أو المحذوف فقط وهو باطل لأنه خلاف مدلول اللفظ فوجب أن لا سبب أو لا علة إلا المذكور وحينئذٍ ظهر حصر الحظ وما بعده في ذلك المقتضى وأنه لا حظ في تلك الإِجارة غيره وإذا ظهر أن هذا هو مؤدى لفظ الشاهد المذكور فلنبين حكمه مع الإِشارة إلى عبارات الأئمة بأوجز عبارة تعويلاً على ما بسطته في تقريرها في غير هذا فنقول قد تباينت آراء الأئمة في الإِجارة الطويلة فمنعها جماعة منهم
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/464)
الأذرعي وتبعه تلميذه الزركشي فاستبعد جوازها وجوّزها آخرون بشروط منهم السبكي و أبو زرعة وغيرهما وجرى عليه الكمال الرداد شارح الإرشاد وهو الحق واتفق الكل على أن فيها مفاسد فالمانعون نظروا إليها فأطلقوا منعها نظراً للعادة المحققة لها غالباً والمجوزون لها نظروا إلى أنها موهومة مع أن الحاجة إذا حقت منعت النظر إليها وقد صرح الأئمة بأنه يجب على الناظر الاحتياط في الإِجارة وفي حفظ الأصول ولا يتم الاحتياط في هذين في الإِجارة الطويلة إلا إن احتيج إليها كما ذكر وصرحوا أيضاً في عدة مواضع بأنه يجب على المتصرف على الغير أن يراعي في تصرفه الأغبط والأصلح ففي مدد الإِجارات يلزمه رعاية الأصلح منها ولا يجوز له فعل الصالح مع وجود الأصلح فلا يفعل الإِجارة الطويلة إلا إذا تحقق كونها أصلح وذكروا أيضاً أن القاضي لا يسجل نحو إجارته إلا أن ثبت مسوغها عنده وهذا كله مؤيد للمجوزين للإِجارة الطويلة بشرط الحاجة لتوقف بقاء عين الوقف بعمارته أو نحوها عليها فلا يكفي مجرد زيادة الأجرة وأن كثرت الزيادة كما صرح به كلام الولي أبي زرعة في فتاويه وسبقه إلى نحوه الخوارزمي في كافيه و ابن رزين صاحب ابن الصلاح وفرض كلامه في إجارة ثلاثين سنة فما الظن بمائة ونحا إلى ذلك السبكي و البلقيني بل الرافعي في العزيز في الكلام على ألفاظ الوجيز وجزم به شارح الإرشاد الرداد في مواضع من فتاويه ولا يعارض ذلك ما ذكروه في التصرف في مال المحجور لأنه إن كان بإجارة كان حكمه حكم إجارة الوقف فيما ذكرناه كما صرح به الإصطخري من أكابر أصحابنا واعتمده الأذرعي ومن ثم قال في المطلب إيجار الموقوف على معين مشبه بإيجار ملك اليتيم أو بيعه فإن كان في غير العقار فليس الكلام فيه أو في العقار فلا بدّ في جواز بيعه كما صرحوا به من أن يجد مثله ببعض الثمن أو خيراً منه بكل الثمن وهذا لا يمكن جريان نظيره هنا لأن مدار ذلك على التجارة المستلزمة لإِخراج ما في(4/465)
اليد لأصلح منه ولا يكون في العقار إلا بما ذكر وهنا على حفظ عين الوقف وعدم تطرق الاستيلاء عليه ما أمكن فاتضح فرقان ما بين البابين وأنه لا جامع بينهما بوجه فالزيادة على أجرة المثل لا أثر لها مطلقاً لأنه متى وجدت مصلحة أو حاجة جازت الإِجارة بأجرة المثل من غير زيادة ومتى انتفى كل من المصلحة والحاجة امتنعت الإِجارة وإن زادت الأجرة وإنما اكتفينا في القصيرة بمجرد المصلحة واشترطنا في الطويلة الحاجة لما تقرر أن في الطويلة مفاسد فلم تجز إلا عند الحاجة لأن ما جاز لحاجة يتقدر بقدرها والحكم بالموجب أعم من الحكم بالصحة فلا يستلزمها كما صرح به الأئمة منهم
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/466)
السبكي في كتابه الموعب وغيره وصرح أيضاً بأن الحكم بالموجب في عقد ليس حكماً بوجود شروطه وانتفاء موانعه بخلاف الحكم بالصحة وعلى تسليم أن الحكمين مترادفان فلا ينفع ذلك فيما نحن فيه لأن الحاكم لم يحكم بالموجب من غير استناد إلى شيء وإلا نزل حكمه على السداد كما قاله ابن دقيق العيد وإنما حكم مستنداً إلى شهادة الشاهدين المذكورة في المستند وشهادتهما إنما هي أن المصلحة المسوغة للإِجارة كون الأجرة أجرة المثل وزيادة وقد سبق كلام الأئمة أن هذه وحدها لا تكون مصلحة مسوغة للإِجارة الطويلة وإذا استند الحكم بالموجب إليها وحدها بان أنه غير واقع موقعه فإذا ثبت عند حاكم آخر أن لا مصلحة في تلك الإِجارة أبطلها ولا نقض في ذلك الحكم الأول أن استناده لما لا يسوغه صيره لغوا فكأنه لم يقع بل لو فرض أن الشاهد أطلق المصلحة فقال أشهد أن المصلحة في إيجار كذا لم يجز للحاكم أن يقبل هذا منه بل يلزمه استفساره كما أفهمه كلام الأئمة بل كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم والمختصر لأن المصالح مختلفة وتحتاج إلى نظر واجتهاد ولا يأتي هنا الخلاف في إطلاق الشاهد استحقاق زيد على عمر ومائة عرف سببها لأن الشهادة ثم على آدمي برهن هو أو وارثه على ردها وسببها كالإِقرار لا يحتاج إلى نظر واجتهاد بخلافها فيما نحن فيه فإن الملك في الموقوف لله سبحانه وتعالى وأسباب المصالح مختلفة فوجب على الحاكم أن لا يقبل الشهادة بمطلق المصلحة احتياطاً لحق الله سبحانه وتعالى وقد صرحوا بوجوب الاستفسار عليه في مسائل كثيرة ومسئلتنا هذه أولى بذلك من أكثرها كما لا يخفى على متأمل وفرق بين المصلحة الواقعة في لفظ الشاهد والواقعة في لفظ الحاكم فلو قال الحاكم حكمت بصحة الإِجارة أو بموجبها لثبوت المصلحة عندي لم يقدح في حكمه عدم بيانها بل لو حذفها بالكلية لم يقدح ذلك أيضاً كما مر عن ابن دقيق العيد وسبقه إليه ابن أبي عصرون حملاً لحكم الحاكم على السداد(4/467)
ما أمكن وأما إذا أسند الحاكم حكمه إلى شهادة بمطلق مصلحة أو بمصلحة لا تعد في مذهبه مصلحة فيكون حكمه لغوا وجهلاً منه فلا يعوّل عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واسأله التوفيق لما يرضيه عني وأن يجبرني من كل فتنة ومحنة بمنه وكرمه إنه على ما يشاء قدير وبالإِجابة جدير وهو حسبي ونعم الوكيل وإليه أفزع في الكثير والقليل ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والحمد لله أوّلاً وآخراً حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك حمداً طيباً مباركاً فيه عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك وسبحان الله مثل ذلك والله أكبر مثل ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/468)
مسئلة سئلت: عن كتاب وقف على النفس لمياه وأراضِ في مر الظهران حكم بموجبه حنفي ثم مات قاضيه وشهوده فأثبته الحاكم المالكي بطريق الشهادة على الخط فوضع إنسان يده على شيء مما فيه من الماء مدة مديدة بطريق الشراء وحكم بموجبه شافعي ثم ثبت الوقف المذكور فانتزع ذلك الماء من يد المشتري وأراد ناظر الوقف أن يدعي عليه بغلة ذلك الماء لدى شافعي فهل له سماع هذه الدعوى عملاً بمذهبه أن ماء عيون مر الظهران مملوك لواضعي الأيدي عليه فيضمن بمثله أو قيمته على ما حرروه في الغصب أم لا نظراً لحكم الشافعي بالشراء لأن الشراء بان فساده وبتبين فساده يتبين بطلان الحكم بالموجب من أصله أو ليس له سماعها نظراً لحكم الحاكم الحنفي بالموجب بناءً على ما أفتى به بعض مفتي مذهبه أن الماء الموقوف مضمون بخلاف المملوك لكن خالفه مفتٍ آخر منهم فقال الماء المحض لا يضمن مطلقاً سواء الموقوف وغيره أفتونا مأجورين مع البسط التام فإن المسئلة مشكلة جداً. فأجبت: بأن الكلام على هذه المسئلة يستدعي بسطاً فلا تضجر منه فإن فيه فوائد نفيسة لا تظفر بها في غير هذا المحل ولتجعله في أمور لكن بعضها مقدمات وبعضها مقاصد أحدها تحرير ماء عيون مر الظهران وغيره من أودية الحجاز هل هو ملك لأهلها أو مستحق فقط فلا يضمن والذي دل عليه كلام أئمتنا الثاني وعبارة المنهاج وشرحي عليه والمياه المباحة بأن لم تملك من الأودية كالسيل والعيون في الجبال ونحوها من الموات وسيول الأمطار يستوي الناس فيها لخبر أبي داود الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار وصح خبر ثلاثة لا يمنعن الماء والكلأ والنار فلا يجوز لأحد تحجرها ولا للإِمام إقطاعها إجماعاً ثم قلت وليس من المباحة ما جهل أصله وهو تحت يد واحد أو جماعة لأن اليد دليل الملك قال الأذرعي ومحله إذا كان منبعه من مملوك لهم بخلاف ما منبعه بموات أو يخرج من نهر عام كدجلة فإنه باقٍ على إباحتها اهـ. وبه يعلم أن ماء عيون مر(4/469)
الظهران ونحوه غير مملوك لأن تلك العيون منابعها غائصة في جبال مباحة لا يعلم منتهى تلك المنابع ولا أصلها وإنما يخرج منها مياه من أسفل تلك الجبال وقد جيء إلى ذلك الأسفل وبني عليه جدران بينهما قناة فإذا خرج الماء من ذلك السفل جرى بين هذين الجدارين إلى أن يسلط على أراضٍ يسقيها وإذا كانت تلك المنابع بهذه الصفة تعين القول بأنها غير مملوكة كما شمله قول المنهاج والعيون في الجبال وقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/470)
الأذرعي ومحله إن كان منبعه في غير مملوك لهم إلى آخره وتأمل حكايتهم الإِجماع على أن ماء العيون في الجبال لا يجوز لأحد تحجرها الصريح في بقائها على إباحتها وإن بني عليها وحجر على أن ذلك البناء على تلك العيون لا يعلم أنه إسلامي بل يحتمل أنه جاهلي فلا يستدل بوجوده للملك ولا لعدمه ومما يدل لما ذكرته أولاً تصريحهم بأن الماء النابع في المباح كالمعدن الظاهر فلا يملك بالإِحياء ولا يثبت فيه الاختصاص بالتحجر ولا شك أن تلك المنابع في جبال مباحة فلا تملك بإحياء ولا يختص بها بتحجر وبهذا صح الحديث وقام عليه الإِجماع أما الحديث فهو أنه أقطع رجلاً ملح مأرب أي مدينة قريبة من صنعاء كانت بها بلقيس فقال رجل يا رسول الله إنه كالماء العد أي بكسر أوله لا انقطاع لمنبعه فقال فلا إذن فعلم أن الماء العد وهو الذي لا انقطاع لمنبعه لا يملك وتلك المنابع مع أفراد هذا الماء فلا يملك وأما الإِجماع فهو قولهم أجمعوا على منع إقطاع مشارع الماء أي التي منها منابعه وعبروا أيضاً بقولهم الإِجماع منعقد على منع إقطاع مشارع الماء فكذا المعدن الظاهر بجامع الحاجة العامة أ هـ .
وبعد هذا البيان لم يبق لمنازع فيما ذكرته حجة يتمسك بها فتأمل ذلك كله فإنه مهم أي مهم ثم رأيت البلقيني صرح بما ذكرته فإنه سئل عن عيون مر الظهران وأنه لا يعرف له منبع غالباً فأجاب فيها بجواب طويل مسطر في فتاويه ومن جملته وما ذكر في السؤال من أنه لا يعرف الأصل الذي ينبع منه غالباً جوابه أنه لا يصح بيع الماء في هذه الصورة لأنه غير مملوك أ هـ .
ففيه أوضح تصريح بما ذكرته من أن ماء العيون التي لا يعرف منبعها يكون باقياً على إباحته وإن وصل إلى تلك القناة وخرج منها كما يصرح به قوله قبل ذلك وأما الصورة الثانية وهي أن لا يكون محل النبع مملوكاً لأحد وإنما المملوك الموضع الذي يصل الماء إليه فإذا صدر بيع في هذه الصورة على الماء الكائن في الأرض فلا يصح لأنه غير(4/471)
مملوك لصاحب الأرض ولهذا إذا خرج من أرضه كان على إباحته وإذا باع القرار لم يدخل الماء الذي هو غير مملوك له وإنما يدخل في ذلك استحقاق الأرض فيه المسمى بالشرب أ هـ .
المقصود منه ورأيت السبكي قال في فتاويه ما حاصله لا أشك في نهر دمشق المسمى ببردى أنه غير مملوك لأنه قديم بأرضه والعين التي يجري الماء فيها إما مباحة وهو الظاهر وإما كانت مملوكة لكفار وانتقلت عنهم إلى مسلمين وأيا ما كان فليس ملكاً لأحد وبقية أنهارها الظاهر أنها أيضاً كذلك وأنها متقدمة ويحتمل حدوثها بعد الإِسلام وإذا كان كذلك فما كان بانخراق في موات فليس بمملوك وما كان بحفر بأن قصد به حافره الإِباحة فكذلك أو نفسه فملك له لكنا الآن لا نعلمه هو ولا وارثه فهو لعموم المسلمين وعلى التقدير الأول لا يجوز للإِمام تخصيص طائفة بجميعه ولا بيعه بخلاف الأملاك المنتقلة إلى بيت المال التي يبيع فيها ويعطي منها لأن هذه الأنهار نفعها عام دائم للمسلمين فلم يجز تفويتها عليهم بالتخصيص أو البيع بخلاف غيرها ومتى جهل الحال هل هو بانخراق أو حفر فهو لعموم المسلمين أيضاً وقولهم لو رأينا نهراً يسقى به أرضون ولم ندر أنه حفر أو انخرق حكمنا بأنه ملكهم محله إذا كانت أيديهم الخاصة عليه كسائر الأملاك أي بأن كانوا مستولين على منبعها وما بعده نظير ما مر عن الأذرعي أ هـ .
المقصود منه وهو صريح فيما قدمته فتأمله فإنه مهم قال والماء الذي يمر في تلك الأنهار مباح على كل تقدير أي لأن منبعها غير مملوك بل ولا معروف ثانيهما تحرير حكم ما إذا اجتمع في قضية أحكام متناقضة كما في صورة السؤال فإنها من الغويصات التي تحتاج إلى مزيد تتبع لكلام الأئمة واطلاع على فتاويهم ومؤلفاتهم في الأقضية وأحكام القضاة المتعارضة بالحكم بالموجب أو بغيره وسبب إشكالها أن الحكم بالشهادة على الخط لا يقول به الحنفي الحاكم بالوقف الذي أثبت حكمه بطريق الشهادة على الخط والحاكم إذا أثبت حكمه بطريق(4/472)
لا يقول بها كيف يعتد بذلك الإِثبات المناقض لمذهب المثبت حكمه وأيضاً الشافعي المتداعي عنده بضمان الماء لا يرى ما يثبت به الوقف ولا الوقف على النفس ولا وقف الماء وحده وإن حكم بملكه وصورة المسئلة المتداعى فيها إنما هي ماء مجرد ثبت وقفه وحينئذٍ فالشافعي هنا لا يمكنه الحكم بمذهب إمامه ولا بمذهب الحنفي لأن هذا الحكم لم يثبت عند الحنفي فكان القياس أن الحكم بالشهادة على الخط لا يعمل به إلا إن كان الحاكم بالوقف مالكياً لأنه يرى ثبوت حكمه هذا بتلك الطريق وإلزام العلم به فتنتفي وصمة التلفيق حينئذٍ بخلاف ما لو أثبت بالشهادة على الخط حكم حنفي أو شافعي فإن العمل بآثار هذا الحكم المثبت عمل بحكمين ملفقين متناقضين لا يقول بهما إمام واحد الحكم بالشهادة على الخط والحكم بالوقف على النفس ووقف الماء المستقل وكذلك حكم الشافعي بضمان الماء في صورة السؤال ملفق من ثلاثة أحكام متناقضة بل أربعة الحكم بالشهادة على الخط ولا يقول به الحنفي ولا الشافعي والحكم بالوقف على النفس ولا يقول به المالكي ولا الشافعي والحكم بوقف الماء المستقل ولا يقول به الشافعي ولا الحنفي والحكم بضمان الماء لا يقول به المالكي ولا الحنفي ثم رأيت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335
ابن العماد ذكر ما يؤيد ما ذكرته بل ما يصرح به فإنه قال كما حكيته عنه في كتابي في إجارة الأوقاف هنا.(4/473)
فائدة: ينبغي التنبه لها وهي أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين وصوروا ذلك بصوره منها أن يحكم حنبلي بأن الخلع ثلاث مرات فسخ فعنده يجوز إعادة المختلعة من غير محلل وعند الشافعي لا يجوز إلا بمحلل فلو أراد الشافعي بعد حكم الحنبلي بأن ذلك فسخ أن يزوجها بلا محلل لم يجز له ذلك لأن عقد الزواج حينئذٍ باطل عند الشافعي فكيف يتعاطاه فإذا تعاطاه نقض بخلاف ما لو تعاطاه حنبلي ومنها لو حكم مالكي بثبوت الوقف على النفس بالخط وحكم حنفي بصحته فهذا لا يعتد به لأنه باطل الآن باتفاق الحاكمين المالكي من حيث هو وقف على النفس والحنفي من حيث كونه لم يثبت إلا بالخط وهذا كله مقيس على ما لو توضأ ومسح بعض رأسه مقلداً للشافعي ثم صلى وبه نجاسة كلبية مقلداً لمالك فصلاته باطلة لأنه لم يصلها على مذهب مجتهد واحد بل ركب فيها قول مجتهد مع قول آخر فصار كل من الإِمامين قائلاً ببطلانها الشافعي من جهة النجاسة ومالك من جهة عدم مسح الرأس قال ابن العماد فكذلك القاضي لما لفق قول مجتهد مع مجتهد آخر نقض حكمه قال وكثير من القضاة يجب عزلهم ولا تحل توليتهم أ هـ .
كلامه وذكره في مواضع أخر بما لفظه مما ينبغي التنبيه عليه الحكم الملفق وهو باطل بإجماع المسلمين وصورته أن القاضي المالكي يرى الحكم بالشهادة على الخط فإذا أثبت الخط وحكم به واتصل بشافعي فالظاهر أنه ينقضه لأنه مخالف للسنّة الصحيحة وهي قوله على مثل هذا فاشهد أي على مثل الشمس والخط يحتمل التزوير وتجربة القلم فلا تجوز الشهادة عليه ولا الحكم به فلو أثبت الخط قاضٍ مالكي ولم يحكم وأنهاه إلى قاضٍ شافعي فحكم بالخط لم يجز له ذلك ولم ينفذ حكمه وإن حكم نقض حكمه لأن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يعتقد جواز ذلك وكثير من جهلة القضاة المنسوبين إلى الشافعية يفعلون ذلك ومثل هؤلاء القضاة يجب عزلهم ولا تحل توليتهم وكذلك الحنبلي إذا حكم بكون الخلع فسخاً ليس للقاضي الشافعي أن يزوج من غير(4/474)
محلل لأنه قضاء ملفق بل الطريق أن يزوج القاضي الحنبلي وكذلك إذا وقف على نفسه وأثبت المالكي الخط بمكتوب وقف قد مات شهوده واتصل بقاض محلل شافعي فنفذه وحكم بصحة الخط ليميز ذلك للقاضي الحنفي فهذا لا يجوز للشافعي تعاطيه لأنه حكم وقضاء ملفق وهو شبيه بما إذا توضأ وذكر المسئلة السابقة ثم قال وكذلك القاضي المحلل لو لفق قول مجتهد مع قول آخر وجب نقض حكمه أ هـ .
فعلى ما قرره لا مرية في أن الشافعي لا يحكم في صورة السؤال بضمان الماء ولا يسمع الدعوى به لكن رأيت في فتاوى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/475)
السيد السمهودي ما يعكر على ابن العماد ويصرح بأن علماء مصر على خلاف ما قاله وإنهم لا ينظرون لهذا التلفيق وكان وجه ذلك أن حكم الحاكم إذا طابق باطن الأمر فيه ظاهره ينفذ باطناً وظاهراً ويصير كالمجمع عليه ومن ثم قالوا لو حكم حنفي مثلاً لشافعي بما لا يراه الشافعي كشفعة الجوار بناءً على عدم نقض حكمه بها وهو الأصح جاز للشافعي الأخذ بها وإن لم يقلد أبا حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ لأنها صارت كالمجمع عليها وأما قول ابن الصلاح في حنفي حكم بصحة وقف على النفس يجوز للشافعي بيعه والتصرف فيه لأن حكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر فهو مبني كما صرح به الأئمة الزركشي وغيره على الضعيف بأن حكم الحاكم لا ينفذ باطناً كما يشهد لذلك تعليله وزعمه أعني ابن العماد أن حكم المالكي بالخط ينقض لمخالفته للسنة الصحيحة مبني على الضعيف إذ المعتمد في مثل ذلك كالحكم بشفعة الجوار والنكاح بلا ولي والبطلان في العرايا وغير ذلك مما صحت الأحاديث بخلافه عدم النقض وإن أطال جمع في خلافه لأن تأويل المخالف فيها له وجه ومن كان تأويله كذلك لا ينقض حكمه على أن حديث على مثل هذا فاشهد لا يرد على المخالف أصلاً لأنا اتفقنا نحن وهو على أنه تجوز الشهادة بغلبة الظن وعندهم أن الخط المعروف يفيد ذلك فأريد بمثلية الشمس ما يفيد الظن المؤكد أو العلم فلا يخالف مذهب المخالف الحديث وسيأتي في كلام السبكي آخر الكتاب ما يبين لك عدم النقض فيما حكم به المالكي من الشهادة على الخط وغيره فراجعه بل في فتاوى السبكي أبلغ صريح في الرد على ابن العماد وذلك أنه بين أن قاضي القضاة الشافعي يختص بأمور في زمنه وما قبله كالنظر في الأمور العامة وفي الأوقاف والأيتام وبيت المال ثم قال لو اعتقد حقية وصية ولا يمكنه أن يحكم بها في مذهبه كأن قامت قرائن بصحة مسطور على ميت فينبغي له أن يأذن لقاضِ مالكي ليثبته بالخط على مذهبه وكذا في الوقف على النفس يأذن الحنفي أو حنبلي في(4/476)
إثباته فتأمل قوله ينبغي للشافعي الإِذن في ذلك تجده أبلغ راد على ابن العماد وقد ذكر السبكي في فتاويه أنه نفذ كتاب وقف صلاح الدين بن أيوب للصلاحية التي بالقدس وذلك الكتاب لم يتصل للسبكي إلا بالشهادة على الخط لأن الحكم به ممن يراه تاريخ وقفه ثالث عشر رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وتاريخ تنفيذ السبكي شهر محرم سنة أربعين وسبعمائة فبينهما فوق مائة سنة واثنين وخمسين سنة وقبل السبكي تنافيذ جماعة أجلاء غالبهم لم يتصل به إلا بما وصل به للسبكي فهذا إطباق من هؤلاء الأئمة بتقرير الحكم بالشهادة بالخط وتنفيذه والعمل به واحتمال أن كلاً إنما نفذ تنفيذه من قبله الثابت بالشهادة عليه وهكذا إلى الواقف خلاف الظاهر وإن كان في عبارة السبكي ما قد يتلمح منه ذلك وفي الروضة وغيرها وجزم به مختصروها وغيرهم بل أطبق عليه المتأخرون أنه لو قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار حل له الأخذ به أي وإن لم يقلد أبا حنيفة لأن الحكم يصير المختلف فيه كالمجمع عليه فلم يتوقف الحل على تقليد إذ لو توقف عليه لقالوا حل له الأخذ به إن قلد إمام ذلك القاضي وأيضاً فالتقليد نفسه كافٍ في الحل فلا يحتاج معه إلى حكم فنتج أن التقليد يبيح وحده وحكم الحاكم المخالف يبيح وحده وإذا كان هذا في شفعة الجوار مع صحة الأحاديث فيها التي يعسر تأويلها ولذا قال كثيرون ينقضه فالحكم بالشهادة على الخط أولى بعدم النقض إن لم يكن مساوياً ومما يدل لما قررناه من الحل بالحكم وإن لم يقلد أنهم أطلقوا الحل هنا ولا تكلموا على حل الشهادة بها عند الحنفي وفصل
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/477)
الإسنوى ومن تبعه بين أن يشهد بالجوار فيحل أو باستحقاقها فلا يحل ذلك للشاهد إلا إن قلد أبا حنيفة هذا عن الحكم احتيج فيه إلى التقليد وقد صرحوا بأنه لو قال اثنان لقاض قد حكم بيننا فلان القاضي في كذا بكذا ونريد أن تحكم بيننا بمذهبك ونرضى بحكمك لم يجز له إجابتهما بل يمضي حكم ذلك القاضي حيث كان مما لا ينقض ولا يجوز له نقضه لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد فانظر إيجابهم عليه أن يمضي حكم غيره المخالف لمذهبه وأن يلزم به يظهر لك رد ما قاله ابن العماد لما مر أن الحكم في المختلف فيه يصيره كالمتفق عليه وإذا تقرر أن المحكوم به بعد الحكم يصير كالمتفق عليه فحكم المالكي بثبوت حكم الحنفي أو الشافعي بالشهادة على الخط يصير الخط حينئذٍ كبينة شهدت بذلك الحكم في وجوب العمل به لما تقرر أن الحكم بالشيء يصيره كالمتفق عليه فلا نظر حينئذٍ إلى كون المالكي يقول بالحكم الذي أثبته ولا إلى أن المخالف إذا رفع إليه حكم لا يقول به كيف ينفذه ويحكم به بمقتضى مذهبه ولا تلفيق حينئذٍ لأنه لم يفرع حكمه على حكم مخالف بل على حكم أعطى حكم المتفق عليه وبهذا الذي قررته اندفع قياس ابن العماد لما نحن فيه وذلك لأن مسئلة مسح الرأس التي ذكرها ليس فيها حكم بأحد الحكمين يصيره متفقاً عليه ففيها التلفيق المجمع على بطلانه وأما في مسئلتنا فالحكم الأول صار بحكم الحاكم به متفقاً عليه والحكم الثاني صار كذلك فانتفى التلفيق فإن قلت ما ذلك الذي أشرت إليه أولاً أنه يعكر على ابن العماد ويصرح بأن علماء مصر على خلاف ما قاله قلت قوله أعني السيد مسئلة وقعت بمصر فيمن وقف وقفاً على نفسه وذريته وشرط فيه أن له إدخال من شاء وإخراج من شاء وحكم به حنفي ثم أدخل الواقف زوجته ثم توفي فاستحكمت بنته مالكياً فحكم بانحصار الوقف فيها ومنع من يعارضها فسئل عن ذلك علماء مصر فأفتى غالبهم من الشافعية وغيرهم بصحة إدخال الزوجة نظر السبق حكم الحنفي وأفتى بعضهم بأن(4/478)
حكم الحنفي لم يتناول إدخال الزوجة لتجدده بعده بل هو مفتقر إلى حكم فما المعتمد من هذين الجوابين الجواب أن الجواب الأول هو المتبادر إلى الذهن لتضمن حكم الحنفي صحة اشتراط ما ذكر وأذنه للواقف فيما صدر عنه من الإِدخال لكن التحقيق هو الجواب الثاني واستدل له بما قاله أبو زرعة أن الحكم بالموجب لا يتناول من الآثار إلا ما دخل وقته وإدخال الزوجة لم يدخل وقته عند الحكم وإنما هو شيء تجدد بعد حكم الحنفي ونقل كلام أبي زرعة في ذلك برمته ومتنه ولنذكر مثالاً فيه وهو أن واقفاً جعل لنفسه التغيير والزيادة والنقص وحكم حنفي بموجبه ثم وقع من الواقف التغيير هل للشافعي المبادرة بعد التغيير إلى الحكم بإبطاله فيحتمل أنه كالمثال الأول وهو ما دخل وقته فيمتنع على الشافعي ذلك لأن حكم الحنفي بالموجب يتضمن الإِذن للواقف في التغيير فقد فعل ما هو مأذون له فيه من حاكم شرعي فليس لحاكم آخر منعه ولا الحكم بإبطاله لو وقع ويحتمل أن يكون كالمثال الثاني وهو ما لم يدخل وقته لأن التغيير إلى الآن لم يقع ولا يلزم من إذن الحنفي له في التغيير وقوعه فقد يغير وقد لا فلا يدخل تحت الحكم بالموجب أ هـ .
قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/479)
السيد فجعل أي أبو زرعة تخريج ذلك على المثال الثاني مجرد احتمال وكذا على الأول والأرجح عندي التخريج على الثاني أ هـ .
كلام السمهودي ووجه رد ما حكاه لما مر عن ابن العماد أن الحنفي حكم بموجب الوقف على النفس وشرط التغيير وكل من هذين لا يقول به المالكي ولا الشافعي ومع ذلك اختلفوا في حكم المالكي هل صادف محلاً أو لا مع مخالفته لمذهب الحاكم الحنفي فدل ذلك على أنهم متفقون على أن الحكم الأول صار كالمتفق عليه وإنما الخلاف في الحكم الذي بعده هل يسوغ وإن خالف مذهب الحنفي فقال الذين يرون أن الحكم بالموجب بعم الآثار التي دخل وقتها والتي لم يدخل وقتها هو سائغ وقال الذين يرون أن الحكم بالموجب مختص بما دخل وقته لا يسوغ فإعراضهم عن كون حكمه لا يرى به المالكي واختلافهم في أن الحكم الثاني يعارض الحكم الأول لكون الأول شمل ما حكم به أولاً يعارضه لكونه لم يشمله صريح أي صريح في رد كلام ابن العماد فتأمل ذلك فإنه مهم والاحتياج إليه عام لكثرة وقوعه وإطباق قضاة هذا العصر والذي قبله عليه وقد علمت مما قررته أنه لا تلفيق هنا وأن ابن العماد استروح في قياس هذا على مسئلة مسح الرأس وسيأتي عن السبكي آخر هذا الجواب أن تنفيذ الحاكم لحكم حاكم آخر تصحيح له وقطع للنزاع فيه وقال في فتاويه التنفيذ ليس حكماً مبتدأً وإنما هو بناءً على الحكم الأول فحكمه حكمه وهذا صريح في أن المخالف إذا نفذ حكم مخالفه صار صحيحاً عنده مقطوع النزاع بمعنى أنه يلزم بالعمل بمقتضاه من غير توقف فيه فلم ينظر السبكي هنا لتلفيق لما قررته أنه لا تلفيق مع النظر للحكم المصير للمحكوم به كأنه متفق عليه ومما يرد أيضاً على ابن العماد قول أبي زرعة في فتاويه سئلت عن قاض مالكي عمي ومذهبه بقاء ولاية الأعمى فهل تنفذ أحكامه حتى لا يجوز لأحد نقضها بل يجب تنفيذها كما لو قضى البصير بقضاء مختلف فيه بجامع أن كلام منهما قضى على وفق مذهبه فأجبت بأنه إذا كان مذهب(4/480)
المالكية أن القاضي لا ينعزل بالعمى فعرض لبعض قضاتهم عمي فإن عزله السلطان انعزل وإلا فهو باقٍ على ولايته على مقتضى عقيدته فإن كان السلطان أيضاً عقيدته ذلك فله الإِقدام على الأحكام وليس لأحد من أرباب المذاهب نقضها ولا الامتناع من تنفيذها كسائر الأحكام المختلف فيها التي لا تخالف نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً جلياً وهذه كذلك فلا يسوغ لمن يرى انعزال القاضي بالعمى الامتناع من تنفيذها ولا نقضها ولا يقال هذا غير قاض على عقيدة من رفع إليه حكمه فكيف ينفذه وإنما ينفذ أحكام القضاة لأنا نقول وكذلك الحكم المخالف في موضع الخلاف ليس حكم الله سبحانه وتعالى عند من رفع إليه ومع ذلك فلا ينقضه إذ لا قاطع على إبطاله وكذلك هذا لا قاطع على انعزاله فإن لم يكن السلطان على عقيدة ذلك القاضي فإن علم بعماه ولم يعزله نفذ وإن لم يعلم فالظاهر استمرار ولايته أيضاً إلى أن يعزله أ هـ .
وفيه فوائد وأبلغ رد الكلام ابن العماد فإن قلت في فتاوى السبكي نص
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/481)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على أن الحاكم إذا رفع إليه حكم لا يراه أنه يعرض عنه ولا ينفذه وذكر الأصحاب أن ينفذه وعليه العمل فما محمل كلام الشافعي قلت يحمل على حكم ينتقض فهذا إذا رفع لحاكم يجب عليه الإِعراض عنه إن لم يمكنه نقضه وإلا تعين عليه إبطاله ونقضه واختار السبكي في ذلك تفصيلاً حاصل المقصود منه أن ذلك الحكم إن كان مما استقر في مذهب معتبر ولم يكن مما ينقض نفذه لضرورة المحكوم له لئلا يبطل حقه وإن اعتقد خطأه لاجتهاد أو لشيء في خصوص تلك الواقعة اطلع عليه أعرض عنه لأن تنفيذه له حينئذٍ حكم بما لا يعتقده وهو لا يجوز قال وقولي أولاً نفذه أي جوازاً لنص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على أنه لا ينفذ فأقل درجاته الجواز ولأنه لا يعتقده وإنما جوزناه لتقارب المأخذ عنده وقولهم إنه بعد الحكم صار كالمجمع عليه معناه عدم نقضه لا اعتقاده أ هـ .
وتفصيله متجه إلا قوله بجوازه في الحلة الأولى فإنه بعيد لا سيما مع قوله نفسه أن تنفيذه للضرورة لئلا يضيع حق المحكوم له فإن هذا صريح في وجوبه وما علل به الجواز لا يفيده أما النص فلما علمت من محمله الذي قدمته وأما قوله لأنه لا يعتقده الخ. فيرد بأنه لا يلزم من وجوب تنفيذه عليه أنه يعتقد حقيقته بل أنه لا يعتقد بطلانه ولا شك أنا لا نعتقد بطلان أحكام المخالفين وإنما نقول بطلانها عند مقلدنا أرجح من صحتها ومثل هذا لا يمنع من وجوب العمل به لضرورة بقاء حق المحكوم له فتأمل ذلك فإنه مهم ثالثها تحرير المعتمد فيما قاله الولي أبو زرعة مما مر نقله عنه أن الحكم بالموجب لا يتناول من الآثار إلا ما دخل وقته اعلم أن قوله هذا قضية كلام السبكي وصريح كلام شيخه البلقيني خلافه وبيان ذلك أن السبكي قال وإذا حكم حاكم بموجب القرض وعقيدته أن المقترض يملكه بالقبض ملكاً تاماً بمنع رجوع المقترض في عينه امتنع على الشافعي الحكم بالرجوع في عينه بعد قبضها وإن حكم بصحته لم يمتنع على الشافعي(4/482)
ذلك لأن صحته لا تنافي الرجوع فيه وإن حكم حاكم بموجب الرهن أو الإِلزام بمقتضاه امتنع على المخالف الحكم بشيء من الآثار التي لا يقول بها ذلك الحاكم أو بصحته لم يمتنع على المخالف ذلك أ هـ .
فقضية إطلاقه الآثار في مسئلة الرهن أنه لا فرق بين ما دخل وقته وما لم يدخل وأن البلقيني قال لو حكم حنفي بموجب تدبير امتنع على الشافعي الحكم بالبيع أو حكم شافعي بموجب شراء دار لها جار امتنع على الحنفي الحكم بشفعة الجوار أو بموجب إجارة امتنع على الحنفي الحكم بإبطالها بموت أحد المتعاقدين لأن من موجبها الدوام والاستمرار للورثة أ هـ .
وهذا الذي ذكره آخراً صريح في أنه لا فرق بين ما حضر وقته وبين ما لم يحضر لكن اعترضه تلميذه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/483)
الولي أبو زرعة فقال ما ذكره شيخنا في هذه الصورة الثالثة ممنوع وفارقت الصورتين قبلها بأن الحكم فيهما بالموجب وقع بعد دخول وقت البيع والأخذ بالشفعة فنفذ لأنه منع من البيع والأخذ بالشفعة فامتنع الحكم بخلافهما كما لو وجه حكمه إليهما صريحاً إذ لا فرق بين الخاص والعام وأما الحكم بموجب الإِجارة قبل موت المستأجر فلا يمكن توجيهه إلى عدم الانفساخ لأنه لم يجىء وقته ولم يوجد سببه ولو وجه حكمه إليه فقال حكمت بعدم انفساخها إذا مات المستأجر كان لغواً نظير ما مر في الحكم بتعليق طلاق أجنبية إذ هما من وادٍ واحد أ هـ .
واعلم أن الصورتين الأولتين ذكرهما السبكي كما ذكرهما البلقيني والثالثة التي زادها البلقيني هي التي توجه عليها اعتراض تلميذه ويمكن أن يوجه ما قاله البلقيني فيها بأنا لا نسلم أن الحكم فيها توجه إلى عدم الانفساخ بالذات وإنما الذي توجه إليه بالذات هو بقاء العقد واستمراره إلى مضي مدة الإِجارة وجد موت أم لا وهذا قد دخل وقته فتناوله الحكم بالموجب وبه فارقت مسئلة تعليق طلاق أجنبية فإنه حال حكمه ثم بالموجب لم يكن هناك شيء حتى ينصب الحكم عليه فيستتبع منع التزويج وهنا الحكم بالموجب توجه إلى موجود حال الحكم وهو البقاء والاستمرار إلى انقضاء المدة فصح الحكم فيه ومن لازمه امتناع الحنفي من الحكم بالفسخ بالموت لأنه ينافي حكم الشافعي بالبقاء والاستمرار إلى انقضاء المدة وبهذا يزول ما اعترض به الولي على شيخه ومما يقوي ما قاله شيخه ويدفع ما اعترض به عليه أن القضاة من بعد الولي وإلى الآن كادوا يجمعون على ما قاله البلقيني في مسئلة الحكم بموجب الإِجارة تارة وبصحتها أخرى ومنه عدم انفساخها بالموت فإنك لا ترى مستند إجارة عن شافعي قديم أو جديد إلا وفيه التعرض للحكم بأحد الكيفيات الثلاثة ولم نعرف عن مخالف قط أنه أبطل هذا الحكم وإنما هو حكم محترم فيما بينهم يعملون به ويعولون عليه عند موت المتآجرين أو أحدهما(4/484)
فدل ذلك على أن القضاة والعلماء معتمدون الكلام البلقيني غير ناظرين لاعتراض تلميذه عليه في هذه المسئلة ومما يدل أيضاً لذلك ما تقدم في كلام السيد السمهودي أن غالب علماء مصر من الشافعية وغيرهم على أن الحنفي إذا حكم بموجب وقف على النفس شرط فيه الإِدخال والإِخراج فأدخل لواقف زوجته تناول هذا الإِدخال حكم الحنفي ولم يكن لمخالف إبطاله فتأمل جعلهم حكم الحنفي شاملاً للإِدخال مع كونه حادثاً متجدداً
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/485)
بعد الحكم تجد ذلك صريحاً في أنهم قائلون بتناول الحكم بالموجب للآثار التي دخل وقتها حال الحكم والتي لم يدخل وقتها حينئذٍ وتأمل أيضاً أن السيد السمهودي لما كان يعتمد تفصيل أبي زرعة خالف علماء مصر ورجح ما قاله بعضهم أن للمخالف أن يتعرض لذلك الإِدخال ويبطله لأنه لم يدخل وقته فلم يتناوله حكم الحنفي فنتج أن غالب علماء مصر الذين في زمن السيد وكثير منهم بل أكثرهم تلامذة أبي زرعة أو تلامذة تلامذته ومع ذلك لم يقولوا بما قاله من التفصيل وإنما قالوا بأن حكم الحنفي يتناول ذلك الأمر الحادث المتجدد وحتى لا يتعرض له مخالف والحاصل أن الذي يتجه اعتماده وبه يلتئم أطراف ما حكيناه عن البلقيني وغيره أن الحكم بالموجب يتناول ما دخل وقته وما لم يدخل وقته لكن بشرط أن يدخل وقت سببه كما في مسئلة الإِدخال فإن الحنفي الحاكم بالموجب تضمن حكمه الإِذن للواقف في الإِدخال فكان ذلك الإِدخال كأنه وجد لوجود سببه من إذن الحاكم له فيه أو وقت ما يشمل كما في مسئلة الإِجارة فإن الحكم فيها توجه إلى الدوام الشامل لمنع الانفساخ بالموت ففي هاتين الصورتين وما أشبههما يتناولها الحكم بالموجب كما يتناول ما دخل وقته بل بالغ بعض محققي مشايخنا وقال الموجب مفرد مضاف وهو للعموم فيتناول جميع الآثار التي دخل وقتها والتي لم يدخل وقتها وسيأتي في كلام السبكي التصريح به ومع ذلك في هذا العموم نظر لأن ما قاله أبو زرعة في مسئلة تعليق طلاق الأجنبية له وجه وحاصل كلامه فيها أن من علق طلاق أجنبية على تزويجه بها فحكم مالكي أو حنفي بموجب ذلك ثم تزوجها فبادر شافعي وحكم باستمرار العصمة وعدم وقوع الطلاق نفذ حكمه ولم يكن ذلك نقضاً للحكم الأول لأنه لم يتناول وقوع الطلاق لو تزوجها فإنه أمر لم يقع إلى الآن فكيف يحكم على ما لم يقع والحكم إنما يكون في متحقق فما هذا منه إلا فتوى وتسميته حكماً جهل أو تجوز يعني به أن هذا حكم الشرع عنده لا أنه بته وألزم(4/486)
به وكيف يلزم بما لم يقع ومما يوضح ذلك أنه لو لم يأتِ بصيغة عموم وهو الموجب بل حكم بهذه الجزئية الخاصة فقال حكمت بوقوع الطلاق أن تزوجها لم يصادف محلاً وعد سفهاً وجهلا وكيف يحكم الإِنسان بالشيء قبل وقوعه فيقول حكمت بصحة بيع هذا العبد لو وقع بشروطه وبصحة نكاح هذه المرأة لو وقع بشروطه بخلاف قول الحنفي في المدبر بعد تدبيره حكمت بمنع بيعه فإنه صحيح على مذهبه وقع في محله ووقته فنفذ فافهم ذلك فإنه مهم حسن ووقع بسبب عدم تدبره خبط في الأحكام وتوجيه الحنفي أو المالكي حكمه إلى وقوع الطلاق على التي يتزوج بها وحكمه بمنع التزوج بها أفسد منه فإن النكاح صحيح بلا توقف وإنما الكلام في وقوع الطلاق بعد صدور النكاح ولا يدري هل يقع بينهما نكاح أم لا فلا يمكن توجيه الحكم إلى منع النكاح كما وجه الحنفي حكمه إلى منع بيع المدبر ولا إلى وقوع الطلاق في عصمة لا يدري هل تقع في نفس الوجود أم لا فإن نفس الطلاق لم يقع قبل النكاح وإنما وقع تعليقه والتعليق غير موقع في الحال فكيف يحكم على شيء لم يوجد بشيء لم يقع هذا واضح لصاحب الألمعية الخالي عن العصبية ا هـ ولما ذكره في خصوص هذا المثال وجه كما مر ومع ذلك فإطلاقه إلغاء هذا الحكم غير صحيح بل يتعين في هذا المثال وأشباهه أن يرجع إلى معنى الحكم بالموجب عند الحاكم به فإن كان يقول في الحكم بالموجب لا بدّ من دخول وقت المحكوم به فالحق ما قاله الولي وإن كان مذهبه في الحكم بالموجب أنه لا يشترط فيه ذلك لم يصح ما قاله الولي من بطلان حكم المخالف في هذه المسئلة فالحق في هذه الصورة وأشباهها إناطة الحكم فيها بمذهب الحاكم فحيث كان الحكم بموجب التعليق قبل الملك صحيحاً في مذهبه لزم كل أحد تنفيذ حكمه ولم يسمع من مخالف أن يقول فيه من قبل رأيه بل ولا من قبل رأي مقلده بأنه فاسد ولا أنه خرج مخرج الإِفتاء لأن ذلك إنما نشأ من اجتهاده أو اجتهاد مقلده وهو ليس بحجة على المخالف وقد صرح(4/487)
الأئمة من سائر المذاهب بأن حكم الحاكم حيث وقع صحيحاً على مذهبه ولم يخالف نصاً صريحاً ولا إجماعاً ولا قياساً جلياً ولا القواعد الكلية ولا معتمد مذهبه حيث كان مقلداً اعتد بذلك الحكم ولم يجز لأحد نقضه ولا الطعن فيه وبهذا يزداد تعجبك مما وقع فيه الولي إن كان الحاكم يعتقد صحة ذلك الحكم وأنه حكم حقيقة لا إفتاء وكان أقل ما على الولي أن يبحث عن هذا الحكم من أهل مذهب الحاكم به فإن قالوا إنه حكم صحيح حقيقي أراح نفسه مما وقع فيه وإن قالوا إنه مجرد إفتاء نقل عنهم ذلك ولم يشنع بتلك الألفاظ التي كان من حقها أن لا تذكر وإذا اقتضى اجتهاد مقلدهم صحة ذلك التعليق وأنه يقع به الطلاق بعد التزوج مع مخالفته للحديث الصحيح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/488)
ولا طلاق إلا فيما تملك فكيف يسلم لهم هذا ويعترض حكمهم به بل كما يسلم لهم الأصل يسلم لهم الحكم به ومن الواضح المعلوم أن حكم الحاكم محمول على قواعد مذهبه دون مذهب غيره وإن ظهر دليله ولقد بلغني أن هذه المسئلة وقعت بمصر من قريب وأن المالكية احتجوا بما ذكرته أن هذا الحكم صحيح على قواعدنا فكيف يسوغ أن تطعنوا فيه وأن محققي الشافعية وافقوهم على أنه لا يجوز لأحد التعرض لحكم المالكي الموافق لقواعد مذهبه في هذه المسئلة كغيرها والحاصل أن حكم المخالف حيث وقع عنده صحيحاً شاملاً لما دخل وقته وما لم يدخل من الآثار لم يجز لمخالف التعرض لشيء من آثاره مطلقاً بنقضه ولا بالحكم بخلافه هذا إن علم مذهب الحاكم في ذلك وإلا فما دخل وقته أو سببه أو ما يشمله كان حكمه كالذي قبله في أنه لا يتعرض له وإن لم يدخل شيء من ذلك جاز التعرض له على الخلاف السابق فتأمل هذا التفصيل واحفظه فإنه المتعين في هذه المسائل الشاهدة به المدارك والدلائل ولا تركن إلى ما يخالفه مما مر إذ كيف يغفل عن النظر لمذهب الحاكم الأول إن عرف وعما ذكرته من التفصيل إن لم يعرف فالغفلة عن شيء من ذلك استرواح عجيب والله سبحانه وتعالى أعلم المرجو أن يقسم لنا من توفيقه أوفر نصيب فإن قلت قد استفتي أبو زرعة في وقف على النفس حكم به حنفي أسئلة متعددة فأفتى في كل بما يظهر له على قواعد مذهبه كما هو مسطور على طوله في فتاويه ولم يحل على مذهب أبي حنيفة الحاكم في ذلك الوقف وكذلك فعل شيخه البلقيني وكذلك فعل السبكي فأطبقوا على ذلك ولم يحيلوا على مذهب الحنفي الحاكم في ذلك الوقت بالموجب قلت إن ما أفتى به في تلك المسائل من موجبات الألفاظ التي لا تختلف فيها المذاهب كما أشار إليه في جواب آخر فليس هذا مما نحن فيه وهو مما تختلف فيه المذاهب فهذا يتعين فيه ما ذكرته من الرجوع لمذهب الحاكم بعد فتأمله في تفريعه أعني أبا زرعة على ما هو صحيح عند الحنفية فقط فقد جرى على(4/489)
ما هو المقرر في المذاهب أن الحكم المختلف فيه بعد الحكم يكون كالمتفق عليه ثم رأيت في كلام السبكي في القول الموعب في الحكم بالموجب ما يؤيد أن المراد بالموجب كل حكم ترتب على ذلك الحكم وإن لم يدخل وقته وملخص عبارته لا إبهام في الموجب لأنه مقتضى اللفظ وهو أمر معلوم واعلم أن مقتضى اللفظ ومدلوله وموجبه ألفاظ متقاربة فمدلوله ما يفهم منه ومقتضاه وموجبه ما يفهم منه وما يترتب عليه وإن لم
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/490)
يفهم منه كالبيع مدلوله نقل الملك بعوض ومقتضاه ذلك وما يترتب عليه من انتقال الملك وثبوت الخيار وحل الانتفاع وغيرها من الأحكام التي اقتضاها البيع وكذلك الوقف مدلوله إنشاء الواقف الوقف ومقتضاه وموجبه صيرورة ذلك وقفاً واستحقاق الموقوف عليه منافعه إلى غير ذلك من الأحكام الثابتة له وقول الزوج أنت طالق مدلوله إيقاع الفرقة ومقتضاه وموجبه وقوعها وحرمة الاستمتاع وغير ذلك من الأحكام ثم قال وما ذكره السائل من أن الموجب فيه إبهام مندفع بأن مدلول الموجب معلوم وبإضافته إلى ذلك العقد الخاص تعين وهو معلوم عند من يرى صحته ويشمل جميع ما يسمى موجباً له للعموم المستفاد من إضافة الموجب إلى الحكم ويصح الحكم بالأمر العام سواء استحضر الحاكم أفراده أم لا فليس هنا إبهام قادح ونظيره أن يقول حكمت بكل ما يوجبه هذا اللفظ وهو عالم بهذه الكلية إذ الشرط علم الحاكم بمقتضاها وإن لم يستحضر ذلك الوقت جزئياتها ولو قال مهما كان مقتضى هذا اللفظ حكمت به وهو عالم بمقتضاه صح وكان حكماً بذلك اللفظ وترتب أثره عليه أ هـ .
المقصود منه وهو صريح في أن الحكم بالموجب يتناول جميع آثار ذلك المحكوم به على العموم الشامل صريحاً لما دخل وقته وما لم يدخل وقته وحينئذٍ فالحق مع البلقيني لموافقته لكلام السبكي هذا لا مع أبي زرعة لمخالفته كلامه لكلام هذين الحبرين مع أن كلاً منهما أعلم بالمصطلحات ومقتضى الألفاظ وما يترتب عليها فاعلم ذلك فإنه مهم أي مهم رابعها تحرير مسئلة السؤال وهي أن الشافعي هل يسمع الدعوى بضمان الماء ويحكم به بعد حكم الحنفي بموجب وقفه أم لا فنقول هذه المسئلة هل هي مما دخل وقته أم لا والحق في ذلك سؤال الحنفية عن الحكم بموجب وقف الماء إذاً هل يتناول عدم ضمانه فإن قالوا يتناوله لم يجز للشافعي سماع الدعوى به ليحكم بضمانه لما تقرر أن حكم الحاكم الصحيح على مذهبه لا يجوز لمخالفه نقضه ولا التعرض لما يخالفه وإن قالوا لا يتناوله(4/491)
أو ذكروا أن المسئلة ليست منقولة عندهم رجعنا إلى مذهب الشافعي في ذلك وهو ما قدمناه وحينئذٍ فنقول هذه المسئلة يحتمل أنها مما دخل وقته عند حكم الحنفي بالموجب فتكون من حيز القسم المتفق على شمول الحكم بالموجب له وبيان ذلك أن حكم الحنفي بموجب الوقف متضمن للحكم باستحقاق الموقوف عليه لغلة الوقف وعدم استحقاقه لما ليس من غلته وحينئذٍ فحكمه بموجب وقف الماء يتضمن الحكم بعدم استحقاق الموقوف عليه لضمان الماء على من استولى عليه ولو تعدياً لأن هذا من أحكام الماء الذي حكم بموجب وقفه فهو من آثاره الحاضرة وقت الحكم فعليه ليس للشافعي الحكم في هذه المسئلة بضمان الماء لأنه يناقض حكم الحنفي المتضمن لعدم ضمانه وسيأتي في كلام السبكي ما يرجح هذا الاحتمال وهو قوله وموجب الوقف صيرورة ذلك وقفا واستحقاق الموقوف عليه منافعه إلى غير ذلك من الأحكام الثابتة له أ هـ .
وبيانه أن من الأحكام الثابتة له استحقاق الموقوف عليه بدل الماء الموقوف تارة وعدم بدله أخرى فالحكم بموجبه حكم بتلك الأحكام التي من جملتها استحقاق بدل الماء وعدمه ويحتمل أن هذه المسئلة ليست في شيء من هذا المبحث أصلاً لأن حكم الحنفي بموجب الوقف لا تعرض فيه لضمان الماء بنفي ولا إثبات لأن هذا ليس من تفاريع الوقف حتى يشمله الحكم بموجب الوقف وإنما هو من تفاريع الاستيلاء على حق الغير وحينئذٍ فحكم الشافعي بضمان الماء لا يناقض حكم الحنفي بموجب الوقف وقد أفتيت سابقاً فيمن وقف داراً على نفسه ثم أولاده وهكذا وحكم بموجب الوقف وصحته ولزومه حنفي فأجره ولده مائة سنة وحكم له بذلك شافعي فهل ينفذ حكم الشافعي أم لا لمخالفته لما يراه الحنفي أن الحكم بالموجب متضمن للحكم بجميع الآثار التي يراها الحاكم قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/492)
أبو زرعة مخالفاً لشيخه الإِمام البلقيني بشرط أن يدخل وقت الحكم بها إذا تقرر ذلك علم منه أن حكم الحنفي بموجب الوقف متضمن لحكمه بامتناع إجارته مدة لا يجيزها الحنفي لأن هذا أثر من آثار حكمه وقد دخل وقته أي فهو كمنع بيع المدبر السابق فصار كأنه وجه حكمه إليه وحينئذٍ فليس للشافعي الحكم بما يخالف ذلك لأن فيه نقضاً لحكم الحنفي انتهى. المقصود منه وهو مؤيد لما ذكرته هنا من الاحتمال الأول وهو أن حكم الحنفي بموجب وقف الماء متضمن للحكم بعدم ضمانه ومما يؤيد ذلك أيضاً جعل السيد السمهودي أن الشافعي إذا حكم بموجب إجارة كان من آثاره التي لم يدخل وقتها الحكم ببطلان وقف المنافع فتأمل جعله هذا من آثار الحكم فموجب تلك الإِجارة فعلم أن عدم ضمان الماء من آثار الحكم بوقف الماء إلا أن يفرق بأن وقف المنافع وقع على المنافع التي وقع عليها الحكم بالإِجارة فتواردا على محل واحد بخلافه في مسئلتنا و للسبكي رحمه الله تعالى كلام في الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب بعضه يشهد للأوّل وبعضه يشهد للثاني وحاصل عبارته أن للأوّل شروطاً ترجع للمتصرف والمتصرف فيه وكيفية التصرف فإذا ثبت حكم بصحة التصرف وبالموجب الذي هو نتيجة ذلك التصرف فإن فقد بعض تلك الشروط حكمنا بفساده وإن تردد فيها فما رجع للصيغة أو حال التصرف فواضح وما رجع للمتصرف فما كان من الشروط الوجودية كالملك اشترط ثبوته للحكم بصحته بخلاف الشروط العدمية ككونه لم يتعلق به حق الغير لم يشترط ثبوته واشترط ثبوت نحو الملك لأنه لا أصل له ولا ظاهر يدل عليه فإذا لم يثبت ملك ولا عدمه وثبت ما سواه لم يحكم فيه بالصحة ولكن التصرف صالح وسبب لترتب أثره عليه في المملوك ويكون على وجه مجمع عليه وقد يكون مختلفاً فيه فيحكم القاضي بموجب ذلك وله فوائد منها أن التصرف سبب مفيد للملك بشرطه حتى إذا كان مختلفاً في إفادته الملك كالوقف على النفس فحكم بموجبه من يرى صحته ارتفع الخلاف(4/493)
وأن الواقف يؤاخذ بذلك حتى لو أراد بيعه بعد لم يمكن وأن يأخذ كل ما هو في يده إذا أقر للواقف بالملك فإنه يؤاخذ بذلك كما يؤاخذ الواقف وذريته من بعده وأن يصرف الريع للموقوف عليه باعتراف ذي اليد ولا يتوقف ذلك على الحكم بصحة الوقف في نفس الأمر بل وقف الواقف لما في يده أو اعتراف ذي اليد له كافٍ فيه فالحكم بالموجب في الحقيقة حكم بالبينة وثبوت أثرها في حق من أقر له بالملك كالواقف ومن تلقى عنه بلا شرط وفي حق غيرهم يشترط ثبوت الملك فإن حكم البينة لازم لكل أحد وحكم الإِقرار قاصر على المقر ومن تلقى عنه فإذا ثبت بالبينة بعد ذلك الملك كان ذلك الحكم الأول لازماً لكل أحد وإن لم يثبت كان لازماً لذي اليد ومن اعترف له ولا نقول أن الحكم على كل أحد معلق على شرط بل الحكم متجر على كل وجه كلي يندرج فيه فأجاب يثبت الملك عليه إما بإقرار وإما ببينة ويزيد الحكم بالصحة على ذلك أنه حكم بوجود الشرط وانتفاء المانع وبصحة التصرف في نفسه مطلقاً ويلزم منه الحكم بثبوت أثره في حق كل أحد فالحكم بالموجب معناه الحكم بثبوت الأثر في حق كل من ثبت الملك عليه بإقرار أو بينة سواء كان الإِقرار والبينة موجودين أو متجددين بعد ذلك ويلزم منه الحكم بالصحة في حقهم لا مطلقاً والحكم بالصحة معناه الحكم بالمؤثرية التامة مطلقاً ويلزم منها ثبوت الأثر في حق كل أحد أن لا يأتي المحكوم عليه بدافع واحتمال الدافع لا ينافي الجزم بالحكم وإنما جاز الحكم بالموجب ولم يتوقف على ثبوت الملك لأنه يؤدي إلى أن من بيده ملك لو وقفه على الفقراء مثلاً وثبت مكن من بيعه وهو مخالف للقاعدة الشرعية أن المقر والمتصرف يؤاخذ بمقتضى إقراره وتصرفه فتعين الحكم عليه بموجب إقراره لذلك ولأنها إن كانت خرجت عن ملكه فقد خرجت عنه بالوقف وإلا فلا يقر على بيعه فهو منه باطل قطعاً وإنما جاز الحكم في المختلف فيه بصحة كونه سبباً حتى يرتفع الخلاف لأنه قد يقر بالوقف على نفسه(4/494)
مثلاً ويريد الرجوع عنه لكونه يراه والحاكم لا يراه فيحكم فيه الحاكم برأيه من صحة السببية وخروجه عن ملكه فإن قلت الموجب مجهول والحكم لا بدّ فيه من تعيين المحكوم به كله قلت الموجب مقتضى اللفظ وهو أمر معلوم ومقتضى اللفظ وموجبه ومدلوله ألفاظ متقاربة فمدلوله ما يفهم منه ومقتضاه وموجبه ما يفهم منه ويترتب عليه وإن لم يفهم منه كحل الانتفاع وثبوت الخيار على البائع وكذلك الوقف مدلوله إنشاء الواقف الوقف ومقتضاه وموجبه صيرورته ذلك وقفا واستحقاق الموقوف عليه منافعه وسائر الأحكام الثابتة له أ هـ .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/495)
المقصود من كلام السبكي فتأمله فإن فيه فوائد تنفع فيما نحن فيه لا سيما جعله من موجب الوقف استحقاق الموقوف عليه منافعه وسائر الأحكام الثابتة له فإن هذا ظاهر قوي في ترجيح الاحتمال الأول إن من موجب الوقف ملك الموقوف عليه لبدل الماء في مسئلتنا تارة وعدمه أخرى فاستحضر ذلك فإنه مهم خامسها يتعين على الشافعي إذا أريد الدعوى عنده بذلك الماء الذي هو من بعض عيون مر الظهران أن يكلفهم البينة بملك منبعه حتى يكون الماء مملوكاً ولا يكفي حكم الحنفي بموجب وقفه لأن الحكم بالموجب لا يستلزم الحكم بملك المحكوم له كما صرحوا به فإذا استوى ذلك سأل الحنفية فإن قالوا إن حكم الحنفي بموجب الوقف يمنع ضمان الماء لم تسمع الدعوى لئلا يكون مناقضاً لحكم الحنفي وإن قالوا لا يمنعه تسمع الدعوى وحكم وإن لم يعرف مذهبهم في ذلك فإن قلنا إن هذا من آثار حكم الحنفي لم تسمع الدعوى أيضاً وإلا سمعها هذا ما ظهر لي في هذه المسئلة وفوق كل ذي علم عليم وكتبه أحمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه وعن مشايخه ووالديه والمسلمين حامداً مصلياً مسلماً محتسباً محوقلاً ثم رأيت الإِمام السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى وأعلى درجته ذكر في كتابه القول الموعب ما يؤيد ما قدمته أن الحكم الأوّل لا ينقض بشيء من آثاره ولا مما اشتملت عليه بالمطابقة أو التضمن أو الاستلزام وذلك أنه ذكر أن امرأة أقرت أنها وقفت دارها الثابت ملكها وحيازتها لها على كذا وشرطت النظر لنفسها وأشهد حاكم شافعي على نفسه بموجب الإِقرار وثبوت ذلك عنده وبالحكم به فأراد مالكي إبطاله لشرطها النظر لنفسها واستمرار يدها ولكون الشافعي لم يحكم بالصحة وإن حكمه بالموجب لا يمنع النقض وأفتاه بذلك بعض الشافعية أخذاً من تصويب الرافعي أن قول الحاكم صح ورود هذا الكتاب عليّ فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه أنه ليس بحكم وقال بعض الحنفية لو اقتصر على الحكم بموجب الإِقرار جاز نقضه ولكن هنا زيادة(4/496)
تمنع النقض وهي قوله وبالحكم به أي بصحة الوقف ووافقه بعض المالكية أو قارب ثم صوب السبكي أنه لا يجوز نقضه اقتصر على الحكم بالموجب أم لا ورد جعل الضمير في به للواقف بأنه لا يحتمله وإنما الذي يحتمله أنه عائد على الإِقرار وهو الأظهر أو على موجب الإِقرار فهو تأكيد والحكم بموجب الإِقرار فقط أو على الثبوت فالمحكوم به موجب الإِقرار أو ثبوت الإِقرار ونسبة الحكم إلى الثبوت صحيحة بناءً على ما عليه الأكثرون أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى القاضي نقل شهادة لا حكم بقيام البينة فيحتاج إلى الحكم بها وبه يعلم أن لفظة الحكم قد لا يراد بها الإِلزام بالمدعى به وتستعمل في تثبيت الدعوى ثم صوّب
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/497)
السبكي أن الحكم بأحد الوجوه المذكورة لا يجوز نقضه بحال إذا لم يخالف نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً ولا قاعدة كلية وأطال في بيان ذلك ومنه حكاية جماعة من أئمة مذهبنا وغيرهم الإِجماع على أن كل حكم كذلك لا يجوز نقضه نعم قال ابن القاسم للحاكم نقض حكم نفسه إذا بان خطؤه بالاجتهاد وخالفه ابن الماجشون وهو المعروف عندنا ورد السبكي على من زعم أن الحكم بالصحة لا ينقض بخلاف الحكم بالموجب بأن ذلك لا مستند له في شيء من كتب العلم بل لا ينقض كل منهما وبين أن شرط الحكم بالصحة المطلقة أن يثبت عند الحكم وجود جميع شروطها وكذا عبر القضاة فيها وأما هي بالنسبة لمعين فيكفي إقراره في الحكم بصحته ليؤاخذ به فالحكم بموجب الإِقرار يستلزم الحكم بصحته وصحة المقر به في حق المقر فهنا ثلاثة أحكام حكم بالمطابقة وهو موجبه وحكمان بالاستلزام وهما الحكم بصحة الإِقرار وصحة المقر به في حق المقر وقول الهروي أن ما يحكم فيه بصحة الإِقرار لا يتضمن أن اسم الإِشارة في قوله ذلك إنما هو للإِقرار الثابت عنده لا الموت ولا الوقف وإذا صح أن الإِشارة للإِقرار تعين أن الضمير له فيكون الحكم بأمرين بالإِقرار وموجبه فلو صح حكم المالكي السابق لكان الصادر منه بالمطابقة الحكم ببطلان الوقف مطلقاً في حق كل أحد وبالتضمن الحكم ببطلانه في حق المقر وبالاستلزام الحكم ببطلان الإِقرار به فيكون في الثاني والثالث رافعاً لحكم الأول بالثاني والثالث لتواردهما عليهما وإن كان ما حكم به الثاني بالمطابقة غير ما حكم به الأول بالمطابقة وامتناع النقض في المحكوم به لم يفصلوا فيه بين المطابقة والاستلزام والجواز وإن أمكن أن يطرق الاستلزامي لا يمكن أن يتطرق التضمني بعدم اللزوم في حقه وممن صرح بأن الحكم قد يكون بالاستلزام القاضي حسين مناوي القرافي من المالكية هذا في الحكم بموجب الإِقرار أما الحكم بالإِقرار فيحتمل أنه كذلك إذ لا معنى للحكم بالإِقرار إلا الحكم(4/498)
بموجبه وكذلك كل تصرف ثبت عند القاضي من نحو بيع أو وقف إذا قال حكمت به معناه حكمت بموجبه ويحتمل أنه حكم بثبوته لكن هذا لا يتأتى هنا لأنه جمع بين الثبوت والحكم فتعين حمله على الحكم بالموجب لأنه المحقق دون الحكم بالصحة لأنها أخص ومر أن التخالف بينهما إنما هو من حيث الإِطلاق على كل أحد لا هنا فإنهما مستويان بالنسبة للمقر ثم بين السبكي بطلان ما مر من التعلق بكلام الرافعي بأن ضمير موجبه الواقع في كلامه يعود على الكتاب كما هو واضح وموجبه صدور ما تضمنه من إقرار كما في مسئلتنا أو تصرف وقوله وإلزام العمل به هو أنه ليس بزور فمفاد كلامه يثبت الحجة وقبولها لا الحكم لتوقفه على أمور أخر فلذا صوب الرافعي أنه ليس يحكم في مسئلته ومسئلتنا ليست مثلها للتصريح فيها بالحكم بالموجب وليس في عبارة الرافعي لفظة الحكم بل الإِلزام وهو وإن عدوه من ألفاظ الحكم لكن محله في الإِلزام بالمدعى به أما إلزام العمل بالموجب فلم يقع في كلامهم إلا هنا وقد يتوقف في مرادفته للحكم بالموجب والإِلزام بالموجب وفي مسئلتنا صرح الحاكم بلفظ الحكم فكيف يمكن أن يقال إنه ما حكم فإن ادعى أن الحاكم استعمل لفظ الحكم في غير ما وضع له كان قدحاً فيه وهو لا يقبل لأن الفرض في قاض متبصر بالحقائق عالم صالح للقضاء وقد اطرد عرف بلادنا بأن الحكم بالموجب حكم صحيح كافٍ على أن ينفذ هذا الحكم حاكم جيد كالحاكم الأول والتنفيذ إنما يكون في الحكم لا الثبوت فحمله على الثبوت فيه قدح للمنفذ أيضاً إذ لا يجوز للثاني أن يسمع البينة على الأول وهو معه في البلد على ما هو المشهور من مذهبه فسماعه للبينة وحكمه بها تصحيح للحكم وقطع للنزاع فيه على أنا لو سلمنا حمل ذلك الحكم على مجرد الثبوت وصحة سماع البينة فتنفيذه ينبغي أن يكون حكماً لأن التنفيذ من ألفاظ الحكم والثبوت الأصح عندنا أنه ليس بحكم فإذا نفذه حاكم آخر كان تنفيذه في محل الاجتهاد فلا يجوز نقضه ويصير(4/499)
تنفيذ الثاني لازماً والمشهور عند المالكية أن الثبوت حكم كما قاله
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335
القرافي وكذا عند الحنفية هذا كله في الحاكم الأول أما الحاكم الثاني إذا قال إنه ثبت عنده ما صدر من الأول وألزم بمقتضاه كان ذلك حكماً منه بلزوم ما ثبت عند الأول فهو حكم لا يتجه فيه خلاف ثم قال الموجب الأثر الذي يوجبه ذلك الأثر فهما شرعيان وقيل الثاني عقلي لكنه يستلزم الحكم الشرعي فموجب الإِقرار ثبوت المقر به للمقر له ليؤاخذ به وصحته كونه بحيث يترتب عليه ذلك فلا بدّ من ثبوت شروطه عنده بخلاف الموجب لأنه سبب للمؤاخذة فالحكم بالسببية فقط وتوقفها على وجود الشروط وانتفاء الموانع إنما يحتاج إليه إعمال السبب وإثبات المؤاخذة به فعلم أن موجب الإِنشاء أثره المسبب عنه وصحته كونه بحيث يترتب عليه ذلك ولها شروط في التصرف والمتصرف فيه وكيفية التصرف أ هـ .
ملخصاً وفيه فوائد لمن تأمله وأمعن النظر فيه والظاهر أن ما وقع للسبكي مما مر في الكلام على عبارة الرافعي سببه أن نسخته وألزمت العمل به وهي نسخ أخرى غير معتمدة كما يعلم من سوق عبارته وحاصلها أنه لو كتب على ظهر الكتاب الحكمي صح ورود هذا الكتاب عليّ فقبلته قبول مثله والتزمت العمل بموجبه لم يكن حكماً لاحتمال أن يكون المراد تصحيح الكتاب وهو إثبات الحجة انتهت وتبعه في الروضة فتعليلهما المذكور صريح في أن عبارتهما التزمت لا الزمت وحينئذٍ زال التعلق بكلام الرافعي السابق في أول كلام السبكي رحمه الله تعالى فتأمله والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 335(4/500)
باب الهبة
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص له دار ملكها لولده القاصر أو البالغ السفيه المشمول بحجره وقبل له ذلك من نفسه لنفسه وأذن له في تسلمها من نفسه لنفسه فتسلمها له وحازها له وهو ساكن هو وإياه فيها إلى حين وفاة الوالد فهل يملكها الولد بمقتضى ذلك ويرجع الولد على تركة والده بأجرة المثل مدة سكناه فيها إلى حين وفاته وهل يكون الحكم كذلك إذا ملكها لأجنبي وقبل منه وأذن له في تسلمها وحوزها ثم حازها وتسلمها لكن هو وإياه ساكنان إلى حين وفاة المتملك أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله إذا وهب داره لولده المشمول بحجره ومضى زمن يمكن فيه القبض وقصد القبض عنه أو أقبض من نفسه لنفسه ملك الولد الدار وله على الأب أجرة سكناه لها بعد القبض عنه ولا يعتد بقبض المحجور عليه حتى يأذن له والده فيه ولا بدّ في القبض من خلوها من أمتعة غير الموهوب له فمتى كانت مشغولة بأمتعة غيره لم يصح من الأب قبض ولا إقباض لها وكذا الموهوبة لأجنبي لا يصح منه قبضها وإن أذن له فيه الواهب حيث كانت مشغولة بأمتعة الواهب أو بأمتعة أجنبي آخر غير الموهوب له والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/1)
وسئل: عن قول القفال في فتاويه لو جهز ابنته بأمتعة لم تملكها إلا بلفظ مع القبض ويصدق بيمينه أنه لم يملكها لها إن ادعته أ هـ .
فإذا ماتت البنت وادعى الزوج أن له في الأمتعة الميراث وقال الأب بل هي لي لأني لم أهب ولم أعطِ بنتي الأمتعة إلا تجهيزاً فما يكون الحكم في ذلك وفي فتاوى القاضي حسين أنه لو نقل ابنته وجهزها إلى دار الزوج فإن قال هذا جهاز ابنتي فهو ملك لها وإن لم يقل فهو إعارة ويصدق بيمينه أ هـ .
فهل يصدق أيضاً بيمينه بعد موت البنت إذا طلب الزوج الميراث أم لا يصدق على ذلك أ هـ .
وقول الخوارزمي في الكافي أنه لو اشترى حلياً أو ديباحاً وزين به ولده الصغير يكون ملكاً له وحكاه القمولي عن القفال وقرره أ هـ .
فهل معناه أنه يكون ملكاً للأب أم يكون للولد ابسطوا لنا الجواب. فأجاب: بقوله ما أفتى به القفال صحيح وذلك لأن الهبة لا بدّ فيها من الإِيجاب والقبول والقبض بالإِقباض أو الإِذن فيه سواء في ذلك الهبة من الأب أو غيره على الأصح لكن الأب والجد يتوليان طرفي الإِيجاب والقبول والقبض والإِقباض بخلاف غيرهما فإذا وهب للصغير أو نحوه ولي غيرهما قبل له الحاكم وإنما صدق الأب بيمينه في أنه لم يملكه لها إذا ادعته لأن الأصل بقاء الجهاز على ملكه حتى يعلم ناقل له عن ملكه إلى ملكها فإذا لم يعلم حكم ببقاء ملكه وصدق في ذلك دونها وإذا صدق بالنسبة إليها لزم تصديقه بالنسبة إلى زوجها بالأولى فإذا ماتت وادعى الزوج أن له في تلك الأمتعة الربع أو النصف وأنكر الأب كونها ملكاً لها صدق بيمينه ولم يثبت للزوج حق في تلك الأمتعة إن وافق الأب على أنها كانت له وادعى أنه وهبها لبنته وكذا إذا أقام الأب بينة على أنها له قبل أن يجهز بها بنته أما إذا أنكر الزوج كونها ملكاً للأب قبل التجهيز ولا بينة للأب صدق الزوج بيمينه فإذا حلف كانت تركة عنها وورثها عنها الزوج وغيره ثم ما أفتى به القفال لا ينافيه ما ذكر في السؤال عن القاضي(5/2)
بل هو موافق له لأن القاضي لم يجعل نقله الجهاز معها إلى دار الزوج مقتضياً لملكها وإنما جعل المقتضى لذلك إقراره بقوله هذا جهاز بنتي فتملكه حينئذٍ بذلك لأنه إقرار لها بالملك وأما مجرد نقله الأمتعة إلى بيت زوجها بنفسه أو بوكيله فلا عبرة به بل هو باقٍ على ملكه فإذا ادعته هي أو زوجها بعد موتها وادعى الأب أنه باقٍ على ملكه ولم يثبت قوله هذا جهازها أو ملكها أو لها صدق بيمينه كما في كلام القفال فما قاله القاضي موافق لما قاله القفال أما ما ذكره السائل عن الكافي فصاحب الكافي لم يقله من عند نفسه وإنما نقله عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/3)
القفال وعبارته عنه لو اشترى حلياً أو ديباجاً لزوجته وزينها به لا يصير ملكاً لها وفي الولد الصغير يكون تمليكاً له انتهت وبما تقرر عن القفال يعلم رد نقل هذا عنه فإن صح عنه فهو إما اختيار له خارج عن المذهب وإما مرجوع عنه وذلك لأن الذي صح عنه ما سبق وهو صريح في أنه لا يكتفي بالفعل بل لا بدّ من اللفظ في هبة الوالد وغيره ومما يضعفه قول الشيخين في الروضة وأصلها لو غرس شجراً وقال عند غرسه أغرسه لطفلي لم يملكه الطفل بذلك فإن قال جعلته له واكتفينا بأحد الشقين من الوالد أي وهو القول الضعيف ملكه لأن هبته له على هذا القول لا تقتضي قبولاً وإن لم يكتفِ بأحد الشقين من الوالد وهو الأصح لم يصر ملكه بذلك هذا حاصل عبارتهما وهو صريح في رد كلام القفال هذا الأخير وأن مجرد تزيين الأب لولده الصغير لا يقتضي تمليكه باتفاق الأصح ومقابله المذكورين ومن ثم ضعف كلام القفال هذا جماعة من المتأخرين منهم السبكي و الأذرعي و الأزرقي اليمني وغيرهم. وسكوت آخرين عليه إنما هو للعلم بضعفه مما قدموه قبله فلا حجة فيه خلافاً لما يوهمه كلام السائل ومما تقرر من عبارة القفال التي نقلها عنه في الكافي يعلم رد قول السائل فهل معناه أنه يكون ملكاً للأب أو يكون للولد ووجه رده أن عبارة الكافي المذكورة صريحة واضحة في أن مراده أنه يصير ملكاً للولد لكن قد تقرر أنه ضعيف بل شاذ لا يعول عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/4)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يحل للرجل أن يهب بعض أولاده عيناً دون الآخرين. فأجاب: بقوله يكره للأب والجد وإن علا كراهة تنزيه لا تحريم خلافاً لابن حبان من أصحابنا وإن أطال في الاستدلال له في صحيحه أن يهب لأحد من أولاده وإن سفلوا أكثر مما يهب لغيره سواء في ذلك الذكر والأنثى والقريب والبعيد كالابن وابن الابن أو ابن البنت كما شمله إطلاقهم وإن قال الأذرعي لم أرَ فيه شيئاً والمتبادر عدم الكراهة أ هـ .
وذلك للنهي عن ذلك في خبر الصحيحين ولأنه يفضي إلى العقوق وبحث ابن الرفعة أن محل كراهة ذلك إن استوت حاجاتهم بخلاف ما إذا اختلفت لانتفاء المحذور السابق حينئذٍ قاله ابن الرفعة وغيره وإذا ارتكب التفضيل المكروه فالأولى أن يعطى الآخرين ما يحصل به العدل فإن لم يفعل سن له على ما حكاه في البحر أن يرجع أي في الكل عند التخصيص وفي الزائد فقط عند التفضيل قاله الأذرعي ولا كراهة في التخصيص ولا يستحب الرجوع حيث رضي المحروم بذلك لدينه أو لغناه أو علم منه ذلك بصريح قوله وثقته به أو أذن ابتداء في الهبة لأخيه دونه أو التمس هو له ذلك أما الرجوع عند العدل بينهم في هبة الجميع أو في هبة بعضهم فمكروه إلا إن احتاج إليه لدين أو نفقة عيال قاله الأذرعي وإلا لمصلحة كان يكونوا عققة أو يستعينوا بما أعطاه لهم في معصية وأصروا عليها بعد إنذاره لهم بالرجوع فلا يكره كذا ذكره الشيخان وقال الإسنوى بل القياس استحباب الرجوع في الثانية إن لم يكن واجباً وبحث في العاق أن الرجوع إن زاده عقوقاً كره أو أزال عقوقه استحب وإن لم يفد شيئاً فيهما أبيح قال ويحتمل استحباب عدمه وقوله إن لم يكن واجباً وافقه فيه الأذرعي فقال الذي يظهر أنه إذا علم أنه يستعين به في معصية وتعين الرجوع طريقاً في كفه أو انكفافه عنها أنه يجب الرجوع حينئذٍ فتأمله تجده حقاً إن شاء الله سبحانه وتعالى أ هـ .
وبحث أيضاً تحريم الهبة لمن يعلم منه أنه يصرف ذلك في المعاصي(5/5)
لما فيه من الإِعانة عليها ويسن للولد العدل في هبته لوالديه فإن أراد تفضيل أحدهما فالأم أولى قاله الزركشي وقضية كلامهم أن نحو الأخوة لا يجري فيهم هذا الحكم قال ابن الرفعة ويحتمل طرده للإِيحاش وقد يفرق بأن المحذور في الأولاد عدم البر وهو واجب قال ولا شك أن التسوية بينهم مطلوبة لكن دون طلبها في الأولاد والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن قول الإِمام الغزالي في الأحياء لو طلب من إنسان أن يهبه مالاً في ملأ من الناس فاستحيى منهم أن لا يعطيه وكان يود أن يكون في خلوة فلا يعطيه فوهب له لم يحل له ذلك كالمصادر وكذا كل من وهب له اتقاء شره أو شر سعايته اهـ. وإذا كان شخص في بلادنا ببجيلة حضر بعض أسواقهم وجلس في ناحية من السوق واجتمع عليه خلق كثير وقال لهم اطلب من فضل الله سبحانه وتعالى ثم من كل رجل منكم يعطيني محلقاً مثلاً ثم قال له والفقير منكم والمحجور عليه لا أطلب منه شيئاً فأجابوه وسلموا إليه ذلك بانشراح صدر وبشاشة وجه فيما يظهر من غير إلحاح من السائل ولا تذلل ولا إظهار فاقة ولا إيذاء لمسؤول فهل يكون كمسئلة الغزالي المذكورة أم لا لما ذكرناه قريباً ولكونه لم يقصد واحداً منهم بعينه ولكون السائل يتحقق ويتيقن أنه لو طلب من كل واحد منهم في خلوة لأَعطاه ذلك القدر وأكثر منه. فأجاب: بقوله الجواب عن هذه المسئلة حاصله أن المدار في ذلك على القرائن المحتفة بالأخذ أو بالسؤال أو بالإِعطاء والموفق لا يخفى عليه تلك المخايل والقرائن فمتى ظهر له من حال المعطي قرائن تدل على أن الحامل له على إعطائه له ما سأله فيه بل وما لم يسأله مجرد الحياء امتنع عليه أخذ ذلك لأن نفس مالكه لم تسمح به عن طيب نفس وانشراح وإنما الحامل له عليه خوفه من ألسنة الناس ومن ثم ألحق الغزالي بذلك هدية القادم إذا علم أو ظن من حاله أن الحامل له على(5/6)
تفرقتها على أصدقائه وجيرانه خوف ألسنتهم ومذمتهم فهذا ممنوع من قبوله أيضاً لأن مالكه لم يسمح به كما مر وأما إذ دلت القرائن على طيب نفسه بذلك بأن ظهر عليه إمارة الرضا بذلك وظن من حاله أنه لو كان بمحل خلوة وسئل أعطي جاز قبول ما أعطاه وكلام الغزالي رحمه الله تعالى قاض بهذا التفصيل الذي ذكرته والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص ملك شخصاً عقاراً نحو أرض وقبل منه في المجلس وأذن المالك في تسليمه بالكلية واعترف المملك له بالتسليم والحوز قبل التمليك فهل يكفي اعترافه بذلك والحال أن المال في بلدة غير بلدة التمليك وهل له التصرف فيه بمقتضى ذلك أو لا بدّ من التسليم والحوز بعد التمليك والإِذن وبعد مضي زمن يصل إليه وهل يشترط وصوله إليه بنفسه أو بوكيله أو يكفي مضي زمن يصل إليه وإن لم يصل إليه بنفسه أو بوكيله وهل يكون حكم البيع والرهن في التسليم كذلك كما ذكر وإذا رجع المملك قبل مضي الزمن الذي يصل إليه وقبل الحوز هل يصح رجوعه ويملكه مالكه الأول ويتصرف فيه ولا اعتبار بما وقع بينهما من الإِيجاب والقبول أم لا وما صورة الحوز إذا كان أرضاً بيضاء أو داراً أو نخلاً مثلاً هل يكفي الوقوف عليه بنفسه أو بوكيله أو لا بدّ من التصرف في الأرض بالحرث والزرع والدار بالسكنى والإِسكان والنخل بالتصرف وما قولكم رضي الله تعالى عنكم أيضاً إذا ملكه وأخلى له ذلك ثم إن المملك أباحه للمالك الأول مدة قبل التسليم والحوز فهل تصح هذه الإِباحة قبل التسليم أو لا بدّ من التسليم والحوز ثم الإِباحة أوضحوا لنا ذلك. فأجاب: بقوله إذا وهب الإِنسان أو رهن أو بيع له ما تحت يده لم يحصل القبض إلا بإذن نحو الواهب ومضى زمن بعد الإِذن يمكن فيه السير إلى ذلك والتخلية من متاع غيره في غير المنقول والنقل في المنقول فعلم أنه لا يجوز للمتهب التصرف في الموهوب له(5/7)
الغائب عن بلده إلا بعد الإِذن ومضى تلك المدة ومجرد اعترافه المذكور في السؤال لا عبرة به وللواهب الرجوع قبل الإِذن وكذا بعده وقبل مضي تلك المدة وأنه لا يشترط وصول المتهب إليه بنفسه ولا بوكيله وأن القبض في نحو الأرض والدار والنخل بالتخلية والتفريغ من أمتعة غير المتهب وإن لم يتصرف فيه وأنه لا تصح إباحة المتهب ما وهب له للواهب قبل قبضه حساً في الحاضر وتقديراً في الغائب كما ذكر ولا ينافي ذلك قولهم لو ملك شيئاً ولم يقبضه فأباحه صح لأن هذا فيما ملك بنحو بيع فكانت الإِباحة فيه متضمنة للقبض وأما الهبة قبل القبض فإنها لا تقتضي الملك أصلاً فلم يمكن القول بصحة الإِباحة لأنها إنما تكون في مملوك ونحوه ولا ملك هنا ولا استحقاق قبل القبض بوجه وقبض الحصة الشائعة في نحو الهبة بقبض الجميع ولا يشترط إذن الشريك في غير المنقول والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن ملك شخصاً حصة مشاعة من دور مشتركة مستأجرة مدة طويلة وهي مشغولة بأمتعة المستأجرين وأذن لها في تسلمها فهل تصح الهبة ويتوقف القبض على إذن الشريك فإن امتنع أجبره عليه الحاكم. فأجاب: بقوله التمليك المذكور صحيح ويصح قبضه إذا خليت الدور المذكورة من أمتعة غير المتهب ولا يتوقف ذلك على إذن الشريك نعم إن امتنع ذوو الأمتعة من نقلها أمر القاضي من ينقلها حتى يصح القبض وأجرة ذلك على المتهب هذا هو قياس كلامهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 362(5/8)
وسئل ـ نفع الله سبحانه وتعالى به ـ عمن سلم لزوجته حلياً قبل وطئها ثم اختلفا فادعت ملكه وادعى بقاءه على ملكه وما يرسل به أبو الزوجة يوم ثامن التزويج إلى بيت بنته من مطعوم وملبوس وحيوان يبقى ويتوالد هل تملكه البنت أو زوجها وما حكم النقوط. فأجاب: بقوله العبرة في ذلك بنية الدافع فإن نوى في الأول أنه دفعه لها عما لها عليه سقط مما لها عليه من جنسه بقدره فإن كان من غير جنسه رجع عليها به وطالبته بما لها عليه إذ لا بدّ حينئذٍ من شروط الاستبدال ولم توجد فإن نوى القرض ملكته ملك قرض ورجع عليها ببدله أو الهدية أو الهبة ملكته بشرط الإِقباض أو الإِذن فيه وكذا حكم ما يرسل به أبوها لبيتها فإن نواها أو الزوج عمل به وإلا رجع إليه والنقوط أفتى الأزرقي والنجم البالسي بأنه قرض فيرجع به دافعه وخالفهما البلقيني والعادة الغالبة قاضية بأن أحداً لا يعطي شيئاً منه إلا بقصد أن يدفع إليه مثله إذا عمل نظير ذلك الفرح وقاعدة أن العادة محكمة تؤيد الأول والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/9)