بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / فتاوى ابن حجر الهيثمي
عدد الأجزاء / أربعة أجزاء
دار النشر / دار الفكر ـ بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصوم
وسئل رضي الله عنه قال في طهارة القلوب لعلام الغيوب شهر رجب شهر الحرث فاتجروا رحمكم الله في رجب فإنه موسم التجارة وأعمروا أوقاتكم فيه فهو أوان العمارة روي أنه من صام من رجب سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم ومن صام منه عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإن في الجنة قصراً الدنيا فيه كمفحص القطاة لا يدخله إلا صوّام رجب. وقال وهب بن منبه: جميع أنهار الجنة تزور زمزم في رجب تعظيماً لهذا الشهر، قال: وقرأت في بعض كتب الله تعالى من استغفر الله تعالى في رجب بالغداة والعشي يرفع يديه ويقول: اللهم اغفر لي وارحمني وتب عليّ سبعين مرة لم تمس النار جلده أبداً. ثم قال بعد ذلك بأوراق كثيرة. وفي الحديث: «من فاته ورده فصلاه قبل الظهر فكأنما صلاه في وقته» اهـ، وقد ورد علينا جوابكم الشريف في هذه المسألة وهو جواب شاف، وقد حصل به النفع لي ولمن سمعه لكن الفقيه الذي ذكرت لكم في السؤال ينهى الناس عن صومه ويقول أحاديث صوم رجب موضوعة وقد قال النووي الحديث الموضوع لا يعمل به، وقد اتفق الحفاظ على أنه موضوع اهـ، فالمسؤول منكم زجر هذا الناهي حتى يترك النهي ويفتي بالحق واذكروا لنا ما يحضركم من كلام الأئمة أثابكم الله الجنة؟. فأجاب رضي الله عنه بأني قدمت لكم في ذلك ما فيه كفاية، وأما استمرار هذا الفقيه على نهي الناس عن صوم رجب فهو جهل منه وجزاف على هذه الشريعة المطهرة فإن لم يرجع عن ذلك وإلا وجب على حكام الشريعة المطهرة زجره وتعزيره التعزير البليغ المانع له ولأمثاله من المجازفة في دين الله تعالى وكأن هذا الجاهل يغتر بما روي من أن جهنم تسعر من الحول إلى الحول لصوّام رجب وما درى هذا الجاهل المغرور أن هذا حديث باطل كذب لا تحل روايته كما ذكره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وناهيك به حفظاً للسنة وجلالة في العلوم ويوافقه إفتاء العز بن عبد السلام فإنه سئل عما نقل عن بعض المحدثين من منع صوم رجب وتعظيم حرمته(1/1)
وهل يصح نذر صوم جميعه فقال في جوابه نذر صومه صحيح لازم يتقرب إلى الله تعالى بمثله والذي نهى عن صومه جاهل بمأخذ أحكام الشرع وكيف يكون منهياً عنه مع أن العلماء الذين دوّنوا الشريعة لم يذكر أحد منهم اندراجه فيما يكره صومه بل يكون صومه قربة إلى الله تعالى لما جاء في الأحاديث الصحيحة من الترغيب في الصوم مثل قوله :
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
«يقول الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم» ، وقوله : «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» ، وقوله: «إن أفضل الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» . وكان داود يصوم من غير تقييد بما عدا رجب من الشهور ومن عظم رجب بجهة غير ما كانت الجاهلية يعظمونه به فليس مقتدياً بهم وليس كل ما فعلوه منهياً عن فعله إلا إذا نهت الشريعة عنه أو دلت القواعد على تركه ولا يترك الحق لكون أهل الباطل فعلوه والذي ينهى عن صومه جاهل معروف بالجهل ولا يحل لمسلم أن يقلده في دينه إذ لا يجوز التقليد إلا لمن اشتهر بالمعرفة بأحكام الله تعالى وبمآخذها والذي يضاف إليه ذلك بعيد عن معرفة دين الله تعالى فلا يقلد فيه ومن قلده غر بدينه اهـ، جوابه فتأمل كلام هذا الإمام تجده مطابقاً لهذا الجاهل الذي ينهى أهل ناحيتكم عن صوم رجب ومنطبقاً عليه على أن هذا أحقر من أن يذكر فلا يقصد بمثل كلام ابن عبد السلام لأنه إنما عنى بذلك بعض المنسوبين إلى العلم ممن زل قلمه وطغى فهمه فقصد هو وابن الصلاح الرد عليه وأشار إلى أنه يكفي في فضل صوم رجب ما ورد من الأحاديث الدالة على فضل مطلق الصوم وخصوصه في الأشهر الحرم، أي كحديث أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن الباهلي أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أنا الرجل الذي أتيتك عام الأوّل، قال: «فما لي أرى جسمك ناحلاً»؟ قال: يا رسول الله ما أكلت طعاماً بالنهار ما أكلته إلا بالليل، قال: «من أمرك أن تعذب نفسك»؟ قلت: يا رسول(1/2)
الله إني أقوى، قال: «صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم الأشهر الحرم» . وفي رواية: «صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر»، قال: زدني فإن لي قوّة، قال: «صم يومين»، قال: «زدني فإن لي قوّة»، قال: «صم ثلاثة أيام بعده وصم من الحرم واترك صم من الحزم واترك» وقال بأصبعه الثلاث يضمها ثم يرسلها. قال العلماء: وإنما أمره بالترك لأنه كان يشق عليه إكثار الصوم كما ذكره في أوّل الحديث فأما من لا يشق عليه فصوم جميعها فضيلة فتأمل أمره بصوم الأشهر الحرم في الرواية الأولى وبالصوم منها في الرواية الثانية تجده نصاً في الأمر يصوم رجب أو بالصوم منه لأنه من الأشهر الحرم بل هو من أفضلها فقول هذا الجاهل أن أحاديث صوم رجب موضوعة إن أراد به ما يشمل الأحاديث الدالة على صومه عموماً وخصوصاً فكذب منه وبهتان فليتب عن ذلك وإلا عزر عليه التعزير البليغ. نعم روي في فضل صومه أحاديث كثيرة موضوعة وأئمتنا وغيرهم لم يعوّلوا في ندب صومه عليها حاشاهم من ذلك وإنما عوّلوا على ما قدمته وغيره ومنه ما رواه البيهقي في الشعب عن أنس يرفعه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/3)
أن في الجنة نهراً يقال له رجب أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من صام من رجب يوماً سقاه الله من ذلك النهر . وروي عن عبد الله بن سعيد عن أبيه يرفعه: من صام يوماً من رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، ومن صام خمسة عشر يوماً نادى مناد من السماء قد غفر لك ما سلف فاستأنف العمل وقد بدلت سيئاتك حسنات ومن زاد زاده الله» . ثم نقل عن شيخه الحاكم أن الحديث الأوّل موقوف على أبي قلابة وهو من التابعين فمثله لا يقول إلا عن بلاغ عمن قوله مما يأتيه الوحي. ثم روي عن أبي هريرة أن النبي لم يصم بعد رمضان إلا رجب وشعبان ثم قال إسناده ضعيف اهـ، وقد تقرر أن الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والموقوف يعمل بها في فضائل الأعمال إجماعاً ولا شك أن صوم رجب من فضائل الأعمال فيكتفي فيه بالأحاديث الضعيفة ونحوها ولا ينكر ذلك إلا جاهل مغرور. وروى الأزدي في الضعفاء من حديث السنن: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له عبادة سبعمائة عام ، وللحليمي في صوم رجب كلام محتمل فلا تغتر به فإن الأصحاب على خلاف ما قد يوهمه كلامه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
شهادة بعضهم لبعض برؤية هلال رمضان
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/4)
وسئل نفع الله به عن مسألة سئل عنها بعض المفتين من أكابر المتأخرين عن أهل بجيلة يشهد بعضهم لبعض برؤية هلال رمضان، فمنهم من يصوم بتلك الشهادة، ومنهم من يصوم بالاستفاضة فقط، ومنهم من لا يصوم حتى يرى الهلال بنفسه، أو يستكمل شعبان ثلاثين يوماً فما يكون الحكم فيهم حيث لم يكن في البلد قاض. نعم إذا رؤي الهلال بمكة المشرفة ولم ير بأرض بجيلة فما يكون الحكم في ذلك؟ فأجاب ذلك المفتي: بأن الذين يصومون بتلك الشهادة لا يصح صومهم لقول الأئمة رضي الله عنهم، يشترط في الشهادة برؤية هلال رمضان أن تكون عند القاضي، لأن الصحيح المنصوص عليه المعتمد في المذهب أنه شهادة فلا تثبت في حق عموم الناس ما لم تتصل بالحاكم. قال الشيخ الإمام جلال الدين المحلي في شرح المنهاج: ولا بد في الوجوب على من لم يره من ثبوت رؤيته عند القاضي اهـ. قال الإمام شهاب الدين الأذرعي: وتعتبر العدالة الباطنة بالاستزكاء اهـ. قال الشافعي و مالك رضي الله عنهما: ولا يكتفي القاضي بالعدالة الظاهرة حتى يعرف العدالة الباطنة. وفي الروضة وغيرها: أن القاضي يعسر عليها معرفتها. قال الإمام ابن الرفعة وغيره: والقاضي لا يشق عليه البحث عنها. قال الإمام زين الدين أبو الحسين المدني والبحث عن حال الشهود حق لله تعالى. قال الشيخان : وإذا لم يعرف القاضي من الشهود عدالة ولا فسقاً لا يجوز له قبول شهادتهم إلا بعد الاستزكاء والتعديل، بل قال الأذرعي سواء في ذلك الشهادة بالمال وغيره لأن تزكية الشهود إلى الحاكم دون غيره. نعم إطلاقهم يشمل القرى والبوادي التي ليس فيها قاض، وإطلاق الأئمة إذا شمل بعض الأحكام ولم يصرحوا به وخالف بعض الأئمة فصرح بخلاف ما شمله إطلاقهم فالصحيح المعتمد ما شمله إطلاقهم كما في مواضع من شرح المهذب والمهمات، وأفتى بذلك الجلال البلقيني والولي العراقي، ولهذا قال بعض المفتين من المتأخرين لا أثر للشهادة برؤية هلال رمضان عند غير الحاكم(1/5)
المنصوب لذلك ولا يترتب عليها حكم صحيح وذلك ما يقتضيه نصوص المذهب ومفاهيمه فإن كان في هذه الشاغرة عن الحكام من يسمع كلامه ويرجع إليه في الحل والعقد ونصب في البلد عارفاً بالأحكام فقيهاً نفذ حكمه وسماعه أداء الشهادات بما يقتضيه الشرع الشريف كما ذكره في العزيز والروضة والأنوار وغيرها من كتب المذهب، وإن لم يكن فيها من هو كذلك يتعين على أهل الحل والعقد تولية من يصلح لذلك بحسب الإمكان فإن فعلوا ذلك وجب على من ولوه سماع البينة والحكم بما يقتضيه الشرع الشريف في ذلك وغيره اهـ، ثم ورد هذا الجواب على بعض الفقهاء فكتب تحته هذا الجواب صحيح اهـ. وقد ذكر الماوردي في الحاوي أنه إذا خلا البلد عن قاض وخلا العصر عن إمام فقلد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحداً وأمكنهم نصرته على تنفيذ أحكامه وتقوية يده جاز تقليده ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز تقليده حتى لو قلد بعضهم، وأنكر البعض لم يصح اهـ كذا قاله الإمام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/6)
ابن الرفعة وغيره، ونقله النهارتي اليمنى في كفايته عن الروياني من غير اعتراض عليه وقد سئل الأصبحي عما إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم فهل لجماعة من أهل الحل والعقد نصب فقيه يتعاطى الأحكام فأجاب نعم إذا لم يكن لهم رئيس يرجع الأمر إليه اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد ونصبوا قاضياً صفته صفة القضاة ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام اهـ. والحاصل من هذا أن الشهادة برؤية هلال رمضان إذا لم تكن عند منصوب حيث لم يكن في البلد قاض أنها لا تقبل كما سبق، بل قال الغزالي و الجمال اليمنى إذا تحدث الناس برؤيته ولم يثبت عند قاض فهو يوم شك، وأما الذين يصومون بالاستفاضة فلا يصح صومهم أيضاً، لأن الهلال لا يثبت بالاستفاضة بل هو يوم شك. ففي العزيز والروضة وفي شرح المهذب: أنه إذا وقع في الألسن أنه رؤي الهلال ولم يقل عدل أنا رأيته أو قال ولم يقبل الواحد أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق فظن صدقهم فهو يوم شك اهـ. وعبارة الولي العراقي : إذا شهد عدد من الفساق أو ظن صدقهم فهو يوم شك، وقوله اثنان فأكثر يتناول الجمع الكثير أي وهو يوم شك. قلت صوم يوم شك من رمضان حرام كما نقله النووي في شرح مسلم عن مذهب مالك والشافعي والجمهور والأحاديث دليل لذلك ونقل الإمام الأذرعي الاتفاق عليه وعدم صحته عن رمضان. ونقل عن القاضي ابن كج أن ذلك مراد الإمام الشافعي رضي الله عنه، ونقل ابن الرفعة وغيره عن البندنيجي أنه لا يجوز صوم يوم الشك احتياطاً لرمضان. قال الإسنوى و الدميري في شرحي المنهاج وهذا لا خلاف فيه اهـ. قال الإمام رحمه الله تعالى: وسمعت أهل العلم ينهون عن صوم ذلك اليوم وقد أمر بعض الصحابة رجلاً صام يوم الشك أن يفطر بعد الظهر، وقال بعض الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م: من صام يوم الشك فقد عصى الله تعالى ورسوله ، وقد سئل بعضهم عن اليوم الذي يقول الناس إنه من رمضان فقال: «لا تصوم إلا مع الإمام: وعن ابن عباس(1/7)
رضي الله عنهما أنه قال: إني لأعجب من هؤلاء الذين يصومون قبل رمضان، إنما قال رسول الله : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» فعلى هذا لما ثبت تحريم صوم يوم الشك من رمضان بنص صاحب الشرع وإمام المذهب رضي الله عنه تعين الأخذ به وطرح ما عداه. إعلام القرى القريبة بعضها برمضان وقد سئل بعض المتأخرين عما إذا رأى هلال رمضان رجل أو رجال كثيرون في طرف بلدة ولم يره باقي البلاد دون مسافة القصر وصاح عليه من رآه منهم وأهل قريتهم ثم صاح قرية لقرية حتى صاحت قرى كثيرة بعضها لبعض وهذا الصياح سالف لأهل هذه البلدة ويصومون في عرفهم وعادتهم فهل يصح صيام من لم يره بسماع صياحهم أم لا يصح؟ فأجاب نفع الله بعلومه قال: صياح هذا لا يفيد ولو كان سالفهم الصياح للصيام فلا يصح صيام من لم يره بسماع صياحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الذين لا يصومون حتى يروا الهلال أو يستكملوا شعبان فهم على الصواب لما سبق. ولقول الشيخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/8)
الصيرفي بالديار المصرية إذا لم يشهد الراؤون بالرؤية عند حاكم شرعي ولم يثبت لم يلزم من لم يره العمل بقول من رآه منهم ولو كثروا وله الفطر إلى استكمال شعبان ثلاثين، وكذا بالنسبة إلى آخر يوم منه وأول يوم من شوال له استكمال رمضان الثلاثين إن لم يره ليلة الثلاثين من رمضان. قال: وقد أطلق الرافعي النقل عن الإمام و ابن الصباغ فيما إذا أخبر به من يوثق أي ولم يثبت عند حاكم أنه لا يلزم المخبر بفتح الباء العمل بقول المخبر بكسرها إلا إذا بنينا على أنه من باب الرواية وهو ضعيف، أما إذا بنينا على أنه من باب الشهادة وهو المعتمد في المذهب فلا يلزم المخبر العمل بقول المخبر. ثم نقل الإمام ابن عبدان ومن وافقه القول بوجوب العمل بقول المخبر مطلقاً ولم يرجح شيئاً منهما لكن قضية كلامه في النقل عن الإمام وابن الصباغ وتفريعه على ذلك وبناؤه على الوجهين في أنه من باب الرواية أو الشهادة كما ذكر تقتضي ترجيح ما قالاه أي في أن طريقه الشهادة دون الإخبار لقوله عليه الصلاة والسلام: «فإن شهد ذو عدل فصوموا وأفطروا» فثبت أنها شهادة ولأنه حكم شرعي فتعلق برؤية الهلال. قال: ويلزم من ذلك بناء على المعتمد عدم لزوم العمل بقول المخبر حيث لم يثبت عند حاكم شرعي كما تقدم وذلك موافق لما ذكره الأذرعي في التوسط حيث قال: ولا أحسب أحداً ينازع في أن الحاكم لو أخبر رعيته أنه رأى الهلال أو الإمام العادل أنه لا يلزمهم الصوم إلا أن يشهد به عند قاض آخر بلفظ الشهادة انتهى جواب الإمام الصيرفي ، ويؤيده أيضاً قول بعض المتأخرين أن قول الرائين في الصوم والفطر ليس بحجة على الغير إلا إذا أدّى عند قاض أو محكم من جهة أهل البلد كلهم. وقد قال الإمام شهاب الدين ابن العماد في توقيف الحكام لو أخبره عدل برؤية الهلال يوم الثلاثين من شعبان لم يلزم الصوم على الصوم تفريعاً على أنه يسلك به مسلك الشهادة وهو الصحيح لأن ذلك يختص بمجلس الحكم اهـ، فحينئذ(1/9)
الحاصل مما سبق أن الشهود برؤية الهلال عند رؤية القاضي أو المنصوب أو المحكم من جهة أهل البلد لا تقبل كشهادة بجيلة بعضهم عند بعض وإذا لم تقبل حرم صومه عن رمضان بشهادتهم لمن لم ير الهلال بنفسه، وأما من رآه فنقل الإمام الأذرعي عن الإمام سليم الرازي أنه إذا لم يثبت لم يجزئه صومه، ومقتضى كلام غيره من الأئمة أنه يجب عليه صومه ويجزئه، والله تعالى أعلم. وأما قول السائل رؤية الهلال بمكة دون جيلة إذا رؤي الهلال بمكة المشرفة ولم ير بأرض بجيلة فما يكون الحكم في ذلك؟ فاعلم أن المطالع قد تختلف فيلزم من رؤيته في الشرقي رؤيته الغربي ولا ينعكس، وذلك أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في البلاد الغربية وعلى ذلك حديث كريب فإن الشام غربية بالنسبة إلى المدينة فلا يلزم من رؤيته بالشام رؤيته بالمدينة، كذا قال الإمام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/10)
جمال الدين الإسنوى فعلى هذا قال القاضي برهان الدين إبراهيم بن ظهيرة قاضي مكة المشرفة في بعض أجوبته بجيلة شرقي مكة فيلزم من الرؤية ببجيلة الرؤية بمكة المشرفة ولا عكس اهـ. قال الإمام ابن الرفعة وغيره: وحيث قلنا لا يتعدى الحكم فسار شخص من موضع رؤي فيه إلى حيث لم ير واستكمل ثلاثين ولم ير في البلد الثاني فالأصح أنه يلزمه أن يصوم معهم، لأن ابن عباس أمر كريباً بذلك حين قال: استهل عليّ رمضان وأنا بالشام. فقال ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، قال: أنت رأيت الهلال؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى يكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية والناس؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله . وقياساً على أوقات الصلاة فإن لكل بلدة حكمها من الطوالع والغوارب كطلوع الشمس وغروبها كما قاله الماوردي وغيره، وجزم به في الكفاية أيضاً. قال الشيخ المقري في التمشية: فإن الشمس قد تطلع على قوم فيفوتهم الصبح وغيرهم حينئذ في ليل يمكنهم أداء العشاء فيه كما صرح به الأصحاب، فكذلك ينبغي أن يعتبر وقت الصوم بمطالع الفجر انتهى كلام التمشية. قال الإمام الأذرعي : وحديث كريب رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وذكره القفال ومن تبعه واعتمدوه وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وهو حسن تقوم به الحجة وهو قول صحابي كبير لا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم، وقول فقهاء التابعين اهـ. قال الإمام الإسنوى في شرح المنهاج: ولا شك أن مورد النص وهو حديث كريب السابق في الشام والحجاز وقد وجد فيه مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع واحتمال عدم الرؤية فاستند كل طائفة إلى واحدة منها وأيد به اهـ. وقول الإمام نجم الدين ابن الرفعة وحيث قلنا لا يتعدى الحكم. قال الإمام الأذرعي : هو المشهور عندنا، وصححه الجمهور من أن لكل بلد رؤيتهم وصححه أيضاً الرافعي و النووي ، والله سبحانه(1/11)
وتعالى أعلم بالصواب انتهى جواب هذا المفتي فهل يا شيخ الإسلام جوابكم كذلك أم لا؟. فأجاب رضي الله عنه ومتع المسلمين بحياته ونفعهم بمعلوماته بقوله: أما ما ذكره المفتي المذكور في القسم الأول ففيه نظر من وجوه: أحدها: أن قوله فلا يصح صومهم لقول الأئمة الخ لا مطابقة فيه بين العلة والمعلل، لأن قول الأئمة المذكور إنما هو بالنسبة لعموم الناس بدليل أنهم اختلفوا فيمن أخبره من يثق به بأنه رآه هل يلزمه الصوم أو لا؟ وسيأتي ما فيه فدل على أن كلامهم هذا في ثبوت رمضان بالنسبة لعموم الناس. ثانيها: أن قوله: قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/12)
الأذرعي: وتعتبر العدالة الباطنة الخ ضعيف، والمعتمد ما في المجموع وإن نازع فيه جمع من أن المستور هنا يقبل إذا شهد برؤية الهلال فلا تشترط العدالة الباطنة وهي التي يرجع فيها إلى قول المزكين، وبه يعلم أنه ليس محض شهادة بل فيه شائبة بل شوائب من الرواية منها ثبوته بواحد وعدم احتياجه إلى دعوى وعدم تصوّر الحكم به لأنه إلزام لمعين، وإنما يثبت القاضي الشهر فقط والثبوت ليس بحكم وقبول قول الشاهد أشهد أني رأيت الهلال على المعتمد عند الرافعي وغيره. وثالثها: أن قوله نعم إطلاقهم الخ ليس في محله لأن ذاك ذكروه في باب القضاء وهو مخصوص بغير رمضان لما ذكروه فيه في بابه مما ذكر. رابعها: أن قوله ولهذا قال بعض المفتيين من المتأخرين الخ غير صحيح، أما أوّلاً فلأنه لا يناسب ما قبله حتى يجعله علة له، وأما ثانياً فلأن محله حيث لا محكم أما إذا حكموا من يسمع الشهادة برمضان فإنه يجوز كما ذكره الزركشي حيث قال ما حاصله ولا يحكم القاضي بكون الليلة من رمضان، لأن الحكم لا مدخل له في مثل ذلك لأنه إلزام بمعين وهو هنا غير مقصود لعموم الأمر فيه، والظاهر أنه إنما يثبت الشهر من غير حكم والثبوت ليس بحكم، نعم إذا ترتب عليه حق آدمي ودعت حاجة إلى الحكم به حكم به بشروطه مستنداً إلى ذلك الثبوت، والظاهر أيضاً أن رمضان يثبت بالتحكيم سيما بموضع لا حاكم فيه حتى إذا جاءا إلى رجل وحكماه بشرطه لزمهما ولزم الناس صومه وإن كان الشاهد واحداً اهـ. نعم ما ذكره، أعني الزركشي ، من إلزام الناس بالصوم إذا حكم به المحكم مع أنه لم يرض بتحكيمه إلا اثنان فيه نظر والذي يتجه أن الصوم لا يلزم إلا من رضي بحكمه وما ذكره الزركشي أيضاً من أن الحكم إلزام بمعين أراد به الغالب وإلا فقد لا يكون فيه إلزام لذلك كما بينه العلائي في قواعده على أن ما ذكره مما لا إلزام فيه بمعين يمكن أن يوجه بأن فيه إلزاماً بمعين فلا يكون التقييد بذلك لازماً كما يعلم ذلك لمن(1/13)
أمعن النظر فيه في محاله من القواعد المذكورة. وخامسها: أن قوله فحينئذ الحاصل الخ، ليس على إطلاقه كما علم مما تقرر وما نقله عن الغزالي ومن تبعه لا يشهد له على أن تخصيصه بهذين مع أنه في كتب المذهب المشهورة وغيرها يشعر بانفرادهما به وليس كذلك، وإذ قد فرغنا من الكلام على ما في عبارته من هذا القسم فلنذكر المعتمد فيه وهو أن من أخبره ثقة برؤية هلال رمضان وغلب على ظنه صدقه لزمه الصوم كما قاله جمع متقدمون منهم البغوي، واعتمده جمع متأخرون وما ذكره عن الصيرفي ضعيف وإن جرى عليه غيره كابن العماد وغيره، وقوله إن ذلك لا يلزم إلا إذا فرغنا على أنه من باب الرواية وهو ضعيف يردّ بما قدمته من أن هذا ليس محض شهادة بل فيه شوائب من الرواية احتياطاً للصوم فيكون ما نحن فيه من شوائب الرواية كذلك فلزم المخبر، بفتح الباء، إذا اعتقد صدق المخبر الصوم احتياطاً له بل اللزوم حينئذ أولى منه إذا ثبت بواحد عند القاضي ووقعت الريبة والشك في صدقه في شهادته فإنهم صرحوا بأنه يجب الصوم بخبر الواحد إذا شهد به عند القاضي ولو على من بقي عنده بعد الحكم ريبة في تلك الشهادة وليس ذلك إلا للاحتياط للصوم فاللزوم في مسألتنا هذه للاحتياط أولى لأنه معتقد الصدق ولا ريبة عنده في وجود الهلال فهو كمن رأى الهلال وإن كان العلم الذي عند الرائي أقوى. وقول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/14)
الصيرفي ولو كثروا ليس في محله كما يأتي من اللزوم بالخبر المتواتر، وقوله عن الأذرعي ولا أحسب أحداً ينازع في أن الحاكم الخ لا يشهد له أما أولاً فلأن قضية كلام الدارمي خلاف ما قاله الأذرعي ، وأما ثانياً فلأن مراد الأذرعي اللزوم على العموم وكلامنا هنا في خصوص من صدق المخبر، وإذا جوّزوا للمنجم والعارف بمنازل القمر أن يعمل بحساب نفسه مع أنه لا يفيده إلا مجرد الظن فلأن يجوز بل يلزم العمل بأخبار الثقة المعتمد للاعتقاد أو غلبة الظن بالأولى بل الذي يتجه أن من أخبره فاسق وصدقه أن له الصوم لأن الظن الذي استفاده من تصديق مخبره يساوي الظن الذي يستفيده الحاسب من حسابه، وإذا قلنا أن لهذا ومن ألحقنا به الصوم فهل يجزئه؟ قال في الروضة: وأصلها والمجموع في موضع نعم ونقله في الكفاية عن الأصحاب وصححه وصوبه السبكي و الإسنوى و الزركشي وغيرهم وردوا ما وقع في المجموع في موضع آخر من أن له ذلك ولا يجزئه إذا بان أن اليوم الذي صامه من رمضان على أن ما وقع فيه ليس نصاً في تصحيح ذلك كما بينته في حاشية العباب، وإذا كان هذا في الأجزاء في نحو الحاسب فالأجزاء في الرائي الذي ردت شهادته بالأولى على أن الخلاف في هذا لا وجه له فإنه مستند إلى تعين الرؤية ويلزم العمل برؤيته نفسه وإن ردت شهادته فكيف يسوغ حينئذ أن يحكي في الأجزاء في حقه خلاف، لأن وجه الخلاف في نحو الحاسب عدم الجزم بالنية وليس ذلك موجوداً في الرائي فالوجه القطع بالأجزاء في حقه وأن ما وقع في قول المجيب وأما من رآه فنقل الإمام الأذرعي الخ فهو بالتحريف والغلط أشبه، وأما ما ذكره المفتي المذكور في القسم الثاني ففي إطلاقه نظر، لأن الاستفاضة تارة تقوى حتى تصل إلى حد التواتر وتارة لا، فإن وصلت للتواتر وجب الصوم على من تواتر عنده الخبر بالرؤية بأن أخبره بها عن المعاينة جمع كثيرون لا يمكن تواطؤهم على الكذب وإن كانوا فسقة أو نحوهم، لأن الخبر المتواتر يفيد العلم(1/15)
ولو من نحو فساق وإن لم تصل للتواتر ففيها كلام ظاهر التنافي وذلك أن الشيخين وغيرهما قالوا أول باب الصوم ولو أخبره موثوق به برؤيته ولم يذكره عند القاضي فقطعت طائفة بوجوب الصوم مطلقاً وطائفة بوجوبه، إن قلنا هو رواية وقالوا في الكلام على النية لا بد من الجزم بها فلو نوى ليلة ثلاثين من شعبان صوم غد إن كان من رمضان فكان منه لم يقع عنه وإن جزم بالنية إلا أن اعتقد كونه منه بقول من يثق به من حر أو عبد أو امرأة أو صبيان رشداء أو حساب منجم حيث يجوز اهـ. والمراد بالرشد هنا الاختبار بالصدق لا المعنى المراد في قولهم شرط العاقد الرشد قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/16)
الإسنوى وغيره ووقع في الروضة وغيرها جمع نحو العبيد وليس بمعتبر كما يدل عليه كلام المجموع، وصرح به جمع متقدمون وألحق الجرجاني بمن ذكر الفاسق الذي سكنت نفسه إليه قاله ابن كج ، وكذا الكافر لكن جزم الدارمي بخلافه وقالوا في يوم الشك الذي يحرم صومه إنه يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته أو شهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة اهـ. والمراد تحدث الناس برؤيته بحيث يقرب من الاستفاضة وإن لم يسمع ممن يظن صدقه منهم أنه رأى الهلال كما أفهمه كلام المنهاج، وأشار بعض شارحيه إلى هذا الأخير ولا بد من العدد هنا فيمن ذكر بأن يكون اثنين أو أكثر فانظر إلى ما بين هذه المواضع الثلاثة من الاختلاف، وقد أشار السبكي وغيره إلى الجمع بينها ملخصه أنه إنما اعتبرنا العدد هنا بخلافه فيما مر في صحة النية احتياطاً للعبادة فيهما وإنما لم يصح صوم يوم الشك حينئذ عن رمضان لأنه لم يتبين كونه منه، نعم من اعتقد صدق من قال إنه رآه ممن ذكر يصح صومه بل يجب عليه كما مر أول الباب والذي تقدم في الكلام على النية من صحة نية معتقد ذلك ووقوع الصوم عن رمضان محله إذا تبين كونه منه فحينئذ لا تنافي بين المواضع الثلاثة إذ كلامهم في صحة النية محمول على ما إذا تبين كونه من رمضان وكلامهم هنا محمول على ما إذا لم يتبين شيء فليس الاعتماد على من ذكر في الصوم بل في النية فقط إذا نوى اعتماداً على قولهم ثم بان كون غد من رمضان لم يحتج إلى تجديد نية أخرى سواء بان ذلك قبل الفجر أم بعده وإن لم يتبين ذلك بل استمر الحال على ما هو عليه فهو يوم الشك وأجيب عن عدم التنافي بأجوبة أخرى منها أنه يجوز أن يكون الكلام في يوم الشك في عموم الناس دون أفرادهم فيكون شكاً بالنسبة لمن لم يظن صدقهم وهم أكثر الناس دون أفراد من اعتقد صدقهم لوثوقه بهم، ومنها أن المراد ثم إذا حصل بقولهم ظن وهنا إذا حصل به شك ويرده تقييد الرافعي هنا بما إذا ظن صدقهم، ومنها أن المراد(1/17)
ثم الاعتقاد وهنا الظن ويرده أن جمعاً عبروا بالظن ثم موضع الاعتقاد، ومنها وهو أجودها وأحسنها أن إخبار من لا يقبل خبره، إما أن يفيد مجرد ظن الصدق وهو ما هنا أو ظن الحكم المترتب عليه بأن لم يعارض ظنه معارض وهو ما في النية أو ينضم إلى ذلك تصديقه بأن قامت قرينة عليه وهو ما مر أول الباب فعلم مما تقرر أن ما أطلقه المفتي المذكور في القسم الثاني غير صحيح على إطلاقه، وأما ما ذكر عن بعض المفتين في صياح العرب بعضهم على بعض إعلاماً برمضان فغير صحيح على إطلاقه أيضاً فقد ذكر الأذرعي وغيره أن رؤية القناديل موقودة على المناير ليلة ثلاثين من شعبان كرؤية الهلال لأنها علامة مطردة فكانت كخبر الواحد، وبه يعلم أن الصياح لو كان علامة مطردة عند أهل تلك البلاد على دخول رمضان جاز لكل من سمعه بل وجب عليه اعتماده في الصوم وأن غدا من رمضان، وأما ما ذكره المفتي المذكور في جواب قول السائل إذا رؤي الهلال بمكة ولم ير بأرض بجيلة فهو صحيح، والحاصل في ذلك أن العبرة باتحاد المطالع واختلافها لا بمسافة القصر قال في الأنوار: والمراد باختلافها أن تتباعد البلدان بحيث لو رؤي في أحدهما لم ير في الآخر غالباً اهـ. قال الشيخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/18)
تاج الدين التبريزي : ورؤية الهلال في بلد توجب ثبوت حكمها إلى أربعة وعشرين فرسخاً لأنها في أقل من ذلك لا تختلف. وقال السبكي و الإسنوى : قد تختلف وتكون رؤيته في أحدهما مستلزمة لرؤيته في الأخرى من غير عكس إذ الليلة تدخل في البلاد الشرقية قبل دخولها في الغربية وحينئذ فيلزم عند اختلاف المطالع من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي من غير عكس، وأما عند اتحادها فيلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر، وقد أفتى جماعة بأنه لو مات في يوم واحد وقت الزوال أخوان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ورث المغربي المشرقي لتقدّم موته، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/19)
وسئل رضي الله عنه ونفع بعلومه شيوع رؤية الهلال دون تحقق الرؤية وبركته لو شاعت رؤية هلال رمضان ببلد مثلاً ولم يتحقق لنا رؤيته أو أخبر بذلك من لا يقبل خبره أو من يقبل خبره، وقلتم لا يجب الصوم إلا على من وقع في قلبه صدقه فهل على ولي الأمر أصلحه الله تعالى بالبلد التي بعدت عن بلد الرؤية ندب من يحقق الخبر له لزوماً أو ندباً قربت المسافة أم بعدت أو لا يجب شيء من ذلك وهل يثبت رمضان بالاستفاضة أو التواتر أو لا؟ وهل الإشاعة والاستفاضة بمعنى واحد أم لا؟ ولو بلغ الخبر أهل بلد بأن قطاع الطريق أخذوا مالاً لمسلم ورجوا استنقاذه منهم فهل لهم الفطر من رمضان إن توقف استنقاذهم عليه مع أنهم لم يروهم أي القطاع ولا علموا عددهم ولا أين ذهبوا أو يختص الجواز بمن رآهم وحقق الاستنقاذ منهم بظن مؤكد وهل خوف المشقة التي عيل معها الصبر تبيح الفطر أم لا بد من وجوب محذور التيمم ولو وقع البذر أو الحصاد أو تنقية الزرع في رمضان ولا يطلق الصوم معه فهل يجوز الفطر لمن لحقه بذلك مشقة شديدة كما ذكره الأذرعي بالنسبة للحصاد فإن قلتم بذلك فما المراد بالمشقة في كلامه هل هي خشية محذور التيمم أو غير ذلك وما هو؟ وهل يشترط لذلك خبر عارف من نفسه أو غيره كما في التيمم فإن قيل به فهل يجري في جميع مسوّغات الفطر أو يختص ببعضها؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: الظاهر أن ولي الأمر لا يلزمه في الصورة المذكورة إرسال من يحقق الخبر أخذاً من قولهم إن تحصيل سبب الوجوب لا يجب، وهذا أعني الإرسال المذكور تحصيل لسبب الوجوب وهو العلم بدخول رمضان الموجب للصوم، وقد صرحوا بعدم وجوب تحصيل سبب الوجوب كما علمت فلا يجب ذلك على أن لك أن تقول هذا يعلم عدم وجوبه من ذلك بالأولى لأنهم إنما نفوا وجوب تحصيل السبب المحقق الذي إذا حصل لزم منه الوجوب كالإحرام بالحج بالنسبة لنحو المتمتع المعسر المريد للصوم، وفي مسألتنا السبب ليس محققاً لأنهم شاكون هل صام أهل(1/20)
بلد متحد مع بلدهم في المطلع برؤية الهلال في بلدهم فيلزمهم الصوم تبعاً لهم أو ليسوا بصائمين أصلاً أو صاموا برؤية بلد متحدة معهم في المطلع وليست متحدة مع البلد المرسل منها كذلك فليس على ثقة من أنهم إذا أرسلوا إلى تلك البلد يلزمهم الصوم فلا يجب الإرسال هنا جزماً لأنه ليسوا سبباً محققاً للوجوب بخلاف الإحرام بالحج فإنه سبب محقق للوجوب، فلذلك اختلفوا في وجوب تحصيله والراجح أنه لا يجب تحصيله بخلاف الإرسال هنا، فإنه لا يجب تحصيله جزماً لما علمت سواء أقربت المسافة أم بعدت. نعم لو قيل يندب له ذلك لم يكن بعيداً لأن فيه احتياطاً للصوم وهو إذا لم يجب يكون مندوباً، ومن ثم تأكد للإمام أو نائبه أن يقيم من يثق به ليبحث عن الأهلة سيما رمضان وشوّال والحجة لتعلقها بأمور دينية يعم الاحتياج إليها دون غيرها على أن تراءى الأهلة من فروض الكفايات كما قيل فعليه إذا فرض أن الناس تركوه لزم الإمام أن يحثهم على القيام به، وقول السائل نفعني الله به وهل يثبت رمضان الخ، جوابه أنهم صرحوا بأن من أخبره ثقة برؤية هلاله واعتقد صدقه لزمه الصوم وبه يعلم كما ذكرته في حاشية العباب أن من تواترت عنده رؤيته لزمه الصوم قياساً على ذلك بالأولى اهـ، والاستفاضة كالتواتر بخلاف الإشاعة، ومن ثم قال أصحابنا: لو شاع بين الناس أن الهلال رؤي ولم يشهد بالرؤية أحد كان ذلك اليوم يوم شك حتى يحرم صومه ولا ينافي ما ذكرته من أن الاستفاضة كالتواتر. قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/21)
السبكي لم أرهم ذكروا الشهادة برؤية الهلال بالاستفاضة والذي أميل إليه عدم جواز ذلك اهـ، لأنه ينبغي حمله على ما إذا لم يحصل لمن بلغته اعتقاد صدق المخبرين، أما إذا اعتقد صدقهم فيلزمه الصوم كمن اعتقد صدق ثقة أخبره، والفرق بين التواتر والاستفاضة والإشاعة يعلم من تعريفي المتواتر والمستفيض فالمتواتر معنىً أو لفظاً هو خبر جمع يمتنع عادة توافقهم على الكذب عن أمر محسوس لا معقول كخبر الفلاسفة بقدم العالم، فإن اتفق الجمع المذكور لفظاً ومعنى فلفظي وإن اختلفوا فيهما مع وجود معنى كلي فمعنوي كخبر واحد عن حاتم بأنه أعطى ديناراً وآخر بأنه أعطى فرساً وآخر بأنه أعطى بعيراً وهكذا فقد اتفقوا على معنى كلي وهو الإعطاء ولا يكفي في عدد الجمع المذكور الأربعة لاحتياجهم للتزكية فيما لو شهدوا بالزنا بخلاف ما لو زادوا عليها، فإنه يصلح لأنه يكفي في ذلك وليس له عدد معين ومن عين له عدداً كعشرة أو اثني عشر أو عشرين أو أربعين أو سبعين أو ثلثمائة وبضعة عشر فقد تحكم، ولا يشترط فيهم إسلام ولا عدالة ولا عدم احتواء بلد عليهم خلافاً لمن قال بذلك، والحاصل أنه متى حصل من خبر بمضمونه كان علامة على اجتماع شرائط التواتر فيه وهي كما علم من تعريفه كونه خبر جمع وكونهم بحيث يمتنع توافقهم على الكذب وكونه عن محسوس ثم العلم الحاصل بالمتواتر ضروري بمعنى أنه يحصل من سماعه من غير احتياج إلى نظر واستدلال وتوقفه على مقدمات وهي الشروط الثلاثة السابقة لا ينافي كونه ضرورياً ويقابل المتواتر مظنون الصدق، ومنه خبر الواحد والمراد به ما لم ينته إلى المتواتر سواء كان رواية واحد أو أكثر أفاد العلم بالقرائن المنفصلة عنه أم لا؟ ومن خبر الواحد المستفيض وهو الشائع بين الناس عن أصل بخلاف الشائع لا عن أصل، وقد يسمى المستفيض مشهوراً فهما بمعنى، وقيل المشهور بمعنى المتواتر، وقيل قسم ثالث غير المتواتر والآحاد وعند المحدثين هو أعم من المتواتر وأقل(1/22)
عدد المستفيض اثنان وهو قول الفقهاء، وقيل ما زاد على ثلاثة وهو قول الأصوليين، وقيل ثلاثة وهو قول المحدثين وبما تقرر عرف الفرق بين التواتر والاستفاضة وبين خصوص الاستفاضة ومطلق الإشاعة فالاستفاضة أخص من الإشاعة ومن ثم قال الفقهاء: يشترط في الاستفاضة أن يسمع الشاهد من جمع كثيرين يقع في نفسه صدقهم ويؤمن توافقهم على الكذب فلا يكفي سماعه من عدلين لم يشهداه على أنفسهما، ولا يشترط عدالتهم وحريتهم وذكورتهم كما لا يشترط في المتواتر اهـ. وقول السائل: ولو بلغ الخبر الخ، جوابه أن الذي يتجه أنه لا يجوز لهم الفطر المتوقف عليه استنقاذ المال المحترم إلا أن غلب على ظنهم حصول الاستنقاذ منهم لو أفطروا بل عبارة الأنوار تقتضي أنه لا بد من التحقق، فإنه قال لو رأى حيواناً محترماً أشرف على الهلاك واحتاج إلى الفطر لتخليصه وجب الفطر والفدية، ولو رأى غير الحيوان جاز له الفطر ويكفي القضاء ولا فدية اهـ، فتعبيره بالرؤية قد يفهم أنه لا بد في حل الفطر أو وجوبه من تحقق الاستنقاذ لكن الذي يتجه أنه يكفي في ذلك الظن وأن تعبيره بالرؤية إنما هو للغالب إذ لو أخبره عدل بذلك وجب الفطر أو جاز كما هو ظاهر، وإنما لم يجز الفطر فيما ذكر بمجرد التوهم أو الشك لأن صوم الفرض الذي تلبسوا به مانع محقق من الإفطار فلا يجوز الخروج منه إلا أن تحقق المقتضى أو ظن وقوله وهل خوف المشقة الخ، جوابه أن الذي دل عليه كلام الروضة وغيرها أنه لا يكفي خوف المشقة المذكورة حتى يخشى منها مبيح تيمم كما يدل عليه قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/23)
النووي من غلبة الجوع أو العطش فخاف الهلاك فله الفطر وفي التوسط في قول النووي، ثم شرط كون المرض مبيحاً أن يجهده الصوم معه فيلحقه ضرر يشق احتماله على ما ذكرناه من وجوه المضار في التيمم أن قوله فيلحقه بالفاء أحسن من قول الرافعي في الشرحين ويلحقه بالواو فإنه يفهم اعتبار الأمرين في إباحة الفطر والمدار إنما هو على الثاني ومن ثم اعترض الإسنوى أيضاً كلام الرافعي بأن قضيته أن الضرر المذكور لا يبيح وحده، بل لابد معه من كون الصوم يجهده فلو وصف له دواء إن لم يفطر به وإلا حصل له الضرر لم يكن له الفطر وكذلك بالعكس، وهذا لا يتأتى القول به وقد اعتبر في المحرر أحد الأمرين وهو الصواب، فإن قلت قضية كلام الإسنوى هذا الاكتفاء بغلبة الجوع وإن لم يخش منه مبيح تيمم، قلت قضيته بل صريحه ذلك لكنه إما ضعيف أو مؤوّل كعبارات لبعض الأصحاب توافقه ومن ثم قلت في حاشية العباب، أي بأن يشق عليه الصوم معه أو خاف بسببه نحو زيادة مرض أو بطء برء أو غيرهما مما يبيح التيمم أخذاً من قول الشيخين، وحكاه في المجموع عن الأصحاب أن يجهده الصوم معه ويلحقه أو فيلحقه ضرر يشق احتماله على ما ذكرنا من وجوه المضار في التيمم وعلى ذلك يحمل قولهم المبيح الضرر الظاهر، وقول الإمام و الغزالي هو ما يمنع التصرف مع الصوم. وقول المهذب هو خوف الزيادة بالصوم أو رجاء الزوال بفقده، وقول التهذيب هو أن يجهده ويلحقه به ضرر يشق احتماله، وقول غيره رجاء خفة المرض بالفطر أو وقوفه وما اقتضاه كلام المحرر وصوّبه الإسنوى من أنه متى صعب عليه الصوم به أو ناله ضرر شديد جاز له الفطر وما شابه ذلك من العبارات فكلها ينبغي حملها على أن المراد منها مبيح التيمم اهـ ما ذكرته فيها وهو متعين لا محيص عنه لأن العدول عن الماء إذا اشترطوا فيه ذلك مع أنه عدول إلى بدل فأولى أن يشترط ذلك في العدول عن الصوم لأنه غير بدل ووجوب القضاء إنما هو بأمر جديد على أن المشقة المذكورة(1/24)
في السؤال يخشى منها غالباً مبيح تيمم لأنه إذا عيل معها الصبر ولم تطفأ حرارتها إلا بالأكل أو الشرب يتولد عنها غالباً مبيح تيمم وبما قررته في ضبط المشقة الشديدة في كلامهم بما يخشى منه مبيح التيمم اندفع استشكال العز ابن عبد السلام لذلك بقوله في قواعده من المشكل ضبط المشقة المقتضية للتخفيف كالمرض في الصوم فإنه إن ضبط بالمشقة فالمشقة نفسها غير مضبوطة وإن ضبط بما يساوي مشقة الأسفار فذلك غير محدود وكذلك مشقة الأعذار المبيحة لكشف العورة، ومن ضبط ذلك بأقل ما ينطلق عليه الاسم كأهل الظاهر خلص من هذا الإشكال اهـ، وإذا انضبطت المشقة الشديدة بما قلناه أخذاً من كلامهم في التيمم بالأولى كما علمت زال الإشكال وبذلك يزاول أيضاً استشكال بعضهم للمشقة الشديدة التي ضبطوا بها جواز الفطر للشيخ الهم وليس المراد بها في حقه كما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/25)
الشيخ أبو حامد أن يكون بحيث لا يمكنه الإمساك عن الطعام والشراب قال لأنه ما من أحد إلا ويمكنه هذا، وإنما المراد أن تلحقه المشقة الشديدة اهـ، وبذلك أيضاً يندفع قول بعضهم إنما تضبط المشقة في ذلك بالمحسوس ومن توقف حصاده لزرعه ونحوه على فطره ولم يتيسر له فعله ليلاً جاز له الفطر كما اقتضاه كلامهم السابق نقله عن الأنوار في جواز الفطر لاستنقاذ المال المحترم إذا توقف على الفطر من الصوم، والمراد بالتوقف هنا أنه متى لم يفطر عجز عن نحو حصاده وخشي عليه التلف فعلم أنه لا يشترط هنا خشية مبيح تيمم دائماً لأنه لم يفطر لأمر قام بذاته، وإنما فطره لاستنقاذ مال محترم يخشى عليه الضياع لو لم يفطر بصومه لا يلحقه به ضرر من حيث الصوم بل من حيث إنه يضطر إلى العمل المذكور ولو صام معه حصل له مبيح التيمم من حيث انضمام العمل إلى الصوم فجاز له الفطر لا لخشية الضرر فقط بل لأنه لو صام ولم يعمل فات المال وإن صام وعمل حصل له مبيح التيمم، ولا فرق في ذلك الزرع بين أن يكون له أو لغيره ولا بين أن يعمل فيه متبرعاً أو بأجرة أخذا مما قالوه في المرضعة إذا أفطرت خوفاً على نفسها أو الولد وإذا أفطر لأجل ذلك لزمه القضاء ولا فدية عليه كما علم من عبارة الأنوار السابقة وحيث أنيط الفطر بمبيح التيمم يأتي فيه ما قالوه في التيمم من أنه لا بد من إخبار عدل ولو عدل رواية عارف بالطب إن لم يكن هو عارفاً به وإلا لم يحتج لإخبار أحد ومعرفته لخوف الضرر به بالتجربة كافية على المعتمد في التيمم فلتكف هنا قياساً عليه، وبما تقرر علم أن ذلك يجري في مسوغات الفطر التي أناطوها بمبيح التيمم لا في كل مسوغ له، لأن ذلك لا يتأتى فيه كما هو جلي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/26)
وسئل فسح الله الصائم تدخل ذبابة إلى باطنه ثم يستثرها في مدته ومتع بحياته فيمن طارت ذبابة على أنفه وهو صائم حتى بلغت حد الباطن فاستنثرها عامداً عالماً مختاراً حتى خرجت فهل يفطر بذلك لأنه في معنى التقيؤ أم لا؟ لأن النص ورد في القيء وغيره ليس في معناه مع أنه وقع في ظني الفطر مما دخل لا مما خرج، أفتونا أثابكم الله الجنة بفضله ومنه آمين؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه عدم الفطر أخذاً من قول المجموع وغيره لو اقتلع نخامة من باطنه ولفظها لم يفطر على المذهب وبه قطع الحناطي وكثيرون، وحكى الشيخ أبو محمد الجويني فيه وجهين أصحهما لا يفطر لأنه مما تدعو الحاجة إليها والثاني يفطر كالقيء اهـ فتأمل تعليله عدم الفطر الأصح بأنه مما تدعو الحاجة إليه ومقابله الضعيف بالقياس على القيء تجد الذبابة يجري فيها هذان الوجهان بعلتيهما لما هو واضح أن إخراجها يحتاج إليه لأن إبقاءها في الباطن يورث ضرراً في الغالب وحينئذ فهو أولى بعدم الإفطار من النخامة لأن تركها ليس فيه من الضرر ما في ترك الذبابة، فعلم أن الوجه إن تعمد إخراجها لا يفطر ويدل لذلك أيضاً قول المجموع، واستدل أصحابنا أي على الفطر بوصول عين إلى الحلق وإن لم تؤكل عادة بما رواه البيهقي بسند حسن أو صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل، وإنما الفطر مما دخل وليس مما خرج اهـ. لكن ليس ذلك على إطلاقه في قوله وليس مما خرج لما ذكروا فيمن أصبح وقد ابتلع طرف خيط ليلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/27)
وسئل رضي الله عنه عن مسألة الذباب؟. مسألة الذباب فأجاب بخلاف ما ذكر حيث قال الذي دل عليه عموم كلامهم في القيء أنه يفطر بتعمد إخراجها بعد وصولها للجوف وإن احتاج إليه، ويؤيده قولهم لو أكل لغلبة الجوع وخشية الهلاك منه أو تناول مفطر المرض لا يطيق معه الصوم لخشيته منه على نفسه أفطر، وقد تردد الزركشي وغيره فيما لو تعارض واجبان الإمساك والقيء في حق من شرب خمراً وليلاً الذي رجحته في شرح العباب أنه يلزمه رعاية واجب الإمساك فلا يتقيأ وإلا أفطر، لأن واجب الإمساك متفق عليه وواجب التقيؤ على شارب الخمر مختلف فيه، وقاعدة تعارض الواجبين أنه يقدم أقواهما وقد تقرر أن واجب الإمساك هنا أقوى فمن ثم أفطر بالتقيؤ فإذا أفطر به حينئذ مع وجوبه في الجملة فأولى إخراج الذبابة لعدم وجوبه لذاته مطلقاً ولا ينافي جميع ما تقرر عدم الإفطار باقتلاع النخامة ولو من الصدر للحاجة إلى ذلك كما صرحوا به، ومعناه أن الحاجة لذلك عامة لكل أحد وغالبة إذ لا يخلو أحد من الاحتياج إلى مجها في صومه لئلا تضر به فلذلك عفى عنها لعموم وقوعها وغلبته ولم يلحق بها مسألة الذبابة لأنها نادرة جداً وغير عامة فأفطر إخراجها على أنهم صرحوا بأن القياس في النخامة الفطر ومن القواعد أن ما خرج عن القياس لا يقاس عليه فاتضح ما ذكرته من الإفطار بإخراج الذبابة من الجوف وإن احتاج لذلك فإن علم من بقائها ضرراً أخرجها وإن أفطر بذلك كما في مريض يضره الصوم وقد كان سبق مني إفتاء بأن إخراجها غير مفطر والأوجه ما ذكرته الآن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/28)
وسئل نفع الله بعلومه عن غبار السرجين إذا دخل في أنف الصائم أو فمه هل يفطر ببلع ريقه أو بوصول الغبار ماء هل يبطل العفو وتجب إزالته وما الحكم لو انتقل المعفو عنه في الفم إلى يد أو نحوه؟. فأجاب رضي الله عنه بأن الذي يتجه أنه لا يفطر ببلع ريقه المختلط بالغبار النجس وأنه لو وصل الغبار المذكور ماء لم ينجس ومما يصرح بذلك ما في المجموع وغيره من أنه لو أصاب عضوه المبتل غبار نجس لا ينجس. قال الرافعي : ومثل العضو في ذلك الماء والثياب، ونقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب لكن قيده للأذرعي و الزركشي بما إذا لم يكثر ذلك بحيث يجمع منه في دفعات ماء نجس اهـ، فعلم بذلك أن الغبار لا ينجس ما وصل إليه من الريق أو غيره وإذا لم يتنجس به الريق فلا فطر بابتلاعه لأنه باق على طهارته بخلاف ما لو تنجس فمه ثم صفا ريقه فإنه يفطر بابتلاعه وإن قلنا بالعفو عنه لأنه متنجس وابتلاع المتنجس يفطر وإن قيل بالعفو عنه كما اقتضاه إطلاقهم وإذا انتقل المعفو عنه من بعض بدنه إلى بعضه الآخر فإن كان نحو دم أو قيح عفى عن قليل المنتقل فقط أخذاً مما قاله الأذرعي من أن قولهم يعفى عن قليل الأجنبي من نحو الدم والقيح من غير مغلظ شامل لما انفصل من بدنه ثم أصابه أي فيعفى عن الذي أصابه إن كان قليلاً لأنه بانفصاله عن بدنه صار أجنبياً فعوده إلى البدن لا يلحقه بما لم ينفصل عنه حتى يعفى عن قليله وكثيره إن كان دم نحو فصد من نفسه أو كان نحو دمل أو قيحه وما في التحقيق والمجموع تبعاً للجمهور من أن الثاني كدم الأجنبي فلا يعفى إلا عن قليله ينبغي حمله كما ذكرته في شرح الإرشاد وغيره على ما إذا جاوز محل نحو الفصد وهو المنسوب إليه عادة بأن يندر عند أهلها تلوث ذلك المحل به وحمل بعضهم له على خلاف ذلك رددته ثم وإن كان أثر استنجاء عفى عنه إن لم يلق رطباً آخر من ماء أو غيره كما بحثه الجلال البلقيني فيعفى عنه لعسر تجنبه ومحل ذلك إذا لم يجاوز الصفحة أو(1/29)
الحشفة أما إذا جاوز أحدهما فلا يعفى عن المجاوز لندرته. قال الزركشي وغيره: ولو تلوثت فعله بطين الشارع المتيقن نجاسته ثم عرقت وسال العرق منها عفى عنه أيضاً اهـ، وعليه فينبغي أخذاً من العلة السابقة قريباً أنه يضر سيلانه بمحل يندر السيلان إليه، واعلم أن محل العفو في الدم قال الزركشي : ومثله طين الشارع بالنسبة للصلاة فلو وقع الثوب الذي به نحو دم في ماء قليل تنجس كما قاله المتولي قال: والعفو جار ولو كان البدن رطباً. وقال الشيخ أبو علي : لا بد أن يكون جافاً فلو لبس الثوب وبدنه رطب لم يجز لأنه لا ضرورة إلى تلوث بدنه وبه جزم المحب الطبري تفقهاً ومن علته يؤخذ أنه لا أثر للرطوبة الحاصلة من نحو ماء الوضوء والغسل وحلق الرأس وغير ذلك لمشقة الاحتراز كما لو كانت بالعرق ولا نظر لقول ابن العماد يمكن تنشيف البدن قبل لبس الثوب ولا يمكن دفع العرق، لأن ذلك مما يعسر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/30)
وسئل رضي الله عنهكراهة إفراد الجمعة والسبت والأحد والحكمة منه ما الحكمة في كراهة إفراد صوم الجمعة والسبت والأحد وفي قيام ليلة الجمعة وفي تحريم صوم أيام العيدين والتشريق؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: يكره إفراد صوم يوم الجمعة للحديث المتفق على صحته، وهو قوله : «لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده» ، وفي رواية: «يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده» وهذه وإن كان في سندها مجهول لكن لها شاهد في الصحيحين واستفيد من الحديث الأوّل والثاني كراهة صومه لكل أحد سواء أكان صومه يضعفه عن صلاة الجمعة أم لا وهو الأصح، وقيل: إنما يكره لمن أضعفه وانتصر له الأذرعي وغيره ونقلوه عن النص، وقيل: لا يكره، وقيل: يحرم، ومما يدل للأصح الأحاديث الكثيرة الصحيحة المطلقة كحديث الصحيحين من أن النبي دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «صمت أمس؟»، فقالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غداً؟»، قالت: لا، قال: «فافطري» . والقول بأنه يحتمل أنه علم من حالها الضعف فنهاها عن الإفراد فيه نظر، لأن هذه واقعة حال قولية يعمها الاحتمال فيفيد أنه لا فرق بين من يضعفه الصوم وغيره على أن المرأة لا جمعة عليها فليس الإضعاف في حقها مقصوداً أصلاً فدل ذلك على أنه لا نظر إليه في الكراهة، واستفيد من الحديث الثاني أعني قوله: «فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم» أن علة الكراهة أنه يوم عيد وطعام فأشبه صوم العيدين في مطلق النهي، وإن افترقا في أن النهي فيهما للتحريم وهنا للتنزيه لأن هذا ليس عيداً حقيقة وكون العلة ذلك هو ما ذكره الحليمي ، وأشار إليه القاضي حسين ، وقيل: العلة أن لا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت، وقيل: لئلا يعتقد وجوبه. وقال النووي : الصحيح أن علة الكراهة أنه يضعف عن القيام بالوظائف الدينية المشروعة فيه، أي من صلاة الجمعة وسوابقها ولواحقها ومن الاجتهاد(1/31)
في الدعاء يومه ليصادف ساعة الإجابة فيه، ومراده أن الصوم مظنة للإضعاف عن ذلك فلا ينافي ما مرّ أنه لا فرق في الكراهة بين من يضعفه وغيره نظير صوم عرفة للحاج، ومحل الكراهة حيث لم يصم قبله يوماً أو بعده يوماً للحديث السابق ولأنه تبين أنه لم يقصد إضعاف نفسه في يوم الجمعة عن مقاصد الجمعة، وإنما قصد الصوم لا غير ومحلها أيضاً في غير الفرض فصومه عن الفرض لا كراهة فيه كما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/32)
الإسنوى وغيره، ومحلها أيضاً حيث لم يوافق عادة له فمن عادته صوم يوم وفطر يوم إذا جاء يوم الجمعة قبله فطر وبعده فطر لا كراهة في صومه يوم الجمعة حينئذ خلافاً لابن عبد السلام لخبر مسلم: ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم . وقياساً على ما قالوه في صيام يوم الشك بل لأن الكراهة ثم للتحريم، وهنا للتنزيه فإذا منع ذلك الاعتياد الحرمة فلأن يمنع الكراهة أولى ونازع الأذرعي وغيره في انعقاد صومه حيث كره بأن قياس الصلاة في الأوقات المكروهة يقتضي عدم الانعقاد هنا كما هناك، ويرد بأن الكراهة ثم ذاتية وهي يستحيل معها الانعقاد وإن قلنا إن الكراهة للتنزيه كما بينته في شرح العباب، وأما هنا فليست كذلك بل لأمر خارج عن ذات الصوم وهو ما مر على الخلاف فيه فانعقد صومه بل وينعقد نذر صومه كما صرحوا به في باب النذر فالتوقف فيه غفلة عن كلامهم ثم وفي الأم: ومن نذر أن يصوم يوم الجمعة فوافق يوم فطر أفطر وقضى. قال الأذرعي : وهو مشكل على إطلاق الجمهور كراهة إفراده بالصوم إذ لو كرهه لما حكم بانعقاد نذره فيما يظهر اهـ. ويرد بأن الكراهة المنافية للانعقاد هي الكراهة الذاتية، وأما الكراهة العرضية فيما هو مطلوب لذاته فلا تنافي انعقاد النذر. قال النووي في تعليقه على التنبيه: ولو أراد اعتكاف يوم الجمعة وحده ولم يصم قبله ولا عزم على الصوم بعده فيحتمل أن يقال يكره له صومه للإفراد، ويحتمل أن يقال يستحب لأجل الاعتكاف وليصح اعتكافه بالإجماع فإن أبا حنيفة رحمه الله شرط فيه الصوم اهـ. قال الأذرعي : وقد يقال يكره تخصيصه بالاعتكاف كالصوم وقيام ليلته اهـ، وفيه نظر والوجه عدم كراهة اعتكافه لأنه لا إضعاف فيه ألبتة بخلاف صومه وقيام ليلته والذي يتجه ترجيحه من احتمالي النووي أولهما وما علل به الاحتمال الثاني لا يقتضي منع الكراهة كما هو ظاهر، ويكره أيضاً إفراد يوم السبت لقوله : «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما(1/33)
افترض عليكم» رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. قال، أعني الترمذي: ومعنى النهي أن يختصه الرجل بالصيام لأن اليهود يعظمونه، وأما قول أبي داود إن الحديث منسوخ و مالك رضي الله عنه أنه كذب فمردود ومن ثم قال النووي ليس كما قالا، وقد صححه الأئمة. قال الحاكم : هو صحيح على شرط البخاري، والصواب على الجملة كراهة إفراده إذا لم يوافق عادة له اهـ. واعترضه الأذرعي وغيره بما فيه نظر بل ما صوبه ظاهر، وإن جلت مرتبة مالك فضلاً عن أبي داود ولا ينافي ذلك الحديث الصحيح أنه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/34)
كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد ، وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين، فأحب أن أخالفهم لأن صومهما لا إفراد فيه فلا مشابهة فيه لفعل الكفار إذ تعظيمهما معالم يقل به أحد منهم فاندفع استدلال الأذرعي بذلك على أنه لا يكره إفراد أحدهما بالصوم. قال الحليمي في منهاجه: وكان المعنى في كراهة يوم السبت أن الصوم إمساك وتخصيصه بالإمساك عن الأشغال من عوائد اليهود، وتبعه تلميذه الإمام البيهقي فقال: كان هذا النهي إن صح أي وقد صح كما مرّ إنما هو لإفراده بالصوم تعظيماً له فيكون فيه تشبيه باليهود وقضية هذا المعنى كما قاله غير واحد كراهة إفراد الأحد أيضاً لأن النصارى تعظمه ففي إفراده تشبه بهم وبه صرح ابن يونس في شرح التنبيه وصاحب الشامل الصغير، وجزم به البلقيني وغيره ومر أنه لا يكره صومهما معاً لأن المجموع لم يعظمه أحد من بقية الملل وحمل عليه النووي وغيره خبر أنه كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد وكان يقول: «إنهما يوما عيد للمشركين وأحب أن أخالفهم» ، وكذلك خبر الترمذي أنه قل ما كان يفطر يوم الجمعة محمول كما قاله ابن عبد البر وغيره على أنه كان يصله بيوم الخميس. وذكر الروياني في البحر: أنه لا يكره إفراد عيد من أعياد أهل الملل بالصوم كفصح النصارى وفطير اليهود ويوم النيروز والمهرجان اهـ، وفيه نظر بل قياس ما مر في صوم السبت والأحد الكراهة لأن في صومها تعظيماً لها ويؤيده قول ابن العربي المالكي في شرح الترمذي وإنما كره إفراد الجمعة بالصوم لأنه عيدنا أهل الإسلام وأهل الكتاب يصومون في عيدهم فكره التشبه بهم. وقال الأذرعي : إن صح ما ذكره عنهم، أي من أنهم يصومون يوم عيدهم فالوجه كراهة إفراد أيام أعيادهم بالصوم عكس ما قاله صاحب البحر لما فيه من موافقتهم اهـ، وفيه نظر، بل الأوجه كراهة صومها وإن كانوا لا يصومونها ألا ترى إلى كراهة إفراد السبت مع أنهم لا يصومونه وكذا الأحد لما مر عن الحليمي(1/35)
أن الصوم إمساك وتخصيصه بالإمساك عن الإشغال من عوائد اليهود وكذا في بقية أعيادهم فقال بالكراهة لأن الصوم إمساك وتخصيص هذه الأيام بالإمساك عن الأشغال من عوائد الكفرة فكره التشبه بهم في ذلك سواء كانوا يصومونها أم لا؟ ويكره إدامة قيام كل الليل كما صرح به في الروضة وغيرها تبعاً للمهذب لنهيه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن ذلك لأنه يضر بالعين وسائر البدن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/36)
كما في الحديث، وفرق في شرح المهذب بينه وبين عدم كراهة صيام الدهر بأن ذاك مضر دون هذا وبأن من صام الدهر يمكنه أن يستوفي بالليل ما فاته من أكل النهار ومصلي الليل لا يمكنه نوم النهار لما فيه من تفويت مصالح دينه ودنياه اهـ، ونازعه الأذرعي في هذا الفرق بما فيه نظر ودعواه أنه ينبغي استواؤهما يردهما تصريح الحديث بأن قيام كل الليل مضر ولم يصرح بنظيره في صوم الدهر وحكمته ما مر، وإن قام كل الليل لا يحتاج لنوم غالب النهار بل يكفيه ساعة منه يردها أن الحس بخلافها وإن من قامه كله كمن هجع منه هجعة فلا يكره للأوّل قيامه كالثاني يردها الحس أيضاً إذ نوم بعضه وإن قل يزيل ضرره بخلاف سهر كله والكلام في القوي القادر الفارغ عن الشواغل المتلذذ بمناجاة الحبيب المنعم بها ثم استحسن قول صاحب الانتصار يكره قيام الليل كله لمن يضعفه ذلك عن الفرائض. وقول المحب الطبري قيام كله فعل جماعة من السلف والحديث محمول على الرفق بالأمة وإنما يقال ذلك فيمن يجد به مشقة يخشى منها محذوراً وإلا فيستحب له لا سيما بمناجاة به ومن يشق عليه ولم يخف ضرراً لم يكره له ورفقه بنفسه أولى اهـ. والمعتمد إطلاق الكراهة لأن ذلك من شأنه أنه يضر فلا فرق بين من يجد منه ضرراً أولاً لأن من لم يجد منه لا بد أن يجده ولو بعد مدة فكان المعتمد ما أطلقه النووي وصاحب المهذب. وقال السيد السمهودي : كلام شرح المهذب ظاهر التقييد بالإضرار وجميع ما ذكر يحرم له فهو المعوّل عليه اهـ، فإن أراد الإضرار بالفعل فلا نسلم أن كلام شرح المهذب ظاهر في ذلك وإن أراد مظنة الإضرار فهو ما قلناه، وكلام شرح المهذب والروضة والمنهاج دال عليه قال في المهمات وهو الأصح والتقييد بقيام الليل كله ظاهره انتفاء الكراهة لترك ما بين المغرب والعشاء وفيه نظر والمتجه إسقاط التقييد وتكون الكراهة متعلقة بالمقدار الذي يضر سواء كان هو الجميع أم لا؟ وكلام شرح المهذب يقتضيه. وذكر الطبري(1/37)
قريباً منه وساق ما مر عنه واعترض بأن ما بين العشاءين ليس من وقت النوم المعتاد وأيضاً فعلة الكراهة ما ينشأ من الضرر بترك النوم فإن لم يقم بينهما ولم ينم فالعلة موجودة لخلو كل الليل عن النوم الذي هو مظنة الضرر وإن نام فقد ارتكب كراهة النوم قبل العشاء وهي أشد اهـ، واحترزوا بقولهم دائماً عن إحياء بعض الليالي فإنه لا يكره لأنه كان يحيي ليالي العشر الأخير من رمضان
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
ويسن إحياء ليلتي العيد باتفاق أصحابنا ويكره أيضاً تخصيص ليلة الجمعة بالقيام أي الصلاة سواء ليلة الرغائب وغيرها لقوله : «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي» رواه مسلم. وأما ما في الإحياء من استحباب إحيائها فمحمول على ما إذا قام الليلة التي قبلها أو الليلة التي بعدها كما قالوا في صوم يومها كذلك، ومنه يؤخذ أن علة الكراهة هنا أن قيامها يؤدي إلى الإضعاف في يومها عن الوظائف الدينية المطلوبة فيه فكان كصيام يومها ومن ثم لا يكره قيام ليلة غيرها على ما اقتضاه تقييدهم الكراهة بليلتها، وبذلك جزم بعض شراح المنهاج وللأذرعي احتمال بالكراهة لأنه بدعة ومال إليه العزي فقال: والظاهر أنه إذا نهى عن هذه الليلة فغيرها بالمنع أولى، لأن التخصيص بدعة اهـ، وقد علمت مما قدّمته في سبب الكراهة أن غيرها ليس مساوياً لها في ذلك فضلاً عن كونه أولى، وأما كون تخصيص غيرها بالقيام بدعة فلا شك فيه لكن يبقى النظر في أن هذه بدعة مكروهة أو مباحة ولا دليل على الكراهة لما علمت من منع القياس على ليلة الجمعة ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق وحكمة ذلك ما فيه من الإعراض عن ضيافة الله تعالى لعباده، والله أعلم بالصواب اهـ كلامه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/38)
وسئل فسح الله في مدته استحباب صوم الاثنين والخميس ورجب والاشهر الحرم عن فقيه يحدّث أن صوم يوم الاثنين والخميس مستحب وأن صوم رجب مستحب وصوم باقي الأشهر الحرم أيضاً مستحب، وأنه المشهور في الكتب فحدّث فقيه آخر أن صوم الاثنين والخميس ورجب غير مستحب ونهى الناس عن صومه فمن الناس من ترك الصوم لأجل نهيه، ومن الناس من يصوم الاثنين والخميس من رجب والناهي عن الصوم مستدل بما ذكره الحليمي في منهاجه من الصوم المكروه اعتياد يوم بعينه كالاثنين والخميس، وذكر عن ابن عباس أنه سئل عن صومها فقال: أكره أن توقت عليك يوماً تصومه، وعن عمران بن الحصين: لا تجعل عليك يوماً حتماً، وعن أنس: إياك أن تكون اثنينياً أو خميسياً أو رجبياً. قال: وكان مجاهد يصومهما ثم تركه، ووجه الكراهة أن تخصيص يوم أو شهر بالصوم دائماً تشبيه برمضان ولا ينبغي أن يشبه به ما لم يشبهه الله به اهـ. قال الأذرعي في التوسط وما قاله الحليمي غريب اهـ. فما الصحيح عندكم بينوه لنا واضحاً وابسطوا لنا الجواب عن ذلك فالحاجة داعية إلى ذلك؟. فأجاب رضي الله عنه: بأن الصواب مع القائل باستحباب صوم يوم الاثنين والخميس ورجب وباقي الأشهر الحرم، ومن قال إن ذلك غير مستحب ونهي الناس عن صومه فهو مخطىء بل وآثم لأن غاية أمره أنه عامي، والعامي لا يجوز له تقليد الأقوال الضعيفة والأخذ بقضيتها وقد اتفق أئمتنا على ضعف مقالة الحليمي المذكورة في السؤال بل على غرابتها وشذوذها وأنها منابذة للسنة الصحيحة كما يعلم من بسط أحواله في صيامه، وخلاصته أن صيامه في السنة والشهر على أنواع ولم يكن يصوم الدهر ولا يقوم الليل كله وإن كان له قدرة على ذلك لئلا يقتدي به فيشق على أمته وإنما كان يسلك الوسط ويصوم حتى يظن أنه لا يفطر ويفطر حتى يظن أنه لا يصوم ويقوم حتى يظن أنه لا ينام وينام حتى يظن أنه لا يقوم النوع الأوّل أنه كان يصوم عاشوراء وهو عاشر المحرم، وفي قول ضعيف أنه تاسعه،(1/39)
وكان صيامه له على أربعة أحوال: أوّلها: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بصيامه ودليله حديث الشيخين وغيرهما عن عائشة كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه في الجاهلية ، أي قبل نزول الوحي موافقة لهم فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان ترك عاشوراء أي وجوبه على القول بأنه كان واجباً أو تأكد طلبه على القول بأنه لم يزل سنة ويؤيده أن ابن عمر كان لا يصومه إلا أن يوافق صومه ويستفاد من هذا الحديث تعيين وقت الأمر بصومه وهو أول قدوم المدينة وكان في ربيع الأول فيكون الأمر به في أول السنة الثانية من الهجرة وفيها فرض رمضان فلم يقع الأمر به إلا في سنة واحدة ثم بعد فرض رمضان فرض صومه له أي التطوع فعلى تقدير أنه كان واجباً يكون نسخ بذلك. ثانيها: أنه لما قدم المدينة ورأى صوم أهل الكتاب وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم ينه عنه صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم وصيامه له بالمدينة لم يكن اعتماداً على مجرد أخبار آحادهم بل كان بوحي أو تواتر أو اجتهاد، وقيل استئلافاً لهم لا اقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك ثم لما زال الاستئلاف بفتح مكة أحب مخالفتهم فقال: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فلم يأت العام القابل حتى توفي . ثالثها: أنه لما فرض رمضان ترك صيام عاشوراء وقال:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/40)
«أنه يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه» . رابعها: أنه عزم في آخر عمره على ضم التاسع إليه مخالفة لأهل الكتاب في صيامه كما مر. فمراتب صومه ثلاثة أدناها صومه وحده ثم مع التاسع ثم معه ومع الحادي عشر فهذا أكملها وصح أن صوم عاشوراء يكفر سنة وصوم عرفة يكفر سنتين فصومه أفضل من صوم عاشوراء لأنه يوم الحج الأكبر عند جماعة ولأنه أفضل عشر ذي الحجة وسيأتي أن العمل فيها أفضل منه في سائر السنة، وقيل: لأنه منسوب لنبينا وعاشوراء منسوب لموسى صلى الله عليهما وسلم. وورد من طرق صحح بعضها بعض الحفاظ خلافاً لمن زعم أنها موضوعة من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها النوع الثاني أنه كان يصوم شعبان. روى الشيخان أنه لم يصم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله . وفي روايات: كان يصومه إلا قليلاً وبها يعلم أن المراد بالكل الأكثر أو كان مرة يصومه جميعه ومرة يصوم معظمه لئلا يتوهم وجوبه وحكمة إكثار الصوم فيه مع نصه على أن أفضل الصيام ما يقع في المحرم. فقد روى مسلم: أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم أنه يحتمل أنه لم يعلم ذلك إلا آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم أو اتفق له من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم فيه أو كان يشتغل عن صوم الثلاثة التي من كل شهر فيقضيها في شعبان كما ورد من طريق ضعيف بل فيها ابن أبي ليلى، وقد رؤي بوضع الحديث أو ليعظم رمضان كما في حديث ضعيف أيضاً، أو لأنه يغفل كما في حديث صححه ابن خزيمة عن أسامة قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر تغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فهو شهر ترفع الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» ، فأشار إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام ورمضان اشتغل الناس بهما فغفلوا عنه ولذا ذهب كثيرون إلى أن صوم رجب أفضل منه. ومن فوائد إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة أنها فيه(1/41)
إخفاء وإخفاؤها سيما بالصوم الذي هو سر بين العبد وربه أولى وأنها فيه أشق لتأسي النفوس بما تشاهد من أحوال أمثالها، ولهذا سهلت الطاعات عند مزيد يقظة الناس وشقت عند بعد ذلك، أو لأنه تنسخ فيه الآجال كما في حديث ضعيف عن عائشة قلت: يا رسول الله إن أكثر صيامك في شعبان، قال: «إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم ولأنه يتمرن بصومه على صوم رمضان فلا يأتي إلا وقد اعتاد الصوم وسهل عليه فلا يأتي رمضان إلا وهو على غاية من النشاط، وأما شهر رجب فقد قال بعض أئمتنا: أنه أفضل من سائر الشهور لكنها مقالة ضعيفة، بل لم يصح أنه صامه، بل روى ابن ماجه عن ابن عباس أنه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/42)
نهى عن صيامه لكن الصحيح وقفه على ابن عباس، وحينئذ فلا شاهد في ذلك لكراهة صوم رجب خلافاً لمن ورد عليه، بل روى أبو داود أنه ندب الصوم في الأشهر الحرم ورجب أحدها . وروى أبو داود وغيره عن عروة أنه قال لعبد الله بن عمر هل كان رسول الله يصوم في رجب؟ قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثاً. وقد قال أبو قلابة: إن في الجنة قصر الصوّام رجب. قال البيهقي : أبو قلابة من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ فثبت ندب صومه وأنه ليس مكروهاً وأن القول بالكراهة فاسد بل غلط بل قد علمت فضل صوم شعبان، ومع ذلك صوم رجب أفضل منه إذ المعتمد أن أفضل الشهور بعد رمضان المحرم ثم بقية الحرم ثم شعبان. النوع الثالث: أنه كان يصوم عشر ذي الحجة التسع الأول منها روى أبو داود عن بعض أزواج النبي أنه كان يصومها. وعن عائشة عن مسلم: ما رأيته صائماً قط نفي وغيره إثبات فقدم عليه لأنها نفت رؤية نفسها. وروى البخاري: ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه ، يعني العشر الأول من ذي الحجة. وفي رواية: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى، وقيل: ومنه يؤخذ أن هذا العشر أفضل من العشر الأواخر من رمضان. قال بعضهم: وهو كذلك بالنسبة لأيامه لأن فيها يوم عرفة الذي لم ير الشيطان أحقر ولا أذل ولا أغيظ منه فيه يكفر سنتين وفيها يوم النحر وهو أعظم الأيام حرمة عند الله سماه يوم الحج الأكبر، أما بالنسبة لليالي فليالي عشر رمضان الأخير أفضل لأن فيها ليلة القدر وفضلها معلوم مشهور، ودليل هذا التفصيل تعبير الخبر بأيام دون ما من عشر ونحوه. النوع الرابع: أنه كان يصوم في بعض أيام الأسبوع والأيام البيض، والحاصل أن صيامه في الشهر على أوجه: أحدها: أنه كان يصوم أوّل اثنين ثم الخميس ثم الخميس الذي بينه، رواه العسامي. ثانيها: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، رواه الترمذي وفيه(1/43)
أنزل على رواية مسلم وقال: «تعرض الأعمال على الله يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» . وروى النسائي عن أسامة قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: «ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» وهذا عرض خاص في هذين اليومين وأما العرض الدائم فهو كل يوم بكرة وعشياً ولا يعارض ما مر من صوم يوم السبت والأحد صحة النهي عن صوم السبت لأنه محمول على إفراده. ثالثها: أيام البيض ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر روى النسائي كان لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر . وفي حديث مسلم عن عائشة: أنه لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم الثلاثة ولعله ترك تعيينها في بعض الأوقات لئلا يظن وجوبه رابعها ثلاثة كما مر عند مسلم خامسها ثلاثة أول كل شهر روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة كان يصوم ثلاثة أيام غرة كل شهر ويسن أيضاً صوم السابع والعشرين وتالييه وتسمى الأيام السود، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/44)
وسئل رضي الله عنه عن مسألةإخبار الثقة برؤية الهلال وقع عنها جوابان مختلفان صورتها إذا أخبر الثقة برؤية هلال رمضان فهل يجب الصوم على من أخبره حيث اعتقد صدقه وإن لم يذكره عند قاض أم لا يجب الصوم على المخبر إلا إذا ذكره عند قاض، أجاب الأوّل فقال: يجب الصوم على من أخبره الثقة وإن لم يذكره عند قاض حيث اعتقد صدقه كما ذكره ابن عبدان و الغزالي و البغوي و الخوارزمي و ابن دقيق العيد وغيرهم، وأجاب الثاني فقال: لا يجب الصوم على من أخبره الثقة إذا لم يذكره عند قاض وإن اعتقد صدقه لأمور: أحدها: أن الشافعي رضي الله عنه نص في المختصر على أنه لا يجب الصوم إلا بشهادة عدلين، لأن الصحيح المنصوص المتفق عليه المعتمد في المذهب أنه شهادة لقوله : «فإن شهد ذوا عدل فصوموا وافطروا» فثبت أنه شهادة بنص صاحب الشرع وإمام المذهب، فتعين الأخذ به واطراح ما عداه وقد قال الشافعي رضي الله عنه: إذا صح الحديث فهو مذهبي. الأمر الثاني: أن الشيخ الإمام الصيرفي نائب الشرع الشريف بمصر المحروسة أجاب بأن الرائين إذا لم يشهدوا عند حاكم شرعي ولم يثبت لم يلزم من لم يره العمل بقول من رآه ولو كثروا وله الفطر إلى استكمال شعبان ثلاثين وكذا بالنسبة إلى آخر يوم منه وأوّل يوم من شوّال له استكمال رمضان ثلاثين إن لم يره ليلة الثلاثين من رمضان، وقد أطلق الإمام الرافعي رحمه الله النقل عن الإمام و ابن الصباغ فيما إذا أخبر به من يوثق به أي ولم يثبت عند قاض أنه لا يلزم المخبر، بفتح الباء، العمل بقول المخبر، بكسرها، إلا إذا بنينا على أنها من باب الرواية وهو ضعيف، أما إذا بنينا على أنه من باب الشهادة وهو المعتمد والمذهب فلا يلزم المخبر العمل بقول المخبر ثم نقل، أي الرافعي ، عن الإمام ابن عبدان ومن وافقه القول بوجوب العمل بقول المخبر مطلقاً ولم يرجح شيئاً منهما لكن قضية تقديمه النقل عن الإمام وابن الصباغ وتفريعه على ذلك وبنائه على الوجهين(1/45)
في أنه من باب الرواية أو الشهادة كما ذكر يقتضي ترجيح ما قالاه، أي في أن طريقه الشهادة دون الإخبار لقوله عليه الصلاة والسلام: «فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا» فثبت أنها شهادة ولأنه حكم شرعي فتعلق برؤية الهلال، ويلزم من ذلك بناء على المعتمد أنه شهادة عدم لزوم العمل بقول المخبر حيث لم يثبت عند حاكم شرعي كما تقدم وذلك موافق لما ذكره الإمام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/46)
الأذرعي في التوسط حيث قال: ولا أحسب أحداً ينازع في أنه لو أخبر الحاكم رعيته أنه رأى الهلال أو الإمام العادل أنه لا يلزمهم الصوم إلا أن يشهد به عند قاض آخر بلفظ الشهادة اهـ جواب الصيرفي رحمه الله تعالى، ويؤيده قول الشيخ الإمام ابن ناصر في شرح البهجة أن كلام الناظم افهم أنه إذا أخبره بالرؤية من يعتقد صدقه ولم يتصل بالحاكم أنه لا أثر له اهـ وقد صرح الجلال المحلي في شرح المنهاج بأنه لا بد في الوجوب على من لم يره من ثبوت رؤيته عند القاضي اهـ، وعبارة غيره: إذا ثبتت الشهادة عن الإمام لزم الناس كلهم الصيام اهـ، ومقتضاه أنه إذا لم تثبت الشهادة عند الإمام لا يلزم الناس الصيام، وأجاب بنحو جواب الصيرفي أيضاً بعض المتأخرين من علماء اليمن حيث قال: لا أثر للشهادة عند غير القاضي ولا يترتب عليها حكم صحيح وذلك ما تقتضيه نصوص المذهب ومفاهيمه فإن كان في هذه الشاغرة عن الحكام من يسمع كلامه ويرجع إليه في الحل والعقد ونصب في البلد عارفاً بالأحكام فقيهاً نفذ حكمه وسماعه أداء الشهادات بما يقتضيه الشرع الشريف كما ذكره في العزيز والروضة والأنوار وغيرها من كتب المذهب، وإن لم يكن فيها من هو كذلك فلا اهـ. ثم سئل أيضاً عن بلاد ليس فيها سلطان ولا قاض وفيها رجل يظن أنه يعرف شيئاً من العلم فيأتيه عدل واحد يشهد عنده برؤية هلال رمضان فيمتنع من قبول شهادته لكونه غير قاض فهل امتناعه من ذلك هو الصواب، فأجاب بأن امتناعه من ذلك هو الصواب، لأن سماع الشهادة من هذا الرجل وأمثاله والحكم بها لا يصلح لذلك لكونه غير قاض لكن يتعين على أهل الحل والعقد تولية من يصلح لذلك بحسب الإمكان وإعانته فإن فعلوا وإلا أثموا لإخلالهم بفرض الكفاية ويجب تنبيههم على ذلك وإعلامهم وزجرهم بحسب الطاقة فإن فعلوا ذلك وجب على من ولوه سماع البينة والحكم بما يقتضيه الشرع الشريف في ذلك وغيره، والله تعالى أعلم اهـ جوابه، ثم أجاب بنحو جوابهما أيضاً(1/47)
بعض علماء مكة المشرفة فقال: إذا لم ير الإنسان شهر رمضان عند نقصان شعبان فلا يلزم الصوم وصوم الغير ليس بحجة على الغير وأما جواز صومه إذا لم يكن يوم شك فهو جائز وإن رأى هلال الفطر لا يجوز له الصوم إلا إذا ادعى عند قاض أو محكم من جهة أهل البلد كلهم اهـ، جوابه ويؤيد هذه الأجوبة ما أجاب به الشيخ الإمام ابن ناصر حيث قال لا بد من صيغة الشهادة ويختص بمجلس القضاء قال: لكن هذا حيث كان في البلد قاض كما هو الغالب، أما المكان الذي لا قاضي فيه فيجب أن ينصبوا محكماً يسمع الشهادة اهـ وبنحوه، أجاب
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/48)
الشريف السمهودي رحمه الله ومقتضى هذا وما سبق من الأجوبة أنه لا يجب الصوم إلا بالشهادة عند قاض أو محكم منصوب، وذكر الإمام العماد الأقفهسي في توقيف الحكام أن الأصحاب ذكروا وجهين فيما لو أخبر برؤية هلال رمضان عدل واحد أو عدول هل يجب الصوم إن قلنا أنه رواية وجب وإن قلنا إنه شهادة فوجهان: أحدهما: لا يجب لأن الشهادة تختص بمجلس الحكم وهذا هو الأصح عند صاحب الشامل اهـ، وفي موضع آخر من توقيف الحكام أنه لو أخبره عدلان برؤيته يوم الثلاثين من شعبان لم يلزم الصوم على الصحيح تفريعاً على أنه يسلك به مسلك الشهادة وهو الصحيح لأن ذلك يختص بمجلس الحكم اهـ فيفرض الكلام في أن طريقه طريق الشهادة دون الإخبار لما سبق في قوله: «فإن شهد ذوا عدل فصوموا» فثبت أنها شهادة ولأنه حكم شرعي فتعلق برؤية الهلال فوجب أن يكون حكم الإخبار به حكم الشهادات. قال الشيخ ابن ناصر ، وقول الناظم كمثل أن ينوي صوم الغد عن فريضة الشهر بجزم أو بظن أن الظن إما برؤيته أو ثبوته لدى القاضي اهـ. قال الشيخان رحمهما الله تعالى في الكلام على النية إذا حكم القاضي بشهادة أو واحد إذا جوّزناه وجب الصوم اهـ، ومقتضاه أنه لا يجب الصوم إلا إذا حكم القاضي بذلك كما سبق، ويؤيده قول النووي في شرح المهذب قال أصحابنا فإن شرطنا عدلين فلا مدخل للنساء والعبيد في هذه الشهادة ويشترط لفظ الشهادة وتختص بمجلس القاضي اهـ، وأطلق ابن الرفعة وغيره في النقل عن الإمام اشتراط الشهادة به عند القاضي وذكره أيضاً البارزي و الإسنوى والأذرعي وغيرهم. الأمر الرابع: سبق أن الإمام و ابن الصباغ ذكرا أن ما اختاره ابن عبدان ومن وافقه مفرع على أن قبول قول الواحد بطريق الرواية اهـ، فعلى هذا لا يجوز تقليدهم فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد فيرجح عنده ذلك فقد قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح المهذب الذي هو عمدة المذهب عن الإمام تقي الدين بن الصلاح من غير اعتراض عليه إن(1/49)
حكم من لم يكن أهلاً للتخريج أن لا يتبع شيئاً من اختياراتهم لأنه مقلد للإمام الشافعي رحمه الله دون غيره اهـ، وظاهره أن مقلد الإمام الشافعي رضي الله عنه لا يجوز له أن يتبع شيئاً من اختياراتهم إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد بل عليه أن يتبع نص الشافعي رضي الله عنه كمسألتنا المسؤول عنها فإن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق وهو مقلد للإمام المجتهد المطلق لا يجوز للمقلد للإمام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/50)
الشافعي رضي الله عنه أن يترك مذهب إمامه ويعمل بما قاله المجتهد المقلد، كذا أفتى به الإمام الكازروني شيخ الحرم النبوي وهو أيضاً نص في مسألتنا. وقال النووي أيضاً: لا يجوز لمفت على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه أن يفتي بمصنف أو مصنفين ونحوهما من كتب أصحابنا لكثرة الاختلاف في الجزم والترجيح، وقد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو مخالف للمنصوص وما عليه الجمهور اهـ، وهذا أيضاً مثل ما سبق من اختيار ابن عبدان ومن وافقه. وقال الإمام الأزرقي : لو وجد من ليس أهلاً للترجيح اختلافاً للأصحاب في الأصح من القولين والوجهين اعتمد تصحيح الأكثر اهـ، وفي مقدمة المهمات أن الرافعي و النووي لم يخالفا نص الشافعي في مواضع كثيرة جداً فأجاباه بما وجداه لبعض الأصحاب إلا ذهولاً عن النص قال: وكثيراً ما يخالف الأصحاب النص لا عن قصد ولكن لعدم اطلاعهم عليه كما قاله البندنيجي في تعليقه اهـ، ولهذا قال الإمام الأصبحي وإذا وجد للشافعي نص والتصحيح بخلافه فالاعتماد على نصه إذ الفتوى في هذا الزمان إنما هي على الأصح على طريق التقليد له رضي الله عنه وتقليده أولى من تقليد غيره فقد كان شيوخ المذهب لا يفتون إلا به وإن كان عندهم بخلافه، فإن الشيخ أبا حامد الإسفراييني كان كثيراً ما يقول في تعليقه كنت أذهب إلى كذا وكذا حتى رأيت نص الشافعي على كذا وكذا ثم آخذ بالنص وأترك ما كنت عليه اهـ كلام الأصبحي. وقال الإمام الإسنوى : لا اعتبار مع نص صاحبنا بمخالفة غيره بل يجب المصير إلى النص ولو كان المخالفون له أكثر فإن تساووا رجحنا بنص صاحب المذهب لأن الترجيح تارة يكون ببيان نص الشافعي فإنه أعظم الترجيحات مقداراً وأعلاها مناراً وتارة بموافقة الأكثرين فإنه يجب الأخذ به كما صرح به في الروضة ثم قال في المهمات: كيف تسوغ الفتوى بما يخالف نص الشافعي رضي الله عنه، وكلام الأكثرين ولا معوّل على تصحيح يخالف ذلك بل هو ضعيف، ثم قال: ولا شك(1/51)
أن صاحب المذهب إذا كان له في المسألة نص وجب على أصحابه الرجوع إليه فيها فإنهم مع الشافعي كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص ثم قال هو و الأذرعي لا عذر لأحد في مخالفة نص الشافعي رضي الله عنه، زاد الأذرعي ومتى وجد للشافعي نص في المسألة طاح ما خالفه. الأمر الخامس: أن الأئمة رضي الله عنهم إذا امتنعوا من مخالفة نص الشافعي وهم بلغوا درجة الاجتهاد فالامتناع لمن لم يبلغها أولى فحينئذ الحاصل من هذه النقول الصحيحة والنصوص الصريحة أنه لا يجب الصوم لما سبق عن ابن عبدان ومن وافقه إذا لم يذكره عند القاضي لمخالفتهم ما سبق من النقول والنصوص ولعدم جواز تقليدهم فيه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد كما سبق عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/52)
النووي نقله عن ابن الصلاح . الأمر السادس: أنه إذا لم يثبت عند قاض حرم صومه عن رمضان لمن لم ير الهلال بنفسه وأما من رآه فنقل الأذرعي عن سليم الرازي أنه إذا لم يثبت لم يجزئه صومه ومقتضى كلام غيره من الأئمة أنه يجب عليه صومه ويجزئه اهـ. وفي الحديث الإجماع على أنه لا يشترط في تكليف كل واحد بالصوم رؤية نفسه بل يكتفي برؤية من تثبت به الرؤية كذا قال الكبكلدي في قواعده، وظاهره أنه لا يكتفي برؤية من لا تثبت به الرؤية بل قال الغزالي وغيره إذا لم يتحدث الناس برؤيته ولم يثبت عند قاض فهو يوم شك. قال الشيخان في العزيز والروضة وشرح المهذب: إذا وقع في الألسن أنه رؤي ولم يقل عدل أنا رأيته أو قال ولم يقبل الواحد أو قاله عدد من النساء والعبيد والفساق وظن صدقهم فهو يوم شك، وعبارة الولي العراقي إذا شهد عدد من الفساق وظن صدقهم فهو يوم شك، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ جواب الثاني، فما الراجح عندكم من الجوابين أبقاكم الله تعالى للمسلمين؟. فأجاب نفع الله به بقوله: قد رفعتم إليّ من قديم هذا السؤال بعينه وأجبتكم عنه بجواب مبسوط مستوف لرد جميع ما قاله المجيب الثاني لفظة بلفظة وعلى فرض أن بين جوابيه تخالفاً في بعض الألفاظ فالحكم لا يختلف بذلك ولأجل ذلك لا حاجة بنا إلى بسط الكلام عليه ثانياً بل نكتفي بما قدمناه ونشير لكم هنا إلى خلاصة المعتمد في المسألة وهو أن من أخبره برؤية هلال رمضان عدل موثوق به ووقع في قلبه صدقه لزمه الصوم على المنقول المعتمد سواء قلنا إن ثبوت رمضان من باب الرواية أم من باب الشهادة، لأن ذلك الخلاف إنما هو بالنسبة لوجوب الصوم على عموم الناس، وأما بالنسبة لوجوبه على الرائي ومن أخبره موثوق به ووقع في قلبه صدقه فلا يتفرع على ذلك بل يكتفي به ويجب به الصوم وعلى هذا التفصيل الذي ذكرته يحمل اختلاف الأصحاب فمن قال لا يجب الصوم إلا أن تثبت الرؤية عند القاضي أي أو المحكم فمراده لا يجب على(1/53)
عموم الناس ومن قال يجب الصوم على من أخبره عدل موثوق به أراد أنه يجب على خصوص المخبر الذي أخبره موثوق به ووقع في قلبه صدقه، وحينئذ فلا تخالف بين كلام الأصحاب ولا تناقض كما ظنه المجيب الثاني ومن اغتر به من قائلي تلك الأجوبة التي ذكرها وبهذا التفصيل إن تأملته يظهر لك اندفاع جميع ما قاله وما قاله غيره ممن نقل عنه ما يخالف ظاهره ما قلناه ويظهر لك أيضاً أن ما ذكره من وجوب إتباع الأكثرين وما فرعه على ذلك مما أطال به ليس كله في محله لما تقرر لك أنه لا مخالفة في الحقيقة بين الكلامين في هذه المسألة التي نتكلم فيها وإن كلا من الرأيين له محمل صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/54)
وسئل رضي الله عنه عن من أدخل في إحليله قطنا في ليل رمضان شخص أدخل في الليل من رمضان قطنة في إحليله احتياطاً للبول ثم نزعها بعد أن أصبح فهل هذه كمسألة الخيط أو بينهما فرق؟. فأجاب بقوله: أفتى بعض المتأخرين بأنه لا يفطر بنزعها قال: وليست هذه كمسألة الخيط لأن إخراجه عمد استقاءة ويتضح بأمرين: أحدهما: أنهم لم يجعلوا الإمساك عن مثله داخلاً في حقيقة الصوم كما يقتضيه تفسيرهم بأنه الإمساك عن نحو الجماع من إدخال عين إلى ما يسمى جوفاً. الثاني: أن الفطر بالاستقاءة ثابت بالنص والمعتمد عند الأصحاب في التعليل أنها مفطرة لعينها كالإنزال بالاستمناء وقوفاً مع ظاهر الحديث وقيل برجوع شيء إلى الجوف وإن قل لقول ابن عباس رضي الله عنهما الفطر مما دخل وليس مما خرج، والفريقان متفقون على عدم استنباط معنى يعود بالتعميم وهو الإلحاق قياساً إذ لم يقل أحد منهم أن العلة في الاستقاءة كونها خروج خارج من جوف كما زعمه من ألحق إخراج القطنة من الإحليل بالاستقاءة قياساً، أما المعللون بالعين فوقوفاً منهم مع ظاهر الحديث كما هو مصرح به عنهم، وأما المعللون بالثاني فتعليلهم ناف لذلك صريحاً كما لا يخفى ويشهد لذلك أيضاً أنه لو قبل امرأة أو تلذذ بها فأمذى لم يفطر اتفاقاً ولم يلحقوه بالاستمناء بجامع خروج خارج من الذكر بمباشرة نظراً إلى أن الاستمناء مفطر بعينه. وفي فتاوى ابن الصلاح : امرأة ظنت إيقاع الحيض ليلاً فتحملت قطنة ونوت الصوم ثم أخرجتها بعد الفجر ولم تر أثراً فهل يضر هذا الإخراج وإذا أدخلت أصبعها لباطن الفرج للاستنجاء هل يضر أيضاً؟ أجاب: ينبغي أن يكون مخرجاً على الخلاف في أن ابتلاع النخامة من الباطن هل يلتحق بالقيء في الإفطار والأولى أنه لا يضر وإدخال أصبعها إلى باطن الفرج مفطر كما في مثله من المعدة، ووجه تردده وإن صحح ما يوافق ما مر استلزام إخراج القطنة من المرأة لإدخال أصبعها غالباً وتخريجه على ما ذكر وجهه أن(1/55)
الحاجة تدعو إلى كل منهما فاحتمل أن يقال إن المنافي يغتفر فيهما لأجل ذلك.
وسئل فسح الله في مدته عن حكم السواك للممسك في رمضان الممسك في رمضان هل يكره له السواك بعد الزوال كالصائم؟. فأجاب بقوله: ظاهر الخبر تخصيص ذلك بالصائم وهو متجه.
وسئل رضي الله عنه عن قضاءقضاء آخر شعبان إذا ثبت كونه من رمضان يوم ثلاثي شعبان إذا ثبت كونه من رمضان وليس يوم شك لكونه لم يتحدث الناس برؤيته هل يجب قضاؤه فوراً كما قيل به في يوم الشك أم لا يجب؟. فأجاب بقوله: ملحظ وجوب الفورية في ذلك إنما هو تقصيرهم بعدم الاعتناء بترائي الهلال مع أنه موجود بدليل ثبوت وجوده ولا عبرة بوجود نحو غيم مانع لندرته في خصوص ليلة رمضان وإذا تقرر أن هذا هو ملحظ وجوب الفورية الذي لا محيص عن اعتباره في إيجابهم الفورية اتجه أن المراد بيوم الشك هنا هو يوم ثلاثي شعبان سواء تحدث الناس برؤيته أم لا؟ لأن التحدث بذلك لا مدخل له هنا في إيجاب الفورية وإنما موجبها ما قررته وإطلاق يوم الشك على ما مر شائع ومن ثم كأن اشتراط التحدث في تسميته شكاً إنما يأتي على الضعيف أنه لا يحرم صوم ما بعد نصف شعبان أو لتكون الحرمة بسبب كونه بعد النصف وكونه بعد الشك.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
وسئل فسح الله في مدته الصائم يدخل الماء في أذنيه عن الصائم إذا دخل الماء في أذنيه لغسل ما ظهر منهما عن جنابة أو لنحو جمعة فسبقه الماء إلى باطنهما فهل يفطر أو لا؟. فأجاب بقوله: لا يفطر بذلك كما ذكره بعضهم وإن بالغ لاستيفاء الغسل كما لو سبق الماء مع المبالغة لغسل نجاسة الفم وإنما أفطر بالمبالغة في المضمضة لحصول السنة بمجرد وضع الماء في الفم فالمبالغة تقصير وهنا لا يحصل مطلوبه من غسل الصماخ إلا بالمبالغة غالباً فلا تقصير.(1/56)
وسئل فسح الله في مدتهثبوت الهلال للبلاد المتفقة المطالع بما صورته رأى هلال رمضان أو غيره بعض بلدان متفقة المطالع وثبتت عند قاضيهم فأرسل نوابه لبقية البلاد أو رأوا نحو القناديل الموقودة على المنابر ما اطردت العادة بكونه علامة على دخول رمضان فهل يجب الصوم أو يجوز؟. فأجاب بقوله: أما في الأولى فأفتى شيخنا شيخ الإسلام زكريا وغيره بالوجوب فيها وهو ظاهر وأما في الثانية فأفتى شيخنا المذكور فيها بالجواز وخالفه البرهان ابن أبي شريف وغيره فأفتوا فيها بالوجوب وقد يجمع بحمل الأول على علامة قد يتفق وجودها في غير رمضان والثاني على علامة اطرد وجودها في أوله دون غيره.
وسئل فسح الله في مدتهالتقطير في باطن الإحليل بما صورته التقطير في باطن الإحليل مفطر وهو إما مخرج البول كما في الصحاح أو مجراه كما في المجموع وأما رأس الذكر كما في لغات الروضة، وظاهر هذا أن ما يبدو منه عند تحريك طرفه يفطر بوصول العين إليه وفيه مشقة سيما على المستجمر فإنه لا يكاد يحترز منه وأيضاً الغالب عند الاستنجاء انفتاحه ووصول الماء إليه فما الحكم فيه وهل هو كما قاله السبكي في حلقة الدبر؟. فأجاب بقوله: أولى تفاسيره المذكورة ما في المجموع فهو من المثانة إلى رأسه والمفطر إنما هو وصول العين لباطنه وذكر الباطن مع قولهم إنه مجرى البول يومىء إلى أن المجرى المذكور في السؤال ظاهر فلا يضر وصول شيء إليه فهو كما يبدو من فرج المرأة عند قعودها، وكما ذكره السبكي في حلقة الدبر عن القاضي وملخص عبارته: ينبغي للصائم حفظ أصبعه حال الاستنجاء من مسربته فإنه لو دخل فيه أدنى شيء من رأس أنملته بطل صومه. قال السبكي : وهو ظاهر إن وصل للمكان المجوف أما أول المسربة المنطبق فإنه لا يسمى جوفاً فلا فطر بالوصول إليه اهـ، وهو بيان لمراد القاضي لا تضعيف له وما ذكره السائل أولى بأن لا يسمى جوفاً مما ذكره السبكي.(1/57)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
وسئل رضي الله عنه عن عبد لزمه قضاء رمضان فأخره بلا عذر إلى ما بعد رمضان آخر فهل تلزمه فدية وما هي؟. فأجاب بقوله: الأوجه أخذاً من كلام الرافعي في نظير هذه المسألة أنه لا فدية عليه لأنها فدية مالية وهو ليس من أهلها فإن عتق فهل تجب عليه كالهرم إذا عجز وقلنا تلزمه وكان معسراً فأيسر أو لا؟ وفارق الهرم المذكور بأنه كان مخاطباً بالفدية حال إفطاره بخلاف العبد الأوجه الثاني.
وسئل رضي الله عنه عن امرأة صائمة تبخرت فدخل دخان البخور فرجها فهل تفطر سواء قلنا المنفصل عين أو أثر؟. فأجاب بقوله: صرحوا بأنه لو فتح فاه عمداً حتى دخل الغبار لم يفطر ودخان البخور أولى من ذلك إن لم يكن مثله.(1/58)
وسئل رضي الله عنه بما صورته احتوى صائم على مجمرة وفتح فاه قصداً حتى دخل الدخان إلى جوفه فهل يفطر أو لا؟ فإن قلتم نعم فما الفرق بين هذه المسألة ومسألة ما إذا فتح فاه لغبار الطريق ونحوه؟. فأجاب بقوله: المفطر هو وصول العين بشرطه كما صرحوا به قالوا واحترزنا به عن وصول الأثر كوصول الريح أو الرائحة بالشم إلى دماغه ووصول الطعم بالذوق إلى حلقه، وقد صرح في المجموع وتبعه صاحب الجواهر وغيره بأنه لا أثر لتغير بطعم الريق أو ريحه بالعلك، وعلله بأن ذلك لمجاورة الريق له وهذا كله كما ترى كالصريح في أنه لا يضر وصول الدخان وإن تعمده، ويؤيد ذلك ما صرح به ابن الرفعة وابن النقيب من أن الأصح أنه لو فتح فاه لنحو غبار الطريق قصداً لم يفطر، وكذا النشائي في المنتقي حيث قال فإن تعمد فتحه للغبار فالأصح في التهذيب العفو وكلام الشيخين دال على ذلك أيضاً فما وقع في العباب مما يخالف ذلك أخذاً من كلام الخادم ضعيف أو مؤوّل كما بسطته في حاشيته على أن الدخان من أفراد الغبار، فقد صرح الإمام بأنه أجزاء من رماد المحترق يتصاعد منه بواسطة النار، وهذا بناء على نجاسة دخان النجاسة والقائل بعدم نجاسته لا يجعله منفصلاً من الجرم، وإنما يقول إنه شيء يخلق عند التقاء النار ونحو الحطب، فالحاصل أنه إما غبار أو ليس بغبار، وكل منهما لا يفطر وأما أخذ الريمي من ذلك أن الماء المبخر إن تغير ريحه بالبخور لم يضر أو طعمه ولونه ضر فمبني على ضعيف والمعتمد أنه لا يضر مطلقاً لأنا إن جعلناه عيناً كان مجاوراً وهو لا يضر مطلقاً أو ليس بعين كان التغير به تروّحاً وهو لا يضر كذلك.(1/59)
وسئل نفع الله به عما في الخادم فيمن ابتلع خيطاً وبقي طرفه خارجاً ثم أصبح صائماً فإن نزعه أفطر وإن تركه لم تصح صلاته قال: فطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر لأنه كالمكره، قال: بل لو قيل لا يفطر بالنزع باختياره لم يبعد تنزيلاً لإيجاب الشرع منزلة الإكراه كما لو حلف أن يطأ هذه الليلة فوجدها حائضاً لا يحنث هل ما ذكره الزركشي آخراً صحيح أو لا؟. فأجاب بقوله: ما ذكره مناف لكلامهم ولا حجة له فيما قاس عليه لإمكان الفرق وذلك لأن المدار في الإيمان والتعاليق على العرف المطرد حيث لا لغة مطردة، فالحالف على الوطء تشمل يمينه حالة الحيض والطهر وهذا مقتضى اللغة لكن العرف المطرد اقتضى خروج حالة الحيض من اليمين فحيث ترك لأجله لا يحنث عملاً بذلك ولعذره بمنع الشارع له، وأما في مسألتنا فتعارض فيها واجبان مراعاة الصوم وهي تقتضي البقاء ومراعاة الصلاة وهي تقتضي النزع فحيث راعى الصلاة فقد اختار إبطال صومه وإن كانت تلك المراعاة واجبة عليه فبطل صومه، إذ لا مدخل للعرف فيه ويشهد لذلك ما لو طرأ مرض وخاف من الهلاك لو لم يفطر فإنه يجب عليه تعاطي المفطر ويفطر به وإن كان واجباً عليه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/60)
وسئل فسح الله في مدته عمن نوى صوم يوم عرفة مع فرض أو كان نحو يوم الاثنين ونوى صومه عن عرفة وكونه يوم الاثنين فهل تحصل له سنة صومه؟. فأجاب بقوله: الذي يقتضيه كلامهم أن القصد إشغال ذلك الزمان بصوم كما أن القصد بالتحية إشغال البقعة بصلاة، وحينئذ فإن نواهما حصلا أو نوى أحدهما سقط طلب الآخر ولا يحصل ثوابه وفارق غسل الجمعة والجنابة بأن كلا منهما مقصود وأيضاً فليس القصد من غسل الجمعة النظافة فقط بدليل التيمم له، فإن قلت مقتضى حصول سنة غسل الجمعة بغسل العيد إذا اتحد يومهما أن يقال بمثله هنا، قلت نعم وقد مر لكن ينبغي أن يكون مرادهم بحصول ما لم ينو منهما سقوط الطلب بفعله لا حصول ثوابه كما قررناه.(1/61)
وسئل نفع الله به بما لفظه لو شهد برؤية هلال رمضان عبيد أو نساء أو فسقة وظن صدقهم كان ذلك اليوم يوم الشك فيحرم صومه إلا لسبب، وهذا ينافيه قول البغوي وغيره لو اعتقد صدق من قال إنه رآه ممن ذكر صح صومه بل وجب عليه وينافيه أيضاً ما قالوه من صحة نية معتقد ذلك ووقوع الصوم عن رمضان إذا تبين كونه منه فما الجمع بين هذه المواضع الثلاثة؟. فأجاب بقوله: قال شيخنا في شرح الروض: إن بعضهم زعم عدم التنافي وأنه أجيب عما زعمه أيضاً بأجوبة أخرى فيها نظر وأنه ذكر بعضها في شرح البهجة ولم أر شيئاً منها والذي يظهر في الجواب عن ذلك أنه يكتفي في كون اليوم يوم شك أن يكون الذين شهدوا من نحو النساء يظن صدقهم أي من شأنهم ذلك من غير نظر إلى ظان بخصوصه فحيث كانوا كذلك صار اليوم يوم شك بالنسبة إلى عموم الناس ثم ينظر إلى كل فرد فرد بالخصوص فمن اعتقد الصدق وجب عليه الصوم ومن لا حرم عليه ولأجل هذا الذي ذكرته لم يكتف بصبي ولا امرأة ولا فاسق وحده بل اشترط الجمع من كل ليصير ذلك آكد في ظن الصدق واحتياطاً للتحريم، وأما ما مر عن البغوي فشرطه أن يقع الظن من ظان بعينه حتى يخاطب بالوجوب فإذا أخبره موثوق به ممن ذكر واعتقد صدقه وجب عليه صومه فإما أن يفرق بما ذكر، وإما أن يفرق بأن شرط الوجوب الاعتقاد وهو أقوى من الظن ولذا اكتفى في الوجوب بواحد على ما أفهمه إطلاق البغوي وغيره لوجود الاعتقاد الأقوى ولم يكتف في التحريم إلا بجمع ليتقوَى بهم الظن الأضعف ولا بدع أن يكون اليوم يوم شك بالنسبة إلى العموم ويكون بالنسبة إلى خصوص بعض الناس يجب صومه ولا ينافي هذين صحة نية معتقد ذلك لأن الصحة لا تنافي الوجوب وأيضاً فإذا نوى بعد أن أخبره واحد ممن ذكر وظن صدقه صحت نيته ثم ينظر فإن تبين كونه من رمضان قبل الفجر لم يجب استئناف النية وإلا حرم الإمساك لكون اليوم يوم شك.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/62)
وسئل فسح الله في مدّته بما لفظه يحرم الصوم بعد نصف شعبان إن لم يعتده أو يصله بما قبله ما ضابط العادة هنا ويوم الشك؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه يكتفي في العادة بمرة إن لم يتخلل فطر مثل ذلك اليوم الذي اعتاده فإذا اعتاد صوم الاثنين في أكثر أسابيعه جاز له صومه بعد النصف ويوم الشك وإن كان أفطره قبل ذلك، لأن هذا يصدق عليه عرفاً أنه معتاده وإن تخلل بين عادته وصومه بعد النصف فطره، وأما إذا اعتاده مرة قبل النصف ثم أفطره من الأسبوع الذي بعده ثم دخل النصف فالظاهر أنه لا يجوز له صومه، لأن العادة حينئذ بطلت بفطر اليوم الثاني بخلاف ما إذا صام الاثنين الذي قبل النصف ثم دخل النصف من غير تخلل يوم اثنين آخر بينهما فإنه يجوز صوم الاثنين الواقع بعد النصف لأنه اعتاده ولم يتخلل ما يبطل العادة فإذا صامه ثم أفطره من أسبوع ثان ثم صادف الاثنين الثالث يوم الشك، فالظاهر أنه يجوز له صومه ولا يضر حينئذ تخلل فطره لأنه سبق له صومه بعد النصف وذلك كاف هذا ما ظهر الآن ولعلنا نزداد فيه علماً أو نشهد نقلاً.(1/63)
وسئل نفع الله به بما صورته عبر في المجموع بأن الوصال أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول بالليل مطعوماً عمداً بلا عذر، وقضيته أن نحو الجماع لا يمنع الوصال فإن المأمور بالإمساك كتارك النية لا يكون امتناعه ليلاً من تعاطي المفطر وصالاً لأنه ليس بين يومين فهل هو كذلك؟. فأجاب بقوله: أما القضية الأولى فاعتمدها الإسنوى قال: لأن تحريم الوصال للضعف أي عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات وترك الجماع ونحوه لا يضعف بل يقوِي لكن في البحر هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين، وذكر الجرجاني و ابن الصلاح نحوه، وأما القضية الثانية فلم يعتمدها بل إن الظاهر أن التعبير بصوم يومين جرى على الغالب ولك أن تقول العلة في النهي عن الوصال يصح أن تكون ما ذكر من الضعف ويصح أن يكون النهي عنه للزجر عن التشبيه بخصوصياته واعتقاد أنَ له من القوّة على الصبر على الطعام ما كان له وهذا هو الأظهر، إذ التعليل بالضعف المذكور ينتقض بأن يخرج ريقه ثم يبتلعه أو بأن ابتلع حصاة أو سمسمة فإن الوصال ينتفي بذلك مع وجود الضعف فالأوجه التعليل بما ذكرته وعليه فالوجه ما اقتضاه كلام البحر من أنه استدامة جميع أوصاف الصائمين وتعبير المجموع بالمطعوم جرى على الغالب، والأوجه أيضاً أن نحو تارك النية لا يكون امتناعه ليلاً من تعاطي المفطر وصالاً لأنه لا تشبيه فيه حينئذ وإن وجد فيه الضعف المذكور.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/64)
وسئل فسح الله في مدته عن صوم كل شعبان أو أكثره هل هو مكروه أم سنة لما ورد عنه أنه صام أكثره والأكثرية تحصل بزيادة يوم على النصف أم لا؟. فأجاب بقوله: صوم كله سنة وكذا صوم أكثره بشرط أن لا يقع منه صوم بعد النصف غير متصل بيومه لأن الصوم بعد نصف شعبان إذا لم يتصل بيوم النصف ولا وافق عادة له أو نحو نذر أو قضاء حرام كما قاله النووي في شرح المهذب وورد فيه حديث صحيح، ويحصل أصل الأكثرية بزيادة صوم يوم على النصف.(1/65)
وسئل فسح الله في مدته عن الصائم إذا بقي بين أسنانه طعام وعجز عن تمييزه ومجه وجرى به ريقه إلى باطنه وقلتم لا يبطل صومه فهل ذلك مطلقاً سواء جرى به ناسياً أو عالماً فإن قلتم نعم فذاك، وإن قلتم عدم البطلان مختص بحالة النسيان فينبغي أن لا يكون فرق بين قدرته على تمييزه وعدمها إلا إذا قلتم أنه إذا قدر على تمييزه ومجه ولم يمجه وجرى به ريقه إلى باطنه أو وضع في فيه ماء عبثاً أو لسكون العطش فسبق منه شيء إلى باطنه أنه يفطر ولو كان ناسياً وهو غير ظاهر وقد يقال إن هذه المسألة داخلة في قولهم إن الصائم لا يفطر بالأكل ونحوه ناسياً وأيضاً هل المراد تمييزه من بين أسنانه أو تمييز ما جرى مع الريق؟. فأجاب بأنه إذا بقي بين أسنان الصائم طعام جرى به ريقه وعجز عن تمييزه ومجه لم يفطر بابتلاع ريقه المخلوط به وإن تعمد ابتلاعه لعذره ولو كلفناه عدم بلع ريقه لشق فسومح له في ذلك ولو سبق ماء إلى جوفه من غسل تبرد أو لكونه جعله في فمه أو أنفه لا لفرض أفطر به لأنه مقصر بذلك، نعم لو وضع شيئاً في فيه عامداً وابتلعه ناسياً لم يفطر كما في الأنوار وغيره، والمراد تمييز الطعام السابق من بين أسنانه فمتى أمكنه تمييزه من بينها فلم يفعل وابتلع ريقه المخطوط به أفطر، وكذا لو خرج من بين أسنانه إلى فضاء فمه فابتلع شيئاً منه مع ريقه أو وحده لتقصيره وبما تقرر يعلم الجواب عن قول السائل وهو غير ظاهر، وقوله وأيضاً هل المراد الخ، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/66)
وسئل زكى الله أعماله في الكتابة على تصنيف لبعض أهل زبيد في مسألة وقع فيها اختلاف طويل بين مفتيهم وكتابات متعددة من الجانبين وحاصلها أن من أخبره يوم ثلاثي رمضان عدلان بالهلال واعتقد صدقهما هل يجوز له الفطر فقال جماعة يجوز له ذلك سراً ويخفيه لئلا يتعرض لعقوبته الحاكم كما لو انفرد برؤية الهلال ومن هؤلاء مؤلف الكتاب المذكور وشيخه وغيرهما، واستدلوا على ذلك بأمور كثيرة. وقال آخرون لا يجوز ذلك لا ظاهراً ولا باطناً. واستدل عليه بعضهم بما زعم أنه ظاهر نص في الأم وليس كما زعم ومن كتب لكن باختصار على التأليف المذكور شيخ مؤلفه وغيره فلما سئل شيخنا فسح الله في مدته في ذلك أجاب بقوله: حمداً لك اللهم مشرق شموس الآراء السديدة بسماء الأفكار السعيدة ومغدق أنهار الإجادة بأنواء الإفادة إن نصبت على كواهل الفضائل أعلام أهل الحق ورفعت بأيدي المحامد ألوية الثناء على من هو بهم ألصق حمداً يستمرىء أخلاق التحقيق بمزيده ويستغرق إفراد الأبا لعبيده وصلاة وسلاماً على من أرسل بالحجة القاطعة لغوائل العناد والمحجة الساطعة للعباد والشريعة البيضاء والشرعة الغراء دائمين أمد سرمداً وعلى آله ذوي الجد السعيد والسعد الجديد وصحبه ذوي القد الحميد والحمد العديد ما قام بنصرة الحق لله ناصر وذب عنه أهل العناد بكل صارم باتر. أما بعد، فإنه لما كانت أندية التحقيق بأعيان الأفاضل لم تزل حافله ومغانيها بغواني الفضائل آهلة كان الرجوع إلى الحق خيراً من التمادي في الباطل والتحلي بحلية أهل الصدق خيراً من التحلي بكل وصف زائل وجدال ليس تحته من طائل وتفيهق بما لا يجدي من التلفيقات وتمشدق بما لا يصح من العبارات فلذلك أجبت مع أن لي أشغالاً سيما الآن تحجزني عن بلوغ مغزى هؤلاء الأئمة الذين أوضحوا الحق في هذه المدلهمة أعني مؤلف هذا الكتاب المعلن فيه بالصواب من تحقق بالعلوم الشرعية ونال لطائفها وتحلى بتيجان الفنون الدينية وحاز شرائفها(1/67)
وعقدت له ألوية التحقيق فوق العلا ذوائبها ورفعت له منازل الصدق في سماء القرب كواكبها وشيخه المذكور واضح الحجة والسنن وبالغ الغاية التي لا ترتقى في هذا الزمن كيف وقد انكشفت له علوم المجتهدين حتى أوضحها أبلغ إيضاح وأحسن تبيين حين اطلع على خفايا مكامن مكنوناتها وشاهد مجاري الأفكار في تصاريف إيجاداتها واخترع الأحكام من معادنها، وأظهر التحقيقات الكثيرة من مكامنها قد ضرب مع الأقدمين بسهم وافر والغير يضرب في حديد بارد ومن بعدهما بلغه الله شأوهما وفهما يقصر عن إدراك مداهم وبعد مغزاهم إن أظهر الحق الذي أمرنا بإظهاره وإن أخذل الباطل الذي أمرنا بخذلانه وسد وعر مضماره امتثالاً لقوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/68)
{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} (النحل: 116) الآية، وتذكيراً بقوله تعالى: {ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) فمن ثم نظرت في هذا التأليف البديع الكامل المنيع حتى علمت أن مؤلفه جزاه الله خيراً وأذهب به وعنه ضيراً أظهر في مخضه زبدة من قواه واحتاط في ضبط معاقده محكماً فيها إيراد ما عن نشره طواه طالباً نشر ذلك الطي متحدياً به من سواه محتذياً عوالي الهمم لاستفتاح ما استغلقه في صريحه وفحواه مع إفادة لطائف تلوح من ذرى ذوي التحقيق وإشادة أبحاث لا تصدر إلا عن خلفاء التوفيق وإن ما ذكره فيه أشهر من الشمس في رابعة النهار لا يخفى إلا على بعيد الحس عديم الأبصار مع ما منحه الله به من إيضاح الحق بدلائله التي لا يقرع هضبتها فارع ولا يقرع بابها قارع إلا من ينحو نحوه في الصواب وتجري رخاء ريحه فيه حيث أصاب جاء بها مستفتحاً إفادتها حتى كأنها صدقة قدمها بين يدي نجواه خالية عن شوب الرياء والسمعة كما أشعر به فحواه فاستجلها أوان كشف القناع عن صباحة وجهها تجد في نفسك إن أنصفت منها الخضوع لملقيها. والفضل لزارع التحقيق فيها. فحذار من تلقي اللواحظ غرة فالسحر بين جفونه مكنون هذا ولما استفتيت عما في هذا المؤلف بادرت بالجواب بما فيه قبل أن يحيط فكري ونظري بقوادمه وخوافيه وظننت أنه لا يخالف في ذلك إلا خامد الرواية مقتصر على الظواهر ليس له تسريح نظر في المنازل الخفية، ثم بلغني أن بعض المفتين خالف في ذلك فأمعنت النظر فيما هنالك فلم يسمح إلا بما صمم عليه أوّلاً ورأى أن ذلك ليس عن القواعد محولاً، ثم نظرت في هذا التأليف فرأيته جاء بالحق الصراح وبالجد الخالي عن المزاح، فشكرت إلى الله صنع منمقه وصدق محققه فلا عدم المسلمون أمثاله ولا زالت الفضلاء يتفيئون ظلاله ولولا شغل البال لأطلت في هذه المسألة المقال لكن سيمنَ الله إن شاء بالتوفيق إلى ذلك(1/69)
وإزالة وعر هذه المسالك ودفع ما أورد عليها من شبه إذا تؤملت كان كالهباء المنثور ومن تطويلات لا تروج إلا على غمر مغمور ثم رأيت ما يصرح بذلك غير ما مر في هذا التصنيف وهو ما يصرح به كلام الرافعي من أن الخلاف الذي في المنجم يجري في صومه وفطره وقضية تنجيمه، وصحح النووي في المجموع أن له أن يعمل بذلك دون غيره، ومن ثم صرح بعض مختصري الروضة بذلك فقال ما لفظه ولا يجوز لغيره، أي المنجم أو من عرف منازل القمر تقليده في صوم أو فطر وهل يجوز لهما أن يعملا به وجهان، قلت الأصح نعم ولكن لا يجزئهما أي الصوم عن الغرض قاله في المجموع اهـ، وإذا جاز الفطر بذلك مع أنه ليس صالحاً لأن يكون حجة شرعاً ولو ذكر للحاكم لم يلتفت إليه فلان يجوز بإخبار عدلين بل أو عدل بالأولى لأن ذلك يصلح أن يكون حجة شرعاً في ذلك أو نظيره، ومما يؤيد ذلك ما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/70)
السبكي وابنه الشيخ تاج الدين و الأذرعي و الزركشي وغيرهم من فحول المتأخرين من جواز الفطر آخر النهار بإخبار عدل مع أنه يمكنه اليقين من غير مشقة فليجز هنا بالأولى وتمحل فرق بينهما لا يجدي ومن أهمها الفرق بأنهم سامحوا في آخر النهار ما لم يسامحوا به آخر رمضان بدليل جواز الاجتهاد ثم لا هنا ويرد بأن الاجتهاد إنما جاز ثم لأنَ عليه علامة بل علامات، وأما آخر رمضان فلا علامة له فامتناعه ليس لكونه آخر رمضان بل لفقد العلامة المشترطة في الاجتهاد على أنه مر في المنجم ما يقتضي أن له العمل باجتهاده آخر رمضان أيضاً ثم رأيت ما يصرح بما ذكر وهو ما أفتى به الشيخ المحقق الشمس الجوجري شارح الإرشاد وكاشف القناع عن مخبآته بما لم يسبق إليه فيما سئل عنه وهو أنهم لو رأوا يوم ثلاثي رمضان عند الفجر قناديل بلد أخرى أيجب عليهم الفطر فأجاب بقوله إذا كثرت القناديل التي توقد يوم العيد وحصل برؤيتها العلم وجب الفطر ثم إنما يحصل العلم بذلك إذا كثرت كثرة لا يحتمل معها النسيان بوجه، والأحوط أن لا يفطروا حتى يرسلوا من يأتيهم بخبر البلد التي بها القناديل وكلامه مصرح بأن مراده بالعلم غلبة الظن فتأمله ووافقه على ذلك المحقق ابن قاضي عجلون فقال: والقناديل المذكورة علامة مغلبة على الظن فيعتمد في الفطر عليها إذا جرت العادة بإيقادها يوم فجر شوّال فيكون ذلك اليوم يوم عيد في حق من رآها اهـ. وأما إفتاء شيخنا خاتمة المتأخرين شيخ الإسلام زكريا الأنصاري سقى الله عهده صيب الرحمة والرضوان بأنها لا تعتمد فيحمل على ما إذا لم تفد أو لم تطرد بها العادة لأنه لا يغلب على الظن حينئذ أن ذلك اليوم يوم عيد ومن ثم خالف إطلاقه أجل جماعته محقق أهل عصره باتفاق أهل مصره شيخنا شهاب الدين الرملي الأنصاري متع الله بحياته المسلمين فأفتى بما هو أعم من ذلك، وأصرح في هذه المسألة من جميع ما هنالك لما سئل عما لو رأوا علامة معتادة لرمضان أو شوّال كرؤية(1/71)
نار أو سماع طبل وحصل به اعتقاد جازم فهل يجب عليهم العمل بمقتضى ذلك وإذا أرسل من ثبتت عنده الرؤية إلى بلد موافق مطلعها يجب العمل بذلك أيضاً، فأجاب بما لفظه: من حصل له اعتقاد جازم بدخول رمضان من العلامات المعتادة وجب عليه الصوم ومن حصل له ذلك الاعتقاد بدخول شوّال من العلامات المذكورة لزمه الفطر عملاً باعتقاده الجازم منها، وإذا أرسل نواب بلد الرؤية إلى أهل بلد موافق له في المطلع ما تثبت به الرؤية عند حكام المرسل إليهم وجب عليهم الصوم لرمضان والفطر لشوّال وإن لم تثبت به الرؤية عند أحد منهم فمن اعتقد صدق المخبر بذلك لزمه الصوم والفطر ومن لا فلا اهـ فليتأمل كلامه الأخير فإنه نص في مسألتنا وما قبله فإنه يقتضي أن العمل في مسألتنا بخبر العدل فضلاً عن العدلين إذا اعتقد صدقه، ومما يدل على أن مراد شيخنا زكريا ما قدمناه إفتاؤه هو وأئمة عصره تبعاً لجماعة من أنه لو ثبت الصوم أو الفطر عند الحاكم لم يلزمه الصوم ولم يجب الفطر لمن شك في صحة الحكم لتهوّر القاضي أو لمعرفته لما يقدح في الشهود فإذا أداروا الحكم هنا على ما في ظنه ولم ينظروا لحكم الحاكم بل جعلوه لغواً فقياسه في مسألتنا أن لا ينظر لحكم الحاكم وإن المدار إنما هو على الاعتقاد الجازم وذلك ظاهر بأدنى نظر وتأمل ولكن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/72)
وسئل نفع الله به عن صوم العشر الأوّل من المحرم هل هو مستحب كالتسع الأول من ذي الحجة أو لا؟ وطوائف من أهل الهند لا يتركون صومها ولا يواظبون على صوم مثل مواظبتهم على صومها؟. فأجاب بقوله: نعم ما فعل هؤلاء فإن صوم العشر الأوّل من المحرم سنة مؤكده بل صوم الشهر كله سنة كما دلت عليه الأحاديث فمن ذلك خبر مسلم: أنه قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل» وهو صريح في أن أفضل ما تطوّع به من الصيام بعد رمضان صوم المحرم وحمل على أنه أفضل شهر تطوّع بصومه كله لا مطلقاً، فإن صوم تسع ذي الحجة أفضل من صوم عشر المحرم. وأخرج أحمد والترمذي بسند فيه مقال إن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان، فقال : «إن كنت صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين» . وأخرج النسائي أن أبا ذر سأل النبي أي الأشهر أفضل؟ فقال: «شهر الله الذي تدعونه المحرم» ، والمراد أنه أفضلها بعد رمضان لما مر، وقد أخذ بقضيته جماعة كالحسن وغيره فقالوا: إن المحرم أفضل الأشهر الحرم ورجحه جماعة من المتأخرين وجاء أن السلف رضي الله عنهم كانوا يعظمون ثلاث عشرات عشر رمضان الأخير وعشر ذي الحجة الأول وعشر المحرم الأول وروي هذا حديثاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/73)
وسئل نفع الله به عن صوم منتصف شعبان هل يستحب على ما رواه ابن ماجه أن النبي قال: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا» أو لا يستحب وهل هذا الحديث صحيح أو لا؟ وإن قلتم باستحبابه فلم لم يذكره الفقهاء وما المراد بقيام ليلها أهو صلاة البراءة أم لا؟. فأجاب بأن الذي صرح به النووي رحمه الله في المجموع أن صلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من شهر رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بدعتان قبيحتان مذمومتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، وفي أحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك، وقد صنف ابن عبد السلام كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد اهـ. وأطال النووي أيضاً في فتاويه في ذمهما وتقبيحهما وإنكارهما، واختلفت فتاوى ابن الصلاح فيهما وقال في الآخر هما وإن كانا بدعتين لا يمنع منهما لدخولهما تحت الأمر الوارد بمطلق الصلاة، ورده السبكي بأن ما لم يرد فيه إلا مطلق طلب الصلاة وأنها خير موضوع فلا يطلب منه شيء بخصوصه فمتى خص شيئاً منه بزمان أو مكان أو نحو ذلك دخل في قسم البدعة، وإنما المطلوب منه عمومه فيفعل لما فيه من العموم لا لكونه مطلوباً بالخصوص اهـ، وحينئذ فالمنع منهما جماعة أو انفراداً خلافاً لمن وهم فيه متعين إزالة لما وقع في أذهان العامة وبعض المتفقهة والمتعبدين من تأكد سنهما وأنهما مطلوبتان بخصوصهما مع ما يقترن بذلك من القبائح الكثيرة هذا ما يتعلق بحكم صلاة ليلة نصف شعبان، وأما صوم يومها فهو سنة من حيث كونه من جملة الأيام البيض لا من حيث خصوصه، والحديث المذكور عن ابن ماجه ضعيف قال بعض الحفاظ: وجاء في هذه الليلة أحاديث متعددة، وقد اختلف فيها فضعفها الأكثرون وصحح ابن ماجه(1/74)
بعضها وخرجه في صحيحه ومن أمثلها حديث عائشة قالت: فقدت النبي فخرجت فإذا هو بالبقيع رافع رأسه إلى السماء فقال: «أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله»، فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: «إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» خرّجه أحمد والترمذي وابن ماجه لكن ذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه. وفي حديث لابن ماجه: «إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» ، وفي حديث عند أحمد وخرجه ابن حبان في صحيحه: «إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس» وبقيت أحاديث أخر كلها ضعيفة، والحاصل أن لهذه الليلة فضلاً وأنه يقع فيها مغفرة مخصوصة واستجابة مخصوصة، ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه: إن الدعاء يستجاب فيها وإنما النزاع في الصلاة المخصوصة ليلتها وقد علمت أنها بدعة قبيحة مذمومة يمنع منها فاعلها وإن جاء أن التابعين من أهل الشام ك مكحول و خالد بن معدان و لقمان وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها بالعبادة، وعنهم أخذ الناس ما ابتدعوه فيها ولم يستندوا في ذلك لدليل صحيح، ومن ثم قيل إنهم إنما استندوا بآثار إسرائيلية ومن ثم أنكر ذلك عليهم أكثر علماء الحجاز ك عطاء و ابن أبي مليكة وفقهاء المدينة وهو قول أصحاب الشافعي ومالك وغيرهم قالوا وذلك كله بدعة إذ لم يثبت فيها شيء عن النبي ولا عن أحد من أصحابه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/75)
وسئل نفع الله به بما صورته إذا غم هلال شعبان فأكملنا العدة ثلاثين فجاء جماعة من محل بعيد مختلف مطلعه مع مطلع البلدة التي غم فيها هلال شعبان وشهدوا برؤية الهلال ليلة الثلاثين فأثبت حاكم حنفي الهلال بشهادتهم فهل يلزم الشافعي بقضاء اليوم الذي أفطره على ظن منه أنه من شعبان اعتماداً على أن الثبوت الواقع لدى الحاكم الحنفي رافع للخلاف ويفطر يوم ثلاثي رمضان لو لم ير الهلال ليلة الثلاثين لإكمال العدة بمقتضى الثبوت المذكور أو لا يلزم بقضاء اليوم المذكور لأن العبرة في نحو ذلك بعقيدته واعتقاده أنه لا عبرة برؤية الهلال بمحل مختلف مطلعه مع مطلع البلد التي غم فيها الهلال فيجب عليه إمساك يوم ثلاثي رمضان لو لم ير الهلال ليلة الثلاثين وما الحكم فيما لو ثبت الهلال لدى حاكم يرى ثبوته بما لم يره الشافعي من قبول عبيد وامرأة فهل يلزم الشافعي العمل بما ثبت لديه وإن كان خلاف عقيدته أو لا يلزمه لأنه يعتقد خلافه بينوا لنا ذلك بما فيه بسط أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه؟. فأجاب بقوله: حكم الحنفي في ذلك معتبر فيدار الأمر عليه ويجب على الناس العمل بقضيته كما دل على ذلك كلام أئمتنا في مواضع منها قول المجموع ومحل الخلاف في قبول شهادة الواحد ما لم يحكم بشهادته حاكم يراه وإلا وجب الصوم ولم ينقض الحكم إجماعاً اهـ، فإيجاب الصوم هنا على العموم وعدم نقض الحكم بالإجماع صريح في أن حكم الحنفي في صورة السؤال كذلك حتى يجب على الشافعية وغيرهم العمل بقضيته صوماً وفطراً وقضاء. ومنها قول الزركشي وغيره خلافاً لابن أبي الدم و السبكي لا يكفي قول الشاهد أشهد أن غداً من رمضان لاحتمال أنه اعتمد الحساب أو كان حنبلياً يرى إيجاب الصوم صبيحة ليلة الغيم قال في الخادم: لأنه قد يعتقد دخوله بسبب لا يوافقه عليه المشهود عنده بأن يكون أخذه من حساب منازل القمر أو يكون حنبلياً يرى إيجاب الصوم ليلة الغيم أو غير ذلك اهـ، فافهم قولهم لا يوافقه(1/76)
عليه المشهود عنده أنه لو وافقه الحاكم على ذلك بأن كان قضية مذهبه اعتد بالشهادة المستندة إلى الحساب أو الغيم وبالحكم المرتب عليها مع أن ذلك خلاف مذهبنا، وحينئذ يستفاد من ذلك أن العبرة بعقيدة الحاكم مطلقاً فمتى أثبت الهلال حاكم يراه ولا ينقض حكمه بأن لم يخالف نصاً صريحاً لا يقبل التأويل اعتدّ بحكمه ووجب على كافة من في حكمه العمل بقضية حكمه. ومنها ما اقتضاه كلام الدارمي واعتمده الزركشي من أن رمضان يثبت أيضاً أي على الكافة بعلم القاضي ومعلوم أن القضاء بالعلم منعه بعض المجتهدين مع ذلك يلزم مقلديه العمل بحكم القاضي به كما اقتضاه صريح كلامهم هنا وكلام المجموع السابق. ومنها قولهم لا عبرة بريبة تبقى بعد حكم الحاكم قال الزركشي وهو ظاهر فيمن جهل حال الشاهد، أما العالم بفسقه وكذبه فالظاهر أنه لا يلزمه الصوم إذ لا يتصور منه الجزم بالنية بل لا يجوز له اهـ، فأفهم أنا حيث لم نعلم استناد الحاكم إلى باطل في اعتقاده لزمنا الجري على مقتضى حكمه وإن بقيت عندنا ريبة فيه لحصول الظن بالاستناد إلى الحكم بخلاف ما إذا علمناه استند فيه إلى باطل عنده فإنه لغو منه فلا ظن فلم يجز الصوم حينئذ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/77)
وسئل نفع الله به عن قول أم سلمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا ما رأيت رسول الله يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان وقول عائشة رضي الله عنها ما رأيته في شهر قط أكثر منه صياماً في شعبان كان يصوم شعبان إلا قليلاً . وفي رواية: بل كان يصوم شعبان كله فقد صرحت هذه الأحاديث بصيامه كله أو أكثره وأن ذلك مندوب فما معناها وكيف الجمع بينها وبين قوله : «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» ، ومن ثم أخذ منه أئمتنا تحريم صوم ما بعد نصفه؟. فأجاب بقوله: يعلم جواب ذلك مما ذكرته في كتابي إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام وحاصل عبارته. ومنها صوم شهر شعبان عن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ، رواه البخاري ومسلم. وفي أخرى لهما: لم يكن يصوم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله، ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً، وللترمذي: كان يصومه إلا قليلاً كان يصومه كله ، ولأبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان ، وللنسائي: كان يصوم شعبان أو عامة شعبان ، وله أيضاً: كان يصوم شعبان إلا قليلاً، وله أيضاً: كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصوم شعبان كان يصله برمضان ، وله أيضاً: كان يصوم شعبان كله؛ والمراد بكله معظمه فقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صامه كله ويقال قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي : وكأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك اهـ وهو جمع حسن لضرورة الجمع به بين الحديثين وإن شنع بعض المحققين على أبي عبيدة في قوله إن كلا تأتي بمعنى الأكثر وكأن بعضهم أخذ من ذلك قوله إتيان كل بمعنى الأكثر مجاز قليل الاستعمال اهـ، وعليه فقرينة المجاز الخبر الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ما علمته، أي النبي ، صام شهراً كله إلا رمضان. وفي(1/78)
رواية عنها صحيحة أيضاً: ما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا رمضان، وجمع بعضهم بجمع آخر حسن أيضاً وهو أنه كان تارة يصومه كله وتارة يصوم أكثره لئلا يتوهم وجوب كله وقد أشار إلى هذين الجمعين ابن المنير بقوله يحمل قولها كل على المبالغة والمراد الأكثر أو قولها الثاني متأخر عن الأول فأخبرت عن أول أمره بأنه كان يصوم أكثره ثم عن آخر أمره بأنه كان يصومه كله اهـ. نعم ما أشار إليه الثاني بقوله تارة هذا وتارة هذا أولى، إذ لا دليل على الترتيب الذي ذكره
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/79)
ابن المنير ، واختلف في حكمة إكثاره من صوم شعبان مع أن صوم المحرم أفضل منه، فقيل: كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر بسفر أو غيره فيقضيها في شعبان لخبر فيه لكنه ضعيف بل قيل موضوع، واستشكل بما في خبر مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تعلمه أفطر شهراً كله حتى توفي ولا إشكال فإنه يصدق بأن يصوم من بعض الشهور دون ثلاثة فما بقي يقضيه في شعبان، لأن عمله كان ديمة وكان إذا فاته شيء من نوافله قضاه كما في سنن الصلاة وقيام الليل، فكذا كان إذا دخل عليه شعبان وعليه بقية من صوم تطوّع قضاه فيه، وكانت عائشة رضي الله عنها تقضي معه أيام حيضها لأنها فيما عداه مشتغلة به والمرأة لا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه سواء في ذلك النفل والفرض الموسع كقضاء رمضان بالنسبة لمن أفطره لعذر، وقيل: كان يصنع ذلك تعظيماً لرمضان لخبر الترمذي به، لكنه غريب ويعارضه خبر مسلم: أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم ولعل عدم صومه لأكثره أو كله كشعبان أنه كان يعرض له فيه أعذار تمنعه عن ذلك بخلاف شعبان أو أن الناس يغفلون عن شعبان كما يأتي ولذلك قال أئمتنا: صوم المحرم أفضل الشهور بعد رمضان، والأولى في حكمة ذلك ما أشار إليه الخبر الصحيح عن أسامة قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» . وبقي له حكمة أخرى وكلام مبسوط فيها وفيما يتعلق بها بسطته في الكتاب المذكور ثم هذه الأحاديث لا تنافي الحديث المحرم لصوم ما بعد النصف من شعبان لأن محل الحرمة فيمن صام بعد النصف ولم يصله ومحل الجواز بل الندب فيمن صام قبل النصف وترك بعد النصف أو استمر لكن وصل صومه بصوم يوم النصف أو لم يصله وصام لنحو قضاء أو نذر أو ورد، والخبر الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى(1/80)
يكون رمضان صريح في ذلك واستشكل السبكي تعليل حرمة صوم ما بعد نصف شعبان بالضعف بأنه يلزمه تحريم صوم شعبان كله، لأن الضعف يكون به أكثر وأجبت عنه في الكتاب المذكور وغيره بأن صيام الشهر جميعه أو أكثره يورث قوّة على رمضان لأن الصوم حينئذ يصير مألوفاً للنفس وخلقاً لها فلا يشق عليها تعاطيه وهذا من بعض حكم صومه شعبان كله أو أكثره وبالله التوفيق.
وسئل رضي الله عنه عن هلال رمضان هل يثبت بمستور العدالة أم لا؟. فأجاب بأن المعتمد كما في المجموع وإن نازع فيه جمع أنه يكفي المستور وهو كما يعلم من كلامهم في النكاح من لا يعرف له مفسق مع صلاح ظاهره.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/81)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه إذا شرطنا التعيين في الصوم الراتب كرواتب الصلاة ووقع الخطأ في التعيين كأن صام تاسوعاء بالتعيين فبان بثبوت رؤية الهلال حينئذ أنه عاشوراء أو صام ثامن ذي الحجة فبان أنه التاسع فهل يقوم ما صامه بالتعيين عن عاشوراء أو عن تاسع الحجة؟ وهل المعتمد وجوب التعيين في ذلك أم لا؟. فأجاب بقوله: عبارتي في شرح العباب وقضية قول المصنف ويكفي في نفل الصوم مطلق نيته أن النفل الذي له سبب كصوم الاستسقاء بغير أمر الإمام والمؤقت كصوم الاثنين وعرفة لا يجب تعيينه أي تعيين نيته في الصوم لكن بحث في المهمات في الأول وفي المجموع في الثاني أنه لا بد من تعيينه كما في الصلاة وأجيب عن الثاني بأن الصوم في الأيام المتأكد صومها منصرف إليها بل لو نوى به غيرها حصلت أيضاً كتحية المسجد، لأن المقصود وجود صوم فيها ومن ثم أفتى البارزي بأنه لو صام فيه قضاء أو نحوه حصلا نواه معه أم لا؟ وذكر غيره أن مثل ذلك ما لو اتفق في يوم راتبان كعرفة يوم الخميس. وفي المجموع: لو نوى قبل الزوال قضاء أو نذراً فإن كان في رمضان لم ينعقد له صوم أصلاً وإلا انبنى انعقاده نفلاً على نية الظهر قبل وقته وقضيته أنه يقع نفلاً من الجاهل فقط انتهت عبارة الشرح المذكور، وبها يعلم أن التعيين في راتب الصوم ليس شرطاً لصحته من حيث وقوع مطلق الصوم لما تقرر أن القصد في الأيام المندوب صومها وجود صوم فيها وإحياؤها بهذه العبادة الفاضلة فهو نظير تحية المسجد، لأن القصد منها تعظيم المسجد بأشغاله بالصلاة وإنما هو شرط في الكمال ووقوع الصوم المخصوص، كما أن التعيين في التحية إنما هو شرط لكمالها لا لصحتها فحينئذ من نوى في نحو يوم عرفة أو عاشوراء أو الاثنين مثلاً صوم يوم عرفة أو عاشوراء أو الاثنين حصل له كمال الصوم والفضيلة، وكذا إن نوى ذلك والقضاء مثلاً بخلاف ما لو اقتصر على نية غيرها كالقضاء فإنه يحصل له ما نواه ويسقط عنه الطلب بالنسبة(1/82)
لخصوص الصوم المطلوب في ذلك الزمن نظير ما قررته في تحية المسجد وعلى أحد شقي هذا التفصيل يحمل ما مر عن المجموع من اشتراط التعيين إذا تقرر ذلك فحيث عين في نية صوم النفل شيئاً وأخطأ فيه سواء شرطنا التعيين أم لا خلافاً لما يوهمه كلام السائل نفع الله به من اختصاص ذلك بما إذا شرطنا التعيين فإن عذر في خطئه كما في الصورتين المذكورتين في السؤال صح الصوم ووقع له نفلاً مطلقاً لتعذر وقوع ما نواه من تاسوعاء يوم عاشوراء ومن ثامن الحجة في اليوم التاسع منها وكان قضية ذلك بطلان النية من أصلها لكن لما عذر في غلطه اقتضى عذره بطلان خصوص صومه المعين لا عموم صومه نظير ما ذكروه فيمن أحرم بالظهر أو سنته مثلاً قبل الوقت ظاناً دخوله وهو لم يدخل في نفس الأمر فيبطل خصوص المعين وتقع الصلاة له نافلة مطلقة حتى يثاب عليها بخلاف ما لو نوى تاسوعاء يوم عاشوراء مثلاً متعمداً فإن نيته باطلة من أصلها لتلاعبه كنية الظهر أو سنته قبل الوقت عالماً بذلك.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/83)
وسئل رضي الله عنه عمن نوى في الليل صوم القضاء وبعد الفجر التطوع فهل يحصل بذلك التطوع إن لم يكن عليه قضاء؟. فأجاب بقوله: إن ظن حال نية القضاء أنه عليه صحت نيته له بفرض كونه عليه وكذا لو شك ونواه احتياطاً نظير ما صرحوا به في وضوء الاحتياط من صحته بفرض أن عليه حدثاً ما لم يتبين الحال فإن لم يظن أن عليه قضاء ولا شك فيه فنية القضاء باطلة فإذا نوى بعد الفجر التطوع مع علمه ببطلان نيته الأولى صح له التطور وأمانيته التطوّع بعد نية القضاء وظنه صحتها فهو كالتلاعب منه فلا يصح له التطوع وإن بان أن لا قضاء عليه لفساد نيته التطوع وعدم جزمه بها وهذا كله ظاهر من كلامهم، وقد صرحوا بأنه لو نوى آخر شعبان صوم غد من رمضان ولم تصح نيته عن رمضان لعدم اعتمادها على ظن دخوله وبان أن اليوم من شعبان وقع له نفلاً مطلقاً ولا يعارض ما مر لأنه هنا عازم على صوم الغد جازم به وإنما هو متردّد في أنه من رمضان أو لا فلم يقع عن رمضان لعدم جزمه بخصوصه ووقع عن النفل لأنه لا منافي للنفل حال النية فتأمله.
وسئل نفع الله بعلومه عن حديث أن أيام البيض سميت بذلك لأن آدم صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم لما هبط من الجنة اسود جلده فأمر بصيامها ففي اليوم الأول ابيض ثلث جلده، وفي الثاني ثلثه، وفي الثالث بقيته؟. فأجاب بأنه موضوع كما قاله ابن الجوزي وإن خرجه جماعة.
وسئل نفع الله به عمن أكل نهاراً في رمضان عمداً ولم يفطر كيف صورته؟. فأجاب بقوله: النهار اسم لفرخ القطا وولد الحبارى كما أن الليل ولد الكروان، والله أعلم.(1/84)
وسئل نفع الله به عمن صام تسعة وعشرين يوماً من شهر رمضان ثم أفطر ثم بلغه أنه أفطر يوماً من رمضان وأن الشهر ثلاثون فهل يلزمه قضاء اليوم أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا ثبت أن أهل بلده أو البلد القريبة منه مطلعاً رأوا الهلال ليلة ثلاثي شعبان لزمه قضاء يوم على الفور وكذا لو أفطر يوم ثلاثي رمضان بالنسبة لرؤية أهل بلده ومن قرب مطلعهم من مطلعهم فيلزمه قضاء يوم لكن لا فوراً، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/85)
وسئل نفع الله به بما صورته ما تقولون فيما رجحوه من اشتراط العدالة الباطنة في هلال رمضان هل ذلك في صورة الثبوت الذي يتعلق الوجوب العام به، وأما الحكم بالجواز والصحة في حق الآحاد فلا يشترط فيه العدالة الباطنة ولا الظاهرة كما أجاب بذلك بعض المتأخرين وقد قالوا إنه يجب الصوم على من أخبره فاسق برؤية الهلال واعتقد صدقه هل هذا بالنسبة إلى الحكم بالجواز والصحة في حق الآحاد كما تقدم أم المراد أنه يجب ولا يجزىء إلا أن ثبت قبل الفجر أنه من رمضان برؤية عدل شهادة أو حكم حاكم بناء على اشتراط العدالة الباطنة فيه كما تقدم؟. فأجاب بقوله: الصواب أنَ اشتراط العدالة إنما هو بالنسبة للثبوت الذي يتعلق به الوجوب العام، أما ما يتعلق بالخاص فلا يشترط فيه إلا اعتقاد الصدق أو ظنه على ما يأتي، فحينئذ يصح منه ويجزئه سواء حكم قبل الفجر أن غداً من رمضان أم لا؟ وعبارة شرح العباب لكن له أي كل منهما أي المنجم والحاسب اعتماده أي اعتماد معرفة نفسه كالصلاة. ونقل ابن الصلاح عن الجمهور خلاف ذلك ضعيف ويجزئه كما في الروضة وأصلها، وكذا في المجموع في الكلام على ما إذا اعتقد أن غداً من رمضان بقول من يثق به أجزأه فإنه قال، ثم إن استناد الاعتقاد إلى الحساب حيث جوّزناه كذلك، ونقله في الكفاية عن الأصحاب وصححه وصوَبه الإسنوى والزركشي وغيرهما ك السبكي لكن صحح في المجموع هنا أن له أي الحاسب ذلك وأنه لا يجزئه عن فرضه، كذا قيل وكلام المجموع ليس نصاً في تصحيح ذلك وإنما هو ظاهر فيه فإنه أخذ ذلك من كلام الرافعي وسكت عليه وكأنه إنما لم يعترضه لما سيصرح به في الكلام على النية من أنه يجزئه كما مر عنه (ومن أخبره ثقة برؤيته) وإن لم يذكره عند القاضي (وظن صدقه) عبارة غيره واعتقد صدقه وبينهما تغاير وستأتي الإشارة إليه في صوم يوم الشك ويؤيد الثاني تعبير البغوي هنا بقوله ولو عقد بقلبه من غير شك أن غداً من رمضان ونوى فإن سمع من ثقة الخ،(1/86)
فإنه صريح في أنه لا بد هنا من الاعتقاد الجازم وأنه لا يكفي الظن ولا غلبته (لزمه صيامه) كما قطع به طائفة منهم ابن عبدان و البغوي و الغزالي وأقرهم في المجموع وغيره، وعلم من ذلك أن من تواترت عنده رؤية رمضان أو شوّال ولو من نحو فسقة أو كفار لزمه الصوم في الأولى قياساً على ذلك، بل أولى لأن التواتر يفيد اليقين فهو أولى من البينة والفطر في الثانية وخرج بالثقة ما لو أخبره غير الثقة واعتقد صدقه فلا يلزمه بل يجوز له أخذاً مما مر قريباً بل ظاهر قول جمع لو أخبره من يعتقد صدقه لزمه الصوم أنه لا فرق في اللزوم عند اعتقاد الصدق بين الثقة وغيره، ثم رأيت في كلام ابن الصباغ ما هو ظاهر في الجواز دون الوجوب وسيأتي صحة الاعتماد في النية على قول فاسق سكنت نفسه إليه انتهت عبارة شرح العباب واستفيد منها أنه حيث لزمه الصوم لاعتقاده الصدق وكون المخبر ثقة ولا نزاع فيه وحيث جاز له لاعتقاده الصدق وكون المخبر غير ثقة يأتي في الأجزاء ما تقرر من كلام الروضة وغيره ومن يقول باللزوم في هذه أيضاً يقول بالأجزاء ثم ما تقرر هنا ينافيه كلامهم في مبحث النية ومبحث صوم يوم الشك وجمع المتأخرون بين هذه المواضع الثلاثة بوجوه سبعة ذكرتها مع بيان ما في كل منها من نقد ورد في الشرح المذكور، وتركت سوقها هنا لطولها وحاصل ما يتعلق بما في السؤال منها ما تضمنه قولنا في الشرح المذكور وإنما لم يصح صوم يوم الشك عن رمضان أي مع أنه معتمد فيه على قول من لا تقبل روايته وظن صدقه، لأنه لم يتبين كونه منه نعم من اعتقد ليلاً صدق من قال إنه رآه ممن ذكر يصح منه صومه بل يلزمه كما مر أوّل الباب وتقدم في الكلام على النية صحة نية معتقد ذلك ووقوع الصوم عن رمضان إذا تبين كونه منه قيل فلا تنافي بين ما ذكر في المواضع الثلاثة أي كما أشار إليه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/87)
السبكي وغيره، وحاصله حمل كلامهم في صحة النية على من ذكر على ما إذا تبين كونه من رمضان وهنا على ما إذا لم يتبين شيء فليس الاعتماد على من ذكر أي من نحو الصبيان في الصوم بل في النية فقط فإذا نوى اعتماداً على قولهم، ثم بان كون غد من رمضان لم يحتج ليلاً إلى تجديد نية أخرى ومن لم يذكروا هذا فيما يثبت به الشهر وإنما ذكروه فيما يعتمد عليه في النية، وحينئذ فيعتمد في تصحيح النية على أخبار من يثق به ثم إن استمر الحال على ذلك فهو يوم شك فيحرم صومه ولا يجزئه وإن بان من رمضان وإلا بأن ثبت أنه من رمضان قبل الفجر أو بعده لزمه الصوم وصح وإن لم يكن جدد نية، لأن النية لما استندت إلى أخبار من يوثق به صحت ووقعت موقعها ونازع الأذرعي وغيره في هذا الجواب بما فيه نظر للمتأمل اهـ الغرض مما في الشرح المذكور.(1/88)
وسئل نفع الله بعلومه عن حد باطن الأذن الذي يفطر الصائم بوصول العين إليه أهو ما لا يرى وما يرى في حكم الظاهر؟. فأجاب بقوله: لم أر أحداً حدّده بشيء لكنهم ذكروا في نظيره ما يعلم منه حده وذلك أن ابن الرفعة وغيره نقلوا عن القاضي أنه متى دخل أدنى شيء من أصبعه في مسربته أفطر. قال السبكي : وهذا ظاهر إذا وصل إلى المكان المجوّف، وأما أوّل المسربة المنطبق فلا يسمى جوفاً فينبغي أن لا يفطر بالوصول إليه اهـ، وجزم به في الخادم وجريت على نظير ذلك في شرح العباب فقلت عقب قوله وباطن أذنه، وينبغي حده بما يأتي في المسربة أنه لا بد من الوصول إلى المجوّف دون أوّل المنطبق اهـ، ويقاس بذلك باطن الذكر أيضاً وقد ذكروا أنه لا يشترط مجاوزة باطن الحشفة والحلمة وعبارة الكفاية والجواهر يفطر بإدخال ميل إلى باطن حشفته فإن قلت ينبغي ضبط باطن الأذن بما ضبطوا به باطن الفرج وهو ما لا يجب غسله فحيث جاوز ما يجب غسله وهو أوّل المنطبق أفطر نظير ما قالوه في باطن الفرج وكأن هذا هو الذي نظر إليه السائل في الضبط بالرؤية وعدمه. قلت: فرق واضح بينهما لأن القياس أن ما يجاوز المنطبق من الشفرين باطن لكن لما كان يظهر عند الجلوس على القدمين ألحقوه بالظاهر ولم يحكموا بالفطر إلا عند مجاوزة هذا الظاهر فلا ضابط هنا غيره، وأما الأذن فما قبل المنطبق ظاهر حساً وقياساً كما قبل المسربة فناسب أن يلحق بها في أن ما جاوز أوّل المنطبق إلى المجوّف جوف وما لا فلا فتأمله.(1/89)
وسئل نفع الله به عن حديث أن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر، وحديث: «من صام من كل شهر الخميس والجمعة والسبت كتب له عبادة سبعمائة سنة» ، وحديث: «من صام يوماً من رجب كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات» هل هي موضوعة أم لا؟. فأجاب بقوله: ليست موضوعة بل ضعيفة، فتجوز روايتها والعمل بها في الفضائل. قال الحافظ ابن حجر : في الأوّل ليس في إسناده من ينظر في حاله سوى منصور الأسدي. وقد روى عنه جماعة لكن لم أر فيه تعديلاً، وقد ذكره الذهبي وضعفه بهذا الحديث وقال في الثاني له طرق بلفظ عبادة ستين سنة وهو أشبه ومخرجه أحسن وإسناده أشد من الضعيف قريب من الحسن والثالث له طرق وشواهد ضعيفة يرتقي بها عن كونه موضوعاً، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/90)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن عيد في قرية ثم وصل لقرية أخرى قريبة وأخبر أهلها بذلك فهل يقبل خبره أو يوقف إلى أخبار من يحصل به التواتر أو من تحصل به الشهادة ولو صام في قرية فوصل لقرية أخرى فهل يجب الصوم على أهل القرية بخبر واحد أو اثنين أو لا حتى تحصل الشهادة وهل يفرق بين ما إذا كان البلد الذي عيد أو صام فيه من المدن والأمصار والقرى، وإذا أرسل قاضي بلد رقعة إلى قاضي بلد بثبوت رؤية الهلال عنده فهل يجوز الصوم اعتماداً على الرقعة أو لا بد من شاهدين معها؟. فأجاب بقوله: قد وقع من منذ سنين في زبيد حرسها الله تعالى الإفطار من رمضان بأخبار عدل فاختلف علماؤها هل هو جائز بل واجب أو هو حرام وطال اختلافهم وكثرت فتاويهم وتصانيفهم فيها نفياً وإثباتاً حتى أرسلوا يستفتون منا عن ذلك بمكة وكان مجاوراً إذ ذاك شيخنا الإمام أبو الحسن البكري رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنات المعارف متقلبه ومثواه، فاختلف جوابي وجوابه ولما عرض عليه ذلك قال: لا زالت المشايخ وتلامذتهم يختلفون ولا عتب في ذلك ألا ترى إلى ما وقع للأسنوي مع تلامذته والبلقيني مع تلامذته وغيرهما، وقد بسطت حاصل ما أجبت به في شرحي الكبير على الإرشاد، وحاصل عبارته وبحث الأذرعي أنه يكتفي بالعلامة الظاهرة الدالة كرؤية أهل القرى القريبة من البلد الكبير القناديل المعلقة ليلة أول رمضان بالمناير كما هو العادة، واعتمده من بعده وقياسه الاكتفاء برؤية قناديل المقبرة فجر يوم العيد ثم رأيت الشارح أي الشمس الجوجري و ابن قاضي عجلون أفتيا بذلك وقيده الشارح بما إذا كثرت القناديل كثرة لا يحتمل معها النسيان بوجه وهو ظاهر وشيخنا زكريا سقى الله عهده أفتى بأنه لا يجوز الفطر بذلك، قال: لأن الأصل بقاء رمضان وشغل الذمة بالصوم حتى يثبت خلافه شرعاً اهـ ويتعين حمله على ما إذا لم يحصل للرائي بذلك اعتقاد جازم، وإلا فالوجه وجوب الفطر ومن ثم خالف الشيخ بعض أكابر أصحابه فأفتى(1/91)
بأن من حصل له اعتقاد جازم بدخول رمضان من العلامات المعتادة لذلك وجب عليه الصوم، ومن حصل له ذلك الاعتقاد بدخول شوّال من العلامات المذكورة لزمه الفطر عملاً بالاعتقاد الجازم فيهما اهـ. وبما تقرر يعلم أن أخبار العدل الموجب للاعتقاد الجازم بدخول شوّال يوجب الفطر وهو ظاهر، وقول الروياني لا يجوز الاعتماد في الفطر آخر النهار على أخبار العدل ضعيف ولا يفرق بأن آخر النهار يجوز الفطر فيه بالاجتهاد بخلاف آخر رمضان، لأن الاجتهاد يمكن في الأوّل دون الثاني إذ من شرطه العلامة وهي موجودة في ذاك لا هذا، وحيث قلنا بجواز الفطر أو وجوبه ولم يثبت عند الحاكم وجب إخفاؤه لئلا يتعرّض لمخالفته وعقوبته، ثم رأيت النووي رحمه الله وغيره ذكروا عن القفال واعتمدوه أن لزوجة المفقود إذا أخبرها عدل بموته أن تتزوّج فيما بينها وبين الله تعالى وهذا صريح فيما تقرر من جواز الفطر لمن أخبره عدل بدخول شوّال بل هذا أولى، لأن ذاك حق آدمي ويتعلق بالإبضاع المختصة بمزيد احتياط وقاطع للعصمة التي الأصل بقاؤها، ومع ذلك أثر خبر العدل فيه فما نحن فيه أولى ولا نظر لما توهم من أنه إنما أثر ثم لئلا يطول ضررها وانتظارها، لأن الموت قد يعسر إثباته لأن إطلاقهم تأثيره يدل على عدم نظرهم لخصوص ذلك، وزعم أن ذلك باعتبار ما من شأنه غير صحيح، أما في الموت فواضح إذ ليس من شأنه أنه يعسر إثباته، وأما التضرر فيما ذكر فلم يعوّلوا عليه في مسائل كثيرة كما في انقطاع الدم لعارض والغيبة مع جهل يساره وإعساره فإنه لا يجوز لها حينئذ الفسخ مع تضررها بما لا يطاق ولا نظر أيضاً لاتهام الرائي في أخباره بذلك لجرّه جوازه الفطر لنفسه لأنه لا عبرة بهذا الجر إن سلم وإلا فلا جر لأنه بالنسبة لنفسه يلزمه الفطر سواء قلنا يعمل بخبره أم لا فلا تهمة أصلاً فإفتاء بعض من تقدّم من أهل اليمن بإطلاق أنه لا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين نظراً لذلك غير صحيح لما تقرر، ومما يؤيد ما(1/92)
قدّمته ما دل عليه صريح عبارة الروضة وأصلها من أن للحاسب والمنجم العمل بحسابهما في الصوم والفطر فإذا جاز لهما العمل به في الفطر، فلأن يجوز بل يجب العمل بأخبار العدل لما مرّ بالأولى وتخصيص بعضهم جواز العمل لهما بالصوم يرده عبارة الشيخين كما يعلم بنظرها وتصريح الأصحاب ك
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
الشافعي رضي الله عنه بأن شوّالاً لا يثبت إلا بعدلين وأن ذلك من باب الشهادة لا الرواية مفروض كما يعلم ذلك من مجموع كلامهم في ثبوته بالنسبة لعموم الناس وليس الكلام فيه انتهت عبارة شرح الإرشاد، وبها يعلم أن المدار في الصوم والفطر بالنسبة لسائر الناس على العموم بالثبوت عند الحاكم وهو بعدل في الصوم وبعدلين في الفطر أو بعدد التواتر وبالنسبة لبعض الناس على الرؤية أو الاعتقاد الجازم بأخبار عدل أو فاسق وقع في القلب صدقه أو بقرينة لا تتخلف عادة كالقناديل السابق ذكرها وكرقعة القاضي المذكورة آخر السؤال إذا استحال عادة تزويرها أو نحوه.(1/93)
وسئل نفع الله به عمن عليه عشرة أيام من رمضان وصام عنها خمسة وأفطر في كل يوم متعدياً هل يتضيق صوم الخمسة كلها أو يوم واحد؟. فأجاب بقوله: الظاهر أن مراد السائل مما ذكره أنه شرع في القضاء ففي أول يوم من شروعه فيه أفطر ثم في ثاني يوم أفطر أيضاً، وهكذا وحينئذ فالوجه أنه إن نوى بكل يوم شرع فيه ثم أفسده أنه عن يوم معين مما عليه لزمه الفور في الخمسة، لأن كلاً منها وقع قضاء مستقلاً عن يوم مغاير لغيره وإن نوى أن الثاني قضاء عن الأوّل الذي أفسده وهكذا لم يلزمه الفور إلا في يوم واحد أخذاً مما ذكروه في الحج أنه لو تكرر إفساده للقضاء المتعدد لم يلزمه إلا قضاء واحد وإن أطلق فظاهر كلامهم فيمن عليه صلوات وأطلق قضاء واحد أنه يقع عن أول مقضية عليه أنه لا يلزمه الفور إلا في قضاء واحد أيضاً، لأن كل يوم شرع فيه وأفسده من غير نية كونه قضاء عن يوم مخصوص لا ينصرف إلا للأوّل فهو لم يتكرر منه فساد لأقضية متعددة بل لقضاء واحد.(1/94)
وسئل رضي الله عنه ما معنى حديث البيهقي: من فطر صائماً كان له أجر من عمله؟. فأجاب بقوله: المشهور في لفظ الحديث: إن أجر مضاف لمن الموصولة، وأما تنوينه وجعل من جارة فقد أفسده الجلال السيوطي بأنها إما بعضية والضمير للصائم وهو مناف للأخبار الآتية أن المفطر له مثل أجر الصائم لا بعضه أو والضمير للتفطير المفهوم من فطر ففساده ظاهر، وإما سببية والضمير للصائم ووجه فساده أن الإنسان لا يؤجر بسبب عمل غيره، وإنما يؤجر بسبب عمل نفسه أو للمفطر لم يصح اعتلاق ما بعده به في رواية أخرى عند البيهقي أيضاً وهو قوله من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً اهـ، وفيه نظر. وما المانع من أنها للبعضية والضمير للصائم والمماثلة من حيث أصل الثواب دون المضاعفة لئلا يلزم تساوي الصائم ومفطره في فوائد الصوم وثوابه وهو بعيد أو للسببية والضمير للتفطير والتقدير كان له أجر من أجل تفطيره له أو للصائم والتقدير كان له أجر من أجل وجود عمل للصائم وهو صومه الذي يثاب عليه، ويستفاد من هذا التقدير فائدة جليلة هي أن الصائم لو لم يحصل له ثواب على صومه لارتكابه فيه ما يبطل الثواب كالغيبة وقول الزور كما صح في الخبر لم يحصل للمفطر ثواب كما اقتضاه ما يأتي في الأحاديث كان له مثل أجره فحيث لا أجر له لا ثواب لمفطره، ويحتمل أن المراد له مثل أجر عمله لو فرض له أجر فيؤجر المفطر وإن لم يؤجر الصائم، ثم إذا قلنا بالمشهور في ضبط الحديث فمعناه كان له أجر من عمل الصوم أي مثل أجره للأحاديث المصرحة بذلك، ويستفاد من هذا تأييد لذلك الاحتمال الذي ذكرته لأن عدوله عن قوله كان له أجر عمله، أي الصائم الذي فطر إلى من عمله الأعم منه لا بد له من فائدة هي حصول ثواب مثل أجر الصوم للمفطر سواء كان للصائم الذي فطره ثواب أم لا؟ ويصح أن يكون المعنى كان للمفطر أجر من عمل التفطير مقتدياً به في ذلك للخبر الصحيح من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم(1/95)
القيامة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
وسئل رضي الله عنه بما لفظه قد يفترض رمضان وسط جمادى؟. فأجاب بقوله: جمادى عند العرب الشتاء كله.
وسئل نفع الله بعلومه عن صوم ثالث عشر الحجة لمن يعتاد صوم أيام البيض هل يسقط بفقد يومه أو يصوم السادس عشر عنه كما قاله بعض المتأخرين فهل هو احتياط أو قضاء أو نيابة وكيف يقوم عنه إذا فات محله؟. فأجاب بقوله: ممن صرح بأنه يصوم السادس عشر عوضاً عن الثالث عشر في شهر الحجة العز بن عبد السلام، وتبعوه قالوا لأن صوم ثالث عشره حرام فكان السادس عشر عوضاً عنه، ووجه ذلك أن بعض البيض فات بعذر فشرع تداركه توسعة في حصول ثوابه لتأكد صومها، بل قيل إنها كانت واجبة أوّل الإسلام ثم نسخ وجوبها بصوم رمضان وبقي ندبها متأكداً وهذا باعتبار الكمال وإلا فقد صرحوا بأنه يحصل أصل السنة بصوم ثلاثة من الشهر غيرها، والحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يبالي من أي أيام الشهر يصومها صريح فيما قلناه فحينئذ اندفع استبعاد السائل لذلك بقوله وكيف الخ.(1/96)
وسئل نفع الله به عن رؤية الهلال إذا قلنا إن القرب والبعد باختلاف المطالع واتحادها هل يلزم منه أن يظهر تفاوت بين أهل البلدان الشرقية والغربية في أول الشهر وآخره ولم يشتهر من أهل البلدان الثانية إلا الاتفاق ما السبب في ذلك هل هو كون الاختلاف لا يظهر في الربع المعمور بكثير أو لا؟ فإن قلتم بالأول فلأي شيء الاختلاف بين الأئمة في ترجيح اختلاف المطالع واتحادها ومسافة القصر؟. فأجاب بقوله: نعم يلزم منه ذلك فقد صرح السبكي و الإسنوى بأن المطالع إذا اختلفت فقد يلزم من رؤيته في بلد رؤيته في الآخرين من غير عكس إذ الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في الغربية، وحينئذ فيلزم عند اختلافها من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي من غير عكس، وأما عند اتحادها فيلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر، ومن ثم أفتى جمع بأنه لو مات أخوان في يوم واحد وقت زواله وأحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ورث المغربي المشرقي لتقدم موته وإذا ثبت هذا في الأوقات لزم مثله في الأهلة وأيضاً فالهلال قد يكون في الشرق قريب الشمس فيستره شعاعها فإذا تأخر غروبها في المغرب بعد عنها فيرى والاختلاف بين الأئمة في هذه المسألة منتشر يجمعه ستة آراء: أحدها: إذا رؤي ببلد لزم جميع أهل الأرض فمن علم برؤيته بمحل قبل رؤية محله لزمه القضاء، أي وينبغي ندبه له على الأصح خروجاً من الخلاف. ثانيها: يلزم أهل إقليم بلد الرؤية. ثالثها: من وافقهم في المطلع. رابعها: يلزم كل بلد لا يتصوّر خفاؤه عنهم بلا عارض. خامسها: يلزم من على دون مسافة القصر. سادسها: يلزم بلد الرؤية فقط. واستدل القائلون بالأوّل المنقول عن أكثر العلماء بأن الأرض مسطحة مبسوطة فعدم الرؤية في البعيد لعارض لا لعدم الهلال ورد بأن من المعلوم أن البلاد مختلفة الطلوع والغروب للشمس والقمر فقد يحصلان في محل دون آخر فنيط كل محل برؤية أهله كما علق طلوع الفجر والشمس وغروبها بالطالع ولا يضر ما(1/97)
يلزم على ذلك من الرجوع لقول الحاسب والمنجم، لأنه في أمر تابع خاص والتوابع والأمور الخاصة يغتفر فيهما ما لا يغتفر في الأصول والأمور العامة. قال في الأنوار: والمراد باختلافها أن يتباعد البلدان بحيث لو رؤي في أحدهما لم ير في الآخر غالباً اهـ، وفيه شيء بينته في شرح العباب. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
التاج التبريزي: ورؤيته في بلد توجب ثبوت حكمها إلى أربعة وعشرين فرسخاً لأنها في أقل من ذلك لا تختلف. قال أبو شكيل : وعدن وزبيد وما والاهما من بر عجم متحدة المطالع وعدن وصنعاء وما والاهما من الجبال وتعز مختلفة اهـ.(1/98)
وسئل نفع الله به عمن نوى احتياطاً في الليل الصوم عن قضاء رمضان إن كان عليه قضاء رمضان وإلا فعن الفدية فإذا لم يكن عليه قضاء فهل يكون عن الفدية أو لا؟ وإذا كان عليه قضاء في الحقيقة فهل يحصل القضاء مع هذا التردد وعدم الجزم أو لا؟ وهل الأفضل للمتطوّع بالصيام أن ينوي القضاء احتياطاً أو التطوّع فإذا نوى القضاء فهل يحصل التطوّع إن لم يكن عليه قضاء أم لا؟ وإذا نوى صوم القضاء في الأثانين والخميس مثلاً فهل تحصل له السنة أيضاً أم لا؟. فأجاب بقوله: ذكر النووي رحمه الله في مجموعه أنه لو علم أن عليه صوماً وجهل سببه من كونه قضاء عن رمضان أو نذراً أو كفارة كفاه أن ينوي الصوم الواجب عليه للضرورة كمن نسي صلاة من الخمس لا يعرف عينها فإنه يصلي الخمس وتجزئه عما عليه ويعذر في عدم جزمه بالنية للضرورة، وإنما لم يلزمه هنا صوم ثلاثة أيام ينوي يوماً عن القضاء ويوماً عن النذر ويوماً عن الكفارة لأن الذمة هنا لم تشتغل بالثلاث والأصل بعد الإتيان بصوم يوم بنية الصوم الواجب براءة ذمته عما زاد بخلافه فيمن نسي صلاة من الخمس فإن ذمته اشتغلت بجميعهن يقيناً والأصل بقاء كل منها أشار إليه السبكي وتبعه الزركشي وغيره وقضيته أنه لو فرض هنا أن ذمته اشتغلت بصوم الثلاث وأتى باثنين منها ونسي الثالث لزمه الثلاثة وهو متجه وإنما لم يكتفوا ثم بنية الصلاة الواجبة كما هنا لأن ما هنا أوسع. ألا ترى أنه لا يشترط هنا نية الفرضية ولا مقارنة النية للصوم ولا يخرج منه بنية تركه بخلاف الصلاة. نعم لو علم أن عليه صلاة واجبة ولم يدر هل هي مكتوبة أو منذورة كفاه نية صلاة واجبة كما بحثه بعضهم قياساً على ما تقرر في الصوم إذا تقرر ذلك علم منه أن من علم أن عليه صوماً واجباً وشك هل هو قضاء أو كفارة جاز له أن ينوي الصوم الواجب وإن لم يعينه للضرورة وإذا جاز له هذا الإبهام جاز له أن ينوي القضاء إن كان وإلا فالكفارة ولا يضر هذا التردد لما تقرر من(1/99)
الضرورة، ومما يصرح بذلك قولهم في الزكاة: لو نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقياً وإلا فعن الحاضر صح ووقعت عن الحاضر أن بان الغائب تالفاً قالوا ولا نظر للتردد في عين المال بعد الجزم بكونه زكاة ماله وهذا بعينه يأتي في مسألتنا فيقال أولاً لا نظر للتردد في عين الصوم بعد الجزم بكون أحدهما واجباً عليه. وثانياً لو علم أن عليه الفدية وإنما الشك في القضاء كما هو ظاهر السؤال أن بان عليه القضاء وقع عنه وإلا وقع عن الفدية فإن قلت ما الفرق بين هذا وما لو نوى الوضوء للتلاوة إن صح الوضوء لها وإلا فللصلاة فإن الأوجه عدم صحة هذه النية كما بينته في شرح العباب وبين هذا وقولهم لو نوى فرض الوقت إن دخل وإلا فالفائت لم يصح، قلت أما الأول فالفرق بين ما نحن فيه وبينه أنه فيما نحن فيه تردد بين شيئين يحتاج كل منهما لنية بخلافه في صورة الوضوء، فإن التلاوة لا تحتاج لنية بل لا يصح الوضوء لها فاشتمل أحد جزأي نيته على نية باطلة فلغت من أصلها على أنه لا ضرورة هنا للتردد بوجه بخلافه في مسألتنا كما مر. وأما الثاني فالفرق فيه بذلك أيضاً، أعني عدم الضرورة وبأن الصلاة يحتاط لها ما لا يحتاط لغيرها، ومما هو صريح أيّ صريح فيما ذكرته من الصحة في مسألة الصوم قول المجموع عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53(1/100)
البغوي ، وأقره لو تيقن الحدث وشك في الطهارة فنوى رفعه إن كان عليه وإلا فالوضوء المجدد صح وضوءه وإن تذكر أنه كان محدثاً لاستناده لأصل بقاء الحدث عليه فليس وضوء احتياط وإن كان متردداً عنده لمنع الصلاة بدونه، وقوله وإلا فتجديد تصريح بالواقع على تقدير أن لا حدث، وبهذا يفرق بين هذا وما مر في مسألة المجموع المنقولة عن الروياني وبتأمل هذا يعلم أن مسألة الصوم أولى بالأجزاء منها، لأن فيها ضرورة حقيقية وهنا لا ضرورة لأنه يمكنه أن يحدث فيرتفع التردد فإذا جازت نيته تلك مع إمكان دفعه التردد فأولى أن يجوز نظيرها في مسألة الصوم، لأنه لا يمكنه دفع التردد لما تقرر أنه يعلم أن عليه أحد الصومين ولا يعلم عينه وإذا نوى ذلك تأدّى به ما عليه من القضاء أو الكفارة، ويؤخذ من مسألة الوضوء هذه أنه لو شك أن عليه قضاء مثلاً فنواه إن كان وإلا فتطوع صحت نيته أيضاً وحصل له القضاء بتقدير وجوده بل وإن بان أنه عليه وإلا حصل له التطوع كما يحصل له في مسألة الوضوء وضوء التجديد بفرض أن لا حدث عليه، بل هذا أولى بالأجزاء لأن الوضوء ثم واجب ولم يؤثر فيه ذلك التردد لعدم الاحتياج إليه فأولى أن لا يؤثر في مسألة الصوم للاحتياج إليه، وبهذا يعلم أن الأفضل لمريد التطوع بالصوم أن ينوي الواجب إن كان عليه وإلا فالتطوع ليحصل له ما عليه إن كان، فإن قلت ينافي ذلك كله قول المجموع لو قال أصوم عن القضاء أو تطوعاً لم يجزئه عن القضاء قطعاً، ويصح نفلاً في غير رمضان اهـ. قلت: لا ينافي ذلك ما قلناه بوجه لأنه مفروض فيمن عليه قضاء بيقين فلا موجب لاغتفار التردد فيه بخلاف ما قدمناه، فإن قلت لو قال آخر شعبان وقد ظن دخول رمضان بخبر نحو فاسق نويت صوم غد عن رمضان إن كان منه وإلا فتطوع فبان منه لم يجزئه عنه، قلت عدم الأجزاء هو وإن كان معتمد الشيخين فقد أطال كثيرون من المتأخرين في رده كما بينته لكن مع جوابه في شرح العباب وعلى كلامهما فهو لا(1/101)
ينافي ما قدمته أيضاً لأنه لا ضرورة به إلى هذا التردد لأنه لو اقتصر على قوله نويت صوم غد أجزأه كما بينته ثم أيضاً مع الفرق بينهما، وأما فيما نحن فيه فإنه مضطر إلى التردد فاغتفر له للضرورة والمعتمد كما بينته في شرح العباب أن من نوى صوم القضاء يوم الاثنين مثلاً فإن نوى سنة صوم الاثنين مع ذلك حصلا وأثيب عليهما وإلا لم يثب على الثاني لكن يسقط طلبه كما لو نوى فرض الظهر وتحية المسجد بجامع أن القصد ثم شغل البقعة بصلاة وهنا شغل هذا الزمن بصوم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 53
كتاب الاعتكاف
وسئل فسح الله في مدته لو تصور أن شخصاً يمكنه أن يقف على أصبعه فاعتكف واقفاً على أصبعه معتمداً عليه فقط فهل يصح اعتكافه أو لا؟ وإذا قلتم بصحته فهل يشترط أن يكون جميع جسده في المسجد أو يكفي كون بعضه في المسجد وبعضه خارجه، وإذا قلتم يكفي كون بعضه في المسجد فهل يشترط أن يكون بعضه الذي في المسجد أكثر من بعضه الذي هو خارجه أو يكفي ولو كان الخارج أكثر؟. فأجاب بقوله: حيث تصور اعتماد البدن على جزء منه وإن صغر جداً وكان ذلك الجزء في المسجد صح الاعتكاف كما يصرح به كلامهم في باب الاعتكاف والإيمان ومحرمات الإحرام وذكرهم الرجل واليد، إنما هو جرى على الغالب، ولا فرق حيث اعتمد على ما ذكر بين أن يخرج أكثر بدنه عن المسجد أو لا.(1/102)
وسئل فسح الله في مدته عن قولهم لا يصح اعتكاف نحو الجنب لحرمة المكث في المسجد عليه، وأورد على ذلك شيخ الإسلام في شرح الروض ما لو اعتكف في مسجد وقف على غيره دونه فإنه يحرم عليه لبثه فيه مع صحة اعتكافه فيه كالتيمم بتراب مغصوب ثم قال: وقس على هذا ما يشبهه فما الجواب عن ذلك؟. فأجاب بقوله: يجاب عن ذلك بأن حرمة مكث نحو الجنب إنما هي من حيث كونه مسجدا المشترط في الاعتكاف فلم يمكن تصحيحه حينئذ بخلاف حرمة المكث في المسألة التي أوردت فإنها لأمر خارج وهو كونه ليس من الموقوف عليهم لا لأجل كونه مسجداً، ونظير ذلك عدم إجزاء المسح على الخف الذي لبسه المحرم بخلاف الخف الذي من فضة أو ذهب لأن الأول حرام من حيث اللبس الذي لا يتحقق المسح على الخف إلا به بخلاف الثاني فإن حرمته للاستعمال الأعم لحصوله باللبس وغيره.(1/103)
وسئل نفع الله به عن قولهم لا يصح الاعتكاف فيما وقف جزؤه شائعاً مسجداً، ويحرم المكث فيه على الجنب وإذا دخله متطهر سن له صلاة التحية فما الفرق؟. فأجاب بقوله: قد يفرق بعد تسليم سن التحية له وهو المتجه بأن المدار في حرمة مكث الجنب على مماسته لجزء من المسجد لما فيه من الإخلال بحرمته حينئذ وقد حصل ذلك فحرموا المكث فيما ذكر كما أفتى به ابن الصلاح وهو الأوجه خلافاً للبارزي ، وفي صحة الاعتكاف على خلوص المسجد لأنه من خصائصه ولم يوجد ذلك فلم يصح وأيضاً فاختصاص الاعتكاف بالمسجد إنما هو لمزيد تعظيمه وحيث صح مع مماسة غيره كان فيه إخلال بذلك التعظيم فروعي الإخلال بالحرمة ثم والإخلال بالتعظيم هنا، ويفرق بين عدم صحة الاعتكاف فيه وندب التحية لداخله بأنه قد ماس جزءاً من المسجد فيسن له تحية ذلك الجزء الذي ماسه مبالغة في تعظيمه، وإشارة إلى أن مماسة غيره لا تؤثر فيما طلب له من مزيد التعظيم ولو قلنا بصحة الاعتكاف فيه لكان معتكفاً في جزء غير مسجد، وفيه من الإخلال بالتعظيم ما مر، ولا يمكن أن يقال فيما إذا صلى التحية أنه صلاها لجزء غير المسجد، لأن الاعتكاف أمر حسي فلا يمكن تخصيصه بالمسجد مع مماسة بدنه لغيره بخلاف الصلاة فإنه يمكن تخصيصها بالجزء الذي هو مسجد دون غيره، ويؤيد ما ذكرته فيما مر أنه لو أخرج المعتكف إحدى رجليه من المسجد واعتمد عليهما ضر على الأوجه وإن نظر فيه الإسنوى .
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 90(1/104)
وسئل أعاد الله علينا من بركاته بما لفظه: رأيت في بعض التعاليق منسوباً للإمام البلقيني أنه قال لو وقف جذعاً للاعتكاف حرم المكث عليه وكذا السجادة اهـ كلامه هل قوله صحيح مؤيد بكلامهم أم لا؟. فأجاب بقوله: ما نقل عن البلقيني كلام مظلم إذ لم يبين كيفية وقف الجذع للاعتكاف ولا محل ذلك الجذع وقول المعلق وكذا السجادة يوهم أنه من كلام البلقيني وكل ذلك تأباه جلالة البلقيني وإنما مسألة السجادة كانت نقلت عن شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله أنه وقف سجادته مسجداً فكان ينوي الاعتكاف عليها في سفره للحج تقليد الوجه ضعيف يرى صحة وقف المنقول مسجداً هذا ما نقل عن الشيخ وقد تتبعناه فلم نره صح عنه أصلاً وإنما هو شيء يلقي بين بعض الطلبة لاستغرابه وكل ذلك لا حقيقة له في المذهب ولا يعول عليه فلا يجوز لأحد العمل به ولا الاعتماد على ما في التعاليق التي لا يعلم حال كاتبها أو يعلم حاله وأنه غير موصوف بالعلم أو العدالة وكم من تعاليق يقع فيها غرائب يراها بعض من لا يعرف القواعد فيزل بها قدمه ويطغى بنقلها قلمه، نعم غاية الأمر أن الإنسان لو بنى في ملكه مسطبة أو أثبت فيه خشباً جاز له وقفه مسجداً على ما نقل عن بعض المتأخرين لأنه الآن مثبت فهو في حكم وقف العلو دون السفل مسجداً وهو صحيح.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 90
كتاب الحج
ج2=>(1/105)
وسئل رضي الله عنه ومتع بحياته عن شخص جوعل على أن يحج ويعتمر عن فلان الفلاني بكذا فأخبر الجعيل بأنه أحرم بالحج عن الشخص المذكور الذي جوعل لأجله وأخبر أنه وقف عنه بعرفة فهل يجب عليه الإشهاد بحضوره في عرفة في وقت الوقوف في مسألة الجعالة دون الإجارة كما أفتى به بعض أكابر فقهاء اليمن بالنسبة للجعالة دون الإجارة فارقاً بين الإجارة والجعالة بفروق أم يجب الإشهاد فيهما فإن قلتم لا يجب الإشهاد فذاك، وإن قلتم بوجوبه فيهما أو في أحدهما فهل يكفيه الإشهاد عليه أنه حضر في أرض عرفة في وقت الوقوف وإن لم يشهد أن وقوفه عن فلان الفلاني بل إذا أخبر بعد ذلك أن وقوفه كان عن فلان المذكور يقبل منه، لأن ذاك لا يعلم إلا منه أو لا يقبل منه ذلك لأنه كان يمكنه الإشهاد حالة الوقوف مثلاً أن وقوفه مثلاً كان عن فلان ولم يفعل وكذا سائر أركان الحج غير النية وهل جميع ما ذكر يأتي في العمرة؟. فأجاب رضي الله عنه بأن المعتمد الذي ذكرته في حاشية الإيضاح أنه يقبل بلا يمين قول الأجير حججت ما لم يثبت أنه كان يوم الوقوف ببغداد مثلاً بخلاف ما لو قال له آخران حججت عن أبي فلك كذا فإنه لا يقبل دعواه الحج إلا ببينة ويكون حلف المنكر على نفي العلم كذا ذكره الزبيلي ومراده بالبينة أنه كان حاضراً تلك المواقف في السنة المعينة لا أنه حج عن فلان، لأن ذلك لا يعلم إلا منه ويؤيده ما ذكر في الجعالة من قولهم في بابها لو اختلفا بعد فراغ العمل في الرد فقال العامل رددته وقال المالك جاء بنفسه صدق المالك اهـ، فافهم أنه لا يقبل دعوى العامل أنه أتى بالعمل الجاعل عليه، بل لا بد من يمينه أنه أتى به ويفرق بينه وبين الإجارة بأن الأجير ملك الأجرة بالعقد وإن كان ملكه غير مستقر فإذا ادعى مستأجره أنه لم يأت بالعمل كان مدعياً عليه خيانة، والأصل عدمها فصدق الأجير في نفيها بيمينه غالباً، وأما العامل في الجعالة فلم يملك الجعل بل ولا يثبت له فيه شائبة حق(1/106)
إلا بعد ما شرط عليه من العمل كرد الآبق فإذا ادعى أنه رد كان مدعياً على المالك بما لم يتحقق سببه فصدق المالك في نفي دعواه بيمينه على قياس سائر الدعاوى التي هذا شأنها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل فسح الله في مدته فيمن أوصى بحجة وزيارة بالقدم بأن يأتي بهما النائب بنفسه فجاعله الوصي كذلك فحج ولم يزر بل استتاب من يزور عن الوصي لعذر أو دونه هل يستحق جميع الموصي به أو قسط الحج فقط، أو يفرق بين أن يكون معذوراً بنحو مرض حال الجعالة فيستحق جميع المسمى وبين أن يطرأ العذر فلا يستحق إلا قسط الحج كما في نظيره من الوكالة فلو أذن له الوصي في الاستنابة في الزيارة، والحالة هذه هل يجوز أم لا؟ وعليه هل يغرم أم لا؟ وما تقولون فيما يسمى بالملزمة وذلك بأن يوصي الشخص بقدر قليل لمن يحج عنه، والحال أنه لا يوجد من يعتني بالمسير بمثل ذلك من بلد الموصي هل يصح ذلك أو تبطل الوصية على أن الوصي قد يقول لشخص يعتني بالحج إذا خرجت حاجَاً أو استنبت من يحج عن الموصي المذكور فلك كذا أو يقول لك في تركته كذا أو يقول عندي أو عليّ أو يطلق هل يصح ويلزم الموصي دفع المسمى من التركة أو يلزم ذلك من ماله أو لا يستحق شيئاً أصلاً أو يستحق في بعض الصور دون بعض على أن من المعلوم المشاهد أن أرباب الملازم أي السائرين بها يستنيبون هناك من لا يقوم بواجبها بقدر قليل من الأصل الذي هو قليل ويأخذون الباقي لأنفسهم هل يحل لهم ما أخذوه أم هو من أكل المال بالباطل يفسق متعاطيه مع علمه بالتحريم وهل يأثم الوصي بذلك أيضاً وينعزل أم لا ولو عاقد بينهما فقيه مع العلم بالحال هل يأثم وهل يجب عليه شيء ويقدم غرمه على الوصي والموصي أم لا وهل يشترط في الاستنابة في الحج والعمرة والزيارة أن يكون النائب عدلاً كما نقل عن الأذرعي أم لا كما أفتى به بعض المتأخرين أبسطوا القول في ذلك؟.(1/107)
فأجاب رضي الله عنه بأن الموصي متى شرط في وصيته صريحاً أن من يحج أو يزور عنه يأتي بذلك بنفسه وكذلك لو شرط ذلك لزوماً بأن قال بالقدم وعرفه المطرد التعبير بذلك عن إلزام النائب بأن يأتي بذلك بنفسه وجب على الوصي في هاتين الصورتين أن يستأجر من يحج ويزور عنه إجارة عين أو أن يجاعل من يفعل ذلك، ويشترط عليه عدم الاستنابة فيه فإن العامل في الجعالة يجوز له أن يوكل من يحصل العمل لكن لا مطلقاً بل فيما يعجز عنه أو لا يليق به ما لم يشترط عليه أن يتولى ذلك بنفسه فحينئذ لا يجوز له التوكيل فيه مطلقاً كما هو ظاهر ولا يقال هذا شرط مخالف للعقد لأنا نقول ليس مخالفاً له، لأن العقد لا يقتضي جواز التوكيل بقيده المذكور إلا عند الإطلاق، وأما عند النص على أنه يفعل ذلك بنفسه فلا يقتضي جواز التوكيل لأن الغرض يختلف باختلاف أعيان العاملين فحيث شرط على العامل أن يتولى العمل بنفسه اتبع شرطه. ألا ترى أن الوكيل لا يجوز له التوكيل إلا إن عجز أو لم يلق به ما وكل فيه فهو كالعامل ولو شرط عليه الموكل أن يتولى ما وكل فيه بنفسه لم يجز له التوكيل كما دل عليه كلامهم في الوكالة فقياسه أن العامل كذلك إذا تقرر ذلك فمتى استؤجرت عين إنسان أو جوعل على عين وشرط عليه عدم الاستنابة مطلقاً فاستناب من يزور عن الموصي لم يستحق هو ولا نائبه شيئاً في مقابل الزيارة وإنما الذي يستحقه الحاج قسط الحجة فقط سواء في ذلك استناب لعذر أو لغيره وسواء كان معذوراً حال الجعالة أم لا؟ وإنما يستحق قسط الحجة مطلقاً لوقوعها للمحجوج عنه إجزاء وثواباً فهو نظير ما ذكره الشيخان في مسألة الصبي يموت في أثناء التعليم ومن ثم اعتمد جمع متأخرون قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/108)
ابن الصباغ لو جاعله على خياطة ثوب فخاط نصفه ثم سلمه للمالك فاحترق في يده استحق نصف المشروط فقولهم لا يستحق عامل الجعالة الجعل بالفراغ أو وقوع العمل مسلماً لا ينافي ما ذكر لوقوع العمل فيه مسلماً في البعض فاستحق بقسطه ولم يريدوا بذلك وقوعه جميعه بدليل مسألتي الصبي والثوب المذكورتين، وإنما احترزوا بذلك عن اختلال يقع في الأثناء يمنع من وقوع العمل من أصله مسلماً وبما تقرر علم أنه لا يجوز للوصي أن يأذن له في الاستنابة فإن أذن له فيها كان لغواً ولا غرم عليه فيما يظهر، لأن الزيارة وقعت للمباشر ولم تقع للموصي ولا للوصي ومن لا يقع العمل مسلماً له لا غرم عليه كما دل عليه كلامهم في باب الجعالة هذا إن كان الأجير أو العامل عالماً بفساد الإجارة أو الجعالة وإلا فالذي ينبغي أن له أجرة المثل على الوصي أخذاً من قولهم إذا لم نجوز الاستئجار للتطوّع وقع عن الأجير ولم يستحق المسمى بل أجرة المثل، وقد استشكل السبكي بهذا قول الشيخين فيمن استؤجر عن معضوب فبرىء لا أجرة له ووقع الحج له لا للمعضوب وأجبت في حاشية العباب عن ذلك بأنه لا تقصير في مسألة المعضوب من المستأجر، لأن الاستئجار واجب عليه والبرء لم يحصل باختياره فاقتضى عذره عدم وجوب شيء عليه، لأنه لم يحصل منه تغرير للأجير بخلاف المستأجر في قولهم المذكور فإنه غير مضطر للاستئجار بل يحرم عليه ذلك إن علم امتناعه للتطوّع فلم يعارض تغريره للأجير شيء فوجب عليه مقابل ما أتلفه من منافعه من غير عذر وهو أجرة المثل ومحل استحقاق الأجير أجرة المثل في قولهم المذكور ما إذا جهل الأجير الحال وظن الصحة اهـ، وبه يعلم التفصيل الذي ذكرته في الوصي ولو جاعل الوصي من يحج ويزور ولم يشرط عليه أن يأتي بذلك بنفسه فالذي يظهر صحة الجعالة وإن قلنا أنه يجب عليه أن يشرط على العامل الإتيان بذلك بنفسه لأن إيجاب ذلك ليس لتوقف صحة الجاعلة منه عليه بل لأن فيه مراعاة لغرض الموصي(1/109)
واحتياطاً في أمر العامل حتى لا يوكل في ذلك، وأما إذا لم يشرط الموصي على من يحج ويزور عنه أن يأتي بذلك بنفسه فإن استناب من جاعله الوصي من يزور عن الميت لعجزه عن الزيارة بنفسه استحق أجرة الزيارة أيضاً سواء كان عاجزاً عند الجعالة أم طرأ عجزه بعدها، وسواء أعمل النائب له تبرعاً أم بعوض، وأما إذا استناب مع قدرته على الزيارة بنفسه فإنه لا يستحق شيئاً من قسطها مطلقاً وإذا أوصى الشخص لمن يحج عنه وعين أجرة قليلة فإن وجد أجير يرضى لزم الوصي استئجاره وإن لم يوجد أحد يرضى بها بطلت الوصية ورجع المال المعين للورثة هذا إن لم يكن على الموصي حجة فرض وإلا لزم الورثة الزيادة على ما عينه والاستئجار عنه بأجرة المثل ثم إذا وجد من يرضى بما عينه واستأجره الوصي به، فإن قال ولك في تركته كذا أو ولك كذا أو أطلق ونحو ذلك صحت الإجارة بذلك المعين ولا شيء حينئذ على الوصي وإن قال ولك عليّ كذا أو عندي كذا، فإنها تصح إن كان الحج على الميت فرضاً، ويلزم الوصي من ماله ما عينه ويقع الحج عن الميت وتبطل الوصية ويعود ما عينه للورثة. نعم لو قال في صورة ولك عندي كذا، إنما أردت معين الموصي وعبرت بعندي لأنه تحت يدي فالذي يظهر أنه يصدق في هذه الدعوى بخلاف ما لو قال ذلك في عليّ على احتمال لي وعليه يفرق بأن شمول عندي للوديعة ونحوها أظهر من شمول علي لذلك لأنه لا يشمله إلا بتأويل كعليّ حفظها بخلاف عندي فإنها تشمل ذلك من غير تأويل كما يدل على ذلك كلامهم في باب الإقرار، ويحتمل أنه يقبل قوله بيمينه حتى في علي لأنه يصلح لأن يريد به على دفعه من التركة لأجل كوني وصياً عليها، ولعل هذا أقرب ويجب على الوصي أن لا يستأجر أو يجاعل إلا عدلاً على المعتمد لأنه متصرف عن الغير وكل متصرف عن الغير يلزمه الاحتياط وغير الثقة لا يوثق منه بأن يحج عن الميت وإن شوهد لأن المدار على النية وهي أمر قلبي لا اطلاع لأحد عليها وبه يعلم أنه لا فرق بين من(1/110)
استؤجر أو جوعل لأداء فرض أو تطوّع كنفل حج أوصى به أو زيارة أوصى بها لأن ذلك وإن كان تطوعاً في الأصل إلا أنه بالوصية صار واجب الأداء وما وجب أداؤه لا يخرج عن عهدته بفعل الفاسق له، لأنه غير أمين ومشاهدة أفعاله لا تمنع خيانته لارتباطها بالنية ولا مطلع لأحد عليها كما تقرر لكن الذي يظهر أن المراد بالعدالة هنا العدالة الظاهرة دون الباطنة. نعم إن عين الموصي الحاج عنه وكان فاسقاً فإن كان مع علمه بفسقه فلا كلام أنه يجب استئجاره ويصح حجه عنه وإن كان مع جهله بحاله أو شككا هل علم فسقه أو لا احتمل أن يقال يستأجر أيضاً نظراً للتعيين، ويحتمل أن يقال لا يستأجر لأنه خلاف الاحتياط وما كان مخالفاً للاحتياط في أمر الميت لا يجوز فعله إلا أن نص عليه الميت صريحاً للنظر في ذلك مجال، وأما أرباب الملازم المذكورون في السؤال فإن أريد بهم المستأجر كان فيهم تفصيل وهو أن الوصي إن استأجر بعضهم إجارة عين كأن قال له استأجرتك ولا يحتاج أن يقول استأجرت عينك لم يجز له أن يستنيب مطلقاً، فإن استناب لم يصح لأنه قام به أجنبي ولنائبه عليه أجرة المثل إن استأجره عن ميت لأنه لم يعمل مجاناً وعلى مستنيبه رد الأجرة لأنه لم يعمل بنفسه، قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/111)
الجلال البلقيني ، وإن استأجر إجارة ذمة جاز للأجير أن يستنيب ولو بشيء قليل دون الذي استؤجر هو به، ويجوز له حينئذ أكل الزائد. نعم يلزمه أن لا يستأجر إلا عدلاً وإن أريد بهم أنهم وكلاء الأوصياء في الاستئجار لزمهم أن يستأجروا بجميع المال المدفوع إليهم وأن لا يستأجروا إلا عدلاً ولا يحل لهم أخذ شيء من ذلك المال ومتى أخذوا منه شيئاً فسقوا وكانوا من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ووجب على الحاكم أصلحه الله إذا ثبت عليهم ذلك عنده أن يعزرهم عليه التعزير البليغ الشديد الزاجر لهم ولأمثالهم عن هذه القبائح الشنيعة وأن يمنعهم من تعاطي ذلك وحيث علم الوصي بأحوالهم هذه القبيحة ووكلهم أو استأجرهم مع ذلك فسق أيضاً وانعزل وعزر أيضاً التعزير الشديد وكذلك الفقيه العاقد بينهما إذا علم ذلك لأنه أعانهم على المنكر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل أعاد الله علينا من بركاته عما إذا حج الصبي مع أحد الأولياء الأب أو الجد أو الأم وأوقفه المواقف وما قدر على تحصيله من العبادة هل يسقط أم لا بد إذا بلغ أن يأتي بالحج؟. فأجاب بقوله: متى لم يبلغ الصبي قبل مفارقة موقف عرفة لم يجزه حجة عن حجة الإسلام بل يجب عليه بعد البلوغ أن يحج حجة الإسلام إن وجدت فيه شروط الاستطاعة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/112)
وسئل رضي الله عنه عما لو أوصى آفاقي بحجة هل يصح أن يستأجر عنه غير آفاقي كحاضر؟. فأجاب نفع الله به بأن كلام الشافعي والأصحاب ظاهر في أنه يصح أن يستأجر عن الآفاقي غير الآفاقي، وعكسه ثم رأيتني ذكرت في بعض الفتاوى مسألة أوصى لمن يزور عنه قبر النبي بكذا فهل يجوز تفويض ذلك لبعض أهل المدينة الشريفة وهل مثله من أوصى بحج وهو آفاقي فهل يجوز أن يحج عنه أحد من أهل مكة، الجواب نعم يجوز على ما أفتى به بعضهم لكن أطال غيره في الاستدلال لامتناع ذلك لأنه مناف لغرض الموصي ويمكن حمله على ما إذا اطرد عرف بلد الموصي بأن ذلك إنما ينصرف لمن يحج عنه من بلده اهـ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/113)
وسئل رضي الله عنه عن أن الحمام الحرمي هل يجوز تطييره من المسجد الحرام إذا عرف تنجيسها له بالذرق أم لا يجوز وهل ذلك يكون من باب حفظ المسجد من النجاسة أم لا؟ فإن قلتم لا لأن الحمام غير مكلف فهل يمكن أن يقال إن الحمام وإن كان كذلك لكن صيانة المسجد عن النجاسة واجب والواجب يسعى إلى فعله بكل ما أمكن وهل يشهد لذلك وجوب منع الصبيان والبهائم إذا خيف تنجيسهم من المسجد أم لا؟ وإذا قلتم إن ذرقه غير منجس له فهل يمكن أن يقال وإن كان غير منجس لكنه مقذر له، والقذر يجب صون المسجد عنه أو يقال يجوز الدفع من جهة دفع الصائل من الحيوان فإن الحمام صائل بالتنجيس وهل هذا يعد صائلاً فإذا قلتم بذلك جاز التطيير؟. فأجاب رضي الله عنه بأنه لا يجوز تنفير الحمام المذكور لنهيه عن تنفير صيد مكة أي كل الحرم والحمام من صيد الحرم وكلام أصحابنا صريح في ذلك، فإنهم أطلقوا حرمة ذلك ولم يقيدوه بالمسجد ولا غيره، فدل على أنه لا فرق في حرمة ذلك بين المسجد وغيره على أن ذرقه في أرض المسجد معفو عنه فلا ضرورة إلى تنفيره وكون صيانة المسجد عن النجاسة واجبة إنما هو في حق المكلف أو من هو من جنسه كالمجنون والصبي والسكران وما هو تحت يد المكلف كالبهيمة والحمام ليس واحداً من هذه الثلاثة فلم يجب تنفيره من سائر المساجد بل يحرم تنفيره من المسجد الحرام للنهي الصحيح عنه مع عدم الضرورة إليه كما تقرر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/114)
وسئل رضي الله عنه عن شخص مجاور بالمدينة الشريفة مثلاً وهو يريد الحج لكنه مترج من يستأجره أو يجاعله للحج فلما تقاربت عليه أيام الحج ولم يجز له مجاوزة الميقات بلا إحرام نوى الإحرام مطلقاً وشرط التحلل بكل عذر يعرض له سواء أكان العذر دينياً أو دنيوياً أو نوى الإحرام بشرط التحلل إن وجد من يستأجره قبل يوم التروية أو قبل عشر ذي الحجة فهل يصح الشرط في هذه الصورة كلها أو شيء منها ويتحلل عند وجوده أم لا؟ فإن كلامهم في الحج ربما يفهم الصحة حيث قالوا ولا يتحلل المحرم لمرض وفقد نفقة وإضلال طريق ونحوه من الأعذار إلا إذا شرطه فله التحلل بذلك وكلامهم يشير إلى عدم الفرق بين الأعذار كلها حيث قالوا إن له التحلل بذلك كما أن له الخروج من الصوم المنذور فيما لو نذره بشرط أن يخرج منه بعذر. وقد قال الأصحاب في كتاب الاعتكاف لو شرط الخروج لشغل ونحوه كجوع وتضييق في صوم أو صلاة نذرهما أو قال في نذر الصدقة ذلك كما في الإحرام المشروط أو لا يصح في شيء من ذلك فإن قلتم بعدم الصحة فهل له سبيل إلى مجاوزة الميقات بلا إحرام مع إرادته النسك بلا تحريم أم لا، فلو نوى الإحرام مطلقاً فلما وجد من يجاعله على حجة قدم الحج هذه السنة قبل الوقوف لمن جعل له كذا هل يصح ذلك أم لا؟ فإن قيل بالصحة فهل له صرف إحرامه المطلق إلى ما شاء من أوجه النسك أم لا؟ وهل قول الإرشاد كغيره أنه ينصرف إحرام الأجير والمتطوّع إلى حج نذره قبل الوقوف مخصوص بما إذا نذر الحج لنفسه أم هو مطلق، وهل قولهم إنه يحرم مجاوزة الميقات بلا إحرام على مريد النسك هل ذلك لمن أراده في سنته التي قدم فيها أو المراد أنه يجرم مجاوزة الميقات بلا إحرام على مريد الدخول بنسك فلو دخل بلا نسك فلا تحريم كما ذكروه بالنسبة إلى لزوم الدم الذي هو فرع التحريم؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: نعم يصح الإحرام المطلق أو المعين وإن اقترن بشرط التحلل منه ويصح أيضاً اشتراط مريده وقت الدخول(1/115)
فيه التحلل منه بكل ما يطرأ له من عذر مباح كما اقتضاه إطلاقهم في باب الحج، وصرح به الأذرعي وكلامهم في الاعتكاف صريح فيه ومن العذر المباح وجود من يستأجره كما هو ظاهر، ثم إن شرطه بلا هدى كان تحلله بالنية فقط وإن شرطه بهدى لزمه ولا سبيل إلى مجاوزة الميقات بلا إحرام حيث كان مريداً للنسك ولم ينو العود إليه أو إلى مثل مسافته. نعم شرط التحريم أن يقصد الإحرام بالنسك في تلك السنة فلو قصد مكة لا للنسك في هذه السنة بل في السنة بعدها لم يلزمه الإحرام من الميقات فيما يظهر أخذاً من قولهم شرط لزوم الدم أن يحرم في تلك السنة فلو أحرم في سنة أخرى فلا دم لأن إحرام هذه السنة لا يصلح لإحرام غيرها اهـ، والتحريم والدم متلازمان غالباً فإذا انتفى أحدهما فالأصل انتفاء الآخر إلا لدليل وأيضاً فعدم صلاحية إحرام سنة لإحرام غيرها صيره كقاصد مكة لغير نسك ومن قصدها لغير نسك لا إثم عليه كما لا دم عليه لما تقرر، ويؤخذ من ذلك أعني تعليلهم بأن إحرام هذه السنة لا يصلح لإحرام غيرها أن الكلام في الحج، لأن لإحرام غيرها لاستواء الأزمان فيها فمن قصد مكة للعمرة ولو بعد سنين ينبغي أن يحرم عليه مجاوزة الميقات بلا إحرام فإن فعل لزمه الدم إن لم يعد إليه أو إلى مثل مسافته والذي صرح به الشيخان وغيرهما أنه لو أحرم شخص بحج تطوع ثم نذر حجاً قبل الوقوف انصرف الحج إلى النذر لتقدم الفرض على النفل وأنه لو أحرم أجير عن مستأجره بحج فرض أو تطوّع ثم نذر حجاً قبل الوقوف انصرف الحج إلى النذر أيضاً لتقدم فرض الشخص على غيره اهـ، وقضية العلة الأولى أن النذر المذكور في السؤال إذا وجدت شروط صحته المذكورة في بابه يصح في هذه الصورة ويقع الحج لمن جعل له كذلك، لأنه لما إن نذره للغير وصححناه صار واجباً عليه وقد صرحوا كما علمت بأن الواجب مقدم على التطوّع وقضية العلة الثانية أن النذر المذكور لغو لأن الحج عن الغير إنما انصرف إلى الأجير لتقدم فرض(1/116)
الشخص على فرض غيره فإذا نوى الحج لنفسه ثم نذر للغير لا ينصرف له لأن الإحرام لا ينصرف عن الجهة المنوية إلا لأقوى منها كما أفهمه تعليلهم الانصراف في الأوّل بتقدم الفرض على النفل وفي الثانية بتقدم فرض الشخص على فرض غيره فلم يقولوا بانصرافه إلا لجهة أقوى من الجهة المنوية بخلاف من أحرم عن نفسه ثم أراد صرفه عنه بنذره لغيره فإن وقوعه للغير جهة أضعف من وقوعه لنفسه فلا ينصرف عن نفسه بذلك النذر، بل يكون لغواً لأنه عارضه ما هو أقوى منه وهو وقوع الإحرام لنفسه ولعل هذا أقرب بذلك أن يلتزم العلة الأولى لا تقتضي صحة النذر المذكور ووجهه ما تقرر من أنه وقع لغواً لمعارضته لما هو أقوى منه وإذا وقع لغواً لم يكن هناك شيء واجب عليه حتى يقدم على التطوّع الذي أحرم به هذا أعني عدم صحة هذا النذر هو الذي يظهر الآن مما تقرر ولعلنا نزداد في المسألة علماً أو نظفر فيها بنقل بخصوصها يزيل التوقف فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عن رجل استقر عليه الحج ثم افتقر فلم يقدر على الأهبة أو استقر عليه لكونه لم يكن له زوجة ولا أولاد ثم تزوّج وجاء له أولاد هل يكلف على الحج أو لا بد من الاستطاعة؟. فأجاب نفع الله بعلومه من استطاع الحج ثم افتقر استقر الوجوب في ذمته فيلزمه الحج ولو ماشياً إن قدر عليه، نعم إن كان له من تلزمه نفقته لم يلزمه الحج إلا إن وجد ما يكفيهم ذهابه وإيابه وكذلك لا بدّ أن يجد ما ينفقه على نفسه ذهاباً وإياباً أيضاً لكن في الإحياء لو استطاع الحج ثم أخره حتى أفلس لزمه كسب مؤنته أو سؤالها من زكاة أو صدقة ليحج وإلا مات عاصياً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/117)
وسئل نفع الله به أجير الحج والزيارة هل له أجر فيهما كغير الأجير؟. فأجاب بقوله: من استؤجر للحج أو غيره فإن كان الباعث له على نحو الحج الأجرة ولولاها لم يحج لم يكن له ثواب وإلا فله الثواب بقدر باعث الآخرة وأصل ذلك مسألة الغزالي والعز بن عبد السلام المشهور وما في شرح المهذب في باب الحج من أن من حج تاجراً نقص ثوابه وكان له ثواب دون ثواب الحاج متخلياً عن التجارة يؤيد ما ذكرته أولاً من التفصيل وفي ذلك مزيد بسطته في حاشية مناسك النووي الكبرى بما لا مزيد عليه في التحقيق مع أني لم أر من سبقني إليه وورد ما يقتضي أن من حج عن غيره تطوّعاً كان أفضل ممن حج عن نفسه زيادة على واجبه وهو ظاهر، إذ الغالب أن العمل المتعدي أفضل من العمل القاصر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/118)
وسئل رضي الله عنه في شخص جاوز الميقات الشرعي وهو في حال مجاوزته الميقات مريد للحج، وكانت مجاوزته للميقات مع إرادته الحج في غير أشهر الحج فهل يجب عليه الدم للمجاوزة لأنه جاوز الميقات مريداً للنسك أولاً لأنه لا يمكنه الإتيان بما أراده في هذا الوقت لأنه لو أحرم بالحج في هذا الوقت صار عمرة وفاته تحصيل فضيلة تقديم الحج على العمرة، ولأنه يلزم من أمره بالإحرام إلزامه بنسك لم يرده، ويلزم على ذلك أن محل قول الأصحاب أن الشخص مخير بين الأفراد والقران والتمتع والإطلاق ما إذا حاذى الميقات في أشهر الحج وإلا فلا يتصوّر منه الإفراد إلا إذا جاوزه غير محرم، فإن قلتم يلزمه الدم فذاك، وإن قلتم لا يلزمه فلو أنه حال مجاوزته الميقات مريداً للحج كان مريداً للعمرة إلا أنه لم يردها إلا بعد الإتيان بالحج فهل يلزمه الدم بهذه الإرادة أم لا؟ لأن الدم إنما يلزمه إذا جاوز وهو مريد للنسك في حالة المجاوزة أفتونا مأجورين؟. فأجاب فسح الله في مدته ظاهر كلامهم بل صريحه كما يأتي لزوم الدم إن حج من عامه، ففي المجموع عن الدارمي في كافر مر بالميقات مريداً للنسك ثم أسلم إن كان حين مر بالميقات أراد حج تلك السنة ثم حج بعدها فلا دم اتفاقاً لأنه إنما يلزم تارك ميقات حج من سنته وإن كان حال مروره نوى حج السنة الثانية ثم حج فيها ففي وجوب الدم وجهان قال فيه أيضاً ولو مر مسلم بالميقات مريداً للحج في السنة الثانية ففعله من مكة في السنة الثانية ففي وجوب الدم الوجهان كالكافر اهـ، والذي رجحه في الكافر أنه يلزمه الدم فظاهره أنه يلزمه في مسألة المرور المشبهة بمسألة الكافر ويؤيده قولهم لو جاوز مريداً للنسك غير محرم ثم لم يحرم أصلاً لم يلزمه دم، لأن لزومه إنما هو لنقص النسك لا بدل منه فافهم قولهم ولم يحرم أصلاً أنه متى أحرم بما نواه ولو في سنة ثانية لزمه دم ويفهم ذلك أيضاً تعليلهم المذكور لأنه إذا أحرم في السنة الثانية بالحج من مكة(1/119)
نقص نسكه إذ كان من حقه أن يحرم من ميقاته لأن الفرض أنه آفاقي فاتضح أن أرجح الوجهين لزوم الدم في مسألة المجموع المذكورة وصورة السؤال مثلها بلا ريب بل أولى لأنه في مسألة المجموع نواه في السنة الثانية وهو في صورة السؤال نواه في سنته فإذا لزمه في تلك مع سبق النية بسنتين فلأن يلزمه مع سبق النية بدون ذلك بالأولى بل صورة السؤال غير مسألة المجموع، إذ ذكر السنة الثانية للتمثيل لا للتقييد فالمدار على أن يكون الذي أتى به من مكة الذي كان قاصده عند الميقات، وحينئذ مكة ليست ميقاته فإذا لم يحرم به ولا بما يخلفه وهو العمرة من الميقات كان في نسكه نقص أي نقص، فلزمه دم جبراً له فإن قلت قد ينافي ذلك أنه لو جاوز مريداً للحج، ثم أحرم به في سنة أخرى لم يلزمه دم كما صرح به
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/120)
الدارمي وأقره في المجموع و القاضي و البغوي وأقرهما في الكفاية و المتولي و الخوارزمي وأقرهما في المهمات قال: وفي كلام الرافعي في حج الصبي ما يدل له لأن إحرام هذه السنة لا يصلح لإحرام غيرها، وبه فارق العمرة فإنه يلزمه الدم فيها مطلقاً لأنها لا تتأقت بوقت، قلت لا منافاة بين هذا وما قدمته من ترجيح أحد الوجهين في مسألة المجموع وإجرائه في مسألتنا لأنه هنا لما نوى عند الميقات الحج في هذه السنة ثم لم يحج فيها بل حج فيما بعدها كان حجه فيما بعدها غير ما نواه لما تقرر أن إحرام سنة لا يصلح لإحرام ما بعدها إذا أتى بغير ما نواه لا دم عليه وأما في مسألتنا فأتى بما نواه في سنته، وفي مسألة المجموع نواه في سنة وأتى به فيها من غير ميقاته فدخل عليه النقص فيه فجبره بالدم وجوباً كما مر، وقول السائل لأنه لا يمكنه الإتيان بما أراده الخ، جوابه أن ذلك غير مؤثر لأنه يمكنه الإتيان بمثله من حيث رعاية حرمة الميقات وهو العمرة أو بعينه بأن يخرج عند إرادة الحج في أشهره إلى ميقاته ويحرم منه فإذا ترك ذلك كله كان مقصراً ومدخلاً للنقص على نسكه فلزمه دم وبهذا اندفع قوله ولأنه يلزم من أمره بالإحرام إلزامه بنسك لم يرده وقوله وفاته الخ غير صحيح، لأن تقديم العمرة في غير أشهر الحج على الحج في أشهره لا يمنع فوات فضيلة الإحرام إذا أتى بعمرة أخرى بعد حجه، بل قيل إن هذه الصورة أفضل صور الإفراد وبهذا اندفع قول السائل ويلزم على ذلك أن محل قول الأصحاب الخ، ووجه اندفاع ما تقرر أن تقدم العمرة على أشهر الحج لا يمنع الإفراد، وقوله فلو أنه حال مجاوزته الميقات الخ، جوابه أنه يلزمه الدم في هذه الصورة أيضاً كما علم بالأولى من الصورة التي قبلها ولا نظر لنية تأخير العمرة عن الحج لأنه يلزم عليه لو ترك الإحرام من الميقات أصلاً إدخال النقص على حجه كما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/121)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عن قولهم وأهمل بعضهم شرطاً خامساً للحج وهو سعة الوقت لتمكنه من السير ما المراد بهذا الوقت هل هو مدة السنة بأن يبقى منها قدر ما يصل به إلى مكة المشرفة فيشكل على من بينه وبين مكة فوق سنة أو فوق السنة فالوقت واسع بينوا لنا حقيقة ذلك؟ وقال بعضهم أن يبقى من الزمان عند وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير بأن لا يحتاج أن يقطع في كل يوم أكثر من مرحلة ما المراد بهذا الزمان ولا يخفى الإشكال السابق أفتونا مأجورين؟. فأجاب بقوله: المراد من هذا الشرط أنه يعتبر في لزوم الحج له لا في استقراره عليه أن يتمكن بأن يجد الزاد والراحلة، وقد بقي زمن يسع الوصول فيه إلى مكة بالسير المعتاد غالباً بحيث لا يقطع في يوم أكثر من مرحلة فلو كان بين بلده ومكة سنة مثلاً، اشترط أن يقدر على نحو الزاد والراحلة تلك السنة جميعها فمتى مضت له سنة بأن يمضي ما يمكن ذهاب الحجاج فيه ورجوعهم إلى بلده وهو قادر على ما مر بأن لزوم الحج له فإذا مات أو افتقر بعد ذلك فالحج باق في ذمته لأنه استطاعه وتركه ومتى مات أو افتقر قبل وصولهم لمكة أو بعد وصولهم وقبل الحج بان أنه لم يلزمه حج وكذا لو افتقر بعد حجهم وقبل وصولهم لبلده فعلمنا أنه لا بد أن يمضي عليه وهو قادر مدة يمكن فيها الذهاب إلى مكة بالسير المعتاد وإدراك الحج فيها ووصوله إلى بلده بالنسبة للفقر دون الموت لأنه بان به أنه كان مستغنياً عن الرجوع فإذا مات بعد إمكان حج الناس وقبل رجوعهم بان أنه مات وهو مستطيع ومع هذا التقدير فلا إشكال فيما ذكروه فإنا لا نعتبر سنة ولا دونها ولا أكثر منها دائماً، وإنما المعتبر المدة التي يمكنه الوصول فيها إلى مكة والرجوع منها بالسير المعتاد على ما تقرر حتى لو كان بينه وبين مكة أربعة أيام مثلاً اعتبرت قدرته تلك الأربعة مع العود أيضاً في غير الموت أو سنتان اعتبرت(1/122)
قدرته مدتهما مع العود كما ذكر، ولا بد أن يوجد نحو الزاد والراحلة في الوقت فمن بينه وبين مكة شهران مثلاً لو استطاع شعبان ورمضان لم يؤثر ذلك في الوجوب عليه بل لا بد من استطاعته في أشهر الحج حتى لو استطاع الشهر من قبل أشهره ثم افتقر قبل أشهره لم يعتد بتلك الاستطاعة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل رضي الله عنه في امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة وكانت تتضرر بانتظار انقطاعه لتطوف ما الحكم في ذلك؟. فأجاب بقوله: من حاضت قبل طواف الإفاضة وتضررت بانقطاعها جاز لها السفر ويبقى الطواف في ذمتها ما لم تقلد أبا حنيفة رضي الله عنه وإذا لم تقلده فهي باقية على إحرامها فلا يحل للزوج قربانها إلا إذا وصلت إلى مسافة يتعذر عليها الرجوع منها إلى مكة فلها حينئذ التحلل كتحلل المحصر وتقصر وتذبح بنية التحلل ويحل وطؤها حينئذ، ولليافعي رحمه الله تعالى هذا اعتراض شنيع على البارزي ادّعى فيه أن البارزي خالف في تجويز لسفر بلا طواف الكتاب والسنة، وقد رددت عليه اعتراضه هذا في حاشية الإيضاح وبسطت فيها الكلام على هذه المسألة بسطاً شافياً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل نفع الله به عن مطلق الحج المبرور هل يكفر الكبائر كالإسلام؟. فأجاب: الحج المبرور يكفر ما عدا تبعات الآدميين كما حكى بعضهم الإجماع على هذا الاستثناء، والحديث المقتضي لتكفير التبعات أيضاً ضعيف فقول بعضهم بقضيته وهم تكفير ذلك لا ينافي وجوب التوبة منه، لأن التكفير من الأمور الأخروية التي لا تظهر فائدتها إلا في الآخرة بخلاف التوبة فإنها من الأمور الدنيوية التي تظهر فائدتها في الدنيا كرفع الفسق ونحوه، فهذا لا دخل للحج وغيره فيه بل لا يفيد فيه إلا التوبة بشروطها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/123)
وسئل أدام الله النفع بعلومه كيف صيغتا الإجارة والجعالة المختصرتان المعتبرتان لتحصيل الحج والعمرة والزيارة؟. فأجاب بقوله: صيغة الأولى استأجرت ذمتك أو عينك بكذا لتحج وتعتمر أفراداً مثلاً وتدعو تجاه قبر النبي عن ميتي أو عني في المعضوب وصيغة الثانية حج واعتمر وادع تجاه قبر النبي لميتي أولى ولك كذا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل رضي الله عنه شخص أوصى بحجة على يد إنسان ثم مات ثم جاعل الوصي شخصاً على أن يحج عن الميت المذكور ثم أحرم ولد الميت مثلاً عن والده قبل إحرام الجعيل بغير إذن الوصي طمعاً في المعلوم هل يستحقه بالوصية كما لو أوصى لمن حج عنه بكذا، لأنه أتى بالمأمور به ووقع عن الميت ولأن الوصي مقصر بتأخير الجعالة وكان حقه أن يبادر، لأن الميت قد تضيق عليه الحج وهل يستحق الجعيل شيئاً لأن للوسائل حكم المقاصد فيعطي أجرة مسيره أم لا كسائر الجعالات، فإن قلتم يعطي هل يكون من تركة الميت أو من مال الوصي لأنه هو الذي أوقع الجعيل في مشقة السفر والإحرام كالولي إذا أذن للصبي في الإحرام وأتى بشيء من المحظورات فإنه يغرم الفدية؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: يقع حج الولد عن والده تبرعاً فلا يستحق شيئاً في مقابلته وليست هذه الصورة نظير الصورة التي ذكرها السائل لأنه ثم أوصى لمن حج عنه فيشمل الوارث وغيره وهنا قيد بمن يحج على يد فلان ولم يحج الولد على يده فلم يوجد فيه الشرط الذي ذكره فكان حجه تطوّعاً محضاً ولم ينظر لطمعه لأنه مبني على ظن بأن خطؤه وهو لا عبرة به سواء أفرض من الوصي تقصير أم لا؟ لأن تقصيره إن لم يقتض انعزاله فظاهر وإلا قام الوصي مقامه لا الوارث والذي يتجه أن الجعيل لا أجرة له على أحد لأن تقدم إحرام الولد على إحرامه يوجب وقوع إحرامه لنفسه فيكون ما لقيه من المشاق في مقابلة الثواب الحاصل له فهو كما لو برىء المعضوب بعد حج الأجير عنه يقع الحج للأجير ولا أجرة له، لأن المعضوب لم يحصل(1/124)
له من فعله فائدة ثواب ولا غيره ويفرق بينهما وبين حضور المعضوب مع أجيره عرفة فإن الحج في هذه وإن وقع للأجير لا يمنع استحقاقه للأجرة بأن الإجارة هنا وقعت صحيحة ظاهراً وباطناً ولكن لما تكلف المعضوب وحضر تعين وقوع فعله بنفسه دون فعل غيره عنه فالوقوع عنه لحضوره ولزوم الأجرة له لتقصيره بالحضور مع بذل الأجير منافعه في إجارة صحيحة بخلافه في تينك الصورتين فإن الإجارة فيهما صحيحة ظاهراً فقط لتبين بطلانها من أصلها بالبرء وبالحج عن الميت فلم يستحق الأجير شيئاً في مقابلة فعله فإن قلت ينافي ذلك قولهم إذا لم يجوّز الاستئجار للتطوع وقع الحج عن الأجير ولم يستحق المسمى بل أجرة المثل، قلت لا ينافيه لأنه في تينك لا تقصير من المستأجر لأن الاستئجار واجب عليه ظاهراً والبرء وحج الولد لم يحصل باختياره فاقتضى عذره عدم وجوب شيء عليه لأنه لم يحصل منه تغرير للأجير بخلاف المستأجر للنفل فإنه غير مضطر للاستئجار بل يحرم عليه ذلك إن علم امتناعه للنفل فلم يعارض تغريره شيء فلزمه مقابلة ما أتلفه من منافع الأجير من غير عذر وهو أجرة المثل على المستأجر لا في التركة كما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
القمولي . نعم لو قصر الأجير بأن علم امتناع الاستئجار للتطوع لم يستحق شيئاً لأن المستأجر حينئذ لم يغرره ولما نظر الإسنوى و الأذرعي إلى ما ذكرته من الإشكال صوبا أن الأجير لا يستحق شيئاً مطلقاً وغفلاً عما قررته من الجواب، والفرق بما ذكرته بينه وبين نظائره، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/125)
وسئل رضي الله عنه في رجل حج عن امرأة بأجرة معلومة فأحرم عنها من الميقات الشرعي ودخل إلى مكة وطاف طواف القدوم ثم حصل له مرض ووقف بجبل عرفات وهو مريض ثم نزل إلى منى ورمى جمرة العقبة وحلق رأسه ثم مات قبل طوافه للحج والسعي فما حكم الله في حجه الذي حجه عن المرأة الميتة هل هو صحيح أو لا؟ فإن قلتم إنه صحيح فلا بأس وإن قلتم أنه غير صحيح ولا يسقط الحج عن المرأة الميتة فهل يستحق الأجرة كلها أو يستحق منها شيئاً وترجع ورثة الميتة على تركة الميت بشيء من الأجرة؟. فأجاب: الحج باق في ذمة المرأة ولكن لها ثواب ما فعله الأجير، ولأجل ذلك استحق ما يخص المفعول من المسمى لو قسط ويعتبر من ابتداء السير، ثم إن كان الأجير أجير عين انفسخت الإجارة بموته فيستنيب عنها الوصي أو الوارث من يحج عنها من تركتها أو أجير ذمة ولم يمكنه الحج الكامل عنها في عام موتها تخير الوصي أو الوارث بين بقاء الإجارة فإذا حج الأجير عنها في السنة القابلة استحق بقية المسمى وبين فسخها وإعطائه ما خصه بالتوزيع السابق ويستأجر وارثها أو وصيها من يحج عنها السنة الآتية من تركتها ومنها ما بقي من مسمى الإجارة الأولى، والله أعلم.
وسئل رضي الله عنه فيمن أوصى بأن يستأجر عنه من يحج حجة الإسلام فهل للوصي أن يستأجر بغير إذن الوارث؟. فأجاب فسح الله في مدته ليس له ذلك فتبطل الإجارة، لأن حجة الإسلام كقضاء الدين وللوارث قضاؤه من ماله، نعم وليس للوصي قضاؤه من غير مراجعة الوارث. نعم إن عين الموصي عيناً للاستئجار بها لم يحتج لإذن الوارث حينئذ لأنه لو أراد إبدالها من ماله لم يمكن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/126)
وسئل رضي الله عنه عن مسألة وهي أنهم جوّزوا الحلق في الحج والعمرة لبعض الرأس فالحنفية جوّزوا الرابع والشافعية جوزوا الاكتفاء بثلاث شعرات قياساً على مسألة المسح والحال أن القياس مع الفارق لعدم اتحاد الفعلين وعدم القرينة على عدم إرادة الكل هنا بخلافه في ذلك الموضع حيث تدل الباء على أن المراد ليس مسح الكل كما بين كل واحد من الفريقين في محله فكيف يراد البعض قياساً على تلك المسألة مع أنه لا مانع هنا من إرادة حلق الكل كما هو حق العبارة، لأن معنى حلقت رأسي أي حلقت شعر رأسي، وحقيقته إزالة شعر كل الرأس وإرادة البعض هنا مجاز حيث يصح أن يقال أزال ثلاث شعرات من رأسه أو أزال شعر ربع رأسه ولم يحلق رأسه وهذا من علامات المجاز، والآية المستدل بها: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} ، (الفتح: 27) أفتونا جزاكم الله خيراً. ولقد أجاب عن ذلك بعضهم بقوله في الآية قرينة ظاهرة تدل على أن حلق الجميع ليس بلازم حيث قال: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} ، (الفتح: 27) يعني بعضكم محلقين وبعضكم مقصرين، فجواز التقصير يدل على أن إزالة شعر الكل ليست بلازمة إذ التقصير ليس إزالة الكل فهذا يدل على أن المراد ليس إزالة الجميع فصار كآية المسح حيث كان هناك قرينة وهي الباء تدل على عدم إرادة مسح الجميع، فظهر أن الحقيقة ليست بمرادة فلا بد من إرادة المعنى المجازي، فأراد الحنفية الربع إذ قد يكون الربع قائماً مقام الكل كما ذكروا في كثير من الأحكام، ومنها في باب الجناية فإن حلق الربع يقوم مقام الكل وقد وقع في الآية اسم للكل فلا بد من إرادة أمر يقوم مقامه وكذلك النصف وأكثر منه لكن الاحتياط اقتضى اعتبار الربع، ولهذا أرادوا في باب المسح الربع حيث نظروا إلى نفس المحل وهو الرأس أو أرادوا مقدار ثلاث أصابع حيث نظروا إلى أن المحل هنا شبيه بالآلة وأكثر آلة المسح ثلاث أصابع فيصح أن يعبر عنه باسم الكل، كما أشار إليه شمس الأئمة وهذا معنى قولهم قياساً(1/127)
على مسألة المسح ولا يخفى هذا على المتفطن المتأمل، وأراد الشافعية ثلاث شعرات لا أقل منها إذ أقل منها غير معتد به، ولهذا لم يثبتوا عليه الجناية ووجه إرادة هذا المعنى أنه إذا حلق رأسه فلا شك أنه حلق ثلاث شعرات منه فإزالة ثلاث شعرات جزء من إزالة المحل، وكذلك إزالة الربع أو الخمس أو نحو ذلك، لكنهم أخذوا احتياطاً أيضاً ما هو أقل مرتبة في مراتب الاحتمالات فيصح إسناد إزالة شعر الرأس إذا أزال ثلاث شعرات، لأن هذه جزء من الأولى، فالحاصل أن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/128)
الشافعي رحمه الله جعل هذا من قبيل المجاز العقلي وهو المجاز في النسبة وأبو حنيفة جعله من قبيل المجاز في الطرف لكن ما ذهب إليه أبو حنيفة هنا أولى، لأن المجاز في الطرف أكثر وأشهر حتى أن بعض أرباب العربية استنكر المجاز العقلي هذا ما ظهر لي في تحقيق هذه المسألة؟. فأجاب رضي الله عنه ونفع بعلومه وبركته بما صورته، أما قول السائل قياساً على مسألة المسح فممنوع بالنسبة للشافعية لأنهم يفرقون بين البابين بوجوه وكذلك المالكية والحنابلة، وبيان ذلك أن أقل الواجب في الحلق عندنا ثلاث شعرات. وعند مالك لا بد من مسح الجميع. وأما أحمد فالواجب في المسح عنده الجميع وفي الحلق الأكثر، وأما أبو حنيفة فمشى في البابين على منوال واحد ولخفاء ذلك خالفه صاحبه الإمام أبو يوسف فقال: لا بد في الحلق من النصف. واحتج أحمد وغيره بأنه حلق جميع رأسه وصح عنه أنه قال: «لتأخذوا عني جميع مناسككم» ، قالوا: ولأنه لا يسمى حالقاً بدون أكثره، واحتج أصحابنا بقوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} ، (الفتح: 27) والمراد شعر رؤوسكم والشعر اسم جنس أقله ثلاث شعرات ولأنه يسمى حلقاً يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات منه، فجاز الاقتصار على ما يسمى حلق شعر، وأما حلق النبي جميع رأسه فقد أجمعنا على أنه للاستحباب وأنه لا يجب الاستيعاب. وأما قولهم لا يسمى حلقاً بدون أكثره. فقال النووي في المجموع: إنه باطل، لأنه إنكار للحس واللغة والعرف اهـ. وبه يعلم أن التقدير بالربع هنا لم يظهر دليله ولعله قياس ما هنا على ما هناك لأن الملحظ في البابين متحد عند أبي حنيفة رحمه الله، ويدل عليه أنه يوجب على من لا شعر برأسه أن يمر الموسى عليه، ويحتج بأنه حكم تعلق بالرأس فإذا فقد الشعر انتقل الوجوب إلى نفس الرأس كالمسح في الوضوء وبأنها عبادة تجب الكفارة بإفسادها فوجب التشبيه في أفعالها كالصوم فيما إذا قامت بينة في أثناء يوم الشك برؤية الهلال، واحتج أصحابنا بأنه(1/129)
فرض تعلق بجزء من الآدمي فسقط بفوات الجزء كاليد في الوضوء فإن غسلها يسقط بقطعها لا يقال الفرض هنا متعلق باليد، وقد سقطت وهنا متعلق بالرأس وهو باق لأنا نقول بل الفرض هنا متعلق بالشعر فقط، ولهذا لو كان على بعض رأسه شعر دون بعض لزمه الحلق في الشعر ولا يكفيه الاقتصار على إمرار الموسى على ما لا شعر عليه ولو تعلق الفرض به لأجزأ، والجواب عن قياس ما هنا على المسح في الوضوء من وجهين: أحدهما: أن الفرض هناك تعلق بالرأس، قال تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/130)
{وامسحوا برؤوسكم} ، (المائدة: 6) وهنا تعلق بالشعر بدليل ما مر من الآية الأخرى وما بعدها المذكور في قولنا لأنا نقول الخ. والثاني: أنه إذا مسح بشرة الرأس يسمى ماسحاً فيلزمه وإذا أمر الموسى لا يكون حالقاً والجواب عن القياس على الصوم أنه مأمور بإمساك جميع النهار فبقية بعض ما تناوله وهنا إنما هو مأمور بإزالة الشعر ولم يبق شيء منه وعلم مما تقرر فرق الشافعية وغيرهم بين البابين، وبيانه أن آية المسح إنما تعلقت بالبشرة أصالة لأنها حقيقة الرأس المذكور في الآية، ثم اختلفوا في ذلك التعلق فقال مالك و أحمد بأنه شامل لجميع البشرة ويعضده الإجماع منا ومنهم على وجوب التعميم في التيمم مع استواء آيته وآية مسح الرأس في لفظ الفعل والجار. وأجاب أصحابنا بأنه صح أنه توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وهذان دالان صريحاً على الاكتفاء بمسح البعض، لأن الأصل عدم العذر فلا يجوز ادعاء احتماله ولأن أحداً ممن يعتد به لم يقل بخصوص الناصية التي هي ما بين النزعتين والاكتفاء يمنع وجوب الاستيعاب الذي قال به مالك و أحمد ووجوب الربع الذي قال به أبو حنيفة لأنها دون ربع الرأس بل قيل دون نصف ربعه، ويعضده أن الباء الداخلة في حيز فعل متعد بنفسه كما هنا تكون للتبعيض أي حتى تفيد معنى لا يستفاد مع عدمها، وإلا لزم أن يكون الإتيان بها لغواً لأن الفعل لا يحتاج إليها، والمعنى المستفاد معها مستفاد مع عدمها فلزم أن تكون بمعنى لا يوجد مع حذفها وهو ما قلناه، وأما الباء الداخلة في حيز قاصر فإنها تكون لمجرد التعدية والإلصاق كما في قوله تعالى: {وليطوّفوا بالبيت} ، (الحج: 29) وإنما وجب التعميم في التيمم مع استواء آيتيهما كما تقرر لثبوته بالسنة ولجريانه على حكم مبدله ولم يجب في الحلق للإجماع ولأنه لم يفسده، وأما آية الحلق فلا يمكن أن تتعلق بالبشرة لما تقرر من أن إمرار الموسى عليها لا يسمى حلقاً فوجب إضمار شعر فيكون من باب الإضمار لا(1/131)
المجاز، ويحتمل أن يكون منه، ويحتمل أن يكون من النقل وأن يكون من الاشتراك لكن المجاز والنقل والإضمار أولى من الاشتراك والإضمار والمجاز سيان لاحتياج كل منهما إلى قرينة والإضمار والمجاز أولى من النقل لسلامتهما من نسخ المعنى الأول إذا تقرر ذلك فنعود حينئذ إلى الكلام على ما في السؤال وإن كان قد علم مما تقرر الجواب عما فيه فنقول: أما قول السائل والحال الخ، فممنوع بما مر من أنه لا قياس عندنا وعند مالك وأحمد بخلافه عند أبي حنيفة فلا يتوجه أبداً وإن سلمت صحته فالإشكال على أبي حنيفة لا على غيره، وقوله مع أنه لا مانع هنا من إرادة حلق الكل الخ ممنوع أيضاً لما مر من الإجماع على أنه لا يجب التعميم هنا، وقوله وحقيقته إزالة شعر كل الرأس الخ قد مر عن المجموع أنه باطل وأنه مخالف للغة والعرف، وقوله ولقد أجاب عن ذلك بعضهم الخ يقال عليه ليس هذا الإشكال بصحيح كما تقرر حتى يحتاج للجواب عنه وعلى التنزل فالقرينة المذكورة لا يحتاج إليها لما تقرر من الإجماع على عدم وجوب التعميم على أن هذه القرينة مع قطع النظر عن الإجماع قابلة للمنع بأن يقال ليس في الآية دليل على أن من أراد الحلق يجزئه حلق البعض ولا يقاس على التقصير لوضوح الفرق بينهما وإنما القرينة الصحيحة ما مر من أن هناك شعراً مضمراً وهو اسم جنس أقله ثلاث شعرات، وقوله إذ قد يكون الربع قائم مقام الكل الخ، يقال عليه إن أردتم أنه قائم مقام الكل عند المخالف أيضاً فغير صحيح أو عندكم فإن كان لشيء استحسنتموه كما هنا فالقياس غير صحيح وإن أردتم أنه بدليل آخر غير الاستحسان فبينوه حتى نتكلم فيه، وقوله الاحتياط اقتضى الربع ممنوع بل إن أريد الاستناد لمجرد الاحتياط فهو مع
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/132)
أحمد القائل بوجوب حلق الأكثر أو مع أبي يوسف القائل بوجوب حلق النصف، وأما الربع فلا احتياط فيه يصلح مرجحاً على النصف والأكثر وقوله ولهذا أرادوا في باب المسح الربع الخ، يقال عليه لا احتياط في ذلك أيضاً، وإنما الاحتياط مع القائل بمسح الكل فنتج أن الاحتياط لا يصلح سبباً لتخصيص الربع بالاعتبار في واحد من البابين وإذا لم يصلح سبباً لذلك فأولى أن لا يصلح سبباً لاعتبار ثلاث أصابع المذكور بقول السائل أو أرادوا الخ، المعطوف على أرادوا الأول المعلل بالاحتياط في قوله ولهذا على أنه يقال عليه إن نظر للمحل اعتبر الربع أو إلى الآلة اعتبر ثلاثة أصابع وكل محتمل فما المرجح الراجح من اعتبار الربع غير أن الاحتياط فيه أكثر أو أنه اعتبر استحساناً في أحكام أخر عندكم وكل من هذين لا يكون مرجحاً لما تقرر قريباً على أن في تشبيه المحل بالآلة حتى ترتب عليه ما ذكر من اعتبار الاعتبار الأغلب وذلك غير مخصص كما يعلم من كلام الأصوليين ثم ظاهر كلام السائل أن نظير هذه المقالة في المسح يأتي في الحلق للعلة التي ذكرها وهو إن صح منقولاً عند الحنفية غير جلي المعنى لما هو واضح أن علة مسح مقدار ثلاث أصابع لا يأتي في حلق مقدارها، وقوله وهذا معنى قولهم قياساً الخ، وقوله ولا يخفى على هذا الخ، يقال عليه قد بان أنه خفي غير صحيح، وقوله ولهذا لم يثبتوا عليه الجناية إن أراد أنه لا حرمة في إزالة دون ثلاث شعرات فغير صحيح أولاً كفارة فكذلك لأن في الواحدة كفارة عندهم، وإنما تختلف كفارة الثلاث وما دونها وليس ذلك لمعنى مناسب لما في الحلق لأنهم اتفقوا على أن إزالة ثلاث شعرات لا يحصل به التحلل، واتفقوا أيضاً أن إزالة ما دونها فيه الكفارة فالملحظ في المحلين مختلف خلافاً لما يوهمه صريح كلام السائل، وقوله ووجه إرادة هذا المعنى الخ لا يحتاج إليه مع ما قدمته في توجيه اكتفاء الشافعية بثلاث شعرات بل هذا التوجيه لا يرضاه الشافعية لما فيه من(1/133)
التعسف الخارج عن قوانين الأدلة الشرعية، وقوله فالحاصل الخ يقال عليه هذا الحاصل مبني على غير أساس لما تقرر من هدم جميع ما قبله المبني هو عليه ثم على تسليم المجازين اللذين ذكرهما، وأن الثاني أكثر يقال عليه لا يكون أولى هنا من الأول إلا لو كان التجوّز فيه خاصاً بالربع أو بالثلاث أصابع ولا قائل بذلك من حيث التجوّز أما إذا كان غير مختص بذلك فلا يكون أولى من الأول بل الأول أولى منه لأنه يلزم من إضمار شعر أو التجوّز عنه بالرأس الاكتفاء بثلاث شعرات لأن اسم الجنس لا يصدق على أقل منها اتفاقاً وإن صدق على أكثر منها فهي متيقنة وغيرها مشكوك فيه، وأما المجاز الثاني فيصدق على الربع وأقل منه وأكثر منه اتفاقاً فلا وجه للتخصيص بالربع من حيث هذا المجاز فلا أولوية فيه على الأول بل الأول أولى منه هنا لما تقرر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب اهـ. ما أجاب به شيخنا فسح الله في مدته وأدام النفع بعلومه وبركته، ثم رأيت السائل لما اطلع على الجواب كتب ورقة أخرى صورة ما فيها. أما قوله والمراد شعر رؤوسكم وجعله من باب الإضمار أو الحذف فليس كذلك، إذ الإضمار أو الحذف لا يكون إلا إذا لم يكن لإسناد الفعل أو شبهه إلى ذلك الأمر المذكور معنى محصل كما في قوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/134)
{واسأل القرية} ، (يوسف: 82) قال أحمد بن فارس : إذا أسندت لم يكن له فائدة فههنا إضمار كقوله تعالى: {لندخلنهم في الصالحين} ، (العنكبوت: 9) أي في زمرة الصالحين وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لأنه إذا قيل حلقت رأسي يصح ويفيد من غير التقدير بل التقدير فيه قبيح، لأن معنى الحلق إزالة الشعر لا الإزالة المطلقة، ولهذا لا يصح أن يقال حلقت الدنس من بدني فلا يقال في فصيح الكلام حلقت شعر رأسي، ولهذا لم يقع في كلام الفصحاء ولو وقع لكان مجازاً باعتبار التجريد، فإذا تعلق هذا الفعل المتعدي بنفسه إلى محله لا بد من تعلقه بجميع المحل كما قالوا في آية المسح لو لم تكن الباء موجودة لكان الواجب مسح الكل بالاتفاق لأنه فعل متعدّ تعلق بمحله على أن التقدير هنا ينافي ما أوجبوه لأن الشعر اسم جنس كما قال به القائل فهو يطلق على القليل والكثير حتى على نصف شعرة أو أقل كما أن الماء يطلق على قطرة أو قطرتين، وأما القول بأنه جمع فلم يذهب إليه أحد من أهل العربية يعتمد عليه وأيضاً العرف ينافيه فإن إطلاق الشعر على الواحد والقليل والكثير سواء فالواجب حينئذ حلق شعرة أو أقل منها أخذاً بالأقل المتيقن فلا يثبت في وجوب حلق الثلاث، وأما قوله ولأنه يسمى حلقاً يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات هذا الكلام لا ينفعه إذ الخصم يقول لا يقال بحلق الربع وحلق ثلاث شعرات منه، والحق أن استعمال حلق الرأس في حلق الربع أو أقل منه وليس النزاع في أن استناد حلق لا يجوز إلى الربع وثلاث شعرات منه كانت الجملة الثانية بمنزلة بدل البعض مجازاً لا حقيقة. ألا ترى أنك إذا قلت حلق رأسه حلق ربعه أو ثلاث شعرات منه كانت الجملة الثانية بمنزلة البعض من قبيل قوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} ، (الشعراء: 133) الآية ولو كان في الثاني والثالث حقيقة لكانت الجملة الثانية بمنزلة بدل الكل ولم يقل به أحد من أهل اللسان وأيضاً صحة قوله يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات(1/135)
منه يدل على أنه ليس من قبيل الإضمار إذ لو كان كذلك لكان التقدير حلقت شعر رأسه وشعر ربعه وشعر ثلاث شعرات منه، وفساده ظاهر وقوله وأما قولهم لا يسمى حلقاً بدون أكثره باطل لأنه إنكار للحس واللغة والعرف ليس على ما ينبغي بل الأمر بالعكس، فإن معنى قول القائل لا يسمى حلقاً أي حلق الرأس وليس معناه أنه لا يسمى حلقاً أصلاً كما عرفت، وأما قوله فالواجب في الحلق عندنا وعند مالك ثلاث شعرات يأبى عنه كتب المالكية وفقهاؤها والذي هو مشهور ومعمول به عندهم حلق الكل. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/136)
ابن الحاجب : ولا يتم نسك الحلق إلا بجميع الرأس، ثم قال: فإن اقتصر على البعض فكالعدم، وفي المدونة لابن القاسم : وإذا قصر الرجل فليأخذ من جميع شعر رأسه وكذا في حق الصبيان وليس على المرأة إلا التقصير ولتأخذ من جميع قرونها ولا يجزيهما أن يقصرا بعضاً ويبقيا بعضاً، وكذا عند أحمد فإن الصحيح المعمول به عند أصحابه حلق الكل كما صرح به في بعض كتبهم المعتبرة فمن أين يتأتى الإجماع على عدم كون حلق الكل مراداً من الآية على أنا لو فرضنا اتفاق الأئمة الأربعة لا يحصل الإجماع أيضاً وعلى تقدير تسليم كونه إجماعاً عدم احتياج تبيين القرينة في إرادتهم هذا المعنى من الآية مع كونه خلاف ظاهرها ممنوع إذ على الفقيه بحث معرفة مأخذ مسائلهم وطرق استنباطهم من الأدلة وإلا يكن محض التقليد ولا يسمى فقيهاً، وأما قوله بأن يقال ليس في الآية دليل على أن من أراد حلق الكل يجزئه حلق البعض، ولا يقاس على التقصير لوضوح الفرق مما لا يحصل له، لأن النسك واحد والمحل واحد، ولا معنى بأن يقول حلق الكل واجب بالنسبة إلى البعض وحلق البعض واجب بالنسبة إلى بعض آخر، والتقصير واجب بالنسبة إلى بعض آخر، بل الواجب في هذا المقام هو الحلق أو التقصير كلاً أو بعضاً على اختلاف المذاهب، ألا ترى أن من أراد أولاً أن يحلق الكل ثم اكتفى بالبعض يجوز عند من ذهب إلى وجوب البعض وكذا إذا أراد أولاً الحلق ثم قصر يجزئه. وأما قوله على مسألة المسح فممنوع ففيه أن المنع لا يتوجه على الناقل وهو ناقل من كلامهم والذي عليه تصحيح النقل وعلى تقدير تسليم توجه المنع هذا المنع لا يضر، إذ الإشكال باق لأن نظيره على أن إرادة هذا المعنى من هذه الآية خلاف الظاهر سواء أكان بطريق القياس كما يدل عليه عبارات بعضهم أو بطريق آخر، فإن كان بطريق القياس فالقياس لا يصح كما ذكره وإن كان بطريق آخر فلا بد من بيانه لعدم ظهوره. وأما الكلام على مسألة المسح فهو مبين في محله في كتب كل(1/137)
من الأئمة ولا يحتمله المقام، وأما تجويز النقل والاشتراك في الآية فلا معنى له، أما الاشتراك فظاهر. وأما النقل فلأن النقل لا يخلو إما أن يكون في حلق أو الرأس والأول لا يصح، لأن المنقول لا يكون إلا اسماً وحلق هنا لم ينقل من الفعلية إلى الاسمية، وكذا الثاني لا يصح لأن النقل وضع ثان والقول بأن الرأس موضوع لثلاث شعرات منه مما لا قائل به هذا حال أصول مقدماته وفروعها على هذا القياس، فالحق والإنصاف أن سؤال السائل موجه لا مخلص منه لهذه المقدمات وليس المخلص منه إلا بما ذكره المجيب، وأما وجه إرادة الحنفية الربع فلأن الملحظ في البابين عندهم متحد كمالك وبيانه أنه في كل من الموضعين تعلق الفعل المتعدي بنفسه بمحله والمحل واحد وهو الرأس ولهذا يوجبان إمرار الموسى على الرأس عند عدم الشعر كما أن المراد عند مالك رحمه الله في الأوّل الكل كذلك المراد من الثاني وكما أن المراد عند أبي حنيفة رحمه الله في الأوّل الربع كذلك في الثاني وكذا عند أحمد فإنه صرح في بعض كتبهم أنه يجب حلق الكل وهو صحيح والأكثر لأنه في حكم الكل كما في المسح فإن عنده في المسح أيضاً الصحيح مسح الكل وروي عنه الاكتفاء بالأكثر ووجه إرادة الربع عند الحنفية كما ذكروا أنه لما صارت الباء في صلة المسح مانعة عن إرادة الكل بالأكثر كما بين في محله صارت الآية مجملة فجعلوها مينة بحديث المغيرة وهو أن النبي
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/138)
مسح على ناصيته ، وعلى إما لتأكيد الاستيعاب أو زائدة. ويؤيده ما روي عن ابن عمر أن النبي مسح ناصيته على ما في جامع الأصول وفعل المسح إذا تعلق بالمحل يقتضي الاستيعاب كما بين في كتب الأصول، ثم قد بين في علم الحكمة أن الرأس مركب من أربعة أجزاء الناصية والفواد إن والعقب فالناصية وإن احتمل أن تكون هي صغرى بالنسبة إلى سائر أجزائه لكن قدروها تخميناً بالربع للاحتياط خوف التنقيص من الأصل ومثل هذا الاعتبار تخميناً أو تقريباً شائع في المسائل الشرعية وأما معنى قول المجيب لم يثبتوا عليه الجناية فمراده من الجناية الدم وهو العرف في المناسك ودون الدم يسمونه صدقة وإيرادها في باب الجنايات لطلب الاختصار والعلم عند الله ونسأل الله الهداية والتوفيق، فلما رفعت الورقة المكتوب فيها ذلك لشيخنا فسح الله في مدته كتب عليها جواباً صورته: اعلم أن منشأ هذه الردود والإشكالات عدم صدق التأمل مع الاتكال على ما يسبق إلى الفهم من غير مراجعة كلام الأئمة كما ستعلمه مما سامره وبيان ذلك مع بعض البسط فيه لما أن المقام محوج إلى ذلك أن قوله فليس كذلك إذ الإضمار والحذف لا يكون الخ، مما يتعجب منه فإن نصوص الأئمة قاضية برده سيما نص إمامه أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه آثر الإضمار على النقل في قوله تعالى: {وحرم الربا} ، (البقرة: 275) فقال أي أخذه وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلاً فإذا أسقطت صح البيع وارتفع الإثم وعكس الشافعي رضي الله عنه وغيره ذلك فآثروا النقل على الإضمار فقالوا نقل الربا شرعاً إلى العقد فهو فاسد وإن أسقطت الزيادة في الصور المذكورة مثلاً والإثم فيها باق فانظر كون أبي حنيفة رضي الله عنه أضمر مع صحة المعنى بل ظهوره مع عدم الإضمار وأوضح من ذلك قوله أيضاً في قوله تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} ، (المجادلة: 4) أن فيه إضماراً، أي طعام ستين مسكيناً، وهو ستون مداً فيجوز إعطاؤه المسكين الواحد ستين مداً. وقال(1/139)
الشافعي وغيره: الآية على ظاهرها فلا يجوز إعطاؤه لأقل من ستين مسكيناً، لأن الآية ظاهرة فيه ومن ثم اعترض القول بالإضمار بأنه اعتبر فيه ما لم يذكر من المضاف المضمر، وألغى فيه ما ذكر من عدد المساكين الظاهر قصده بفضل الجماعة وبركتهم وأيضاً فقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ، (البقرة: 179) فقدر فيه جماعة
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
مضمراً، أي في مشروعيته لأن بها يحصل الانكفاف عن القتل فيكون الخطاب عاماً ولم يقدر ذلك آخرون فقالوا بل في القصاص نفسه حياة لورثة القتيل المقتصين بدفع شر القاتل الذي صار عدوّاً لهم فيكون مختصاً بهم فتأمل صنيع الأئمة وتصرفهم في النصوص بالإضمار تارة وعدمه أخرى مع صحة المعنى بل ظهوره مع عدم الإضمار فازدد بذلك تعجباً مما ذكره هذا القائل ومن فراره عن نصوص الأئمة هذه وأمثالها إلى النقل عمن لا يجديه النقل عنه في مثل هذا الموطن شيئاً لأنه ليس من أهله، إذ أهله المجتهدون ومن داناهم فإن قلت إنما سلك الإضمار من ذكر لأنه لما قام الدليل عنده على المعنى الذي ظهر له ولم يصح اللفظ لمقتضى ما ظهر له إلا بالإضمار كان الإضمار متعيناً ولم يصح المعنى حينئذ بدونه فهو مما ذكره المستشكل فلا يرد كلام الأئمة المذكور عليه نقضاً، قلت بل هو وارد عليه نقضاً وردَاً، لأن الحامل على الإضمار إذا كان باعتبار ما ظهر من الدليل المتوقف هو عليه كان ما سلكناه في الآية من ذلك، لأن الدليل قام عندنا على أنه يكفي ثلاث شعرات فأضمرنا ما يدل عليها في الآية ولا يقال ما الدليل على أن ذلك يكفي لأنا نقول هذا السؤال لا يتوجه لأن الفرض أن الحامل على الإضمار يفوّض إلى رأي المجتهد سواء أظهر دليله أم لا كما مر عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الآية الثانية على أن الآية التي أضمرنا فيها ليست مما يصح المعنى فيه مع عدم الإضمار كما لا يخفى على من أحاط(1/140)
بكلام اللغويين المصرح بأن الحلق إذا أطلق لغة يكون لمطلق الإزالة خلافاً لما زعمه المستشكل، وقوله ولهذا لا يصح أن يقال حلقت الدنس عن ثوبي يقال عليه إن أريد أنه لا يصح عرفاً فمسلم ولا يجديه هنا أو لغة فليس كذلك والنصوص إنما تحمل على عرف الشارع فإن تعذر فعلى اللغة فإن تعذرت فعلى العرف العام فالخاص كما في الإيمان والإحياء والحرز في السرقة والقبض في المبيع مما لم يرد فيه ضابط لغة ولا شرعاً وإذا تقرر ذلك فالحلق لا يصح تسلطه على الرأس المراد به البشرة فوجب تقدير ما يتم المعنى المراد به وهو شعر، وحينئذ اندفع قوله إن حلقت رأسي يفيد من غير تقدير، وقوله بل التقدير فيه قبيح ومن أين له هذا الاستقباح مع تعليله له بما لم ينقله عن أحد من أئمة اللغة ولا من غيرهم، بل بما هو محض ادعاء سيما مع من ينازعه فيه ويقول له من أين لك هذا مع قول الأئمة إن حلق هنا لا يصح تسلطه على مفعوله أي الذي هو الرأس المراد به البشرة إلا بإضمار فهل قال أحد من أئمة مذهبه ما زعمه بقوله لأن معنى الحلق إلى قوله باعتبار التحديد، ومما يدفع قوله لم يقع في كلام الفصحاء أنه وقع في الصحاح المبين للحقائق اللغوية، وقوله ولو وقع لكان مجازاً يرده أنه وقع كما تقرر، وأن الأصل في الإطلاق الحقيقة لا يقال أيضاً وقع حلق رأسه فما الراجح لأنا نقول حلق شعره لا نزاع في صحته ولا في احتياجه لتقدير بخلاف حلق رأسه فإن الأئمة صرحوا بأنه لا بد فيه من التقدير، وقوله كما قالوه في آية المسح الخ، قد تقرر غير مرة بطلان قياس ما هنا على المسح لأن تعلق المسح ثم بالرأس صحيح من غير تقدير إجماعاً سواء أريد به البشرة أو الشعر فإنه يطلق عليهما كما صرحوا به خلافاً لما زعمه المستشكل وهنا لا يصح تعلق الحلق به، والمراد به البشرة إلا بتقدير وإذا كان لا بد فيه من التقدير فذلك المقدر لا يقتضي العموم، فإن قلت بل يقتضيه لأنه مضاف فيعم، قلت من أين لك أنا إذا أضمرناه(1/141)
يكون مضافاً، بل يصح تقديره نكرة مقطوعة عن الإضافة أي شعر من رؤوسكم، وأما قوله على أن التقدير هذا ينافي ما أوجبوه لأن الشعر اسم جنس الخ، ففيه تلبيس وتمويه وغفلة شديدة لأن اسم الجنس إما جمعي أو إفرادي، فالأول كشعر وتمر في حكم الجمع والثاني كماء وعسل في حكم المفرد وحينئذ فانظر إلى ما في غضون كلامه هذا من الإيهام والتمويه سيما قوله وأما القول بأنه جمع الخ، فإنا لم نقل أنه جمع على أن اللغويين قائلون بأنه جمع وإن كان الصحيح ما عليه النحاة والصريفيون وهو ما قلناه من أنه اسم جنس أي جمعي واسم الجنس الجمعي في حكم الجمع كما صرح به الأئمة ألا ترى إلى قولهم لو قال لزوجته أنت طالق عدد التراب، فإن قلنا إنه اسم جنس إفرادي وقعت طلقة واحدة أو اسم جنس جمعي لأنه سمع ترابة وقع ثلاث، وحينئذ بطل قوله فالواجب حينئذ حلق شعرة الخ، على أن لنا احتمالاً بعيداً بل شاذاً لا يعد من المذهب كما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/142)
إمام الحرمين أنه يجزىء حلق شعرة تخريجاً من لزوم الفدية بحلقها لا لما ذكره هذا القائل لأن مدارك المجتهدين تنبو عنه، وغلط إمام الحرمين أيضاً وغيره ابن القاص وغيره تخريج المسح في الوضوء على الحلق هنا فأوجبوا مسح ثلاث شعرات قياساً على لزوم حلقها ورد أصحابنا عليهم بما قدمناه من أن المطلوب في الحلق الشعر، وتقدير الآية {محلقين شعر رؤوسكم} (الفتح: 27) والشعر أقله ثلاث شعرات في الحلق بخلاف المسح فإنه غير منوط بالشعر ويقع على القليل ومن ثم اتفق الأصحاب على تضعيف هذا التخريج وتزييفه، وأما قوله هذا الكلام لا ينفعه إذ الخصم يقول الخ، فجوابه أن قول الخصم ذلك هو الذي لا ينفعه لأنه وإن سلم أنه لا يقال لحلق الربع وحلق ثلاث شعرات ذلك، فلا يضر لأن حلق الرأس المراد به البشرة غير مراد لاستحالته بدون المضمر الذي ذكرناه ويلزم من ذكره بطلان إرادة الكل الذي زعمه هذا الخصم وبطلان قوله والحق أن استعمال حلق الرأس في حلق الربع الخ، إذ لا مجاز في ذلك بل إسناده إلى الشعر حقيقة وكذا إلى ثلاث شعرات منه أو الأكثر، وإنما الذي يسأل عنه في ذلك سبب التحديد بالثلاث وبالربع فأما الثلاث فقد وجهناه فيما مر لأنها أقل الجمع وما في معناه فهي المتيقنة وما عداها مشكوك فيه، والأصل عدم الإيجاب إلا بدليل، وأما الربع فلم يبد المستشكل عن الاقتصار عليه معنى يعتد به كما يأتي، وقوله ألا ترى الخ، مجرد دعوى بلا مستند إليه بل كلامهم صريح في بطلانها ومن ذا الذي صرح بالتلازم بين كون التابع بدل بعض وكونه مجازاً المصرح به كلام المستشكل هذا مما لا قائل به فعلى من ادعاه بيانه ولا تظفر به ومما يبطله تمثيلهم لبدل البعض بأكلت الرغيف أكلت ثلثه فهل هذا الثاني مجاز بل هو حقيقة ومن ثم لو عكس لربما استقام كلامه وإن لم ينفعه هنا، وذلك لأن المقصود الأصلي في البدل هو الثاني وتأمل ما في قولنا الأصلي من الجواب عن الإيراد الطويل المقرر في بعض كتب(1/143)
الفن، ففي المثال السابق المقصود بالحكم أصالة الإسناد إلى الثلث فهو إلى الرغيف مجاز باعتبار أن المراد بعضه كما بينه ذكر البدل فمع هذا الذي هو أظهر من أن يخفى على فاضل كيف يتوهم أن الثاني والثالث في بدل البعض مجازان والأوّل حقيقة ثم رأيت الرضي صرح بذلك فقال: والفائدة في بدل البعض والاشتمال البيان بعد الإجمال والتفسير بعد الإبهام لما فيه من التأثير في النفس وذلك أن المتكلم تحقق بالثاني بعد التجوز والمسامحة في الأوّل تقول أكلت الرغيف ثلثه فتقصد بالرغيف ثلث الرغيف ثم تبين ذلك بقولك ثلثه اهـ، المقصود منه وبه يعلم صحة ما قلناه دون غيره، وأما قوله وأيضاً صحة قوله يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات منه يدل على أنه ليس من قبيل الإضمار الخ، فغير صحيح أيضاً لأنه بناء على علته التي ذكرها بقوله إذ لو كان كذا لكان التقدير الخ، وهذا التلازم ممنوع لأن معنى قولنا يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات منه أي أن هذا الإطلاق شائع في المواضع الثلاث وإن كان اثنان منها يحتاجان إلى إضمار بخلاف الثالث، وظن المستشكل أن الإضمار في الثالث أيضاً فأفسده بقوله وشعر ثلاث شعرات منه وما درى أن الإضمار لا يحتاج إليه إلا إذا علق بالبشرة التي هي الرأس أو ببعض البشرة، وأما إذا علق بالشعر فلا يحتاج إلى إضمار كما صرحنا به فيما سبق فكيف مع ذلك يسوغ لفاضل أن يزعم أن صحة قولنا يقال حلق رأسه وربعه وثلاث شعرات منه يستلزم أن التقدير حلق شعر ثلاث شعرات منه هذا تمويه عظيم، وأما قوله عقب ما حكيناه عن المجموع ليس مما ينبغي بل الأمر بالعكس الخ، فغير صحيح أيضاً وإن سلم له أن معنى قول القائل لا يسم حلقاً أي حلق الرأس لمن أطبقوا عليه من أن المراد لا يدفع الإيراد أي لخفاء الأول وظهور الثاني على أنا وإن سلمنا أن هذا مراده فهو غير صحيح أيضاً، لأن قولهم لا يسمى حلقاً بدون أكثره مندفع لأنهم أرادوا نفي التسمية حقيقة فهذا لا يسمى حلق الرأس(1/144)
بدون أكثره ولا بدون أقله فقولهم بدون أكثره غير صحيح لإيهامه أنه يسماه بدون أقله وليس كذلك وإن أرادوا نفي التسمية مجازاً فبطلانه ظاهر، فاتضح أن هذا التأويل لا يدفع كلام النووي وأن هذا المستشكل لو سكت عنه لكان أولى به، وأما قوله يأبى عنه كتب المالكية الخ، فجوابه أن المعبر بقوله أجمعنا على أنه للاستحباب النووي في شرح المهذب وهو الثقة العدل الأمين فيما ينقله بإجماع أهل مذهبه وغيرهم فإن صح ما ذكر عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/145)
مالك و أحمد نفسهما تعين تأويل قوله أجمعنا وما بعده على أن المراد به إجماع الأكثر من العلماء وإجماع الأكثر قد يكون قرينة، وقد يحتج به على الخصم في كثير من المواضع لما قالوه من أن الخطأ إلى القليل أقرب منه إلى الكثير، وأوضح من كتب المالكية وغيرهم أن القول عندهم بوجوب التعمم لم يستند إلى الاستدلال عليه بالآية وإنما استندوا في ذلك إلى فعله المؤيد بالحديث الصحيح: «لتأخذوا عني مناسككم» ، وأما الآية فلا دلالة فيها على وجوب التعميم إلا أن نظروا لما أبداه بعض أئمتنا من أنه مفرد مضاف فيعم لكن مر الجواب عنه، وأما قوله عدم احتياج تبيين القرينة الخ، فليس في محله وهي عدم دلالتها على إرادة الكل والربع وظهورها في إرادة ثلاث شعرات لما مر غير مرة من أنه اسم جنس جمعي وأقله ثلاث فهي المتيقنة وما زاد عليها مشكوك فيه فلم يوجبه فأي قرينة يطلب بيانها مع ذكرنا هذا هنا مختصراً وفيما مر مبسوطاً وقوله مما لا يحصل له الخ يقال عليه هو كذلك باعتبار عدم فهمك له وإحاطتك به وربما أشير إليه لأن غاية ما في الآية أن قسماً يحلق وقسماً يقصر فأي دليل في الآية من حيث لفظها مع قطع النظر عن الأمور الخارجة على أن من أراد الحلق الأفضل يجوز له الانتقال عنه بعد إرادته له وعزمه عليه إلى التقصير، وإذا لم يكن في الآية دلالة على ذلك تعين أن جواز التقصير لا يدل على عدم وجوب الاستيعاب بالحلق لمن أراده لأنه يحتاط في الفاضل ما لا يحتاط في المفضول ولأن الحلق يشبه العزيمة والتقصير يشبه الرخصة، وقياس تلك على هذه ممنوع فتأمل ذلك تجد إيضاح رد جواب البعض الذي ذكرته منتصراً له بما لا ينصره، وقوله ففيه أن المنع لا يتوجه على الناقل يقال عليه بل إذا أسند حكماً إلى كثب قوم وليس فيها قضى عليه بالسهو أو التساهل في النقل ومذهبنا لم يجر فيه قول بأن البابين على منوال واحد، وقوله إذ الإشكال باق الخ، ممنوع لأنا وإن نظرنا إلى الآية لا إشكال فيها(1/146)
بوجه بعدما قررناه بدلائله السابقة من أن فيها إضماراً وأنه اسم جنس جمعي وأن أقله ثلاث، فظاهرها لا ينافي ما ذهبنا إليه وإنما ينافي ما ذهبتم إليه من التقدير بالربع فإشكالكم لا يتوجه علينا بل عليكم لكن لا من الحيثية التي ذكرتموها بل من الحيثية التي ذكرناها وهي أن التقدير بالربع يحتاج إلى دليل، لأن الشعر المضمر يشمل الثلاث وأكثر فقصره على الأكثر من الثلاث وقصر الأكثر منها على الربع يحتاج لدليل والقياس على الجناية في الحج فيه نظر، لأن التقدير بالربع في الأصل منازع فيه أيضاً إذ لم يذكروا دليله فيما علمت فكيف يتأتى القياس على أصل منازع فيه لم يتفق عليه المعترض والمستدل ولا ظهر دليله، وقوله إن تجويز النقل والاشتراك في الآية لا معنى له بمجرد الرأي وغفلة عن كلام الأئمة أو عن فهمه على وجهه، وذلك لأنهم ذكروا من تعارض التخصيص والاشتراك قوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/147)
{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} ، فقال أبو حنيفة : أي ما وطئوه لأن النكاح حقيقة في الوطء فيحرم على الشخص مزنية أبيه. وقال الشافعي : أي ما عقدوا عليه فلا يحرم، قالوا: ويلزم الأول الاشتراك لما ثبت من أن النكاح حقيقة في العقد لكثرة استعماله فيه حتى أنه لم يرد في القرآن لغيره كما قاله الزمخشري أي في غير محل النزاع نحو: حتى تنكح زوجاً غيره، واشتراط الوطء في هذه علم من السنة، ويلزم الثاني التخصيص حيث قال يحل للرجل من النساء من عقد عليها أبوه فاسداً كالصحيح، وقيل: لا فانظر إلى إلزام الأول بالاشتراك مع أنه قائل إن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، لكن لكثرة استعماله في العقد صار كأنه حقيقة حتى عند القائل بأنه حقيقة في الوطء، فألزم بالاشتراك لذلك ومن تعارض الإضمار والاشتراك قوله تعالى: {واسأل القرية} ، (يوسف: 82)أي أهلها، وقيل: القرية حقيقة في الأهل كالأبنية المجتمعة لهذه الآية وغيرها ومن تعارض المجاز والنقل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة: 43)أي: العبادة المخصوصة فقيل هي مجاز فيها عن الدعاء بخير لاشتمالها عليه، وقيل: نقل شرعاً إليها فتأمل ذلك تجده مؤيداً لما ذكرته من احتمال الاشتراك والنقل، إذ لا يشترط في احتمالهما تحققهما كما يصرح به قول الأصوليين إذا احتمل لفظ هو حقيقة في بعض أن يكون في آخر حقيقة ومجازاً أو حقيقة ومنقولاً فحمله على المجاز أو المنقول أولى من حمله المؤدي إلى الاشتراك فالأول كالنكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل العكس، وقيل مشترك بينهما فهو حقيقة في أحدهما محصل للحقيقة والمجاز في الآخر والثاني كالزكاة حقيقة في النماء أي الزيادة محتمل فيما يخرج من المال، لأن يكون حقيقة أيضاً أي لغوية ومنقولاً شرعاً فكذلك نقول الرأس حقيقة في البشرة محتمل في الشعر لأن يكون حقيقة أيضاً أي لغوية أو منقولاً شرعياً فتأمل هذا مع ما مر من القول بأن القرية حقيقة في الأبنية(1/148)
المجتمعة يظهر لك ما زعمه هذا المستشكل سيما قوله لأن النقل وضع ثان والقول بأن الرأس موضوع لثلاث شعرات منه مما لا قائل به، لأن هذا الذي زعمه مبني على ما توهمه من أن ادعاء النقل أو الاشتراك يستلزم تحقق وضعهم لذلك المحتمل في المعنى الثاني حقيقة أو منقولاً وليس ذلك مراداً كما علمته، وقوله هذا حال أصول مقدماته وفروعها على هذا القياس يقال عليه قد بان أن كل مقدمة منها، وأن الاعتراض على شيء منها مبني إما على عدم الإحاطة بكلام الأئمة أو على الوهم في فهمه، وإما على مجرد الدعوى كما بان ذلك واتضح، وقوله فالحق والإنصاف الخ مبني على ما زعمه وقد بان واتضح بطلان الإشكال والجواب معاً فيما سبق وفي هذا الثاني أيضاً، وأما قوله وجه إرادة الحنفية الربع الخ فيقال عليه لم يأت فيه بطائل ينفع فيما نحن فيه والمسح على الناصية لا يشهد له سواء أجعلت على مؤكدة للاستيعاب أو زائدة، لأن الناصية لغة وشرعاً ما بين النزعتين وهو دون نصف الربع بكثير كما هو مشاهد فكيف يتأتى الاحتياط الذي ذكره وقوله وفعل المسح إذا علق بالمحل يقتضي الاستيعاب الخ، يقال عليه لا منازعة في ذلك إنما المنازعة في أن استيعاب الناصية يقتضي التحديد بالربع وهي دون نصفه بكثير، وأما استدلاله بكلام الحكماء فغير نافع له بل هو اختراع طريقة لم تؤلف قبله والحامل عليه حب التكثر والتشيع وقد قال :
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/149)
«المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» وعجيب ظنه أن الاستدلال بكلام الحكماء ينفع في هذا الموطن وغفلته عن أنهم لا يعوّل عليهم سيما في الموضوعات اللغوية والحقائق الشرعية ولو ترك ذكر ما قالوه لكان أولى بهذا ومع ذلك كله فللَّه تعالى أتم الحمد وأكمله على أن أبقى في هذه الأزمنة المؤذنة حوادثها بتغير العالم عما كان عليه من أندية للفضل لم تزل بالعلماء عامرة ورياض التحقيق يانعة أشجارها مثمرة أجلاء يتحادثون أزمة الأدلة ويتجاوزون في البحث الأقيسة وما اشتملت عليه من السبب، والعلة مع إبداء كل ما عنده من غير كدر بينهم وإن سل كل منهم حده لما أنها سيوف لا تسل إلا في الجهاد الأكبر لتكون كلمة الله هي العليا بحسب ما رأى كل منهم واستظهر وهي وإن اختلفت مؤتلفة جحد ذلك من جحده وعرفه من عرفه أسأل الله الكريم الجواد أن يمنحنا رضاه في داري المعاش والمعاد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/150)
وسئل عمن مات بعد استقرار الحج عليه فحج عنه آخر متطوّعاً ولم ينو بحجه عنه حجة الإسلام بل نوى به التنفل عن الميت ظناً منه جواز ذلك فهل يقع عن حجة الإسلام على الميت؟. فأجاب: يحتمل أن يقال بوقوع الحج للمباشر دون المحجوج عنه، ويحتمل أن يقال بوقوعه للمحجوج عنه، أما الأول فلأن نية النفل عنه مع كونه لم يوصه به باطلة وإن كان جاهلاً ويلزم من بطلان نيته عن الغير وقوع الحج لنفسه فإن قلتِ القياس وقوعه عن المحجوج عنه كما أن من نوى عن نفسه النفل وعليه فرض تبطل نيته ويقع حجه عن الفرض قلت هذا وإن كان محتملاً وله وجه إلا أن الفرق ممكن بل ظاهر فإن بطلان النية حيث وجد والإنسان حاج عن نفسه لا يمكن صرف الحج حينئذ لغيره، فإن الفرض أنه لم ينو ذلك الغير وكان القياس مع بطلان النية أن لا يقع الحج عن أحد كما في سائر العبادات لكن لما كان بينها وبين الحج فرق واضح هو ما فيه من شدة التعلق واللزوم جعلوه واقعاً عما في الذمة مسارعة لبراءتها فلم يكن فساد النية موجباً لإلغائه بالكلية، وإنما كان ملغياً لخصوص النفل فحسب ويلزم من إلغاء ذلك وحده الوقوع عما استقر في الذمة كما تقرر، وأما الحج عن الغير فهو على خلاف الأصل فإذا فسدت النية فيه لزم وقوعه للأصل وهو الوقوع عن المباشر دون المحجوج عنه، لأن النية المتعرضة له قد فسدت ولا يمكن أن يقع له شيء بدون نية وشاهد ذلك أن الأجير للحج مثلاً لو نواه للمستأجر مع العمرة لنفسه انصرفا جميعاً للأجير ولم يقع للمستأجر منهما شيء، لأنه لما ضم الحج للعمرة صار ناوياً ما لا يصح وقوعه له وحيث نوى ما لا يصح وقوعه له انقلب للأجير ومثل ذلك ما لو نوى أجير الحج قراناً فقط للمستأجر الذي لا عمرة عليه أوله ولنفسه أو أحرم بالحج لمستأجره ولنفسه فيقع لنفسه في هذه المسائل ولا يقع للمستأجر شيء لأن ما لم يأذن فيه لا يمكن أن يقع له والنسكان لا يفترقان فلزم الوقوع للأجير لأنه الأصل كما تقرر فإن قلت(1/151)
ينافي ما ذكرته في صورة السؤال قولهم لو استأجر معضوب لنذره وعليه حجة الإسلام فنوى الأجير النذر وقع لفرض الإسلام، قلت: أجير المعضوب نائب عنه فنزل منزلته، وأما المباشر في صورة السؤل فليس نائباً عن الميت وإنما هو متطوّع عنه وقد نوى ما لا يصح وقوعه له هنا بوجه فإن حج النفل عن الميت الذي عليه حجة الإسلام لا يصح مطلقاً وكذا لا يصح عمن ليس عليه حجة الإسلام إلا أن أوصى به فلما تعذر وقوع المنوي هنا عن الميت لزم وقوعه للمتطوع ولما لم يتعذر وقوع النذر عن المعضوب مع كون الحاج نائبه وقع عما على المعضوب وهو حجة الإسلام وأيضاً فالنذر من جنس حجة الإسلام فلم تكن نيته مانعة لوقوع حجة الإسلام عن المستأجر لأنه لما استأجره للنذر كأنه استأجره للواجب الذي عليه الصادق بحجة الإسلام والنذر وحجة الإسلام مقدمة فلغت نية النذر ووقع ما أتى به عن حجة الإسلام، وأما حجة الإسلام وحجة التطوّع فمتباينتان فإذا نوى النفل بطل ولم يصلح أن يخلف حجة الإسلام لتعذر وقوعه للميت فوقع للمباشر، وأما الثاني فلأن الحج شديد التشبث واللزوم ومن ثم لم يفسد بفساد نيته مع تطلع الشارع إلى إسقاط حجة الإسلام عن الغير ما أمكن فمن ثم لا يلزم من بطلان خصوص نية النفلية بطلان عموم النية عن الغير فلزم من هذه الحيثية الوقوع عن الغير لما تقرر أن الشارع متشوف إلى ذلك، ومن ثم أباح التبرع به مع انتفاء الإذن والقرابة إلحاقاً له بالديون وأنت خبير بأن الخطأ في طريق أداء الديون لا يمنع إبراءها لذمة المؤدي عنه فكذلك الخطأ هنا، ولعل هذا أقرب وعليه فيفرق بينه وبين ما مر فيمن استؤجر لحج فقرن ونحوه بأن الملغي هنا نية النسك فقط دون ذاته وهناك جزؤه لأنا إذا أوقعناه عن الغير يلزمنا إما إبطال الإحرام بالعمرة التي ضمها إلى الحج من أصلها وهذا متعذر لأن الإحرام بالنسك في الوقت القابل لا يقبل الإلغاء، وأما وقوعها للمحجوج عنه تبرعاً من غير وصية وهو متعذر أيضاً(1/152)
فلزم وقوعهما للمباشر وألغى الإحرام بالحج عن المحجوج عنه حينئذ لما يلزم عليه مما قررته، وأما هنا فلا يلزم على إلغاء خصوص النفلية وصحة عموم الحج عن الغير إلا إبطال صفة للنسك دون أصله وهذا لا محذور فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل عمن وكل فقيهاً بإجارة النسكين ولم يكن باشرهما هل يكفي علمه لهما بالمطالعة والقراءة وكيف الحيلة في عقد الإجارة من الوكيل مع عدم كونه طريقاً للمطالبة بالأجرة وإذا قرىء على الموكل أعمال النسكين أعني الواجبات وشيئاً من السنن ليعقد لنفسه فعقد ما الحكم وهل يجب على القاضي البحث عمن مات وهو مستطيع ولم يحج عنه وإلزام ورثته بالإحجاج عنه وإذا لم يكن له وارث أو كان وهو غائب هل القاضي يتولى ذلك وهل يلزمه مراعاة تقليل الأجرة ما أمكن وإذا بادر أحد الورثة فأجر من يحج عنه أو كان حائزاً ولم يراجع القاضي ما حكمه؟. فأجاب بقوله: الشرط علم المباشر لعقد الإجارة بأعمالها فيكفي علم الوكيل بذلك وإن جهله الموكل وطريق خلاص الوكيل من المطالبة بالأجرة أن يعقد بأجرة معينة في يد موكله فإنها حينئذ إذا بانت مستحقة لا يكون الوكيل طريقاً في ضمانها وإذا بين للموكل أعمال النسك واجباته ومسنوناته وتصورها ثم عقد وهو متصور لها جاز ولا يجب على القاضي بحث عما ذكر ولا إلزام به، ففي الروضة وأصلها لو امتنع المعضوب من الاستئجار أو الإذن للمطيع لم يقم القاضي مقامه في الإذن ولا يلزمه بذلك وإن كان محجوراً عليه بسفه وإن وجب الاستئجار والاستنابة فوراً وهو في حق من عضب مطلقاً في الاستنابة وبعد يساره في الاستئجار خلافاً للأذرعي ، وذلك لأن مبني الحج على التراخي، ولأنه لا حق للغير فيه بخلاف الزكاة، وأما ما وقع في المجموع من أن الحاكم يلزمه بالإنابة فمنظر فيه بل قال الإسنوى أنه لا يستقيم ولم أر من قال به، والمدرك في الاستنابة(1/153)
والاستئجار واحد اهـ. نعم قد يجاب عن المجموع بأن معنى لزومه بها أنه يأمره بها من باب الأمر بالمعروف لا من باب إلزامه بذلك والحكم عليه به حتى يباع فيه ماله، ويدل على ذلك قول البيان فإن استأذن المطيع المطاع فلم يأذن له، فإن الحاكم يأمره أن يأذن له واندفع أيضاً بما قررته قول بعضهم لا يظهر فرق بين إلزامه وأمره ووجه اندفاعه أن إلزامه يتوقف على ما فيه حق للغير، وقد تقرر أن الحج لا حق فيه للغير فلم يتأت إلزامه به بخلاف الزكاة فإن فيها حقاً للغير فتأتي إلزامه بها وأما أمره فلا يتوقف على ذلك لما تقرر أنه من باب الأمر بالمعروف والأمر به من الحاكم أو غيره لا يتوقف على ما فيه حق للغير فكان الحج قابلاً لأمره لا لإلزامه فافهم ذلك فإنه مهم. وللقاضي أن يتولى الإحجاج عن ميت بلا وارث بل عليه ذلك إن خلف تركة كما هو ظاهر وعن ميت عن وارث غائب بأجرة المثل فأقل وللوارث الإحجاج عنه من التركة بغير إذن القاضي.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/154)
وسئل فسح الله في مدته عما لو وجب على رجل الحج فهلك قبل أن يحج ثم إن وارثه استأجر من يحج عنه وكانت الإجارة فاسدة فهل يستحق الأجير أجرة المثل أو المسمى، فإن قلتم أجرة المثل فهل تكون من تركة الهالك أو تلزم المستأجر لما أنه استأجره إجارة فاسدة؟. فأجاب بقوله: لم أر في هذه المسألة نقلاً وإنما رأيت للقمولي والأذرعي كلاماً يؤيد ما سأذكره وكذلك كلامهم في وكيل المرأة في الخلع، إذا خالف يؤيد ذلك أيضاً والجامع بين البابين أن لكل من المستأجر هنا والوكيل ثم إيقاع العقد لنفسه ولغيره لجواز استبداد الأجنبي بالخلع والحج بنفسه وبغيره عن الغير، وحاصل ما يتجه في ذلك أن الأجير إن ظن فساد الإجارة وأنه حينئذ لا أجرة له لم يستحق شيئاً لأنه حينئذ متبرع عن الميت إذ لم يدخل طامعاً في شيء وإن جهل ذلك فإن ظن الوارث الفساد لزمته أجرة المثل لأنه مع ظن الفساد يخرج عن كونه مستأجراً من التركة فتجب الأجرة في ماله لا من التركة حتى لو كان على الميت ديون أخذت التركة جميعها فيها، وإن جهل الفساد وجبت أجرة المثل من التركة ما لم يستأجر من ماله أو يطلق بأن لا يتعرض لماله ولا للتركة لعذره حينئذ فلا يناسبه التغريم بخلاف ما إذا استأجر من ماله وهو ظاهر، أو أطلق لأن فساد العقد يقتضي إضافة آثاره إلى مباشره إلا لمانع هذا ما يظهر والعلم عند الله، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/155)
وسئل أعاد الله علينا من بركاته عن شخص أوصى أن يحج عنه بمائة مثلاً وجعل النظر في ذلك لشخص معين فجاعل الوصي شخصاً معيناً أو أذن له في أن يحج عن ذلك الميت بذلك القدر ثم أذن لآخر أو جاعله كذلك فهل ينزل الإذن للثاني أو الجاعلة له منزلة الرجوع عن الإذن للأول علم الأول أو جهل فلو جهل وعمل فهل يستحق المسمى كما صرح به الماوردي والروياني واستحسنه البلقيني أو لا يستحق في صورة الجهل شيئاً كما اقتضاه كلام الشيخين وعليه جرى في العباب كالروض؟. فأجاب بقوله: إذا جاعل الوصي آخر ليحج عن الموصي بما عينه جعالة صحيحة فعندي تردد في أنه هل يجوز له فسخ تلك الجعالة لإطلاقهم جوازها من الجانبين أو لا يجوز أخذاً من قول ابن الصلاح وأقروه لو استأجر الورثة من يحج عن مورثهم حجة الإسلام الواجبة ولم يكن أوصى بها ثم تقايلوا مع الأجير لم تصح الإقالة لوقوع العقد لمورثهم اهـ، أي فالحق فيه عند الإقالة لمورثهم لا لهم، وقوله لم يكن أوصى بها ليس بقيد بل ليفهم خلافه بالأولى فتأمله ولعل عدم الجواز في مسألتنا أقرب أخذاً من كلام ابن الصلاح هذا فإن رضا المتعاقدين في الإجارة بالإقالة يصيرها جائزة كالجعالة فإذا امتنعت الإقالة في مسألة ابن الصلاح لما تقرر من أن العقد للمورث لا للورثة وإن كان الوارث خليفة المورث فكذا ينبغي منع الفسخ في مسألتنا لأن العقد للموصي لا للوصي وأيضاً فالوصي بمجاعلة غيره جعالة صحيحة قد فعل ما فوّض له فليس له نقضه بلا موجب هذا هو الذي يتجه لي الآن فعليه إذنه أو مجاعلته للثاني فاسد فلا شيء له ويقع حجه عن نفسه، وأما على الأوّل فقوله للثاني ما ذكر غير فسخ للأوّل أخذاً من قولهم لو قال لواحد رد عبدي ولك كذا ثم قال ذلك لثان ثم لثالث فردوه وقصد كل نفسه فلكل منهم ثلث ما شرط له سواء اتفق ما سماه لكل أم لا، فهذا صريح في بقاء الأوّل على صحته مع قوله بعده للثاني ذلك، وفي صحة الثاني أيضاً مع قوله بعده للثالث ذلك(1/156)
فيكون صريحاً في مسألتنا أن قوله للثاني جاعلتك أو حج عن فلان بكذا غير فسخ للأول ويلزم من بقاء الأوّل على صحته بطلان الثاني، لأن الوصي لم يؤذن له إلا في عقد واحد وأيضاً فتوزيع العمل هنا غير ممكن بخلافه في الصورة المذكورة في كلامهم في الجعالة إذا تقرر ذلك علم أن المستحق للجعل هو الأول على كل تقدير وأن الثاني لا شيء له على كل تقدير، وإذا تنزلنا وفرضنا أن الوصي صرح بفسخ الأول وقلنا بجواز الفسخ له ونفوذه فالذي يتجه ترجيحه أن للعامل الأول إذا جهل عليه المسمى من ماله لأنه غره بتوريطه له في العمل مع عدم إعلامه له بالفسخ ولا نظر إلى أن الحج يقع للعامل فالثواب له لأن تقصير الوصي ألغى النظر إلى ذلك كما في نظائر لذلك من كلامهم كما لا يخفى على من أحاط بأطرافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عمن نوى بطوافه النفل ملازمة غريم له هل له ذلك وكذلك في طواف الفرض هل له ذلك أم لا؟. فأجاب بأنه إذا صرف طوافه النفل أو الفرض إلى ملازمة غريم أو نحوه بطل لأنه يشترط فيه فقد الصارف، نعم إن كان ذاكر النية الطواف ولم يقصد صرفه بل شرك مع النية غيرها لم يؤثر كما قاله الزركشي والله أعلم.
وسئل نفع الله به هل يتصوّر انعقاد الحج فاسداً في غير الجماع؟. فأجاب بقوله: نعم فيما إذا أحرم بالعمرة ثم أفسدها ثم أدخل الحج عليها فإنه ينعقد فاسداً على المذهب.(1/157)
وسئل نفع الله به بما صورته قال البغوي وغيره: لو اعتمر في أشهر الحج ثم قرن لزمه دمان وخالفه السبكي فما المعتمد وعلى الأول فقياسه أنه لو كرر العمرة في أشهر الحج تكرر الدم فما المعتمد في ذلك مع بسط فيه؟. فأجاب بقوله: المعتمد ما قاله البغوي وأما ما قاله السبكي فمبني على وجه ضعيف كما دل عليه كلامه وبينته في حاشيتي على إيضاح النووي وبينت فيها أيضاً أن المعتمد عدم تكرر الدم في المسألة الثانية مع الفرق بين المسألتين بما حاصله مع إيضاح أن العلة في وجوب الدم على القارن كونه ربح ميقاتاً إذ لو أحرم بكل نسك على حدته لاحتاج إلى الإحرام من ميقاته وهو ميقات بلده والخروج إلى أدنى الحل أو العلة ترفهه بكون العملين صارا عملاً واحداً والعلة في وجوب الدم على المتمتع كونه ربح ميقاتاً أيضاً أو ترفه بمحظورات الإحرام فيما بين النسكين وكل من العلتين موجود في مسألة البغوي وذلك لأنه لما أحرم بالعمرة في أشهر الحج صار متمتعاً الآن فلزمه الدم لوجود شرطه وحين أحرم بالنسكين معاً لزمه دم آخر لأنه ربح ميقات العمرة التي قرنها بالحج وترفه باندراج عملها في عمل الحج فوجب الدمان ولم يدخل أحدهما في الآخر لاختلاف الموجب كما عرفته مما تقرر وأما في المسألة الثانية فإنه لما أحرم بالعمرة لزمه الدم، أي دخل سبب لزومه إذ لا يتم لزومه إلا بالإحرام بالحج وعلة لزومه ما مر من كونه ريح ميقات الحج أو ترفه بالمحرمات فيما بين العمرة والحج وعمرته الثانية والثالثة وهكذا لم تكن سبباً في ربح ميقات الحج ولا في ترفهه فأي موجب للدم فيها وما أظن من قال بوجوبه بالتكرر إلا وهم كما تبين لك مما قررته.(1/158)
وسئل فسح الله في مدته عن الجاعل والمجعول له إذا اختلفا في الحج فمن المصدق منهما؟ فإن قلتم الجاعل فبم فارق المستأجر؟. فأجاب بقوله: يصدق الجاعل بيمينه على نفي العلم أن المجعول له لم يحج كما حكاه الأذرعي و الغزي عن الدبيلي وأقراه وفارق المستأجر بأنه يروم بدعواه إسقاط أجرة التزمها بعقد الإجارة والأصل عدم السقوط والجاعل لم يلزمه شيء بمجرد الجعالة وإنما المجعول له يحاول بدعواه إلزام ذلك والأصل عدم لزومه وبأن الأجير قد التزم الحج بالعقد وهو مضطر إلى التخلص مما التزمه ولا طريق له إلا قبول قوله إذ لا مطلع للشهود على النية والمجعول له لم يلتزم شيئاً، وإنما يروم إثبات عمل يتوصل به إلى استحقاق الجعل والأصل عدمه وعدم الاستحقاق فكلف البينة بما يدعيه. قال الأذرعي و الغزي : ولعل مراد الدبيلي بالبينة هنا أنه رؤي في مواطن النسك في السنة المعينة إلا أنه حج عنه فقد قدم أن تصحيح الحج بالبينة لا يمكن. قال الأذرعي : وهذا فقه غريب أي فالوجه أنه لا تقبل ببينة المجعول له أيضاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عمن استؤجر لحجة إجارة عين أو ذمة فهل له السفر في البحر بغير إذن أبويه؟. فأجاب بقوله: قضية قولهم أما سفر التجارة وغيرها فإن كان فيه خطر كركوب البحر، أي وإن غلبت السلامة فلا بد من إذنهما له عدم جواز سفره بلا إذن في إجارة العين، إذ لا محيص عنه دون إجارة الذمة إن أيسر وأمكنه استئجار غيره عنه بأجرة المثل لأن له حينئذ مندوحة عن السفر.(1/159)
وسئل فسح الله في مدته هل يجب إتمام الطواف الواجب؟. فأجاب بقوله: قال جمع متقدمون: يجب وغلطهم الشيخ أبو علي وبحث البارزي حمل الأول على طواف النسك لأنه واجب والذي يتجه عندي عدم حرمة القطع مطلقاً، ألا ترى أن الفاتحة واجبة في الصلاة ولمن شرع فيها أن يقطعها ويأتي بها من أولها، والحاصل أن الذي يدل عليه استقراء كلامهم أن محل حرمة قطع الفرض إذا كان الماضي منه يبطل بالقطع كالصلاة والصوم، أما إذا كان ما مضى منه لا يبطل بالقطع فلا يحرم كالقراءة والطواف ويدل لذلك ما ذكروه من عدم حرمة الإعراض على من أنس من نفسه التبحر في العلوم، وعللوه بأن كل مسألة منفصلة عما قبلها لأن تعليلهم عدم الحرمة بالانفصال متأت في نحو القراءة والطواف إذ كل جزء منهما منفصل عما قبله.
وسئل رضي الله عنه هل يكره شراء الجواري للمحرم ولو بقصد التسري؟. فأجاب بقوله: لا كراهة في ذلك لأن الوطء في ملك اليمين عرضي لا ذاتي بخلافه في النكاح، ولأن الوطء لا يدخل وقته بمجرد الشراء، إذ لا بد من الاستبراء بخلافه في النكاح فلذلك لم يضر قصده.(1/160)
وسئل فسح الله في مدته بما صورته هل إذا استطاع إنسان الحج ومات ولم يحج وخلف تركة وقلتم يحج عنه من تركته فقالت الورثة لم يجب الحج عليه لزيادة المراحل فهل يقبل قولهم في ذلك ويسقط عنه الحج وإن كان الميت لم يعرف المسألة وإذا علم إنسان أن الورثة لم يهتدوا للحج عنه لعدم فعل ذلك ببلدهم وعدم إقامة الحكم عليهم بذلك وتحكم العادة فهل له أن يعلمهم بعدم الوجوب ليخف عنهم الإثم وإذا كان الميت لم يعرف المسألة وأخر الحج لغير ذلك فهل يكون عاصياً وهل تجري المسألة في المعضوب كذلك أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا استطاع إنسان الحج ومات ولم يحج وجب الإحجاج عنه من تركته وزيادة السفر على السير المعتاد إنما تمنع الوجوب والعصيان بالموت لا الاستقرار في الذمة، ولا فرق في ذلك بين أن يموت قادراً أو يعضب قبل موته لكن متى تمكن المعضوب من الاستنابة فأخرها مات عاصياً فاسقاً وبهذا التقرير تعلم الجواب عن جميع ما ذكره السائل في هذه المسألة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/161)
وسئل رضي الله عنه ونفع بعلومه بما صورته الطواف تحية للبيت أو للمسجد وإذا طاف ثم دخل البيت يسن له أن يصلي التحية لأنه لرؤية البيت لا لدخوله أو لا؟. فأجاب بقوله: الذي صرح به الأصحاب كالقاضي أبي الطيب والماوردي والروياني والمحاملي وأبي حامد أنه تحية للبيت. قال أبو الطيب و الروياني : وإنما نأمره بعد الطواف بصلاة التحية لأجل المسجد لدخولها في سنة الطواف كما لو صلى مكتوبه ولأن القصد أن لا يدخل المسجد لاهياً فإذا طاف زال هذا المعنى فإن قيل هلا أسقطتم سنة الطواف إذا بدأ بالفرض فيه مع جماعة كما تسقط التحية بذلك، قلت لأن الصلاة والطواف جنسان فلم يتداخلا وركعتا التحية والمكتوبة جنس فتداخلا. قال الزركشي: وعلى ما مر فينبغي أن ينوي بركعتي الطواف معه التحية، أي ليحصل له ثوابها. قال: ومقتضى كلامهم فيما مر أنه لو جلس بعد الطواف من غير صلاة فاتت التحية وفيه نظر اهـ، ولا وجه للنظر حيث سلم ما ذكروه مما مر قال: ولو طاف وصلى ثم دخل الكعبة فهل نقول حصلت تحيتها بالطواف لتعليلهم السابق أم لا؟ بل ذاك تحية رؤيتها فلا بد من تحية لدخولها فيه نظر ورجح في قواعده الأول، وعلله بأن المساجد المتصلة لها حكم الواحد وقد صلى عن الأول فلا يصلي للثاني، قال والقول بأنه تحية للرؤية عجيب وإنما هو تحية البيت.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/162)
وسئل رضي الله عنه عن الأجير في الحج هل يجب عليه السعي من بلد المحجوج عنه وهل قال أحد إن المكي أو الآفاقي لا يصح أن يكون أجيراً في الحج عن ميت غائب عن بلد الأجير وهل للآفاقي أن يوكل من يقبل له عقد الإجارة العينية في الحج وهو غائب أو لا؟. فأجاب بقوله: الأجير إما أن يكون عند الإجارة ببلد المحجوج عنه فقطع المسافة حينئذ إلى الميقات ضروري وإن كان كما في النهاية غير مقصود في نفسه، وإنما المقصود الحج وهو من ضرورياته فهو من عمل الأجير فلو أساء الأجير فأحرم من مكة لزمه الحط من الأجرة وهو بناء على الأصح من أن الأجرة موزعة على السير وإعمال الحج التفاوت بين حجة من بلد الإجارة إحرامها من الميقات وحجة منها إحرامها من مكة، فإذا كانت أجرة الأولى مائة والثانية ثمانين حط خمس المسمى ونظر الزركشي فيما إذا صرف الأجير السير إلى مقصد له ثم أحرم بالحج من الميقات هل يحط من الأجرة ما يقابل السير تفريعاً على أن الأجرة موزعة على السير والعمل أم لا؟ ولم يرجح شيئاً لكن مقتضى كلامهم ترجيح الأول خلافاً لما رجح الثاني وذلك لأنهم قالوا لو أحرم بالعمرة من الميقات عن نفسه وبالحج من مكة بعد تحلله عن مستأجره حسب له في التوزيع قطع المسافة لجواز أن يكون قصد الحج من الميقات ثم عرض له العمرة اهـ، فظاهر علتهم أنه لو محض قصده لعمرته لم تحسب له المسافة إلى الميقات وقياسه في مسألتنا ما ذكرناه وكون السير إلى ما قبل الميقات تابعاً لا يقتضي عدم النظر إليه بل هو منظور إليه، ومن ثم أدخلوه في التوزيع فاشترط أن لا يصرفه الأجير إلى غرض غير غرض المستأجر فاتجه ترجيح ما ذكرناه، وإما أن يكون بالميقات أو بينه وبين بلد المستأجر فالواجب عليه قطع المسافة من محله فقط ولم نعلم قائلاً بما ذكره السائل، وإنما الخلاف في تعين ميقات بلد المحجوج عنه وحاصل ما في التتمة أنه إذا سلك غير طريق بلد المحجوج عنه فإن كان ميقات طريقه أبعد فقد زاد خيراً(1/163)
أو أقرب إلى مكة فلا شيء عليه، لأن الشرع سوى بين المواقيت. قيل: وفي شرح المهذب ما يوافقه لكن الذي يقتضيه كلام الشيخين في الروضة وأصلها خلافه وهو الأوجه فعليه لو استؤجر مكي عن آفاقي ولم يعين له المستأجر ميقاتاً فأحرم من مكة أساء ولزمه دم وتوكيل الآفاقي المذكور صحيح في أشهر الحج إن تمكن الموكل منه فيما بقي منها وقبلها إن وقع العقد وقت اعتياد الناس السفر وأمكن سير الموكل معهم بأن تيسر إعلامه قبل سفرهم أو عين هو ذلك الوقت ليعقد له فيه ويأخذ هو في التأهب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/164)
وسئل نفع الله به بما لفظه ورد ينزل على هذا البيت كل يوم وليلة عشرون ومائة رحمة ستون منها للطائفين بالبيت وأربعون للعاكفين حول البيت وعشرون للناظرين إلى البيت ، أخرجه الطبراني. وفي رواية: «ينزل الله تعالى على أهل المسجد مسجد مكة كل يوم عشرون ومائة» الحديث. لكن قال فيه وأربعون للمصلين ولم يقل للعاكفين، أخرجه الأزرقي وغيره، فما المراد بالبيت وهل القسمة بحسب قلة العمل وكثرته؟ وهل المراد المصلين سنة الطواف أو أعم أبسطوا الجواب عن ذلك وعن غيره مما يفهمه الحديثان أثابكم الله الجنة؟. فأجاب بقوله: يجوز أن يراد بمسجد مكة البيت لأنه يسمى مسجداً ويجوز أن يراد به مسجد الجماعة وهو الأظهر كما قاله المحب الطبري ويكون المراد بالتنزيل على أهل البيت التنزيل على أهل المسجد، ولهذا قسمت على أنواع العبادة الكائنة فيه، وقوله ستون للطائفين الخ، يحتمل القسمة بينهم بالسوية حيث أتى كل منهم بمسمى الطواف أو الصلاة أو النظر شرعاً من غير نظر إلى قلة العمل أو كثرته وما زاد فله ثواب من غير هذا الوجه ويحتمل قسمتها بينهم على قدر العمل والمتجه عندي الأول، لأن الطائفين مثلاً جمع محلي بأل فهو عام ومدلوله كلية أي محكوم فيها على كل فرد فرد فالستون محكوم بها على كل فرد فرد من الطائفين فحيث أتى واحد منهم بمسمى الطواف شرعاً حصل له الستون لكن من أتى بالأكثر أو قارن عمله كمال خلى عنه عمل الآخر تكون رحماته أكمل. ويدل لذلك أن الخمسة أو السبعة والعشرين درجة المترتبة على صلاة الجماعة تحصل لكل مصل في جماعة، قلت أو كثرت لكن درجات الأكثر أكمل وكذا يقال في المصلين والناظرين ثم الرحمات، يحتمل أن تكون من نوع أو أنواع كالمغفرة والحفظ والرضا والقرب، إذ الرحمة العطف فتارة تكون بإسداء نعمة وتارة تكون بدفع نقمة وكلاهما يتنوّعان إلى ما لا نهاية له، ويؤيد ما ذكرته قول القطب القسطلاني وليس هذا العدد جزءاً من الرحمة المبثوثة في الأرض(1/165)
المقسومة بين الآنام بل هو غيرها فإنه يتجدد بتجدد الليالي والأيام تشريفاً لأهل الحرم على من سواهم، قال: ثم إن هذا الثواب هل يتجزأ على كل عامل بحسب كثرة العمل وقلته أو يستوي فيه المقل والمكثر فيحصل للطائف ولو أسبوعاً ومصل ولو ركعة وناظر ولو لمحة وهل يتكرر العمل في اليوم والليلة على تعاقب الأوقات أم يختص بأول عمل والباقي تابع أو يحمل على طواف النسك والصلوات الخمس أو يختص بالوافدين الذي يظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم أنه يشترك فيه كل عامل من سابق ولاحق ومقل ومكثر ومقرن ومفرد، فينال كلاً منهم ذلك العدد المعين على العمل المعين ومن زاد منهم يحصل له ثواب زيادة عمله فإن الحسنة بعشر أمثالها اهـ. المقصود من كلامه لا يقال الحديث يقتضي فضل الطواف على الصلاة لأنا نقول ظاهره وإن اقتضى ذلك وأخذ به
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
المحب الطبري متروك بالأحاديث الكثيرة الدالة على فضل الصلاة والقول بأن الطواف يسمى صلاة فهو داخل فيها يرد بأن هذه تسمية مجازية وقعت في الحديث على معنى أنه كالصلاة فحذف حرف التشبيه مبالغة في المشابهة ومن ثم قال كثير من العلماء كما نقله عنهم المحب الطبري وجه القسمة كما ذكر أن الرحمات المائة والعشرين قسمت ستة أجزاء جزءاً للناظرين وجزآن للمصلين، لأن المصلي ناظر غالباً فجزء للنظر وجزء للصلاة والطائف لما كان ناظراً طائفاً مصلياً كان له ثلاثة أجزاء اهـ، وحينئذ فليس في الحديث تعرض لفضل شيء من النظر والصلاة والطواف على شيء ونظر فيه المحب الطبري بأن الأعمى الطائف والمصلي، وكذا المتعمد ترك النظر ينالهما ما ثبت للطائف والمصلي وإن لم ينظرا فدل على أن المراد غير ركعتي الطواف وما نظر به مدفوع بقولهم غالباً فيلحق به ما جاء على خلاف الغالب إلحاقاً لشاذ الجنس به.(1/166)
وسئل فسح الله في مدته بما لفظه قالوا: إنه وقف بعرفة يوم الجمعة، وقالوا أيضاً: إنه توفي ليلة الاثنين لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول وهذا مستحيل، إذ لو فرض كمال الحجة والمحرم وصفر كان ثاني 3 ربيع الأحد فكيف إذا فرض نقصها أو نقص أحدها فهل يمكن الجواب؟. فأجاب بقوله: يمكن تصور ذلك بأن يفرض أن أهل مكة رأوا هلال الحجة يوم الخميس وأهل المدينة رأوه يوم الجمعة واتفقا في هلال المحرم وصفر وربيع فقولهم وقف يوم الجمعة باعتبار حساب أهل مكة، وقولهم ليلة الاثنين لثنتي عشرة باعتبار حساب أهل المدينة.
وسئل رضي الله عنه عن قولهم القراءة في الطواف أفضل من الذكر غير المأثور والمأثور أفضل منها ما المراد بالمأثور؟. فأجاب بقوله: المراد به كما قيل ما أثر عنه أو عن أحد من الصحابة أو التابعين لكن في كون المأثور عن صحابي مثلاً أفضل من القراءة نظر لا يخفى إلا أن يجاب بأن هذا المحل لما كان بالدعاء ونحوه أليق منه بالقراءة، ولذا كرهها بعضهم فيه مطلقاً قدموا المأثور ولو عن صحابي عليها رعاية لذلك، وإن كان على خلاف الأصل، والظاهر أن المأثور عنه لا فرق فيه بين أن يصح سنده أو لا، لأن الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقاً كما في المجموع.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/167)
وسئل نفع الله به عمن نذر الحج ماشياً فركب لزمه دم مع أنه فعل الأفضل فما وجه ذلك، وما المراد بالدم هنا ولم وجب مع أن مخالفة المنذور في غير ذلك تقتضي الإثم فقط وهل يتكرر الدم بتكرر الركوب قياساً على اللبس في حق المحرم أو يفرق؟. فأجاب بقوله: إنما لزمه الدم وإن فعل الأفضل لأن المشي فيه مشقة مقصودة للشارع أيضاً، فوجبت رعايتها لأن الأفضل خلى عنها بل ورد في فضلها ما اقتضى ذهاب كثير إلى أن المشي أفضل وأيضاً فأفضلية الركوب ليست لذاته بل لما فيه من التأسي به ولأنه أعون على الحضور في الأذكار والعبادات فوجد في كل شيء مقصود ليس في الآخر فلم يجزىء أحدهما عن الآخر، وإذا تأملت ذلك حق التأمل ظهر لك الفرق بين هذا وما لو نذر الصلاة في مسجد النبي حيث تجزئه الصلاة في المسجد الحرام، وحاصله أن الأفضل هنا اشتمل على ما في المفضول وزيادة بخلافه في مسألة المشي والركوب والمراد بالدم هنا شاة وإنما وجب الدم هنا مع ما ذكر في السؤال، لأن المنذور صفة متعلقة بالنسك فاقتضت مخالفتها لزوم الدم والذي يظهر أنه إذا ركب لغير عذر تكرر الدم مطلقاً أو لعذر، فإن استمر العذر لم يتكرر الدم بتكرر الركوب وإن زال ثم حدث عذر آخر تكرر بتكرر العذر ويفرق بينه وبين نظيره في مسألة اللبس بأن استدامة اللبس ممكنة غالباً فلا عذر في تكرره فاقتضى تكرر الدم بشرطه، وأما استدامة الركوب فغير ممكنة فنظرنا للعذر ولم ننظر إليها لاستحالتها غالباً.(1/168)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه ما قولكم في حديث روي عن النبي أنه قال: «من استطاع أن يحج ولم يحج مات إن شاء يهودياً أو نصرانياً» اهـ، فهذا الحديث هو صحيح ثابت في الصحيحين أو موضوع وهل هو في حق جميع المسلمين البعيد منهم والقريب من غير تفاوت أم لا؟ وإذا كان في حق الجميع وكان المكان بعيداً والشخص لم يقدر على المشي إلى بيت الله الحرام ولم يجد أحداً يحمله بأجرة المثل وبقي عن الحج إلى أن مات فهل يكون له في هذا الحكم أم لا؟ وكذلك إذا كان الطريق مخوفاً وبقي عن الحج إلى أن مات فهل يكون له عذر في تركه الحج ويخرج عن هذا الحكم أم لا؟. فأجاب بقوله: الحديث صحيح عن عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه ومثله لا يقال من قبيل الرأي فله حكم المرفوع على أنه ورد مرفوعاً من طرق في بعضها مقال، وقد أخطأ ابن الجوزي في عدّة من الموضوعات وهو محمول على المستحل وعام في حق جميع المسلمين لكن بشرط الاستطاعة ومن عدم الاستطاعة العجز عن دابة إذا كان بينه وبين مكة مرحلتان، وكذا إذا كان الطريق مخوفاً فإذا ترك الحج لأجل تلك لم يكن داخلاً في هذا الوعيد الشديد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/169)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: إذا جاعل رجل آخر على أن يحج أو يعتمر عن ميتة بمائة مثلاً ففعل وجاعله أيضاً على أن يرد السلام على النبي وصاحبيه ويدعو له عندهم فاستناب غيره في الزيارة فهل يستحق ما سمى له أم لا؟ فإن قلتم يستحق فهل فرق بين أن يشرطوا عليه أن يزور بنفسه أو يطلقوا، وإذا قلتم لا يستحق إذا شرطوا عليه أن يزور بنفسه فهل فرق بين أن تمكنه الزيارة أو لا تمكنه كأن تمرض أو يكمل نفقته ونحو ذلك أم لا؟. فأجاب بأنه إذا جوعل على الدعاء عند القبر الشريف فلا يخلو إما أن يربط العقد بعينه كجاعلتك أو استأجرتك لتدعو لي أو لميتي عند قبر النبي سواء أقال بنفسك أم لم يقله، وإما أن يربط بذمته كألزمت ذمتك تحصيل الدعاء المذكور ففي الأول لا بد أن يقول هذه السنة أو يطلق فإن عين غير السنة الأولى من سني إمكان الوصول إلى المدينة الشريفة لم يصح العقد كاستئجار الدار للشهر القابل، ويشترط في هذا القسم قدرة الأجير على الشروع في العمل بنفسه بأن لا يكون ثم مانع له من الخروج كخوف أو مرض أو نحوهما واتساع الوقت للعمل وأن يوجد العقد حال الخروج فإن لم يشرع في المعقود عليه من عامه لعذر أو غيره انفسخت الإجارة لفوات المقصود فلو ذهب في العام الثاني مثلاً إلى المدينة الشريفة ودعا له وقع عن المعقود له لأنه أمره أن يدعو له وقد فعل لكنه أساء هذا كله حكم القسم الأول، وأما القسم الثاني فيصح سواء أعين السنة الحاضرة أو سنة مستقبلة فإن لم يعين شيئاً حمل على الحاضرة فيبطل إن ضاق الوقت ولا يشترط قدرته على السفر بنفسه بل له الاستنابة وإن قدر عليه بنفسه، ومتى أخر الشروع بنفسه أو نائبه عن العام الذي تعين له تخير المستأجر أو المجاعل له على التراخي فإن شاء فسخ وإن شاء أخر إلى العام الثاني، ويجب على من استأجر أو جاعل بمال ميت أن يعمل في الفسخ وعدمه بالمصلحة، وبما تقرر في هذين القسمين يعلم الجواب عن ترديدات السائل التي ذكرها.(1/170)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل فسح الله في مدته عمن أوصى بحجة ثم حج حجة الإسلام هل تنزل وصيته عليها مع الإطلاق فتسقط بفعله أم لا؟. فأجاب: بأن قضية كلام الشيخ العلامة تقي الدين الفتي أن الوصية تنزل على حجة الإسلام فإنه أفتى فيمن أوصى بأن يحج عنه بعشرة مثلاً فحج عنه آخر تبرعاً بأن الوصية تبطل وترجع الورثة بما أوصى به ويحمل لفظه على الفرض وقد تعذر تنجيزها فلغت وقضية كلامهم في مبحث الرجوع عن الوصية أن الحجة الموصى بها باقية وذلك لأنهم ذكروا أمثلة للرجوع عن الوصية بالقول أو الفعل، وكلها ترجع إلى معنيين: إما زوال الاسم أو الإشعار بالإعراض عن الوصية، وواضح أن زوال الاسم لم يوجد، وأما الإشعار بالإعراض فالظاهر أنه لم يوجد هنا أيضاً لأنه لا يكون كما اقتضاه فحوى كلامهم إلا إذا وقع التصرف في عين الموصى به وهو هنا لم يقع في عين الموصى به لأن إطلاق الحجة يشمل حجة الإسلام وغيرها على أنه قد يقع في عين الموصى به ولا يؤثر لأنه عارضه ما هو أقوى منه ومن ثم لم يؤثر نحو التجفيف والتزويج والإيجار والاستعمال لأنه إما انتفاع أو استصلاح محض وكلاهما ليس قوياً في الإشعار بالإعراض فكذلك حجه هنا ليس قوياً في ذلك لأن الناس كثيراً ما يقصدون إكثار الحج وإنفاق أموالهم فيه وإن حجوا حجة الإسلام ويفرق بين الصورة المسؤول عنها وما أفتى به الفتى بأن الموصي فيها مات قبل الحج بنفسه ونائبه فوجب حينئذ انصراف الوصية إلى حجة الإسلام لتعينها وعدم جواز غيرها عنه قبلها، فلما تبرع عنه بها سقطت عنه وتعذر تنفيذ وصيته بها فألغيت، وأما في مسألتنا فإنه حج بنفسه والموصى به إنما يعتبر عند الموت وهو عند الموت ليس عليه حجة الإسلام فانصرف الموصى به إلى غيرها ووجب الإحجاج عنه من ثلثه مسارعة لغرضه من تحصيل هذه القربة العظيمة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/171)
وسئل نفعنا الله به عمن استؤجر للحج مفرداً إجارة عينية واشتبه عليه حاله بعد الإحرام فقرن مثلاً فهل تبرأ ذمة المستأجر بذلك من النسكين إذا أتى الأجير بالعمرة بعد الفراغ من أعمال الحج أو لا تبرأ ذمة المستأجر ولا يستحق الأجير شيئاً للشك في حصول العمل المشروط في الإجارة؟. فأجاب بقوله: الذي صرح به الشافعي رضي الله عنه والأصحاب أن من استؤجرت عينه ليفرد فقرن فإن كانت الإجارة عن حي انفسخت في النسكين معاً لأنهما لا يفترقان لاتحاد الإحرام ولا يمكن صرف ما لم يأمر به المستأجر إليه، وإن كانت عن ميت وقع للميت اتفاقاً لأنه يجوز للأجنبي التبرع عنه بها من غير وصية ولا إذن. قال السبكي : وهذا صحيح من حيث الوقوع عن الفرض، وأما كونه عن جهة الإجارة فيظهر أنه كالحي وبين فائدة ذلك وما يناسبه كما ذكرته موجهاً له في شرح العباب إذا علمت ذلك علمت أن من استؤجرت عينه للإفراد فأحرم ثم شك هل أحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما ثم جعل نفسه قارناً فإن كانت الإجارة لميت برىء من الحج لأنه المتيقن دون العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج أو لا فلا تدخل العمرة عليه فإذا أحرم عنه بها بعد فراغ ما هو فيه وقعت له أيضاً وحينئذ فهل يستحق الأجرة في هذه الصورة لأنه أتى بما استؤجر له وهو الإفراد على احتمال أو لا يستحقها لأنا لم نتحقق أنه أتى بالعمل الذي استؤجر له للنظر في ذلك مجال، ولعل الأوجه الأول لأنا قد تحققنا انعقاد الإجارة ثم شككنا بعد قرانه هل وجد القران حقيقة بأن يكون أحرم بهما أولاً أو بالعمرة ثم أدخل عليها الحج فتنفسخ الإجارة فيهما من حيث الأجرة لما مر عن السبكي أم لم يوجد بأن يكون أحرم بالحج أو لا فلا ينفسخ، والثاني أقرب لأن الأصل عدم وجود خصوص القرآن ودوام الإجارة إذ الانفساخ طارىء على العقد والأصل عدم طروّه، ولأن الظاهر إن أجبر العين إنما يحرم بما استؤجر له لا بغيره فهذا كله يرجح الاستحقاق وإن كانت لحي لم يقع له واحد من(1/172)
النسكين ولم يستحق شيئاً من الأجرة فيما يظهر أيضاً لأنا لما لم نتحقق ما أحرم به الأجير كنا بعد قرانه شاكين في أنه أتى بالعمل المستأجر له بأن يكون أحرم بالحج أوّلاً فيكون قرانه لغواً أو لم يأت به بأن يكون أحرم أولاً بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج فتنفسخ الإجارة ويقعان له والأصل عدم إتيانه بما استؤجر له ولا يعارضه أن الأصل عدم انفساخ الإجارة لأنه لا فائدة لهذا الأصل لأن بقاءها مع عدم تيقن إتيان الأجير بالعمل المستأجر له لا يفيد شيئاً وفارقت هذه الصورة صورة الميت السابقة بأنا هناك تيقناً وقوع النسكين للمستأجر له وشككنا هل عرض ما يمنع استحقاق الأجير للأجرة وهو القران والأصل عدم عروضه ولم يعارض هذا الأصل ثم شيء يقاومه وهنا لم يتيقن وقوعها للمستأجر بل شككنا هل وقعا له أولاً، والأصل عدم وقوعهما ولم يعارض هذا الأصل ما يقاومه فعملنا بأقوى الأصلين في الصورتين هذا ما ظهر لي الآن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عما إذا شرط المحرم عند الإحرام التحلل بنفس المرض فبماذا يصير حلالاً بمبيح التيمم أو بمبيح الفطر في رمضان أو بما لا يمكن الإتيان بشيء معه من أعمال النسك؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: قد بينت في شرح العباب وغيره أن ضابط المرض المبيح للتيمم والفطر في رمضان واحد ومثلهما التحلل به لمن شرطه فمتى وجد مبيح التيمم جاز التحلل ومتى لا فلا.(1/173)
وسئل رضي الله عنه عن مقالة صدرت من بعض متفقهة اليمن بأن قال إن بقاع الأرض لا يفضل بعضها بعضاً وإن مكة شرّفها الله مثل غيرها من سائر بقاع الأرض ولم يأت بدليل على مقالته فتعين البحث عما هو الحق فهل بقاع الأرض يفضل بعضها على بعض أم لا؟ وهل مكة شرّفها الله تعالى شرفت لذاتها أم لماذا وهل طيبة شرفت بالنبي أم بماذا؟ وهل المدن، أي الأمصار، تفضل على القرى أم لا؟ وهل أماكن العلماء والصالحين مثل المدارس والزوايا والربط تلتحق بالمساجد في الفضل والاحترام أم دونها أم لا فضل لها؟ وهل المواضع التي نزل بها النبي كقباء وبدر وسائر الأماكن التي نزلها دائمة الفضل أم ارتفع الفضل والحرمة لها بارتحاله منها؟ وهل إذا شرفت البقعة لأجل العلماء والصالحين ثم ارتحلوا عنها يرتفع فضلها أم لا؟ وهل تعبدنا بالوقوف بعرفة لمزيد فضلها أم لماذا؟ وكذلك سائر أماكن النسك كالمواقيت التي للإحرام ومزدلفة ومنى وغيرها أفتونا بما أمكن من الدلائل والتعليل فالقضية واقعة؟. فأجاب فسح الله في مدته بقوله: ما نسب لذلك القائل قد خالف فيه الإجماع واتصف بسببه بأقبح الكذب والابتداع ولم لا وتفضيل مكة والمدينة على ما عداهما أوضح من الشمس بل وأظهر وأشهر من أن يذكر، وإنما الخلاف في أيهما أفضل ومكة هي الأفضل عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأكثر العلماء للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك التي لا تقبل التأويل عند من ألهم رشده كما صرح به بعض أئمة المالكية منها قوله عند فراقه لمكة: «والله إنك لأحب أرض الله إليّ ولولا أني أخرجت منك قهراً ما خرجت» ، ومنها صلاة واحدة بمسجد مكة أفضل من مائة ألف صلاة بمسجد النبي وصلاة واحدة بمسجد النبي أفضل من ألف صلاة بالمسجد الأقصى وصلاة بالمسجد الأقصى أفضل من ألف صلاة فيما سواه وقد أخذت من ذلك ما حررته في حاشية مناسك النووي من أن الصلاة الواحدة بمسجد مكة أفضل من مائة ألف ألف ألف صلاة فيما عدا مسجد المدينة(1/174)
والأقصى، ونص كثيرين على أنها أفضل من مائة ألف استرواح لعدم اطلاعهم على ما ذكرته من الأحاديث فاستفد ذلك فإنه مهم نفيس وفيه أبلغ رد على ذلك المعاند بزعمه أن البقاع كلها مستوية، وفيه أيضاً دليل على أن سبب تفضيل مكة كثرة مضاعفة الصلاة فيها على غيرها بل وسائر العبادات، ففي الحديث الصحيح أو الحسن:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
«أن حسنة الحرم بمائة ألف حسنة» ، أي غير الصلاة لما مر فيها ثم الخلاف في غير التربة التي ضمت أعضاء النبي ، أما هي فهي أفضل من مكة إجماعاً بل ومن السموات والعرش والكرسي، نعم قال بعض الأئمة العارفين، أعني الشهاب السهروردي صاحب العوارف: إن الطوفان موج تلك التربة المكرمة من محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهي من جملة مكة وتشريف طيبة بل وتحريم حرمها وإثبات جميع ماله من الخصوصيات، إنما هو بسؤاله لربه في ذلك كما في الأحاديث الصحيحة وأما مكة فقيل إن تحريم حرمها إنما هو بسؤال إبراهيم في ذلك أيضاً والأصح كما بينته في شرح العباب وغيره، أنها لم تزل حراماً معظمة من يوم خلق الله السموات والأرض والمدن مفضلة على القرى والقرى على البوادي من حيث ظهور الدين وتيسر تعليمه وتعلمه وفعل العبادات في تلك أكثر كما صرح به الأئمة في باب اللقيط، وأما من حيث مضاعفة الصلاة وغيرها فلا لما مر أن ما عدا مكة والمدينة وبيت المقدس لا تضاعف فيه الصلاة، نعم صح أن ركعتين في مسجد قباء بعمرة ولا يلحق بالمسجد غيره مما ذكر نعم يتأكد ندب احترام نحو المدارس والربط ومحال العلماء والصلحاء وكل محل علم أنه نزله أو صلى فيه فله فضل عظيم على غيره على ممر الدهر فيتأكد الاعتناء بتحري نزوله والتبرك به كما كان ابن عمر وغيره رضي الله عنهم يفعلون ذلك بعد وفاته ، وحكمة وجوب الوقوف بعرفة بل وأنه الحج كما في الحديث، أي معظمه ما وقع فيها من اجتماع آدم وحواء وتعارفهما بها أو من تعريف الله(1/175)
تعالى لنبيه إبراهيم المناسك بها، فلوقوع ذلك الاجتماع الذي هو أصل وجود هذا العنصر الإنساني أو ذلك التعريف لتلك العلوم التي هي أصل شرف ذلك النوع أوجب الله تعالى على عباده الخروج من حرمه وأمنه إلى الوقوف بذلك الباب الجليل ليبتهلوا إليه في إمداد أشباحهم وأرواحهم بحياته ومعارفه الأزلية الأبدية التي ما شرف عنصر الإنسان حتى على عنصر الملائكة إلا بها فلهذه الخصوصية العظيمة والموهبة الجسيمة كان الوقوف بمحلها أعظم الأركان للحج وكان كأنه كل الحج فمن ثم قال : «الحج عرفة» فينبغي للواقف بها أن يستحضر ذلك الاجتماع وذلك التعريف لعل أن يحصل له الاجتماع الأكبر على ربه المستلزم، لأن يمده بعظم مواهبه اللدنية ومعارفه الإلهية وقربه الأقدس وكرمه الأنفس المشار إليه بقوله عز قائلاً لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ،
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/176)
وأما مبيت مزدلفة ومنى ورمي الجمار فحكمتها إحياء محال الأنبياء ومآثرهم، ألا ترى أن إبراهيم لما أراد ذبح ولده عند محل الجمرة الأولى ظهر له إبليس اللعين ليثني عزمه عن ذلك فرماه بسبع حصيات حتى غاب عنه ثم انتقل إبراهيم إلى محل الجمرة الوسطى فبرز له اللعين ورماه بسبع إلى أن غاب في الأرض أيضاً ثم انتقل إلى محل جمرة العقبة فبرز له فرماه بسبع حتى غاب في الأرض أيضاً كما جاء ذلك كله في حديث فلذا وجب الرمي إحياء لتلك المنقبة العظيمة التي وقعت لأبينا إبراهيم لنتذكره ونحيي معالمه ونتأسى به في دفع الشيطان بكل ما نقدر عليه حتى لو برز لحصبناه كما حصبه أبونا، ومن ثم ينبغي للإنسان عند الرمي أن يتذكر ذلك وظهر بما تقرر حكمة وجوب رمي الحجارة دون غيرها، والرد على من قال إن ذلك تعبد ونظيره وجوب الطواف بالبيت إظهاراً لتعظيمه ولإحياء شعار الملائكة فإنهم طافوا به ألفي سنة قبل آدم وشعار الأنبياء فإنه ما من نبي إلا حج البيت خلافاً لمن استثنى هوداً وصالحاً صلى الله عليهما وسلم، وأما المواقيت فحكمتها والله أعلم أنه قد جرت العادة في ملوك الدنيا أنه إذا وفد عليهم عبيدهم أو عصاة عبيدهم يكونون على غاية من الذلة والخضوع والشعث والغبرة رجاء لرضا ساداتهم إذا رأوهم على ذلك الحال الذي كل من رأى صاحبه رحمه فأوجب الله تعالى على قاصدي الدخول إلى حضرته العظمى التي هي أعظم حضرات الدنيا، إذ اجتماع الناس بعرفة كاجتماعهم في الموقف ودخولهم إلى حرمه وأمنه كدخولهم إلى الجنة أن لا يأتوها إلا وهم غبر شعث عرى على غاية من الخضوع والذلة كما يبعثهم الله في المحشر كذلك ليتحققوا بما ينيلهم خير ما عنده أنه عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وإنما كان ميقاته أبعدها لمزيد فضله وليناسب إكمال الأكبر الذي أوتيه وكانت الحجفة كذلك لأنها التي تليه بخلاف بقية المواقيت، فلذا استوت وهذا المحل يحتاج إلى مزيد بسط لكن ضاق القرطاس عنه، وقد أشرت إلى(1/177)
أصوله بما لم أر من سبقني إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل نفع الله بعلومه عن شخص أحرم إحراماً مطلقاً ثم أفسده ومات قبل أن يعين شيئاً، وأراد الورثة أن يقضوا عنه ما أفسده أيقضون عنه حجاً وعمرة ولا تبرأ ذمته بغير هذا لأنه اشتغلت ذمته بإحرام وهي محتملة لهما فلا يبرأ إلا بقضائهما كما لو شك من عليه خمس دراهم وشاة هل أخرج أحدهما أم لا؟ فإنه لا تبرأ ذمته إلا بقضائهما أم يقضون عنه أحدهما وتبرأ ذمته به لأنه اشتغلت ذمته بإحرام وهي محتملة لأحدهما وإذا فعلوا أحدهما كان الآخر كالمشكوك والمشكوك كالمعدوم كما لو شك هل عليه خمس دراهم أو شاة فقضى أحدهما فإنه تبرأ ذمته به؟. فأجاب بقوله: أما الجواب عن هذا السؤال فيتوقف على مقدمة غفل عنها السائل نفع الله به، وهي أن فساد الإحرام المطلق لا يقتضي تعيينه بل هو بعد الإفساد باق على إطلاقه فإن عينه بعد الإفساد لحج كان مفسداً له أو لعمرة كان مفسداً لهما، أولهما وإن الوارث هل يقوم مقام مورثه في التعيين أخذاً بعموم قولهم إنه خليفته أو لا يقوم مقامه في هذا لأنه من قبيل النيات وهي لا تقبل النيابة والذي يتجه ترجيحه هو الثاني فقد صرحوا بنظيره في قولهم لو أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل اختيار واحدة أو أكثر منهن لم يقم وارثه مقامه في ذلك وقولهم لو قال لزوجتيه إحداكما طالق ولم يقصد معينة منهما ومات قبل التعيين لم يعين وارثه كما صححه في المنهاج، وتصحيح التنبيه خلافاً لما اقتضاه كلام الروضة وأصلها وتبعه الحاوي من أنه يقوم مقامه فيه كالبيان والفرق على الأول المعتمد كما جزم به صاحب الإرشاد وغيره أن البيان إخبار يمكن الوقوف عليه بخبر أو قرينة والتعيين اختيار يصدر عن شهوة فلا يخلفه الوارث فيه، ويؤيده ما مر فيمن أسلم على أكثر من أربع نسوة، ووجه المشابهة بين مسألتنا وهذين أن التعيين فيها(1/178)
اختيار يصدر عن شهوة أيضاً لأن من أحرم إحراماً مطلقاً يفوض التعيين إلى اختياره وشهوته فمهما عينه منهما لزمه الجري على أحكامه فإذا تقرر ذلك وأن الوارث لا يقوم مقام المورث في تعيين ذلك الإحرام المطلق لم يتأت ما قاله السائل نفع الله به، لأنه إذا مات قبل التعيين كان مفسداً لإحرام مطلق، والإحرام المطلق الذي لا يمكن تعيينه يتعذر به الإتيان فلا يلزم الوارث قضاء في هذه الصورة لتعذره لما تقرر من أن الذي فسد إحرام مطلق وأنه لا بد بعد الإفساد من التعيين حتى يقع القضاء لماهيته وإن التعيين من الوارث متعذر وأنه إذا تعذر التعيين تعذر القضاء لتعذر قضاء الإحرام المطلق هذا كله بناء على الاحتمال الثاني، وأما على الأول وهو أن الوارث يقوم مقامه في التعيين فلا يتأتى ما ذكره السائل أيضاً لأنا إذا فوضنا التعيين إلى الوارث فإن عين حجاً لزمه قضاؤه أو عمرة لزمه قضاؤها أو حجاً وعمرة لزمه قضاؤهما كما أن المورث المفسد يلزمه قضاء ما عينه دون غيره فليست هذه المسألة نظيرة ما ذكره السائل فيمن اشتغلت ذمته بخمس دراهم وشاة ثم شك في إخراج أحدهما لتيقن شغل ذمته في هذه بشيئين معينين ثم شك في سقوط أحدهما والأصل بقاؤه، وأما في مسألتنا فذمته لم تشتغل إلا بإحرام مطلق، فإن قلنا يتعذر تعيينه على الوارث فواضح أنه لا يتصور القضاء فيه فلا يجب وإن قلنا بعدم تعذره عليه فهو يعين ما شاء ويقضيه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/179)
وسئل رضي الله عنه عن شخص أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة قال أصحابنا الأظهر أنه لا يصح هذا الإدخال ولا يصير قارناً مع أنه الواقع من فعل النبي في حجته، وقال أصحابنا رحمهم الله إنه من خصائصه ما الدليل على أنه من خصائصه؟. فأجاب نفع الله به بقوله: إنه إنما أحرم بالعمرة لحاجة هي إعلامه لمنكري العمرة في أشهر الحج بجوازها فيها فآثر الإحرام بالحج أوّلاً لفضله ثم ظهرت له المصلحة بإدخال العمرة عليه ليبين لأمته في هذا المجمع العظيم الذي لم يجتمع له نظيره جوازها رداً لما كان عليه الجاهلية من عدها فيها من أفجر الفجور وإن كان بينه قبل ذلك ومعلوم أن هذه الحاجة لا توجد في غيره فهذا هو سبب الخصوصية ودليلها فلم يكن فيه حجة لمجيز إدخال العمرة على الحج لأنها واقعة فعلية وهي إذا تطرق إليها الاحتمال سقط الاستدلال بها فما بالك بهذه التي قامت الأدلة الصريحة على أن الإحرام بالعمرة إنما كان لأجل هذا الغرض فظهر بذلك دليل المذهب وأنه لا غبار عليه.
وسئل رضي الله عنه وأدام النفع به عمن أحرم وبيده صيد مرهون أو أحرم الولي عن الصبي وبملك الصبي صيد ما الحكم؟. فأجاب بقوله: لا يزول ملكه عن الصيد الذي أحرم وهو مرهون كما ذكرته في شرح العباب لتعلق حق الغير به. قال الزركشي : ولو كان في ملك الصبي صيد فهل يلزم الولي إرساله ويغرم قيمته كما يغرم النفقة الزائدة بالسفر فيه احتمالان اهـ، والذي يتجه ترجيحه منهما أنه يلزمه ذلك لأنه الذي ورطه فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/180)
وسئل متع الله المسلمين بحياته عمن وكل آخر ليستأجر رجلاً ليحج عن ميت الموكل فاستأجر رجلاً بأجرة معلومة وحج الأجير ثم طلب أجرته فقال الموكل أنا عزلت الوكيل قبل أن يستأجر ومعه بينة فهل يلزمه تسليم الأجرة لكونه ألجأ الوكيل إلى ذلك ولم يعلمه أو لا يلزمه ويلزم الوكيل؟. فأجاب بقوله: أما الوكيل فلا يلزمه شيء إذ لا تقصير منه ولا تغرير، وأما الموكل فإن لم يقم بينة عادلة على العزل لزمه المسمى في عقد الإجارة وإن أقام بينة عادلة أنه عزل وكيله قبل الاستئجار بأن بطلان الإجارة لكنه قد غرّ الأجير ووقع الحج للميت وإن فسدت الإجارة فحينئذ ينبغي أن يجب على الموكل للأجير أجرة المثل قياساً أولوياً على قولهم إذا لم نجوّز الاستئجار للتطوع وقع الحج عن الأجير ولم يستحق المسمى بل أجرة المثل ويوجه بأن المستأجر غير مضطر للاستئجار بل يحرم عليه ذلك إن علم امتناعه للتطوع فلم يعارض تغريره للأجير شيء فلزمه له مقابل ما أتلفه من منافعه من غير عذر وهو أجرة المثل فكذا في مسألتنا الموكل قد غر الأجير ولم يعارض تغريره شيء فيلزمه له مقابل منافعه التي أتلفها وهو أجرة المثل على أن الحج في مسألتنا وقع لمورث الموكل وفي صورة الأصحاب وقع للأجير نفسه فإذا أوجبوا له مع ذلك أجرة المثل كما قلنا أو نحوه فأولى أن يوجبوها له هنا في صورة السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/181)
وسئل أدام الله النفع بعلومه عن قول الدميري كان النبي قبل أن يهاجر يحج كل سنة اهـ ما مراده فإن الحج فرض سنة خمس ولم يحج إلا سنة عشر حجة الوداع واعتمر أربعاً لكن هل هذه العمر الأربع قبل الفتح أو بعده؟. فأجاب بقوله: المراد بالحج في هذه المقالة على تقدير ثبوتها صورته التي كان أهل الجاهلية مستمرين عليها إلى أن فرض الحج سنة خمس أو ست أو ثمان أو تسع أقوال بل ما من سنة من سني الهجرة إلا قيل إن الحج فرض فيها وفي سنة ثمان أذن لأمير مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه في الحج بالناس فحج بهم، وفي السنة التاسعة أذن لأبي بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس فحج بهم، ثم بعث في أثره عليّاً كرّم الله وجهه ليؤذن بسورة براءة في الموسم، لأن العادة عند العرب أن نبذ العهود ونحوه لا يبلغه عن الكبير إلا رجل من أقاربه وجلدته وأهل بيته فهذا هو حكمة بعث علي رضي الله عنه ولم يكن لعلي دخل في الإمارة تلك السنة، ثم حج بنفسه حجة الوداع وكان معه أكثر أصحابه وكانت عدتهم أكثر من مائة ألف في الأشهر وفيها أنزل عليه وهو واقف يوم الجمعة بعرفة بعد العصر قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} ، (المائدة: 3) فاستشعر من ذلك قرب أجله إذ الكمال علامة على الزوال فودع أصحابه في خطبته بمنى وقال لهم: «بلغوا عني فلعلِي لا ألقاكم بعد هذا العام» وكان كذلك ولا زال يشير إليهم إلى أن وصل وهو راجع للمدينة إلى غدير خم قرب رابع فأمر بجمعهم ثم خطبهم ووصاهم بالاستمساك بالقرآن وبأهل بيته وقال في حق علي: «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، وقال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ثم لما وصل المدينة أقام بها شهر المحرم وشهر صفر فوعك في أواخره فرقي المنبر وخطب وأعلم الناس أن الله خيره بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده لكن لم يفهم من الصحابة الإشارة إلى ذلك إلا خليفته الأكبر أبو بكر الصديق رضي(1/182)
الله عنه وكرّم وجهه فحينئذ أثنى النبي على أبي بكر وأعلمهم بغرر فضائله وأشار لهم إلى أنه الخليفة الحق بعده، ثم أكد ذلك فأمر بسد الخوخ النافذة للمسجد إلا خوخة أبي بكر فسدت كلها حتى خوخة عليّ كرّم الله وجهه، ثم أكد ذلك وزاد في تأكيده إلى أن قرب من التصريح بتقديمه لإمامة الصلاة بعد أن حاولته عائشة وحفصة رضي الله عنهما مراراً على تقديم غيره كعمر رضي الله عنه فلم يلتفت لذلك بل زجرهما وعنفهما، أعني عائشة وحفصة رضي الله عنهما، ثم قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ثم بعد وفاته أجمع الصحابة حتى علي وأهل البيت على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وأما عمره فهي ست عمرة في رجب، وأخرى في شوّال، وأربعة في ذي القعدة أولاها سنة ست وهي عمرة الحديبية فصد عن البيت للصلح الذي وقع فيها فتحلل ورجع ثم عاد في القعدة وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة ومن قال ك الرافعي إنه أحرم بهذه من الجعرانة فقد غلط ثم جاء ودخل مكة وتسمى عمرة القضاء والقضية ولما قضوا أفعال عمرتهم خرجوا منها بعد ثلاثة أيام ثالثها عمرة الجعرانة سنة ثمان فإنه أذن له في فتح مكة ففتحها الله تعالى عليه في رمضان ثم ذهب إلى غزوة حنين والطائف فنصره الله عليهم ورجع بغنائمهم إلى الجعرانة وأقام بها ثم خرج منها ليلاً محرماً بالعمرة ورابعها العمرة التي أدخلها على حجه في حجة الوداع وهو من خصوصياته كما قرر في محله، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/183)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه قالوا في باب الحج وأهمل بعضهم شرطاً خامساً للحج وهو سعة الوقت لتمكنه من السير ما المراد بهذا الوقت هل هو مدة السنة بأن يبقى منها قدر ما يصل به إلى مكة فيشكل بمن بينه وبين مكة فوق سنة أو فوق السنة والوقت واسع. وقال بعضهم: أن يبقى من الزمان عند وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير بأن لا يحتاج أن يقطع كل يوم أكثر من مرحلة ما المراد بهذا الزمان ولا يخفي الإشكال السابق؟. فأجاب بأنه لا إشكال في ذلك لوضوح المراد منه وهو أنا نعتبر في وجوب الحج حتى تجب المباشرة ويستقر في الذمة ويقضي عنه بعد موته أن يجد الزاد والراحلة بشروطهما وقت خروج قافلة أهل بلده حقيقة أوتقديراً، وقد بقي بينهم وبين إدراك وقوف عرفة زمن يصلون فيه لو ساروا السير المعتاد بحيث لا يقطعون أكثر من مرحلة كل يوم فمن بين بلده ومكة مسافة شهر أو سنة أو عشر سنين أو أكثر أو أقل يعتبر في وجوب الحج عليه أن يتمكن منه بأن توجد فيه شروطه أول تلك المسافة فإذا كان بينهما ثلاث سنين مثلاً وتمكن في زمن ثم مضى عليه وهو متمكن ثلاث سنين ثم مات حكمنا بوجوب الحج عليه لأنه لو سافر أول ما تمكن إدراك الحج فلما ترك إلى أن مات ولم يحج علمنا أنه مقصر، وحكمنا بفسقه في هذا المثال من أول أوقات التمكن إلى موته لأن الفرض أنه لم يحصل له تمكن قبل ذلك فشمله قولهم يحكم بفسقه من آخر سني التمكن، أي من آخر أوقاته منها والثلاث في مثالنا بمنزلة أواخر شوّال بالنسبة لأهل مصر ونحوهم فاتضح الجواب عن جميع ما في السؤال وأنه لا إشكال فيه بوجه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/184)
وسئل نفع الله به عن مكي خرج لزيارة رسول الله فزار ثم وصل ذا الحليفة فهل يلزمه الإحرام منها لأن من الغالب أن المكي المقيم بمكة يحج كل سنة فكان كقاصد مكة للنسك أو لا يلزمه ذلك؟. فأجاب بقوله: في ذلك تفصيل لا بد منه لأنه الذي دل عليه كلام النووي في مجموعه في مواضع حيث قال إذا حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر كزيارة أو رسالة أو كان مكياً سافر فأراد دخولها عائداً من سفر ونحو ذلك لم يلزمه الإحرام بحج ولا عمرة وكذا لو أراد دخول الحرم دون مكة بلا خلاف كما صرح به جميع الأصحاب اهـ ملخصاً. وقال أيضاً: لو جاوز الميقات مريداً حج السنة الثانية وأقام بمكة وأحرم منها فيها ففي وجوب الدم وجهان أو حج الأولى فحج الثانية فلا دم لأنه إنما تجب إذا حج من عامه اهـ. وقال أيضاً: ولو مر مسلم بالميقات مريداً للحج في السنة الثانية ففي وجوب الدم الوجهان كالكافر اهـ. والمرجح في الكافر لزوم الدم فيستفاد منه أن الأرجح من الوجهين المطلقين في العبارة الثانية لزوم الدم والمساواة في الخلاف وإن لم يلزم منها الاتحاد في الترجيح لكنها ظاهرة فيه إذا تقرر ذلك، فيستفاد منه أن من مرّ بالميقات مريداً نسكاً ولو في سنة آتية يلزمه الإحرام بنسك من الميقات أما حج إن كان في وقته أو عمرة، وإنما لزمه الإحرام بما لم ينوه لأنه بإرادته للنسك الآتي عند مجاوزة الميقات صار قاصداً الحرم بما وضع له، فلزمه أن لا يجاوز حريمه وهو الميقات إلا بالتلبس بما نواه إن أمكن وإلا فبنظيره رعاية لتعظيم الحرم الذي وجب الإحرام من الميقات لأجله ما أمكن وبهذا يندفع ما يقال قد لا يفعل النسك إلا في الذي نواه فلا يلزمه دم إذ شرط لزومه أن يفعل ما قصده عند المجاوزة ووجه اندفاعه أنهم لا ينظرون للميقات إلا بالنسبة للزوم الدم، وأما بالنسبة للعصيان بالمجاوزة فلا نظر إلا إلى نيته فحسب كما هو ظاهر من كلامهم وبما تقرر المأخوذ من مجموعي(1/185)
عبارتي المجموع الأخيرتين مع ما ذكره في الأولى في المكي من أنه حيث لم يقصد النسك لا يلزمه الإحرام مع العلم بأنه سيحج غالباً يعلم أن الحق في المكي المذكور في السؤال أنه إن كان عند الميقات قاصداً نسكاً حالاً أو مستقبلاً لزمه الإحرام من الميقات بذلك النسك أو بنظيره وإلا أثم ولزمه الدم بشرطه وإن كان عند الميقات قاصداً وطنه أو غيره ولم يخطر له قصد مكة لنسك لم يلزمه الإحرام من الميقات بشيء وإن كان يعلم أنه إذا جاء الحج وهو بمكة حج أو أنه ربما خطرت له العمرة وهو بمكة فيفعلها لأنه حينئذ ليس قاصداً الحرم بما وضع له من النسك وإنما هو قاصده لأمر آخر، واحتمال وقوع ذلك منه بعد لا نظر إليه بخلاف ما إذا قصده عند المجاوزة لنسك حاضر أو مستقبل فإنه قاصده لما وضع له فلزمه تعظيمه به أو بنظيره لوجود المعنى الذي وجب الإحرام لأجله من الميقات فيه فتدبر جميع ما ذكرته لك في هذه المسألة فإنه مهم، ولقد زل فيه نظر من لم يطلع على شيء من عبارات المجموع التي ذكرتها فأفتى بما ظهر له من غير تأمل.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/186)
وسئل رضي الله عنه عما إذا أوصى بحجة من بلده وجاوز وارثه الميقات واستأجر عنه من مكة فهل الدم والمحطوط من الأجرة على الوارث أو على المستأجر؟. فأجاب بأن الوارث لما استأجر من مكة فإن شرط الإحرام منها أو من دون ميقات الميت الشرطي أو الشرعي فسدت الإجارة وليس للأجير إلا أجرة المثل والدم على الوارث وإن لم يشرط عليه ذلك فالدم والحط على الأجير لتقصيره بناء على ما عليه كثيرون أو الأكثرون أن العبرة بميقات المحجوج عنه لا المباشر، وقال آخرون العبرة بميقات المباشر كمكة للمكي فعليه لا دم ولا حط مطلقاً إلا أن عين الموصي في وصيته أنه يحرم عنه من موضع معين قبل مكة فإنه يتعين اتفاقاً ومتى خالفه الأجير لزمه الدم والحط إن صحت الإجارة وإلا لزمه الدم وأجرة المثل ما لم يشرط الوارث عليه ذلك وإلا فالدم عليه كما تقرر؟.
وسئل عما إذا مات من لم تلزمه حجة الإسلام قبل أن يحج ولم يوص بها فحج عنه وارثه هل يقع عنده أم لا؟. فأجاب بأن المعتمد أنه يقع له كما حررته مع استيعاب ما فيه من كلام الأصحاب في حاشية إيضاح النووي لأن هذا ليس محض نسك نقل حتى يقال بامتناعه، لأن الفرض أنه لم يوص به وإنما هو حج إذا وقع يقع فرضاً إذ لا يمكن أن يقع عن الميت ولا عن غيره حج وعليه حجة الإسلام فلما إن كان هذا يقع عن حجة الإسلام خرج عن مشابهته النفل نظراً لهذه الحيثية توسيعاً لتحصيل حجة الإسلام لعظم نفعها وإن لم يشابهه من حيثية عدم وجوبه على الوارث وإن خلف الميت تركة.(1/187)
وسئل عما لو قال ألزمت ذمتك حجة عن فلان بنفسك هل يصح العقد أم لا؟. فأجاب بأن المعتمد ما في الروضة وأصلها هنا عن البغوي وغيره من صحة ذلك وأنه لا يستنيب فتكون إجارة عين، وقول الإمام يبطل ضعيف وإن تبعاه في الإجارة ومال إليه السبكي وذلك لأن الحج قربة عظيمة يتعين الاحتياط في أدائها ما أمكن وأغراض الناس في عين من يحصل هذه القربة متفاوتة تفاوتاً كثيراً وحينئذ فلما عقب إلزام ذمته بقوله لتحج بنفسك علمنا أنه لم يرد حقيقة الإجارة الذمية مطلقاً وإنما أراد تعلقه بعينه لما علمت من أن الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص وإن وجدت العدالة في الكل وبقي في ذلك كلام مهم بسطته في شرح العباب.
وسئل نفع الله به عمن فاته الوقوف بعرفة وقلتم يلزمه التحلل هل يحتاج إلى نية التحلل قياساً على المحصر أم لا يحتاج إلى نية وهل في المسألة نقل أم لا فإن كان ثم نقل عن أحد فيها فبينوه؟. فأجاب بقوله: عبارة شرحي للعباب كغيره ويتحلل من فاته الوقوف بأعمال العمرة وقضيته أنه لا يحتاج لنية العمرة وأنه لا بد من نية التحلل وهو كذلك انتهت ووجهه اتفاق الأصحاب على أن هذه ليست عمرة مستقلة كما حققته في الشرح المذكور وبما تقرر علم أن في المسألة نقلاً وأن لذلك وجهاً واضحاً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/188)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: لم قلتم بسقوط الدم عن القارن بعوده إلى الميقات قياساً على المتمتع مع أن المتمتع لم يربح أحد العملين والقارن ربحه فكان القياس لزوم الدم له ما لم يعد للميقات ويكرر الأعمال فإنه حينئذ لم يربح شيئاً فيكون نظير المتمتع؟. فأجاب بقوله: لم يقتصروا في إيجاب الدم على القارن بأنه من حيث القياس على المتمتع فقط حتى يرد ما ذكر وإنما ضموا إلى ذلك الاستدلال بأنه ذبح عن نسائه البقر وكن قارنات فدل على أن الدم الواحد كاف في القران مع الترفه فيه بشيئين تركه الميقات وترك أحد النسكين وحينئذ فكل من هذين إذا وجد غير منظور إليه على انفراده وإلا لم يجبرهما دم واحد وإذا لم ينظر لكل على انفراده فإما أن ينظر لهما معاً أو لأقواهما لكنهم آثروا النظر لأقواهما وهو ربح الميقات لأنه العلة الصحيحة في إيجاب دم التمتع فمن ثم جعلوا التمتع أصلاً للقران في هذا كما أنه أصل له في سقوط دمه إذا كان فاعله من حاضري الحرم على أن قياس الدون حجة وهو ما كانت العلة في أصله مظنونة مع احتمال غيرها كقياس التفاح على البر بجامع الطعم مع أنه يحتمل أن العلة الكيل أو صلاحية الادخار أو غيرهما وما هنا كذلك فإن كون العلة في التمتع ربح الميقات مظنونة لاحتمال أنها تمتعه بمحظورات الإحرام كما قيل به.
وسئل نفع الله به هل يشترط في سقوط الدم بالعود إلى الميقات قصد العود لأجل سقوط الدم أو يكفي بمطلق النية ولو أشغل كما في الوقوف؟. فأجاب بقوله: يكفي هذا الأخير كالوقوف كما صرح به القاضي و البغوي حيث قالا: لو أحرم المكي بالعمرة من مكة وعاد لميقاتها لشغل لا لأجل قطع المسافة من الميقات سقط الدم زاد ابن الرفعة تخريجه على الوقوف فافهم أنه مثله في أنه لا يتأثر بالصارف ووجهه ظاهر وهو أن القصد قطع المسافة محرماً.(1/189)
وسئل نفع الله به عن إحرام مصري مثلاً جاوز رابغ مريداً النسك من رابغ ثم عاد من عسفان إلى رابغ محرماً هل يسقط عنه الدم بذلك أو يحتاج بعد عوده من عسفان إلى رابغ ثم رجوعه ودخوله مكة إلى عوده إلى عسفان كما أفتى به بعضهم؟. فأجاب بقوله: الصواب الأول والإفتاء بالثاني لا وجه له، لأن القصد قطع المسافة من الميقات إلى مكة محرماً وهو حاصل بعوده من عسفان للميقات وإن لم يعد من مكة إلى عسفان.
وسئل نفع الله به عمن مر بميقاته مريداً للنسكين بلا إحرام إلى أن دخل إلى مكة ثم أحرم بهما فيها فهل يكفي لإسقاط الدم عوده للميقات مرة أو مرتين؟. فأجاب بقوله: الوجه الاكتفاء بالعود مرة لأن عمرة القارن منغمرة في حجه صحة وفساداً وغيرهما كما صرحوا به.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل فسح الله في مدته عمن أحرم وفي يده صيد مرهون أو أحرم الولي عن الصبي وفي ملك الصبي صيد ما الحكم؟. فأجاب بقوله: الذي رجحته في شرح العباب أنه لا يلزمه إرسال صيد بملكه لكن تعلق به حق لازم كالرهن لأنه بتعلق الحق به صار عاجزاً عن إرساله وإن أيسر بقيمته ويفرق بين الإحرام والعتق حيث يصح من الراهن الموسر وتلزمه القيمة بأن الشارع متشوف للعتق أكثر من غيره فلا يقاس به غيره. قال الزركشي : ولو كان في ملك الصبي صيد فهل يلزم الولي إرساله ويغرم قيمته كما يغرم النفقة الزائدة بالسفر فيه احتمالان اهـ، والذي يتجه أنه يلزمه إرساله ويغرم قيمته لأنه الذي ورطه فيه كما يلزمه جميع الدماء التي لزمت الصبي بسبب الإحرام لأنه الذي ورّطه فيه.(1/190)
وسئل رضي الله عنه عمن وكل آخر في استئجار من يحج عن ميته فاستأجر الوكيل وسافر الأجير للحج وعاد وطلب أجرته فقال الموكل كنت عزلت وكيلي قبل أن يستأجرك وأقام بذلك بينة فهل تلزمه الأجرة لإلجائه الوكيل لذلك أو لا فيلزم الوكيل لإلجائه الأجير لذلك؟. فأجاب بقوله: لا يلزم واحداً منهما شيء لأن الحج يقع للأجير حينئذ فلم يقع سعيه عبثاً بل حصل له في مقابلته وقوع الحج له وهو فائدة أي فائدة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/191)
وسئل فسح الله في مدته عن قول الدميري رحمه الله كان قبل أن يهاجر يحج كل سنة اهـ، ما مراده فإن الحج فرض سنة خمس ولم يحج إلا سنة عشر حجة الوداع واعتمر أربعاً وهل هذه العمر الأربع قبل الفتح أو بعده؟. فأجاب بقوله: ما قاله الدميري مقالة لبعض العلماء والذي صح أنه لم يحج قبل الهجرة إلا المرتين اللتين بايع فيهما الأنصار عند العقبة وأما ما عدا ذلك فهو محتمل ثم المراد أنه كان يحضر مع قريش مواسم حجهم الذي كانوا يأتون بصورته وكان يعلن فيهم النداء برسالته والدعاء به إلى الله تعالى ووجوب طاعته فتسميته ذلك حجاً إنما هو باعتبار الصورة للإجماع على أنه لم يفرض قبل الهجرة، وأما بعد الهجرة فوقع الخلاف فيه فقيل فرض أولى سنيها وقيل ثانية سنيها وقيل ثالثتها وقيل رابعتها وقيل خامستها وعليه جماعة من أصحابنا وغيرهم وقيل سادستها وهو المعتمد وقيل سابعتها وقيل ثامنتها وقيل تاسعتها وقيل عاشرتها، والمراد بعمره الأربع التي صحت عنه من غير نزاع عمرة الحديبية وهي التي أحرم بها هو وأصحابه من ذي الحليفة ثم لما وصلوا الحديبية صده عنها أهل مكة فتحلل هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين في الحديبية قرب الحرم أو بعضها فيه لما وقع الصلح أنهم يرجعون لئلا تعير العرب أهل مكة بدخولهم لها قهراً عليهم ثم يأتون السنة القابلة للقضاء فرجعوا وتركه للقتال حينئذ كان تواضعاً وتفويضاً لأمر الله تعالى حتى يمن عليه بالفتح الأكبر الذي هو فتح مكة فكان ذلك الصلح سبباً لذلك فإنهم نقضوا بعض ما فيه من الشروط فعلم حينئذ أن ذلك علامة على الإذن له في إغزائهم والتمكين منهم فقصدهم وألقى الرعب في قلوبهم إلى أن دخل مكة في غاية من العزة والعظمة له ولأصحابه وأهلها في غاية الخوف والمذلة حتى آمنهم النبي ثم لم يخرج من عندهم وليس فيهم إلا من هو مسلم أو مسالم، وكان ذلك علامة على قرب أجله كما فهمه من قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ، (النصر: 1)(1/192)
إلى آخر السورة. ولما رجع إلى المدينة من الحديبية رجع في السنة السابعة إلى قضاء عمرته فأحرم بالعمرة من ذي الحليفة أيضاً ثم دخلوا مكة وتحللوا من نسكهم ثم خرجوا منها بعد ثلاثة أيام كما وقع الشرط عليه في الصلح، فهذه هي العمرة الثانية. وأما العمرة الثالثة فهي عمرة الجعرانة سنة فتح مكة فإنه لما فتح مكة في رمضان سنة ثمان خرج منها إلى حرب هوازن والطائف ثم جاء إلى الجعرانة لقسم الغنائم فأقام بها أياماً ففي ليلة ثامن عشر ذي القعدة سنة ثمان خرج هو وبعض أصحابه محرمين بالعمرة حتى دخلوا مكة وتحللوا ثم خرجوا إلى أن جاؤوا الجعرانة وأصبح فيها كبائت ولم يعلم بعمرته إلا جمع من أصحابه، ولذا أنكرها بعضهم ثم رجع هو وأصحابه إلى المدينة ولم يحج تلك السنة ليعلم الأمة أن الحج واجب على التراخي وأمر في هذه السنة على الحج أمير مكة وهو عتاب بن أسيد رضي الله عنه ثم أمر على الحج في السنة التاسعة أبا بكر رضي الله عنه ثم أرسل بعده علياً رضي الله عنه ليؤذن هو وجمع في الناس في الموسم بمنى بسورة براءة وحكمته أنه جرت عادة العرب أنه لا يبلغ عنهم إلا من هو من جلدتهم وقرابتهم ثم في سنة عشر حج بنفسه هو وأصحابه فأحرم من ذي الحليفة بالحج ثم بالعمرة فكان أوّلاً مفرداً ثم صار قارناً فهذه هي عمرة الأربع وكلها كانت في القعدة، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه اعتمر في رجب وأنكرت ذلك عليه عائشة رضي الله عنها وغلطته فيه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/193)
وسئل نفع الله بعلومه عن قولهم من شرائط الحج أمن الطريق فهل هو موجود أو لا؟. فأجاب بقوله: نعم هو موجود في غالب الجهات كما هو جليّ، إذ المراد به الأمن ظناً لا يقيناً أمناً لائقاً بالسفر لا بالحضر على ما يخلفه أو يستصحبه لكن مما يحتاجه لسفره فقط دون نحو خطير معه لتجارة أو نحوها فلا يشترط الأمن عليه لعدم الضرورة إلى استصحابه ومن ثم لو لم يمكنه تركه في الحضر لعدم أمنه اشتراط الأمن عليه في السفر لاضطراره لاستصحابه حينئذ.(1/194)
وسئل رضي الله عنه عما إذا مات العامل المجاعل على حجة وعمرة وزيارة بعد الإحرام وقبل فراغ الأعمال فهل يستحق شيئاً من الجعل كالإجارة أو لا؟ وهل يسقط الجعل على ما فعل من الأركان والأعمال أو لا؟ وكيف صفة التقسيط هل هو كالإجارة أو لا؟. فأجاب بقوله: ظاهر كلامهم بل صريحه في باب الجعالة أنه لا يستحق شيئاً أصلاً، وذلك لأنهم شرطوا فيما إذا مات العامل قبل الفراغ أن يتمم الوارث قالوا وإذا تمم لم يستحق إلا قسط ما عمله مورثه دون ما عمله هو لانفساخ الجعالة بموت العامل، وقد علم أن البناء على عمل الغير في النسك متعذر فتتميم الوارث متعذر ويلزم من تعذره عدم استحقاقه لقسط ما عمله مورثه، إذ الاستحقاق في الجعالة لكونها عقداً جائزاً من الجانبين إنما هو بفراغ العمل لا ببعضه إلا أن وقع مسلماً للمالك وبهذا الذي قررته اتضح الفرق بين الجعالة والإجارة، وما أحسن قول القمولي في جواهره ولو مات العامل المعين في أثناء العمل كما لو مات في طريق الرد فإن رده وارثه إلى المالك استحق من الجعل المعين بقدر عمل مورثه دون عمله وإن لم يرده إليه لم يستحق شيئاً لعمل مورثه على الصحيح ثم قال هو وغيره ما حاصله لا يستحق العامل شيئاً من الجعل إلا بالفراغ من العمل نعم لو مات الصبي أثناء التعليم استحق أجرة ما عمل وكذا إذا تلف الثوب الذي خاط بعضه أو الجدار الذي بنى بعضه بعد تسليمه للمالك وكذا لو منع الصبي أبوه من التعليم أي لوقوع العمل مسلماً بقبض المالك للثوب والجدار وبتعليم الحر مع عدم تقصير من العامل وبهذا ظهر إيضاح الفرق بين هذه الصورة وصورة السؤال لأن بعض النسك لم يقع مسلماً لمن وقعت الجعالة له كما هو واضح فتأمله.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/195)
وسئل نفع الله به عن رجل أحرم بنسك وبه سلس بول لا يستمسك إلا بالشد فشد ذكره حرصاً على طهارته المعتبرة شرطاً لطوافه وصلاته وصوناً لبدنه وإزاره عن نجاسته سيما فيما تقدم من عبادته فهل عليه فدية بذلك أم لا؟ وإذا قلتم لا فأفيدونا الجواب عما استدل به شافعي من كلام الأصحاب في إفتائه بنفي ذلك في ذلك زاعماً أن انتفاءها في ذلك أولى من انتفائها فيما استدل به من كلامهم السابق من ذلك ما جوّزه للمحرم من لبس الخف بشرطه قاصدين بذلك حسم الأذى عن القدم كما دلت عليه السنة الشريفة والعبادة بذلك أولى إذ لأجلها خلق المكلف ومنه لبس السروال بشرطه والقصد به ستر العورة بل فيه زائد عليها وبأن السروال قصد به الحفظ على فاقد الطهورين دون فاقد السترة وكما وجب الستر خارج الصلاة حرم التضمخ بالنجاسة خارجها وإن قل وقوعه على أنه لو لم يجد إلا ساتر ذكره وجب ولا فدية إذ لم يعمل بها في ساتر العورة، ففيما ذكر أولى أخذاً من مزيد الاعتبار المذكور ومنه شد المنطقة والهميان على وسطه والقصد منه تيسر أمر السفر سيراً وحلاً وارتحالاً ومصلحة الدين أعلى وقد أعطوا بعض العوض حكم كله كما في ستر بعض الرأس بنحو عصابة وكما في حلق بعض شعر الرأس وإنما وجب الفدية في البعض المذكور لأنه في محل الإحرام وفي معنى الستر المنهي عنه مع أن الحلق المذكور إتلاف بخلاف ما نحن فيه على أنهم لم يصرحوا بتعين الوسط للهميان وإن كانت العادة كذلك بل ذكروه بما يحتمل المثال والمثال لا يخصص فيصدق بربطه على الذكر والاحتجاج بمفهوم المجرور مختلف فيه بين العلماء، وقد صرح أصحاب مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ وعنهم بانتفاء الفدية فيما ذكر في السؤال مع احتياطهم في هذا الباب بما لم يحتط الشافعية ـ رضى الله تعالى عنه ـ م ومنه تجويزهم إزالة ما ضر من الشعر داخل الجفن مع إنه إتلاف لدفع الضرر المذكور وغير ذلك مما ذكروه في أبواب الفقه مما لا يخفى وإذا تحمل ما يخالف ظاهره ما تقرر من(1/196)
نحو كيس اللحية ولف شيء على الساق واليد وربطه من كل ما أحاط بالبدن على وجه الستر عرفاً على الأعضاء الظاهرة كما يرشد إليه عد النبي ما لا يلبسه المحرم حين سئل عما يلبس وأمثلتهم ـ رضى الله تعالى عنه ـ م دون الباطنة كاللسان والذكر بل لإزالة ما كان داخل العين كما مر، ولأن الشعوثة والغبرة المقصود بهما ترك الترفه المستفاد ذلك من قوله : «المحرم أشعث أغبر» إنما يلاقيان الظاهر فكان الترفه من حيث اللباس خاصاً به ولئن سلمنا أن لا دلالة في ذلك لذلك فحسبنا جهل السائل بحكم المسؤول عنه بدليل استفتائه هذه عبارة المفتي المذكور إفادة مسايرة لجوابه عن جميع جزئياته بحيث لا يخلو عنه من الجواب لفظة؟. فأجاب أفاض الله علينا من مدده بقوله: لا فدية عليه بالشد المذكور لأمور منها قولهم كل محظور في الإحرام أبيح للحاجة فيه الفدية إلا نحو السراويل والخفين لأن ستر العورة ووقاية الرجل من النجاسة مأمور بهما لمصلحة الصلاة وغيرها فخفف فيهما اهـ، ومنها قولي في حاشية الإيضاح لو لبس عمامة لضرورة واحتاج لكشف كل رأسه للغسل من الحدث الأكبر أو لبعضه لنحو مسحه في الوضوء فالذي يظهر أن الفدية لا تتعدد بذلك وإن اختلف الزمان والمكان أخذاً من قولهم لو فقد الإزار جاز له لبس السراويل ولا دم عليه ووجهوه بأن الأصل في مباشرة الجائز ففي الضمان وأيضاً فإيجاب الكشف عليه يصيره مكرهاً عليه شرعاً، وقد صرحوا بأن الإكراه الشرعي كالإكراه الحسي فكما أنه لو أكره هنا حساً على الكشف لا يتعدد كما هو ظاهر، فكذا إذا أكره عليه شرعاً فإن قلت قد جوّزوا له اللبس لنحو حر ومرض مع الدم قلت ذاك فيه ترفه وحظ للنفس وهذا ليس فيه شيء منهما وإنما هو لأجل تحصيل الواجب المتوقف عليه صحة عبادته فهو بستر العورة بالسراويل أشبه اهـ، وهذا كله يأتي في صورة شد السلس كما هو واضح، ومنها قول المجموع. قال أصحابنا: لو كان على المحرم جراحة فشد عليها خرقة فإن كانت في غير الرأس(1/197)
فلا فدية وإن كانت في الرأس لزمته الفدية لأنه يمتنع في الرأس المحيط وغيره اهـ. قال بعضهم: والمراد بالشد هنا هو مجرد اللف لا العقد وإن كان هو المراد من الشد الواقع في نحو شد الهميان والخيط على الإزار اهـ. وفي حاشيتي للإيضاح عقب ذلك وهو متجه وإن لم يحتج للعقد للاستمساك على الجراحة وإلا فالوجه جواز العقد أيضاً لكن مع الفدية ثم المراد بالعقد عقد الخرقة نفسها أما لو شد عليها في غير الرأس خيطاً وربطه فإن ذلك لا يسمى عقداً فلا يحرم ولا فدية فيه اهـ. وبه يعلم أن المراد بالشد الذي ذكرناه أوّلاً هو عقد الخرقة المتعين لدفع النجاسة بأن لم يجد خيطاً يشده عليها، أما لو وجد ذلك فلا يجوز له العقد إذ لا ضرورة إليه حينئذ لأن دفع النجاسة ممكن بشد الخيط والفرق بينه وبين العقد أن العقد يصير المعقود مستمسكاً بنفسه فوجد فيه حقيقة الإحاطة الممتنعة ولا كذلك المشدود عليه خيط لأنه غير مستمسك بنفسه فلا يسمى محيطاً، ويؤيد ذلك قولهم يحرم عليه شق إزاره ولف كل نصف على ساق إن عقده كما في الروضة وأصلها، وقول المجموع وشدّه المراد به عقده لما تقرر من الفرق بين الشد والعقد ومن ثم عللوا الحرمة بقولهم لأن المعقود يشبه المحيط من حيث إنه مستمسك بنفسه، والحاصل أنه لا فدية عليه بالشد مطلقاً ولا بالعقد المتعين لدفع النجاسة وأنه متى أمكنه الشد بنحو خيط أو لف الخرقة من غير عقد لم يجز له العقد ولزمته به الفدية، وفيما استدل به السائل مما لا مرجع لما قلناه مناقشات يضيق عنها القرطاس مع أنه لا حاجة إليها بعد تأمل ما قررناه من كلام الأصحاب وما أخذ منه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/198)
وسئل رضي الله عنه عن رجل له ولد عاقل بالغ رشيد فأراد الولد التردد إلى الفقهاء لقراءة العلم واستعارة الكتب ونحو ذلك مما لا يستغني عنه طالب العلم، وكذا الخروج لقضاء حوائجه أو زيارة الصالحين أو نحو ذلك من القرب فمنعه الوالد من ذلك وأمره بالقعود في البيت وعلل ذلك بأنه يخشى عليه من صحبة الأشرار والولد لا يرتاب في حاله أنه يكره ذلك ويحترز منه فهل للولد ذلك أم لا؟ وإذا أراد الولد السفر لطلب العلم لما لا يخفى أن معاشرة الأهل ونحوهم تخل به والوالد تشق عليه المفارقة فهل للولد ذلك أم لا؟ وإذا أراد الولد التقشف والزهد في الدنيا وغيرها فكره الوالد ذلك فهل للولد ذلك أم لا؟ وإذا أمره والده بأمر مباح لا يتعلق بالوالد فهل يلزم الولد امتثاله وإذا أمره بما فيه خلاف بين الفقهاء وكانت عقيدة الولد في ذلك مخالفة لعقيدة والده فهل يلزمه امتثاله اعتباراً بعقيدة الوالد أم يحرم اعتباراً بعقيدة نفسه فإن قلتم يجب فهل يفعله مع اعتقاد خلافه أم يلزمه اعتقاد حل ذلك وما حد البر والعقوق؟. فأجاب بقوله: إذا ثبت رشد الولد الذي هو صلاح الدين والمال معاً لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه ديناً أو دنياً ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب مع العلم بصلاح دين ولده وكمال عقله. نعم إن كان في البلد فجرة يأخذون من خرج من المرد إلى السوق مثلاً قهراً عليهم تأكد على الولد إذا كان كذلك أن لا يخرج حينئذ وحده لنهيه عن الوقوع في مواطن التهم فأمر الوالد له في هذه الحالة بعدم الخروج مع الخوف يعذر فيه فلا يجوز للولد مخالفته إذا تأذى الوالد بذلك تأذياً ليس بالهين ولم يضطر الولد للخروج ولا يجوز للأمرد كما يعلم مما يأتي في قطع صلاة النفل السفر ولو للعلم إلا مع نحو محرم ورجاء حصول تعلم أو زيادة فيه، وحينئذ لا نظر لكراهة الوالد حيث لا حامل عليها إلا مجرد فراق الولد، لأن ذلك حمق منه وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه(1/199)
أخذاً ما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد ومنع الوالد له أن ذلك إن كان لمجرد شفقة الأبوة فهو حمق وغباوة فلا يلتفت له الولد في ذلك وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره ومحله أيضاً حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل لأني أقيد حل بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين بما إذا كان قد يعذر عرفاً بتأذيه به، أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق وحدة حمق وقلة عقل فلا أثر لذلك التأذي وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به ولم يقولوا به، فإن قلت لو ناداه وهو في الصلاة اختلفوا في وجوب إجابته والأصح وجوبها في نفل إن تأذى التأذي المذكور وقضية هذا أنه حيث وجد ذلك التأذي ولو من طلبه للعلم أو زهده أو غير ذلك من القرب لزمه إجابته، قلت: هذه القضية مقيدة بما ذكرته إن شرط ذلك التأذي أن لا يصدر عن مجرد الحمق ونحوه كما تقرر، ولقد شاهدت من بعض الآباء مع أبنائهم أموراً فيها غاية الحمق التي أوجبت لكل من سمعها أن يعذر الولد ويخطىء الوالد فلا يستبعد ذلك، وبهذا يعلم أنه لا يلزم الولد امتثال أمر والده بالتزام مذهبه لأن ذاك حيث لا غرض فيه صحيح مجرد حمق ومع ذلك كله فليحترز الولد من مخالفة والده فلا يقدم عليها اغتراراً بظواهر ما ذكرنا بل عليه التحري التام في ذلك والرجوع لمن يثق بدينهم وكمال عقلهم، فإن رأوا للوالد عذراً صحيحاً في الأمر أو النهي وجبت عليه طاعته وإن لم يروا له عذراً صحيحاً لم يلزمه طاعته لكنها تتأكد عليه حيث لم يترتب عليها نقص دين الولد وعلمه أو تعلمه، والحاصل أن مخالفة الوالد خطيرة جداً فلا يقدم عليها إلا بعد إيضاح السبب المجوّز لها عند ذوي الكمال وقد علم مما قررته حد البر والعقوق فتأمل ذلك فإنه(1/200)
مهم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عمن استأجر من يحج عن ميت فهل يجب على الأجير إذا أحرم أن ينوي الإحرام عن المستأجر له أو يكفيه الإطلاق. قال بعضهم: إن كانت الإجارة في الذمة فلا بد من النية للمستأجر له وإن كانت إجارة عين وقد وقعت صحيحة في وقتها فلا يشترط بل الشرط أن لا يصرف الإحرام لغير المستأجر له وإن وقعت الإجارة فاسدة فلا بد من النية ليقع عن المستأجر له، قال: وقد يشكل على الأوّل ما ذكروه في خلع الزوجة فيما إذا وكلت الزوجة من يخالف عنها إن الوكيل له أن يخالع عن نفسه فهل ما ذكره من قوله الظاهر أنه إن كانت الإجارة في الذمة فلا بد من النية للمستأجر له، وإن كانت إجارة عين وقد وقعت صحيحة فلا يشترط بل الشرط أن لا يصرف الإحرام لغير المستأجر له وإن وقعت فاسدة الخ، فهل كلامه هذا كله صحيح أم لا؟ وهل استشكاله على ظاهره أم يمكن الفرق بين مسألة الوكالة ومسألة الإجارة فإن قلتم بصحة كلام القائل بذلك الذي نقله عنه في غنية الفقير في أحكام الأجير فلو لم تكن إجارة بل جعالة فهل الحكم فيها كما في الإجارة أفتونا وقد نقل في الكتاب المذكور آنفاً أن الماوردي قال بعد ذلك بقليل تعيين من يؤدي عنه النسك شرط في أجزاء الحج دون صحة العقد فإن ذكره في العقد لم يحتج إلى ذكره فيما بعد وإن لم يذكره في العقد صح وليس للأجير الإحرام إلا بعد تعيين المحجوج عنه الخ والمسألة واقعة لبعض اليمنة وإذا قيل بوجوب النية عند الإحرام فنسي فهل يكون النسيان عذراً أم لا؟ وهل هذا من خطاب الوضع فلا يؤثر فيه النسيان أو من خطاب التكليف فيؤثر فيه النسيان؟. فأجاب بقوله: ما ذكره بعضهم من التفصيل المذكور اعترضه غيره بأن الوجه أنه لا بد أن ينوي الإحرام عن المستأجر له في الجميع وهو اعتراض واضح، ويوجه بأن الأجير في إجارة العين والذمة الصحيحة والفاسدة لو صرف الحج لنفسه وقع له فإذا أطلق(1/201)
تعارض أصل وقوع العبادة من المباشر، وأصل وقوع العمل بعد عقد الإجارة عن المستأجر له ولا مرجح فوجب التمييز بالنية مطلقاً وبهذا يعلم أن ما ذكره من الإشكال ليس في محله لأن الوكيل في مسألة الخلع كماله أن يخالع عن نفسه كذلك للأجير أن يحج عن نفسه كما تقرر فهماً على حد واحد وإن من قال بأن الوكيل في مسألة الخلع لا يحتاج لنية له أن يفرق بين هذا وما نحن فيه بأن الوكيل لم يتعارض في حقه أصلان حتى يحتاج للتمييز بالنية بخلاف الأجير هذا ما يتعلق بنية الأجير، وأما ما يتعلق بمعرفة المحجوج عنه الذي كلام الماوردي المذكور فيه، ففي اشتراط ذلك خلاف طويل بين الأصحاب وحاصل المعتمد منه أنه لا بد من تمييزه في النية بوجه مّا، وبهذا يجمع بين من أطلق اشتراط المعرفة ومن أطلق عدم اشتراطها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل نفع الله به هل تصح النيابة في الطواف والقراءة؟. فأجاب بقوله: لا تصح النيابة في الطواف استقلالاً ولا في القراءة إلا ممن استؤجر لهما بشرطه.
وسئل نفع الله به عمن أحرم بالحج تطوعاً ثم مات وقد بقي عليه نحو طواف الركن فهل يجب القضاء من تركته؟. فأجاب بقوله: لا قضاء عليه، لأن موجبه الفوات أو الإفساد ولم يوجد واحد منهما هنا وتقصيره بتأخير نحو الطواف لو فرض أن فيه تقصيراً لا يوجب القضاء كما هو ظاهر.(1/202)
وسئل نفع الله به بما لفظه هل الأفضل لشخص صلى صلاة الصبح في هذا الحرم الشريف أن يمكث مكانه ويشتغل بالذكر إلى أن تطلع الشمس كما في غير هذا المسجد من سائر المساجد لما علم من الفضل الحاصل لمن اشتغل بالذكر بعد صلاة الصبح وهو مكانه إلى أن تطلع الشمس أم الأفضل له الاشتغال بالطواف لأنه انتقل إلى عبادة أفضل من العبادة التي هو فيها، وقد قال الفقهاء إن الأفضل لمن صلى بالتيمم ثم وجد الماء أن الأفضل قطع الصلاة بشرطه ليصلي بالوضوء وإن من أقيمت صلاة وهو يصلي منفرداً ندب قطعها بشرطه ليصليها مع الجماعة وأنه لو كان في السعي أو الطواف وأقيمت صلاة الجماعة ندب له قطع السعي ونحوه، وأنه لو كان في طواف نفل وحضرت صلاة الجنازة ندب له قطعه لأنها أفضل منه وقضية كلام الفقهاء أن الطواف أفضل من سائر العبادات غير الصلاة، بل صرح السيوطي في كتابه الذي جمع فيه علوماً كثيرة مختصرة بأن الطواف أفضل من غيره من العبادات، وعبارته والصلاة أفضل من الطواف وسائر العبادات على الأصح وهو أي الطواف أفضل من غيره من العبادات حتى من العمرة، وقيل العمرة أفضل. قال المحب الطبري في تأليف له على المسألة وهو خطأ ظاهر وأدل دليل عليه مخالفة السلف فإنه لم ينقل تكرارها عن النبي فمن بعده بل كره مالك رضي الله عنه تكرارها في العام الواحد وأجمعوا على استحباب الطواف اهـ كلامه، ونقل عن المجموع أن الاشتغال بالذكر بعد الصبح أفضل من قراءة القرآن هل هو كذلك أم لا؟ وهل ما نقله السيوطي رحمه الله عن المحب الطبري على ظاهره أم لا؟ ونقل عن عوارف المعارف أن الانتقال من موضع الصلاة بعد صلاة الصبح إلى موضع آخر أنه لا بأس به إذا كان أجمع لهمه وأصلح له هل يمشي هذا على كلام الفقهاء أم هو مخصوص بأهل معاملات القلوب؟. فأجاب فسح الله في مدته ونفع بعلومه وبركته بقوله: نقلت في شرح المنهاج عن بعضهم أنه أفتى بأفضلية الاشتغال بالطواف ثم رددته بما هو أصح أنه يستدل(1/203)
على تمايز العبادات بعضها على بعض بما ورد في ثوابها، ولا شك أنه ورد في ثواب هذه الجلسة من الثواب ما لم يرد مثله في الطواف بل لك أن تقول إن قوله له ثواب حجة وعمرة تامتين تامتين تامتين، فيه دليل على أفضليتها على خصوص الطواف لأنها إذا ساوت الحجة والعمرة التامتين والطواف بعض أجزائهما لزم زيادتها عليه وأنها أفضل منه، وهذا ظاهر للمتأمل وإنما كان الأفضل قطع الصلاة فيما ذكر أوّلاً للخروج من خلاف من حرم الاستمرار فيها وليس هذا مما نحن فيه وثانياً لفوات الجماعة من أصلها والطواف هنا لا يفوت لإمكان فعله بعد طلوع الشمس بل هو أولى لأنه لا خلاف حينئذ فيه بخلافه بعد صلاة الصبح وندب قطعه كالسعي للجماعة إنما هو لأجل ذلك أيضاً أعني بقاء تداركهما بخلافها، وكذا يقال في طواف النفل وصلاة الجنازة، وقول السائل نفع الله به وقضية كلام الفقهاء الخ لا ينافي ما ذكرته بفرض تسليمه لأن كلامهم في التفضيل من حيث الجنس لا باعتبار الأفراد، ألا ترى إلى تفضيلهم الصلاة على الصوم ثم قالوا المراد الجنس فلا يقال إن صلاة ركعتين أفضل من صوم يوم فكذا هنا سلمنا أن الطواف أفضل مما يقال في هذه الجلسة لكن ذلك من حيث الجنس لا لخصوص هذا الفرد، لأن في هذه الجلسة من المشقة على النفس وحبسها عليها ما لا يوجد في الطواف غالباً كما هو مشاهد، وزعم أن الطواف أفضل من العمرة مردود بل لا وجه له، كيف وهي لا تقع إلا فرضاً بخلافه وشتان ما بين الفرض وغيره وعدم نقل تكررها لا يناسب قواعدنا فاستدلال المحب الطبري به ليس في محله، وما نقل عن المجموع لم يحضرني الآن لكن وجهه ظاهر، لأن كل ذكر مخصوص يكون الاشتغال به أفضل من الاشتغال بالقراءة وما نقل عن عوارف المعارف اختيار له، وظاهر كلام الأئمة خلافه فيلزم موضعه ثم يكلف نفسه الحضور والإخلاص ما أمكنه، لأن هذا أشق عليها من الانتقال والمدار في تهذيب أخلاقها إنما هو على تجريعها مرارة الصبر على أن تأتي(1/204)
بالمأمورات على وجهها ما أمكنها، وحاصل ما مر أن من تأمل إجماعهم على طلب هذه الجلسة واختلافهم في طلب الطواف بعد الصبح علم أفضليتها عليه، وإن قطع النظر عما قدمناه مما يشهد لفضلها عليه غير ما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل نفع الله به عن المرمى في الجمار الثلاث هل هو محيط بالإعلام الثلاثة المنصوبة من جهاتها الأربع حتى يجزىء الرمي فيها كما يدل على ذلك قولهم يسن للرامي أن يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه أم هو مختص بجهة الجادة، لأن ذلك هو المحقق إذ هو الموجود في زمنه وما عداه مظنون لاحتمال كون الشاخص موضوعاً في منتهى المرمي من جهة مكة لا في وسطه حتى لا يجزىء الرمي فيما إذا استقبل الجمرة واستدبر القبلة مثلاً أم يفرق في ذلك بين جمرة العقبة والجمرتين الأوليين فيكون فيهما محيطاً بالشاخصين وفي جمرة العقبة خاصاً بجهة الجادة وهل ضبط المرمي بثلاثة أذرع كما صرح به الجمال الطبري معتمد أم يرجع في تحديده إلى العرف؟. فأجاب بقوله: الذي صرحوا به أنه يفرق في ذلك بين جمرة العقبة والجمرتين الآخرتين فهي ليس لها إلا جهة واحدة هي ما بأسفلها على الجادة دون ما عداه من سائر الجوانب وهذا من خصوصياتها، وأما الجمرتان الآخرتان فيرمي إلى كل منهما من سائر الجوانب كما يومىء إليه نص الشافعي رضي الله عنه وغيره، وعبارة المجموع عن النص الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال منه فمن أصاب مجتمعه أجزأه أو سائله فلا، والمراد مجتمعه في زمنه دون ما حول عنه ولو نحاه من موضعه الشرعي ورمى إلى نفس الأرض أجزأه لأنه رمى في موضع الرمي انتهت ملخصة. وعبارة المحب الطبري عن النص أيضاً والعبرة بمجتمع الحصى لا ما سال عنه ولا الشاخص ولم يذكروا في المرمى حداً معلوماً غير أن كل جمرة عليها علم فينبغي أن يرمي تحته على الأرض ولا يبعد عنه احتياطاً اهـ، وحد الجمال الطبري(1/205)
مجتمع الحصى بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط وهو من تفقهه وكأنه قرب به مجتمع الحصى غير السائل والمشاهدة تؤيده فإن مجتمعه غالباً لا ينقص عن ذلك فعدم تخصيص الشافعي رضي الله عنه والأصحاب مجتمع الحصى المذكور بجهة مع تخصيصهم له في جمرة العقبة بما بأسفل الوادي صريح في تعميم جهات الأولين، ومما يصرح به أيضاً قوله، أعني الجمال : لا يشترط لصحة الرمي أن يكون الرامي في مكان مخصوص أي جهة مخصوصة من جهات الأولين وأسفل جمرة العقبة، ومما يصرح به أيضاً ما أشار إليه السائل نفع الله به وهو قولهم يسن للرامي أن يستقبل القبلة الخ، إذ صريحه جواز ما عدا ذلك الاستقبال الشامل للرمي من سائر الجهات ثم تحديد الشافعي رضي الله عنه والأصحاب ومن بعدهم إلى زماننا رضي الله عنهم المرمي بمجتمع الحصى صريح، أي صريح في أن مجمع الحصى المعهود الآن بسائر جوانب الجمرتين الأوليين تحت شاخص جمرة العقبة هو الذي كان في عهده وليس ببعيد، إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يعرف خلافه وبهذا يندفع قول السائل لأن ذلك هو المحقق الخ، وكون الجمرة كانت على نحوه لا ينتج له هذه الدعوى كما هو واضح وقد حفظ الله تعالى آثار نبيه ومعالم دينه أن يتطرق إليها تغيير عما كانت عليه، ومن ثم قال الأزرقي وهو إمام الناس وقدوتهم في أمكنة المناسك وما يتعلق بها وكانت الجمرة، أي جمرة العقبة، زائلة عن محلها أزالها جهال الناس برميهم الحصى وغفل عنها حتى ارتخت من موضعها شيئاً يسيراً منها ومن فوقها فردها بعض رسل المتوكل العباسي إلى موضعها التي لم تزل عليه وبنى من ورائها جداراً أعلاه علمها ومسجداً متصلاً بذلك الجدار لئلا يصل إليه من يريد الرمي من أعلاها اهـ، وبه يعلم أن أطباق الناس على الرمي إلى الجمرتين الأوليين وعدم تعرض الملوك لما يمنعهم من ذلك أوضح دليل على جواز ذلك، وأنه الذي كان في زمنه وهذا مما لا مرية فيه، والله سبحانه وتعالى ولي(1/206)
التوفيق.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه ما حكم أهل منى لو أرادوا النفر الأول حتى يسقط عنهم مبيت الليلة الثالثة ورمي يومها؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: الذي يظهر الآن أنهم كغيرهم في ذلك فلا يسقط عنهم إلا أن فارقوا مني بنية عدم العود في تلك الليلة إلى زوال الثالث فمن خرج بنية ذلك سقط عنه ومن لا لزمه المبيت ورمي اليوم الثالث فإن قلت كيف هذا مع أن فيهم معنى يفارقون به غيرهم هو أنهم متوطنون فلا يسقط كونهم من أهل منى خروجهم ولو بنية ذلك فقياس ذلك أنهم يلزمهم مبيت الثالثة ورمي يومها مطلقاً لأنهم لا يقال فيهم أنهم بمفارقتهم منى انقطعت عنهم العلائق الذي صرحوا به تعليلاً للسقوط، قلت هذا واضح المعنى لولا أن سكوتهم عن استثنائهم كالصريح في أنهم في ذلك كغيرهم، ويوجه على ما فيه بأن التوطن أمر خارج عن اعتبار الرمي والمبيت، ألا ترى أنهم يلزمهم المبيت بالفعل ولا عبرة بكونهم متوطنين الذي لو نظر إليه ناظر لقال المبيت لأن توطنهم يحصل المعنى المقصود من وجوب المبيت على غيرهم لكان له وجه عدم اعتبار التوطن ما أشرت إليه أنه أمر خارج حكمي مستحب والمقصود من المناسك مباشرة الحج وإحرامه وواجباته بالفعل فلا يغني عنه غيره فلذلك وجب المبيت عليهم مع توطنهم وكذلك رمي الثالث ومبيته حيث لا نفر وسقط عنهم النفر كغيرهم فتأمل ذلك فإنه مهم والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/207)
وسئل نفع الله بعلومه عما وقع في موسم سنة ثمان وخمسين وتسعمائة ضحى يوم النحر بين صاحب مكة وأمير الحاج من فتنة اقتضت خوف الناس كلهم من أعراب البوادي وغيرهم على نفوسهم وأموالهم إن أقاموا بمنى للمبيت أو الرمي ثم تزايدت واشتد الخوف إلى أن رحل أكثر الناس من منى وتركوا المبيت ورمي أيام التشريق وتعذرت الاستنابة ولم يبق بها إلا المخاطر بنفسه وما له فكثر سؤال الناس عن حكم تركهم لهذين فما حكم الله به؟. فأجاب بقوله: أما ترك المبيت فسقوطه وعدم الدم فيه واضح، وإنما المشكل حكم الرمي لأن كلامهم ظاهر في وجوب الدم فيه ولو مع هذا العذر العام لأنهم جعلوه كترك الإحرام من الميقات في الاتفاق على وجوبه بخلاف المبيت، ولأن المبيت تابع له وهو المقصود فلا يلزم من سقوط المبيت بما ذكروه سقوط الرمي به لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع والذي ينقدح عندي مع أني ذبحت احتياطاً لما ذكرته من ظاهر كلامهم أنه ينبغي في خصوص هذه الصورة عدم وجوب الدم لأمور: منها: أنهم شبهوا الرمي بأصل الحج في وجوب الإنابة فيه على العاجز عنه، وفي اعتبار ظن اليأس عن القدرة عليه في وقته وفي اشتراط كون النائب ليس عليه رمي كما يشترط في النائب ثم أن لا يكون عليه حج، وفي أنه إذا استناب من عليه رمي وقع للنائب نفسه كما لو استناب من عليه حج وقع عن النائب نفسه ولم يفرقوا بينهما إلا في أن زوال عذر المستنيب بعد رمي النائب لا يمنع وقوعه عن المستنيب بخلافه، ثم قالوا لأن الرمي تابع وتركه قابل للجبر بالدم بخلاف الحج فيهما وإذا تقرر أنه مثل الحج فيما ذكر فليكن مثله فيما ذكره الشافعي رضي الله عنه والأصحاب فيه من أن الخوف إذا عم منع وجوبه لتعذر فعله مع تعذر الاستنابة حينئذ بخلاف ما عدا هذه الصورة فإنه وإن تعذر فعله لم تتعذر الاستنابة فإذا تركهما لزمه الدم لتقصيره وهذا هو السبب في ذكرهم أعذاراً كثيرة في المبيت ولم يذكروا نظيرها في الرمي مع(1/208)
كون الخبر سوّى بينهما في العذر، ومنها قول ابن الرفعة وغيره وكلام القاضي حسين صريح فيه ومن عذره كعذر الرعاة أو أهل السقاية جاز لهم ما جاز لهم اهـ، وإذا لحقت تلك الأعذار التي ليس فيها إلا مجرد مصلحة للنفس أو الغير بالمنصوص في عدم الإثم والدم أي في المبيت فأولى أن يلحق بذلك هذا العذر العام الذي لم يطق أحد الصبر معه على الرمي والمبيت في عدم لزوم الدم كالإثم. ومنها: ما بحثه الإسنوى وتبعه جمع وجريت عليه في شرح العباب وغيره من أن الرمي كالمبيت في سقوطه للعذر وعدمه عند عدم العذر بالنسبة للمتعجل، وعبارة شرح العباب مع المتن [فر](فرع من نفر من منى)[/فر] النفر الأول الذي هو (في ثاني أيام التشريق بعد رميه) الواقع بعد الزوال (قبل الغروب) ظرف لنفر قصد به الإيضاح وإلا فهو قد فهم مما قبله، أعني المجرور بفي، (فإن كان قد بات ما) أي الليلتين اللتين (قبله ورمي) اليومين اللذين قبله أيضاً (أو سقط مبيته) ورميه (لعذر كما مر جاز وسقط عنه باقي المبيت والرمي) فلا دم عليه ولا إثم إجماعاً انتهت فتأمل قوله سقط مبيته ورميه لعذر الخ، تجده صريحاً فيما مر أن العذر قد يسقط الرمي فإن قلت هذا كله مسلم لولا تصريح الأصحاب في باب الإحصار بما يخالفه حيث قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/209)
القاضي ابن كج: لو وقف بعرفات ثم صد فإن كان بعد الرمي قال أصحابنا: لا معنى لأن يتحلل ولكن يمتنع من الوطء فإذا قدر على البيت طاف لأنه قد حل له كل شيء غير النساء وإن كان قد أحصر قبل الرمي. قال الشافعي رضي الله عنه: أحببت أن يثبت على إحرامه فإن فعل أراق دماً لترك الجمار وليالي منى فإذا قدر على البيت طاف وسعى إن لم يكن سعى وقد أجزأته حجته وإن أحب أن يتحلل فله ذلك ويكون بمنزلة المحصرين سواء لا قضاء عليه وعليه دم لأجل التحلل ولو كانت محالها فكان قد أحصر قبل الوصول إلى منى والرمي، فقلنا له: لك أن تتحلل فلم يفعل حتى خرجت أيام منى فقد حصل متحللاً ويكون عليه دم للرمي لأنه تركه ويكون بمنزلة من أحصر فيمتنع من الوطء إلى أن يطوف هذا لفظه اهـ، كذا ذكره الأذرعي وذكر قبله ما لفظه الإحصار المجوّز للتحلل هو المنع عن الأركان فلو منع من الرمي والمبيت بمنى لم يجز التحلل لأنه متمكن من التحلل بالطواف والحلق ويقع حجه عن حجة الإسلام ويجبر الرمي والمبيت بالدم اهـ. وقال غيره: إذا لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت بمنى فعليه الدم لفوات الرمي كغير المحصر فيحصل على الأصح بالدم الحلق التحلل الأول ثم يطوف متى أمكنه لبقائه عليه، ويسعى إن لم يكن سعى وتم حجه وعليه دم ثان للمبيت بمنى لفواته، وظاهر أنه إن فاته المبيت بمزدلفة لزمه دم ثالث، وفي الخادم بعد قول الرافعي وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت فهو فيما يرجع إلى وجوب الدم بفواتهما كغير المحصر، أي ولا يفيد الإحصار إلا عدم الإثم فإن الأيام إذا مضت وجب عليه لأجل ترك الرمي ما يجب عليه لو ترك ذلك بدون الحصر، وما ذكره في الرمي ظاهر، وأما الدم لترك المبيت. قال ابن الرفعة : فينبغي أن يكون وجوبه مبنياً على أن من له عذر غير السقاية والرعي هل يلحق بهما إذا قلنا بوجوب المبيت أم لا؟ فإن ألحقناه بهما لم يجب هنا شيء وإلا وجب اهـ، قلت: وحكى ابن كج عن النص أنه قال لو كان(1/210)
أحصر، قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أحب أن يثبت على إحرامه فإن فعل أراق دماً لترك الجمار وليالي منى فإذا قدر على البيت طاف وسعى اهـ كلام الخادم. وفي المجموع نقلاً عن الروياني وغيره: لو أحصر بعد الوقوف بعرفات ومنع ما سوى الطواف والسعي وتمكن منهما لم يجز له التحلل بالإحصار لتمكنه منه بالطواف والحلق ويلزمه دم لترك الرمي ويجزئه حجه عن حجة الإسلام اهـ، فهذه العبارات كلها صريحة في وجوب الدم في الواقعة المذكورة، لأن غاية الأمر فيها أنهم كالمحصرين، وقد تقرر فيهم وجوب الدم في الرمي والمبيت، قلت ليس ما نحن فيه من هذا في شيء بدليل قولهم في ترك المبيت لعذر لا دم فيه مع قولهم هنا بوجوبه فيه مع أنه معذور في تركه فعلمنا بذلك أن ملحظ وجوب الدم هنا غير ملحظه في صورتنا، فإنه ليس فيها الإحصار الذي ذكروه وإنما فيها مجرد خوف من الإقامة للرمي والمبيت، وبيان الفرق بينهما أن الإحصار فيه صد عن نفس الحج أو بعض أركانه بالقصد لا بطريق اللازم وما نحن فيه ليس فيه ذلك أصلاً وأيضاً الإحصار مجوّز للخروج عن أصل الحج إلى بدله وهو الدم فكان ما هو من توابعه الذي هو الرمي والمبيت مثله في ذلك إذا أحصر عنهما فمن ثم أوجبوا في المبيت الدم هنا، وإن أحصر عنه وبهذا يندفع استشكال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/211)
ابن الرفعة المذكور في المبيت، ويعلم أن ملحظ ما أطبقوا عليه هنا من وجوب الدم فيه غير ملحظ ما ذكروه ثم من عدم وجوبه على الخائف ونحوه إذا تركه فإن قلت ما الفرق بين الرمي حيث سقط بهذا الخوف العام على ما ذكرت وبين ترك الإحرام من الميقات فإنه يجب فيه الدم وإن ترك لذلك، قلت قد أشرت للفرق فيما مر بأن الرمي لما دخلته الإنابة دخلته الأعذار وأثرت في سقوطه بالأولى كأصل الحج بخلاف الإحرام من الميقات ونحوه، فإنه لم تدخله نيابة فلم يؤثر فيه العذر بالسقوط فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قلت هنا صورة تتعذر فيها الإنابة ومع ذلك يجب فيها الدم فلتكن مسألتنا كذلك وتلك الصورة أن يطرأ عليه الإغماء أو الجنون ولم يأذن لغيره في الرمي عنه أو أذن له وليس بعاجز آيس إذ لا يصح إذنه إلا إن كان عاجزاً آيساً كأن كان مريضاً آيساً فأذن ثم جن أو أغمي عليه فإذا لم يأذن كما ذكر لم يجزىء عنه الرمي وعليه دم إذا أفاق لأنه لم يأت بالرمي هو ولا نائبه وبهذا يندفع عمن تأمله ما في الخادم وإذا تقرر الدم في هذه الصورة فصورتنا مثلها بل أولى قلت هذه لا ترد علينا لما قررناه موضحاً أنهم غلبوا في أحكام الرمي مشابهته لأصل الحج، ولا شك أن أصل الحج يسقط دواماً كما في بعض صور الحصر وابتداء من غير استقرار بالخوف العام بل الخاص على ما فيه ولا كذلك الجنون أو الإغماء وكان سر ذلك أن الخوف يكثر وقوعه وقد يقع فيه هتك حريم أو نفس فوسع فيه بخلاف الجنون أو الإغماء ولما فرغ ذلك أخبرني بعض مسني مكة وأصلابهم، أنه كان وقع نظير هذه المسألة سنة إمساك قيت الرجى المرسول من جهة سلطان مصر الغوري لسلطان مكة الشريف بركات بن محمد رحمه الله وأن علماء مكة ومصر استفتوا فيها، فاختلفوا وأن من جملة من أفتى بعدم لزوم الدم شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله وآخرون فسررت لذلك إن صح، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/212)
وسئل فسح الله في مدته بما لفظه ما وجه أفضلية التأخير لثالث منى مع أن الآية مخيرة بينه وبين التعجيل؟. فأجاب بقوله: وجه ذلك من الآية والحديث: أما الآية فلأن فيها التعبير بالتعجيل المأخوذ من العجلة المذموم جنسها خلق الإنسان من عجل فكان فيه نوع إشعار بتقديم الشيء على وقته الأصلي أو الفاضل، وكأنَ هذا والله أعلم هو السبب عن العدول عما يقتضيه نظم الآية من التعبير بالتقديم لأنه المقابل للتأخير المذكور فيها فلما كان التقديم لا يفيد ذلك المعنى بل ربما أفاد ضده من المبادرة للعبادة فيكون أفضل لم يحسن الإتيان به وإن اقتضته المقابلة بل بالتعجيل للإشارة إلى أنه مفضول وإن التأخير أفضل منه وهذا كله ظاهر لمن له أدنى تأمل وإن لم أر من تعرض له، وأما الحديث فلأنه صح عنه أنه لم ينفر النفر الأول بل مكث في منى إلى أن نفر النفر الثاني ومن ثم أخذ أئمتنا أنه يجب على متولي أمر الحاج أن ينفر بهم النفر الثاني إلا لعذر كغلاء وخوف.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/213)
وسئل فسح الله في مدته عمن قال إن حديث الباذنجان لما أكل له أصح من حديث ماء زمزم هل هو مصيب أو مخطىء؟. فأجاب بقوله: قال الحفاظ كالبدر الزركشي وغيره: هو مخطىء أشد الخطأ، وما قاله خطأٌ قبيح فإن حديث الباذنجان كذب باطل موضوع بإجماع أئمة الحديث نبه على ذلك ابن الجوزي في الموضوعات و الذهبي في الميزان وغيرهما، وحديث زمزم مختلف فيه قيل صحيح، وقد أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث جابر بإسناد جيد، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد بإسناد قال فيه الحافظ شرف الدين الدمياطي إنه على رسم الصحيح، وقيل حسن، وقيل ضعيف، فأدنى درجاته الضعف ولم يقل أحد أنه في حد الوضع وقد أطال النفس في الكلام على حديث ماء زمزم الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار، وذكر من جملة من صححه الحافظ المنذري والحافظ الدمياطي قال: والصواب أنه حسن لشواهده ثم أورده من طرق ثم قال: وله شواهد أخر مرفوعة وموقوفة تركتها خشية الإطالة ولما نظر المنذري و الدمياطي إلى كثرة شواهده مع جودة بعض طرقه حكماً له بالصحة وورد هذا اللفظ أيضاً عن معاوية موقوفاً بسند حسن لا علة فيه، وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي.
وسئل نفع الله به عن خبر من طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمرم غفر الله له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت من رواه وما حكمه؟. فأجاب بقوله: هو حديث ضعيف رواه الحميدي في فضائل مكة شرفها الله.
وسئل أعاد الله علينا من بركاته هل ورد أن الأنبياء كلهم حجوا البيت إلا هوداً وصالحاً لتشاغلهما بأمر قومهما حتى قبضهما ومن حلق رأس آدم لما حج؟. فأجاب بقوله: الأول رواه عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما موقوفاً عليه ابن إسحق في المبتدأ وابن عساكر في تاريخه، وروى الخطيب في تاريخه من طريق جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم أن جبريل حلق رأس آدم عليهما الصلاة والسلام حين حج بياقوتة من الجنة.(1/214)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
وسئل رضي الله عنه عن حديث أحمد وأبي داود والبيهقي: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله إليّ»، وفي رواية: «عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» ، ما الجواب عنه مع الإجماع على حياة الأنبياء كما تواترت به الأخبار وهل على تفسير الروح بالنطق الذي قيل فيه إنه أحسن الأجوبة اعتراض؟. فأجاب بقوله: الجواب عن ذلك مع بيان ما فيه ذكرته في كتابي الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم وكتابي الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود، وحاصل الأجوبة عن ذلك أن قوله رد الله على جملة حالية فيقدر فيها قد على القاعدة في وقوع الماضي حالاً فيكون الرد سابقاً على السلام الواقع من كل أحد وحتى ليست تعليلية بل عاطفة، والتقدير: ما من أحد يسلم عليّ إلا قد رد الله عليّ روحي قبل ذلك وأرد عليه، وقد صرح بقد في رواية البيهقي فمراد الحديث الإخبار بأن الله تعالى يرد إليه روحه بعد الموت فيصير حياً على الدوام حتى لو سلم عليه أحد رد عليه لوجود الحياة فيه دائماً، وإنما جاء الإشكال من ظن أن حتى تعليلية وجملة رد بمعنى الحال أو الاستقبال الذي يلزم عليه تكرر الرد عند تكرر السلام عليه، ويلزم من تكرار الرد تكرار المفارقة الموجب لنوع ألم والمخالف للفظ القرآن أنه ليس إلا موتتان أو لفظ الرد ليس للمفارقة بل كناية عن مطلق الصيرورة كما في إن عدنا في ملتكم أي صرنا لاستحالة الكفر على الأنبياء أو ليس المراد برد الروح عودها بعد مفارقة البدن، وإنما هو مشغول في البرزخ بأحوال الملكوت مستغرق في شهود ربه فعبر عن إفاقته من ذلك بالرد ونظيره جوابهم عما وقع في بعض أحاديث الإسراء فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام فإنه ليس المراد الاستيقاظ من نوم لأن الإسراء لم يكن مناماً بل الإفاقة مما خامره من عجائب الملكوت أو الرد يستلزم الاستمرار إذ لا يخلو من مسلم عليه في أقطار الأرض أو المراد(1/215)
بالروح هنا النطق مجازاً ولا يلزم من حياته على الدوام نطقه وعلاقة المجاز استلزام النطق للروح وعكسه بالفعل أو القوّة فعبر بأحد المتلازمين عن الآخر، واعترض بأن ظاهره أنه مع كونه حياً يمنع عنه النطق في بعض الأوقات ويرد عليه عند سلام المسلم وهو مخالف للنقل لما في الأخبار أن كل مؤمن في قبره ينطق بما شاء لما ورد أنه لا يمنع النطق في قبره إلا من مات عن غير وصية وللعقل، لأن الحصر عن النطق وإن قل زمنه نوع حصر وهو مبرأ عن ذلك، وأجيب بأن المراد بالرد الاستمرار من غير مفارقة فالمجاز في لفظ الرد والروح فالأول استعارة تبعية، والثاني مجاز مرسل أو المراد بالروح السمع الخارق للعادة بحيث يسمع المسلم عليه من غير واسطة وإن بعد أو الموافق للعادة ويكون المراد برده إفاقته من الاستغراق الملكوتي أو المراد بالروح الفراغ من الشغل مما هو بصدده في البرزخ من النظر في أعمال أمته والاستغفار لمسيئهم والدعاء بكشف البلاء عنهم والتردد في أقطار الأرض بحلول البركة فيها أو حضور جنازة صالحي أمته كما وردت بذلك الأحاديث والأخبار فلما كان السلام عليه من أجل الأعمال خص المسلم عليه بأن يفرغ له من أشغاله المهمة لحظة يرد عليه فيها تشريفاً له ومجازاة، أو المراد بالروح الارتياح أو الرحمة على حد قراءة فروح وريحان بضم الراء، أي يحصل له بسلام المسلم عليه ارتياح وفرحة لحبه لذلك من أمته أو منه رحمة له فيحمله ذلك على أن يرد عليه رداً مخصوصاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91
(تنبيه) رواية على بمعنى إلى فإن رد يعدّى بعلى في الإهانة وبإلى في الإكرام كما في الصحاح والنهاية وغيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/216)
وسئل نفع الله به عن رجل مقيم بمصر نذر لله تعالى أن يحج في عامه هذا فهل يجب عليه الإحرام بالحج من ميقات بلده حتى لو أحرم بعمرة من الميقات وفرغ منها ثم أحرم بالحج من مكة كان آثماً لأنه التزم حجاً معيناً قصد مكة لأدائه أم يكفيه أن يحرم بالعمرة ويفرغ منها ويحرم بالحج من مكة ولا إثم عليه أفتونا مأجورين وأبسطوا الجواب؟ وهل المسألة منقولة أو لا؟ فاختلف فيه علماؤها وأجلاؤهم على أنه يلزمه الإحرام بالحج من الميقات وإلا فالإثم والدم قال بعضهم للنقص الحاصل في الحج الذي التزمه بالنذر، وقال آخرون المسألة منقولة في محلها فما الذي ترونه في ذلك؟. فأجاب بقوله: المسألة منقولة في الروضة وأصلها والمجموع وغيرها لكن لا كما قيل في السؤال بل يحل التمتع والقران ولا إثم ولا دم من حيث مخالفة المنذور، وعبارة أصل الروضة يخرج الناذر عن حج النذر بالإفراد وبالتمتع وبالقران وإذا نذر القران فقد التزم النسكين فإن أتى بهما مفردين فقد أتى بالأفضل وخرج عن نذره وإن تمتع فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين فقرن أو تمتع، وقلنا بالمذهب إن الإفراد أفضل فهو كما إذا نذر الحج ماشياً وقلنا المشي أفضل فحج راكباً انتهت، وكان الموقع في ذلك الإفتاء أن صاحب الروض حذف من أصله قوله ويخرج عن حج النذر بالإفراد والتمتع والقران، ولم ينبه شيخنا في شرحه على إسقاطه لهذا الحكم المهم من أصله فظن من أفتى بما ذكر أن المسألة غير منقولة وأن المسألة قياس ما يأتي في المشي والركوب وليس كما ظنوا في الأمرين كما يأتي بسط ذلك وتحقيقه ففرغ ذهنك له فإنه مهم، وعبارة المجموع قال أصحابنا: إذا نذر الحج مطلقاً أجزأه أن يحج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً لأن الجميع حج صحيح ولو نذر القران كان ملتزماً للنسكين فإن أتى بهما مفردين أجزأه وهو أفضل وكذا إن تمتع وإن نذر الحج والعمرة مفردين فقرن أو تمتع وقلنا بالمذهب إن الإفراد أفضل فهو كما إذا أحرم بالحج ماشياً،(1/217)
وقلنا المشي أفضل فحج راكباً وإذا نذر القران فأفردهما لزمه دم القران لأنه التزمه بالنذر فلا يسقط انتهت فعلم من العبارتين أنهما مفروضتان في عين صورة السؤال وهو نذر الحج مطلقاً أي من غير ضم نسك آخر إليه وأنهما صريحتان في جواز الإحرام بالعمرة من الميقات على وجه التمتع بل وفي أن ذلك أفضل من الإحرام بالحج وحده لا بنية الإفراد من الميقات وبأن ذلك تصريح أن كلاً منهما مصرح بأن من نذر القران أجزأه الإفراد والتمتع وكان كل منهما أفضل مما التزمه بالنذر وهو القران مع أن في الإفراد تأخير العمرة الملتزمة من الميقات عنه وفي التمتع تأخير الحج الملتزم منه عنه أيضاً، ولم ينظروا لهذا التأخير لأنه مجبور بالزيادة على ما التزمه الحاصلة في الإفراد والتمتع فكذلك لا نظر في مسألتنا لتأخير الحج الملتزم من الميقات عنه لوجود الزيادة عليه في كل من التمتع والقران الفاضلين عليه بعين ما قرروه كما هو واضح جلي ووجهه أعني ما ذكروه أن النذر محمول على واجب الشرع وواجبه أن الإفراد والتمتع كل منهما أفضل من القران فكانا في النذر كذلك، فإن قلت ينافي ذلك قولهم لو نذر التصدق بفضة لم يكف الذهب، قلت لا ينافيه، لأن الذهب جنس مغاير للفضة ذاتاً وصفة وليس وجوه النسكين كذلك بل جنسهما متحد وإنما الاختلاف بينهما في الكيفية لا غير وإذا علمت أنهم مصرحون في النسك بأفضلية غير المنذور المذكور حملاً للنذر على الواجب الأصلي علمت أنهم مصرحون في مسألة السؤال بجواز كل من الإفراد والتمتع والقران وأنه في كل منها أتى بالأفضل لتصريحهم بأن كلاً من هذه الأنواع الثلاثة أفضل من الحج وحده فلزم بمقتضى ما تقرر جواز كل منها وإجزاؤه عنه وأنه الأفضل، فإن قلت لا يلزم من تعبير أصل الروضة بيخرج والمجموع بأجزأ أن ذلك جائز، قلت بل يلزم ذلك لأمرين: أحدهما: أن من سبر كتبهم علم منهم أنهم لا يقولون أحد هاتين العبارتين أعني الخروج والأجزاء إلا في الجائز(1/218)
وبتسليم أنهم قد يستعملون أحدهما في الحرام كان يلزمهم أن يبينوا حرمته وإلا كان غشاً للمسلمين لأن الإفهام لا يتبادر إليها من إطلاق الخروج بشيء عن الواجب وإجزائه عنه إلا أنه جائز. ثانيهما: ما ذكروه من جواز كل من الإفراد والتمتع عن القران الملتزم بل أفضليته مع ما في كل منهما من تأخير بعض الملتزم من الميقات عنه لكن الجائز أقوى كما قدمته مع بيان أن مسألتنا وإن كان فيها نظير ذلك التأخير إلا أنه لجائز أقوى أيضاً فساوى ما قالوه حرفاً بحرف وهذا صريح واضح في أن معنى قولهم يخرج في العبارة الأولى وأجزأ في الثانية أن ذلك جائز بل أفضل هذا ما يتعلق بجواز كل من الثلاثة وأما دم العدول عن المنذور فهل يجب وإن عدل إلى الأفضل كما لو عدل عن المشي الملتزم في نذر النسك إلى الركوب فإنه يلزمه دم وإن كان الركوب أفضل أو لا يجب لإمكان الفرق والذي جريت عليه كشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده صيب الرضوان في شرح العباب الثاني، وعبارته أو نذر قراناً أو تمتعاً كما في المجموع وغيره فأفرد فهو أفضل من كل منهما. قال في المجموع وغيره ويلزمه إن أفرد دم القران أو التمتع لالتزامه له بالنذر فلا يسقط بالعدول عنه كما مر نظيره في الحج اهـ. وتبعه عليه القمولي وغيره وظن بعضهم أن هذا من تفرد القمولي فاعترضه بأن دم القران لا يجب بمجرد التزامه بل بفعله يرد بأن هذه دعوى لا دليل عليها بل يجب بكل من الأمرين وكلامهم يشعر بأنه لا دم عليه للعدول، أي عن القران أو التمنع إلى الإفراد. قال شيخنا
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/219)
زكريا : وهو ظاهر اكتفاء الدم الملتزم مع كون الأفضل المأتى به من جنس المنذور وبهذا كله فارق لزومه بالعدول من المشي إلى الركوب ويفارق ما مر فيما لو جامع قارناً أو متمتعاً ثم أفرد فإنه لا يسقط الدم بعدوله إلى الإفراد بأنه ثم تلبس بموجب الدم وهو الإحرام قارناً أو متمتعاً فلم يفده العدول بخلافه هنا انتهت عبارة شرح العباب، فإن قلت: ظاهر قول الشيخ وهو ظاهر اكتفاء بالدم الملتزم مع كون الأفضل الخ وجوب الدم في مسألتنا للعدول لأنه وإن كان أفضل أيضاً لكنه لم يلتزم دماً يغني عنه، قلت مسألتنا انتفى فيها دم العدول لمعنى آخر هو أن فيها جابراً للعدول وهو النسك المزيد على ما نذره كما أن في العدول عن القران أو التمتع إلى الإفراد جابراً هو الدم الملتزم، والحاصل أن العدول عن الملتزم فيه الدم إلا أن يخلفه غيره وهو في مسألتنا زيادة نسك آخر، وفي تلك الدم الملتزم وبهذا يفرق بين مسألتنا ومسألة العدول عن المشي إلى الركوب، لأن الركوب وإن كان أفضل إلا أنه لا جابر فيه بل فيه تفويت مشقة مقصودة من نذر المشي لعظيم ثوابه ومن ثم فضله على الركوب الأئمة الثلاثة فحينئذ جبره الأئمة بالدم فلا جامع بينه وبين مسألتنا فتأمله، فإن قلت قياس ما مر أن من نذر قراناً فتمتع أو عكسه لزمه دمان دم للملتزم وآخر لما فعله فما الفرق بين هذين ومسألتنا قلت الفرق واضح، فإن في كل من هذين دماً ملتزماً بالنذر ودماً ملتزماً بالفعل ومسألتنا ليس فيها دم ملتزم بالنذر وهذا واضح، وأما الفعل فإن اقتضى دماً كالتمتع أو القران وجب دمه وإلا كالإفراد فلا، فإن قلت صرحوا بأن الركوب مع كونه أفضل يأثم به من غير عذر ناذر المشي فقياسه في مسألة السؤال الإثم بكل من الإفراد والتمتع والقران وإن كانت أفضل قلت قد علمت مما قدمته آنفاً أن سبب ذلك فوات المشقة المقصودة في المشي بالركوب لا إلى بدل بخلافه في مسألتنا ويؤيد ذلك ما ذكرته في شرح العباب من استشكال جمع(1/220)
أن الركوب لا يلزم بالنذر إلا إن قلنا بأفضليته بخلاف المشي يلزم بالنذر، وإن قلنا بمفضوليته والجواب عنه بأن المشي مقصود وأفضلية الركوب إنما هي من حيث الاتباع وما فيه من زيادة تحمل المؤنة في العبادة وإيضاحه أن يقال لما كانت النفس تميل للركوب طبعاً كان التزامها له وتحملها لمؤنته محتمل أنه لإيثار راحته وأنه لأفضليته فلما تردد الأمر بينهما لم يمكن الجزم بلزومه إلا إن قيل بأفضليته، وأما المشي فإنها تنفر عنه طبعاً أيضاً فلم يمكن التزامه إلا لكسر نفسه وإيثار ثوابه فلزم وإن قلنا بمفضوليته، فإن قلت فلم وجب الدم في المشي البدل عن الركوب قلت لما فيه من تفويت الأفضلية المقصودة شرعاً وإن كان أشق، فإن قلت فهل فيه إثم أيضاً، قلت القياس نعم نظراً لذلك التفويت وهذا كله غير جار نظيره في مسألتنا، لأن كلاً من الإفراد والتمتع والقران أفضل وأشق من مجرد الحج فجاز كل من تلك الثلاثة وأجزأ من غير دم نظراً لما فيه من زيادة نسك ومشقة على الحج الملتزم ومن الأفضلية فليس ذلك نظير مسألة الركوب والمشي بوجه، والحاصل أنه متى فوت بالعدول الأفضلية فالدم والإثم ومتى لم يفوتها بأن أتى بالأفضل فإن فوت مشقة مقصودة فالدم والإثم وإلا فلا.(1/221)
وسئل نفع الله به بما لفظه: قال ابن أبي شريف في شرح الإرشاد: ولو حل الحلق للمحرم فمات قبل أن يفعله فهل يفعل عنه الظاهر أنه مستحب لا مكروه لكن في الأسني، وقضية كلامهم أنه لا يحلق رأسه إذا مات وقد بقي عليه ليأتي يوم القيامة محرماً وهو ظاهر لانقطاع تكليفه فلا يطلب منه حلق ولا يقوم غيره به كما لو كان عليه طواف أو سعي وهو خلاف ما ذكر عن الإسعاد فما المعتمد من ذلك؟. فأجاب بقوله: رضي الله عنه الجواب عن هذا مذكور في شرح العباب وعبارته وقضية كلامهم أنه لو مات بعد التحلل الأوّل وبقي عليه الحلق لم يفعل به ليأتي يوم القيامة محرماً، وهو ما اعتمده الزركشي ولم يبال بقول شيخه الأذرعي يندب حلقه، قال، أعني الزركشي : لأن حكم الإحرام باق، وتبعه الدميري وغيره ومن ثم استظهره شيخنا لانقطاع تكليفه فلا يطلب منه حلق ولا يقوم غيره به كما لو كان عليه طواف أو سعي انتهت، ويؤيد ما استظهره الشيخ أن مبني أفعال الحج على أن لا يفعل عن الغير ومن ثم أطلق الأئمة تحريم البناء فيه على فعل الغير وهذا فيه بناء فكان حراماً بصريح كلامهم، إذ المسألة إذا دخلت في عموم كلام الأصحاب كانت منقولة كما في المجموع، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 91(1/222)
باب البيع
وسئل رضي الله عنه في شخص باع جملاً بشرط أن يحمل مثلاً ستين صاعاً فهل البيع صحيح كبيع الأمة بشرط أنها حامل والعبد بشرط أنه كاتب أو ليس بصحيح كبيع الشاة بشرط أن تحلب كل يوم مثلاً رطلين لبناً؟ وإذا قلتم بالصحة فعجز الجمل عن حمل ذلك فهل للمشتري الخيار وهل يكفي في عدم الرد حمله لها ابتداء أو لا بد من حمله لها في غالب أحواله؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: الذي يدل عليه كلام الروضة والجواهر وغيرهما أن كل وصف مقصود منضبط فيه مالية لاختلاف القيم بوجوده وعدمه يصح شرطه في البيع ويتخير المشتري بفواته، ولا شك أن كون الدابة تطيق حمل مقدار معين وصف مقصود منضبط فيه مالية فيصح شرطه وفارق اشتراط حلبها كل يوم كذا بأن هذا غير منضبط فلا يصح شرطه، فإن قلت هل يشترط في الوصف المشروط هنا أن لا يؤدي إلى عزة الوجود فلا يصح بشرط حملها لقدر معين إلا إذا كان لا يؤدي لذلك نظير ما قالوه في السلم، قلت القياس غير بعيد إلا أن الفرق بينهما أقرب وهو أن السلم متعلق بما في الذمة فلو جوزنا فيه اشتراط ما يؤدي لعزة الوجود لكنا مضيقين على المسلم إليه طرق التحصيل، وذلك يؤدي إلى تنازع المتعاقدين فيما لا غاية له وإلى الخروج عن موضوع السلم بخلافه في البيع هنا فإنه وارد على عين معينة، فإذا اشترط فيها وصف منضبط مقصود صح وإن كان من جنس ما يؤدي لعزة الوجود لأنه لا ضرر فيه هنا على واحد من المتعاقدين بوجه، لأن تلك العين المبيعة إن وجد فيها ذلك الوصف مع ندوره فلا خيار للمشتري وإلا تخير ثم رأيت ابن الرفعة قال هنا عقب كلام الرافعي قد يتخيل فرق بين البيع الناجز والسلم. قال الزركشي : قلت: وبهذا قطع بعضهم في البيع، أي بيع الشاة، بشرط أنها لبون بالصحة وحكى القولين في السلم، وعبارة المرعشي في ترتيب الأقسام شرط يجوز في البيع إذا كان عيناً ولا يجوز إذا كان سلماً وهو أن يبيع شاة أو بقرة على أنها لبون يجوز ولو كان مسلماً فقولان اهـ، وهو(1/223)
مؤيد لما فرقت به بين البابين بالنسبة لما يؤدي لعزة الوجود، فإن قلت قضية ما تقرر صحة بيعها بشرط أنها تحلب رطلين، قلت وبه نقول لأنه إذا أسقط كل يوم فقد أزال ما به عدم الانضباط، ويلزم من إزالته الصحة كما يصرح به عبارة الروضة فإنه لم يجعل ملحظ البطلان فيما إذا قال كل يوم إلا عدم الانضباط، ثم إذا علم صحة اشتراط طاقتها لحمل قدر معين فالبيع صحيح، ثم إن طاقته بعد البيع ولو مرة فلا خيار وإلا ثبت الخيار، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل في رجل ادعى على آخر أنك أقررت أن ما عاد لي عندك شيء أو أنك صالحتني على كذا أو أنك بعتني ذا بكذا أو أنك أقررت أن لي عندك كذا، فقال المدعي عليه بعتك مكرهاً أو صالحتك مكرهاً ونحو ذلك مما في السؤال وأقام على الإكراه بينة فهل يجب على الحاكم أو المحكم أن يستفصل الشهود على الإكراه؟ وهل على الشهود أن يبينوا له الإكراه أم لا يجب على الشهود ولا على الحاكم ولا على المحكم أن يفصلوا حيث كان كل منهم لا يعرف حد الإكراه أو أكثرهم لا يعرف حد الإكراه بينوا لنا ذلك؟ وقول الغزالي في فتاويه: إذا قال الشهود نشهد أنه باع مكرهاً هل يلزمهم التعرض لصفة الإكراه التي عليها حالة البيع، الجواب أن الرأي للقاضي فيه فإن جوز أن يستبهم الأمر فيه على الشهود فله السؤال، وإذا سأل فعليهم التفصيل فإن علم من حال الشهود أنهم عارفون لحد الإكراه ولا يشهدون به إلا عن تحقيق فله أن لا يكلفهم التفصيل اهـ، جوابه وقول الأذرعي في التوسط.(1/224)
[فر](فرع) قال: لو ادعى البائع على المشتري بالعيب أو تقصيره في الرد فالقول قول المشتري،[/فر] قلت: وهذا ظاهر إذا كان المشتري يعلم ما يكون تقصيراً وما لا يكون تقصيراً وإلا فقد يعتقد جهلاً ما يكون تقصيراً ليس بتقصير فهل نقول إذا علم القاضي ذلك من حاله أنه يستفسره ويكون ذلك من أدب القضاء أو يتوقف على سؤال البائع للقاضي أن يستفسره اهـ، المقصود فهل يا شيخ الإسلام ما نقل عن الغزالي و الأذرعي يجري على ما نقل في السؤال أم لا؟ فإن قلتم لا فذاك، وإن قلتم نعم فإذا لم يستفسر المحكم الشهود فهل ينقض حكمه حيث كان الحال ما ذكر أم لا؟. فأجاب رضي الله عنه بأنه لا بد في الشهادة بالإكراه من التفصيل بأن يذكر الشهود صورة الواقع حتى ينظر الحاكم أو المحكم فيها هل هي إكراه أو لا؟ لأن شروط الإكراه كثيرة وفيها خلاف منتشر بين العلماء حتى بين أئمة مذهبنا والعامة يعتقدون أشياء كثيرة إكراهاً وغير إكراه والحكم بخلاف ما يعتقدون فلذلك وجب على الشاهد أن يفصل في شهادته بالإكراه فإن شهد به وأطلق فتارة يثق المشهود عنده بعلمه وإحاطته بجميع شروط الإكراه وإتقانه لها فلا يحتاج حينئذ إلى استفصاله وإذا استفصله لم يكن به بأس، وإن لم يثق منه بذلك لزمه استفصاله وإن لم يطلبه المدعي سواء في ذلك الحاكم والمحكم فإن لم يستفصله في هذه الحالة وقضى مستنداً إلى شهادته كان حكمه باطلاً وبذلك علم أن ما أفتى به
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/225)
الغزالي صحيح نقلاً وتوجيهاً ويوافقه قول إمامه الذي نقله عنه الشيخان في الروضة وأصلها وأقراه حيث قالا الفرع عند أداء الشهادة يبين جهة التحمل ثم قالا: قال الإمام : وذلك لأن الغالب على الناس الجهل بطرق التحمل فإن كان ممن يعلم ووثق به القاضي جاز أن يكتفي بقوله أشهد على شهادة فلان بكذا، ويستحب للقاضي أن يسأله بأي سبب وجب هذا المال وهل أخبرك به الأصل اهـ، نعم قول الغزالي فله السؤال موهم ولو قال لزمه السؤال لكان أولى لما تقرر من أن الاستفصال عند عدم الوثوق بدين الشاهد وعلمه وإتقانه واجب، وأما ما تردد فيه الأذرعي فالأوجه فيه أن القاضي إن وثق بعلم المشتري اكتفى بقوله لم أقصر ويحلفه على ذلك وإلا لزمه استفساره وإن لم يطلبه البائع كما يدل عليه قول الأذرعي نفسه بعد قول الروياني لو قال السكران بعدما طلق إنما شربت الخمر مكرهاً، أي وثم قرينة صدق بيمينه اهـ. قال الأذرعي وعليه يجب أن يستفسر فإن ذكر ما يكون إكراهاً معتبراً فذاك وإلا قضى عليه بوقوع الطلاق فإن أكثر الناس يظن ما ليس بإكراه إكراهاً اهـ. قال شيخنا زكريا رحمه الله وما قاله ظاهر فيمن لا يعرف الإكراه اهـ، فهذا يزيد اتجاه ما مر في مسألة الشهادة، وقد ذكر الفقهاء لها نظائر يجب فيها التفصيل منها الشهادة بالردة على خلاف طويل فيه وبالسرقة وبأن نظر الوقف الفلاني لفلان فيجب بيانه سببه والشهادة بأن هذا وارث فلان فلا بد من بيان جهة إرثه من أخوة أو نحوها فيقول هذا أخوه ووارثه ويبين أنه أخ شقيق أو لأب أو لأم والشهادة ببراءة المدين من الدين المدعى به وباستحقاق الشفقة وبالرشد وبأن العاقد كان يوم العقد زائل العقل وبالجرح وبانقضاء العدة وبالرضاع والنكاح وبالقتل، وبأنه بلغ بالسن فيبينه لاختلاف العلماء فيه بخلاف الشهادة بأنه بلغ من غير تعيين ما بلغ به فإنها تسمع مطلقة وبأن فلاناً طلق زوجته لأن الحال يختلف بالصريح والكناية والتنجيز والتعليق وبأنه(1/226)
اشترى العين التي بيد خصمه من أجنبي فلا بد من التصريح بأنه كان ملكها أو ما يقوم مقامه والشهادة بأن فلاناً وقف داره الفلانية وهو يملكها فلا بد من بيان مصرف الوقف بخلاف الشهادة بأن فلاناً أوصى إلى فلان فإنها تسمع وإن لم يذكر المصرف ولا الموصى به لأن الغرض ثبوته ولاية الموصي.
وسئل رضي الله عنه عن رجل اشترى من رجل آخر دابة ثم بعد مدة تبين بها عيب عند البائع وفسخها المشتري عند الحاكم بذلك العيب فهل لها أجرة ويلحق بما إذا تبين فساد البيع فله أجرة المثل أم لا يلحق بذلك والفائت ما له أجرة؟. فأجاب رضي الله عنه بأنه حيث صح البيع ثم استعمل المشتري المبيع أو أجره وأخذ أجرته أو أخذ صوفه أو لبنه أو غير ذلك من زوائده المنفصلة فاز بجميع ذلك ولا شيء عليه في مقابلته، لأنه لما صح البيع ملك المبيع فيملك زوائده فإن أخذ منه زوائده ثم فسخ البيع بإقالة أو عيب أو غيرهما لم يرجع عليه البائع بشيء لما تقرر من أنه لم يأخذ إلا زوائد ملكه، ومن ثم لم يكن له الرجوع على البائع بما أنفقه على المبيع لأنه لم ينفق إلا على ملكه، إذ الفسخ لا يرفع العقد إلا من حينه بخلاف ما إذا لم يصح البيع فإنه يكون واضعاً يده على المبيع تعدياً فلأجل ذلك أجريت عليه أكثر أحكام الغصب من ضمانة إن تلف بأقصى القيم وضمان زوائده سواء استوفاها أم لم يستوفها بأن فاتت في يده.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل رضي الله عنه إذا قصر المشتري بالرد بالعيب بأن لم يرد على الفور فهل يستحق على البائع أرش العيب أم لا؟. فأجاب: بأن المشتري متى سقط رده بتقصير صدر منه لم يكن له أرش في مقابلة العيب لتقصيره والله أعلم.(1/227)
وسئل رضي الله عنه عن أرض اشتراها شخص من مالكها بيع الناس وبالأرض أشجار ومزارع فاستمرت تحت يد المشتري مدة مديدة يزرعها ويأكل ما يخرج من أثمارها فجاء قوم وأخربوا الأرض المذكورة فهل للمشتري المذكور الرجوع على البائع بالثمن أم لا؟. فأجاب حيث صح البيع بأن اتفق البائع والمشتري على أنه يبيعها منه وإذا جاءه الثمن رد عليه أرضه ثم باعه له بيعاً صحيحاً بإيجاب وقبول شرعيين ولم يشرطا ذلك الذي توافقا عليه في صلب العقد ولا في مجلسه لم يكن للمشتري الرجوع بالثمن على البائع لما تقرر من أن البيع صحيح وإذا كان صحيحاً كان الملك في الأرض له وانقطعت العلقة بينه وبين البائع فلا رجوع له عليه بشيء، وأما إذا لم يصح البيع فالأرض باقية على ملك البائع فللمشتري الرجوع عليه بثمنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن رجل تحت يده عين فباعها من رجل أخبر أن العين ملكي وأنها كانت تحت يد البائع قبل البيع رهناً بكذا وأقام بذلك بينة فهل ينفسخ البيع أم لا؟ وحيث لم تكن بينة بل أقر البائع أنها رهن قبل البيع فهل يغرم للراهن قيمة العين؟. فأجاب بقوله: إذا كان له بينة وأقر له البائع بما ذكر غرم له قيمتها كما صرحوا به حيث قالوا ولو باع عيناً لشخص ثم أقر بعد انقضاء خياره أو خيارهما ببيعها لآخر أو بعضها منه لم يبطل بيعه الأول وغرم قيمتها للثاني لأنه فوتها عليه بتصرفه وإقباضه، ولأنه استوفى عرضه وقضية العلة الأولى أنه لا فرق بين قبض الثمن وعدم قبضه وقضية الثانية أن ذلك يتقيد بقبضه وبالأول صرح القاضي فهو الأوجه وإن اقتضى كلام الشيخين الثاني، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/228)
وسئل رضي الله عنه ما المفتى به في التمليك هل يكون بيعاً كما هو صريح في بابه أو يجري به مجرى العادة بكونه هبة كما مشى عليه قضاة بلدنا وهل المفتي به في شراء الدابة رؤيه باطن الخف لتفاوت الأغراض في ذلك حتى يثبت الخيار لمن اعتبر بذلك أم لا؟. فأجاب: بأن الحاصل في لفظ التمليك كما ذكرته في الشرح المذكور بعد بيان ما فيه من رد ونقض أنه مشترك بين البيع والهبة فإذا ذكر معه العوض أو نوى كان بيعاً وفيما عدا ذلك يكون هبة وأما من يجعله صريحاً أو كناية في الرهن فهو مخطىء لأن وضعه ينافي وضع الرهن فكيف يدل عليه صريحاً أو كناية، وقد ابتلى الناس بمن لا يفهم موضوعات الألفاظ فضلاً عن غيرها ومع ذلك يتصرف على أهل المذهب بما لو عرض عليهم لما قبلوه ولبالغوا في زجره وتعنيفه والانتقام منه فإنا لله وإنا إليه راجعون. والنظر إلى العادة مشروط بشروط لو سئل هؤلاء الذين نظروا إليها عن شرط منها لم يعرفوه فكيف مع ذلك يسوغ لهم أن يخالفوا صريح كلام الأصحاب نظراً لها ما هذه إلا بلية عظيمة، وأما الجواب عن المسألة الثانية فهو أن الذي صرح به أصحابنا أنه يشترط في الدابة رؤية مقدمها ومؤخرها وقوائمها ورفع السرج والإكاف والجل لا جري الفرس مثلاً بين يديه حتى يعرف مسيرها ولا رؤية اللسان والأسنان ولو من رقيق اهـ، ومنه يؤخذ أنه لا يشترط رؤية باطن خفها لأنهم إذا لم يشترطوا رؤية اللسان والأسنان مع تفاوت الأغراض باختلاف ألوان الألسنة سيما في الرقيق وبالأسنان من حيث دلالتها على صغر السن وكبره غالباً، فالأولى أن لا يشترطوا رؤية باطن الخف لأنا وإن سلمنا أن الأغراض قد تختلف به لكن ليس كاختلافها برؤية اللسان والأسنان، وقد علمت أنه لا يشترط رؤيتهما فكذا لا يشترط رؤية ما دونهما وهو باطن الخف واختلاف الأغراض إنما ينظر إليه إذا قوي واطرد والألم ينظر إليه وواضح أن اختلافها برؤية باطن الخف ضعيف وغير مطرد فلا ينظر إليه، والله أعلم.(1/229)
وسئل باع شخص داراً وفيها بيت داخل في تربيعها لكنه غير نافذ إليها بل إلى الشارع مثلاً فهل يدخل في مطلق بيعها أو لا يدخل لانفصاله عنها كما في نظائر هذا في كلامهم في الإيمان والمساجد في باب القدوة؟. فأجاب: بأن من الواضح عدم دخول البيت المذكور في بيع الدار المذكورة لأنه لما انفرد بباب مستقل ولم ينفذ إلى ما دخل في تربيعها صار يسمى داراً ثانية وصارت الدار التي دخل في تربيعها لا تشمله لأنه لا اشتراك بينهما في الاسم ولا في المعنى، ودخوله في تربيعها لا يقتضي تناولها له عند الإطلاق، وقد صرحوا بأن الحد لا يدخل إلا بالتنصيص فلو قال بعتك من هذا الخط إلى هذا الخط لم يدخل الخطان مع أن ابتداء الغاية يدخل في غير ذلك نحو له عليّ من درهم إلى عشرة، إذ يلزمه تسعة إدخالاً لابتداء الغاية فقط، فإذا كان الحد نفسه لا يدخل إلا بالتنصيص مع أنه من جزئيات المبيع فأولى البيت المذكور لأنه ليس من جزئيات الدار المبيعة كما تقرر، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/230)
وسئل فيما لو باع عيناً بأوقية مثلاً هل يصح العقد بهذا اللفظ من غير ذكر دراهم أو دنانير حيث اطرد العرف بذلك أي بأن مقدار الأوقية كذا وكذا دراهم أو لا يصح كما لو باع بعشرة حتى يقول بأوقية دراهم أو دنانير؟. فأجاب بأن الذي دل عليه كلامهم في باب البيع أنه حيث اطرد عرف أهل بلد أو ناحية بأنهم يعبرون بالأوقية عن مقدار معين من الدراهم الغالبة في ذلك المحل صح البيع بالأوقية مثلاً وإن لم يقل المتبايعان من الدراهم، ويدل على ذلك ما صححه النووي في مجموعه رداً على صاحب البيان ومن تبعه من أنه إذا عبر بالدراهم عن الدنانير صح لأنه يعبر بها عنها مجازاً كقولك في عشرين درهماً مثلاً هذه دينار إذا كان ذلك هو صرفها، أي هذه صرف دينار فهو من مجاز الحذف اهـ، وبما تقرر يعلم أنه لو اصطلح أهل بلد على أنهم يعبرون بالدينار عن مقدار مخصوص من الدراهم كما في جهتكم، وقال أحدهم بعتك بدينار صح وانصرف الثمن إلى ما اصطلحوا عليه وإن كان الدينار شرعاً لا يطلق إلا على مثقال من الذهب الخالص لأن العبرة في العقود إنما هو بعرف المتعاقدين بخلاف نحو الإقرار، ومن ثم صحح الرافعي و النووي في باب الخلع أنه لو غلب في البلد دراهم عددية ناقصة الوزن أو زائدته نزل البيع وغيره من المعاملات عليها بخلاف الإقرار والتعليق، وأما قول بعض المتأخرين لو قال بعتك بمائة درهم صرف كل عشرين دينار لم يصح وإن كان صرف البلد كذلك، وكذا ما جرت به العادة في البيع بدينار ومرادهم به مقدار معين من الدراهم فضعيف لأنه تبع في الأول صاحب البيان، وقد علمت أنه ضعيف كما مر وقاس عليه الثاني وإذا بطل حكم المقيس عليه بطل حكم المقيس وقد رجح النووي في المجموع كأصل الروضة أنه لو غلب من جنس العروض نوع انصرف الذكر إليه عند الإطلاق في العقد كالنقد، قال: وصورة المسألة أن يبيع صاعاً من الحنطة بصاع منها أو بشعير في الذمة وتكون الحنطة والشعير الموجودان في البلد صنفاً(1/231)
واحداً غالباً في البلد لا يختلف ثم يحضره بعد العقد ويسلمه في المجلس اهـ، وقياسه ما صرحوا به أيضاً من أنه لو وقع التعامل في بلد بنوع واحد من الفلوس النحاس العددية أو بأنواع وأحدها غالب انصرف الإطلاق إليه وكذا في الثياب ومن ثم قال ابن الصباغ لو قال بعتك هذا بعشرة أثواب وأطلق وكان لها عرف انصرف إليه كالنقدين، فإن قلت قضية كلام البغوي أنه لا يصح ما ذكر في الأوقية والدينار فإنه قال لو قال بعتك بوزن عشرة دراهم نقرة ولم يبين أنها تبرأ والمضروبة لم يصح لتردده ولا يحمل على النقد الغالب، قلت هذا لا شاهد فيه لأنه ليس نظير تينك الصورتين، لأن الفرض فيهما كما مر أن العرف اطرد بالتعبير بهما عما مر، وأما في صورة البغوي فليس فيها أن العرف اطرد بالتعبير بالعشرة الدراهم عن النقرة ولم يبين أنها من التبر ولا من المضروبة فكان فيها إبهاماً لأنها تتناول كلاً منهما وهما مختلفا القيمة ولا مرجح فبطل البيع، وقد أشار البغوي إلى ذلك حيث علل البطلان بقوله لتردده، فإن قلت سلمنا هذا في كلام البغوي فما الذي تقوله في قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/232)
المطلب لابن الرفعة لو قال بعتك بألف مثقال من النقد وغلب استعماله في الذهب لم يكف حتى يصرح بأنه منه أو من الفضة، وهذا صريح في البطلان في مسألة الأوقية والدينار مطلقاً، قلت الفرق بين ما ذكره إن سلم وما ذكره في الأوقية والدينار أن النقد في صورته يشمل الذهب والفضة ولم يصطلحوا على التعبير به عن أحدهما فقط كما في الصورتين المذكورتين، وإنما غلب عندهم التعبير به عن الذهب وقد يعبرون به عن الفضة فلا جامع بين المسألتين، وأيضاً فالنقد يشمل شيئين مختلفي الجنس ولا عبرة بغلبة استعماله في أحدهما لأن الغلبة لا يعتد بها إلا إذا كانت في أحد الأنواع كأن يقول بألف درهم وغلب استعمالها في نوع من الفضة فحينئذ ينصرف إلى ذلك النوع بخلاف قوله من النقد لأنه يشمل جنسين مختلفين ولا عبرة بغلبة استعماله في أحدهما كما تقرر، والفرق أن الأغراض تتفاوت باختلاف الجنس تفاوتاً كثيراً فلم تصلح الغلبة حينئذ مرجحة مع شمول لفظ المتعاقدين لأجناس مختلفة بخلافها بين أنواع الجنس الواحد فإنها لا تتفاوت كذلك، فصح أن تكون الغلبة مرجحة لأحدها على الباقي.(1/233)
وسئل فيما إذا باع شخص من آخر حصة من قرار عين جارية، وهذه الحصة قدرها سدس سهم من أربعة عشر سهماً مشاعاً من جميع العين لكن عينها في مكتوب الشراء بما يتعارفه أهل عيون بلدة البيع من التعبير عن أجزاء السهم من القرار والماء الجاري به بالساعات وعن السهم من ذلك بالوجبة التي هي اثنا عشر ساعة كما يعبر عن مثل ذلك في البلاد الشامية بالأصابع ويسمون ذلك في بلد البيع كله سقية لأنه لا يخفى أن الشريك في القرار شريك في الماء النابع له من أجل مشاركته في القرار فعبر كاتب الشراء عن المبيع الذي هو حصة من القرار بما يستعمل فيه وفيما هو تابع له من الماء، وملخص عبارة مكتوب الشراء بعد إذن الحاكم الشرعي فلأن الشافعي لفلان الفلاني في شراء المبيع الآتي ذكره لنفسه ولبقية ورثة والده من البائع الآتي ذكره بالثمن الآتي ذكره فيه إذناً صحيحاً شرعياً اشترى فلان الفلاني المأذون له ولبقية ورثة والده المشمولين بحجة الشرع الشريفة من فلان الفلاني البائع عن نفسه جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية بما للحصة المذكورة من حق من حقوق العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذبولها ومجاري مائها الجاري بها يومئذ من فضل الله تعالى اشتراء صحيحاً شرعياً مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم بثمن جملته كذا مقبوض بيد البائع من المشتري وتسلم البائع الثمن وتسلم المشتري جميع المبيع المذكور تسلماً شرعياً بعد الرؤية والمعرفة والمعاقدة الشرعية وثبت ذلك عند الحاكم الشافعي الآذن المذكور وحكم بموجبه ومات الحاكم والمتعاقدان والشاهدان فهل هذا الحكم صحيح أم لا؟ وإذا قلتم صحيح فهل يقتضي صحة التبايع المذكور أم فساده وهل لحاكم شرعي الآن نقض التبايع والحكم به أم لا؟ لا سيما مع كون الحاكم الشافعي المذكور من أهل العلم الوافر وكمال النظر في فروع الفقه وغيره كما هو مشهود بذلك، وهل يقتضي صحة ما تقدم ذكره قول الإمام النووي رضي الله عنه(1/234)
في روضته ولو باع الماء في قراره نظر إن كان جارياً فقال بعتك هذه القناة مع مائها أو لم يكن جارياً، وقلنا الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولاً تفريق الصفقة وقوله بعد ذلك بنحو أربعة أسطر ولو باع جزءاً شائعاً من البئر أو القناة جاز وما ينبع مشترك بينهما أم لا يقتضي ذلك صحة ما ذكر وإذا قلتم أن قوله وفي القرار قولاً تفريق الصفقة يرجح صحة بيع القرار فقط في الصورة المذكورة فهل يكون المشتري مستحقاً للماء النابع به لكونه نابعاً في ملكه كما يؤخذ من المسألة الثانية وأيضاً فهل التعبير في مكتوب الشراء عن الحصة المبيعة من القرار بقوله الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية مخل بالتبايع أو بالحكم به أم غير مخل بذلك لإمكان تأويلها بما يصححها؟. فأجاب رضي الله عنه: قد استفتى شيخ الإسلام السراج
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/235)
البلقيني عن هذا السؤال بعينه فلم يصرح فيه نفسه بشيء، وبيانه أن الجمال ابن ظهيرة قال في سؤاله له العيون التي بمكة المشرفة وغيرها من بلاد الحجاز لا يعرف الذي ينبع منها غالباً وإنما يجري في مجار إلى أن يبرز من الأرض التي يسقي منها ويتبايعونه بالليالي والأيام والساعات يشتري الشخص من آخر ساعة من النهار إلى الليل بثمن معلوم ويتصرف فيها فهل يصح هذا ويملكه ثم قال السائل بعد أسطر وجرت عادتهم بأنهم يكتبون اشترى فلان من فلان ساعة من قرار كذا فهل ذلك معتبر أم لا؟ فأجاب البلقيني رحمه الله تعالى وأطال ومع ذلك فلم يصرح في جواب السؤال الثاني بشيء يخصه في النسخة التي رأيتها الآن، وإنما أجاب في الحقيقة عن الأول فقط، وعبارته بعد فرضه الكلام في ملك محل النبع والمجرى، وأما شراء الماء المذكور ساعة من النهار أو الليل فهذا لا يصح لجهالة المبيع وبعد فرضه الكلام في ملك الثاني فقط إذا صدر بيع في هذه الصورة على الماء الكائن في الأرض فلا يصح لأنه غير مملوك لصاحب الأرض ثم قال وما ذكره في السؤال من أنه لا يعرف الأصل الذي ينبع منه غالباً جوابه أنه لا يصح بيع الماء في هذه الصورة لأنه غير مملوك والتبايع الواقع بالليالي والأيام والساعات كله غير صحيح لأنه لم يصادف ملكاً للبائع في ذلك ولا يملك المشتري شيئاً من ذلك ولو فرعنا على الصحيح أن الماء يملك فإنه ليس هنا سبب يقتضي ملك الماء اهـ، فهو مطلق لعدم صحة بيع الماء المقدر بساعة مثلاً وغير متعرض لخصوص ما إذا بيعت ساعة مثلاً من قرار كذا، وإن أكد بكل لأن تعليله بعدها صريح في أن الفرض أن المبيع هو الماء من غير تعرض للمقدار وهذا الفرض المخصوص فيه تعرض للمقدار والزمان معاً فما المعتبر منهما كما أشار إليه السائل فلم يجب عن هذا الخصوص بشيء، وإنما أجيب بكلام مطلق لا يحتج به في مثل ذلك وعلى تسليم شموله له فهو متوقف على تقدير مضاف بعد من أي من ماء كذا إذ لا يظهر القول(1/236)
ببطلان البيع في هذا الفرض المخصوص إلا بتقدير ذلك المضاف وهو غير لازم، إذ اللفظ كما يحتمل تقديره فيبطل يحتمل عدم تقديره وارتكاب مجاز فيه فيصح بأن يراد بالساعة الجزء بدليل قوله من قرار عين كذا لأن من هنا للتبعيض لا غير كما لا يخفى ومن التبعيضية صريحة في اتحاد ما قبلها مع ما بعدها مفهوماً وحقيقة فهو قرينة ظاهرة في أن المراد بالساعة الجزء إذ لا يقال ساعة من محل كذا إلا بارتكاب ذلك التجوز وإذا دار الأمر بين تصحيح لفظ بتجوز من غير تقدير مضاف محذوف وإبطاله بتقدير محذوف كان تصحيحه أولى من إبطاله لوجهين: أحدهما: أن احتمال الصحة مقدم على احتمال البطلان كما يصرح به قاعدة أن القول قول مدعي الصحة غالباً عملاً بأن الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين الصحة وإن كانت خلاف الأصل الثاني أن المجاز أولى من الإضمار على قول قال به كثيرون وعلى الأصح من أنهما سيان لاحتياج كل منهما إلى قرينة، فالمجاز هنا أولى عملاً بقاعدة أن تصحيح اللفظ حيث أمكن أولى من إبطاله، وقد عولوا على ما دلت عليه من التبعيضية في بعض مسائل الصبرة ولم ينظروا لاحتمال أنها لابتداء الغاية أو بيان لمفعول محذوف إلا على بحث لبعض المتأخرين قيده بما أراده فليعول عليها هنا كذلك، إذا تقرر ذلك فالذي دل عليه كلامهم أن المتبايعين إن أرادا بقولهما ساعة أو ساعتين من قرار كذا جزءاً معيناً من المجري المملوك صح البيع نظير ما ذكروه في مسائل منها بيع ذراع من أرض مع إرادة الشيوع أو التعيين ولم ينظروا إلى أن الشيوع لا يفهم من مطلق الذراع إلا بتأويل ومنها البيع بثلاثة آلاف إلا ما يخص ألفاً أو بدينار إلا درهماً، وأراد الاستثناء من القيمة المعلومة بل مسألتنا أولى بالصحة من هذه، لأن ما أراده فيها يدل عليه ظاهر قولهما من قرار عين كذا، وما أراده بالاستثناء لا يدل عليه ظاهر اللفظ بل يدل على خلافه وتخيل فرق بين المبيع والثمن بأنه غير مقصود لذاته ولذا جاز(1/237)
الاستبدال عنه بخلاف المبيع غير مؤثر لأن الإرادة لها تأثير في المبيع أيضاً كما قالوه في مسائل الذراع والصاع وغيرهما فإناطة الحكم بها لا تنافي قاعدة لذاته وإنما لم يكتف بالنية فيما إذا كان في البلد نقود مختلفة القيمة ونويا أحدها لأن اللفظ هنا وهو قوله بعشرة مثلاً لا دلالة له على شيء وضعاً ولا قرينة فلو أثرت النية معه لكان فيه إعمال لها وحدها وهو ممتنع فيما ذكره شرط، وأما في مسألتنا فهو دال على المنوي باعتبار ما قررناه وما سنقرره فليس فيها إعمال للنية وحدها بل بما دل عليه اللفظ الموافق لها وإن أرادا بذلك مدلوله الحقيقي مع تقدير مّا بطل البيع وإن لم يرد أشياء فإن اطرد في عرفهما التعبير بالساعة في مثل هذا التركيب عن الجزء المعيّن من القرار المملوك صح البيع أيضاً كما يصرح به قول المجموع رداً على صاحب البيان ومن تبعه إذا عبر بالدراهم عن الدنانير صح لأنه يعبر بها عنها مجازاً كقولك في عشرين درهماً مثلاً هذه دينار إذا كان ذلك هو صرفها أي هذه صرف دينار فهو من مجاز الحذف اهـ، ويؤيده تصريحهم في الثمن عند إطلاقه بحمله على المتعارف بينهم ولو غير نقد ومن ثم قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/238)
ابن الصباغ لو قال بعتك هذا بعشرة أثواب وأطلق وكان لهما عرف انصرف إليه كالنقدين اهـ، وإذا ثبت أن للعرف تأثيراً في تخصيص المطلق في البيع به ثبت ما قلناه هنا من الصحة إذا أطلقا واطرد عرفهما كما ذكر وإن أطلقا ولم يطرد لهما بذلك عرف فهذا هو محل النظر والتردد والقاعدتان السابقتان قاعدة مدعي الصحة وقاعدة أن تصحيح اللفظ أولى من إبطاله ما أمكن يرجحان الصحة أيضاً ويعضدها قول الموثق مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم وإن كان ممن يعوّل عليه في ذلك. نعم إن أطلقا واطرد عرفهما بأن المراد بذلك مع الماء مقدراً بزمن لم يبعد القول بالبطلان حينئذ ولو اختلف الناويان في الإرادة صدق مدعي الفساد نظير ما قالوه في الذراع لكن لا يتأتى هذا هنا لحكم الحاكم المستلزم لثبوت موجب الصحة عنده من حيث الصيغة بناء على ما قاله السبكي وغيره، والحاصل أن حكم الحاكم لا ينقض إلا بعد تحقق موجب نقضه، وأما مع عدم تحقق موجبه فلا يمكن القول بنقضه كما يصرح به كلامهم وقد ظهر مما قررته أن موجب النقض لم يتحقق وأن هذا اللفظ له محتملات بعضها صحيح وبعضها باطل ومع ذلك فلا نبطله إلا إذا تحققنا أن ذلك الاحتمال الباطل هو المراد ولم نتحققه ولا ينافي ما تقرر قولهما جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا لأنا إذا فرضنا أن المراد بالساعتين جزء معين من القرار المملوك أو حملنا اللفظ على ذلك لما مر صح تسمية ذلك الجزء سقية لأنه سببها ويدل عليه قول الموثق بما للحصة المذكورة من حق قرار العين المذكورة الخ، فإن قلت القرار المذكور أوّلاً هو المقر المذكور ثانياً والعبارة تقتضي تغايرهما وإن حصة السقية غيرهما قلت لا تقتضي ذلك لأن قوله ومقرها وما بعده معطوف على قوله المقر أي حق من حقوق المقر والممر والمراد بحقهما غيرهما كما هو واضح، وغاية ما فيه أن الموثق تفنن فعبر بالقرار ثم عبر ثانياً عنه بالمقر وأعاده مختلفاً لفظه مع اتحاد معناه لبيان(1/239)
شمول البيع لجميع حقوقه، وقول الموثق ومن مائها الجاري بها الخ، صريح في أن المراد بالساعتين جزآن من القرار كما قررناه، ويدل له التعبير بالسقية إذ هي فعيلة بمعنى فاعلة أي ساقية، إذ الساقية اسم للقرار لا للماء وما ذكر في السؤال عن الروضة لا يقتضي صحة البيع فيما ذكر إلا بالتقدير الذي ذكرناه، وأن المراد بالساعة الجزء أو أنها محمولة عليه عند الإطلاق على أن كلام الروضة قد تناقض في ذلك في مواضع ثلاثة أو أربعة، وقد بينت الجمع بينها في جواب بعض أسئلة وردت من حضرموت مع الرد على البلقيني في اعتراضاته عليها في جوابه السابق بعضه، وحاصل ما تجتمع به عباراتها أن المملوك إن كان محل النبع والقرار الذي يجري فيه منه إلى الأراضي فإن وقع البيع على ذلك كله أو جزء شائع منه معين صح، وجرى في دخول الماء الموجود عند البيع ما قرروه في باب الأصول والثمار وإن كان المملوك هو القرار الذي هو القناة دون محل النبع فإن ورد البيع على القرار صح أيضاً ولكن لا يدخل الماء لأنه في هذه الصورة غير مملوك له وإنما يدخل في ذلك استحقاق الأرض فيه المسمى بالشرب ومراد الروضة بعدم الصحة في الماء في الصورة التي أجرى فيها خلاف تفريق الصفقة لأنه لا يصح بطريق الملك إلا في الأرض دون الماء فإنه إنما يصح فيه بطريق الاستحقاق، ومن ثم صرح فيها قبل تفريق الصفقة بصحة البيع فيهما أي في الأرض بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق التبع والاستحقاق ولا تناقض بين كلاميها خلافاً لمن ظنه، نعم المشكل إنما هو إجراء خلاف تفريق الصفقة في القرار وقد يجاب عن هذا بأن فائدة إجرائه حتى يبطل في الماء الرجوع بما يقابله من الثمن لأنا إن قلنا بالصحة فيه فهي بطريق التبع والاستحقاق وما كان كذلك لا يقابل بجزء من الثمن فإذا قوبل به اقتضى ذلك بطلان البيع فيه وفي الأرض على الضعيف وفيه وحده على الصحيح فاتضح وجه جريان الخلاف في الأرض وإن أجريناه فيها وقلنا بالبطلان في(1/240)
الماء فإنما هو من الحيثية التي قررناها آنفاً والكلام كما علم مما تقرر في محل قرار الماء المملوك دون محل نبعه، لأن ملكه لا يستلزم ملك الماء بل يكون المالك أحق به وأما محل نبعه مع قراره المملوك كل منهما فيصح البيع فيهما فتأمل ذلك فإنه مهم ومن ثم اضطربت فيه الإفهام وكثرت فيه السقطات والأوهام فإن قلت ينافي ما تقرر من الجواب قول جمع ردّاً لما في الروضة ما لا يجوز بيعه إذا كان مجهولاً وبيع مع غيره بطل البيع في الجميع بناء على أن الإجازة بالقسط والقسط غير ممكن للجهالة، قلت إنما يتضح ردهم إن لو سلمنا لهم دعوى الجهالة بالقسط وهي غير مسلمة فقد قال جمع في نحو الخل والخمر والشاة والكلب أو الخنزير أن الباطل يقوّم عند من يرى له قيمة كأهل الذمة فكذلك الماء هنا يقدر عند من يرى له قيمة، ويصح بيعه مطلقاً وهم المالكية وعلى المعتمد من أن ذلك يعتبر بما يشابهه كالخل والعتر فكذلك يعتبر الجاري هنا بما يشابهه فيقدر راكداً ويوزع الثمن عليه مع الأرض، فإن قلت وما حكم عيون مكة هل هي مملوكة لأربابها قراراً ومنبعاً أو قراراً فقط، قلت بل قراراً ومنبعاً كما يصرح به قول الروضة وأصلها لو صادفنا نهراً يسقى منه أرضون ولم ندر أنه حفر أي فيكون مملوكاً أو انخرق أي فلا يكون مملوكاً حكمنا بأنه مملوك لأنهم أصحاب يد وانتفاع اهـ على أن ما نحن فيه أولى بالملك من صورة الروضة لأن صورتها ليس فيها قرينة على الملك غير وضع اليد وهنا مع وضعها قرينة أخرى وهي بقاء تلك العيون الذي هو صريح في ملك الباني لمحل ذلك البناء، فإن قلت كيف يصح البيع في تلك العيون منبعاً وقراراً مع عدم رؤيتهما، قلت أما ما تحت الأرض من مجرى العين وذيلها فلا يشترط رؤية جميعه لتعذره كأساس الجدار كما بحث من عدم اشتراط رؤية المستتر في ذي الوجهين وإن سهل بالفتق وإنما الذي يشترط رؤيته منها ما يختلف به الغرض أخذاً من أن البئر لا يشترط رؤية جميعها بل ما يختلف به(1/241)
الغرض منها عند أهل الخبرة من جدرانها ونحوها، وأما القناة الظاهرة فلا بد من رؤيتها جميعها بأن يحبس الماء عنها ولا يكفي رؤيتها من ورائه وإن كان صافياً ثم رأيت
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
البلقيني تعرض لما في السؤال فقال وما جرت به العادة في مكة شرفها الله تعالى من أنهم يكتبون اشترى فلان ساعة من قرار عين كذا غير صحيح ولا معتبر وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع اهـ وهو غير مناف لما ذكرته من وجوه: منها: أنه أطلق عدم الصحة ولم يبين مدلول ذلك اللفظ ولا ما فيه من الاحتمالات ونحن قد فصلنا محتملاته وبينا كل واحد منها وما يدل له من كلام الأئمة فلا ينافي إطلاقه تفصيلنا بل يتعين حمى الإطلاق على الوجه الباطل الذي قدمناه وهو ما إذا أراد أن المبيع الماء مقدراً بزمن أو أطلقا وعرفهما ذلك. ومنها: أنه لم يبين لما ذكره دليلاً ونحن قد بينا لما ذكرناه أدلة من كلامهم سيما ما قدمناه عن مجموع النووي. وعن ابن الصباغ ولا يسع البلقيني أن يقول إذا أرادا بالساعة جزءاً معيناً من القرار المملوك يبطل البيع لأنه حينئذ يكون مخالفاً لصريح كلام أئمته من غير مستند بل لا يسعه أيضاً أن يقول بالبطلان إذا اطرد عرفهما بالتعبير بالساعة من القرار عن الجزء المعين من القرار المملوك لمخالفته لصريح كلامهم الذي قدمته عن المجموع وغيره وإذا ثبت أنه في هاتين الحالتين ملزوم بالقول بالصحة فلا يستدل بكلامه على بطلان حكم الحاكم لما قدمناه أن حكم الحاكم يصان عن النقض مما أمكن وأنه لا يصار لنقضه إلا إذا تحققنا موجب نقضه ولا يتحقق موجب نقضه في هذه الصورة إلا إذا ثبت أنهما أرادا بالساعة من القرار حقيقتها من مائة أو من القرار نفسه وهو غير مملوك، وأما إذا لم يثبت ذلك فلا يمكن القول بنقضه كيف وله محتملات بعضها صحيح وبعضها باطل، ولم يثبت وجود ذلك الباطل. ومنها: أن قول البلقيني وطريق البيع(1/242)
أن يقع على القرار الذي هو محل النبع صريح في أن سبب البطلان في ساعة من قرار كذا ليس هو ذكر الساعة فحسب بل عدم إيراد البيع على غير محل النبع وهذا غير صحيح لتصريحه هو وغيره بصحة بيع الجزء من القرار المملوك وإن كان غير محل النبع فإن قلت ما وجه صريح قوله وطريق البيع الخ، في أن سبب البطلان ما ذكر، قلت وجه ذلك أنه إذا كان السبب هو ذكر الساعة من قرار عين كذا لم يكن قوله وطريق البيع الخ ملائماً لما قبله ولا مرتبطاً به فإن البيع إن وقع على محل النبع أو غيره هو في ذلك سواء فكيف مع ذلك يقول وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع، والحاصل أن ما ذكره هنا ينافيه ما قدمه نفسه أول جوابه وهذا مما يضعف كلامه ويوجب عدم اعتماد إطلاقه البطلان، ويبين أن الحق ما فصلناه وقلناه وإن كنا معترفين بنقص مقامنا عن مقامه إلا أن الحق أحق أن يتبع على أنه رحمه الله كان في أكثر أحواله غير متقيد بكلام أئمة مذهبه لوصول مرتبته من مرتبة الاجتهاد بل لأقصاها كما قاله تلميذه الولي أبو زرعة ، ويؤيد ذلك أنه جرى في جوابه هذا على مخالفة الروضة في أماكن كثيرة والحق فيها ما في الروضة كما بينته في جواب غير هذا وأشرت إليه فيما مر ومن مخالفته لما فيها قوله بصحة بيع الماء الجاري وهذا أدل دليل على أنه لم يرد بإطلاقه البطلان في ساعة من قرار كذا إلا إذا كان المراد الماء وحده وأن المراد بالساعة مفهومها الحقيقي والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/243)
وسئل رضي الله عنه في قضية شرعية وقع لها مستند شرعي ملخص مضمونه بعد أن أذن الحاكم الشرعي لفلان الفلاني في شراء المبيع الآتي ذكره فيه لنفسه ولبقية ورثة والده محاجير الشرع الشريف إذناً شرعياً اشترى المأذون له المذكور من فلانة الفلانية جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية في الوجبة المعروفة بكذا وعدة وجاب العين المذكورة أربع عشرة وجبة كل وجبة اثنتا عشرة ساعة كل ساعة قيراطان كبيران بما يجب للحصة المذكورة من حق من حقوق العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذيولها ومجاري مائها ومن مائها الجاري بها يومئذ من فضل الله تعالى اشتراء صحيحاً شرعياً مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم بثمن جملته كذا وثبت ذلك لدى الحاكم الآذن المشار إليه وحكم بموجبه فهل البيع المذكور على هذا الوجه صحيح أم لا؟ وهل الحكم بإبطاله نقض لحكم الحاكم أم لا؟ وهل حكم الحاكم في هذه المسألة متضمن للحكم بصحة العقد أم لا؟ وهل هذه الصورة مطابقة لما أفتى به الإمام البلقيني رحمه الله من بطلان البيع فيه أم لا؟ وهل ينقض حكم حاكم شرعي من أهل العلم والنظر في فروع الفقه وغيره بإفتاء عالم مثله أو أعلى منه أم يحمل حكم الحاكم على السداد ما أمكن؟. فأجاب رضي الله عنه المبيع المذكور فيه تفصيل وهو أنه يصح فيما إذا أراد العاقد أن بالساعة جزءاً معيناً من قرار العين الذي هو محل النبع أو المجري المملوك أو لم يريداه لكنه عرفهما حال العقد ويبطل فيما إذا أرادا بها جزءاً من الماء الجاري والحكم بإبطال البيع مطلقاً غير صحيح ونقض حكم الحاكم لا يجوز إلا إن تعذر حمله على معنى صحيح، وأما إذا لم يتعذر كما هنا فلا يجوز نقضه كما صرح به الأئمة منهم التاج الفزاري وجماعة من أئمة عصره رداً على القاضي ابن خلكان لما خالفهم ثم رجع إليهم بل نقل الشيخان في الروضة وأصلها عن الغزالي وأقراه أن حكم المستقضي للضرورة إذا وافق مذهب الغير لا ينقض بناء(1/244)
على أن له أن يقلد من شاء أي من الأئمة الأربعة وهو الأصح وحكم الحاكم المذكور متضمن للحكم بصحة العقد، كما صرح به السبكي وعبارته الحكم بالموجب صحيح ومعناه الصحة مصونة عن النقض كالحكم بالصحة وإن كان أحط رتبة منه فإن الحكم بالصحة يستدعي ثلاثة أشياء أهلية التصرف وصحة صيغته وكون التصرف في محله والحكم بالموجب يستدعي الأوّلين فقط وهما صحة التصرف وصحة الصيغة انتهت واعتمدها
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/245)
الكمال السيوطي في جواهره والتنظير فيها إن سلم ليس لما يرجع لرد ما قاله من تضمن الحكم بالموجب لصحة الصيغة كما هو ظاهر ولا ينافيها قول غيره في الحكم بالموجب إن صحيحاً فصحيح وإن فاسداً ففاسد، لأن معناه إن صح الشرط الثالث فصحيح وإن فسد لفقد ففاسد، وأما الحكم بصحة الصيغة فالحكمان متفقان عليها وعلى تسليم أن بينهما فرقاً فتصرف الحاكم بالإذن وغيره في قضية رفعت إليه وطلب منه فصلها حكم منه بالصحة فيها على ما فيه مما ليس هذا محل بسطه وليست هذه الصورة مطابقة لما أفتى به البلقيني من كل وجه لأن فيها زيادات منها حكم الحاكم وإذنه ففيها قرائن دالة على أن المراد بالساعة الجزء ومنها قوله ومن مائها الجاري بها يومئذ وكل ساعة قيراطان، إذ المعنى معه التي قدرها قيراطان من قرار عين كذا وهذا مما لا يتخيل فقيه البطلان فيه، ومنها قول الموثق مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم على أن كلام البلقيني يتعين حمله على الحالة الثالثة إذ لا يسعه القول بالبطلان في الأوليين، أما الأولى فلما تقرر من دلالة اللفظ على ما أراده مع التصريح بنظائرها في كلامهم وأما الثانية فللتصريح بنظيرها في شرح المهذب وغيره وقاعدة أن تصحيح اللفظ أولى من إهماله وإن دعوى الصحة مقدمة على دعوى الفساد، لأن الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين الصحة، يؤيد أن ما حملنا عليه كلامه وإذا تعارض حكم وإفتاء فإن كان في صورة علم حكمها في المذهب قدم موافقه وإن كانت في حادثة مولدة لم يتعرض لها أهل المذهب كصورة السؤال فإنا لم نعلم ل لبلقيني فيها سلفاً ولا خلفاً موافقاً ولا مخالفاً فإن كان كل من المفتي والحاكم فيه أهلية الترجيح والاستنباط لم ينقض حكم الحاكم لإفتاء المفتي، وإن كان المفتي أعلم وإن تأهل لذلك المفتي وحده تعين على الحاكم الرجوع إليه، وإلا تأتي في نقضه ما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/246)
(مسألة) سئل بعض المكيين عن سؤال صورته رجل اشترى جيع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا بمر الظهر أن من أعمال مكة المشرفة فهل يصح هذا أم لا؟ كما دل عليه جواب شيخ الإسلام البلقيني فإنه سئل عن مثل هذا وصورة ما سئل عنه قد جرت العادة بمكة أنهم يكتبون اشترى فلان من فلان ساعة من قرار عين كذا فهل ذلك معتبر أم لا؟ فأجاب بأنه غير صحيح ولا معتبر، وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع وحكم الماء قد سبق اهـ فهذا كالصريح في أن البيع في مسألتنا غير صحيح وإذا كان كذلك فما وجهه؟ ولو أن مفتياً قال بالصحة في مسألتنا نظراً إلى أن المراد بالساعتين جزء من القرار على ضرب من المجاز قياساً على بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان فهل له وجه مع أن القرار الذي هو محل النبع غير معلوم ولا يعرف له أصل كما أشار إليه القاضي جمال الدين بن ظهيرة في سؤاله للبلقيني وما وجه القياس على الصبرة؟ فأجاب بعض المكيين بما صورته: إفراد الماء الجاري من نهر أو بئر أو عين بالبيع غير صحيح كما صرح به أئمتنا للنهي عن بيع الماء وللجهل بقدره، والحيلة فيمن أراد شراء ذلك أن يشتري القرار مثلاً أو سهماً منه فإذا ملك ذلك كان أحق بالماء وإذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح للجهل بعين المبيع لاختلاط الموجود بالحادث ولعدم إمكان تسليمه شرعاً وقولهم مثلاً اشترى فلان ساعة أو ساعتين من قرار عين كذا لا يراد منه فيما أعلم في العادة بمكة إلا بيع الماء مقدراً بزمن ولهذا أفتى شيخ الإسلام البلقيني في صورته التي سئل عنها بعدم الصحة ولا ينافي عدم الصحة في مسألتنا قوله من قرار لأنه بيان لمحل المبيع فهو صفة لما قبله متعلق بمحذوف، وأما احتمال أن يراد بالساعتين جزآن من القرار وكون من قرار ظرفاً لغواً ومن للتبعيض فهو وإن أمكن لكن لا يخفى أن جعل الزمان الذي هو عرض غير قار جزءاً من القرار الذي هو جسم قار مع ما بينهما من التنافي بعيد(1/247)
جداً ينبو عنه اللفظ لا سيما وصف الحصة بالسقية، إذ السقية هي الماء لا الجزآن من القرار بل الوصف المذكور قرينة ظاهرة عند من له أدنى تأمل في أن المبيع هو الماء المقدر بساعتين وعلى تسليم إرادة ذلك وقطع النظر عن استعمال اللفظ فيما يراد منه عادة فالبيع غير صحيح أيضاً لكون القرار غير مرئي بل ولا مملوك ولا يعرف له أصل كما ذكره عالم الحجاز في زمنه في سؤاله لشيخ الإسلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/248)
البلقيني وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، وأما القياس على بيع الصبرة فلا وجه له فيما ظهر لي اهـ جواب هذا المكي فهل هو صحيح أو فاسد وما وجه فساده مبيناً مبسوطاً ليعظم النفع بذلك؟. فأجاب والله الموفق للصواب هذا الجواب اشتمل على وجوه من الفساد والميل إلى داعية التهوّر والعصبية والعناد وبيان ذلك أن قول هذا المجيب والحيلة فيمن أراد شراء ذلك أن يشتري القرار يناقضه قوله فيما يأتي أن القرار غير مملوك وهذا تناقض صريح فإنه حكم على القرار هنا بأنه يشتري وفيما يأتي زعم أنه غير مملوك ولعل الموقع له في ذلك الذي لا يخفى فساده على صغار المتعلمين فساد النية فإن قلت كلامه هنا على مطلق القرار وفيما يأتي على قرار عيون مكة قلت إن أراد أن مطلق القرار مملوك الإقرار عيون مكة فإنها غير مملوكة كان ذلك أقبح في الخطأ لأنه دعوى باطلة بلا مستند لها بل كلامهم صريح في ردها وأن القرار تارة يكون مملوكاً وتارة يكون غير مملوك وأنه لا فرق في ذلك بين عيون مكة وغيرها على أن كلامه هنا صريح في أن مراده ما يشمل قرار عيون مكة وغيرها وإلا لم يصح قوله، وإذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح وإذا كان كلامه يقضي بأن المراد منه ما يشمل عيون مكة جاء التناقض وكان الحاصل له على هذا التناقض غير ما مرت الإشارة إليه أنه لما لم يتحصل في القرار على شيء من كلامهم لأن فيه شبه تناقض في الروضة وليس هو ممن له قوّة على الجمع بين المتناقضات تكلم فيه برأيه فبدا له أوّل الجواب أنه ملوك يشتري وأنه الذي تتم به الحيلة في استحقاق الماء ثم بدا له آخر الجواب أنه غير مملوك ومن هذا حاله ينبغي الإعراض عن كلامه لولا ما وجب من بيان ما اشتمل عليه من الأباطيل التي ستراها إن شاء الله تعالى واضحة بحول الله وقوّته، وسيأتي بيان أن عيون مكة مملوكة عند زعمه عدم ملكها، وقوله كان أحق بالماء خطأ أيضاً لأنه إن أراد بالقرار المنبع المملوك بطل قوله كان أحق بالماء(1/249)
لتصريحهم بأن من يملكه ملك الماء أو المنبع غير المملوك بطل قوله أن يشتري القرار، وقوله كان أحق بالماء لأن المنبع إذا كان غير مملوك لا يصح شراؤه ولا يكون أحد أحق بمائه كما صرحوا به أيضاً وإن أراد بالقرار المجرى تأتي فيه بعض هذا الفساد وما في قول البلقيني المذكور في السؤال أن يقع على القرار الذي هو محل النبع فتأمل هذا الفساد والتناقض الواقع لهذا المجيب في أقل من سطر على أن في قول البلقيني
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/250)
الذي هو محل النبع مؤاخذة قدم في كلامه ما يفهمها كما ستراها إن شاء الله تعالى واضحة في كتابي الذي وضعته في هذه المسألة وسميته نزهة العيون في حكم بيع العيون واعلم أن الذي عبروا به في الحيلة أن يشتري القناة مثلاً أو جزءاً منها فيكون أحق بالماء وهذا تعبير صحيح ولما لم يظهر للمجيب فرق بينه وبين تعبيره بالقرار عبر بالقرار معتمداً على تعبير البلقيني به، وفاته أنه لما أخذ بعض كلام من كلام البلقيني وهو التعبير بالقرار من قرار العيون وبعضه من كلامهم وهو كونه أحق بالماء وقع في ورطة التناقض والاختلاف وهذا شأن من يلفق كلاماً من عبارات من غير أن يتأمل ما يترتب على ذلك من التناقض والتخالف إذ القرار يطلق على المجرى وعلى المنبع المملوكين وغيرهما، فإن أريد به المنبع المملوك كان ملكه مستلزماً لملك الماء كما صرح به البلقيني وغيره، وإن أريد به المجرى المملوك كان ملكه غير مستلزم لملك الماء ولكنه يكون سبباً لكونه أحق به ولذا لما عبروا بالقناة ونحوها عبروا بأحقية الماء فلو تبعهم في التعبير بالقناة أو المجرى مثلاً لسلم من هذه الورطة التي وقع فيها، وقوله وإذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح الخ، غير صحيح لأن ما قدمه لا يفيد عدم الصحة في مسألتنا وإنما الذي يفيده على زعمه ما سيذكره، وقوله لا يراد منه فيما أعلم من العادة بمكة إلا بيع الماء مقدراً بزمن يقال عليه كان هذا المجيب لم يطلع على آداب المفتي، وقولهم إن المفتي لا يكتب على ما يعلمه في الواقعة بل على ما في السؤال أو يقول إن كان كذا فحكمه كذا وإن كان كذا فحكمه كذا فعلم أن جزم هذا المفتي بهذه الدعوى وترتيبه بقية جوابه عليها خطأ فاحش حمله عليه مزيد التعصب لصديقه الذي قال هو عنه أنه ألزمه بالكتابة على هذا السؤال مع أنه لم يسبق له كتابة على سؤال قط لمزيد ديانته اهـ، وبحمد الله أئمة الدين متوفرون قائمون بحفظه وردع من عاند أو تعصب على أنه لو فرض له(1/251)
تسليم ما قاله فالاحتجاج به هنا باطل لأنه لا عبرة بالعادة التي يعلمها هذا الزعم وقت كتابته وإنما العبرة بالعرف المطرد حال وقوع البيع المذكور ولا يستدل بالعادة التي زعم وجودها الآن على وجودها في ذلك الزمن لأن هذا من الاستصحاب المقلوب وأظن أنه لم يحط به ولا بشروطه أو لم يستحضر ذلك وإلا كان من الواجب عليه أن يبين وجه تخريج ما زعمه هنا على تلك القاعدة وينظر هل تنتج له ما ذكره أم لا وبسط الكلام عليها سيملي عليك من كتابي نزهة العيون في بيع العيون وعلى تسليم ذلك، كله وإن العادة مطردة بما ذكره ففي أي كتاب من كتب الشافعية أن لفظ المتعاقدين إذا احتمل من حيث وضعه أمرين على السواء، واقتضى العرف ترجيح أحد اللفظين ونويا غيره يقدم العرف على ما نوياه سواء أكان الذي يقتضيه العرف مصححاً أو مبطلاً فإن أتى هذا المجيب بنقل بذلك كان له نوع مّا من العذر وإلا كان الخطأ أقبح لأنه استدل بما يعلمه من العادة ثم رتب عليه حكماً لا مستند له وفي هذا كله من التفوّل على الدين ما نسأل الله الإعاذة منه ومما يبطل ما زعمه من العادة ما هو غير خاف عنه ولا عن غيره أنه لا يوجد من أهل عيون مكة من يملك ماء محرداً عن القرار قط بل كل من ملك الماء ملك قراره بحيث إن ذيل العين ومجراها أو منبعها إذا خرب وتنازع الشركاء في عمارتها عمروها على حسب ملكهم للماء ولو رفعوا الأمر إلى قاضي مكة أو أميرها لحكم بينهم بذلك وهذا أمر مشهور لا يخفى على أحد ومما يبطل ما زعمه من العادة أن بعض عيون مكة الآن خراب لا يجري فيها ماء من منذ سنين كثيرة وقد أخبرني بعض الثقات أنه اشترى من هذه العين أجزاء وإن صورة مشتراها اشترى فلان ساعة من قرار عين كذا فانظر إلى إيقاعهم لفظ الساعة من القرار على عين لا ماء فيها، وهذا أدل دليل وأعدل شاهد على بطلان ما زعمه هذا المجيب من أن العادة أنه لا يراد إلا الماء المقدر بزمن، وقوله ولهذا أفتى شيخ الإسلام الخ، يقال(1/252)
عليه يتعين حمل ما أفتى به شيخ الإسلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
البلقيني على ما إذا أراد بالساعة جزءاً من الماء، أما إذا أرادا بها جزءاً من القرار المملوك أو أطلقا واطرد عرفهما حالة العقد بأن المراد ذلك فلا يتخيل من له أدنى ذوق وفقه نفسي إلا الصحة فيهما، أما الثانية فظاهر وقد ذكر لها نظائر في شرح المهذب وغيره، وأما الأولى فكذلك وقد ذكر لها نظائر في كلامهم وستملي عليك تلك النظائر جميعها في نزهة العيون المشار إليه آنفاً ومن نظائر الأولى قولهم لو قال بعتك بدينار إلا درهماً فإن أراد الاستثناء من الملفوظ بطل أو من القيمة وعلمت صح ومسألتنا أولى بالصحة من هذه لأن الأئمة إذا عولوا على إرادتهما الاستثناء من القيمة التي ليست بملفوظة ولا في اللفظ ما يدل عليها وصححوا العقد بهذه النية مع مخالفتها لظاهر اللفظ بل لصريحه فأولى أن يعوّلوا على إرادتهما بالساعتين جزءاً معيناً من القرار المملوك ويصححوا العقد بذلك، وإذا اتضح لك ما ذكر من أنه يتعين حمل كلام البلقيني على ما مر علمت خطأ من تمسك بإطلاقه البطلان، وزعم أنه لا فرق بين أن يريدا ذلك أولاً ولا بين أن يطرد عرفهما بذلك أو لا ولكن موجب ذلك الوقوف مع ظواهر العبارات وعدم الملكة التي يقتدر بها الفقيه على تقييد المطلقات وتبيين المجملات وتزييف الهفوات أسأل الله أن يجعلنا أجمعين ممن رزق تلك الملكة وصحبه إخلاص ينجو به من كل هلكة آمين، وقوله لأنه بيان لمحل المبيع الخ، يقال عليه ليتك لم تتعرض للكلام في ذلك فإنه من متعلقات العلم الذي هو أعظم معلوماتك فإذا خلطت فيه كنت بالتخليط في غيره أحق وأولى وبيان التخليط الواقع في ذلك أنه إن عنى بقوله لأنه أي من قرار كذا بيان لمحل المبيع أن من للبيان وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر التعبير بالبيان مع قطع النظر عما بعده لزم عليه فساد وهو أن ما بعد من عين ما قبلها فيكون الماء عين(1/253)
القرار وهذا لا يقوله عاقل فكيف يحمل كلام العقلاء، ومن جملتهم المتعاقدان عليه وإن عنى به أن من بمعنى في أي الماء الذي في قرار كذا قيل له إنما يتأتى هذا مع ما فيه من التجوّز وإخراج اللفظ عن موضوعه الحقيقي إلى معنى آخر غريب غير مألوف منه إلا ما عند من شذ وندر على زعمته من أن المراد بالساعتين جزء من الماء وقد بان فيما مر بطلانه وإذا بطل ذلك بطل حمل من على في واتضح ما قلناه من بقائها على موضوعها الحقيقي وهو التبعيض وأن هذا هو القرينة على استعمال الساعة بمعنى الجزء من القرار وقوله فهو صفة لما قبله يقال عليه إن أردت أنه صفة لجميع أو للحصة تعين عليك عرفاً واصطلاحاً أن تعبر بأنه حال لا صفة ولا يقال الحال وصف في المعنى لأن هذا اعتناء لا يليق ممن يطلب منه تحرير العبارة والإتيان بها على مصطلح المحققين من أهل فنه وليست أل في الحصة هنا لتعينها مثلها في اللئيم يسيني كما لا يخفى على ذي ذوق وإن أردت أنه صفة لقدرها أو لساعتين نافي قولك أنه بيان لمحل المبيع، وقوله متعلق بمحذوف يقال عليه إن قدرته مفرداً تعين ما ذكرناه من الحالية أو جملة فكذلك إن أردت الجري على قوانين التحقيق ثم ليت شعري ما الداعي إلى هذا التكلف بإخراج من عن ظاهرها وموضوعها واستعمالها في معنى آخر غير مألوف عند من مر وبتعليقها بمحذوف محتمل والإعراض عن ظواهر تلك الألفاظ بأنواع من التكلفات لو كانت على عبارة
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/254)
سيبويه لم تسلم لمتكلفها إلا أن ضاق عليه النطاق وبلغت روحه التراق فقال هل من راق تالله ما الداعي لذلك إلا محبة حماية حرمة الصديق ولربما يكون سبباً لهوى الهوى به في كل مكان سحيق تاب الله علينا أجمعين آمين، وقوله ظرفاً لغواً كأنه جاء به ليوهم أن المراد باللغو عدم الاعتداد به وإلا كان يمكنه أن يجعله ظرفاً مستقراً إذ تكلفه دون بعض التكلفات التي مرت عنه وإنما أطلت معه الكلام في ذلك وإن كان الغرض ليس متوقفاً عليه تأسياً بالتاج السبكي فإنه لما نقل عن القاضي أفضل الدين الخونجي حد التركة المشهور وبحث معه بما زيف به حده، قال وهذه صناعات جدلية حملنا على ذكرها على الخونجي حيث أحب أن يستعمل في الفقه صناعته التي هي المنطق فأحببنا معارضته اهـ، المقصود منه وقوله لا يخفى إن جعل الزمان الذي هو عرض غير قار جزءاً من القرار الذي هو جسم قار الخ، يقال عليه تعجباً منه {سبحانك هذا بهتان عظيم} (النور: 16) لأنه إذا فرض احتمال أن يراد بالساعتين جزءاً من القرار فكيف يتوهم مع ذلك أن هذا فيه جعل الزمان جزءاً من الجسم لأنا إذا استعملنا الساعتين مراداً بهما الجزء للقرائن التي بيناها صار مدلولهما الجزء من القرار وحينئذ فأي زمان جعل جزءاً من جسم وكأنه ظن أن هذا التمويه يتم له وما درى أن الحدود إلى الآن ولله الحمد على غاية من الحفظ والاستقامة وأنه تعالى لم يخل الأرض من أئمة نقاد يميزون الزيف عن الجيد والخبيث عن الطيب ولا يخافون في الله لومة لائم بل الصديق بل الوالد عندهم في الحق سواء فمن سخط فله السخط ومن رضي فله الرضا، وقوله إذ السقية هي الماء باطل صراح، وإنما هي لغة اسم لنبت فإن أخذت من حيث مدلولها لفظاً كانت فعيلة بمعنى فاعل أي ساقية، وحينئذ تكون صريحة في مدعانا إذ الساقية لغة محل الماء الجاري وعلى كل تقدير فلا أدري ما الذي حمله على تفسير السقية بما ذكر، نعم له حامل عليه أي حامل مرت الإشارة إليه إذا تقرر(1/255)
ذلك علم أن السقية هنا إن أردنا بها معناها اللغوي كان استعمالها في الماء أو في محله مجازاً فلا يكون فيها دلالة لأحد الجانبين، وإن أردنا بها معناها الذي قررناه من حيث النظر للفظ كانت صريحة في مدعانا كما تقرر، فإن قال السقية عرفاً اسم للماء قلنا عاد النزاع السابق في الساعة ولم يكن فيها دلالة أيضاً، لأن محل النزاع لا يستدل به فبطل قوله بل الوصف المذكور قرينة ظاهرة الخ، وقوله لكون القرار غير مرئي يقال عليه قد ذكرت أوّلاً الحيلة في شرائه فكيف يشتري وهو غير مرئي فانظر أي التناقضين تختاره ومما يبطل قولك ما في السؤال عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/256)
البلقيني من أن طريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع، وقد ذكر هو محل النبع وقد ذكر هذا طريقاً لبيع عيون مكة بالذات لأنها هي محط السؤال فعلمنا من صريح كلامه أنه لا يشترط رؤيته ويؤيده ما صرحوا به في البئر وأي فارق بين قعرها وما استتر من جدرانها بالماء وبين المنبع وما استتر من المجرى بالأرض مما لا يمكن الاطلاع عليه بل هذا أولى بعدم اشتراط الرؤية لأنه لا يمكن رؤيته والبئر يمكن غالباً رؤية قعرها وجدرانها بنزح مائها، فإذا لم يشترطوا رؤية ذلك منها فأولى أن لا يشترطوه في مسألتنا وإذا تقرر أن كلام البلقيني صريح في عدم اشتراط الرؤية، وكذلك كلامهم في مسألة البئر اتضح بطلان قوله لأنه غير مرئي، وقوله لا مملوك باطل صراح أيضاً، ففي الروضة وأصلها لو صادفنا نهراً يسقي منه أرضون ولم يدر أنه حفر أي فيكون مملوكاً أو انخرق أي فلا يكون مملوكاً حكمنا بأنه مملوك لأنهم أصحاب يد وانتفاع اهـ وما نحن فيه أولى بالملك من صورة الروضة لأن صورتها ليس فيها قرينة على الملك غير وضع اليد وهنا مع وضعها قرينة أخرى أتم منها وهي بناء تلك العيون الذي هو صريح في ملك الباني لمحل ذلك البناء وقد قدم هذا المجيب الحيلة في صحة شراء القرار وهذا مستلزم لملكه فوقع في التناقض كما مر ذلك مبسوطاً، وقوله ولا يعرف له أصل يقال عليه هذا باطل صراح أيضاً لما علمته من عبارة الشيخين وأن الجهل بأصله لا يمنع ملكه، وقوله كما ذكره عالم الحجاز الخ، يقال عليه هذا كذب فإن الجمال إنما قال غالباً ومن أين لنا أن ما في مسألتنا من الغالب على أنه يقال له من ذا الذي سوغ لك أو لغيرك أن تأخذ كلام سائل أبرزه في مقام السؤال، وتجعله حجة على حكم شرعي سيما وشيخه البلقيني المسؤول قد رد عليه ما ذكره في سؤاله بكلام الروضة وأصلها الذي قدمته بل لو فرض أن عالم الحجاز هذا صرح في تصنيف أو إفتاء بخلاف ما دل عليه كلام الشيخين صريحاً لم يلتفت إليه ولا يعول(1/257)
عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل رضي الله عنه في بيع الناس الآن ما حقيقته على كل من المذاهب الأربعة وهل يلزم ذلك وهل يلزم بالنذر في مذهب السادة الشافعية وهل يجوز للناذر أن ينقل المبيع ببيع أو غيره وهل يلحقه النذر أم لا، إذا نقله أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة؟. فأجاب رضي الله عنه إن أريد ببيع الناس ما اعتيد من أنهم يتفقون على بيع عين بدون ثمن مثلها وأن البائع إذا جاء بالثمن ردوا إليه عينه من غير أن يقع منهم شرط في صلب العقد يفسده فالبيع حينئذ صحيح عند الشافعي رضي الله عنه، وإذا جاء البائع بالثمن تخير المشتري بين أن يقيله وأن لا يقيله لكن يبقى عليه إثم الغش والغرور، فإن البائع إن علم أنه لا يقيله لم يكن يبيعه له بذلك الثمن، ومتى نذر المشتري بعد لزوم البيع أنه متى جاءه البائع بقدر الثمن الذي اشترى به فسخ عليه البيع أو أنه يقيله متى جاء طالباً للإقالة لم ينعقد النذر على الأوجه من خلاف طويل بل وقع من جماعة من متأخري اليمن لأن ما التزمه ليس بقربة مطلقاً، أما الفسخ فواضح وأما الإقالة فإنها لا تكون سنة إلا في النادم ومن ثم لو علق النذر بالندم كأن قال إن ندمت في البيع المذكور وطلبت مني الإقالة فيه فللّه على إقالتك فيه فينعقد النذر حينئذ وكذا لو قال إذا ندمت فيه وطلبت مني الفسخ فيه فعلى فسخه فينعقد النذر أيضاً لأنه التزم به قربة فلزمه، وبهذا يعلم الجمع بين من أطلق الإفتاء بانعقاد النذر نظراً إلى أن إقالة النادم سنة، ومن أطلق عدم انعقاده محتجاً بأن الناذر لا يستقل بالفسخ وإن طلب خصمه إذ العبرة به فإطلاق الانعقاد محمول على ما ذكرناه آخراً وإطلاق عدمه محمول على ما ذكرناه أوّلاً ومتى علق النذر بصفة ثم باع العين المنذور بها قبل وجود الصفة صح البيع كما أفتى به الشيخ تقي الدين الفتي وغيره وما في كلام البغوي مما(1/258)
يخالفه ضعيف وفي المسألة كلام طويل ليس هذا محل بسطه ومما يدل لذلك من المنقول أنه لو قال إن شفي الله مريضي فللّه عليّ عتقه، ثم قال إن قدم زيد فعليَ عتقه ففيه مقالات، والراجح انعقاد النذر الثاني بعد النذر الأوّل وأنه لو وقع أحدهما قبل الآخر حكم بعتقه عنه ولا نوجب للآخر شيئاً وإن وقعا معاً أقرع بينهما وحينئذ فبيع العين التي تعلق بها النذر صحيح كما صح النذر الثاني ووقع العتق عن السابق بجامع بقاء الملك للرقبة فيهما فكما صح التصرف فيها بالنذر الثاني فليصح التصرف فيها بالبيع ونحوه، لأن مأخذ الصحة بقاء الملك والتصرف فحسب فاندفع ما يتوهم من أن ملخصها أن النذر قربة ويؤيد ذلك أيضاً أن المعلق عتقه بصفة يجوز وقفه ولا يعتق له وجدت الصفة بعد وقفه بناء على الأصح أن الملك في الموقوف لله تعالى هذا هو المنقول من كلام الشافعي والأصحاب خلافاً للبغوي ومن تبعه، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل رضي الله عنه ما حكم عطايا أرباب ولايات زماننا؟. فأجاب بقوله: عطايا الولاة قبلها قوم من السلف وتورع عنها آخرون فيجوز قبولها ما لم يتحقق في شيء منها أنه محرم كمكس أو نحوه فلا يجوز قبوله، وأما مع عدم ذلك التحقق فالقبول جائز، وأما قول الغزالي لا يجوز معاملة من أكثر ماله حرام فضعيف كما قاله النووي في شرح المهذب بل المعتمد جواز معاملته وإلا كل مما لم يتحقق حرمته من ماله، وإذا أكل إنسان شيئاً فبان أنه ملك لغيره فهل يطالب به في القيامة. قال البغوي إن كان ظاهر مطعمه الخير لم يطالب به الآكل وإن كان ظاهره خلاف ذلك أي كأرباب الولايات طولب أي لعدم عذره فلا ينبغي الهجوم على أكل أموال الولاة وإن جاز بقيده السابق بل ينبغي التنزه عنه حذراً من أن لا يكون لهم فيطالب به الآكل في الآخرة.(1/259)
وسئل اشترى أمة ثم رهنها عند آخر ثم تقايل المتبايعان فيها ثم أخذها البائع وأنفق عليها مدة ظاناً أنها ملكه ثم بان فساد الإقالة بمقتضى الرهن السابق فانتزعها المشتري وأعطاها للمرتهن أو لم يعطها له بأن كان الرهن انفك فهل يرجع عليه البائع بما أنفقه عليها لأنه غره بسؤاله الإقالة منه مع رهنه إياها وجهل البائع بذلك أو لا يرجع عليه بذلك؟. فأجاب: الذي أفتى به البغوي وأقروه أن من اشترى أرضاً وعمرها وأدى خراجها أو عبداً وأنفق عليه ثم خرج مستحقاً كان عليه أجرة المثل ولا يرجع بالخراج ولا بالنفقة لأنه دخل في العقد على أن يضمنها ولا يرجع بأجرة المثل اهـ، فهذا ربما يؤخذ منه أنه لا رجوع بالنفقة في صورة السؤال لكن الذي يتجه لي أن ذلك لا يتأتى فيها إلا إذا قلنا أن الإقالة بيع لمساواتها لتلك حينئذ في علتها السابقة وهي أنه دخل في العقد على أنه يضمن النفقة ولا يرجع بها، أما إذا قلنا بالأصح أن الإقالة فسخ فالذي يظهر أنه يرجع بالنفقة لأنه لم يوجد هنا عقد يقتضي أنه يضمن النفقة ولا يرجع بها، وإنما الذي هنا أنه بالإقالة ظن عودها لملكه الأصلي فأنفق عليها بهذا الظن الذي هو معذور فيه فأثر له أن يرجع على المشتري بما أنفق، لأن المشتري هو الذي ورطه في ذلك بطلبه الإقالة منه مع فعله للرهن السابق على الإقالة المانع من صحتها، ويشهد لما ذكرته من الرجوع بالنفقة في هذه الصورة، ومن الفرق بينها وبين صورة البغوي السابقة ما في المهذب في باب الكتابة من أن السيد لو أنفق على قنه ثم بان
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/260)
ما يوجب عتقه رجع عليه بما أنفقه عليه، لأنه أنفق على أنه عبده فهذه كمسألتنا لأنه ليس فيها عقد يقتضي أنه بدخوله فيه وطن نفسه على النفقة وأنه لا يرجع بها، وإنما الذي فيها أنه أنفق بظن الملك الأصلي ثم بان ما يقتضي عدم ذلك الملك الذي ظنه كما قال في المهذب بالرجوع في مسألته كذلك قلنا بالرجوع في مسألتنا لما علمت من اتحادهما علة وجامعاً فإن قلت يمكن الفرق بينهما بأنه إنما رجع في مسألة المهذب لأنه في باطن الأمر أنفق على حر فلزم الحر ما أنفقه عليه لأنه يأخذه للنفقة من السيد ملتزم لغرم بدلها له إذا بان أنها غير لازمة له، وأما في مسألتنا فإنما أنفق على جارية الغير بغير إذنه ونفقة العبد تسقط بمضي الزمان والسيد في باطن الأمر لم يأخذها من المنفق حتى نقول أنه بالأخذ يكون ملتزماً لغرم البدل فافترقا، قلت لا أثر لهذا الفرق بل هو خيال لا تعويل عليه، فقد صرح الأصحاب بما يبطله حيث قالوا تسقط نفقة الحامل المطلقة بائناً لا سكناها بنفي الزوج الحمل فإن استلحقه رجعت عليه بأجرة الإرضاع وببذل الإنفاق عليها قبل الوضع وعلى ولدها وإن كان الإنفاق عليه بعد الإرضاع لأنها أدت ذلك بظن وجوبه عليها فإذا بان خلافه رجعت كما لو أدى ديناً ظنه عليه فبان خلافه يرجع به وكما لو أنفق على أبيه بظن إعساره فبان موسراً يرجع عليه بخلاف المتبرع ولا ينافي رجوعها بنفقة الولد كونها لا تصير ديناً إلا بفرض القاضي لتعدي الأب هنا بنفيه ولم يكن لها طلب في ظاهر الشرع فلما أكذب نفسه رجعت حينئذ اهـ، فتأمل ما اشتمل عليه كلامهم هذا تجده صريحاً في تزييف ذلك الفرق لأنهم هنا جوزوا لها الرجوع بالنفقة على الولد مع سقوط نفقته بمضي الزمان وعللوا ذلك بتعدي الأب بالنفي مع عدم الطلب لها في ظاهر الشرع فلما أكذب نفسه رجعت حينئذ فرجوعها لما ذكر صريح في الرجوع في مسألتنا بجامع أن المشتري متعد بفعل الإقالة مع سبق الرهن منه المقتضى لبطلانها والثاني لا(1/261)
تعدي منه بوجه ولم يكن له حال الإنفاق طلب على المشتري في ظاهر الشرع، فلما بان تعدي المشتري وعدم تعدي البائع اقتضى ذلك الرجوع في مسألتنا أيضاً وكما اتهم لم ينظروا في مسألتهم إلى سقوط نفقة القريب بمضي الزمان للملحظ الذي ذكروه من تعدي الزوج وعدم تعدي الزوجة المنفقة كذلك لا ينظر في مسألتنا إلى أن نفقة الرقيق تسقط بمضي الزمان لوجود نظير ملحظهم المذكور في مسألتنا وهو تعدي المشتري بفعله الإقالة مع ما قدمه من الرهن المقتضي لبطلان الإقالة ولتوريط البائع في الإنفاق فعلمنا من كلامهم أن سقوط النفقة بمضي الزمان أمر طردي لا تأثير له في الفرق فلا يجوز النظر إليه ولا التعويل عليه لما يلزم على اعتباره من مخالفة ذلك لصريح كلامهم الذي ذكرته وتأمل أيضاً قولهم المذكور لو أنفق على أبيه يظن إعساره فبان يساره رجع عليه فإنه لو كان للسقوط بمضي الزمان دخل في منع الرجوع لم يرجع هنا وإن ظن إعساره لأن إنفاق الإنسان على نفسه يسقط بمضي الزمان أيضاً، فلو نظرنا لذلك لقلنا لا رجوع للمنفق لأن المنفق عليه لم يستقر عليه في زمن الإنفاق شيء فهو كالذي أنفقه سيده ثم بان حراً سواء بسواء وكالجارية في مسألتنا لأن سيدها لم يستقر عليه شيء مدة زمن الإنفاق فلزم على النظر لذلك سقوط الرجوع في المسائل الثلاث إن نظرنا لذلك وهو مخالف لتصريحهم في مسألتي الأب والحر بالرجوع فلا ينظر إليه فيهما وإذا لم ينظر إليه فيهما فلا ينظر إليه في مسألتنا فتأمل ذلك فإنه مهم وبهذا الذي قررته تبين لك أن ما قلناه من الرجوع في مسألة الإقالة لا يختص بها بل يجري ذلك في سائر أسباب الفسخ إذا بان بطلان الفسخ، فإذا عاد المبيع إلى بائعه بسبب من أسباب الفسخ فأنفق عليه ثم بان بطلان الفسخ، وأنه لم يزل على ملك المشتري رجع البائع عليه بما أنفقه لما قدمته واضحاً مبسوطاً، فإن قلت إذا رجع بالنفقة هل يرجع المشتري عليه بأجرة استخدامه وبغير ذلك من الفوائد، قلت(1/262)
يحتمل أن يقال يرجع بذلك لأنه كما غرم النفقة يغنم الريع، ويحتمل أن يقال لا رجوع له إن علم بفساد الفسخ دون البائع كما في مسألة السؤال لأن علمه بفساده وترك المبيع في يد البائع حينئذ مستلزم لتبرعه عليه باستخدامه ونحوه، وهذا أقرب نعم الذي يتجه أنه يرجع على البائع بمهر مثلها إن وطئها سواء أعلم بفساد الفسخ أم لا لأن ذلك لا يقبل التبرع فلم يفد العلم فيه شيئاً بخلاف غيره من الفوائد فإنه يقبل التبرع به فأثر فيه العلم، فإن قلت إنما تبرع بالفوائد في مقابلة النفقة فإذا لم تسقط عنه فلا تبرع منه فيرجع، قلت هذه مقابلة فاسدة لم يرض بها المنفق حتى نلزمه بقضيتها فكان القياس إلغاء قصد المشتري لتلك المقابلة وتغريمه النفقة وعدم رجوعه بتلك الفوائد لتعديه بتركه لملكه تحت يد غيره مع علمه بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل رضي الله عنه فيمن اشترى شاة فذبحها فوجد في بطنها جنيناً فهل هو عيب؟. فأجاب بقوله: نعم هو عيب لكن قضية كلامهم في إحداث ما لا يمكن معرفة القديم إلا به أنه إن أمكنه الاطلاع على حملها بقول أهل الخبرة امتنع رده وإلا فلا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/263)
وسئل رضي الله عنه عن شخص اشترى داراً خربة فعمرها وجدد فيها بيوتاً وسكنها مدة طويلة ثم بعد ذلك جاء بعض ورثة البائع وادعى أن الخربة المذكورة وقف فهل إذا ثبت ذلك وأراد الوارث هدم البناء يجاب إلى ذلك أم لا؟ وإذا قلتم يجاب فهل يلزم المشتري أجرة سكنه فيما عمره أم لا؟ وهل للمشتري أخذ أخشابه وأحجاره أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم يجاب الوارث إلى هدم البناء المذكور وللمشتري سواء أطلب الوارث أم لا أخذ بنائه أي آلاته من حجر وخشب وغيرهما، وإذا أخذ ذلك بطلب الوارث أو بغير طلبه لزم البائع أرش نقص تلك الأبنية وهو ما بين قيمتها مبنية ومقلوعة ولو كان المشتري زوّق بطين أو جبس فللوارث تكليفه نزعه ثم يرجع المشتري بنقصه على البائع فيؤخذ من تركته وأما لزومه أجرة ما سكنه فيما عمر ففيه تفصيل ذكره القاضي حسين وهو أن ما بناه في تلك الخربة إن كان من ترابها أي بأن كانت جميع الآلات منه لزمه أجرة مثل الدار كمن غصب عبداً وعلمه صنعة يلزمه أجرته صانعاً وإن كان من غير ترابها، أي كأن حصل الآلات من خارج وعمرها بها لزمه نصف أجرة مثل الدار تغليظاً. قال القمولي وفي هذا أي ما ذكره آخراً من لزوم النصف المذكور نظر، قال غيره وهو كما قال وقد وافقه صاحب الأنوار فقال: والقياس أنه يلزمه أجرة مثل العرصة اهـ، وهذا أقوى من حيث المدرك، وإن كان الأول هو المنقول لخفاء وجهه وظهور وجه القياس المذكور فإنه في الحقيقة إنما استعمل العرصة وأما ما كان يظله وينتفع به من الأبنية فهو ملكه فكيف يقوّم عليه في الأجرة حتى يجعل في مقابلته النصف ساقطاً ويؤخذ منه نصف أجرة الدار باعتبار ما اشتملت عليه من الأبنية فهذا بعيد قياساً وإن كان قريباً مذهباً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/264)
وسئل عن شخص باع بيعاً وهو منزول به باع مثلاً يوم الأحد ومات ليلة الاثنين ولم يستوف ليلته ولم يدفع إليه ثمن هل يصح البيع أم لا؟. فأجاب بقوله: حيث كان ذهن البائع المذكور حاضراً بأن كان يفهم ما يصدر منه صح بيعه وإن مات في الحال ولا قبض الثمن ولا أقبض المبيع فيقوم الوارث مقامه في إقباض المبيع وقبض الثمن، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل عن شخص باع بقعة بخمسين أو بمثل ما باع به فلان بقعته ولم يعلم بكم باع به فلان بقعته بل هو مجهول فهل يصح البيع بهذا وقد دخله الشرط أم لا؟. فأجاب بقوله: لا يصح البيع بخمسين حتى يبين جنسها ونوعها وصفتها ولا البيع بما باع به فلان حتى يعلمه المشتري والبائع قبل البيع، وحينئذ فالبيع المذكور في السؤال باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/265)
وسئل عما إذا ذبح الشخص دابة وجعلها أقساماً أو قسم هو شيئاً وقسم غيره شيئاً آخر منها ويأتي المشتري فيقول بعني هذا بحسابه من الثمن أو بحسابه فقط فيقول البائع بعتك وهما عالمان بالثمن أو المشتري عالم أو غير عالم لأن العادة جارية بأنه ما يقسم الدابة كلها بل يفوز ذابحها وهو البائع بأشياء منها جرت العادة بأنه يأخذها في مقابلة ذبحه وغيره أو لا في مقابلة شيء بلا حط شيء من الثمن عمن اشترى هذه، وقد يأخذ بعضهم فوق العادة ويختلف باختلاف التقوى ما حكم ذلك؟. فأجاب بأن هذه المسألة تحتاج إلى تمهيد وهو أنهم قالوا لا يصح بيع لحم المذكاة أو جلده أو هما قبل سلخه إلا إذا كان يؤكل معه كالشواء المسموط والسخلة الصغيرة والدجاجة المذبوحة فيصح بيعها في جلدها، ولو قبل السمط والشواء لأن جلدها من جملة لحمها، لأنه يؤكل معه ولا بيع المسلوخ من غير الجراد والسمك وزناً قبل تنقية جوفه بخلاف ما لو بيع جزافاً فإنه يصح وبخلاف ما لو بيع السمك والجراد وزناً أو جزافاً فإنه يصح ولو قبل تنقية ما في جوفه لقلة ما فيه وقالوه لو باع بعشرة دراهم وعادتهم التعبير بها عن تسعة دوانق صح ولزمه المعتاد وقالوا ما كان معيناً من العوضين أو أحدهما يكفي مشاهدته عن العلم بقدره وصفته، وما كان في الذمة منهما أو من أحدهما لا بد فيه من العلم بقدره وجنسه وصفته، وصرح البغوي وتبعوه بأنه لا يصح بيع جزء معين من حي قال بخلاف جزء معين من مذكاة، فإنه يصح أي بالتفصيل السابق في بيع المذبوحة إذا علمت ذلك فإذا عين له جزءاً منها بعد الذبح والسلخ حيث اشترط وباعه له بحسابه وعادتهم التعبير بذلك عن ربع الثمن مثلاً وعلماً جملة الثمن صح البيع لأن المبيع معين بالمشاهدة والثمن معين بالنسبة، ولا فرق حينئذ بين استوائها واختلافها ولا أن يأخذ البائع من بعض الأجزاء أولاً لكنه يأثم إذا أوهم غيره استواء الأجزاء وأنه لم يأخذ منها شيئاً لأنه غاش له حينئذ، وأما إذا قال(1/266)
له بعتك هذا بحسابه ولم يكن عادتهم التعبير بذلك عن شيء معلوم من جملة الثمن أو كان عادتهم ذلك وجهلاً أو أحدهما جملة الثمن فإن البيع في هذه الصورة غير صحيح لاختلال بعض شروطه وهو علم كل منهما بالثمن والمثمن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل عما لو قال بعني ثمن هذه الدابة بحصته أو بحسابه من الثمن هل يصح أم لا؟. فأجاب بأنهما حيث علما جملة الثمن وأرادا بقولهما بحسابه توزيع جملته على أجزائها بالسوية أو أطلقا بأن لم يريدا هذا ولا غيره صح البيع، وإن كانا لا يعرفان أن قضية قولهما بحسابه تقسيم جملة الثمن على جملة الأجزاء بالسوية لأن المدار في البيوع على الألفاظ ومفهوماتها الصحيحة ومفهوم قولهما هنا بحسابه صحيح معلوم ولو لغيرهما فلم يكن فيه جهل، ويؤيد ذلك ما اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما فإنهم ذكروا في مسائل الصبرة وبيع المرابحة ومسائل الدور في تفريق الصفقة ما يصرح بالصحة حيث ذكرا ما يعلم به مقدار الجملة بعد التأمل بالطرائق الحسابية، وإن عسر علم ذلك على العاقدين بل وعلى أهل بلدهما كبعتك بخمس سدس سبع ثمن تسع عشر دينار، والله تعالى أعلم.(1/267)
وسئل رضي الله عنه عما لو أعهد رجل نخلة بعشرين ثم باعها المتعهد الآخر بعشرة وفكها المعهد الأول بعشرة هل تكون العشرة الأخرى واقعة لا في مقابلة شيء أو تبقى في النخلة ولو باعها المتعهد الثاني بثلاثين وفك الأول فهل يأتي في الزائد ولو اختلفا في وقت شرط الفكاك وأنه قبل الحصاد أو بعده فالقول قول من؟. فأجاب: بأن بيع العهدة المذكور لا أعرف حقيقته على التعيين والقول الفصل فيه أن البيع إن اقترن به شرط فاسد كان يقول له بعتك هذا بعشرة فإذا رددتها إليك رددته إليّ فيقول الآخر قبلت أو يقول المشتري اشتريته منك بهذا الشرط فيقول له بعتك كان فاسداً فلا ينتقل الملك في المبيع عن مالكه ولا في الثمن عن مالكه بل هما باقيان على ما كانا عليه ولو فرض أن قيمة المبيع أو الثمن زادت كانت القيمة وزيادتها لمالك تلك الأصلي لا لمن انتقلت إليه بذلك البيع الفاسد لأن البيع الفاسد لا يترتب عليه شيء من أحكام الملك وإنما يترتب عليه التغليظ على كل من انتقلت العين إليه فإنها لو تلفت عنده ضمنها بأقصى قيمتها ولو أنفق عليها نفقات لم يرجع بها، والحاصل أنه يعطي أحكام الغاصب في أكثر أحواله، وأما إذا لم يقترن به شرط فاسد كان يتفقا على أنه يبيعه هذه العين بعشرة مثلاً فإذا ردها إليه رد العين إليه ثم يعقد البيع بإيجاب وقبول صحيحين لكنهما يضمران الوفاء بما توافقا عليه فالبيع حينئذ صحيح عند الشافعي رضي الله عنه يترتب عليه سائر أحكام البيوعات الصحيحة الخالية عن ذلك لكنه مكروه خروجاً من خلاف من أبطله من الأئمة لأنهم يقيمون الشرط المضمر مقام الشرط المأتي به في صلب العقد فيبطلون البيع المقترن به كل منهما، و الشافعي رضي الله عنه لا يبطل إلا المقترن به الشرط الملفوظ دون الشرط المضمر وبهذا التقرير يعلم الجواب عن الترديدات التي ذكرها السائل حفظه الله في هذه الصورة وبلغني عن بعض علماء اليمن أنه أفتى بصحة بيع العهدة وبعضهم أفتى ببطلانه(1/268)
واختلافهم عجيب فإن القول بالصحة عند اقتران الشرط الفاسد بالعقد وبعدمها عند إضماره قول ساقط لا يعول عليه ولا يلتفت إليه بل المنقول في مذهب الشافعي رضي الله عنه من غير خلاف يعتد به في ذلك هو ما قررته فاعتمده ولا تغتر بما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل رضي الله عنه عما لو اختلف المعهد والمتعهد في قدر الثمن ونكلا هل يقر المال في يد المتعهد إلى أن يحلف أو يقر أحدهما وعن مال معهد مشترك اشترى آخر ذلك المعهد شراء صحيحاً فهل للشريك القديم الأخذ بالشفعة من المعهد الأول أو من المشتري الثاني؟. فأجاب: بأن جواب هاتين المسألتين معلوم مما بسطته في السابقة، وحاصله أنه حيث صح البيع واختلفا في قدر الثمن تحالفا ثم إن توافقا وإلا فسخ العقد فإن نكلا أعرض الحاكم عنهما حتى يصطلحا وحيث صح أيضاً ثبت للشريك القديم الأخذ بالشفعة عن الشريك الحادث ومن ملك منه، وأما حيث فسد فلا أثر لنزاعهما في الثمن ولا يثبت أخذ بشفعة لبقاء ملك البائع على حاله والمشتري على حاله كما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/269)
وسئل عمن اشترى عيناً بثلاثين أوقية خمس عمرواي بوزن صنجة خمس أواق منسوبة لشخص معين ولم يعلم الخمس المذكور هل هي على خمس البلد أي صنجة البلد التي هي خمس أواق أم زائدة أم ناقصة فهل يصح البيع، فإن قلتم بالصحة فهل يوزن الثمن بالخمس خمساً خمساً أم الخيرة للبائع أم للمشتري؟. فأجاب رضي الله عنه: بأن من عين قدراً فتارة يكون المبيع والثمن معينين وتارة يكون وهماً أو أحدهما في الذمة وحكم ذلك يعلم من قولهم لو قال بعتك ملء أو بملء هذا الكوز أو البيت من هذه الصبرة أو زنة أو بزنة هذه الحصاة من هذا الذهب صح لإمكان الأخذ من المعين قبل تلفه والعلم بالقدر لا يشترط بخلاف ما لو قال بعتك ملء أو بملء هذا البيت صبرة في ذمتي صفتها كذا وزنة أو بزنة هذه الصنجة ذهباً في ذمتي صفته كذا وقد جهلا أو أحدهما ذلك، فإنه لا يصح للجهل بالمبيع أو الثمن والمبيع أو الثمن الذي في الذمة لا بد من علمهما بقدره وجنسه وصفته هذا ما ذكره أكثرهم في باب البيع وقالوا في باب السلم لو عين في البيع مكيال أو صنجة أو ميزان أو ذراع فإن كان معتاداً بأن عرف قدر ما يسع صح العقد ولغا التعيين المذكور كسائر الشروط التي لا غرض فيها ويقوم مثل المعين مقامه، فإن شرط عدم إبداله بطل العقد ولو اختلفت المكاييل أو الموازين والذرعان وجب تعيين نوع منها إلا أن يغلب نوع منها فيحمل الإطلاق عليه ولو كان غير مجهول لهما أو لأحدهما ككوز لا يعرف قدر ما يسع والمبيع في الذمة بطل العقد حالاً كان أو مؤجلاً لأن في ذلك غرراً لأنه قد يتلف قبل قبض ما في الذمة فيؤدي إلى التنازع بخلاف بيع مائة من هذه الصبرة، فإنه يصح لعدم الغرر اهـ، وبهذا مع ما قبله تعلم أن شراء الثلاثين أوقية بخمس عمرواي بصنجته التي هي خمس أواق إن كان والمبيع معين كاشتريت كذا بثلاثين أوقية من هذا الخمس عمر وصح وإن جهلا قدر تلك الصنجة أو في الذمة وعلما قدر تلك الصنجة صح وإن جهلاه أو أحدهما لم يصح(1/270)
لأن فيه غرراً لأنه قد يتلف قبل قبض ما في الذمة، وحيث صح بأن علما قدر الصنجة لم يحتج إلى أن المشتري يعلم أنها قدر صنجة بلده أو أقل أو أكثر ولم تتعين تلك الصنجة بل يجوز الوزن بها وبمثلها فلا يجاب من طلب الوزن بشيء بعينه، نعم الذي يتجه إن المشتري لو طلب الوزن بها أو بمثلها مرة بعد أخرى حتى تكمل الثلاثون وطلب البائع الوزن مرة واحدة بصنجة وزنها ثلاثون، وتعادل صنجة عمرو ست مرات، أجيب المشتري لأن الأغراض تختلف بتكرر الوزن واتحاده كما لا يخفى، ولأن ما طلبه المشتري أقرب إلى قولهم لا تتعين الصنجة بل يوزن بها أو بمثلها، ومعلوم أن صنجة ثلاثين لا تماثل صنجة خمسة حقيقة وإن كانت تماثلها باعتبار أن المتكرر بها ستاً يماثل الموزون بتلك مرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
وسئل عن شخص ابتاع وجبة مّا من عين السلامة مثلاً وصرف ببيع عدد واستمرت بحيث يومين وفي أثناء المدة الحق العين عمارة وصرف المبتاع في عمارة العين ما ينوب الوجبة المشتراة من العمارة المذكورة ثم لما أراد بائع الوجبة فكاكها من مشتريها حسب عليه العمارة، فقال له البائع العمارة عليك لأنك الذي استغليت الوجبة وسقيتها في هذه المدة فنفعها وضررها عليك وهي في يدك إلى أن آتيك بالثمن المعلوم، فقال المشتري هي في يدك ومالي إلا منفعة لا صرفه فهل ما ناب الوجبة في زمن العمارة في هذه المدة يلزم المالك للمنفعة أم يلزم مالك الرقبة؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله لا رجوع للمشتري بما صرفه في العمارة على بائعه، لأن البيع إن كان صحيحاً بأن كانت العدة خارجة عن العقد فقد صرف على ملكه وإن كان فاسداً بأن شرطا العدة في صلب العقد كان متبرعاً بما صرف، والله أعلم.(1/271)
وسئل عن اصطلاح بيع الناس في بيع العدة الذي يسمونه بيع الناس وصورته أن يقول البائع بعتك هذه الأرض بثمن مبلغه كذا وكذا فيقول المشتري اشتريت ثم يكتب بينهم كاتب أو حاكم يحكم بصورة باع فلان من فلان كذا بثمن مبلغه كذا وكذا بيعاً صحيحاً شرعياً ولا يذكر غير هذا ومقصودهم أنه يكون كالمرهون لكن إن كان المشتري يستغل الأرض هل يكون ذلك رهناً ويطلب بأجرة الأرض أم بيعاً ولا يستردها البائع من المشتري إلا بعقد صحيح جديد أم هذا اصطلاح اصطلح عليه العلماء وصح في مذهب الشافعي رضي الله عنه وتكون الأرض كالمرهونة والثمرة على سبيل الإباحة ولا يطالب بها بينوا لنا ما يصح صحح الله آمالكم؟. فأجاب بقوله: بيع الناس المشهور الآن هو أن يتفقا على بيع عين بدون قيمتها، وعلى أن البائع متى جاء بالثمن رد المشتري عليه بيعه وأخذ ثمنه ثم يعقدان على ذلك من غير أن يشرطا ذلك في صلب العقد، وحكمه أنه بيع صحيح يترتب عليه جميع أحكام البيع الصحيح ولا يلزم المشتري الوفاء بما وعد به البائع ولا يرجع للبائع إلا بعقد جديد ويملك المشتري جميع الغلة في زمن ملكه ولا يرجع البائع عليه منها بشيء، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/272)
وسئل فيمن أراد أن يشتري بئر ماء أو أرضاً مع شربها من القناة أو سهمها منها مع جري الماء فكيف الطريق إلى صحة البيع، وما يشترط الرؤية منه من ذلك مع أن مسألة الماء مذكورة في الروضة قبيل الربا وقبل تفريق الصفقة وفي باب بيع الأصول والثمار وإحياء الموات وكلامه في ذلك مشكل على السائل والمسؤول من فضلكم إزالة إشكاله بأمثلة مفيدة؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: الكلام على ذلك يحتاج إلى بسط، كما أشار إليه السائل، وذلك لأن الماء إما أن يكون في بئر أو نحو نهر أو قناة وذلك القرار الذي فيه الماء إما أن يكون ينبع منه أو يصل إليه ثم تسقي منه الأراضي فالأول إن ملكه واحد أو جمع كان الماء مملوكاً لهم على حسب الشركة في القرار، ويصح بيع الماء الراكد هنا إن قدر بجزء معلوم كالنصف أو بنحو مائة رطل لا بنحو ساعة من الليل أو النهار للجهل بالمبيع ولا ينافيه ذكرهم في قسمة ماء القناة المهيأة بالأيام والساعات لأن القسمة يتسامح فيها ما لا يتسامح في البيع وإن لم يملك محل النبع أحداً، وإنما كان المملوك المحل الذي يصل إليه الماء، فالماء الواصل إليه بنفسه غير مملوك لأحد فإذا خرج منه كان باقياً على إباحته ثم إذا صدر بيع فإن وقع على محل النبع المملوك أو على جزء منه معلوم صح ولم يدخل الماء الموجود عند البيع إلا بالشرط وإن وقع على المحل الذي يصل الماء إليه ومحل النبع ليس مملوكاً لأحد وكان محل النبع مجهولاً كما هو الغالب في العيون والأنهار لم يدخل الماء فيه، لأنه غير مملوك له، ومن ثم لو وقع البيع عليه في هذه الصورة لم يصح وإنما الذي يصح ويدخل في ذلك استحقاق الأرض فيه المسمى بالشرب ومما يحكم فيه بملك محل النبع أو القرار أو يكون عليه يد لأنها حينئذ دالة على الملك له وللماء النابع منه في الصورة الأولى كما يفهمه قول الروضة كأصلها في إحياء الموات لو صادفنا نهراً تسقي منه أرضون ولم يدر أنه حفر أو انخرق حكمنا بأنه مملوك لأنهم(1/273)
أصحاب يد وانتفاع وخرج بقولي فيما مر ويصح بيع الماء الراكد الماء الجاري فلا يصح بيعه ولا بيع نصيبه منه للنهي عن بيع الماء في صحيح مسلم وهو محمول على ذلك وللجهل بقدره، ولأن الجاري وإن فرض أنه مملوك في الصورة الأولى فلا يمكن تسليمه لاختلاط غير المبيع به فطريقه إذا أراد أن يملكه أو يستحقه أن يشتري محل النبع أو القناة أو جزءاً من ذلك، فإذا ملك الأول ملك الماء وإذا ملك الثاني كان أحق به ذكره جماعة من أصحابنا هذا ملخص ما في هذه المسألة ولنعد الآن إلى بيان كلام الروضة الذي أشار إليه السائل فنقول قد ذكر فيها بيع الماء قبيل الربا وآخر تفريق الصفقة، وفي إحياء الموات كما بينت ذلك في حاشية العباب حيث قلت وحاصل عبارتها في الأول ومما تعم به البلوى ما اعتيد من بيع نصيبه من الماء الجاري من النهر وهو باطل لوجهين كون المبيع غير معلوم القدر، وكون الجاري غير مملوك. وفي الثاني قال صاحب التلخيص: النهي عن بيع الماء محمول على ما إذا أفرد ماء عين أو بئر أو نهر بالبيع فإن باعه مع الأرض بأن باع أرضاً مع شربها من الماء في نهر أو واد صح ودخل الماء في البيع تبعاً وكذا إذا كان الماء في إناء أو حوض مثلاً مجتمعاً فبيعه صحيح منفرداً وتابعاً، وحاصل عبارتها في إحياء الموات ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لأنه محمول ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط فيتعذر التسليم وإن باع منه آصعاً فإن كان جارياً لم يصح إذا لم يملك ربط العقد بمقدار وإن كان راكداً وقلنا إنه غير مملوك لم يصح وإن قلنا مملوك فقال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/274)
القفال : لا يصح أيضاً لأنه يزيد فيختلط المبيع وإلا صح الجواز كبيع صاع من صبرة، وأما الزيادة فقليلة فلا يضر كما لو باع القت في الأرض بشرط القطع وكما لو باع صاعاً من صبرة وصب عليها صبرة أخرى فإن البيع بحاله ويبقى البيع ما بقي صاع من الصبرة ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً، فقال بعتك هذه القناة مع مائها أو لم يكن جارياً، وقلنا الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولاً تفريق الصفقة اهـ، ولا تنافي بين الموضعين الأخيرين خلافاً للأسنوي وغيره وإن تبعهم المصنف أي صاحب العباب في إحياء الموات فقال ولا في قراره خلافاً للشيخين بل يحمل ما قاله في الثاني من صحة البيع فيهما على أن المراد أنه يصح في الأرض بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق البيع والاستحقاق ويؤيده قول صاحب التلخيص ودخل الماء في البيع تبعاً هذا إن كانت الصورة في محل قرار الماء المملوك، أما إذا أريد محل النبع فيهما بطريق القصد أو محل النبع أو القرار غير المملوك فلا يصح فيهما وما قاله في الثالث من صحته في الأرض فقط على أن المراد أنه لا يصح في الصورة المذكورة بطريق الملك إلا في الأرض دون الماء فإنه يصح فيه بطريق الاستحقاق وما ذكره صاحب التلخيص صرح به جمع متقدمون لأنها غير مملوكة فإن كانت مملوكة لم يكن تسليمها لاختلاط غير المبيع به، والحيلة في استحقاقها أن يعقد على القرار فيشتري نفس القناة أو سهماً منها فإذا ملك القرار كان أحق بالماء على قول الكل انتهت، وعبارة البيان لا يصح بيع سهم من ماء كذا لأنه غير مملوك وكذا لا يصح أن يقول بعتك الليلة أو يوماً من ماء كذا، لأن الزمان لا يصح بيعه ولكن الحيلة فيمن أراد أن يشتري ماء العين أو سهماً منها أن يشتري العين نفسها أو سهماً منها هكذا ذكره أصحابنا انتهت، والحاصل أن محل نبع الماء من القناة إما أن يكون مملوكاً أو لا، وإنما المملوك المحل الذي يصل الماء إليه فعلى الأول إن(1/275)
وقع البيع على الأرض أو على قرار شربها المذكور أو القناة كله أو جزء منه معين صح وكان في دخول الماء الموجود الخلاف المذكور في باب الأصول والثمار وإن شرط دخوله عمل بمقتضى الشرط وفي الثاني إذا ورد البيع على الأرض وعلى القرار صح بيع الأرض ولم يدخل الماء الذي هو غير مملوك، وإنما يدخل في ذلك استحقاق الأرض فيه المسمى بالشرب ولا ينافي ذلك قول الشيخين في الأصول والثمار لا تدخل مسائل الماء في بيع الأرض مع شربها من القناة والنهر المملوكين إلا أن يشرطه أو يقول بحقوقها، لأن هذا كما ترى في الشرب المملوك وما مر في الشرب الغير المملوك انتهت عبارة الحاشية المذكورة وكان الاقتصار على كتابة ما فيها كافياً في جواب السؤال لكن أحببت زيادة الإيضاح في هذه المسألة لأنها مهمة ومن ثم لا بأس بالإشارة إلى أشياء تتعلق بها منها أن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/276)
البلقيني اعترض عبارة الروضة المذكورة في إحياء الموات فقال: وما ذكره في بيع ماء البئر من تعليل عدم الجواز بأنه مجهول كلام غير مستقيم فإن الجهالة في مثل ذلك لا تضر كبيع الصبرة التي لا يعلم مقدارها اهـ، وما ذكره هو الذي ليس بمستقيم فإنه في الروضة لم يقتصر على التعليل بالجهل فقط بل قال ويزيد شيئاً فشيئاً الخ، وبه اندفع تشبيه البلقيني لماء البئر بالصبرة المذكورة، وإيضاحه أن الصبرة يحيط العيان بجوانبها ويمكن حزرها فيقل الضرر فيها بخلاف ماء البئر المتزايد شيئاً فشيئاً فإن العيان لا يحيط به فيكثر الضرر هذا واضح لا خفاء فيه، وسيأتي عن البلقيني نفسه ما يصرح به، وقال أيضاً وقوله ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط ويتعذر التسليم يخالفه ما ذكره في صورة القفال خلاف ما ذكره في الروضة تبعاً للشرح لأن صورة المسألة أن هناك ماء آخر ينبع ويختلط بالراكد والنبع مستمر ولا يقع البيع إلا مقارناً للاختلاط اهـ، وما زعمه من أن الأصح هو قول القفال لا يلتفت إليه فإن الشيخين صححا خلافه والمعوّل في الترجيح ليس إلا عليهما:(1/277)
إذا قالت حذام فصدّقوهافإن القول ما قالت حذام ب50-up ومن أن ما ذكره أوّلاً يخالفه ما ذكره في صورة القفال يرد بوضوح الفرق بين الصورتين فإن الماء في الصورة الأولى مجهول كما مر بخلافه في الثانية فإنه لا جهل فيه، لأن الصورة أنه راكد والمبيع إنما هو آصع معلومة منه فليس فيه إلا اختلاط المبيع بغيره الذي نظر إليه القفال ، وسيأتي الجواب عنه وقال أيضاً وما ذكره من القياس على بيع صاع من صبرة لا يستقيم لأن الصبرة ليس هناك شيء يزيد فيها بخلاف صورة الماء فإن فرض أن الصبرة كانت في موضع وهناك شيء من جنسها ينزل عليها من السقف أو من ثقب في الحائط ونحو ذلك فإنه لا يصح البيع إذا لم يتعين المختلط فإن تعين المختلط وباع من غيره صح اهـ، وقوله لا يستقيم هو الذي لا يستقيم ولا نظر لفرقه بأنه ليس فيها شيء يزيد بخلافه هنا لما ذكره في الروضة من أن الزيادة قليلة فلا تضر فكأن الزيادة هنا كلا زيادة وإذا كان كذلك اتضحت المساواة بين المسألتين ولم ينظروا لصورة الفرق الذي ذكره البلقيني ، وقوله فإن فرض الخ، لا حاجة بنا إليه لأنا بينا أن الكلام في صورة لم تحصل فيها زيادة وأنها مع ذلك نظيرة مسألتنا. وقال أيضاً وما ذكره من القياس على القت لا يستقيم فإن الزيادة في القت من عينه بخلاف الماء والصبرة التي ينزل عليها شيء آخر فإن الزيادة من غير ذلك وأيضاً فقد تكون الزيادة في القت كثيرة، وقد أطلقوا ثبوت الخيار للبائع في صورة القت ولا يأتي مثل ذلك فيما نحن فيه إنما يثبت الخيار للمشتري اهـ، وما ذكره هو الذي لا يستقيم لأن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/278)
النووي لم يقصد التشبيه بينهما إلا من حيث إن الزيادة في كل من القت والماء المذكور قليلة تافهة لا ينظر إليها في الغالب وسواء أكانت من العين أو من شيء مماثل لتلك العين فاندفع نظره لذلك في الفرق لأنه لا يرتبط به هناك كبير معنى، وقوله قد تكون الزيادة في القت كثيرة يرد بأن الكلام إنما هو في الغالب وفيما من شأنه ومن شأنها في القت والغالب فيها أنها قليلة فلا ينظر إلى أنها قد تكثر وقال أيضاً وقوله كما لو باع صاعاً من صبرة وصب عليها صبرة أخرى فإن البيع بحاله قياس مردود فإن البيع وقع على الصاع من الصبرة قبل الاختلاط وصح وفي صورة الماء ونحوها وقع البيع مقارناً للاختلاط فلم يصح اهـ، وليس القياس مردوداً كما زعمه بل هو مقبول فإن حدوث الخلط ولو في مجلس البيع لا يمنع صحته مع أن الواقع في المجلس حكمه حكم الواقع في العقد فكذلك مقارنته للبيع في مسألة الماء لا تمنعه واعترض أيضاً قوله ويبقى البيع ما بقي صاع من الصبرة باعتراض أعرضت عنه لأنه لا يناسب ما نحن بصدده واعترض أيضاً قول الروضة ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً الخ، فقال وهو كلام غير مسلم في صورة الجاري فإن مجرد الجريان لا يقتضي بطلان بيع الماء تفريعاً على أن الماء المذكور مملوك إذ كان الجريان ينتهي إلى مقطع بحيث يمكن الاستيلاء عليه فإن كان ينتهي إلى نزول في بحر ونحوه فهذا ينبغي أن يصح البيع فيه وما نزل منه في البحر كتلف بعض المبيع قبل القبض اهـ، وقوله أن ذلك غير مسلم لا يلتفت إليه لما مر عن الروضة، وقوله مجرد الجريان الخ، ممنوع لما مر من الجهل بقدره وعدم إمكان تسليمه وكونه ينتهي إلى مقطع يمكن الاستيلاء عليه لا ينظر إليه لندرة إمكان ذلك ودعواه أن ما تلف بنزوله إلى نحو بئر كتلف بعض المبيع قبل القبض غير صحيحة لأن الصورة في تلف المبيع قبل القبض أنه كان تسلمه قبل تلفه حين البيع مقدوراً عليه بخلافه هنا ومنها أني ذكرت المسألة أيضاً في(1/279)
شرح الإرشاد وفيه زيادة على ما مر، وعبارته ولا يصح بيع ماء بئر أو قناة دونهما لأنه مجهول ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط المبيع بغيره ويتعذر التسليم ومنه يؤخذ ما صرح به القاضي من أنه لو باعه بشرط أخذه الآن صح وكذا يصح بيع صاع من ماء بئر أو قناة راكد لقلة زيادته فلا يضر بخلاف الجاري إذ لم يكن ربط العقد بمقدار مضبوط منه لعدم وقوفه وبيع بئر مع مائها الظاهر أو جزئها الشائع إن عرف في المسألتين عمقها وما ينبع في الثانية مشترك بينهما فإن اشتراها أو جزأها الشائع دون الماء أو أطلق لم يصح لئلا يختلط الماء، وفي الروضة كأصلها لو باع ماء القناة مع قراره والماء جار لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولاً تفريق الصفقة ورده جمع بأن ما لا يجوز بيعه إذا كان مجهولاً وبيع مع غيره يبطل البيع في الجميع بناء على أن الإجازة بالقسط والقسط غير ممكن للجهالة ويجاب بأن المشكل إنما هو إجراء خلاف تفريق الصفقة في القرار وأما عدم الصحة في الماء فمراده بذاته لا يصح بطريق الملك إلا في الأرض دون الماء فإنه إنما يصح فيه بطريق الاستحقاق ومن ثم صرح فيها قبيل تفريق الصفقة بصحة البيع فيهما أي في الأرض بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق التبع والاستحقاق ولا تناقض بين كلاميها خلافاً لمن ظنه والكلام في محل قرار الماء المملوك لأن ملكه لا يستلزم ملك الماء بل يكون أحق به، أما محل نبعه المملوك فيصح البيع فيهما بطريق القصد لأن ملكه يستلزم ملك الماء، وأما محل نبعه أو قراره غير المملوك فلا يصح البيع فيهما وخرج بقول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/280)
الشيخين جار الواقف فيصح البيع فيه أيضاً إن عرف العمق وبما تقرر علم أنه لا يصح بيع نصيبه من ماء جار فطريقه أن يشتري نحو القناة أو بعضها ليكون أحق به انتهت عبارة الشرح المذكور، ومنها أنه هل يجوز الشرب من الماء المذكور وجوابه أن فيه تفصيلاً وهو أنه مر أن الماء إن ملك محل نبعه كان مملوكاً أو محل وصوله وقراره كان مستحقاً وإن لم يملك شيء من ذلك كان مباحاً فالشرب من الثالث ظاهر، وكذا من الثاني ويجوز دخول الأرض المملوكة لأخذه وليس لصاحبها المنع من ذلك حيث اعتيد دخول الناس له قاله العبادي و المتولي وإطلاق بعضهم أنه ليس لأحد أن يدلي فيه دلواً ضعيف أو محمول على ما دخل من ذلك دار إنسان أو ملكه الذي لم تجر العادة بأن الناس يطرقونه فإن الدخول له حينئذ يتوقف على إذن المالك، وأما الشرب من الأول فإن كان يجري على وجه لا يحتفل به ملاكه واطردت عادتهم بأنهم لا يمنعون منه أحداً جاز الشرب منه وإن كان في ملاكه من لا يعتبر إذنه كصغير قاله البلقيني ، والحق به التقاط السنابل فيجوز وإن كان مالكها صغيراً ونحوه قال بخلاف الإعراض عن كسرة فإنه إنما يصح ممن يعتبر إعراضه وعلى تسليم ما ذكره من الفرق بين التقاط السنابل والإعراض عن الكسرة فقد يفرق بأن السنابل لا يمكن استيعابها بالأخذ بل لا بد من سقوط شيء منها فبعضها فائت على المالك ضرورة فحينئذ لم يفترق الحال في مالكها بين صحة إعراضه وعدمها لأن الآخذ منها ليس ملحظه الإعراض عنها حتى نعتبر في المالك أهلية الإعراض بخلاف الكسرة فإن سبب أخذها الإعراض فاعتبر فيها أن يكون المعرض ممن فيه أهلية الإعراض، ومنها أن ما يسقي من العيون التي يقع فيها الشراء هل يجب فيه العشر أو نصفه وجوابه أن الماء إن وصل إلى زرعه أو نخله من غير شراء ولا ضمان وجب فيه العشر، وإن وصل إليه بشراء صحيح فإن صدر على القرار دخل الماء في البيع بطريق شرعي أو على الماء بطريق شرعي وجب فيما يزرع عليه نصف(1/281)
العشر لحصول الماء الذي للزرع بالمؤنة. قال البلقيني : وما يزرع بعد ذلك على الماء المستحق في صورة بيع القرار والماء لا يتعلق منه مؤنة على الذي ينزرع بعد ذلك فيجب فيه العشر وإن بقيت بقية مما قابل الماء فالواجب مما يزرع بالماء المذكور نصف العشر ولا يتناول كلام ابن كج الآتي ما إذا وقع الشراء على محل النبع والماء الموجود لأن الماء وإن قابله قسط من الثمن إلا أنه لا يتكرر الحكم فيه وإنما يجب نصف العشر حيث بقيت بقية من الماء تقابل بقسط من الثمن في الزراعة الثانية ونحوها وإن وصل إليه بشراء فاسد ضمن الماء بمقتضى العقد الفاسد فكل ما يسقيه به يجب فيه نصف العشر وحيث توجه الشراء إلى الماء وحده في كل زرعة وجب نصف العشر وحيث لم يملك محل النبع لم يصح شراء الماء الذي لا ملك عليه كما مر، فإن اشتراه وزرع عليه لزمه العشر ورجع على البائع بما أخذه منه من ثمن الماء، لأنه مباح بخلاف من زرع بماء مغصوب أو مملوك اشتراه فاسداً فإنه يلزمه نصف العشر كما قاله ابن كج لأنه يضمن الماء فيهما والمعتمد كما رجحه الشيخان من خلاف طويل في المسقي بماء القنوات والسواقي من النهر العظيم أن فيه العشر ولا نظر لمؤنة القنوات وإن كثرت لأن المقصود بها إصلاح الضيعة والأنهار تشق لإحياء الأرض وإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع مرة بعد أخرى بخلاف السقي بنحو النواضح فإن مؤنته تتحمل لنفس الزرع ومنها أن السائل ذكر أنه في الروضة ذكر بيع الماء في باب الأصول والثمار أيضاً وعبارتها فيه لا تدخل مسايل الماء في بيع الأرض ولا يدخل فيه شربها من القناة والنهر المملوكين إلا أن يشرط أو يقول بحقوقها وفي وجه لا يكفي ذكر الحقوق.
[
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/282)
فر](فرع)[/فر] لو كان في الدار المبيعة بئر ماء دخلت في البيع والماء، والحاصل في البئر حال البيع لا يدخل على الصحيح وفي وجه يدخل كالثمرة التي لم تؤبر للفرق وإن شرط دخوله في البيع صح على قولنا الماء مملوك بل لا يصح البيع دون هذا الشرط وإلا اختلط الماء الموجود للبائع بما يحدث للمشتري وانفسخ البيع، قلت فإن قلنا لا يملك صح البيع مطلقاً بل لا يجوز شرطه لأنه لا يملكه ويكون المشتري أحق به لأنه في يده كما لو توحل صيد في أرضه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وذكر الخلاف في الماء وفروعه يأتي في إحياء الموات إن شاء الله تعالى انتهت عبارتها، وأنت خبير بأن هذه العبارة لم تسق لبيان حكم الماء بل لبيان أنه يجب شرط دخوله أولاً ثم ما ذكره هنا استشكل بقولهم صح بيع دار بدار وإن كان في كل بئر ماء ولا إشكال لأن كون الماء تابعاً بالإضافة لا ينافيه كونه مقصوداً في نفسه حتى يشترط التعرض له في البيع كما ذكره، فالحاصل أنه من حيث إنه تابع بالإضافة اغتفر من جهة الربا ومن حيث أنه مقصود في نفسه اعتبر التعرض له في البيع ليدخل فيه، وأما قول السائل وما يشترط الرؤية منه فجوابه أن الماء حيث كان مملوكاً وورد عليه البيع بطريقه الشرعي المعلوم مما مر فلا بد من رؤية الموجود منه حال البيع كما قاله صاحب البيان، ويؤيده قولهم في بيع الصبرة تكفي رؤية ظاهرها وكذا سائر المتماثلات والماء منها فتكفي رؤية ظاهر الماء الموجود في البئر ونحوها وقول أبي إسحاق لا تشترط رؤيته ضعيف وإن أفتى به جمع وكذلكك تشترط رؤية محله ففي البئر لا بد من رؤية ما يختلف الغرض به عند أهل الخبرة من جدرانها ونحوها وفي نحو القناة لا بد من رؤيتها جميعاً بأن يحبس الماء عنها ولا تكفي رؤيتها من ورائه وإن كان صافياً بخلاف نظيره في الإجارة كما قرر في محله هذا ما تيسر في هذه المسألة الطويلة الذيل، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والهداية وهو أعلم بالصواب.(1/283)
وسئل رضي الله عنه في شخص وجد جارية ذاهبة فوضع يده عليها مدة طويلة وصار يبحث عن مالكها فلم يظفر به، ثم إنه تضرر بسبب النفقة عليها فرفع أمرها إلى قاض من قضاة المسلمين شافعي، وأخبره بالقضية ثم إن القاضي اقتضى رأيه الكريم أن يبيعها عليه بثمن معلوم ويجعله تحت يد الشخص المذكور لأمانته ودينه فأرسل إلى أرباب الخبرة من الدلالين وثمنوا الجارية المذكورة بثمن معلوم وأذن القاضي للشخص المذكور أن يدفع ثمن الجارية المذكورة لمالكها إذا وجده أو لوكيله أو لقيم شرعي عنه فاستمرت الجارية المذكورة تحت يد الشخص المذكور فهل الوطء صحيح جائز والأولاد منها أحرار أفتونا مأجورين؟ وهل يبرأ من الله تعالى بسبب ذلك في الآخرة وإذا شهد شاهدان على القاضي المذكور بعد موته أنه ثبت عنده وحكم بالقضية المشروحة أعلاه فهل يكفي ذلك وإذا تعذر شاهد من الشاهدين المذكورين هل يكفي يمين الشخص مع الواحد أم لا؟. فأجاب إذا توفرت المصلحة في بيع الأمة المذكورة فباعها القاضي بيعاً صحيحاً بشروطه، ومنها أن يكون بثمن المثل حالاً من نقد البلد ملكها المشتري وحل له وطؤها فالأولاد منها أحرار وهي أم ولد له فليس لمالكها أخذها منه، وإنما له الثمن فقط وإذا وافق ظاهر الأمر باطنه المذكور كان المشتري بريئاً في الآخرة ولا يثبت حكم القاضي بما ذكر إلا بعدلين ولا يكفي عدل ويمين، والله أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/284)
وسئل في شخص اشترى داراً وقبضها ثم أسكنها شخصاً آخر ثم بعد مدة أقر بأن الدار المذكورة ملك من أملاك الساكن المذكور وصدقه الساكن على ذلك ولم يزل مستمراً على سكناه إلى أن توفي المقر المذكور فادعى بعض ورثته أعني المقر المذكور، أن الدار المذكورة حال الإقرار مبيعة لشخص معلوم بيع عدة وأمانة فهل تسمع هذه الدعوى من الوارث أو لا بد من دعوى المشتري أو تسمع من كل منهما وإذا سمعت الدعوى ممن يسوغ وثبت ما ادعاه فهل تنزع الدار من الساكن أو لا؟ وإذا انتزعت فعادت إلى الوارث بإقالة أو غيرها هل يجب عليه ردها للمقر أو لا؟ وهل عودها إلى الوارث بغير إقالة كعودها بها أم لا وأجرة المثل مدة السكنى بالدار المذكورة تلزم الساكن إذا قلتم بفساد الإقرار أم لا؟. فأجاب بيع العدة الخالي عن الشرط المفسد صحيح عندنا فليس للوارث الدعوى به، لأن الحق متمحض لغيره وهو المشتري وتسمع دعواه بذلك فإن أثبت الشراء من الميت قبل إقراره انتزع العين من المقر له، ويلزمه للمشتري أجرة مثلها مدة وضع يده عليها وهي ملك المشتري وحيث عادت للوارث فإن كان مصدقاً لمورثه في إقراره انتزعها المقر له منه مطلقاً، وإلا فإن عادت إليه من جهة مورثه فإن كان يسلب العود إليه إرثه كالإقالة انتزعها منه أيضاً لأنه خليفة مورثه أولاً من تلك الجهة لم ينتزعها منه أخذاً من قولهم لو تزوّج بمجهولة فاستلحقها أبوه ولم يصدقه لم ينفسخ نكاحه والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/285)
وسئل عن رجل له ضيعة بها شرب من الماء فباعها من آخر ولم يذكر الشرب فقال البائع لم أبعه بل هو باق لي، وقال المشتري ما بذلت المال الكثير إلا للضيعة وشربها ما الحكم؟ وإذا قال البائع بعتكها وأبحت لك شربها بكذا فقبل المشتري ثم قال أردنا بهذا اللفظ البيع في الجميع فقال البائع بل في الأرض فقط وإذا قال بعتكها بخمسين ديناراً وبعتك شربها بخمسين أو وأبحته لك بخمسين فقال قبلت بمائة ما الحكم؟ ولو باع بكناية ثم مات أو غاب ولم تعلم نيته ما حكمه؟ ولو اشترى من آخر ضيعة فأحدث فيها عمارة عيناً وأثراً ثم استحقت فهل له الرجوع بقيمة عمارته على البائع وأخذ العين أم لا؟ ومن اشترى ثم ادعى أنه لم ير وعكسه من المصدّق؟. فأجاب المنقول أن بيع الأرض لا يدخل فيه مسيل الماء ولا شربها بكسر الشين، أي نصيبها من القناة والنهر المملوكين حتى يشترط ذلك كما يقول بعتك الأرض بحقوقها أو بشربها. قال السبكي وغيره: ومحل هذا في الخارج من ذلك عن الأرض أما الداخل فيها فلا ريب في دخوله اهـ، ولا ينافي ما ذكروه هنا قولهم لو اكترى أرضاً لزراعة أو غراس دخل الشرب ونحوه مطلقاً، لأن المنفعة المستأجر لها ثم لا تتم بدونه فلم يدخل إلا بالشرط بقيده المذكور إذا تقرر ذلك فحيث اتفق البائع والمشتري على عدم ذكر الشرب في صلب العقد إن كان داخلاً في الأرض ملكه المشتري ولا نظر لكلام البائع حينئذ، وإن كان خارجاً عنها فهو باق على ملك البائع ولا حق للمشتري فيه وإن قال إنه بذل الماء في مقابلة الأرض معه، لأن القصود والنيات لا تعتبر في مثل ذلك مما المدار فيه على اللفظ وحده ولا تأثير فيه للنية وحدها، فإن لم يتفقا على ذلك بأن قال المشتري بعتني الأرض مع شربها، وقال البائع إنما بعتك الأرض وحدها تحالفاً حيث لا بينة لهما أو أقاما بينتين متعارضتين فيحلف كل منهما يميناً يجمع نفياً وإثباتاً ثم إن استمر نزاعهما فسخاه أو أحدهما أو الحاكم، وقول السائل وإذا قال(1/286)
البائع بعتكها وأبحت لك شربها بكذا الخ، يحتاج الجواب عنه إلى مقدمة أن أبحتك إياه بكذا هل هو من كنايات البيع وفيها خلاف حررته في شرح الإرشاد وعبارته وليس منها أي الكناية أبحتك إياه بكذا قال في المجموع لأنه صريح في الإباحة مجاناً فلا يكون كناية في غيرها اهـ. قال شيخنا، أي شيخ الإسلام، زكريا سقى الله عهده وفيه نظر وإلا أشكل بانعقاده بلفظ الهبة المصرح فيه بأنه مع ذكر العوض صريح في البيع اهـ ويجاب بأن اقتران العوض بالهبة يمنع انصرافها لمعناها من التمكن مجاناً ويصرفها إلى التمليك بعوض بخلاف الإباحة فإنه ليس لها معنى مستقر، حتى يكون ذكر الثمن صارفاً لأنها صريحة في الانتفاع لا في تمليك العين، كما حققته في بعض الفتاوى أخذاً من كلامهم. ثم إن تأتي الانتفاع بغير استهلاك العين كانت كالإعارة وإلا كانت كالضيافة فيملك قبيل الازدراد على الخلاف فيه، فعلم أنها لا تصلح للكتابة هنا لأنها لا تحتمل تمليك العين ابتداء بوجه انتهت عبارة شرح الإرشاد، وإذا تقرر أن لفظ الإباحة لا يصلح أن يكون من كنايات البيع فيكون قوله بعتك الأرض وأبحتك شربها بكذا مشتملاً على ما يصح بيعه وهو الأرض وما لا يصح بيعه وهو الشرب من حيث استعمال لفظ الإباحة فيه فتتفرق الصفقة فيصح البيع في الأرض ويبطل في الشرب ويتخير المشتري إن جهل ما ذكر في الإباحة فإن أجاز البيع أو علم حكم الإباحة المذكورة لم يلزمه إلا قسط الأرض من الثمن باعتبار توزيعه على قيمتها وقيمة الشرب، فإذا قيل قيمتها مائة وقيمة الشرب عشرون خصها من الثمن خمسة أسداسه وبطل البيع في سدسه المقابل للشرب، فيلزم المشتري خمسة أسداس الثمن فقط، وقول البائع في هذه الصورة أعني قوله بعتكها وأبحت لك شربها بكذا إنما أردت البيع في الأرض فقط أي حتى يجب له كل الثمن ويأخذ الشرب لا يلتفت إليه لأن لفظه يناقض منويه فيلغو ويصح البيع في الأرض بقسطها من الثمن في الشرب وما يقابله من الثمن كما(1/287)
تقرر، وقول السائل وإذا قال بعتكها بخمسين ديناراً الخ، يحتاج لمقدمة أيضاً هي أنهم ذكروا خلافاً في عكس هذه الصورة وهو ما لو قال بعتك هذا بألف فقال قبلت نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة، وعبارة شرح الإرشاد في هذه فقال قبلت نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة أي فلا يصح على ما أشعر به كلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
الرافعي ومال إليه الإسنوى لكن أقر النووي في المجموع المتولي على القول بالصحة مع تسليمه استشكال الرافعي لها بأنه أوجب له عقداً فقبل عقدين لتعدد الصفقة بتفصيل الثمن ولو من جانب واحد ولا تنافي خلافاً للزركشي لأنه سلم الصحة من حيث النقل والاستشكال من حيث المعنى والذي يتجه في ذلك أنه إن نوى تفصيل ما أجمله البائع دون تعدد العقد صح وإن أطلق أو نوى تعدد العقد لم يصح وعليه يحمل الكلامان ثم رأيت في كلام الزركشي ما يؤيد ذلك، وقولهم الصفقة تتعدد بتفصيل الثمن يحمل على ما إذا وقع التفصيل من جهة من تقدم لفظه كبعتك بهذا نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة فيقول قبلت أو قبلته بألف، لأن القبول حينئذ يترتب على الإيجاب المفصل فوقع مفصلاً بخلاف ما إذا أجمل البائع أوّلاً وفصل المشتري لأنه أوجد ما ينافي الإجمال فلم يمكن أن يقال إن قبوله وقع مجملاً ففصلنا فيه بين أن يقصد تفصيل ذلك فيصح أولاً فيبطل أما في الثانية فواضح، وأما في الأولى فلأن التفصيل من حيث هو ينافي الإجمال وقضية كلامه خلافاً للشارح أي الجوجري أنه لو قال بعتك هذا بدرهم وهذا بدينار فقال قبلت أحدهما صح أو بعتك هذين بألف كل واحد بخمسمائة فقبل أحدهما صح للتوافق، لأن ذلك في حكم صفقتين وهو متجه وفي بعتك سالماً وغانماً هذين بألف يصح قبولهما بها وإن لم يعرف سالماً من غانم بخلاف سالماً بألف وغانماً بخمسمائة لا بد من معرفتهما ويفرق بأن الاقتصار على قبول أحدهما هنا جائز فاشترط أن يعرفهما حتى يقبلهما أو أحدهما، وثم(1/288)
يتعين قبولهما معاً أو تركهما معاً فلا فائدة لمعرفتهما انتهت عبارة الشرح المذكور ومنها يعلم أنه لو قال بعتكها بخمسين ديناراً وشربها بخمسين ديناراً فقال قبلت بمائة صح فيهما وأنه لو قال بعتكها بخمسين ديناراً وأبحت لك شربها بخمسين ديناراً فقال قبلت بمائة صح في الأرض بخمسين ولا يصح في الشرب، والحكم في هذه واضح مما قدمته في بعتكها وأبحت لك شربها بكذا، وأما الأولى فوجه الصحة فيها أنه قد علم مما قررته في بعتك هذا بدرهم وهذه بدينار أنه في صورتنا مخير بين قبول الأرض والشرب معاً وقبول أحدهما وإذا جوّزنا له قبولهما فلا فرق بين أن يقول قبلت الأرض بخمسين والشرب بخمسين أو يقول قبلتهما بمائة لما علم مما ذكرته في نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة أن الصفقة قد تعددت بتفصيل البائع لكونه ابتدأ بالتفصيل فيكون القبول على وفقه سواء أوقع مفصلاً مثله أم مجملاً كما بينته فيما مر بقولي، وقولهم الصفقة تتعدد بتفصيل الثمن يحمل على ما إذا وقع التفصيل من جهة من تقدم لفظه الخ، فتأمله فإن فيه الفرق بين صورتنا هذه المذكورة في السؤال وعكسها التي هي صورة الخلاف الذي حكيناه آنفاً وإذا مات أحد العاقدين بالكناية ولم يدر هل نوى بها البيع أو الشراء لم يعتد بها وكان المبيع باقياً على ملك البائع، لأن هذا هو الأصل المحقق فلا يعدل عنه إلا بيقين، وأما إذا غاب فينتظر إلى أن يحضر أو يرسل إليه حتى تعلم نيته.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/289)
وسئل رضي الله عنه عن مسألة فأجاب فيها بجواب مختصر ثم بلغه أن بعض المفتين أفتى فيها بخلاف ذلك فصنف فيها تصنيفاً سماه بتنوير البصائر والعيون بإيضاح حكم بيع ساعة من قرار العيون وقد أردت أن أذكره برمته هنا وإن كان تصنيفاً مستقلاً لأنه في حكم الفتاوى باعتبار أصله كما علم مما تقرر وذلك التصنيف (أحمدك) اللهم إن أبقيت في هذا العالم طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى أن يأتي أمر الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنجو بها من أن أنظم في سلك من أضله الله على علم لما أنه اتخذ إلهه هواه وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله قاصماً لظهور المعاندين بحجتي منطقه وفحواه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين لم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يلتفتوا لما سواه ما قام بنصرة هذا الدين من فرغ نفسه لله وراقبه في سره ونجواه. (أما بعد) فإن العلم بحمد الله لم تزل أنديته غاصة بأهلها ورياضه مغدقة بوبلها وحدائقه بها حدق التحقيق محدقة وربوعه محفوظة بلوا مع الحجيج المونقة وعرائسه سافرة النقاب لمن بذل لها ملك نفيسه مصونة الحجاب عمن تطاول إليها بمجرد تمنيه وهويسه وأهله هم قوام الدين وقوامه وبهم ائتلافه وانتظامه وعليهم المعول في عقل الشوارد وتقييد الأوابد بمحكم البرهان، وواضح التبيان لما أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يبينوه ولا يكتموه وحرم عليهم أن يكونوا كالذين نبذوه وراء ظهورهم وطرحوه فلذلك وجب على من علق بأذيالهم ودخل تحت نعالهم وتأسى بأفعالهم وأقوالهم وتأهل لفهم عباراتهم وأحاط بإشاراتهم أن لا يجمد على ظواهر العبارات وأن لا يركن إلى البدعة والعناد أو الجهل أو البطالات فإن ذلك متكفل بالحرمان وقاص بالخذلان، نسأل الله النجاة من المهالك وأن يسلك بنا أوضح المسالك إنه بكل خير كفيل وهو حسبي ونعم الوكيل هذا والداعي إلى الآن ثالث رجب أسأل الله نيل الأرب إلى تأليف هذا الكتاب(1/290)
المحتوي على غاية من التحقيق وفصل الخطاب الموسوم (بتنوير البصائر والعيون بإيضاح حكم بيع ساعة من قرار العيون) أنه رفع إليّ في أثناء شهر جمادي الآخرة سنة تسع وأربعين وتسعمائة سؤال في بيع ساعتين من قرار عين كذا فأجبت عنه بجواب طويل مشتمل على تفصيل في ذلك، ثم رفع إليّ السؤال ثانياً بأخصر من الأول وطلب مني اختصار الجواب فاختصرته، ثم بلغني أن جمعاً خالفوني في ذلك تشبثاً بإطلاق الإمام البلقيني مع أني بينت في كل من ذينك الجوابين معناه ومجمله واستدللت على ذلك بكلام الأئمة وقواعدهم فلم يسمعوا لذلك قيلاً بل أفتوا بما سينبئك عنهم أنهم في هذه الحادثة كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وكيف والعمر قد ذهب إما في اللهو والطرب أو في تفهم كلام العرب أو في تحصيل الحطام من وجه حلال أو من حرام وأني لمن هذا وسمه وتأسس عليه رسمه أن يتحدث بالبراز أو يقرب من هذا المجاز تالله ليقامن عليهم من الحجج ما يقصم ظهورهم ويمنع ظهورهم وفاء بذلك الميثاق الأكيد ورجاء لحصول المزيد فإن علام الغيوب هو المطلع على القلوب أسأله بعز ربوبيته وكمال صمديته أن يعاجل من تعمد في هذه القضية عصبية أو عناداً أو هوى أو فساداً بسطوات انتقامه وحرمان إنعامه، وأن يوفقنا أجمعين لسلوك سنن الهدى ولاجتناب سبب الردى أنه أقرب مجيب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ورتبته على مقدمة وخاتمة وسبعة أبواب. أما المقدمة ففي ذكر السؤال والجواب بنوعيهما. وأما الأبواب فأربعة في ذكر أحوال المسألة الأربعة التي فصلتها في كل من الجوابين والخامس في الكلام على ما وقع في الروضة من التناقض في بيع الماء والقرار وبيان الجمع بين عبارتها ورد ما وقع في ذلك للمتكلمين عليها، والسادس في بيان حكم عيون مكة بخصوصها وهل هي مملوكة منبعاً ومجرى وهل يصح بيعها أو لا؟ والسابع في الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب وفي بيان ما ينقض فيه قضاء القاضي وما لا ينقض، وأما(1/291)
الخاتمة ففي ذكر ما اطلعت عليه من أجوبة المخالفين والكلام عليها وبيان ما اشتملت عليه مما يصم عنه الآذان وتتنزه عن تصوّره الأذهان والمسؤول من كرم الله وفضله أن يهديني إلى سواء السبيل وأن يجعلني ممن أعلا شرفهم بقوله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [3:173] آل عمران(2).
(مقدمة) رفع إليّ سؤال صورته ما قولكم رضي الله عنكم فيما إذا باع شخص من آخر حصة من قرار عين كذا جارية وهذه الحصة قدرها سدس سهم من أربعة عشر سهماً مشاعاً من جميع العين لكن عبر عنها في مكتوب الشراء بما يتعارفه أهل عيون بلدة البيع من التعبير عن أجزاء السهم من القرار والماء الجاري به بالساعات وعن الساعة من ذلك بالوجبة التي هي اثنتا عشرة ساعة كما يعبر عن مثل ذلك في البلاد الشامية بالأصابع ويسمون ذلك في بلد البيع كله سقية لأنه لا يخفى أن الشريك في القرار شريك في الماء التابع له من أجل مشاركته في القرار فعبر كاتب الشراء عن المبيع الذي هو حصة من القرار بما يستعمل فيه وفيما هو تابع له من الماء، وملخص عبارة مكتوب الشراء بعد أن أذن الحاكم الشرعي فلان الشافعي لفلان الفلاني في شراء المبيع الآتي ذكره لنفسه ولبقية ورثة والده من البائع الآتي ذكره بالثمن الآتي ذكره فيه إذناً صحيحاً شرعياً اشترى فلان الفلاني المأذون له لنفسه ولبقية ورثة والده المشمولين بحجر الشرع الشريف من فلان البائع عن نفسه جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية بما للحصة المذكورة من حق من قرار العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذيولها ومجاري مائها ومن مائها الجاري بها من فضل الله تعالى اشتراء صحيحاً شرعياً مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم بثمن جملته كذا مقبوض بيد البائع من المشتري وتسلم البائع الثمن وسلم للمشتري جميع(1/292)
المبيع المذكور تسلماً شرعياً بعد الرؤية والمعرفة والمعاقدة الشرعية وثبت ذلك عند الحاكم الشافعي الآذن المذكور وحكم بموجبه ومات الحاكم والمتعاقدان والشاهدان فهل هذا الحكم صحيح أم لا؟ وإذا قلتم هو صحيح فهل يقتضي صحة التبايع المذكور أم فساده وهل لحاكم شرعي نقض التبايع والحكم به أم لا؟ لا سيما مع كون الحاكم الشافعي المذكور من أهل العلم الوافر وكمال النظر في فروع الفقه وغيره كما هو مشهور بذلك وهل يقتضي صحة ما تقدم ذكره قول الإمام النووي رضي الله عنه في روضته ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً فقال بعتك هذه القناة مع مائها أو لم يكن جارياً وقلنا الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولاً تفريق الصفقة وقوله بعد ذلك بنحو أربعة أسطر ولو باع جزءاً شائعاً من البئر أو القناة جاز وما ينبع مشترك بينهما أم لا؟ يقتضي ذلك صحة ما ذكر وإذا قلتم أن قوله وفي القرار قولاً تفريق الصفقة يرجح صحة بيع القرار فقط في الصورة المذكورة فهل يكون المشتري مستحقاً للماء النابع به لكونه نابعاً في ملكه كما يؤخذ من المسألة الثانية وأيضاً فهل التعبير في مكتوب الشراء عن الحصة المبيعة من القرار بقوله الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية مخل بالتبايع أو بالحكم به أو غير مخل بذلك لإمكان تأويلها بما يصححها فأجاب رضي الله عنه بقوله: قد استفتى شيخ الإسلام السراج
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/293)
البلقيني عن هذا السؤال بعينه فلم يصرح فيه نفسه بشيء وبيانه أن الجمال بن ظهيرة قال في سؤاله له العيون التي بمكة المشرفة وغيرها من بلاد الحجاز لا يعرف الذي ينبع منها غالباً، وإنما يجري في مجار إلى أن يبرز إلى الأرض التي يسقيها ويتبايعونه بالليالي والأيام والساعات يشتري الشخص من آخر ساعة من النهار إلى الليل بثمن معلوم ويتصرف فيها فهل يصح هذا ويملكه؟ ثم قال السائل بعد أسطر: وجرت عادتهم أنهم يكتبون اشترى فلان من فلان ساعة من قرار كذا فهل ذلك معتبر أم لا؟ فأجاب البلقيني رحمه الله تعالى وأطال ومع ذلك لم يصرح في جواب السؤال الثاني بشيء في النسخة التي رأيتها الآن، وإنما أجاب في الحقيقة عن الأول فقط وعبارته بعد فرضه الكلام في ملك محل النبع والمجرى، وأما شراء الماء المذكور ساعة من النهار أو الليل فهذا لا يصح لجهالة المبيع وبعد فرضه الكلام في ملك الثاني فقط إذا صدر بيع في هذه الصورة على الماء الكائن في الأرض فلا يصح لأنه غير مملوك لصاحب الأرض ثم قال: وما ذكره في السؤال من أنه لا يعرف الأصل الذي ينبع منه غالباً جوابه أنه لا يصح بيع الماء في هذه الصورة لأنه غير مملوك والتبايع الواقع بالليالي والأيام والساعات كله غير صحيح لأنه لم يصادف ملكاً للبائع في ذلك ولا يملك المشتري شيئاً من ذلك ولو فرعنا على الصحيح أن الماء يملك فإنه ليس هنا سبب يقتضي ملك الماء اهـ فهو مطلق لعدم صحة بيع الماء المقدر بساعة مثلاً وغير متعرض لخصوص ما إذا بيعت ساعة مثلاً من قرار كذا وإن أكد بكل لأن تعليله بعدها صريح في أن الفرض أن المبيع هو من غير تعرض للقرار وهذا الفرض المخصوص فيه تعرض للقرار والزمان معاً فما المعتبر منهما كما أشار إليه السائل فلم يجب عن هذا الخصوص بشيء، وإنما أجيب بكلام مطلق لا يحتج به في مثل ذلك وعلى تسليم شموله له فهو متوقف على تقدير مضاف بعد من أي من ماء كذا، إذ لا يظهر القول ببطلان البيع في هذا(1/294)
الفرض المخصوص إلا بتقدير ذلك المضاف وهو غير لازم إذ اللفظ كما يحتمل تقديره فيبطل يحتمل عدم تقريره وارتكاب مجاز فيه، فيصح بأن يراد بالساعة الجزء بدليل قوله من قرار عين كذا لأن من هنا للتبعيض لا غير كما لا يخفى ومن التبعيضية صريحة في اتحاد ما قبلها مع ما بعدها مفهوماً وحقيقة فهي قرينة ظاهرة في أن المراد بالساعة الجزء إذ لا يقال ساعة من محل كذا إلا بارتكاب ذلك التجوّز وإذا دار الأمر بين تصحيح لفظ بتجوز من غير تقدير محذوف رابطاً له بتقدير محذوف كان تصحيحه أولى من إبطاله لوجهين: أحدهما: أن احتمال الصحة مقدم على احتمال البطلان كما يصرح به قاعدة أن القول قول مدعي الصحة غالباً عملاً بأن الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين الصحة وإن كانت خلاف الأصل الثاني أن المجاز أولى من الإضمار على قول قال به كثيرون وعلى الأصح من أنهما سيان لاحتياج كل منهما إلى قرينة فالمجاز هنا أولى عملاً بقاعدة أن تصحيح اللفظ حيث أمكن أولى من إبطاله وقد عولوا على ما دلت عليه من التبعيضية في بعض مسائل الصبرة ولم ينظروا لاحتمال أنها لابتداء الغاية أو بيان لمفعول محذوف إلا على بحث لبعض المتأخرين قيده بما إذا أراده فليعوّلوا عليها هنا كذلك، إذا تقرر ذلك فالذي دل عليه كلامهم أن المتبايعين إذا أرادا بقولهما ساعة أو ساعتين من قرار عين كذا جزءاً معيناً من محل النبع أو المجرى المملوك صح البيع نظير ما ذكروه في مسائل منها بيع ذراع من أرض مع إرادة الشيوع أو التعيين ولم ينظروا إلى أن الشيوع لا يفهم من مطلق لفظ الذراع إلا بتأويل ومنها البيع بثلاثة آلاف إلا ما يخص ألفاً أو بدينار إلا درهماً، وأراد الاستثناء من القيمة المعلومة بل في مسألتنا أولى بالصحة من هذه لأن ما أراد فيه يدل عليه ظاهر قولهما من قرار عين كذا، وما أراده بالاستثناء لا يدل عليه ظاهر اللفظ بل يدل على خلافه، وتخيل فرق بين المبيع والثمن بأنه غير مقصود لذاته(1/295)
ولذا جاز الاستبدال عنه بخلاف المبيع غير مؤثر، لأن الإرادة لها تأثير في المبيع أيضاً كما قالوه في مسائل الذراع والصاع وغيرها فإناطة الحكم بها لا تنافي قصده لذاته وإنما لم يكتف بالنية فيما إذا كان في البلد نقود مختلفة القيمة ونويا أحدها لأن اللفظ هنا وهو قوله بعشرة مثلاً لا دلالة له على شيء وضعاً ولا قرينة فلو أثرت النية معه لكان فيه إعمال لها وحدها وهو ممتنع فيما ذكره بشرط، وفي مسألتنا اللفظ دال على المنوي باعتبار ما قررناه وما سنقرره فليس فيه إعمال للنية وحدها بل بما دل عليه اللفظ الموافق لها وإن أريد بذلك مدلولها الحقيقي مع تقدير ماء بطل البيع وإن لم يريدا شيئاً فإن اطرد في عرفهما التعبير بالساعة في مثل هذا التركيب عن الجزء المعين من القرار المملوك صح البيع أيضاً كما يصرح به قول المجموع رداً على صاحب البيان ومن تبعه إذا عبر بالدراهم عن الدنانير صح لأنه يعبر بها مجازاً كقوله في عشرين درهماً مثلاً هذه دينار إذا كان ذلك هو صرفها أي هذه صرف دينار فهو من مجاز الحذف اهـ، ويؤيده تصريحهم في الثمن عند إطلاقه بحمله على المتعارف بينهم ولو غير نقد ومن ثم قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/296)
ابن الصباغ لو قال بعتك هذا بعشرة أثواب وأطلق وكان لهما عرف انصرف إليه كالنقدين اهـ، وإذا ثبت أن للعرف تأثيراً في تخصيص المطلق في البيع به ثبت ما قلناه هنا من الصحة إذا أطلقا واطرد عرفهما كما ذكر وإن أطلقا ولم يطرد لهما بذلك عرف فهذا هو محل النظر والتردد والقاعدتان السابقتان قاعدة تصديق مدعي الصحة وقاعدة أن تصحيح اللفظ أولى من إبطاله ما أمكن يرجحان الصحة هنا أيضاً ويعضدها قول الموثق مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم إن كان ممن يعوّل عليه في معرفة ذلك، نعم إن أطلقا واطرد عرفهما بأن المراد بذلك بيع الماء مقدراً بزمن لم يبعد القول بالبطلان حينئذ، ولو اختلف الوارثان في الإرادة صدق مدعي الفساد نظير ما قالوه في الذراع لكن لا يتأتى هذا هنا لحكم الحاكم المستلزم لثبوت موجب الصحة عنده من حيث الصيغة بناه على ما قاله السبكي وغيره، والحاصل أن حكم الحاكم لا ينقض إلا بعد تحقق موجب نقضه، وأما مع عدم تحقق موجبه فلا يمكن القول بنقضه كما يصرح به كلامهم وقد ظهر بما قررته أن موجب النقض لم يتحقق وأن هذا اللفظ له محتملات بعضها صحيح وبعضها باطل ومع ذلك فلا نبطله إلا إذا تحققنا أن ذلك الاحتمال الباطل هو المراد ولم نتحققه ولا ينافي ما تقرر قولهما جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا لأنا إذا فرضنا أن المراد بالساعتين جزء معين من القرار المملوك أو حملنا اللفظ على ذلك لما مر صح تسمية ذلك الجزء سقية لأنه سببها، ويدل عليه قول الموثق بما للحصة المذكورة من حق من قرار العين المذكورة الخ، فإن قلت القرار المذكور أولاً هو القرار المذكور ثانياً والعبارة تقتضي تغايرهما وأن حصة السقية غيرهما، قلت لا تقتضي ذلك لأن قوله ومقرها وما بعده معطوف على قوله قرار، أي ومن حق من حقوق المقر والممر وحقهما غيرهما كما هو واضح وغاية ما فيه أن الموثق تفنن فعبر بالقرار أوّلاً ثم عبر ثانياً عنه بالمقر وأعاده مختلفاً لفظه(1/297)
مع اتحاد معناه لبيان شمول البيع لجميع حقوقه وقول الموثق ومن مائها الجاري بها الخ، صريح في أن المراد بالساعتين جزآن من القرار كما قررناه، ويدل له التعبير بالسقية إذ هي فعيلة بمعنى فاعلة أي ساقية، إذ الساقية اسم للقرار لا للماء وما ذكر في السؤال عن الروضة لا يقتضي صحة البيع فيما ذكر إلا بالتقدير الذي ذكرناه وأن المراد بالساعة الجزء وأنها محمولة عليه عند الإطلاق على أن كلام الروضة قد تناقض في ذلك وقد بينت الجمع بينهما في جواب بعض أسئلة وردت من حضرموت مع الرد على البلقيني في اعتراضاته عليها في جوابه السابق بعضه، وحاصل ما تجتمع به عباراتها أن المملوك إن كان محل النبع فوقع البيع على ذلك كله أو جزء شائع منه معين صح وجرى في دخول الماء الموجود عند البيع ما قرروه في باب الأصول والثمار، وإن كان المملوك هو القرار صح أيضاً ولكن لا يدخل الماء لأنه في هذه الصورة غير مملوك له، وإنما يدخل في ذلك استحقاق الأرض فيه المسمى بالشرب، ومراد الروضة بعدم الصحة في الماء في الصورة التي أجرى فيها خلاف تفريق الصفقة أنه لا يصح بطريق الملك إلا في الأرض دون الماء فإنه إنما يصح فيه بطريق الاستحقاق، ومن ثم صرح فيها أواخر المناهي بصحة البيع فيهما، أي في الأصل بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق التبع والاستحقاق فلا تناقض بين كلاميها خلافاً لمن ظنه وفائدة إجراء خلاف تفريق الصفقة في القرار حتى يبطل في الماء الرجوع بما يقابله من الثمن لأنا إن قلنا بالصحة فيه فهي بطريق الاستحقاق وما كان كذلك لا يقابل بجزء من الثمن فإذا قوبل به اقتضى ذلك بطلان البيع فيه وفي الأرض على الضعيف وفيه وحده على الصحيح، فاتضح وجه جريان الخلاف في الأرض وأنا وإن أجريناه فيها وقلنا بالبطلان في الماء فإنما هو من الحيثية التي قررناها آنفاً والكلام كما علم مما تقرر في محل قرار الماء المملوك دون محل نبعه لأن ملكه لا يستلزم ملك الماء بل يكون(1/298)
المالك أحق به أما محل نبعه مع قراره المملوك كل منهما فيصح البيع فيهما بطريق القصد، لأن ملكه يستلزم ملك الماء وأما محل نبعه وقراره غير المملوك فلا يصح البيع فيهما فتأمل ذلك فإنه مهم ومن ثم اضطربت فيه الأفهام وكثرت فيه السقطات والأوهام، فإن قلت ينافي ما تقرر من الجواب قول جمع رداً لما في الروضة ما لا يجوز بيعه إذا كان مجهولاً وبيع مع غيره بطل البيع في الجميع بناء على أن الإجازة بالقسط والقسط غير ممكن للجهالة، قلت إنما يتضح ردهم أن لو سلمنا لهم دعوى الجهالة بالقسط وهي غير مسلمة فقد قال جمع في نحو الخل والخمر والشاة والكلب أو الخنزير أن الباطل يقوّم عند من يرى له قيمة كأهل الذمة فكذلك الماء هنا يقدر عند من يرى له قيمة ويصح بيعه مطلقاً وهم المالكية وعلى المعتمد من أن ذلك يعتبر بما يشابهه كالخل والعتر كذلك يعتبر الجاري هنا بما يشابهه فيقدر راكداً ويوزع الثمن عليه مع الأرض فإن قلت فما حكم عيون مكة هل هي مملوكة لأربابها قراراً ومنبعاً أو قراراً فقط قلت بل قراراً ومنبعاً كما يصرح به قول الروضة وأصلها لو صادفنا نهراً يسقي منه أرضون ولم ندر أنه حفر أي فيكون مملوكاً أو انخرق أي فلا يكون مملوكاً حكمنا بأنه مملوك لأنهم أصحاب يد وانتفاع اهـ على أن ما نحن فيه أولى بالملك من صورة الروضة لأن صورتها ليس فيها قرينة على الملك غير وضع اليد وهنا مع وضعها قرينة أخرى وهي بناء تلك العيون الذي هو صريح في ملك الباني لمحل ذلك البناء، فإن قلت كيف يصح البيع في تلك العيون منبعاً وقراراً مع عدم رؤيتهما، قلت: أما ما تحت الأرض من مجرى العين وذيلها فلا يشترط رؤية جميعه لتعذره كأساس الجدار وكما بحثه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/299)
الأذرعي من عدم اشتراط رؤية المستتر في ذي الوجهين وإن سهل بالفتق وإنما الذي يشترط رؤيته منها ما يختلف به الغرض أخذاً من أن البئر لا يشترط رؤية جميعها بل ما يختلف به الغرض منها عند أهل الخبرة من جدرانها ونحوها، وأما القناة الظاهرة فلا بد من رؤيتها جميعها بأن يحبس الماء عنها ولا يكفي رؤيتها من ورائه وإن كان صافياً ثم رأيت البلقيني تعرض لما في السؤال فقال وما جرت العادة في مكة المشرفة من أنهم يكتبون اشترى فلان ساعة من قرار عين كذا غير صحيح ولا معتبر، وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع اهـ، وهو غير مناف لما ذكرته من وجوه: منها أنه أطلق عدم الصحة ولم يبين مدلول ذلك اللفظ ولا ما فيه من الاحتمال ونحن قد فصلنا محتملاته وبينا كل واحد منها وما يدل له من كلام الأئمة فلا ينافي إطلاقه تفصيلنا بل يتعين حمل إطلاقه على الوجه الباطل الذي قدمناه وهو ما إذا أرادا أن المبيع الماء مقدراً بزمن أو أطلقا وعرفهما ذلك. ومنها: أنه لم يبين لما ذكره دليلاً ونحن قد بينا لما ذكرناه أدلة من كلامهم سيما ما قدمناه عن مجموع النووي وعن ابن الصباغ ولا يسع البلقيني أن يقول إذا أراد بالساعة جزءاً معيناً من القرار المملوك يبطل البيع، لأنه حينئذ يكون مخالفاً لصريح كلام أئمته من غير مستند بل لا يسعه أيضاً أن يقول بالبطلان إذا اطرد عرفهما بالتعبير بالساعة من القرار عن الجزء المعين من القرار المملوك لمخالفته لصريح كلامهم الذي قدمته عن المجموع وغيره، وإذا ثبت أنه في هاتين الحالتين ملزوم بالقول بالصحة فلا يستدل بكلامه على بطلان حكم الحاكم لما قدمناه أن حكم الحاكم يصان عن النقض ما أمكن وأنه لا يصار لنقضه إلا إذا تحققنا موجب نقضه ولا نتحقق موجبه في هذه الصورة إلا إذا ثبت أنهما أرادا بالساعة من القرار حقيقتها من مائه أو من القرار نفسه وهو غير مملوك، وأما إذا لم يثبت ذلك فلا يمكن القول بنقضه كيف وله محتملات(1/300)
بعضها صحيح وبعضها باطل ولم يثبت وجود ذلك الباطل. ومنها: أن قول البلقيني وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع صريح في أن سبب البطلان في ساعة من قرار كذا ليس هو ذكر الساعة فحسب بل عدم إيراد البيع على محل النبع وهذا غير صحيح لتصريحه هو وغيره بصحة بيع الجزء من القرار المملوك وإن كان غير محل النبع، فإن قلت ما وجه صريح قوله وطريق البيع الخ، في أن سبب البطلان ما ذكر قلت وجه ذلك أنه إذا كان السبب هو ذكر الساعة من قرار عين كذا لم يكن قوله وطريق البيع الخ ملائماً لما قبله ولا مرتبطاً به، فإن البيع إن وقع على محل النبع أو غيره هو في ذلك سواء فكيف مع ذلك يقول وطريق البيع أن يقع على القرار الذي هو محل النبع اللهم إلا أن يريد بذلك طريق البيع الذي يملك به الماء، والحاصل أن ما ذكره هنا ينافيه ما قدمه نفسه أول جوابه وهذا يضعف كلامه ويوجب عدم اعتماد إطلاقه البطلان، ويبين أن الحق ما فصلناه وقلناه وإن كنا معترفين بنقص مقامنا عن مقامه إلا أن الحق أحق أن يتبع على أنه رحمه الله كان في أكثر أحواله غير متقيد بكلام أئمة مذهبه لوصوله مرتبة من مرتبة الاجتهاد بل لأقصاها كما قاله تلميذه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/301)
أبو زرعة ويؤيد ذلك أنه جرى في جوابه هذا على مخالفة الروضة في أماكن كثيرة والحق فيها ما في الروضة كما بينته في جواب غير هذا، وأشرت إليه فيما مر ومن مخالفته لما فيها قوله بصحة بيع الماء الجاري وهذا أدل دليل على أنه لم يرد بإطلاقه البطلان في ساعة من قرار كذا إلا إذا كان المراد الماء وحده وأن المراد بالساعة مفهومها الحقيقي، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ثم رفع إليّ سؤال ثان صورته ما قولكم في قضية شرعية موقع بها مستند شرعي ملخص مضمونه بعد أن أذن الحاكم الشرعي الشافعي فلان لفلان الفلاني في شراء المبيع الآتي ذكره فيه لنفسه ولبقية ورثة والده محاجير الشرع الشريف إذناً شرعياً اشترى المأذون له المذكور من فلانة الفلانية جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار العين الفلانية في الوجبة المعروفة بكذا وعدة وجبات العين المذكورة أربعة عشر وجبة كل وجبة اثنا عشر ساعة كل ساعة قيراطان كبيران بما يجب للحصة المذكورة من حق من حقوق العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذيولها ومجاري مائها ومن مائها الجاري بها يومئذ من فضل الله تعالى اشتراء صحيحاً شرعياً مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم بثمن جملته كذا وثبت ذلك لدى الحاكم الآذن المشار إليه وحكم بموجبه فهل البيع المذكور على هذا لوجه صحيح أم لا؟ وهل الحكم بإبطاله نقض لحكم الحاكم أم لا؟ وهل حكم الحاكم في هذه المسألة متضمن للحكم بصحة العقد أم لا؟ وهل هذه الصورة مطابقة لما أفتى به الإمام البلقيني رحمه الله ببطلان البيع فيه أم لا؟ وهل ينقض حكم حاكم شرعي من أهل العلم والنظر في فروع الفقه وغيره بإفتاء عالم مثله أو أعلى منه أو يحمل حكم الحاكم على السداد ما أمكن، فأجاب بقوله: البيع المذكور فيه تفصيل وهو أنه يصح فيما إذا أراد العاقدان بالساعة جزءاً معيناً من قرار العين الذي هو محل النبع أو المجرى المملوك أو لم يريداه لكنه عرفهما حال العقد ويبطل فيما إذا(1/302)
أرادا بها جزءاً من الماء الجاري والحكم بإبطال البيع مطلقاً غير صحيح ونقض حكم الحاكم لا يجوز إلا إن تعذر حمله على معنى صحيح، وأما إذا لم يتعذر كما هنا فلا يجوز نقضه كما صرح به الأئمة منهم التاج الفزاري وجماعة من أئمة عصره رداً على القاضي ابن خلكان لما خالفهم ثم رجع إليهم بل نقل الشيخان في الروضة وأصلها عن الغزالي وأقراه أن حكم المستقضي للضرورة إذا وافق مذهب الغير لا ينقض بناء على أن له أن يقلد من شاء أي من الأئمة الأربعة وهو الأصح وحكم الحاكم المذكور متضمن للحكم بصحة العقد كما صرح به السبكي، وعبارته: الحكم بالموجب صحيح ومعناه الصحة مصون عن النقض كالحكم بالصحة وإن كان أحط رتبة منه فإن الحكم بالصحة يستدعي ثلاثة أشياء أهلية التصرف وصحة صيغته وكون التصرف في محله والحكم بالموجب يستدعي الأولين فقط وهما صحة التصرف وصحة الصيغة انتهت، واعتمدها
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139(1/303)
الكمال السيوطي في جواهره والتنظير فيها إن سلم ليس لما يرجع لرد ما قاله من تضمن الحكم بالموجب لصحة الصيغة كما هو ظاهر ولا ينافيها قول غيره في الحكم بالموجب إن صحيحاً فصحيح وإن فاسداً ففاسد، لأن معناه إن صح لوجود الشرط الثالث فصحيح وإن فسد لفقده ففاسد، وأما الحكم بصيغة الصيغة فالحكمان متفقان عليها وعلى تسليم أن بينهما فرقاً فتصرف الحاكم بالإذن وغيره في قضية رفعت إليه وطلب فصلها حكم منه بالصحة فيها على ما فيه مما ليس هذا محل بسطه وليست هذه الصورة مطابقة لما أفتى به البلقيني من كل وجه لأن فيها زيادات منها حكم الحاكم وإذنه وفيها قرائن دالة على أن المراد بالساعة الجزء ومنها قوله من مائها الجاري بها يومئذ وكل ساعة قيراطان إذ المعنى التي قدرها قيراطان من قرار عين كذا وهذا مما لا يتخيل فقيه البطلان فيه، ومنها قول الموثق مستكملاً لشرائط الصحة واللزوم على أن كلام البلقيني يتعين حمله على الحالة الثالثة إذ لا يسعه القول بالبطلان في الأولتين، أما الأولى فلما تقرر من دلالة اللفظ على ما أراده مع التصريح بنظائرها في كلامهم، وأما الثانية فللتصريح بنظيرها في شرح المهذب وغيره، وقاعدة أن تصحيح اللفظ أولى من إهماله وأن دعوى الصحة مقدمة على دعوى الفساد، لأن الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين الصحة يؤيدان ما حملنا عليه كلامه، وإذا تعارض حكم وإفتاء فإن كان في صورة علم حكمها في المذهب قدم موافقه وإن كانت في حادثة مولدة لم يتعرض لها أهل المذهب كصورة السؤال فإنا لم نعلم للبلقيني فيها سلفاً ولا خلفاً موافقاً ولا مخالفاً فإن كان كل من المفتي والحاكم فيه أهلية الترجيح والاستنباط لم ينقض حكم الحاكم لإفتاء المفتي، وإن كان المفتي أعلم وإن تأهل لذلك المفتي وحده تعين على الحاكم الرجوع إليه وإلا تأتي في نقضه ما مر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإذ قد انتهى الكلام على المقدمة فلنشرع الآن في ذكر أحوال(1/304)
المسألة التي ذكرناها في الجوابين السابقين مفردين لكل حال باباً فيه البرهان عليه من كلامهم فنقول:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 139
الباب الأول: في ذكر الحال الأول)
وهو ما إذا أراد المتعاقدان بالساعة من القرار جزءاً معيناً مشاعاً من القرار المملوك الذي هو المجرى أو المنبع أو ما يتحصل الماء فيه، وقد قدمنا في كل من الجوابين أن البيع يصح حينئذ وقدمنا دليل لكن يحتاج إلى بسط، وبيانه أن الأئمة صرحوا بنظير ذلك في مسائل منها قول النووي في شرح المهذب كالروضة وأصلها وغيرهما وجرى على ذلك في الجواهر وزاد فيه تفصيلاً بينته في شرح العباب، وعبارة شرح المهذب قال أصحابنا: إذا قال بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعاً فإن أراد بذلك هبة صاع لم يصح بلا خلاف لأنه شرط عقد في عقد وإن أراد بيعه صاعاً آخر من غير الصبرة لم يصح، لأنه إذا كان الصاع مجهولاً فهو بيع مجهول وإن كان معلوماً لم يصح إذا كانت الصبرة مجهولة الصيعان لأنه يجهل تفصيل الثمن، وجملته وإن أراد أنه يزيده صاعاً من هذه الصبرة وأنها إن خرجت عشرة آصع كان الثمن تسعة دراهم فينظر إن كانت الصبرة مجهولة الصيعان لم يصح البيع بلا خلاف لأنه لا يعلم حصة كل صاع وإن كانت معلومة الصيعان فوجهان مشهوران في كتب العراقيين حكاهما الشيخ أبو محمد وغيره أصحهما يصح البيع وبهذا قطع إمام الحرمين و الغزالي و البغوي و الرافعي ومعظم الخراسانيين فإن كانت عشرة آصع فقد باعه كل صاع وتسع صاع بدرهم والثاني لا يصح ورجحه الشيخ أبو محمد والروياني وأن العراقيين كلهم جزموا به سوى القاضي أبي الطيب وغلط في هذه الدعوى والخلاف مشهور في ذلك في كتب العراقيين كالشيخ أبي حامد و الماوردي و المحاملي وغيرهم، والمذهب الصحة وإن قال بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أنقصك صاعاً فإن أراد ضم صاع إليه فالبيع باطل، وإن أراد أنها أن خرجت تسعة آصع أخذت(1/305)
منك عشرة دراهم فإن كانت الصيعان مجهولة لم يصح البيع بلا خلاف، وإن كانت معلومة فوجهان الصحيح الذي قطع به العراقيون والجمهور وغيرهم صحة البيع فإن كانت تسعة آصع فقد باع كل صاع بدرهم وتسع والثاني لا يصح لقصور العبارة عن الحمل المذكور اهـ كلام شرح المهذب وهو ظاهر، بل صريح فيما ذكرته في هذه المسألة من التفصيل لأنهم إذا أداروا البطلان والصحة على إرادتهما في هذه المسألة
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172(1/306)
مع ظهورها في المعنى المبطل، إذ قوله على أن أزيدك أو على أن أنقصك ظاهر بل صريح في الشرط ومع ذلك لم ينظر والمجرد اللفظ فيه، بل علقوا الحكم بإرادتهما إن أرادا شيئاً وإلا فالبطلان عملاً بما دل عليه اللفظ، وإذا أناطوا الحكم بالإرادة هنا فأولى في مسألتنا لما ستعلمه موضحاً مبسوطاً وهو أيضاً ظاهر أو صريح في أنهما إذا أرادا بالساعة من القرار ما قدمته آنفاً صح البيع وتأمل قوله آخر كلامه، والثاني لا يصح لقصور العبارة عن الحمل المذكور في أنه صريح في أن الإرادة يرجع إليها وإن خالفت ظاهر اللفظ أو قصر عن الحمل عليها بأن كان مدلوله لا يفي بها، وبيانه أن قوله بعتكها كل صاع بدرهم على أن أنقصك صاعاً دال على رد صاع إليه بأن يسقطه عنه فلا يحسب في مقابلته ثمناً فرد الصاع إليه بالمعنى المذكور هو مدلول هذا اللفظ المفهوم ببادىء الرأي، فإذا أراد خلاف هذا المدلول وهو أنها إن خرجت تسعة آصع أخذ منه عشرة دراهم وصيعانها معلومة صح البيع نظراً لهذه الإرادة لأن اللفظ وإن سلم أنه ظاهر فيما مر هو محتمل لذلك المراد فصحت إرادته منه ولو على بعد ومع ذلك صححوا البيع نظراً لهذه الإرادة ولم ينظروا إلى قول الوجه الضعيف أن العبارة تقصر عن هذا الحمل ووجه ما نظروا إليه ما ذكرته من أنا وإن سلمنا قصورها عن الحمل باعتبار ما يفهم من ظاهرها ببادىء الرأي إلا أنها مع ذلك تحتمله وإذا احتملته صحت إرادته منها ولو على بعد كما تقرر بناء على الأصح أن البيع ينعقد بالكناية وإن لم يحتف به قرائن تفيد العلم خلافاً للإمام وهذا كله أعدل شاهد وأظهر دليل على ما ذكرته من أن العاقدين إذا أرادا في مسألتنا بالساعة من قرار عين كذا ما قدمته صح العقد، وإن سلمنا أن اللفظ يقصر عن هذا المراد فكيف واللفظ ظاهر إذ من في قولهما جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا لا تحتمل هنا عند من له أدنى ذوق وإلمام بكلام أئمة النحو غير التبعيض ومن زعم(1/307)
أنها لبيان محل البيع فقد ساء فهمه وطغى قلمه كما سيأتي الكلام على عبارته من سوء التحريف والغلط مبسوطاً في الخاتمة وإذا كانت من للتبعيض كانت صريحة في اتحاد ما بعدها مع ما قبلها مفهوماً وحقيقة فهي قرينة ظاهرة على أن المراد بالساعة الجزء إذ لا يقال ساعة من محل ذلك إلا مع رعاية تلك الإرادة فوجب النظر إليها لدلالة من عليها وعلى أن المراد بالساعة غير مفهومها اللغوي وكفى من قرينة على هذا التجوز الظاهر وقد عول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172(1/308)
الفقهاء على من التبعيضية ولم ينظروا إلى احتمال غيرها المرجوح إلا على بحث ذكرته في شرح الإرشاد، وعبارته لا إذا قال بعتك منها كل صاع بدرهم فلا يصح لأن البعض الذي دلت عليه من يتناول القليل والكثير فينتفي التخمين وبه يعلم أنهما لو قصدا بمن ابتداء الغاية أو أنها بيان لمفعول محذوف صح وهو غير بعيد بخلاف ما إذا لم يتفقا على قصد ذلك أو أطلقا انتهت فتأمل كيف أخذوا بمعنى من التبعيضية في هذه المسألة لظهوره ولم ينظروا إلى احتمال كونها بيانية أو لابتداء الغاية إلا على ذلك البحث المقيد بما إذا أرادا بها أحد هذين بل في هذا البحث المأخوذ من علتهم كما علمته من العبارة السابقة، وبه صرح في الخادم دلالة لما ذكرناه في مسألتنا من الإرادة لأن البيع إذا صح مع إرادة غير التبعيض مع أنه خلاف ظاهر اللفظ فأولى أن يصح في مسألتنا مع إرادة التبعيض الذي هو ظاهر لفظ من فإن قلت لا نسلم أن ما قدمته هو ظاهر اللفظ لأن فيه إخراج الساعة عن موضوعها، قلت لا يضرنا إرخاء العنان معك وإن وافقناك على أن ما ذكرناه خلاف ظاهر اللفظ لكنهما إذا نويا به معنى صحيحاً يصح البيع كما علمته إن كان لك أدنى فهم من عبارة شرح المهذب السابقة على أن ما عللت به دعواك عدم التسليم من أن فيه إخراج الساعة عن ظاهرها يبطله أن لفظ الساعة ليس المراد به هنا مدلوله الزماني لأن العبارة تأباه ولا تحتمله إذ قولهما جميع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا لا يحتمل إلا أن يراد بالساعة هنا جزء من الماء أو جزء من القرار فالساعة غير مستعملة في مدلولها الزماني على كل من التقديرين وإذا خرجت عن مدلولها إلى مدلول آخر وجب النظر إلى ما دل عليه ظاهر اللفظ من غير تقدير وهو جزء من القرار لما قدمناه، وأما إرادة جزء من الماء فيتوقف على مضاف محذوف مقدر بعد من أي التي قدرها جزآن من ماء عين كذا وإذا دار الأمر بين مدلول لفظ من غير تقدير ومدلوله بتقدير كان(1/309)
الأول هو ظاهره عند جميع العقلاء وكان الثاني خلاف ظاهره فصح ما قلناه من أن الجزء من القرار هو ظاهر اللفظ فإذا أراده صح البيع كما علم بالأولى مما مر عن شرح المهذب بل علم منه كما قدمته أنا وإن سلمنا أنه خلاف ظاهر اللفظ ونوياه صح البيع، فإن قلت لا نسلم أن الساعة هنا مستعملة في غير مدلولها الزماني لأن الحصة السقية اسم للماء والتي قدرها ساعتان تقدير له بالزمان وهذا هو ملحظ القائلين بالبطلان، قلت زعم أن الحصة السقية اسم للماء باطل كما سيأتي بيانه في الخاتمة في الرد على من زعم ذلك بل سيأتي ثم أن السقية فعيلة بمعنى فاعلة أي ساقية وهي اسم للمحل لا للماء وكيف يتوهم مع قولهما السابق في السؤال بما للحصة المذكورة من حق من قرار العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذيولها ومن مائها الجاري بها يومئذ من فضل الله تعالى فقولهما ومن مائها الجاري بها صريح في أن المراد بالحصة السقية جزء من القرار إذ لو أريد بها جزء من الماء لم يصح قولهما ومن مائها الجاري بها يومئذ وإذا بطل أن المراد بالحصة السقية جزء من الماء بطل أن يراد بالساعتين تقدير الماء بزمن، إذ لا ماء مذكور حينئذ حتى يقدر بزمن فتعين أن الساعة هنا مستعملة في غير مدلولها، فإن قلت كما أن قولهما ومن مائها الجاري بها يدل على أن المراد بالحصة جزء من القرار كذلك قولهما من حق من قرار العين المذكورة ومقرها وممرها وشعوبها وذيولها ومجاري مائها، يدل على أن المراد بالحصة جزء من الماء فما المرجح، قلت المرجح أن هذا ليس صريحاً في الدلالة على الجزء من الماء وقولهما ومن مائها الجاري بها صريح في الدلالة على الجزء من القرار فقدمنا الصريح على المحتمل، ووجه احتماله أن قولهما من حق من قرار العين يتعين أن تكون من الأولى فيه بياناً لما في بما ومن الثانية يحتمل أن تكون بياناً لحق أي من حق هو القرار والمقر الخ، وأن تكون للابتداء لوجود شرطها المقرر في الرضى وغيره،(1/310)
أي مبتدأ من القرار وأن تكون تبعيضية أي من بعض القرار والاحتمالان الأوّلان يقتضيان الجزء من الماء والثالث يقتضي الجزء من القرار فكان هذا اللفظ محتملاً وكان قولهما ومن مائها الجاري المعطوف على من حق لا على من قرار كما هو جلي صريحاً في أن المراد بالحصة الجزء من القرار فأخذنا بالصريح وتركنا المحتمل هذا إن كانت عبارتهما من حق من قرار العين الخ، كما رأيته في بعض الأسئلة فإن كانت من حق من حقوق العين الخ كما رأيته في سؤال آخر فهو دليل لما قلناه لأن قوله ومقرها وممرها الخ، معطوف على العين أي من حق من حقوق العين وحقوق مقرها الخ، وانظر قول الموثق ومن مائها الجاري بها يومئذ فإنه لم يعطفه على ما مر قبله بل على قوله من حق فكأنه يبين ما للحصة بشيئين أحدهما حقوق العين وما عطف عليها والثاني الماء الجاري بها وبهذا يتجه أتم اتجاه ما قررناه وحررناه، ومنها قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172(1/311)
الشيخين وغيرهما: ما حاصله لو باع ذراعاً من نحو أرض مجهولة الذرع لم يصح، نعم إن عينا ابتداء الذراع من طرف لا من غيره كبعتك ذراعاً من هنا في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول أو عكسه صح ومتى علم ذرعها وأرادا أو أحدهما معيناً لم يصح وإن لم يريدا ولا أحدهما ذلك صح ونزل على الإشاعة فإن اختلفا صدق المعين أي سواء أكان البائع أم المشتري خلافاً لبعض شراح الإرشاد، لأنه أعرف بنيته ولأن مطلق لفظ الذراع لا يفهم منه معنى الإشاعة إلا بتأويل وبه فارق ما لو قال لآخر خذه قراضاً بالنصف ثم قال المالك أردت النصف لي، أي ليبطل العقد للجهل بحصة العامل حينئذ وادعى العامل العكس ليصح إذ ما فضل عنه يستحقه المالك على الأصل فإن العامل يصدق لأن الظاهر معه، والظاهر فيما نحن فيه مع المعين لما مر اهـ فتأمل تفصيلهم في المعلومة الذراعان بين أن يريدا معيناً أولاً مع قولهم إن مطلق لفظ الذراع لا يفهم منه معنى الإشاعة إلا بتأويل تجده صريحاً في أن الإرادة يدار عليها الحكم صحة وفساداً سواء أكان ما أراداه موافقاً لما دل عليه ظاهر اللفظ أو لا، لكن بشرط أن يكون اللفظ يحتمل ولو بتأويل وإذا تقرر ذلك وعلمت أنه صريح كلامهم اتضح لك ما قلناه في مسألتنا من أنهما إذا أرادا بالساعة من القرار ما قدمته صح البيع سواء أجعلنا ذلك ظاهر اللفظ أم جعلناه محتملاً منه ولو بتأويل وإذا قام البرهان عندك فيما مر أن للفظ إشعاراً ظاهراً بذلك المراد فليصح البيع إذا أراداه كما نطق به كلامهم وتعليلهم في هذه المسألة ومسألة شرح المهذب السابقة فإن قلت قضية قولهم فإن اختلفا صدق المعين الخ، أن العاقدين أو وارثيهما أو وارث أحدهما والآخر في مسألتنا لو اختلفا في إرادة الجزء من القرار بأن قال أحدهما أردناه وقال الآخر أردنا جزءاً من الماء صدق الثاني فيبطل العقد قلت هنا تحقيق ينبغي التفطن له وهو أنهم عللوا البطلان في مسألتهم بتعليلين قدمناهما فعلى التعليل(1/312)
الأوّل يصدق مدعي إرادة الماء حتى يبطل البيع في مسألتنا لأنه أعرف بنيته وعلى التعليل الثاني يصدق مدعي إرادة الجزء من القرار حتى يصح البيع بناء على ما قدمناه من أن هذا ظاهر اللفظ هذا إن جعلنا كلاً من هذين تعليلاً مستقلاً، وهو الظاهر الموافق للأصل وهو عدم تركيب العلة كما صرحوا به فإن جعلنا العلة مركبة منهما اقتضى ذلك تصديق مدعي الصحة أيضاً في مسألتنا لأن مدعي البطلان فيها وإن كان أعرف بنيته لكنه مدع ما ليس بظاهر اللفظ فليس كمدعي البطلان في مسألتهم لأنه ثم أعرف بنيته ودعواه موافقة لظاهر اللفظ ودعوى مدعي الصحة مخالفة لظاهره لما مر أن الإشاعة لا تفهم من مطلق لفظ الذراع إلا بتأويل، وأما مدعي الصحة في مسألتنا فدعواه موافقة لظاهر اللفظ كما علمته مما تقرر مبسوطاً قبل، فينبغي أن يصدق على القاعدة في دعوى الصحة والفساد وإنما خرجت عنها تلك الصورة التي ذكروها فصدق فيها مدعي البطلان للمعنى المركب من العلتين وهو أنه انضم لكونه أعرف بنيته أن دعواه موافقة لظاهر اللفظ ودعوى خصمه مخالفة لظاهره، فإن قلت قد اتضح الحكم فيما إذا قلنا بتركيب العلة لكنه خلاف الأصل كما مر، وأما إذا قلنا بعدم التركيب الموافق للأصل فما المعتمد من التعليلين قلت الذي دل عليه كلامهم أن المعول عليه منهما هو الثاني وبيانه أنهم لم يجعلوا الفارق بين ما قالوه من تصديق البطلان في صورة الأرض ومدعي الصحة في صورة القراض إلا ما أفاده التعليل الثاني ولو نظرنا للتعليل الأوّل لوقع في كلامهم التناقض فدل تصريحهم بتصديق مدعي الصحة في صورة القراض على أنهم لم ينظروا لكونه أعلم بنيته وإنما نظروا لما تقرر من الفرق بينهما وهو أن الظاهر في صورة القراض مع العامل فصدق وحكم بصحة العقد وفي صورة الأرض مع المعين فصدق وحكم بالبطلان ومن هذا ينشأ لك ضابط دل عليه كلامهم وهو أن العاقدين أو وارثيهما أو وارث أحدهما والآخر متى اختلفا في الإرادة صدق مدعي(1/313)
إرادة ما دل عليه ظاهر اللفظ سواء اقتضت إرادته الصحة أم الفساد وإذا اتضحت لك هذه القاعدة لما علمت أنها مأخوذة من صريح كلامهم اتجه لك ما قلناه في مسألتنا من تصديق مدعي الصحة لما قررناه سابقاً أن ظاهر اللفظ موافق لدعواه هذا إن كانت الصيغة الصادرة بينهما ما مر في السؤال، أما إذا كانت بعتك ساعة من قرار عين كذا ولم يزيدا على ذلك فإن أرادا بالساعة ما قدمته صح البيع هذا أيضاً وإن قلنا أنه خلاف ظاهر اللفظ لما مر مبسوطاً، وإن اختلفت إرادتهما فهو محل نظر وقضية ما مر من أن من للتبعيض وأنها قرينة ظاهرة على إرادة الجزء من القرار وإن إرادة الماء تستدعي تقدير مضاف لا يدل عليه ظاهر اللفظ تصديق مدعي الصحة هنا أيضاً لأن ظاهر اللفظ معه ومنها قولهم لو قال بعتك هذه الثمرة بثلاثة آلاف إلا ما يخص الألف بالنسبة للثمن صح البيع وكان استثناء للثلث وإن أرادا ما يخصه بالنسبة للقيمة أو لم يريدا شيئاً لم يصح البيع للجهل بقدر المبيع حينئذ اهـ فتأمل تعويلهم على الإرادة في هذا اللفظ المحتمل وإناطتهم الصحة بما إذا كان الاستثناء من الثمن والبطلان بما إذا أرادا الاستثناء من القيمة أو أطلقا ولم ينظروا مع الإرادة إلى أن اللفظ ظاهر في خلاف المراد أولاً لما علمته من كلامهم هنا، وفيما مر أنه حيث أمكن تنزيل اللفظ على المعنى المراد ولو بتأويل صحت إرادته منه وأنيط الحكم بها صحة وفساداً، ومنها قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172(1/314)
النووي في شرح المهذب لو قال بعتك هذا بمائة دينار إلا عشرة دراهم أو بمائة درهم إلا ديناراً. قال المتولي و الرافعي أن علما قيمة الدينار بالدراهم صح وإلا فلا هذا كلامهما، وينبغي أن لا يكفي علمهما بل يشترط مع علمهما بالقيمة حالة العقد قصدهما الاستثناء منها وقول صاحب البيان إذا باعه بدينار إلا درهماً صح على المشهور غريب وإلا صح أنهما إذا علما قيمته وقصدا الاستثناء منها صح وإلا فلا قال في البيان ولو قال بعتك بألف درهم من صرف عشرين بدينار لم يصح، لأن المسمى هي الدراهم وهي مجهولة ولا تصير معلومة بذكر قيمتها قال وإن كان نقد البلد صرف عشرين بدينار لم يصح أيضاً، لأن السعر مختلف ولا يختص ذلك بنقد البلد. قال ابن الصباغ : وهكذا تفعل الناس اليوم يسمون الدراهم ويتبايعون بالدينار ويكون كل قدر من الدراهم معلوم عندهم ديناراً قال: وهذا البيع باطل لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ولا مجازاً ولا يصح بالكناية هذا ما نقله صاحب البيان وهو ضعيف بل الأصح صحة البيع بالكناية كما سبق أول كتاب البيع، وعلى هذا إذا عبر بالدنانير عن الدراهم صح اهـ كلام شرح المهذب. وفي النسخة التي عندي الآن ونقل بعض المحققين عنه أنه علل قوله صح بقوله لأنه يعبر بها عنها مجازاً كقوله في عشرين درهماً مثلاً هذه دينار إذا كان ذلك هو صرفها أي هذه صرف دينار فهو من مجاز الحذف اهـ، فانظر تفصيله في مائة دينار إلا عشرة دراهم وفي مائة درهم إلا ديناراً بين أن يعلما القيمة ويقصدا الاستثناء منها فيصح البيع وأن لا يعلماها أو لا يقصدا الاستثناء منها فلا يصح تجده صريحاً في جريان التفصيل الذي قدمته في مسألتنا، وفي صحة البيع فيما إذا أرادا بالساعة ما مر بل مسألتنا أولى فإن الأصل في الاستثناء أن يكون من الملفوظ قبله وهو هنا في صورة الصحة ليس كذلك، وإنما هو من القيمة المنوية مع أن اللفظ المذكور لا يدل على هذا المنوي حقيقة ولا مجازاً على(1/315)
ما يأتي فإذا أثرت فيه النية وأخرجته عن ظاهره المقتضى للبطلان مطلقاً فأولى أن النية تؤثر في مسألتنا وتفيد الصحة في الحالة التي قدمناها وانظر أيضاً تضعيفه لكلام ابن الصباغ مع تسليمه لتعليله بأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير وقد سبق ابن الصباغ بذلك جميعه شيخه القاضي أبو الطيب وانظر أيضاً هذا التجوز الذي نظر إليه النووي وما
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172
فيه من تكلف أنه من مجاز الحذف حتى يصح المعنى عملاً بأنه يصح البيع بالكناية فظهر لك مما تقرر في كلامه أنه يصح البيع بالكناية في المعقود عليه كما يصح بها في الصيغة وفي أنهما لو نويا باللفظ الدال على المعقود عليه خلاف ظاهره صح البيع نظراً لتلك النية وإن سلم أنه لا يعبر بذلك اللفظ عن ذلك المنوي وحينئذ إذا نويا بالساعة ما مر صح البيع، وإن سلمنا أنه لا يعبر بالساعة من القرار عن الجزء منه لما تقرر من انعقاد البيع بالكناية في المعقود عليه، وإن لم يعبر باللفظ الدال على ذلك عن المعنى المنوي، ولا يشترط أن يحتف بالنية قرائن تفيد العلم بالمنوي ولا تجزىء تلك القرائن بلا نية خلافاً للإمام ومر في الجواب المبسوط رد ما يتوهم من الفرق في ذلك بين الثمن والمثمن وقد قدمت لك من كلامهم في المثمن في غير هذه الأخيرة ما هو صريح في أنه لا فرق بينهما في أن النية تؤثر في كل منهما وإن نافاها ظاهر اللفظ، فإن قلت صرحوا في النقدين المختلفي القيمة ولا غالب بأنه لا بد من التعيين لفظاً ولا تكفي النية بخلافه في الخلع لأنه أوسع وفيما لو قال من له بنات زوّجتك بنتي ونويا واحدة لأن ذكر كل من العوضين هنا واجب فاحتيط له بذكره لفظاً بخلافه ثم وهذا يعارض ما مر من الاكتفاء بالنية قلت لا منافاة لأن النية فيما مضى وقعت في لفظ مشتمل على تركيب يحتمل معنى صحيحاً ومعنى فاسداً فكل منهما مدلول عليه بذلك اللفظ فصح أن يقصد به واحد منهما ولم يكن فيه(1/316)
تعويل على النية وحدها بل على ما يوافقها مما دل عليه اللفظ وأما هنا ففيه تعويل عليها وحدها إذ الدينار في بعتك بدينار مثلاً، والحال أن ثم دنانير من أنواع مختلفة القيمة والغلبة غير مفيد لواحد من تلك الأنواع بعينه فإذا نويا نوعاً منها كان فيه إعمال للنية وحدها، لأن الملفوظ به لا إشعار له بواحد من تلك الأنواع، لأنه بمنزلة الجنس العام وهو لا دلالة له على خصوص نوع من أنواعه فلم تصح إرادة نوع منها وأيضاً فالدينار مثلاً في هذه الحالة مجهول والبيع بالمجهول باطل، إذ لا تأثير للنية فيه لما يلزم عليه من وقوع التنازع بين المتعاقدين لا إلى غاية فيما إذا اختلفت نيتهما إذ لا مرجع يرجعان إليه حينئذ لأن الدينار لا ظهور له في الدلالة على بعض أنواعه دون بعض بل دلالته على كل من أنواعه واحدة بخلاف ما مر في المسائل السابقة فإن للفظ فيها دلالة ظاهرة على معنى ومحتملة على غيره فإذا نويا الغير واتفقا على نيته صح وإلا حكمنا عليهما بما اقتضاه ظاهر لفظهما وهذا الفرق أوضح من الفرق الأول وإن كان الأول أدق وبه يتضح لك أن الفرق بين البيع والنكاح فيما لو قال زوّجتك بنتي ونويا واحدة وهو أن قوله بنتي ليس جنساً شاملاً لأنواع مختلفة ولا هو بمنزلته، وإنما هو متضمن لوصف لازم مضاف إليه انحصر ذلك في الخارج في أشخاص معينة فإذا نويا واحدة منها صح ولم يكن فيه تعويل على النية وحدها لتعين تلك الأشخاص وانحصارها وعدم تناول اللفظ لغيرها، وهذا الجواب أولى وأوضح من الجواب السابق آنفاً فتأمل ذلك فإنه من دقيق الفقه البعيد على أولئك تصوّر بعضه فضلاً عن نقضه قل فأتوا بسورة من مثله وإلا حرمتم الظفر بوصله، فإن قلت ما وجه قولهم لو قال بعتك بدينار وأراد به مقداراً معيناً من الدراهم لم يصح قلت يوجه بمخالفته لعرف الشرع في الدينار مع تصيير الثمن حينئذ منوياً وهذا لا يكفي فإن قلت يرد على ما قررته في هذا الباب جميعه القاعدة المشهورة وهي(1/317)
أن الاصطلاح الخاص لا يرفع الاصطلاح العام ويعبر عنها بأنه هل يجوز تغيير اللغة بالاصطلاح وهل يجوز للمصطلحين نقل اللفظ عن معناه في اللغة بالكلية أو يشترط بقاء أصل المعنى ولا يتصرف فيه بأكثر من التخصيص فيه قولان للأصوليين وغيرهم، والمختار الثاني ومن فروعها لو اتفق الخاطب والمخطوبة على أن يعبر في العقد عن الألف بألفين وجبا على الأظهر إعمالاً للفظ الصريح ومقابله يجب ألف فقط عملاً باصطلاحهما. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172(1/318)
إمام الحرمين وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ، فلو قال إذا قلت أنت طالق ثلاثاً لم أرد به الطلاق بل القيام مثلاً أو واحدة لم يعتبر بما تراضيا عليه على الأصح ولو عم في ناحية استعمال الطلاق في إرادة الانطلاق ثم خاطبها به مريداً به حل الوثاق لم يقبل منه والعرف إنما يعمل في إزالة الإيهام لا في تغيير مقتضى الصرائح اهـ. ومنها لو قال متى قلت أنت عليّ حرام فإني أريد الطلاق ثم قاله فقيل تطلق عملاً بما قاله قبل وإلا صح في الروضة أنه كما لو ابتدأ به لاحتمال أن نيته تغيرت، ومنها لو قال من له أمة أريد أن ألقبها بحرة، ثم قال يا حرة ففي البسيط الظاهر أنها لا تعتق إذا قصد النداء. ومنها لو قال أريد أن أقر بما ليس عليّ ثم قال لفلان عليّ ألف قال الشيخ أبو عاصم : لغى إقراره، وقال صاحب التتمة: الصحيح لزومه كما لو قال له عليّ ألف لا تلزمني، قلت: ليس في هذه القاعدة ولا في فروعها ما يشكل على ما قلناه إلا على ما قالوه مما ذكرناه وذلك لأن محل هذه القاعدة كما علمت من تقريرها أن يؤتى بلفظ له مدلول يصح استعماله فيه في ذلك المقام ثم يراد به لفظ آخر من غير قرينة تدل على هذا النقل والاستعمال غير مجرد الاتفاق والاصطلاح السابق على أن يعبر بهذا عن هذا ولذلك اتضح ما قالوه من أنه لا عبرة بهذا الاصطلاح والاتفاق لأن فيه إلغاء اللفظ الصريح مع صحة استعماله في مدلوله بمجرد اصطلاح سابق وهذا ممتنع لضعف تلك القرينة وهي الاصطلاح السابق عن أن يؤثر في الصريح ويصرفه إلى غير مدلوله ومن ثم لم ينعقد البيع بالمعاطاة وإن اطردت العادة بعدّها بيعاً ولم يستحق الصانع شيئاً بغير عقد وإن اطردت العادة بأجرته وما ذكرناه في مسألتنا أخذاً مما ذكروه في المسائل السابقة ليس فيه شيء من ذلك وإنما فيه الإتيان بلفظ لا يمكن استعماله في مدلوله اللغوي ولا يتوهم عاقل منه ذلك ولما لم يمكن حمله على مدلوله اللغوي تعين حمله على ما(1/319)
يمكن استعماله فيه عملاً بقاعدة أن تصحيح اللفظ ما أمكن أولى من إلغائه وبالقرينة الصريحة في أن المراد به غير مدلوله وهي قولهما هنا من قرار كذا فظهر أن هذه القاعدة لا تشبه ما نحن فيه وشتان بين لفظ صريح أمكن استعماله في مدلوله في ذلك المحل المستعمل فيه تقدمته قرينة ضعيفة عند استعماله أريد صرفه عن مدلوله ذلك إلى مدلول آخر لم يذكر هو ولا ما يدل عليه لمجرد تلك القرينة الضعيفة ولم يمكن استعماله في مدلوله في ذلك المحل المستعمل فيه اقترن به لفظ صريح في المعنى المراد الممكن صرف ذلك اللفظ إليه على ضرب من التجوّز لتلك القرينة اللفظية القوية ومع هذا الفرق الواضح بين هذين المقامين لا يتخيل التباس أحدهما بالآخر ومما يؤيد ما قررته قولهم الصريح يصير كناية بالقرائن اللفظية كانت طالق من وثاق لأن أوّل اللفظ مرتبطاً بآخره، وأجاب
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172
الشافعي عما يقال قد يعقبه بعد طلقتك الصريح ندم فيقول من وثاق بأنه لا معنى لهذا التوهم لأن الكلام المتصل يتعلق الحكم بجميعه لا ببعضه كلا إله إلا الله ولا يقال إنه خاف من النفي فاستدرك بالإثبات، ويؤيد ما قررته أيضاً قول الرافعي في الإقرار اللفظ وإن كان صريحاً في التصديق قد تنضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء، وبعد أن اتضح لك هذا المقام وزال عنك ما استولى على القائلين ببطلان البيع في مسألتنا مطلقاً من العناد والإيهام صار الحق لديك جلياً والمخالف فيما قلناه من التفصيل والصحة في الحالة السابقة غبياً وساغ لك أن تؤكد الإيمان لما قام عندك من جلي البرهان على أن هؤلاء لم يستندوا فيما قالوه إلا لمحض العناد والتقليد والجمود على ظاهر عبارة لم يؤيدوه بنقل ولا بأدنى تأييد هذا مع تصريح عبارات الأئمة بما ذكرناه وأوضحناه وقررناه حتى صار على غاية من الإيضاح والظهور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.(1/320)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 172
الباب الثاني: في الحالة الثانية)
وهي ما إذا أرادا بالحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا إلى آخره ما تقدم في السؤال الماء مقدراً بزمن فيبطل البيع حينئذ عملاً بنيتهما لأن بيع الماء على هذا الوجه باطل مطلقاً، وإن كان في أصل بيع الماء وملكه تفصيل وهو أن الماء إما أن يكون في بئر أو نهر أو قناة وذلك القرار الذي فيه الماء، إما أن يكون ينبع منه أو يصل إليه ثم يسقي منه الأراضي، فالأول إن ملكه واحد أو جمع كان الماء مملوكاً لهم على حسب الشركة في القرار ويصح بيع الماء الراكد هنا إن قدر بجزء معلوم كالنصف أو بنحو مائة رطل لا بنحو ساعة من ليل أو نهار للجهل بالمبيع ولا ينافيه ذكرهم في قسمة ماء القناة المهيأة بالأيام والساعات لأن القسمة يتسامح فيها ما لا يتسامح في البيع لكونها ليست بيعاً حقيقياً من كل وجه إذ هي مترددة بينه وبين الإفراز ثم تارة يغلب شبهها بالبيع وتارة يغلب بالإفراز، وبهذا تعلم الجواب عن قول الأذرعي بعد أن ساق كلاماً طويلاً، والحاصل أن الرافعي لم يبين أن الأوجه المذكورة في المهايأة من تفاريع قولنا بأن ماء النهر والقناة يملك أو لا يملك، بل أطلق الكلام إطلاقاً تبعاً للغزالي وإمامه، وإذا قلنا أنه مملوك فكيف ينقدح القول بالقسمة مهايأة على القول بأن القسمة بيع هذا لا سبيل إليه، وأما إذا قلنا إنها إفراز حق فهذا موضع تأمل ولم أر له ذكراً في كلامهم هذا فتأمله اهـ، وكلامهم ظاهر إن لم يكن صريحاً في جريان المهايأة وإن قلنا بالملك ولا إشكال فيه، وإن قلنا القسمة بيع حقيقي من كل وإن لم يملك محل النبع أحد وإنما كان المملوك هو المحل الذي يجري فيه الماء أو يصل إليه فالماء الجاري فيه أو الواصل إليه غير مملوك لأحد، فإذا خرج منه كان باقياً على إباحته ثم إذا صدر بيع فإن وقع على محل النبع المملوك أو على جزء منه معلوم صح ولم(1/321)
يدخل الماء الموجود عند البيع إلا بالشرط وإن وقع على المحل الذي يجري فيه أو يصل إليه الماء ومحل النبع ليس مملوكاً لأحد أو كان أعني محل النبع مجهولاً ولا قرينة تدل على ملكه كالبناء عليه أو السقي منه أخذاً من عبارة الروضة الآتية المصرحة بذلك لم يدخل الماء في البيع لأنه غير مملوك له ومن ثم لو وقع البيع على الماء في هذه الصورة لم يصح، وإنما الذي يدخل من ذلك استحقاق الأرض المسمى بالشرب ومما يحكم فيه بملك القرار الذي هو محل النبع أو غيره مما مر أن يكون عليه يد وانتفاع، لأن ذلك حينئذ دال على الملك له وللماء النابع له في الصورة الأولى أعني ملكه لمحل النبع وشاهد ذلك قول الروضة كأصلها في إحياء الموات لو صادفنا نهراً تسقي منه أرضون ولم يدر أنه حفر أو انخرق حكمنا بأنه مملوك، لأنهم أصحاب يد وانتفاع وخرج بقولي فيما مر ويصح بيع الماء الراكد الماء الجاري فلا يصح بيعه ولا بيع نصيبه منه للنهي عن بيع الماء في صحيح مسلم، وهو محمول على ذلك وللجهل بقدره، ولأن الجاري وإن فرض أنه مملوك في صورة ملك محل النبع فلا يمكن تسليمه لاختلاط غير المبيع به، فطريقه إذا أراد أن يملكه أو يستحقه أن يشتري محل النبع المملوك أو القناة أو مجتمع الماء المملوك، فإذا ملك الأول ملك الماء وإذا ملك أحد الأخيرين كان أحق به هذا ملخص ما في هذه المسألة، أعني ملك الماء وبيعه، وفيه زيادة بسط تأتي في الكلام على عبارات الروضة في ذلك المشتملة على شبه تناقض وبما قررته أن فهمته تعلم محل قول البحر لا يجوز بيع المياه من القناة والعيون بلا خلاف لأنها غير مملوكة فإن كانت مملوكة لم يمكن تسليمها لاختلاط غير المبيع به والحيلة في استحقاقها أن يعقد على القرار كان أحق بالماء فيشتري نفس القناة أو سهماً منها فإذا ملك القرار كان أحق بالماء على قول الكل اهـ وبه يعلم أيضاً محل قول البيان لا يصح بيع سهم من ماء كذا لأنه غير مملوك وكذا لا يصح أن يقول(1/322)
بعتك ليلة أو يوماً من ماء كذا، لأن الزمان لا يصح بيعه ولكن الحيلة فيمن أراد أن يشتري ماء العين أو سهماً منها أن يشتري العين نفسها أو سهماً منها هكذا ذكره أصحابنا اهـ، ولا بأس بالتنبيه هنا على فائدة حسنة تتعلق بما نحن فيه، وهي أن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 179
النووي قال في الروضة في إحياء الموات: ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لأنه مجهول ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط فيتعذر التسليم وإن باع منه أصبعاً فإن كان جارياً لم يصح إذ لا يمكن ربط العقد بمقدار وإن كان راكداً وقلنا إنه غير مملوك لم يصح وإن قلنا مملوك فقال القفال: لا يصح أيضاً لأنه يزيد فيختلط المبيع وإلا صح الجواز كبيع صاع من صبرة، وأما الزيادة فقليلة فلا تضر كما لو باع ألقت في الأرض بشرط القطع وكما لو باع صاعاً من صبرة وصب عليها صبرة أخرى فإن البيع بحاله ويبقى المبيع ما بقي صاع من الصبرة ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً فقال بعتك هذه القناة مع مائها أو لم يكن جارياً، وقلنا الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولا تفريق الصفقة اهـ، وسيأتي الجمع بين هذه العبارة وما ناقضها بحسب ما يظهر ببادىء الرأي في الباب الخامس وإنما سقتها هنا لأن البلقيني اعترضها باعتراضات متعلقة بما نحن فيه، فأحببت ذكرها لأرد تلك الاعتراضات التي أوردها عليها فمنها قوله وما ذكره في بيع ماء البئر من تعليل عدم الجواز بأنه مجهول كلام غير مستقيم فإن الجهالة في مثل ذلك لا تضر كبيع الصبرة التي لا يعلم مقدارها اهـ، وما ذكره هو الذي ليس بمستقيم فإنه في الروضة لم يقتصر على التعليل بالجهل فقط بل قال: ويزيد شيئاً فشيئاً الخ، وبهذا اندفع تشبيه البلقيني لماء البئر بالصبرة المذكورة وإيضاحه أن الصبرة يحيط العيان بجوانبها ويمكن حزرها فيقل الغرر فيها بخلاف ماء البئر المتزايد شيئاً فشيئاً فإن العيان لا يحيط به(1/323)
فيكثر الغرر وهذا واضح لا خفاء فيه وسيأتي عن البلقيني نفسه ما يصرح به، ومنها أنه قال أيضاً وقول الروضة: ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط ويتعذر التسليم يخالفه ما ذكر في صورة القفال والأصح فيها قول القفال خلاف ما ذكره في الروضة تبعاً للشرح لأن صورة المسألة أن هناك ماء آخر ينبع ويختلط بالراكد والنبع مستمر فلا يقع البيع إلا مقارناً للاختلاط اهـ وما زعمه من أن الأصح قول القفال لا يلتفت إليه فإن الشيخين صححا خلافه والمعول في الترجيح ليس إلا عليهما:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 179(1/324)
إذا قالت حذام فصدقوهافإن القول ما قالت حذام ب50-up والعجب من ترجيحه هذا مع قول الرافعي رداً على القفال والوجه أن يبني قول القفال على مذهبه من أن بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان لا يجوز اهـ وما قاله في الصبرة ضعيف فكذا ما قاله في الماء المشابه لها وما زعمه أيضاً من أن ما ذكره في الروضة أوّلاً يخالفه ما ذكره في صورة القفال يرد بوضوح الفرق بين الصورتين فإنه في الصورة الأولى مجهول كما مر بخلافه في الثانية فإنه لا جهل فيه، لأن الصورة أنه راكد والمبيع إنما هو أصبع معلوم فليس فيه إلا اختلاط المبيع بغيره الذي نظر إليه القفال وسيأتي الجواب عنه، ومنها أنه قال أيضاً وما ذكره في الروضة من القياس على بيع صاع من صبرة لا يستقيم لأن الصبرة ليس هناك شيء يزيد فيها بخلاف صورة الماء فإن فرض أن الصبرة كانت في موضع وهناك شيء من جنسها ينزل عليها من السقف أو من ثقب في الحائط ونحو ذلك لم يصح البيع إذا لم يتعين المختلط وباع من غيره صح اهـ وقوله لا يستقيم هو الذي لا يستقيم ولا نظر لفرقه بأنه ليس فيها شيء يزيد بخلافه هنا لما ذكره في الروضة من أن الزيادة قليلة فلا تضر فكأن الزيادة هنا كلا زيادة وإذا كانت كذلك اتضحت المساواة بين المسألتين ولم ينظر لصورة الفرق الذي ذكره البلقيني، وقوله فإن فرض الخ، لا حاجة بنا إليه فإنا بينا أن الكلام في صبرة لم تحصل فيها زيادة، وأما مع ذلك فنظيرة مسألتنا. ومنها أنه قال أيضاً وما ذكره في الروضة من القياس على القت لا يستقيم فإن الزيادة في القت من عينه بخلاف الماء الصبرة التي ينزل عليها شيء آخر، فإن الزيادة من غير ذلك وأيضاً فقد تكون الزيادة في القت كثيرة، وقد أطلقوا ثبوت الخيار للبائع في صورة القت ولا يأتي مثل ذلك فيما نحن فيه إنما يثبت الخيار للمشتري اهـ. وما ذكره هو الذي لا يستقيم لأن النووي لم يقصد التشبيه بينهما إلا من حيث إن الزيادة في كل من القت والماء المذكور قليلة(1/325)
تافهة لا ينظر إليها في الغالب سواء كان من العين أو من شيء مماثل لتلك العين فاندفع نظره لذلك في الفرق لأنه لا يرتبط به هنا كبير معنى، وقوله قد تكون الزيادة في القت كثيرة يرد بأن الكلام إنما هو في الغالب وفيما من شأنه ومن شأنها في القت، والغالب فيها فيه أنها قليلة فلا ينظر إلى أنها قد تكثر. ومنها أنه قال أيضاً وقول الروضة: كما لو باع صاعاً من صبرة وصب عليها صبرة أخرى فإن البيع بحاله قياس مردود فإن البيع وقع على الصاع من الصبرة قبل الاختلاط فصح، وفي صورة الماء ونحوها وقع البيع مقارناً للاختلاط لم يصح اهـ، وما زعمه من أن القياس مردود ليس في محله بل هو مقبول فإن حدوث الخلط ولو في مجلس البيع لا يمنع صحته مع أن الواقع في المجلس حكمه حكم الواقع في العقد فكذلك مقارنته للبيع في مسألة الماء لا تمنعه. ومنها أنه اعترض قول الروضة ويبقى المبيع ما بقي صاع من الصبرة بأنها إن علمت صيعانها للمتعاقدين فتنزيل البيع على الإشاعة هو المذهب فإذا تلف من الصبرة شيء تلف بقدره من المبيع وإن حمل ما ذكر على أن تكون الصيعان مجهولة فقد حصل الاختلاط فإذا لم يبق إلا صاع من المختلط فكيف يبقى البيع فيه وبعضه غير مبيع وسبقه إلى نحو هذا
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 179(1/326)
ابن النقيب فقال وقول الروضة: ويبقى المبيع ما بقي صاع من الصبرة إنما يأتي إذا قلنا إن البيع ينزل على صاع مبهم لأنه مشاع اهـ. ومنها أنه قال وقول الروضة: ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً الخ، فقال وهو كلام غير مسلم في صورة الجاري فإن مجرد الجريان لا يقتضي بطلان بيع الماء تفريعاً على أن الماء المذكور مملوك إذا كان الجريان ينتهي إلى مقطع بحيث يمكن الاستيلاء عليه فإن كان ينتهي إلى نزول في بحر ونحوه، فهذا ينبغي أن يصح البيع فيه وما نزل منه في البحر كتلف بعض المبيع قبل القبض اهـ. وقوله: إن ذلك غير مسلم لا يلتفت إليه لما مر عن الروضة، وقوله مجرد الجريان الخ ممنوع لما مر من الجهل بقدره وعدم إمكان تسليمه وكونه ينتهي إلى مقطع يمكن الاستيلاء عليه لا ينظر إليه لندرة إمكان ذلك ودعواه أن ما تلف بنزوله إلى بحر كتلف بعض المبيع قبل القبض غير صحيحة لأن الصورة في تلف المبيع قبل القبض أنه كان تسليمه قبل تلفه مقدوراً عليه حين البيع بخلافه هنا فكيف يقاس ما يصح بيعه على ما لا يصح بيعه. قال الأذرعي عقب قول الروضة: وأصلها ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لأنه مجهول لا خفاء أن هذا في البئر النابعة أما لو كانت صهريجاً يجمع ماء المطر أو يسوق الماء إليها من نهر ونحوه فماؤها كالماء في إناء إذا علم عمقها وسعتها علواً وسفلاً اهـ، وما يدخل من الماء المباح في ملك إنسان لا يملكه بدخوله في الأصح فمن أخذه ملكه وإن حرم عليه دخول ملك الغير لأجله. وقال الإمام: يملك ما يدخل في نهره وقناته على الأصح وهو ضعيف، وقد تناقض كلام الإمام وتبعه الشيخان فقال هنا أن توحل الصيد في أرض له سقاها لا يقتضي الملك وإن قصده، وقال في كتاب الصيد: يملكه إن قصده، وجمع البلقيني بأن نفس التوحل لا يقتضي الملك وإن قصد التملك وما هنا فيما إذا قصد بسقي الأرض توحله فيملك به قطعاً أي كما يملك الماء هنا بالحفر وبما تقرر يعلم أن ما(1/327)
يدخل من السيل إلى صهاريج جدة وغيرها لا يملكه أربابها ولا يصح بيعهم له وإنما يصيرون أحق به فقط وإن حفروا له مشارب وأعدوها حتى إذا جاء دخل إلى صهاريجهم منها، نعم بحث الزركشي أخذاً من كلام صاحب البيان أن الماء لو دخل داره فأغلق عليه بابها ملكه كما لو أغلقها على صيد دخل إلى ملكه وعليه فأصحاب الصهاريج إذا أغلقوها على ما فيها ملكوه وسيأتي عن ابن الصلاح أن الدولاب الذي يديره الماء إذا دخل الماء في كيزانه يملكه صاحب الدولاب بذلك كما لو استقاه بنفسه. قال غيره وفي معناه ما يديره بدابته من طريق أولى اهـ. ومر أن المأخوذ منه في نحو إناء يملكه آخذه. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 179(1/328)
ابن المنذر إجماعاً قال وإجماعهم على ذلك دليل على أن النهي عن بيع الماء ليس المراد به جميع المياه، ويجوز أن يراد به المجهول كالمياه التي يتبايعها أهل الشرب وغيرهم يبيع الرجل منهم ما يجري في نهره في يوم وليلة بكذا وكذا اهـ. وقيل: لا يملك الماء مطلقاً وإن أخذه في نحو إناء بل هو أولى به، وحكاه القاضي والإمام عن أبي إسحق لكن رده ابن أبي الدم بأن المعروف عنه أن المأخوذ في نحو إناء يملك. قال الزركشي : وهو الظاهر ويؤيده ما مر عن ابن المنذر من حكاية الإجماع، وفي الأنوار: أن الأنهار والسواقي إذا كانت مملوكة بأن حفر نهراً يدخل فيه الماء من الوادي العظيم أو من النهر المنخرق منه فالماء باق على إباحته لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل ملكه فليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين وكذا للشرب والاستعمال عند الجمهور اهـ، وبين بقوله وكذا الخ، أن المعتمد من قول الشيخين، وأما الشرب والاستعمال وسقي الدواب فقال الشيخ أبو عاصم و المتولي ليس له المنع، ومنهم من أطلق أنه لا يدلي أحد فيه دلوه هو الثاني لكون الجمهور عليه وسيأتي في الباب الخامس في الكلام على عبارة الروضة في باب الأصول والثمار وفي الباب السادس ما يتعلق ببيع الماء فليكن منك على ذكر.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 179(1/329)
الباب الثالث: في الحالة الثالثة)
وهي ما إذا لم يقصد العاقدان بالساعتين المذكورتين جزءاً من قرار ولا ماء ولكن اطرد عرفهما حال العقد باستعمال الساعة من القرار في جزء معين منه، وقد قدمت في كل من الجوابين السابقين أن البيع يصح في هذه الحالة أيضاً، والدليل عليه أمور: الأول: قولهم لو باع بنقد وثم نقد غالب متحد أو متعدد لم يختلف غلبة ولا قيمة صح البيع وحمل عليه وإن كان ناقصاً أو زائداً أو فلوساً سواء أعبر بها أم بالدراهم كما اقتضاه إطلاقهم خلافاً للأذرعي بل قضية إطلاقهم الحمل عليها أيضاً وإن عبر بالنقد وليس ببعيد أو كان حنطة وثياباً فتأمل حكمهم بصحة البيع في هذا وتنزيله على المتعارف وإن لم يكن اللفظ ظاهراً فيه ولم ينظروا لكونه مجهولاً من حيث اللفظ، لأنه من حيث العرف معلوم فكان علمه المستند له كالتصريح به في العقد، ومن ثم صرح ابن الصباغ بما قدمته عنه في الجواب السابق في المقدمة فكذلك الساعة من القرار في صورتنا إذا غلب عند قوم استعمالها بمعنى الجزء المعين منه يحمل عليه، ويصح البيع نظراً لتلك الغلبة ولذلك العرف وكأنهما قالا جزءاً معيناً من القرار الثاني قول القاضي لو اعتيد البيع بعشرة ثم يعطي تسعة ودانقاً عمل فيه بالعادة اهـ، والعمل بها في مسألتنا أولى لأن ما قاله فيه إلغاء اللفظ بالكلية فإن العقد وقع بعشرة دنانير ولم يعمل بمدلول هذا اللفظ ولا بما يحتمله رجوعاً للعادة فإذا رجع إليها في إلغاء اللفظ الواقع في العقد بالكلية وتنزيله، أعني العقد على ما يذكر فيه بوجه نظراً للعادة فأولى أن يرجع إليها في استعمال اللفظ بمعنى لفظ آخر اعتيد استعماله فيه وينزل العقد على ذلك الثالث قولهم يجوز التعامل بالمغشوشة ولو في الذمة وإن جهل قدر الغش نظراً للعرف ومن ثم لو راجت الفلوس رواج النقود ثبت لها أحكامها وإذا ثبت لها أحكامها نظراً للعرف مع أنها لا يطلق عليها نقد حقيقة ولا مجازاً فكذلك يثبت للفظ الساعة حكم لفظ الجزء إذا اعتيد(1/330)
استعماله فيه، وإن لم يطلق أحدهما على الآخر حقيقة ولا مجازاً. الرابع وهو أظهر في الدلالة على المدعي في مسألتنا مما قبله قولهم إذا اطردت العادة نزل اللفظ في العقود عليها وإن اضطربت لم تعتبر ووجب البيان، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف وهذا الأصل ذكره
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 182
الإمام فقال: كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم ويصير كالمذكور صريحاً وكل ما تعارضت الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه فهو مثار الخلاف اهـ، فتأمل قولهم ينزل اللفظ في العقود عليها، وقول الإمام كل ما يتضح فيه اعتبارها فهو الحكم ويصير كالمذكور صريحاً تجد ذلك نصاً في مسألتنا بتنزيل لفظ الساعة من القرار على الجزء منه إذا اعتيد استعمالها فيه. الخامس قول القفال العادة المطردة في ناحية تنزل منزلة الشرط كاعتياد منافع الرهن للمرتهن فهي بمثابة شرط عقد في عقد حتى يفسد الرهن وجعل الاصطلاح الخاص بمنزلة العادة العامة، فإن قلت قال الزركشي : إن الجمهور لم يساعدوه في هذين، قلت: الجمهور لا يخالفونه إلا في قوله تنزل منزلة الشرط حتى يفسد العقد، وأما في أصل اعتبار العادة الخاصة فلا يخالفونه فيه، فقد صرحوا باعتبارها في مسائل منها ما مر من أن المعاملة لو غلبت في بلد بجنس أو نوع من النقود أو العروض انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح. ومنها أن العادة المطردة في زمن الواقف وبلده منزلة منزلة شرطه، ومنها في بيع الثمرة التي بدا صلاحها يجب إبقاؤها إلى أوان القطاف والتمكن من السقي بمائها عملاً بالعرف فنزل منزلة الشرط باللفظ وقولهم في ألفاظ الإيمان أنها تختلف باختلاف عادات الناس في المحلوف عليه كما في المسألة الرؤوس ونحوها ومنها اعتبارهم غالب شياه البلد في الشاة الواجبة في خمس من الإبل وغالب قوتها في نحو زكاة الفطر والكفارة وغالب إبلها في الديات وبقي مسائل أخرى كثيرة اعتبروا فيها العرف(1/331)
الخاص لا يخفى على الفقيه استخراجها، فإن قلت فلم نزلوها منزلة الشرط في مسألة الثمار السابقة وفيما لو بارز كافر مسلماً واعتيد أمان كل من عدوّه فإنه بمنزلة شرطهما ذلك فلا يجوز لنا إعانة المسلم كما جرى عليه الشيخان وغيرهما تبعاً للنص ولم ينزلوها منزلة الشرط في مسألة الرهن السابقة أيضاً خلافاً للقفال ولا فيما لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج خلافاً للقفال أيضاً في تنزيلها منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع ولا في بيع العينة بأن يشتري شيئاً مؤجلاً بأقل مما باعه نقداً إذا صار ذلك عادة خلافاً للأستاذ أبي إسحق و الشيخ أبي محمد فإنهما نزلاها منزلتها حتى يبطل العقدان، قلت يفرق بأن الأولين من الأمور التوابع غير المقصودة لذاتها، أما في الأول فلأن وجوب الإبقاء إلى الجذاذ أمر تابع لصحة العقد ومترتب عليها فأثر فيه العرف لضعفه، وأما الثاني فلأن الإعانة وعدمها من الأمور التابعة للمبارزة فأثر فيها العرف لضعفها أيضاً، وأما مسألة الرهن وبيع الحصرم والعينة فهي مقصودة لذاتها فلم يقو العرف فيها على أن يؤثر بطلان الأولى والأخيرة، ولأن الصيغة فيهما وقعت صحيحة مستوفية لشروطها الظاهرة وغاية العرف أن يجعل الشرط مضمراً وإضمار المفسد لا يقتضي الفساد ولا صحة الثانية، لأن الحصرم غير قابل لإيراد البيع عليه إلا مع شرط القطع ولم يوجد ذلك وأيضاً فهذا الشرط معتد بلفظه في البيع وإن لم يترتب عليه أثره فيما إذا لم يجب الوفاء به وما بلفظه لا يؤثر فيه عرف ولا غيره فتفطن لهذا الفرق فإنه يزيل عنك في هذه القاعدة من العمايات ما لا يهتدي لشيء منه كثير من المتفقهة. السادس قول الروضة كأصلها ثم العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج فيها غالباً ولا تؤثر في التعليق والإقرار بل يبقى اللفظ على عمومه، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب حق سابق وربما(1/332)
يقدم الوجوب على العرف الغالب اهـ، وكالإقرار في ذلك الدعوى فلا تنزل الدعوى بالدراهم على الدراهم الغالبة وفرق الأصحاب بما مر فقالوا إنها أخبار عما تقدم فلا يقيد بها العرف المتأخر بخلاف العقد فإنه أمر باشره في الحال فقيده العرف وهذا كله ظاهر في الدلالة لما قلناه، وكلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 182
الشيخين صريح في ذلك لأن ما نحن فيه من المعاملات فيجري فيه التعليل المذكور، فإن قلت لا دلالة في هذا كله لما ذكرت لأن فحوى عباراتهم أنها في الثمن وما ذكرت إنما هو في المثمن وفرق واضح بينهما إذ المثمن مقصود لذاته بخلاف الثمن، ولذا جاز الاستبدال عن الثمن دون المثمن، قلت بل فيه دلالة أيّ دلالة لما ذكرته لأنهم لم يذكروا الثمن على جهة الاختصاص به بل على جهة التمثيل على أنهم أجروا العادة في المثمن بل في المسلم فيه الذي هو أضيق أنواع المثمن، فقد قالوا لو أسلم إليه في لحم وأطلق حمل على اللحم مع العظم المعتاد فيجبر على قبوله عملاً بالعادة وقالوا لو أسلم في مكيل أو موزون وثم مكاييل أو موازين ولم يبينا واحداً منها حمل على الكيل أو الوزن الغالب فانظر جعلهم العرف مؤثراً في شمول اللحم للعظم مع مغايرته له حقيقة واستعمالاً، وفي صحة العقد مع عدم شرط صحة السلم من بيان الكيل أو الوزن نظراً إلى أن العرف صير ذلك كالمذكور في العقد فيهما، فإن قلت قد صرح الإمام بأن العرف إنما يعمل في إزالة الإيهام لا في تغيير مقتضى الصرائح، وما ذكرته فيه تغيير لمقتضى الصريح إذ الساعة صريحة في الزمان فلا يغيرها العرف عن مقتضاها، قلت ليس المراد بالصريح ما فهمته، إذ لا يفهم ذلك من لفظه فقيه بل ولا متفقه، وإنما المراد بالصريح صيغ العقود والحلول، وكلام الإمام صريح في ذلك فإنه قال في باب الإقرار لو عم ناحية استعمال الطلاق في إرادة الخلاص والانطلاق ثم أراد الزوج حمل الطلاق في مخاطبة زوجته على معنى(1/333)
التخليص وحل الوثاق لم يقبل ذلك منه والعرف إنما يعمل في إزالة الإيهام لا في تغيير مقتضى الصرائح اهـ، فهذا صريح في أن مراده بالصرائح ما ذكرته ومسألتنا ليست من هذا القبيل لأن لفظ الساعة فيها لا يقال فيه صريح في الاصطلاح فلا يشمله كلام الإمام، فإن قلت فلم أثر العرف في غير الصريح ولم يؤثر فيه، قلت لأن الصريح وضع شرعي وضعه الشارع ليناط به أحكام كثيرة تترتب عليه ولا توجد بدونه والأوضاع الشرعية التي بهذه المثابة لا تغير عن معانيها للأوضاع العرفية لما يلزم على ذلك من نسخ الحكم الشرعي بشيء حادث بعد استقرار الشريعة غير متلقي من الشارع والوضع الشرعي، إنما ينسخ بوضع شرعي مثله، وأما غير الصريح فإنها ألفاظ وكل استعمالها إلى مستعملها بناء على أن الاصطلاح الخاص يرفع الاصطلاح العام وبه قال جماعة من الأصوليين والفقهاء أو بشرط أن لا يمكن استعمالها في موضوعها اللغوي بناء على ما قدمناه وحررناه بأوضح عبارة وأظهر دليل، وإذا تقرر أن الألفاظ غير الصرائح بهذه المثابة اتضح ما قلناه أخذاً من كلامهم من أن للعرف فيها تأثيراً وإخراجاً لها عن مدلولها إلى مدلول آخر سواءاً كان عرفاً عامَاً أم عرفاً خاصاً، فإن قلت يرد ما قررته تقديمهم الوضع العرفي على الوضع الشرعي في مسائل كما لو حلف لا يأكل لحماً أو لا يجلس على بساط أو لا يقعد في سراج أو تحت سقف أو لا يضع رأسه على وتد أو لا يأكل ميتة أو دماً لم يحنث بلحم السمك ولا بالجلوس على الأرض ولا بالقعود تحت السماء ولا بوضع رأسه على جبل ولا بأكل السمك والجراد ولا بأكل الكبد والطحال وإن سمى الله تعالى لحم السمك لحماً والأرض بساطاً والشمس سراجاً والسماء سقفاً والجبال أوتاداً، وسمى النبي السمك والجراد ميتة والكبد والطحال دماً، قلت قد أشرت لك إلى الجواب عن جميع هذا في أول الجواب السابق بقولي وضعه الشارع ليناط به الخ، وحاصله أن التسمية التي وقعت في كلام الشارع في هذه(1/334)
الصورة لم تقع على جهة التكليف بتلك الأسماء لأن الشارع لم يرتب عليها أحكاماً كلفنا بها حتى تكون تلك التسمية مقصودة له بخلاف ألفاظ العقود ونحوها، فإنه وضع تلك الألفاظ لتفيد الأحكام التي رتبها عليها فالتسمية مقصودة له فلا تغير لعرف ولا لغيره، ومما يدل على ذلك أنه لو حلف لا يصلي أو لا يصوم أو لا ينكح لم يحنث إلا بالصلاة والصوم الشرعيين دون الدعاء والإمساك وإن سميا صلاة وصوماً لغة وإلا بالعقد وإن لم يعن به في العرف غير الوطء، ولو قال إن رأيت الهلال فأنت طالق فرآه غيره وعلمت به طلقت، إذ الرؤية شرعاً بمعنى العلم بدليل قوله : «إذا رأيتموه فصوموا» ومن ذلك لو باع أو نكح أو طلق أو راجع هازلاً وإن عدّ ذلك أهل العرف لغواً، لأن الشرع حكم عليها بالصحة وبما تقرر علم أنه حيث تعلق بالوضع الشرعي حكم لم يغير عنه لعرف ولا لغيره سواء أكان صريحاً أم غيره. السابع قول صاحب الكافي في باب الطلاق وإذا اجتمع في اليمين الحقيقة اللفظية والدلالة العرفية فأيهما أولى بالاعتبار فيه وجهان: أحدهما وإليه ذهب
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 182(1/335)
القاضي حسين الحقيقة اللفظية أولى واللفظ متى كان مطلقاً وجب العمل بإطلاقه عملاً بالوضع اللغوي. والثاني وإليه ذهب محيي السنة أي شيخه البغوي الدلالة العرفية لأن العرف يحكم في التصرفات سيما في الإيمان قالوا فلو دخل دار صديقه فقدم إليه طعاماً فامتنع فقال إن لم تأكل فامرأتي طالق فخرج ولم يأكل ثم قدم اليوم الثاني فقدم له ذلك الطعام فأكله، فعلى الأول لا يحنث، وعلى الثاني يحنث اهـ فانظر تعليل البغوي بقوله: لأن العرف يحكم في التصرفات تجده نصاً في مسألتنا وفي أنه لا يختص تحكيمه بالثمن بل يحكم في المثمن أيضاً الثامن قول ابن الصلاح في فتاويه العرف الخاص هل ينزل في التأثير منزلة العام، والظاهر تنزيله في أهله بتلك المنزلة اهـ وهذا شامل لمسألتنا وإن كان ابن الصلاح إنما ساقه في بعض مسائل الوقف لأن العبرة بعموم اللفظ:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 182
الباب الرابع: في الحالة الرابعة)(1/336)
وهي ما إذا لم يريدا بالساعتين جزءاً من القرار ولا من الماء ولا اطرد عرفهما باستعمالهما في واحد من القرار أو الماء، وهذه الحالة للنظر فيها مجال وقد قدمت في الباب الأول البرهان الواضح على أن اللفظ ظاهر في الدلالة على الجزء من القرار وقضية هذا صحة البيع، ويؤيده قاعدة أن إعمال اللفظ سيما في معناه الظاهر أولى من إهماله ويحتمل فساده لأنا وإن سلمنا أن ظاهر اللفظ ذلك لكنه باعتبارات لا يهتدي لها أكثر العامة بل المتفقهة ومن ثم أشكل على أولئك المخالفين ويحتمل التفصيل في ذلك بين العارفين بالعربية وغيرها وبين الجاهلين، ففي العارفين يصح، لأن هذا اللفظ إذا وقع منهما تبادر عندهما من من التبعيضية ومن ومائها الجاري بها يومئذ ومن غير ذلك من القرائن السابقة أن المراد بالحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار كذا جزء من نفس القرار، وإذا كان هذا هو المتبادر عندهما فالبيع عندهما صحيح وفي غيرهما بأن يكونا جاهلين أو أحدهما جاهلاً يبطل البيع، لأن أحدهما لا يتبادر عنده من هذا اللفظ الجزء السابق بل المتبادر عندهما الماء، وقد لا يتبادر عندهما منهما شيء لما فيه من نوع تعارض أشرنا إلى الجواب عنه في الباب الأول وهذا الاحتمال الأخير يؤيده مسائل ذكروها في الطلاق وغيره وعلم مما قررته أن لهذه المسألة ثمانية أحوال الأربعة السابقة في الأبواب الأربعة والخامس ما إذا أطلقا وعرفهما حال العقد انصراف ذلك للماء والحكم فيه البطلان كما علم مما مر في الباب الثالث والسادس ما إذا اختلفا في الإرادة وقد مر حكم ذلك في الباب الأول والسابع ما إذا اختلفا في العرف، وحكمه البطلان كما يصرح به كلامهم، والثامن ما إذا اختلفا في المعرفة بناء على الاحتمال الثالث وحكمه البطلان كما مر آنفاً وإذ قد اتضح لك ما قررته في هذه الأحوال الثمانية وما يدل لأكثرها من كلامهم الظاهر أو الصريح علمت أن ما مر عن البلقيني في الجواب الأول يتعين حمله على(1/337)
الأحوال الباطلة من تلك الأحوال الثمانية وأن من فهم من كلامه البطلان مطلقاً تقليداً له من غير تأمل فقد ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء كما يتضح من سياق فتاويهم المنادية عليهم بالخسار والجهل والغباوة في الخاتمة إن شاء الله تعالى.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 185
الباب الخامس: في الكلام على ما وقع في الروضة من التناقض في بيع الماء والقرار وبيان الجمع بين عباراتها ورد ما وقع في ذلك للمتكلمين عليها)
اعلم أن كلام الروضة تناقض في ذلك وعبارتها قبيل الربا من زياداتها ومما تعم به البلوى ما اعتاده الناس من بيع نصيبه من الماء الجاري من النهر. قال المحاملي في اللباب هذا باطل لوجهين: أحدهما: أن المبيع غير معلوم القدر. والثاني: أن الماء الجاري غير مملوك وسيأتي هذا مع غيره مبسوطاً في آخر كتاب إحياء الموات إن شاء الله تعالى وعبارتها أواخر تفريق الصفقة من زياداتها، ومنها أي من المناهي ما قاله صاحب التلخيص قال: نهى عن بيع الماء وهو محمول على ما إذا أفرد ماء عين أو بئر أو نهر بالبيع فإن باعه مع الأرض بأن باع أرضاً مع شربها من الماء في نهر أو واد صح ودخل الماء في البيع تبعاً وكذا إذا كان الماء في إناء أو حوض مثلاً مجتمعاً فبيعه صحيح منفرداً أو تابعاً انتهت وبما ذكره صاحب التلخيص صرح به جمع متقدمون كالقاضي والقزويني في الحيل وعبارتها قبيل الوقف.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186
(فصل)(1/338)
في بيع الماء، أما المحرز في إناء أو حوض فبيعه صحيح على الصحيح وليكن عمق الحوض معلوماً ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لأنه مجهول ويزيد شيئاً فشيئاً فيختلط فيتعذر التسليم وإن باع منه أصبعاً فإن كان جارياً لم يصح إذا لم يمكن ربط العقد بمقدار وإن كان راكداً وقلنا إنه غير مملوك فيصح، وإن قلنا مملوك. فقال القفال : لا يصح أيضاً لأنه يزيد فيختلط المبيع والأصح الجواز كبيع صاع من صبرة وصب عليها صبرة أخرى، فإن البيع بحاله ويبقى البيع ما بقي صاع من الصبرة ولو باع الماء مع قراره نظر إن كان جارياً فقال بعتك هذه القناة مع مائها أو لم يكن جارياً، وقلنا الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء وفي القرار قولاً تفريق الصفقة وإلا فيصح ولو باع بئر الماء وأطلق أو باع داراً فيها بئر جاز، ثم إن قلنا يملك فالموجود حال البيع يبقى للبائع لا للمشتري. قال البغوي : وعلى هذا البيع حتى يشترط أن الماء الظاهر للمشتري لئلا يختلط الماء وإن قلنا لا يملك فقد أطلقوا أن المشتري أحق بذلك الماء وليحمل على ما نبع بعد البيع، فأما ما نبع قبله فلا معنى لصرفه إلى المشتري قلت هذا التأويل الذي قاله الإمام الرافعي فاسد، فقد صرح الأصحاب بأن المشتري على هذا الوجه أحق بالماء الظاهر لثبوت يده على الدار وتكون يده كيد البائع في ثبوت الاختصاص به، والله أعلم. ولو باع جزءاً شائعاً من البئر أو القناة جاز وما ينبع مشترك بينهما إما اختصاصاً مجرداً وإما ملكاً انتهت، وعبارتها في باب الأصول والثمار.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186(1/339)
[فر](فرع)[/فر] لا يدخل مسايل الماء في بيع الأرض ولا يدخل فيها شربها من القناة والنهر المملوكين إلا أن يشترط أو يقول بحقوقها ولو كان في الدار المبيعة بئر ماء دخلت في البيع والماء الحاصل في البئر حال البيع لا يدخل على الصحيح وإن شرط دخوله في البيع صح على قولنا الماء مملوك بل لا يصح البيع دون هذا الشرط وإلا اختلط الماء الموجود للبائع بما يحدث للمشتري وانفسخ البيع، قلت فإن قلنا لا يملك صح البيع مطلقاً بل لا يجوز شرطه لأنه لا يملكه ويكون المشتري أحق به لأنه في يده كما لو توحل صيد في أرضه، والله أعلم. وذكر الخلاف في الماء وفروعه في إحياء الموات إن شاء الله تعالى انتهت، ولا تنافي بين الموضع الثاني والثالث خلافاً للأسنوي وغيره بل يحمل ما قاله في الثاني من صحة البيع فيهما على أن المراد أنه يصح في الأرض بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق التبع والاستحقاق، والحاصل أن الثانية مفروضة في غير ما فرضت فيه الثالثة لأنها مفروضة فيما إذا باع أرضاً مع شربها من الماء في نهر أو واد والثالثة مفروضة فيما إذا باع الماء مع قراره فالثانية ليس فيها تعرض للماء أصلاً وإنما فيها تعرض للشرب وهو من حقوق الأرض فلذلك صح البيع ودخل الماء فيه تبعاً، ويؤيده قول صاحب التلخيص ودخل الماء تبعاً وأما الثالثة ففيها تعرض للماء والقرار فالماء مقصود فيها فوجب التفصيل بين ما يصح بيعه وهو الراكد فيصح فيه كالقرار وما لا يصح بيعه وهو الجاري فلا يصح البيع فيه، وإنما يصح في القرار عملاً بتفريق الصفقة وملكه، يستلزم ملك الماء الحادث بعد البيع وبهذا اتضح عدم التناقض بين هاتين العبارتين لأن كلا مفروضة في غير ما فرضت فيه الأخرى ثم المراد بالقرار في العبارة الثالثة محل النبع لأن ملكه يستلزم ملكه الماء ففصل فيه بين الراكد والجاري ويطلق القرار أيضاً على المحل الذي يجتمع فيه الماء وملكه لا يستلزم ملك الماء بل إن مالكه أحق بالماء(1/340)
الحاصل فيه ولا يصح إرادة هذا في العبارة الثالثة لأن الماء في هذه الصورة لا يصح بيعه مطلقاً راكداً كان أو جارياً لما تقرر أنه غير مملوك والواقع في العبارة الثالثة التفصيل بين الراكد والجاري فوجب حملها على ما يصح بيعه المستلزم لكونه مملوكاً وإنما يملكه إن ملك محل نبعه أو كان حاصلاً من غير ماء مباح، فإن قلت جرت عادة الشيخين كما يعلم ذلك باستقراء كلامهما بأنهما يستعملان بأن مريدين بها كأن وحينئذ فقول الروضة في العبارة الثانية بأن باع أرضاً مع شربها لا يقتضي حصر الصورة في ذلك بل يشمل قوله قبله باعه مع الأرض ذلك وغيره كبيعه مع القرار وحينئذ فينافي ما قالاه في الموضع الثالث، قلت إنما يحمل بأن على كأن حيث علم عدم حصر الحكم في ذلك وإلا فالأصل في بان أنها تدل على حصر الحكم فيما بعدها وعلى التنزل فلو سلمنا أن بأن هنا بمعنى كأن وأن المراد بالأرض خلاف المتبادر منها وأنها تشمل القرار المذكور في العبارة الثالثة فيحمل القرار في الثانية على المحل الذي يجتمع فيه الماء أو على المجرى المملوك فيصح البيع فيه بطريق القصد ويدخل الماء تبعاً لا قصداً لأنه غير مملوك فلا يصح إيراد العقد عليه جارياً كان أو راكداً وأما القرار في الثالثة فقد مر حمله على محل النبع وحينئذ فلا تنافي بين العبارتين أيضاً وإن سلمنا ما ذكروا وإذا تأملت ما تقرر في العبارتين علمت أن المخالفة بينهما إن سلمت، إنما هي في الجاري أم الراكد فهما متفقان على صحة بيعه مع الأرض والقرار بشرطه، ومر في الباب الثاني ذكر كلام البحر والبيان وبيان محملهما وما له تعلق بما هنا فراجعه فإنه مهم سيما رد اعتراضات البلقيني على عبارة الروضة الثالثة، وأما ما ذكره في الموضع الرابع فهو لم يسق لبيان حكم بيع الماء بل لبيان أنه يجب شرط دخوله أولاً وقول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186(1/341)
الشيخين في هذا الموضع ولا يدخل فيه شربها من القناة والنهر المملوكين إلا أن يشترط أو يقول بحقوقها لا ينافي ما تقدم لأن هذا كما ترى في الشرب المملوك وما مر في الشرب الغير المملوك وبعد أن بان لك صحة عبارتها وأنه لا تناقض فيها ولا اعتراض عليها فلنذكر ما وقع للمتكلمين عليها من إشكال وجواب ونقد ورد تتميماً للفائدة فنقول قول الروضة في العبارة الثالثة وفي القرار قولا تفريق الصفقة رده جمع بأن ما لا يجوز بيعه إذا كان مجهولاً وبيع مع غيره يبطل في الجميع بناء على أن الإجازة بالقسط والقسط غير ممكن للجهالة ولك أن تقول إنما يتضح ردهم إن سلم لهم دعوى الجهالة بالقسط وهي غير مسلمة فقد قال جمع في نحو الخل والخمر والشاة والكلب أو الخنزير أن الباطل يقوّم عند من يرى له قيمة كأهل الذمة فكذلك الماء هنا يقدر عند من يرى له قيمة ويصحح بيعه مطلقاً وهم المالكية وعلى المعتمد من أن ذلك يعتبر بما يشابهه كالخل في المثال الأول والعنز في المثال الثاني، كذلك يعتبر الجاري بما يشابهه فيقدر الموجود منه حال البيع راكداً ويوزع الثمن عليه مع الأرض. وفي شرح المهذب تبعاً للشيخ أبي حامد و الجرجاني وغيرهما أن المراد بالمجهول الذي إذا ضم للمعلوم يبطل العقد فيهما وإلا فتفرق الصفقة أن يجهل من سائر الوجوه كبعتك هذا العبد وعبداً آخر، أما إذا جهله العاقد فقط وهو معين في نفس الأمر كحاضر وغائب، وقلنا بفساد بيع الغائب ففي صحة بيعه قولا تفريق الصفقة في بيع عبده وعبد غيره أرجحهما الصحة في عبده ذكره البغوي في فتاويه وبه يعلم جواب ثان عما ردوا به كلام الروضة وإجراءها خلاف تفريق الصفقة في القرار وهو أن الماء المضموم للقرار ليس مجهولاً من كل وجه بل هو معلوم من بعض الوجوه فغايته أنه كبيع الغائب مع الحاضر وقد علمت أن البغوي أجرى فيه خلاف تفريق الصفقة وأنه لا اعتراض عليها فإن قلت صرح القاضي بأن الماء الجاري مجهول من كل الوجوه وهو يرد(1/342)
ما ذكرته قلت لا يرده، لأن القاضي لم يذكر ذلك بالنسبة لعدم صحة بيعه وهو بالنسبة لذلك مجهول من كل وجه، وأما فيما نحن فيه فليس مجهولاً من كل وجه لأن المدار فيه على ما يعلم بوجه مّا حتى يمكن توزيع الثمن عليه، وعلى المعلوم الذي معه ومما يعلمك بأن الماء ليس مجهولاً من كل وجه أن الشيخين قالا: لو سقى أرضه بماء مملوك للغير لزمه قيمة الماء واعترضهما الإسنوى بأن الصواب لزوم مثله لأنه مثلي إلا في صورة واحدة وهي ما لو غصبه في مفازة وبلزوم المثل في مسألتنا صرح
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186(1/343)
ابن الصلاح فإنه سئل عمن له دولاب على نهر عظيم غير مملوك يديره الماء بنفسه ويرتفع الماء إليه في مواضع مهيأة له فهل يدخل الماء في ملكه بمجرد صيرورته في كيزان الدولاب كما لو استقاه لنفسه في إناء ولو كان الماء ينصب من الدولاب في ساقية مختصة بملك صاحب الدولاب فجاء جار له فخرب الساقية حتى انصب الماء إلى أرض الجار وسقى به أرض نفسه فما الذي يلزمه فأجاب بقوله نعم يملكه بمجرد حصوله في كيزان الدولاب ويجب على الغاصب مثل ذلك الماء محصلاً في الموضع الذي أخذه منه قناة أو غيرها فإن تراضيا على أخذ قيمته جاز اهـ المقصود منه وانتصر الأذرعي للشيخين بأن ما صوبه الإسنوى فيه نظر ظاهر وما قاله ابن الصلاح من تصرفه وهو مشكل فإن الماء ربوي ومعرفة ما اغتصب من ماء نحو القناة وسقى به الأرض كيلاً أو وزناً لا يكاد ينضبط أصلاً ولا سيما إذا طالت المدة فكيف السبيل إلى معرفة المماثلة في القدر، وإذا تعذر ذلك ولا شك فيه في معظم الأحوال فلا سبيل إلى الإلزام بمثل مجهول وحينئذ فيغرم القيمة للضرورة تخميناً اهـ، وتبعه الزركشي فقال: الماء الذي تسقي به الأرض لا يتصور رد مثله إما لكثرته أو لعدم ضبطه أو لعزة وجوده فيكون كما لو عدم المثل فيرجع بقيمته وإذا تأملت ما تقرر علمت أن الماء معلوم من بعض الوجوه أن أوجبنا قيمته أو من كلها إن أوجبنا مثله وإذا تصور وجوب قيمته خرج عن الجهل المطلق والمحذور في ضم المجهول إلى المعلوم حتى يبطل البيع فيهما إنما هو تعذر معرفة القسط وحيث تصوّر وجوب القيمة في مياه القنوات لم يتعذر القسط فبان صحة إجراء الشيخين خلاف تفريق الصفقة في بيع الماء والقرار وأنه لا اعتراض عليهما في ذلك وإن اغتر كثيرون بقول الإسنوى وغيره ينبغي البطلان فيهما لتعذر الإجازة بالقسط للجهل بالماء واعلم أن إجراء خلاف تفريق الصفقة لا يتأتى في مسألتنا التي سألنا عنها، لأن العاقدين فيها في الحالين السابقين في البابين الأولين لم(1/344)
يوردا البيع على الماء والقرار معاونته إنما أورداه على القرار وحده وجعلا الماء تابعاً بدليل قولهما بما للحصة المذكورة من حق الخ، ثم قال ومن مائها الجاري بها يومئذ فلم يجعلا الماء من جملة المبيع وإنما جعلاه من توابعه فهو بيان للواقع وإذا كان كذلك فالبيع لم يقع إلا على القرار فيصح فيه بكل الثمن ولا يتأتى فيه خلاف تفريق الصفقة السابق في مسألة الروضة لما علمته من الجمع السابق بين عبارتها هنا وعبارتها في البيع، فعلى فرض أن ما فيها في إحياء الموات ضعيف لا يرد ذلك على صورتنا فتنبه لذلك فإنه مما ينبغي التنبيه عليه وعلم مما قررته في الجمع بين الموضع الثاني والثالث ضعف الجواب عن ذلك بأن مراد الروضة بعدم الصحة في الماء في الموضع الذي أجرى فيه خلاف تفريق الصفقة أنه لا يصح بطريق الملك إلا في الأرض دون الماء فإنه إنما يصح البيع فيه بطريق الاستحقاق ومن ثم صرح فيها في الموضع الثاني بصحة البيع فيهما أي في الأرض بطريق القصد والملك وفي الماء بطريق التبع والاستحقاق ومما يضعفه أيضاً أنه يلزم عليه رد إجراء الروضة خلاف تفريق الصفقة في الموضع الثالث وقد يجاب بأن فائدة إجرائه في القرار حتى يبطل في الماء الرجوع لما يقابله من الثمن لأنا وإن قلنا بالصحة فيه فإنما هي بطريق التبع والاستحقاق وما كان كذلك لا يقابل بجزء من الثمن، فإذا قوبل به اقتضى ذلك بطلان البيع فيه وفي الأرض على الضعيف وفيه وحده على الصحيح واعلم أن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186(1/345)
الإسنوى قال وما ذكراه، أي هنا من عدم صحة البيع في الماء قد سبق عن زوائده في آخر البيوع المنهي عنها عن القفال أنه يصح وأقره عليه وما ذكره أيضاً في الأرض من تخريجها على قولي تفريق الصفقة كيف يستقيم مع أن الماء المذكور مجهول، وقد سبق في تفريق الصفقة أن ما لا يجوز إذا كان مجهولاً بطل البيع في الجميع بناء على أن الإجازة بالقسط فإنه غير ممكن للجهالة اهـ. وقد قررت لك فيما سبق الجواب مبسوطاً واضحاً عن اعتراضيه هذين ابن العماد بما في بعضه نظر فلذا ذكرت كلامه لأبين ذلك فمما اعترض به أن الذي في البيع لم يسبق عن القفال بل عن صاحب التلخيص وهو ابن القاص والقفال شارح التلخيص لا أنه مصنفه اهـ وهو محتمل، ويحتمل أن للقفال كتاباً اسمه التلخيص لكن على فرضه الاعتراض على الإسنوى متوجه أيضاً، إذ لا قرينة على أن المراد بقول الروضة في باب البيع قال صاحب التخليص هو القفال ، بل الظاهر المتبادر أنه ابن القاص، لأن تلخيصه مشهور متقدم فهو أولى بالنقل عنه على أن الذي نقلاه هنا عن القفال كما مر في العبارة الثالثة منع بيع الماء في الصورة السابقة، وهذا يبعد أن يراد بما مر في البيع عن التلخيص تلخيص القفال إن سلم أن له كتاباً اسمه ذلك واعترضه أيضاً بأن ما قالاه هنا لا يخالف ما مر عن صاحب التلخيص، لأن ما مر ثم محله في الماء الراكد إذ المراد بالشرب فيه الماء الراكد على الأرض أو جميع الماء الذي أحاط به الوادي أو النهر وهو غير جار اهـ، وقدمت في الجمع بين هاتين العبارتين ما يعلم منه أن تأملته ما في هذا الجواب صحة وفساداً، واعترضه أيضاً بأن دعواه أن ماء النهر مجهول حتى يبطل في أرضه أيضاً باطلة لأن الماء الراكد معلوم بالمشاهدة والرؤية تحيط به ومعرفة عمقه مما يسهل الوقوف عليها اهـ، وهذا الاعتراض عجيب، فإن ابن العماد نفسه قدم أن ما قالاه هنا مفروض في الجاري وما في الروضة في البيع مفروض في الراكد وإذا قرر ذلك فكيف يرد(1/346)
على الإسنوى بأن ما هنا في الراكد فوقع في التناقض الصريح من غير تأمل فكانت دعواه أن ما هنا في الماء الراكد هي الباطلة لما قدمه، ولأن كلام الشيخين صريح في جريان خلاف تفريق الصفقة في القرار وإن كان الماء جارياً فالوجه في رد كلام الإسنوى ما قدمناه واستدللنا عليه بكلامهم فراجعه فإنه مهم لم يتنبه له أحد فيما علمت.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 186
الباب السادس:
في بيان حكم عيون الحجاز بخصوصها هل هي مملوكة أو مباحة وهل يصح بيعها أو لا لعدم رؤيتها؟)(1/347)
اعلم أن الذي دل عليه كلام الأئمة أنها مملوكة، ففي الروضة وأصلها لو صادفنا نهراً يسقي منه أرضون ولم ندر أنه حفر أي فيكون مملوكاً أو انخرق أي فلا يكون مملوكاً حكمنا بأنه مملوك لأنهم أصحاب يد وانتفاع اهـ، وعيون الحجاز أولى بكونها مملوكة من النهر الذي فرض الشيخان الكلام فيه، لأنه ليس فيه قرينة دالة على الملك غير وضع اليد بالاستقاء منه، وأما عيون الحجاز ففيها قرينة أخرى أقوى من مجرد الاستقاء وهي البناء الموجود على تلك العيون الذي هو صريح في ملك الباني لمحل ذلك البناء، فإن قلت في الأنوار وشرحه ما يخالف ذلك وهو أن ما نبع من موضع لا يختص بأحد وما لا صنع للآدمي في إخراجه وإجرائه كالفرات ودجلة وجيحون وسائر أودية العالم والعيون في الجبال والموات فالناس فيها شرع ولا يجوز لأحد المنع من أخذ مائها لشرب أو طهر أو غيرهما ولا أن يتحجرها وليس للإمام إقطاعها بالإجماع كما نقله القاضي أبو الطيب وغيره ولا يبيعها من طريق أولى وهذا كما ترى شاهد أي شاهد على أن عيون الحجاز لا يملك منبعها لأنها مما شمله قوله والعيون في الجبال والموات وقد حكم عليها بأنه لا يجوز تحجرها ولا إقطاعها ولا بيعها، قلت لا دليل في هذا ولا شاهد لعدم ملك عيون أودية الحجاز، لأن كلام الأنوار وشرحه المذكور مفروض فيما علمت إباحة أصله فإنه قال فصل الماء أقسام: الأول ما نبع من موضع لا يختص بأحد ولا صنع للآدميين في إخراجه وإجرائه فقد فرض الكلام في فرد مخصوص وهو ما علم أنه نبع من موضع مباح من غير صنع لآدمي في إخراجه وإجرائه ومثل ذلك بما ذكره، ومن جملته عيون الجبال والموات وعيون أودية الحجاز ليست كذلك لأنا لم نعلم أن أصلها قبل البناء عليها هل كان مباحاً لكونه نابعاً بنفسه في غير مملوك كجبل أو موات فجاء إلى كل عين منها جماعة، واستولوا عليها بطريق وحازوها وبنوا عليها ثم تلقاها ورثتهم عنهم من منذ قرون عديدة إلى وقتنا هذا أو مملوكاً لكونه لم(1/348)
يكن في ذلك الموات منبع وإنما جاء من حفره إلى أن صادف منبعاً فبنى عليه وتحجره ثم ملكه ورثته من بعده واستمر على ذلك من منذ تلك القرون وهذا التردد الذي أبديته لا يمكن أحداً دفعه إلا إن كان من السوفسطائية الذين ينكرون حتى المحسوسات التي هي أقوى من الضروريات فإذا ثبت أن هذا التردد في عيون الحجاز لا مدفع له ثبت أن عيونها بمنزلة النهر الذي فرض الشيخان الكلام فيه، وثبت ما قلناه من أنها أولى بالملك من ذلك النهر، لأن فيها قرينة أخرى أقوى وأظهر من قرينة وضع اليد وهي البناء عليها الصريح في الملك على أن وضع اليد فيها أقوى منه في النهر، لأن وضعها فيه إنما هو بالاستقاء منه، وأما وضعها هنا فهو بالتصرف فيها بهدم ما بني عليها وعمارته وبالتبايع فيها وحيازتها كابراً عن كابر من منذ قرون مديدة بل بعضها ذكره بعض المؤرخين في أواخر القرن الأول فللناس الآن على ذلك تسعمائة سنة وهم على هذه الحيازة والاستيلاء والتصرف فيها بالبيع وغيره، وحينئذ فهل بقي بعد هذا قرينة على الملك أقوى من هذه القرينة كلا لا ينكر ذلك إلا من عدم عقله أو غلب عليه هواه وجهله، فإن قلت هل تجد نظيراً غير مسألة النهر يقاس عليه مسألتنا أيضاً، قلت لذلك نظائر منها قول الأئمة لو وجدنا جذوعاً لإنسان موضوعة على جدار غيره فقال صاحب الجدار هذه موضوعة بغير حق، وقال صاحبها بل هي موضوعة بحق ولا بينة حكمنا بأنها موضوعة بحق وإن لصاحبها حق الوضع على ذلك الجدار حتى لو هدم أو انهدم وأعيد جاز له إعادتها عملاً بالظاهر أي وإن كان الخصم هو باني الجدار لظاهر كلامهم فإذا حكموا باستحقاق ملك الغير لمجرد هذه القرينة المحتملة ولم يبالوا باحتمال أنها وضعت بغير حق مع أن هذا الاحتمال هو الموافق للأصل من عدم الإذن وحكم حاكم يرى ذلك لكنه خلاف الظاهر من بقائها إذ التعدي يتسارع إلى إنكاره ولا يسكت عنه حتى لا يكون به بينة فأولى أن يحكموا في عيون الحجاز بأنها ملك(1/349)
لواضعي الأيدي عليها من منذ تلك القرون العديدة لأن القرينة فيها أظهر وأتم ولا يقال لم يصرح الفقهاء فيها بشيء لأنا نقول ذكرهم النهر في مسألة الروضة وأصلها السابقة ليس للتقييد كما لا يخفى على أصاغر المتفقهة بل للتمثيل حتى يلحق به ما في معناه فكيف ما هو أولى منه، ومن النظائر أيضاً ما صححه في الروضة من أنهم لو تنازعوا في قدر أنصبائهم من النهر جعل على قدر أنصبائهم من الأرض عملاً بالظاهر أن الشركة بحسب الملك، وأما قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/350)
البلقيني الأصح بمقتضى القواعد أنه يكون بينهم بالسوية، لأنه في أيديهم والقرائن لا ينظر إليها كما نص عليه في الجدار أنه لا ينظر فيه إلى الدواخل والخوارج وأنصاف اللبن ومعاقد القمط وفي متاع البيت يختلف فيه الزوجان أنه إن كان بيدهما حلفاً وجعل بينهما ولا نظر لما يختص بأحدهما عادة فهو وإن سلم شاهد لنا أيضاً على أنه يمكن أن يجاب عنه بأن النهر ليس في أيديهم حَساً بل حكماً تبعاً للأرض كما يأتي بسطه إن شاء الله تعالى، وإذا كان تابعاً للأرض لزم أن يحكم عليه بقضيتها تبعاً لها لأن التابع يعطي حكم متبوعه وبهذا علمت الفرق بين مسألة الروضة ومسألتي الجدار ومتاع البيت، فإن اليد على كل منهما مستقلة وليست تابعة لشيء فعمل بقضيتها وهي التساوي، وأما في مسألة النهر فهي تابعة لليد على الأرض فأعطى حكمها وهذا فرق واضح جلي، وإن نقل المتأخرون كلام البلقيني هذا ولم يتعرض أحد منهم لرده فيما أعلم، ومن تلك النظائر أيضاً ما في الأنوار وغيره من أنه لو كان لأرض ساقية من نهر ولم يكن لها شرب من محل آخر حكم عند التنازع بأن لها شرباً منه عملاً بالظاهر، وكذا يكون شريكاً لأهل النهر حيث لا شرب لها من موضع آخر، وإن لم يكن لها شرب منه عملاً بالظاهر هنا أيضاً. ومن تلك النظائر أيضاً ما في الأنوار أيضاً من أنه لو كان النهر ينصب في أجمة مملوكة أو غدير مملوك وحول النهر أراض مملوكة ونوزع في الماء جعل بين صاحب الأجمة وأصحاب الأراضي قال شارحه لأن الظاهر اشتراكهم فيه، وظاهر عبارته أنها مناصفة بين صاحب الأجمة وأصحاب الأراضي اهـ فتأمل عملهم بالظاهر في هذه والتي قبلها يتضح لك ما في الروضة وما قسنا عليه، فإن قلت سلمنا جميع ما ذكر لكن حفر البئر والقناة في الموات ليس مقتضياً للملك مطلقاً بل فيه تفصيل وهو أنه إن كان للمارة كانت مسبلة لكافة المسلمين لا يجوز بيعه ولا تحجره ولا يجوز للحافر طمها لتعلق الحق بهم، وإن كان لارتفاقه فهو أولى(1/351)
بمائها حتى يرحل فإن عاد فهو كغيره وليس له طمها هنا أيضاً، وإن لم يقصد شيئاً فهو والناس فيها سواء وإن كان للتملك فهي كالمحفورة بملكه وحكم ما نبع بملكه بنفسه أو بعمل أنه يملكه على الأصح لأنه نماء ملكه، وإذا كان في المحفورة في الموات هذا التفصيل وأنه لا يملك إلا في صورة وفي ثلاث صور لا يملك كما تقرر فما وجه ترجيح هذه الحالة الرابعة على الحالات الثلاث. قلت: هذا التفصيل إنما يتأتى حيث علم قصد الحافر أما إذا جهل قصده كما في مسألتنا فلا يتأتى فيها ذلك التفصيل بل يتعين الحكم فيها بالقرائن الظاهرة التي مر الكلام عليها آنفاً وهي قاضية بملك واضعي اليد عليها، وحينئذ فليس هنا تغليب حالة واحدة على حالات ثلاث لما تقرر أن محل تلك الأحوال حيث علم قصد الحافر وما ذكر من أن حكم القنوات حكم الآبار هو ما ذكره الشيخان إلا أن حفرها لمجرد الارتفاق لا يكاد ينفق. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/352)
السبكي: والقناة في بلادنا اسم لما يجري فيه الماء الواصل من غيرها. قال وفي تعليق القاضي حسين لو حفر القناة فنبع فيها ملكها وهو يقتضي أنها تحفر لينبع الماء فيها وعلى هذا يصح إطلاق الرافعي أنها كالبئر، وأما إذا كانت محل الجريان فهي كالبئر ففي ملك الجاري فيها خلاف اهـ، أي والأصح أنه لا يملكه بل لا يستحقه فإن قلت لا دليل فيما تقدم عن الروضة وأصلها في النهر لقول الزركشي ما قالاه من الملك مشكل، لأن الأصل عدم الحفر وكثير من الأنهار غير مملوك والمحقق من اليد فيه الانتفاع والسقي منه ولا يكفي ذلك لدلالة اليد على الملك واليد الدالة على الملك هي التي يكون معها الاستيلاء ومنع الغير، فإن وجد ذلك دل على الملك وإلا فينبغي أن لا يحكم بكونه مملوكاً لهم بل يقال مختص بهم واليد إنما تدل على ذلك وإن كانت تدل على الملك في غير هذه الصورة، ولكن هنا عارض الملك أن العرف يقضي بعدم تمكنهم من بيعه والتصرف فيه، وإنما تكون أملاكهم التي يسقونها منه لها حق سقيها منه وذلك اختصاص به لا ملك ويعضد هذا بأن الأصل عدم الحفر ولا يقال الأصل عدم الانخراق، لأن الحفر بفعل فاعل والانخراق بدونه وأيضاً لو أثبتنا الملك في أرض النهر لأصحاب الأملاك لاحتيج عند شرائها إلى معرفة قدر مائها من أرض النهر والمجرى الواصل منه إليه ولما صح الشراء إلا بذلك وإن كان يجوز إفراده بالبيع ولم يقل به أحد، نعم ذلك ظاهر في قناة أو ساقية ظهر اختصاصها واستيلاؤهم عليها بحيث لا يستنكر تصرفهم في ذلك اهـ كلام الزركشي، ومع هذا الإشكال الظاهر كيف يستدل بكلام الروضة وأصلها على مسألتنا، قلت لو سلمنا للزركشي إشكاله هذا وأنه لا جواب عنه لم يكن ذلك قادحاً في الاستدلال بكلامهما لأن من قواعدهم أن الإشكال لا يرد المنقول وإن لم يكن عنه جواب فكيف والجواب عن إشكال الزركشي هذا سهل، وبيانه أن قوله لأن الأصل عدم الحفر لا تأثير له لما علم مما قررنا آنفاً أنا لا نعتبر(1/353)
الأصل في مثل ذلك وإنما نعتبر الظاهر بدليل ما قدمناه عنهم في مسألة الجذوع وغيرها، وإنما قدم الظاهر على الأصل في مثل ذلك، لأن الظاهر هنا استند إلى أمر حسي دال على الملك مستمر إلى حال الحكم به وهو وضع اليد فأشبه تقديمهم الظاهر على الأصل في بول الظبية المشهورة وقوله وكثير من الأنهار غير مملوك ليس في محله لأنه لا تأييد فيه لإشكاله إذ ذلك الكثير ليس على ملكه قرينة فلا يقاس ما نحن فيه به. وقوله واليد الدالة على الملك الخ، شاهد لنا لأن سقي أراضيهم منه مع انحصار سقيها في ذلك وعدم وجود ماء لها غيره إذ الفرض ذلك كما جريت عليه في شرح الإرشاد دليل ظاهر على استيلائهم عليه وعلى منعهم للغير من أخذ ما يتعطل به سقي أراضيهم فالاستيلاء والمنع المذكوران ملزومان للسقي والانحصار المذكورين سواء وجدا أعني الاستيلاء والمنع بالفعل أو بالقوة إذ لا يشترط فيهما وجودهما بالفعل بل يكفي وجود ما تقضي العادة معه بالاستيلاء والمنع ولو بالقوّة على أن الاستيلاء مستلزم للمنع، وعكسه والاستيلاء موجود في مسألتنا بالفعل فإنه لا معنى له في النهر إلا انحصار الانتفاع به في شخص، وقد تقرر لك أن الانتفاع به منحصر في أرباب تلك الأراضي وكانوا مستولين عليه، وعبارة الشيخين مشيرة إلى هذا فإنه لا يقع التردد في أنه حفر أو انخرق إلا مع وجود استيلائهم، وأما مجرد السقي منه مع عدم الاستيلاء بأن يكون بحيث أن من احتاج لسوق شيء منه إلى أرضه أجراه منه إليها من غير أن يتعرض له أحد فهو مانع لوقوع التردد في أنه حفر أو انخرق لقيام القرينة الظاهرة من عدم المنع مما ذكر على عدم الملك وبهذا الذي قررته يعلم رد قوله وإلا فينبغي الخ، لأنه إن وجد الاستيلاء بالمعنى الذي قررته كان مملوكاً لهم وإلا لم يكن مملوكاً لهم ولا مختصاً بهم بل يكون الناس فيه سواء لأنه لا يد حينئذ إذ من لازم اليد الاستيلاء أو المنع في هذا الموضع وغيره وفرقه بينهما بقوله ولكن(1/354)
هنا عارض الملك أن العرف الخ يرد بأنه لا عبرة بقضاء العرف بعدم تمكنهم من بيعه والتصرف فيه لأن قضاءه بذلك إن سلم إنما يكون لعارض وهو لا أثر له، وأما مع ذلك العارض فالعرف لا يقضي بذلك بل بخلافه، إذ من لازم الاستيلاء عرفاً وشرعاً التمكن من التصرف فامتناعه لأمر عارض لا يقتضي بطلان قضية الاستيلاء، وقوله وذلك اختصاص به لا ملك قد علمت رده وكذلك علمت رد قوله ويعضد هذا بأن الأصل الخ، وقوله وأيضاً لو أتيتنا الملك الخ، يرد بما قدمته عن الروضة من أنهم إذا تنازعوا في أرض النهر كانت بينهم بنسبة أراضيهم فحينئذ من أثبت منهم له جزءاً من أرض النهر كان الحكم فيه ظاهراً ومن لم يثبت منهم ذلك كان له منه بنسبة أرضه فاندفع قوله لاحتيج الخ، لأنه لا يحتاج لذلك لأنه معلوم كما قررناه، ويلزم من عمله رد ما فرعه عليه مما بعده، فإن قلت سلمنا رد إشكال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/355)
الزركشي بما ذكر لكنه رد ما قاله الشيخان من حيث النقل فإنه قال:اعلم أن الرافعي إنما أخذ هذا الفرع من التتمة والذي فيها أن حكمه حكم المملوك ولعل مراده في الانتفاع وعدم تقديم بعضهم على بعض ثم إنه إنما فرض المسألة في نهر على حافتيه أراض منه تسقى وهو أقرب لأن أصحاب الأراضي المجاورة له قد يقال إنهم لإحاطتهم به أصحاب أيد بخلاف ما إذا كانت الأراضي التي يسقي بها بعيدة عنه والمجاري منه إليها يتخلل بينها أماكن لغيرهم فالقول بأن من سقى منه مالك له لا وجه له، وقد صرح الماوردي بالمسألة وحكى فيها وجهين، فقال: لو كان النهر الصغير غير معروف الأصل هل هو مباح أو مملوك فقد اختلف أصحابنا هل يجري عليه حكم الإباحة أو حكم الملك على وجهين أحدهما أنه في حكم المباح، وهذا قول من جعل أصلها على الخطر اهـ، ومع كلامه هذا فكيف يستدل له بكلامهما على مسألتنا، قلت هو لم يأت بما يردّه نقلاً فإن كلام التتمة الذي ساقه موافق لما قاله الشيخان، وقوله ولعل مراده الخ غير مقبول منه فإنه إخراج للفظ عن ظاهره بغير مستند، وقوله ثم إنه الخ يقال عليه فرضه الكلام في ذلك لا يقتضي أن كلامه غير موافق لكلامهما بل هو مع ذلك موافق له لأنه لم يقصد بهذا الفرض التقييد بل مجرد التصوير لأن مدار المسألة كيف فرضها على أنه متى وجد السقي والانحصار السابقان وجد الملك لوجود الاستيلاء حينئذ ومتى انتفيا انتفى، وبهذا يرد قوله بخلاف ما إذا كانت الأراضي الخ، ووجه رده أن التعويل هنا إنما هو على القرينة الظاهرة ومع وجود السقي والانحصار المذكورين القرينة الظاهرة قاضية بأنه ملكهم لوجود خاصية الملك من الاستيلاء والمنع السابقين ولا نظر لبعد أراضيهم عنه ولا لتخلل مجاريهم في ملك الغير، لأن كلاً من هذين، أعني البعد والتخلل، ليس منافياً لتلك القرينة لأن كثيراً من الأنهار المملوكة يوجد فيه ذلك، ولأن أهل العرف لا يمنعون من إضافة النهر إلى أربابه مع وجود كل(1/356)
من ذينك وبهذا تعلم أن قوله فالقول بأن من سقى منه مالك له لا وجه له هو الذي لا وجه له، لأن الشيخين لم يقولا ذلك حتى يلزمهما به، وإنما قالا إنه ملك لهم وعللاه بأنهم أصحاب يد وانتفاع وقد تقرر لك أنهم لا يكونون أصحاب يد إلا إذا وجد السقي والانحصار السابقان ومتى وجدا وجد الملك لاستلزامهما وجود الاستيلاء والمنع السابقين أيضاً، وقد تقدم عنه نفسه أن وجودهما يستلزم الملك، وقوله وقد صرح
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/357)
الماوردي بالمسألة وحكى فيها وجهين فقال الخ، جوابه أن الشيخين رجحا ثانيهما والتعويل في الترجيح ليس إلا عليهما وإن لم يعرف لهما سلف فيه فكيف ولهما سلف أي سلف وهو كلام التتمة السابق فإن قلت سلمنا رد جميع ما قاله مما مر عنه لكنه فصل تفصيلاً حسناً فينبغي أن نقول به في مسألتنا فإنه قال بعد أن ساق ما مر وحصل من هذا أن للمسألة صورتين: إحداهما أن يكون نبع النهر في أراضيهم المملوكة فليكن القول بالملك، والثانية أن يكون نبعه بموات أو كان يخرج لهم من مد عظيم فهو باق على الإباحة، قلت هذا التفصيل وإن كان حسناً في ذاته إلا أن إجراءه في مسألة الشيخين ليس بحسن، لأن الصورة كما مر أن النهر ومن جملته محل نبعه لم يدر هل حصل بواسطة حفر أو بواسطة انخراقه من نهر عظيم، وأما التفصيل الذي قاله فهو مبني على تحقق الحال وعند تحققه تارة يكون محل النبع في ملك فيكون مملوكاً وتارة يكون في مباح فيكون مباحاً، وبهذا ظهر لك أن إجراء هذا التفصيل في مسألة الشيخين سهو منشؤه الغفلة عن صورتها، إذ مع ملاحظة صورتها لا يمكن جريان هذا التفصيل فيها، لأن محله عند العلم بحال المنبع ومحلها عند التردد فيه وشتان ما بينهما هذا وينبغي لك أن تتفطن لدقيقة وهي أن إشكال الزركشي إنما يتوهم وروده مع ضعفه على مسألة النهر، وأما عيون الحجاز فكلام الزركشي صريح في أنه لا يرد عليها لأنه قال واليد الدالة على الملك هي التي يكون معها الاستيلاء ومنع الغير فإن وجد ذلك دل على الملك وهذا موجود في عيون الحجاز لأن كل عين منها لجماعة مستولين عليها لا يمكن أحداً غيرهم أن يشاركهم فيها ولا أن يأخذ من مائها شيئاً يسقي به أرضه إلا برضاهم والزركشي قائل بالملك عند وجود ذلك فهو قائل بالملك في العيون من غير نزاع له فيها وإن كان منازعاً في النهر، لأن الوجه الذي نازع فيه في الأنهار لم يوجد جميعه في العيون وأيضاً فإنه قال ولكن هنا، أي في النهر، عارض الملك أن(1/358)
العرف يقتضي عدم تمكنهم من بيعه والتصرف فيه وهذا غير موجود في العيون فإن العرف والحس قاضيان من منذ قرون عديدة أنهم يتصرفون فيها بالبيع والهبة وغيرهما، فلم يعارض الملك فيها شيء عند الزركشي فكان قائلاً بالملك فيها بحسب ما دل عليه كلامهم هذا وبعد أن ظهر لك من كلامه ذلك فلا يضرك إن سلمت له اعتراضه السابق وكان يمكننا أن نذكر هذا ولا نتعرض لرد كلامه لكن أحببنا أن نبين تزييف ما أورده على الشيخين وأن كلامهما في خصوص المسألة جار على نهج الصواب والاستقامة ولذا أقرهما عليه المتأخرون سيما مشايخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/359)
الزركشي ك الإسنوى و الأذرعي و البلقيني ومن تبعهم، فإن قلت قد توهم بعض المفتين من كلام الجمال بن ظهيرة وأسئلته لشيخه شيخ الإسلام السراج البلقيني أن عيون أودية مكة لا تملك مطلقاً، وعبارة السؤال المتعلقة بذلك العيون التي بمر الظهران من أعمال مكة المشرفة وغيره من بلاد الحجاز لا يعرف الأصل الذي تنبع منه غالباً وإنما يجري في مجار إلى أن يبرز إلى الأراضي التي يبقى فيها ويتبايعونه بالأيام والليالي والساعات يشتري الشخص من آخر ساعة من النهار إلى الليل بثمن معلوم ويتصرف فيها فهل يصح هذا ويملكه على المذهب الصحيح في أن الماء يملك أم لا؟ وعبارة الجواب المتعلقة بهذا السؤال وما ذكره في السؤال من أنه لا يعرف الأصل الذي تنبع منه غالباً جوابه أنه لا يصح بيع الماء في هذه الصورة لأنه غير مملوك والتبايع الواقع بالليالي والأيام والساعات كله غير صحيح، لأنه لم يصادف ملكاً للبائع في ذلك ولا يملك المشتري شيئاً من ذلك ولو فرعنا على الصحيح أن الماء يملك فإنه ليس هنا سبب يقتضي ملك الماء والسبب الذي قد يقتضي ملك الماء قد مر فإن كان هناك يد على محل النابع فهي دالة على الملك للمحل والماء النابع منه، وفي الروضة تبعاً للشرح في إحياء الموات لو صادفنا نهراً يسقي منه أرضون ولم يدر أنه حفر أو انخرق حكمنا بأنه مملوك لهم لأنهم أصحاب يد وانتفاع وهذا شاهد لما ذكرناه انتهت فهل هذا التوهم من كلام السائل أو المجيب صحيح أو فاسد وما وجه فساده؟ قلت: هو توهم فاسد، ووجه فساده أن السائل لم يذكر إلا أن محل النبع لا يعرف غالباً ثم سأل هل يصح ذلك التبايع الذي ذكره أو لا وحينئذ فتوهم عدم الملك من هذا دليل واضح على مزيد الجهالة والغباوة لأنه وطأ لسؤاله عن صحة البيع الذي ذكره بأن محل النبع لا يعرف غالباً فهو لم يحكم بشيء حتى ينسب إليه فمن نسب إلى عبارته هذه أنه حكم فيها بعدم ملك محل النبع فقد كذب وافترى، وأما المجيب فكلامه صريح(1/360)
في ملك عيون مكة فإنه حكم بأنه متى كان على محل البايع يد كان مملوكاً ومتى لم يكن عليه يد كان مباحاً ثم استدل للأول بعبارة الشيخين التي ساقها وقد علمت مما مر في الكلام على عبارة الزركشي أن محل النابع في عيون مكة عليه يد أي يد فليكن مملوكاً وقول البلقيني وما ذكره في السؤال من أنه لا يعرف الأصل الذي تنبع منه غالباً جوابه أنه لا يصح بيع الماء في هذه الصورة لأنه غير مملوك محله حيث جهل أصله ولا يد عليه لأحد بدليل قوله بعده فإن كان هناك يد على المحل النابع فهي دالة على الملك للمحل والماء النابع منه وفي الروضة الخ، فعلمنا من صريح كلامه أن الجهل بالنبع إنما يؤثر عدم الملك حيث لا يد عليه لأحد وأنه متى كان عليه يد لأحد كان مملوكاً وعلمنا من كلامه أيضاً بقرينة سياقه لكلام الشيخين المذكورة واستدلاله بها على ما قاله أنه ليس المراد باليد هنا اليد الحسية بل تكفي اليد الحكمية بأن يكون ذلك الماء النابع من ذلك المحل لسقي أراض لا ماء لها غيره ويكون أهلها يعدون مستولين عليه لتصرفهم فيه ومنعهم من يشاركهم فيه وهذا كله موجود في عيون مكة كما مر فلا شبهة غير فرط الجهل وسوء الفهم لمن توهم عدم الملك من عبارة المجيب أو من عبارة السائل، وإذا تقرر في عيون أودية الحجاز أنها مملوكة منبعاً ومجرى وغيرهما فيصح بيعها كلها أو جزء معين منها ثم ما وقع عليه البيع من ذلك إن أمكنت رؤيته فلا بد منها ولا يكفي من وراء الماء ولو صافياً وإن لم يمكن رؤيته كمحل النابع في عيون الحجاز فإنه مع البناء الذي عليه وعلى حريمه غائص في الأرض نحو قامة فأكثر اكتفى برؤية ما يمكن لأنه يستدل بما يمكن على ما لا يمكن ولتعذر الحفر حتى ينكشف ويرى لأن بعض العيون قد ينتهي إلى جبل أو وهدة عظيمة أو نحو ذلك فلو كلف الناس الرؤية فيه لشق ذلك عليهم مشقة شديدة لا تطاق بل يؤدي ذلك إلى عدم وقوع البيع فيه بالكلية فكان اللائق بقواعدهم المسامحة بعدم(1/361)
اشتراط رؤية ما تعذرت رؤيته، والدليل على ذلك من كلامهم أمور: الأول قول الشيخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189
أبي إسحق في المهذب: إذا رؤي بعض المبيع دون بعض ينظر فإن كان مما لا تختلف أجزاؤه كالصبرة من الطعام والجرة من الدبس جاز بيعه لأن برؤية البعض يزول غرر الجهالة، لأن الظاهر أن الباطن كالظاهر، وإن كان مما يختلف نظرت فإن كان مما يشق رؤية باقيه كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه، لأن رؤية الباطن تشق فيسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان اهـ، وأقره النووي في شرحه على هذه العبارة وهي ظاهرة في عدم اشتراط رؤية جميع المبيع في مسألتنا وأنه إذا بيع فيها المنبع والمجرى اكتفى برؤية بعض المجرى دون الباقي لتعذر رؤيته فهو أولى بالعفو من الجوز واللوز في قشرهما لأن المشقة في مسألتنا أعظم ولا يقال ليس ملحظ الاكتفاء برؤية ظاهرهما فقط، أن بقاء الباطن فيه من مصالحه لأنا نقول هذا ملحظ آخر لم ينظر إليه الشيخ أبو إسحق وإنما نظر للمشقة فعلم من كلامه أن كلاً من المشقة والصلاح علة مستقلة يصح النظر إليها على حيالها وإذا ثبت أن المشقة كذلك كما صرح به كلامه الذي ذكرته وقياسه لذلك على أساس الجدران ثبت الاكتفاء في مسألتنا برؤية بعض المبيع لأن المشقة فيها أعظم فإن قلت ملحظ الاكتفاء برؤية ظاهره كونه صواناً خلقياً، قلت ممنوع فقد صرح المتولي بأنه لا تكفي رؤية صدف الدر وصرح الأصحاب بأنه لا يجوز بيع المسك في فأرته قبل فتحها مع أن الصوان فيهما خلقي فبطل النظر إلى مجرد كون الصوان خلقياً، وفارق هذين نحو الجوز بأن التفاوت فيهما وإن قل يؤدي إلى ضرر كبير لا يحتمل عرفاً لأنهما لنفاستهما يكون قليلهما بمال عظيم والصوان غير الخلقي في نحو الخشكنان والكعك المحشو كالخلقي، فإن قلت المقصود بالذات في مسألتنا هو المبيع وهو غير مرئي، قلت وكذلك المقصود بالذات في مسألة الشيخ هو اللب وهو غير مرئي، فإن قلت(1/362)
رؤية القشر تدل على رؤية اللب بخلاف رؤية بعض المجرى فإنها لا تدل على رؤية المنبع، قلت ممنوع فإن رؤية القشر لا دلالة لها على رؤية اللب بوجه كما يصرح به كلام المجموع بل ولا يمنع فيه ولا الجهالة به ومع ذلك لم يشترطوا رؤيته للمشقة فكذلك المبيع لا يشترط رؤيته في صورتنا لذلك الثاني كلام النووي في شرح المهذب فإنه علل عدم اشتراط قشر نحو البيض والرمان والبندق والقشر الأسفل من الجوز واللوز بأن تسليمه لا يمكن إلا بتغيير عين المبيع وهذا موجود في صورتنا لأنه لا يمكن رؤية المبيع إلا بهدم البناء الذي عليه ويحفر ما حوله من التراب المتراكم عليه، وفي ذلك تغيير تعين المبيع وهو المنبع وما عليه من البناء والمجرى الذي يجري فيه الماء منه إلى الأراضي وإنما قلنا أن ذلك هو المبيع بحسب ما ظهر لنا من أحوال أهل تلك العيون وأقوالهم، وأما فرض وقوع البيع على المنبع وحده دون المجرى فبعيد يشهد الحس بخلافه فإنا نرى واضعي الأيدي على تلك العيون يعمرون المجرى ويصلحونه ويتصرفون فيه المدة الطويلة من غير منازع ولا معارض، وهذا دليل الملك كما صرحوا به، وأما فرض وقوعه على المجرى دون المنبع فهو ممكن ولا معارض له وحكمه في الرؤية أنه يكفي رؤية بعض ذلك المجرى لأنه لا يمكن رؤية كله إلا بمشقة شديدة وتغيير لعينه بالحفر والهدم، وقد علمت مما مر عن المهذب وشرحه أن كلاً من المشقة والتغيير المذكورين دال على عدم اشتراط رؤية الجميع، ومر أن ملك المجرى دون المنبع لا يقتضي ملك الماء الجاري فيه، وإنما يكون ملك المجرى أحق بما جرى فيه الثالث تصريحهم في البئر بأنه لا يشترط رؤية كلها وليس ملحظ ذلك إلا مشقة رؤيتها وإذا سامحوا بعدم اشتراط رؤية ذلك فيها مع سهولة رؤية ذلك بنزح مائها وسد منبعها فأولى أن يسامحوا في صورتنا برؤية المستتر تحت الأرض من المنبع ومن المجرى، فإن قلت إنما سامحوا في ذلك في البئر لأنه تابع فهو كأساس الجدار ومغرس الأشجار(1/363)
كما صرحوا به، قلت لو سلمنا ذلك لكان فيها شاهد أي شاهد فإنهم لم يشترطوا نزح مائها حتى يرى محل النابع منها مع اختلاف الأغراض برؤيته لأنها تتفاوت بتفاوت كبره وصغره وغزارة مائه وقلتها وغير ذلك، ومع ذلك كله لم يشترطوا رؤيته كما يصرح به كلامهم في باب الأصول والثمار وإحياء الموات، وإذا لم يشترطوا رؤيته مع سهولتها بعض السهولة بنزح ماء البئر وسد منبعها ومع أنه لا يترتب على ذلك تغيير لعين المبيع فأولى أن لا يشترطوا في صورتنا رؤية محل النابع وما تحت الأرض من المجرى لتعذر رؤيتهما، لأن المشقة فيهما أعظم منها في البئر ولأنه لا يمكن رؤيتهما إلا بتغيير عين المبيع وقد علمت مما مر عن المجموع أن ذلك مانع لاشتراط الرؤية. الرابع قولهم لا بد في الحمام من رؤية بالوعته وألحق به الزركشي في ذلك بالوعة الدار ومعلوم أنه ليس المراد برؤية البالوعة حفر التراب عنها حتى يرى أصلها وطيها المستتر بالأرض، وإنما المراد رؤية فمها الظاهر فقط فكذلك في مسألتنا لا يشترط حفر الأرض حتى يرى ما تحتها بل الشرط رؤية ما ظهر مما يختلف الغرض برؤيته. الخامس قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/364)
الأذرعي ويشبه أن يكون اعتبار رؤية الوجهين في الثوب محله في الصفيق وغير المخيط، أما المخيط بوجهين من الجوخ والصوف النفيس ونحوهما فالظاهر أنه يكفي رؤية كل واحد من الوجهين دون المستتر منهما كما في كباب العزل ونحوها اهـ، وكان وجه بحثه هذا إن في فتق المستتر من الوجهين المنضمين نوع مشقة فإذا سامح الأذرعي في رؤية ذينك الوجهين مع أن كلام الأصحاب ظاهر في اشتراط رؤيتهما حتى في صورته فأولى أن لا يشترط رؤية المستتر في صورتنا لأن المشقة فيها أعظم على أن لنا أن نقيس صورتنا على ما قالوه في كباب العزل التي قاس عليها الأذرعي بحثه المذكور ونقول وجه اكتفائهم برؤية ظاهر الكباب مشقة نقضها ولا يتوهم أن ظاهرها يدل على باطنها لأنهما يختلفان اختلافاً كثيراً، وإذا اكتفى برؤية ظاهرها لمشقة نقضها فكذا يكتفي في صورتنا برؤية ما ظهر من المجرى دون ما استتر، فإن قلت ينافي ما ذكرت قول الزركشي أن رؤية الجدار المستور بالطين ونحوه لا تكفي إذ قد يكون بعضه لا قيمة له أو متساقطاً والقيمة تختلف بذلك، قلت هذا البحث في إطلاقه نظر وإنما يتجه إذا منع نحو الطين من معرفة ما هو مبني به هل هو حجر أو آجر أو لبن أو خشب أو قصب، لأن الغرض يختلف بذلك حينئذ، أما إذا عرف أنه مبني من حجر مثلاً بأن يرى بعضه ورآه قائماً من غير ميل أو مائلاً ورضي به فلا وجه لاشتراط إزالة ذلك الساتر لأن الأغراض لا تختلف بوجوده وعدمه حينئذ، وقوله إذ قد يكون بعضه لا قيمة له أو متساقطاً والقيمة تختلف بذلك يرد بأن القيمة وإن اختلفت به إلا أن رؤية الجدار مستوراً أو مائلاً يعلم بها ما فيه من الخلل وعدمه فلا يحتاج لإزالة سترته لأنه إذا علم ما هو مبني به ورآه مستوياً أو مائلاً لم يفده إزالة سترته شيئاً لم يكن حاصلاً قبل الإزالة فلا وجه لاشتراطها. السادس قول الكافي ضابط ما يشترط فيه الرؤية أن يرى من المبيع ما يختلف معظم المالية باختلافه وهو معنى قولهم تعتبر(1/365)
الرؤية في كل شيء بحسب ما يليق به عند أهل العرف فالعرف مطرد في صورتنا بأنهم لا يرون فيها غير ما قدمناه ولا يتشوّفون قط إلى رؤية المنبع ولا إلى رؤية ما استتر من المجرى لتعذر ذلك أو تعسره كما مر. السابع قولهم في إجارة الحمام والبيع مثلها في اشتراط الرؤية كما صرحوا به يشترط رؤية وجهي الدست الذي يسخن فيه الماء إن أمكن رؤيتهما وإلا كفى ما يمكن رؤيته، وهذا نص صريح في صورتنا أن ما لا يمكن رؤيته لا يشترط وليس المراد بسلب الإمكان في عبارتهم استحالة ذلك بل لحوق المشقة فيه لو اشترطنا رؤية وجهيه فإنه لا يمكن ذلك غالباً إلا بهدم بعض البناء الذي على الدست وفي هدمه مشقة وتغيير لعين المستأجر وكذلك لا يمكن رؤية المبيع في مسألتنا إلا بهدم بعض البناء الذي عليه وفيه مشقة وتغيير لعينه فكذلك لا يوجبون في صورتنا لأن المشقة والتغيير فيها أكثر.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/366)
(تتمة) مر ما يعلم منه أنه لو باع واحد من الشركاء في النهر الأرض المملوكة مطلقاً لم يدخل الشرب في المبيع لأنه ملك منفصل عنه لا يتناوله إطلاق اسم المبيع فإن قال بحقوقها الداخلة فيها والمنفصلة عنها دخل. قال السبكي : وبيع حق الماء من الأمور التي تعم بها البلوى في الشام فإن غالب بيوتها لها حقوق ماء من مجار وقنوان تنتهي إلى الأنهار الكبار فإن بيعت الدار بحقوقها فلا إشكال في ذلك، وإن اقتصر على بيع الماء فهو باطل والوراقون يحتالون في ذلك فيجعلون المبيع جزءاً معلوماً من خشبة يجري فيها الماء ومالها من الحقوق وذلك باطل أيضاً، لأن ذلك لا يمكن ضبطه بجزء معلوم من النهر وأيضاً النهر غير مملوك لبيت المال ولا لغيره بل هو مباح لجميع الخلق فلا يجوز بيعه لاشتداد الحاجة إليه كما أجمعوا على المنع من إقطاع مشارع الماء لاحتياج الناس إليها ومذهبنا أن للنهر حريماً ورأيت في ديار مصر من الفقهاء من يستنكر العمائر التي على حافات النيل ويقول لا يجوز إحياؤها، وهذا عمت به البلوى في جميع البلدان وإذا رأينا عمارة على حافة نهر لا نغيرها لاحتمال أنها وضعت بحق، وإنما الكلام في الابتداء أو ما عرف حاله اهـ، وفيه فوائد تتعلق بهذا الباب وببعض الأبواب السابقة فلذلك أخرته إلى هنا فمن ذلك قوله فإن بيعت الدار الخ، فإنه يعلم منه مع ما قررته قبله أول التتمة أن الأرض المستحقة لشرب مملوك من نهر أو عين إذا بيعت لا يدخل شربها إلا إن نص عليه أو قال بحقوقها بخلاف شربها غير المملوك فإنه يتبعها مطلقاً كما مر ذلك في الباب الخامس وهذا التفصيل لا يفيده كلام السبكي بل ظاهر كلامه أن حقوق الدار من المجاري والقنوات المذكورة لا تدخل في بيعها إلا إن قال بحقوقها وليس هذا على إطلاقه بل فيه هذا التفصيل على أن كلام السبكي ظاهر أو صريح في أن تلك الحقوق ليست مملوكة وإذا كانت غير مملوكة دخلت في بيع الدار، وإن لم يقل بحقوقها وقوله والوراقون(1/367)
يحتالون الخ، نظيره احتيال الوراقين في مكة على بيع الماء فإنهم يجعلون تلك الحيلة السابقة في السؤال وهي إيقاع البيع على جميع الحصة السقيه التي قدرها ساعتان مثلاً من قرار عين كذا بما للحصة المذكورة من حق الخ ما مر، لكن الفرق بين الحيلتين أن حيلة الشاميين باطلة مطلقاً لما قاله السبكي من أن الجزء المعلوم من الخشبة التي يجري فيها الماء من النهر لا يمكن ضبطه بجزء معلوم من النهر، وأن النهر غير مملوك بخلاف حيلة المكيين فإنها تصح في أحوال وتبطل في أحوال كما مرت لك كلها واضحة مفصلة لأنهما إن أرادا بالساعتين جزءاً معلوماً من القرار المملوك أو كان ذلك عرفهما انتفى ما قاله السبكي من سبب البطلان في حيلة الشاميين، لأن المكيين يريدون بالقرار المنبع والمجرى وهما مملوكان والجزء الذي يقع عليه البيع منهما معلوم مضبوط ولو فرض أنهم أرادوا بالقرار المجرى وحده أو المنبع صح البيع أيضاً لوقوعه على جزء معلوم مضبوط إلا أن الأوّل يستلزم ملك الماء بخلاف الثاني فإنه إنما يستلزم استحقاقه كما مر ذلك مبسوطاً، وقد تقرر لك أن عيون الحجاز مملوكة منبعاً ومجرى وأنه يصح بيعها وإن كان بعضها غير مرئي، فإن قلت هل من حيلة المكيين صورة صحيحة على كل تقدير قلت نعم بأن يرد البيع على محل النابع والمجرى بلفظ لا إيهام فيه كبعتك قرار عين كذا منبعاً ومجرى أو مبيعاً فقط أو مجرى فقط لكن إذا وقع على المبيع وحده لا يستحق الإجراء في المجرى المملوك وإذا وقع على المجرى وحده لا يستحق شيئاً من ماء المنبع المملوك فالأحوط إيقاع البيع على المنبع والمجرى معاً، ومر في عبارة
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189(1/368)
الشيخين في إحياء الموات وغيره عن البغوي أنه لا يصح البيع فيما إذا باع بئر الماء وأطلق أو باع داراً فيها بئر ماء أنه لا يصح البيع حتى يشترط أن الماء الظاهر للمشتري لئلا يختلط الماءان، فإن قلت يمكن أيضاً تمحل حيلة للشاميين، قلت أما في صورة السبكي المذكورة فلا يمكن لأن تلك الخشبة لا حق لها في ذلك فلو فرض صحة وقوع البيع على جزء معلوم مضبوط منها لم يفد استحقاق شيء من الماء وليس القصد بالحيلة هنا مجرد صحة البيع بل البيع الصحيح المستلزم تلك الماء أو استحقاقه وقد علمت استحالة هذا في صورة السبكي ، أما الملك فلأن الماء غير مملوك وكذلك محله لأن ذلك النهر من الأنهار العامة وقد مر في عبارة الأنوار أنه لا يملك مطلقاً، وأما الاستحقاق فلأن تلك الخشبة التي وقع البيع عليها لا استحقاق لها في ذلك النهر وإنما الاستحقاق للدور فاتضح أنه لا حيلة لهم في ذلك.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 189
الباب السابع:
في حكم القاضي وفيه فصلان)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198
(الفصل الأول)(1/369)
في بيان الحكم بالموجب والحكم بالصحة وما يتفرع عليهما من المسائل وما يستدعي أنه من المقدمات والتتمات والداعي إلى هذا الباب أن بعض المفتين السابقين لتقدمه عليهم في المعرفة والتصوّر وإتباعهم له في الخطأ والتهور زاد عليهم لما عذل، وقيل له كيف تقول ببطلان البيع مطلقاً والقاضي فلان قد حكم بموجبه وهو من الجلالة والعلم بالمحل الذي لا ينكر فقال معتذراً إفتائي ببطلان البيع مطلقاً ليس فيه معارضة لحكم الحاكم المذكور لأنه حكم بموجب البيع ومن موجبه في هذه الصورة الفساد، إذ معنى الحكم بالموجب الحكم بموجب تلك الصيغة من الفساد والصحة فنحن لم ننقض حكم الحاكم المذكور بل عملنا بقضيته وقضيته في هذه الصورة الفساد لفساد الصيغة فيها اهـ كلام هذا المفتي بمعناه بحسب ما بلغني عنه وسيتضح لك زيفه وفساده كيف وهو مخالف لمن تكلم على ذلك من أكابر الأصحاب كشريح الروياني ومن أكابر المتأخرين كالسبكي والبلقيني والولي أبي زرعة وستأتيك الصرائح الكثيرة الشهيرة من كلامهم بالرد على هذا المفتي ومن تبعه من الأغبياء الجامدين على ظاهر عبارة وقعت في نحو أدب القضاء للغزي من غير أن يفحص عن أصلها بل ولا فهمت على وجهها كما يتبين لك ذلك كيف وشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده ممن عبر بها، وقد صرح في شرح الروض بما يوافق كلام الأئمة المذكورين من أن الحكم بالموجب يستلزم الحكم بصحة الصيغة وسأملي عليك من ذلك جملاً مستكثرة وإن احتاج ذلك إلى طول لأن الكلام على ذلك مهم جداً فإنه ليس في كتب الفقه إلا الإشارة إليه مع شدة الحاجة إلى بيانه وتحقيقه كيف والحكام من المذاهب لم يزالوا يختلفون في معنى هذين الحكمين وما يتعلق بهما نقضاً وإبراماً وآثاراً وإلزاماً ففرغ ذهنك لعلك أن تفهم هذا المقام وتسلم مما وقع فيه من غلبة هواه ونفسه من الزلل والملام، واعلم أن الكلام في ذلك يستدعي مقدمات ولواحق فلا يسئمنكَ ذلك فإن فيه فوائد فريدة ونفائس(1/370)
عديدة، فأقول الحكم لغة القضاء والإبرام والاتقان والمنع والإحاطة واصطلاحاً هنا ما يصدر من متول عموماً وخصوصاً راجعاً إلى عام من الإلزامات السابقة له في القضاء على وجه مخصوص، والصحة لغة زوال العلة واصطلاحاً موافقة ذي الوجهين الشرع وقوعاً أو استتباع الغاية أو ترتب الغرض المطلوب من الشيء أو الاعتداد بالشيء على ما حرر في الأصول واختار
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198
السبكي أنها صفة لازمة للصادر من الإنسان بما يعتبر في نفيه الفساد عنه قال فخرج بلازمة الاستقراء واللزوم والقبول ووقف العقود فليس شيء من هذا بلازم للصادر المذكور ولا يلزمه غير وصف الصحة، ومن ثم قال الإمام الموقوف في بيع الفضولي على القول به الملك لا الصحة وخرج بالإنسان ما صدر من الله تعالى أو ملائكته وكذا من الأنبياء في التشريع والإبلاغ فلا يوصف بالصحة بل بالحق ونحوه أو من الجن، لأنا لا ندري حالهم في التكليف أو من البهائم فلا يوصف بصحة ولا فساد والحاصل أنه لا يوصف بالصحة إلا ما يمكن وصفه بالفساد إذا تقرر ذلك فالحكم بالصحة عبارة عن إظهار المتولي قضاءه بنحو حكمت في أمر ثبت عنده وجوده بشرائطه الممكن ثبوتها أن ذلك الأمر صدر من أهله في محله على الوجه المعتبر عنده في ذلك شرعاً، وأما في موجب الشيء بفتح الجيم فهو عبارة عن الأثر المترتب على ذلك الشيء وحينئذ فالحكم بالموجب هو إظهار المتولي قضاءه بأمر ثبت عنده أو بالإلزام بما يترتب على ذلك الأمر منه على الوجه المعتبر عنده في ذلك شرعاً ثم الموجب منه ظاهر وخفي فإن استحضر الآثار كلها وعينها في حكمه فظاهر وإلا فكذلك على الأرجح إذا كان الحاكم مقلد المذهب يرتبط به فمهما كان موجبه في ذلك المذهب تناوله الحكم واعلم أن الموجب والمقتضي مختلفان خلافاً لمن زعم اتحادهما إذ المقتضي لا ينفك والموجب قد ينفك فالأول كانتقال الملك للمشتري بعد لزوم البيع والثاني كالرد(1/371)
بالعيب، فالموجب أعم وأفهم التعبير في الحد بالإظهار أن الحكم ليس إنشاء من كل وجه ويدل عليه قول الشافعي رضي الله عنه في الرسالة في ترجمة الحجة في تثبت خبر الواحد، ألا ترى قضاء القاضي على الرجل للرجل إنما هو خبر يخبر به عن بينة ثبتت عنده أو إقرار من خصم أقر به عنده فأنفذ الحكم فيه وهذا نص صريح في أن الحكم إخبار أي فيه شائبة منه لأن الإنفاذ الذي هو الإنشاء تضمن إخباراً عن مستند الحكم السابق فمن هذه الحيثية يكون خبراً لاحتماله الصدق إن وجد ذلك المستند الشرعي والكذب إن لم يوجد ومن حيث الإنفاذ يكون إنشاء، إذ لا يحتمل صدقاً وكذباً من هذه الحيثية وإنما يوصف بالصحة والفساد والبطلان بخلاف العقود فإنها محض إنشاء إذ لا تتضمن الإخبار عن شيء سبق وبهذا يعلم أن الأصح أن تصرف القاضي بمجرده لا يكون حكماً لأنه الإلزام بشيء وقع والعقد إلى الآن لم يقع بخلاف تصرفه في قضية رفعت إليه وطلب منه فصلها فإنه حكم بصحة ذلك التصرف لتضمنه الإخبار عن شيء سبق وهو استيفاء تلك القضية لشروطها، وإنما لم ينظروا إلى ذلك في مجرد لأنه لا قرينة عليه ظاهرة وهنا عليه قرينة وهي رفع القضية إليه وطلب فصلها منه وعلى هذا التفصيل يحمل قولهم في مواضع أن تصرفه حكم وقولهم في مواضع أخرى أنه ليس بحكم فتأمل ذلك فإنه مهم وقد مرت مني إشارة إليه في الجواب المختصر السابق في المقدمة ثم رأيت
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/372)
السبكي قال: تصرف الحاكم حكم قطعاً كالحكم بالصحة والموجب أو غير حكم قطعاً كسماع البينة أو فيه تردد، والأرجح أنه غير حكم كما إذا باع أو زوّج والأرجح أنه حكم كفسخه لنحو بيع بنفسه وخرج بالقضاء في التعريف الثبوت فليس بحكم بالثابت على الأصح عندنا وعند المالكية والحنابلة خلافاً لمن ذهب إلى أنه حكم والتحقيق أنه بالنسبة إلى تعديل البينة وقبولها وجريان ذلك المشهود به حكم، وأما بالنسبة إلى الإلزام فلا لأنه لم يوجد الإلزام وفائدة الثبوت عند الحاكم عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر في البينة وحكمه جواز نقله فوق مسافة العدوى، وأما صحة ذلك الأمر فلا دلالة عليها لأن الحاكم قد يثبت الشيء ثم ينظر كونه صحيحاً أو باطلاً، ولهذا اختار السبكي التفصيل بين أن يثبت الحق أو السبب فإنه يثبت بسببه كقوله ثبت عندي أن زيداً وقف هذا فليس بحكم لأنه يتوقف بعد ذلك على نظر آخر وهو أن الوقف صحيح أولاً وإن ثبت الحق كقوله ثبت عندي أن هذا وقف على زيد فهو في معنى الحكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه ولا يحتاج إلى نظر آخر وإن لم توجد صورة الحكم فيه، وبذلك ظهر أن المدعي لو طلب في القسم الأول من الحاكم أن يحكم له بلزومه لم يلزمه حتى يتم نظره في صحة الوقف فإنه قد يكون على نفسه أو منقطع الأول وفي الثاني يلزمه لأنه بعد ثبوت الحق يلزمه الحكم به قطعاً قال ورجوع الشهود بعد الثبوت لم أره منقولاً والذي اختاره أنه في القسم الثاني كالرجوع بعد الحكم فلا يمنع الحكم وفي الأول يمنعه ونقل الثبوت في البلد فيه خلاف والمختار عندي في القسم الثاني القطع بجواز النقل وتخصيص محل الخلاف بالأول والأولى فيه الجواز أيضاً وفاقاً للإمام تفريعاً على أنه حكم بقبول البينة. قال في شرح المنهاج والثبوت المجرد جائز في الصحيح والفاسد فإذا أراد الحاكم إبطال عقد فلا بد من ثبوته عنده حتى يجوز له الحكم بإبطاله، ومعنى الثبوت المجرد في العقد الصحيح أنه ظهر للحاكم(1/373)
صدق المدعي ويستثني من جواز الثبوت قول الجرجاني لا يجوز التسجيل بالفسق لأن الفاسق يقدر على إسقاطه بالتوبة فلا فائدة فيه. قال الغزالي: ولعله عند عدم الحاجة إلى ذلك فأما عندها كإبطال نظره فيتجه الجواز والتوبة إنما تمنع في المستقبل لا الماضي ويجوز التنفيذ ولو من غير دعوى وحلف في نحو ميت وغائب وأفهم التعريف أن القضاء مرادف للحكم وقد يغايره فيطلق القضاء على ما فيه من الأخبار والحكم على ما فيه من الإلزام وعكسه باعتبار أن حكم الله في الواقعة قضاء وإلزام به، وعلم من الممكن ثبوتها السابق في التعريف أن جميع الشروط لا يعتبر ثبوتها في الحكم بالصحة أو الموجب فإن جملتها في البيع مثلاً القدرة على التسليم أو التسلم فلا يكلف أحد من الخصمين إثبات انتفاء نحو الغصب والرهن مما ينافي تلك القدرة لتعذره أو تعسره، ويفرق بين هذا واشتراط انحصار الإرث بأن هنا قرينة ظاهرة على انتفاء ذلك وهي وقوع البيع المقتضى عادة وروده على ما وجدت فيه شرائطه بخلاف انحصار الإرث فإنه لا قرينة عليه ظاهرة ولا خفية فاحتيج لثبوته ولا ينافي ذلك كتابة الموثقين طائعاً مختاراً في صحته وسلامته، لأن هذا زيادة في التأكيد وليس بشرط في الحكم بنحو بيع أو إقرار بل يقضي عليه مع عدم ذكر ذلك فإن ادعى إكراهاً لم يصدق إلا بقرينة تدل على الإكراه والمعتبر غالباً في التسجيلات بالحكم بالصحة في الوقف ونحوه إثبات اليد والحيازة اكتفاء بشهرة الصادر منه ذلك ورشده وطلب الحكام الشهود في النكاح وخلو الزوجة من الموانع زيادة احتياط للإبضاع. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/374)
السبكي وقولنا، أي في التعريف السابق للحكم بالصحة أن ذلك صدر من أهله في محله هو محط الحكم بالصحة ومن هنا يظهر الفرق بينه وبين الحكم بالموجب بأنه مر في تعريفه أن القضاء بالإلزام بالمترتب العام أو الخاص فالإلزام به من جهة الخصوص يتضمن صحته بالنسبة إلى ذلك الخاص لا مطلقاً ومن ذلك يظهر بين الحكم بالصحة والموجب فروق: أحدها: أن الحكم بالصحة منصب إلى نفاذ ذلك الصادر. الثاني: أن الحكم بالصحة لا يختص بأحد والحكم بالموجب يختص بالمحكوم عليه به. الثالث: أن الحكم بالصحة يقتضي استيفاء الشروط والحكم بالموجب إنما مقتضاه ثبوت صدور ذلك الشيء والحكم على المصدر بموجب ما صدر منه ولا يستدعي ذلك ثبوت أنه مالك مثلاً ولا بقية ما يعتبر في الحكم بالصحة وبهذا صار خالصاً لأن القصد حينئذ الحكم على البائع أو الواقف مثلاً بموجب ما صدر منه لا إثبات أنه ملكه إلى حين البيع أو الوقف مثلاً وهذا إذا حكم القاضي على البائع أو الواقف بموجب ما صدر منه، فأما إذا شهد عنده أن هذا وقف أو هذا مبيع أو هذه منكوحة فلان، فإن الحاكم يحكم بموجب شهادتهم ويكون ذلك متضمناً للحكم بصحة الوقف ونحوه فليعرف الفقيه الفرق بين الشهادة بالصدور أو المصدر أو اسم المفعول وليقس على ذلك وإذا كان الحكم بالموجب مستوفياً لما يعتبر في الصحة كان أقوى لوجود الإلزام فيه وتضمنه الحكم بالصحة والحكمان كما افترقا في أمور يجتمعان في أمور بينهما عموم وخصوص من وجه فإن صح الصادر اتفاقاً في موجبه لم يمنع الحكم بالصحة فيه العمل بموجبه عند غير الحاكم بها مثاله التدبير صحيح اتفاقاً وموجبه عند الحنفي منع البيع فلو حكم بصحته جاز للشافعي الحكم بموجبه عنده ومنه جواز البيع أي لأنه لا تعارض بين الحكمين بخلاف ما لو حكم بموجبه، فإن الحكم بالبيع يمتنع على الشافعي للتعارض حينئذ، ومما يفترقان فيه أن كل دعوى كان المطلوب فيها إلزام المدعي عليه بما أقر به أو قامت به البينة(1/375)
فالحكم فيها حينئذ بالإلزام وهو الموجب لا بالصحة ولكن الحكم به يتضمن الحكم بصحة الإقرار ونحوه ومن ذلك الحكم على زان بموجب زناه فإنه يكون بالموجب لا بالصحة وهذا ضابط حسن والحكم بالحبس حكم بالموجب لا بالصحة إلا أن اختلف فيه وطلب الحكم بها بطريقه ولو حكم بالموجب حينئذ كان متضمناً للحكم بصحة الحبس المختلف فيه ومما يفترقان فيه أيضاً أن الحكم بتنفيذ الحكم المختلف فيه يكون بالصحة ولو من مخالف يجيز التنفيذ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/376)
في المختلف فيه لا بالموجب إلا من موافق، لأن الحكم بالموجب إلزام بذلك الشيء وهو ممتنع من المخالف لأنه حينئذ يكون مبتدئاً الحكم فيه ولا يبتدىء الحكم بما يرى غيره أصوب منه ووقع في الأم نصان أن من رفع إليه حكم لا يراه وهو مما لا ينقض نص أنه يتخير بين أن يحكم به أو لا، ونص أنه لا يحكم به والأول محمول على الحكم بالصحة والثاني على الحكم بالموجب ويجتمعان في أمور: منها: أنه لا ينقض الحكم بواحد منهما إذا لم يخالف نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً جلياً وإنما استويا في عدم النقض لتضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة إما عاماً عند استيفاء الشروط أو خاصاً بالنسبة إلى المحكوم عليه بذلك، نعم إن وقع الحكم بالموجب غير مستوف لشروط الحكم به جاز لمن لا يراه نقضه لأنه حكم مختلف فيه وهو غير الحكم المختلف فيه فإن حكم حاكم بصحة ذلك الحكم المختلف فيه امتنع نقضه وهذا تحقيق يتعين التنبيه عليه. ومنها: جواز نقلهما وإن بعدت المسافة بخلاف الحكم بسماع البينة على ما فيه مما ليس هذا محل بسطه. ومنها: لو حكم حنفي بموجب إخراج القيمة في الزكاة وهو سقوط الفرض بذلك أو بصحة إخراجها كانا سواء فيمتنع على الساعي المخالف أن يطالب المالك بإخراج غير القيمة أو شافعي لوارث نازعه وصي في الصوم وطلب إخراج طعام بدله عن ميت بصحة صومه أو بموجبه امتنع على الوصي إخراج الطعام ومطالبة الوارث أو حنبلي لمن فسخ حجه إلى العمرة بشرطه فلم تمكنه الزوجة بصحة ذلك الفسخ أو بموجبه فيلزمها تمكينه ولا يقع الحكم بأحدهما في نحو طهارة استقلالاً بل تبعاً كتعليق عنق بطهر مّا فإذا حكم حاكم بصحة الطلاق أو بموجب ما صدر من المعلق تضمن ذلك الحكم بطهارة الماء ولو حكم حاكم بعدالة من يصلي المكتوبة مع مس فرج أو عدم قراءة الفاتحة مثلاً كان متضمناً للحكم بصحة وضوئه أو صلاته ولا يتصور الحكم إقامة الجمعة فيه فالحكم على المعلق بقضية تعليقه يتضمن الحكم بصحة إقامة الجمعة فيه(1/377)
بالنسبة لإلزام ذلك الشخص لا مطلقاً وجميع الأملاك يدخلها الحكم ويحكم إذا اعتقد ملكاً بصحة ملكه ويحكم بموجب ما قامت به البينة عنده في ذلك على معتقده فيستوي في ذلك الحكمان والمعاملات كالبيع بأنواعه يدخلها الحكم بالصحة والحكم بالموجب يتضمن أشياء لا يتضمنها الحكم بالصحة كالإلزام بمجرد العقد إذا كان الحاكم ممن لا يثبت خيار المجلس وإن قلنا أن لغيره نقضه وكإلزام بالإقباض وغيره مما يوجبه عقد البيع وعلى هذا لا ينتفي الحكم بموجب البيع مطلقاً على قصد الإلزام بالإقباض إلا إذا ثبت عنده أنه لا حبس للبائع ويجوز أن يحكم بالموجب فيما ذكر بالنسبة لما يقتضيه الحال لا مطلقاً لئلا يكون ملزماً بما لا يلزم والحكام يتساهلون في ذلك ولو حكم حنفي بموجب بيع بعد ثبوت ملك البائع وأنه من أهل التصرف لم يكن ذلك حكماً منه بصحة البيع بل بالملك إن وقع بعد قبض المشتري، لأن الفاسد عنده يفيد الملك وله أن يحكم هنا استقلالاً بالملك أو بموجب ما جرى لا بصحة البيع ولا بصحة القبض وجميع الفسوخ يدخلها الحكمان وكل يمين وإلزام فيما لم يقع لا يحكم فيه بالصحة بل بموجبها وهو الإلزام وإذا حكم بموجب القرض ومن عقيدته ملكه بالقبض ومنع رجوع المقرض في عينه بعد القبض امتنع أو بصحته لم يمتنع لأن صحته لا تنافي الرجوع فيه أو بموجب الرهن أو الإلزام بمقتضاه امتنع على المخالف الحكم بشيء من الآثار التي لا يقول بها ذلك الحاكم أو بصحته لم يمتنع على المخالف ذلك ولا يدخل الحكم بالصحة حجر صباً أو جنون أو سفه لما مر أنه لا يوصف بها إلا ما يصح وصفه بالفساد والحجر حكم الشرع وإنما يدخله الحكم بالموجب فلو دبر أو أوصى فحكم شافعي بموجبه امتنع على غيره الحكم بما يخالف ذلك ولو حكم من يرى صحة تدبيره بموجب حجر الصبي لم يتناول الحكم بصحة تدبيره وحجر المرض يدخله الحكم بموجبه في مواطن الاختلاف فإذا وجد فمن يمتنع إقراره لوارث امتنع على الشافعي الحكم بصحة(1/378)
إقراره للوارث ولو حكم حاكم بموجب حجر المرض لم يتناول الحكم بموجب إقراره للوارث فلا يمتنع على المخالف إبطاله لأن الحكم بالموجب إنما يتناول ما كان على المحكوم عليه لا ما كان له. ألا ترى أن الحكم بموجب البيع على البائع يتناول ما كان عليه دون ماله من الملك ونحوه فتأمل ذلك وقس عليه، ولأن إقراره للوارث أن تقدم على الحكم فالعلة فيه ما ذكر وإن تأخر فالحكم لا يتناول التصرفات المتجددة وإنما يتناول الموجب الذي هو الأثر لا التصرف الجديد ويدخل الحكمان أيضاً في بقية المعاملات كالإقرار، أما الحكم بالصحة فظاهر لأنه قد يصح وقد يفسد فبالحكم بصحته يظهر أنه وجدت جميع شروطه المصححة له ولو كان الإقرار ببيع عين فهل يتضمن الحكم بالإقرار الحكم بصحة المقر به. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/379)
الهروي: لا يتضمنه على ظاهر المذهب والأرجح أنه يتضمنه لأنه لا يحكم بصحة الإقرار إلا بعد أن يثبت عنده صدوره من أهله في محله، وأما الحكم بالموجب فهو ترتب آثاره عليه الموافقة لعقيدة الحاكم فإذا حكم بموجب إقرار الوالد ومن عقيدته أنه لا يرجع امتنع عليه الرجوع بعد الحكم أو أنه يرجع لم يكن ذلك حكماً له بالرجوع، لأن الحكم بالموجب يقتضي ترتب آثاره على المحكوم عليه دون ثبوتها له هذا الازيادات في خلاله ملخص كلام السبكي في كتاب له مستقل في ذلك لكن النسخة التي رأيتها لا تخلو من سقم فلذا حذفت منها كثيراً مع فهم أكثره مما ذكرته، وفيه الدلالة لبطلان ما قدمته عن ذلك المفتي من وجوه ظاهرة لمن له أدنى بصيرة منها ما مر في تعريف الحكم بالموجب فإنه قاض بأنه لم يتصوّر الحكم بالموجب وإلا لم يفسره بما مر عنه، ومنها قوله فالإلزام به من جهة الخصوص يتضمن صحته الخ وفي هذا من الظهور على بطلان ذلك الإفتاء ما لا يخفى، ومنها قوله فأما إذا شهدا عنده أن هذا وقف أو هذا مبيع وهذه منكوحة فلان، فإن الحاكم يحكم بموجب شهادتهم ويكون ذلك متضمناً للحكم بصحة الوقف ونحوه فليعرف الفقيه الخ، وهذا هو صورة مسألتنا المذكورة في السؤال السابق في المقدمة، فإن الحاكم لا يحكم فيها إلا بموجب ما شهد به الشهود من البيع وقد علمت أن الحكم بموجب الشهادة حينئذ متضمن للحكم بصحة البيع كما صرح به هذا الحبر الذي لم يأت بعده في المتأخرين من يدانيه فضلاً عن أن يساويه لو فرض مخالفتهم له فكيف وهم وافقوه كما ستعلمه من كلامهم الآتي وهذا كله ينبيك أن ذلك المفتي قد بادر قبل التأمل في هذه القضية بإبراز ما مر عنه أول هذا الباب مما كان غنياً عن إبرازه فإن عليه عاره وشناره ما بقي هذا الكتاب، ومنها قوله فالحكم فيها حينئذ بالإلزام وهو الموجب لا بالصحة ولكن الحكم به يتضمن الحكم بصحة الإقرار ونحوه، ومنها قوله ولو حكم بالموجب حينئذ كان متضمناً للحكم بصحة(1/380)
الحبس المختلف فيه، ومنها قوله لا ينقض الحكم بصحة الإقرار ونحوه ومنها قوله لا ينقض الحكم بواحد منهما، وإنما استويا في عدم النقض لتضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة إما عاماً الخ. ومنها قوله أو بموجب ما صدر من المعلق تضمن ذلك الحكم بطهارة الماء، ومنها قوله ويحكم بموجب ما قامت به البينة عنده في ذلك على معتقده فيستوي فيه الحكم بالصحة والحكم بالموجب، ومنها قوله والحكم بالموجب يتضمن أشياء لا يتضمنها الحكم بالصحة كالإلزام بمجرد العقد الخ، فهذه كلها صرائح في بطلان ذلك الإفتاء ومعلنة بأن المفتي له لم يلحظ في ذلك الإفتاء غير حدسه وهو يسه، وكلام السبكي كله ناطق بأن الحكم بموجب صيغة متضمن للحكم بصحتها فتأمله، وتنبه لما ذكرته لك من تلك الوجوه على ما لم أذكره ثم بعد ذلك اقض على إفتاء ذلك المفتي بما ينشرح له صدرك وكيف يتوهم من له أدنى ذوق أن معنى الحكم بموجب صيغة ما ذكره من الصحة والفساد مع حده بما مر، وقولهم أنه يتناول الآثار بشرطها وأنه يمنع المخالف من التعرض لشيء من تلك الآثار ومع ما قرره
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/381)
السبكي فيه من جميع ما تلى عليك فمع هذه الصرائح لا يفسر الحكم بالموجب بما مر عن ذلك المفتي إلا من انطمست بصيرته وفسدت طويته أسأل الله تعالى العافية لي ولأحبابي في الدنيا والآخرة ومما يبطل ذلك الإفتاء أيضاً ما أفتى به السبكي لما سئل عن امرأة وقفت داراً ذكرت أنها بيدها وملكها وتصرفها على ذريتها، وشرطت النظر لنفسها ثم لولدها وأشهد حاكم شافعي على نفسه بموجب الإقرار المذكور وثبوت ذلك عنده وبالحكم به ونفذه شافعي آخر فأراد حاكم مالكي المذهب إبطال هذا الوقف بمقتضى شرطها النظر لنفسها واستمرار يدها عليها، ومقتضى كون الحاكم لم يحكم بصحته وأن حكمه بالموجب لا يمنع النقض وأفتاه بمصر بعض الشافعية بذلك تعلقاً بما ذكره الرافعي عن أبي سعيد الهروي في قول الحاكم صح ورود هذا الكتاب عليّ فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه أنه ليس بحكم وصوب الرافعي ذلك فقال في جوابه الصواب عندي أنه لا يجوز نقضه سواء اقتصر على الحكم بالموجب أم لا؟ أي فإن حكم بالصحة فلا وليس هذا الحصر في شيء من كتب العلم فليس من شروط امتناع النقض أن يأتي الحاكم بلفظ الحكم بالصحة، قال: ولأن الحكم بموجب الإقرار يستلزم الحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر فإذا حكم المالكي ببطلان الوقف استلزم الحكم ببطلان الإقرار وببطلان المقر به في حق المقر، قال: ولأن الاختلاف بين الحكم بالصحة بالموجب إنما يظهر فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقاً على كل أحد، أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر والحكم بموجبه كذلك، قال: وأما ما نقله الرافعي عن الهروي فالضمير في قوله موجبه عائد على الكتاب وموجب الكتاب صدور ما تضمنه من إقرار أو تصرف أو غير ذلك وقبوله وإلزام العمل به هو أنه ليس بزور وأنه مثبت الحجة غير مردود ومن ثم يتوقف الحكم بها على أمور أخر منها عدم معارضته بينة أخرى كما صرح به الهروي في بقية كلامه وغير ذلك، ولذلك قال الرافعي الصواب أنه(1/382)
ليس بحكم ونحن نوافقه على ذلك في تلك المسألة، أما مسألتنا هذه فالحكم بموجب الإقرار الذي هو مضمون الكتاب ولم يتكلم الرافعي ولا الهروي فيه بشيء فزال التعلق بكلامهما اهـ فتأمل ما حققه هذا الإمام ونقحه وبين به مراد الرافعي والهروي وأن تمسك ذلك المفتي بكلامهما خطأ وأن انحصار امتناع النقض في الحكم بالصحة لم يوجد في شيء من كتب العلم وأن الحكم بموجب الإقرار يستلزم الحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر، وأن الحكمين إنما يفترقان فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقاً على كل أحد، أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر والحكم بموجبه كذلك وبعد أن اتضح لك ذلك تعلم فساد ما وقع لذلك المفتي السابق كله أول هذا الباب، إذ الحكم بموجب الإقرار كما استلزم الحكم بصحته من حيث الصيغة كذلك الحكم بموجب البيع يستلزم الحكم بصحته من حيث الصيغة وأيضاً فالبيع في مسألتنا كالإقرار في مسألة السبكي من حيث إنهما خاصان إذ الحكم فيهما على المقر والبائع دون كل أحد، وقد بين السبكي كما علمته من كلامهم ومن كلامه الذي سقته أوّلاً أن الحكم بالصحة والحكم بالموجب في هذا سواء فتفطن لذلك واستفده فإن مثل هذا مما يجب أن يستفاد وأن يتوجه إليه المتفقه بكليته لئلا يزل قدمه ويطغى قلمه كما وقع لذلك المفتي وفقنا الله وإياك لإدراك الصواب بمنه وكرمه آمين، وللولي
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/383)
أبي زرعة العراقي تصنيف حسن في الحكم بالصحة والحكم بالموجب وكلامه فيه صريح بأنه لم ير كتاب السبكي ولا إفتاءه اللذين ذكرتهما لك من أول الباب إلى هنا وذلك أنه نقل عن شيخه البلقيني فروقاً بينهما وهي في كلام السبكي وسألخص تصنيفه وأنبه على ما وافق فيه السبكي وما خالفه وأبين ما في كلامه مما يرد على ذلك المفتي ويبين بطلان كلامه قال: عهدنا الحكام على طريقة في الحكمين وهي الحكم بالصحة عند قيام بينة عادلة باستيفاء شروط العقد المحكوم به وبالموجب إذا لم تقم باستيفاء شروطه فهو عندهم أحط رتبة من الحكم بالصحة ويرد عليهم أن عملهم هذا يدل على أن الحكم بالموجب لا يزيد على مجرد الثبوت لكن ما زالوا يرون له تمييزاً على مجرد الثبوت وأن الراجح فيما لو طلب جمع بيدهم أرض من قاض قسمتها بينهم من غير إقامة بينة على أنها ملكهم لا يجيبهم. قال شيخنا البلقيني : تخرج من هذا أنه لا يحكم بالموجب بمجرد اعترافهما بالبيع ولا بمجرد قيام بينة عليهما بما صدر منهما، لأن المعنى الذي قيل هنا يأتي هناك وفيما قاله نظر فإنهم قد لا يكونون مالكين فيكون متصرفاً في ملك غيره بغير إذنه، وأما الحكم فإنما هو في تصرف صدر من غير الحاكم ورفع إليه فقد يحكم بصحته وقد يحكم بموجبه والاصطلاح أن الأول يكون عند قيام البينة باستيفاء الشروط، والثاني يكون عند إهمال البينة ذلك فأما لو قامت البينة بوقوعه على خلاف الشروط المعتبرة فإنه لا يحكم بصحة ولا موجب وعلى كل تقدير فلم يتصرف الحاكم في ملك غيره بل الغير هو المتصرف والصادر من الحاكم حكم على ذلك التصرف فلا يلزم من امتناع الحاكم من القسمة هنا امتناعه من الحكم بالموجب وإن لم تقم البينة باستيفاء الشروط، والظاهر أن المراد بقولهم لا يجيبهم أنه لا يلزمه إجابتهم بل يجوز له اهـ، وما نظر به في كلام شيخه واضح فالوجه جواز الحكم بالموجب بمجرد الاعتراف وقيام البينة المذكورين، وما أورده أوّلاً على الحكام(1/384)
واضح أيضاً فالصواب كما يأتي أن للحكم بالموجب تميزات على مجرد الثبوت وتأمل قوله فأما لو قامت البينة بوقوعه على خلاف الشروط المعتبرة فإنه لا يحكم فيه بصحة ولا بموجب فإنه صريح في بطلان ما ابتدعه ذلك المفتي حيث زعم أن معنى الحكم بالموجب الحكم بموجب تلك الصيغة من الصحة أو الفساد وعجيب كيف ساغ له ابتداع هذه المقالة مع أن كتاب الولي المذكور عنده، وفيه التصريح بهذا وبما يأتي وكأنه بادر لكتابة ذلك مع عدم النظر في هذا الكتاب وإنما لم يقل ذلك لما يترتب عليه أنه يحكم بالموجب وإن ثبت عنده فساد الصيغة أو انتفاء الشروط في العاقد والمعقود عليه وهذه زلة يتعين عليه أن يتوب إلى الله منها لما علمت أن كلامهم صريح في إبطالها وتزييفها. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/385)
الولي : وجدت لشيخنا فروقاً بين الحكمين أبداها الأول أن الحكم بالصحة ينصب إلى إنفاذ ذلك الصادر من نحو بيع ووقف والحكم بالموجب ينصب إلى أثر ذلك الصادر، وفيه نظر، لأن الأول إذا انصب إلى ما ذكره ترتب عليه إنفاذ آثاره وكيف ينفذ ولا تنفذ آثاره لا سيما والصحة عند جمع أصوليين استتباع الغاية أي كون الشيء تتبعه غايته ويترتب وجودها على وجوده، فالحكم بها حكم بترتب آثارها عليها وكيف يقال في الحكم بالموجب أنه ينصب للآثار خاصة وكيف يثبت بدون ثبوت المؤثر لها فالحكم بثبوتها مترتب على الحكم بثبوت المؤثر بلا شك فلولا صحة ذلك العقد لما حكم القاضي بترتب آثاره عليه، فالصواب تضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة وإلا لما ترتبت الآثار فالصحة هي الحكم الجامع لجميع الآثار وحينئذ فظهر استواء الحكم بالصحة والحكم بالموجب لأنه لا يحكم إلا بموجب ما صح دون ما فسد ولا يصح الشيء وتتخلف آثاره عنه فإذا حكم بالصحة فقد حكم بترتب آثاره عليه والتحقيق أن الحكم بالموجب يتناول الآثار بالتنصيص عليها للإتيان بلفظ عام يتناول جميع آثارها، فإن موجب الشيء هو مقتضاه وهو مفرد مضاف فيعم كل موجب بخلاف لفظ الصحة فإنه إنما يتناول الآثار بالتضمن لا بالتنصيص عليها، ومقتضى ذلك أن يكون الحكم بالموجب أعلى وهو بخلاف الاصطلاح وكأن الحكم بالصحة إنما علت مرتبته عندهم لاختصاصه بما ثبت فيه من وجود الشروط لكن هذا يرجع إلى الاصطلاح فيما أظن ولا يظهر للفرق المذكور معنى من جهة اللغة ولا من جهة الشرع فلا ينبغي أن يصدر من حاكم حكم إلا بحجة معتبرة إما ببينة وإما علم وإما إقرار الخصم الذي هو صاحب اليد وإما اليمين المردودة وإنما نازعت شيخنا في استنباط هذا من مسألة القسمة لا في أصل الحكم فإني موافق عليه فإذا قامت البينة فحكم بالصحة فقد حكم بترتب غايته عليه من غير تنصيص عليها لا بعموم ولا بخصوص وإن حكم بالموجب فقد أتى بصيغة شاملة لجميع أحكامه فإن صيغة(1/386)
العموم في تناولها لكل فرد فرد كلية فكأنه نص بذلك على جميع آثاره، فإن قلت فهل يترتب عليه بذلك جميع آثاره المتفق عليها والمختلف فيها، قلت أما المتفق عليها فلا يحتاج فيها إلى حكم، وأما المختلف فيها فما كان منها قد جاء وقت الحكم فيه نفذ وما لم يجيء فيه وقت الحكم لم ينفذ مثال الأول أن يحكم حنفي بموجب تدبير فمن موجبه عنده منع بيع المدبر فقد حكم به في وقته لأنه منع للسيد منه فامتنع عليه فإذا أذن له شافعي فيه لم يعتد به، لأن فيه نقضاً للحكم الأول وليس للشافعي أيضاً الحكم بصحة بيعه لو وقع فإنه وقع باطلاً بقضية الحكم الأول، ومثال الثاني أن يعلق شخص طلاق أجنبية على تزويجه بها فيحكم مالكي أو حنفي بموجبه فإذا تزوجها فبادر شافعي وحكم باستمرار العصمة نفذ حكمه ولم يكن ذلك نقضاً للحكم الأول لأنه لم يتناول وقوع الطلاق لو تزوجها لأنه أمر لم يقع إلى الآن فكيف يحكم على ما لم يقع والحكم إنما يكون في متحقق فما هذا منه إلا فتوى وتسميته حكماً جهل أو تجوّز يعني به حكم الشرع عنده أنه نبه وألزم به وكيف يلزم بما لم يقع ومما يوضحه أنه لو لم يأت بصيغة عموم وهو الموجب بل حكم بهذه الجزئية الخاصة فقال حكمت بوقوع الطلاق إن تزوجها لم يصادف محلاً وعد سفهاً وجهلاً وكيف يحكم بشيء قبل وقوعه كبيع هذا أو نكاح هذه لو وقع بشرطه بخلاف ما مر عن الحنفي في المدبر فإنه وقع في وقته فافهم ذلك فإنه حسن وقع بسبب عدم تدبره خبط في الأحكام وقد ظهر أن توجيه الحكم إلى وقوع الطلاق على من لم يتزوّج بها محال والحكم بمنع التزويج بها أفسد منه فإن النكاح صحيح بلا توقف وإنما الكلام في الوقوع بعده ولا يدري هل يقع نكاح أو لا فلا يمكن توجيه الحكم إلى منع النكاح ولا إلى وقوع الطلاق في عصمة لا يدري هل تقع في الوجود والواقع قبل النكاح التعليق وهو غير موقع في الحال فكيف يحكم على شيء لم يوجد بشيء لم يقع وقس على هذين بقية الأمثلة فقد عرفت الفرق(1/387)
الذي أوجب الفرق بينهما اهـ، والفرق الذي نقله عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198
البلقيني هو عين الفرق الأول السابق في كلام السبكي ومرادهما، أعني السبكي و البلقيني ، بهذا الفرق الذي قالاه ما ذكره الولي بقوله والتحقيق الخ، وقوله فالصواب تضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة الخ، هو عين قول السبكي وإذا كان الحكم بالموجب مستوفياً لما يعتبر في الصحة كان أقوى الخ، وما ذكره في صورة التدبير مر بعينه في كلام السبكي ، وقوله فإن موجب الشيء هو مقتضاه تبع فيه بعضهم، وقد مر عن السبكي أن الموجب أعم ثم رأيته تعقب ذلك كما سيأتي حكايته عنه ثم إذا تأملت كلام الولي هذا المأخوذ أكثره من كلام السبكي السابق كما أشرت لك إلى ذلك وجدته صريحاً في بطلان ما مر عن ذلك المفتي سيما قوله فلولا صحة ذلك العقد لما حكم القاضي بترتب آثاره عليه، فالصواب تضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة وإلا لما ترتبت الآثار الخ، فانظر ذلك وتعجب ممن يخالف كلام الأئمة إيثاراً لهواه وحظه. قال الولي : الفرق الثاني بين الحكمين أن الحكم بالصحة لا يختص بأحد والحكم بالموجب يختص بالمحكوم عليه بذلك وفيه نظر أيضاً فإن من وقف على نفسه لو مات قبل حكم حاكم بصحته أو بطلانه فأراد أحد ورثته بيعه فمنعه حنفي وحكم بموجب الوقف لم يختص به بل لو أراد وارث آخر بيع حصته امتنع وكيف يسوغ له بعد حكم الحنفي بموجبه ولو كان الحاكم بالموجب شافعياً جاز للوارث الثاني البيع ولم يجز للحنفي منعه مع حكم الشافعي السابق اهـ وهذا الفرق الذي نقله عن شيخه هو عين الفرق الثاني السابق في كلام السبكي السابق ويجاب عن نظره هذا بأن المراد بعدم الاختصاص في الحكم بالصحة أنه ليس فيه إلزام لأحد بشيء معين بخلاف الحكم بالموجب فإن فيه إلزاماً للمحكوم عليه دون غيره بما يترتب على ذلك الأمر كما يعلم ذلك من تعريفهما السابقين عن السبكي، وقد بسط السبكي الكلام على(1/388)
الفرق الثالث السابق عنه بما يعلم منه جواب آخر فراجعه. قال الولي العراقي عن شيخه: الفرق الثالث أن الحكم بالصحة يقتضي استيفاء الشروط والحكم بالموجب لا يقتضي استيفاءها دائماً ومقتضاه صدور ذلك الحكم عن المصدر بموجب ما صدر عنه وفيه نظر، فقد قدمت عن شيخنا المذكور أنه استنبط من مسألة امتناع القاضي من القسمة فيما إذا لم تقم بينة بأنه ملك طالبيها أن الحكم لا يقع بصحة ولا بموجب إلا بعد استيفاء الشروط وهذا الفرق الذي يعمل به الناس الآن وفيه ما قدمته ثم إن في تعبير الشيخ عن هذا الفرق نظراً فكان ينبغي أن يعبر بأن الحكم بالصحة متوقف على ثبوت أن المتعاطي لذلك التصرف استوفى المشروط فيه فإذا وقع للقاضي بيع لا يحكم بصحته حتى يثبت شروط البيع من كون المبيع طاهراً منتفعاً به مقدوراً على تسلمه مملوكاً للعاقدين أو لمن وقع له العقد معلوماً بخلاف الحكم بالموجب فإنه لا يتوقف على ثبوت استيفاء الشروط وليت شعري كيف يكون حكم القاضي بثبوت جميع الآثار ثابتاً إذا لم يثبت أن العاقد استوفى الشروط ومنفياً فيما إذا ثبت أنه استوفى الشروط وهذا مما لا يعقل اهـ، وهذا الفرق الذي نقله عن شيخه هو عين الفرق الثالث السابق في كلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/389)
السبكي وتنظيره فيه بما ذكره يعلم الجواب عنه من كلام السبكي فإنه بسط الكلام على هذا الفرق بما وضحه فتأمله سيما قوله وهذا إذا حكم القاضي على البائع أو الواقف بموجب ما صدر منه الخ، وقول الولي من كون المبيع طاهراً الخ، مر عن السبكي ما قد ينافيه فإنه قيد في تعريف الحكم بالصحة الشروط بالممكن ثبوتها ثم قال: وعلم منه أن جميع الشروط لا يعتبر ثبوتها في الحكم بالصحة أو الموجب فإن من جملتها في المبيع القدرة على التسليم الخ، وقد يجاب بعدم المنافاة لأن كلام الولي في إثبات نحو القدرة، وكلام السبكي في إثبات انتفاء منا فيها فإثبات مجرد القدرة شرط دون إثبات انتفاء منا فيها وحاصل هذا المبحث أن الحكم بالصحة لا بد فيه من ثبوت ثلاثة أشياء: أهلية العاقدين، ووجود الصيغة المعتبرة عنده، والملك والحكم بالموجب يكفي فيه ثبوت الأولين ذكره السبكي وقدمته في الجواب المختصر السابق في المقدمة وبالثالث صرح ابن أبي الدم فقال: يشترط ثبوت ملك المتصرف وحيازته تحت يده حال العقد سواء أكان الحكم بصحة بيع أو إجارة أو وقف أو رهن أو عارية، أما الإقرار فلا يتوقف الحكم بصحته إلا على ثبوت اليد فقط للمقر، لأن ثبوت الملك له ينافي الإقرار ويبطله فإن انضم إلى ثبوت يد المقر حالة الإقرار ثبوت الملك للمقر له جاز الحكم بصحة الإقرار وبالملك للمقر له، وصرح أيضاً بأنه لو أقر بعين في يد غيره لزيد جاز الحكم عليه بالموجب لا بالصحة، والراجح أنه يكفي للحكم بالصحة ثبوت الحيازة وإن لم يثبت الملك لكن بشرطها أي الحيازة وهي مشاهدة التصرف مع طول المدة وعدم المنازع وبما قررته أوّلا يجاب عن قول الولي وليت شعري الخ، ووجهه أن الحكم بالصحة إنما اشترطت فيه الثلاثة لأن الصحة المتوقفة عليها هي المقصود بالذات فاحتيج فيها لإثبات شروطها بخلافها في الحكم بالموجب فإنها مقصودة بالتضمن كما مر فاحتيج فيه إلى إثبات الأولين فقط دون الثالث لما مر عن السبكي أنه(1/390)
متوجه إلى إلزام نحو البائع بموجب ما صدر عنه لا إلى إثبات أنه ملكه إلى حين نحو البيع فتأمل ذلك فإنه مهم، وبه تزول الاستحالة التي ذكرها الولي وبما تقرر علم أن الولي و البلقيني و السبكي متفقون على أنه لا بد من إثبات الأولين في الحكمين، واختلفوا في الثالث فالأول يشترطه والأخيران لا يشترطانه، وبهذا يزيد لك اتضاح ما قدمته من بطلان ما ابتدعه عنه ذلك المفتي من قوله السابق، ولقد زاد التعجب منه في عدم مراجعته لكتاب الولي مع كونه عنده ولكلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/391)
البلقيني و السبكي بل ولكلام بعض مشايخه أو من هو في رتبة مشايخه حيث قال للحكم بالموجب شرطان: الأول ثبوت وجود الصيغة المعتبرة عنده، ومعناه إن كان مالكاً فتصرفه هذا صحيح فكأنه حكم بصحة تلك الصيغة الصادرة من ذلك الشخص وهو نافع في الصور المختلف فيها اهـ، وهذا هو معنى قول شيخنا في أدب القضاء للحكم بالصحة ثلاثة شروط: أحدها: ثبوت أهلية المتعاقدين بشهرتهما أو بالبينة ويكفي في ثبوتها قبول البينة أنه جائز التصرف. ثانيها: وجود الصيغة المعتبرة. ثالثها: ثبوت الملك واليد حالة العقد، نعم الحكم بصحة الإقرار لا يتوقف على ثبوت الملك بل على ثبوت اليد خاصة للمقر، لأن ثبوت الملك له ينافي الإقرار، وأما الحكم بالموجب فله شرطان ثبوت الأهلية ووجود الصيغة فالحكم بالصحة أخص من الحكم بالموجب فكل ما جاز للقاضي أن يحكم فيه بالصحة، جاز له أن يحكم فيه بالموجب ولا عكس كما لو أقر بعين بيد غيره لزيد، فإن الحكم فيه بالموجب لا بالصحة فقول السبكي : إن الحكم بالموجب حكم بالصحة إلا أنه دونه في الرتبة فيه نظر، بل الحكم به حكم بما تقتضيه البينة فيه فإن كان صحيحاً فصحيح أو فاسداً ففاسد اهـ، فمعنى قوله إن كان صحيحاً الخ أنه إن بان وجود الشرط الثالث المشترط في الحكم بالصحة فالحكم بالموجب صحيح بل وأقوى من الحكم بالصحة، وإن لم يوجد ذلك الشرط فالحكم بالموجب فاسد، إذ لا يمكن ترتب الآثار مع انتفاء الملك وإنما قلنا إنه يستلزم الحكم بصحة الصيغة دون الملك لما مر عن السبكي أنه إلزام المحكوم عليه بما عليه، وأما ماله فلا يتصور إلزامه به وإذا لم يتصور إلزامه به فلا يثبت الحكم بالموجب لما علمت أنه الإلزام بما يترتب على ذلك الأمر إلى آخر ما مر في تعريفه، ولقد صرح شريح الروياني وناهيك به من أجلاء الأصحاب ومتقدميهم بما قاله المتأخرون من أن الحكم بالموجب يستلزم الحكم بصحة تلك الصيغة حيث قال لو أقر شخص بين يدي القاضي بحق فقال له ألزمتك(1/392)
بموجب إقرارك، قيل لا معنى له لأن الحق واجب قبل إقراره، وقيل بل له فائدة لأن الإقرار يكون مختلفاً في صحته فإذا ألزمه به كان حكماً بصحته وعلى هذا لو ادعى أنه كان مكرهاً على إقراره لم تسمع دعواه ولا بينته بعد الإلزام اهـ، وإذا قلنا بصحة الإلزام فلو ألزم بعد غيبة المقر كان كالحكم على الغائب اهـ، ووجه دلالته على ما قلناه ما صرح به الرافعي وغيره من أن التعليل إنما يكون بمتفق عليه. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/393)
الرافعي : لكن غالباً وإذا ثبت ذلك علم أن قوله لأن الإقرار الخ دال على الاتفاق على هذه العلة التي هي صريحة فيما قلنا فإن قلت فلم لم يقل بذلك في علة الأول، قلت علة الأول صحيحة أيضاً إلا أنها لا ينتج منها عدم الفائدة التي ادعاها القائل الأول لما تقرر من أن لها فائدة أي فائدة ولولا الاتفاق على تلك الفائدة لم يقل بها الثاني وبهذا يندفع ما قد يتوهم من أن هذا يحتمل أن يكون من خلاف الغالب على أن هذا التوهم مدفوع أيضاً بأن الأصل في الغالب أن يحتج به حتى يعلم خروج ذلك الشيء من ذلك الغالب وأما تنظير شيخنا في كلام السبكي المذكور فيجاب عنه بأن قول الشيخ بل الحكم حكم بما تقتضيه البينة فيه الخ مر عن السبكي ما يصرح به فالسبكي لا يخالف في ذلك، ومعنى قوله إن الحكم بالموجب يستلزم الحكم بالصحة أنه يستلزمه على فرض وجود شرط الحكم بالصحة في الباطن وإلا فالسبكي مصرح بأن شرط الحكم بالصحة الثلاثة السابقة وبالموجب الأولان منها فعلم من ذلك أن قوله بالاستلزام معناه ما ذكرته، ويدل عليه قوله إن الحكم بالصحة أعلى مرتبة من الحكم بالموجب وليس ذلك إلا لما قررته من أن الحكم بالصحة لا يحتمل على فرض صدق البينة والحكم بالموجب يحتمله وإن فرض صدق البينة لأنه لا يشترط فيه شهادتها بالملك فعلى فرض صدقها يحتمل انتفاء الملك فيكون الحكم فاسداً وعلى كل تقدير فلا دلالة لذلك المفتي في كلام شيخنا هذا لما صرح به أن الحكم بالموجب يشترط فيه الشرطان السابقان ومن جملتهما وجود الصيغة المعتبرة، فإن قلت لم يصرح بالمعتبرة قلت أل فيها للعهد الذكرى لسبق لفظها مقيداً بالمعتبرة فلم يحتج للتقييد به في هذه لعلمه من أل العهدية على أنه صرح بذلك في شرحه للروض، فقال: معنى الحكم بالموجب أنه إن ثبت الملك صح فكأنه حكم بصحة الصيغة اهـ فتأمل عبارته هذه تجدها صريحة في جميع ما ذكرته، وبذلك صرح غير الشيخ أيضاً من السبكي و جمع آخرين فقالوا: شرط الحكم(1/394)
بالموجب وجود الصيغة المعتبرة إذ لا يتصوّر الإلزام بترتب الآثار الصحيحة لذلك العقد إلا إن صحت صيغته فتأمل ذلك تعلم فساد أخذ ذلك المفتي ما مر عنه من عبارة الشيخ السابقة عن أدب القضاء، فإن العبارات في هذا المبحث جميعها قد تليت عليك في هذا الباب ولا أعلم أن أحداً من الأئمة له كلام في هذه المسألة غير ما ذكرته وما سأذكره وكله صريح في الرد على ذلك المفتي، ويلزم على ما قاله ذلك المفتي أن الحكم بالموجب مرادف للثبوت المجرد وهو خرق لإجماع الشافعية وغيرهم ووجه استلزامه ذلك أن الحكم بالموجب إذا لم يشترط فيه صحة الصيغة كان هو عين الثبوت كما يعلم مما مر في مبحث الثبوت المجرّد أوائل هذا الباب. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/395)
الولي عن شيخه: الفرق الرابع أنه إذا كان الصادر صحيحاً باتفاق ووقع الخلاف في موجبه فالحكم بالصحة لا يمنع من العمل بموجبه عند غير الحاكم بالصحة ولو حكم فيه بالموجب امتنع العمل بموجبه عند غير الحاكم بالموجب ولا بأس بهذا الفرق لكن إطلاقه في الحكم بالموجب أنه يمتنع العمل به عند غير الحاكم بالموجب لا بد من تقييده بأن يكون قد جاء وقت الحكم بموجبه عنده وإن لم يكن موجبه عند الحاكم الأول اهـ، وهذا الفرق هو عين قول السبكي السابق فإن صح الصادر اتفاقاً واختلف في موجبه لم يمنع الحكم بالصحة فيه العمل بموجبه عند غير الحاكم بها مثاله التدبير الخ، قال الولي عن شيخه: الفرق الخامس أن كل دعوى كان فيها إلزام المدعى عليه بما أقر به أو قامت البينة به كان الحكم حينئذ بالإلزام وهو الموجب ولا يكون الحكم بالصحة ولكن يتضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة، ومن ذلك أن ما ليس له وجهاً صحة وإبطال مقتضاه أن لا يدخل فيه الحكم بالصحة وإنما يدخل فيه الحكم بالموجب، قلت: لم يظهر لي هذا الفرق فإنه إذا ادعى على إنسان بمائة فأقر بها في مجلس الحكم أو ثبت إقراره ببينة لم يسمع الحكم بصحة الإقرار المذكور بل بموجبه ولا يظهر لهذا معنى فتأمل وقد رجع الشيخ رحمه الله تعالى إلى ما ذكرته أوّلاً من أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة اهـ، وهذا الفرق مأخوذ من كلام السبكي السابق عنه في فرقه الثاني والثالث وقول الولي لا يظهر لهذا معنى إن أراد أن منع الحكم بالصحة لا إلزام فيه والقصد إيجاد حكم فيه إلزام فالمراد بمنع الحكم بالصحة هنا منعه من حيث أنه لا يفيد المقر له لا أنه لو وقع لم يكن صحيحاً وإن أراد أنه لا يظهر له معنى في الفرق فقد علمت ظهور معناه فيه لأنه لا يفيد المقر له بخلاف الحكم بالموجب فإنه يفيده، وقوله وقد رجع إلى ما ذكرته أوّلاً من أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة ظاهر، وقد مر عن السبكي و البلقيني و الولي على أن الحكم(1/396)
بالموجب يتضمن الحكم بالصحة وأن ما مر عن ذلك المفتي مخترع باطل لا أصل يعضده ولا مستند يؤيده قال الولي عن شيخه: الفرق السادس أن تنفيذ الحكم المختلف فيه يكون بالصحة عند الموافق، وكذا عند المخالف الذي يجيز التنفيذ في المختلف فيه ويكون بالموجب إذا أريد به الإلزام بحكم الحاكم في الحكم المختلف فيه فيكون الأمر فيه كما تقدم في الحكم بالصحة فقول القاضي حكمت بحكم فلان مساو لقوله حكمت بموجب حكم فلان إذا أريد هذا المعنى وهو الإلزام بحكم الحاكم وإن أريد به الإلزام بذلك الشيء المحكوم فيه فيجوز ذلك من الموافق دون المخالف لأنه ابتداء حكم بذلك الشيء من غير تعرض للحكم الأوّل وذلك لا يجوز عند المخالف، قلت لم يتحرر من هذا الكلام فرق بين الحكمين لأنه ذكر أنه إذا أريد الإلزام بحكم المخالف في موضع الخلاف استوى الحكمان وإن أريد به الإلزام من غير توسط حكم المخالف امتنع ذلك بالصحة والموجب، فإن المخالف لا يراه وليس هذا تنفيذاً بل ابتداء حكم بما لم يره الحاكم به اهـ، وهذا الفرق هو عين قول السبكي فيما مر ومما يفترقان فيه أيضاً أن الحكم بتنفيذ الحكم المختلف فيه يكون بالصحة الخ، إلا أن البلقيني زاد عليه بتفصيل أوجب للولي الاعتراض عليه بما ذكر واعلم أن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/397)
الشيخين حكيا عن ابن كج عن النص أنه إذا كتب إلى حاكم بحكم لا ينقض ولم يعتقده بل رأى غيره أصوب منه أعرض عنه ولا ينفذه لأن ذلك إعانة على ما يعتقده خطأ ثم حكيا عن السرخسي تصحيح التنفيذ قالا وعليه العمل كما لو حكم بنفسه ثم تغير اجتهاده تغيراً لا يقتضي النقض وترافع خصماء الحادثة إليه فيها، فإنه يمضي حكمه الأول وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب منه، وجزم بعض مختصري الروضة بالأول وفيه نظر لما عرفت من قول الشيخين في الثاني وعليه العمل فإنه ترجيح له. قال الولي : وذكر شيخنا أن الحكمين يستويان في نحو حكم حنفي بصحة أو موجب نكاح بلا ولي أو شفعة جوار أو وقف على نفس فليس لشافعي نقضه كعكسه في إجارة جزء شائع ويفترقان في مسائل بعضها الحكم فيه بالصحة أقوى كحكم شافعي بوكالة بغير رضا الخصم فللحنفي إبطال حكمه بموجبها لا بصحتها، لأن موجبها المخاصمة صحت أو فسدت لأجل الإذن فالحكم به ليس فيه تعرض للحكم بالصحة فساغ للحنفي إبطاله، لأن الشافعي جرد حكمه للأثر من غير أن يتعرض لصحة الملزوم ولا لعدمها والحنفي يقول ببطلانها فلم يوقع الشافعي حكمه في محل الخلاف هذا كلام شيخنا وفيه نظر لما مر أن الحكم بالآثار يتوقف على الحكم بالمؤثر فلولا صحة عقد الوكالة لما حكم بترتب آثارها، وقد تقدم من كلامه الأخير أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة، فإن قلت الوكالة يترتب عليها أثر وهو صحة التصرف بعموم الإذن وإن فسدت، قلت من جملة موجبها ومقتضاها صحتها عند الشافعي وإن لم يرض الخصم فقد تناوله حكمه ولا نسلم أن الشافعي جرد حكمه للازم ولم يتعرض لصحة الملزوم ولا لبطلانه بل قد تعرض لها ضمناً كما اعترف به الشيخ رحمه الله تعالى أو صريحاً كما اعتقده لأن الصحة من جملة الموجب فدخلت في حكمه بالموجب لأنه مفرد مضاف فيعم جميع المواجب ولو كان التوكيل عند الشافعي فاسداً كالوكالة المعلقة لم يسغ له الحكم بموجب الوكالة اعتماداً على صحة التصرف(1/398)
لعموم الإذن لما ذكرناه من أن من جملة الموجب الصحة والوكالة المذكورة باطلة فلم يثبت جميع موجبها فإذا حكم فليوجه حكمه إلى ما يترتب عليه من الآثار وهو صحة التصرف ولا يأتي بصيغة تعم جميع المواجب لفساد ذلك اهـ وما اعترض به كلام شيخه في صورة الوكالة مر عن السبكي التصريح به في قوله وإذا كان الحكم بالموجب مستوفياً لما يعتبر في الصحة كان أقوى لوجود الإلزام فيه وتضمنه الحكم بالصحة ثم قال: وإنما استويا في عدم النقض لتضمن الحكم بالموجب الحكم بالصحة إما عاماً الخ، لا يقال يؤيد ما قاله البلقيني قول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/399)
السبكي السابق ولو حكم من يرى صحة تدبيره بموجب حجر الصبي لم يتناول الحكم بصحة تدبير لأنا نقول حكمه بموجب الحجر ليس فيه تعرض للتدبير لأنه إلى الآن لم يقع فلم يستلزم الحكم بصحة تدبيره وعلى تقدير وقوعه فليست صحة التدبير من موجب الحجر فليست هذه كمسألة البلقيني المذكورة وإذا تأملت ما قاله الولي فيها الموافق لما قدمته عن السبكي ولقول البلقيني أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة زاد لك إيضاح فساد تلك المقالة السابقة عن ذلك المفتي في تفسير الحكم بالموجب ولا تظن أن كلام البلقيني في هذه الصورة يؤيده لأنه مع كونه مردوداً ومناقضاً لكلام البلقيني نفسه مفروض في أثر وجه إليه الحاكم حكمه دون المؤثر، وأما في صورة السؤال السابق في المقدمة فالحاكم لم يوجه حكمه بالموجب لأثر من آثارها، إذ المتنازع فيه ليس إلا فساد ذلك البيع أو صحته وأيضاً فالموجب ثم الذي هو الإلزام للمحكوم عليه بصحة مخاصمة الوكيل له يترتب على الوكالة الفاسدة كالصحيحة، وأما الموجب في صورة السؤال الذي هو إلزام المحكوم عليه بانتقال الملك عنه لا يترتب على العقد الفاسد، فعلى فرض أنا نوافق البلقيني في صورة الوكالة على ما ذكره لا شاهد فيه لما ذكره ذلك المفتي في صورتنا بل ما ذكره فيها بدع بدع من القول وميل عن جادة الصواب. قال الولي عن شيخه والقسم الثاني أي وهو ما الحكم فيه بالموجب أقوى كحنفي حكم بموجب تدبير بموجب شراء دار لها جار يمنع الحنفي من الحكم بالشفعة ولو حكم بالصحة لم يمنعه من ذلك لأن البيع صحيح عندهما أو بموجب إجارة فإنه يمنع الحنفي من الحكم بإبطالها بالموت لأن من موجبها الدوام والاستمرار للورثة بخلاف حكمه بالصحة فإنه لا يمنعه من ذلك، قلت هذه الصورة الثالثة ممنوعة وفارقت الصورتين قبلها بأن الحكم فيهما بالموجب وقع بعد دخول وقته فنفذ لأنه منع المدبر والجار به من البيع والأخذ بالشفعة فامتنع عليهما كما لو وجهه إليهما صريحاً، إذ لا(1/400)
فرق بين الخاص والعام، وأما الحكم بموجب الإجارة قبل موت المستأجر فلا يمكن توجيهه إلى عدم الانفساخ لأنه لم يجيء وقته ولم يوجد سببه ولو وجه حكمه إليه فقال حكمت بعدم انفساخها إذا مات المستأجر كان لغواً نظير ما مر في الحكم بتعليق طلاق أجنبية إذ هما من واد واحد اهـ، والصورتان الأوليان سبقتا في كلام السبكي كما ذكره البلقيني والثالثة التي زادها هي التي توجه عليها اعتراض تلميذه ويمكن أن يوجه ما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/401)
البلقيني فيها بأنا لا نسلم أن الحكم فيها توجه إلى الانفساخ ضمناً ولا صريحاً وإنما توجه إلى بقاء العقد واستمراره وهذا قد دخل وقته فتناوله الحكم بالموجب وبه فارقت مسألة تعليق الطلاق فإنه حال حكمه ثم بالموجب لم يكن هناك شيء حتى ينصب الحكم عليه حتى يستتبع منع التزويج وهنا الحكم بالموجب توجه إلى موجود حال الحكم وهو البقاء والاستمرار فصح الحكم فيه ومن لازمه امتناع الحنفي من الحكم بالفسخ لأنه ينافي حكم الشافعي بالبقاء والاستمرار فتأمل ذلك فإنه مهم يزول به ما اعترض به الولي على شيخه. قال الولي وقد ذكر شيخنا المذكور أن ضابط ذلك أنه إن نوزع في الصحة ولم تترتب الآثار إلا بعدها كان الحكم بها رافعاً للخلاف ومساوياً للحكم بالموجب أو في الآثار واللوازم ارتفع الخلاف بالحكم بالموجب لا بالصحة فيكون الموجب أقوى فإن ترتبت مع فساده كان الحكم بالصحة أقوى قلت محل ارتفاع الخلاف في الحكم بالموجب حيث كان بعد دخول وقته ووجود سببه ومرت أمثلة ذلك موضحة وبقي مثال فيه توقف وهو ما لو شرط الواقف لنفسه التغيير وحكم حنفي بموجبه ثم غير فيحتمل أن يمتنع على الشافعي حينئذ الحكم ببطلان ذلك التغير، لأنه وقع بعد إذن شرعي له فيه وأن لا يمتنع إذ لا يلزم من إذن الحنفي له فيه وقوعه فقد لا يقع فلم يدخل تحت الحكم بالموجب إذ لو وجه حكمه إليه فقال حكمت بموجب التغيير أو صحته لم يصح لأنه حكم على الشيء قبل وقوعه اهـ، ولم يرجح من هذين الاحتمالين شيئاً والذي يتجه الاحتمال الأول ولا نسلم أن الحكم بذلك وقع قبل وقته بل وقع في وقته لأنه تضمن الإذن للواقف في التغيير فالإذن وقع له في وقته فلو جاز للشافعي الحكم ببطلان تغييره لكان فيه رفع لحكم الحنفي الصحيح وهو ممتنع وتأمل هذا الضابط الذي ذكره البلقيني ، وقوله فاستوى الحكم بالصحة والموجب إذا كان المتنازع فيه الصحة تجده صريحاً في رد ما مر عن ذلك المفتي ومما يبطله ويسفهه قول الولي(1/402)
أيضاً، وقد تقرر في الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب أن الحكم بالصحة متوجه إلى نفس العقد صريحاً وإلى آثاره تضمناً وأن الحكم بالموجب متوجه إلى آثاره صريحاً وإلى نفس العقد تضمناً فليس أحدهما أقوى من الآخر إلا على ما بحثه من توجيه الحكم بالموجب إلى صحة العقد وجميع آثاره صريحاً، فإن الصحة من موجبه فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقاً لسعته وتناوله الصحة وآثارها ثم وجدت بعضهم قال ليس الموجب والمقتضى واحداً كما أفهمه كلام بعضهم، لأن المقتضى لا انفكاك له والموجب قد ينفك فقضية البيع اللازم انتقال الملك في المبيع للمشتري وموجبه أن يرد بالعيب لو وجد وقد لا يوجد، وقد يرد به وقد لا يرد فعلى هذا الموجب أعم من المقتضى فتعلق بهذا الكلام على أن الحكم بالموجب يدخل فيه ما لم يوجد، قلت لا نسلم هذه التفرقة بل الموجب أقرب إلى عدم الانفكاك لأن الموجب مفعول أوجب والمقتضى مفعول اقتضى أي طلب فالموجب فيه طلب بتأكيد فكيف يكون ما فيه تأكيد قد ينفك وما لا تأكيد فيه لا ينفك هذا مقتضى اللغة والاصطلاح فمن ادعى خلافه فعليه بيانه وبتقدير تسليم ذلك فلا يلزم من كون الموجب ينفك أن يتناول حكم الحاكم به ما لم يوجد، إنما يتوجه حكم الحاكم إلى ما وجد كما قررناه اهـ، وما ذكره بعضهم قد مر لك في كلام السبكي وهو وإن سلم فالأخذ منه غير ظاهر لما ذكره الولي فالوجه ما ذكره من أن الحكم بالموجب إنما يتناول ما وجد كما مر واضحاً مبيناً وقد لخصت لك في هذه المسألة ما لم تجده في كتاب فاعتن بتحريره وتحقيقه وقد تقرر على سمعك من كلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198(1/403)
السبكي و البلقيني و الولي و شيخنا شيخ الإسلام زكريا وغيرهما ما قضى على تلك المقالة الصادرة من ذلك المفتي بأنها من السفساف الذي لا يعوّل عليه ولا يلتفت إليه وكان من حقها أن لا ترفع لها رأس فلا تؤهل لذكرها وردها لكن دعا إلى ذلك ما غلب على أناس من الجهل والتعصب فعدوها من محاسن ذلك المفتي وهم معذورون لأنهم لا إلمام لهم بشيء من الفقه وإلا لعدوها من مساويه لأنه لم يستند فيها إلا إلى مجرد حدسه وهوسه تاب الله عليّ وعليه وختم لي وإياه بالحسنى إنه بكل خير كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(فائدة) قال البغوي : لو رفع لحاكم قضية مشتملة على وجوه من الفساد المختلف فيها كتزويج صغيرة لا أب لها ولا جد بغير كفء فادعى عنده بها من أحد وجهيها المقتضيين لبطلانها عندنا فحكم بصحة النكاح من أحدهما فللشافعي إبطاله من الوجه الآخر.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 198
(الفصل الثاني:(1/404)
فيما ينقض فيه قضاء القاضي وما لا ينقض) اعلم أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد والأصل في ذلك إجماع الصحابة كما نقله ابن الصباغ ، وأن أبا بكر حكم في مسائل خالفه عمر رضي الله عنهما فيها ولم ينقض حكمه وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي وقضى في الجد قضايا مختلفة، وإنما امتنع النقض لأنه يؤدي إلى أن لا يستقر حكم وفيه من المشقة ما لا يطاق، ولأن الاجتهاد الثاني ليس بأقوى من الأول قطعاً وإنما الظنون في ذلك متفاوتة ومن ثم يجب على القاضي أن ينقض حكمه وحكم غيره وإن لم يرفع إليه كما ذكره جمع متقدمون، وما اقتضاه كلام الشيخين من التوقف على الرفع منازع فيه إذا خالف قطعياً كنص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو ظنياً واضح الدلالة كخبر الواحد، والقياس الجلي وهو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع أو بعدم تأثيره كقياس الضرب على التأفيف أو نص فيه على العلة وذلك للإجماع في مخالف الإجماع وقياساً عليه في البقية وفي تعبيرهم بالنقض مسامحة إذ المراد به أنه لم يصح من أصله وذكر الأئمة لبعض ذلك أمثلة كنفي خيار المجلس والعرايا والقود في المثقل وكقتل مسلم بذمي وصحة بيع أم الولد ونكاح الشغار والمتعة وزوجة المفقود بعد أربع سنين والعدة وكتحريم الرضاع بعد حولين، واختلفوا في نقضها وأكثرهم على النقض وفيه تحرير ليس هذا محل بسطه. قال القرافي : وينقض أيضاً ما خالف القواعد الكلية قالت الحنفية أو كان حكماً لا دليل عليه. قال السبكي : وما خالف شرط الواقف كمخالف النص وما خالف المذاهب الأربعة كمخالف الإجماع، قال: وأما مجرد التعارض كقيام بينة بعد الحكم بخلاف ما قامت به البينة التي حكم فيها فلا نقل فيه والذي يترجح أنه لا نقض به وأطال في تقريره لكن وقع بينه وبين ابن الصلاح مخالفة في شهادة بقيمة المثل حكم بها ثم شهد آخران بأن ما حكم به دون قيمة المثل وقد بينت الراجح من(1/405)
ذلك وما فيه من التفصيل في شرح الإرشاد والفتاوى ويجب على القاضي أيضاً أن ينقض جميع أحكام من قبله إذا كان غير أهل وإن أصاب فيها كذا قالوه وقيده بعض المتأخرين أخذاً من كلام الغزالي وغيره بمن لم يوله ذو شوكة لنفوذ أحكام من ولاه ولو مع الجهل والفسق، بل وإن كان امرأة على أحد وجهين في البحر. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
الشيخان وغيرهما نقلاً عن الغزالي ولو استقضى مقلد للضرورة فحكم بمذهب غير من قلده لم ينقض حكمه بناء على أن للمقلد تقليد من شاء أي وهو الأصح، قيل: وهذا إنما ذكره الغزالي بحثاً له كما دل عليه كلامه في المستصغي وغيره اهـ، ويرد بأنا وإن سلمنا أنه بحث له فهو بحث ظاهر وكفى بتقرير الشيخين وغيرهما له، وأما إطلاق الأنوار النقض ففيه نظر، لأنه مبني في كلام الرافعي كالغزالي على الضعيف أنه لا يجوز للمقلد اتباع من شاء ومن ثم اعترض الأنوار شارحه فقال: وما ذكره من إطلاق النقض ممنوع اهـ، فإن قلت هذا لا يتأتى في قضاة زماننا لأن موليهم يشرط على كل منهم أن يحكم بمذهب مقلده دون غيره اهـ، قلت إنما يأتي ذلك إن قلنا بصحة التولية ولزوم الشرط، وفي ذلك تفصيل. قال الرافعي : لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده أو اجتهاد مقلده لم يجز فإن خالف كان شرط حنفي على شافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. قال في الوسيط: حكم في المسائل المتفقهة بين الإمامين وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف ورعاية الشرط لكن الماوردي و صاحب المهذب و التهذيب وغيرهم قالوا: لو قلد الإمام رجلاً القضاء على أن يقضي بمذهب عينه بطل الشرط والتقليد جميعاً وقضية هذا بطلان الاستخلاف في مسألة الوسيط، وأفتى القاضي في نحو ذلك بإلغاء الشرط فقط، قال الماوردي : ولو لم تجر صيغة بشرط كأحكم بمذهب الشافعي أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة صح التقليد ولغا الأمر والنهي، قال ولو قال له لا تحكم في قتل المسلم بالكافر(1/406)
مثلاً جاز وحكم في غير ذلك اهـ ملخصاً وتبعه في الروضة، وحاصله كما قاله البلقيني و الزركشي وغيرهما أن الذي عليه الأكثرون بطلان الشرط والتولية وأما إلغاء ما صدر من أمر أو نهي مخالفين لعقيدة الحاكم مع صحة التولية الذي ذكره الماوردي فقد نازع فيه الرافعي فقال: وكان يجوز أن يجعل هذا الأمر شرطاً أو تقييداً كما لو قال قلدتك القضاء فاقض في موضع كذا أو في يوم كذا، وأشار إلى ذلك في الروضة والكلام فيما إذا حكم المستقضي المذكور بمذهب من المذاهب الأربعة، أما لو حكم بمذهب غيرها فينقض حكمه فقد قال السبكي: يجوز للشخص التقليد للعمل في حق نفسه، وأما في الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز يعني تقليد غير الأئمة الأربعة اهـ، وهذا كله إذا حكم بمذهب من المذاهب الأربعة غير مذهب إمامه، أما لو حكم بقول أو وجه مرجوح في مذهب إمامه، فقال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/407)
ابن عبد السلام: لا يجوز مطلقاً، وفصل السبكي فقال: إن كان له أهلية الترجيح ورجحه بدليل جيد جاز ونفذ حكمه وليس له أن يحكم بشاذ أو غريب في مذهبه وإن ترجح عنده لأنه كالخارج عن مذهبه فلو حكم بقول خارج عن مذهبه، وقد ظهر له رجحانه جاز إلا أن يشترط الإمام عليه التزام مذهب باللفظ أو العرف كقوله على قاعدة من تقدمه فلا يصح الحكم، لأن التولية لم تشمله اهـ. قال شيخنا في أدب القضاء: وسبقه إلى ذلك الماوردي فإن عنى بكلامه هذا كلامه السابق عنه ففيه نظر لأنه يخالفه فتأمله مع أنه سبق أن كلامه السابق ضعيف، وإن عنى به ما يأتي عنه فكذلك وعلى كل تقدير فكلام السبكي هذا أعني قوله إلا أن يشرط الإمام عليه الخ، يخالف ما مر عن الشيخين من بطلان التولية وقد يجمع بين قول ابن عبد السلام هنا لا يجوز، وقول السبكي يجوز أن يرجح ما لم يشرط عليه ما مر وبين ما مر عن الشيخين من جواز الحكم بمذهب الغير وهذا في الحكم بالضعيف في مذهبه الذي لم يوافق واحداً من المذاهب الأربعة، والفرق بينهما ما مر عن السبكي أنه يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة في العمل لنفسه لا في الإفتاء والحكم ولا شك أن الضعيف المذكور رأي مغاير للمذاهب الأربعة وإن رجع إلى واحد منها باعتبار القواعد والمأخذ فامتنع أن يشترط عليه التزام مذهب من المذاهب الأربعة لأن فيه منعاً له مما يجوز تقليده ولم يمتنع أن يشترط عليه التزام الراجح من مذهبه لامتناع تقليده غيره من الضعيف في مذهبه في الحكم والإفتاء كما تقرر. وفي الخادم ما حاصله: إذا حكم مقلد بمذهب إمامه مع علمه به نفذ أو بما توهمه من غير أن يحيط به علماً لم ينفذ وإن صادف الحق أو بمرجوح في مذهب إمامه فإن كان متبحراً له أهلية الترجيح نفذ وإلا فلا، نعم إن فرض أنه اعتقد صحة ذلك المرجوح تقليداً لقائله وله مذهب صحيح لدليل بحسب حاله أو أمر ديني وقع في نفسه ففيه نظر، يحتمل بطلانه لأن ذلك الوجه لا يقلد قائله إلا إذا كان(1/408)
مجتهداً وإنما يرجع إليه لكون قائله يرى أنه مذهب إمامه فإذا قال الجمهور خلافه كان قولهم مقدماً على قوله ولأنه إنما فوّض إليه القضاء وهو مقلد لإمام إلا ليحكم بمذهبه فليس له أن يحكم بمذهب أحد من أصحابه قال بخلاف قوله كما لا يحكم بقول عالم آخر كذا قاله بعض المتأخرين، وفيما قاله نظر فإن المقلد إذا قلد وجهاً ضعيفاً جاز له العمل به في نفسه، وأما في الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز وأما ما قاله آخراً فهو ظاهر فيما إذا شرط عليه في التولية التزام مذهب معين وجوّزناه فإن لم يشرط عليه ذلك جاز اهـ، وقول
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/409)
الزركشي فإن المقلد إذا قلد وجهاً الخ، ظاهر في الفرق الذي قدمته بين الحكم بالوجه الضعيف من مذهبه والحكم بمذهب الغير هذا كله في الاستخلاف العام أما الخاص كان ولي شافعي حنفياً أو مالكياً في جزئية تصح على مذهب النائب فقط لم يجز في أحد وجهين حكاه شريح الروياني واعتمده القاضي كمال الدين عصري أبي شامة شيخ النووي فأبطل تزويج حنفي صغيرة وقد أذن له شافعي فيه وصوب ما فعله بعض المتأخرين، واستدل بأن مذهب الحنفي امتناع القاضي من ذلك الإذن إلا إن نص له عليه السلطان بخصوصه ولا يكفي عموم التولية وأيضاً فكيف يجوز للشافعي الإذن فيما لم يعتقده وفارق التولية العامة بأنها تجعله قاضياً مستقلاً ومجرد الإذن استنابة عن المنيب فكيف يستنيب فيما لم يعتقده، لكن نقل ابن دقيق العيد في ذلك أخذاً من اعتماد شيخه العز بن عبد السلام عدم النقض في المسألة السابقة واعتمده أيضاً أبو شامة. قال الماوردي: ولو أدى شافعياً اجتهاده إلى أن يحكم بمذهب أبي حنيفة في قضية جاز وكان بعض أصحابنا يمنع من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره لتوجه التهمة، وهذا وإن اقتضته السياسة بعد استقرار المذاهب وتمييز أهلها فحكم الشرع لا يوجبه لما يلزمه من الاجتهاد في كل حكم طريقه الاجتهاد اهـ، وكالاجتهاد في كلامه التقليد لما مر عن الشيخين ، وبه يعلم ما في قول ابن الصلاح لا يجوز لأحد أن يحكم في هذا الزمان بغير مذهبه فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد من أهل هذا الزمان اهـ، على أنه يؤخذ من علته أن الكلام فيمن حكم بغير مذهب إمامه لا على جهة التقليد له بل اجتهاداً من عنده ولقد استفتى التاج الفزاري وأهل عصره عن حاكم حكم بخلاف مذهب إمامه فهل ينفذ حكمه مع أنه إنما يولي للحكم بمذهب إمامه، فأجاب شافعيان من معاصريه بأنه لا ينفذ الحكم فخطأهما التاج . وقال: المعروف من مذهبنا أنه لو شرط عليه الحكم بمذهب معين فسدت التولية ووقع له معهم أيضاً أنهم سئلوا عن دار مرهونة باعها(1/410)
الحاكم في الدين ثم شهدت بينة أنها وقف مطلقاً من غير ذكر مصارفها ولا كيفية وقفها فهل ينقض البيع الأول بذلك، فأجاب التاج وجماعة آخرون بأنه لا ينقض فأنكر عليهم الشمس ابن خلكان وتعجب منهم فناظره التاج فقال الشمس إنما باع بناء على الظاهر وقد بان خلافه والقاضي لا يبيع الوقف، فأجابه التاج بأن الحكم قد تم بشروطه وهو يصان عن النقض ما أمكن والوقف المشهود به في حكم المنقطع وفي صحته خلاف فلا يجوز نقض الحكم المبرم بهذا الأمر المحتمل فانقطع الشمس ولم يجد جواباً عن ذلك فتأمل هذه القضية وما تقرر في هذا الفصل فإن فيه فوائد ونفائس دعي إلى ذكرها قول بعض جهلة المفتين السابقين في حكم القاضي السابق في السؤال المتقدم في المقدمة أنه ينقض تمسكاً بإطلاق البلقيني السابق عن فتاويه مع رد ذلك الإطلاق، وبيان ما فيه من التفصيل على أن كلام التاج هذا مصرح بأن حكم القاضي في مسألتنا هذه لا ينقض وإن قلنا باعتماد إطلاق البلقيني لأن علة التاج تأتي بعينها هنا إذ الحكم هنا أيضاً قد انبرم بشروطه فلا ينقض للأمر المحتمل وإذا منع النقض مع تبين الوقف بالبينة بشبهة الخلاف في ذلك فمنعه في مسألتنا لوجود الخلاف في بيع الماء وقول مالك بصحة بيعه مطلقاً أولى فلو فرضنا أن البيع في مسألتنا واقع على الماء وحكم به شافعي لم ينقض حكمه لما مر عن الشيخين ول كلام التاج هذا وفقنا الله لطاعته ولا حرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا آمين.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/411)
(خاتمة) في ذكر الأجوبة المخالفة لما قدمته في المقدمة وكان من حقها أن لا تذكر لصدورها ممن لم يتأهل لفهم باب الاستنجاء مثلاً فضلاً عن غيره سيما أبواب المعاملات، ولذا اشتملت على قبائح من الخطأ والخطل والزيغ والزلل لكن لما كان في ذكرها فوائد كالأعلام بأن من يصدر عنه مثل هذا السفساف حقيق بأن لا يلتفت لما يقوله بعد اليوم ولا لما ينقله عن المذهب فلا يجوز لأحد استفتاؤه لأنه لم يتأهل لفهم كلامهم على وجهه بل يحرفه ويخرجه عن المراد به إلى معنى آخر لا تصح إرادته كان ذكر ذلك لهذه الأغراض الصحيحة غير محظور وغير مخل بجلالة هذا التأليف البديع بل هو من آكد الواجبات وأفضل القربات فمن تلك الأجوبة عن نحو السؤال السابق في المقدمة قول بعضهم ما لفظه لا يصح بيع الحصة من قرار عين كذا، لأن القرار الذي هو محل النبع غير مملوك له في هذه الحالة لكونه في غير ملكه، بل لو كان في ملكه ولم يره العاقدان أو أحدهما لاستتاره بالماء فالبيع غير صحيح أيضاً بل لو سلمنا رؤيته للعاقدين قبل حدوث الماء فيه لم يصح البيع أيضاً للتأقيت، فإن من شروط البيع عدم تأقيته بزمان فمتى أقت المبيع بساعة أو ساعتين أو أكثر أو أقل فالبيع غير صحيح أيضاً، ومن قال بالصحة في هذه المسألة ناظراً إلى أن المراد بالساعتين جزآن إن أراد من الأرض أو من الماء على ضرب من المجاز فمردود، لأن الساعة قطعة من الزمان وجزء منه أيضاً فعلم من ذلك أن الساعة لا تنصرف إلى غير الزمان لا حقيقة ولا مجازاً لأن أحداً لم يستعمل الساعة في جزء من الأرض ولا الماء لا ابتداء ولا بوضع ثان فلو جوّزنا استعمال لفظ ثان للزم منه ثبوت علاقة بين ما وضع له أوّلاً وما وضع له ثانياً واللازم باطل، وأما القياس على بيع صاعين من صبرة مجهولة الصيعان فلا وجه له لاجتماع شروط البيع في الصاعين من الملك والعلم بقدر المبيع مع تساوي الأجزاء والرؤية وإن كان للبائع تسليمها من أسفل الصبرة وإن لم(1/412)
يكن مرئياً لأن رؤية ظاهرها كرؤية كلها ولا كذلك القرار المذكور الذي هو محل النبع لانتفاء بعض الشروط فيه من الرؤية وغيرها ومتى فقد الشرط فقد فقد المشروط اهـ، فتأمل هذا الجواب وما اشتمل عليه من السفساف الذي لا معنى له، ومن فهم كلامهم على غير وجهه ومن الكذب الصراح وبيان ذلك أن قوله لا يصح الخ خطأ، بل فيه التفصيل السابق في الأبواب المتقدمة وقوله لأن القرار الذي هو محل النبع غير مملوك له في هذه الحالة لكونه في غير ملكه كذب قبيح، وكيف ساغ له ذلك مع ما قدمته في الباب من كلامهم مبسوطاً محرراً فكان عليه أن يذكر أقسام المسألة وتفصيلها وأنى له بذلك وأن يهتدي إليه، وقوله في هذه الحالة كأنه أشار بها إلى حالة تصورها في ذهنه فأفتى عليها دون الحالة الخارجية وهي عيون أودية مكة، وقوله لم يصح البيع أيضاً للتأقيت الخ، مما فضح به نفسه ونادى عليها بغاية الغباوة والجهل والمجازفة في دين الله تعالى وكيف يسوغ الإفتاء لمن لم يفهم قول أهل مذهبه لا يصح البيع المؤقت مع أن هذه المسألة من المبادىء التي لا تخفى على أصاغر المتفقهة ومع ذلك لم يفهمها وإلا لم يجعل بيع الحصة السقية التي قدرها ساعتان من قرار عين كذا إلى آخر ما مر من البيع المؤقت الذي هو تأقيت الملك إلى زمن معلوم أو مجهول فجعله ذلك من البيع المؤقت مع انتفاء تأقيت الملك فيه قطعاً ونما الذي فيه تقدير المبيع بزمان بناء على استواء التقادير وهو بقاء الساعة على مفهومها والإعراض عن قولهما من قرار عين كذا وما بعده وعن القرائن الدالة على المراد قرينة ظاهرة بل قطعية على أنه لم يتصور معنى البيع المؤقت ولا معنى اللفظ الذي سئل عنه وليته ستر نفسه وأبقى الناس على التوهم فيه لكن من أراد الله فضيحته والعياذ بالله، افتضح حتى يكون هو الفاضح لنفسه إن لم يفضحها غيره وقوله لأن الساعة قطعة من الزمان وجزء منه أيضاً مما يعلمك بأنه لا يحسن تركيب الكلام ولا ما يترتب عليه(1/413)
من أن القطعة غير الجزء أن فهم قوله أيضاً أو عينه إن لم يفهم ذلك فليختر له أحد الأمرين فإن كلاهما شاهد على أنه سالبة مهملة، وقوله ولا مجازاً باطل وما الذي قدمه حتى يعلم منه انتفاء المجاز، وقد قال المفسرون في قوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
{هنالك دعا زكريا ربه} ، (آل عمران: 38) إن هنا وإن كان ظرف مكان إلا أنه أريد ظرف الزمان، وفي البحر بعد أن ذكر أن أصل هنا أن يكون إشارة للمكان وقد تستعمل للزمان، وفي تفسير السخاوندي أن هنا في المكان وهنالك في الزمان وهو وهم بل الأصل أن تكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان كما أن أصل عند أن تكون للمكان ثم يتجوز بها للزمان كما تقول آتيك عند طلوع الشمس اهـ، فإذا تجوز بالمكان عن الزمان في القرآن العزيز فأولى أن يتجوّز بالزمان عن المكان في كلام العاقدين، وأيضاً فالآية لا قرينة فيها لفظاً على ذلك التجوز. وفي مسألتنا قرائن لفظية قطعية على التجوز وقوله لأن أحداً الخ، من تهوره ومجازفته وأنى له بهذا النفي العام الشامل لأهل زمانه وسائر الأزمنة قبله وقوله فلو جوزنا استعمال لفظ الخ بكلام المبرسمين أشبه، فاستدل به على عقله وملكته في المعاني والبيان الذي أراد بهذا اللفظ أن يدل الناس على أن له به معرفة فجزاه الله خيراً حيث أقام للناس شاهداً أيّ شاهد على نفسه حتى يكونوا في أمره على بصيرة، وقوله وأما القياس الخ، يقال عليه من الذي قاس بيع جزء من القرار على بيع صاعين من صبرة مع أن فرقك إنما يتم على بهتانك أن القرار غير مملوك، وقوله من الملك الخ، بيان لقوله شروط البيع في ذلك وهو خطأ قبيح ومن تلك الأجوبة أيضاً قول بعضهم ما لفظه: أما حكم بيع الماء وحده فغير صحيح كما صرح به الشيخان نفع الله بعلومهما وحكم بيع الماء مع قراره ففيه خلاف طويل مذكور في كتب المذهب لا(1/414)
حاجة بنا إلى ذكره، وأما المسألة المذكورة في السؤال أي وهي بيع الحصة السقية التي قدرها ساعتان الخ فقد ذكرها مفصلة شيخ الإسلام البلقيني تغمده الله برحمته وليس من مقامنا التعقب على كلامه ولا من الأدب الرد عليه، وأما ما ذكر في السؤال من وقوع البيع على القرار الذي هو محل النبع فغير صحيح كما ذكره الشيخ جمال الدين بن ظهيرة رحمه الله والعهدة عليه، وعلل ذلك بأنه غير معلوم، وأما ما ذكر في السؤال من حمل الساعتين على جزأين على ضرب من المجاز فلم يتضح لي وجهه، ولعله لسوء فهمي ولقلة علمي وأما ما ذكر في السؤال من قياس ما ظهر من الماء على بيع صاع من صبرة مجهولة فقياس خفي وأين باطن الصبرة من محل النبع وفوق كل ذي علم عليم وهذا ما تيسر ذكره مع قصر الباع وعدم سعة الاطلاع والحالة هذه اهـ، وهذا الجواب لما اشتمل عليه من الخبال غني عن التنفير لكن لا بأس بإشارة مّا إلى بعض ما فيه فقوله فغير، وقوله ففيه الظاهر أنه كان ينعس فتوهم سبق ما يقتضي الجواب بالفاء ولولا أنه كان ينعس ما حكم عل حكم البيع بأنه غير صحيح فإنه سئل عن البيع فلم يجب عنه، وإنما أجاب عن حكمه بأنه غير صحيح وهذا، والعياذ بالله، قد يؤدي إلى كفر لأن حكم البيع يطلق ويزاد به خطاب الله تعالى المتعلق بالبيع ومن حكم على هذا الحكم بأنه غير صحيح فلا شك في كفره كما يصرح به كلامهم في باب الردة في إنكار المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة فتأمل المجازفة كيف تؤدي بصاحبها إلى الكفر وقوله كما صرح به
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/415)
الشيخان كذب فإنهما لم يتكلما على هذا الذي أخبر عنه بأنه غير صحيح حاشاهما الله من ذلك على أنه إن أراد أن حكمه لغو وإن قصده الحكم على بيع الماء وحده بأنه غير صحيح فهو مخطىء وكاذب عن الشيخين أيضاً، فإنهما لم يطلقا ما أطلق بل فصلا كما قدمته عنهما وعن غيرهما في الباب الرابع واضحاً مبسوطاً، وقوله لا حاجة بنا إلى ذكره يقال عليه، نعم لا حاجة بك إلى ذلك بل لا يجوز لك الكلام فيه لأنك لا تتصوّر ولا تتأهل لفهمه على أنك أسأت الأدب وجهلت أدب الفتوى وكأنك لم تطلع على قولهم يكره للمفتي أن يقتصر في الجواب على قوله فيه قولان أو وجهان أو خلاف أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بجواب صحيح فلا يحصل به المقصود بل ينبغي أن يجزم بالراجح فإن لم يظهر انتظر ظهوره أو امتنع من الإفتاء كما فعله كثيرون، وقوله وليس من مقامنا الخ، يقال عليه وأنى لك بذلك وأنت لا تحسن التعبير عن مرادك بل عبرت عنه بما قد يؤدي إلى الكفر فلو لم تجب لكان خيراً لك ولسلمت من هذه الورطة التي وقعت فيها على أن كلامك هذا يقتضي أنه لا يعترض على كبير وليس كذلك ولا محاباة في الدين ومن القواعد اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، وقد يفتح على الصغير بما لم يفتح به على الكبير ومن ثم قال بعض المحققين: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية فليس ببعيد أن يدخر لبعض المتأخرين ما خفي على كثير من المتقدمين، وقوله كما ذكره الشيخ جمال الدين الخ بهتان قبيح، فقد مرت لك عبارته في الباب السادس فراجعها، وقوله ولعله لسوء فهمي يقال عليه إن أردت بذلك حقيقته فهو الواقع كما أنبأ عنك جوابك هذا أو التواضع وأنت لست كذلك فقد كذبت ومن تلك الأجوبة أيضاً قول بعضهم ما لفظه إفراد الماء الجاري من نهر أو بئر أو عين بالبيع غير صحيح كما صرح به أئمتنا للنهي عن بيع الماء وللجهل بقدره والحيلة فيمن أراد شراء ذلك أن يشتري القرار مثلاً أو سهماً منه، فإذا ملك ذلك كان أحق(1/416)
بالماء وإذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح للجهل بعين المبيع لاختلاط الموجود بالحارث ولعدم إمكان تسليمه شرعاً وقولهم مثلاً اشترى فلان ساعة أو ساعتين من قرار عين كذا لا يراد منه فيما أعلم في العادة بمكة إلا بيع الماء مقدراً بزمن ولهذا أفتى شيخ الإسلام البلقيني في صورته التي سئل عنها بعدم الصحة ولا ينافي عدم الصحة في مسألتنا قوله من قرار لأنه بيان لمحل المبيع فهو صفة لما قبله متعلق بمحذوف، وأما احتمال أن يراد بالساعتين جزآن من القرار، وكون من قرار ظرفاً لغواً ومن للتبعيض فهو وإن أمكن لكن لا يخفى أن جعل الزمان الذي هو عرض غير قار جزءاً من القرار الذي هو جسم قار مع ما بينهما من التنافي بعيد جداً ينبو عنه اللفظ لا سيما وصف الحصة بالسقية، إذ السقية هي الماء لا الجزآن من القرار بل الوصف المذكور قرينة ظاهرة عند من له أدنى تأمل في أن المبيع هو الماء المقدر بساعتين وعلى تسليم إرادة ذلك وقطع النظر عن استعمال اللفظ فيما يراد منه عادة فالبيع غير صحيح أيضاً لكون القرار غير مرئي بل ولا مملوك ولا يعرف له أصل كما ذكره عالم الحجاز في زمنه في سؤاله لشيخ الإسلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/417)
البلقيني وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، وأما القياس على بيع الصبرة فلا وجه له فيما ظهر لي اهـ، وفيه وجوه من التناقض والفساد وبيان ذلك أن قوله والحيلة الخ، ينافيه قوله الآتي إن القرار غير مملوك إذ بينهما تناقض صريح فإنه حكم على القرار هنا بأنه يشتري وفيما يأتي زعم أنه غير مملوك وفساد هذا لا يخفى على أصاغر المتعلمين فعجيب كيف خفي على هذا الذي ينصب نفسه للإفتاء لكنه كسابقيه أظهر الله فضيحة كل منهم على لسانه وبنائه ليكون ذلك أبلغ في إقامة البينة عليهم بالجهل وعدم التأهل لهذا المنصب الخطير فإن قلت يمكن أن يتمحل له عذر وإن التجم وخرس لما بلغه هذا الاعتراض وهو أن كلامه هنا في مطلق القرار وفيما يأتي في قرار عيون مكة، قلت إن أراد أن مطلق القرار مملوك الإقرار عيون مكة فإنه غير مملوك كان ذلك خطأ قبيحاً أيضاً، لأن كلامهم الذي قدمته في الباب السادس وغيره موضحاً مبسوطاً يبطله ويرده فراجعه فإنه صريح في أن القرار تارة يملك وتارة لا يملك، وفي أنه لا فرق في ذلك بين عيون الحجاز وغيرها على أن كلامه هنا صريح في أن مراده ما يشمل قرار عيون الحجاز وإلا لم يكن لقوله والحيلة الخ، فائدة لأن الاستفتاء في عيون الحجاز فإذا كان قرارها عنده لا يملك فكيف يعلم المستفتي حيلة لا يمكنه العمل بها وأيضاً فلو كان مراده تخصيص الحيلة بغير عيون الحجاز بطل قوله وإذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح، لأن ما قدمه إذا كان مفروضاً في غير عيون الحجاز فكيف يعلم منه حكم عيون الحجاز، وإذ قد ظهر لك أن كلامه هذا مصرح بأن مراده به ما يشمل عيون مكة ظهر لك وقوعه في ورطة التناقض الصريح والتهافت القبيح وكان الموقع له في ذلك أنه لم يفهم كلامهم في القرار، لأن فيه شبه تناقض كما قدمته لك واضحاً مع الجواب عنه فلما لم يفهم ذلك ولم يتحصل منه على شيء تكلم فيه بهوسه فذكر أول جوابه أنه مملوك يشتري وأنه الذي تتم به الحيلة في استحقاق الماء ثم(1/418)
ذكر آخر جوابه أنه غير مملوك، وقوله كان أحق بالماء خطأ قبيح أيضاً لأنه إن أراد بالقرار المنبع المملوك بطل قوله كان أحق بالماء لتصريحهم السابق في الباب الخامس وغيره بأن من ملكه ملك الماء وإن أراد به المنبع الذي ليس بمملوك بطل قوله أن يشتري القرار، وقوله كان أحق بالماء لأن المنبع إذا كان غير مملوك لا يصح شراؤه ولا يكون أحد أحق بمائه كما صرحوا به وقدمته ثم أيضاً وإن أراد بالقرار المحل الذي يصل إليه الماء ويستقر فيه بطلت حيلته لأنه إنما جعلها حيلة لاستحقاق الماء الجاري، وإن أراد بالقرار المجري احتاج إلى قرينة، لأن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/419)
البلقيني في جوابه الذي اعتمده هذا المجيب وأضرا به خص القرار بالمنبع أو بما يصل إليه الماء ويستقر فيه أيضاً فهذه الإرادة يبطلها قول البلقيني الذي اعتمده هو وأضرابه جموداً على ظاهره، والحيلة أن يقع البيع على القرار الذي هو محل النبع فتأمل هذا الفساد والتناقض الواقع لهذا المجيب في أقل من سطر، واعلم أن الذي عبروا به في الحيلة أن يشتري القناة أو جزءاً منها فيكون أحق بالماء وهذا تعبير صحيح، ولما لم يفهم هذا المجيب الفرق بين التعبير بالقناة والتعبير بالقرار ولا ما يترتب على ذلك مما تقرر عبر بالقرار تابعاً للبلقيني في تعبيره به في حيلته وبقوله كان أحق بالماء تابعاً لهم في تعبيرهم به في حيلتهم فجعل حيلته ملفقة من حيلة البلقيني وحيلتهم فوقع في ورطة الفساد والتناقض وهذا شأن من يلفق كلمات من عبارات من غير أن يتأمل ما يترتب على ذلك التلفيق من الفساد إذ القرار يطلق على المعنيين السابقين حقيقة وعلى المجري تجوّزاً فإن أريد به المنبع المملوك كان ملكه مستلزماً لملك الماء، وهو ما أراده البلقيني بحيلته وإن أريد به الأخير إن كان ملكه غير مستلزم لملك الماء لكنه يكون سبباً لكونه أحق به، وهو ما أرادوه بحيلتهم ولذا لما عبروا بالقناة ونحوها عبروا بأحقية الماء فلو تبعهم في التعبير بالقناة أو المجرى لسلم من هذه الورطة التي وقع فيها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وقوله إذا علم ذلك فالبيع في مسألتنا غير صحيح الخ فاسد، لأن ما قدمه لا يفيد عدم الصحة في مسألته وإنما الذي يفيده على زعمه ما سنذكره وقوله لا يراد منه فيما أعلم في العادة بمكة إلا ببيع الماء مقدراً بزمن يقال عليه كان هذا المجيب لم يطلع على آداب المفتي وإلا لما ذكر ذلك إذ منها أن لا يكتب في الواقعة على ما يعلمه بل على ما في السؤال أو يقول إن كان كذا فحكمه كذا، فعلم أن جزمه بهذه الدعوى وترتيبه بقية جوابه عليها خطأ فاحش حمله عليه مزيد(1/420)
التعصب لصديقه القائل هو عنه أنه ألزمه بالكتابة على هذا السؤال فلم يسعه التخلف وإن لم يسبق له قط كتابة على سؤال وبحمد الله أئمة الدين متوفرون قائمون بحفظه وردع من عاند أو تعصب على أنه لو فرض له تسليم ما زعمه فالاحتجاج هنا باطل لأنه لا عبرة بالعادة وقت كتابته، وإنما العبرة بالعرف المطرد حال وقوع البيع المذكور، فإن قال يستدل بوجودها الآن على وجودها في ذلك الزمن قلنا له هذا من الاستصحاب المقلوب وفيه من المباحث ما لم تحط به وإلا لزمه أن يبين وجه تخريج ما زعمه على تلك القاعدة وينظر هل ينتج له ما ذكره أو لا؟ وعلى تسليم وجود تلك العادة وأن الاستصحاب المقلوب حجة ففي أي كتاب من كتب الشافعية أن لفظ المتعاقدين إذا تردد بين أمرين وهو لا يراد منه في العادة إلا أحدهما ونويا المعنى الآخر قدم ما يراد منه عادة على ما نوياه سواء كان مصححاً أو مبطلاً، فإن أتى هذا المجيب بذلك من كتاب فهو متشبث فيما قاله هنا وإن لم يأت به من كتاب فهو مجازف متهوّر ولا يدري ما يقول ولا يعلم ما يترتب على ذلك وقد قدمت في الباب الثالث ما فيه مقنع في مبحث العرف في العقود فراجعه فإنه مهم على أن ما زعمه من العادة المذكورة باطل، إذ لا يخفى عليه ولا على غيره أنه لا يوجد أحد من أهل عيون مكة يملك ماء مجرداً عن القرار قط بل كل من ملك الماء ملك قراره بحيث إن ذيل العين ومجراها ومنبعها إذا خرب وتنازع الشركاء في عمارتها عمروها على حسب ملكهم للماء ولو رفعوا لأمر إلى قاض أو أمير بمكة لحكم بينهم بذلك وأيضاً بعض عيون أودية مكة الآن خراب لا يجري فيها ماء من منذ سنين ومع ذلك فقد أخبرني بعض الثقات أنه اشترى من هذه العين أجزاء وأن صورة مشتراها اشترى فلان ساعة مثلاً من قرار عين كذا فانظر إلى إيقاعهم لفظ الساعة من القرار على عين لا ماء فيها، وهذا أدل دليل وأعدل شاهد على بطلان ما زعمه هذا المجيب أن العادة أنه لا يراد إلا الماء المقدر(1/421)
بزمن، وقوله ولهذا أفتى شيخ الإسلام الخ، يقال عليه يتعين حمل ما أفتى به على بعض الأحوال الثمانية التي قررتها لك في الأبواب الأربعة الأول السابقة مبينة مفصلة بدلائلها من كلامهم فراجع ذلك وزد من تأمله حتى يظهر لك فساد ما جمد عليه هذا المجيب وأضرابه من الأخذ بظاهر إفتاء البلقيني من غير تأمل فيه ولا إحاطة بشيء من أحوال تلك المسألة، وأنى لهم بذلك ولم يتأهلوا لفهم الظواهر فضلاً عن هذه المضايق، وقوله لأنه بيان لمحل النبع الخ، يقال عليه ليتك لم تتعرض لذلك لأنك إذا خلطت فيه مع أنه من متعلقات النحو الذي لك فيه نوع تمييز كنت بالتخليط في غيره أحق وأولى وبيان التخليط في ذلك أن عبارته في أن من هنا للبيان، وهذا يلزم عليه فساد أيّ فساد وهو أن ما بعد من عين ما قبلها فيكون الماء عين القرار وهذا لا يتوهمه عاقل فكيف يحمل كلام العقلاء ومن جملتهم المتعاقدان عليه فإن قال لا يرد عليّ هذا الاعتراض إلا لو قلت إنها بيان للمبيع ولم أعبر بذلك، وإنما عبرت بأنها بيان لمحل المبيع فلا يرد عليّ ذلك، قلنا له إنما أخرجنا عبارتك عن ظاهرها حتى يصح تعبيرك بأن من للبيان، وأما إذا أبقينا عبارتك على ظاهرها فجعلك من للبيان فيها يدل على أنك لم تستحضر معنى من البيانية وإلا لم تجعلها بياناً للمحل لأنه باطل هنا على كل تقدير، ففي الرضى عند قول المتن وللتبيين كما في قوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/422)
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ، (الحج: 30) وتعرفها بأن يكون قبل من أو بعدها مبهم يصلح أن يكون المجرور يدل على ذلك المبهم كما يقال مثلاً للرجس أنه الأوثان ولعشرين أنها الدراهم وللضمير في قولك عز من قال إنه القائل بخلاف التبعيضية فإن المجرور بها لا يطلق على ما هو مذكور قبله أو بعده لأن ذلك المذكور بعض المجرور واسم الكل لا يقع على البعض، فإذا قلت عشرون من الدراهم فإن أشرت بالدراهم إلى دراهم معينة أكثر من عشرين فمن تبعيضية لأن العشرين بعضها وإن قصدت بالدراهم جنس الدراهم فمن مبينة لصحة إطلاق اسم المجرور على العشرين ولا يلزم أن يكون المأخوذ في نحو أخذت من الدراهم أقل من النصف كما قال بعضهم، لأنه لا يمتنع أن تصرح وتقول أخذت من الثلاثين عشرين، ومن العشرة تسعة، وقال الزمخشري: كونها للتبيين راجع إلى معنى الابتداء وهو بعيد لأن الدراهم هي العشرون في قولك عشرون من الدراهم، ومحال أن يكون الشيء مبدأ نفسه وكذلك الأوثان نفس الرجس فلا تكون مبدأ له، وإنما جاز تقديم من المبينة على المبهم في نحو قولك أنا من حظه في روضة ومن رعايته في حرم، وعندي من المال ما يكفي ومن الخيل عشرون لأن المبهم الذي فسر بمن التبيينية مقدم تقديراً كأنك قلت أنا في شيء من حظه في روضة وعندي شيء من المال ما يكفي وكذا قولك يعجبني من زيد كرمه، أي من خصال زيد كأنك قلت يعجبني شيء من خصال زيد كرمه، ومثله كسرت من زيد يده، أي شيء من أعضاء زيد يده، ففي جميع هذا ما هو المعطوف عليه معطوف والذي بعد من عطف بيان له كل ذلك ليحصل البيان بعد الإبهام لأن معنى يعجبني من زيد شيء، أي شيء من أشيائه بلا ريب فإذا قلت وجهه أو كرمه فقد بينت ذلك الشيء اهـ فتأمله، تعلم أنه إن أراد بمن هنا أنها بيان لما قبلها كان فاسداً كما مر، وكذا إن أراد بها أنها بيان لمحل المبيع لما علمت من تعريف من البيانية لأن محل الذي أراد بيانه هنا ليس مذكوراً بعد من مع مجرورها(1/423)
ولا قبلها فلا يصح أن يكون من بياناً له ودعوى أنه بيان له ينبىء عن جهل مدعيها وتأمل رد الرضي لكلام الزمخشري تعلم أنه لا يصح في من هنا أن تكون للابتداء خلافاً لمن زعمه وإيضاح ما في الرضي أيضاً ما حاصله مع زيادة عليه أن معنى الابتداء في من أن يكون الفعل المتعدي بمن الابتدائية شيئاً ممتداً كالسير والمشي ويكون المجرور بمن الشيء الذي منه ابتداء ذلك الفعل نحو سرت من البصرة أو يكون الفعل المتعدي بها أصلاً للشيء الممتد نحو تبرأت من فلان إلى فلان وخرجت من الدار، لأن الخروج الانفصال ولو بأقل من خطوة فالتبري والخروج أصلان للانفصال الممتد ومن ثم لم تكن للابتداء في قوله تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
{أسس على التقوى} ، (التوبة: 108) من أول يوم نودي للصلاة من يوم الجمعة، لأن التأسيس والنداء ليسا حدثين ممتدين ولا أصلين للمعنى الممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد من، وهذا معنى في فمن في الآيتين بمعناها، وإذا تقرر ذلك فمن في مسألتنا لا يصح أن تكون للابتداء لأن الفعل المتعدي بها وهو اشترى ليس حدثاً ممتداً ولا أصلاً لمعنى ممتد، فهو كالتأسيس والنداء في الآيتين. نعم قال المبرد و عبد القاهر و الزمخشري : إن أصل من المبعضة ابتداء الغاية لأن الدراهم في قولك أخذت من الدراهم مبدأ الأخذ فعليه يصح إرادة ذلك في مسألتنا وليت هذا المجيب تعسف وجعل من بمعنى في فإنه كان لا يتوجه عليه هذا الفساد العظيم الذي لزمه لما جعلها للبيان وإذا بطل ما زعمه من أنها للبيان وما زعمه غيره من أنها لمحض الابتداء تعين أنها للتبعيض كما قدمته أوائل الكتاب لصدق حد من التبعيضية على من هذه باعتبار التجوّز الذي قدمناه.(1/424)
(فائدة) قال في البحر: في الآية السابقة أن من لبيان الجنس وتقدر بالموصول عندهم، أي الرجس، الذي هو الأوثان، ومن أنكر كونها لبيان الجنس جعلها لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم بين لهم مبدأه إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا. قال ابن عطية : ومن قال إن من للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الوثن كما روي عن ابن عباس وغيره فكأنه قال: {فاجتنبوا من الأوثان الرجس} (الحج:30)، وهو العبادة إذ هي المحرمة، منها وقوله فهو صفة لما قبله يقال عليه هذا مما يصرح بأنه بيان لما قبله وأنه ليس بياناً لمحل المبيع فوقع في التناقض والفساد، ثم أنه إن أراد بأنه حال لا صفة ولا يقال الحال وصف في المعنى، لأن هذا اعتناء لا يقال فيمن هو في مقام الإفصاح عن معرفته بالنحو وجزاه الله خيراً، فلقد أفصح وبين وليست أل في الحصة هنا لوقوعها على معين مثلها في اللئيم يسبني كما لا يخفى، وإن أراد أنها صفة لقدرها أو لساعتين كان أظهر في المراد لأن الجار والمجرور ليس وصفاً لقدر ولا لساعة لأنهما بزعمه لم يذكرا إلا لبيان أن المبيع مقدر بزمن، وحينئذ فلا يصح وصفهما بالجار والمجرور المذكور، وقوله متعلق بمحذوف ظاهره أنه صفة لساعتين أو لقدر إذ لا يتعلق بمحذوف إلا حينئذ بخلاف ما إذا كان صفة لجميع أو للحصة فإنه يتعلق باشترى المذكور لا بمحذوف، وحينئذ ظهر لك تناقض كلامه لأن من قرار إذا كان وصفاً لقدر أو لساعة وكانت من فيه للبيان لزمه أن القدر أو الساعتين هو عين القرار وهو باطل كما مر، ثم كلامه صريح في أن من البيانية لا يكون ظرفها إلا مستقراً ومن التبعيضية لا يكون ظرفها إلا لغواً وهو باطل وادعاء ذلك أو كتابة ما يفهمه دليل ظاهر على الجهل والتهوّر فيه إذ من الشائع الذائع أن كلا من هذين يصح أن يكون ظرفاً مستقراً. ففي الرضي ومثال(1/425)
التبعيض أخذت من الدراهم والمفعول الصريح محذوف، أي أخذت من الدراهم شيئاً وإذا لم تذكر المفعول الصريح أو ذكرته معرفاً نحو أخذت من الدراهم هذا فمن متعلق بأخذت لا غير لأنه يقام مقام المفعول نحو أخذت من الدراهم والدراهم مأخوذ منها، ولو ذكرته بعد المفعول المنكر نحو أخذت شيئاً من الدراهم جاز أن يكون الجار متعلقاً بالفعل المذكور وأن يكون صفة لشيئاً فيتعلق بمحذوف أي شيئاً كائناً من الدراهم فيجوز إذا تقدم على النكرة أن يكون حالاً من النكرة الموصوفة قال تعالى:
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/426)
{خذ من أموالهم صدقة} ، (التوبة: 103) أو صفة نحو: أخذت من الدراهم، أي من الدراهم شيئاً اهـ، وكلامه هذا صريح فيما ذكرته من أن ظرف التبعيضية يصح أن يكون لغواً وأن يكون مستقراً فتأمل ذلك وأمعن النظر فيه ليظهر لك ما ارتكبه هذا المجيب من القبائح والمجازفات سيما في علمه الذي يزعم أنه ليس له نوع تمييز إلا فيه، ولقد وقع للقاضي أفضل الدين الخونجي العلامة في المنطق المتميز فيه بما لا يتميز بنظيره في بقية العلوم أنه أراد أن يستعمل منطقه في حد التركة فزيفه بعض محققي الفقهاء طرداً وعكساً، ثم قال وإن كانت هذه صناعات جدلية لكن حملنا على ذكرها أنه أحب أن يستعمل في الفقه صناعته فأحببنا معارضته أي بنفس صناعته اهـ، ويؤيده أنه يلزم من التميز في الفقه على وجهه التميز فيما يتعلق به من العلوم ولا يلزم من التميز في بعضها التميز في الفقه بل ولا التأهل لفهم ظواهره فضلاً عن حقائقه، فافهم ذلك ولا يعزب عنك قول الفاروق رضي الله عنه في قصص القرآن العزيز الكلام لك يا جارة فاسمعي وعي، وقوله لا يخفى أن جعل الزمان الذي هو عرض غير قار جزءاً من القرار الذي هو جسم قار الخ، يقال عليه تعجباً من قبيح خطئه وزلله {سبحانك هذا بهتان عظيم} (النور: 16) لأنه إذا فرض احتمال أن يراد بالساعتين جزآن من القرار فكيف يتوهم مع ذلك أن هذا فيه جعل الزمان جزءاً من الجسم لأنا إذا استعملنا الساعتين مراداً بهما الجزء لم يدلا حينئذ على الزمان مع ملاحظة ذلك وإذا كان هذا هو فرضه نفسه فكيف يتوهم معه أن هنا زماناً جعل جزءاً من مكانه وكأنه ظن أن هذا التمويه الذي راج له أو راج عليه لما قيل إنه من أكثر جوابه هذا يروج على غيره حاشا وكلا وقوله إذ السقية هي الماء باطل صراح، وإنما هي لغة اسم لنبت فإن أخذت من حيث مدلولها لفظاً كانت فعيلة بمعنى فاعلة أي ساقية وحينئذ تكون صريحة في مدعانا إذ الساقية لغة النهر الصغير وهو اسم لمحل الماء فهي على التقدير(1/427)
الثاني دليل ظاهر في مدعانا وعلى الوضع اللغوي لا دلالة فيها لأن استعمالها حينئذ في الماء أو في محله مجاز فلا يدل على أحدهما إلا بقرينة وما قلناه عليه قرائن لفظية ومعنوية بخلاف ما قاله أولئك فإن قال السقية عرفاً اسم للماء، قلنا عاد النزاع السابق في الساعة ولم يكن فيها دلالة أيضاً لأن محل النزاع لا يستدل به، فبطل قوله بل الوصف المذكور قرينة ظاهرة الخ، وقوله لكون القرار غير مرئي بل ولا مملوك قد سبق أنه ناقض في هذين بذكره الحيلة السابقة أول جوابه فلينظر أي النقيضين يختار، وقد عقدت لملك القرار باباً وذكرت فيه حكم اشتراط رؤيته وما يشهد لذلك فتأمله ليتبين لك ما وقع فيه هذا المجيب من قبيح الخطأ والخصال وفاسد التهوّر والزلل كيف والسؤال الذي رفع إليه فيه عن
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/428)
البلقيني ولم يعوّل في إفتائه إلا على ما قاله بحسب زعمه الفاسد أن طريق البيع أن تقع على القرار الذي هو محل النبع، وقد ذكر هذا طريقاً لبيع عيون مكة بالذات لأنها هي محط السؤال وكلامه صريح في أنه لا يشترط رؤيته وقد مر، ثم ما يصرح بذلك من كلام الأئمة فراجعه، وقوله ولا يعرف له أصل باطل أيضاً إذ الجهل بالأصل لا ينافي الحكم لواضع اليد بالملك كما مر في كلام الشيخين وغيرهما في الباب السادس، وقوله كما ذكره عالم الحجاز الخ، يقال عليه هذا تحريف لكلامه كما سبق ثم مبسوطاً فراجعه على أنه إنما أبرز ذلك في مقام السؤال والسائل لا يحتج بكلامه سيما وقد رده شيخه كما مر أيضاً بل لو فرض أن عالم الحجاز هذا خالف الشيخين في تصنيف أو إفتاء لم يلتفت إليه، وقوله وصاحب البيت أدرى بالذي فيه يقال عليه كأنك تشير بذلك إلى نفسك بجامع أنك مكي مثله فجزاك الله خيراً لقد بذلت جهدك في إظهار درايتك للناس وكيف لا وجوابك هذا مع إمعانك في تحريره وتنقيحه الأيام العديدة ومراجعتك لمن أملى عليك أكثره أو حرره لك على ما قيل منبىء عن تلك الأفكار الغريبة والأنظار العجيبة واتساع خرقك على راقعه وشلل ساعدك على رافعه فجاء سعيه هباء منثوراً وحق نفسه وكان أمر الله قدراً مقدوراً (الأحزاب:38) تاب الله علينا بكرمه ووفقنا لأداء شكر نعمه ومنّ علينا بالإخلاص في القول والعمل وعصمنا من الخطأ والخطل والزلل وبصرنا بعيوب نفوسنا الأبية وأجزل لنا سوابغ جوده المواهب العلية وختم لنا أجمعين بالحسنى وبلغنا بفضله المقام الأسنى وجاد علينا برضاه في هذه الدار وإلى أن نلقاه إنه هو الجواد الكريم الرؤوف الرحيم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه ما دام سودده وعلاه آمين، ووافق الفراغ من تصنيفه خامس شعبان من شهور سنة تسع وأربعين وسبعمائة أحسن الله خاتمتها في عافية(1/429)
من كل فتنة أو محنة، إنه على ذلك وغيره قدير وبالإجابة جدير فهو حسبنا ونعم الوكيل وإليه مفرغنا في الكثير والقليل، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم دعواهم فيها، سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رضي الله عنه وأدام النفع بعلومه هل يدخل في بيع الأرض السفوح الذي ينزل منها السيل إلى الأرض المبيعة وفي بيع الدار المحلات التي يطرح فيها القمامات ويطعم فيها الدواب وإن لم يقل بحقوقها أم لا يدخل شيء من ذلك إلا بذكره أو بذكر الحقوق وإذا عرف الموثق أنهما أرادا ذلك بمقتضى العادة هل له أن يكتب الوثيقة بذلك أم لا يجوز له كتب ذلك إلا بتعيينه في البيع أو بذكر الحقوق أو بإخبار البائع بإرادة ذلك؟ ولو قال المشتري اشتريت دار فلان فاكتب لي به وثيقة هل يجوز له وهل يكفي إخبار ثقة بذلك وقلتم في بعض أجوبتكم نفع الله سبحانه وتعالى بكم وبمصنفاتكم إنه لا يجوز للموثق أن يكتب إلا بما يشهد فهل يجب عليه ذلك إذا أراد مراعاة تحمل الشهادة وذلك قد يتعسر فما الحكم؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا يدخل في نحو بيع الأرض مسيل الماء ولا شربها، أي نصيبها من القناة والنهر المملوكين حتى يشرطه كأن يقول بحقوقها هذا في الخارج عنها، أما الداخل فيها من ذلك فلا ريب في دخوله كما نبه عليه السبكي رحمه الله وغيره، وإنما دخل ذلك مطلقاً فيما لو اكتراها لغرس أو زرع لأن المنفعة لا تحصل بدونه، أما نصيبها من مباح كالسفوح المذكورة في السؤال، والظاهر أن المراد بها مجاري الماء التي يصل منها السيل إلى الأرض فهي من جملة حقوقها فينتقل الاستحقاق فيها كما هو ظاهر إلى المشتري وإن لم يقل بحقوقها، وأما نحو الدار فإن كانت في شارع لم يكن لها حريم حتى يدخل في(1/430)
بيعها وإن كانت في درب مسدود كان لها حريم فيدخل هو وما فيه في بيعها وإن لم يقل بحقوقها وليس للموثق أن يكتب إلا ما تلفظا به أو ذكرا أنهما أراداه، وأما كونه يفهم بمقتضى العادة منهما أنهما أرادا شيئاً ويكتبه من غير أن يذكرا له أنهما أراداه فذلك لا يجوز مطلقاً لأنهما قد لا يريد أنه فيجب عليه أن يستفسر كلاً منهما عن لفظه ومراده به ويكتب ألفاظهما كما هي حتى إذا رفعت لحاكم قضى فيها بمذهبه وهذا ظاهر جلي لا إشكال فيه وليس في مراعاته عسر بوجه من الوجوه فعلى الموثق الاحتياط في ذلك ما أمكنه وليتأمل قوله على مثل هذه فأشهد فلا يجوز تحمل الشهادة إلا بما تيقنه دون ما ظنه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل رضي الله عنه ونفع بعلومه وبركته المسلمين فيمن له عند رجل دراهم في وقت محلها فطالب مالكها الذي عليه العين فقال له ما عندي ما أخلصك به ولكن اصبر إلى حصاد الحنطة، يعني الصيف وهو في وقت الشتاء فقال صاحب الدراهم لا بأس إني أبغي بيعها منك كل محلق بربعتي حب إلى الصيف هل يصح هذا؟ وإذا قلتم لا يصح فهل يستحق صاحب الدراهم حقه متى شاء وهل إذا أيسر الذي عليه الدين، وقال لصاحب الدراهم خذ فقال ما آخذ إلا الحب الذي في ذمتك فإنك غررتني. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى: بأنه لا يصح البيع المذكور لأن وقت البيع المراد به الحصاد مجهول ولصاحب الدين المطالبة متى شاء وليس له طلب الحب، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/431)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه عن شخصين ابتاعا عيناً بثمن معلوم بالسوية بينهما وضمن كل واحد منهما صاحبه فيما يحضر من الثمن نحو الصيف هل يصح هذا الضمان أم لا؟ وإذا قلتم بعدم الضمان هل يلزم كلاً منهما ما يحضر من الثمن أم لا بعد البيع أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب رحمه الله تبارك وتعالى بقوله: يصح الضمان والبيع فيما ذكر وإنما يبطل البيع فيما إذا شرطا فيه أن كلا يضمن الآخر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل نفع الله تبارك وتعالى بعلومه لم يثبت الخيار للبائع في مسألة تلقي الركبان دون المشتري في مسألة النجش مع أن كلا وجد منه تقصير في البحث والتفتيش؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله: المشتري مقصر أكثر لسهولة البحث عليه لكونه في البلد بخلاف البائع لا سيما إذا كان غريباً لا يعرف أحداً من أهل تلك البلد.(1/432)
وسئل رضي الله عنه عن شخص اشترى من آخر نصف زرع وشرط البائع على المشتري أن الزرع مرهون عنده بالثمن، أعني عند البائع، فهل يصح البيع والرهن أم يفسدان؟ وقول الإمام الأذرعي في التوسط وينبغي أن يكون المشروط رهنه غير المبيع فلو شرط كون المبيع نفسه رهناً بالثمن بطل البيع على المذهب وبه قطع الأصحاب اهـ فهل هو نص في المسألة أم لا؟ والمسؤول منكم حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك، فإن لم يأت جوابكم عن ذلك وإلا حصل في ذلك مشقة عظيمة وفتنة ومع علمكم أيضاً أن الأصحاب ذكروا في الدعاوى أن من استحق عيناً فله أخذها إن لم يخف فتنة وإلا وجب الرفع إلى القاضي فإذا لم يكن في البلد قاض فهل يجوز قهر من هي تحت يده ولو حصلت الفتنة أو لا؟ فإن قلتم ليس هو في المسألة المسؤول عنها لأن البائع له حبس المبيع لاستيفاء الثمن، قلنا إن المشتري له نصف الزرع المبيع قبل البيع فامتنع البائع من تسليم جميع الزرع إلا بتسليم ثمن النصف المبيع؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بقوله: إن كان المشروط رهنه هو النصف المبيع بطل البيع، والشرط وكذا إن شرط رهن الكل أو رهن الزرع أو نصفه أو أطلق وإن كان النصف غير المبيع صحا وللبائع حينئذ حبس جميع الزرع حتى يأخذ ثمن النصف ولا يجوز حيث خيفت فتنة أن يستقل المستحق بالأخذ بل يلزمه الرفع إلى حاكم ذلك المحل أو محل قريب منه إن نفذ حكمه فيه فإن فرض الخلو عن الحاكم فأمر نادر فلا يعول عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/433)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا كان لزيد عبد مثلاً ولعمرو عبد فباع زيد عبده من عمرو بخمسة وعشرين ذهباً فرانسة ثم باع عمرو عبده من زيد بمثل ذلك الثمن ثم أبرأ كل منهما ذمة صاحبه من ذلك الثمن المعلوم ثم بعد ذلك أبق عبد عمرو الذي اشتراه من زيد وثبت عبد زيد الذي اشتراه من عمرو مستحقاً ببينة بين يدي حاكم وهو في غير محل ولايته فهل ينفذ حكمه في غير محل ولايته وإذا أراد كل منهما الرجوع على صاحبه بالثمن المعلوم فهل لكل منهما الرجوع على صاحبه بعد براءة الذمة من الثمن الذي عقد به أم لا؟. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ ونفع بعلومه المسلمين بقوله: لا ينفذ حكم الحاكم في غير محل ولايته وإبراء ذمة مشتري العبد الذي خرج مستحقاً لم يصادف محلاً فإن ذمته لم تشتغل للبائع بشيء، وأما العبد الذي أبق فإن كان الأباق عيباً بأن أبق عند البائع قبل البيع أو قبل القبض فالبيع مع ذلك صحيح وإبراء البائع ذمة المشتري من الثمن صحيح أيضاً فإذا رد عليه الآبق بعد عوده لم يرجع عليه بشيء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/434)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه هل يجوز التفريق بين الجارية وولدها الذي لم يميز وكذا البهيمة قبل الاستغناء عن اللبن بالنذر المنجز والمعلق بموت مالكها، فقد نص شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده في شرح المنهج على جواز التفريق بالوصية والنذر المعلق مطلقاً أو بالموت وهل يفرق بين التفريق بالنذر لجهة تحريره وغيره؟. فأجاب رضي الله تبارك وتعالى عنه بقوله: الجواب عن هذه المسألة يترتب على مسألة التفريق بينهما بالوقف، وقد جزم شيخنا في شرح المنهج بجواز التفريق به كالعتق وسنده في ذلك قول الزركشي رحمه الله تبارك وتعالى في خادمه سكتوا عن أمور: منها: الوقف ولم أر فيه نقلاً، ويشبه إن قلنا الملك فيه لله سبحانه وتعالى، فكالعتق وإلا فكالهبة ويخالف العتق بتشوف الشارع إليه لما فيه من زوال الرق واستقلال العبد بنفسه وليس هذا المعنى موجوداً في الوقف ويشهد لذلك أنه لو باع عبداً بشرط إعتاقه صح ولو باعه بشرط الوقف لم يصح اهـ فافهم قوله، إن قلنا الملك فيه لله سبحانه وتعالى فكالعتق أن المعتمد عنده جواز التفريق بالوقف، لأن الأصح أن الملك في الموقوف لله سبحانه وتعالى والذي جريت عليه في شرح الإرشاد خلافه وعبارته والأوجه خلافاً لما جزم به شيخنا رحمه الله تعالى في شرح المنهج أخذاً من كلام الخادم أن الوقف ليس كالعتق لأن من وقف لا يملك نفسه لانتقال الملك فيه لله سبحانه وتعالى بخلاف من عتق ولأن الموقوف لا يستبد بنفسه فلا يقدر على ملازمة الآخر بخلاف العتق ثم رأيت بعض المتأخرين صوب ذلك انتهت وأشرت بقولي ثم رأيت الخ إلى قول الكمال الرداد في شرح الإرشاد. قال شيخنا في شرح الإيضاح وفي جواز التفريق بالوقف ثلاث طرق: أحدها يجوز كالعتق، والثاني لا يصح كالهبة، والثالث مبني على أقوال الملك فإن قلنا ينتقل إلى الله سبحانه وتعالى جاز وإلا فلا اهـ وهو غريب لم أجده في كتاب، والصواب الثاني لأنه لا يملك نفسه فلم يتمكن من(1/435)
ملازمة الآخر اهـ وعلى ما ذكرته من امتناع الوقف فيها فيفارق الوصية بما يأتي فيها من أنه لا ضرر فيها ولا ملك حالاً مع احتمال أن الموت قد يتأخر عن زمن التحريم بخلاف الوقف فإن فيه الضرر في الحال كما مر إذا تقرر ذلك في الوقف علم أن ذلك يتجه في النذر بالولد أو الأم أنه إن كان معلقاً بموت أو غيره انعقد قياساً على ما ذكروه من صحة الوصية بأحدهما لعدم الضرر فيه في الحال ولعل موت الموصي يكون بعد زمن التحريم فكذلك النذر المعلق لا ضرر فيه في الحال ولعل وجود المعلق به يكون بعد زمن التحريم وهو التمييز فإن وجد قبله تأتي فيه ما ذكرته في شرح الإرشاد في الوصية وعبارته: فإن مات، أي الموصي قبله، أي قبل زمن التحريم، وقبل الموصي له بأحدهما الوصية احتمل أن يقال يغتفر التفريق هنا لأنه في الدوام وأن يقال بياعان معاً كما يأتي في الرهن لكن يفرق بأن المرهون ثم مبيع فلو جوّزنا بيعه وحده لكان فيه تفريق ابتداء بخلافه هنا فالذي يتجه هو الأول انتهت فكذا يقال في النذر المعلق لو وجد المعلق عليه قبل التمييز جاز للمنذور له حيث لم يردّ أخذ أحدهما المنذور له به وإن لزم منه تفريق لأنه لم يقع ابتداء وقصداً بل دواماً وتابعاً والشيء يغتفر فيه في الدوام وتابعاً ما لا يغتفر فيه في الابتداء ومقصوداً وإن كان أعني النذر بأحدهما منجزاً فإن كان بعتق أو ما يؤول إليه كنذر لله عليّ أن أتصدق بهذا على أبيه فلا توقف في جوازه لتصريحهم بجواز التفريق بالعتق والنذر به حكمه حكمه، أما في الصورة الأولى فواضح وأما في الثانية فلأن الملك فيها للمنذور له وقع ضمناً والشيء يغتفر فيه ضمناً ما لا يغتفر فيه مقصوداً، ومن ثم جوزوا دخول المسلم في ملك الكافر في هذه الصورة لما ذكرناه وإن كان ليس بعتق ولا بما يؤول إليه كعليّ أن أهب هذا القن لزيد فالذي يتجه المنع في هذه الصورة لأن المنذور به في هذه الصورة وإن لم يملكه المنذور له إلا بالقبض غايته أنه(1/436)
كالمرهون بجامع أن كلاً منهما لا يملك إلا بالقبض، وقد صرحوا بمنع التفريق بالهبة فيكون النذر أولى لأن المتهب قبل القبض ليس له مطالبة الواهب بما وهب له بخلاف المنذور له مطالبة الناذر قبل القبض بما نذر له به فتعلقه أتم من تعلق المتهب فإذا امتنعت الهبة مع ضعفها عن تسويغ المطالبة فالنذر القوي على تسويغ المطالبة أولى بالامتناع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه عن قولهم يحرم بيع العنب لعاصر الخمر ويصح والسلاح للحربي ولا يصح؟ فما الفرق بينهما؟. فأجاب: بأن الأول فيه تسبب بعيد للمعصية لاحتياجه إلى العصر والمعالجة فأشبه بيع الحديد لحربي يغلب على الظن أنه يجعله سلاحاً بخلاف بيع السلاح نفسه.
وسئل رحمه الله تعالى عن حدوث العيب بعد القبض في زمن الخيار ما حكمه؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: قال ابن الرفعة : القياس بناؤه على ما لو تلف حينئذ قبل الفسخ والأرجح على ما قاله الرافعي إن قلنا الملك للبائع انفسخ لعدم إمكان نقل الملك وإلا فلا اهـ، ويفهم من التعليل أن الانفساخ عام فيما إذا تلف المبيع بآفة أو بإتلاف البائع أو المشتري أو غيرهما وهو ظاهر كما قاله بعض المتأخرين ولو عيبه المشتري والصورة ما سبق فإن فسخ البائع غرم المشتري الإرش ورجع بجميع الثمن وإن أجاز فلا شيء للمشتري.
وسئل نفع الله تعالى بعلومه عمن باع ثمرة بشرط القطع جاز للمشتري بيعها بخلاف ما لو اشترى عبداً بشرط العتق فما الفرق؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: العتق مستحق على المشتري فليس له نقله إلى غيره بخلاف القطع فإنه يسقط بالتراخي.(1/437)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم لا يصح البيع وهو مشكل بما لو قال والله لا أطأ كل واحدة منكن فإنه يصير مولياً من جميعهن فما الفرق؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: لا إشكال لأن الحالف عين المولى منهن، أعني كل واحدة من نسائه بخلاف مسألة البيع فإن المذكور فيها ليس تعييناً للمبيع بل تفصيل لثمن صيعانه وإلا لزم أن يكون ثمن جميع الصبرة درهماً واحداً فالمبيع مجهول ففسد البيع.
وسئل نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه عمن قال أشركتك فيما اشتريته صح وحمل على المناصفة بخلاف ما لو قال بعتك هذا بألف دراهم ودنانير لم يصح فما الفرق بينهما؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: يفرق بأن الاشتراك حيث يطلق كان ظاهراً في المناصفة فعمل بهذا الظاهر بخلاف العطف في المسألة الثانية فإنه ليس ظاهراً في ذلك بل يحتمل أنه أراد تساوي الواجب من كل وتفاوته ولا مرجح فبطل للإيهام وعدم المرجح.(1/438)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه: ما حقيقة النقد وهل لفظ الدرهم والدينار والذهب والفضة يعم المضروب وغيره أو يختص بالمضروب وقد وقع ل لشيخين وغيرهما تقييد ذلك بالمضروب فهل ذلك حقيقة أو مجاز؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: فسر الشيخان وغيرهما النقد بالدراهم والدنانير المضروبة فيحتمل أن لفظ المضروبة صفة مخصصة أو موضحة فلا مفهوم لها، لكن قول الماوردي رحمه الله تبارك وتعالى قد يعبر بالدراهم عن غير المضروبة يرشد إلى الثاني إن جعلنا التعبير به عنه مجازاً، وهو الظاهر من استقراء كلامهم، ولأن المتبادر من لفظ الدينار والدرهم إنما هو المضروب، نعم الذهب والفضة أعم مطلقاً من الدراهم والدنانير لصدقهما بغير المضروبة فإذا قيدا بالمضروبة ترادف الدراهم والدنانير على ما مر، فعلم مما تقرر أن وصف النقد بالمضروب لا مفهوم له، ومن ثم اعترض وصف الحاوي والمحرر له به وإن لفظ النقد لا يشمل الفلوس وإن راجت وما اقتضاه كلام الشيخين في البيع من شموله لها فغير مراد بدليل كلامهما في باب القرض.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/439)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا غلب من جنس العروض نوع فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق في العقد كالنقد أو يفرق؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: الذي رجحه في أصل الروضة الأول وكذا رجحه في المجموع قال: وصورة المسألة أن يبيع صاعاً من الحنطة بصاع منها أو بشعير في الذمة وتكون الحنطة والشعير الموجودان في البلد صنفاً معروفاً أو غالباً في البلد لا يختلف ثم يحضره بعد العقد ويسلمه في المجلس اهـ وبتأمله يعرف أنه لا فرق بين أن لا يكون في البلد غير النوع الموصوف أو تتعدد الأنواع ويغلب أحدها وهو ظاهر، وبه صرح الغزالي وغيره وإن وقع نزاع في أن عبارة المتولي التي نقل الرافعي المسألة عنها هل تفهم ذلك أو تقتضي التخصيص ولكن الحق الأول وقياسه ما صرحوا به أيضاً من أنه لو وقع التعامل في بلد بنوع واحد من الفلوس العددية أو بأنواع وأحدها غالب انصرف الإطلاق إليه وكذا في الثياب ومن ثم قال ابن الصباغ لو قال بعتك هذا بعشرة أثواب وأطلق وكان لهما عرف انصرف إليه كالنقدين.(1/440)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل يجوز التعامل بالفلوس العددية نوعاً في الذمة وإذا تعددت أنواعها فهل يأتي في كل نوع منها ما ذكروه في النقد وهل يكفي التعيين بالنية كالخلع وإلا فما الفرق؟ وما الفرق أيضاً بينه وبين ما لو قال من له بنات زوّجتك بنتي وعيناً واحدة بالنية فإنه يصح؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: تجوز المعاملة بالفلوس العددية عدداً في الذمة كما قاله القاضي، وأقره ابن الرفعة وأفتى به ابن الصلاح رحمهم الله تبارك وتعالى بعد أن كان منع منه. قال القاضي : لأن القصد إعدادها لا وزنها ثم إذا تعددت أنواعها إما أن يغلب أحدها أو تستوي، فإن استوت فتارة تتفاوت قيمتها وتارة لا، ففي الحالة الثانية لا يجب تعيين كما في البيان واعتمده الإسنوى ويؤيده قول الرافعي لو كان في البلد صحاح ومكسرة لم يغلب أحدهما ولا تفاوت بينهما صح العقد بدون التعيين وسلم المشتري ما شاء منهما، وفي الحالة الأولى لا بد من التعيين باللفظ ولا يكفي بالنية وفارق الخلع بأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع من التعليق والصحة بالمجهول والنجس وغير ذلك. وأما مسألة النكاح المذكورة في السؤال فالحكم المذكور فيها هو ما ذكره الإسنوى واستشكلها بمسألة البيع واعترض قوله الأصح فيها الصحة بأن الصورة التي ذكر
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/441)
الشيخان فيها الصحة إنما هو فيما لو كان اسم بنته الواحدة فاطمة وقال زوّجتك فاطمة ولم يقل بنتي ونوياها ثم قالا ولو كان له بنتان فصاعداً فلا بد من تمييز المنكوحة بالتسمية أو الإشارة بأن يقول بنتي هذه أو بالوصف بأن يقول بنتي الكبرى أو الوسطى وهن ثلاث قال المكتفون بالنية أو ينوي واحدة بعينها وإن لم يجر لفظاً مميزاً اهـ. وهذه الصورة الأخيرة هي صورة الإسنوى ولم يصح الشيخان فيها الصحة بل ربما يشعر قولهما، وقال المكتفون بالنية بعد ما قبله أن الاكتفاء بالنية هنا مقالة ويجاب بأن تصحيح الشيخين الصحة في المسألة الأولى وإن قوي اعتراض ابن الصباغ فيها بأن الشهود لا يطلعون على النية يدل على أنهما موافقان للمكتفين بالنية في المسألة الثانية بجامع أن في كل من المسألتين اكتفاء بالنية، فإن قلت يمكن الفرق بأنه في المسألة الأولى لم تتعدد بنائه وإنما أتى بلفظ يشمل بنته وبنت غيره شمولاً بدلياً وقصد تزويج بنت الغير بعيد جداً، فكان الحمل على بنته أولى للقرينة الدالة عليه الظاهرة فيه فلذلك أثرت فيه النية بخلافه في المسألة الثانية فإن بناته متعددة، وقوله بنتي يشمل كلا منهن وليس ثم قرينة غير النية تكون عاضدة لها فلا يلزم من الاكتفاء بالنية في المسألة الأولى الاكتفاء بها في المسألة الثانية لوجود قرينة ثم وهي عدم شمول لفظه لبنت الغير في حالة شموله لبنته وبعدم إرادة بنت الغير وعدم وجود قرينة هنا ظاهرة ظهور تلك القرينة، لأن قوله بنتي يشمل كلا من بناته في حالة واحدة لأنه مفرد مضاف ولا بعد في إرادة أي واحدة منهن، قلت جوابهم عن الاعتراض السابق في النكاح وهو أن الشهود لا يطلعون على النية ولذا لم يكتف بالكناية في النكاح بأنه إنما لم يكتف بها في العقد لأن الصيغة هي المقصود والزوجة بالنسبة لها أمر تابع فاغتفروا النية في الأمر التابع ولم يغتفروه في الأمر المقصود فهذا يدل على الاكتفاء بالنية في الزوجة لكونها أمراً(1/442)
تابعاً بالنسبة للصيغة سواء أوجدت قرينة ظاهرة تؤيد تلك النية أم لا؟ وفهم بعضهم تخصيص المسألة الثانية بما إذا كان له بنات اسم إحداهن فاطمة فقال زوجتك بنتي فاطمة فجعل هذا هو محل الخلاف بخلاف ما لو قال بنتي فقط، فإنه لا يصح جزماً وليس كما زعم بل الخلاف جار في الصورتين والأوجه فيهما الصحة وعليه فيفرق بينهما وبين بعتك هذا بعشرين درهماً وهناك نقدان مستويان في الغلبة وقيمتهما متفاوتة حيث لم يكتف هنا بالتعيين بالنية بأنه ليس هنا قرينة دالة على المقصود بوجه من الوجوه غير محض النية فلم يؤثر بخلافه في النكاح فإن بعد إرادة بنت الغير فيما إذا قال زوّجتك فاطمة أو الإضافة إليه في زوّجتك بنتي قرينة دالة على المقصود غير النية فلا يلزم من الاكتفاء بالنية مع وجود قرينة دالة عليها الاكتفاء بها مع عدم قرينة دالة على المقصود بوجه من الوجوه. الحالة الثانية أن يغلب أحد أنواع الفلوس فيحمل الإطلاق عليه كالنقد فإن عين غيره تعين وصحح الرافعي رحمه الله تعالى أنه لو غلب في البلد دراهم عددية ناقصة الوزن أو زائدته نزل البيع وغيره من المعاملات عليها بخلاف الإقرار والتعليق وكذا يقال في الفلوس بل أولى لأن الغالب عدم النظر لوزنها بل لمجرد عددها.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/443)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا كان المبيع أو الثمن في الذمةفهل يضر جهل العاقدين بجملته حال العقد إذا ذكر فيه ما يعلم به مقدار الجملة بالتأمل بعد ذلك أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ذكر الشيخان وغيرهما في مسائل الصبرة وبيع المرابحة ومسائل الدور في تفريق الصفقة وغير ذلك ما يصرح بالصحة حيث ذكرا ما يعلم به مقدار الجملة بالتأمل بعد ذلك بالطرق الحسابية كطريق الجبر والمقابلة وغيرهما سواء كان ذلك مما يعسر علمه على العاقدين أو غيرهما، بل قضية إطلاقهم الصحة وإن ذكرا في العقد ما يعسر استخراجه على أهل بلد كبعتك بمائة دينار ونصف وربع دينار إلا خمسة عشر درهماً وتسع وعشر درهم فإن شرط الصحة في نحو هذه المسألة أن يعلما قيمة الدينار بالدراهم فلو كانت قيمة الدينار فيه سبعة عشر وثلثاً وربعاً مثلا احتيج في استخراجه إلى مزيد تكلف حساب يعسر استخراجه على كثير ومع ذلك يصح العقد.(1/444)
وسئل أبقاه الله سبحانه وتعالى بما لفظه: وقع في الثمن خلاف فقيل هو النقد، وقيل ما التصقت به الباء والأصح أنه إن كان أحد العوضين نقداً فهو الثمن وإلا بأن كانا نقدين أو عرضين فما دخلت عليه الباء ما ثمرة الخلاف وإذا كان الثمن أو المثمن جزافاً كفت معاينته هل يعم النقد وغيره وهل يقيد بما يحيط به التخمين وهل كراهة التخمين تشمل المذروع وغيره؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله: تظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها ما لو باع نقداً بنقد فعلى الأول لا مثمن فيه أو عرضاً بعرض فلا ثمن فيه بل هو مقايضة كما قاله الرافعي أو مبادلة كما في الروضة. ومنها إذا قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فعلى الثاني العبد الثمن وعلى الأول والثالث في صحة العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير لأنه جعل الثمن مثمناً. ومنها إذا باعه ثوباً بعبد موصوف صح فإن قلنا إن الثمن ما لصق به الباء فالعبد ثمن ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإن لم نقل ذلك فقيل يجب تسليم الثوب لأنه سلم نظراً للمعنى، وقيل لا لأنه ليس بسلم لعدم اللفظ والفلوس وإن راجت كالعروض والقيمة خلاف الثمن لأنها ما ينتهي إليه رغبات الناس ويعبر عنه بثمن المثل، وقيد الأذرعي في الغنية صحة بيع الجزاف حيث قال قضية إطلاقهم أنه لا يشترط كيله ولا وزنه ولا ذرعه ولا عده وهو ظاهر فيما يخمنه الناظر إليه عند تأمله، أما لو عظمت الصبرة عظماً متفاحشاً أو كثر غيرها من المعدود والموزون والمذروع كثرة لا يخمن الناظر إليه قدره ففي الاكتفاء بمجرد معاينته نظر لكثرة الغرور ويؤيده أنه لو باع صبرة على موضع فيه ارتفاع وانخفاض أو مائعاً ونحوه في ظرف مختلف الأجزاء دقة وغلظاً لم يصح لعدم إفادة التخمين برؤيته فهو مجهول القدر اهـ، وما قيد به محتمل، ويحتمل ترجيح إطلاقهم ويفارق ما استشهد به بأن نحو الارتفاع والانخفاض شيء لم يحط به البصر بوجه فمنعه لإفادة التخمين أقوى من(1/445)
مجرد الكثرة لأن البصر مع ذلك يحيط بما ظهر منه وليس في باطنه ما يخالف ما أدركه النظر في ظاهره فالأوجه ما اقتضاه إطلاقهم والذي في زوائد الروضة والمجموع كراهة بيع الجزاف وهو يشمل المذروع وغيره وما وقع في التتمة مما يقتضي استثناء المذروع غير متجه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه عما إذا وقع البيع أو نحوه بفلوس عددية ثم قبل قبضها غير السلطان أو نائبه حسابها بزيادة في عددها المقابل بالدراهم أو نقص فيه فما الذي يلزم المشتري وهل القرض ونحوه كالبيع؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: الذي يلزمه إقباض الثمن منها على حساب ما كان التعامل بها حالة العقد وإن وقع التعبير المذكور قبل لزومه بأن كان خيار المجلس أو الشرط باقياً فيما يظهر ولا عبرة بما حدث بعد ذلك من التغيير، وبذلك صرح في النقد الشيخان في البيع و النووي في المجموع وزوائد الروضة في القرض، وعبارة التتمة: إذا باع ماله بنقد معين فمنع السلطان من المعاملة بذلك النقد لا يفسد العقد خلافاً لأبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولكن إن كان العوض مشاراً إليه فيسلم ما وقع عليه وإن كان قد التزمه في الذمة فيأتي بالقدر الملتزم في الذمة من ذلك النقد ويسلم، ثم قال وإذا جاء بذلك النقد فعلى البائع قبوله ولا خيار له، لأن التغيير ما عاد إلى العين، وإنما قلت فيه رغبات الناس فصار كما لو اشترى شيئاً فرخصت الأسعار ولو جاء بما حدث لا يجب قبوله اهـ، وشمل قوله معين المعين بالذكر كأن لم يكن غالب أو بالانصراف إليه كأن كان ثم غالب أو لم يكن ثم غيره، وبه صرح في المجموع وقال الماوردي : لو حصلت في ذمة رجل دراهم موصوفة فخطر السلطان المعاملة بها وحرمها عليهم لم يستحق صاحب الدراهم غيرها ولم يجز أن يطالب بقيمتها خلافاً لأحمد، لأن نهاية ذلك أن يكون بخساً لقيمتها وما في الذمة لا يستحق بدله(1/446)
لنقصان قيمته اهـ ملخصاً، وتناولت عبارته البيع والقرض وغيرهما بخلاف عبارة المتولي قبل وقوله وحرمها عليهم ظاهره أن تحريم السلطان معتبر في مثل هذا، وأنه يحرم التعامل بما منع من التعامل به وليس ببعيد، واستدل له بقوله تعالى: {وأولي الأمر منكم} ، (النساء: 59) وبقول النووي في فتاويه: إذا أمر ولي الأمر الناس بصيام ثلاثة أيام الاستسقاء عند الحاجة إليه يكون الصيام واجباً عليهم. قال: ومن أخل به عند الحاجة والحالة هذه أثم ولك أن تقول يحتمل ترجيح ذلك ويحتمل ترجيح خلافه ويفارق مسألة الاستسقاء بأن الصوم فيها سنة فإذا أمر به الإمام صار واجباً خلافاً للبلقيني ، ومن تبعه واستشهاده بنص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ على عدم وجوب الصوم مردود بخلاف النهي عن التعامل بنقد فإنه غير سائغ له فلا تجب طاعته فيه والذي يتجه في ذلك أخذاً من قولهم في باب الإمامة تجب طاعة الإمام في غير أمر محرم، ومن قولهم إذا سعر الإمام وجب امتثاله وإن حرم عليه أنه يحرم التعامل بها ظاهراً لما فيه من شق العصا لا باطناً لتعدي الإمام بتحريم المعاملة بها، نعم إن رأى في ذلك مصلحة عامة حرم التعامل بها مطلقاً على الأوجه، وإذا تأملت ما تقرر عملت أن مسألة الفلوس أولى من مسألة النقد، لأن مسألة النقد فيما أبطله الإمام بالكلية ومسألة الفلوس لم يبطلها بل غير حسابها فإن فرض أنه أبطلها فهي كمسألة النقد أيضاً لجريان العلة التي عللوا بها النقد فيما مر عند إبطاله في الفلوس إذا أبطلت وتوهم فرق بينهما لا يجدي فاحذره بل نقل عن المذاهب الثلاثة أنها قائلة بتساويهما في ذلك.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/447)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه بما لفظه: قال في البيان لو قال بعتك بألف درهم من ضرب عشرين بدينار لم يصح، لأن المسمى هي الدراهم وهي مجهولة فلا تصير معلومة بذكر قيمتها قال: وإن كان نقد البلد صرف عشرين بدينار لم يصح أيضاً، لأن السعر يختلف ولا يختص ذلك بنقد البلد. قال ابن الصباغ رحمه الله تبارك وتعالى: وهكذا يفعل الناس اليوم يسمون الدراهم ويتبايعون بالدنانير ويكون كل قدر من الدراهم معلوم عندهم ديناراً قال: وهذا البيع باطل، لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ولا مجازاً ولا يصح البيع بالكناية اهـ كلام صاحب البيان رحمه الله تبارك وتعالى، وقضيته أنهم لو كانوا يعبرون بالدراهم عن الفلوس الجدد ويسمون عدداً خاصاً منها معلوماً عندهم بالدراهم كما في مصر وإقليمها لم يصح أن يقال بعتك بألف درهم فلوس جدد بل هذه أولى بالبطلان لأن الدراهم إذا لم يعبر بها عن الدنانير لا حقيقة ولا مجازاً مع تشاركهما في النقدية وكونهما ربوبين ووجوب الزكاة في عينهما وغير ذلك فالفلوس أولى بأن لا يطلق عليها الدراهم لا حقيقة ولا مجازاً فما المعتمد في ذلك؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله: ما في البيان ضعيف كما قاله في المجموع وأيضاً فهو إنما بنى البطلان على عدم صحة البيع بالكناية وهو ضعيف، وعلى أن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير لا حقيقة ولا مجازاً، وليس كذلك بل يعبر بها عنها مجازاً، ومن ثم قال النووي : إذا عبر بها عنها صح أي ويكون تعبيره بذلك مجازاً كقولك في عشرين درهماً مثلاً هذه دينار إذا كان ذلك هو صرفها أي هذه صرف دينار فهو من مجاز الحذف وأيضاً فتعليله بأن السعر يختلف خلاف فرض المسألة وبأن ذلك لا يختص بنقد البلد لا يضر، لأن العبرة ببلد العقد وأيضاً فلأن قوله بعتك بألف درهم من الفلوس الجدد ليس كقوله بعتك بألف درهم من صرف عشرين بدينار، لأن القصد الفلوس وتقدير إعدادها بالتعبير عنها(1/448)
بالدراهم إنما هو على وجه الاختصار ويقابل كل درهم منها بعدد محدود معلوم حالة العقد فإذا كان ما يقابل الدرهم أربعة وعشرين فلساً فكأنه قال بعتك بأربعة وعشرين ألف فلس فالدرهم المعبر به عن الفلوس لا جهالة فيه وليس مقصوداً وإنما المقصود الفلوس بخلاف قوله بعتك بألف درهم صرف عشرين بدينار فإن الدينار المعبر عنه بالدراهم ليس هو المقصود ثمناً، وإنما المقصود الدراهم المسماة غير أنه قدرها بما ليس مقصوداً بالنقد ولو قال بمائة درهم حمل على الفضة المضروبة دون الفلوس، إذ المجاز لا بد فيه من قرينة وهي التقييد هنا لفظاً لا غير وما ذكره في البيع يجري مثله في سائر المعاملات.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن قال بعتك نصف هذه الصبرة وصاعاً من نصفها الآخر فهل يصح أم لا؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: ذكر القاضي أنه لا يصح وخالفه الإمام رحمهما الله تبارك وتعالى فقال: يصح إذا صححنا بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان.
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه بما لفظه في الروضة لو قال بعتك هذه الشاة إلا رأسها مثلاً يصح إذا كان المقطع معلوماً بخلاف بعتك رأس هذه الشاة وهي مذبوحة فإنه لا يصح فما الفرق؟. فأجاب نفع الله بعلومه المسلمين بقوله: كأن الفرق بينهما أن المبيع في الأولى من عدا الرأس مم بقية الشاة وهو معلوم لا جهالة فيه بوجه، لأن الفرض أن المقطع معلوم والمبيع في الثانية الرأس وهي ما دامت متصلة بالجثة مجهولة وإن كان المقطع معلوماً لأنها مشتملة على انعطافات وعروق وأعصاب لا تظهر إلا بعد انفصالها فلم يصح بيعها ما دامت متصلة للجهالة.(1/449)
وسئل أبقاه الله سبحانه وتعالى قالوا في البيع لو شرط ما ينافي مقتضاه كان لا يقبض المشتري المبيع أو لا ينتفع لم يصح وفصلوا في نظير ذلك في النكاح إذا شرط فيه أن لا يطأ الزوج بين أن يكون الشارط الزوجة فلا يصح أو الزوج فيصح النكاح ويلغو الشرط فهلا قيل بنظير ذلك هنا؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله: قضية كلام القاضي حسين بل صريحه جريان مثل ذلك التفصيل في البيع أيضاً فإنه قال لو اشترى طعاماً، وشرط أن يطعمه لغيره صح البيع إن كان الشارط المشتري فيحتمل ترجيحه ويحتمل ترجيح ما اقتضاه كلام غيره كالشيخين رحمهما الله تبارك وتعالى وغيرهما من البطلان في البيع مطلقاً والتفصيل في النكاح على أن للرافعي رحمه الله تعالى فيه إشكالاً طويلاً مقرراً في محله وعلى هذا فقد يفرق بأن البيع لما كان من المعاوضات المحضة التي تفسد بفساد العوض كان الشرط المنافي لمقصوده مفسداً له مطلقاً وإن وقع ممن له الحق تنزيلاً لاشتماله عليه منزلة اشتماله على العوض الفاسد بخلاف النكاح فإنه من العقود التي لا تفسد بفساد العوض فلم يفسده الشرط إلا حيث وقع من غير من له الحق لتحقق المنافاة حينئذ لمقصوده من كل وجه بخلاف ما إذا وقع ممن له الحق، لأن المنافاة حينئذ لم تتحقق من كل وجه فهي كاشتماله على عوض فاسد وذلك لا يفسده.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن باع في مرضه عيناً قيمتها مائة بخمسين ليس له غيرها وعليه دين مائة فما الحكم في هذا البيع؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: قضية ما ذكروه في الخلع صحة البيع في نصف العين بجميع الخمسين وحينئذ يثبت للمشتري الخيار، وقد صرح الماوردي رحمه الله تبارك وتعالى بنظير المسألة فقال لو باع المريض وارثه عبداً بمائة يساوي مائتين ولم يجز الورثة فنصفه بالمائة، وصرح الدارمي بمثله وزاد جريان قولي تفريق الصفقة.(1/450)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى بما لفظه: اشترى عبد بين جماعة حصة واحدة منهم فيه منه فهل يصح أو لا؟ كما إذا اشترى في ذمته بغير إذن سيده؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به وبعلومه بقوله: نعم يصح لأن هذا عقد عتاقة فكأن البائع أعتقه وحينئذ فيسري إلى باقيه إن كان البائع موسراً ببقية قيمته وليس هذا كما نظر به السائل لأن الباقين لا يملكون الاعتراض على البائع في بيع نصيبه.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما صورته وكله ببيع كتاب فباعه مع كتاب آخر للوكيل في عقد واحد هل يصح فيهما أو لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله يبطل في الجميع ولا يدخله تفريق الصفقة لأنه غير مأذون فيه ذكره في البيان لكن قضية كلامهم في صحة بيعه لعبده أن تفريق الصفقة يدخله وهو ظاهر.
وسئل نفعنا الله بعلومه عن القول بصحة بيع المعاطاة هل يشترط لفظ من أحدهما أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لا يشترط ذلك كما في المجموع وغيره.
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه: ما تقولون في بيع العهدة المعروف بمكة وغيرها هل هو صحيح؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: هو صحيح معتد به يترتب عليه سائر أحكامه حيث خلا عن شرط فاسد كتأقيت وتعليق وشرط ينافي مقتضاه كأن تكون الأجرة مثلاً لغير المشتري ونحو ذلك ولا عبرة بما يسبق العقد من تواطؤ على ما لو وقع في العقد لأفسده هذا هو مذهبنا ولا تغتر بما قد أطاله في ذلك بعض علماء اليمن مما يخالف ما قررناه وينحو في أكثره نحو غير مذهبنا.(1/451)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن نقل الأذرعي عن البغوي رحمهما الله تبارك وتعالى أنه لو كان بين اثنين أرض مناصفة فباع أحدهما منها قطعة مدورة لم يصح في شيء منها فما العلة في ذلك مع صحة بيع المشاع هل هي كون الباقي تنقص قيمته أو يحمل على ما إذا كانت هذه القطعة في وسط الأرض ولا يمكن استطراق المشتري إليها؟. فأجاب نفعنا الله بعلومه بقوله: صورة المسألة كما قاله بعضهم فيما إذا كانت المدورة من الأرض المبيعة في غير طرف مبيكر ببيكار تلك المدورة من الأرض المدورة كما هو الغالب على الأراضي المملوكة وحينئذ فالعلة عدم تمكن المشتري من الوصول إلى المبيع لأنه محفوف بملك الشريك سواء أكانت القطعة المبيعة في وسط الأرض أم طرفها فإنا لا نجد قطعة مدوّرة من أرض في وسطها أو طرفها غير المبيكر ببيكارها إلا وهي محفوفة بشيء من أجزاء تلك الأرض وتصوّر خلو جزء يسير من بعض تلك الجهات عن الإحاطة لا عبرة به لأنه لقلته لا يكاد يدرك له حقيقة محسوسة فلا يمكن الاستطراق منه إلا بخرق شيء من غير المبيع المشترك فلأجله امتنع البيع المذكور لا لنقص قيمة الباقي وإلا لاستوى إذن الشريك وعدمه وقد قيد البطلان بغير إذن الشريك إذا تقرر ذلك علم امتناع بيع أحد الشريكين قطعة من الأرض المشتركة بغير إذن شريكه حيث كانت محفوفة بباقي الأرض المشتركة سواء أكان المبيع مدوراً أم مثلثاً أم مربعاً أم غير ذلك كما أشار إليه الأذرعي بقوله وقيس به ما في معناه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/452)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه: ذكر الأذرعي في تفريق الصفقة أنه لو قال أحد الشريكين لآخر بعتك نصف هذه العين وكانت بينهما مناصفة صح وحمل على النصف الذي يملكه البائع فكيف هذا مع ما في الروضة في التشطير أنه يصح ويحمل على الإشاعة حتى يصح في نصف ما يملكه فقط فما الفرق؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ما ذكره الأذرعي رحمه الله تبارك وتعالى هو ما في زيادة الروضة في العتق وما رجحوه في التشطير من الإشاعة هو في الصداق فقط، والفرق أن الصداق جميعه للزوجة إلا أن يحصل الفراق فلفظها بالتصرف فيه صدر منها حال ملكها للجميع ولا مرجح يقتضي اختصاص اللفظ ببعض المملوك حالة التصرف دون بعض فحمل اللفظ المطلق على الإشاعة إذ لا مرجح، وأما البيع فإنما يملك البائع فيه حال تصرفه النصف فحمل اللفظ المطلق على ما يملكه، لأن الظاهر أن الإنسان لا يبيع ما لا يملكه فهذا مرجح للحمل على الحصر دون الإشاعة فعمل به.
وسئل رحمه الله تعالى عن قول النووي رحمه الله تعالى في الروضة ولو وقف على طرف الأرض وقال بعتك كذا ذراعاً من موقفي هذا في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول صح هل ما يفهم منه من التقييد بما صوره معتبر أم لا؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله قوله وقف وقوله في جميع العرض وقوله إلى حيث ينتهي في الطول تمثيل لا تقييد، إذ لا فرق بين أن يقف على طرفها أو في وسطها إذا عين جهة المبيع من موقفه وعلم ممره، ولا فرق بين أن يقول في جميع الأرض أو نصفه أو ثلثه مثلاً ولا بين أن يقول إلى حيث ينتهي في الطول أو يسكت عن ذلك فإن قوله يعني ذراعاً من موقفي هذا في جميع العرض يستلزم أن يكون المبيع من الموقف إلى حيث ينتهي الذراع في الطول فذكره زيادة إيضاح كما ذكره بعضهم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/453)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه: لا يخفى عليكم ما يقع في بندر جدة والإسكندرية وغيرهما من أنه قد يباع الشيء بسعر كذا ثم يوزن هو وظرفه ويحط للظرف مقدار معلوم مصطلح عليه وللوزان شيء وللحمال شيء وقد يعتادون دخول الظرف وقد لا فما الحكم في ذلك كله؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه لا أثر للعرف المطرد في ذلك وغيره بل إن اشتمل البيع على جهالة أو اشتراط ما ليس مبيعاً لغير مالكه أو نحو ذلك بطل البيع، وأما ما أفتى به بعضهم في نحو ذلك مما يخالف ذلك حيث قال إنه يجري في ذلك على العادة المطردة كما قاله ابن عبد السلام في الوقف بالعرف المطرد يقتضي أنه شرط في العقد أن الجميع من الظرف والمظروف مبيع كل كذا منه بكذا على ما اعتيد ويحط من ذلك قدر عشرين مثلاً فلا يجب ثمن زيد في مقابلته وكان العشر أو نصفه مردوداً على ذلك بالتوزيع وما جعل في العقد ثمناً للقنطار مثلاً فهو ثمن له ولما رد عليه من الموزع فكأنه قال في صورة حط العشر قنطار وتسع قنطار من الظرف والمظروف بكذا وهذا مما لا يتردد فيه أحد للإجماع الفعلي السكوتي في الأعصار والأمصار، ولأن العادة محكمة ولا فرق في ذلك بين أن يكون المبيع لمن يعبر عن نفسه أو غيره اهـ ففيه نظر والفرق بين المبيع والوقف ظاهر والإجماع الفعلي ليس موجوداً وكون العادة محكمة فيما للعادة فيه دخل، وهذا ليس منه ثم رأيت البلقيني سئل عن بيع ما يوزن كل قنطار منه بوزن معلوم على أن يطرح أرطالاً معلومة بسبب الظرف ونحوه، وقد يزيد وقد ينقص عن القدر المطروح فأجاب بأن البيع في هذه الحالة لا يصح وهو يؤيد ما ذكرته ويؤيده أيضاً قول الروياني كالأصحاب لو قال بعتك هذا السمن بعشرة على أن أزنه بظرفه ثم أسقط من الثمن بقسط وزن الظرف إن علما عند العقد وزنه وقدر قسطه صح البيع وإن جهلاه أو أحدهما لم يصح لجهالة الثمن، قالوا وهذا بخلاف ما لو قال بعتك هذا السمن كل رطل بدرهم ثم(1/454)
أطرح وزن الظرف فإنه يصح، لأن حاصله بيع السمن جميعه كل رطل بدرهم فلا يضر جهالة وزن الظرف اهـ، ويؤيده أيضاً أطباقهم على أنه لو قال بعتك هذا السمن كل رطل بدرهم على أن يوزن الظرف معه ويحسب على المشتري وزنه ولا يكون الظرف مبيعاً كان البيع باطلاً لأنه شرط في بيع السمن أن يوزن معه غيره وليس ذلك الموزون مبيعاً فلم يصح هكذا أطلقوه ولم يفرقوا بين أن يعلما وزن الظرف أم لا، ويؤيده أيضاً ما في شرح المهذب من أنه إذا اشترى سمناً أو غيره من المائعات أو غيرها في ظرفه كل رطل بدرهم مثلاً على أن يوزن بظرفه ويسقط أرطالاً معينة بسبب الظرف ولا يوزن الظرف فالبيع باطل بلا خلاف لأنه غرر ظاهر. قال: وهذا من المنكرات المحرمة التي تقع في كثير من الأسواق.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رحمه الله تعالى عمن باع أمة ثم ادعى أنها حامل بحر وأنكرالمشتري فمن المصدق منهما؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إذا أنكر المشتري أصل الحمل صدق فإن ثبت بالعرض على القوابل وادعى البائع حريته لكون أعتقه أو لكونه من وطء شبهة أو لكونه منه لم يصدق أخذاً بقاعدة يصدق مدعي الصحة.
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال أدّ حقي إلى هذا الصبي هل يبرأ أو يفرق بين العين والدين؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: الذي عليه أكثر الأصحاب أنه لا يبرأ في الدين بل صرح به جمع منهم أنه لا يصح قبضه للعين أيضاً، وأما ما في الوسيط من أنه لو قال رد الوديعة إليه بريء فالبراءة فيه ليست لصحة القبض بل للإذن منه المنزل منزلة الإذن في الإتلاف ولو أذن له بإتلاف ماله فأتلفه لم يضمن وإن عصى وما في البيان من صحة قبضه وللوالدين ضعيف على أنه ناقض نفسه فقال في محل آخر لا يصح.(1/455)
وسئل رحمه الله تعالى عن المقبوض بسوم الإجارة أو البيع هل تضمن منافعه لو مكث مدة عند القابض أم لا؟. فأجاب بقوله: الذي ذكروه أن المقبوض بالسوم مضمون فيحتمل شموله للمقبوض بسوم البيع والإجارة وللعين والمنفعة ويحتمل تخصيصه بعين المقبوض بسوم البيع بخلاف منفعته وبخلاف المقبوض بسوم الإجارة عينه ومنفعته وللنظر في ذلك مجال، ولكن الثاني هو المنقدح لأن يد المستأجر يد أمانة فلا يضمن العين والموجب لضمان المنفعة، أما العقد أو التعدي ولم يوجد واحد منهما.
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا تلفظ البائع بالصريح فأجاب المشتري بالكناية أو عكسه فهل هو من توافق الإيجاب والقبول؟. فأجاب نفع الله تبارك تعالى بعلومه بقوله: نعم هو من توافقهما فيصح العقد بلا توقف في ذلك لمن راجع كلامهم.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن الفرق بين بطلان البيع في بعتك نصفك ووقوع نحو الطلاق بطلقت نصفك؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: الفرق أن نحو الطلاق والعتق عهدت فيه السراية والتعبير بالبعض عن الكل فأثر ذلك فيه بخلاف نحو البيع فإنه يشترط فيه وقوع الخطاب صحيحاً وبعتك نصفك غير صحيح، أما على السراية فواضح إذ البيع لا يقبلها وأما على التعبير بالبعض عن الكل فلأنه مجاز لم تقم عليه قرينة.(1/456)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى هل تجوز المعاملة بالمغشوشة وهل هي مثلية، وما المراد بكونها مثلية هل هو في السكة أو في قدر الغش أو في غير ذلك؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: الأكثرون على جواز المعاملة بها وإن جهل قدر ما فيها من الفضة وفي التتمة إن جوّزنا المعاملة بها فهي مثلية وإلا فهي متقوّمة وإذا أتلفت. قال ابن الرفعة : ضمن قيمتها بالنقد الآخر وبالعكس بلا خلاف وكأنه أخذ ذلك من قول الشيخ أبي حامد وغيره في الدعوى بها أنه يذكر قيمتها من النقد الآخر وهذا من هؤلاء الجماعة فيه تصريح بأنها متقوّمة فإن قلنا بأنها مثلية كما مر عن التتمة فينبغي كما قاله السبكي و الأذرعي ضمانها بمثلها من السكة التي أتلفت وإن جهل معيارها أو من سكة أخرى إن راجت رواجها ولم تتفاوت قيمتها.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه عما إذا خرس البائع أو الراهن قبل الإقباض أو في زمن الخيار أو نحو ذلك ولم يكن له إشارة مفهمة فما الحكم؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: يقوم القاضي مقامه فيفعل هو أو نائبه ما فيه مصلحته.
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه هل ذكر حدود المبيع وما يعرف به في العقد مما يطول به الفصل أو لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: هذا من مصالح العقد بل قد يكون من واجباته إذا توقفت معرفة المبيع عليه وحينئذ فلا يضر ذكره وإن كانا عارفين بتلك الحدود قبل العقد.(1/457)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا اختلفا في رؤية المبيع فمن المصدق منهما؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله المعتمد: الذي صرح به الشيخان وغيرهما ومشى عليه البلقيني وغيره قال: ولا تغتر بخلافه أي وإن قال به جمع متأخرون ك الإسنوى والأذرعي والزركشي أن القول قول مثبتها لأنه الموافق لقاعدة أن القول قول مدعي الصحة ولأن إقدام المنكر على العقد اعتراف منه بصحته ففيه تكذيب لدعواه، ولأن الأصل في العقود الجارية بين المسلمين الصحة كما صرحوا به.
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة باعوا أرضاً بيعاً صحيحاً وحكم به حاكم حنفي المذهب ومضى على ذلك سنون فادعى البائعون أن ذلك المبيع وقف علينا فهل تسمع دعواهم بعد الثبوت لدى الحاكم والحكم به؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: هذه المسألة مع قطع النظر عن حكم الحنفي المذكور تناقض فيها كلام الشيخين في مواضع والمعتمد فيها بل الصواب أن البائع إن قال حين البيع هو ملكي لم تسمع دعواه ولا بينته وإن لم يقل ذلك بأن اقتصر على بعتك سمعت دعواه وبينته فإن لم تكن له بينة حلف المشتري أنه باعه وهو ملكه وحكم الحاكم المذكور لا يمنع ما ذكرناه من التفصيل فقد صرحوا بأنه ليس من المرجحات وما في أصل الروضة عن الشيخ أبي إسحق لا يخالف ما ذكر.
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عمن أقر بالبيع وقبض الثمن ثم ادعى أنه لم يقبض وأنه قدم الإشهاد على القبض فهل تسمع دعواه لتحليف خصمه أو لا؟. فأجاب نفعنا الله بعلومه بقوله: نعم تسمع دعواه لتحليف خصمه كما يصرح به كلامهم في باب الرهن، وأما ما وقع في الجواهر في باب الإقرار من أن المذهب أنه لا تسمع دعواه لتحليف خصمه في هذه الصورة ففيه نظر نقلاً ومعنى، فالوجه خلافه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/458)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه لا يخفى ما عليه اليهود والنصارى من بيع الخمور وتعاطي الربا وغير ذلك فهل تحل معاملتهم وهداياهم وتحرم معاملة من أكثر ماله حرام أو لا؟. فأجاب نفعنا الله به بقوله: حيث لم يتحقق حراماً معيناً جازت معاملتهم وقبول هديتهم فإنه قبل هداياهم أما إذا تحقق كان رأي ذمياً يبيع خمراً وقبض ثمنه وأعطاه للمسلم عن دين أو غيره فإنه لا يحل للمسلم قبوله كما قاله الشيخان، ونقل الزركشي و ابن العماد عن النص ما يوافقه ووجهه أن الاعتبار بعقيدتنا وإن كنا نقرهم على ذلك وكذا يقال في الأكل من أموال الظلمة ومن أكثر أمواله حرام فيكره ما لم يعلم عين الحرام أو ما اختلط به ويمكن معرفة صاحبه كما في المجموع فإن لم يمكن معرفته صار من أموال بيت المال، وحديث البيهقي وغيره من لم يسأل من أين مطعمه ولا من أين مشربه لم يبال الله عز وجل من أي أبواب جهنم أدخله ظاهر فيمن يقدم على تناول ما حل بيده وإن علم أنه من حرام فأما من لم يعلم فلا يصدق عليه ذلك وإن اقتضى الورع تركه وقول الغزالي في غير البسيط تحرم معاملة من أكثر ماله حرام بالغ في المجموع في رده، وقال ليس من مذهبنا وإنما حكاه أصحابنا عن الأبهري المالكي ولو علم أن أكثر ما في يد السوقة حرام لم يجب السؤال خلافاً للغزالي ووافقه ابن عبد السلام فيما لو اعترف أن بيده ألف دينار حرام فيها واحد حلال كما لو اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وفرق بأن هنا أصلاً يعتمد عليه وهو اليد المقتضية للحل بخلافه في مسألة الحمامة، ومن ثم لم يخرجوه على القولين في النجاسة والطهارة لأن الأصل هنا الحل وترجح باليد، وليس هناك مثل هذا المرجح فثار الخلاف وفارق أيضاً ما لو اختلطت مذكيات محصورة بميتات محصورة بأن الميتة حرام لذاتها ولا قرينة تدل عليها بخلاف الحلال بيد من أكثر ماله حرام، وظاهر كلام المالكية تحريم الأخذ والمعاملة إذا كان الأكثر حراماً واشتبه واختلف فيه(1/459)
الحنابلة.
وسئل رحمه الله تعالى عمن باع شيئاً في يده لا يدري هو له أم لا وقبض ثمنه فهل يحل له أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: قال في البحر: ينبغي أن لا يحل له لأنه مكلف في نفس الأمر بالاحتياط ما أمكن وهو ظاهر إذا اجتهد فلم يظفر بعلامة تدل على أنه له ولا نظر لدلالة اليد على الملك لأن محله بالنسبة لغير ذي اليد، وأما ذو اليد إذا لم يدر استنادها لما يدل على الملك فلا تكون دالة على الملك في حقه، ويحتمل خلافه أخذاً بعموم قولهم اليد دالة على الملك ويدل للأول جواز معاملة من يعلم اختلاط ماله بحرام من غير وجوب اجتهاد في تمييز الحلال من الحرام ووجوبه على ذي اليد إذا اختلط ما فيها بحرام، وعلل بأن العبرة في ذلك به لا بنا وإذا جهل وتصرف في المشتبه من غير اجتهاد فالإثم عليه لا علينا، فإن قيل كيف يعوّل عليه مع العلم بظلمه وفسقه قلنا: لأن دلالة اليد كافية على أنه في الروضة والمجموع قال: لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذكى هذه الشاة قبلناه لأنه من أهله ذكره في التتمة اهـ.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/460)
وسئل رحمه الله تعالى عن قوم عرفوا بعدم توريث البنات كأهل بجيلة فما حكم ما يجلبونه لمكة من الحب واللوز والزبيب؟. فأجاب نفعنا الله تعالى ببركته وعلومه بقوله: إن علم أن ما بأيديهم اكتسبوا منه شيئاً من وجه حل أو لم يعلم شيء فلا يحكم على ما بأيديهم بالحرمة ونحل معاملتهم مع الكراهة إن كان أكثر ما بأيديهم حراماً ولا يجب سؤالهم عن الحلال والحرام خلافاً للغزالي فيهما وإن لم يكن لهم إلا ذلك الموروث فإن علمت عين مالكه وبقاؤه لم يجز تصرفهم فيه وإن فقد المالك أو جهلت عينه فهو مال بيت المال وإن كانت العين الموروثة أرضاً فزرعها بنذره حل تصرفه فيه وتعلقت أجرة الأرض بذمته، وللمحب الطبري في ذلك إفتاء فيه التحذير عن الشراء منهم والتغليظ على فاعله وهو محمول على أن ذلك ورع وإلا فهو مخالف لقواعد المذهب.(1/461)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شراء الأرقاء الموجودين في الأسواق مع عدم التخميس كيف يحل واحتمال جلب كافر لهم بعيد، وللنووي رحمه الله تبارك وتعالى في ذلك تصنيف بينوا حاصله؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: حاصل المذهب في ذلك أنه حيث لم يعلم أنه من غنيمة لم تخمس ولم تقسم حل شراؤه لأن طريق ملكه وإن كان الرق أثر الكفر لا ينحصر في الغنيمة لاحتمال أن يكون حربياً أخذه من حربي أو قهر حربياً واسترقه ولو أباه فإنه يملكه من غير أن يخمس عليه، نعم لو قهر أباه أو ابنه عتقاً عليه فلا يصح بيعه لهما كما رجحه الشيخان ومع ذلك فقد قال الأصحاب إن المسلم إذا اشتراه منه وأخرجه إلى بلادنا ملكه بالقهر وكذا لو اشتراه من حربي شراه من أصله أو فرعه وكالحربي فيما مر الذمي فما يأخذه الذميون من الحربيين بقتال أو غيره لا يخمس أيضاً فمتى احتمل كون الرقيق من هذه الأنواع لم يحرم شراؤه ولا وطء الأنثى منه اعتماداً على ظاهر اليد لاحتمال انتقالها إليه شرعاً، أما بما مر أو عمن سرقها على ما يأتي أو بشرائه خمسها من أهل الفيء على رأي الرافعي أو كلها منهم إن كانت فيئاً أو من الغانمين إن كانت غنيمة وقد كان بعض المتورعين إذا أراد التسري بجارية اشتراها ثانياً من وكيل بيت المال ومثله القاضي بناء على ما في فتاوى السبكي ولا يبقى بعد ذلك إلا احتمال بقاء الثمن أو بعضه في الذمة وهو سهل وإن علم أن الآخذ له مسلم ولو بسرقة أو نهب لم يجز الشراء منه قبل تخميسه بناء على وجوبه حتى في نحو المسروق وهو ما رجحه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/462)
الشيخان لكن رجح مقابله مرجحون واعتمده كثير من المتأخرين فعليه يحل شراؤه وإن لم يخمس وعلى الأول يحمل قول أصحابنا أصول الكتاب والسنة والإجماع متظاهرة على تحريم وطء السراري اللاتي يجلبن اليوم من الروم والهند والترك إلا أن ينصب الإمام من يقسم الغنائم من غير حيف، وقول الفزاري لا يجب على الإمام قسمة الغنائم بحال ولا تخميسها وله أن يفضل ويحرم بعض الغانمين، رده النووي رحمه الله تبارك وتعالى في تصنيفه في المسألة ووافقه ابن الرفعة و السبكي وغيرهما بأنه خارق للإجماع في ذلك ولو انتصر لقول أبي حنيفة، وحكي عن مالك وأحمد رضي الله تبارك وتعالى عنهما وأن للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ قولاً بمثله، وهو أن الإمام أو الأمير إذا قال للغانمين دون غيرهم قبل الغنيمة لا بعدها من أخذ شيئاً من الغنيمة فهو له صح لكان له وجه وعليه فلو كان الإمام والغانمون مقلدين لأبي حنيفة وفعلوا ذلك فهل يحل للشافعي ما دام على معتقده الشراء منهم الأوجه لا لأنه يرى أنهم غير مالكين عنده، فإن قلد إمامهم جاز، فإن قلت فإذا علم أنها غنيمة لم تخمس فهل له طريق إلى تملكها، قلت إن علمت عين الغانمين فلا طريق إلى ذلك وإلا بأن أيس من معرفتهم فهي مال ضائع وهو لبيت المال وحينئذ فلمن يستحق في خمس المصالح شيئاً أن يتملكها بطريق الظفر إذا لم يتمكن من الوصول إلى حقه من بيت المال كما اقتضاه كلام المجموع حيث قال عن الغزالي وأقره لو لم يدفع السلطان إلى كل المستحقين حقوقهم من بيت المال فهل يجوز أخذ شيء منه قال فيه أربعة مذاهب: أحدها: لا يجوز لأنه مشترك ولا يدري حصته منه حبة أو دانق أو غيرهما وهو غلو. والثاني: يأخذ قوت كل يوم فيه. والثالث: كفاية سنة. والرابع: يأخذ ما يعطي وهو حقه والباقون مظلومون. قال الغزالي : وهو القياس لأنه ليس مشتركاً كالغنيمة والميراث لأن ذلك ملك لهم حتى لو ماتوا قسم بين ورثتهم وهنا لا يستحق وارثه شيئاً وهذا إذا صرف إليه ما(1/463)
يليق صرفه إليه اهـ فتقرير النووي الغزالي رحمهما الله تبارك وتعالى على ترجيح. الرابع: لكونه القياس ظاهر في اعتماده لذلك فيتفرع عليه جواز الأخذ ظفراً سواء أكان هناك أحوج منه كما اقتضاه كلام البغوي أم لا خلافاً للسبكي وبه صرح ابن الفركاح و ابن جماعة حيث قال في المال الضائع ولمن كان في يده إذا عدم الحاكم العادل أن يصرفه لنفسه إذا كان بهذه الصفة وهو عالم بالأحكام الشرعية أي واقتصر على ما يليق أن يصرف إليه من ذلك وبالجواز أيضاً صرح الأذرعي بحثاً قياساً على مال الغريم قال بل أولى. ونقل عن محقق عصره الجلال المحلي ما يقتضي الجواز أيضاً فهو المعتمد ويدل له أيضاً قول ابن عبد السلام إن قيل الجزية للأجناد على قول أو المصالح العامة على قول، وقد رأينا جماعة من أهل العلم والصلاح لا يتورعون عنها ولا يخرجون من الخلاف فيها مع ظهوره، فالجواب أن الجند قد أكلوا من مال المصالح التي يستحقها أهل العلم والورع وغيرهم ممن يجب تقديمه أكثرها فيؤخذ من الجزية ما يكون قصاصاً ببعض ما أخذوه وأكلوه فتصير كمسألة الظفر اهـ فما نقله عنه الزركشي من إطلاق منع الأخذ ظفراً من بيت المال يحمل على ما إذا كان الآخذ غير عالم بالأحكام الشرعية أو أخذ فوق حقه وإلا فإطلاقه ضعيف وإن اقتضى كلام السبكي في فتاويه الميل إليه، وفي بعض كتب الحنفية أن من له حظ في بيت المال فظفر بما هو لبيت المال فله أخذه ديانة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/464)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عمن قلد إماماً في إسقاط الزكاة عنه فهل لمقلد من لم ير عدم سقوطها الشراء منه ولا اعتبار بعقيدته؟. فأجاب نفع الله بعلومه المسلمين بقوله في فتاوى السبكي ما حاصله: أنه لو رأى مسلماً يتصرف تصرفاً فاسداً في اعتقاده جائزاً في اعتقاد المتصرف لم يجز له قبضه عن دين له عليه وإن كان مما لا ينقض فيه قضاء القاضي بناء على أن المصيب واحد وهو الأصح ما لم يتصل بحكم حاكم لأنه يفيد الحل باطناً وهذا صريح في مسألتنا بأنه حيث لم يقلد ذلك الإمام ولا حكم حاكم بسقوط الزكاة لا يحل الشراء منه وهو ظاهر خلافاً لمن أطال فيه بما لا يجدي، والفرق بين الزكاة والمعاملات ليس في محله إذ المدار على أن يقدم على ما يعتقد حل تناوله وهو حيث بقي على تقليد إمامه ولا حكم يعتقد عدم حل تناوله ولو باع المالك فالذي يظهر أخذاً من ذلك أن العبرة بعقيدته بالنسبة لبطلان البيع في قدر الزكاة ومطالبته وغير ذلك من الفروع ولا نظر لعقيدة المشتري.(1/465)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا باعه داراً بشرط أن يبيعه عبده فالبيع الأول باطل وأما الثاني فإن أتيا به مع الجهل ببطلان البيع الأول فهو باطل أيضاً أو مع علمهما لا أحدهما به صح فإن اختلفا في العلم فهل القول قول البائع أو قول المشتري؟. فأجاب نفعنا الله بعلومه بقوله: إن اتفقا على العلم أو الجهل فواضح وإن ادعى البائع أو المشتري أنهما عالمان والآخر أنهما جاهلان صدق مدعي الجهل بالنسبة لنفسه لأن جهله لا يعلم إلا من جهته وقد علم أن أحدهما إذا كان جاهلاً يبطل وإن قال أحدهما أنا وأنت عالمان فقال الآخر أنا عالم وأنت جاهل صدق الأول نظير ما مر إذ علمه إنما يعرف من جهته فصدق فيه وإن قال أنا جاهل وأنت عالم صدق الثاني كما مر ولا تخرج هذه المسألة على مدعي الفساد ومدعي الصحة كاختلافهما في الرؤية، إذ الأصح تصديق مدعيهما مطلقاً لما قررته من أن دعواه العلم أو الجهل لا يمكن الاطلاع عليها إلا من جهته بخلاف الرؤية أو عدمها إذ يمكن إقامة البينة على ذلك، وظاهر أنه حيث صدقنا واحداً فيما مر فإنما نصدقه بيمينه ولو علم من حال مدعي العلم أو الجهل خلاف دعواه كفقيه حاذق ادعى الجهل ببطلان البيع والشرط وكقريب عهد بتعلم لنشئه ببادية بعيدة أو بإسلام ادعى العلم بذلك فهل يصدق حينئذ مدعي الصحة أو يصدق من ساعدته شواهد الحال للنظر فيه مجال وكلامهم فيما لو ادعى قدم العيب أو حدوثه والعادة تشهد بخلافه يومىء إلى ترجيح الثاني.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/466)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى بما لفظه: إذا حكر الإمام فيعزر مخالفه وقضيه ذلك أنه يحرم البيع بخلاف ما سعر به وإن كان سراً فهل هو كذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته قضية قولهم يعزر في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة كذلك وإن كانت أغلبية إذ لم يستثنوا ذلك من طردها ولا من عكسها لكن قولهم لو أمر الإمام بمحرم لم يجب امتثاله ربما يتوهم منه خلاف ذلك والذي يتجه اعتماده أنه حيث كان الإمام يرى جواز التسعير وجبت طاعته ولو في السر وحيث لا وجبت طاعته في الجهر خوفاً من الفتنة لا في السر، لأن أمره بمحرم في اعتقاده ينبغي أن لا يكون له حرمة إلا في الجهر لأنه حينئذ يخشى من عدم طاعته قيام الفتنة ووقوع مفسدة أعظم، وأما قولهم لو أمر الإمام بمحرم لم يجب امتثاله فليس المراد به أن يكون محرماً في اعتقاده بل أن يكون محرماً في اعتقاد المأمور والمأمور به هنا وهو البيع ثمن كذا ليس بمحرم على المأمور فوجب امتثال الأمر حينئذ إذ لا حرمة على المأمور في امتثاله وظاهر كلامهم في باب الإمامة أنه لو أمر بمكروه وجب امتثال أمره وينقلب الفعل حينئذ واجباً وليس ببعيد، فإن قلت التحكير إكراه على البيع إلا بثمن كذا وشرط البائع الاختيار فكان ينبغي بطلان البيع من أصله، لأن بيع المكره باطل، وإن كان المكره له هو الإمام، قلت صورة الإكراه الذي ذكروه أن يقال لشخص بع كذا وإلا ضربتك أو نحوه، وأما التحكير هنا فليس فيه الأمر بالبيع مطلقاً أو بثمن كذا حتماً بل المراد إذا أوقعته باختيارك يكون بثمن كذا فليس فيه إجبار على بيعه ألبتة بل على ثمن معين إذا اختار إيقاع البيع.(1/467)
وسئل رحمه الله تعالى عن قول الغزالي يحرم التفريق بين زوجته الحرة وولدها قبل التمييز بالسفر بخلاف المطلقة لإمكان صحبتها له هل هو معتمد؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: مقتضى كلام المتأخرين اعتماده ويشهد للحرمة عموم قوله : «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ويؤخذ من علته المذكورة في السؤال أن المتزوجة بغيره والمطلقة العاجزة عن السفر لعلة أو فقر كالتي في عصمته وهو متجه، وقضية كلامه أنه لا فرق في الحرمة بين السفر الطويل أو القصير ولا بين سفر النقلة وغيرها وهو قريب إذ يلزمه في سفر النقلة السفر بزوجته أو طلاقها وأنه يجوز السفر بابن المطلقة القادرة على السفر وإن كانت الحضانة لها ولو كان غير سفر نقلة وهو قريب أيضاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا قال بع عبدي هذا بألف فباعه من رجلين. قال البغوي و القمولي : لا يصح فهل مثله الشراء والولي وعامل القراض كالوكيل أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله ما قالاه صحيح لأنه خلاف المأذون فيه ولا مصلحة ويؤيده قول الروضة إذا أمره بشراء عبد أو بيعه لم يجز العقد على بعضه لضرر التبعيض وإن فرض فيه غبطة اهـ وهو شامل لكلامهما ولمسألة الشراء وقضية كلامهما أن الولي وعامل القراض كذلك لكن الأشبه بقواعد باب القراض وتصرف الأولياء الجواز إذا كان هناك غبطة بل مصلحة لأنها محققة ووقوع ضرر التبعيض متوهم.(1/468)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن شخص متكلم على أيتام بإقامة من حاكم شرعي وللأيتام المذكورين حصة من دار عامرة قائمة على أصولها فباع القيم المذكور الحصة المذكورة وسلم ثمنها في حصة من خربة دائرة لا نفع بها اشتراها للأيتام المذكورين عوضاً عن الحصة العامرة المبيعة، وذكر المورق في مكتوب الشراء أن القيم فعل ذلك لما رأى فيه من الحظ والمصلحة والحال أنهما لم يثبتا لدى حاكم ثم ذكر المورق أيضاً أن الخربة المشترى منها الحصة ملاصقة لدار التمجاني وأنها مخلفة عن هبة الله، والحال أن الخربة الملاصقة للدار المذكورة ليست مخلفة عن هبة الله ولا ملكها قط، وإنما هي لشخص آخر واضع يده عليها مدة حياته ثم ورثته من بعده وأن الخربة المخلفة عن هبة الله ملاصقة لهذه الخربة الجارية في ملك الشخص الآخر الفاصلة بينها وبين الدار المذكورة وثبت العقدان المذكوران لدى حاكم شافعي، وحكم بموجب ذلك فهل يكون مجرد قول القيم أن في ذلك الحظ والمصلحة كافياً أم لا بد من ثبوتهما لدى حاكم شرعي وهل يكون قول المورق أن الخربة المبتاع منها الحصة ملاصقة لدار التمجاني وأنها مخلفة عن هبة الله والحال أنها ليست كذلك كما بين يقتضي فساد عقد الشراء حيث تبين أن البائع باع ما لم يملك فإنه وارث هبة الله أم لا يقتضي ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: للولي أباً كان أو غيره شراء عقار ما لم تنتف المصلحة عنه كإشرافه على الخراب وبيعه لحاجة كنفقة وكسوة إن لم تف غلته بها، ولم يجد من يقرضه أو لم ير في القرض مصلحة ولعبطة كان طلب منه بأكثر من ثمن مثله ووجد مثله ببعض ذلك ولا يجوز لغير ذلك ثم إن كان البائع أباً أو جداً رفعه إلى القاضي سجل على بيعه ولا يكلفه إثبات حاجة أو غبطة بخلاف الوصي والأمين فإنه لا يسجل على بيعهما إلا أن أثبتا الحاجة أو المصلحة وإن كان هو الذي أقامه، وأما مسألة الدار فإن قال مالكها أو نحوه بعتك داري وليس له غيرها أو أشار إليها(1/469)
كهذه الدار صح البيع وإن غلط في حدودها أو سماها بغير اسمها وإن قال بعتك الدار التي في المحلة الفلانية وحدودها وغلط في حدودها لم يصح هذا حكم بيعها، وأما حكم الدعوى بها والشهادة فإن كانت مشهورة باسم خاص بها كدار الندوة لم يحتج لذكر شيء من حدودها وإلا فإن علمت بثلاثة حدود جاز الاقتصار عليها وإن لم تعلم إلا بالحدود الأربعة وجب ذكرها ومتى ذكر الشاهد الحدود وأخطأ في واحد منها لم تصح شهادته إذا تقرر ذلك فقول القيم لا يكفي في الحظ والمصلحة بل لا بد من ثبوتهما عند الحاكم وإلا كان بيعه باطلاً وقول المورق فيما ذكره السائل قادح في صحة شهادته وفي صحة البيع على التفصيل الذي قررته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 211(1/470)
باب الربا
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن معه حب وجاءه بعض أهل بلده يبغي شراء ذلك الحب فأسس صاحب ذلك الحب المشتري على قاعدة عندهم يعني أنهم اصطلحوا على أن العشرين مداً بثلاثين مداً مثلاً ثم بعد ذلك صاحب الحب قال لرجل آخر أسلم لي هذه الدراهم على هذا الرجل بثلاثين مد حب فأسلم ذلك الشخص إلى الذي يبغي شراء الحب وشرى بها ذلك الحب المتقدم ذكره فهل هذه الحيلة تخلص صاحب الحب بعد أن أسس قبل أن العشرين بثلاثين؟. فأجاب بأن الحيلة المخلصة من الربا جائزة عند الشافعي رحمه الله تبارك وتعالى لكنها مكروهة رعاية لخلاف جماعة من أهل العلم حرموها وقالوا إنها لا تفيد التخليص من الربا وإثمه فإذا كان شخص شافعياً وأراد أن يفعل شيئاً منها ليتخلص به من الربا جاز له ذلك كأن يقول الذي معه لمن جاء يشتري منه أسلمت إليك هذه الدراهم في ثلاثين صاعاً صفتها كذا ويذكر جميع صفاتها التي يختلف بها الغرض اختلافاً ظاهراً ويعطيه في المجلس تلك الدراهم ثم يهبه ذلك الحب الذي معه وينذر مريد الشراء لصاحب الحب بثلاثين صاعاً في ذمته وصاحب الحب درهماً في ثلاثين صاعاً في ذمته وصاحب الحب يهبه ما معه أو ينذر له به أو يشتري ما معه من الحب بدرهم ويسلم صاحب الحب درهماً في ثلاثين صاعاً ونحو ذلك من الحيل الصحيحة المانعة من الوقوع في ورطة الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/471)
وسئل فيمن معه سمن فيأتيه بعض الناس فيقول لا أبيع هذا السمن إلا الربعية إلى الصيف مثلاً وقتاً مجهولاً وفي عرفهم عند حصاد زرع الصيف فأراد المشتري أن يشتري من ذلك السمن فقال بل أسلم ثوبك أو خاتمك في حب معلوم إلى أجل معلوم ففعل البائع ثم إن المشتري قبض رأس مال السلم الذي أسلم إليه وتنحى عنه قليلاً ثم قال لصاحب السمن المتقدم ذكره بعت مني هذه الربعية السمن بهذا الثوب أو الخاتم فباعه فهل يحل على هذا الوجه أم لا؟ وهل الخلاص ممن في أيديهم نقدان أحدهما والآخر من هذه السكة المعروفة في مكة وهي الكبار وأراد أحد المتبايعين أن يصرف من الآخر فتعاقدا بزائد أحد النقدين على الآخر مقدار الغش في العشرة واحد فما الطريق المخلصة في ذلك؟. فأجاب بأن الحيلة الأولى صحيحة مخلصة من الربا لكنها مكروهة كسائر الحيل، وقال جماعة من أهل العلم كمالك وأصحابه وأحمد وأصحابه بحرمتها وأنها لا تفيد التخلص من الربا، وأما الحيلة في بيع أحد النقدين بالآخر الزائد فهي أن يهب كل منهما صاحبه ما في يده أو ينذر له، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237
وسئل هل يجوز للمسلم أخذ الربا من الحربي ويقرر عليه في المعاملات وبالتطفيف وغيره وما المراد من الحربي وما علامته؟. فأجاب بأن الذي صرح به أئمتنا أن العقد مع الحربي بالاختيار كهو مع المسلم فلا بد من حل ما أخذه المسلم منه بعقدان توجد جميع شروط البيع فيه وإلا لم يحل له أكله ولا التصرف فيه فعلم أنه لا يجوز أخذ الربا منه ولا التطفيف في كيل أو وزن ومن فعل ذلك عزر عليه التعزير الشديد والمراد بالحربي الكافر الذي ليس له أمان بنحو عقد جزية أو تأمين مسلم بشرطهما المعروف في كتب الفقه.(1/472)
وسئل عما جرت به العادة في هذا البلد الأمين من بيع المحلق الرديء هل يصح بيعه بفلوس خالصة مع علم المشتري برداءته ومع جهله بذلك كما قالوا بصحة بيع زجاجة لمن ظنها جوهرة قالوا ولا خيار له لتقصيره بترك البحث فهل هذا كذلك في الصحة وعدم الخيار أم لا أو يصح مع العلم دون الجهل كما في الثمن المعين حيث بانت سكته مخالفة لسكة البلد أو لا يصح بيعه إذا علم أو ظن أن مشتريه يغش به أحداً من المسلمين أو يصح البيع في هذه الحالة أي حيث علم أو ظن أنه يغشه مع التحريم كما في بيع الرطب والعنب ممن يتخذه خمراً فإن لم يعلم أو يظن ذلك فهل يكره ذلك أم لا؟ فلو باع المحلق المذكور بعثماني وفلوس فهل يصح ذلك وتكون الفضة التافهة التي في المحلق الرديء كحبات شعير لا تقصد لقلتها حيث بيع بر ببر وفي أحدهما حبات يسيرة لا تقصد أو يكون ذلك من قاعدة مد عجوة فلا يصح في ذلك ولو باع محلقاً جديداً بعثمانيين أو بعثماني وشيء آخر من حب أو تمر مع الحلول والتقابض هل يصح ذلك في الصورتين أو إحداهما أم لا؟ لأن القاعدة هنا أن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة وهل معاملة الصغار كمعاملة غير المحجور عليهم في جواز المعاطاة معهم على المختار؟. فأجاب بأنه حيث رأى المعاقدان المحلق المذكور جاز بيعه بالفلوس المذكورة هذا إن كان كل من غشه وخالصه مقصوداً أو كان المقصود خالصه فقط لكن علما قدره أما لو جهلا ذلك أو أحدهما فلا يصح البيع قياساً على ما قالوه في اللبن المخلوط بالماء ولا ينافي ذلك قولهم وتصح المعاملة بالمغشوش فيه معاينة وفي الذمة وإن لم يعلم عيارها لحاجة المعاملة بها ولذلك استثنيت من قاعدة أن ما كان خليطه غير مقصود وقدر المقصود مجهول كمسك مخلوط بغيره ولبن مشوب بماء لا تصح المعاملة به اهـ، لأن كلامهم هذا في المغشوش الذي يتعامل الناس به كما يدل عليه قولهم لحاجة المعاملة بها وكلامنا في شيء مزيف لا يتعامل به كما يدل عليه أول السؤال وما لا(1/473)
تروج المعاملة به لا يعطي حكم ما راجت المعاملة به لاضطرار الناس إلى هذا دون ذاك وحيث ظن المشتري سلامته من الغش أو من كثرته فبان خلاف ذلك ثبت له الخيار لأنه عيب كما يصدق عليه ضابطه وليس هذا نظير مسألة الزجاجة لأن ذاتها ليس فيها عيب، وإنما أخلف الظن فيها وحيث علم البائع بعينه عيباً حرم عليه بيعها إلا بعد تبيينه لذلك العيب فإن سكت أثم وصح البيع ولا يصح بيع المحلق المذكور بعثماني وفلوس مطلقاً لأنه من قاعدة مد عجوة وليست الفضة التي في الجانبين غير مقصودة حتى تقاس بحبات الشعير المذكورة لأن قليل النقد يقصد ويؤثر في الوزن بخلاف قليل الشعير فإنه لا يقصد ولا يؤثر في الكيل وكذلك لا يصح بيع المحلق الجديد بعثمانيين إلا أن اتفقا وزناً بخلاف بيعه بعثماني وشيء آخر فإنه لا يصح مطلقاً واختار بعضهم أن معاملة الصغار كالبالغين ولا يعد هذا من مذهبنا وإن كان قائله منا، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237(1/474)
وسئل بما مضمونه: وصل كتابكم العزيز ولفظكم الشافي الوجيز فقرأه المملوك وقبله وفهم مفصله ومجمله ووضعه على الرأس والعين لكن ظاهر قول سيدي أنهما إذا رأيا المحلق المذكور وعلما عينه جاز بيعه ولا إثم على بائعه وإن علم أو ظن أن المشتري يغش به غيره لأنه لم يلتفت إلى تسطير ما في السؤال من بيع الرطب أو العنب ممن يتخذه خمر أو قول سيدي هذا إذا كان كل من غشه وخالصه مقصود أهل المراد سيدي أنه مقصود للمشتري فقط أو مقصود في الجملة وهل المراد مقصود على انفراده أو على الهيئة الاجتماعية فالسائل مستفيد جزاكم الله تبارك وتعالى خيراً؟. فأجاب الحمد لله رب العالمين من الواضح أن البائع إذا ظن أن المشتري يغش بالمبيع المعيب مطلقاً ولم يضطر إلى البيع له حرم عليه، لأن ما كان سبباً لحرام حرام وإنما حرم بيع العنب ونحوه المذكور مطلقاً لأن سبب الحرمة هنا أمر خارج عن البيع، وثم أمر ذاتي في المبيع والمراد بالقصد المذكور قصده منفرداً أو متضمناً في العرف.
وسئل هل يجوز بيع سمن الغنم بسمن البقر لأنهما جنسان أم لا؟. فأجاب بقوله: يجوز بيع سمن الغنم بسمن البقر متفاضلاً بشرط الحلول والتقابض في المجلس.
وسئل عمن أعطى خبازاً درهماً وقال أعطني بنصفه خبزاً وبنصفه الآخر نصف درهم صحيحاً فأعطاه ما قال ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إن جعل الدرهم في مقابلة الخبز والنصف درهم من غير تفصيل فهو ربا وإن فصل فقال اشتريت منك بنصفه خبزاً ونصفه الآخر بنصف درهم صحيحاً صح في النصف الأول مطلقاً وأما النصف الثاني فلا يصح بيعه بنصف درهم صحيح إلا أن يستويا وزنا وقيمة وإلا كان ربا لأنه من القاعدة المشهورة بقاعدة مد عجوة.(1/475)
وسئل عن عين مبيعة بين شخصين وهما يعلمان بها سابقاً حاضرة كانت أو غائبة وشهد شاهدان بينهما بذلك ولم يعلما العين المبيعة فهل يصح هذا البيع فإذا قلتم بصحة ذلك هل للحاكم ثبوته والحكم به على الحكم المشروح أم لا بد من ثبوت الحدود عنده بها سواء أكان بالشاهدين الأولين أم غيرهما أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب بقوله: إذا علم العاقد أن العين المبيعة بالرؤية ولو قبل العقد بشرطه ثم أوردا العقد عليها بحضرة شاهدين لم يرياها ولم يعرفاها صح البيع ويشهد الشاهدان على الصيغة الواقعة بينهما وذلك معنى الحكم بالصحة والموجب بشرطه وإن لم يشهد الشاهدان عنده بالحدود لأن القصد هنا ثبوت العقد فحسب، وأما المعقود عليه فلا يحتاج للشهادة بحدوده إلا إذا وقع تنازع في عينه الغائبة عن مجلس الحكم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237(1/476)
وسئل بما لفظه: قال الرافعي في الربا والتخاير في المجلس قبل التقابض بمثابة التفرق يبطل العقد خلافاً لابن سريج وقال في الخيار لو تقابضا في عقد الصرف ثم أجازا في المجلس لزم العقد وإن أجازاه قبل التقابض فوجهان: أحدهما أن الإجازة لاغية لأن القبض معلق بالمجلس وهو باق فيبقى حكمه في الخيار. والثاني أنه يلزم العقد وعليهما التقابض اهـ وتبعه في الروضة في البابين ولم يرجح شيئاً فما المعتمد؟. فأجاب بقوله: الذي رجحه في المجموع لزوم العقد وزاد ثالثاً أنه يبطل العقد واستشكل بما في الربا وأجاب بما في الخادم والتعقبات بأن ما في الربا محمول على ما إذا تفرقا بلا قبض وما في الخيار على ما إذا تقابضا قبل التفرق واعترض بأمور: الأول: أن البطلان لو كان محمولاً على ما إذا تفرقا بعد التخاير بلا قبض وليس مرتباً على مجرد التخاير لامتنع الخلاف فيه للإجماع على بطلان العقد عند التفرق بلا قبض وقد علمت ثبوت الخلاف كما حكياه عن ابن سريج فوجب فرض المسألة فيما إذا لم يوجد تفريق. الثاني: أنه في الروضة صحح تبعاً لبعض نسخ الرافعي فيما إذا باع ديناراً بعشرة دراهم وليس مع المشتري إلا خمسة فدفعها إليه ثم استقرضها وردها إليه عن الثمن بطلان العقد ووجهه أن قرض الخمسة المذكورة تصرف في زمن خيار الباذل والتصرف في الشيء إذا كان في زمن خيار باذله باطل إذا وقع مع غير الباذل، وصحيح إذا وقع معه ويكون إجازة للعقد وإذا ثبت أن قرض الخمسة إجازة للعقد بطل العقد فيما لم يقبض بناء على أن مجرد الإجازة مبطل كالتفرق وأن التفرق قبل قبض بعض العوض مبطل للعقد فيما لم يقبض إذا تقرر ذلك علم فساد ما سبق من الجمع لأن البطلان في هذه المسألة مرتب على مجرد الإجازة. الثالث: قولهما إن التخاير بمثابة التفرق يقتضي أنه بمنزلته وقائم مقامه ومستقل بترتب البطلان عليه كما ترتب البطلان على التفرق وإلا لكان المقتضي للبطلان إنما هو التفرق وجعل التخاير بمثابته(1/477)
لغو لا فائدة له. الرابع: أنه في المجموع حكى البطلان في المسألة مقترناً بالوجهين الآخرين وهو يقتضي أن الأوجه الثلاثة واردة على صورة واحدة فجعل البطلان في صورة والآخرين في أخرى تصرف مخالف لما اقتضاه كلامه اهـ ولبعض هذه الاعتراضات اتجاه فالأحسن أن يعتمد ما في المجموع ويضعف غيره ولا يصار إلى الحمل لما يلزم عليه مما ذكر.
وسئل عمن باع شاة في ضرعها لبن بمثلها أو بلبن أو دجاجة فيها بيضة بمثلها أو بيضة لم يصح بخلاف دار فيها بئر ماء بمثلها فما الفرق؟. فأجاب بقوله: يفرق بأن الماء ليس مقصوداً مع الدار بوجه بل هو تابع لها بخلاف اللبن والبيضة فإنهما مقصودان مع الشاة والدجاجة فكانا من قاعدة مد عجوة لأن من شروطها أن يكون كل مما اشتمل عليه العقد مقصوداً لا تابعاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237
وسئل عن قشر البن هل هو ربوي أم لا؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه غير ربوي لأنه لا بد في الربوي من أن يكون يعد للأكل على هيئته كما صرحوا به ومن ثم لا ربا في الحيوان وإن جاز بلعه كصغار السمك ولا في حب الكتان ودهنه ولا في نحو الورد ومائه والعود لأن هذه كلها لا تعد للأكل على هيئتها ولا شك أن قشر البن أولى من هذه بكونه غير ربوي لأن بعض هذه يتناول على حالته، وأما قشر البن فلا يتناول على حالته أصلاً فلا يعد مطعوماً.(1/478)
وسئل قالوا في قاعدة مد عجوة لا يجوز بيع السمسم بالشيرج ونحو ذلك مما المقابل للآخر ضمني بخلاف السمسم بالسمسم لأن الشيرج ضمني في الجانبين فلا يؤثر، وقالوا في مسألة بيع نحو مد ودرهم بمد ودرهم لو تساوت قيمة المد من الجانبين لم يضر لأن التقويم يعتمد التخمين وهو حزر قد يخطأ والجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ويشكل على هذا ما قالوه في بيع صحاح ومكسرة من فضة بصحاح ومكسرة من فضة من أن ذلك من قاعدة مد عجوة، بشرط أن تنقص المكسرة عن قيمة الصحاح بخلاف ما إذا ساوت المكسرة قيمة الصحاح فنظروا إلى تساوي القيم هنا أيضاً مع أن ذلك تخمين قد يخطأ فما الجواب؟. فأجاب بقوله: إنما فعلوا ذلك لأن هذين الشيئين لما اتحد نوعهما كان الأصل جواز بيعهما بمثلهما مطلقاً لكن لما اختلفت القيمة صارت المكسرة بصفة غير صفة الصحيحة فنزل اختلاف صفتيهما منزل اختلاف جنسهما أو نوعهما ولا نظر لاختلاف صفتهما مع الاتحاد في القيمة لأنه اختلاف لا يرتبط به أثر إلا من حيث أن الأغراض قد تتفاوت في ذلك ولا نظر إليه هنا وأيضاً فالتساوي هنا يمنع توزيع ما في الجانب الآخر لاتحاد النوع والصفة بخلافه، ثم فإن العقد مشتمل على جنسين مختلفين وذلك يقتضي التوزيع وإن فرض تساوي قيمة الشيئين والتوزيع محقق للمفاضلة أو الجهل بالمماثلة.(1/479)
وسئل بما لفظه: صحح الشيخان هنا صحة بيع دار بها معدن ذهب بذهب وخالفاه في محل آخر وحمل بعضهم ما هنا على ما إذا جهل المعدن حالة البيع وهو مشكل، إذ العبرة في العقود بما في نفس الأمر؟. فأجاب بقوله: قد يقال إن المبطل هنا هو التوزيع بالكيفية التي قرروها وحيث جهلاه كان تابعاً بالإضافة إلى المقصود من الدار في ظنهما فلم يشتمل شيء من طرفي العقد على مالين مختلفين في ظنهما حتى يتأتى التوزيع ثم هل يلحق جهل المشتري فقط لأنه تابع بالنسبة إلى ظنه أولاً لتحقق مقتضى التوزيع بالنسبة لظن البائع فلا يترك لقضية ظن المشتري كل محتمل وللنظر في الأقرب منهما مجال والثاني أقرب للجهل السابق فترجيحه غير بعيد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237
وسئل بما لفظه: هل يقوم القبض التقديري في الربويين بأن يمضي زمن يمكن فيه الوصول إلى العينين الغائبتين عن المجلس مقام الحقيقي أم لا؟. فأجاب بقوله: لا بد من القبض الحقيقي كما صرحوا به.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 237
باب تفريق الصفقة(1/480)
وسئل عن قول العباب في تفريق الصفقة وإن كان باختيار كأن علم عيب أحد العبدين قبل القبض أو بعده فأرارَّه إلى أن قال وكذا لو رضي بذلك بعد تلف السليمين فيستقر له بقسطه ويعتبر أقل قيمه من العقد إلى القبض ويسترد قسط المردود ويصدق البائع بيمينه في قيمة التالف اهـ والذي يظهر لي أن حاصل قوله وكذا لو رضي بذلك بعد تلف السليمين جواز رد أحد السليمين دون الآخر بعد تلفهما جميعاً برضا البائع على طريق الإقالة فيغرم البائع قيمة المردود ويسترد قسطه من الثمن وإن حاصل قوله ويعتبر أقل قيمة راجع لمسألة السليمين المذكورة وعلة تصديق البائع بيمينه أنه غارم لكن على هذا كما أنه غارم بقسط المردود المتفاوت ذلك القسط بتفاوت القيمة كذلك المشتري غارم بقيمة المردود، فينبغي أن يصدق المشتري في قيمة المردود باعتبار كونه غارماً لها كما صدق البائع باعتبار كونه غارماً للقسط المختلف بحسب القيمة فيكون كل منهما مصدقاً باعتبار وقد أرسلت بذلك إلى بعض الفضلاء لكثرة ما عنده من المواد فأجاب بما نصه قوله في السؤال وكذا لو رضي بذلك بعد تلف السليمين خطأ من النسخة التي وقف عليها السائل وصوابه كما في النسخة التي وقفت عليها بعد تلف السليم فيقتضي بقاء أحد العينين وحينئذ فصورة المسألة أن البائع وافق المشتري على رد العين المذكورة ولا نزاع في جواز ذلك ولا يتأتى حينئذ أنه من باب الإقالة إذ ذاك على مقتضى النسخة التي رددناها ويؤيد ما ذكرناه عبارة ابن المقري في روضه وإن كان باختيار لرد بعض المبيع بالعيب لم يجز إن لم يستقل كأحد الخفين وكذا إن استقل كأحد العبدين ولو تلف أحدهما فلو رضي البائع برده جاز فيقوم العبدان سليمين ويقسط المسمى فإن كان السليم تلفاً واختلفا في قيمته فالقول قوله بيمينه وكل ممن ذكر غارم باعتبار اهـ فهل ما قاله من أن نسختنا خطأ صحيح وهل خطؤها من جهة المعنى أيضاً أو لا أفتونا في ذلك وأنتم العمدة فيما هنالك؟. فأجاب(1/481)
بقوله: عبارة العباب مع شرحي له (وإن رضي) البائع برد المعيب فيهما جاز مطلقاً لإسقاط حقه وحينئذ (فيقوم) وجوباً (المبيعان) اللذان أحدهما معيب (سليمين ويقسط المسمى على قيمتهما) إذ لو وزع عليهما مع العيب لأدى إلى خمط وفساد كما دل عليه الامتحان فالصواب تقدير السلامة وهي فائدة عظيمة ناوية في مسائل كثيرة ذكره الزركشي وكذا يقومان سليمين ويقسط المسمى كما ذكر (لو رضي) البائع (بذلك) أي برد المعيب منهما (بعد تلف السليم) منهما (ويعتبر) فيما إذا اختلفا في قيمة السليم التالف لاعتبار التقسيط (أقل قيمه) أي السليم التالف (من) حين (العقد إلى القبض) كما يعلم مما يأتي في مبحث الإرش (ويسترد قسط المردود ويصدق البائع) فيما إذا ادعى المشتري ما يقتضي زيادة المرجوع به على ما اعترف به البائع (بيمينه في قيمة التالف) لأنه غارم ولأن الثمن ملكه فلا يسترد منه إلا ما اعترف به. قال
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 240(1/482)
الزركشي : ولم يصر هنا أحد إلى التحالف ولو قيل به لم يبعد لأن اختلافهما في قيمة التالف اختلاف في ثمن الباقي ولو اختلفا فيه ابتداء تحالفا فكذا ينبغي هنا ثم رأيت القفال ذكره احتمالاً، ووجهه ما ذكرته اهـ وهو بعيد، ولا نسلم أن اختلافهما في قيمة التالف اختلاف في ثمن الباقي وإنما هو اختلاف فيما يخصه عند التوزيع الطارىء بعد العقد والاختلاف في الثمن، إنما يقتضي التحالف إن كان اختلافاً في الثمن الذي وقع به العقد وما وقع به العقد هنا متفق عليه ولكن لما طرأ تلف أحدهما واختلفا في قيمته طرأ الاختلاف فيما يخص كلا عند التوزيع انتهت عبارة الشرح المذكور وبقوله بذلك أي برد المعيب منهما يعلم فساد قوله في تلك النسخة التي عندكم بعد تلف السليمين لأنها تناقض ما قبلها المفروض في أن أحدهما معيب فهي فاسدة من جهة ذلك مطلقاً لصحة ما ذكرتموه في ذاته لا بالنظر لما في متن العباب كما علم مما قررته، وقول المجيب وحينئذ فصورة المسألة الخ، وقوله ويؤيد ذلك الخ، كله غير محتاج إليه لأنه مصرح به في العباب على وجه أظهر من قوله أولاً وإن رضي وقوله ثانياً وكذا لو رضي بذلك الخ.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 240
باب الخيار(1/483)
وسئل عن مسألة فأجاب فيها بجواب مختصر ثم بلغه أن بعض المفتين أفتى فيها بخلاف ذلك فصنف في ذلك تصنيفاً سماه إصابة الأغراض في سقوط الخيار بالإعراض وقد أردت أن أذكره برمته هنا وإن كان تصنيفاً مستقلاً لأنه في حكم الفتاوى باعتبار أصله كما علم مما قررته وذلك التصنيف الحمد لله الذي أيقظ للقيام بأعباء المعضلات أقواماً منّ عليهم بتوفيقه الباهر سلطانه وهداهم عند تزاحم الآراء في عويصات المسائل إلى سلوك جادة الصواب الساطع برهانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أكون بها إن شاء الله ممن علا مكانه وسعد به إخوانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي بوّأه الله من منازل قربه وإنعامه ما ارتفع به على سائر الشؤون شأنه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين ما دامت تترادف على وارثيه آلاؤه وإحسانه وبعد، فقد وقع في غضون ما استفتيت عنه سؤال ظننت جوابه سهلاً وأنى للكلام فيه ببادئي الرأي أكون أهلاً حتى أحدقت النظر فيه فوجدته صعب المرتقى عالي الذرا فلذلك أعملت الفكر فيه حتى منّ الله عليّ بإصابة الغرض فيه بالإحاطة بقوادمه وخوافيه لكن بحسب ما ظهر لي سبيله ووضح لديّ دليله فإن وافق الحق وإلا فالخطأ والخطل والتقصير هو وصفي اللازم وشأني الدائم فلأجل ذلك أفردته بالتأليف وزيادة الإيضاح وحسن التصنيف حتى ينظر فيه الفضلاء ويعوّل عليه إن شاء الله سبحانه وتعالى النبلاء وسميته إصابة الأغراض في سقوط الخيار بالأعراض، والله أسأل وبنبيه الذي لم يلحق شأو كماله نبي أتوسل أن ينفع به وأن يبلغني المأمول بسببه إنه القريب المجيب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب أما السؤال فحاصله إنسان اشترى من آخر أرضاً مشتملة على نخل ثم تقايلا ثم ادعى البائع بطلان الإقالة وحكم له الحاكم الشرعي بذلك بشرطه ثم بعد ذلك ظهر أن من الأرض المذكورة مغرس نخلة من النخل المذكور مملوكاً لغير البائع(1/484)
حين البيع فهل يتخير المشتري حينئذ وإذا قلتم نعم فهل يمنع خياره بملك البائع المغرس المذكور وإعطائها له أو إعطاء مستحقها إياها للمشتري أو لا؟ وأما الكلام عليه ففي مقامين الأوّل في إثبات الخيار، والثاني في سقوطه فالذي يصرح به كلامهم أن المشتري يتخير بذلك لتفريق الصفقة عليه، وأما ما وقع في فتاوى
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
ابن الصلاح حيث سئل عمن اشترى سهاماً في أماكن متعددة بثمن معلوم ثم خرج بعض المبيع مستحقاً من أنه إذا كان الجميع في صفقة واحدة وكان الاستحقاق في بعض الأماكن دون بعض فالبيع باطل في الجميع وإن كان المستحق جزءاً شائعاً في الجميع صح البيع فيما ليس مستحقاً بقسطه من الثمن المسمى فغريب جداً والموافق لكلامهم صحته في الصورتين فيما ليس مستحقاً بقسطه من الثمن المسمى وكأنه لحظ في التفرقة تعذر توزيعه في الأول دون الثاني وليس كذلك كما هو ظاهر، وإذا خيرنا المشتري فأراد مالك المغرس غير البائع هبته للمشتري لم يسقط بذلك خياره، وهذا ظاهر وإنما الخفي أن البائع إذا ملك ذلك المغرس فعند علم المشتري بأن له الخيار وهبه له أو أعرض له عنه فهذا هو الذي يتردد النظر فيه والذي ظهر لي فيه بعد التمهل أياماً ومزيد الكشف لبعض الكتب المتداولة فإن جلها معدوم من قطر الحجاز أن المشتري يبطل خياره بمسامحة البائع له بالمغرس المذكور هبة أو إعراضاً، ويدل على ذلك من كلامهم أمور: الأوّل: قولهم إذا اتحد المبيع صفقة لا يرد المشتري بعضه بعيب قهراً إلا إذا كان البعض الآخر للبائع فحينئذ يرد عليه البعض قهراً كما اعتمده القاضي ومن تبعه وهو الأوجه كما بينته في حاشية العباب لأن العلة الصحيحة في امتناع رد البعض إنما هي الضرر الناشىء من تبعيض الصفقة عليه وبملكه للبعض الآخر يزول التبعيض فلا ضرر عليه فيه فلزمه قبوله وتعليل مقابل كلام القاضي الذي جرى عليه كثيرون بأنه وقت الرد لم يرد(1/485)
كما تملك يرد بأنه وإن لم يرد كما تملك لكن لا ضرر عليه في الرد حينئذ فلا وجه لامتناعه والتعليل باتحاد الصفقة وتفريقها بمجرده لا يصلح للتعليل وإنما وجه العلة ما فيه من الضرر غالباً فآلت العلتان إلى شيء واحد وهو انتفاء الضرر وهو منتف فيما قاله القاضي فكان هو الحقيق بالاعتماد وممن اعتمده الأذرعي فإنه رجح أن العلة إنما هي الضرر وكذلك الزركشي فإنه قال بعده وهو ظاهر لرجوع الكل إليه قال ومثله لو وهبه منه اهـ فانظر إلى كونهم ألزموا البائع بالقبول حينئذ لعدم الضرر فقياسه أن يلزم به المشتري في مسألتنا لعدم الضرر فيها بوجه، فإنا إذا ألزمناه بالقبول لا نلزمه بكل الثمن وإنما نلزمه من الثمن بقسط غير المستحق وإنما خيرناه فوراً بعيب التبعيض وبمسامحة البائع له كما مر زال هذا العيب بالكلية فلذا قلنا بسقوط خياره وبه فارق ما لو اطلع على عيب قديم فأراد الرد به فقال البائع أمسكه وخذ أرش القديم، وأما لو حدث عنده عيب وقد اطلع على عيب قديم فأراد ضم أرش الحادث إلى المبيع ورده فإنه لا يجاب البائع في الأولى ولا المشتري في الثانية لأن العيب لا يزول ببذل إرشه ففي إلزام قبول المعيب ضرر ولو مع أخذ الإرش فمن ثم لم يلزموا بذلك البائع ولا المشتري لأنه لا يزيل الضرر بالكلية بخلافه في مسألتنا، فإن مسامحة البائع له بما مر تزيل ضرره بالكلية فلذا لزمه قبوله وسقط خياره فإن قلت الذي اعتمده شيخ الإسلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/486)
زكريا سقى الله تعالى عهده مقابل كلام القاضي السابق وهو يؤيد عدم إجبار المشتري في مسألتنا على القبول، قلت قد بان لك أنه ضعيف وإن اعتمده شيخنا المذكور وأفتى به وعلى تسليمه فهو لا يؤيد ذلك لأن العلة فيه كما علم مما مر أنه وقت الرد تبعضت الصفقة عليه صورة وإن لم تتبعض عليه حكم فلم يرد كما تملك فكذا لم يجبر البائع على القبول لأنه خلف التبعيض شيء آخر وهو عدم رده كما تملك، وأما في مسألتنا فلا يتأتى فيها ذلك لأن علة تخييره التبعيض وبمسامحة البائع يزول من غير أن يخلفه شيء آخر. الأمر الثاني: قولهم لو بان عيب الدابة وقد أبعلها ونزع النعل بعيبها فلا رد له ولا فسخ إن نزعه وإلا فله الرد، ويلزم البائع القبول لأنه لا منة عليه فيه ولا ضرر وليس للمشتري طلب قيمتها فإنها حقيرة في معرض رد الدابة فقياس إلزام البائع القبول هنا إلزام المشتري به في مسألتنا بجامع زوال العيب بالترك في المسألتين من غير لحوق منة ولم يخلف ذلك شيء آخر، ووجه عدم المنة في ذلك أن ما يقع في ضمن عقد يكون في مقابلة توفير غرض لباذله فلم توجد فيه حقيقة المنة لا سيما وقد انضم لذلك إجبار الشرع له على القبول فهو كاره له والكاره للشيء لا يتوهم لحوق منة إليه منه بوجه من الوجوه، فإن قلت إلزام البائع بالقبول مع عدم تغريمه قيمة النعل للمشتري مشكل فلا يقاس عليه على القاعدة، ووجه إشكاله أنهم لاحظوا جانب البائع خشية من لحوق الضرر به دون جانب المشتري مع لحوق الضرر به إما بالتزام معيب أو بتكليفه النزول عن ملكه في النعل، وكان القياس أن يطالب بإرش العيب القديم كما في الصبغ لكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب، قلت أما عدم القياس على المشكل مطلقاً فممنوع كما يعلم من كلام الأصوليين وعلى التنزل فمحله حيث كان الإشكال مسلماً، أما حيث كان مدفوعاً فإنه لا تأثير له لا في الحكم ولا في القياس عليه وهو هنا كذلك لأنا لم نراع جانب البائع فحسب بل راعينا كلاً من(1/487)
الجانبين فإن الصورة أن النزع يعيبها فلو أمرناه به لأجحفنا بالبائع ولو أمرناه بإمساكها معيبة لأجحفنا به فعدلنا إلى طريق وسط يندفع به الإجحاف عن كل منهما وهو ردها مع النعل والحكم ببقاء النعل على ملك المشتري حتى إذا سقطت يلزم البائع ردها كما يأتي، وإنما لم يقل أحد من أصحابنا بوجوب إرش العيب القديم كما في الصبغ لوضوح الفرق بينهما، فإن الصبغ لا يمكن إزالته إلا بتلف عينه بخلاف النعل، وأيضاً فالصورة أن قبع النعل يضر بها وبالمشتري لأنه يحدث بها عيباً يمنع الرد بخلاف نظيره في الصبغ. الأمر الثالث: قولهم لا يدخل في البيع بذر أو زرع ما يؤخذ دفعة بل يتخير به المشتري إن جهله ما لم يتركه له البائع أو يقول أنا أفرغه في زمن يسير فلا خيار له لانتفاء الضرر في الأولى وتداركه حال في الثانية كما لو اشترى داراً ثم رأى خللاً بسقفها يمكن تداركه حالاً أو بالوعة مفسدة فقال أنا أصلح السقف وأن البالوعة فلا خيار للمشتري ويلزمه القبول في مسألة الترك ولا نظر للمنة لما مر فانظر إلى كونهم ألزموا المشتري القبول هنا، لأن الترك يندفع ضرره قطعاً فكذا يقال بنظيره في مسألتنا، فإن قلت عبارة الجواهر تقتضي خلاف ذلك وهي ولا خيار للمشتري كما لو أمكن تدارك العيب في زمن يسير كإزالة استداد البالوعة أو الحش أو رد الآبق أو المغصوب أو إزالة المرض بدواء في زمن يسير أو ميلان السقف والجدار من غير احتياج إلى عين جديدة انتهت فقضية قوله من غير احتياج إلى عين جديدة أن الخيار في مسألتنا لا يسقط قلت ليس قضيتها ذلك لأن العين الجديدة إنما ضرت لأنها تحتاج إلى مضي زمن طويل في الإصلاح بها غالباً فالامتناع فيها ليس لذاتها بل لما تستلزمه هي من طول الزمن فإن فرض الإصلاح بها في زمن يسير فلا وجه لامتناعه وإن فرق بينها حينئذ وبين الدواء الذي يسقى للمبيع حتى يزول مرضه فإنه لا يضر كما علمته في كلام القمولي نفسه ثم رأيت كلام القاضي حسين في(1/488)
فتاويه صريحاً فيما ذكرته من أن العلة ليست الاحتياج لعين جديدة بل تجدد عين غير تلك العين والتصرف في ملك المشتري أي بما لا يحتمل لطول زمنه حتى لا ينافي ما مر. وعبارة الخادم بعد ذكر نحو عبارة الجواهر السابقة ومن تتمة المسألة أنه لو اشترى داراً فانهدمت قبل القبض فأصلحها البائع لا يبطل خيار المشتري لأن هذه العين غير تلك العين ولأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه كمن غصب نقرة وطبعها دراهم يجوز للمالك إجباره على نقض الدراهم ورده إلى الأول وأخذ أرش النقصان قاله القاضي حسين في فتاويه ولم يفصل بين أن يعيدها بتلك الآلة أو بغيرها انتهت فانظر إلى قوله ولم يفصل الخ، فإنه يعرف به أن قول الجواهر من غير عين جديدة ليس بشرط، نعم محل كلام القاضي ما إذا طال زمن الإصلاح كما هو الغالب في صورة الهدم التي فرضها ومن ثم احترز
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/489)
الشيخان وغيرهما عنها بقولهم كخلل بسقفها يمكن تداركه حالاً لا يقال قوله لأن هذه العين غير تلك العين صريح في موافقة كلام الجواهر لأنا نقول لو كان كذلك لم يصح قول الزركشي عقبه ولم يفصل الخ، وإنما أراد به أن المعاد بعد الهدم ولو بالآلة الأولى يخالف البناء الأول في الصورة وغيرها فبهذا الاعتبار كانت هذه العين غير تلك العين. الأمر الرابع: قولهم يسقط خيار المشتري فيما إذا اشترى أرضاً فيها دفين من حجر أو خشب أو غيرهما لا تدخل وكان تركها غير مضر وقلعها مضر لكونه ينقص قيمتها أو يحتاج في نقلها لمدة لها أجرة بتركها له ولا نظر لما فيه من المنة لما مر وهذا الترك إعراض لا تمليك فللبائع الرجوع فيها فإذا رجع عاد خيار المشتري فلو وهبها له بشروط الهبة لزمه القبول وسقط خياره ولا رجوع للبائع حينئذ وهذا كما ترى ظاهر في لزوم القبول في مسألتنا، فإن قلت صرحوا في هذه المسألة بأن البائع لو قال أنا آخذ الحجارة وأغرم أرش النقص أو أجرة مدة النقل لم يلزم المشتري إجابته وهذه هي التي نظيرة مسألتنا، قلت ممنوع بل بينهما فرق واضح وذلك لأن غرم الإرش لا يزيل النقص بالكلية وكذا إعطاء أجرة مدة النقل لا يزيل الضرر بالكلية، لأن تفويت الاستعمال على المشتري زمناً طويلاً فيه ضرر عليه وإن أخذ مقابل ذلك التفويت بالكلية فافترقا وبما قررته يعلم الفرق بين عدم لزوم القبول للإرش أو الأجرة وبين لزوم قبول الأحجار وحاصله أن قبولها بخلاف القبول هنا، فإنه لا يزول به الضرر بالكلية كما تقرر وهذا أولى وأوضح من الفرق بينهما بأن قبول الأولين فيه منة بأجنبي بخلاف قبول الثاني أعني الحجارة فإن المنة حصلت فيه بما هو متصل بالمبيع يشبه جزء. الأمر الخامس: قولهم لو اشترى ثمرة يغلب اختلاط حادثها بالموجود في الصور الأربع قبل التخلية أو بعدها لم ينفسخ العقد بل يتخير المشتري إن وقع الاختلاط قبل التخلية ما لم يسمح له البائع بالحادثة فإن سمح له بها(1/490)
هبة أو إعراضاً فلا خيار لزوال المحذور ثم هل المراد أنه يجوز للمشتري المبادرة بالفسخ إلا أن يبادر البائع ويسمح له فيسقط خياره أو ليس له المبادرة بذلك إلا بعد مشاورة البائع قضية كلام الشيخين الأول وقضية كلام التنبيه الثاني وهو ما حكاه في المطلب عن نص الشافعي والأصحاب ورجحه السبكي قال في المهمات: ومعنى تخييره رفعه الأمر للحاكم ليكون هو الفاسخ كما صرح به جمع لأنه لقطع النزاع لا للعيب وكلام الرافعي يوهم خلافه اهـ ملخصاً وهو مردود فإن ما قاله مفرع على أن الحاكم في باب التحالف هو الذي يفسخ أما على المذهب فلا يفسخ إلا المشتري كما قاله الرافعي فهو الوجه وزعمه أن ما ذكر ليس عيباً ممنوع بل هو عيب لصدق تعريفه عليه ولا دخل للحاكم في الرد به بخلافه في باب التحالف الذي لا يكون إلا عنده وعليه فالخيار فوري ولهما التراضي على قدر من الثمرة وعند التنازع القول قول ذي اليد بيمينه في قدر حق الآخر وهي بعد التخلية للمشتري قالوا ويجري جميع ما تقرر في بيع نو الحنطة من المثليات ومتماثل الأجزاء حيث تختلط بحنطة البائع ولم تتميز بنحو كبر وجودة، أما لو اختلط متقوم بمثله فينفسخ العقد لأن الاختلاط يورث الاشتباه وهو مانع من صحة العقد لو فرض ابتداء وفي نحو الحنطة غاية ما يلزم الإشاعة وهي غير مانعة وهذه هي العلة الصحيحة وبها يندفع استشكال بعضهم للفرق بين المثلى والمتقوّم حيث قال ذلك إن كان لو سمح بالثمرة كلها يملكها المشتري فلم لا يملك القطع كله إذا سمح به البائع وحينئذ يتصرف فيه ولا فرق بينهما وإن كان لا يملك الثمرة وإنما يتصرف فيها مشاعة وتكون مشتركة بينهما فالمفهوم من كلام الأصحاب خلافه، ومن قال بالفسخ لا يرد عليه شيء من هذا، ولعل الحامل على الفرق بين الثمار والشياه أن الثمار تكون في الغالب قليلة مرغوبة عنها بخلاف الشياه وهذا إن صح لزم عليه التخصيص باليسير فلا يطرد في الثمار الكثيرة والحنطة الكثيرة(1/491)
والأصحاب لم يفرقوا اهـ، المقصود منه فتأمل قوله والأصحاب لم يفرقوا وإن جميع ما ذكره مردود بالعلة السابقة المصرحة بالفرق بين نحو الشياه ونحو الثمار، قلت أو كثرت، قال بعض المحققين وفيما ذكروا أن المختلط لا يكون هالكاً وإلا لانفسخ البيع ولا يمنع القول بالاشتراك ثبوت الخيار لتبدل المستحق بغيره في بعض المبيع فالموجب للخيار هنا هو هذا التبدل وهذا التبدل ينتفي بمسامحة البائع بحصته فسقط بها خيار المشتري ولا نظر للمنة خلافاً لمن نظر فيها لأنها في ضمن عقد كما في ترك الفعل في الرد بالعيب، ومن ثم قال الشيخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/492)
عز الدين في مختصر النهاية: إن أثبت الخيار فترك البائع حقه من الثمار أجبر المشتري على القبول وسقط الخيار كما في ترك النعل في الرد بالعيب كذا ذكره الأصحاب اهـ، وفي البسيط لو قال لا تفسخ فقد وهبت لك الثمار بطل خياره ويجبر على قبوله كما يجبر البائع على قبول النعل محافظة على لزوم العقد، ويحتمل أن يقال لا يجبر، لأن النعل صار كالوصف للدابة وهو تبع والقبول فيه هين اهـ، ورد صاحب الوافي احتماله هذا الذي أبداه أخذاً من النهاية بأنه لم يوافقه عليه أحد قالوا ولو اشترى شجرة وعليها ثمرة للبائع وجرى الاختلاط كما سبق لم ينفسخ بل يقال للبائع أترضى أن تترك جميع الثمرة للمشتري فإن فعل لزم المشتري قبوله فإن امتنع قيل للمشتري ذلك فإن ترك لزم البائع قبوله فإن امتنعا فسخ العقد لتعذر إمضائه. قال البغوي : وهذا بخلاف المسألة الأولى حيث قلنا يدعى البائع إلى ترك حقه ولا يدعى المشتري لأن المبيع هناك هو الثمرة فإذا ترك المشتري حقه لا يبقى في مقابلة الثمن شيء وهنا المبيع هو الشجرة فترك الثمرة الحادثة للبائع لا يخلي الثمن عن العوض، أما إذا تشاحا فينفسخ العقد هذا حاصل ما قرروه في هذا المحل وهذا كما ترى سيما ما قدمته عن بعض المحققين ظاهر فيما قلناه في مسألتنا، لأن الإجبار على القبول فيه هنا وثم مصلحة إمضاء العقد والمسامحة هنا، وثم مزيلة للضرر من كل وجه يوجب القول في تلك بما قالوا في هذه لاتحادها معها ولا نظر للمنة لما مر ولا إلى أن من شأن الثمار أنه يتسامح بها لما مر من أنه لا فرق بين قليلها وكثيرها وأن ذلك لا يختص بها بل يعم سائر المثليات وإن كثرت ولا إلى ما يتوهم من الفرق بين ما هنا ومسألة النعل لما مر من أن احتمال الغزالي المبني على ذلك لم يوافقه عليه أحد. الأمر السادس: قولهم يتخير المستأجر بانقطاع ماء الأرض المستأجرة للزراعة ولها ماء معتاد للعيب إلا أن أبدله المؤجر بماء آخر ووقت الزراعة باق ولم تمض مدة(1/493)
لمثلها أجرة فلا خيار له لزوال موجبه فتأمل كيف جعلوا سوق الماء إليها من مكان آخر موجباً لإزالة سبب الخيار من التضرر بانقطاع الماء فكذا المسامحة هنا موجبة لإزالة سبب الخيار من تفريق الصفقة عليه. الأمر السابع: قولهم لو قال الغرماء للقصار خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء صاحب الثوب أجبر على الأصح أي لأنه لا ضرر عليه في أخذ أجرته بخلاف ما لو قالوا للبائع لا تفسخ ونقدمك بالثمن فإنه لا يلزمه إجابتهم لاحتمال لحوق الضرر به بظهور غريم آخر فإنه يزاحمه وبما تقرر يعلم أن الفرق الصحيح بين هاتين المسألتين هو ما ذكرته لا ما ذكره بعضهم من أن سبب عدم إجباره في الثانية تحمله لمنتهم لأن هذا يرده قولهم بالإجبار في الأولى مع أن فيه تحمل منتهم فالوجه في الفرق هو خشية لحوق الضرر وعدمها ثم رأيت
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/494)
الأذرعي صرح بما يصرح بما ذكرته حيث قال في توسطه، وأما التعليل بالمنة فغير ظاهر إذ قد تكون المنة له بأن تكون السلعة تساوي ضعف ثمنها فيكون الحظ لهم اهـ فك، قلت جميع ما ذكرته يمكن الفرق بينه وبين مسألة السؤال فإن جميع ما ذكروه في أن الأعراض أو الهبة يكون مسقطاً إنما هو في أمور تتعلق بالمبيع وتتصل به فلذا تسامحوا فيها وجعلوا المسامحة بها مسقطة للخيار ومسألة السؤال ليست كذلك، قلت مجرد التعلق والاتصال بالمبيع لا دخل له في إسقاط الخيار بالمسامحة كما علمته من كلامهم المذكور وإنما الذي عللوا به رعاية مصلحة إمضاء العقد تارة وزوال الضرر تارة أخرى، وهذا الثاني هو العلة الصحيحة لاطرادها بخلاف الأولى فإنها تقتضي سقوط الخيار بقول البائع للمشتري خذ إرش القديم وأمسكه وقد صرحوا بخلافه فعلمنا أن العلة الصحيحة إنما هو انتفاء الضرر من غير أن يخلفه شيء آخر ولا شك أن الضرر في مسألتنا ليس بينه وبين المبيع تعلق بل بينهما تعلق تام من حيث اشتمال العقد عليهما لفظاً وكذا حكماً، ألا ترى أن الثمن يوزع عليهما عند الإجازة فلم يقطعوا النظر عما فسد فيه البيع بل جعلوه منظوراً إليه بل النظر إليه من حيث التعلق أقوى من النظر إلى نحو الثمار التي حدثت بعد البيع وقبل التخلية واختلط المبيع بها، فإن قلت قد صرح الشيخان وغيرهما بما يقتضي أنه لا يقسط خيار المشتري بالمسامحة وذلك لأنهم قالوا لو باعه أرضاً أو صبرة على أنها مائة فخرجت زائدة أو ناقصة صح البيع للإشارة وخير من عليه الضرر وهو البائع في الزيادة والمشتري في النقص ولا يسقط خيار البائع بقول المشتري له لا تفسخ وأنا أقنع بالقدر المشروط شائعاً ولك الزيادة ولا بقوله لا تفسخ وأنا أعطيك ثمن الزائد ولا يسقط خيار المشتري بحط البائع من الثمن قدر النقص قلت لا تأييد في هذا لعموم سقوط خيار المشتري بالمسامحة بل ربما يكون فيه تأييد لسقوطه وذلك لأنه إنما لم يسقط خيار البائع بقول(1/495)
المشتري أقنع بالقدر المشروط شائعاً ولك الزيادة لأن ثبوت حق المشتري شائعاً يجر ضرر سوء المشاركة ولا بقوله أعطيتك ثمن الزائد لما فيه من لزامه تمليك ماله لغيره بلا ضرورة أي وهذا فيه ضرر على البائع فعلم أن سبب عدم إجبار البائع على ما قاله المشتري في الصورتين هو لحوق الضرر به لو أجبرباه على ذلك، وأما مسألتنا فإجبار المشتري على القبول لا يلحقه به ضرر مطلقاً كما مر غير مرة فلا قياس بين هذا
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/496)
ومسألتنا، وأما عدم سقوط خيار المشتري بحط البائع قدر النقص فسببه أن العقد لم يتناول قدر النقص حتى يحط ما قابله من الثمن، وإنما وقع العقد مقابلاً فيه الثمن جميعه بهذا القدر الموجود وهذا فيه ضرر على المشتري ولأنه خلاف ما شرطه وحط البائع له ما ذكر لا يزيل ضرره، لأن ذلك الحط لا فائدة فيه لما تقرر من أنه مخالف لما وقع العقد به فلا يسمى حطاً ولا يزول به الضرر المقتضي لثبوت الخيار، ويدل على ما ذكرته من أن العقد لم يتناول قدر النقص قولهم وإذا أجازوا فبالمسمى لا بقسطه لأن المتناول بالإشارة ذلك الموجود لا غير، وإذا أجاز البائع فالجميع للمشتري ولا يطالبه للزيادة بشيء اهـ، وبهذا يزيد اتضاح فرقان ما بين هذه المسألة ومسألتنا، لأن مسألتنا لم يقع انعقاد العقد فيها مقابلاً فيه الثمن جميعه بالمستحق وغيره وإنما وقع الانعقاد فيها مقابلاً فيه غير المستحق بقسطه من الثمن، وأما المستحق فلم يصح العقد فيه ولا فيما قابله من الثمن ومن ثم لو أجاز المشتري فيها لم يلزمه إلا القسط من الثمن، فإن قلت ما ذكر من أن البائع لا يسقط خياره بقول المشتري أعطيك ثمن الزائد لما فيه من إلزامه تمليك ماله لغيره بلا ضرورة صريح في أن المشتري في مسألتنا لا يسقط خياره بمسامحة البائع له لعين العلة المذكورة وما ذكرته من أن ذاك فيه ضرر بخلاف هذا فيه خفاء، قلت ويزول هذا الخفاء بزيادة إيضاح ما ذكرته وذلك أنه تقرر من صريح كلامهم أن الإشارة تناولت جميع ذلك الموجود في حالتي الزيادة والنقص ومن ثم لو أجاز البائع كان الجميع للمشتري ولا يطالبه للزيادة بشيء فالزيادة وقعت هي والقدر المشروط مقابلين بجميع الثمن، ولذا ثبت الخيار للبائع للحوق الضرر له بتناول العقد أزيد من المشروط، وقول المشتري أعطيك ثمن الزائد لا يدفع المقابلة المذكورة التي حصل الضرر المقتضى للخيار بسببها فلم يكن قول المشتري المذكور مسقطاً لخياره لبقاء ما حصل الضرر بسببه مع(1/497)
قوله ذلك وعدم زواله به وهذا هو المراد والمآل من علتهم المذكورة، لأن العقد إذا وقع متناولاً للزيادة من حيث الإشارة فيه لجميع الموجود كان في قول المشتري أعطيك ثمن الزائد إلزام للبائع بتملك الثمن من غير ضرورة مع أن ذلك التملك لا يدفع السبب المقتضى لاختياره لبقائه وإن فرضنا أنه يملك الثمن لما تقرر أن سبب الخيار تناول العقد للزيادة أيضاً وهذا التناول موجود سواء أجبر البائع على تملك الثمن أم لم يجبر عليه، وإذ قد اتضح ذلك بهذا التقرير المصرح به كلامهم فكيف يتوهم مشابهة هذه المسألة لمسألتنا، فإن مسألتنا سبب الخيار فيها تفريق الصفقة على المشتري كما صرحوا به وهذا السبب ينتفي بمسامحة البائع بما وقع التفريق بسببه فلزم المشتري قبوله وسقط به الخيار لأنه لا ضرر عليه فيه بوجه، فإن قلت ما ذكرته في مسألة السؤال هل هو خاص بها لكون البقعة المستحقة متصلة بغير المستحقة أو هو عام فيها وفي غيرها، قلت بل هو عام في كل مسألة وقع تفريق الصفقة فيها وثبت بسبب ذلك خيار المشتري كما إذا اشترى عبدين أو عبداً وأرضاً في صفقة فبان أحدهما مملوكاً للغير حين البيع وكان عند التبين ملكاً للبائع أو بادر البائع وملكه قبل أن يبطل خيار المشتري فلما أراد المشتري الفسخ بسبب تفريق الصفقة عليه بادر البائع وسامحه به فيلزمه القبول ويسقط به خياره كما تقرر فإن جميع ما قررته صريح في أن العلة في سقوط الخيار ليس هو اتصال المستحق بغيره حساً وإنما العلة في ذلك أن بالمسامحة بذلك ينتفي الضرر عن المشتري ويزول بها السبب المقتضي لخياره وهو تفريق الصفقة عليه مع رجوع ما قابل الفاسد من الثمن إليه فإنا وإن ألزمناه قبول المسامحة المذكورة لا نلزمه بالإجازة بجميع الثمن بل بقسطه الصحيح من الثمن فحصل له المملوك بقسطه وغير المملوك بلا شيء وبحصوله له يزول السبب المقتضي لخياره وهو تفريق الصفقة عليه فلذا سقط به خياره، فإن قلت مر في مسألة اختلاط(1/498)
الثمار أنه هل المراد أنه يجوز للمشتري المبادرة بالفسخ إلا أن يبادر البائع ويسمح له فيسقط خياره أو ليس له المبادرة بذلك إلا بمشاورة البائع فقضية كلام الشيخين الأول وقضية كلام التنبيه الثاني وهو ما حكاه في المطلب عن نص
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
الشافعي والأصحاب واختاره السبكي فهل يأتي ذلك هنا، قلت يحتمل أن يقال يأتي ذلك هنا ويحتمل أن يقال الراجح هنا الأول وإن قلنا أن الراجح الثاني وهذا هو الأقرب ويفرق بأن ملك البائع ثم المختلط متحقق فوجبت مشاورته لينظر هل يسمح أو لا؟ وأما هنا فملك البائع لما فسد فيه البيع غير متحقق بل الأصل أنه لم يملكه فلم يلزم المشتري البحث لأن فيه مشقة عليه، فإن قلت قد لا يكون عليه مشقة وصورته أن يعرض له أمر يقتضي أنه لا يبطل خياره بأن عرض ما لا ينافي الفورية كأكل أو حمام وعلم في هذه الحالة أن البائع ملك المستحق فهل يتجه في هذه الحالة مشاورة البائع، قلت لا يتجه وجوب مشاورته مطلقاً لأنه مقصر ببيع ما لا يملك ومن ثم لم يثبت له خيار وإن تفرقت الصفقة عليه وكان معذوراً في ذلك فساغ للمشتري المبادرة بالفسخ ما لم يبادر بالمسامحة هو ويسمح قبل فسخ المشتري فحينئذ يسقط خياره، فإن قلت مر ثم كلام المهمات في معنى التخيير وأنه مردود فهل يجري نظيره هنا، قلت نعم يجري ذلك جميعه هنا بجامع أن موجب الخيار هنا وثم العيب كما مر ولا دخل للحاكم في الرد به، فإن قلت قال ابن المقري : ثم وتملك الثمرة هنا بالإعراض كالإعراض عن السنابل، وإنما لم يملك النعل بالإعراض عنها، لأن عودها إلى البائع متوقع ولا سبيل هنا إلى تمييز حق البائع اهـ، فهل يقال بذلك هنا أيضاً قلت ما قاله فيه نظر بل صريح كلامهم ما يأتي من الفرق بين الإعراض عن النعل وعن نحو كسرة الخبز ويؤيده أيضاً أن الإعراض هنا وعن النعل سواء ويرد فرقه بأن التمييز هنا متوقع أيضاً فهو كعود النعل، ويؤيده(1/499)
قول الزركشي وعلى قياس النعل لو اطلع على ثمرة المشتري من ثمرة البائع وعلم بتمييزها بطريق من الطرق بأخبار أهل الخبرة أو بخبر نبي مثلاً وجب ردها عليه، لأنه لم يسمح بها مطلقاً بل للخوف من الفسخ عند التعذر على الوقوف على الحقيقة فإذا علمت بطريقها فليردها عليه ولو أكلها المشتري قبل التبين أو تصرف فيها فلا ضمان كما لو استعمل النعل في رجل الدابة حتى بلى وهذا وإن لم يصرحوا به لكنه فقه ظاهر والقواعد تشهد له اهـ، لا يقال توقع عود النعل أقرب من توقع التمييز كما لا يخفى لأنا نقول ذلك وإن سلمناه لا يقتضي صحة ما قاله على أن نفي السبيل إلى التمييز وقد علمت أن السبيل إليه ممكن سيما وكلامهم كالمصرح أو مصرح باستوائهما في عدم ملك كل منهما بالإعراض، ثم لو فرض اعتماد ما قاله فلا يأتي نظيره هنا، لأن علته لا تجري هنا لتميز المعرض عنه هنا فالوجه أنه لا يملك ما فسد فيه البيع إذا أعرض البائع عنه له بخلاف ما إذا وهبه له وقبله بشرطه فإنه يملكه، فإن قلت هل يأتي فيه ما قاله
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(1/500)
الزركشي من أنه لو تصرف في نحو الثمار لا يضمها وقاسه على ما ذكره في النعل قلت نعم يمكن أن يأتي ذلك فيما إذا كان الذي فسد العقد فيه تفوت عينه في الانتفاع به لأنه الذي يشبه ما فرض الزركشي الكلام فيه من الثمار ونحوها، أما في نحو الأراضي فلا يأتي فيه ذلك، نعم لو عاد فيه البائع فلا أجرة على المشتري للمدة التي انتفع به فيها لأن المعرض عنه غايته أنه كالمعار كما يفهم مما ذكرته في حاشية العباب، وعبارتها والمراد بالإعراض هنا خلاف ما قالوه في الإعراض عن نحو كسرة خبز، لأن الإعراض إما مطلق بأن يحصل بالاختيار بلا ضرورة فإذا أخذه الغير ملكه وليس لمالكه الرجوع فيه، وإما مقيد كما هنا فإنه مقيد بحالة اتصاله بالدابة فإذا انفصل عنها عاد إلى مالكه ووجب رده عليه عقب السقوط فوراً، وإن لم يطلبه كما اقتضاه إطلاقهم لكن يحتمل أن يقال الواجب عليه التخلية وهي المرادة بالرد في كلامهم وأن يقال بل الواجب عليه الرد حقيقة كالعارية بجامع أنه أبيح له الانتفاع بكل منهما فكما لزمه ثم بعد انقضاء العارية الرد فكذلك هنا، ولعل هذا أقرب فإن قلت أطلق الزركشي أنه لا ضمان بالتصرف، وظاهره صحة تصرفه فكيف يكون عارية، قلت مراده التصرف بغير النقل عن ملكه بدليل ما نظر به من استعمال النعل حتى بلي، فإن قلت مر في مبحث الأحجار قولهم وهذا الترك إعراض لا تمليك فللبائع الرجوع فيها فإذا عاد رجع خيار المشتري فهل يأتي نظير ذلك هنا، قلت نعم فإذا أعرض البائع للمشتري عما فسد فيه العقد سقط خياره ولزمه القبول فله حينئذ التصرف في ذلك المعرض عنه لكن بالانتفاع ولو بإيجاره للغير لا بالبيع ونحوه لأنه غير مالك له ثم إذا رجع البائع فيه عاد خيار المشتري لأنه ما دام لم يرجع فسبب الخيار منتف فإذا رجع عاد سبب الخيار، فإن قلت هذا فيه ضرر كبير على المشتري من حيث إنه يصير كالمحجور عليه في هذا المعرض عنه إذ ليس له إلا الانتفاع به لا إخراجه عن ملكه، قلت(2/1)
لا ضرر في ذلك عليه لأن هذا الانتفاع في الحقيقة لم يبذل المشتري في مقابلته شيئاً فهو محض ربح استفاده لأن ما بذله من الثمن، إنما هو في مقابلة الذي صح فيه البيع وهذا الذي فسد فيه البيع إنما استفاده في مقابلة ثبوت الخيار له، وإذا حصل ذلك الانتفاع في مقابلة ذلك الشيء كان ذلك غاية في مراعاة جانبه وغايته في الربح فلا ضرر عليه في ذلك بوجه سيما وخياره أو خيار وارثه يعود بعود البائع أو وارثه في ذلك المعرض عنه وعلى فرض المحال وهو أن عليه ضرراً في ذلك فلا نظر إليه لعين ما قالوه في الإعراض عن الأحجار من أن المشتري لا يملكها به فلا ينفذ تصرفه فيها بالبيع ونحوه فكما لم ينظروا هنا إلى تضرره إن فرض وأسقطوا خياره بالترك معه فكذلك لو فرض تضرره في مسألتنا لا ينظر إليه ويسقط خياره هذا آخر ما يسر الله به في هذه المسألة، ولعل الله يفتح فيها بما يزيدها إيضاحاً وبياناً جعلنا الله ممن لجأ في مهماته إليه، وعوّل فيما يرتبك فيه من المضايق وينوبه من المتاعب عليه وأمدنا بتوفيق بديع من عنده لا يبقى فينا ذرة لغيره، وأدام على قلوبنا شهود إنعامه وسوابغ بره وخيره وختم لنا بالحسنى وبلغنا من فضله المقام الأسنى فهو حسبنا ونعم الوكيل وإليه مفزعنا في الكثير والقليل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله لا قوة إلا بالله الحليم الكريم، الرحمن الرحيم، والحمد لله أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأزكيان الأنميان الأطيبان على خلاصة سر الوجود وعين التعينات في مقامي التجلي والشهود سيدنا محمد وآله وعلى أصحابه وأزواجه وذريته وخلفائه ووارثيه وأتباعه ومحبيه ما قام لله بنصرة هذا الدين قائم فأظهر الحق وناضل عنه بسنانه وقلمه ولسانه ولم يخش في الله لومة لائم وأعذنا اللهم من شؤم نفوسنا ومنّ علينا بطواعيتها لنا حتى نستريح من شرورها وارزقنا الإخلاص حتى ندأب في تطهيرها من خبائثها وتتوالى(2/2)
عليها بشائر سرورها واصحب ذلك كله برضاك عنا إلى أن نلقاك على ذلك فنرفع في دار شهودك على أعلى الأرائك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً مع من أخبرت عما لهم عليك في تلك الدار بقولك
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (يونس).
وسئل رضي الله عنه عن رجل باع من رجل آخر ثوباً بثمن معلوم وقبض البائع من المشتري بعض الثمن وتأخر له بعض الثمن ثم إن البائع جاء إلى المشتري وطالبه بما بقي له من الثمن فاختصما، ثم إن المشتري سأل البائع أن يقيله فقال البائع له أقلتك ثم طلب منه الثوب فظهر أن الثوب رهنه المشتري المذكور تحت يد شخص ثالث على دين له فهل هذه الإقالة صحيحة أم لا لكون الثوب مرهوناً تحت يد شخص آخر؟. فأجاب بقوله: عبارة الروضة كأصلها: ولا تجوز الإقالة بعد تلف المبيع إن قلنا بيع وإلا فالأصح الجواز كالفسخ بالتحالف اهـ، ومنها يعلم جوازها ولو بعد الرهن وإن قبضه المرتهن ويؤيده ما في المطلب وغيره من صحتها في الآبق قالوا لأن الإباق لا يزيد على التلف وهي تصح في التالف فأولى الآبق، وإنما امتنع رد نحو الآبق والمرهون المقبوض بعيب لأن الرد يرد على المردود ولا مردود ويؤخذ من قول الشيخين كالفسخ بالتحالف أن البائع بعد الإقالة مخير بين أن يرجع بقيمة الثوب وأن يصبر إلى فكاك الرهن ويأخذه، والله أعلم.(2/3)
وسئل رضي الله عنه عن قوله في الروض فرع إنما تقبل دعوى جهل الرد بالعيب ممن أسلم قريباً أو نشأ بعيداً عن العلماء وتقبل في جهل كونه أي الرد فوراً من عامي يخفي مثله عليه كم حد هذا القرب والبعد ومن العامي؟. فأجاب رضي الله عنه الذي يتجه في ضابط البعد والقرب فيما ذكر، وفي نظائر ذلك أن المدعي الذي جهل الرد بالعيب متى كان على مسافة يلزمه السفر منها للتعلم لم يعذر في دعواه ذلك ومتى كان على مسافة لا يلزمه السفر منها للتعلم عذر وضابط لزوم السفر له أنه متى قدر عليه لزمه وإن طال كما اقتضاه إطلاقهم، ومعنى قدرته عليه أن يستطيعه وينبغي ضبط الاستطاعة هنا بالاستطاعة التي ذكروها للحج فإن قلت يفرق بينهما بأن هذا واجب فوري والحج على التراخي، قلت هي معتبرة في الحج وإن وجب فوراً هذا كله حيث سمع في محله بأحكام الشرع فحينئذ يأتي فيه التفصيل الذي ذكرته، أما إذا لم يسمع فيه بذلك بأن خلى محله الذي هو فيه عمن يعرف حكم الرد بالعيب فهو معذور سواء أقرب محله من العلماء أم بعد عنه ويؤيد ما ذكرته آخراً قول الأذرعي عن الكافي في نظير مسألتنا، وفي حكم من قرب عهده بالإسلام من نشأ ببادية نائية لم يسمع فيها بأحكام الشرع أي الأحكام التي فيها نوع خفاء لا كل أحكامه كما وظاهر، والظاهر كما علم مما مر أنه لا فرق في البعد هنا، وفي نظائره بين أن يكون بين محله ومحل العلماء مسافة القصر أو أقل أو أكثر لكن عسر عليه الانتقال لبلد العلماء لخوف أو عدم زاد أو ضياع من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك من سائر الأعذار المسقطة لوجوب الحج، فحينئذ يكون معذوراً في دعواه جهل الرد بالعيب ونظائره، وأما إذا انتفى ذلك فإنه لا يعذر لأنه يجب عليه السفر لتعلم المسائل الظاهرة دون الخفية وإن بعدت المسافة بالشرط السابق والمراد بالعامي من يعرف الأحكام الظاهرة دون الخفية ومن ثم فرقوا هنا بينه وبين من قرب إسلامه أو نشأ بعيداً فهل تقبل دعواه جهل أصل الرد(2/4)
بالعيب، لأنه يجهله بخلاف العامي فإنه لا يجهله لظهوره لأكثر الناس ومن لم يظهر له عدّ مفرطاً ومغفلاً فلا يعتد به، وأما دعوى الجهل بالفورية فيقبل حتى من العامي لأن أكثر العوام يجهل ذلك، ومن ثم قال أصحابنا: الغالب أن من علم ثبوت الرد بالعيب يعلم صفته من أنه على الفور فعلم أنه مسلم له ما ذكره، إذ لا غالب في ذلك والمراد بالعامي في عرف الأصوليين غير المجتهد المطلق فالمقلدون كلهم عوام عندهم وإن جلت مراتبهم، وفي عرف الفقهاء من يعرف الظاهر من الأحكام الغالبة بين الناس دون الأحكام الخفية ودقائقها والأحكام النادرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
وسئل بما لفظه: علق شريكان في عبد عتق نصيبهما بمتناقض ولم يتبين الحال فباعا نصيبهما لثالث عتق عليه النصف إن كان بينهما أنصافاً وإلا فأقل النصيبين فلو وجد المشتري بذلك العبد عيباً هل يثبت له الإرش وإذا ثبت فعلى من يرجع به؟. فأجاب بقوله: القياس الثبوت وأنه موقوف إلى البيان، نعم لو ماتا وورثهما واحد والثمن في ملكهما فالقياس أن للمشتري المطالبة بالإرش وعلى الوارث إعطاؤه من ذلك الثمن.
وسئل رضي الله عنه عمن شرط الخيار لأجنبي هل يقال إنه من قبيل التمليك كتفويض الطلاق للزوجة حتى يشترط قبوله على الفور أو من قبيل التوكيل فيأتي في قبوله الخلاف؟. فأجاب بقوله: مقتضى تصريح البغوي بأنه لا ينعزل بالعزل، ووالد الروياني بأنه لا يجوز شرطه لأجنبي كافر والمبيع عبد مسلم أو محرم والمبيع صيد وإن خالفه ولده، وأن الشارط لو مات لم يبطل خيار الأجنبي ترجيح الأول، واعتمده بعضهم إذ لو كان توكيلاً لانعزل بالعزل ولجاز شرطه له وإن كان كافراً أو محرماً في مسلم وصيد، لأن الكافر يجوز توكيله في شراء المسلم ولا يعزل بموته.(2/5)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: ضبطهم العيب المثبت للخيار بما ينقص العين أو القيمة الخ، منقوض العكس بما إذا اشترى من وجد به برصا ورضي به ثم وجد به برصا آخر لا ينقص القيمة فإن هذا البرص الآخر عيب يثبت به الرد ولا ينقص عيناً ولا قيمة؟. فأجاب بقوله: لا يرد ذلك لأن هذا عيب لنقصه القيمة في نفسه لو انفرد وإن لم يظهر به نقص بواسطة انضمامه إلى مثله الذي خرج بسببه عن أن يكون منقصاً فأشبه ما إذا اشترى مريضاً في النزع فوجد به عيباً ينقص القيمة في نفسه لكنه لا ينقصها هنا لوجود هذا المرض فإن ذلك لا يخرجه عن كونه في نفسه منقصاً مثبتاً للرد فيرد به.
وسئل رضي الله عنه ورحمه عمن اشترى عبداً فقطع يده ولد المشتري قبل القبض ثم مات ولا وارث له سوى الولد القاطع فما حكمه؟. فأجاب بقوله: يثبت للوارث الخيار فإن فسخ لزمه نصف القيمة للبائع ويسترد الثمن وإن أجاز لزمه كل الثمن.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(2/6)
وسئل رضي الله عنه عن حدوث العيب بعد القبض في زمن الخيار بفعل المشتري فهل يثبت له الخيار به كتعييب الأجنبي أو لا لأنه من فعله؟. فأجاب بقوله: قال الرافعي: لو عيب المشتري المبيع قبل القبض لا خيار له لحصول النقص بفعله، بل يمتنع بسببه الرد بسائر العيوب القديمة ويجعل قابضاً لبعض المبيع هذا على الصحيح، وهو إن إتلاف المشتري قبض وعلى الوجه المنسوب إلى رواية الشيخ أبي علي لا يجعل قابضاً لشيء من المعقود عليه وعليه ضمان اليد بإرشها المقرر وهو نصف القيمة كالأجنبي وقياسه أن يكون له الخيار اهـ، ومفهومه كما قاله بعض المتأخرين أن المشتري إنما لم يثبت له الخيار إذا عيب المبيع لعدم تحقق سببه وهو وجود العيب قبل القبض، لأن القبض يحصل بفعله فلا يكون العيب سابقاً عليه فلم يثبت الخيار لذلك لا لأن العيب فعل المشتري، قال: فيستفاد منه أن الخيار إذا لم يكن سببه وجود العيب قبل القبض يثبت للمشتري إذا تحقق سببه كالخيار للعيب المتقدم على العقد إذا كان بفعل المشتري بان عيب عبداً مثلاً في يد إنسان ثم اشتراه منه فإنه يثبت له الخيار بشرطه وكالخيار العيب الواقع في زمن خيار البائع، إذا قلنا الملك له وهو الأصح فلو اشترى شخص عبداً بشرط الخيار لبائعه ثم عيبه يثبت الخيار للمشتري لأن غاية تعيينه إياه أن يكون قبضاً إذا صدر قبل القبض وهو لا أثر له هنا مع منع ثبوت الخيار بناء على أن العيب الواقع في زمن خيار البائع يثبت الخيار للمشتري، وإن كان بعد القبض فيثبت الخيار هنا أيضاً لما سبق من أن وصف كون العيب بفعل المشتري طردي لا أثر له وإن مدار ثبوت الخيار وعدمه على وجود سببه وعدمه ويؤيد ذلك أن التلف ينفسخ به البيع إذا وقع في زمن خيار البائع ولو بعد القبض كما قاله الرافعي في أقوال الملك، وأنه لا فرق بين إتلاف الأجنبي وإتلاف المشتري كما هو الظاهر، ولا شك أن وزان التعييب في اقتضاء الخيار للمشتري وزان التلف في اقتضاء الانفساخ(2/7)
فمن اقتضت مباشرته التلف انفساخ العقد تقتضي مباشرته التعييب ثبوت الخيار فيه اهـ.
وسئل عمن اشترى شيئاً فرأى به عيباً ورضي به، ثم قال: إنما رضيت لأني ظننته العيب الفلاني وقد بان خلافه فهل تقبل دعواه؟. فأجاب بقوله: إن أمكن الاشتباه وكان ما بان دون ما ظنه أو مثله فلا رد وإن كان أعلى منه فله الرد؟.
وسئل رضي الله عنه عمن اشترى عيناً بها أثر وقد رآه ثم قال ظننته غير عيب فبان عيباً فهل له الرد؟. فأجاب بقوله: إن كان ذلك مما قد يخفى على مثله صدق بيمينه وله الرد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
وسئل رضي الله عنه عمن اشترى بذراً على أنه ينبت فزرعه في أرض صالحة للإنبات فلم ينبت فما الحكم في ذلك فإن جماعة اختلفت فتاويهم في ذلك؟. فأجاب بقوله أفتى بعضهم بأنه ليس للمشتري إلا ما نقص من قيمته، وأفتى آخر بأن البائع يغرم للمشتري أجرة البقر اللاتي حرث عليهن وجميع الخسارة ويرد إليه جميع قيمة البذر ولا وجه لذلك ولا قياس يعضده بل الوجه ما أفتى به بعضهم من أن للمشتري الإرش وهو جزء من الثمن نسبته إليه نسبة ما بين قيمته صالحاً للإنبات وغير صالح هذا إن كان عدم إنباته لعيب فيه فإن كان لنحو عارض في الأرض بقول أهل الخبرة لم يرجع بشيء ولو جعلا الإنبات شرطاً في العقد وأرادا الصلاحية فالحكم كذلك أو وجوده بالفعل فسد العقد كما هو ظاهر لعدم القدرة عليه فعلى البائع حينئذ رد الثمن وعلى المشتري رد البذر أو أقصى قيمه.
وسئل رضي الله عنه عمن اشترى جارية فوجدها لا تحيض أو يطول طهرها فهل هو عيب؟. فأجاب بقوله: الأول عيب إن كانت في سن تحيض فيه النساء غالباً وهو عشرون سنة، كما قاله القاضي حسين ، وكذا الثاني إذا تطاول طهرها بحيث جاوز العادة كما في الكفاية.(2/8)
وسئل عن رجل اشترى جارية ثم رأى فيها عيباً يمكن حدوثه وقدمه فاختلف البائع والمشتري فمن المصدق منهما وهل يكفي قول البائع لا أعلم فيها عيباً ويرد عليه أو لا؟ وهل يلزم المشتري اليمين أنه وقت اطلاعه على العيب لم يقصر في الرد؟. فأجاب بقوله: المصدق في ذلك هو البائع بيمينه لكن لا يكفي قوله في الجواب والحلف ما علمت بهذا العيب عندي ويكفي فيهما لا يستحق عليّ الرد به، أو ما أقبضته إلا سليماً أو أقبضته وما به من عيب ولا يمكن في الأخيرة من الحلف على أنه لا يستحق الرد عليه ولو قال في الجواب ليس بقديم حلف على البت فيقول لقد بعته وما به هذا العيب، وإذا أجاب جواباً صحيحاً وحلف حلفاً صحيحاً لم يثبت للمشتري عليه رد، فإن قدر ثبوت رد له فقال البائع لقد قصرت في الرد على الفور صدق المشتري بيمينه وثبت له الرد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(2/9)
وسئل عن قوله : «الخراج بالضمان» هل هو على إطلاقه في العموم في الملك وغيره من غصب وسوم ووديعة إذا تعدى عليها أم هو مختص بالملك فقط كما في الحديث المتضمن للعبد الذي وجد به المشتري عيباً ثم رده من غير خراج، وإذا قلتم يختص بالملك فما وجه التخصيص والحديث عام في الملك وغيره فإنه لو هلك هلك عليه من ماله؟. فأجاب بقوله: حديث: «الخراج بالضمان» له قصة، أشار إليها السائل وبها يتبين المراد منه وهي أن رجلاً ابتاع من آخر غلاماً ما قام عنده ما شاء الله ثم وجد به عيباً فخاصمه إلى النبي فرده عليه فقال: يا رسول الله قد استعمل غلامي، فقال: «الخراج بالضمان» رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه ومعناه: أن فوائد المبيع للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه، وأورد عليه المغصوب والمبيع قبل قبضه فإن كلاً منهما لو تلف تحت ذي اليد ضمنه وليس له خراجه وأجيب عنهما بأن الضمان هنا معتبر بالملك لأنه الضمان المعهود في الخبر ووجوب الضمان على ذي اليد فيما ذكر ليس لكونه ملكه بل لوضع يده على ملك غيره بطريق مضمن، وعن الثاني أيضاً بقصر الخبر على سببه وهو فيما بعد القبض فعلم الجواب عما قاله السائل وإن كل ما استحق خراجه لكونه ملكه كان من ضمانه لو تلف فيلزم من استحقاق الخراج الضمان بالمعنى المذكور ولا يلزم من الضمان استحقاق الخراج فما في الحديث موجبة كلية وهي ما ذكر أوّلاً ولا يرد عليها شيء والموجبة الكلية لا يلزم انعكاسها كنفسها فلا مبالاة بما يرد على عكسها، لأنه لا يتم إيراده إلا إن قلنا أنها تنعكس كنفسها دائماً وليس كذلك فتأمله ليظهر لك الجواب عن قول السائل فما وجه التخصيص الخ.(2/10)
وسئل عن قول الإرشاد ثم كل من عتق ورهن إلى أن قال وكل من البائع فسخ ومن المشتري إجازة هل ذلك في خيار المجلس أم لا؟ وظاهره أنه مفرع على خيار الشرط لقوله فإن خيرا معاً؟. فأجاب بقوله: هو جار في كل من الخيارين كما هو جلي لمن نظر أدنى نظر في كلامه وكلامهم، وعجيب من قول السائل نفع الله تعالى به لقوله فإن خيرا معاً فاستدلاله بهذا على أن الكلام في خيار الشرط في غاية الغرابة، لأن ثبوت الخيار لهما لا يتوهم أحد افتراق الخيارين فيه وإنما الذي يتوهم افتراقهما فيه ثبوته لأحدهما فهو ظاهر في خيار الشرط، وفيه نوع خفاء في خيار المجلس ولكنه لمن عنده أدنى تأمل غير خفي، إذ يمكن أن أحدهما يلزم العقد دون الآخر وهما بالمجلس فهو لازم من جهة الملزم جائز من جهة غير الملزم لبقاء خياره.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242(2/11)
وسئل عن قول العباب ولو أبهم الخيار في أحد العبدين بطل البيع اهـ، فأفهم أنه لو شرطه في أحدهما معيناً لم يبطل وثبت له الخيار بالنسبة إليه دون الآخر وإن تفرقت الصفقة على البائع ويوجه بأنه بموافقته على الشرط رضي بذلك، وقال القمولي : ولو باع عبدين مثلاً وشرط الخيار في أحدهما لا بعينه بطل البيع ولو شرطه في أحدهما معيناً ففي صحته قولا الجمع بين مختلفي الحكم الخ اهـ، والظاهر من الصحة ثبوت الخيار بحسب الشرط فيكون له رد المشروط فيه الخيار فقط ولا مانع من ذلك إلا بنقل صريح، وقد سألت بعض الفضلاء عن ذلك فقال لا يجوز رد أحدهما بل يردهما جميعاً وشرط الخيار في أحدهما ينزل منزلة وجود عيب في أحدهما وهو يمنع رده وحده فتفضلوا بالحق في ذلك؟. فأجاب بقوله: عبارة شرحي على العباب وخرج بمعلوماً ما لو أبهم الخيار في أحد العبدين مثلاً أو في حصة أحد البائعين فإنه لا يصح البيع كما أفهمه في الثانية قول القمولي لو اشترى واحد من اثنين بشرط الخيار في نصيب أحدهما بعينه صح البيع أو فاوت قدره في العبدين على الإبهام كان شرط في أحدهما خيار يوم وفي الآخر خيار يومين فلا يصح أيضاً لما يأتي، وخرج بذلك ما لو عين من خصصه منهما بالخيار أو بالزيادة فيه على الآخر فإنه يصح ويثبت الخيار كما شرط كالبيع يبطل مع الإبهام، ويصح مع التعيين انتهت وهي أعني قولها ويثبت الخيار كما شرط صريحة فيما ذكرتموه وهو واضح وإن لزم عليه تفريق الصفقة لأنه يغتفر في الدوام وفي الأمور التابعة ما لا يغتفر في الابتداء، وفي الأمور المقصودة وأما التنزيل الذي ذكره بعض الفضلاء فهو تمحل لا وجه له، ولا دليل عليه ومثله لا يصار إليه إلا أن أطبق الأصحاب أو جلهم على حكم يضطر في توجيهه إلى ذلك التنزيل على أنه لو سلم لزم عليه إن اشتراط الخيار في أحدهما لغو لا فائدة له وهو مخالف لصريح كلامهم فالوجه بل الصواب ثبوت الخيار كما شرط ومن ثم جزمت به نقلاً وبحثاً.(2/12)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 242
باب المبيع قبل قبضه
وسئل هل يشترط تلفظ البائع بالتخلية في المبيع العقار لقبضه أو يكفي السكوت مع التمكين والفراغ من أمتعة البائع؟. فأجاب لا بد مع التخلية في نحو العقار من لفظ من البائع يدل عليها مع تسليم مفتاح نحو الدار وتفريغها من متاع غير نحو المشتري سواء البائع والأجنبي واقتصار السائل على أمتعة البائع تبع فيه بعضهم، وقد اعترض عليه بأنه غالط وأن الصواب أنه لا فرق بين أمتعة البائع والأجنبي، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(2/13)
وسئل شخصان تعاقدا رهناً أو مبيعاً وتسلم المرتهن أو المشتري بعض العين المبيعة أو المرتهنة هل يكفي قبض البعض في الكل ويجري عليها أحكام الكل أم لا بد من قبض الكل في الصورتين أم في أحدهما، وإذا قلتم بقبض الكل فلا بد من قبضه كله حقيقة في المنقول وهل يكفي وضعه بين يديه من غير مانع شرعي أم لا بد من قبضه بيده وإذا قلتم في غير المنقول بالتخلية فلو كانت العين المبيعة أو المرتهنة مشغولة بالأمتعة وأخرجها ما عدا شيئاً يسيراً كرحاة أو زير أو حصير مثلاً لم يخرجها واستمرت بها برهة من الزمان هل يخير المشتري أو المرتهن بين الفسخ وغيره أم يبطل البيع والرهن من أصلهما وهل يكون الفسخ على الفور إذا علما بالأمتعة الباقية وهل لذلك مدة معلومة بعد البيع أو الرهن أو يكون عقب العقد بحسب الإمكان لذلك؟. فأجاب لا يكتفي بقبض البعض عن الكل في نحو بيع أو رهن، بل تتفرق الصفقة ويكفي في إقباض المنقول وقبضه وضعه بين يديه بحيث لو مد يده إليه لما له مع علمه به وإن نهاه أو قال لا أريده واستثنى السبكي من اشتراط التخلية الحقير من الأمتعة كالحصير وبعض الماعون فلا يقدح في التخلية وإطلاقهم ينافيه فعليه يصح القبض بالنسبة لغير محل تلك البقعة، ولا خيار هنا حتى يسأل هل فوري أم لا؟ لأن الصورة أن المبيع باق لم يتلف منه شيء فإن تلف منه شيء انفسخ فيما لم يقبض وخير المشتري حينئذ على الفور والواجب في التخلية التفريغ بلا إعجال فوق العادة ولو كان غير المنقول أو المنقول الذي بيد المشتري غائباً أمانة كان أو مضموناً كفى فيه التخلية مع مضي زمان يمكن فيه الوصول أي عادة كما هو ظاهر للمبيع والتخلية في غير المنقول والنقل في المنقول وحكم المرهون حكم المبيع فيما ذكر والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 253(2/14)
وسئل عما لو أتى الغريم إلى غريمه بما له فوضعه بين يديه بأمر من ولي الأمر ليأخذه بعد وضعه ولم يجر من رب الدين قبض يحصل به الضمان لو استحق فهل يعد قبضاً أم لا؟. فأجاب المعتمد في هذا من خلاف وقع في الروضة وتناقض فيه كلام الإسنوى وصاحب الأنوار كما بينته في شرح الإرشاد أن المدين لو وضع الدين بين يدي مستحقه بحيث لو مد يده إليه لناله مع علمه به اكتفى به فيه كالمبيع في الذمة بجامع أن كلا تسليم واجب عليه فاكتفى بذلك فيه كما يكتفي به من الغاصب، وبه فارق ذلك الإيداع حيث لا يحصل بمثله وفارق ذلك أيضاً عدم الضمان لو خرج مستحقاً بأن ضمان الاستحقاق ضمان عدوان وهو لا يتحقق بدون حقيقة اليد، وظاهر أنه يجري في مسألة الدين ما ذكره الإمام في المبيع من أنه لو كان بين المتعاقدين مسافة التخاطب فأتى به البائع إلى أقل من نصفه لم يكن قبضاً أو إلى نصفها فوجهان أو إلى أكثر من نصفها كان قبضاً ولو وضعه على يمينه أو يساره والمشتري تلقاء وجهه لم يكن قبضاً، ويعلم من ذلك أن هذا مستثنى مما مر من اشتراط أن يكون بحيث تناله يده فهذا كله يأتي في مسألة الدين كما قدمته من الجامع بينه وبين المبيع، ولا فرق في جميع ما تقرر بين أن يأمره حاكم بوضعه لذلك وأن يضعه كذلك بلا إذن والله أعلم.
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: نفوذ عتق المشتري للمبيع قبل القبض وإن كان للبائع حق الحبس والمشتري معسر يشكل عليه عدم نفوذ إعتاق المرهون إذا كان الراهن معسراً؟. فأجاب بقوله: الفرق أن الراهن حجر على نفسه بخلاف المشتري واعترض بأن أحد الورثة إذا كان معسراً لا ينفذ إعتاقه عبد التركة مع أنه لم يسبق منه حجر على نفسه، ولما كان هذا الاعتراض قوياً جداً اختار البلقيني التفصيل هنا بين الموسر والمعسر قياساً على التفصيل ثم:(2/15)
وسئل رضي الله عنه عمن أسلم في دينار بثوب فهل يجوز الاستبدال عن الدينار نظراً إلى أنه ثمن بناء على الأصح أن الثمن في العقد إذا جمع عرضاً ونقداً هو النقد أو لا يجوز نظراً إلى أنه دين سلم فما المعتمد؟. فأجاب بقوله: تردد في ذلك الأذرعي، والظاهر كما قاله بعضهم الثاني.
وسئل عن قول الإرشاد وبوضعه بين يديه لا لضمان إن استحق. قال الشيخ زكريا رحمه الله في شرح البهجة: أي وإن لم يكن وضعه بين يديه بأمره فإن كان بأمره ضمنه وهذا يخالف إطلاق المصنف وغيره فليحرر ذلك؟. فأجاب بقوله: إطلاق الإرشاد وغيره محمول على هذا التقييد الذي صرح به شيخنا وغيره ومن ثم جزمت به في شرح الإرشاد وهو ظاهر، لأن ضمان الاستحقاق ضمان عدوان وهو لا يتحقق بدون حقيقة اليد، ولا شك أن أمره بوضعه بين يديه بمنزلة وضع يده عليه، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 253
باب الألفاظ المطلقة
وسئل رضي الله عنه في شجرة مستحقة الإبقاء في ملك لآخر هل لآخر جمع تراب تحت هذه وإن أضر بمالك الشجرة بحيث إن من علا التراب من آدمي أو غيره ينال ثمرها وورقها أو لمالك الشجرة منعه؟. فأجاب بأن الذي يتجه أن لمالك الشجرة منع صاحب الأرض من جمع التراب حولها إن أضر بها، بأن حصل لها منه عدم نموّ أو نحوه بخلاف ما إذا أضر بمالكها بأن ترتب عليه ما ذكر في السؤال لأن غايته أنه كالجار وقد قالوا إن للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يضر المالك لا الملك، فكذلك مالك الأرض له أن يتصرف بها بما يضر مالك الشجرة لا بما يضر نفس الشجرة على أنه يسهل على مالكها منع من يرقى على ذلك التراب لأخذ ثمرها أو ورقها فليس في جمع التراب حينئذ إضرار به من كل وجه.(2/16)
وسئل رضي الله عنه لو باع نخلة بها أولاد فهل يدخل أولادها في مطلق البيع سواء أكان الأولاد صغاراً أم كباراً فقد تكون قيمة الأولاد أو الولد أكثر من الأم أو لا تدخل الأولاد إلا بالشرط؟. فأجاب بقوله: الذي اقتضاه كلامهم وصرح به بعض المتأخرين وأفتى به جماعة أن الأولاد المذكورة تدخل إن كانت رطبة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، لأنها جزء من الأم فأشبهت أغصاتها، وبه يعلم أن الكلام في أولاد متصلة بأصل الأم ملتصقة به أما ما تميز عن الأم بمنبت مستقل فلا يعد من الأولاد بل هو شجرة مستقلة فلا تدخل في بيع شجرة أخرى أصغر منه أو أكبر وإن اتحد معها في العروق التي بباطن الأرض ويدل على دخولها أيضاً ما ذكره بعض المتأخرين من أن وقف الشجرة المذكورة يتناول أولادها، وأفتى جمع محققون بأن ما حدث بعد الوقف من الأولاد حكمه حكم الأم فيكون وقفاً، وقال جمع بل يكون للموقوف عليه كالثمر وكل من المقالتين يدل على ما ذكر كما هو ظاهر، ويدل على ذلك أيضاً قول الأذرعي وغيره والموجود للأصحاب فيما حدث من أولاد الشجرة المبيعة أو انتشر من أغصانها حولها في أرض البائع ثلاثة أوجه أصحها استحقاق إبقائها كالأصل وقاسوا ذلك على ثخانة الأصل والعروق المتجددة وكلامهم يقتضي أن العروق الزائدة في الأرض متفق على إبقائها كيف كانت، فعلم أن المنقول تبقية الحادث من أولاد الشجرة أو غيرها مما وضع بحق وأغصانها المنتشرة وعروقها كذلك تبعاً لأصلها سواء الحادثة والقديمة، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254(2/17)
وسئل رضي الله عنه في أرض فيها شجر ولشخص خمس تلك الأرض وثلاثة أخماس ذلك الشجر مثلاً والباقي لغيره فباع نصيبه من الأرض الذي هو الخمس بيعاً مطلقاً فهل يدخل خمس الشجر فقط أو يدخل جميع ما يملكه في ذلك الشجر؟. فأجاب بقوله: إن من المعلوم أن البيع إنما يصح في الأرض بطريق القصد وفي الشجر بطريق التبع وأنه ليس ملحظ التبعية اجتماع الأرض والشجر في ملك شخص واحد من غير اعتبار كون الشجر تابعاً لتلك الأرض لكونها أصلية وإنما ملحظها اجتماعها في ملك شخص واحد مع الاعتبار المذكور فإذا تقرر ذلك بان أنه لا يدخل في بيع خمس الأرض المذكورة إلا خمس الشجر فقط وذلك لأنه إذا كان مالكاً لخمس الأرض مشاعاً ولثلاثة أخماس الشجر مشاعاً كان له في مغرس كل شجرة خمس وفي كل شجرة ثلاثة أخماس فالبيع في المغرس إنما انصب على خمس فيستتبع ذلك الخمس خمساً من الشجر لأن الثلاثة أخماس التي له في الشجر خمس منها في ملكه وخمسان في ملك شريكه وكذلك من باع حصته من أرض وفي تلك الأرض جميعها شجر له لا يتناول بيع حصته إلا ما يخصها من الشجر دون ما يخص حصة شريكه من الشجر لأنه تابع لأرض شريكه لا لأرض نفسه فلا يمكن أن يكون بيع أرض نفسه متناولاً لما ليس فيها وإن كان ملكه لانتفاء ملحظ التبعية الذي قررته أولاً وهو كون الأرض المبيعة أصلاً لذلك الشجر وكذلك ما نحن فيه لما عرفت من أن كل شجرة ليس للبائع في مغرسها إلا الخمس فتكون الأخماس الثلاثة التي له في الشجر منها خمس شائع في خمسه الشائع والخمسان الباقيان له إنما هما في نصيب شريكه من المغرس فلا يمكن أن يتناولهما بيع خمسه من المغرس لانقطاع ملحظ التبعية بينهما وبين خمس المغرس المبيع، إذ ملحظهما إنما هو كون الأرض المبيعة أصل الشجر التابع لها لكونه نابتاً فيها والنابت هنا في خمس الأرض المبيعة إنما هو خمس الشجر دون خمسيه كما تقرر، فاتضح ما ذكرته من أن بيع خمسه من الأرض لا يتناول إلا خمس الشجر فقط(2/18)
وإن الخمسين الباقيين له من الشجر يستمران على ملكه ولا شيء له في مغرسهما في حصة شريكه هذا ما ظهر الآن في هذه المسألة، ولعلنا نظفر له بصريح في كلامهم إن شاء الله تعالى.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
وسئل لو وجدنا نخلة لرجل وأولادها لآخر فتنازعا في مغرسها فهل يختص بها مالك الأم أم اليد فيه لهما فلو كانت النخلة في أرض تزرع فادعى الزارع الملك فيما يزرعه ما عدا محل الغرس وعاكسه صاحب النخلة فهل اليد لصاحب الأرض أو لصاحب النخلة؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أن اليد في المغرس إنما هي لمالك الأم لما مر في الجواب الثاني عشر من أن الأم هي الأصل وأن الأولاد كأغصانها فهي تابعة لها والتابع لا يفرد بحكم عن متبوعه من الجهة التي اقتضت تبعيته له وأيضاً قيد مالك الأم على مغرسها متيقنة ومالك الأولاد يحتمل أن له يداً وأن لا يد له، فعملنا بالمتيقن وألغينا المشكوك فيه وأيضاً فملك الأولاد لا يقتضي ملك المغرس لأنها لا مغرس لها حتى يدخل في بيعها مثلاً تبعاً، وبهذا يتضح اندفاع مما يتخيل من أن الملك لهما كسائق وقائد لدابة ووجه اندفاعه وضوح الفرق بين الصورتين فإن الذي عليه اليد متعدد ولأحدهما مرجح وهو مالك الأم لما تقرر من تيقن ملكه للمغرس ومن أن ملك الأم يستلزم استحقاقه وملك الأولاد لا يستلزمه ولا يقتضيه لأنها بمنزلة أغصان الشجرة كما صرح به بعضهم وملك بعض أغصان الشجرة لا يثبت استحقاقاً في مغرسها بوجه فكذلك ملك ما هو بمنزلة أغصانها وهو أولادها لا يثبت استحقاقاً في مغرسها فكانت اليد عليه لمالك الأم فقط كما بان لك اتضاحه مما قررته هذا في أولاد متصلة بأصل الأم ظاهراً، أما المتميزة بمغرس ظاهر فإن يد مالكها على مغرسها لاستقلاله حينئذ وإن اتحدت مع غيرها في العروق التي بباطن الأرض كما مر وإذا اختلف مالك الأم والأولاد التي تدخل في البيع وجدت أولاد أخر فإن التصقت ظاهراً بالأم(2/19)
فلمالكها أو بهما فلهما والالتصاق في باطن الأرض مع التميز بمغرس لا يعتبر كما مر نظيره، وسببه أن المراد بالدخول في باب الأصول والثمار إنما هو من باب العرف المطرد غالباً، ولا شك أن أهل العرف لا يعدون المستقل بمغرس تابعاً لغيره وإن اتصلت عروقه في باطن الأرض بل كثير من الأشجار يكون بينهما تمايز ظاهر ومسافة طويلة في ظاهر الأرض مع الاتحاد في العروق في باطنها فلو اعتبرنا ذلك لخرجنا عن قاعدتهم، وقول السائل فلو كانت النخلة الخ، جوابه أن اليد على المغرس لصاحب النخلة وعلى ما عداه من بقية الأرض المزروعة لصاحب الزرع كما أفاده قولهم والحمل في الحيوان والمتاع في الدار، ونحو الزرع في الأرض كل منها يثبت اليد لمالكه نظراً للغالب من أن الظرف تابع للمظروف ومحله إن لم يكن لأحدهما يد على المتنازع فيه حتى لا ينافي قولهم آخر الصلح لا يكفي ترجح بكون أمتعة أحدهما في الدار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254(2/20)
وسئل رضي الله عنه لو كانت أرض لجماعة على الإشاعة ولأجنبي فيها شجر فأراد أن يحفر تحت شجره إجانة لحفظ الماء أو أراد أن يجعل على أصوله شيئاً من التراب لاستمساك الشجر أو لأجل نماء الثمر أو أراد وضع زبل لذلك هل له ذلك أم لا؟ ولو كان لكل منهم فيها شجر فأراد أحدهم أن يجعل تحت شجره ما ذكر فهل يجاب أو لا؟. فأجاب: بأن الأجنبي الذي له الشجر في الأرض المذكورة إما أن يكون مستعيراً أو مستأجراً وحكمهما واضح وهو أنه إن كانت الإعارة أو الإجارة للمغرس وما حوله جاز له أن ينتفع بما حوله انتفاعاً يعود على شجره بنفع من غير أن يحصل به ضرر في الأرض، نعم إن نص على نوع في عقد العارية أو الإجارة جاز له فعله وإن كان فيه ضرر وإن كانت للمغرس وحده أو كان استحقاقه لبقاء الشجر في تلك الأرض من جهة بيع ونحوه كوصية ووقف ونذر وما شابه ذلك لم يجز له أن يتصرف فيما حول المغرس بشيء مطلقاً سواء أضر الأرض أم لا؟ لأنه لا يستحق في الإجارة إلا منفعة المغرس فقط، وفي العارية ونحو البيع لا يستحق إلا الانتفاع به ببقاء الشجر فيه من غير أجرة عليه في مقابلة ذلك إلا بقاء فلا حق له فيما حول المغرس بوجه وإذا لم يكن له حق لم يجز له الانتفاع به، نعم إن صب الماء في أصل شجره جاز له لأنه حينئذ لم يستعمل إلا المغرس الذي يستحق الانتفاع به، ويؤيد ذلك قولهم في المستعير بعد رجوع المعير له دخول أرض المعير لسقي غراسه وإصلاح بنائه، وإذا جاز ذلك للمستعير بعد الرجوع في العارية فلأن يجوز نظيره في مسألتنا أولى فإن اضطر إلى حفظ الإجانة بأن توقفت حياة الشجر على ذلك إلى وضع تراب توقف عليه استمساكها احتمل أن يقال يلزمه التمكين من ذلك لا مجاناً بل بأجرة، ولعل هذا أقرب نظير ما قالوه من أن المعير لو رجع قبل إدراك الزرع لزمه أن يبقيه بأجرة إلى الحصاد ومن أنه لو رجع جاز للمستعير دخول أرضه ولو بغير إذنه لسقي غراسه وإصلاح بنائه وعليه أجرة مدة الدخول إن(2/21)
تعطلت منفعة أرض المعير عليه بدخول المستعير فلا يمكن حينئذ من الدخول بالأجرة ومحل التردد المذكور حيث لا ضرر يعود على مالك الأرض بتمكين صاحب الشجر من وضع ما ذكر فيها غير فوت منفعتها، أما إذا كان في ذلك ضرر يعود عليه من إتلاف شجرة أو نحوه، فينبغي أن لا يمكن صاحب الشجر من ذلك مطلقاً، ويؤيده قولهم من باع شجرة وبقيت له الثمرة لم يكلف قطعها من غير شرط قبل وقت العادة إلا إذا تعذر السقي وعظم الضرر ببقائها فيكلف قطعها دفعاً للضرر عن المشتري وقولهم في هذه الصورة أيضاً السقي لحاجة الثمار على البائع ويجبر عليه أو على القطع إن تضرر الشجر ببقاء الثمار اهـ، ووجه المشابهة بين هذه ومسألتنا أن إبقاء الشجرة ثم في أرض الغير كابقاء الثمرة هنا على شجر الغير فكما راعوا هنا مصلحة مالك الأرض وهو المشتري ورأوا أن حصول الضرر به يوجب قطع ثمرة البائع، فقياسه النظر هنا لمصلحة ملاك الأرض فيكون لحوق الضرر بهم مجوّزاً لهم منع صاحب الشجر من وضع شيء في أرضهم يضرهم وإن عادت منفعته على الشجر فإن قلت قياس ما قالوه ثم مما ذكرته أنهم لا يجبرون هنا على تمكينه من السقي بأجرة الذي رجحته، قلت ليس قياسه ذلك لأن الغرض كما تقرر أنه لا ضرر يعود عليهم بتمكينه من ذلك فلزمهم كما يلزم المشتري في تلك تمكين البائع من السقي ودخول ملكه له إن كان أميناً مراعاة لمصلحة ملكه وهو الثمرة، فإن قلت قياس هذا أنه يمكن من وضع ما ذكر بلا أجرة، لأن ظاهر كلامهم في البائع أنه يمكن من الدخول للسقي بلا أجرة، قلت يفرق بأن من شأن الدخول لسقي الثمرة أن لا تطول مدة لها أجرة بخلاف ما نحن فيه وبخلاف دخول المستعير فيما مر لسقي غراسه وإصلاح بنائه على أن تعلق البائع هنا أشد، لأن المشتري لما أقدم على شراء الشجر دون الثمر كان موطناً نفسه على الرضا ببقاء الثمرة ومن لازمه الرضا بدخوله لسقيها ومن ثم لو ضر السقي أحدهما ونفع الآخر وتنازعا فسخ العقد ولا يتجه(2/22)
القول بنظير هذا في مسألتنا إذا كان إنما استحق الشجر كما مر وقول السائل ولو كان لكل منهم فيها شجر الخ، جوابه أن الحكم لا يختلف بذلك بل يأتي في كل واحد من الشركاء مع البقية نظير ما تقرر في الأجنبي كما يدل عليه كلامهم في باب الصلح، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
وسئل رضي الله عنه لو كانت أرض متفرقة لأشخاص لأحدهم في نصيبه منها زرع وللآخر فيها شجر أو لكل في نصيبه زرع أو شجر فأراد أحدهم السقي لنفع ملكه وامتنع الآخر لضرر ملكه، والحال أن هذه الأرض في يد هؤلاء الملاك منتقلة من أهاليهم من وارث إلى وارث لم تنتقل إلى واحد بصورة عقد حتى يقال يفسخ العقد فهل يجاب طالب السقي لأنه يستحق السقي أم الممتنع إذ لا ضرر ولا ضرار، فإن قلتم يجاب طالب السقي فهل عليه ضمان ما نقص بسبب السقي كالمستعير يدخل لنحو سقي بأجرة لما عطل فإن قلتم يفرد كل منهم ملكه بسقي فقد لا يمكن إلا بتعطيل بعض منفعة الأرض التي منها منفذ الماء بسبب وضع الحواجز التي ترد الماء، فما حكم ذلك؟. فأجاب أمدنا الله من مدده: بأن كلام السائل نفع الله به مصرح بأن الأرض المذكورة متمايزة الحصص وبأن تلك الحصص المتمايزة في كل منها لمالكها زرع أو زرع وشجر وأراد أحدهما سقي ما في أرضه ومنعه الباقون لأن سقيه لأرضه يضر ملكهم وإذا كان هذا هو فرض المسألة يأتي فيه ما ذكروه في باب إحياء الموات من أنه متى تصرف في ملكه على العادة جاز وإن تضرر به جاره ولا ضمان عليه إذا أفضى إلى تلف كما لو اتخذ بئراً على الاقتصاد المعتاد بملكه أو حفر بالوعة كذلك فاختل بذلك حائط جاره أو نقص بها ماء بئره بخلاف ما لو جاوز العادة فإنه يمنع مما يضر الملك دون المالك، فعلم أن من أراد سقي أرضه على العادة جاز له ومكن منه وإن تضرر به جاره ولا ضمان عليه حينئذ لما نقص بسببه وفارق المستعير المذكور في السؤال فإن كان مريد السقي لا يتوصل(2/23)
لسقي أرضه إلا بوضع الحواجز أو بعضها في أرض جاره ولم تكن مستحقة الوضع فيها فإن سمح له جاره بذلك وإلا لم يجبر جاره على أن يسامحه بأجرة ولا دونها وإن كان يتوصل إليه بوضع الحواجز المذكورة في أرض مباحة، فإن اختصت منفعتها بأرض فمؤنتها عليه أو بأراضي الجميع فهي عليهم بحسب أملاكهم، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
وسئل هل يدخل في بيع الأرض السفوح التي ينزل منها السيل إلى الأرض المبيعة وفي بيع الدار مفاسحه التي يطرح فيها القمامات ويطعم فيها البهائم وإن لم يقل بحقوقها أو لا يدخل شيء من ذلك إلا بتعيين وإذا عرف كاتب الوثيقة أنهما أرادا ذلك بمقتضى جري العادة بذلك هل له أن يكتب الوثيقة بذلك أو لا يجوز له كتب ذلك إلا بإخبار البائع بذلك، قال اشتريت دار فلان فاكتب لي بها وثيقة هل يجوز له وهل يكفي إخبار ثقة بذلك؟. فأجاب رضي الله عنه لا يدخل في بيع الأرض مسيل الماء ولا شربها أي نصيبها من قناة أو نهر مملوكين، ونبه السبكي وتبعه الأذرعي وغيره على أن محل ذلك في المسبل أو الشرب الخارج عن الأرض بخلاف الداخل فيها فإنه لا ريب في دخوله، وإنما دخلت هذه الثلاثة عند إيجارها لزرع أو غرس، لأن المنفعة لا تحصل بدونها هذا كله عند الإطلاق، أما لو قال بحقوقها فيدخل كل من هذه الثلاثة مطلقاً والذي صرح به الشيخان أنه يدخل في بيع الدار حريمها أي المملوك ومن ثم قال في الجواهر وغيرها ويدخل في بيع الدار حقوقها الخارجة عنها كمجرى الماء وحريمها وشجرها الذي فيه إن كانت بطريق منسد بخلاف التي بالشارع فإنه لا حريم لها مملوك وسواء في دخول الحريم المملوك ونحوه، قال بحقوقها أم أطلق بأن قال بعتك الدار وسكت ويجوز لمن شهد على قول البائع بعتك الدار الفلانية أن يشهد بهذا اللفظ وهو مقتض لدخول الحريم مع عدم بيان الصيغة الصادرة من البائع، قيل له ذلك ويكتفي منه القاضي بذلك إن كان فقيهاً وقيل(2/24)
لا يكتفي منه بذلك مطلقاً وهو الأصح لأن على الشاهد أن يفسر ما شهد به ويبينه ثم ينظر القاضي فيه بما يقتضيه نظره، وليس له أن يكون مفتياً شاهداً هذا كله في الشهادة وأما كتابة الوثيقة فلا عبرة بها إذ لا يثبت بها حق فلا يدار حكم على كتابتها وعدم كتابتها فلو جاء إنسان لموثق وقال له أكتب لي وثيقة بشراء دار فلان فإني شريتها تعين عليه إذا أراد الكتابة معتمداً على إخباره أن يقول قال فلان أنه اشترى دار فلان الخ، وليس له أن يجزم بالشراء في كتابته إلا إذا كان له طريق إلى ذلك لأن القلم أحد اللسانين كما صرحوا به فكما يجب التحري في صدق المنطق كذلك يجب التحري في صدق الكتابة، وكذا لو أخبره البائع بالبيع فيتعين عليه التحري بأن يسند إليه ذلك كما تقرر في المشتري فإن أخبره ثقة بذلك كتب أخبرني فلان بشراء فلان أو قال فلان أن فلاناً اشترى أو باع كذا، والله سبحانه أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: يصح بيع الأرض التي فيها حجارة مدفونة وإن علمها المشتري وهو مشكل بعدم صحة بيع صبرة من طعام تحتها دكة وعلمها المشتري؟. فأجاب بقوله: الفرق أن البيع في الصبرة مستند إلى التخمين ووجود الدكة المعلومة يمنعه فيعظم الغرر بخلاف البيع في الأرض.(2/25)
وسئل رضي الله عنه عن شخص له شجرة مغروسة في ملك غيره بحق كان باعه شجرة من غير شرط قلعها أو قطعها فبسقت فروعها وكثرت أغصانها وزادت عروقها في الأرض حتى تضرر بها مالك الأرض فهل يقطع ما زاد بعد الشراء؟. فأجاب بقوله: صرح الأذرعي وغيره بذلك فقالوا والموجود للأصحاب فيما حدث من أولاد الشجرة المبيعة أو انتشر من أغصانها حولها في هواء أرض البائع ثلاثة أوجه: أحدها: استحقاق إبقائها كالأصل وقاسوا ذلك على ثخانة الأصل والعروق المتجددة وكلامهم يقتضي أن العروق الزائدة في الأرض متفق على إبقائها كيف كانت ولبعض شراح الوسيط في ذلك كلام كالمتناقض حيث قال في شجرة قديمة لرجل في أرض آخر، ولم يعلم ما سبب ملكه لها فزادت عروقها وأغصانها أنه ليس لصاحب الأرض قطع تلك الشجرة ولا شيء من أغصانها القديمة وإن تضرر، لأن الظاهر أنها بحق أما ما طال من الأغصان على ما عهد ففيه احتمال اهـ. وقال في رجلين لأحدهما أرض وللآخر شجرة أغصانها منتشرة ومع ذلك تزيد كل سنة زيادة جديدة أن لصاحب الأرض إزالة تلك الأغصان المنتشرة في هواء أرضه لملكه له وليس لغيره أن ينتفع به إلا بإذنه سواء القديمة والحادثة وجمع بعضهم بين كلاميه بأن الأول في شجرة لشخص نابتة في أرض لآخر ولم تخرج أغصانها عن هواء تلك الأرض التي هي نابتة فيها إلى هواء غيرها، والثاني محمول على أرض لشخص وشجرة لآخر نابتة في غير الأرض المذكورة ثم انتشرت أغصانها إلى هواء تلك الأرض المجاورة لأرض الشجرة إذا تقرر ذلك فالمنقول تبقية الحادث من أولاد الشجرة المبيعة أو غيرها مما وضع بحق وأغصانها المنتشرة وعروقها كذلك تبعاً لأصلها سواء الحادثة والقديمة.(2/26)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يدخل في نحو بيع دار مشتملة على علو وسفل ومخازن في السفل لكن لا طريق إليها، وإنما أبوابها نافذة إلى الشارع مع أن الأبواب أيضاً في جدارها وهل يصح بيع بعض هذه الدكاكين، وإذا صح فهل يصير الجدار الذي هي فيه مشتركاً بين المشتريين لتلك الدكاكين أو لا؟. فأجاب بقوله: لا خفاء أنه يدخل في بيع الدار عند الإطلاق جميع ما أحاط به بنيانها وكذا ما اتصل بها مما بنى لمصلحتها كمستحم وغيره وإن خرج عن مسامتتها لأن العرف قاض بأنه منها وحينئذ فالدكاكين المذكورة منها لاشتمال حيطانها عليها وإن نفذت أبوابها من الشارع، ولا فرق بين أن يكون في جهاتها الأربع أو بعضها وإذا باع مخزناً أو مخزنين لاثنين صح ويكون الجدار المذكور عند الإطلاق مشتركاً، إذ ليس نسبته إلى أحدهما بأولى من غيرها.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
وسئل عمن نذر لآخر بدار وبجانب الدار جرين مثلاً خارج عن تربيع الدار وطريقها تمر في الدار فهل يدخل في النذر بالدار؟. فأجاب بقوله: صرح جماعة من الأصحاب بأن الهبة تتناول ما يتناوله البيع وألحق به غيرهم الوقف والصدقة والوصية ونحوها ولا شك أن النذر كذلك فيدخل فيه ما يدخل في البيع، وقد صرحوا بأن الحمام أن عد من مرافق الدار ودخل وإلا فلا، وبأن حريمها بشجره النابت فيه يدخل إن كان في طريق غير نافذ وإلا فلا، وبذلك علم أن ما ذكر في السؤال أن عد من مرافق الدار دخل وإلا فلا وإن لم يعد من مرافقها بل من حريمها فإن كانت في شارع لم يدخل أو في طريق غير نافذ دخل، والله أعلم.(2/27)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: قال في الأنوار قال القفال : إن ما يدخل في مطلق البيع يدخل تحت الإقرار وما لا فلا إلا الثمرة غير المؤبرة والحمل والجدار أي فإنها تدخل في البيع ولا تدخل في الإقرار لبنائه على اليقين وبناء البيع على العرف، نقله الشيخ زكريا في شرح الروض فافهم كلامه أنه إذا أقر بأرض فيها شجر ونحو ذلك مما عدا ما ذكره أنه يدخل في الإقرار لكن في باب الأصول والثمار أن الإقرار كالرهن كما اقتضاه كلام الرافعي ، أي لأنه لا يدخل ما ذكر فهل ما ذكره القفال مبني على طريقة مرجوحة لكون الشيخين صرحاً بخلافه أم لا؟. فأجاب بأن المعتمد ما قالوه في باب الأصول والثمار من أن الإقرار كالرهن ولا ينافيه كلام القفال المذكور في السؤال لأنه نبه بالثلاثة المستثناة فيه على ما هو مثلها أو أولى منها بعدم الدخول كالشجر فإن كان مراده الحصر فيها كان كلامه ضعيفاً.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 254
باب التحالف(2/28)
وسئل رضي الله عنه عما لو اختلف البائع والمشتري للأرض في إدخال ما لا يدخل وإخراج ما يدخل فادعى المشتري الإدخال في الأول والبائع الإخراج في الثاني، وأقاما بينتين فظهر في الأول أن بينة المشتري مقدمة لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة، وفي الثانية إن تعرضت بينة المشتري لإدخال ما ذكر فهما سواء وإلا فبينة البائع مقدمة هل هو كذلك أو لا؟. فأجاب رضي الله عنه: بأن المتعاقدين إذا اختلفا في إدخال ما لا يدخل في البيع كأن قال المشتري بعتني العبد بثيابه وقال البائع بل بعتك العبد فقط ولم يتعرض واحد منهما للثياب فحينئذ الاختلاف راجع إلى قدر المبيع، لأن حاصل دعوى المشتري أنه يقول المبيع العبد والثياب وحاصل دعوى البائع أنه يقول المبيع العبد دون الثياب، وقد صرح الأصحاب بأنهما إذا اختلفا في قدر المبيع وأقاما بينتين فإن أرختا بتاريخ واحد أو أطلقت واحدة وأرخت الأخرى أو لم تؤرخ واحدة منهما تعارضتا وحينئذ يتحالفان وإن أرختا بتاريخين مختلفين قضى بمقدمة التاريخ لا يقال بينة المشتري ناقلة ملك الثياب إليه وبينة البائع مستصحبة ملكها للبائع فكان القياس تقديم الأولى مطلقاً لأنا نقول ليس ما نحن فيه من تلك القاعدة لأن الاختلاف وقع في كيفية العقد الناقل فكل من البينتين ينقل زائداً على الأخرى لا يقتضي ترجيحاً، إذ الصورة أنه لم يجر بين المتعاقدين إلا عقد واحد وأنهما اختلفا في كيفية وقوع ذلك العقد فإذا قامت البينتان باختلاف كيفيته تعارضتا وإن اختلفا في إخراج ما يدخل في البيع كأن قال المشتري بعتني الأرض ولم تستثن ما فيها من نحو الشجر فهو من جملة المبيع، وقال البائع بل استثنيته فهو خارج من المبيع كان ذلك الاختلاف راجعاً إلى الاختلاف في قدر المبيع أيضاً فحينئذ يأتي فيه جميع ما تقدم في الصورة التي قبله حرفاً بحرف، فإن أقاما بينتين تعارضتا إلا أن يسبق تاريخ إحداهما فيحكم بها لا يقال إن تعرضت بينة المشتري لإدخال ما ذكر(2/29)
فهما سواء وإلا فبينة البائع مقدمة لأنا نقول الصورة كما علمته أنهما اختلفا في استثناء نحو الشجر فالمشتري يقول لم يستثن والبائع يقول استثنيته وإذا كانت الصورة ذلك لم يتصور إلا أن بينة المشتري تقول لم يقع استثناؤه في العقد وبينة البائع تقول وقع استثناؤه فيه، وحينئذ فكيف يتصوّر أن بينة المشتري تارة تتعرض للإدخال فيتعارضان وتارة لا فتقدم بينة البائع على أن البينة لا يتصور منها الشهادة بالإدخال وعدمه لأنهما حكمان من أحكام المبيع والبينة لا تتعرض لمثل ذلك، وإنما تتعرض لسبب الإدخال من السكوت عن الاستثناء ولسبب عدمه من ذكر الاستثناء فإن تعرضت للإدخال أو عدمه من غير ذكر سببه سألهما الحاكم عن سببه وإن كانا فقيهين موافقين لمذهب الحاكم على المعتمد من اضطراب في المسألة والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه: كيف رجحوا الصحة في تفريق الصفقة مع أن البطلان هو آخر قولي الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ كما قاله الربيع والآخر من قوليه يجب العمل به؟. فأجاب بقوله: قال بعضهم: يحتمل أن يكون أحد بالدال فصحفه إلى آخر بعض النساخ ويدل عليه إطباق أكثر الأصحاب على خلافه، وقد قال السبكي إن النص إذا عدل عنه أكثر أئمتنا لا يعمل به وأيضاً فكون الآخر هو الراجح أغلبي فقط وإلا فالقديم متقدم ورجح في مسائل كثيرة.(2/30)
وسئل رضي الله عنه عما لو باع زيد بكراً حباً فادعى خالد أن المبيع له والبائع كان وكيلاً له وقد خالفه في الثمن بأن باعه بالعرض ولم يأذن له إلا بالنقد أو أطلق هل يكفيه تصديق الوكيل إياه على مدعاه أم يلزمه البينة إذا أنكر المشتري كون المبيع له وفي معاطاة وقعت بين اثنين فادعى أحدهما أنها مبايعة شرعية مشتملة على جميع ما تتوقف عليه صحة المبايعة شرعاً، وأنكر الآخر بل ادعى أنها محض المعاطاة وهي في عروض وكل منهما شيء معين هل يصدق مدعي البيع الشرعي أم نافيه حيث الأصل عدمه، وفي هذه المسألة إذا اتفقا على البيع الشرعي ولكن ادعى أحدهما أنه باع الآخر عروضه بنقد معلوم واشترى عروضه بمثل ذلك الثمن وتقاصا وأنكر الآخر بل ادعى أنه باع عروضه بعروض هل يصدق أحدهما أم المسألة من اختلاف المتبايعين فيتحالفان وينفسخ البيع إذا لم تكن بينة، وفي الشاشات غير المنشورة هل يصح بيعها قبل النشر أم لا؟ وإذا قلتم بعدم الصحة فهل يحل لمشتريها استعمالها والحالة هذه أم لا؟ وهل يفرق بين العالم والجاهل في حلية الاستعمال أم لا؟ وفي اختلاف المتبايعين في صفة عقد أو شرط فأقام أحدهما بينة على مدعاه وأقام الآخر بينة على عدم وقوع ما شهد به الشهود في مجلس العقد على مقتضى النفي المجعول بعد اتفاقهما على الزمان والمكان وهل تقدم بينة المثبت أم النافي، وفي مسألة الشاشات إذا عاند المشتري ولم يردها والبائع يريدها فراراً من بطلان البيع وعدم حلية الثمن هل يلزم ولي الأمر إلزام المشتري ردها وتأديبه إن امتنع وإذا ترك ولي الأمر ذلك مع العلم والقدرة هل يأثم أم لا؟. فأجاب بقوله: لا يكفي تصديق الوكيل بل لا بد من بينة أخذاً مما ذكره الشيخان في اللقيط وقبيل الصداق وآخر الدعاوى فإن لم تكن له بينة جاز له أن يطلب يمين المشتري أن المبيع ملك لبائعه فإن نكل حلف المدعي وانتزع المبيع منه ويصدق مدعي صحة البيع لوقوعه بصيغة صحيحة عملاً بالقاعدة المشهورة(2/31)
وقدموا فيها الغالب، والظاهر على الأصل لأن الشارع متشوف إلى انبرام العقود ولأن الأصل عدم المفسد في الجملة وإذا اتفقا على البيع الشرعي وتنازعا فيما ذكر من بيع كل عرض بنقد أو بالعرض الآخر لم يكن لهذا النزاع فائدة فلا تسمع دعواهما لاتفاقهما على أن كلاَ ملك عرض الآخر وأن أحدهما لا شيء له على الآخر، وإنما النزاع في سبب الملك هل هو عقدان أو عقد واحد، ومثل ذلك لا غرض فيه ولا فائدة له فإن فرض أن فيه فائدة سمعت دعواهما وحلف كل على نفي قول صاحبه ورجع عرض كل منهما إليه لأن كلا منهما قد أثبت بيمينه نفي دعوى الآخر فتساقطا وإنما رد إلى كل عرضه مع أنه ينكر استحقاقه لدعواه استحقاق العين المقابلة فلما تعذر إبقاؤها رد عليه مقابلها الذي بذله كما هو شأن تراد العوضين عند الفسخ أو نحوه، ولا يصح بيع المطوي إلا بعد نشره ورؤية جميعه ولا يحل لمشتري الشاشات المذكورة قبل النشر إمساكها إن كان مقلداً لمن يشترط الرؤية كإمامنا
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وعلم أن مذهبه ذلك أو قصر في التعلم فإن عاند ولم يردها ألزمه الحاكم بذلك وأدبه إن امتنع بالحبس والضرب وغيرهما مما يراه زجراً له ولأمثاله ويجب على الحاكم ذلك إذا علم وقدر وإلا أثم بل ربما يفسق بذلك وينعزل والبينتان المذكورتان متعارضتان فيتساقطان ويتحالف المتعاقدان ثم يفسخان العقد أو يفسخه الحاكم، والله تعالى أعلم.(2/32)
وسئل رضي الله عنه عمن قال بعتك هذا بألف فقال بل وهبتنيه حلف كل على نفي دعوى الآخر، وهو مشكل بما لو بعث إليه بشيء فقال الباعث فرض وقال الآخر هدية صدق المبعوث إليه بيمينه وبما لو قال السيد أعتقته بعوض والزوج كذلك وقال العبد والزوجة بل مجاناً صدقا فما الفرق؟. فأجاب بقوله: إنما صدق المبعوث إليه للقرينة الدالة على قوله وهي البعث بخلاف مسألتنا فإنه لا مرجح فيها، وإنما صدق العبد والزوجة لأن العتق والطلاق متفق عليه ودعوى زيادة عليه وهي المال مدفوعة بأصل براءة الذمة بخلاف مسألتنا فإن الملك لم يتفق الحالفان على سببه ولا مرجح لجانب أحدهما.
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: في القوت عن الروياني لو اختلفا في شرط إشهاد أو شاهدين تحالفا وعن الجويني لو قال بعتك هذا بألفين مما لك عليّ فقال بل بألف لم يتحالفا فما المعتمد في ذلك؟. فأجاب بقوله: قياس كلامهم أن الأول معتمد والثاني ضعيف وهو ظاهر.
وسئل عن التحالف في نحو البيع لا يفسخ العقد بخلاف اللعان فما الفرق؟. فأجاب بقوله: الفرق أن اللعان تحقق للفرقة المؤبدة فقطع النكاح حينئذ بمجرده بخلاف التحالف، فإن الغرض منه تحقيق الواقع ومن ثم لو تصادقا بعده أقر العقد.(2/33)
وسئل رضي الله عنه عما إذا اختلف الوكيلان في صيغة عقد معاوضة تحالفا فلو أراد الموكلان أو أحدهما مع أحد الوكيلين أن يتحالفا فهل لهما ذلك، وإذا اختلف الوكيلان في حدوث نحو عيب فمن يحلف؟. فأجاب بقوله: تحالف الوكيلين هو المعتمد، ويجوز تحالف الموكلين وأحدهما ووكيل الآخر قبل تحالف الوكيلين ويقوم مقامه ويجاب طالبه أخذاً مما حكاه الأذرعي عن الحاوي من أنا إذا قلنا للأب الحلف في صغر الزوجة في الاختلاف في المهر وكانت وقت التحالف بالغة حلف على أحد الوجهين لمباشرته العقد، قال وعلى الوجهين لو امتنع الأب حلفت وإنما الخلاف في جواز حلفه مع بلوغها، ثم قال الأذرعي وهذا صحيح لكن يعارضه قولهم فيما إذا بلغت الصغيرة قبل التحالف تحلف هي لا الولي وصححوا أيضاً في نكاح البكر البالغة إذا اختلف الولي والزوج أنها التي تحلف لا الولي وعللوا ذلك بأنها من أهل اليمين وهذا يقتضي تحالف الموكلين في صورتنا ولا يفهم منه امتناع تحالف الوكيلان الوكيلين كما توهم لأنهما إنما تحالفا هنا لمباشرتهما العقد بخلاف الزوجة فيما ذكر وإذا اختلف الوكيلان في حدوث نحو عيب، فالظاهر كما بحثه بعضهم بناء حلفهما على جواز الرد بالعيب للوكيل فحيث قلنا يرد بالعيب حلف إذا توجهت اليمين في جانبه وحيث لا رد له لا يحلف، وقد صححوا فيما إذا اشترى الوكيل سلعة ثم رام ردها بعيب أن للبائع تحليفه أنه ما رضي بها الموكل.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/34)
وسئل عما إذا اتفق العاقدان بعد البيع على شرط مفسد لكن قال أحدهما هو بعد لزوم العقد، وقال الآخر قبله، أو قال البائع قبلته فوراً، فأنكر المشتري القبول أو الفورية فمن المصدق منهما، وفي الأنوار أول البيع لو اختلفا في القبول فقال أوجبت ولم تقبل وقال قبلته صدق بيمينه وذكر آخر الخلع ما يناقضه وكذا في تمليك الزوجة طلاقها فما المعتمد؟. فأجاب بقوله: قضية القاعدة من أن الأصح تصديق مدعي الصحة أن المصدق هنا نافى وقوع الشرط المفسد في زمن الخيار أو العقد وإن اتفقا على وجوده لا يقال كون الأصل عدم وقوعه زمن الخيار فالأصل أيضاً عدم انقضاء الخيار لأنا نقول تعارضاً فتساقطا واستصحبنا أصل بقاء العقد على حاله وأصل عدم المفسد ويؤخذ من كلامهم في الخلع تصديق نافي الفورية ونافي أصل القبول، إذ لا فرق بين الخلع وبين غيره في مثل هذا، وكلام الأنوار أول البيع ضعيف أو أن الضمير في صدق عائد على الموجب المفهوم من قوله أوجبت أي صدق الموجب وهو البائع في نفي القبول، ولا فرق بين أن يقع اختلافهما في مجلس التواجب أو لا.
وسئل رضي الله عنه عمن قال اشتريت منك هذين النخلتين مثلاً فقال بل هذه فقط، وتحالفا ثم فسخا البيع فهل إذا كان المشتري استغل النخلتين مدة يضمن ثمرتهما أو لا؟. فأجاب بقوله: أما النخلة التي اتفقا على أنها مبيعة فلا يضمن ثمرتها، لأن الفسخ إنما يرفع العقد من حينه لا من أصله، وأما التي اختلفا فيها فيضمن ثمرتها وإن أوهم إطلاقهم خلافه لأنه مخصوص كما قاله بعضهم بما إذا اتفقا على صحة البيع في الكل، وإنما اختلفا في وصف زائد على ذلك أما إذا وافق البائع على البعض فقط بالمختلف فيه تكون ثمرته للبائع بحكم الأصل كما لو اختلفا في ذلك منفرداً فانضمامه إلى غيره لا يوجب تغير حكمه وإن أوجب التحالف.(2/35)
وسئل عمن قال بعتك بثلاث أواق نقداً فهل يصح إذا كانا ببلد جرى عرفهم واطرد بإطلاق النقد على نوع من الدراهم ولا يطلق على غيرها ولا يعرفون النقد إلا ذلك أو لا يصح كما لو قال بثلاث آواق ونويا دراهم معينة؟. فأجاب بقوله: إلا وجه الصحة كما لو باع بدراهم وأطلق وثم نوع غالب منها ويكون اختلاف الجنس كاختلاف النوع، وفارق هذا ما ذكر في السؤال بأن الثمن مصرح به هنا والإبهام الذي فيه خصمه العرف. وثم: لم يصرح بالثمن بوجه والنية لا تقوم مقام التصريح به كما ذكروه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/36)
وسئل عن رجل باع عن أيتام شخص يسمى فتح الله الشرواني بطريق الإذن من حاكم شافعي حصصاً من عقار عامر آهل صار إليهم بالميراث من والدهم واشترى لهم حصصاً من عقار ولم يصرح بحقيقة المسوغ ولا بثبوت ثمن المثل، وإنما ذكر المورق شاهد التبايع في مكتوب التبايع بعد أن توفي الخواجا هبة الله الشرواني وانحصر إرثه في أولاده الخمسة الذين منهم فتح الله المذكور، ثم توفي فتح الله وانحصر إرثه في أولاده الستة الأيتام وسماهم بالمكتوب المذكور اشترى مأذون الحاكم الشافعي هو الخواجا محمد سلطان العجمي، يعني به الرجل المذكور لأولاد فتح الله الستة بماله من الإذن المشروح لوجود المسوغ الشرعي المقتضي لذلك الثابت لدى الحاكم المشار إليه من المصونات فاطمة وعائشة وصفية عمات الأيتام المذكورين جميع الحصة الصائرة إليهن بالإرث من والدهن هبة الله التي قدرها ثلاثة أسهم من أصل سبعة أسهم من جميع أحد عشر عزلة بمكة المشرفة وحددهم بالمكتوب وجميع الخربة الملاصقة لبيت التمجاني بمكة ولم يحددها، والحال أنها ليست ملاصقة لبيت التمجاني وإنما هي ملاصقة لخربة أخرى ملك للغير فاصلة بين الخربة المبيعة وبيت التمجاني ومن جميع الدار المعروفة بالمكين بمكة وحددها بثمن قدره سبعمائة أشرفي وخمسون أشرفياً وقاصص المشتري الثلاثة النسوة البائعات بالثمن بنظير ما باعه منهنَ عن الأيتام من العقار الآتي ذكره فيه وتسلم المشتري ما اشتراه للأيتام المذكورين وذكر المورق في كتاب التبايع أن المأذون له باع عن الأيتام من عمتهم فاطمة سهماً وثلاثة أخماس سهم من الأصل المعين أعلاه من جميع الدار الكبرى الكاملة أرضاً وبناء المشتملة على علو وسفل ومنافع ومراقي وحقوق بثمن معين بمكتوب التبايع قاصصت البائع بذلك بنظير ما اشتراه منها للأيتام المذكورين أعلاه وباع أيضاً المأذون له المذكور عن الأيتام من عمتهم عائشة نصف سهم من الدار الكبرى الكاملة المشتملة على منافع ومرافق(2/37)
وحقوق بثمن معين بالمكتوب وقاصته بالثمن بنظير ما ابتاعه منها للأيتام وباع أيضاً المأذون له عن الأيتام من عمتهم صفية سهمين من الأصل المذكور من جميع الدار الكبرى المشتملة على مرافق ومساكن واشتمالات وحقوق بثمن معين بالمكتوب المذكور وقاصصت البائع بالثمن بنظير ما اشتراه منها للأيتام المذكورين، وحدد المورق كلاً من الدور الثلاثة المذكورة وثبت لدى الحاكم الشافعي الآذن مضمون التبايع والمقاصصة وحكم بموجب ما أشهد به على نفسه كل من المتبايعين المذكورين فيه ولم يثبت عند الحاكم معرفة الدور ولا ثمن المثل لما باعه المأذون له ولا وجود الحظ والغبطة، ولم يصرح بحقيقة المسوغ ثم توفي أحد شاهدي التبايع بطريق الشهادة على خطه وبشهادة رفيقه في ذلك عند حاكم مالكي إشهاد الحاكم الشافعي الآذن فهل للمأذون له المذكور أن يبيع عن الأيتام ما كان عامراً آهلاً من العقار معداً للاستغلال أنمى غلة مما اشتراه لهم ويشتري لهم ما كان خراباً دائراً تكب فيه القمامات والأوساخ وهل ما ذكره المورق من المسوغ من غير تصريح كاف ولا يتعين ثبوت ثمن المثل والحظ والغبطة أم لا بد من بيان سبب المسوغ وثبوت ثمن المثل والغبطة وهل ما ذكره الشاهد في تعريف الخربة بكونها ملاصقة لدار التمجاني والحال أنها ليست ملاصقة لها ولا محددة يكون ذلك مانعاً من صحة البيع فيها أم لا يكون مانعاً وما الذي يتناوله الحكم بالموجب المشروح أعلاه؟. فأجاب بقوله: لا يصح بيع القيم المذكور ولا شراؤه لعدم وجود مسوغهما الشرعي على ما ذكره السائل لأن شرط بيعه أن يكون هناك حاجة كنفقة أو كسوة لم تف غلة العقار بها ولم يجد من يقرضه أو لم ير في القرض مصلحة أو غبطة كان طلب منه بأكثر من ثمن مثله ووجد مثله ببعض ذلك ومتى انتفى شرط مما ذكر بطل البيع وشرط شرائه أن لا تنتفي المصلحة عنه كإشرافه على الخراب فإن انتفت كما ذكره السائل لم يصح وما ذكره المورق من المسوّغ غير كاف لاختلاف(2/38)
العلماء في تفاصيله على أن قوله لوجود المسوّغ الشرعي الخ يحتمل احتمالاً ظاهراً أن يكون علة لإذن الحاكم للقيم المذكور في التكلم على الأيتام لا لشرائه لهم فلا يكون في هذه المسألة حينئذ شهادة بمسوغ الشراء لا مجملة ولا مفصلة، ويؤيد هذا أيضاً قول المورق بعد ذلك وثبت لدى الحاكم الشافعي الآذن مضمون التبايع والمقاصصة الخ، فإن هذا فيه إيماء إلى أن الحاكم لم يثبت عنده المسوغ الشرعي الذي ذكرته للبيع ولا للشراء فنتج من ذلك أنهما باطلان وأنه يجب على كل من رفع إليه ذلك وثبت عنده من حكام المسلمين إظهار بطلان ذلك والإلزام بالعمل به وما ذكره الشاهد من تعريف الخربة مقتض لبطلان البيع إن كانت صيغة البيع بعتك الخربة الملاصقة لكذا بخلاف ما إذا قال بعتك هذه الخربة الملاصقة لكذا أو خربتي الملاصقة لكذا وليس له غيرها، فإن البيع يصح ولا يؤثر الغلط حينئذ والحكم بموجب الشيء لا يقتضي الحكم بصحتة لتوقفه على ثبوت ولاية العاقد على ذلك الشيء فيجوز للحاكم بل يجب عليه أن يرجع عن حكمه بالموجب إن ثبت عنده ما يقتضي رجوعه عنه لعدم توقفه على ثبوت ملك العاقد أو ولايته فوجوده لا يقتضي ثبوت أحد هذين فإذا ثبت انتفاؤهما وجب عليه الرجوع عن حكمه بالموجب وعلى غيره إلغاء ذلك الحكم وعدم الاعتداد به ولا ينافي ما ذكر أن المعتمد تناول كل من الحكم بالصحة والحكم بالموجب جميع الآثار المترتبة على الحكم، لأن محل ذلك كما علم مما تقرر ما إذا كان الحكم بالموجب صحيحاً بأن لم يتبين ما يناقضه، أما حيث تبين ما يناقضه فلا يعتد به كما في مسألتنا فإن الحكم فيها بالموجب لو فرض أنه يعم جميع ما في المستند من البيع والشراء وغيرهما وما يتوفقان عليه لم يعتد به إلا أن ثبت عنده مع ذلك وجود المسوّغ المقتضي لصحة بيع القيم وشرائه ولم يثبت ذلك فوجب السعي في نقضهما ورد أعيان الأيتام المبيعة إليهم والمشتراة إلى أربابها، والله يعلم المفسد من المصلح ويجازي(2/39)
من عمل سوءاً بعدله آمين.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل رضي الله عنه عما إذا أخرج حنفي مثلاً القيمة من ماله الزكوي أو اشترى مالكي بالمعاطاة فهل للشافعي الشراء من المال الزكوي ومن المال المأخوذ بالمعاطاة اعتباراً بعقيدة البائع أولا اعتبار بعقيدة المشتري؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أن ذلك إن حكم به من يراه جاز الشراء منه سواء أقلد الشافعي به أم لا؟ لأن الحكم يحله باطناً أيضاً وإن لم يحكم به أحد لم يجز للشافعي الشراء منه ما دام مقلداً للشافعي رضي الله عنه، لأنه حينئذ يعتقد تعلق الزكاة به في الأولى وبقاءه على ملك بائعه في الثانية فلا يجوز له أخذه ولو بعقد إلا أن قلد القائل به، ثم رأيت بعضهم بحث الجواز مطلقاً قال لاعتقادنا تكليف المخالف بحسب عقيدته حتى قلنا باستعمال ما توضأ به حنفي لم ينو ثم قال إنه رأى كلام السبكي دالاً على تحريم الشراء وأن عنده فيه نظراً، وأنه لا يجري في الزكاة لأنها من قبيل العبادات ويرد ما علل به بأنا وإن اعتقدنا تكليفه بحسب عقيدته لكن نعتقد تكليفنا أيضاً بحسب عقيدتنا فنقره على ذلك ولا يجوز لنا التصرف فيه عملاً بالعقيدتين وإنما حكمنا باستعمال ماء الحنفي لأن المدار في الاستعمال على ما أزال مانعاً ولا شك أن ماءه كذلك لأنا نعتقد فيه ذلك بحسب ظن المستعمل ويرد قوله لا يجري في الزكاة لأنها من قبيل العبادات بأنها وإن كانت كذلك لكن لا أثر لذلك في تخصيص الحكم بالمعاملات على أن كونها من قبيل العبادات إنما هو باعتبار الأصل وإلا فعند إرادة بيع المال الزكوي بعد إخراج القيمة هي الآن من قبيل المعاملات فالمتجه ما قدمته، وكلام السبكي دال عليه لكنه محمول على ما إذا لم يحكم حاكم ولم يقلد إمام البائع.(2/40)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: قالوا من صرائح البيع لفظ التقرير ما صورته؟. فأجاب بقوله: صورته أن ينفسخ العقد ويريد إعادته فيقول البائع قررتك على موجب العقد الأول ويقبل المشتري أو يقول المشتري أنا على ما كنت عليه من البيع ويقبل البائع أخذاً من قولهم لو تكفل ببدن فأبرأه المستحق ثم وجده ملازماً لغريمه فقال اتركه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة صح.
وسئل عن كناية البيع هل يشترط فيها ما يشترط في كناية الطلاق من اقتران النية بكل اللفظ أو بعضه؟. فأجاب بقوله: يحتمل إلحاقها بها، ويحتمل أن يقال يكفي الاقتران بالبعض ويفرق أن هناك ملك بضع محقق فلا يزال إلا بيقين فاشترط مقارنة النية لكل اللفظ احتياطاً للإبضاع بخلافه هنا فلم يجر فيه القول باشتراط مقارنتها لكل اللفظ.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل عما لو قال بعتك بألف فقال اشتريت نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة صح عند المتولي واستشكله الرافعي ما الجواب عنه؟. فأجاب بقوله: بتأمل تعليل المتولي من أنه لم يرد إلا تفصيل ما أجمله البائع وبتأمل وجه استشكال الرافعي من أنه أوجب عقداً فقبل عقدين يعلم أنه لا إشكال إذ مقتضى كلام المتولي أنه لم يرد التفصيل من حيث تعدد الصفقة بل من حيث بيان الإجمال السابق وحينئذ فإن أراد التفصيل من حيث التعدد بطل لما قاله الرافعي ولا ينافيه كلام المتولي ، فإن أطلق فالظاهر البطلان إذ مقتضى كلامهم في تفريق الصفقة تعددها مفصلة في أحد الجانبين وإن لم يرد المفصل لكن محله أخذاً مما قررناه ما إذا لم يرد عدم التفصيل كما هو ظاهر.
وسئل عما إذا غلب على الظن اتخاذ الحربي الحديد سلاحاً فهل يحرم بيعه له؟. فأجاب بقوله: نعم قياساً على بيع العنب لعاصر الخمر.(2/41)
وسئل عما إذا تلفظ البائع بحيث يسمعه من بقربه ولم يسمعه المشتري لعارض لغط ونحوه فقبل البيع مريداً الابتداء فهل يقع قبوله جواباً أم لا؟. فأجاب بقوله: يحتمل وقوعه جواباً لوقوعه بعده في نفس الأمر ومدار العقود عليه، ويحتمل خلافه لأنه صرفه عن الجواب بقصده الابتداء والأول أقرب وقصد الابتداء لا ينافي كونه قصد اللفظ لمعناه، إذ معناه هنا إفادة التمليك وهي حاصلة سواء أقصد الابتداء أم الجواب ولو تلفظ به من غير قصد ابتداء ولا جواب احتمل الجزم بأنه لا يعتد به واحتمل خلافه.
وسئل بما لفظه: لو وكل الجد في الطرفين هنا فهل يبطل كالنكاح أو لا؟. فأجاب بقوله: يحتمل إلحاقه به، ويحتمل خلافه والفرق أن النكاح يحتاط له ما لا يحتاط لغيره والأقرب الأول، إذ لا اختلال في الصيغة فلا يتعلق به احتياط فكما منعوه ثم مع انتظام الصيغة كذلك يمتنع هنا للمعنى الذي عللوا به ثم:
وسئل رضي الله عنه عن قولهم يصح بيع السبع لمنفعة صيده هل يشمل الصيد بالطبع وبالتعليم؟. فأجاب بقوله حيث كان ما يصطاده يحل بأن وجدت فيه الشروط التي ذكروها في كتاب الصيد صح بيعه سواء أوجدت فيه تلك الشروط بتعليم أو لا بتعليم أصلاً.
وسئل عما لو باع بوزن عشرة دراهم فضة هل يصح؟. فأجاب بقوله: إن قال مضروبة أو غير مضروبة صح وإلا بطل لتردده بينهما ولا يحمل على النقد الغالب، نعم ينبغي حمله على ما إذا اختلفت قيمة المضروب والسبيكة وإلا فالذي يظهر الصحة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/42)
وسئل عما لو باع صاعاً من الصبرة المجهولة ونصف باقيها لم يصح أو نصفها وصاعاً من النصف الآخر صح ما الفرق بينهما؟. فأجاب بقوله: قد يفرق بأن الجهل في الأولى أشد وذلك لأنه لما ذكر الصاع صارت الإحاطة بنصف الثاني ضعيفة بخلافه في الثانية فإن الإحاطة بجميع الصبرة أقوى منها بها بعد إخراج صاع، وذكر النصف لا يقتضي ضعف تلك الإحاطة بل قوتها فلا يضر ذكر صاع من النصف الآخر هذا غاية ما يوجه به ذلك على أن لباحث أن يبحث استواءهما في البطلان أخذاً من قولهم لو باع المجهولة إلا صاعاً منها بطل لأن ما عدا نصف الباقي والصاع في الأولى وما عدا الصاع من النصف الآخر في الثانية مستثنى وهو مجهول بل البطلان هنا أولى، لأنهم إذا حكموا به مع كون المستثنى معلوماً فبالأولى أن يقال في المستثنى المجهول بذلك.
وسئل عما لو كانت الدابة محملة بأمتعة المشتري فهل يصح قبضها؟. فأجاب بقوله: يحتمل إلحاقها بالسفينة الصغيرة ويحتمل وهو الأقرب الفرق بأن السفينة بالبيوت أشبه فأعطيت حكمها بخلاف الدابة.
وسئل عمن باع أمة وادعى أنها معتوقة أو مستولدة فهل يقبل قوله بيمينه أو لا بد من بينة؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه لا بد من بينة قياساً على ما لو باعه ثم قال كنت وقفته ولا يقال إن العتق حق الله تعالى والشارع متشوف إليه لأنا نقول قد تعلق به حق المشتري فلا بد من ثبوت ما يدفعه.
وسئل عمن اشترى شيئاً من آخر فادعى ثالث أن هذا المبيع ملكه فصدقه البائع لكن قال اشتريته منك وأقام شاهداً ثم نكل عن الحلف معه فهل يحلف معه المشتري؟. فأجاب بقوله: لا يحلف معه المشتري وإن ترتب على ذلك نفعه ببقاء العين في يده لأن إقامة شاهد من واحد وحلف آخر غير معهود ولأن الحجة حينئذ ملفقة وهو ممتنع.(2/43)
وسئل رضي الله عنه عمن باع مسلماً ومعناه إلزام المشتري بما يلحق البائع من الدلالة وغيرها فهل يصح؟. فأجاب بقوله: كان ابن الرفعة في حسبته يمنع أهل سوق الرقيق من ذلك، وظاهره أنه لا فرق بين أن تكون الدلالة ونحوها معينة أو لا، لكن اعتمد السبكي الصحة إذ كانت معلومة وكأنه جعله جزءاً من الثمن بخلاف ما لو باع من اثنين، وشرط أن يكون كل منهما ضامناً للآخر فإنه لا يصح البيع إذ لا يمكن فيها ذلك. قال الأذرعي لكنه هنا شرط عليه أمراً آخر وهو أن يدفع كذا إلى جهة كذا فينبغي أن يكون مبطلاً مطلقاً اهـ، والذي يتجه عندي أنه إن قال بعتك بكذا وللدلال منه كذا صح أو وتدفع له منه كذا لم يصح، لأن الأول ليس فيه ما ينافي مقتضى العقد بخلاف الثاني فإنه شرط عليه الدفع وهو ينافي مقتضى العقد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل رضي الله عنه عما لو تقدمت الرؤية على العقد فيما لا يتغير غالباً فاشتراه ثم وجده متغيراً بما لا ينقص العين أو القيمة فهل يخير أو لا؟. فأجاب بقوله: كل من التخيير وعدمه محتمل والأقرب الأول لاختلاف الوصف الذي رآه وأقدم على العقد معتقداً بقاءه ولو اتفقا على وقوع التغير بعد الرؤية ثم ادعى البائع تأخيره عن العقد وادعى المشتري تقدمه عليه فالذي يتجه تصديق البائع لأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن والأصل أيضاً سلامته عند العقد بخلاف ما لو قال البائع للمشتري رأيته كذلك فإن المشتري هو المصدق لأنه يدعي عليه علمه بهذه الصفة والأصل عدمه.(2/44)
وسئل رضي الله عنه هل يتصور وجوب السوم؟. فأجاب بقوله: نعم يمكن أن يقال بوجوبه فيما لو رأى عاصر خمر يشتري عنباً وتحقق أنه يعصره خمراً ولم يندفع إلا بالسوم عليه لأنه من باب الأمر بالمعروف ويحتمل خلافه وقد يقال بجوازه إذا توهم ذلك منه والأقرب خلافه، لأن السوم إيذاء محقق فلا بد من تحقق سبب يبيحه ولم يتحقق ويتأتى هذا التفصيل في البيع على البيع والشراء على الشراء حيث لا عذر وفي كل بيع حرم على المشتري قبوله.
وسئل رضي الله عنه بما لفظه قولهم لو فرق بين الأم وولدها بوقف جاز مشكل إن كان وقفاً على خدمة إنسان مثلاً لأنه يلزم عليه تأبد التفريق بينهما إذ للموقوف عليه منعه من أمه وعكسه بخلاف الموقوف على نحو مسجد أو جهة عامة فليحمل كلامهم عليه؟. فأجاب بقوله: كلامهم أعم ويجاب عن الإشكال بأن وقفه على إنسان كإيجاره مدة تجاوز البلوغ وهو جائز وأيضاً فلوقف قربة فسومح فيه وإن سلم أنه يلزم عليه ما ذكر.
وسئل رضي الله عنه هل لغير البائع المشترط للعتق مطالبة المشتري به؟. فأجاب بقوله: مقتضى قولهم للبائع ذلك كالملتزم بالنذر أنه لا يختص بالبائع ومقتضى قولهم لأنه لزم باشتراطه الاختصاص به والأوجه الأول لقولهم تسمع الدعوى في حقوق الله تعالى من كل أحد، وقد صرحوا بأن هذا منها.(2/45)
ب50-L2 وسئل بما صورته الأصح في تفريق الصفقة أن الخمر يقدر خلاً وفي باب نكاح المشرك أنه يقوّم عند من يرى له قيمة فما الفرق؟. فأجاب بقوله: قد يفرق بأن الكفار حين قدموا على العقد الواقع في الشرك وسموا فيه خمراً كانوا يعتقدون مقابلته بقيمة فأجريناهم على معتقدهم، وإن أسلموا بعد بخلاف المبتايعين، فإن قلت مقتضاه أنهما لو كانا ذميين قوّم في البيع أيضاً، قلت إما أن يلتزم ذلك، وإما أن يقال التقويم ثم إنما هو لمعرفة ما بقي من مهر المثل الواجب في الذمة والتقويم بالنسبة لما في الذمة أحوط وأضبط، وأما هنا فالقصد معرفة ما يقابل الباطل والصحيح وذلك حاصل بتقدير الخمر خلاً، فإن قلت قدروا الكلب هنا شاة، وفي الوصية عند من يرى له قيمة، قلت كأن الفرق أيضاً أن القصد ثم معرفة الثلث ولا يعرف إلا أن قدر له قيمة، وأما هنا فالقصد توزيع الثمن وهو حاصل بتقديره شاة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
ب50-L2 وسئل عمن اشترى شيئاً بثمن معلوم ثم بعد لزوم البيع دفع للبائع نصفاً ربحاً فهل يجوز له قبوله أو لا؟. فأجاب بقوله: الذي يظهر أنه إذا دفعه له ظاناً أنه من الثمن لم يجز للبائع أخذه وإن علم أنه خارج عن الثمن وإنما دفعه له تبرعاً جاز أخذه، فإن شك البائع فلم يدر أدفعه له بالظن المذكور أو مع العلم المذكور لم يجز له أخذه أيضاً، لأن الغالب من أحوال العامة أنهم يعتقدون لزوم الدفع في مثل هذه الصورة وأن ذلك ملك للبائع من جملة ثمنه الذي وجب له.(2/46)
ب50-L2 وسئل بما صورته قالوا يحرم بيع الثوب الذي ينقص بقطعه ولا يصح البيع فهل له حيلة ينتفي بها حرمة القطع ويصح البيع؟. فأجاب بقوله: ذكر في المجموع له طريقاً وهو أنه يواطئه المشتري على أن يشتري منه ذراعاً مثلاً بكذا فيقطعه ثم يشتريه وأنت خبير بأن هذه إنما هي طريق لصحة البيع لا لانتفاء حرمة القطع الذي فيه إضاعة مال، وقد يجاب بأنه سومح له في القطع حينئذ رجاء لغرض الربح وظاهر كلامهم في غير هذا المحل أن إضاعة المال إنما تحرم إن قصدت عبثاً وهذه ليست كذلك، نعم لو زيد له على قيمة المقطوع ما يساوي النقص الحاصل في الباقي، فالظاهر أنه يصح البيع حينئذ فلا حرمة قبل البيع إذ لا إضاعة مال حينئذ البتة فلا يحتاج إلى الحيلة المذكورة ويحمل كلام المجموع على خلاف هذه الصورة.
ب50-L2 وسئل رضي الله عنه عما إذا باع شيئاً في الذمة بلفظ الشراء هل يكون بيعاً أو سلماً؟. فأجاب بقوله: الذي صححه الشيخان أنه بيع لا سلم وهو المعتمد وإن نقل الإسنوى فيه اضطراباً. وقال الفتوى على ترجيح أنه سلم وعزاه للنص وغيره واختاره السبكي وغيره، إذ التحقيق حمل النص وغيره على أنه سلم من حيث المعنى فقط.(2/47)
ب50-L2 وسئل عمن باع من آخر أرضاً وكان صفة البيع أن قال بعت منك من أرضي هذه ذرعة هذه الأرض، وأشار إلى أرض هما يعلمانها بالمشاهدة ولا يعرفان قدرها فهل يصح البيع والحالة هذه أم لا؟ فإنا وجدنا في كتاب الكفاية إذا قال بعتك بزنة هذه الصخرة ذهباً أو ملء هذه الغرارة طعاماً صح فهل المسألة قياس مسألتنا أم لا؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه في هذه المسألة عدم صحة البيع بدليل قول المجموع وغيره ولو قال بعتك من هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإن كانت ذرعانها مجهولة لهما أو لأحدهما لم يصح البيع بلا خلاف بخلاف نظيره من الصبرة فإنه يصح على الأصح والفرق أن أجزاء الدار تختلف دون أجزاء الصبرة اهـ، وبما تقرر يعلم أن هذه المسألة لا تقاس بمسألة الكفاية المصرح بها في كلام الرافعي و النووي رحمهما الله تعالى في المجموع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/48)
ب50-L2 وسئل عن بيع الآبار المحفورة الحاصل فيها ماء إذا شهد على المتبايعين بصدور التبايع الصحيح الشرعي فيها وفي حقوقها وطرقها ومشتملاتها بعد النظر والتقليب الشرعي ولم يتعرض الشهود للماء الحاصل في الآبار فهل يصح البيع والماء مع السكوت عن التصريح به وهل يشترط في بيعها بيع الماء معها وهل الإشهاد المذكور كاف في إدخال الماء وهل إذا اختلف المتبايعان في ذكره فاحتج المدعي لدخوله بالإشهاد المذكور يكفيه ذلك أو لا بد من بينة تشهد بصريح ذكره؟. فأجاب بقوله: لا يصح بيع الآبار إلا أن نص على دخول مائها في البيع بخلاف ما لو نفاه أو أطلق ولا يكفي عن النص عليه قولهما بحقوقها على ما قد يقتضيه كلامهم لا سيما كلام الأنوار، وقد يوجه بأن الماء ليس من حقوق البئر فهو كمزارع القرية الخارجة عنها معها، فإنها لا تتناولها وإن قال بحقوقها، قالوا لأن العرف لا يقتضي تناولها لكن يشكل على ذلك قولهم لا تتناول الأرض مسيل مائها وشربها من نحو قناة مملوكة حتى يشرطه أو يقول بحقوقها إن كان خارجاً عنها كما صرح به جماعة فالذي يتجه أن قولهما بحقوقها بمنزلة النص على دخول الماء قياساً على ما ذكروه في الأرض مع مسيل الماء ونحوه، بل أولى لأن الحقوق إذا تناولت نحو المسيل والشرب مع خروجهما عن الأرض ومع إمكان الانتفاع بها بدونهما وعدم دخولهما في مسماها فأولى أن يتناول الماء لأنه ليس بخارج عن البئر ولا يمكن الانتفاع بها بدونه ولدخوله في مسماها وبذلك يفرق بينه وبين ما مر في مزارع القرية معها فاتجه إلحاق الماء بالمسيل والشرب دون المزارع على أن قولهما ومشتملاتها ظاهر أو صريح في شمول الماء، إذ هو بمعنى ما اشتملت البئر عليه، ومن جملة ما اشتملت عليه الماء الذي فيها فحينئذ لا يتوقف في الصورة المسؤول عنها أن الماء يدخل فيها، وإنما الذي فيه نوع توقف ما لو اقتصر على قوله بحقوقها إذا تقرر ذلك فبيع الآبار المذكورة في السؤال صحيح والإشهاد(2/49)
المذكور كاف في دخول الماء فلا يحتاج المحتج به إلى بينة تشهد بصريح ذكره الماء في العقد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل عن دار بيعت وفي بعض جوانبها مخازن تنفذ أبوابها إلى الشارع وليس لها منفذ من الدار مع أن هذه المخازن داخلة في بيع الدار فهل تدخل هذه المخازن في مطلق بيع الدار لاشتمال الدار عليها كما أفتى به بعض المتأخرين لأنها داخلة في تربيعها وإن لم تنفذ إليها كما في بعض دور مكة أو لا تدخل في مطلق بيعها إذ لا تعد منها كما أفتى به بعض فقهاء المتأخرين من اليمن وكما قال الأصحاب في باب القدوة أن المساجد المتلاصقة إذا لم ينفذ بعضها إلى بعض لا يصح اقتداء من هو في واحد منها بمن هو في آخر قالوا لأنها لا تعد مسجداً واحداً، وقال صاحب العباب في التجزئة في باب الأيمان ولو حلف لا يدخل الدار وفوقها حجرة بابها خارج الدار فدخلها لم يحنث، فإن قيل باب الأيمان مبني على العرف قيل كذلك قد يعللون بالعرف في باب بيع الأصول والثمار؟. فأجاب بقوله المنقول في الحجرة المتصلة بالدار أنها لا تدخل في بيعها صرح به الصيمري و الماوردي واعتمده ابن الرفعة و القمولي وغيرهما قالوا لخروجها عن حدود الدار التي لا تتميز إلا بها وبه يرد قول السبكي ينبغي أن تتبعها الحجرة المتصلة بها لاقتضاء العرف ذلك، وما علل به ممنوع فقد أحالوا هنا ما ذكروه في الإيمان في عدم دخول مزارع القرية فيها كما لا يحنث بدخولها من حلف لا يدخل القرية وفي غير ذلك فعلمنا أن ملحظ البابين واحد ومن المقرر أنه لا يحنث بدخول تلك الحجرة من حلف لا يدخل الدار لأنها لا تعد منها فكذا لا تدخل في بيعها ومثلها المخازن المذكورة في السؤال بل هي عينها، وقول الأذرعي في مسائل هنا الرجوع إلى عرف الناحية متعين وكذا إلى القرائن كزيادة الثمن الدالة على إرادة دخول نحو المزارع يرده إطلاقهم الصريح في أنه لا عبرة بعرف يخالف ما ذكروه(2/50)
لأنه خاص وما ذكروه هناك عام والعام مقدم غالباً، وقد ذكر الشيخان وغيرهما في الكرم ما يعلم به أنه لا فرق في تناول ما ذكروه لما ذكروه هنا بين أن يجري البيع في بلد يعتاد أهله إطلاق ذلك على ذلك، وأن لا لما تقرر أن العبرة بالعرف العام، وقد نقلوا عنه ما ذكروه فلا مساغ لمخالفته، ويؤيد ما تقرر في الحجرة والمخازن المتصلة بالدار قول ابن الرفعة وغيره في حمام الدار الذي يجب القطع به أن الدار إن أحاطت به بأن كان في وسطها أو كان خارجها وشملته حدودها دخل سواء استقل أم لا؟ وإن خرج عن حدودها لم يدخل وإن لم يستقل ثم ساق كلام
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/51)
الماوردي وغيره السابق في الحجرة، ويؤيد ذلك أيضاً ما صححه ابن أبي عصرون من أوجه ثلاثة في الساباط الذي على حائط الدار أنه إن كان على حائطيه دخل أو على حائط لم يدخل فإذا كان على حائط فقط فهو متصل بها كالمخازن المذكورة وقد علمت أنه لا يدخل فكذلك تلك المخازن، فإن قلت قال في العدة تدخل المظلة كرواشن الدار وهي تدخل فيها وإن فرض أن لها باباً أيضاً من خارجها لأنها منها وإنما تنقطع نسبتها عنها إن كان لها باب من خارج وليس لها باب من داخلها، فإن قلت مسألة السؤال ونظائرها مشكلة تصويراً لأن الدار لا يصح بيعها إلا أن ذكرت حدودها الأربعة وكذا ما دونها إن تميزت به على المعتمد وحينئذ فإذا حددا لدار فإن دخلت تلك المخازن أو الحجرة في الحدود كانت مبيعة قطعاً فأي محل يتحقق فيه خلاف الأصحاب و السبكي على أن بعضهم نازع في الاحتياج للتحديد بأنها إن كانت مرئية كفى عن ذكر الحدود وإلا لم يكف عن ذكرها، وعلى هذا فالإشكال باق أيضاً لأنهما إذا رأيا وأشارا إلى المبيع دخلت المخازن أو الحجرة إن تناول ذلك إشارتهما وإلا لم يدخلا فأي مساغ لذلك الخلاف أيضاً، قلت أما الأول فيجاب عنه بأن صورته أن يكون المشتري يعرف الدار وما بجانبها فيقول له بعتك داري التي بمحلة كذا، فحينئذ قوله داري الخ هل يتناول ما اتصل بها أو لا فالأصحاب يقولون لا يتناوله لأنه لما انفرد عن الدار بمدخل مستقل مع عدم نفوذه إليها كان مستقلاً عنها غير تابع لها فلم يشمله لفظه وضعاً ولا عرفاً و السبكي يقول بل يشمله عرفاً لاتصاله وقد قال الأذرعي في توسطه عقب كلام السبكي فيه شيء إذ لا بد أن يكون المبيع معلوماً مشاهداً مشاهدة تنفي الجهالة، والحاصل أنه إن بين له البائع الدار وما اتصل بها وأورد العقد على الجميع فلا شك في دخول الجميع وإن اقتصر على اسم الدار فقط وعلم المشتري حدودها لم يدخل غيرها إلا بالتنصيص وإن لم يبين حدودها لاختلاطها بالدور حولها بحيث لا(2/52)
تميزها الرؤية إلا بالتوقيف على المحدود فهذا محل قول الماوردي وغيره لا تدخل الحجرة والساحة والرحبة المتصلة بالدار لخروجها عن حدودها التي لا تتميز إلا بها ولا يصح العقد إلا بذكرها، فإن ذكرا حدين وتميزت بهما صح اهـ، وأما الثاني فيجاب عنه أيضاً بأن الرؤية لا تغني عن ذكر الحدود مطلقاً لأنه قد يرى دوراً متلاصقة ثم يشتري بعضها فلا بد من ذكر الحدود أو بعضها ونحو ذلك مما يميز، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل عن الأرش المتعلق برقبة الرقيق إذا اختار سيده فداءه بالذي له في ذمة صاحب الإرش من الدين وكان الدين قدر الإرش وعلى صفته فهل يصح اختياره بذلك ويكون مثل تقاص الدينين أم لا؟. فأجاب بقوله: اختيار السيد الفداء لا يلزمه بل له الرجوع عنه فحينئذ إذا اختار فداءه بماله من الدين في ذمة المجني عليه لا يقتضي تقاصاً وإلا لزم بيع الدين بالدين وهو حرام باطل إجماعاً.
وسئل عن رجل عجان خباز يجعل الخبز للبيع ويبيعه على الناس وهو أبرص أجذم ذو حكة وسوداء فهل يجوز له أن يباشر الخبز المذكور وهو بتلك الصفات أم لا؟. فأجاب بقوله: لا يجوز له بيع ما باشر نحو عجنه إلا أن يبين للمشتري حقيقة الحال لأن المشتري لو اطلع على ذلك لم يشتره منه في الغالب وكل ما كان كذلك يكون كتمه من الغش المحرم، وقد قال : «من غش المسلمين فليس منهم» وقد نقل غير واحد عن الأئمة أنه يجب على السلطان أو نائبه أن يخرج من به نحو جذام أو برص من بين أظهر الناس ويفرد لهم محلاً خارج البلد وينفق على فقرائهم من بيت المال، والله أعلم.(2/53)
وسئل عن إنسان يشتري ويكتال أو يزن بأوفى ثم يبيع بمعتدل معتاد فهل يحرم عليه ذلك مطلقاً أو يفصل بين علم بائعه أو لا؟. فأجاب رضي الله عنه بقوله: إذا اتفق هو وبائعه على أن يشتري منه بهذا الكيل أو الميزان ثم اتفق هو والمشتري منه على أنه يبيعه بكيل أو ميزان آخر عيناه جاز ذلك إذ لا غش منه في حال شرائه ولا في حال بيعه، لأنه لا يتصور مع علم المتعاقدين ورضاهما، وأما إذا باع بغير ما اشترى به موهماً المشتري منه أنه إنما باعه بنظير ما اشترى به فهو غش ظاهر، وقد قال : «من غش المسلمين فليس منهم» ، وضابط الغش المحرم أن يشتمل المبيع على وصف نقص لو علم به المشتري امتنع من شرائعه فكل ما كان كذلك يكون غشاً محرماً وكل ما لا يكون كذلك لا يكون غشاً محرماً.
وسئل بما صورته ما الحكم في بيع نحو المسك لكافر يعلم منه أنه يشتريه ليطيب به صنمه وبيع حيوان لحربي يعلم منه أنه يقتله بلا ذبح ليأكله؟. فأجاب بقوله: يحرم البيع في الصورتين كما شمله قولهم كل ما يعلم البائع أن المشتري يعصى به يحرم عليه بيعه له وتطييب الصنم وقتل لحيوان المأكول بغير ذبح معصيتان عظيمتان ولو بالنسبة إليهم، لأن الأصح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كالمسلمين فلا تجوز الإعانة عليهما ببيع ما يكون سبباً لفعلهما وكالعلم هنا غلبة الظن، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/54)
وسئل رضي الله عنه قال في الروضة في باب الصلح لو قال بعتك المبيع الذي أعرفه أنا وأنت صح هل هذا يصح بالنسبة إلى المتبايعين أو لو جرى هذا المقال لدى الحاكم جاز له التسجيل عليه والحكم بمجرد هذه الصيغة أم لا؟ لأن للحكم طريقاً آخر؟. فأجاب بقوله: ذكر في الروضة هذه المسألة مقيساً عليها فرع آخر يعلم منه المراد منها وهو ولو أقر لآخر بمجمل فصالحه عنه وهما يعرفانه صح الصلح وإن لم يسمه واحد منهما كما لو قال بعتك الشيء الذي أعرفه أنا وأنت، فصورة المسألة أن شيئاً معهوداً لهما وهما يعرفانه وهو مما يكفي فيه تقدم الرؤية على العقد إن لم يكن حاضراً بمجلسه فإذا قال مالكه للآخر بعتك الشيء أي المعهود بيننا الذي أعرفه أنا وأنت صح البيع وإن لم يسمياه لأن المدار في صحة البيع على وجود شروطه في نفس الأمر فإذا كانا صادقين في معرفتهما وإرادتهما لذلك الشيء المعهود صح البيع ظاهراً وباطناً، وإن لم يكونا كذلك صح ظاهراً باعترافهما لا باطناً لفقد بعض شروطه إذا تقرر ذلك فلو صدر ذلك بين يدي حاكم فله أن يسجل به ولو بعد جريان مسوّغ الحكم له أن يحكم بصحة البيع معتمداً على جريان عقده بين يديه واعترافهما بتوفر شروطه المستفاد من قولهما الذي أعرفه أنا وأنت وكما أن له الحكم بالإقرار بجريان عقد البيع وإن لم يذكر المقر شروطه فكذلك له الحكم بما ذكر بالأولى لجريان العقد بحضرته واعتراف المتبايعين بأنه وقع مستوفياً لشروطه.(2/55)
وسئل عن المشتري إذا أقاله البائع في أرض باعه إياها وقد زرع المشتري الأرض هل عليه أجرة في المدة بعد الفسخ أم لا؟. فأجاب بقوله: عليه أجرة ذلك كما صرحوا به في نظيره في باب بيع الأصول والثمار فإن قلت الأرض حال زرع المشتري كانت ملكه فهو لم يزرع إلا ملك نفسه فكيف لزمته الأجرة، وقياس قولهم لو باع أرضاً مزروعة فرضي المشتري بها لزمه إبقاء زرع البائع من غير أجرة لأنه زرع ملك نفسه فلا يؤمر بالقلع قبل أوانه عدم الأجرة في مسألتنا، قلت يفرق بين الصورتين بأن ملك المشتري حال الزرع كان غير مستقر فلما زال راعينا كونه وضع زرعه بحق لكونه زرع ملكه فلم يمكن البائع من القلع وكون الملك زال عنه وصارت الأرض ملكاً للبائع فلم يفوّت عليه أجرتها مدة بقاء الزرع فيها فكان في إبقائه بالأجرة جمع بين مصلحتي المشتري والبائع لوجود مسوّغ كل كما تقرر، وأما زرع البائع فقد وقع في ملك نفسه المستقر ثم بعد أن دخل في ملك المشتري خيرناه ولما خيرناه كان بسبيل من أن يفسخ ويرجع إلى ثمنه فإذا اختار الإجازة كان موطناً لنفسه على الرضا به من غير أجرة فهذا هو السبب في عدم استحقاق المشتري للأجرة في هذه الصورة وهو لا يوجد نظيره بل ضده في المسألة الأولى فاتضح الفرق بينهما وإن إحداهما لا تلتبس بالأخرى فتأمله.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/56)
وسئل رضي الله عنه عن أرض فيها بذر شجر باعها وبذرها هل يصح البيع أو لا كحامل وحملها؟. فأجاب لا يصح البيع فيها حيث لم يكن البذر يفرد بالبيع ولم يدخل عند الإطلاق ولا يقال يصح في الأرض تفريقاً للصفقة، لأن شرط القول بتفريق الصفقة أن يكون ما فسد فيه البيع معلوماً حتى يمكن التوزيع عليه وهنا البذر مجهول جهلاً مطلقاً فلا يمكن التوزيع عليه فإن دخل عند الإطلاق صح البيع في الكل وكان ذكره تأكيداً كما بحثه الإسنوى وغيره وفارق بيع الحامل مع حملها بأن الحمل غير محقق الوجود فأبطل التصريح به وجعله مقصوداً العقد لأنه يورث جهالة المبيع.
وسئل هل يصح بيع المكاتب ولو بشرط عتقه فتنفسخ الكتابة وكذا المستولدة بشرط الإعتاق؟. فأجاب بقوله: الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه صحة بيع المكاتب بإذنه وبطلانه بغير إذنه سواء بيع بشرط العتق أم لا وعليه حملوا حديث بريرة رضي الله عنها فإنها كانت مكاتبة وبيعت بإذنها وحيث صح بيعه انفسخت الكتابة، وقول البلقيني يصح بيعه بشرط العتق من غير إذنه من تفرده وإنما جاز بيعه من نفسه لأن قبوله إياه متضمن للإذن وامتنع بيع المستولدة ولو بشرط عتقها وبإذنها لأن ثبوت حق الحرية فيها أقوى منها في المكاتب.
وسئل بما لفظه: تبايعا وبينهما حائل يمنع رؤية الأشخاص لإسماع الأصوات هل يصح أو لا؟. فأجاب بقوله: نعم يصح لأنهم لم يشترطوا الإسماع كل كلام صاحبه، بل صرحوا بصحة بيع الأعمى وشرائه لما رآه قبل العمى ولنفسه وبصحة تبايع الغائبين نعم إن كان وراء الحائل جماعة اشترط تسمية المشتري حتى يتميز منهم.(2/57)
وسئل رضي الله عنه بما لفظه بينهما عين مشتركة باع أحدهما حصته وهي تحت يد الآخر فأراد قبضها وتسليمها للمشتري أو أن شريكه يأذن له في ذلك فامتنع فهل يأذن الحاكم عنه وهل يتصور الإقباض مع عدم إذن الشريك من غير ضمان عليهما؟. فأجاب بقوله: صرحوا بأن أحد الشريكين لا يستبد بالعين المشتركة لتكون تحت يده إلا بإذن شريكه وإنما تكون تحت يدهما أو يد عدل وحينئذ فيرفع شريكه للحاكم ليرفع يده عن حقه ويأذن للمشتري في قبضه ثم يكون بيدهما معاً فإن امتنع نصب القاضي عدلاً لتكون العين تحت يده نيابة عنهما ثم يأمره بقبضها للمشتري وحينئذ لا ضمان على أحد، نعم إن ثبت للبائع حق الحبس اشترط إذنه.
وسئل إذا كان بين المبعض وسيده مهايأة صح في نوبة سيده شراؤه لا ضمانه فما الفرق؟. فأجاب بقوله: يفرق بأن الشراء فيه تحصيل لا يتصور تضرر السيد به بخلاف الضمان فإن فيه التزام تغريم ربما يعود على السيد بضرر وهذا فرق ظاهر وإن كان الإشكال المذكور في السؤال للرافعي ونقلوه عنه ولم أر من تعرض لجوابه، وقد ظهر جوابه، ولله الحمد.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
وسئل عما إذا اختلف المتبايعان في انقضاء الأجل والمتآجران في انقضاء مدة الإجارة فهل يتحالفان أو يصدق أحدهما؟. فأجاب بقوله: إن نشأ الاختلاف في الانقضاء من الاختلاف في قدر الأجل مع الاتفاق على وقت العقد تحالفا وإن اختلفا في ابتدائه صدق مدعي بقائه لأنه الأصل.(2/58)
وسئل رضي الله عنه اختلف كلام الشيخين فيمن قبض مقدراً فقالا لو أقر بجريان الكيل أي أو الوزن في المبيع أو الثمن لم يسمع منه خلافه، وفي الروضة لو أقر بإقباض رهن وقال لم يكن إقراري عن حقيقة سمعت دعواه لتحليف خصمه وإن لم يذكر لإقراره تأويلاً وفصلاً في اختلاف المتبايعين بين ما يقع مثله بين الكيلين فيقبل وما لا فلا؟. فأجاب بقوله: لا تناقض لأن معنى قولهما أوّلاً لم يسمع منه خلافه أنه لا يصدق بيمينه فلا تسمع دعواه ليحلف هو بل ليحلف خصمه كما قاله البلقيني ، وحينئذ فيوافق هذا ما ذكر عن الروضة في الرهن وتفصيلهما المذكور في اختلاف المتبايعين مفروض فيما إذا لم يقر القابض بوصول حقه إليه، وإنما قال بعد جريان الكيل أو الوزن كنت أظن تمام حقي فبان ناقصاً فتعارض هنا أصل عدم قبض الكل وظاهر عدم الغلط فيصدق إن أمكن في العادة الغالبة أن يبخس به في الكيل أو الوزن فلا يصدق في أن العشرة تسعة خلافاً لمن زعم أنه يمكن البخس فيه.
وسئل عمن باع عيناً من زيد بعشرة ثم قال البائع لزيد المذكور قبل لزوم البيع بعتكها بعشرين فقبل فهل يصح البيع الثاني ويكون فسخاً للأول أم لا؟ فإن قلتم بصحة الثاني فهل يكون كإلحاق الزيادة في الثمن حتى يصير الثمن ثلاثين أم لا؟. فأجاب بقوله: بيع البائع والخيار له المبيع ولو للمشتري فسح وصحيح كما يصرح به كلامهم فإذا قبله المشتري صح قبوله وارتفع حكم البيع الأول فلا يلزمه إلا العشرون التي وقع بها العقد الثاني وليس ذلك كإلحاق الزيادة قبل اللزوم، لأن صورة ذلك أن الزيادة ألحقت مع تقرير العقد الأول فوجبت مضمومة إليه وأما هنا فالعقد الأوّل ارتفع ومن لازم ارتفاعه ارتفاع ثمنه فلم يجب إلا ثمن الثاني لا غيره.(2/59)
وسئل رضي الله عنه عما قاله الأصحاب من بطلان بيع عبديهما بألف أو أحدهما بحصته من الألف وعللوا ذلك بجهل حصة كل واحد من الثمن لكنهم ذكروا في تفريق الصفقة الصحة بالحصة في بيع عبده وعبد غيره فما المعتمد في الفرق بينهما؟. فأجاب بقوله: قد ذكرت هذا الإشكال وجوابه في شرح المنهاج وعبارته فإن قلت يشكل على ما ذكر في عبده وعبد غيره بل وعلى كل ما يأتي من أن الحصة في الحل بالحصة هن المسمى باعتبار قيمتهما قولهم لو باعا عبديهما بثمن واحد لم يصح للجهل بحصة كل عند العقد، لأن التقويم تخمين وهذا بعينه جار فيما هنا إذ نحو عبده الذي صح البيع فيه ما يقابله مجهول عند العقد فما الفرق قلت يفرق بأن الجهل هنا لا يترتب عليه محذور وهو تنازع لا إلى غاية لاندفاع الضرر بثبوت الخيار للمشتري بخلافه في تلك فإن صحته فيها يترتب عليها ذلك المحذور أي ولا يمكن نبوت الخيار فيها إذ لا موجب له بعد فرض صحته فيهما، وهنا الموجب تفريق الصفقة على المشتري فإن قلت قد لا يتخير المشتري لكونه عالماً بالمفسد فلم صح البيع في الحل حينئذ مع الجهل حالة العقد بحصته من الثمن ووقوع التنازع بينهما لا إلى غاية وانقطاعه بقول المقوّمين جار في الصورتين بلا فرق، قلت يفرق بأن إيراد العقد عليهما مع العلم بالحرام منهما نادر فأعطوه حكم الغالب مع عدم الصحة في الحرام إعطاء لكل منهما حكمه لا في ثبوت الخيار تعليطاً عليه ولم يبلوا بتخلف علتهم فيه لندوره والتعاليل إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمله.
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: ذكروا في البيع فيما إذا ألحق زيادة عدم الفرق
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
بين أن يأتي بصيغة شرط أم لا؟(2/60)
وقالوا في الوكيل لا يلزمه الإشهاد إلا إذا أتى الموكل بصيغة إشهاد كما حكي عن المرعشي، وقول الإرشاد في الوكالة فإن أمر به وجب يقتضي خلافه وذكروا فيما إذا باع زرعاً بشرط أن يحصده البائع أنه لا فرق في بطلان البيع بين أن يأتي بصيغة شرط أم لا؟ وفي الرهن فيما إذا أذن الراهن في بيع المرهون أنه يصح إلا إذا شرط تعجيل حقه ولم يبينوا أنه لا بد لفساد الشرط من أن يأتي بصيغة شرط أم لا؟ وقد ذكروا في الكفالة ما يقتضي الفرق بين الشرط وعدمه في بطلانها فيما إذا تكفل ببدن رجل وشرط في نفس العقد أنه يغرم أنها تفسد بخلاف ما إذا لم يأت بصيغة شرط وفي الوقف أن الواقف إذا شرط أن يأكل من الوقف وأن يقضي منه دينه أنه يبطل ولم يبينوا حكم ما إذا أتى بصيغة إخبار ولو قال وقفت كذا ولي النظر هل يكون كالشرط أم لا؟ وغير ذلك من النظائر وهل فرق في العقود التي ليس فيها خيار بين أن يأتي بكلامه فيها متصلاً بصيغة العقد، فيلزم أو لا فلا يلزم أو يقال إذا انفصل عن صيغة العقد يفصل بين أن يطول فلا يلزم أو لا يطول فيلزم؟. فأجاب بقوله: إن تحرير ما ذكروه في إلحاق نحو الزيادة في زمن خيار المجلس أو الشرط هو أن يتفقا على ذلك فاتفاقهما عليه متضمن لفسخ العقد الأول سواء وجدت صورة شرط من أحدهما ووافقه عليه الآخر أم لا؟ ومن ثم لو شرط أحدهما في زمن الخيار نحو زيادة ولم يوافقه الآخر عليها لم يضر كما صرح به الإمام حيث قال ولو انفرد أحدهما بذكر زيادة صحيحة وامتنع من قبولها الثاني لم يلحق ولكن لو تمادى الشارط ولم يفسح استمر العقد صحيحاً ولغت الزيادة اهـ، قال الأذرعي وهذا إن قاله على وجه الالتماس وطلب الزيادة أو الحط لا غير، فظاهر وإن قال لا أرضى إلا أن يزيد في الثمن كذا أو قال المشتري لا أرضى إلا أن يحط عني كذا ففيه نظر فتأمله اهـ، قلت مراد الإمام الأول لقول الشيخين وغيرهما في باب الخيار فيما يحصل به الفسخ ويحصل بقول البائع في زمن الخيار(2/61)
لا أبيع حتى يزيد في الثمن وقول المشتري لا أفعل وبقول المشتري لا أشتري حتى ينقص الثمن وقول البائع لا أفعل وبطلب البائع حلوله والمشتري تأجيله اهـ. وإذا تأملت ما تقرر علمت أن ما هنا لا يشكل على مسائل الشرط الآتية، لأن الملحظ هنا غير الملحظ ثم لما عرفت أنهما إن توافقا على نحو الزيادة تضمن ذلك فسخ العقد الأول وإنشاء عقد ثان وإن لم يتوافقا على ذلك كان العقد الأول باقياً بحاله ما لم يقل لا أرضى إلا بزيادة كذا مثلاً لتضمن هذا منه فسخ العقد الأول وهو جائز له، لأن الغرض أن الخيار لهما وتحرير ما ذكروه في صورة الوكيل أن من وكل في بيع بشرط الإشهاد لم يصح بيعه، إلا أن وجد الإشهاد ثم صورة شرطه كما صرح به المرعشي واقتضاه كلام غيره وارتضاه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/62)
الزركشي وغيره أن يقول له بع بشرط أن تشهد أو على أن تشهد بخلاف ما إذا قال له بع واشهد فإنه لا يكون الإشهاد حينئذ شرطاً، وكلام الروضة كالصريح في ذلك فإنه نقل عن البغوي أنه لو قال الولي للوكيل لا تزوجها إلا برهن أو كفيل بالصداق لزم الوكيل الاشتراط وإلا لم يصح أو زوجها بكذا وخذ به كفيلاً فزوّجها بلا شرط صح لأنه أمره بأمرين امتثل أحدهما اهـ، وبه يعلم أن ملحظ الوكالة غير ملحظ صور الشرط الآتية أيضاً، وبيانه أنه إذا أمره بأمرين فإن جعل أحدهما شرطا في الآخر أو كان الثاني لا يوجد مستقلاً وإنما يوجد تابعاً للأول كشرط الخيار في البيع توقفت صحة الآخر على وجوده وإن لم يجعل أحدهما شرطا كذلك وإنما أمره بهما فقط فله أن يأتي بأحدهما دون الآخر إذ لا يلزمه امتثال جميع أوامر موكله الخالية عن الاشتراط وكلام الإرشاد لا يخالف ذلك بل هو عين الشق الثاني، لأن معناه أن الموكل إذا أمر وكيله بالبيع وأن يشرط الخيار فيه لفلان توقفت صحة بيعه على شرط الخيار لفلان وبهذا يفرق بين بع وأشهد وبين بع واشترط الخيار لفلان فإنه في الأول يصح بيعه الخالي عن الإشهاد وفي الثاني لا يصح بيعه الخالي عن شرط الخيار وإيضاح الفرق أن الإشهاد على البيع أمر مستقل أجنبي عنه فلم يلزم من مجرد الأمر بهما أن أحدهما شرط في الآخر بخلاف شرط الخيار فإنه لا يمكن استقلاله وإنما يكون تابعاً للبيع دائماً فلزم من مجرد الأمر به مع البيع توقف البيع عليه فتأمله، فإن قلت كل منهما سواء في استثناء جوازهما لمصلحة العقد والإشهاد على البيع والخيار فيه فكل منهما تابع للبيع وكما يوجد الإشهاد في غير البيع كذلك الخيار يوجد في غير البيع، قلت هما وإن اشتركا في ذلك لكن تميز الخيار بأن جنسه من لوازم البيع التي لا يمكن انفكاكه عنها وثبوته في غير البيع إنما هو بطريق القياس على البيع ولا كذلك الإشهاد كما هو واضح، والحاصل أن الخيار ألصق بالبيع من الإشهاد، فجاز أن(2/63)
يختص عن الإشهاد بلزومه بالأمر كما تقرر، فإن قلت ما الفرق بين بع واشهد وبعتك واحصده إذ هذا يتضمن الاشتراط دون الأول، قلت الفرق بينهما واضح بما يأتي لأن إيقاع هذا في صلب العقد أخرجه عن حيز الوعد إلى حيز الاشتراط بخلاف واشهد فإنه وقع أمراً مجرداً غير واقع في صلب عقد مشتمل على إيجاب وقبول فلم يحتف به ما يصرفه إلى الاشتراط ويخرجه عن موضوعه من كونه أمراً مجرداً، والحاصل أن واحصده اقترن به ما أخرجه عن موضوعه بخلاف واشهد وهذا ظاهر للمتأمل وتحرير ما ذكروه في بيع الزرع ونحوه يعلم من قولي في شرح العباب، وصورة الشرط المفسد في سائر صوره أن يقول بعتك أو اشتريت منك بشرط كذا أو على كذا أو وافعل كذا أو تفعل كذا بالأخبار كما في المجموع فإنه قال وسواء قال بعتكه بألف على أن تحصده أو ونحصده وقال الشيخ
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/64)
أبو حامد لا يصح الأول قطعاً وفي الثاني طريقان اهـ لكن قوله نحصده ينبغي قراءته بالنون ليصح المعنى أما قراءته بالتاء فلا يصح، لأن الحصد لازم للمشتري فلا يكون شرطه عليه فاسداً بخلاف ما لو قال البائع وأحصده أنا أو ونحصده نحن فإنه شرط فاسد لمخالفته مقتضى العقد فأبطله، وظاهر كلام بعضهم أن واحصده ليس شرطاً والمعتمد الأول ويوافقه تسويتهم بين بعتك هذه النخلة بشرط أن ثمرتها لك وبعتك وثمرتها لك وقضية هذا أن نحو بعتك وأقرضتك أو اشتريت منك وأقرضتك باطل مثل وتقرضني وعليه فيوجه بأن إيقاعه في صلب العقد يفهم أنه أخرجه من حيز الوعد إلى حيز لاشتراط. قال العبادي : ولو باع بعشرة على أن يحط منها درهماً جاز لأنه عبارة عن تسعة أو أن يهبه منها درهماً فلا وهذا أي الأول إذا قلنا أن الإبراء إسقاط اهـ، وسيأتي أنه لا يطلق القول في الإبراء بالإسقاط ولا بالتمليك بل يختلف باختلاف الفروع والمدارك، وحينئذ فالذي يتجه عدم الصحة لأن اشتراط الحط أو الإبراء عليه اشتراط لما فيه من شائبة عقد قوية فأثرت الفساد كالهبة وحينئذ فليس ذلك عبارة عن تسعة كما زعمه، نعم إن أراد بذلك التعبير عن عشرة فلا يبعد القول بالصحة حينئذ وكذا لو قال على أن يسقط منها درهم ومر أنه لو باعه هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن يزيده صاعاً هبة أو بيعاً لم يصح واستشكل بما لو أقرضه عشرة على أن يقرضه عشرة وأجيب بأنه لا معارضة في صورة القرض بخلافه هنا وفي ذلك إشكالاً وجواباً نظروا لقياس بطلان القرض بهذا الشرط كما يصرح به كلامهم الآتي أواخر باب القرض انتهت عبارة الشرح المذكور وبقولي وعليه فيوجه بأن إيقاعه في صلب العقد يفهم أنه أخرجه من حيز الوعد إلى حيز الاشتراط يعلم سر كونهم جعلوا قوله وأحصده أو ونحصده الذي هو أخبار محض مثل الشرط لأنه لما وسطه بين طرفي العقد أو الصفة بالظرف المتأخر كان ذلك منه متضمناً للشرطية فهو إخبار مراد به الإنشاء بحسب ما دل عليه(2/65)
لفظه فأثر الفساد فعلم اتضاح الفرق بين هذا وبين ما مر في نحو بع واشهد، إذ لا دليل فيه على الاشتراط لما مر فيه موضحاً إذ هو مجرد أمر بشيئين امتثل أحدهما دون الآخر وتحرير ما ذكروه في الرهن يعلم من قولي في شرح الإرشاد وأفهم قوله بشرطه أنه لا بد من اللفظ باشتراط ذلك فلا أثر لقصده ولا لتلفظه به على غير صورة الشرط كأذنت لك في بيعه لتعجل وأطلق فيصح الإذن والبيع بخلاف ما لو نوى به الاشتراط على ما بحثه
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/66)
السبكي ، ورد الزركشي له بأنه كما لو نكح بشرط إذا وطىء طلق يبطل فإن لم يشترطه ونواه صح ذكره فيه نظر، لأن الذي فيه مجرد نية والذي في ذاك لفظ مع نية وهو أقوى، ويتجه أن يأتي هنا نظير ما مر في البيع، أي بيع الوكيل المشروط عليه الإشهاد من أن على أن تجعل كالشرط بخلاف وتجعل انتهت عبارة الشرح المذكور وبقولي فيها، ويتجه أن يأتي هنا الخ، يعلم أن ملحظ ما ذكروه في الرهن هو ملحظ ما ذكروه في بيع الوكيل المشروط عليه الإشهاد فيه، وقد مر ما فيه فلا يشكل على ما مر في صور شرط البيع المفسد وبما قررته فيها عن السبكي و الزركشي من أن الخلاف إنما هو في نية الشرط وأما لفظه فمبطل بلا خلاف يعلم اندفاع قول السائل نفع الله به، ولم يبينوا أنه لا بد الخ، بل بينوا ذلك كما تقرر وتحرير ما ذكروه في الكفالة يعلم من قولي في شرح الإرشاد وفسدت الكفالة أن شرط في عقدها الغرم عند تعذر تسليم المكفول بأن قال كفلت بدنه بشرط الغرم أو على أني أغرم أو نحوه لأنه شرط ينافي مقتضاها وفسد أيضاً التزام المال لأنه صير الضمان معلقاً، أما إذا قال كفلت بدنه فإن مات فعليّ المال فإن الذي يفسد التزام المال فقط قاله الماوردي ومحله ما إذا لم يرد به الشرط أما إذا أراد فإن وافقه المكفول له بطلت الكفالة أيضاً وإلا رجع إلى الاختلاف في دعوى الصحة والفساد فيصدق مدعي الصحة، ثم قلت فيه لا بصيغة وعد كقوله أؤدي المال أو أحضر الشخص أو المال، لأن الصيغة لا تشعر بالالتزام ولأن الوعد لا يلزم الوفاء به، نعم إن صحبه قرينة التزام صح كما بحثه في المطلب وأيده السبكي بكلام الماوردي وغيره، وظاهر ذلك أنه عند القرينة صريح لكن قال الأذرعي يشبه أنه كناية وأيده غيره بما لو قال داري لزيد فإنه ليس بإقرار إلا أن قصد بالإضافة كونها معروفة به ونحو ذلك، وفي التأييد بذلك نظر والأولى تأييده بأن الصراحة لا تؤخذ من القرائن كما لا تؤخذ من الاشتهار وعلى الأول فكالقرينة نية(2/67)
الالتزام كما أخذه الزركشي مما لو قال طلقي نفسك، فقالت أطلق، وأرادت به الإنشاء فإنها تطلق حالاً ولا ينافيه القول بأن الفعل المضارع عند تجرده للحال أي لأنه باعتبار الأصل انتهت عبارة الشرح المذكور وبها في المحلين الكفالة والضمان يعلم أنه يلحق بالشرط ما لو قال على أن تغرم أو نحوه كعليّ أن أغرم وكذا لو قال وأغرم أنا ونوى به الشرط ووافقه الآخر وإلا صدق مدعي الصحة وأن قيام القرينة كنية الشرطية وبهذا كله يعلم رد إطلاق قول السائل، وقد ذكروا في الكفالة ما يقتضي الفرق الخ، فإن قلت ما الفرق بين ما تقرر في الكفالة وما مر في البيع، قلت الفرق هنا نظير ما مر أن إيقاع وتحصده في صلب عقد مشتمل على إيجاب وقبول صيره كالجزء من الصيغة فأثر فسادها مطلقاً، وأما الكفالة والضمان فليس فيهما عقد كذلك وإنما هو من طرف الكفيل أو الضامن فقط فاغتفروا فيه ما لم يغتفر في البيع لأنه يحتاط له أكثر، وبهذا علم أن الكفالة أشبهت الرهن وبيع الوكيل المشروط عليه الإشهاد فيما مر فيهما بجامع أن كلا من الثلاثة ليس فيه إلا لفظ من طرف واحد فتقاربت أحكامها بخلاف البيع فإن فيه لفظين من طرفين فكان وقوع نحو احصده بينهما قرينة واضحة على أنه للشرط فأبطله لما مر لأنه يحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره وتحرير ما ذكروه في الوقف يعلم من قولي في شرح الإرشاد أيضاً ولا يصح الوقف بشرط أن يأكل منه كأن وقفه على الفقراء على أن يأخذ معهم من ريعه ولا يشرط أن ينتفع منه بشيء كأن وقف عيناً بشرط أن ينتفع بها ثم قلت، وقول عثمان رضي الله عنه في وقفه بئر رومة دلوي فيها كدلاء المسلمين ليس شرطاً بل إخبار بأن للواقف أن ينتفع بوقفه العام، ثم قلت ما حاصله ويتبع شرطه في نظر على الوقف لنفسه أو لغيره كما يتبع في مصارفه وحيث شرط النظر لغيره حال الوقف لم يكن له نظر فليس له عزل من شرط نظره حال الوقف ولو لمصلحة ولا نظر لتفويض النظر أو التدريس حالة الوقف كما بحثه(2/68)
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
الرافعي وصححه النووي لعدم صيغة الشرط خلافاً للبغوي حيث ألحقه بالشرط، ولا فرق في الشرط بين أن يقول وقفت وشرطت أن يكون زيد مدرساً أو وقفت بشرط كونه مدرساً كما أفهمه كلام الشيخين وغيرهما، واعتراض المصنف ك الإسنوى الثاني بأن زيداً قد يقبل وقد لا يقبل فتكون الصيغة مفسدة لأصل الوقف من أجل التعليق مردود بأن الباء في بشرطه للملابسة أي وقفاً ملتبساً بهذا الشرط مشتملاً عليه لا للتعليق وفارق وقفت وشرطت وفوّضت بأن فوضت جملة مستقلة لا تعلق لها بالأولى فكانت واقعة بعد لزوم الأولى لاستقلال كل منهما وعدم ارتباطه بالآخر فلم يفترق الحال بين التفويض الواقع حال الوقف وبعده لذلك بخلاف وقفت وشرطت، لأن شرطت من تتمات ما قبلها أي باعتبار أن القصد تقييده بما في حيزها، وفرق واضح بين ما يقع تقييداً لما قبله وما يقع مقيداً لما قبله فكانت أي شرطت مقيدة له فوجب العمل بقضيتها. قال السبكي ومورقو كتب الأوقاف تارة يقولون وشرط الواقف النظر لفلان وتارة يقولون وجعل النظر لفلان ويفهمون منهما معنى واحداً وهو الاشتراط، والظاهر أن ذلك إنما يكون بمنزلة الشرط إذا دلت القرينة عليه بأن يجعله في ضمن الكتاب ويشهد عليه بأنه وقف على هذا الحكم وما أشبهه حتى لو قال في الكتاب وبعد تمام الوقف وجعل النظر لفلان أو شرطه له لم يصح، فالحاصل أنه إذا أورد الوقف على صفة دل عليها بصيغة الشرط أو الجعل أو التفويض أو غيرها لزم جميع ما دل عليه كلامه الذي أورد الوقف عليه بخلاف ما إذا أورد الوقف وحده ثم ذكر تلك الشروط متراخية أو متعاقبة فإنها لا تلزم ولا تصح وفي إطلاقه ذلك نظر يتلقى مما مر في وقفت وشرطت ويجاب بأن ما ذكره إنما هو في عبارات الأوقاف المحتملة لصدورها من الواقف على ما هو عليه وعلى غيره فاحتيط لها بما ذكر وما مر إنما هو في لفظ الواقف المحقق فعمل بما يدل عليه اهـ،(2/69)
الغرض من عبارة الشرح المذكور وبها يعلم أن سائر شروط الواقف لا تؤثر إلا إن كانت بصيغة الشرط أو مرادفه كوقفت كذا على أن آكل منه أو على أن أكون ناظره أو على أن لا يؤجر وكذا كل صفة أو رد الوقف عليها ودل كلامه على اشتراطها فإنها تلزم بخلاف ما ليس فيه صيغة شرط ولا مرادفه ولا أورد الوقف عليه كذلك فإنه يكون لغواً لا يعمل به في البطلان ولا في الصحة، وبهذا يعلم رد قول السائل نفع الله به، ولم يبينوا حكم ما إذا أتى بصيغة إخبار ولعله لم ير كلام السبكي وغيره مما ذكر المعلوم منه أيضاً أن قوله وقفت كذا ولي النظر لا يفيد الشرطية لأنه ذكر بعد تمام الوقف ولم يدل على اشتراطه بشيء، نعم إن نوى به الاشتراط احتمل أن يعمل به أخذاً مما مر في كلامهم في الضمان وغيره، واحتمل الفرق بأنه بتمام قوله وقفت انقطع حقه عنه بالكلية فلم يبق له فيه تصرف بوجه حتى يقبل قوله إن نوى بما أتى به بعد تمام الوقف الشرطية وهذا أقرب وإذا تأملت ما تقرر في الوقف وما قبله علمت أن الأبواب لها ملاحظ مختلفة يحتاج إدراكها إلى مزيد تأمل ومراجعة لمداركهم وعللهم ومحط نظرهم وتصرفهم وإن تردد السائل بين العقد الذي لا خيار فيه فيلزم ما اتصل بصيغة عقده بخلاف غيره مطلقاً وإن أطال الفصل يرده ما تقرر في الوقف فإنه لا خيار فيه ومع ذلك لا يعمل بما اتصل بعقده كما تقرر عن السبكي.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260(2/70)
وسئل بما لفظه: ما حكم الألفاظ التي تقع بين أهل مليبار في البيع وليس فيها دلالة ظاهرة على البيع بل عندهم لا يكون بيعاً إلا بها فهل يعامل ذلك معاملة لفظ البيع أم لا؟. فأجاب بقوله: لا تكون تلك الألفاظ التي ليس فيها دلالة ظاهرة على البيع صريحة فيه أصلاً وكذا لا تكون كناية فيه إلا إن احتملته ولم تكن موضوعة لعقد آخر يجد نفاذاً لاستعمالها فيه على القاعدة المقررة في ذلك وهي أن ما كان صريحاً في بابه ووجد نفاذاً في موضوعه لا يكون كناية في غيره، ولو بين السائل تلك الألفاظ لكان الكلام عليها بأعيانها أظهر منه عليها إجمالاً إذ شتان ما بين التفصيل والإجمال، فإن السائل لا يمكنه أن ينزل هذا الإجمال الذي ذكرناه على تلك الألفاظ إلا أن كان عنده ملكة علمية يهتدي بها إلى حقائق تلك الألفاظ وحقائق فهم ما قاله الأئمة في نظائرها أو في مرادفاتها.(2/71)
وسئل بما لفظه: قولهم يجوز زيادة الثمن والمثمن في مجلس العقد مشكل جداً لأنه إن لم يجدد عقد فلا بيع ولا ثمن وإن جدد لم تكن صورة المسألة، فإن قيل قد صرح بأنه لا بد من لفظ يدل هنا على التراضي ليقوم مقام الإيجاب والقبول فالجواب أن هذا يستلزم أنهم قائلون في بعض الصور بالمعاطاة على المذهب وكلامهم في أول البيع يدفعه فما الجواب عن ذلك؟. فأجاب بقوله: لا إشكال في ذلك لأن الخيار مجلساً وزمناً ما بقي يمنع لزوم العقد ويجعل ما بعده من الزمن بمنزلة حريمه ولذا كان اشتراط شرط فاسد في ذلك الحريم يفسد العقد من أصله تنزيلاً له منزلة الواقع في صلبه، إذ حريم الشيء ملحق به إذا تقرر ذلك فزيادة أحدهما في الثمن أو المثمن مع رضا الآخر في ذلك الحريم منزلة منزلة لزيادة الواقعة في صلب العقد في لزومها من غير إنشاء عقد لما تقرر أن الواقع في الحريم بمنزلة الواقع في صلب العقد، وحينئذ فلا يحتاج هنا إلى إيجاب وقبول ولا انعقاد هنا بمعاطاة وإنما غاية الأمر أن زمن جواز العقد بعد انقضائه منزل منزلة زمنه فيما بين الإيجاب والقبول بجامع عدم لزوم العقد في كل فكما أن للموجب بعد إيجابه أن يزيد وينقص ويكون القبول لهذا الأخير دون الأول لنسخه به فكذلك لكل ما بعده وقبل لزومه إلحاق الزيادة والنقص إن رضي الآخر ويكون ذلك فسخاً للأوّل بمجرد لفظ الزيادة مع الرضا، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 260
باب معاملة العبيد(2/72)
ب50-L3 وسئل رضي الله عنه في رقيق استودع شيئاً بغير إذن سيده وأتلفه فهل يتعلق الغرم بذمته أو رقبته وفيما لو جاء أيضاً إلى شخص وقال أرسلني سيدي لتعطيني ثوباً من ثيابك حتى يراه ليشتريه فصدقه ودفعه إليه وأتلفه فهل يتعلق الغرم أيضاً بذمته أو برقبته فإن قلتم يتعلق الغرم برقبته كما قاله الدميري في الأولى، وقاس عليه القاضي حسين الثانية فهو مشكل بقولهم لو اشترى أو اقترض بلا إذن لم يصح وإن أتلفه تعلق الضمان بذمته فيطالب به بعد عتقه، لأنه وجب برضا مستحقة ولم يأذن وبقولهم ضابط الحقوق المتعلقة بالرقيق أنها إن ثبتت بغير اختيار أربابها كإتلاف وتلف بغصب تعلقت برقبته أو باختيارهم كما في المعاملات فإن كانت بغير إذن السيد تعلقت بذمته وكسبه ومال تجارته، ووجه الإشكال أنه في صورة الاستيداع استودع برضا المستحق، وفي صورة التصديق في الإرسال دفع برضاه أيضاً فالقصد ما يحل هذا الإشكال؟. فأجاب بقوله: الذي يحل الإشكال المذكور أن المالك تارة يصدر منه ما يدل على الإذن منه له في الإتلاف بعوض في مقابلته كالبيع والقرض فإن كان بغير إذن السيد تعلق بذمته، لأن المالك قد صدر منه ما يدل على الرضا بها وعلى أنه لم يطمع في التعلق بالرقبة بوجه فعاملناه بما دل عليه تصرفه وتارة لا يصدر منه ما يدل على ذلك إما بأن لم يصدر منه شيء بالكلية كما في إتلاف القن ماله مجاناً أو صدر منه ما لا يدل على الإذن منه له في الإتلاف كاستيداعه إياه، وما قيس به مما ذكر عن القاضي فإن كلاً من هذين لم يصدر من المالك ما يدل على إذن منه في إتلافهما لا في مقابل ولا في غير مقابل، وإنما الذي صدر منه الرضا بوضع القن يده عليه وعلى ظنه أمانته وهذا مقتضى لحفظ العين ولردها كما هي على مالكها، فإذا أتلفها القن حينئذ تعلق بدلها برقبته لأنه جان عليها، وقد نقول إن بدل الجناية متعلق برقبته فاتضح الفرق وزال الإشكال مع أنه ليس في هذا الإشكال من مزيد الخفاء ما(2/73)
يوجب استعظامه الذي دل عليه السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ب50-L3 وسئل عن العبيد الذين يخدمون أرباب الولايات ويعلم رقهم ولا يعرف لهم مالك معين ما الحكم في تصرفهم وإنكاحهم؟. فأجاب بقوله: متى علم رق قن لم يجز لأحد معاملته ولا ينفذ تصرفه ولا يصح نكاحه حتى يعلم أو يظن إذن سيده، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 276
ب50-L3 وسئل رضي الله عنه عمن أقر بأنه كان مملوكاً لفلان وأعتقه فهل تجوز معاملته؟. فأجاب: بأنه لا تجوز معاملته ولا نكاحه حتى يعلم عتقه أو إذن السيد له، وقد أفتى البغوي فيمن أقر لساكت بالرق فشهد شاهدان بحريته لا يحكم بها سواء أكان المقر له حاضراً أم غائباً لأنهم يشهدون بها ظاهراً، وهو أعلم بحال نفسه نعم إن شهدا بأن المقر له أعتقه قبلاً وإن كان العبد مقراً بالرق لأنه لا تنافي ولأن بينة العتق مقدمة على بينة الرق، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 276
باب السلم
وسئل عن رجل قالت له امرأة تعمل لي غرارتين من غسول بخمسين نصف فضة فقال لها نعم وقبض منها الخمسين ولم يقع بينهما تبايع ثم ماتت فهل للورثة أخذ الغسول أو الدراهم؟. فأجاب: لا يلزم الرجل المذكور إلا الخمسون نصفاً التي قبضها من المرأة المذكورة ما لم تقم عليه بينة بأنه عقد معها عقداً كبيع أو سلم صحيح في غرارتين من الغسول، أما السلم في الغسول فغير صحيح، والله تعالى أعلم.(2/74)
وسئل عن شخص أسلم سلماً شرعياً بإيجاب وقبول في حنطة معينة وجعل الأجل سلخ صفر هذا العام وجعل مكان التسليم بندر جدة من غير زيادة على ذلك فهل يصح السلم وتحمل لفظة البندر على المرسى وتكون مؤنة الحمل من المرسى إلى شاطىء البندر على المسلم أو تحمل لفظة البندر على شاطىء الساحل كما هو المتعارف على ألسنة الناس أن البندر اسم للقرية فيصح فتكون مؤنة الحمل من المرسى إلى شاطىء البندر من تتمة التسليم فتجب على رب الدين قياساً على أن المسافر لا ينتهي سفره إلا ببلوغه شاطىء البندر أو لا يصح السلم رأساً للسكوت عن بيان مكان التسليم وإذا قلتم بالصحة لأحد الشقين وتعرض منتسب إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأفتى بالبطلان واستبد في ذلك للجهل بمكان التسليم فهل يأثم على ذلك لاقتحامه الباطل وهل يجب على ولي الأمر وفقه الله منعه وأمثاله من ذلك وتعزيره بما يليق به زجراً ومنعاً له من العود إلى مثل ذلك وهل يكون تغريره بالأشد لعظم الجراءة على مثل ذلك وبالأخف لخفة الجريمة وهل ورد في الحديث النبوي التهديد على الرجوع في مثل ذلك والإخبار عنه بأن ذلك يظهر في آخر الزمان؟. فأجاب: إذا اطرد العرف بأن البندر اسم لمحل مخصوص صح السلم ولزم المسلم إليه حمل المسلم فيه وجميع مؤنته إلى أن يصل به إلى ذلك المحل وإن لم يطرد العرف بذلك بأن كان تارة يطلق على الشاطىء وتارة يطلق على المرسى لم يصح السلم حينئذ، ومن أطلق البطلان في ذلك لم يصب ثم إن لم يكن متأهلاً للإفتاء حرم عليه أن يتجرأ على هذا المنصب الخطير ووجب على حكام المسلمين زجره عن الدخول فيه، فإن لم يمتنع وإلا لزمهم تعزيره التعزير الشديد الزاجر له ولأمثاله عن الخوض في مثل ذلك لما يترتب عليه من إضرار المسلمين، بو الأمور الباطلة وقد ورد عنه وعن الصحابة ومن بعدهم أشياء كثيرة في الحط على من سلك هذا السبيل الأقفر بغير حقه فليحذر من لم يتأهل له عن أن تقول له نفسه أنه أهل له(2/75)
فيكون متبوأه النار وبئس المصير، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 277
وسئل هل يتصور الصلح عن دين السلم؟. فأجاب بقوله: نعم يتصور بأن يقول صالحتك عن الحب الذي في ذمتي برأس مال السلم لأنه حينئذ إقالة بلفظ الصلح وليس بيعاً لامتناعه في دين السلم، والله تعالى أعلم.
وسئل هل تمكن حيلة في الاستبدال عن المسلم فيه؟. فأجاب بقوله: نعم بأن يتفاسخا عقد السلم ثم يقع الاستبدال عن رأس المال وهو جائز مطلقاً ويتعين التقابض قبل التفرق كيلا يصير بيع دين بدين.
وسئل عما إذا وجد المسلم إليه رأس المال الذي قبضه قبل التفرق معيباً بعده فهل له رده وأخذ بدله؟. فأجاب: بأن له ذلك ولا يجوز التفرق عن مجلس الرد قبل قبض البدل وإلا بطل العقد كما في الصرف.
وسئل هل يتصور صحة الصلح عن دين السلم مع تصريحهم بامتناع الاعتياض عنه؟. فأجاب بقوله: نعم يتصور ذلك بأن يقول صالحتك عن دين السلم الذي في ذمتي على رأس مال السلم فيصح الصلح وتكون إقالة لا بيعاً لامتناعه في دين السلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 277
باب القرض
ب50- وسئل رضي الله عنه عن الحلى المجوّف كالأسورة المحتاجة إلى اللحام بالنحاس وغير المحتاجة إليه أيصح القرض فيه أم لا؟. فأجاب: بأن النحاس الذي وقع به اللحام لحاجة أو غيرها متى علم ولم يورث جهالة في النقص صح قرضه وإلا فلا.(2/76)
ب50- وسئل عن مال القراض أو الأمانة أو الوديعة إذا مات العامل أو الوديع أو الأمين ولم يوجد في تركة كل منهم شيء من ذلك فهل يؤخذ من تركته قيمة ذلك أو مثله إذا ثبت ذلك بطريقه الشرعي أو لا يؤخذ من تركته لاحتمال تلف ذلك في حياته أو رده؟. فأجاب بقوله: إذا مات أمين ولم توجد الأمانة التي تحت يده أو أوصى بها إلى فاسق أو قال هي ثوب ولم يميزه بإشارة أو صفة ضمن وإن لم يخلف ثوباً مثلاً لتقصيره ولأنه عرضها للفوات إذ الوارث يعتمد ظاهر اليد ويدعيها لنفسه بخلاف ما إذا ميزها في وصيته عند عدم التمكن من الرد للمالك أو وكيله، فإنه لا يضمنها وإن لم توجد في التركة وأما إذا لم يتمكن مما ذكر بأن مات فجأة أو قتل غيلة أو أوصى إلى عدل ولو وارثاً أيضاً مميزاً أو عجز عن الرد للمالك ووكيله ثم لقاض ثم عدل فلا ضمان لعدم تقصيره ولو وجد في التركة مثلها حيث لم يميزها لم يتعين لها لاحتمال تلفها بل تجب قيمتها في التركة ولو لم يوص وادعى الوارث التلف وقال: إنما لم يوص لعل التلف كان بغير تقصير أو لعلها تلفت قبل أن ينسب لتقصير وادعى المودع التقصير صدق الوارث بخلاف ما إذا لم يجزم بالتلف كأن قال أجوّز أنها تلفت على حكم الأمانة فلم يوص بها لذلك أو عرفت الإيداع ولم أدر كيف كان الأمر فيضمن لأنه لم يدع مسقطاً وإذا تعدى العامل بدفع مال القراض إلى آخر كان العامل ضامناً ثم إذا تصرف الآخذ بأن كان اشترى به فإن كان بعين مال القراض فالبيع باطل وللمالك الرجوع بعين ماله على كل من وضع يده عليه من العامل والأيدي المترتبة على يده وإن كان قد اشترى في ذمته ثم سلم المال في ثمنه فالشراء صحيح والربح للمشتري ويضمن للمالك قدر ما سلمه في الثمن من مالك المالك وللمالك هنا أيضاً أن يغرم العامل وكل من وضع يده على ماله متفرعاً عن تعدي العامل، والله تعالى أعلم.(2/77)
ب50- وسئل عمن قال ملكتك هذا بمثله كان إقراضاً فإن اقتصر على ملكتك وادعى نية المقابل فهل يصدق؟. فأجاب بقوله: قوله ملكتك هذا فقط صريح في الهبة فإن اختلفا في ذكر المقابل صدق نافيه، لأن الأصل براءة الذمة مع اتفاقهما على صدور صيغة الهبة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 278
ب50- وسئل عمن اقترض عشرة دراهم مغشوشة وأراد أن يبدله عنها خمسة غير مغشوشة أو عكسه مع الرضا فهل يجوز أو أقرضه عشرة آصع من بر وأراد أن يبدله نوعاً آخر منه فهل يجوز أيضاً عملاً بقول الأنوار، ولا فرق بين الربوي وغيره في الأجود، وقياسه أن الأردأ كذلك؟. فأجاب بقوله: الذي عليه العمل، واختاره جمع متأخرون وأفتوا به صحة إقراض المغشوشة وحينئذ فللمقترض أن يرد أجود أو أكثر من غير شرط بل يندب، وله رد أنقص وأردأ إن رضي المقرض كما قاله ابن الملقن في عمدته هذا إذا كان المردود من جنس المقرض ونوعه وإلا فهو بيع حقيقة فتجري فيه جميع أحكامه التي ذكروها في الاستبدال.
ب50- وسئل عمن اقترض نحو خشب وبنى عليه فهل للمقرض الرجوع في عينه لبقائها؟. فأجاب بقوله: ليس له ذلك لأنها صارت كالهالكة.
ب50- وسئل عمن اقترض عيناً ثم ردها وبها عيب واختلفا في حدوثه بيد المقترض فمن المصدق منهما؟. فأجاب بقوله: المصدق المقترض كما أفتى به بعضهم لأنه لم يعترف بالسلامة عند القبض وعلى المقرض البينة بذلك.
ب50- وسئل عما لو أعطى الزيادة عند الاقتراض للضرورة الشديدة للأطفال الجياع بحيث إنه إذا لم يعط الزيادة لا يحصل القرض فهل يندفع إثم إعطاء الزيادة في هذه الحالة للضرورة أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم يندفع إثم إعطاء الزيادة في هذه الحالة للضرورة، فقد صرح أصحابنا بأن المضطر لو علم من ذي الطعام أنه لا يبيعه إلا بزيادة على ثمن مثله جاز له الاحتيال على أخذه ببيع فاسد حتى لا يلزمه إلا ثمن المثل أو قيمته.(2/78)
ب50- وسئل نفع الله به هل الأفضل القرض أو الصدقة؟. فأجاب بقوله: القرض أفضل كما جزم به ابن الرفعة والنشائي وغيرهما لخبر درهم الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر، ووجهه أن طالب القرض إنما يطلبه عن حاجة غالباً بخلاف طالب الصدقة واعترض بخبر من أقرض درهماً مرتين فله مثل أجر صدقته مرة وفي ذلك بسط ذكرته في شرح الإرشاد.
ب50- وسئل بما لفظه: ما حكم النقوط المعتاد في الأفراح هل يرجع به أم لا؟. فأجاب بقوله: الذي أفتى به النجم البالسي وغيره أنه كالقرض يطلبه هو ووارثه وخالف في ذلك البلقيني، واعتمد ابن العماد الأول فقال: لأن الأمر دائر فيه بين الهبة الفاسدة والقرض الفاسد وجريان العادة بالمكافأة يجعله أقرب إلى القرض الفاسد وأبعد من الهبة الفاسدة لقصده العوضية وبنى على الرجوع أنه يرجع به على من أقبضه له ولو نحو الخاتن حيث قصد العوضية ما لم يكن سلمه له بإذن ذي الدعوة وإلا رجع عليه اهـ، والأوفق بكلامهم ما أفتى به البلقيني لأن القصود والعادة في مثل ذلك لا اعتبار بها، ألا ترى إلى قولهم لو أهدى إلى غيره شيئاً لم يرجع عليه بشيء وإن كان المهدي أدنى والمهدى إليه أعلى وإن قصد الثواب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 278
باب الرهن
وسئل إذا قلتم إن الرهن أمانة في يد المرتهن ولا يسقط بذلك شيء من دينه وكان المرهون مثلاً غراساً والمرتهن يأكل ثمارها مدة مديدة فهل للراهن مطالبة المرتهن بما أكل من الثمار أم لا؟. فأجاب إن أباح الراهن للمرتهن الثمار إباحة صحيحة لم يكن له الرجوع عليه بشيء وإلا رجع عليه بمثلها إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت متقومة، والله أعلم.(2/79)
وسئل رضي الله عنه عمن رهن ناقة ثم توفي عن ذكر وبنتين فأراد المرتهن حلبها فهل له أكل لبنها وهل إذا عاوضه الولد بولدها أو نصفها عن دينه الذي في جهة المتوفي يسري على أخواته أم لا؟. فأجاب: يحرم على المرتهن أن يتناول شيئاً من لبن الناقة من غير رضا الورثة المذكورين، وإذا أعطاه الولد ولدها أو نصفها عن دينه صح فيما يملكه بما يلزمه من الدين إن عرفا ذلك، وكذا يصح فيما تملكه أختاه إن كان وصياً عليهما وكان في ذلك مصلحة فإن لم يعرفا ذلك أو لم يكن وصياً أو لم يكن مصلحة لم يصح التعويض المذكور، والله أعلم.
وسئل رضي الله عنه ادعى زيد أنه رهن رهناً عند عمرو في شيء معلوم فأنكر عمرو الرهن وقال إنه لبكر وهو الراهن له فأنكر بكر فهل لزيد تحليف عمرو أنه ما رهن عنده ذلك الرهن وإذا حلف فهل لبكر مع سبق إنكاره مطالبة عمرو بالرهن لإقراره له به أم لا؟. فأجاب بقوله: نعم لزيد تحليف عمرو كما ذكر وليس لبكر استحقاق في الرهن لإنكاره إلا إذا أقر له به عمرو ثانياً وصدقه ثم إذا بطل تعلق زيد وبكر بالرهن لما ذكر، فإن أثبت المرتهن أنه رهن دام بيده أو باعه القاضي ووفاه دينه بشروطه وإن لم يثبت ذلك انتزعه القاضي منه وحفظه إلى أن يظهر مالكه ولا يبقيه بيد المرتهن وليست هذه الصورة كالصورة التي وقع فيها تناقض في الروضة في جواب الدعوى وتعارض البينتين كما هو ظاهر لمن تأمل تلك أي في محليها المذكورين مع هذه ومع كلامهم في باب الإقرار، والله أعلم.(2/80)
وسئل في شخص عليه دين شرعي رهن فيه جميع داره، ثم أقر بعد الرهن المذكور لبعض ورثته ببعض الدار المرتهنة ثم توفي، فدفع أحد ورثته من ماله الدين الذي على والده المذكور بغير إذن بقية الورثة فهل له الرجوع به عليه لثبوته إذا حازوا شيئاً من التركة أو على تركته أو على الدار المرتهنة أو على الجميع ليأخذه مما شاء فإذا انفك الرهن بالدفع المذكور هل يبطل الإقرار المذكور أم لا يبطل ويصح الإقرار لبعض والباقي للورثة أم لا؟. فأجاب: لا رجوع للوارث بما أداه على بقية الورثة ولا على الدار المرهونة لتبرعه بالأداء عنهم من غير إذنهم وينفك رهن الدار بالدفع المذكور بعد انفكاكها يستحق المقر له ببعضها ذلك البعض وباقيها لجميع الورثة.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل رضي الله عنه عمَن لا يجوز إعتاقه إلا بإذنه ما صورته؟. فأجاب بقوله: أن يكون له على سيده دين فيرهنه نصفه، والله تعالى أعلم.(2/81)
وسئلت عن قول المنهاج فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان قال في الشرح بعد كلام يستثنى منه مسائل طرداً وعكساً ولم يبين ما هي؟. فأجبت بقولي: قولهم فاسد كل عقد كصحيحه في الأمانة والضمان، يستثنى من كل منهما مسائل فما استثني من الأول الشركة فإن كلا من الشريكين لا يضمن عمل الآخر مع صحتها ويضمنه مع فسادها وهذه فيها تجوز، إذ عدم ضمان العمل في الصحيحة لا يسمى أمانة كما هو جلي، فالتعبير بضمانا وعدمه أحسن من التعبير بأمانة وضماناً كما بينته في شرح الإرشاد مع الرد على شارحه في عكسه كذلك ومن ذلك الرهن والإجارة إذا صدرا من متعدَ كغاصب فتلفت العين في يد الغاصب أو المرتهن أو المستأجر، فإن للمالك تضمينه وإن كان القرار على المتعدي مع أنه لا ضمان في صحيح الرهن والإجارة ومما يستثنى من الثاني قول المالك قارضتك على أن الربح كله لي فهو قراض فاسد ولا أجرة للعامل وقول المساقي ساقيتك على أن الثمرة كلها لي فإنه كالقراض في الفساد وعدم استحقاق أجرة كما بينته في شرح الإرشاد وعقد الجزية من غير الإمام فإنه فاسد ولا جزية على الذمي وعرض العين المكتراة على المكتري إذا امتنع من قبضها لي مضي المدة فإن الأجرة استقرت عليه ولو كانت الإجارة فاسدة لم تستقر والمساقاة على ودي مغروس أو ليغرسه ويتعهده مدة والثمرة بينهما وقدر مدة لا تتوقع فيها الثمرة فإنها فاسدة ولا أجرة للعامل بخلاف ما إذا ساقاه على ودي يغرسه ويكون الشجر بينهما فإن الأوجه أنه يستحق أجرة المثل لدخوله طامعاً في شيء لم يحصل له، ومحل الضابط المذكور إذا صدر العقد من رشيد فلو صدر من غيره ما لا يقتضي صحيحه الضمان كان مضموناً.(2/82)
وسئل رضي الله عنه عن الرهن على الكتب الموقوفة كما جرت به العادة هل يصح؟. فأجاب بقوله: الذي صرحوا به أن من شرط المرهون به كونه ديناً ومقتضاه بطلان ذلك كغيرها من الأعيان وبه صرح الماوردي لكن أفتى القفال فيما إذا وقف كتاباً أو غيره وشرط أن لا يعار إلا برهن بلزوم هذا الشرط ولا يعار إلا برهن، وبحث فيه السبكي بما حاصله أنه إن عنى الرهن الشرعي فلا يصح الرهن أو اللغوي، وأراد أن يكون المرهون تذكرة صح وإن لم يعلم مراده فيحتمل بطلان الشرط حملاً على الشرعي، ثم لا يجوز إخراجه بالرهن لتعذره ولا بغيره إما لأنه خلاف شرط الواقف وإما لفساد الاستثناء فكأنه قال لا يخرج مطلقاً ولو قال ذلك صح، لأنه غرض صحيح لأن إخراجه مظنة ضياعه، ويحتمل صحة الشرط حملاً على المعنى اللغوي قال وهذا هو الأقرب تصحيحاً للكلام ما أمكن اهـ، واعترض الزركشي قوله الأقرب صحته وحمله على اللغوي، لأن الأحكام الشرعية لا تتبع اللغة وكيف يحكم بالصحة مع أنه لا يجوز له حبسه شرعاً، وأي فائدة في الصحة حينئذ اهـ، وقد يجاب بأن تسميته رهناً مع كون المرهون به عيناً تدل على قصده للرهن بالمعنى اللغوي لا الشرعي، وحينئذ فما قاله السبكي متجه ويكون الواقف شرط لجواز الانتفاع بالموقوف شرطاً وهو وضع عين عند الناظر أو غيره إلى انقضاء غرضه توثقة وأمناً من التفريط في ضياعه وهذا معنى صحيح يقصد شرعاً فوجب إتباع شرطه، وبه يعلم رد تضعيف بعضهم لما قاله القفال بأن الراهن أحد المستحقين والراهن لا يكون مستحقاً وبأن المقصود بالرهن الوفاء من ثمن المرهون عند التلف وهذا الموقوف لو تلف بلا تعد ولا تفريط لم يضمن.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279(2/83)
وسئل عن قولهم لا يجوز بيع المرهون بدون إذن المرتهن هل يستثنى منه شيء؟. فأجاب بقوله: عللوا ذلك بأنه يفوّت الوثيقة ومنه يؤخذ أنه لو كان المرهون مستعاراً من مالكه فاشتراه منه الراهن جاز وإن لم يأذن المرتهن في ذلك لأنه لم يفوت لوثيقة بل أكدها بكون المرهون صار على ملكه الأقوى من كونه مستعاراً له.
وسئل عمن استعار أباه أو ابنه من مورثه كعتيقه ورهنه بدين عليه هل يصح؟. فأجاب بقوله: قضية إطلاقهم الصحة فإن قلت بل قضية بطلان رهن المعلق عتقه بصفة يمكن سبقها حلول الدين البطلان هنا أيضاً تنزيلاً للقرابة منزلة تعليق العتق ولدخول المرهون في ملك أصله مثلاً منزلة وجود الصفة، قلت يفرق بينهما بأنه ثم جرى سبب العتق وهو التعليق ولم يجر هنا للعتق سبب أصلاً، إذ سببه موت المورث المقتضي لدخوله في ملك الراهن وعتقه بالقرابة وهذا لم يوجد بعد فتنزيل القرابة منزلة التعليق غير صحيح، إذ القرابة قبل الدخول في الملك ليست سبباً أصلاً، وإذا بطل تنزيل القرابة منزلة التعليق بطل تنزيل الدخول في الملك منزلة وجود الصفة ثم هذا كله إنما يتأتى إن قلنا أنه إذا مات المورث ودخل المرهون في ملك الراهن يعتق مطلقاً أو إن كان موسراً لا معسراً كإعتاق الراهن للمرهون وكل من هذين محتمل ويحتمل أنه لا يعتق مطلقاً رعاية لحق المرتهن وعليه فيتعين الجزم بالصحة، والفرق حينئذ بينه وبين المعلق عتقه بالصفة المذكورة واضح، فإن قلت ما الأوجه من هذه الاحتمالات الثلاث، قلت الأوجه هو الثاني وهو أنه يعتق عليه إن كان موسراً لا معسراً لأنه إذا كان إعتاقه لا ينفذ إلا مع يساره فالإعتاق القهري عليه أولى ونفوذه مطلقاً أقرب من عدم نفوذه مطلقاً وأقرب منهما التفصيل المذكور كما تقرر.(2/84)
وسئل عن شخص مات وخلف ميراثاً وورثة ومن جملة الميراث جارية فأعتق بعض الورثة نصيبه منها قبل وفاء الدين والمعتق موسر، وفي بقية الميراث ما يفي بالدين فهل يصح العتق ويسري أم لا؟. فأجاب بقوله: أفتى الشمس ابن اللبان بأنه يعتق ويسري كما لو أعتق المالك عبده المرهون قال بل أولى بالنفوذ، لأن الرهن قهري من الشارع فهو نظير بيع المالك المال الزكوي، إذا قلنا إن تعلق الزكاة به تعلق الرهن فإن المذهب الصحة وإن منعنا صحة عتق الراهن للمعنى المشار إليه اهـ. وأفتى النجم البالسي بأنه لا يصح العتق وإن قل الدين قال لأنا وإن قضينا بأن الدين لا يمنع انتقال الملك في التركة إلى الورثة أبطلنا تصرف الورثة فيها قبل قضاء الدين على المرجح اهـ، والأول هو المذهب كما في الروضة وإنما يبطل تصرف الورثة حيث لم يكن هناك خلف ويسار المعتق خلف أي خلف وحينئذ فعليه أقل الأمرين من الدين وقيمة الجارية كإعتاق الجاني.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل إذا باع عدل الرهن فبعد انقضاء الخيار تبين زيادة راغب في زمنه هل يتبين الفسخ؟. فأجاب بقوله: الظاهر كما قاله بعض المتأخرين عدم الانفساخ، إذ لا تقصير منه حينئذ.(2/85)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته ذكر جماعة أنه إذا كان للوارث على الميت دين سقط منه بقدر إرثه حتى إذا كان حائزاً سقط الجميع واستدرك عليهم السبكي وصوّب أن يقال يسقط من دينه ما يلزمه أداؤه من ذلك الدين لو كان لأجنبي وهو نسبة إرثه من الدين إن كان مساوياً للتركة أو أقل وما يلزم الورثة أداؤه من ذلك إن كان أكثر ويستقر له نظيره من الميراث ويقدر أنه أخذ منه ثم أعيد إليه عن الدين وهذا سبب سقوطه وبراءة ذمة الميت منه ويرجع على بقية الورثة ببقية ما يجب أداؤه على قدر حصصهم وقد يفضي الأمر إلى التقاضي إذا كان الدين لوارثين اهـ، واعترض بعضهم كلام السبكي ، وبعضهم قال: لا فرق بين عبارته وعبارة من غلطهم فالقصد بسط ذلك بأمثلة وبيان الحق فيه بسطاً شافياً؟. فأجاب: بأن الصواب ما قاله السبكي واعترضه بعضهم فقال صوابه نسبة إرثه من التركة لا من الدين وكأنه أراد بذلك الفرار من إطلاق الإرث من الدين وعليه فكان يتعين عليه أن يزيد لفظ الدين بعد كان من كلام السبكي فيقول إن كان الدين الخ، وعلى تسليم ما ذكره فهو لا يعبر عنه بالصواب، إذ غاية ما في كلام السبكي أنه تجوّز في العبارة ولعل إيثاره له لما فيه من الإشارة إلى ما اعترض به والتفاوت بين عبارته وعبارة من اعترض عليهم ظاهر، ونقل عن الفتى أنه قال مراد الجماعة بقولهم يسقط منه بقدر إرثه منه أي مثله فإن كان عشرة سقط عشرة وعلى هذا سواء أكان بنسبة إرثه أم لا؟ ومراد السبكي أن الساقط إنما هو بالنسبة فيسقط ثمن الدين إن ورث ثمن التركة وعلى هذا والفرق بينهما أن الدين لو كان ستة عشر مثلاً والتركة اثني عشر فعلى الأول يسقط درهم ونصف، لأنه قدر إرثه من التركة وعلى الثاني يسقط درهمان لأنهما نسبة إرثه وهو الثمن وهما ثمن التركة اهـ، واعترض بأنه إن كان مراده بقوله بقدر إرثه منه أي من الدين فهذا ما ذكره السبكي لكنه قيده بما إذا كانت التركة مثل الدين أو أكثر منه وإن كان(2/86)
مراده بقدر إرثه منه أي بقدر ما يرثه من تركة الهالك حتى إذا ورث منه عشرة سقط من دينه عشرة وهكذا في الأقل والأكثر فهو ظاهر الفساد، فإنه يقتضي أنه لو كان الوارث اثنين ولأحدهما خمسون والتركة مائة سقط دينه جميعه ولا قائل به، وليس مراد
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
السبكي ما مر عن الفتى مطلقاً بل إن كان الدين مثل التركة أو أقل فإن كان أكثر كالمثال الذي ذكره في الستة عشر والإثني عشر وارث الدائن ثمن التركة، فمقتضى كلام الجماعة أنه يسقط من الدين درهمان بل قضية ما حكاه السبكي عنهم سقوطها وإن لم يخلف تركة أصلاً، لأنهما من الدين نسبة إرث صاحبه من الهالك وهو معنى قولهم يسقط من دينه بقدر إرثه، ومراد السبكي باعتراضه أنه إذا لم يكن تركة لم يسقط شيء من دين الوارث، إذ لا يجب على الورثة حينئذ قضاء شيء من الدين لو كان لأجنبي وإن كانت تركة وهي أقل وجب عليهم أن يقضوا من دين الأجنبي بقدرها فقط، والزائد على قدرها في ذمة الميت فإن كان الدين لوارثه في هذه الحالة سقط من دينه ما يجب على ذلك الوارث أداؤه لو كان لأجنبي فإذا كانت الستة عشر المذكورة لمن ورث الثمن والتركة اثنا عشر وجب على الورثة أن يقضوا من الدين اثني عشر فقط ويبقى لصاحبه أربعة في ذمة الميت فيسقط من دين صاحب الثمن حصته من اثني عشر وهو درهم ونصف، وهذا مراد السبكي بقوله وما يلزم الورثة أداؤه إن كان، أي الدين، أكثر من التركة أي والساقط من دين الوارث جزء نسبته إليه كنسبة إرثه إليه إن لم يكن أكثر من التركة وإلا فالساقط جزء نسبته إليه كنسبة إرث صاحبه من القدر الذي يجب على الورثة أداؤه لو كان لأجنبي، والواجب أداؤه حينئذ هو قدر التركة وبما تقرر ظهر التفاوت بين عبارة السبكي والجماعة، ومما يزيده إيضاحاً أنه لو مات عن اثنين وعليه ثمانون ديناراً عشرون لأحد ابنيه وستون لأجنبي وتركته ثمانية دنانير فقط كان للابن الدائن(2/87)
منها ديناران حصته من توزيع الثمانية بينه وبين الأجنبي على نسبة دينهما فدينار منهما عليه ودينار منهما على أخيه فيسقط الذي عليه من دينه ويستقر له من التركة ثمنها ويبقى من حصته منها وهي النصف ربع وثمن في معنى المرهون حتى يؤدي للأجنبي ما يجب عليه أداؤه من دينه وهو ثلاثة دنانير، هذا مقتضى كلام السبكي . قال بعضهم: وفي سقوط الدينار المذكور من دين الابن واستقرار ثمن التركة له قبل أن يتسلط الأجنبي على ثلاثة دنانير من دينه نظر لا يخفى، ولعل مراده باستقرار نظير ما سقط من دين الوارث ما إذا لم يكن دين لأجنبي اهـ، وما ذكره محتمل، ويحتمل تقرير كلام السبكي على مقتضاه المذكور ولا محذور في ذلك والفرق بينه وبين نظائره ممكن.
وسئل إذا مات مديون ودائنه غائب مفقود الخبر أو معلومه ولم يجد وارثه قاضياً أميناً فهل إفرازه قدر حصة الدين يبيح له التصرف وهل له حيلة غير ذلك؟ وكذا فيما إذا وجب عليه الحج؟. فأجاب بقوله: حيلته في الحج أن يبادر بالاستئجار ويسلم الأجرة إلى الأجير ثم يتصرف، وأما في وفاء دين الغائب فلا حيلة له إلا الدفع إليه أو إلى من يقوم مقامه، وقول بعضهم حيلته أن يحكم عدلاً في ذلك فيفرز له قدر حقه فإن لم يجد قاضياً ولا محكماً كفى إفراز عدل فإن لم يجد عدلاً تصرف وضمن النقص غير سديد، إذ شرط التحكيم رضا المتحاكمين ولم يوجد وأيضاً فأموال الغائبين والمفقودين إنما يحفظها ويستنيب في حفظها الحاكم دون غيره فحينئذ لا يجوز التصرف مطلقاً حتى يدفع للمستحق أو من يقوم مقامه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن وضع المرتهن المرهون في حرز مشترك بينه وبين أمين فسرق هل يضمنه؟. فأجاب بقوله: حيث كان المرتهن مختصاً باليد فأزالها عنه كان وضعها في الحرز المذكور ضمن.(2/88)
وسئل رضي الله عنه عن قول شيخ الإسلام زكريا في شرح الروض: ولا ينفك شيء من الرهن ما بقي شيء من الدين إلا إن تعدد العقد أو مستحق الدين. قال الشيخ: كان رهن عبداً من اثنين بدينيهما عليه صفقة واحدة وإن اتحدت جهة دينيهما كبيع وإتلاف ثم برىء عن دين أحدهما وهذا يشكل بأن ما أخذه أحدهما من الدين لا يختص به بل هو مشترك بينهما فكيف تنفك حصته من الرهن بأخذه ويجاب بأن ما هنا محله إذا لم تتحد جهة دينيهما أو إذا كانت البراءة بالإبراء لا بالأخذ اهـ، فقوله محله الخ ينافي قوله أولاً كالروضة وإن اتحدت جهة دينيهما وينافي قول الأصل وفي وجه إن اتحدت جهة دينيهما لم ينفك شيء بالبراءة عن أحدهما وإنما ينفك إذا اختلفت الجهة والصحيح الانفكاك مطلقاً فما الجواب عن ذلك؟. فأجاب بقوله: لا منافاة لأن قوله أولاً وإن اتحدت جهة دينيهما إنما ذكره ليبين شمول المتن له حتى يطابق عبارة أصله وليتوجه الإشكال الذي ذكره ثم سلك في الجواب عنه طريقين الأولى تخصيص ما هنا بالصورة المتفق عليها، وهي إذا لم تتحد الجهة وحينئذ لا يتوجه الإشكال أصلاً الثاني سلمنا أن ما هنا عام في الاتحاد وعدمه، لكن محله ما إذا كانت البراءة بالإبراء، وحينئذ فلا يتوجه الإشكال أصلاً إذ لا أخذ هنا حتى يقال إن المأخوذ مشترك بينهما، أما إذا كانت البراءة بالأداء فالمعمول به صريح كلامهم في غير هذا المحل من أنه مشترك بينهما فلا تنفك حصة أحدهما من الرهن ولا ينافي ذلك كلام الروضة المذكور لأن الوجه ضعيف، إنما فرض كلامه في البراءة لا في الأداء، ومعنى قولهم والصحيح الانفكاك مطلقاً أي سواء اتحدت الجهة أم اختلفت في صورة البراءة لا في صورة الآداء بدليل قولهم أن ما يؤخذ مشترك بينهما.(2/89)
وسئل رضي الله عنه عن قول الشيخ زكريا في شرح الروض أيضاً ولا ينتقل المرهون إلى عدل أو فاسق آخر إلا إن اتفقا أي العاقدان، على ذلك وإن حدث به فسق ونحوه وتنازعا فيمن يكون عنده نقله الحاكم عند من يراه. قال ابن الرفعة : هذا إذا كان الرهن مشروطاً في بيع وإلا فيظهر أن لا يوضع عند عدل إلا برضا الراهن لأن له الامتناع من أصل الاقباض فهل ما بحثه ابن الرفعة معتمد أو لا؟. فأجاب بقوله: ما بحثه ابن الرفعة فيه نظر لأن ما ذكره من علته في محل المنع وذلك لأنه إن أراد أن له الامتناع في الأصل لم يفد لأنه ليس له امتناع الآن وإن أراد أن له الامتناع الآن فهو مخالف لصريح كلامهم، إذ يد العدل ليست نائبة عن يد الراهن فقط بل عن يد الراهن والمرتهن بدل قولهم للعدل رده إليهما لا إلى أحدهما إلا بإذن وإلا ضمنه إن تلف ببدله ورده إلى المرتهن ليكون رهناً مكانه فهذا صريح في لزوم الرهن وامتناع الراهن من الرجوع فيه، فظهر أن كلام ابن الرفعة غير صحيح لتعليله ما بحثه بما لا يجدي إن أراد المعنى الأول أو مخالف لصريح كلام الأصحاب إن أراد المعنى الثاني.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279(2/90)
وسئل رضي الله عنه عن قول الشيخ زكريا أيضاً في شرح قول الروض أرش المرهون وقيمته إن ضمن رهن ولو كان في ذمة الجاني، ثم محل كون ما ذكر رهناً في الذمة إذا كان الجاني غير الراهن وإلا فلا يصير مرهوناً إلا بالغرم كما يؤخذ مما مر فيما إذا لزمه قيمة ما أعتقه، إذ لا فائدة في كونه مرهوناً في ذمته بخلافه في ذمة غيره اهـ. قال في الخادم: وكأن الفرق أنه بالإتلاف صار فاسخاً للعقد فلا بد عند أخذ بدله من تجديده بخلاف إتلاف الأجنبي فهل ذلك كله معتمد؟. فأجاب بقوله: عبارة الروض فيما إذا لزمه قيمة ما أعتق إذا أعتق الموسر مرهوناً مقبوضاً عتق في الحال وغرم قيمته وتصير رهناً وهي محتملة لصيرورتها رهناً في ذمته قبل الغرم ولكونها لا تصير إلا بعده لأن وضع العطف بالواو ذلك، لكن قال الشارح وتصير من حين غرمها فحمله على الثاني فإن كان مستند الحمل المذكور عدم الفائدة كما ذكره في المسألة الثانية فممنوع فيهما، إذ يتصور له فائدة أي فائدة وهي ما لو حجر على الراهن بفلس بعد العتق أو الإتلاف وقبل غرم القيمة فيقدم المرتهن بقدر قيمة المرهون على الغرماء لأنها بدل المرهون الذي لولا إتلافه لقدم به فليقم بدله وإن كان في ذمته مقامه فكان للحكم عليها في ذمته بكونها رهناً فائدة تعود على المرهون بمصلحة أي مصلحة بل هذه أعظم من فائدة كونها رهناً في ذمة الجاني الأجنبي، فإن الفائدة هي أن المرتهن يتعلق بها إذا قبضها الراهن منه ولو حكمنا بأنها لا تصير مرهونة إلا بقبضه لها لم يترتب عليه ضياع حق المرتهن بخلافه في مسألتنا، فإن الحكم فيها بذلك يترتب عليه ضياع مجموع حق المرتهن بمحاصة الغرماء فيها في صورة الحجر التي ذكرناها وإن كان مستند الحمل كلام الأصحاب فهو وإن كان معتمداً لكنه مشكل بما قررناه وما فرق به في الخادم مما ذكر في السؤال ممنوع فإنه مجرد دعوى.(2/91)
وسئل رضي الله عنه عن امرأة رهنت مصاغاً عند امرأة أخرى بمبلغ معلوم على أن تلبس ذلك المصاغ ما دام الدين في ذمتها فلبست المرتهنة ذلك المصاغ مدة من الزمان ثم تلف منها بغير تقصير فهل يلزمها قيمة المصاغ أم لا؟. فأجاب بقوله: يلزمها قيمة المصاغ مطلقاً سواء أتلف بتقصير أم غيره.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل عن إنسان رهن عند آخر رهناً على مبلغ معين فتسلم المرتهن ذلك ودفعه لفتاه ليدخله في حاصل لسيده فأدخله الفتى في حاصل سيده بحضوره وطريقة هذا السيد أنه إذا أراد أن يدخل شيئاً إلى حاصله أو يخرج شيئاً منه يتعاطى ذلك جميعه من يد هذا الفتى ومع ذلك لم يفارق سيده مفتاح الحاصل والجميع بحضوره ثم لم يشعر إلا وقد غيب الفتى بالإباق فتفقد السيد حاصله وأمتعته فإذا بالفتى قد اختلس منه أعياناً ونقداً، ومن جملة ذلك الرهن المذكور فجاء صاحب الرهن وطلب رهنه بعد إباق الفتى فقال له السيد قد ودّاه الفتى معه وراح وهذه لغة أهل بلدة السيد وقصد بوداه الفتى معه وراح أي اختلسه وأبق به فلما سافر المرتهن المذكور إلى بلدة غير البلدة التي اختلس منها ما ذكر ادعى على وكيله وأقام بينة على المرتهن أنه لما طلب منه الرهن قال ودّاه الفتى معه وحمل الحاكم والشهود قول السيد ودّاه على أنه أعطاه للفتى وحكم القاضي على الوكيل باللزوم ودفعه من مال موكله قيمة هذا الرهن، والحال أنه ما قصد بودّاه إلا اختلسه الفتى فهل القول قول السيد على قصده الذي قصده إذا كان ذلك مصطلح لغة أهل بلدته أم لا؟. فأجاب بقوله: يد المرتهن على الرهن يد أمانة، فإذا تلف من عنده بغير تفريط منه لم يضمنه ولا خفاء أن تمكين العبد الأمين من دخول محل المرهون ليس تقصيراً فإذا اختلسه من غير تقصير سيده لم يضمنه سيده ويقبل منه دعواه ذلك بيمينه، وإن قال وداه الفتى معه وراح لأن ذلك ليس إقراراً بأنه مكنه من أخذه لا لغة ولا عرفاً فحكم(2/92)
الحاكم الشافعي بما ذكر في السؤال باطل لا عبرة به.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عمن رهن عبده بدين آخر من غير إذنه فهل يصح؟. فأجاب بقوله: نعم يصح الرهن المذكور وكأنه ضمن الدين في عين معينة ذكره ابن الصلاح.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا ارتهن الكافر مصحفاً أو مسلّماً فهل يمكن من قبضه لصحة الرهن أو يقبضه له الحاكم؟. فأجاب بقوله: يقبضه له الحاكم ولا يمكن من قبضه أصلاً أخذاً من قولهم لو أسلم الكافر المبيع قبل قبضه لم يقبضه بل يقبضه له الحاكم، فإن قلت يمكن الفرق بأن الملك في مسألة الرهن للراهن فليس في وضع الكافر يده لمجرد صحة القبض إهانة ولا إذلال بخلافه في البيع فإن الملك له ففي وضع يده ذلك قلت ممنوع بل المسألتان على حد سواء إذ لا إهانة ولا إذلال في وضع اليد فيهما بمجرد القبض، وإنما منع من ذلك صوناً لهما عن الدخول في يده وإن انتفى ذلك على أن لك أن تدعي عدم انتفائه إذ مجرد وضع يده إهانة وإذلال في الجملة فمنع منه طرد للباب.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ إذا أتلف المرتهن الرهن ثم أبرأ الراهن المرتهن من ذلك فهل تصح البراءة أم لا؟ ولو رهنه المرتهن بإذن الراهن بعد لزوم الرهن فهل يصح أم لا؟. فأجاب بقوله: إذا علم المالك ما لزم ذمة المتلف من مثل أو قيمة صح إبراؤه منه وإلا فلا، ويصح الرهن فيما ذكر أخذاً من قولهم بيع المرهون أو رهنه أو هبته من المرتهن صحيح سواء ابتدأ الراهن بالإيجاب أم لا ويكون فسخاً للرهن، لأن قبول المرتهن لذلك مستلزم لرضاه بالفسخ فكذا في صورة السؤال رهنه من غيره المأذون له فيه من الراهن مستلزم لرضاهما بالفسخ فيكون فسخاً.(2/93)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رجل رهن أمته بدين معلوم فحبلت منه بوطء حال الرهن بغير إذن المرتهن وهو معسر فبيعت لقضاء دين المرتهن ثم انتقلت إلى ملك الراهن بالإرث من مورثه وكان على مورثه دين يستغرق جميع التركة التي من جملتها الجارية المذكورة فهل تباع في دين الميت أو لا؟ وهل فرق بين أن يكون وارثه موسراً أو معسراً أم لا؟. فأجاب بقوله: الظاهر بيع الأمة المذكورة في دين الميت وإن كان الوارث موسراً لأنه وإن ملكها بالإرث لكنه ملك محجور عليه فيه، لأن التركة مرهونة بالدين وإن أيسر الوارث إذ لا يلزمه قضاء الدين من غيرها وإذا ملكها ملكاً محجوراً عليه فيه لم يمكن نفوذ الإيلاد حينئذ لأنه يلزم عليه ضياع أهل الدين وبقاء ذمة الميت مشغولة بدينه مع تفويت ملكه التام عليه بما لا يعود عليه منه مصلحة ولا كان سبباً فيه، فإن قلت لم لم تعتق على الوارث الموسر ويلزمه قيمتها لأهل الدين لأنه تسبب في عتقها بسبق إيلاده لها، قلت ذلك الإيلاد قد بطل حكمه ببيعها أولاً ما دامت خارجة عن ملكه وانتقالها إلى ملكه بالإرث مع كونها مرهونة بدين الميت كخروجها عن ملك الوارث لما تقرر أنه يلزم من عتقها عليه محذور وهو إما ضياع أهل الدين إن لم يلزم الوارث بشيء وكذا بقاء شغل ذمة الميت وضياع ملكه عليه من غير فائدة تعود عليه مع كونها مرهونة به، وإما تكليف الوارث بدل قيمتها مع انقطاع حكم الإيلاد إلى الآن ولو لزم ذلك للزمه إذا أيسر أن يشتريها لتعتق عليه فكما أنهم لم يلزموه بهذا بوجه نظراً إلى خروجها عن ملكه فكذا لا يلزمه بذل القيمة في مسألتنا حتى تعتق نظراً إلى أن تعلق دين الميت برقبتها صيرها كالخارجة عن ملكه بجامع عدم نفوذ تصرفه فيها، فإن قلت عتق الوارث الموسر لقن التركة جائز وإن تعلق بها دين وتلزمه قيمته فنفذ تصرفه فلم لا يلزمه ذلك هنا، قلت بين المتبرع والملزم فلا يلزم من صحة تبرعه بالعتق وتوطينه نفسه على بذل القيمة تبرعاً أنا(2/94)
نلزمه ببذل القيمة في مسألتنا مع عدم ظهور سبب يقتضي التزامه بذلك هذا ما يظهر في هذه المسألة وهو جلي من قواعدهم ومداركهم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن عين مرتهنة في دين شرعي وامتنع الخصم من الأداء أو مات أو غاب هل للحاكم الشرعي جبره أو وارثه أو وكيله على بيع العين المرتهنة أو على بيع غيرها من ماله الحاضر أو الغائب ليوفي دين خصمه بعد استيفائه الوجوه الشرعية إذا امتنع فلو قال كل ممن ذكر لا يباع في دينه إلا العين المرتهنة فقط هل يسمع قوله أم لا؟ ويبيع الحاكم ما شاء من أمواله وإذا امتنع أيضاً كل ممن ذكر من الأداء هل يحبس إلى أن يبيع أو يبيع الحاكم من غير حبس أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب إذا كان بالدين رهن وضامن فللمرتهن طلب الوفاء من أيهما شاء وإن كان به رهن فقط فله طلب بيعه أو قضاء دينه إن حل فإذا بيع المرهون ولم يتعلق برقبته جناية قدم المرتهن بثمنه على سائر الغرماء، وعلم من طلبه أحد الأمرين ما في النهاية، ونقله ابن الرفعة عن الأصحاب أن للراهن أن يختار البيع والتوفية من ثمن المرهون وإن قدر على التوفية من غيره ولا نظر لهذا التأخير وإن كان حق المرتهن واجباً على الفور، لأن تعليقه الحق بعين الرهن رضا منه باستيفائه منه وطريقه البيع، ولا ينافي ذلك تعلق حق المرتهن بغير الرهن أيضاً لأن معناه أن المرهون قد لا يوفي ثمنه الدين أو يتلف من غير تقصير فيجب الوفاء من بقية مال الراهن ولا ما يأتي من إجباره على الأداء أو البيع، لأنه بالنسبة للراهن حتى يوفي مما يختار لا بالنسبة للمرتهن حتى يجبره على الأداء من غير الرهن، وإذا طلب منه أحد الأمرين فامتنع أجبره الحاكم على أحدهما بالحبس وغيره فإن أصر على الامتناع باع الرهن عليه بعد ثبوت الدين وملك الراهن والرهن وكونه في محل ولايته وقضى الدين من ثمنه، ويفرق بين توقف الحاكم هنا على الإصرار وجواز بيعه(2/95)
لمال المفلس مطلقاً بأن الحجر ثم أوجب كون القاضي نائباً عنه قبل البيع فجاز له أن يتولاه مطلقاً بخلاف الرهن فإنه لا يقتضي ذلك فلم يثبت للقاضي ولاية بيعه إلا بعد الانفساخ وإذا أقام المرتهن حجة بالدين وملك الراهن وبالرهن في غيبة المرتهن باعه الحاكم ووفى من ثمنه، وظاهر أنه لا يتعين بيعه هنا وفيما مر إلا إذا لم يجد له ما يوفي الدين من غيره أو كان بيعه أصلح ولو باعه المرتهن عند العجز عن استئذان الراهن والحاكم صح ووكيل الراهن أو المرتهن كهو فيما ذكر فيه ووارث الميت مثله فيما ذكر أيضاً، نعم إن مات وعليه دين لغير المرتهن فاز المرتهن بقيمة رهنه وما فضل له يضارب به مع الدائنين، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيما إذا شرط البائع على المشتري رهناً في صلب العقد ويكون العين المبيعة فإذا قلتم بعدم الصحة فإذا شرط عليه رهناً وأطلق ولم يعين العين المبيعة ولا غيرها، ثم إن المشتري أرهنه العين المبيعة هل يصح البيع ورهن العين المبيعة أو لا؟ أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب: لا يصح البيع بشرط رهن المبيع سواء أشرط أن يرهنه إياه قبل قبضه أم بعده، فإن رهنه بعد قبضه بلا شرط أو مع شرط مطلق الرهن صح البيع والرهن.(2/96)
وسئل عن حر مسلم صغير رهنه أبواه أو أحدهما أو قرابته لعدم ما ينفق عليه وليس هناك بينة فلما بلغ وأراد فراقه طالبه المرتهن بما أنفق عليه فهل عليه أن يؤدي شيئاً منه، والحال أنه لو لم ينفق هو لألجأت الحال إلى هلاكه أولاً، وإن قلتم لا فهل يجوز لأحد أن يصلح بينهما بإعطاء شيء ليتخلص من يده إذا لم يقدر القاضي على إجراء الحكم بغير أداء شيء أو لا؟. فأجاب بقوله: الرهن المذكور باطل، وأما ما أنفقه المرتهن عليه فإن كان بإذن الولي وشرط له الرجوع به عليه أو بإذن الحاكم رجع به عليه وإن كان لا بإذن أحدهما فإن كان الصغير غير مضطر فلا رجوع للمنفق على أحد وإن كان مضطراً فإن أطعمه ساكتاً فلا شيء له، وإن قال كان بعوض حلف المالك ورجع على الصغير إذا بلغ ولا يجوز الصلح عندنا على إنكار بل على إقرار فإذا وجد الإقرار وتوافقا على الصلح جاز للقاضي أن يقرهما عليه.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279(2/97)
وسئل بما لفظه: ما منشأ اختلاف السبكي وأهل عصره الذين استدرك عليهم ما هو مشهور عنه في دين الوارث الموجب لتفاوت المقالتين؟. فأجاب بقوله: يظهر التفاوت بينهما بالمثال فإذا كانت التركة ثمانين ودين الوارث الذي هو الصداق كذلك فهم يقولون يسقط من دين الوارثة فيما إذا خلف زوجة وابناً بنسبة إرثها الذي هو الثمن فسقط من دينها عشرة إذ هي التي يلزمها أداؤها لو كان الدين لأجنبي وحده فإذا أدتها كان لها التصرف وأما إذا كان لها فلا يحتاج إلى وقوع ترادّ من نفسها بل يسقط ثمن الدين بمجرد موت الزوج، إذ لا يعقل الحجر على الشخص في ماله ولو منعت من التصرف في ثمن التركة حينئذ لزم الحجر عليها في ملكها، إذ الدين لا يمنع الإرث فمن ثم قالوا يسقط ثمن الدين يعني أن لها التصرف في ثمن التركة لاستحالة الحجر على الإنسان في ملكه ولا تعلق لغيره، وأما هو فلا يخالفهم في ذلك بل فيما إذا كان دين الوارث أكثر من التركة كأن يكون ثمانين وهي أربعون، فظاهر كلامهم سقوط ثمن الدين وهو يقول الساقط من دين الزوجة ما يلزمها أداؤه لو كانت الثمانون لأجنبي وهو خمسة فقط فهي الساقطة من دينها ويقدر أنها أخذت منها ثم أعيدت لها من الدين وهذا أظهر من زعمهم سقوط الجميع، إذ لو كان لابنه الحائز عليه ثمانون والتركة أربعون فمقتضى قولهم أن يسقط الجميع لزعمهم أنه يسقط قدر إرثه وقدر إرثه جميع التركة وسقوط جميعه لا قائل به، وهو يقول إنما يسقط من دين الحائز أربعون لأنها التي يلزمه أداؤها لو كان الدين لأجنبي، إذ وجوب قضائه من التركة لا من خالص ماله، وإذا سقط من دينه أربعون بقيت ذمة المورث مشغولة بأربعين يلقي الله تعالى بها إذا لم يبرئه الوارث فإن كان أقل من التركة كأن يكون أربعين وهي ثمانون فهذه ومسألة استوائهما لا اختلاف فيها لأنه هو وهم يقولون في صورة الزوجة السابقة أن الساقط خمسة لا غير فلم يبق اعتراضه عليهم إلا فيما إذا كان الدين أكثر، وكلامه(2/98)
هو الحق وليس معنى السقوط السقوط من أصله حتى لا يجب إلا قضاء سبعة أثمان الصداق فإن هذا لا يقوله هو ولا هم بل سقوط يؤدي إلى صحة تصرف الوارث في مقدار إرثه لاستحالة الحجر عليه في قدر حصته مع أنه لا دين لغيره، فقول السبكي ويرجع على بقية الورثة بما يجب أداؤه محله فيما إذا تساويا كثمانين وثمانين فلها التصرف في عشرة لا في سبعين إلا أن أداها إليها الورثة لامتناع الاستقلال بالتصرف قبل الأداء من بقية الورثة فيما عدا حصتها وقد يفضي الأمر إلى التقاص فيما إذا كان الدين لوارثين كما إذا كان له ابنان لكل عليه أربعون فإذا كانت التركة ثمانين لم يحتج إلى أن يقضي أحدهما الآخر عشرين ويستبد الدائن بقبض عشرين لأنه إذا طالبه بعشرين طالبه الآخر بها بل يتصرف كل منهما في أربعين من غير أداء فاحفظ هذا فإنه مهم ومن ثم تعب بعضهم في تحريره كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279(2/99)
وسئل بما لفظه: ما منشأ اختلاف السبكي وأهل عصره الذين استدرك عليهم ما هو مشهور عنه في دين الوارث الموجب لتفاوت المقالتين؟. فأجاب بقوله: يظهر التفاوت بينهما بالمثال فإذا كانت التركة ثمانين ودين الوارث الذي هو الصداق كذلك فهم يقولون يسقط من دين الوارثة فيما إذا خلف زوجة وابناً بنسبة إرثها الذي هو الثمن فسقط من دينها عشرة إذ هي التي يلزمها أداؤها لو كان الدين لأجنبي وحده فإذا أدتها كان لها التصرف وأما إذا كان لها فلا يحتاج إلى وقوع ترادّ من نفسها بل يسقط ثمن الدين بمجرد موت الزوج، إذ لا يعقل الحجر على الشخص في ماله ولو منعت من التصرف في ثمن التركة حينئذ لزم الحجر عليها في ملكها، إذ الدين لا يمنع الإرث فمن ثم قالوا يسقط ثمن الدين يعني أن لها التصرف في ثمن التركة لاستحالة الحجر على الإنسان في ملكه ولا تعلق لغيره، وأما هو فلا يخالفهم في ذلك بل فيما إذا كان دين الوارث أكثر من التركة كأن يكون ثمانين وهي أربعون، فظاهر كلامهم سقوط ثمن الدين وهو يقول الساقط من دين الزوجة ما يلزمها أداؤه لو كانت الثمانون لأجنبي وهو خمسة فقط فهي الساقطة من دينها ويقدر أنها أخذت منها ثم أعيدت لها من الدين وهذا أظهر من زعمهم سقوط الجميع، إذ لو كان لابنه الحائز عليه ثمانون والتركة أربعون فمقتضى قولهم أن يسقط الجميع لزعمهم أنه يسقط قدر إرثه وقدر إرثه جميع التركة وسقوط جميعه لا قائل به، وهو يقول إنما يسقط من دين الحائز أربعون لأنها التي يلزمه أداؤها لو كان الدين لأجنبي، إذ وجوب قضائه من التركة لا من خالص ماله، وإذا سقط من دينه أربعون بقيت ذمة المورث مشغولة بأربعين يلقي الله تعالى بها إذا لم يبرئه الوارث فإن كان أقل من التركة كأن يكون أربعين وهي ثمانون فهذه ومسألة استوائهما لا اختلاف فيها لأنه هو وهم يقولون في صورة الزوجة السابقة أن الساقط خمسة لا غير فلم يبق اعتراضه عليهم إلا فيما إذا كان الدين أكثر، وكلامه(2/100)
هو الحق وليس معنى السقوط السقوط من أصله حتى لا يجب إلا قضاء سبعة أثمان الصداق فإن هذا لا يقوله هو ولا هم بل سقوط يؤدي إلى صحة تصرف الوارث في مقدار إرثه لاستحالة الحجر عليه في قدر حصته مع أنه لا دين لغيره، فقول السبكي ويرجع على بقية الورثة بما يجب أداؤه محله فيما إذا تساويا كثمانين وثمانين فلها التصرف في عشرة لا في سبعين إلا أن أداها إليها الورثة لامتناع الاستقلال بالتصرف قبل الأداء من بقية الورثة فيما عدا حصتها وقد يفضي الأمر إلى التقاص فيما إذا كان الدين لوارثين كما إذا كان له ابنان لكل عليه أربعون فإذا كانت التركة ثمانين لم يحتج إلى أن يقضي أحدهما الآخر عشرين ويستبد الدائن بقبض عشرين لأنه إذا طالبه بعشرين طالبه الآخر بها بل يتصرف كل منهما في أربعين من غير أداء فاحفظ هذا فإنه مهم ومن ثم تعب بعضهم في تحريره كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 279
باب التفليس(2/101)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجل أعسر وهو من ذوي البيوت والأعيان ورؤوس أهل الزمان فادعى عليه أحد دائنيه بدين صحيح شرعي لدى حاكم شرعي حنفي فالتمس الحاكم جوابه، فأجاب بأن الدين المدعى به متعلق بذمته حال عليه لكن ليس له قدرة على وفائه ولا على بعضه وإن قل وله بينة تشهد بإعساره فالتمس الحاكم المشار إليه منه البينة بينة إعساره وأحضر له فوق الثلاثة ممن يعرف حاله وإعساره فاستخار الله تعالى الحاكم المشار إليه وحكم بإعساره، والحالة هذه فهل لأحد من دائنيه الدعوى عليه سواء سمع أو لم يسمع وهل إذا سمع بالإعسار يجوز له أو لا وهل يبقى للمعسر دست ثياب يليق بحاله ومركوب ومسكن وخادم ونفقة عياله شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو أقل أو لا؟. فأجاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله: متى ثبت إعساره لم يجز لأحد حبسه ولا ملازمته ويباع في دينه مسكنه وخادمه ومركوبه وإن احتاج إليها وكذلك كتبه وبسطه وفرشه ويترك له الحقير من لبد وحصير ولباس لائق به وبمن تلزمه نفقته حتى الطيلسان ويزاد في الشتاء ما يقيه البرد ولو تعود فوق اللائق به رد إلى اللائق به أو تعود دون اللائق به لم يعط إلا ما تعوّد به ويترك له ولمموّله قوت يوم القسمة فقط فعلم أنه متى وجد مع المعسر مال أخذ منه وأعطى لغرمائه ولم يترك منه إلا ما ذكر ومنه قوت يوم القسمة لا أكثر من ذلك.(2/102)
وسئل عن قول الفقهاء أن القاضي يبيع مال المفلس ولو في غير ولايته واشترط بعضهم في بيع القاضي مال الممتنع أن يكون المال بمحل ولايته ولم يظهر للسائل الفرق بين المفلس والممتنع بل الممتنع أولى فهل ما اشترطه بعضهم من التفرقة بينهما موافق عليه أو لا أو يفرق بينهما بأن بيع القاضي مال الممتنع إذا كان المال في غير محل ولايته لا يفيد شيئاً مع قيام الامتناع، إذ الوفاء متوجه عليه قبل ذلك والامتناع موجود قبل البيع وبعده فلم يفد بيع القاضي لما كان في غير محل ولايته شيئاً؟. فأجاب بأن ما ذكر عن الفقهاء كأنه مأخوذ من قول الجواهر في باب الفلس باع الحاكم ماله وصرفه في دينه سواء كان ماله في محل ولاية هذا الحاكم أو في ولاية غيره، ومن تصريح ابن عبد السلام بذلك أيضاً وكذلك الأزرقي في شرحه للتنبه في باب الفلس فإنه قال، وقول الشيخ باع الحاكم ماله أي ولو كان ماله غائباً عن محل ولادة هذا الحاكم وهو كذلك على ما صرح به في فتاوى لقاضي حسين في كتاب النكاح اهـ، والذي في فتاوى القاضي أن المديون إذا كان حاضراً في البلد وامتنع من بيع ماله الغائب لقضاء الدين عنه عند الطلب باعه الحاكم لقضاء دينه وبهذا تعلم أن المفلس والممتنع حيث كانا حاضرين بالبلد ساغ للحاكم أن يبيع مالهما وإن لم يكن بمحل ولايته لما مر في الجواب الذي قبل هذا من أنه حيث كان المحكوم عليه حاضراً لم ينظر إلى محل ماله وحيث كان غائباً نظر إلى محل ماله فإذا كان بغير محل ولايته لم يبعه إلا إذا كان المالك حاضراً، وبهذا ظهر أنه لا فرق بين المفلس والممتنع وأن ما نقل في السؤال عن بعضهم في بيع القاضي مال الممتنع غير صحيح إلا أن يحمل على ما إذا امتنع ثم غاب فيبيع القاضي عليه حينئذ بشرط كون الممتنع بمحل ولايته، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 288(2/103)
وسئل عن مدين ملك جميع أملاكه هبة أو مجاناً لآخر أو أقر بها له وغالب الظن أن ذلك فرار من قضاء الدين ما الحكم؟. فأجاب بقوله: إذا لم يحجر عليه صح تمليكه وإقراره وإن غلب عليّ الظن ذلك بل وإن تحقق ولكنه يأثم بذلك ويعاقب عليه في الآخرة العقاب الشديد، والله أعلم.
رقم الجزء: 2 رقم الصفحة: 288
كتاب قرة العين
ببيان أن التبرع لا يبطله الدين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي غرقت في بحور سرمديته عقول الحكماء وترقت في نعوت صمديته علوم العلماء ولم يتحصل من معرفته أهل الأرض والسماء إلا على الصفات والأسماء (أحمده) حمد من عرف الحق لأهله فأقره في نصابه الأسما وطهر نفسه من حظها بوابل فضله فحفظ عن أن يضل عن جادة الطريق إلى مضايق بنيانه وشعابه المؤدية إلى الهلاك والظمأ (وأشكره) شكر معترف بترادف نعمه مغترف من بحار كرمه بما يحفظه عن مهاوي الحيرة والعما (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تدر على قائلها أخلاف النعما وتحفظه من الخلاف أبلغ الآداب بصريح أو أيما (وأشهد) أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أنار الله به دياجير الظلما لم اختصه به من أعظم الأفضال وأوضح البرهان وأكمل الأخلاق والسيما صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه القائمين بوراثته العظمى في حفظ الأموال والأعراض والدماء لا سيما عند اصطلام الآراء في الغويصات الدهما وعلى تابعيهم بإحسان الظاهرين على الحق الباقين في هذا العالم لإِنقاذ أهله من الضلال والعما (وبعد) فإنه قدم علينا سنة إحدى وستين وتسعمائة بمكة المشرفة زادها الله تشريفاً وتعظيماً السيد الجليل الشريف المعتقد المثيل محمد العيدروس الحسني العلوي الحضرمي ثم العدني فتوجهنا للسلام عليه وطلب دعائه ومدده أنا وصاحبنا الشيخ الإِمام العالم العلاّمة والحبر الهمام الحجة القدوة الفهامة عبد العزيز الزمزمي أدام الله به النفع العام للمسلمين ومتعهم(2/104)
بعلومه وفتاويه لا سيما أهل هذا البلد الأمين فقرأ علينا سؤالاً وجواباً في تبرع المدين لصاحبنا الإِمام العالم العامل والهمام الحجة القدوة الكامل وجيه الدين عبد الرحمن بن زياد مفتي زبيد المحروسة بل واليمن بأسره أدام الله علينا وعليه هواطل جوده وبره ثم سألنا أأنتم موافقون لهذا الإفتاء فكل منا بادر إلى إنكاره واستبعاده أداء للميثاق الذي أخذه الله تعالى على خواص عباده وهداة بلاده جعلنا الله من عدادهم المستمسكين بآثارهم في إيرادهم وإصدارهم فبلغه ذلك فألف تأليفاً على وفق إفتائه لكن فيه زيادة قيد كما ستعلمه وفيه أيضاً إشارة إلى أبلغ الرد على من خالفه بأنه جامد متعسف وبان ما ذكره هو الصواب وما عداه هو الخطأ وبغير ذلك فلما رأينا ذلك التأليف ما ازددنا إلا إنكاراً رجاء أن تنتظم في سلك الراجين لله وقاراً وهذا أعني عدم المحاباة في الدين حتى لاكابر المجتهدين هو دأب ساداتنا العلماء العاملين كما يعلمه من وقف على النهاية وأحاط بقولها هذه زلة من الشيخ مع بلوغه في الاجتهاد والولاية الغاية حتى قيل في ترجمته لو جاز أن يبعث الله نبياً في زمن أبي محمد الجويني لكان هو ذلك النبي ومن هنا قال بعض أكابر أئمتنا أن عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأمة التي أعظم الله بها عليهم النعمة حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين المؤدية إلى تحريف ما فيهما واندراس تينك الملتين فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلا بينوه ولا لفاعل فعلاً فيه تحريف إلا قوّموه حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها مأمونة من كيد الحاسدين وسفه الملحدين فضراعة إليك اللهم أن تديم لها ذلك على توالي الأعصار وأن تؤيد أهلها بدوام الجلالة الباهرة والحفظ من الأغيار إنك الجواد الكريم الرؤوف الرحيم وإذ قد تمهد هذا القدر الواضح للتفصي عن هذا الحكم(2/105)
اللائح علم أن لا عذر في السكوت عن الكلام فيه وبيان ما للعلماء في قوادمه وخوافيه فحينئذٍ سنح لي أن أكتب في ذلك ما اعتقد أنه الصواب الواجب بيانه والحق الصراح من حيث النقل الواضح برهانه فشرعت في ذلك ملقباً له (بقرة العين ببيان أن التبرع لا يبطله الدين) بعون الله وتوفيقه سائلاً من قبض فضله الواسع الهداية إلى سواء الحق وطريقه لا إله غيره ولا مأمول إلا بره وخيره وهو حسبي ونعم الوكيل وإليه الفزع في الكثير والقليل فقلت اعلم أن الاعتراض على كامل برد شاذة وقعت له لا يقدح في كماله ولا يؤذن بالاستهتار بواجب رعاية حقه وإفضاله إذ السعيد من عدت غلطاته ولم تكثر فرطاته وزلاته وكلنا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا المعصومين وليس الاختلاف بين العلماء العاملين مؤدياً لحقد بل لم يزالوا من ذلك مبرئين واعلم أيضاً أنه لا بدّ قبل الخوض في ذلك من حكاية ذلك الافتاء ليعلم ما الكلام فيه وهو ما قولكم في جماعة يظلمون الناس ويستلفون أموالهم فيطالبهم أهل الديون فيبادرون ويملكون أموالهم ويعتقون أرقاءهم حيلة لئلا يحصل لأهل الديون شيء فهل يصح تمليكهم وعتقهم الجواب أخرج البخاري حديث
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/106)
من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى قال شارحه ظاهره أن الاتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه وهو من إعلام النبوّة لما تراه بالمشاهدة ممن تعاطى شيئاً من الأمرين وقيل المراد بالإِتلاف عذاب الآخرة اهـ. وقد ارتكب الجماعة المذكورون ما لا يرضاه أحد من أهل الدين ولا يجوز تقريره بين المسلمين فلا يصح تمليكهم ولا عتقهم ولا وقفهم كما صرح به ابن الرفعة وتبعه العلاّمة تقي الدين الفتي وأفتى به شيخنا الطنبداوي وغيره من المحققين ولا ينافي ذلك ما وقع في شرح المهذب مما يخالف ذلك فهو مفروض في غير صورة السؤال على أن ما في شرح المهذب منظور فيه وقد بينت ذلك في غير هذا السؤال أما صورة السؤال فلا يخالف فيها أحد فإنها مفروضة في صدور ذلك منهم بعد المطالبة لهم بالدين قال ابن عبد السلام إذا أخذت الأموال بغير حقها وصرفت إلى من يستحقها أو أخذت بحقها وصرفت إلى من لا يستحقها وجب ضمانها على صارفها وآخذها سواء علماً أم جهلاً فإن مات أحدهما قبل أداء ما عليه لم ينفذ عتقه ولا تبرعه في مرض موته ولا ما أوصى به من التبرعات ولا ينفذ تصرف ورثته في تركته حتى يقضي ما لزمه من ذلك ويصرفه إلى مستحقه فإن أخذه الإِمام العادل ليصرفه إلى مستحقه بريّ بقبض الإِمام وكذا الحكم في ضمان المكوس والخمر والبغايا وكل جهة محرمة وجميع ما يحدثه الظلمة من المظالم أ هـ .
جوابه وقد رأيته كذلك في عدة نسخ وفيه أمور أحدها ما أشرت إليه فيما مر وهو أنه حذف من الجواب قيداً ذكره في التأليف وهو أن محل القول ببطلان تبرعه إذا لم يكن يرجو لدينه وفاء وقد صرحوا بأن إطلاق المفتي الجواب عن القيود أي المعتبرة في ذلك الحكم بخصوصه كما هو جلي لا مطلقاً لأن ذلك يطول مع أنه معلوم خطأ منه ولك أن تجيب عن هذا إنا نبحث أولاً عن المراد بقولهم لا يرجو له وفاء ليظهر صحة حذفه أو عدمها والذي يتجه عندي في ذلك(2/107)
أخذاً مما ذكروه في الاقتراض أن المراد به أن لا يكون له جهة ظاهرة يغلب على ظنه قضاء ذلك الدين منها حالاً في الحال وعند حلول الأجل في المؤجل ثم رأيت شرح المهذب وغيره صرحوا بذلك كما يأتي فمن له ذلك لا كلام في صحة تصرفه ومن ليس له ذلك هو المراد بالمفلس الذي لم يحجر عليه حيث وقع في كلامهم كما يصرح به كلامهم في باب التفليس فالحاصل أن من عبر بالمدين الذي لا يرجو وفاء ومن عبر بالمفلس مؤدي عبارتهما واحد لأنهما لفظان مترادفان مدلولهما واحد اصطلاحا وهذا أعني من لا يرجو وفاء المعبر عنه في كلامهم بالمفلس هو محل الكلام بيننا وبين المفتي ومن تبعه في صحة تصرفه فإن قلت لا أسلم ترادفهما لأن قولهم لا يرجو له وفاء يفيد أنه لا حرمة إلا أن انتفى عنه سائر وجوه الرجاء ولو على بعد وهذا غير المفلس لأنه من زاد دينه على ماله وإن رجا وفاءه على بعد قلت يتضح ما يلزمك بالتسليم بسوق عبارة المهذب وغيرها وعبارته من عليه دين حرم عليه التصدق بما يحتاجه لوفائه قاله صاحب المهذب وشيخه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/108)
القاضي أبو الطيب و ابن الصباغ و البغوي وآخرون يكره وقال الماوردي و الغزالي وآخرون لا يستحب والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب وإلا فلا وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق انتهت واعترض عليه بأن الغزالي وغيره قيدوا الجهة المرجو منها الوفاء بكونها ظاهرة وليس هذا الاعتراض في محله لأن تعبير المجموع بغلبة ظن الحصول من جهة يستلزم ظهورها إذا تقرر ذلك علم منه أن من عليه دين زائد على ما في يده أو مساً وله لو تصدق منه بشيء لم يتيسر له بدله لعدم جهة ظاهرة له يأتي إليه منها ذلك حالاً في الحال وعند حلول الأجل في المؤجل حرم عليه التصدق لأنه حينئذٍ لا يرجو وفاء الدين لو تصدق من جهة ظاهرة وإذا اتضح أن هذا هو المراد بمن لا يرجو الوفاء اتضح ما ذكرته في تفسيره السابق وما ذكرته أنه مرادف للمفلس لأنه الذي زاد دينه على ماله ولم يكن له جهة ظاهرة يوفي منها حالاً في الحال ويؤيد ذلك أنه لو كان ماله لا يتمكن من الأداء منه حالاً في الحال كالمنافع والمال الغائب والمغصوب يحجر عليه ويكون ذلك كالعدم كما بحثه الإسنوى وأقروه فتأمل ذلك لتسلم له إن لم تكن معانداً وقولي في المفلس زاد دينه على ماله قيد لمن يحجر عليه لا لمن يحرم عليه التصدق فإن هذا يعم المساوى لأنه بالصدقة ولا جهة ظاهرة يفوت حق بعض الغرماء نعم الممتنع من وفاء دينه إذا سأل غرماؤه الحجر عليه أجيبوا وإن ساوى ماله دينه كسوباً كان أو لا لكن هذا الحجر حينئذٍ ليس للفلس وبعد أن بان ذلك وتقرر فلنرجع إلى الاعتذار عن حذف المفتي لهذا القيد فنقول قد يدعي ولو على بعد أن هذا القيد أمر معلوم فلا يحتاج إلى ذكره لكن يخدشه أن الإِفتاء إنما هو للعامة غالباً وانى لهم بعلم هذا القيد وما يقاربه ولو عكس ذلك بأن حذف من التأليف للعلماء وهم يعلمون ذلك القيد فلا يحتاجون لذكره والإِفتاء للعامة كما مر وهم جاهلون به فيضطرون(2/109)
لذكره فإن قلت هل يمكن أن يقال يؤخذ هذا القيد من قول السائل حيلة لئلا يحصل لأهل الديون شيء فلذلك لم يحتج المفتي إلى ذكره في الجواب ويؤيده قول الشراح في قول المنهاج في التيمم أو احتاجه لدين مستغرق أن قوله مستغرق مستدرك لا يحتاج إليه لأن ما قبله يغني عنه إذا احتياجه لأجل الدين يستلزم استغراقه قلت يمكن ذلك بل هو ظاهر لولا ما يقال مسلم ذلك في حق العلماء لا العامة الذين يذهب الجواب عنهم عرياً عن ذلك القيد على أنا رأينا بعض نحو المساكين فعلوا تلك الحيلة مع أن لهم أموالاً تزيد على ديونهم لعلمهم بأن الظلمة ربما يستولون على تلك الأموال الأخر ولا يعطون أرباب الديون منها شيئاً فينحصر حقهم فيما في أيديهم فيخرجونه تفويتاً عليهم فلم يلزم من قول السائل حيلة الخ أنهم لا يرجون وفاء بالمعنى السابق.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2
تنبيه علم مما قدمته آنفاً أن المدين الذي وقع الخلاف فيه بيننا وبين ذلك المفتي ومن تبعه هو الذي عليه ديون تستغرق ماله ولم يرج الوفاء من جهة ظاهرة حالاً في الحال وعند الحلول في المؤجل ولم يحجر عليه حقيقة ولا شرعاً كالحجر الغريب وكمن غصب مالاً وخلطه بما لا يتميز فإنه يملكه لكن يحجر عليه في التصرف فيه إلى أن يؤدي البدل.(2/110)
تنبيه آخر سبق عن المجموع قريباً إجمال يحتاج لتقييد لا بأس بذكره وإن لم يكن مما نحن فيه تتميماً للفائدة وهو أن قوله فلا بأس بالصدقة وقد تستحب الخ. يستثنى من ذلك ما إذا حصل بذلك تأخير وقد وجب قضاء الدين فوراً بمطالبة أو غيرها لكونه عصى بسببه أو كان ليتيم أو نحوه ولا مانع من الدفع فالوجه كما قاله الأذرعي وغيره وجوب المبادرة إلى إيفائه وتحريم الصدقة بما يتوجه عليه دفعه أي حالاً في دينه وإن رجا وفاءه من جهة ظاهرة أي لا حالاً والمؤجل هنا كالحال خلافاً لابن الرفعة و القمولي وفرق الأذرعي بينه وبين ما يحتاجه لنفقة عياله في المستقبل بأن الذمة لم تشتغل هنا بشيء بخلاف المؤجل فإنها مشغولة به إلى أن قال ولم يقل أحد فيما أظن أن من عليه دين لا يستحب له التصدق برغيف أو نحوه مما يقطع بأنه لو بقي لم يدفعه إلى جهة الدين ولو قيل بحرمة ذلك أو كراهته لانسد باب الصدقة فإن غالب الناس لا تخلو ذمتهم من دين مهر أو غيره أ هـ .
ملخصاً واعلم أنه وقع في ظاهر نص الشافعي في المختصر ما يقتضي جواز التصدق بما يحتاجه لنفسه وممونه المستلزم لجوازه بما يحتاجه لدينه وذلك أنه عبر في ذلك بأحب كذا وأجيب بأن البيهقي صرح بأنه يقول لا أحب ويستعمل ذلك في المحرم وكذا أكره وقياسه أن يقول أحب ويستعمله في الواجب لكن إنما يحمل كلامه على ذلك بقرينة من كلام آخر أو قاعدة له لا مطلقاً فتنبه لذلك ولا تغتر بمن أطلقه.
(ثانيهما): إن حديث البخاري الذي ذكره لا حجة فيه لخصوص النزاع بل نحن وهو قائلون بما فيه من ذلك الوعيد لمن أخذ شيئاً يريد إتلافه على مالكه سواء أقلنا بنفوذ تصرفه أم لا فذكر المفتي له إنما هو لمجرد زجر أولئك المذكورين في السؤال عن ذلك القبيح المحكي عنهم.(2/111)
(ثالثها): قوله كما صرح به ابن الرفعة عليه فيه مؤاخذتان إحداهما أن ابن الرفعة لم يذكر واحداً من هذه الثلاثة التي ذكرها المفتي وهي التمليك والعتق والوقف وإنما ذكر الصدقة وستأتي عبارته وقد صرح الأصوليون في حكم المقيس ولو بالأولى بأنه لا يقال قال الله تعالى ولا قاله النبي والفقهاء في القول المخرج بأنه لا ينسب للشافعي رضي الله عنه إلا مقيداً حينئذٍ فكان صواب العبارة كما صرح به ابن الرفعة في الصدقة وقياسه أن التمليك والعتق والوقف وغيرها من التبرعات كذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/112)
(رابعها): أن ابن الرفعة لم يصرح بذلك في الصدقة وإنما اقتضاه كلامه في مطلبه وكفايته بناءً على ما هو الغالب من أحوالهم أن تخريج مسئلة على أخرى في خلافها يقتضي اتحادهما في الراجح من ذلك الخلاف ومرادنا يكون الغالب ذلك أن ذلك هو الأكثر مع كثرة مقابله لا أن مقابله نادر ومن ثم قال التاج السبكي في رفع الحاجب رب فرع لأصل ذلك الأصل يظهر في الحكم أقوى من ظهوره فيه لانتهاض الدليل عليه ولهذا ترى الأصحاب كثيراً ما يصححون في المبنى بخلاف ما يصححونه في المبني عليه أ هـ .
وقد أفرد الجلال السيوطي المواضع التي صححوا فيها خلاف مقتضى البناء بتأليف دال على مزيد كثرتها فعلم أنه لا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح قال وهذا أمر متفق عليه وإنما الاتحاد أكثر لا غير على أن محله حيث لم يكن في المنقول ما يرده وسيأتي من كلام الشافعي والأصحاب ما هو صريح قاطع في رده وعبارة كفايته في تصدق من عليه دين لا يرجو له وفاء ثم إذا قلنا بالتحريم فهل يملكه المتصدق عليه ينبغي فيه خلاف كالخلاف فيما إذا وهب الشخص ما معه من الماء بعد دخول الوقت وقيل هذا جار في تصدقه بجميع ماله تطوعاً بعد وجوب الزكاة وتمكنه من أدائها انتهت وسيأتي في العبارة الثانية من كلام ابن الرفعة نفسه ما يناقض ما اقتضاه كلامه هذا وأن ذاك مقدم على هذا فراجعه على أن لقائل أن يقول إن كلام ابن الرفعة يقتضي ذلك لأن الذمي دل عليه الاستقراء من تخاريجه أنه إنما يريد بها الاستدراك على الأصحاب في حكايتهم الخلاف بينهم في مسئلة مع عدم حكاية نظيره في نظيرتها فكأنه يقول لهم هذا تحكم فيضطره الاتحاد في المدرك عنده إلى التخريج فهو لم يجعل محط نظره في تخريجه تأتي الخلاف وإن الراجح هنا هو الراجح ثم وإنما محطه مجرد تأتي الخلاف كما يعلم ذلك من تتبع تخاريجه ومن ثم أكثر منها حتى قيل إنه زاد في مذهب الشافعي الثلث أي باعتبار الأوجه التي خرجها وحتى كاد أن يعد مع أصحاب الأوجه(2/113)
لانفراده من بين المتأخرين بمرتبة ذلك التخريج بعد انقطاعها بانقطاع أصحاب الأوجه ومن ثم لقب بالفقيه دون غيره بل بالغ بعضهم فعده مع أصحاب الأوجه وأبى أن يعد الغزالي وإمامه منهم ولك أن تقول جواباً عن الأصحاب لا أسلم ذلك التخريج بل أمنعه وأفرق بين المسئلتين بأن مسئلة الماء ليس المدار فيها على التبرع ولا عدمه بدليل بطلان البيع فيها أيضاً وإن كان بأضعاف القيمة وإنما المدار فيها على تفويت عين تعلق بها حق الله تعالى فلم يصح التصرف فيها المفوّت لذلك الحق كبيع المال الزكوي بعد الحول على ما عدا قول الشركة وقد صرح جمع بأن من شروط صحة البيع أن لا يتعلق بعين المعقود عليه حق لله تعالى أو لآدمي ومثلوا بأمثلة منها مسئلة الماء المذكورة وأما مسئلة التصدق فليس المدار فيها إلا على التبرع بدليل صحة بيع المدين الذي يحرم عليه الصدقة لأَعيان ماله بثمن مثلها إجماعاً فتأمل بعد ما بين المسئلتين والملحظين ووجه ذلك في مسئلة التصدّق أن الحق الذي فيها وهو الدين متعلق بالذمة دون العين إذ لا يتعلق الدين بأعيان مال المدين المفلس حتى يبطل تصرفه فيها إلاّ بالحجر كما يأتي عن الشافعي والأصحاب بل وعن ابن الرفعة نفسه ودعوى المفتي ومن تبعه أن مجرد الإِفلاس يوجب التعلق بالعين سيتضح من كلامهم ردها بل تزييفها وإذا تقرر تعليقه بالذمة وحدها لم يكن لبطلان التصرف في الأعيان التي لم يتعلق بها وجه أصلاً وأما ملحظ الحرمة التي صرحوا بها فليس هو ذلك التعلق وإنما هو كونه سعياً في ضرر الغير بتفويت ما يؤدي منه ماله المستقر في الذمة فتأمل ذلك تجده فرقاً ظاهراً لا غبار عليه وبه يتبين لك ضعف ذلك التخريج وصواب ما سلكه الأصحاب من حكايتهم الخلاف في مسئلة التيمم وتصحيح البطلان فيها وعدم حكايتهم نظيره في مسئلة التصدّق فضلاً عن التصريح ببطلان التصرف وشذوذ ما سلكه القائلون ببطلان تبرع المدين أخذاً من هذا التخريج فإن قلت إذا كان ملحظ(2/114)
البطلان في مسئلة الماء ما ذكرت من التعلق بالعين فأي وجه للخلاف حينئذٍ قلت كون ملحظ البطلان ما ذكر لا يقتضي أنه متفق عليه وإنما هو حكاية علة الأصح وأما الوجه الثاني القائل بالصحة فوجه ما قاله بأنه ملكه والمنع لا يرجع إلى معنى في العقد فإن قلت ما وجه رد علته مع ظهورها ومع ما هو المشهور أن الضعيف لا يعلل ولا يقيس إلا بما يوافقه عليه الأصح قلت أما كون المشهور ذلك فإن أريد أنه باعتبار الغالب فصحيح وإلا فقد يعلل ويقيس بما يدعي ظهوره وأنه لذلك يلزم مقابله القول به وبذلك صرح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/115)
الرافعي في الوصايا والاستقراء التام قاض بذلك وإن أريد أنه أمر مطرد فممنوع بدليل الاستقراء القطعي لأنا نجد الضعيف كثيراً ما يعلل ويقيس بما يقول به هو دون الأصح وأما وجه رد علته فهو أنها عند التحقيق لا تنتج ما قاله من الصحة لأنه لا يكفي فيه مجرد الملك ولا انتفاء كون المنع لا يرجع لمعنى في العقد بل لا بدّ مع الملك وانتفاء ذلك من شروط أخرى كالقدرة على التسليم والتسلم شرعاً وحساً على أن زعمه أن المنع هنا لا يرجع إلى معنى في العقد غير صحيح لأن مرادهم بالمنع الراجع إلى معنى في العقد ما يرجع إلى معنى في ذات المعقود عليه أو لازمه ولا شك أن ما هنا كذلك لأن تعلق الحق بالعين يوجب عجز العاقدين عن التسليم والتسلم وذلك العجز مبطل للبيع لرجوعه إلى معنى متعلق بذات المعقود عليه هو العجز عن تسليمها أو تسلمها وقد مر عن الأئمة أنهم جعلوا مسئلة الماء من المعجوز عن تسليمه وتسلمه شرعاً وهو كالمعجوز عنه حساً وبينوا وجه العجز عن تسليمه شرعاً بأنه تعين للطهر به إذ الصلاة لها وقت محدود فلو صححنا ذلك لأدّى إلى جواز إخراج فعلها بالوضوء عنه فإن قلت يعارض ذلك أن النووي في شرح المهذب لم يجعل منشأ البطلان على الأصح إلا كون التسليم حراماً ولم يتعرض لكون الحق متعلقاً بالعين وعبارته كما يأتي بسوابقها ولواحقها أصحهما لا يصح البيع ولا الهبة لأن التسليم حرام فهو عاجز شرعاً وهو كالعاجز حساً انتهت وإذا كانت العلة حرمة التسليم فالصدقة إذا حرمت كذلك وبهذا يتأيد تخريج ابن الرفعة ويبطل الفرق بين المسئلتين قلت لا يعارضه بوجه لما قدمته أن حرمة التسليم في مسئلة الماء ليس لكونه تبرعاً وإلا لما تساوى البيع والهبة فتعين أنه لكونه تفويتاً للحق المتعلق بعين الماء المقتضي للحجر عليه فيها شرعاً كما صرحوا به حتى ترجع الحرمة إلى معنى متعلق بذات المعقود عليه أو لازمه إذ لا تقتضي الحرمة الإِبطال إلا أن رجعت لذلك وحينئذٍ اتضح تفريع(2/116)
شرح المهذب العجز على الحرمة وأما مسئلة الصدقة فالحرمة ليست فيها إلا لكونها تبرعاً وهذا أمر خارج عن ذات العين لا تعلق له بها أصلاً وإذا رجعت الحرمة في العقد إلى خارج عنه وعن لازمه لا تقتضي البطلان كما قرروه وحينئذٍ فلا وجه لبطلان نحو الصدقة ولا لتخريج ابن الرفعة ولا معارضة بين ما ذكرته وما في شرح المهذب بل فيه التصريح بصحة نحو هبة وعتق المديون كما يأتي بما فيه ومما يبطل تخريج ابن الرفعة أيضاً ما صرح به ابن الرفعة نفسه واقتضاه كلام الشيخين كما في الخادم وهو ظاهر أنه لا خلاف في مسئلة الماء في حرمة البذل وإنما الخلاف في صحة التصرف مع ما هو مقرر من الخلاف الشهير في الحرمة في مسئلة الصدقة فعلمنا أن وجه الحرمة ثم غيره هنا وإلا لاتحدا في الخلاف أو عدمه وأنها ثم أقوى منها هنا وبهذا يتضح رد ما يأتي عن الأذرعي أنه ينبغي الجزم بعدم صحة التصدّق لتعلق حق الآدمي وتوجه الأداء في الحال بخلاف الماء فإنه لحق الله تعالى وله بدل ووجه رده ما تقرر أن الحرمة في الماء أقوى لما مر من تعلق الحق فيه بالعين ولو لله تعالى بخلاف الصدقة ومن ثم اتفقوا على الحرمة في الماء دون الصدقة فكيف مع ذلك يتأتى الجزم ببطلان التصدق مع الخلاف في حرمته ويحكي الخلاف في هبة الماء مع الجزم بحرمتها هذا مما لا يتعقل فالصواب خلاف ما بحثه هو وابن الرفعة فتأمل ولا يصدنك جلالتهما فإنك بالتأمل الصادق يتضح لك صحة ما ذكرته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/117)
(رابعها): قوله ولا ينافي ذلك ما وقع في شرح المهذب مما يخالف ذلك فهو مفروض في غير صورة السؤال هذا فيه من النظر ما لا يخفى على أدنى متأمل يعلم ذلك بسوق عبارة المجموع ثم تطبيقها مع صورة السؤال التي أجاب عليها وعبارته لو وهب الماء الصالح لطهارته في الوقت لغير محتاج إلى العطش ونحوه أو باعه لغير حاجة إلى ثمنه ففي صحة البيع والهبة وجهان مشهوران في الطريقتين حكاهما الدارمي وجماعات من العراقيين وإمام الحرمين وجماعات من الخراسانيين قال البغوي و الرافعي وغيرهما أصحهما لا يصح البيع ولا الهبة لأن التسليم حرام فهو عاجز شرعاً وهو كالعاجز حساً وبهذا قطع المحاملي و الصيدلاني والثاني يصحان قال الإِمام وهو الأقيس لأنه ملكه والمنع لا يرجع إلى معنى في العقد واختار الشاشي هذا وقال الأول ليس بشيء لأن توجه الفرض لا يمنع صحة الهبة كما لو وجب عتق رقبة في كفارة فأعتقها لا عن الكفارة أو وهبها فإنه يصح وكما لو وجب عليه ديون وطولب بها فوهب ماله وسلمه فإنه يصح والأظهر ما قدمنا تصحيحه قال إمام الحرمين و الغزالي في البسيط هذان الوجهان يشبهان ما لو وهب رجل للوالي شيئاً تطوعاً على سبيل الرشوة هل يملكه منهم من منع الملك للمعصية ومنهم من لم يمنع وقال هو أهل للتصرف انتهت فتأمل قوله حكاية عن الشاشي وكما لو وجب عليه ديون وطولب بها فوهب ماله وسلمه فإنه يصح تجد صورته عين صورة السؤال السابقة التي هي فيطالبهم أهل الديون فيبادرون ويملكون أموالهم الخ. وحينئذٍ فكيف مع هذا الاتحاد الواضح جداً يقال إن ما في شرح المهذب مفروض في غير صورة السؤال فإن قيل يحتمل أن ما فيه فيمن يرجو وفاء وما في السؤال فيمن لا يرجو وفاء قلنا هذا تحكم قبيح لأن كلاً منهما لم يتعرض لهذا القيد فرعايته في أحدهما دون الآخر غير صحيحة فالصواب أن ما في المجموع والسؤال على حد سواء في أن المتبرع بالهبة فيهما عليه ديون مستغرقة لما له وأنه طولب بها فبادر(2/118)
وتصرف فيها بتبرع كهبة فيصح تصرفه على ما ذكر عن شرح المهذب الذي صرح به الشافعي في الأم والأصحاب كما يأتي.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2
(خامسها): قوله على أن ما في شرح المهذب منظور فيه الخ. قد بين شكر الله سعينا وسعيه في تأليفه السابق ذكره ذلك بقوله قوله فيما حكاه عن الشاشي وكما لو وهب من عليه ديون الخ. ليس صريحاً في تقريره فضلاً عن الجزم الذي ادعاه الإسنوى أي حيث قال ما حاصله ما صححناه في الروضة وأصلها من بطلان البيع والهبة فيه نظر فإنه لو وجب عليه كفارة وهو يملك عبداً فوهبه أو طولب بدين فوهب ما يملكه فإن الهبة تصح كما جزم به في شرح المهذب هنا أ هـ .
ثم رد كلام الإسنوى بأمور أخرى فقال أحدها أن صنيع شرح المهذب ظاهر في اعتماد الأول وتعليله وفي تزييف الثاني وتعليله وما اشتمل عليه من القياس لأعراضه عنه وعدم الجواب عنه وكثيراً ما يمنع بأحد الوجهين قياس الآخر ولا يسلمه وكتب الشيخين والأصحاب مملوءة بذلك نبه عليه الزركشي والشيخ تاج الدين السبكي في توشيحه وبسط الكلام في ذلك وقرره تقريراً حسناً ثانيها أنه اكتفى بما سيذكره في صدقة التطوع من تحريم التصدق بما يحتاج إليه لدينه لانطباق تعليل الأول على ذلك وهو حرمة التسليم ولا شك أنه مأخذ ابن الرفعة الآتي في تخريج ما في صدقة التطوع على ما هنا ومن ثم لم أرَ أحداً صرح بمخالفته بل بحث معه في التوسط وغيره الجزم بعدم الصحة وفرق بما حاصله تعلق حق الآدمي وتوجه الإِداء في الحال بخلاف الماء فإنه لحق الله تعالى وله بدل ولهذا يبقى للمكفر خادم بخلاف المفلس قالوا لأن للكفارة بدلاً وأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة بخلاف حقوق الآدمي ثالثها إن النشاثي في المنتقى والنووي في التحقيق حذفا مسئلة الدين التي قاس عليها الشاشي وقد علمت أنهما يتعرضان لما في شرح المهذب فلو كان ذلك معتمداً عند النووي لما حذفاه ثم ذكر عبارتهما وأن(2/119)
الجواهر حذفته أيضاً ثم قال فحذف أصحاب هذه المتون لها يشعر بأنهم فهموا عن النووي تزييفها ثم قال رابعها وهو الفيصل بيننا وبين الإسنوى أنه قال في المهمات في أوائل الحجر ما لفظه التاسع والعشرون أي من أنواع الحجر إذا دخل عليه وقت الصلاة وعنده ماء يتطهر به فلا يصح بيعه ولا هبته على الصحيح لحق الله تعالى وهكذا قياس السترة ونحوها كالذي يعتمد عليه العاجز عن القيام والمصحف الذي يقرأ منه غير الحافظ الثلاثون إذا وجبت الكفارة على الفور وكان في ملكه ما يكفر به يجب عليه التكفير به فقياس ما سبق امتناع تصرفه فيه ولا يحضرني الآن نقله ومن عليه دين لا يرجو وفاء أو وجب عليه نفقة غيره لا يحل له التصدق بما معه ولا هبته ولكن لو فعل ففي صحة ذلك نظر أ هـ .
قلت ونسبه الفتى إلى أنه نسي ما سبق عنه في التيمم والذي أعتقده أن هذا الذي صرح به هنا هو المعتمد عنده لأنه جعل ذلك قياس هبة الماء والذي سبق منه في التيمم صدر منه لغرض المناقضة لا للتحرير والتحقيق فالصواب ما ذكره في الحجر وجعله القياس والعجب أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/120)
أبا زرعة وافقه على ذلك في الحجر وفرق في التيمم بما حاصله تعين الماء للطهارة بخلاف الدين فإنه متعلق بالذمة وقد رضي بذلك الدائن ونظر فيه الكمال الرداد وقال إنه ينخدش بإتلاف الماء قلت ويخدشه أن الدائن إذا طالب بدينه بعد دخول الوقت ومع المدين ماء لطهارته لا يملك غيره وطلب الدائن بيعه للدين أنه يجاب إلى ذلك ولا يقال إنه تعين للطهارة والدائن قد رضي بذمته وهذا يسلمه الفقيه ولا ينكره إلا أن يكون جامداً متعسفاً فليس كلامنا معه وبه يعلم أن المصححين بطلان هبة الماء لا يسلمون قياس الشاشي فلهذا أعرض في شرح المهذب عن الجواب عنه لعدم تسليمه له ومن نظر إلى المعنى الذي لأجله امتنع التبرع بالماء والمال مع مراعاة ما اعتمده في شرح المهذب من التعليل لم يرتب في صحة ما قلناه من بطلان التبرع المذكور ولم يفرق بين الهبة والصدقة وغيرهما من التبرعات بل تقدم عن الإِيضاح أي للناشري بطلان العتق مع تشوّف الشارع إليه أ هـ .
المقصود من كلامه في هذا المحل وفيه أنظار شتى وأقدم قبل الكلام فيها الكلام في منقول المذهب في تبرعات المدين الذي لم يحجر عليه ولا وفاء معه حالاً في الحال وعند حلول الأجل في المؤجل وهذا هو معنى قولهم لا يرجو له وفاء كما سبق بسط الكلام فيه فأقول اعلم أن سبب وقوع القائلين ببطلان تصرفاته نظرهم لتخريج ابن الرفعة وكلام شرح المهذب في التيمم مع ظنهم أن أحداً لم يتعرض لذلك غيرهما وليس كما ظنوا بل المسئلة في الأم لإِمامنا الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في غير موضع وفي الروضة وأصلها والمنتقى والجواهر وغيرها حتى المتون الصغار في باب العتق بل وفي كتب المخالفين كمغني الحنابلة الذي أطال النووي في مدحه واعتماد ما فيه من النقول عن المذاهب لحفظه وتحريره ومن ثم نسج على منواله في شرحه للمهذب ويتبين ذلك بسوق عباراتهم والكلام فيها ببيان ما قد يخفي من مدلولها وما قد يرد عليها وغير ذلك ولنقتصر على سوق العبارات(2/121)
المشهورة دون غيرها لئلا يطول الكتاب فيمل فنقول العبارة الأولى عبارة المغني المذكور وهي ما فعله المفلس في ماله قبل حجر الحاكم عليه من بيع أو هبة أو إقرار أو قضاء بعض الغرماء أو غير ذلك فهو جائز نافذ وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي ولا نعلم أحداً خالفهم لأنه رشيد غير محجور عليه فنفذ تصرفه كغيره ولأن سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه انتهت بلفظها وقوله نافذ عطف تفسير لجائز بدليل تصريح الحنابلة بحرمتها وعبارة الفروع لهم وتصرفه أي المفلس قبل الحجر نافذ نص عليه أي الإِمام أحمد رضي الله عنه مع أنه يحرم عليه إن أضر بغريمه ذكره
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/122)
الأومي البغدادي صاحب المنتخب وقيل لا ينفذ واختاره شيخنا أي ابن تيمية فانظر حكاية المغني النفوذ من المفلس قبل الحجر عن المذاهب الأربعة وقوله لا نعلم أحداً خالفهم يظهر لك أن ما وقع فيه المفتي ومن تبعه أمر خالفوا فيه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم وكفى بهذا قادحاً في رد مقالتهم وتزييفها وأنه لا تعويل عليها فإن قلت قول الفروع وقيل لا ينفذ قادح في قول المغني ولا نعلم فيه خلافاً لأن هذا خلاف في مذهبه ويبعد على حفظه المذهب الحفظ الذي لا يساوي فيه خفاء هذا الخلاف عليه وكذلك الخلاف فيه شهير في مذهب الشافعي رضي الله عنه كما سيأتي عن الروضة وغيرها في العتق وكذا هو شهير في مذهب مالك بل جزم بعض متأخريهم بعين ما أفتى به المفتي ومن تبعه فقال من أحاط الدين بماله ممنوع من التبرع بالمال حتى قبل الحجر لكن قيد ذلك غيره بما إذا علم بتلك الإِحاطة وإلا فتبرعه صحيح كما صرح به بعض المحشين على المدوّنة نقلاً عن ابن دويب واعتمده بل هذا التفصيل هو حاصل كلام مالك في المدوّنة وغيرها وبه قال ابن القاسم والذي في سماع أصبغ صحة تصرفه وإن علم حتى يثبت عند القاضي أنه لا وفاء معه بما تبرع به وجزم بعض شراح الرسالة وهو أنه قبل قيام الغرماء عليه يجوز له التبرع باليسير وبعده لا يجوز مطلقاً وقال الحفيد بن رشد من متقدمي أئمتهم وأما تصرفه قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لم تجر العادة بفعله ثم قال وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا هو قبل الحجر كسائر الناس وإنما ذهب الجمهور لهذا الأصل لأن الأصل جواز الأفعال حتى يقع الحجر ومالك كأنه اعتمد المعنى نفسه وهو إحاطة الدين بماله أ هـ .
واحترز بالجمهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يقول بالحجر ووجه بعضهم القول عندهم بأن عتقه قبل الحجر لا يرد طالت المدة أم لا بأن دين الغرماء إنما هو في ذمة السيد لا في عين العبد ولو(2/123)
تلف العبد لم يبطل الدين فوجب أن ينفذ العتق لبقاء الدين في الذمة مع نفوذه والمشهور عندهم أن العتق كالصدقة في الرد بشرطه وقال بعضهم الحاصل أن تبرعاته التي بعد الدين وقبل الحجر مردودة إذا أحاط الدين بماله من غير خلاف ما عدا العتق فإنه يرد أن قام الغرماء بقرب العتق من غير خلاف فيه فإن قاموا بعد طوله ففيه قولان والأرجح الرد أ هـ .
حاصل مذهب المالكية في هذه المسئلة وقال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/124)
أبو حنيفة رضي الله عنه ولا يحجر على المفلس بسبب الدين وإن طلب غرماؤه الحجر عليه لأن في الحجر إهدار أهليته وإلحاقه بالبهائم وذلك ضرر عظيم فلا يجوز إلحاقه به لأجل ضرر خاص ولا يتصرف الحاكم في ماله لأنه لا حجر عليه وخالفه صاحباه فقالا إذا طلبوا الحجر حجره ومنعه من التصرف والبيع بأقل من ثمن المثل وإذا امتنع عن بيع ماله يبيعه الحاكم ويقسم الثمن بينهم بالحصص هذا حاصل ما في مذهبهم في ذلك فعلى قول أبي حنيفة يتصرف في ماله بما شاء مطلقاً وعلى قول صاحبيه يتصرف ما لم يحجر عليه ومنعه من التصرف مذهبنا وإذا تقرر ما للأئمة الأربعة في هذه المسئلة من الخلاف والتفصيل فكيف ينقل المغني عنهم القول بنفوذ التبرع قبل الحجر قلت أما الخلاف الذي لأصحابهم وأصحابنا فكأنه لم يعتد به ولم يعوّل عليه لضعفه من حيث مخالفته لصريح كلام أحمد والشافعي رضي الله عنهما ونظير ذلك ما يقع للنووي رحمه الله كثيراً أنه في كتبه لا سيما شرح المهذب يحكي الاتفاق مع تصريحه هو وغيره بالخلاف في ذلك وسبب ذلك أنه لا يعتد بذلك الخلاف لشذوذه فيجزم بالحكم غير ملتفت إليه وأما ما حكي عن مالك وكأنه اعتمد فيما حكاه عنه ما مر عن سماع أصبغ وجعل الثبوت عند القاضي بمنزلة الحجر وأما أبو حنيفة فهو لا يقول بالحجر كما مر وحينئذٍ فلا اعتراض على صاحب المغني فيما مر عنه على أنه لم ينفِ الخلاف إلا باعتبار علمه دون نفس الأمر فبفرض ثبوته لا اعتراض عليه فيه وأما من زعم كشيخ الإِسلام في فتح الباري أنه فيه نقل الإِجماع على النفوذ قبل الحجر فقد وهم لأن عبارته هي التي قدمتها وهي قوله لا نعلم أحداً خالفهم ومثل هذه العبارة لا تفيد الإِجماع نعم تفيد أن جمهور العلماء على ذلك وقد مر عن ابن رشد أن جمهور من قال بالحجر قالوا هو قبل الحجر كسائر الناس وهذا هو الذي حكاه المغني نعم حكاية الإِجماع على النفوذ قبل الحجر وقعت في كلام غير المغني وهي مردودة بما قررته من(2/125)
الخلاف الشهير في ذلك ومن الغريب قول ابن المنير المالكي في شرح البخاري وأما قوله من تصدق وعليه دين فالدين أحق أن يقضي من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليه فهذا إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه أ هـ .
المقصود منه فقوله فهذا إجماع من العلماء غلط فاحش فمخالفته لما هو المعروف السابق من الخلاف في ذلك بل الخلاف شهير محكي في النفوذ حتى بعد الحجر ويمكن تأويله بأن قوله فهذا راجع إلى قوله فالدين أحق أن يقضي لا لقوله رد عليه ويؤيده وإن كان بعيداً من سياق كلامه ما مر من حكاية الخلاف في ذلك حتى في مذهبه هذا ما يتعلق بعبارة المغني من الحنابلة العبارة الثانية قول الذخيرة
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/126)
للقرافي من أئمة المالكية ومحققيهم من أحاط الدين بماله حرمت هبته وصدقته وعتقه ورد إقراره لمن اتهم عليه ويجوز بيعه وشراؤه حتى يحجر عليه وكذا الإِنفاق على امرأته ومن يلزمه الإِنفاق عليه ويتزوج من ماله ما لم يحجر عليه وقال الشافعي التبرعات نافذة حتى يحجر عليه انتهت فتأمل نقله عن الشافعي رضي الله عنه النفوذ لجميع تبرعاته قبل الحجر مع إحاطة الدين بماله يزدد عجبك من إفتاء المفتي ومن تبعه بعدم نفوذها أخذاً من تخريج بان فيما مضى ضعفه وانحلاله العبارة الثالثة وهي العمدة في الحقيقة عبارة الإِمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وهي قال الشافعي شراء الرجل وبيعه وعتقه وإقراره وقضاؤه بعض الغرماء دون بعض جائز كله عليه مفلساً كان أو غير مفلس وذا دين كان أو غير ذي دين في إجازة عتقه وبيعه لا يرد من ذلك شيء ولا مما فضل منه ولا إذا قام الغرماء عليه حتى يصيروه إلى القاضي وينبغي إذا صيروه إلى القاضي أن يشهدوا على أنه أوقف ماله عنه أي حجر عليه فإذا فعل لم يجز له حينئذٍ أن يبيع ماله ولا يهب أ هـ .
لفظه بحروفه وقوله جائز كله عليه معناه نافذ كله عليه بدليل قوله لا يرد من ذلك شيء فلا ينافي ما علم مما مر أنه يحرم عليه التبرع وإن نفذ وعبارتها بعد ذلك بأسطر قال الشافعي رحمه الله ويجوز له ما صنع في ماله بعد رفعه إلى القاضي حتى يقف القاضي ماله انتهت بحروفها وعبارتها بعد ذلك بورقات وإذا حبس وأحلف وفلس وخلي ثم أفاد ما لا جاز له فيما أفاد ما صنع من عتق وبيع وهبة وغيره حتى يحدث له السلطان وقفاً آخر لأن الوقف الأول لم يكن وقف لأنه غير رشيد إنما وقف ليمنعه ماله ويقسمه بين غرمائه فما أفاد آخراً فلا وقف عليه انتهت بحروفها أيضاً فتأمل كلامه رضي الله عنه تجده نصاً قاطعاً لا يقبل التأويل في صحة تبرع المدين الذي لا يرجو وفاء إذ لا يكون مفلساً إلا إن كان كذلك لما قدمته في معنى لا يرجو وفاء قبل حجر القاضي عليه ولو بعد مطالبة(2/127)
الغرماء ورفعهم له إلى القاضي وحينئذٍ يزداد تعجبك مما وقع فيه المفتي ومن تبعه من إفتائهم بعدم صحة تبرعه وأي عذر لمقلد ضاقت عليه أغلال التقليد فافحم حتى لم يجد حراكاً يخرجه عن ذلك المضيق إلى فضاء دوحة رأيه أو رأي غير مقلده في أن يخالف مقلده مثل هذه المخالفة الصريحة اعتماداً على ما قام عنده وجمد عليه رأيه مما لا يصلح متمسكاً كما بسطته فيما مر ويأتي وربما يخشى على من علم بهذه النصوص ولم يرجع إليها أن يكون قد هوى إلى هوية اللجاج والعناد وأعيذ بالله منهما كل من له في الخير مزيد تقدم وازدياد العبارة الرابعة قول الإِمام
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/128)
الرافعي في العزيز في الكلام على شروط سراية العتق الثانية لو ملك المعتق قيمة نصف الشريك وعليه من الدين مثل ما يملكه أو أكثر فهل يمنع الدين التقويم عليه والسراية فيه قولان كالقولين في أن الدين هل يمنع الزكاة والجامع أن سراية العتق حق لله تعالى وهو متعلق بحظ للآدمي كالزكاة والأصح أنه لا يمنع وجعل الشيخ أبو علي الخلاف في المسئلة وجهين وقال من الأصحاب من قال لا يقوم عليه لأنه غير موسر بما يملكه بل هو فقير من فقراء المسلمين ولذلك تحل له الزكاة فإن أبرأه عن الدين لم يقوم عليه أيضاً كالمعسر يوسر وقال الأكثرون رحمهم الله ومنهم ابن الحداد يقوم عليه لأنه مالك لما في يده نافذ التصرف فيه ولو اشترى عبداً وأعتقه نفذ فكذلك يجوز أن يقوم عليه فعلى هذا يضارب الشريك بقيمة نصيبه مع الغرماء فإن أصابه بالمضاربة مع الغرماء ما يفي بقيمة جميع نصيبه فذاك وإلا اقتصر على حصته ويعتق جميع العبد إن قلنا تحصل السراية بنفس الإِعتاق أ هـ .
فتأمل قوله وعليه من الدين مثل ما يملكه أو أكثر وتعليله الضعيف بأنه غير موسر والصحيح بأنه مالك لما في يده نافذ التصرف فيه واستدلاله لذلك بنفوذ تبرعه بالعتق تجد ذلك نصاً قاطعاً للنزاع عند من له أدنى مسكة من ذوق وإنما المخالف لذلك بعد الاطلاع عليه معاند ينقطع الكلام معه العبارة الخامسة قول الروضة في ذلك أحدها كون المعتق موسراً وليس معناه أن يعد غنياً بل إذا كان له من المال ما يفي بقيمة نصيب شريكه قوم عليه وإن لم يملك غيره ويصرف إلى هذه الجهة كل ما يباع في الدين ثم قال ولو ملك قيمة الباقي لكن عليه دين بقدره قوّم عليه على الأظهر واختاره الأكثرون لأنه مالك لما في يده نافذ تصرفه فيه ولهذا لو اشترى به عبداً وأعتقه نفذ انتهت وقولها بقدره مرادها ما في أصلها كما علمت أو أكثر ومن ثم جرى صاحب المنتقى وغيره حتى أصحاب المتون كالحاوي وفروعه على ما في عبارة العزيز من أنه لا فرق بين أن يكون(2/129)
عليه دين بقدر ما تبرع به أو أكثر منه على أنه لا اعتراض على الروضة في ذلك لما علم من تعليلها المذكور أنه لا فرق ومن ثم عبر بعض مختصري الروضة بقوله وإن كان المعتق مديوناً واستغرقت القيمة ماله أ هـ .
وهذا يشمل ما إذا ساوت القيمة ماله وما إذا زادت عليه فإن قلت من أين أن المراد بالتصرف في عبارتها ما يشمل التبرع قلت هذا جلي لا يحتاج للسؤال عنه لأنه سيق تعليلاً لنفوذ تبرعه بالعتق مع استغراق دينه فلولا أن مرادهم بالتصرف ما يشمل التبرع لم تتطابق العلة والمعلل على أن قوله ولهذا لو اشترى به الخ. صريح في المدعي لا يقبل التأويل العبارة السادسة عبارة الجواهر في ذلك وهي فيعتق عليه جميعه سواء أكان عليه دين يستغرق قيمته أم لا ثم قال لو كان معتق الحصة يملك حصة شريكه لكن عليه دين يستغرقها فالأصح أنه لا يمنع السراية فيضارب الشريك بقيمة حصته مع الغرماء فإن حصل له قيمة جميع نصيبه فذاك وإلا اقتصر على حصته ويعتق جميع العبد إن قلنا بحصول السراية بنفس الإِعتاق أي وهو الأصح أ هـ .
فتأمل ما جرى عليه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/130)
الشيخان ومن بعدهما ومن قبلهما هنا لا سيما قولهما لأنه مالك لما في يده نافذ تصرفه فيه ولهذا لو اشترى الخ. تعلم ما وقع فيه أولئك المخالفون من خروجهم عن صحيح المذهب إلى قول أو وجه ضعيف جداً ومثل ذلك لا يجوز لمقلد سلوكه لكن لعل عذر أولئك أن نسخ الأم قليلة في بلادهم وإن المسئلة وإن كانت في الروضة وأصلها وغيرهما مع أن هذه الكتب نصب أعينهم لكنها في غير مظنتها فغفلوا عنها فإذا بانت كذلك فعليهم الرجوع للحق لأنه اللائق بهم دون التمادي بعد الإِطلاع على ذلك في هذه الورطة الفظيعة أعاذنا الله وإياهم من تصميم على ما لا يرضى ويسر لنا سلوك سبيل الحق أينما كان بمنه وكرمه آمين فإن قلت لا حجة فيما ذكرت عن الشيخين لأن السراية قهرية عليه من الشارع وكلامنا ليس إلا فيما يفعل بالاختيار قلت هذا إنما يتوهم بالنسبة لعتق نصيب الشريك أما بالنسبة لعتق نصيبه هو فالحجة فيه واضحة لنفوذه مع الدين المستغرق وكذا هي واضحة بالنسبة لنصيب الشريك من وجهين أحدهما أن هذا مما فعل بالاختيار ومن ثم عدوه إتلافاً وتفويتاً ومنعوا السراية فيما لو ملك بعض أصله أو فرعه بإرث لأنه لم يكن منه حينئذٍ صنيع ولا تفويت بخلاف ما إذا كان العتق باختياره لا سيما أن علم بأن العتق ينفذ عليه ويصرف إليه ما في يده وإن استغرقه دينه ومن ثم جعلوه بمنزلة من اشترى بما في يده الذي استغرقه دينه عبداً وأعتقه ثانيهما أن تعليلهما السابق وقولهما ولهذا لو اشترى الخ. صريحان فيما ذكرناه فبفرض ما ذكر في السراية وأنه لا حجة فيها الحجة الصريحة الصحيحة التي لا تقبل تأويلاً في هذين الأمرين فتأمل ذلك فإنه دقيق مهم فإن قلت سلمنا ذلك لكن في قواعد الزركشي فرع يشكل على ما قاله الشيخان وغيرهما ويشهد لما قاله أولئك المخالفون وهو ولو اشترى قريبه وعليه دين فقيل لا يصح الشراء والأصح صحته ولا يعتق بل يباع في الدين أ هـ .
فمنع الدين لعتقه في هذه الصورة مع أنه قهري عليه(2/131)
كالسراية مشكل على ما تقرر فيها ويقتضي أنه لا يصح تبرع المدين قلت هذا تحريف أو إجمال يحتاج لتقييد بإرجاع ضمير اشترى إلى المريض وحمل الدين على المستغرق لأن الذي صرحوا به وهو الصواب الذي لا يقبل نزاعاً إن من ملك أصله أو فرعه عتق قهراً عليه عقب الملك ما لم يكن مريضاً وعليه دين مستغرق لأن المريض محجور عليه في كل ماله إن كان عليه دين مستغرق وإلا ففيما لا يحتمله ثلثه وقد صرحوا بالسراية فيمن اشترى بعض قريبه مع تقريرهم أنه لا فرق في السراية بين أن يكون عليه دين مستغرق أو لا ومنه يعلم أن المدين الذي دينه يستغرق جميع ماله لو اشترى بعض أصله أو فرعه عتق عليه ما اشتراه وسرى العتق إلى باقيه فيلزمه قيمته لمالكه ولا نظر إلى ما عليه من ذلك الدين فكيف مع ذلك يتعقل صحة هذا الإِجمال الذي أوقع فيه الزركشي بتقدير أن النساخ لم يحرفوا شيئاً لكن الظاهر أنه من تحريفهم ويؤيده أن النسخة التي رأيت فيها ذلك يغلب عليها السقم والتحريف العبارة السابقة قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/132)
الرافعي في باب التفليس ومقتضى هذا القيد وهو اشتراط زيادة الديون على مال المفلس حتى يحجر عليه اشتراط وجود مال للمديون ويجوز أن يقال لا حاجة إليه ويكفي مجرد الدين لجواز الحجر منعاً له من التصرف فيما عساه يتجدد باصطياد أو اتهاب أو الظفر بركاز أو غيرها فإن كان كذلك فليفسر المفلس بالذي ليس له مال يفي بديونه ليعم من لا مال له أصلاً انتهت الحجة في قوله ويكفي مجرد الدين لجواز الحجر منعاً له من التصرف فيما عساه يحدث الخ. فإنه صريح مع كونه مديناً ولا مال له أصلاً يرجو الوفاء منه يصح تصرفه الشامل لتبرعه بل هو المقصود بالمنع إذ لا محذور في تصرفه بغيره وقد أقره المتأخرون على قوله منعاً له الخ. وإنما خالفوه تبعاً للأصحاب في امتناع الحجر حيث لا مال لانتفاء سببه حينئذٍ وذلك التعسي الذي ذكره خلاف الأصل فلم ينظر إليه على أن الغرماء بصدد مراقبته ورفعه للحاكم ليحجر عليه إن حدث له مال فلا محذور في عدم الحجر عليه قبل ذلك الحدوث فعلم أن كلامه في مقامين أحدهما مسلم وهو صحة تصرفه فيما حدث ولم يحجر عليه وهذا عين مسئلتنا لأنه مدين لا يرجو وفاءً لدينه وقد صح تبرعه بما في يده وحينئذٍ يزداد التعجب من القائلين بعدم صحة تبرعه والآخر غير مسلم وهو الحجر قبل الحدوث لما مر من انتفاء سببه ومن ثم قال ابن الرفعة ما ذكره من الحجر هنا مخالف للنص والقياس إذ ما حدث إنما يحجر عليه فيه تبعاً للموجود وما جاز تبعاً لا يجوز قصداً العبارة الثامنة قول الأصحاب من له مال لا يفي بديونه وسأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه وجوباً لأنه قد يقضي بعض الغرماء دينه فيتضرر الباقون وقد يتصرف فيه فيضيع حق الجميع قال ابن الرفعة ويستنبط من هذه العلة أن المال لو كان مرهوناً امتنع الحجر اللهم إلا أن يكون فيه رقيق وقلنا ينفذ عتق الراهن له أي على قول لأن الغرض أنه معسر هذا ما ظهر تفقهاً ولم أره منقولاً أ هـ .
فقولهم قد يتصرف الخ واستثناء(2/133)
ابن الرفعة منه عتق المرهون على ذلك القول صريح موافق لما ذكرته عن الرافعي في صحة تبرع المدين الذي لا يرجو وفاء وكذلك استثناء ابن الرفعة من العلة ما ذكره صريح في أن مال المدين المفلس قبل الحجر غير مرهون ولا يتعلق به حق الغرماء فلذا صح تبرعه به ومن ثم علله الشيخان بقولهما كما مر لأنه مالك لما في يده نافذ تصرفه فيه زاد الرافعي وتبعوه أنه لا فرق بين أن يكون ما عليه قدر ما في يده أو أكثر كما مر وبهذا الذي ذكره ابن الرفعة وارتضاه كما هو ظاهر كلامه يظهر لك صحة ما قدمته أنه لم يقصد بتخريجه السابق إلا مجرد إجراء الخلاف دون الترجيح وإلا تناقض كلامه هذا مع ذاك لأن هذا المذكور هنا صريح في صحة تبرع المدين وإن لم يرج وفاء والمذكور ثم يقتضي ترجيح عدم صحته فوجب الجمع بالحمل الذي ذكرته وهو أنه لم يقصد بذلك التخريج إلا إجراء الخلاف لا غير وبفرض أن ظاهر تخريجه الترجيح أيضاً لا يعمل به لأنه مع مخالفته الصريحة للمذهب مخالف لصريح كلامه نفسه هنا وإذا اختلف كلام إمام وجب الأخذ بالصريح منه دون الظاهر كيف والصريح الذي هنا هو المذهب الذي لا ريب فيه عند من أحاط بتلك النقول التي قدمتها فإن قلت ما قاله ابن الرفعة في التفليس مردود فلا حجة فيه قلت المردود منه بحث منع الحجر في المرهون بعدم الفائدة فيه ووجه رده إن له فوائد كالمنع من التصرف بإذن المرتهن وفيما عساه يحدث بنحو اصطياد وهذا البحث وإن سلم رده بما ذكر لا يمتنع أن يستدل به على ما نحن بصدده فلا يرد علينا كونه مردودا العبارة التاسعة ما في فتاوى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/134)
الأصبحي وصورته رجل وقف أرضه وعليه ديون فهل يصح الوقف الجواب إن كان ذلك قبل الحجر عليه وهو في صحته فالوقف صحيح فهو صريح فيما هو المنقول السابق إن تبرع المدين في حال صحته قبل الحجر عليه صحيح وإن لم يرج لدينه وفاء العبارة العاشرة قول الأصحاب لا يمنع الدين الذي لله تعالى أو للآدمي وإن حل واستغرق ماله أو زاد عليه وجوب الزكاة قبل الحجر عليه وعللوه بأن ماله لا يتعين صرفه لجهة الدين ثم فرعوا على ذلك نذر التصدق بعين النصاب النقد أو الحيوان أو غيرهما أو قال جعلته صدقة أو هدياً أو ضحية فتم الحول قبل صرفه لجهة النذر فلا زكاة فيه لزوال ملكه عنه بالنذر أو الجعل هذا ما جزم به الشيخان ونقلاه عن الأصحاب واعتراض البلقيني له أشار الجلال إلى رده فتأمل قولهم إن ماله لا يتعين صرفه إلى جهة الدين أي ولو بعد الطلب الموجب للإِداء فوراً لأن له الإِداء من جهة أخرى باقتراض أو نحوه تجده صريحاً فيما مر أنه ما دام لم يحجر عليه فالمال متعلق بذمته لا بشيء من أعيان ماله وإذا لم يتعلق بشيء من أعيان ماله فأي مبطل لتبرعه وتأمل أيضاً ما فرعوه على ذلك من صحة النذر والصدقة والهدي والأضحية من المدين مع تصريحهم بأن الدين مستغرق لماله وزائد عليه تجده صريحاً ظاهراً لا يقبل تأويلاً في صحة تبرع المدين قبل الحجر وحينئذٍ يزداد تعجبك من المخالفين لذلك مع وضوح صرائح المذهب فيه ولقد رأيت لكثير من علماء حضرموت في بيع العهدة ما يشابه ما وقع فيه أولئك بل هو أقبح بكثير لما فيه من مخالفة المذهب المخالفة الصريحة بإبداء آراء يجزمون بها مع خروجها عن المذهب وقواعده بالكلية ولم أرَ لهم عذراً في ذلك بل أقول إن ذلك لا يجوز لأن من المعلوم المقرر المعترفين به والمذعنين له أنهم شافعية ومفتون ومؤلفون على مذهب الشافعي رضي الله عنه وليسوا مجتهدين قطعاً بأي مرتبة فرضتها من مراتب الاجتهاد فمع ذلك كيف يجوز لهم في إفتاء أو تأليف أن يذكروا آراء(2/135)
لا يمكن تخريجها على مذهب الإِمام الشافعي بوجه بل مجتهدوا المذهب أصحاب الوجوه وغيرهم لم يبدوا شيئاً من وجوههم وآرائهم إلا على قول الشافعي أو قاعدته لا يخرجون عن ذلك ألبتة ومن خرج عنه كمفردات المزني وآراء أبي ثور وابن جرير الطبري وابن المنذر لا تعد آراؤه وجوهاً في المذهب ولا منه بل هو كبقية آراء المخالفين للمذهب وأما الجواب عن أولئك الحضارمة أنهم جروا في ذلك على آراء من مذاهب المجتهدين غير الشافعي فبعيد لأنهم إذا سلكوا ذلك كان يتعين عليهم أن يبينوا تلك الآراء بنسبتها إلى قائلها أو بكونهم أخذوها من قياس قول المخالفين أو قواعدهم وأما إطلاقها عرية عن ذلك ففيه إيهام بل صريح أنها من مذهب الشافعي ومن ثم رأيت أكثر مشتغلي الحضارمة يتوهمون ذلك فاتضحت حرمة هذا الفعل لما فيه من التغرير للمسلمين والتجاسر على مراتب الأئمة المجتهدين وفقنا الله وإياهم لطاعته أجمعين بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/136)
تنبيه اختلفوا في المدين الذي عليه دين مستغرق لما في يده هل يلزمه زكاة الفطر وعلى عدم اللزوم يسن له إخراجها أخذاً من قول شرح المهذب العبرة في الفضل عما ذكره بوقت الوجوب فوجوده بعده لا يوجبها اتفاقاً لكن يندب إخراجها أ هـ .
فإذا ندب إخراجها هنا مع الاتفاق على عدم وجوبها فأولى أن يندب في مسئلتنا لقوّة الخلاف في الوجوب وبفرض تسليم عدم الندب فجواز الإِخراج لا نزاع فيه وعلى كل من ندب إخراجها أو جوازه ففي ذلك الحجة لجواز تبرع المدين لأن إخراجها حيث لم يجب يكون تبرعاً ومما يصرح بالندب ما في شرح المهذب أيضاً في خبر الأنصاري الذي نزل به الضيف فأطعمه قوته وقوت صبيانه من أن هذا ليس بصدقة بل ضيافة وهي لا يشترط فيها الفضل عن عياله ونفسه لتأكدها وكثرة الحث عليها حتى إن جمعا أوجبوها أ هـ .
فكذا الإِخراج هنا متأكد للخلاف الشهير في وجوبه فليسن للمدين ويؤيد جواز الإِخراج ما بحث في الأضحية أنها لا تحرم من مدين لا يرجو وفاء رعاية لقول جماعة من السلف أنها تجب حتى على المعسر كما أن الضيافة لا تحرم على المدين أ هـ .
ولا ينافيه قولهم إنما تسن للقادر لأن المراد به من في يده ما يفي بها وإن كان عليه ديون مستغرقة له وعليه فزكاة الفطر على القول بأن الدين يمنع وجوبها والضيافة والأضحية يجوز إخراجها ولو من مدين لا يرجو وفاء فيفيد ذلك صحة تبرع المدين ولا ينافي الجواز هنا الحرمة في الصدقة لأنه لا داعي لها ولا عذر في إخراجها بخلاف هذه الثلاثة للخلاف في وجوبها والخروج من الخلاف سنة بشرطه فإن قلت ما ذكرته عن المجموع في الضيافة خالفه في شرح مسلم وانتصرت له في كتابك المسمى بإتحاف ذوي المروءة والإِنافة بما جاء في الصدقة والضيافة قلت ما في المجموع جرى عليه جميع متأخرون فصح الاستشهاد به لما مر العبارة الحادية عشرة قولهم في التيمم لو كان عليه دين مستغرق لم يلزمه صرف شيء مما بيده إلى ماء طهارته فقضية قولهم لم يلزمه أنه(2/137)
لو صرفه إلى الماء جاز أي صح لأن حرمة ذلك معلومة من كلامهم في الصدقة وهو مراد الإسنوى بقوله وإن حرم عليه ذلك في بعض الصور وإذا تقررت صحة صرفه في ذلك كان صريحاً في صحة تبرع المدين لأن الفرض أن دينه مستغرق وأنه تبرع بشراء الماء وقد صح ذلك فلتصح سائر تبرعاته العبارة الثانية عشر قول الروضة في التفليس اعلم أن التعلق المانع من التصرف مفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعاً انتهت وهي صريحة لا تقبل تأويلاً في صحة تبرع المدين قبل الحجر وأنه لا يمنعه منه إلا الحجر الحسي أو الشرعي والعجب كل العجب ممن قال لا دلالة في ذلك لخروجه بالتنصيص عليه فأي تنصيص على خلاف ما دلت عليه عبارتها الموافق لعبارتها أيضاً في العتق فإن أريد بالتنصيص عليه ما اقتضاه تخريج ابن الرفعة كان ذلك أعجب إذ كيف تترك صرائح النقول لتخريج متأخر بمحتمل بل مردود كما مر بيانه موضحاً العبارة الثالثة عشرة قول جمع من المتقدمين والمتأخرين في الحيل أنها إذا أسقطت حق الغير بعد وجوبه حرمت فهذا منهم تصريح بأنها مع حرمتها وإبطالها لحق الغير المتعلق بتلك العين المتصرف فيها كما صرحوا به في الشفعة بعد وجوبها يصح العقد المشتملة تلك الحيلة عليه وإن فوت ذلك الحق وإذا تقرر هذا من كلامهم وعلم منه أن حرمة تفويت ذلك الحق لا ينافي صحة العقد المفوّت له وإن تعلق بالعين فأولى تبرع المدين قبل الحجر لأن الحق حينئذٍ متعلق بالذمة وبفرض صحة تعلقه بالعين ليس مقتضياً لبطلان العقد بل إنما يبطله التعلق بها من حيث ذاتها أو الأمر اللازم لها فتدبر ذلك فإنه دقيق اضطرنا إليه ما علمت من كلامهم في الحيل وبما قررته يعلم ردماً للبندنيجي فيها فتأمله العبارة الرابعة عشرة قول الجواهر في باب الهبة ولا يشترط فيه أي في الواهب أهلية التبرع وهو أن يكون غير محجور عليه أ هـ .
وهذا صريح قاطع للنزاع عند من له أدنى تأمل فإنه متى انتفى الحجر وجدت أهلية التبرع ففيه أبلغ ردّ على المفتي(2/138)
ومن تبعه في قولهم إنه ليس أهلاً للتبرع وإن انتفى الحجر فلا تصح تبرعاته وليس كما زعموا فإن قلت لو كان فيه أهلية التبرع لم يحرم عليه التبرع وقد تقرر فيما مر إن كان تبرع فوّت حق الدائن يكون حراماً قلت هذا غفلة عما مر مبسوطاً إن ملحظ الحرمة غير ملحظ الصحة إذ مدار الحرمة على إلحاق الضرر بالغير ومن تبرع بما يفوت قضاء دينه بأن لم يرج وفاء بالمعنى السابق فقد أضر بالدائن فأثم لذلك ومدار الصحة على عدم تعلق حق بالعين ومتى لم يحجر على المدين فالدين متعلق بذمته لا غير فلم يكن لإِبطال تصرفه وجه وإن حرم لأن الحرمة لأمر خارج لا لمعنى يتعلق بالعين أصلاً كما مر مبسوطاً ومما يؤيد ذلك ويقطع النزاع أيضاً أنه لا نزاع في أنه يجب أداء الدين بالطلب ويحرم تأخيره حينئذٍ ومع ذلك صرح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/139)
الشافعي رضي الله عنه كما مر بنفوذ التصرف الشامل للتبرع فعلمنا أن حرمة التبرع لا تنافي صحته فاحفظ ذلك واشدد به يديك تسلم من اللجاج والعناد اللذين لا يليقان بفاضل فضلاً عن كامل حمانا الله وإياك عن ذلك ووفقنا لسلوك أقوم المسالك بمنه وكرمه آمين العبارة الخامسة عشر قول أفقه تلامذة الفتى وأجل مشايخ شيخ المفتي اللذين احتج بكلامهما فيما ذهب إليه أعني شيخ الإِسلام الشهاب المزجد صاحب العباب في فتاويه بصحة نذر المدين وعبارة السؤال هل يصح النذر من المديون بما يحتاجه إليه لوفاء دينه حيث لم يكن له غيره وذلك قبل أن يحجر عليه وعبارة الجواب نعم يصح النذر من المديون بما يحتاج إليه لوفاء دينه إذا كان يصبر على الإِضاقة وإلا فلا إذ التصدق في هذه الحالة مكروه والنذر لا يصح بالمكروه ومراده أنه لا يصح بالمكره لذاته بخلاف المكروه لغيره بل والمحرم لغيره كما سيأتي وحينئذٍ فهذا نص في صحة سائر تبرعات المدين إذ النذر من أفراد التبرع وعجيب اعتماد المفتي لفتوى شيخه أبي العباس الطنبداوي وتجاهيه بها إعراضاً عن القاعدة المقررة أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال وإعراضه عن فتوى شيخ الطنبداوي مع أنه أجل منه فقهاً وتحقيقاً بل لا نسبة بينهما فالفارق بين الناس إنما هو آثارهم ويؤيد ذلك قول الأذرعي وقضية إطلاقهم أنه لا فرق في صحة نذر المدين بين من عليه دين لا يرجو له وفاء وهو محتاج إلى صرف ماله في الدين وبين غيره وفيه نظر للمتأمل لحرمة الصدقة بما يحتاج إليه لدين لا يرجو له وفاء أ هـ .
فتأمل كيف جعل ذلك بحالتيه داخلاً في كلامهم وقد قال النووي في مجموعه إن المسئلة إذا دخلت تحت إطلاق الأصحاب كانت منقولة لهم تعلم أن ما أفتى به المزجد هو المنقول وأن من خالفه فيه لم يصب العبارة السادسة عشرة قول شيخ شيخه المذكور في فتاويه أيضاً فيمن عليه صداق حال لزوجته فملك ماله لآخر من غير عوض له وأذن له في القبض فقبل وقبض ولم يبق(2/140)
له مال فهل يصح التمليك والحالة هذه أم لا نعم يصح تمليكه وإقباضه والحالة هذه أ هـ .
فتأمل هذا من هذا الفقيه الغير الخفي عليه ما وقع فيه شيخه الفتي من ورطة عدم صحة نذر المدين وسائر تبرعاته تجده أعرض عما شذ به شيخه المذكور وأفتى بالمذهب ولم يعوّل على إفتاء شيخه بذكر ولا رد اكتفاء بأن من له أدنى ممارسة بالفقه يعلم شذوذه فيما أفتى به وإن من تبعه على ذلك فقد قلده من غير إمعان وتفتيش لكتب المذهب بل مر أن ما يعلم به الرد الواضح على الفتى في المختصرات فضلاً عن المطوّلات فتيقظ لذلك كله لتسلم وتغنم والله سبحانه وتعالى أعلم وإذا اتضح كل الاتضاح منقول المذهب حتى صار كار على علم فلنرجع إلى بعض مؤاخذات على عبارة المفتي السابقة التي سقت حاصلها في قولي خامسها قوله على أن ما في شرح المهذب منظور فيه فقوله منظور فيه هو المنظور فيه إذ لا وجه للنظر فيه مع موافقته لما مر عن الشافعي والأصحاب وعن الروضة وأصلها في العتق أن من عليه دين بقدر ما في يده زاد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/141)
الرافعي و النشائي وغيرهما أو أكثر منه نفذ تبرعه بالعتق وغيره فهذا موافق لقول شرح المهذب عن الشاشي من أن من وجب عليه ديون وطولب بها فوهب ماله وسلمه فإنه يصح أ هـ .
وعليه ففارق ما مر في مسئلة الماء بان الحق ثم تعلق بعين الماء فلم يصح التصرف فيه حتى بالبيع بغبطة وهنا الدين متعلق بالذمة دون أعيان مال المدين إذ لا يتعلق بها إلا بالحجر كما صرحوا به وقد مر عن الشافعي في الأم أنه لا يتعلق بها ولو بعد مطالبتهم ورفعهم للقاضي حتى يحجر عليه وبهذا يندفع اعتراض الإسنوى للشيخين فيما ذكراه في مسئلة الماء بكلام الشاشي ويعلم أنه لا جامع بين المسئلتين بوجه وإذا تقرر أن كلام الشاشي هذا موافق لكلام الشافعي والأصحاب فالنظر فيه باطل لا يعول عليه ولما كان ما ذكره مشهوراً لما تقرر من موافقته لكلام الشافعي والأصحاب لم يحتج النووي إلى التعرض له بنفي ولا إثبات بل سكت عليه لذلك وعلى قياسه مسئلة الماء عليه لوضوح الفرق بينهما كما تقرر ومعنى قول الإسنوى إن شرح المهذب جزم بما قاله الشاشي أنه حكى جزم الشاشي ولم يعترضه ومن عادته في هذا الشرح أنه متتبع فيه لكلام الأصحاب فحكايته عنه ذلك القياس وسكوته عليه دليل على تقريره له عليه من وجهين أحدهما أن الغالب أن الضعيف إنما يقيس على ما يوافقه عليه الأصح وقد يقيس على ما ظهر دليله وإن لم يوافقه عليه ذكر ذلك الرافعي وغيره والأخذ بالغالب صحيح وقد أخذ به المخالفون في تخريج ابن الرفعة السابق بسط ما فيه فقالوا إنه يفهم أن ابن الرفعة قائل ببطلان الصدقة نظير ما في مسئلة الماء المخرج عليها فأخذهم بقضية الغالب من التخريج وهو الاتحاد في الحكم أيضاً واعتراضهم على الإسنوى وغيره في اعتمادهم كلام الشاشي ونسبتهم إلى النووي اعتماده نظراً للغالب السابق تحكم غير مرضي فاتضح ما قاله الإسنوى وغيره وبطل الاعتراض عليه والقول بأن صنيع شرح المهذب ظاهر في تزييف هذا القياس من العجيب فأي صنيع(2/142)
اقتضى في القياس ما ذكر وإنما الصنيع يقتضي تقريره بالمقيس عليه واعتماده نظراً للغالب الذي صرح به الرافعي وغيره وأخذ به المعترض نفسه في ذلك التخريج كما تقرر وقوله وكثيراً الخ. قد تقرر أن هذا مسلم لكن لا حجة له فيه لأن الغالب خلافه والأخذ بالغالب متعين هذا كله بفرض أن كلام الشافعي والأصحاب لا يوافق كلام الشاشي وأما إذا بان موافقته له فلا نظر إلى كثير ولا إلى غالب
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/143)
وقوله إنه اكتفى بما سيذكره الخ. ليس في محله كما تقرر من كلامهم أنه لا يلزم من الحرمة البطلان إلا إذا رجعت إلى معنى يتعلق بذات المعقود عليه أو لازمه وأن من ذلك مسئلة الماء لا مسئلة الصدقة ونحوها وإن كلام الشافعي والأصحاب صريح في ذلك لا غبار عليه ومعنى تعليل الأوّل بحرمة التسليم أن الحرمة فيه لمعنى يتعلق بالمعقود عليه كما مر بسطه وتقريره غير مرة بأمتن دليل وأوضحه وقوله ولا شك أنه مأخذ ابن الرفعة الخ مسلم لكن قد سبق إيضاح أن كلامهم صريح في رد هذا المأخذ إذ مأخذهم في مسئلة الماء تعلق الحق بالعين بدليل بطلان البيع ولو بغبطة وفي مسئلة الصدقة كونها تبرعاً يضر بالدائن لا تعلق دينه بعين المال لما تقرر من كلام الشافعي والأصحاب من أن الدين لا يتعلق بعين المال إلا بالحجر وشتان ما بين المأخذين كما مر بسط ذلك وإيضاحه وقوله بل بحث معه في التوسط الخ. هذا البحث في غير محله لما قررته من الفرق الواضح بين المأخذين وسبق رده أيضاً بأن الحرمة في مسئلة الماء متفق عليها وفي مسئلة الصدقة مختلف فيها ومع الاتفاق على الحرمة في مسئلة الماء اختلفوا في صحة التصرف فكيف مع ذلك يقال ينبغي في مسئلة الصدقة الجزم بعدم نفوذ التصرف مع الاختلاف في الحرمة ومع حكايتهم الخلاف في مسئلة الماء مع اتفاقهم على الحرمة هذا مما لا يتعقل كما هو واضح بأدنى تأمل وفرقه أعني الأذرعي بما ذكره المعترض يرده ما سبق عن المذهب إن حق الدائن لا يتعلق بأعيان مال المدين إلا بالحجر ولم يوجد ولا نظر إلى الطلب ولا إلى توجه الأداء في الحال لأن ذلك كله لا يقتضي التعلق بالعين بخلاف مسئلة الماء للتعلق بالعين فيها كما مر نقله وبسطه فلا نظر لكون ذلك حق آدمي وهذا حق لله تعالى لاختلاف الجهة وإنما كان يحسن النظر لذلك لو اتحدت وقد بان واتضح اختلافها فبطل ما فرق به من أصله كما هو ظاهر للمتأمل وقوله إن النشائي الخ. من العجيب أيضاً وكم حذف هؤلاء مسائل من(2/144)
شرح المهذب وأي قاعدة أو دليل على أن هؤلاء إذا حذفوا منه حكماً دل على ضعفه وأي إشعار بأنهم فهموا عن النووي تزييفها والتشبث بما لا يصلح تشبثاً ينبغي التنزه عنه وقوله ونسبة الفتى الخ. يقال عليه قوله فقياس ما سبق يحتمل أنه أراد ما سبق في التفليس وصدقة التطوع من أن الدين متى وجب على الفور حرم تأخير أدائه ولو بالتصدق وإن رجا الوفاء من جهة ظاهرة وحينئذٍ فالمراد بالامتناع في كلام الإسنوى الحرمة إن أراد بالتصرف التبرع لا البطلان إلا على ما سبق من تخريج ابن الرفعة السابق رده ويحتمل أنه أراد ما سبق في التيمم والسابق فيه شيئان الحرمة وبطلان التصرف فيحتمل أنه أرادهما أو الأول فقط وعلى كل فجزم المعترض بأنه أراد قياس ما سبق في التيمم في هبة الماء من الحرمة والبطلان فيه نظر ظاهر إذ لا دليل له على هذا الجزم بل الحق أن كلامه محتمل فلا يستدل به على شيء من ذلك بل قوله بعده ففي صحة ذلك نظر دليل ظاهر على أنه لم يرد بالامتناع في مسئلة الكفارة إلا الحرمة لأن الملحظ في المسئلتين أعني مسئلة الكفارة ومسئلة الصدقة واحد وحينئذٍ فكيف يتوهم من كلامه أنه قائل في مسئلة الكفارة ببطلان التصرف ومتردد في البطلان في مسئلة الصدقة إذ الاستقراء من صنيع المؤلفين قاضٍ بأنهم إذا قالوا في صحة كذا أو حرمته أو نحو ذلك نظر دل على أنهم لم يروا فيه نقلاً وهذا مؤيد لما قاله الفتى أنه نسي ما قدمه في التيمم على أنه لو فرض أنه قائل ببطلان تبرع المدين الذي قال به المفتي ومن تبعه لم يلتفت إليه لما مر من مخالفته لكلام الشافعي والأصحاب ومن بعدهم الواجب على كل من لم يصل إلى درجة الاجتهاد اتباعه واعتماده وبهذا يتبين خطأ تعبير المعترض بقوله فالصواب ما ذكره في الحجر وجعله القياس ولقد وقع للنووي مع جلالته ما لا يقارب هذه العبارة الشنيعة ومع ذلك اعترضه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/145)
الأذرعي بأنه ما كان ينبغي له أن يصوّب ما خالف فيه الشافعي وأصحابه بل وقع للإِمام مع عظم جلالته أنه لما قال في مسئلة في النذر عدم انعقاده عندي خطأ اعترضوه بأنه كان الصواب أن لا يعبر بالخطأ كيف وعدم الانعقاد هو منصوص الأم والمختصر قالوا وكأن عذره أنه ظن أن المسئلة مولدة لا منصوصة منقولة أ هـ .
ولا يبعد أن يقال إن هذا هو عذر ذلك المفتي وقوله وفرق في التيمم هذا الفرق هو الصواب الذي يصرح به كلامهم كما مر بسطه وإيضاحه وقوله ونظر فيه الخ. لا وجه لهذا النظر لأن قوله وقد رضي بذلك الدائن إنما هو باعتبار الغالب في الدين لا أنه قيد فلا يرد دين الإِتلاف وقوله ويخدشه أيضاً الخ. ما ذكره فيه مسلم حكمه لأنه مذكور في كلامهم في التيمم لأنهم لما قيدوا تعلق الحق بعين الماء بما إذا لم يحتج المملك إلى ثمن الماء وهذا الذي أبداه المعترض وأوهم أنه من عندياته التي يسلمها الفقيه ولا ينكرها إلا الجامد المتعسف احتاج فيه المملك إلى ثمن الماء فمع التعلق بالعين بصريح كلامهم كما هو جلي على أن قوله وطلب الدائن بيعه قيد ليس في محله بل وجود الدين المذكور مانع تعلق حق الطهارة به وإن لم يطلب الدائن بيعه بل ولو مؤجلاً كما صرحوا به وقوله ولا يقال إنه تعين للطهارة الخ. لم يقل ذلك أبو زرعة ولا غيره وإنما الذي قالوه إن الحق في مسئلة الماء حيث لا حاجة بالمملك إلى ثمنه ولا بالمتملك إلى عينه للعطش تعلق بعينه وفي مسئلة الصدقة الدين المحرم لها لم يتعلق بالعين إذ لا حجر بل بالذمة لا غير فلم يقتضِ بطلان التبرع هذا حاصل ما فرق به أبو زرعة فالاعتراض عليه بأنه لا يقال الخ. في غير محله وقوله وبه يعلم أن المستحقين الخ. لم يعلم ذلك بل المعلوم عنده لما تقرر أن الحق في مسئلة الماء متعلق بالعين وفي مسئلة الشاشي متعلق بالذمة لا غير لما مر غير مرة أنه لا يتعلق بالعين إلا بالحجر كما صرح به الشافعي والأصحاب وقوله ومن نظر إلى المعنى إلى(2/146)
قوله ولم يرتب الخ. يقال عليه هذا من العجيب كيف والذي اتضح القطع به من كلام الشافعي والأصحاب صحة تبرع المدين قبل الحجر عليه وإن لم يرج وفاء وقوله إلى المعنى الذي لأجله امتنع التبرع بالماء أعجب لأن المعنى الذي في الماء لم يمنع التبرع به فحسب بل منع التصرف فيه حتى بالبيع ولو بأضعاف قيمته فعلمنا بطريق القطع أن هذا المعنى غير المعنى الذي امتنع به تبرع المدين بالمال فتسويته بينهما واستنتاجه من ذلك ضعف ما في شرح المهذب عن الشاشي وقوله ولم يرتب في صحة ما قلناه الخ. كل ذلك في غير محله لما تقرر من وضوح الفرق بين الملحظين وأنه قاضِ بصحة ما في شرح المهذب ومن أن بطلان تبرع المدين قبل الحجر عليه رأي شاذ مخالف للمذهب فلا يجوز لأحد التمسك به ولا الاعتماد عليه في إفتاء ولا تأليف فاحفظ ذلك ولا تغتر بما سواه وإذا انتهى الكلام معه في بعض تأليفه المذكور فلنرجع إلى بقية الكلام على جوابه المذكور أوّلاً ثم إلى ما بقي في تأليفه مما يحتاج للرد سادسها قوله أما صورة السؤال فلا يخالف فيها أحد فإنها مفروضة في صدور ذلك منهم بعد المطالبة لهم بالدين أ هـ .
وهذا من العجب أيضاً إذ كيف ينفي الخلاف فيها مع أن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/147)
الشافعي في الأم مصرح بخلافها وعبارتها كما مر ويجوز له ما صنع في ماله بعد رفعه إلى القاضي حتى يقف القاضي ماله أي يحجر عليه انتهت وهي صريحة في نفوذ تبرعه ولو بعد الطلب والرفع للحاكم ما لم يحجر عليه ومع ما مر عن شرح المهذب عن الشاشي من قوله وكما لو وجب عليه ديون وطولب بها فوهب ماله وسلمه فإنه يصح فجزم الشاشي بالصحة بعد الطلب فيه أبلغ الرد لقوله لا يخالف فيها أحد وحينئذٍ فالتجاسر على المذهب بأن بطلان تبرع المدين بعد الطلب لا يخالف فيه أحد لا ينبغي صدوره من جاهل فضلاً عن فاضل سابعها قوله قال ابن عبد السلام الخ. سوقه لعبارة ابن عبد السلام هذه مما يتعجب منه فإنه لا حجة له فيها أصلاً على مدعاه بل فيها الحجة عليه وبيان ذلك أن قوله فإن مات أحدهما قبل أداء ما عليه لم ينفذ عتقه الخ. فيه تقييد عدم نفوذ العتق والتبرع بما إذا مات ولم يؤد ما عليه وقد كان فعل ذلك في مرض موته وهذا الحكم لا نزاع فيه في المذهب لأن تبرع المريض لكونه محجوراً عليه لحق الورثة إنما ينفذ من ثلثه وهو لا يعتبر إلا بعد قضاء ديونه فإذا لم يفضل عنها شيء بطلت جميع تبرعاته كما مر وإذا تقرر ذلك فهذا التقييد منه يفهم نفوذ تبرعاته التي قبل مرضه وإلا لم يكن لتقييده بالمرض كبير جدوى وقوله وكذا الحكم الخ. يفيد التقييد بوقوع تبرع المكاتبين ونحوهم في المرض وأنهم ماتوا قبل وفاء ما عليهم وهذا حجة لنا فيما قلناه وحررناه تقبله الله بمنه وكرمه آمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/148)
تنبيه وقع له أدام الله النفع به أنه لم يعوّل في جوابه هذا على ما في السؤال أنهم فعلوا ذلك حيلة لئلا يحصل لأهل الديون شيء هل ذلك قيد فيما يقوله أو غير قيد فإن قال إنه قيد قيل له ظاهر كلام ابن الرفعة بل صريحه أنه لا يشترط هذا القيد كيف وهو لا معنى له لأن الملحظ إضرار الدائن وهو حاصل بالتبرع قصد به الحيلة أو لا وإن قال ليس بقيد قيل له إنك مصرح باتباعك في هذا الإِفتاء للفتى وهو يشترط قصد الإِضرار كما يأتي في جوابه مع الكلام عليه واعلم أن كلامهم في الزكاة صريح في أن الحيلة المسقطة لها لا تمنع صحة التصرف وإن قلنا بحرمة الحيلة وبذلك صرح الزركشي وحاصل كلامهم في ذلك أنها بقصد الفرار وحده مكروهة هذا هو المذهب واختار الغزالي أنها حرام وأن الذمة لا تبرأ وأن ذلك من العلم الضار ووافقه الزركشي وغيره وجعله مثل طلاق المريض فراراً والإِقرار لبعض الورثة بقصد حرمان الباقين قال فهذه الثلاثة تنفذ ظاهراً أ هـ .
وما قاله صحيح في الآخر فقط وفي شرح المهذب في محل وقيل محرم وليس بشيء وفيه في محل آخر أن قول الغزالي كجمع متقدمين بالحرمة غلط عند الأصحاب وفيه أيضاً أن الحول ينقطع بذلك وإن نوى به الفرار بلا خلاف واختار ابن الصلاح أنه يأثم بقصده لا بفعله فإن قلت سلمنا صحة العقد المفوت هنا وفي مسئلتنا فلم قلتم بالحرمة في مسئلتنا ولم تقولوا بها هنا مع أن السبب وهو الحجر في مسئلتنا لم يوجد كما أن السبب هنا وهو المال مع الحول أو بشرطه لم يوجد قلت لأن الحق هنا لمعين فاحتيط له ولبناء الزكاة على المساهلة وهذا هو ملحظ القول الضعيف أن المطلقة في المرض ترث ولا ينفذ طلاقها ووجهه أيضاً أنه بالمرض صار محجوراً عليه للورثة وهي من جملتهم فلم يملك إبطال حقها ولم ينظر الأصح إلى شيء من ذلك لأنها إلى الآن لم يثبت لها حق والإِرث إنما يعتبر بوقت الموت لا المرض فنفذ طلاقها ولم ترث ظاهراً ولا باطناً وإن قصد بذلك حرمانها هذا ما(2/149)
يتعلق بجواب السؤال وبعض ما في السؤال وبعض ما في التأليف وبقي فيه ما قد يحتاج للتنبيه عليه ومنه قوله وقد أفتيت مراراً ببطلان التبرع المذكور إذا كان لا يرجو الوفاء من غير ذلك يقال عليه الإِفتاء الذي رأيناه في عدة نسخ ليس فيه هذا القيد وقوله ولا للبائع إلى ثمنه بتأمل هذا مع ما مر عنه في المسئلة التي أوهم أنه أبداها وأن الفقيه يسلمها وأنه لا ينكرها إلا جامد أو متعسف يعلم أنها عين قول الروضة وغيرها ولا للبائع إلى ثمنه كما مر ذلك مبسوطاً وأن الإِنسان مجبول على النسيان لكنه قيد ما قاله بقيد مر أن كلامهم هذا يرده وقوله فرع وجب عليه الحج وله مال فتصدق به ثم مات فهل يرجع على الفقراء لأنه بان أنهم لم يملكوه قال في الخادم الظاهر نعم كما في مسئلة هبة المال أو التصدق به وعليه دين أ هـ .
ولا حجة له في هذا الفرع إلا في قول الزركشي كما في مسئلة هبة المال الخ. أي بناءً على اعتماد ما أفهمه تخريج ابن الرفعة وقد بان واتضح غير مرة فيما مضى أن ذلك مخالف لما عليه الشافعي والأصحاب ومن بعدهم فلا يعتمد وإن اعتمده الزركشي أو غيره لأن ذلك لعدم استحضارهم لما ذكرناه من منقولات المذهب ومعتمداته وأما ما رجحه الزركشي من أنهم لا يملكونه فلا يتجه أدنى اتجاه القول به إلا أن تضيق عليه الحج وتعين صرف ما بيده إليه فتصدق به ثم مات ولم يحج لأنه حينئذٍ يشبه مسئلة الماء في تعلق حق الله بعين ذلك المال فلم يصح التصرف فيه ولو بغير التبرع كالبيع بناءً على صحة قياسه على مسئلة الماء وأما إذا كان الحج موسعاً فإنه لم يتعلق به حق فليصح التصدق به وإن مات ولم يحج فإن قلت وقت الصلاة موسع وقد قالوا بالبطلان مع ذلك قلت أجابوا عن ذلك كما مر عنهم في ثالث الاعتراضات بأن سبب التعلق كون الصلاة لها وقت محدود إلى آخر ما سبق ثم ولك أن تأخذ من هذا عدم صحة قياس مسئلة الحج على مسئلة الماء وتفرق بأن الأصل في الحج أنه موسع غير محدود الطرفين(2/150)
وتضييقه عارض بخلاف الصلاة فيتعلق حقها بالعين فأبطل التصرف بخلاف الحج وأما قياس الزركشي على مسئلة هبة المدين بناءً على بطلانها فغير صحيح لأن هذا حق آدمي فليشدد فيه أكثر بخلاف الحج وقد مر عن الأذرعي أنه نظر في فرقه بين هبة الماء وهبة المدين المال إلى ذلك وقوله اعتراضاً على ما في شرحي الكبير للإِرشاد من الفرق بين ما اقتضاه تخريج ابن الرفعة بناءً على اعتماده من عدم ملك المتصدق عليه وما في شرح المهذب عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/151)
الشاشي من صحة هبة المدين وفيه نظر وكيف يقال بتخريج التصدق على الهبة ثم يتخيل بينهما فرق ويجاب بأن هذا مما يتعجب منه أيضاً لأن الفرق الذي ذكرته إنما هو بين هبة المدين وصدقته والتخريج ليس على هذه الهبة فإنها صحيحة كما مر عن شرح المهذب وإنما هو على هبة الماء بعد دخول الوقت بشرطه كما مر بسط ذلك موضحاً لكن محبة الاعتراض قد تؤدي إلى اختلاط المقامات وعدم إمعان النظر في العبارات وقوله اعتماداً على ما ذكرته في الفرق أن الحرمة في الهبة ليست ذاتية هذا هو علة الوجه الثاني الذي ضعفه في شرح المهذب هو مما يتعجب منه أيضاً لأنه على وزان ما قبله من أنه التبس عليه هبة الماء بهبة المدين وكلامي إنما هو في هبة المدين وكلام شرح المهذب في تعليل الوجه الثاني إنما هو في هبة الماء وقد مر أن الحرمة في هذه ذاتية فاقتضت إبطالها بل إبطال البيع وفي تلك لأمر خارج هو إضرار الدائن فلم تقتض الإِبطال وقوله اعتراضاً على قولي ثم رأيت الأذرعي فرق بما فيه نظر والأذرعي لم يفرق بين التصدق والهبة وإنما بحث الحرمة مع ابن الرفعة ا هـ وهذا على وزان ما قبله من الالتباس أيضاً لأن معناه أن الأذرعي اعترض ابن الرفعة في إجرائه خلاف الماء في تصدق المدين فإنه ينبغي هنا الجزم بعدم الصحة رعاية لحق الآدمي فنظرت في ذلك لما مر بسطه أن المدرك في المسئلتين مختلف وأنه قاض بصحة الصدقة فضلاً عن الجزم بعدم صحتها فراجع ذلك فإنه مهم وقوله عن إيضاح الناشري ما حاصله أنه اعتمد ما أفهمه كلام ابن الرفعة من عدم صحة تبرع المدين يقال عليه لا نظر إلى الناشري ولا إلى غيره مع ما مر بيانه من كلام الشافعي والأصحاب والشيخين وأكابر المتأخرين وقوله وليت الشارح المذكور الخ. يقال عليه هذا التمني مبني على ذلك الالتباس السابق بيانه فأما عند تأمل ما ذكرناه فالزيادة المذكورة في محلها كما هو جلي وقوله حتى قال بعضهم أنه في شرح المهذب صحح هبة المدين ومن أين له ذلك(2/152)
وفي أي موضع صححه يقال عليه هذا مما يتعجب منه أيضاً لما مر مبسوطاً أنه نقله عن الشاشي وسكت عليه وأن موضوع شرحه للمهذب الذي هو متتبع فيه لكلام الأصحاب أن سكوته على الحكم فيه إنما هو لارتضائه له وأن الغالب أن الضعيف إنما يقيس على ما يوافقه عليه الأصح فهذا كله يؤيد القائل بأنه صححه أو جزم به السابق عن الإسنوى وزعم المعترض أن كلامه فيه تزييف لكلام الشاشي غير صحيح كما مر بيانه وقوله والعجب أن المفرقين في التيمم أقروا ابن الرفعة على تخريجه يقال عليه لا عجب في ذلك لما مر أن التخريج لا يستلزم الاتحاد في الحكم وبفرض استلزامه له أو النظر للغالب فيه يجاب عنهم بأنهم إنما سكتوا عليه في موضع للعلم بضعفه مما قرروه وفرقوا به في موضع آخر وهذا كثيراً ما يقع للمؤلفين فلا بدع فيه وقوله وإذا برىء شرح المهذب عما نسبه الإسنوى إليه والحق براءته بعين التخريج الذي صرح به ابن الرفعة أو القطع الذي بحثه الأذرعي يقال عليه هذا مما يتعجب منه أيضاً لما مر موضحاً أن التخريج ليس على هبة المدين التي في شرح المهذب عن الشاشي وإنما هو على هبة الماء وهذا لارتباط له بمسئلة الشاشي بل التخريج على حاله سواء قلنا باعتماد ما قاله الشاشي أم لا إن أريد التخريج من حيث الخلاف وأما إذا أريد التخريج من حيث الحكم فقضية كلام ابن الرفعة بطلان هبة المدين والشاشي جازم بصحتها فيقع حينئذٍ التعارض بينهما في ذلك ومر أن كلام الشاشي هو منقول المذهب الذي لا غبار عليه وأن كلام شرح المهذب ظاهر في اعتماده كما مر بيانه أيضاً فهو لم يبرأ منه فلم يتعين تخريج ابن الرفعة ولا قطع الأذرعي ومن نظر لما قدمته متكرراً في رد ذلك التخريج وذلك القطع اتضح له أنه لا تعويل على واحد من هذين لمخالفته لصريح المذهب ومنقوله وقوله بل أقول صدعا بالحق يجوز نسبة شرح المهذب إلى بطلان هبة المديون حيث حرمنا عليه التصدق أخذاً من تعليل التيمم ومن تحريم التصدق في باب(2/153)
صدقة التطوع ومن نسبة الوجهين بالهبة للوالي على سبيل الرشوة وتقليل أحدهما بالمعصية وهي العلة التي اعتمدها النووي أ هـ .
يقال عليه هذا الصدع مبني على صدع في فهم مدرك هبة الماء ومدرك صدقة المدين وقد مر متكرراً أن الأول هو كون الحرمة ذاتية فاقتضت البطلان حتى في البيع بأضعاف الثمن والثاني هو كونها خارجة عن الذات ولازمها لأنها ليست لمعنى في المتصدق به إذ لم يتعلق حق الدائن به بل في الدائن الخارج عن ذلك بإضراره بتفويت دينه والخارجة كذلك لا تقتضي إبطالاً ومسئلة الرشوة من قبيل الأولى فحرمتها ذاتية لأن حق المالك متعلق بعينها وإخراجها من يده إنما هو كره عليه فلم تخرج عن ملكه وإن لم يعصِ المعطي لإِرشائه على وصول حقه فاعتماد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/154)
النووي لكون العلة المعصية محمول كما صرح به هو والأصحاب على المعصية الذاتية دون غيرها وبتأمل هذا يعلم أنه لا تلازم بين مطلق الحرمة وإبطال التصرف المحرم خلافاً لما زعمه المعترض وبنى عليه صدعه بالحق وأنه لا يجوز أن ينسب لشرح المهذب القول ببطلان هبة المدين وإنما الذي ينسب إليه القول بصحتها محرمة لما مر من الطريق المسوغة لنسبة ذلك إليه وقوله أن التحقيق في قوله عصى ولم يصحا لازم بين العصيان والإِبطال يقال عليه أي وجه يفهم به من عبارته هذا التلازم لا سيما مع العطف بالواو المقتضي لاستقلال كل جملة بحكمها وإنما كان يتوجه ذلك لو عطف بالفاء فقال عصي فلم يصحا فهذا يقتضي نوع ارتباط أو تلازم على أنه لو عبر بهذه لم يكن فيها دليل لأن قوله عصى إنما هو في بيع الماء وهبته والمعصية هنا ذاتية كما تقرر فيصح أن يقول فلم يصحا لما بين الحرمة الذاتية والإِبطال من التلازم وقوله فالحاصل الذي تلخص لنا مما قررناه وحررناه أنه حيث حرم تبرع المدين فإنا نحكم بعدم صحته ونلازم ما بين التحريم والبطلان هنا وإن لم نلتزمه في غير هذا الموضع لفارق أ هـ .
يقال عليه هذا إنما يصدر مثله من المجتهد المطلق لأنه الذي يؤسس له قواعد تخالف قواعد غيره ليترتب عليها أحكامه التي يستنبطها وأنى لأحد من منذ نحو سبعمائة سنة كما أفاده كلام ابن الصلاح أن يتحلى بذلك على أنه في هذا الحاصل خالف نص الشافعي السابق أنه يصح تبرع المدين بعد مطالبته ورفعه إلى الحاكم مع حرمة هذا التبرع عليه لأن الدين يجب أداؤه فوراً بالطلب وإذا تقررت مخالفة هذا الحاصل لنص أمام المذهب علم أنه حاصل مبتدع لم يسبق إليه فليكن رداً عليه وقوله لفارق يقال عليه كان ينبغي لك إبداء هذا الفارق ليصح أو يبطل ما اخترعته مما لم تسبق إليه من أن الحرمة ولو لأمر خارج تقتضي الإِبطال ولو في بعض المواضع نعم هذا الحاصل يناسب مذهب أحمد لكنه يعمم ذلك في كل حرمة خارجية فالتخصيص بهذا(2/155)
المحل في التلازم دون غيره لا يوافق قواعد أحمد ولا قواعدنا بل ولا قواعد بقية المجتهدين كما يعلم من تحرير مذاهبهم في الأصول وقوله وإياك والتهويل الذي ذكره الإسنوى والجمود عليه فتقع في تخطئة كثير من المحققين المعتمدين يقال عليه قد علم مما قررناه أنا لم نعتمد في التهويل إلا كلام إمام المذهب وأصحابه ومن بعدهم وتخطئة كثير من المحققين لأجل هذا متعينة على أنهم معذورون بعدم إطلاعهم على ما اطلعنا عليه وإلا لم يخالفوه بوجه كما هو الظن بالمقلدين وإنما ظنوا أن المسئلة في كلام المتأخرين لا غير فجروا على ما ظهر لهم من المدرك ونحن لا نمنع ظهور مدركهم فيها وإن صحة تبرع المدين يترتب عليها من الضرر ما لا يخفى لكن المذاهب نقل يجب أن يتطوّق به أعناق المقلدين حتى لا يخرجوا عنه وإن اتضحت مدارك المخالفين وقوله إن السمهودي حاول تعدي الصحة إلى النذر ثم رد عليه ذلك بما مر رده مبسوطاً يقال عليه هذا غفلة عن كلام الأصحاب في الزكاة فإنهم صرحوا بصحة نذر المدين وإن كان دينه مستغرقاً كما مر بيان ذلك فقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/156)
الزركشي ومن تبعه أن نذره باطل ليس في محله ولما ظهر لأعظم تلامذة الفتى وهو شيخ الإِسلام المزجد أن المنقول صحته جزم بها كما مر ولم يبال بمخالفة شيخه ولا غيره وقوله عن إفتاء لحمزة الناشري فيه اعتماد البطلان ونقله عن جمع متأخرين وهو إفتاء جيد وفيه إيماء أو تصريح بأن ذلك هو المنقول وهو الحق كما قدمناه يقال عليه ليس فيه تصريح ولا إيماء بذلك لأن ابن الخياط الذي نقل ذلك عنه إنما قاس على مسئلة بيع الماء وهبته وقد علمت بطلان القياس ثم نقل ذلك عن جماعة من المتأخرين فأي منقول أومأ إليه أو صرح به نعم قوله وهو الموافق لقواعد المذهب محتمل للإِيماء إلى ذلك إلا أن هذه دعوى يبطلها ما مر من أن منقول المذهب الصحة وبذلك بان الدفاع قوله وهو الحق وأي حق يتعقله مقلد مع مخالفة نصوص الشافعي وأصحابه ومن بعدهم إلا أولئك الجمع المتأخرين الذين اغتر بكلامهم جماعة من اليمنيين كالعلامة التقي عمر بن محمد الفتى فإنه سئل عما لفظه رجل له ورثة وله مال وعليه ديون كمهر أو غيره فأراد إضرار الغرماء فباع بعض الورثة أو أقر لهم أو نذر عليهم أو التزم في ذمته تلك الأموال إضراراً بالغرماء فحصل منها تفويت تركته كلها ثم مات هل تصح هذه التبرعات أولاً فأجاب بما لفظه أما النذر فلا يصح لعدم القربة وأما الالتزام بلفظه فلا يصح وأما الإِقرار ظاهراً من غير حقيقة فإنه لا يحل ولا يصح باطناً ومن علم مراده ممن سمعه لا تحل له الشهادة هذا وأما البيع بهذا القصد فحرام بلا شك وأما صحته فالذي ينبغي ويتجه بل يتعين أن يحكم بفساده من وجوه منها المضارة ومنها أنه يترتب عليه مفسدة عظيمة وهي سد باب استيفاء الديون والأحكام لأن كل واحد يقدر على هذا فيتعطل على الحكام الحكم والحبس بالديون وقال الإِمام ابن عبد السلام إن الشرع مبني على المصالح ودرء المفاسد فما أمر الشرع بشيء إلا وفيه مصلحة ولا نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة وهي مفسدة عظيمة هذا من حيث المعنى(2/157)
وأما النقل فإن الفقيه نجم الدين بن الرفعة بناه على بيع الماء وهبته في الوقت حتى يجري فيه الخلاف ويكون الصحيح المنع وبحث الإِمام الأذرعي معه ما يقتضي القطع بالمنع معللاً بتعلق حق الغير والمعنى المتقدم يؤيد ما قالاه فليكن هو الحق وقد ورد أن الله تعالى ينطق كل عالم بما يليق بأهل زمانه نعم أطلق في شرح المهذب صحة تمليك المديون ماله وينبغي أن يحمل على عدم قصد
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/158)
المضارة وتعطيل الدين الذي عليه أو تكون المصلحة الفتوى بخلافه للمصلحة ودفع المفسدة ويتأيد بما قدمناه أ هـ .
جوابه وهو مشتمل على عجائب منها قوله أما النذر فلا يصح لعدم القربة وهذا ضعيف فإن الذي مر عن الأصحاب صحته فإن قلت تبرع المدين حرام فكيف صح نذره مع ذلك والنذر شرطه القربة قلت الذي حققته في باب النذر أن الحرمة إن كانت لأمر خارج لم تناف انعقاده وهي هنا كذلك كما مر ويأتي فمن ذلك ما نص عليه الأصحاب من صحة نذر عتق المرهون من الموسر واستشكل ذلك كثيرون بأن القياس أنه لا ينعقد لأن الإِقدام على عتقه معصية وجوابه أن الحرمة هنا لأمر خارج هو إزالة وثيقة الغير وقد لا يحصل له بدلها مع تشوّف الشارع للعتق ويوافق ذلك قول جمع متقدمين وإن كان ضعيفاً على ما فيه يصح نذر الصلاة في المغصوب ويصلي في موضع آخر فلولا أن المقرر عندهم أن الحرمة الخارجية لا تمنع صحة النذر لما قالوا بذلك فإن قلت فما وجه ضعفه حينئذٍ قلت كان وجهه أنه لما صرح بالمعصية في نذره كان ذلك ملحقاً بالذاتي بل أبلغ بخلاف عتق المرهون ونذر الدين فإنه لم يقع فيهما تعرض للمعصية في النذر فنظر فيها إلى كونها خارجة عنه فصح منه وجرى جمع متقدمون على صحة نذر الجنب لقراءة القرآن وللاعتكاف نظير ما مر في المغصوب بما فيه ومما يؤيد ذلك أن الأصحاب مع تصريحهم بأنه لا يصح نذر المكروه قالوا بصحة نذر صوم الجمعة وليس وجهه إلا ما ذكرته من أن الكراهة فيه غير ذاتية بل لأمر خارج هو كونه عيداً أو الضعف عن وظائفه أو غير ذلك فلم يعارض أصل مطلوبية الصوم ولما خفي هذا المعنى على جمع متأخرين نازعوا في صحة نذر صومه بأنه مكروه وكذا وقع في صوم الدهر فإنهم لما نقلوا عن شرح المهذب الاتفاق على انعقاد نذره اعترضوه بأن النذر تقرب والمكروه لا يتقرب به ويرد بما تقرر أن الكراهة لأمر خارج فالحاصل أن العبادة المطلوبة من حيث العموم لا يمنع انعقاد نذرها اقتران كراهة أو حرمة(2/159)
بها لأمر خارج عن ذاتها ما لم يصرح بالمعصية في نذره لمنافاة المعصية حينئذٍ النذر من كل وجه فلم يمكن انعقاده ثم رأيت بعض المحققين ذكر نحو ما ذكرته فتأمل ذلك فإنه نفيس مهم فإن قلت هذا ظاهر حيث لم يقصد به إضرار الغرماء أما عند قصده ذلك فالصحة مشكلة قلت يمكن أن يجاب عن ذلك بأن قصده الإِضرار لا يصير الحرمة فيه ذاتية وإذا لم تكن ذاتية انعقد كما تقرر لأن المدار فيه على الصيغة فإذا وقعت مستوفية لشروطها صحت وإن صحبها قصد محرم خارج عنها وعن المنذور به كما هنا فإن من نذر لزيد بألف قاصداً إضرار غرمائه يصدق على نذره هذا من حيث ذاته أنه نذر قربة وأما قصد الإِضرار فأمر خارج عن هذه القربة فلم يؤثر فيها على أن هذا القصد لم يحدث إلا قوة الحرمة وإلا فأصلها موجود وإن انتفى ذلك القصد لما مر من حرمة تبرع المدين ومع ذلك صرح الأصحاب بصحة النذر وإذا لم يحدث القصد حرمة لم يكن أصلها موجوداً فلا وجه لاقتضائه البطلان ومنها قوله وأما صحته فالذي ينبغي الخ. وهذا فاسد أيضاً لأن الذي صرح به الأصحاب أن كل ما أبطل شرطه العقد لا يضر إضمار نيته فيه وذكر صاحب الكافي أنه مع ذلك الإِضمار هل يحل باطناً وجهان قال وأصحهما عندي يحل لحديث عامل خيبر أ هـ .
وإذا علم أن الشروط المبطلة للعقد لا تؤثر في صحته ظاهراً ولا باطناً قصدها عنده أو قصده لأجلها فأولى قصد الإِضرار هنا بل لو قيل فيما لو قال بعتك هذا إضراراً بغرمائي أنه لا يضر التصريح بذلك في صحة البيع لم يبعد من كلامهم لما تقرر أن البيع لأجل الإِضرار صحيح فقوله إضراراً بغرمائي تصريح بذلك لا غير ولم يقع على جهة الشرط الفاسد حتى يبطل بخلاف ما لو قال بعتك هذا بشرط أن يضر غرمائي أو على أن يضرهم فإن هذا باطل بلا شك ومنها قوله أنه يترتب عليه مفسدة عظيمة الخ. وهذا فاسد أيضاً أما أوّلاً فمطلق البيع لا يترتب عليه ذلك فإن أراد البيع بمحاباة فكان ينبغي له أن يخص البطلان بقدر(2/160)
المحاباة وحينئذٍ لا يحتاج إلى قصد المضارة لأن من يقول ببطلان تبرع المدين لا يشترط قصد المضارة فجعل الفتى قصد المضارة مقتضياً للبطلان غير متعقل لأن البيع إذا كان بثمن المثل فلا مضارة أو بدونه فقدر المحاباة على طريقة أولئك البيع فيه باطل وإن لم يقصد المضارة فإن قلت يتصور ذلك في البيع من ظالم لا يعطي الغرماء شيئاً وإن اشترى بثمن المثل قلت هذا بعيد الوقوع وخلاف فرض السؤال أن البيع لبعض ورثته لكن قول السائل يحصل منها تفويت التركة كلها يوضح المراد وأما ثانياً فلان البحث عن المصالح أو المفاسد إنما هو وظيفة المجتهدين وأما المقلد المحض فلا يجوز له أن ينظر إلى ذلك ويخالف كلام أئمته وقد صرح الأصحاب بصحة بيع المصادر وإن انحصرت جهة خلاصه في بيع ماله مع ما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا يتدارك خرقها بل المفاسد هنا أقبح منها في مسئلة المدين لأن المال باقٍ في ذمته فلم يفت على الدائن ماله بالكلية بخلاف المصادر فإن ماله فات عليه بالبيع من غير أن يكون مستقراً في ذمة أحد لأن الفرض صحة بيعه فعلمنا بذلك أن غير المجتهد لا يجوز له النظر في المصالح ولا في المفاسد وإنما عليه النظر في كلام إمامه وأئمة مذهبه والعجب منه أنه فيما يأتي سلم ما في شرح المهذب ثم قال أو تكون المصلحة الفتوى بخلافه الخ. وهذا تجاسر منه قبيح جداً لأنا إذا رأينا كلام الأصحاب أو بعضهم ولم يعارضه من كلام غيره ما هو أقوى منه ثم رأينا أن المصلحة اقتضت الإِفتاء بخلافه كيف يسوغ لنا ذلك الإِفتاء هذا مما لا يمكن مقلداً القول به وإن كان مجتهد فتوى لأن ذلك ليس من وظيفته وإنما وظيفته الترجيح والتخريج عند تعارض الآراء وأما مخالفة منقول المذهب لمصلحة أو مفسدة قامت في الذهن فذلك لا يجوز ومن فعله فقد وقع في ورطة التقوّل في الدين وسلك سنن المارقين حفظنا الله بمنه وكرمه آمين ثم رأيت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/161)
ابن دقيق العيد قال: إن قاعدة تقديم المصالح أو الأصلح ودرء المفاسد أو الأفسد إنما هي في الجملة لا أنه عام مطلقاً حيث كان ووجد بل ابن عبد السلام نفسه استشكل القاعدة بأن الأمة أجمعت على أن العدوّ لو نزل ببلد وخاف ناسه من استئصاله لهم إن لم يعطوه فلاناً أو ماله أو امرأته لم يجز لهم ذلك مع أن مفسدة الواحد دون مفسدة الجميع بل لا نسبة بينهما ثم أجاب عنه بما لا يشفي ثم ترتب تلك المفسدة التي ذكرها على البيع إنما يتصوّر كما علم مما قدمته آنفاً في البيع من ظالم لا يقدر على الخلاص منه ووقوع هذا من المديونين نادر جداً أو في البيع من غيره لكن بمحاباة وهذا أيضاً فيه ندور وإنما الغالب تبرعهم بالصدقة والهبة والوقف بل لا يسلم من ذلك إلا الفذ النادر لأن غالب الناس لا يخلو من دين مهر أو غيره ومع ذلك يتبرعون وإن لم يرجو لذلك وفاء فما ذكره غير الفتى في التبرع فقط أوجه مما ذكره هو في البيع وإن كان الكل ضعيفاً بل شاذاً وقوله بناءً على بيع الماء وهبته ذكره البيع سهو فإن ابن الرفعة لم يخرج إلا على هبة الماء لأن كلامه في الصدقة بما يحتاجه وذلك إنما يتأتى قياسه على الهبة لا البيع كما هو جلي وقوله والمعنى المتقدم يؤيد ما قالاه فليكن هو الحق هذا فاسد أيضاً وكيف يكون الحق وهو مخالف لكلام الشافعي والأصحاب الذي مر بيانه على أنه أعني الفتى لم يجر على ما قالاه لأنهما قائلان ببطلان تبرع المدين على ما مر من غير اشتراط قصد مضارة للغرماء والفتى يقيد باشتراط قصد المضارة كما دل عليه التقييد بذلك في السؤال وفي كلامه في قوله وأما البيع بهذا القصد فاقتضى أنه حيث انتفى ذلك القصد صح منه ذلك التصرف وهذا تفصيل مخترع من عنده لم يشهد له نقل ولا قاعدة بل المنقول والقاعدة مصرحة بخلافه فليكن رداً عليه وقوله وقد ورد الخ. هو مطالب ببيان ورود ذلك عمن ومن أي طريق معتد بها على أن الواقع قاضِ بخلاف ذلك لأن المراد بالعالم في هذا(2/162)
الذي زعم وروده المجتهد المطلق وهو قد انقطع من منذ نحو سبعمائة سنة والناس في هذه المدة الطويلة إنما يعملون بقول المجتهدين ووجوه الأصحاب من أقوال المجتهدين باعتبار أنها مأخوذة منها وكل عالم في تلك المدة لا ينطق إلا بما يليق بقواعد مذهبه لاق بأهل زمانه أم لا ومنها قوله وينبغي أن يحمل على عدم قصد المضارة وهذا فاسد أيضاً لما تقرر أن قصد المضارة لا يقتضي إبطالاً مطلقاً كما يصرح به كلامهم الذي قدمته آنفاً وبما قررت به كلامه وبينت ما فيه يعلم صدق من قال اعتراضاً عليه أن إفتاء هذا إفتاء بالرأي وبطلان اعتراض هذا بأنه تعصب عليه وبيان ذلك ما قدمته أنه يشترط في البطلان قصد المضارة وهذا رأي مخترع لم يقل به من قلدهما فيما زعمه أعني ابن الرفعة والأذرعي ولا غيرهما وإنما منقول المذهب صحة تبرع المدين مطلقاً ما لم يحجر عليه حساً أو شرعاً كما مر أوائل الكتاب عند تحريري للمدين الذي وقع النزاع في صحة تبرعه وبحث ذينك ومن تبعهما بطلانه مطلقاً فتفصيل الفتى بين قصد المضارة وعدمها رأى مخترع من عنده فهو رد عليه وإن كان محققاً وله تآليف عظيمة لأن من القواعد المقررة أنه لا يعرف الحق بالرجال خلافاً لمن استعظم تخطئته مع ذلك وإنما يعرف الرجال بالحق والعجب ممن قال إن فتواه هذه مصرحة بأن ما أفتى به هو المنقول كيف وهو مصرح بأنه إنما خالف ما في شرح المهذب لأحد الأمرين الفاسدين اللذين ذكرهما وبأنه قلد فيما قاله ابن الرفعة والأذرعي على أنه خالفهما بالتفصيل الذي اقتضاه كلامه بين قصد الإِضرار وعدمه فأي منقول اتبعه في ذلك حتى يزعم من قلده فيما ذكره أن فتواه مصرحة بأن ما أفتى به هو المنقول وما أحسن قول بعض معاصري الفتى اعتراضاً عليه المذهب المشهور المنصوص صحة تصرفه في جميع ذلك قبل الحجر فقد بر في ذلك وصدق لما علمت أن هذا هو نص الشافعي في الأم في مواضع وأن الأصحاب والشيخين وغيرهما جروا على ذلك كما مر بيانه فمن اعترض(2/163)
عبارته هذه فهو لعدم اطلاعه على ما ذكرته على أنه تعسف في اعتراضه وأتى فيه بما يتعجب منه كقوله فيما مر عن الروضة في التفليس في الثانية عشر أن هذا لا دلالة له فيه وقد مر ثم بسط الرد عليه ومن أعجب العجيب أن صاحب المؤلف السابق ذكره لما حكى عن فتح الباري لشيخ الإِسلام الحافظ الشهاب بن حجر أنه قال قضية كلام البخاري أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع لكن محمل ذلك عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس وقد نقل فيه صاحب المغني وغيره الإِجماع فيحمل إطلاق المصنف عليه أ هـ .
أي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2(2/164)
البخاري في قوله أن ما فعله المدين رد عليه قال في الرد عليه قوله لكن محمل ذلك عند الفقهاء الخ. لم أرَ التصريح به لغيره وأحسب الحامل له على ذلك قول الروضة السابق وقد قدمت أنه لا دلالة فيه على ذلك أ هـ .
المقصود وأنت فيه من وراء التأمل غني عن أن يحتاج إلى رده ومع ذلك لا بدّ من إشارة ما إلى ما فيه إذ هذا الحافظ من المعلوم الذي لا ينكر لا يخفى عليه مذاهب الفقهاء في هذه المسئلة ولا يمكن أن يسند ذلك الحمل للفقهاء الشامل للمجتهدين ذوي المذاهب المدوّنة بل وغيرها بمجرد عبارة يجدها في الروضة ومن ثم نقل عن المغني وغيره الإِجماع فكيف مع ذلك يتجاسر على كلامه برده بأنه لم يره لغيره ومثل هذه العبارة لا يعتد بها إلا ممن ساواه في الحفظ والاطلاع على مذاهب المجتهدين وأما من قصر نظره على مذهبه فمثل هذه العبارة منه غير مقبول على أنه في هذه المسئلة لم يحط بنصوص مذهبه الموافقة لما قاله ذلك الحافظ وإنما اعتمد أبحاثاً مردودة كما مر وقوله عن كلام الروضة الذي قدمته في الثانية عشر أنه لا دلالة فيه على ذلك من أعجب العجب كما مر بيانه فإن قلت نقله الإِجماع ينافي ما مر عن المالكية قلت قدمت الكلام على ذلك مبسوطاً فراجعه وأمعن النظر في جميع هذا الكتاب ومقابله لتعلم الحق في هذه المسئلة من الباطل والقول الجلي من القول الحائر المائل والله تعالى يوفقنا أجمعين لمرضاته ويدر علينا أخلاف نعمه وهباته ويجعلنا من إخوان الصفا الذين هم على سرر متقابلون وبالحق عاملون وإليه مسارعون وعن داء اللجاج والتعصب يتنزهون أنه المنان بكرمه المتفضل بنعمه فإليه مفزعنا في الكثير والقليل وهو حسبنا ونعم الوكيل يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذكرك الذاكرون أبداً دائماً بدوامك أسألك أن تصلي أفضل صلاة وأن تسلم أفضل سلام وأن تبارك أفضل بركة على أفضل خلقك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد معلوماتك(2/165)
وأن تختم لنا أجمعين بالحسنى بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين قال المؤلف ـ رضى الله تعالى عنه ـ ورحمه فرغت منه وقت صلاة الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة اثنين وستين وتسعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هذا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 2
كتاب الذيل
المسمى بكشف الغين عمن ضل
عن محاسن قرة العين
(بسم الله الرحمن الرحيم) رب تمم بالخير (أما بعد) حمدا لله على آلائه والصلاة والسلام على واسطة عقد أوليائه وأصحابه وتابعيه حماة دين الله من سفاسف كل جاهل عنيد وغوائل إغوائه فهذا كتاب لقبته كشف الغين عمن ضل عن محاسن قرة العين دعاني إليه أني لما فرغت من كتابي قرة العين ببيان أن التبرع لا يبطله الدين الذي ألفته جواباً عن إفتاء وتأليف في بطلانه لمفتي زبيد القائل فيه غير واحد من علمائها أنه عنيد وأي عنيد انتشر بمكة المشرفة فكتبه المصريون واليمانيون فلما اطلع عليه صاحب الإِفتاء والتأليف كرر غلطه المشتمل على كثير هدر وهذيان وسفاهة وطغيان وقبائح تصم عنها الآذان وفضائح لا يصدر مثلها إلا ممن مان وخان ووصمات يبقى عارها أبد الآبدين وصدمات ظن أن لا يتيقظ لها أحد من الفضلاء المحققين وغير ذلك مما سود الصحيفة وأوجب النار والكشيفة في عدة تصانيف في صورة تأليف يرسلها إلى مكة المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة حتى أوجب ذلك لبعض فضلاء المصريين أنه رفع الأمر لعلماء بلده فكلهم أطبقوا أنه خالف الصواب والمنقول وسلك مسالك العناد والتعسف الغير المنقول ثم أرسل خطوطهم لمكة فأحصوا بضعاً وسبعين نفساً ووافقهم المكيون أيضاً مشيرين كلهم إلى أن ما رقمه حقيق بان ينبذ وراء الظهر ولا يسام بثمن ولا مهر ولم لا ولم يمن بقراع الإِبطال اللماميم ولم يدفع إلى جدل مما يعرك عرك الأديم ولم يرزق أريباً ولا ناصحاً لبيباً يصده عن التهوّر والبهتان والتقول والشناعة والعدوان فليأخذ ما(2/166)
يأتيه من وضائح الرد وحقائق الحق والنقد لا لتنقيص ذاته بل لرد قوله وهنيهاته امتثالاً لما أخذه الله من الميثاق وتعويلاً على ما يسلمه تالد من خلو قلوبنا عن الحقد والحسد والنفاق وإنما اضطرنا إلى ذلك خوف اغترار العوام بما وقع فيه من السقطات والأوهام مما قد يستزل الضعفاء القاصرين ولم يجر فيه على سنن المحصلين فضلاً عن العلماء العاملين فشرعت في بيان ما فيها مما لا يدرك القاصرين ما في مطاويها مستعيذاً بالله من الخطأ والخطل ومستعفياً من العثار والزلل ومستعيناً به ومتوكلاً عليه وماداً أكف الضراعة إليه وأن يصلح جميع أحوالي وأحواله وأن يطهرها من حظوظ نفوسنا في أقوال كل وأفعاله وأن يمن علينا في المباحثات العلمية بسدده مما جاء عن عمر وعثمان أنهما كانا يتنازعان في المسائل العلمية حتى يقال إن كلاً منهما لا يخاطب صاحبه بعد في زمن من الأزمان ثم لا يقومان من مجلسهما إلا وهما على غاية من الصفاء والمحبة والوفاء لما أنهما طهرا من حظوظ النفوس المهلكة وأهويتها وتحلياً بمعاني الأخلاق الكريمة وأمنيتها وكذا مما جاء عمن استمسك بهديهما وهدى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان أدام الله عليهم شآبيب الرحمة والرضوان ولقد وقع لشيخنا زكريا سقى الله ثراه في مسئلة في الوقف أنه وبعض الحنفية تجاذب فيها نظراهما وتكررت في أحوالها فتاويهما مع الأغلاظ من كل في الرد على الآخر لكن بما ليس المقصود منه إلا بيان الحق مع صفاء الخاطر وصلاح الباطن والظاهر بدليل بقاء محبتهما على ما كانت عليه ومزيد مواصلة كل للآخر بالثناء والتردد إليه هذا مع أن شيخنا كان له في تحمل الرد وأذى معاصريه القدم الراسخ وإيصال قاطعيه الطود الشامخ ومن ثم أظهره الله ظهوراً لم ينالوه وأبقى له من الآثار الحميدة والتآليف الفريدة ما لم يؤملوه حقق الله لنا اقتفاء تلك الآثار وأجارنا من الفتن والمحن وسائر الآضار إنه الكريم الغفار الحليم الستار بمنّه وكرمه آمين(2/167)
متمثلاً بما دعا لقائله إن الله... هنا بياض بالأصل:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد القوم أصدرا
وما أحسن قول ابن عباس لابن الزبير رضي الله عنهم لما أراد الخلافة وقد خليت الدار متمثلاً:
يا لك من قنبرة بمعمر
خلا لك البر فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
صنادد البوم عليك تجتري(2/168)
ومصنفاته تلك قسمان أكثرها تكرير لما مر في كتابه الأول الذي رددته ونقدته فلم أره إلا زيفاً وحرافاً وحيفاً وهذا القسم لا أتعرض له إلا نادراً والقسم الثاني اشتمل إما على بهت يخترعه اختراعاً قبيحاً ثم يرتب عليه ما ظن أنه لا يكشف كشفاً صريحاً وإما على عدم فهم وتصوّر لما يعترضه وهو مع ذلك يتحيل أنه يرده وينقضه وهذا القسم هو الذي أتعرض له بحيث لا يخفى على صغار الطلبة فضلاً عن الفضلاء والأئمة النبلاء لما آتى ببسط الكلام عليه وأبين عواره في الأكثر وأقيم على ذلك البراهين الصحيحة التي هي من الشمس أظهر ومجموع ذلك في مواضع تبلغ اثنين وعشرين موضعاً الأول تعجب بحسب ما حرفه فهمه من ردّي لتخريج ابن الرفعة مع جرياني في كتبي عليه وبفرض صحة ذلك أي تعجب فيه مع أن من له أدنى ممارسة بكتب المتقدمين والمتأخرين يعلم أنهم يقع لهم كثيراً أنهم يخالفون في فتاويهم ما في مؤلفاتهم وفي بعض مؤلفاتهم ما في بقيتها فلا تعجب من ذلك بوجه وإنما قصده من نحو هذه العبارة إيهام الأغبياء مثله أن هذا تناقض قادح مخل وليس كذلك كما لا يخفى على أدنى متعلم على أن قولي قضية تخريج ابن الرفعة كذا لا يقتضي أني مرتضيه أو معتمده فكم من مثل هذه العبارة يذكرونها ويسكتون عليها ولا تكون معتمدة لا ينكر ذلك إلا جاهل مبتدع لا مستقر ولا متتبع ومما يدل على عدم اعتمادي لأصل التخريج أني في شرح الإِرشاد الكبير قصرته على الصدقة وفرقت بينها وبين نحو الهبة بما مر الكلام عليه في قرة العين مع بيان غلط هذا العنيد فيما وقع له في ذلك ويأتي تكريره كذلك وتكريرنا لرده آخر الكتاب ولقد قال في المطلب في التفليس بعد كلام ساقه نعم استيلاده أي المفلس هل ينفذ ذكرت في الكفاية شيئاً لم أرضه الآن فإن الذي يظهر نفوذه بكل حال الموضع الثاني من تلك القبائح قوله كيف وقد أطبق على حكمها المتأخرون إلا من شذ فهي من منقول المذهب هذا من أول شقاشقه وافترائه التي قدمنا في(2/169)
القرة بطلانها بالنصوص الصريحة من كلام الشاشي والأصحاب على أن أكثرهم إنما عبروا بقولهم وقضية كذا وهذا لا يقتضي اعتماده لأمرين أما الأول فلأن قضيته وعليها يحتمل أرادها وأن لا وأما ثانياً فلان سكوتهم عليها لا يقتضي أنهم يوافقونه عليها لو فرض أنه أرادها ومن تأمل كلمات المؤلفين علم ذلك ولم يرتب فيه وتأمل غشه لنفسه والمسلمين فإني ذكرت له في القرة نصوص المتقدمين والمتأخرين المصرحة بخلاف هذه القضية لقول الجواهر لا يشترط في الواهب إلا أهلية التبرع وهو أن يكون غير محجور عليه وقول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/170)
الشافعي بنفوذ العتق وإن كان عليه من الدين أكثر من قيمة المعتق وغير ذلك فلم يعرج على شيء من هذه الصرائح المنادية عليه بالبوار والخسار. الموضع الثالث من تلك القبائح الطويلة في أن البطلان في هبة الماء وفي الرشوة من وادٍ واحد وأنه في الأول أقوى لأن التحريم لحق الله بخلاف الرشوة فإن التحريم فيها لم يتعلق به حق لأحد واستنتاجه من ذلك أن التحريم المتعلق بحق الآدمي أقوى ا هـ وهذا كله هذيان لا حاصل له لا سيما إذا نظر إلى افترائه أن التحريم في الرشوة لم يتعلق به حق لأحد وإلى استنتاجه المذكور مع أن الذي مهده إنما ينتج أن التحريم المتعلق أقوى مما لم يتعلق به حق لأحد ثم قال بعد بورقات العلة الجامعة بين هبة الماء والرشوة مجرد التحريم من غير نظر إلى تعين وغيره ووجه بطلان هذا الهذيان الغني عن البيان لولا ما مر من خشية توهم القاصرين أن الذي حققته وقررته في القرة أنا لا ننظر إلى التحريم المتعلق بخصوص الآدمي أو بغيره وإنما ننظر إلى ما يتعلق بالعين أو لازمها وإلى ما يتعلق بخارج عنهما ومسئلة هبة الماء والرشوة من القبيل الأول ومن ثم بطل بيع الماء ولو بأضعاف ثمنه بخلاف تبرع مدين لم يحجر عليه فإنه من القبيل الثاني فبطل ما طوله واستنتجه ثم قوله أن التحريم في الرشوة لم يتعلق به حق لأحد مراده بدليل جعله له في مقابلة المتعلق بحق الله أنه لا يتعلق بالله ولا بالآدمي وهذا مما يعلمك بجهله ويوقظك إلى أنه غافل عن كلام الفقهاء جاهل بكلام الأصوليين لأن الأحكام بأسرها لا يخلو كل منها عن أن الملحظ في تحريمه أما رعاية حق الله تعالى أو حق الآدمي أو حقهما وأما خلو حكم عن ذلك كله فليس بواقع بل ولا متعقل لأن شرع الحكم إما لمصلحة تظهر فيه أو للتعبد وكلاهما لا بدّ فيه من المعنيين أو أحدهما ولولا أن هذا الرجل عامي في علم الكلام ومقدماته لم تمر بفكره ولا اختلجت في سره إذ زعمه أن التحريم في الرشوة لم يتعلق به حق لأحد(2/171)
نزغة فلسفية ناشئة عن الإِيجاب الذاتي الذي هو كفر صراح لكن محبة التشنيع بما لم يعقل ما يترتب عليه والمبادرة إلى المنقول بالهوى فيما لم يتأهل للوصول إليه يوجبان الوقوع في مثل هذه الورطة وزلة القدم بالارتباك في هذه السقطة وما أحسن قول العضد رداً على بعض معاصريه أما من لا يأمن مع الدغدغة سوء العثار ويحتاج إلى من يقود عصاه في ضوء النهار فإذا سابق في المضمار العتق الجياد وناضل عند الرهان ذوي الأيدي الشداد فقد جعل نفسه سخرية للساخرين وضحكة للضاحكين ودريئة للطاعنين وعرضاً لسهام الراسفين الموضع الرابع قوله مشيراً إلى رد الفرق الذي ذكرته آنفاً بين هبة الماء وهبة الدين ولا يصح الفرق بتعين الماء دون المال لأن معنى التعين فيهما على حد سواء فكما يجب الطهارة بالماء المذكور يجب قضاء الدين في المال المذكور فهو وإن كان الذي في الأصل تعلقه بالذمة فهو في هذه متعلق بالذمة وبالعين وكذلك الطهارة متعلقة بالذمة وبالعين أيضاً ومسئلة تعلق الزكاة بعين المال من غير قطع النظر إلى الذمة أ هـ .
وهذا منه مشعر بأنه لم يفهم ما قررته ولا حام حول حمى ما وضحته في القرة وكررته وبيان ذلك أن قوله إن التعين فيهما على حد سواء مكابرة قبيحة كيف وتعين الماء يمنع إخراجه عن ملكه حتى بالبيع بأضعاف القيمة بخلاف تعين المال الذي زعمه فإنه وإن سلم له لا يمنع على زعمه إلا مجرد التبرع لا غير كما قررت ذلك في القرة فمن اطلع على ذلك الفرق الذي هو أظهر من الشمس ثم كابر وزعم أن لا فرق واستدل بهذا الخيال حقيق بأن يقال فيه:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
سارت مشرقة وسرت مغرباً
شتان ما بين مشرق ومغرب(2/172)
وأني له بغوص على معنى دقيق وغوص في أدنى تحقيق وإنما هو يلفق الألفاظ لا يدري ما تؤدي إليه ولا ما يحيط أمرها عليه كيف وقد قال ليس الفقه إلا الفرق والجمع فهما مهلكان انقطعت فيهما أعناق أمثاله وشامخات أعيت عن الرقي إليها أطماع آماله ومن تمام خباله زعمه أن الطهارة متعلقة بالذمة الناشىء عن عدم فهم معنى التعلق بالذمة وكيف يتعقل تعلق الطهارة بالذمة التي هي اصطلاحاً معنى اعتباري ينشأ عنه الإِلزام والالتزام قائم بالإِنسان حياً كان أو ميتاً لأنه إن أراد بالطهارة مدلولها المجازي وهو الأفعال الحسية فتعلق هذه الأفعال بذلك المعنى الاعتباري على جهة قيام أحدهما بالآخر غير متعقل لبعد ما بينهما من القياس أو مدلولها الحقيقي وهو زوال المنع لم يصح ذلك أيضاً لأن هذا إنما يوجد بعد استعماله في تلك الأفعال وباستعماله فيها يزول التعلق فتوقف التعلق بالذمة على الاستعمال لاستحالة وجوده قبله ناشىء عن عدم تصوره لما يقول وإلا لم يأتِ بهذه الفضائح التي سوّدت ذهن مخترعها وتحقق قصور مفترعها. الموضع الخامس ومن فضائحه أيضاً قوله ومثله تعلق الزكاة الخ. وهذا ينبىء عن أنه لا يفهم فرقاً بين العبادة البدنية المحضة والمالية المحضة والمركبة منهما والزكاة من القسم الثاني وهو تارة يتعلق بالعين وتارة بالذمة بخلاف الطهارة فإنها من القسم الأول وهو لا يتصوّر فيه التعلق بالذمة كما هو واضح لأدنى الطلبة ومن ثم لم تفعل عن الغير بإذن ولا غيره ولا يرد الصوم لأن للمال دخلاً فيه بالنص فهو كالحج وإن فارقه من جهة أخرى هي فعل الأجنبي له عن الميت بلا إذن أحد بخلاف الصوم لا بدّ فيه من إذن القريب وبيان ذلك أن المال متأصل في الحج أكثر من تأصله في الصوم فسومح في سقوط الحج عن الذمة بما لم يسامح به في سقوط الصوم نظراً لما في الحج من شائبة المال السابقة فتأمل ذلك فإن مثل هذا المشقشق لا يقبل طبعه الخوض في شيء من هذه الدقائق وأنى له بذلك وهو(2/173)
يستدل على تعلق الطهارة بالذمة أيضاً بتعلق الزكاة بالذمة ولم يتعقل ما بينهما إيثاراً للرجم بالغيب الذي وقع به في هوّة الشطط ولا منيته لأبعد الضلال وأقبح الغلط على أن كلامه إنما هو في تعلق الطهارة بالعين والذمة في حالة واحدة وليست الزكاة كذلك وإنما تارة تتعلق بالعين وتارة تتعلق بالذمة وأما تعلقها بهما في حالة واحدة الذي أفهمه كلامه فهو من فرطاته القبيحة أيضاً. الموضع السادس من تلك القبائح أيضاً قوله بعد كلام طوّله هنا وبالغت في رده عليه في القرة وأما الفرق بينهما أي هبة الماء وهبة الدين فلا معنى له إذ التعين فيهما على حد سواء إما صحة وإما بطلاناً أ هـ .
وتصميمه على هذه المراتب المذكورة بعد ما قررته له من الفرق الواضح المعترف هو به من أن الماء حظر فيه إخراجه عن الملك ولو بأضعاف القيمة والدين لم يحظر عليه إلا الإِخراج الذي فيه تبرع لا غير يزيدك فيه بصيرة أنه في غاية من البلادة والعناد ما مثله في ذلك إلا مثل رجل تقول له هذه الشمس تشير إليها ليس دونها سحاب فيقول لك ليس في السماء شمس أصلاً فيعلم حينئذٍ أنه سفسطي عنادي ليس دواؤه إلا أن يوقد عليه نار الأدلة اليقينية إلى أن يعترف أو يحترق وبهذا الفرق الظاهر يبطل ما فرعه عليه وتذييله تكراراً لما ذكره في الكتاب وقد بالغت في القرة في تزييف جميع ما أبداه مما لم يدرك فحواه فضلاً عن مغذاه وكيف لا وهو بعد اطلاعه على ذلك الفرق الواضح يزداد في تكرير سفسطته وعناده وفضيحته في إصداره وإيراده فيجعل المسئلتين متحدتين ويجعل العلة حرمة التسليم فيهما قال فيتحدان في البطلان و
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/174)
الشاشي قائل بالصحة في كل والعلة عنده أن التحريم لا يرجع لمعنى في العقد وهذا باطل كما علم مما تقرر وجعل حرمة التسليم بمجردها علة غير صحيح لأنه أمر عام وإنما النظر ليست هذه الحرمة وهو في هبته الماء ذاتي لأنه يرجع لمعنى في ذات العاقد وهو عجزه عن تسليمه شرعاً ومن ثم لم يتقيد بالتبرع وفي هبة المدين عرضي لأنه لا يرجع لمعنى كذلك ومن ثم تقيد التحريم بالتبرع لا غير. الموضع السابع قوله تخريج ابن الرفعة حكم مسئلة الدين على هبة الماء تخريج أولوي حق أ هـ .
وهذا من زيادة شقشقته أيضاً لما بينته ووضحته في القرّة من أنه لا يساوي مداده على أن ابن الرفعة لم يخرج الحكم خلافاً لما افتراه هذا العنيد وإنما خرج الخلاف ولا يلزم منه الترجيح كما مر بسطه في القرة ثم قال عن كلامي في القرة وقوله إن في الرشوة إكراهاً مجرد دعوى إذ لو كان فيها إكراه لما أشبه الخلاف في هبة الماء إذ ليس فيه في هبة الماء إكراه أ هـ .
وهذا أيضاً مما يزيد بصيرتك فيه أنه رديء الفهم فاسد التصوّر وبيانه أنه لم يفهم معنى الإِكراه ولا وجه ذكره وعبارتي ومسئلة الرشوة من قبيل الأولى أي هبة الماء فحرمتها ذاتية لأن حق المالك متعلق بعينها وإخراجها من يده إنما هو كره عليه فلم يخرج عن ملكه بذلك وإن لم يعصِ المعطي لإِرشائه على وصوله لحقه انتهت واعتراضه هذه العبارة بما ذكره معذور فيه فإنه لم يفهمها ولا أدرك شيئاً مما انطوت عليه وبيانها أنهم لما صرحوا بأن المرتشي لا يملك الرشوة سواء أثم الراشي أم لا أشكل ذلك على تعليلهم البطلان في هبة الماء بحرمة التسليم ووجه الإِشكال أن التسليم في مسئلة الإِثم باطل لمعنيين ذاتيين هما حرمة التسليم والإِكراه المعنوي وبحق للمعنى الثاني فقط وهو بمفرده مقتض للإِبطال ألا ترى إلى حكاية الإِجماع على أن من أخذ منه شيء على سبيل الحياء من غير رضا منه بذلك لا يملكه الآخذ وعللوه بأن فيه إكراهاً بسيف الحياء فهو كالإِكراه(2/175)
بالسيف الحسي بل كثيرون يقابلون هذا السيف ويتحملون مرار جرحه ولا يقابلون الأول خوفاً على مروءتهم ووجاهتهم التي يؤثرها العقلاء ويخافون عليها أتم الخوف ولا شك أن للراشي بحق أن يخرج ماله عن ملكه برضاه البتة وإنما اضطره المرتشي إلى إعطائه ماله كرهاً عليه إذ الغرض أنه لولا إعطاؤه لما حكم له بحقه فعلمنا أن عدم الملك في الرشوة إما لذاتيين أو ذاتي واحد ووجه كون الإِكراه ذاتياً أنهم صرحوا بأن الذاتي هو ما
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/176)
رجع لمعنى في المعقود عليه أو في العاقد والإِكراه معنى رجع في العاقد فكان ذاتياً فتأمل هذا التحقيق المشتملة عليه تلك العبارة تعلم أن سبب اعتراضها عمى البصيرة والارتباك في مهاوي الهذيان والحيرة، الموضع الثامن ثم قال اعتراضاً عليّ ومما قال المتجل من الفروق أن مسئلة هبة المدين حيث لا يرجو الوفاء فيها خلاف في الجواز وعدمه بخلاف مسئلة الماء فإن التحريم فيها مجمع عليه إلى أن قال فكيف مع ذلك يأتي الذم ببطلان الصدقة مع الخلاف في حرمتها وهو غير صحيح صدر من غير إعطاء المسئلة حقها من التأمل فإن النووي في شرح المهذب رفع الخلاف بحملة الإِطلاق على التفصيل الذي ذكره أن حاصله الاتفاق على التحريم حيث لا يرجو الوفاء كما أن حاصله الاتفاق على الجواز فيمن يرجو الوفاء فهذا الخلاف الذي أبداه في مسئلة هبة المدين الذي يرجو الوفاء لم أره في شيء مما وقفت عليه أ هـ .
لفظه وهو مشتمل على فضائح تنادي عليه بالغباوة وعدم الفهم والجهل باصطلاح الفقهاء ومدلول عبارتهم أما أوّلاً فقوله عني أني قلت مجمع افتراء وجهل وعبارتي اتفقوا على الحرمة في الماء دون الصدقة في موضع وفي آخر لا خلاف وفي آخر مجزوم به وشتان بين اتفقوا وهذا مجزوم به وهذا لا خلاف فيه وبين هذا مجمع عليه فإن العبارات الثلاثة الأول يقال فيها تتعلق بأهل المذهب لا غير وأما مجمع عليه فإنها عبارة تقال فيما أجمعت عليه الأمة فتحويل هذا المعترض عبارتي من اتفقوا أولاً خلاف فيه أو مجزوم به إلى مجمع عليه مما قضى عليه بجهل اصطلاح الفقهاء ومن لم يحسن الفرق بين تلك الألفاظ مع زعمه أن له في الاشتغال بالفقه لا غير نحو خمسين سنة حقيق أن لا يقال له ما أحقك بأنك راكب متن عمياء وخابط خبط عشواء وما أحسن قول ابن قيس بن الحطيم وداء النوك ليس له دواء وقول العضد ليس لمرض الجهل المركب من شفاء وأما ثانياً فقوله وهو غير صحيح صدر الخ. هو من قبيح غباوته إذ لم يفهم كلام شرح المهذب(2/177)
ولا كلام الأصحاب ولا حام حولهما بوجه ولعمري أن من تردى إلى هذه الهوة من التحريف وسوء الفهم فحقيق بأن لا يجاوب ولا يخاطب إذ مخاطبة مثل هذا البليد تؤدي إلى ما يظلم القلب مما لا بدّ منه في ردعه وزجره من السب لكن الجأ إلى ذلك طعام أحد قرابه حتى خرج عن طوره ولم يعلم بمرتبته وقدره ولم يرَ فوقه أحداً فوقع في الداهية الدهيا والحماقة العظمى كيف وهو في هذا المبحث يرفع الخلاف الذي في المختصرات فضلاً عن المطولات
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/178)
وكأنه ما رأى ما في المنهاج المصرح بثبوت الخلاف فيمن عليه دين لا يرجو وفاءه وعبارته قلت الأصح تحريم صدقته بما يحتاج إليه من تلزمه نفقته أو لدين لا يرجو له وفاء انتهت فهي مصرحة بوجود الخلاف بل وتقويه فيمن لا يرجو الوفاء وبهذا يزداد تعجبك من قوله فهذا الخلاف الذي أبداه في هذا المدين الذي لا يرجو الوفاء لم أره في شيء مما وقفت عليه اهـ. وحينئذٍ فقل له أعمى الله بصيرتك بسوء تصرفك وفهمك كيف مسئلة صريحة ظاهرة في متن المنهاج فضلاً عن غيره لم ترها في شيء مما وقفت عليه هل هذا إلا لأن الله تعالى أنساك العلم ليحق عليك كلمة الحماقة والجهل وعدم الحلم وأما استدلاله بشرح المهذب فهو مما يدل على بلادته وعدم فهمه لعبارته وقد ذكرتها في القرة وحاصلها أنه لما حكى فيمن عليه دين حرمة التصدق مما يحتاجه لوفائه وكراهته عن آخرين وعدم استحبابه عن آخرين قال والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب وإلا فلا وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق أ هـ .
فتأمل فرضه الحرمة فيمن تصدق بما يحتاجه لوفاء دينه المستلزم أنه لا يرجو الوفاء ثم الكراهة وعدم الاستحباب في ذلك تجد عبارته في أن كثيرين قائلون بجواز التصدق مما يحتاجه لوفاء دينه وهؤلاء هم القائلون بمقابل الأصح المذكور في عبارة المنهاج المذكورة ولا ينافي ذلك قوله والمختار الخ. لأنه إنما أراد به الإِشارة إلى غير المذكورين ممن أطلق الحرمة أو عدمها فهذان الإِطلاقان على الحالين اللذين ذكرهما كما يصرح به قوله وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق فهذا يرجع إلى المطلقين غير المذكورين لا إلى المذكورين لأنهم مقيدون لا مطلقون لما تقرر أنه فرض الحرمة فيمن لا يرجو الوفاء وحينئذٍ يلزم تقييد مقابلها بذلك أيضاً وإلا لم يكن مقابلاً على أن قول شرح المهذب وإلا فلا ليس فيه إلا أنه عند عدم غلبة ظن الوفاء من جهة أخرى به بأس أو لا يستحب(2/179)
والأخير واضح وأما به بأس فكما صرح به الرافعي وغيره وحينئذٍ يزداد تعجبك من افتراء هذا البليد وتقوله عن شرح المهذب بقوله حاصله الاتفاق على التحريم حيث لا يرجو الوفاء أن يصل التهور والافتراء بصاحبه إلى مثل هذه المجازفة كيف وهو لم يفهم معنى قوله وإلا فلا أنه نفي لماذا وهو معذور فإنه عامي في العربية بأنواعها على أنه ليس في عبارة شرح المهذب يرجو الوفاء ولا عدمه في حكاية الخلاف وإنما هو لازم لقوله يحتاجه لوفائه كما قدمته ثم وإنما عبروا بقوله إن غلب على ظنه وبقوله وإلا أي وإلا يغلب ذلك على ظنه وهو صادق برجاء الوفاء بلا غلبة وعدم رجائه أصلاً لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع كما أن قوله فلا صادق بالجواز والحرمة كما قررته وحينئذٍ فليس في عبارته تعرض لمن لا يرجو الوفاء فضلاً عن حكاية الاتفاق على الحرمة فيه فبان أن قول هذا البليد حاصله أي التفصيل الذي ذكره في شرح المهذب الاتفاق على التحريم حيث لا يرجو الوفاء حاصل منهدم على رأسه مؤذن بعقره من العلم ونفسه هدانا الله وإياه لطاعته الموضع التاسع قوله وقد فسر الأصحاب عدم الجواز في كلام الشافعي في نص الأم في الجزية بعدم الصحة فلازموا بين الحرمة والبطلان حيث وجد التحريم فهذا نص من الأصحاب على أنه حيث حرم تصرف المفلس كما في صورة تبرع من لا يرجو الوفاء فتبرعه غير صحيح أ هـ .
وهذا كلام رديء مبني على فساد التصور والتحيل لأن الأصحاب إذا فسروا نصاً في موضع بشيء يخالف مدلوله كيف يقضي به على سائر المواضع ثم يستنتج منه أنهم لازموا بين الحرمة والبطلان حيث وجد التحريم وهو كذب صريح وتقوّل قبيح وكيف نقول ذلك وهم قسموا البيوع المنهي عنها إلى باطل وصحيح وكذا سائر العقود وحينئذٍ فكيف يسوغ لمن عنده أدنى مسكة من عقل فضلاً عن فضل أزيد عن هذه الملازمة فهي ملازمة باطلة مستنتجة من مقدمة باطلة وإنما تكلمت على قوله وقد فسر الأصحاب عدم الجواز الخ. تحسيناً للظن به ثم رأيته(2/180)
بعد ذلك ساق النص المذكور وما ذكره وليس فيه تعبير بعدم الصحة وإنما ذلك كله كذب محض وبهتان عمد وكان هذا الشقي ظن أن كتابه لما اشتمل عليه من السفاهة والفحش لا أنظر فيه فيتم به ترويجه على طغامه وليس كما ظن بل نظرت فيه غير ملتفت إلى تلك السفاهة والحماقة لأبين كذبه الشنيع وبهتانه الفظيع وغاية ذلك النص أن قضيته أن رفع المفلس إلى القاضي بمنزلة الحجر عليه فيعارض تلك النصوص الآتي الكلام عليها ولا معارضة لأن ما في الجزية ضعيف عند الأصحاب كما اعترف به هذا الجاهل المفتري قبحه الله تعالى ومن كان هذا سبيله كان الجهل ظله ومقيله وتأمل جراءته ومهاجمته بقوله ولا شك أن من قال بعدم الجواز مع الصحة فهو محرف للنصوص ومغلط للأصحاب تجده كالأَبله الذي لا يعقل الخطاب ولا يحسن رد الجواب كيف وسبب التحريف والتغليط الأخذ بمدلول كلامهم وحمله على حقيقته من أنه لا يلزم من عدم الجواز عدم الصحة كما هو بديهي التعقل ونص الإِدراك من كلامهم ولا ينسب لذلك من استنتج من تأويل متعين في محل لداع دعا إليه أن جميع النصوص كذلك وأنه يلزم من عدم الجواز عدم الصحة حيث وجد التحريم فهذا المتقول المخلط الذي لا يرعوي لحق ولا يهتدي بصواب هو المحرف المغلط ومما يؤيد تلك النصوص وما حملتها عليه قول الأم في الرهن ولو كان رهنه إياها ثم أعتقها أو ولدت له ولا مال له بيع منها بقدر الدين وعتق ما بقي وإن كان عليه دين محيط بماله عتق الخ. فعلم أنه موافق لتلك النصوص في نفوذ عتقه وغيره مع إحاطة الدين بماله ومما يزداد عجبك منه أنه لما ساق نصوص الأم التي ذكرها في القرة الدالة على تصرفّ المدين المفلس قبل الحجر ولو بعد الرفع للقاضي وصله أن يعارضها بنص الأم في الجزية ولفظه إذا أعسر واحد منهم بالجزية فالسلطان غريم من الغرماء قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/181)
الشافعي وإن فلسه لأهل دينه قبل أن يحول عليه الحول ضرب مع الغرماء بحصة جزيته لما مضى عليه من الحول وإن قضاه الجزية دون الغرماء كان له ما لم يستعد عليه غرماؤه فإذا استعدى عليه بعضهم فليس له أن يأخذ جزيته دونهم لأن عليه حين استعدى عليه أن يقي ماله إذا أقر به أو بين بينة فإن لم يكن عليه بينة أو لم يقر واستعدى عليه كان له أخذ جزيته دونهم لأنه لم يكن عليه حق حين أخذ جزيته أ هـ .
فانظر حتى تعلم كذبه في نسبته إلى هذا النص أن فيه عدم الجواز وإلى الأصحاب أنهم أولوا ما فيه من عدم الجواز بعدم النفوذ {سبحانك هذا بهتان عظيم} ثم قال بعد ورقات وهذا نص الأم في الجزية مصرح بعدم جواز التصرف قبل الحجر وكرر ذلك مرات متعددة في كتابه منها قوله أيضاً وقد فسر الأصحاب نصه في الجزية السابق بعدم النفوذ وليس فيه إلا عدم الجواز وكله كذب صراح كما عرفت من سوق لفظ النص بحروفه التي ساقها هو نفسه عن توسط الأذرعي وتأمل معارضته لتلك النصوص بهذا النص مع قوله بعد ولهذا أعرض الجمهور عن العمل بظاهر هذا النص وأولوه تعلم أنه لا يهتدي لما يقول أصلاً ولهذا الإِعراض قطع في الروضة بمقابلة فقال واعلم أن العتق المانع من التصرف يفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعاً واعترض قطعه بأن فيه وجهاً وهو اعتراض سهل لأنه كثيراً ما ينزل الوجه لشذوذه منزلة العدم فيقطع بمقابله من غير مبالاة به الموضع العاشر ثم اعترض عليّ في نقلي للمذاهب الثلاثة في هذه المسئلة بقوله وقد علم أنه لا يجوز أخذ أحكامهم ونسبتها إليهم بمجرد الوقوف على ما نقلوه في كتبهم وإنما الرجوع إلى مذاهب الأئمة بمراجعة الراسخين في قواعدهم فلعل لإِمامهم روايتين أ هـ .
وهذا من سوء فهمه واختلاط المأخذ عليه فإن الكلام في مقامين نقل المذاهب ومقام العمل أو الإِفتاء بها والذي ذكره إنما هو في الثاني والذي وقع إنما هو الأول لكن لمزيد اختلاط عقله لم يعرف الفرق بين المقامين بل سوى بينهما(2/182)
بقوله لا يجوز أخذ أحكامهم ونسبتها إليهم الخ. وهذا من جملة تهوّره من غير مستند وتقوله الذي لا يدري ما وراءه فقد صرح الأئمة في كتبهم ك السبكي في شرح المهذب وقبله النووي وغيرهما ممن يحكون الخلاف العالي بأنهم إنما يعتمدون في نقلهم نقله وحكايته على كتب المخالفين المدوّنة في ذلك ثم قال الشافعي رضي الله عنه في الثلاثة النصوص بالجواز ولا يجوز تفسير الجائز بالنافذ المحرم إذ لا يصح إطلاق المحرم على بعض أفراد الجائز فهو تفسير بغير مطابق وهو فاسد لأنه لم يعبر في الأول بالجواز وحده وإنما قال جائز كله عليه والقاعدة أن الفعل إذا عدى بغير ما يتعدى به ضمن فعلاً آخر يناسب ذلك الحرف المعدى به أو أوّل ذلك الحرف بحرف آخر يناسب ذلك الفعل وهذا متعذر هنا فتعين الأول وحينئذٍ فتعدية جائز بعليه لا يمكن معها بقاء جائز على معناه الحقيقي وهو المباح وإنما يتعين تأويله بنافذ لأنه الذي يتعدى بعلى فبطل زعمه بقاء الجواز على حقيقته لكنه معذور فإنه بعيد عن معرفة القاعدة النحوية المذكورة في المتعدي والتضمين ويؤخذ من بلاغة الشافعي رضي الله عنه ونفعنا به البالغ فيها المبلغ الذي لا يشق غباره ولا يخشى عثاره أن مغايرته بين الفعل الأول في النص الأول بتعديته بعلى والفعلين في النصين الآخرين بتعديتهما بله أنه أشار بذلك حيث عبر بالنفوذ تارة وبالجواز أخرى إلى أنه قبل الحجر ينفذ مطلقاً جاز أو حرم وهي نكتة بديعة لا ينقاد لفهمها ذهن مثل هذا الجاهل بفن البلاغة على أنا لو سلمنا له أن الجواز عدي باللام في الأول أيضاً كان بمعنى النفوذ أيضاً وأما إذا أريد بالجواز حقيقته فإنه يخرج عن فرض كلامه لأنه يشمل المفلس الذي لا يرجو وفاء وهذا لا يجوز له فيخرج من كلامه من غير دليل وأما إذا حملنا الجواز على النفوذ فإنه يشمل من جاز تصرفه ومن حرم وكلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ نص في العموم فلا يجوز تخصيصه بالتشهي والهذيان على أن المعترض قدم(2/183)
تبعاً للأذرعي اعتراض هذه النصوص الثلاثة بنص الجزية وهذا نص في أن المراد بالجواز مطلق النفوذ إذ هذا هو الذي يأتي فيه الخلاف بين النصوص كما ذكره وأما إذا أريد به حقيقته فلا يتأتى اعتراض تلك النصوص لأن حقيقته تستلزم أن له جهة ظاهرة فلا يكون مفلساً و
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
الشافعي رحمه الله يقول مفلساً كان أو غير مفلس فاتضح حمله على ما ذكر وقوله ولا يجوز تفسير الجائز بالنافذ المحرم الخ. مما يدل على جهله بقاعدة العموم المطلق وبيانه يلزم من الجواز النفوذ ولا عكس فالنفوذ أعم مطلقاً وهو لا يستلزم الأخص بخلاف عكسه فإذا فسرنا بالنافذ شمل الجائز وغيره فبطل قوله لا يجوز تفسير الجائز بالنافذ المحرم لأنه لا يفسره بذلك إلا من هو مثله في عدم فهم الفرق بين مادتي التضاد والعموم ولولا جهله بذلك لما كان يورد علينا الضد مع إنا إنما فسرناه بالأعم مطلقاً وشتان ما بينهما لكن من لا ذوق له يورد ما يشاء من غير استحياء من الكذب وعاره في الدنيا والآخرة وليته في كذبه اكتفى بإيراده مرة أو مرتين أو ثلاثاً وإنما كرره أكثر من ذلك حتى قال عقب قوله وتفسير الجائز الخ. وقد فسر الأصحاب عدم الجواز بعدم النفوذ فلازموا بين التحريم وعدم النفوذ وقد علمت أن تبرع من لا يرجو الوفاء غير جائز وأن الأصحاب فسروا عدم الجواز في كلام إمامهم بعدم النفوذ فهذا نص من الأصحاب أنه حيث حرم تصرف المدين أنه لا ينفذ فارفع يدك فقد لاحت المسئلة من كلام الشافعي رضي الله عنه والأصحاب انتهى وقد علمت أن هذا كلام كذب وأن الملازمة التي أخذها منه باطلة وأن هذا الجاهل الغبي لا تأمل له ولا ذوق وليته مع ذلك سلم من البهت والكذب اللذين هما أقبح وصف في الإِنسان ثم أمره برفع اليدين بالدعاء بهلاكه عن المسلمين شيء جرى على لسانه لتناسب وصفه فإن من هذا حاله مضلة للناس وأي مضلة ومزلة للضعفاء وأي مزلة فحق أن يبتهل في(2/184)
أمره بصلاحه وإلا فبهلاكه فإن بلده خلت عمن يتأهل للرد عليه فأنشد لسان الحال الأصدق من لسان القال:
خلا لك البر فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
لكن بحمد الله العلماء ما زالوا في أقطار الأرض فكل من بلغهم قاله أو رفع إليهم حاله أوضحوا ما انطوى عليه من الجهل والغباوة والكذب والخيانة والشقاوة ليحذروا الناس من حاله وينفروهم عن قاله فإن ذلك من آكد الواجبات عليهم إذ لو تركوا كل قائل وبهات في غيه وتزويره وعيه لفسد النظام وتغيرت الأحكام وتطاول أهل الفساد وأفسد الناس أهل الحمق والعناد أبادهم الله إلى قيام الساعة كما أخبر به المعصوم وقضى به الأمر المحتوم ثم أنشد متبجحاً على ترويج كذبه وعناده ومدعياً مرتبة كذبته فيها قواطع بلادته المعلومة من إصداره وإيراده:
وإذا كنت بالمدارك غرا
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
ثم أبصرت عارفاً لا تماري
وإذا لم ترَ الهلال فسلم
لرجال رأوه بالأبصار(2/185)
ولقد صدق فإنه والله غرير المدارك وغيرها وأي غر بل غبى ممن أبصر العرفان والحق ثم عاند ومارى وكذب وافترى ولم يسلك في هذا الكتاب مسلك نور قط وإنما سلك مسالك ظلمة الكذب والشطط حتى هوت به إلى مهاوي العنا والعناد الموجبة لحرمان التوفيق والسداد. الموضع الحادي عشر: إني لما اعترضت نسبته لابن الرفعة تقليداً لغيره أن كلاً من التمليك والعتق والوقف والصدقة بأن نسبة الثلاثة الأخرى إليه على جهة كونه صرح بها لا يجوز قال الجواب أنه لما اتحد تعليلهم ولم يمكن الفرق وكان في قوّة كلام ابن الرفعة التصريح بذلك جازت نسبته إليه أ هـ .
فتأمل هذا الجواب الباطل المبني على ما هو الحق من جهله بالأصول جملة كيف وقد قالوا في المقيس بالأولى لا يجوز أن يقال قاله الله تعالى ولا قاله النبي ومن ثم صرحوا في القول المخرج بأنه لا ينسب للشافعي رضي الله عنه إلا مقيداً لجواز أنه لو اطلع عليه لا يرى فارقاً فكذا يقال يجوز أن ابن الرفعة لو سئل عن تلك الثلاثة لا يرى فارقاً كما أبديته في شرح الإِرشاد وتكلمت عليه في القرة رداً على اعتراض ذلك البليد عليه فاتضح أن قوله في تلك الثلاثة كما صرح به ابن الرفعة كذب ويلزمه أن يقول آخراً أن مال اليتيم وضرب أحد الوالدين كل منهما نص القرآن العظيم على حرمته لكنه عامي في هذه المباحث فليته لم يحضر فيها وتأمل عاميته القبيحة في قوله لما اتحد تعليلهم والمتعين تعليلها أي المسائل وما أحسن ذلك في نحو خاضعين وطائفين ولا يتأتى اعتباره هنا على أن هذا إنما يقال لو كان الكلام مع من يدري ذلك أو يتأهل لإِدراكه وأما من لا يدري ذلك رأساً فهو القاعد مع المخالفين الآخذ بحجزة الجاهلين. الموضع الثاني عشر: ثم قال اعتراضاً على مسئلة التحريم المختلف فيها في النفوذ في الجائز وهو غير ممكن فحكم على تصرفات المفلس قبل الحجر الجائز والحرمة بالنفوذ اتفاقاً أ هـ .
وهذا بكلام المبرسمين أشبه أوجبه أنه توالت عليه أثقال(2/186)
البراهين الحقية حتى كست عقله فشقشق بمهملات الألفاظ العامية ولست أنا الحاكي للاتفاق وإنما الحاكي له الروضة وعبارتها واعلم أن التعلق المانع من التصرف يفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعاً وعبارة أصلها لا شك أن التعلق المانع من التصرف يفتقر إلى حجر القاضي عليه فعدوهما من التعلق المانع للتصرف بحجر القاضي وقطعاً بذلك
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
ولا شك أن التعلق عام للجائز والمحرم فيكون القطع فيهما وفي شرح المهذب أن المسئلة إذا دخلت في خلال كلام الأصحاب كانت منقولة وكأنه توهم ما قاله من اعتراض جمع لقطع الروضة بان في المسئلة قولاً أو وجهاً بعدم النفوذ ولو قبل الحجر ولم يذكر أن هذا القول أو الوجه يبطل قوله وكسبها. في محل الاتفاق على النفوذ في الجائز فقوله الخلاف في النفوذ في مسئلة التحريم والاتفاق في مسئلة الجواز من السفساف الذي سوّل له عقله القاصر أنه شيء وليس بشيء على أن من تأمل كلام الشيخين رآهما لا سيما النووي يقطعان كثيراً بالحكم وإن كان فيه خلاف إشارة إلى فساد مدركه بالكلية أو شذوذ نقله فاعتراضه على قطعهما هنا ساقط لما ذكرته. الموضع الثالث عشر: ثم كرر ما مر من زعم مخالفة ما في كتابي القرة لما في شرحي على الإِرشاد فقال إن اعتمد الأول كشط ما في الثاني أو الثاني رجع عن الأول وهذا يدل على أنه خلو عن كلام الناس ومصطلحاتهم ومما وقع لهم في كتبهم كيف وابن الرفعة كثيراً يذكر شيئاً في الكفاية ويرجع عنه في المطلب ويبقى كل منهما على ما هو عليه وكذلك النووي والسبكي وسائر المتأخرين لكن من عميت عليه طرق الهدى يقول ما شاء كيف والذي في الشرح المذكور إنما هو قصر بحث ابن الرفعة على الصدقة فلا تملك حيث حرمت بخلاف غيرها من سائر عقود التبرع وفرقت بين الصدقة وغيرها بما هو مقرر في شرح الإِرشاد الكبير وهذا لا يمنع اعتراض تخريج ابن الرفعة من أصله فهو الجاهل أنهما مسئلتان:(2/187)
أحدهما: قصر تخريج ابن الرفعة على الصدقة كما قصره هو عليها وبيان سبب ذلك. ثانيهما: منازعته في أصل التخريج في شرح الإِرشاد الأول والذي في القرة الثاني وكل منهما يبطل زعم هذا المفتي أن اعتماد الأول يستلزم كشط الثاني واعتماد الثاني يستلزم الرجوع عن الأول ولقد وقع لابن الرفعة نفسه أنه في الغصب من الكفاية خرج تخريجاً ثم رده في المطلب وأبقى كلاً منهما على ما هو عليه فبفرض ما افتراه لا يلزم كشط ولا رجوع. الموضع الرابع عشر: ثم قال رده لدعواي في القرة ترادف من لا يرجو الوفاء والمفلس بأن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه فعموم المفلس من حيث إنه قد يرجو الوفاء وقد لا يرجوه وخصوصه من حيث كون ماله أقل من دينه وعموم من لا يرجو الوفاء من حيث كون ماله مساوياً لدينه أو أقل وخصوصه من حيث عدم رجائه أ هـ .
وهو باطل من وجوه الأول أني لم أدع الترادف بين من لا يرجو الوفاء ومطلق المفلس خلافاً
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/188)
لما وهم فيه هذا المفتي بل بين الأول والمفلس الذي لم يحجر عليه وسيأتي بيانه الثاني أن ما قاله من العموم من وجه أخذه من قولي في القرة فإن قلت لا أسلم ترادفهما لأن من لا يرجو وفاء الخ. ثم رددته بما إذا وقفت عليه وتأملته بان لك بطلان ما تلقفه هذا المفتي وأراد أن ينتصر له بمجرد هواه وحدسه من غير أن يستدل عليه بكلمة من كلمات الأصحاب ولا بقاعدة من قواعدهم وإنما رأى شيئاً أشار إليه غيره فتلقفه ونسبه لنفسه من غير أن يخيط حورة، على أنه بعد أن سلك ذلك لم يبين المراد بمن لا يرجو الوفاء بتبرعه وإنما فرع على ذلك قوله فالمفلس قد يرجو الوفاء فيجوز تبرعه فقولهم يحجر عليه لئلا يضيع ماله بالصدقة وغيرها. يجب تقييد التبرع بالجائز ووجوب هذا التقييد من خرافاته السابق ردها عليه في القرة وفي هذا الكتاب المرة بعد المرة. الموضع الخامس عشر: ثم استدل على بطلان الترادف بتقييد شرح المهذب وقد بسطت الكلام عليه في القرة بما يقضي لمقالته بأن هذا المعنى لم يدرك تحقيقه كيف وهو يتلقف أن كلامهم فيمن لا يرجو الوفاء من غير أن يتصوّر المراد به حتى فتحت له سبيله بالاستنباط الواضح من كلام الأصحاب فاستفاده ثم أظهر مكابرة في بعضه بما يقضي منه المتأمل العجب العجاب لكن ليس ذلك بكثير على من عميت عليه طرق الهدى فسلك سنن الضلال والاعتداء لو لم يكن من ذلك إلا أني لما استنبطت من كلامهم أن المراد بمن لا يرجو الوفاء أن لا يكون له جهة ظاهرة يغلب على ظنه قضاء الدين منها حالاً في الحال وعند حلول الأجل في المؤجل قال اعتراضاً على مثل هذا وحيث اشترط الحلول في الحال لزم من ذلك اشتراط كونه على مليء باذل حاضر أ هـ .
فتأمل هذا الفهم العجيب والذهول الغريب لكنه ليس بغريب بمثل من اتبع هواه حتى أضله وأعماه إذ معنى قولي كما لا يخفى على صغار الطلبة حالاً في الحال أنه إذا كان عليه دين حال وليس معه وفاؤه حالاً بيده وإنما له جهة ظاهرة يقدر على(2/189)
وفاء الحال الذي عليه حالاً لو وجه إليها وكذا عند حلول الأجل في المؤجل كان موسراً راجياً للوفاء وإذا كان هذا هو المعنى فكيف يقال لزم من ذلك اشتراط كونه على مليء باذل حاضر ففهم أن المراد من هذه العبارة أن له ديناً حالاً على آخر وأشبه منه هذا الفهم الفاسد قوله لزم ذلك اشتراط كونه الخ. فوقع في الداهية الدهياء وخبط خبط عشواء وقوله فاشتراط تصوّر الحلول يعود على الترادف بإبطاله فزاد وأخطأ وضل وموجب هذا الزلل
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/190)
الواضح المبادرة إلى الاعتراض قبل التأمل بل الظاهر أن هذا الفهم الرديء بعد تأمله بحسب جهده الدال على أنه لا فهم له ولا تأمل. الموضع السادس عشر: ثم قال: وإذا سلمت أن التحريم في هبة الماء ذاتي سلمت أن التحريم في جهة المدين ذاتي وهذا من المغالطة أو المصادرة الدالة على فساد التصوّر وكيف تقول ذلك لمن بسط في كلامه في كتابه هذا والقرة الكلام معك وبين القرة الموضح للفرق بينهما من وجوه عديدة لم تحم حول فهمها فضلاً عن إدراك غورها وإلا لم تذكر هذه الملازمة الباطلة. الموضع السابع عشر: ثم ساق قولي في القرة عن جمع من المتقدمين والمتأخرين في الحيل أنها إذا أسقطت حق الغير بعد وجوبه حرمت هذا منهم تصريح بأنها مع حرمتها وإبطالها حق الغير المتعلق بتلك العين المتصرف فيها كما صرحوا به في الشفعة بعد وجوبها يصح العقد المشتملة تلك الحيلة عليه وإن فوت ذلك الحق وإذا تقرر هذا من كلامهم وعلم منه أن حرمة تفويت ذلك الحق لا تنافي صحة العقد المفوّت له وإن تعلق بالعين فأولى تبرع المدين الخ. هذه عبارتي اعترضها باعتراضات فقال ومما استدل به أنه ذكر أن في الشفعة إذا باع الشقص بعد الشراء أو وهبه أو وقفه قاصداً الحيلة أنه يحرم ويصح فأبقوا الصحة والتحريم مع وجود النفوذ هذا حاصل كلامه وهو مغلاطة وانظر إلى قوله وهو تفويت فأدخل ذلك في كلامهم كعادته أنه لا يتم له الاستشهاد إلا إذا أدخل في الكلام تلبيساً، ثم قال: ولولا جواز النقض لما صح العقد أ هـ .
كلامه المشتمل على ما يسوّد الوجه من الافتراء عليّ بأن نسب إليّ ما لم أقله وفهم كلامي على غير وجهه مما لا يقع فيه صغار الطلبة وبيان ذلك أن معنى عبارتي أن كثيرين قائلون بتحريم الحيلة المسقطة للشفعة يعد وجوبها كالإِبراء من الثمن أو هبة المبيع للمشتري بعد البيع في مجلس الخيار أو زمنه وسبب الحرمة كما صرحوا به الإِضرار بالشفيع بإسقاط حقه المتعلق بالعين بسبب البيع ومع هذا التحريم(2/191)
المتعلق بالعين عند هؤلاء يصح الإِبراء والهبة فعلمنا من الصحة في هذا مع التحريم عند أولئك أن التحريم للأمر الخارجي كالإِضرار هنا وفي تبرع المدين لا ينافي الصحة بل يجامعها وإذا كان هذا هو معنى هذه العبارة المتبادر منها حتى للصغار فكيف ساغ له تبديلها وتحريفها إلى ما ذكره لكن من لا فهم له ولا تصوّر ليس ببعيد عليه أن تصدر منه هذه القبائح منه قوله أنه ذكر أن في الشفعة إذا باع الشقص بعد الشراء أو وهبه أو
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26(2/192)
وقفه الخ. وهذا كذب صراح على سبيل سوى فهمه وتحريفه حتى يرتب عليه جوابه بأن ذلك إنما صح مع الحرمة لأن للشفيع نقضه وكل ذلك باطل وكيف يعقل أن المشتري يحرم عليه ذلك الإِضرار بالشفيع مع أن للشفيع النقض ففهمه أن كلام الأصحاب في هذه الحالة ينبىء عن أنه ما فهم عبارتي ولا مراد الأصحاب وإنما مرادهم ما ذكرته أن الشريك بعد بيعه الموجب للشفعة يريد إسقاطها بالكلية فهذا هو الذي قال أولئك بحرمته وعللوا بإضرار الشفيع ببقاء الشركة وحرمة هذا مع صحته لا جواب عنه وأما ما قاله ذلك الغبي وأجاب عنه فهو من فضائحه التي أظهرها الله عليه حتى تبين أنه لا فهم له بل ولا دين وإلا لساق لفظ عبارتي وتكلم عليه وأما قوله حاصل كذا ثم أجاب عنه بما تبين به عدم فهمه لها ولكلامهم وتحريفه للمراد وإيهامه أنه تعذر عليّ الجواب فهو مما قضى عليه بالضلال وجر إليه الوبال والنكال. الموضع الثامن عشر: قوله: وهو مغالطة هو من تهوّره لأنه لم يفهم العبارة بل حرفها وبدلها على أن حكمه على ما فهمه المذكور بأنه مغالطة ينبئك أنه لا يعرف حد المغالطة وإلا لما ذكر هذا وأنى له بمعرفة ذلك وهو عامي في غير مبادىء الفقه. الموضع التاسع عشر: قوله وانظر إلى قوله وهو تفويت فأدخل ذلك في كلامهم الخ. وهذا من الكذب القبيح أيضاً ولم يقع هذا اللفظ في عبارتي كما علمته منها وبهذا تزداد بصيرتك فيه حيث نسب إلى أني ذكرت هذا اللفظ من عندي ثم أدرجته في كلامهم ليتم لي الاستشهاد وأنا أبرأ إلى الله من بهت هذا الجاهل وافترائه نعم الذي ذكرته وإن فوت ذلك الحق وهذا من جملة كلامهم وذكرت وعلم منه أن حرمة تفويت ذلك الحق الخ. وهذا ليس مدرجاً في كلامهم وحينئذٍ فلا عذر له في هذه الفضيحة التي كشفت أحواله بعد سترها ونادت عليه بالغي والعجز مع الافتراء والبهت في بحرها وبرها ومن وصل حاله إلى أنه لم يفهم مراد الفقهاء بإسقاط الشفعة المختلف في حرمته كيف يؤهل لخطاب أو نقد على(2/193)
الفضلاء حتى تراعى آكدية حرمته. الموضع العشرون: قوله ولولا جواز النقض لما صح العقد وهذه ملازمة باطلة لما تقرر من صحة التفويت من البائع مع عدم القدرة على نقضه فاتضح ما ذكرته من الاستدلال بذلك على صحة تبرع المدين فاعتمده وأعرض عن هذا الغبي المحروم. الموضع الحادي والعشرون: أنه اعترض قولي في الرد عليه وقوله في الحاصل أن الذي تلخص لنا مما قررناه وحررناه أنه حيث حرم تبرع المدين فإنا نحكم بعدم صحته ونلازم بين التحريم والبطلان هنا وإن لم يلزمه في غير هذا الموضع الفارق أ هـ .
يقال: عليه هذا إنما يصدر عن المجتهد المطلق لأنه يؤسس له قواعد غير الخ. فقال: كتب الأصحاب طافحة بمثل هذه العبارة وهذا منه باطل قبيح لأنه لا يعقل مثل هذا الاختراع إلا لمجتهد منهم، وأما المقلد فيتبع قواعد إمامه ويخرج عليها وهذا الغبي سوّلت له نفسه المملوءة بالجهل والحمق أنه يداني الأصحاب وليس كما ظن بل لا يداني صغار الطلبة لأدنى أحد من آخر المتأخرين فقوله نحكم ونلازم من هذياناته التي كان غنياً عن إبدائها ثم فسر ذلك الفارق بما في البيوع المنهي عنها من مسائل شتى لا تلازم فيها الفارق هو أن التحريم فيها غير ذاتي بخلاف مسئلة المدين فإن التحريم فيها ذاتي كما يعطيه تفسير الأصحاب السابق وتخريج ابن الرفعة أ هـ .
ناقض لما قدمته في هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أن التحريم حيث دخل وجد عدم الصحة وإنما اضطره إلى الاعتراض بهذا أني لما ضايقته في القرة حتى لم يرَ له مناصاً فرّ إلى هذا التناقض لما قدمته مرات متعددة ثم لما آل إلى ما هو بديهي البطلان وهو أن التحريم في الدين ذاتي وكأنه بحسب ما دل عليه كلامه في كتابه الأول لم يعرف الفرق بين الذاتي وغيره إلا من كتابي القرة الذي لو تأمل أو فهم ما فيه لم يزعم أن المنع في الدين ذاتي وإلا لما قال أحد بجواز تصرفه وقد سبق لك أن النقل الصريح أن كثيرين من الأصحاب على حل تصرفه ثم اعترض فرقي بين هبة(2/194)
الماء وهبة المال واعتراضي لتخريج ابن الرفعة بما ذكره في كتابه الأول وبسطت رده في القرة بما لا مزيد عليه ومن شقشقته أنه أتى بعده جماعات قرروه على تخريجه وليس ذلك بصائغ له شأناً لما بسطته هنا وفي القرة ثم اعترض الاستدلال عليه بنصوص الشافعي رضي الله عنه بأنه ليس لأَمثالنا الاستشهاد بالنصوص وإنما ذلك لأهل التخريج ثم ذكر عن بعض مؤلفاتي أن فيها النهي عن رد ما دوّن في الكتب بالنصوص وهذا مما التبس عليه فهمه وطغى فيه قلمه ووضعه في غير موضعه ورده إلى غير مرجعه وبيان ذلك أنا لم نستشهد بها ودمرنا ما وجدناه في غيرها صريحاً قاطعاً للنزاع وإنما كل منا يدعي أن ما قاله هو منقول المذهب فمن أبدى في دعواه النقل لنص أو نصوص لا نعيب عليه بوجه بل له بذلك غاية الفخر والتميز وأما ما دوّن واستقر بين من عليهم العمدة في تحرير المذهب وترجيحه فلا يعترض عليهم بنصوص مخالفهم ألا ترى ما وقع للشيخين في مسائل يعترض فيها عليهما بالنصوص فأجيب عنهما وأبين مستندهما من نصوص أخرى أو غيرها والاعتراض بذلك مغالطة ليست في محلها ثم قوله وإنما ذلك لأهل التخريج إن أراد بهم أصحاب الوجوه كما هو مؤدى هذا اللفظ عند الأئمة كان ذلك من مفترياته التي يشهد بها ما أطبق عليه الأئمة بعد أصحاب الوجوه من استشهادهم بالنصوص مطلقاً لا ينكر ذلك إلا من ليس له إلمام بشيء من كتب المذهب أو غير أصحاب الوجوه فهو مع مخالفته لاصطلاحهم يشمل أمثاله فيناقض ما اخترعه بقوله ليس لأمثالنا الخ. غافلاً عما يترتب على ذلك ثم اعترض فرقي في شرح الإِرشاد بين الصدقة والهبة على ترجيح ابن الرفعة وقصره كلامه في الصدقة بأني فرقت بأنه لا يملك في الصدقة بخلاف الهبة وهذا كذب عليّ فإني لم أفرق بذلك أصلاً وإنما حاصل الذي فرقت به أنه لا يملك في الصدقة إلا الفعل وهو حرام لذاته بخلاف الهبة فإن المملك فيها القول وهو بمجرده لا تفويت فيه هذا آخر ما أردته وبينته وحررته من(2/195)
سقطاته مما يحق له أن ينشد فيه:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
فلينتبه لذلك المحظور ولا يغفل عنه الراسخون فإن تحريفات هذا الرجل وإظهاره للمفتريات في صور موهمة بالأباطيل والترهات حتى ربما توهم ضعفاء الإِدراك أنها يقينيات في صورة قوى يحتاج لمزيد تيقظ وبصيرة أحسن الله منا ومنه السريرة وحقق لنا الهداية والإِخلاص ونجانا من بوائقنا حين لا مناص بمنه وكرمه والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه كلما ذكرك وذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكرك وذكره الغافلون قال مؤلفه أنهيته نصف ليلة الأربعاء سابع محرم الحرام سنة أربع وستين وتسعمائة وإلى الله تعالى أرفع أكف الضراعة في أن يخرق العادة بطول حياته ولسان قلمه في الذب عن الشريعة على وفق مرضاته آمين تم الكتاب المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 26
باب الحجر(2/196)
وسئل: عما لو كان اليتيم ببلد وماله بأخرى وما حاصل كلام برهان الدين بن ظهيرة في فتاويه. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بأن المعتمد أن العبرة بقاضي بلد مال المحجور عليه حتى لو كان ببلد وماله بآخر فالولي قاضي بلد المال لأن الولاية عليه ترتبط بماله كمال الغائبين لكن محله في تصرفه فيه بالحفظ والتعهد وبما يقتضيه الحال من الغبطة اللائقة إذا أشرف على التلف أما مطلق نحو البيع والإِجارة وغيرهما. فلقاضي بلد المحجور عليه ومن ثم كان له أن يطلب من قاضي بلد المال استحضاره إليه عند أمن الطريق وظهور المصلحة فيه ليتخذ له عقاراً بحسب ما يراه مصلحة ويجب على قاضي بلد المال إسعافه بذلك إذا ثبت عنده طلبه إياه وأهليته لتسلمه فيسلمه لثقة ليوصله له وليس عندي فتاوى البرهان التي ذكرتموها ومسئلة من مات بلا وارث مذكورة في الفرائض من شرح الإِرشاد والله تعالى أعلم.(2/197)
سئل: عما إذا بيع مال المولى عليه فكمل فادعى عليه أنه بيع بدون ثمن مثله أو بلا حاجة فما الحكم في ذلك وما المعتمد من الاضطراب فيها. فأجاب: بأن المحجور عليه إن ادعى بعد كماله البيع بلا حاجة أو مصلحة على الأب أو الجد صدقا بيمينهما أنه وقع للحاجة أو المصلحة فذاك وإلا صدق المدعي بيمينه أن بيعهما وقع بدون الحاجة والمصلحة هذا ما عليه الشيخان وغيرهما. سواء فيه على الأوجه مال التجارة وغيره وما يجب فيه الإِشهاد كالبيع نسيئة وغيره وإن نازع في ذلك جميعه الزركشي وأطال فيه بما هو مذكور في خادمه فلينظر منه ودعواه على المشتري من الولي كهي على الولي فيما ذكر وأما إذا ادعى على وليه أنه باع بدون ثمن المثل فقال الزركشي في الخادم أيضاً لم أره منقولاً ويظهر تصديقهم أي الأولياء ولو نحو وصي لأنهم أمناء وفارق ما قبله بأن المصلحة متبوعة للبيع فكلف البينة بها كما يكلف الوكيل ببينة بوكالته وأما ثمن المثل فهو من صفات البيع فإذا ثبت أن البائع جائز البيع قبل قوله في صفته ودعوى صحته ولا يقبل قول مدعي فساده والحاصل أن الاختلاف في البيع بثمن المثل اختلاف في صفة البيع المأذون فيه فيصدق العاقد ويبعد أن يقال هو اختلاف في الصحة والفساد حتى يجري فيه القولان أ هـ .
وفيه نظر بل الذي يتجه أن دعوى المولى عليه البيع بدون ثمن المثل كدعواه البيع بدون الحاجة فيأتي فيه ما مر من التفصيل بين الأب وغيره. ويرد فرقه المذكور بأن المصلحة كما أنها متبوعة للبيع كذلك ثمن المثل هو متبوع للبيع فلا فرق بينهما وزعمه أنه من صفات البيع دون المصلحة لا تأثير له على تقدير تسليمه ثم رأيت كلام شيخه
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/198)
البلقيني وهو يوافق ما ذكرته ويرد ما ذكره ومختصره وإن كان بسطه في حواشي الروضة أنه لو ادعى الموكل أن وكيله باع بدون ثمن المثل وادعى الوكيل أنه باع بثمن المثل صدق الوكيل بيمينه لأن الموكل يدعي خيانته والأصل عدمها وقول البغوي يصدق الموكل مبني على رأيه الضعيف أن القول قول مدعي الفساد فإن قلت إذا اختلف الرشيد والوصي في صدور البيع بلا حاجة أو بلا غبطة صدق الرشيد قلت الفرق أن الرشيد لم يسلطه على البيع بخلاف الوكيل هنا اهـ. ملخصاً وهو ظاهر أو صريح في أن المصدق في البيع بدون ثمن المثل هو الرشيد لأنه لم يسلط نحو الوصي على البيع بخلاف الموكل فلو أقام بينة بذلك وأقام الولي بينة أنه باع بثمن المثل ففيها تفصيل بسطته في شرح الإِرشاد في باب الدعاوى والبينات فانظره ومما ينبغي أن يزاد هنا كلام المحقق أبي زرعة فإنه ذكر المسئلة في فتاويه وأطال فيها بما حاصله أنه لو أجر الناظر أرضاً بأجرة شهدت بها بينة أنها أجرة المثل وحكم بها ثم قامت بينة أخرى بأنها دون أجرة المثل بكثير والأولى ليست من أهل الخبرة بأجرة الأراضي فهل يتبين بذلك بطلان الإِجارة والحكم بها فأجاب بأنه لا سبيل لنقض الحكم بعد وقوعه إلا بأحد طريقين أحدهما أن يتبين أن البينة الشاهدة أوّلاً ليست من أهل الخبرة بما شهدت ولكن كيف يتبين ذلك إن قامت به بينة فهذه شهادة نفي وإن اعترف بها الشاهدان فأي فائدة لاعترافهما بعد الحكم بقولهما الثاني أنه يفيد كذب البينة الثانية بعين الأولى ولكن كيف الطريق إلى ذلك والبينان عند التعارض لا ينتهي الحال فيهما إلى ذلك اللهم إلا أن تصل الثانية إلى التواتر فإنه متى خالف الآحاد علم كذب الآحاد وغاية الأمر أن يفرض زيادة الأجرة على الأجرة الأولى تسعة أضعافها وذلك لا يدل على اختلال أجرة المثل في الإِجارة الأولى لأنه قد يرغب في استئجار فدان من قوى بثلاثمائة ولا يرغب في استئجار مثله من ضعيف بثلاثين لجريان عادة بلاد(2/199)
مصر بأن المستأجر من ضعيف يغرم على الفدان مظالم فوق الثلاثمائة والمستأجر من قوى لا يغرم منها شيئاً قال وقد يخالف ما أفتيت به ما أفتى به ابن الصلاح بعد الاستخارة والتمهل أياماً من أنه لو احتيج لبيع ملك يتيم فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم بذلك وحكم الحاكم بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذٍ مائتان نقض الحكم لأنه إنما حكم بناءً على البينة السالمة عن المعارض بالبينة التي هي مثلها أو أرجح وقد بان خلاف ذلك وتبين إسناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما لو حكم للخارج على صاحب اليد ببينة وانتزعت العين منه ثم أتى صاحب اليد ببينة فإن الحكم ينقض لمثل هذه العلة المذكورة وخالف ما لو رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يتبين إسناد مانع إلى حالة الحكم لأن قول الشاهد متعارض وليس أحد قوليه أولى من الآخر قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/200)
أبو زرعة قلت والفرق بينه وبين الصورة التي استشهد بها أن البينة التي أقامها الداخل لو كان أقامها قبل امتنع الحكم لغريمه ووجب الحكم له بخلاف هذه الصورة فإن البينة المعارضة لو أقيمت من الأول منعت الحكم من الأول ومن الجانبين لتعارضهما وتساقطهما فإنه لا ترجيح لأحدهما على الأخرى بل قد ترجحت المحكوم بها بالحكم والحكم لا ينقض بالاحتمال مع الاعتضاد أيضاً فإن الأصل في العقود الجارية بين المسلمين الصحة ثم قال على أن ما قاله يخالف المنقول في البينة أنه لو شهد شاهدان أنه سرق ثوباً قيمته عشرة وآخران قيمته عشرون لزمه أقل القيمتين قال في الكفاية لأن المقل ربما عرف عيباً به غفل عنه المكثر فكان الرجوع إليه أولى وأيضاً فإن الأصل هو السلامة والمقل ناقل عن الأصل والمكثر مبقٍ عليه والناقل أولى من المبقي وقال الإِمام هذا الحكم فيما لو اتفقوا على الصفات وصرحوا بأنه لم يستقل واحد بمعرفة صفة لم يدركها الآخر وردوا النزاع إلى القيمة نفسها فلا يجب عندنا إلا الأقل حملا على براءة الذمة أ هـ .
وفي أصل الروضة شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار وآخر على إتلاف ذلك الثوب بعينه وقال: قيمته ثمن دينار ثبت الأقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر ولو شهد بدل الواحد والواحد اثنان واثنان ثبت الأقل أيضاً وتعارضتا في الزيادة ولو شهد اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه دينار والآخران أن وزنه نصف دينار ثبت الدينار لأن مع شاهده زيادة علم بخلاف الشهادة على القيمة فإن مدركها الاجتهاد وقد يقف شاهد القليل عليه أ هـ .
فانظر كيف جزم أولاً بتعارض البينتين خلاف قول ابن الصلاح أنه تقدم الزيادة وتعليله في الفرق بين القيمة والزنة بأنه قد يقف شاهد القليل على عيب يقتضي تقديم بينة النقص كما في التنبيه فظهر أن ما ذكره ابن الصلاح يخالف المنقول والذي يتحرر لي في ذلك أنه إن قطع بكذب البينة الأولى كأن تقوم الحجازية التي على شاطىء النيل بمائة درهم في(2/201)
كل شهر مثلاً نقض الحكم وذلك ليس في الحقيقة من تعارض البينتين بل نقض الحكم بها للقطع بكذبها فصارت البينة الأخرى لا معارض لها وأما مع الاحتمال فلا نقض للحكم وبدون الحكم مع الاحتمال إما ترجيح الناقضة وإما أن يتعارضا ويتساقطا أ هـ .
وتبع فيما ذكره من الاعتراض على ابن الصلاح ورد كلامه بنحو ما ذكره السبكي وغيره لكن في شرح الإِرشاد انتصرت لكلام ابن الصلاح ثم جمعت بينه وبين كلام من اعترضه بما يوافقه ويؤيده ما ذكره الولي آخراً بقوله والذي يتحرر لي الخ. فتأمل ذلك مع ما في شرح الإِرشاد تعلم أن الراجح في المسئلة التفصيل الدال عليه كلامي الموافق لكلام أبي زرعة المذكور.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/202)
وسئل: في شخص أقامه القاضي المتكلم بالولاية العامة على حجر سفيه بعد أن ثبت أهليته لذلك ليصرف عليه ومعه بذلك إقامة شرعية من القاضي فاستمر ثلاث سنين يقوم به فيما يحتاجه من شخص آخر، ويثبت ما ادعاه مع إقامة القاضي الأول للحاجر مع استمراره على المصروف عليه أم لا. فأجاب: إذا ولى القاضي المستقل أو النائب الذي شملت ولايته النظر في أمر نحو الأيتام قيماً فإن كان لظن أنه لا قيم للمولى عليه كانت ولاية الثاني باطلة والولاية ثابتة للأول ما دام أهلاً وإن كان مع علمه بأن له قيماً ورأى في ذلك مصلحة صح وصار الثاني قيماً أيضاً ولا ينعزل الأول إلا إن قال القاضي للثاني جعلتك قيماً فيما جعل القاضي فلان الأول قيماً وإذا لم ينعزل الأول بأن لم يقل القاضي للثاني ذلك لم يستقل أحدهما بالتصرف بل لا بدّ من اجتماعهما فيه إلا إن انفرد أحدهما بالقبول أو صرح لكل منهما بالانفراد بالتصرف أو ضعف أحدهما أو فسق فينفرد الآخر بالتصرف حينئدٍ ككل منهما في الثانية وإن جعل الثاني مشرفاً على الأول لم يتصرف الأول بإذنه وليس للثاني حينئذٍ الانفراد بالتصرف أيضاً والحاصل أني لم أرَ في صورة السؤال نقلاً بخصوصها وإنما أخذت ما ذكرته بعد قوله وإن كان مع علمه الخ. من كلامهم في الوصيين فليجرِ في ذلك جميع ما ذكروه ثم مما يمكن إتيانه في القيمين والجامع بين القيمين والوصيين غير خفي ولا نظر لكون، وهو الموصي ثم واحداً والمولى وهو القاضي الثاني هنا غير القاضي لأنهما نائبا الشرع فهما بمنزلة شخص واحد والله أعلم.(2/203)
وسئل: عن رجل له ابنة زوّجها من رجل وهي بكر ولم يفك عنها حجره الشرعي فأقامت مع زوجها المذكور مدة مستطيلة واستولدها أولاداً ثم بعد ذلك طرأ لوالدها سفر من بلدته التي ابنته مقيمة بها إلى الحجاز فجعل الزوج المذكور يشاجرها حتى أبرأته من صداقها على يد حاكم شرعي وتحملت بأولادها التحمل الشرعي فأبانها الزوج المذكور البينونة الشرعية فهل تصح منها البراءة المذكورة في غيبوبة والدها وهي تحت حجره أم لا وهل يصح تحملها بأولادها أم لا وهل إذا قلتم يصح تحملها فهل لها تعجيز نفسها عن التحمل بالأولاد أم لا. فأجاب: متى لم يثبت رشدها فإبراؤها باطل وكذلك تحملها إلا أن يحكم بذلك حاكم يراه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/204)
وسئل: عن شخص عنده دراهم ليتيم أو لغائب أو لمسجد ونحوه واليتيم ونحوه. غير محتاج لها في ذلك الوقت فأراد القيم ونحوه إقراضها أو التصرف فيها برد بدلها فهل يسوغ له ذلك وهل قال بذلك أحد من العلماء ولو من غير أصحاب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مع أن البلد ليس بها حاكم وهل تجدون له طريقاً في ذلك أم لا. فأجاب: إقراض الولي مال محجوره فيه تفصيل وهو أنه يجوز للأب والجد والوصي الإِقراض عند الضرورة لنهب أو حريق أو إرادة سفر وفي غير ذلك لا يجوز وللقاضي الإِقراض مطلقاً لكثرة أشعاله هذا ما عليه الشيخان لكن أطال الإسنوى كالسبكي في رده وإن القاضي كغيره في أنه لا يجوز له الإِقراض إلا لضرورة وأفتى ابن الصلاح بأنه لو كان للمحجور بستان فأجر وليه بياض أرضه بأجرة تفي بمقدار منفعة الأرض وقيمة الشجر ثم ساقى على الشجر على سهم من ألف سهم للمحجور والباقي للمستأجر كما جرت به العادة صحت المساقاة وهي مسئلة نفيسة وبأنه لو كان عند رجل صبي يتيم وليس وصياً شرعياً ولا ولياً وخاف ضياع ماله إن سلمه إلى ولي الأمر جاز له النظر في أمره والتصرف في ماله ومخالطته في الأكل وغيره مما هو أصلح له واستخدامه بما فيه تدريبه قاصداً مصلحته ويجوز من غير ذلك بما لا يعد لمثله أجرة وما سوى ذلك لا يجوز إلا بأجرة مثله وذكر النووي في شرح المهذب أن للعصبات كالأخ والعم الإِنفاق من مال الصبي في تأديبه وتعليمه وإن لم يكن لهم عليه ولاية لأنها قليلة فسومح بها قال الجرجاني ولو لم يوجد واحد من الأولياء والحاكم وجب على المسلمين النظر في مال الصبي والمجنون بالحفظ وغيره أ هـ .
وأما تصرفه فيه لنفسه فلا يجوز وإن كان بنية أن يرد بدله لأنه لا يجوز أن يقبض من نفسه لنفسه فلا حيله له في ذلك إلا أن يذهب هو واليتيم إلى بلد لها قاض فإذا ذهبا إليه وكان هناك ضرورة مجوّزة لإِقراض مال اليتيم لم يبعد أن يقال يجوز للقاضي حينئذٍ إقراض ماله للولي وأما في غير هذه(2/205)
الصورة على ما فيها من نظر فلا يجوز للولي أباً أو غيره أن يتصرف في مال موليه لنفسه نعم إن كان أباً أو جداً أو وصياً واشتغل بمال موليه عن كسب يكفيه وكان فقيراً أو مسكيناً جاز له أن يأخذ منه من غير مراجعة القاضي خلافاً لما في الأنوار أقل الأمرين من كفايته وأجرة مثل عمله في مال اليتيم نعم إن نقص أجر الأب والجد والأم إذا كانت وصية عن نفقتهم وكانوا فقراء تمموها من مال محجورهم ولا يجوز للقاضي الأخذ مطلقاً من حيث كونه قاضياً بخلاف ما إذا كان وصياً وبخلاف أمينه فإن لهما الأخذ كما صرح بالثاني
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/206)
المحاملي فبحث بعضهم خلافه مردود وقياس ما تقرر من جواز الأخذ بغير قاض الذي صرح به ابن الصلاح واعتمده الإسنوى وغيره أنه يستقل برد البدل بناءً على القول الضعيف أنه يلزمه رد بدل ما يأخذه لكن صرح الرافعي في الوصايا بأنه لا يبرأ إلا بالرد إلى الحاكم لأنه لا يبرىء نفسه بنفسه ولو تبرم الولي بحفظ مال موليه والتصرف فيه جاز له أن يستأجر من يتولاه بأجرة المثل فأقل من مال موليه وأن يرفع الأمر للقاضي لينصب قيماً لذلك لا ليفرض له أجرة فلا يجيبه وإن كان فقيراً ومحله حيث وجد متبرعاً وإلا أجابه وعليه يحمل إطلاق جمع أنه يجيبه ويظهر أنه لو استأجر من يتولى ذلك بأجرة المثل جاز للأجير أن يستأجر الولي ليعمل عنه ويحتمل خلافه وعلى الأول فيكون من الحيل المجوّزة للولي العمل في مال موليه بالأجرة ولو مع وجود متبرع هذا كله حكم ولي المحجور من يتيم ونحوه. ومثله في جميع ما تقرر ناظر الوقف في مال الوقف أخذاً من قول الشيخين وغيرهما. لو شرط الواقف لمن يتولى وقفه شيئاً من الريع جاز وكان ذلك أجرة عمله فإن لم يشرط له شيئاً لم يستحق شيئاً وعليه قال البلقيني لو رفع الأمر للحاكم ليقرر له أجرة فهو كما لو تبرم الولي بحفظ مال الطفل ورفع الأمر إلى القاضي ليثبت له أجرة قال تلميذه أبو زرعة مقتضى تشبيهه أن يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة على ما قاله الرافعي وإما أقل الأمرين من الأجرة والنفقة كما قاله النووي وقد رجح ابن الصلاح في فتاويه أنه يستقل به من غير حاكم وذلك يأتي هنا اهـ. فأفهم ذلك أن حكمه حكم الولي فيما تقرر فيه وبه يعلم أنه لا يجوز له أن يأخذ لنفسه قرضاً مما تحت يده لمال الوقف وقد صرح بذلك الشيخان حيث قالا ليس للمتولي أن يأخذ شيئاً من مال الوقف على أن يضمنه فإن فعل ضمن وأما من تحت يده مال لغائب فإن كانت على ذلك المال بغير حق فواضح أنه لا يجوز له أن يتصرف فيه لنفسه ولا لغيره وإن كانت بحق فإن كان قاضياً أو نائبه جاز(2/207)
له التصرف فيه إذا اضطر إليه كبيعه عند خوف تلفه وأن وكيلاً جاز له التصرف بحسب ما أذن له موكله فيه نعم له ولغير الموكل أن يأخذ إما يعلمان أو يظنان أنه يرضى به هذا كله إن كان الغائب المالك رشيداً وإلا لم يجز أخذ شيء من ماله مطلقاً ولا التصرف فيه إلا للولي أو مأذونه والله أعلم.
وسئل: عما لو أخذ الرقيق أو الصبي شيئاً من المعرض عنه أيملكه أم لا. فأجاب: بأن الذي دل عليه كلامهم أن الصبي يملك ما أخذه مما أعرض عنه مالكه المطلق التصرف وكذلك سيد الرقيق يملك ما أخذ قنه من ذلك والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/208)
وسئل: رضي الله عنه عن وصي شرعي على يتيم قاصر عن البلوغ ولليتيم المذكور دمنة أرض معدة للقمائم وليس فيها شيء من الأبنية ولا حاصل منها نافع للمحجور المالك وفي بنائها من ماله أو تركها مهملة للقمائم غاية الإضرار به والإِضاعة عليه فباع الوصي الشرعي عن اليتيم المذكور الدمنة المذكورة بعد ثبوت الحظ والمصلحة وبعد ثبوت الزيادة عن ثمن المثل كذلك وثبت أيضاً أن الوصي المذكور باع ذلك طائعاً مختاراً من غير إكراه له في ذلك ولا إجبار وثبت ذلك على يد حاكم شرعي شافعي المذهب فحكم بموجب البيع المذكور وبموجب ما ثبت لديه من المسوّغات الشرعية وثبوت الطوع والاختيار وأراد الوصي المذكور أو اليتيم المذكور بعد بلوغه الدعوى بأن صدور البيع المذكور من الوصي المذكور كان بالجبر والتهديد فهل تسمع دعواه بذلك بعد ثبوت الطوع والاختيار والمسوغات الشرعية بذلك أم لا تسمع دعواه وهل تقبل بينته بذلك أم لا تقبل وإذا أراد الوصي المذكور أو اليتيم المذكور بعد البلوغ أن يدعي أن الثمن المذكور للدمنة المذكورة دون ثمن المثل وأن ثمن المثل فوق ذلك وله بينة تشهد بدعواه أن ثمن المثل حال البيع الصادر من الوصي المذكور كان أزيد من الثمن الذي باع به الوصي المذكور فهل تسمع دعواه وبينته بذلك ولو حكم حاكم شرعي شافعي بأن الثمن الأول كان ثمن المثل أم لا تسمع وهل تقدم البينة الثانية على الأولى ولو حكم بالأولى حاكم شرعي شافعي المذهب. فأجاب: بأنه تسمع دعوى الوصي للإِكراه بقرينة وكذا للنقص عن ثمن المثل إن ذكر عذراً وإلا فقد فسق وانعزل وأما دعوى المحجور إذا بلغ وثبت رشده فتسمع بذلك مطلقاً ثم إذا سمعت الدعوى وأقيمت بينة بالإِكراه وبينة بالاختيار قدمت بينة الإِكراه لأنها ناقلة عن الأصل وهو الاختيار نعم إن قالت بينة الاختيار كان مكرهاً وزال الإِكراه حال البيع كإن قالت الأولى باع عند الغروب وهو مكره وقالت الثانية باع عنده وكان مكرهاً قبله وزال(2/209)
الإِكراه عنده قدمت الثانية التي هي بينة الاختيار لأنها في هذه الصورة ناقلة عن أصل الإِكراه التي أثبتته الأولى واعلم أن شرط سماع بينة الإِكراه أن تذكر سببه من نحو ضرب أو حبس أو تخويف ناجز فلا يكفي قولها نشهد أنه كان مكرهاً لاختلاف ما به الإِكراه باختلاف الأحوال والأشخاص وإذا أقيمت بينة بأن بيع الوصي كان بثمن المثل وأقيمت بينة أخرى بأنه كان بدونه بقدر لا يتغابن بمثله قدمت الثانية كما أفتى به ابن الصلاح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/210)
حيث سئل عما إذا احتيج إلى بيع مال يتيم فشهدت بينة بالحاجة وبأن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم بذلك وحكم حاكم بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأنه بيع بلا حاجة أو بدون ثمن المثل فقال بنقض الحكم وبحكم فساد البيع لأنه إنما حكم بناءً على أن البينة سالمة من المعارض وقد بان خلافه فهو كما لو أزيلت يد الداخل ببينة الخارج ثم أقام ذو اليد بينة فإن الحكم ينقض لذلك أ هـ .
وأما مخالفة السبكي له حيث قال الذي أراه أنه لا ينقض الحكم بالشك وإنما قالوا بنقضه في مسئلة الداخل التي قاس عليها ابن الصلاح لأجل اليد وقد قال الأصحاب لو شهد شاهدان بأنه سرق ثوباً قيمته عشرة وشهد آخران بأن قيمته عشرون وجب أقل القيمتين لأنه المحقق أ هـ .
فأجاب عنها بعض المحققين بمنع أن ذلك نقض بالشك أي لأن الحكم ليس مرجحاً وغايته أنه أفادته البينة الأولى الظن ومفاد الثانية الظن أيضاً وإنما قدم لما ذكره ابن الصلاح وبان ما قاله الأصحاب الذي احتج به السبكي على ما زعمه محله قبل الحكم فحينئذٍ لا يحكم إلا بالأقل لأنه المحقق بخلاف مسئلة ابن الصلاح فإن الحكم بالأولى قد وقع على ظن سلامتها من المعارض وقد بان خلافه فبطل الحكم بها ويؤيد ذلك تصريح السبكي نفسه في مسئلة ابن الصلاح بأنه لو وقع التعارض فيها قبل البيع والحكم امتنع كل من البيع والحكم لأن معارضة الثانية الأولى أبطل النظر إليها وأجاب بعضهم أيضاً عما يتوهم من مخالفة كلام ابن الصلاح لكلام الأصحاب المذكور فقال ولعل كلامهم هنا فيما لو تلف وتعذر تحقيق الأمر فيه وما ذكره ابن الصلاح في سلعة قائمة يقطع بكذب البينة الشاهدة بأن قيمتها مائة أ هـ .
وفي هذا الجواب نظر يعرف وجهه مما تقرر في وجه كلام ابن الصلاح السابق فالأوجه أنه لا فرق في كلامه بين التالفة والباقية نعم إن كانت العين المبيعة قائمة على صفاتها وقت البيع وقطع بكذب البينة الشاهدة بالزيادة لم يلتفت إليها وحكم الحاكم باقٍ على حاله(2/211)
وابن الصلاح لا يخالف في هذه الصورة بخلاف ما إذا تلفت أو تغيرت صفاتها ولم يقطع بكذب الثانية فإنها تؤثر ويعمل بها كما مر عن ابن الصلاح والله أعلم.
وسئل: رضي الله عنه جرت العادة عند حفظ الولد لسور معينات من القرآن الكريم بصرافة وهي عبارة عن الضيافة للمعلم والمتعلمين هل في ذلك وفي خصوصه في سور معينات أثر وهل لولي الطفل أن يفعل ذلك من مال الطفل. فأجاب: صرح أصحابنا بأن ما يجعل من الطعام عند ختم القرآن سنة قياساً على بقية الولائم المسنونة بجامع السرور وإظهار الشكر على هذه النعمة العظيمة وكفى بذلك دليلاً على ندب ما ذكر ولا أحفظ في ذلك بخصوصه شيئاً من الأخبار والآثار إلا ما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه لما ختم البقرة ذبح بدنة وليس لولي الطفل أن يفعل شيئاً من ذلك وغيره من الولائم المندوبة من مال الطفل والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/212)
مسئلة: أسند وصيته على تركته وولده لإِنسان وجعل آخر ناظراً عليه وأقر في مرض موته لولده بأعيان معينة ثم مات عنه وعن أمه فصدقت على الإِقرار المذكور وحكم بذلك شافعي ثم إن الناظر اقتضى رأيه أنه يدفع لها من المقر به للولد مبلغاً صلحاً عما ادعته فيما أعذرت فيه لمنام رأته أن ولدها يعذب من جهتها فهل للناظر ذلك أو لا ويغرم ما دفعه إليها ويكون ذلك جنحة فيه ثم اتفق الناظر والوصي على خزن مال المحجور وعدم الاتجار فيه مع إخراج مؤن منه كثيرة على الولد وإخراج زكاته نحو ألف وثلثمائة دينار فهل لهما ذلك أم يجب عليهما الاسترباح فيأثمان بتركه ويغرمان ما فات بسببه ويكون ذلك جنحة فيهما أو لا وهل للحاكم حينئذٍ رفع يدهما ونصب من يستربح لليتيم ولو بطريق العينة وإذا بلغ المحجور سفيهاً فهل يعتبر منعه للقاضي عما اقتضاه نظره أو يكون ذلك مؤكد الدوام سفهه. الجواب: اعتماد الناظر في إعطائها على مجرد المنام غير سائغ له فيغرم ما فات على الولد بسبب إعطائه ويكون ذلك جنحة فيه واختلف أئمتنا في الاتجار للمحجور فقال الأكثرون من المتقدمين والمتأخرين أنه مستحب لا واجب مطلقاً كما نص عليه الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وقال الأقلون وصححه الشيخان أنه بقدر المؤمن نفقة وزكاة وغيرهما واجب قال القفال إن نص له في الإِيصاء إليه على التجارة وإلا لم يجز له وقال الماوردي إن كان الزمان أمناً والسلطان عادلاً وغلب الربح حالاً أو مآلاً بغلبة الظن فإن فات شرط من ذلك لم يجز له الاتجار وحينئذٍ فامتناع الوصي من الاتجار مع وجود شروطه المذكورة إن كان لاعتقاده الندب لم يأثم أو مع اعتقاده الوجوب أثم لكنه لا ينعزل بل يقيم الحاكم نائباً عنه يتصرف في المال كما صرح به أئمتنا فيما إذا امتنع وصيان ألزمهما الحاكم بالعمل بالمصلحة أو أحدهما فقالوا لا ينعزل الممتنع بل ينيب الحاكم عنه ومن ثم صرح القاضي حسين بأن السفر بمال المحجور حيث حرمناه لا ينعزل به(2/213)
الولي وصرح الدارمي بأنا إذا ألزمنا الولي بإخراج زكاة مال المحجور فوراً كما هو الأصح عندنا فامتنع لا ينعزل ولا يضمن الوصي الربح الفائت بسبب عدم التجارة فقد حكى أئمتنا وجهين فيما لو ترك الولي التصرف فنقص المال أو تلف من غير تفريط في حفظه كأن ترك تلقيح طلعه أو بيع فرصاده أو عمارة داره أو إجارتها أو علف دوابه حتى ماتت قال شيخنا شيخ الإِسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/214)
سقى الله عهده والأوجه عدم الضمان في الجميع إلا في الدواب فإنه يضمنها لحرمة الروح ويؤيد ما رجحه قول الأئمة لو أخذ ثياب منقطع فمات برداً لم يضمنه لأنه لم يفعل في ذاته شيئاً بل صرحوا أيضاً بأنه لو حبسه ظلماً فماتت دوابه جوعاً لا يضمنها لكن الفرق بينهما وبين الدواب فيما نحن فيه واضح لأن الولي هنا مخاطب بدفع المتلفات لأنها تحت يده مع حرمة ما تميزت به من الروح التي يحتاط لها أكثر فهو كالوديع بل أولى فضمنها لتقصيره ولا كذلك الحابس فإن تعديه مقصور على المحبوس لا يتجاوزه إلى بقية أمواله لأنها ليست تحت يده والاسترباح بطريق بيع العينة الخالي عن شرط مفسد صحيح لكن قال السبكي في فتاويه وغيرها ينبغي للولي أن لا يتصرف في مال المحجور بمعاملة فيها شبهة لأن رعاية المحجور في الآخرة أولى من رعاية مصلحته في الدنيا ومن مصلحة الآخرة إطعامه الحلال الخالص عن الشبهة وبيع العينة قال بتحريمه مالك وأحمد وبعض أصحابنا ففيه شبهة قوية وقد قال تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (17:33) وكل ما فيه شبهة ليس من التي هي أحسن أ هـ .
ملخصاً قال بعض شراح الإِرشاد عقبه وهو كلام نفيس ولا عبرة بمنع السفيه ولا بإذنه ولا يجوز للحاكم مطاوعته في ترك ما لزم الحاكم فعله من النظر في ماله بالمصلحة ومنعه من الاسترباح السائغ أمارة على سفهه وإن لم نثبته بمجردها والله أعلم. ثم رفع إليّ هذا السؤال بعبارة أخرى وحاصلها شخص أسند وصيته على أولاده وماله لإِنسان وجعل النظر لآخر وقال لهما أثناء وصيته قصدي أن أخص ولدي بما هو في ملكي من نحاس وغيره وعينه فقالا له: هذا حرام إجماعاً ثم بعد هذا المجلس قيل له اجعل الوصية بلفظ الإِقرار ليصح عند الشافعية فأقر وأثبت إقراره شافعي فلما مات الموصي أفهمت والدته أنه لا حق لها في تلك الأعيان لأنها ملك ولده المقر له دونها حسب إقراره الصحيح فأعذرت ظانة صدق ما قيل لها ثم اطلعت على حقيقة الحال(2/215)
وأن ذلك إنما هو وصية في باطن الأمر وأن الإِقرار المذكور حيلة فادعت بنصيبها من تلك الأعيان وتمسكت بما قاله ولدها من التخصيص قبل الإِقرار واستشهدت في ذلك بينة عادلة تشهد لها بذلك وطالبت الوصي والناظر بمقتضى ذلك وما يعلمانه مما سمعاه من لفظ ولدها من التصريح بالتخصيص قبل الإِقرار فدفعا لها حصتها منها فهل الدفع المذكور صحيح سيما والناظر حاكم شرعي بالبلد إذ ذاك يرى بطلان الإِقرار في مرض الموت وإن لم يسبق من المقر ما ينافيه فكيف وقد سبق منه ذلك وهل ثبوته على يد شافعي مانع للناظر من الدفع إليها ومقتض لاثمهما أم لا لفعلهما ما هو الواجب عليهما عندهما مع أن الولد المنحصر الإِرث فيه أعذر بعد بلوغه للجدة ثم توفيت ورجع ما أخذته إليه وهل الاسترباح في مال المحجور واجب عليهما أم لا مع أنهما لم يجدا أميناً وإن وجداه فإنما يأخذ المال بصورة محرمة إجماعاً أو على قول فهل يستربحان فيه على هذا الوجه أم لا وهل تركهما الاسترباح لهذا المعنى جنحة فيهما أم لا وهل يتصرف الناظر في مثل ذلك على مقتضى مذهبه أم على مقتضى مذهب صاحب المال وهل قال أحد من المسلمين بتغريم الوصي والناظر ما صرفاه على الولد من لوازمه الشرعية وزكاته الواجبة حيث لم يستربحا فيه أم لا وإذا فعلا ما هو الحق فهل لحاكم شرعي تعرض لهما بعزل أو غيره أو لا. الجواب: إذا ثبت ولو بشهادة الوصي والناظر لقبول شهادتهما على المحجور قول الموصي قصدي أخص بما في ملكي من كذا وكذا ولدي ثم أقر به حالاً لولده كان الإِقرار باطلاً فقد صرح أئمتنا بأنه لو قال داري المملوكة لي لزيد كان باطلاً للتناقض لأن الإِقرار إخبار عن حق سابق فإذا ثبت أنه ملكه حالاً انتفى الإِقرار به أما لو أقر به بعد مدة يمكن الانتقال فيها للولد بوجه صحيح فيصح الإِقرار ولا عبرة بما سبق منه وإذا بطل الإِقرار بشرطه الذي ذكرناه فلا فرق بين أن يحكم به الشافعي وبين أن لا يحكم به ومع بطلانه يتعين(2/216)
عليهما الدفع لأمه ما يخصها من تلك الأعيان ولا عبرة بتصديقها بالصفة المذكورة لعذرها فهو نظير ما لو باع شخص داراً وأقر ابنه بأنها ملك الأب البائع حال البيع ثم ادعى الابن أن الأب كان وقفها عليه وأنه جهل ذلك حين إقراره بالملك فقد نقل البغوي عن
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
العبادي أنه يصدق بيمينه في دعواه هذه قال الأذرعي وهذا هو الصحيح ويجب الجزم به إذا دلت القرائن على صدقه كأن كان طفلاً وقت الوقف أ هـ .
وهو متجه وقول القاضي لا تقبل دعواه المذكورة ضعيف إذا تقرر ذلك فالدفع المذكور للأَم على الصفة التي ذكرناها صحيح لا فسق فيه ولا انعزال لوجوبه عليهما وإن حكم الشافعي بخلافه لأن وجود ما مر المقتضي لبطلان الإِقرار دافع لصحة حكمه على أن قضية كلام ابن الصلاح أن لكل من الناظر والوصي العمل بعمله واعتقاده وذلك لأنه أفتى بأنه إذا حكم حاكم بصحة الوقف على النفس وكان ممن يراه جاز للشافعي التصرف فيه ببيع ووقف وغيرهما كسائر الأملاك في الباطن لأن حكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر قال ما معناه وإنما منع منه في الظاهر سياسة شرعية أ هـ .
وأقره على ذلك جماعة محققون منهم الشرف الغزي في أدب القضاء وشيخنا شيخ الإِسلام في مختصره قال ويلحق بهذا ما في معناه أ هـ .
فإن قلت هو مبني على الضعيف أن حكم الحاكم حيث وجدت شروطه إنما ينفذ ظاهراً فقط أما على الصحيح أنها إذا وجدت نفذ باطناً وظاهراً فكيف يجوز للشافعي ما ذكره قلت هذا وإن كان محتملاً إلا أن الظاهر أن ابن الصلاح ومن تبعه لم يغفلوا عنه بل فرعوا ما قالوه حتى على الصحيح أنه ينفذ باطناً أيضاً ومعنى نفوذه باطناً في المختلف فيه أنه يجوز له باطناً أيضاً العمل بقضية ذلك الحكم لا أنه يلزمه في مسئلتنا ونحوها لأن الوقف على النفس عند القائل بصحته لا يخالف الملك إلا بالنسبة للفوائد المترتبة عليهما لا بالنسبة لاستحقاق منفعتهما فلم يتوجه(2/217)
حكم الحنفي بالصحة إلا للعمل بتلك الفوائد وبين أن يخرج عنها ويفعل فيه حكم الأملاك هذا غاية ما يتوجه من كلام هؤلاء ولا يخلو عن تكلف وبعد فالأوجه أن تلك مقالة مبنية على ذلك الضعيف وعلى ضعفها فمما يدل على عدم فسق الناظر بما فعله من الدفع الواجب عليه أن لنا وجهاً بقبول قول الوصي في عين من التركة هذه لفلان ووجهاً آخر أنه لو كان في يد رجل مال لميت فقال: أوصى إليّ رب المال أن أصرفه في كذا قبل ذكره شريح في روضته فإذا دفع ظاناً إفادة علمه ظاهراً أو مقلداً للقائل بصحة إقرار المذكور لم يكن ذلك قادحاً في ولايته لأنه لم يرتكب حراماً محظوراً في اعتقاده فهو نظير قول الشافعي رضي الله عنه في حنفي شرب النبيذ أحده وأقبل شهادته قالوا: أما حده فلضعف شبهته إذ الأحاديث الصحيحة الصريحة في تحريم النبيذ أي القدر الذي لا يسكر منه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وأما قبول شهادته فلأنه لم يرتكب محرماً في اعتقاده فلم تبطل عدالته والاسترباح اختلفوا في وجوبه وعلى القول بالوجوب له شروط مقررة في محلها فإذا امتنع الوصي مع وجودها وسهولتها عليه أثم ولا ينعزل كما صرح به الأئمة في عدة مسائل منها قولهم لو اختلف وصيان في التصرف ألزما بالعمل بما يراه الحاكم مصلحة فإن امتنعا لم ينعزلا بل ينيب عنهما اثنين ليتولياه حتى يتفقا على العمل بالمصلحة فإن امتنع واحد فقط أناب عنه أ هـ .
ومنها قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/218)
القاضي حسين حيث منع الولي من السفر بمال محجوره فتعدى وسافر به لم ينعزل بهذا القدر من التعدي كما لا ترد شهادة الشاهد بكل فسق أ هـ .
وأقره عليه جماعة منهم القمولي في جواهره فإن قلت ينافيه قول القاضي نفسه وأقره في الروضة لو لم يقبل الولي أو القيم الهدية أو الوصية لموليه أثم وانعزل لتركه النظر قلت: لا منافاة لأنه هنا فوت عليه عيناً موجودة محسوسة بخلاف مجرد سفره بالمال فإن الذي فيه إنما هو خشية فوات ولم توجد وفرق ظاهر بين حقيقة التفويت وخشية الفوات على أن الشيخ أبا إسحق قيد الوجوب على الأب بما إذا لم يقصد التقرب إليه بالهدية لابنه وصوبه الزركشي وقضية كلام الجويني وجوبه في الوصية دون الهدية لأنه لم يقصد بها المكافأة ومال الأذرعي إلى الوجوب على نحو الوصي إذ لا منة عليه بخلاف الأب والجد ثم قيد الوجوب بما إذا لم يقصد التودد إلى الأب لولاية أو قضاء وإلا فهو طريق إلى الرشوة لولاة السوء وقضاته أ هـ .
قال غيره وهو حق وصوبه في الخادم بل زاد أنه يحرم على الأب القاضي القبول لئلا يتخذ ذريعة إلى الرشوة ومنها قال الدارمي إذا أوجبنا عليه إخراج الزكاة فوراً أي كما هو الأصح فلم يخرجها لم ينعزل عن الوصية وهو ظاهر وإن نظر فيه الأذرعي لأنه لم يفوّت شيئاً فهو نظير ما مر عن القاضي في السفر وعن غيره في مسئلة امتناع الوصيين السابقة على أن الصيمري من أكابر أئمتنا قال لا يجوز للولي أن يتجر للمحجور مطلقاً لفساد الزمان وجور السلطان على التجار ومن ثم قال تلميذه الماوردي لا يجوز الاتجار إلا أن كان الزمان أميناً والسلطان عادلاً والتجارة مربحة حالاً أو مآلاً بغلبة الظن ولا يجوز للولي أن يتجر لموليه بصورة محرمة إجماعاً أو في اعتقاد الولي وأما ما فيه شبهة ف للسبكي في فتاويه كلام طويل فيه حاصله اختلفوا في الاتجار في مال اليتيم والأصح أنه واجب بقدر النفقة والزكاة أي دون الزائد والوجوب مشروط بالسهولة واليسر وأما أنه(2/219)
يلزم الولي ذلك ولا بدّ فلا يمكن القول به لأنا نرى حذاق التجار يكدون أنفسهم وفائدتهم غالباً لا تفي بكلفتهم وما قاله الأصحاب لعله كان حين تيسر الكسب من غير ظلم ولا مكس ولا خوف وأما اليوم فهذا أعز شيء يكون وكثير منهم يخسرونه ولو قدر كل من معه مال على استنمائه قدر نفقته كانوا سعداء ونحن نرى أكثرهم معسرين ولا أعز عند الإِنسان من نفسه فلو أمكنهم ذلك لفعلوه فكيف يكلف به ولي اليتيم فقدر المؤن واجب عند السهولة وما زاد عليه لا يجب مطلقاً على أنها مع اجتماع شروط الوجوب عسرة إذ لا وثوق بالأَسعار فقد يخسر فيغرم ويدعي عليه أنه فرط واشترى بغير مصلحة والقول بالاستحباب حينئذٍ جيد ثم الاتجار له بشروطه حلال قطعاً وأما ما يعتمدونه الآن من طلب ألف بفائدة مائتين مثلاً من يفعل الحيلة المعروفة عند المالكية والحنابلة وبعض أصحابنا فهذه لم ينص الفقهاء على أنها تفعل في مال اليتيم وفيها خطر من جهة أن أكثرهم لا يوفي حين الحلول لمطل أو خسران أو إعسار ويخرج رهنهم غير مملوك لهم وغير ذلك من المفاسد وعلى سلامتها من هذا كله فيها الكراهة والشبهة لقول إمامين كبيرين وأتباعهما بتحريمها وبطلانها ومن مصالح الصبي أن الولي يصونه عن أكل ما فيه شبهة وعن اختلاط ماله به ويحرص على إطعامه الحلال المحض وعلى أن يكون ماله كله منه وهي مصلحة أخروية ودنيوية أما أخروية فظاهر لأنه وإن لم يكن مكلفاً لكن الجسد النابت من الحلال الطيب أزكى عند الله تعالى وأعلى درجة في الآخرة من غيره وأما دنيوية فلان الجسد الناشىء عن الحلال ينشأ على الخير فيحصل له مصالح الدنيا والآخرة وقد يكون بتركه الشبهات يبارك له في القليل فيكفيه ويرزقه الله من حيث لا يحتسب فهذه المصالح محققة والفائدة الدنيوية التي يكتسبها بالمعاملة السابقة دنيوية محضة فتعارض مصلحتان أخروية ودنيوية ورعاية الأخروية أولى فكان الأحظ والأصلح لليتيم ترك هذه المعاملة فإما يقال تركها(2/220)
مستحب أو واجب لقوله تعالى
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فالأحسن دنيا وأخرى حلال قطعاً وغير الأحسن فيهما ممتنع قطعاً والأحسن في الآخرة فقط أحسن من الآخر فهو الأحسن مطلقاً فإن تيسر وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ويأكل ماله خير من أن يأكله غيره أ هـ .
فعلم منه أن الولي ينبغي له تجنب ما فيه الشبهة من المعاملات ندباً أو وجوباً على الاحتمالين السابقين في كلامه وإن تركه الاتجار لذلك غاية الإِحسان فلا يتصرف فيه بوجه والعبرة في تصرف كل من الموصي والناظر بمذهبه لا بمذهب صاحب المال ولا بمذهب المحجور عليه كما صرح به أصحابنا في إخراج زكاته حيث قالوا تجب الزكاة في مال المحجور عليه صبياً كان أو مجنوناً أو سفيهاً فعلى الولي إخراجها منه قال العز بن عبد السلام وإن نهاه الإِمام ويأثم بتركه فإن خاف من الإِمام أخرجها سراً فإن تعسر عليه إخراجها أو لم يخرجها تعدياً أخرجها المحجور إذا كمل قال الأذرعي وإنما يلزم الولي إخراجها إذا كان يرى وجوبها ومن ثم قال القفال لو كان لا يراه كحنفي لم يخرجها لئلا يلزمه قاضي مذهبه بل الاحتياط له ضبطها إلى أن يكمل المحجور فيعرفه ليخرجها أ هـ .
ولا يتعين الاحتياط في ذلك بل يغنيه عنه استئذان حاكم شافعي في إخراجها أو رفع الأمر إليه بعد إخراجها حتى يحكم له بعدم مطالبة المولى له بها إذا كمل وبعدم تعرض القاضي الحنفي له بتغريمه إياها وقيم الحاكم يعمل بمذهبه لا بمذهب الحاكم خلافاً للأذرعي كحاكم أناب حاكماً آخر يخالفه في مذهبه والأوجه من تردد له في الولي العام الصرف إذا لم يلزمه حاكم يراها بإخراجها أنه يحتاج لمثل ما مر على قياس قول القفال السابق ولا ضمان على الوصي ولا على الناظر فيما فات بسبب تركهما الاسترباح من الربح المتوهم لو اتجر لأن الولي إذا لم يضمن بترك عمارة الدار حتى خربت أو بيع الفرصاد أو(2/221)
تلقيح الطلع حتى فسد فأولى هذا لا يأتي فيما نحن فيه لوضوح الفرق بينهما وبين هذه الصورة لأن فيها فوات عين محسوسة موجودة من مال الطفل بخلاف الربح المتوهم وحيث كانا على الحق لم يسغ لحاكم شرعي ولا لغيره تعرض لهما والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
وسئل: رضي الله عنه سؤالاً صورته إذا كان بعض أهل بجيلة يتبركون برجل ينسب إليه شيء من العلم والصلاح فيأتونه بشيء من أموالهم لأجل التبرك به وربما كان فيهم يتيم فيأخذ الولي من ماله المختلط بمال اليتيم ويأتي به إليه للتبرك فهل يحل لهذا الرجل أخذ ذلك من الولي حيث لم يكن على اليتيم حيف في ذلك أم لا وسئل الشيخ الإِمام محيي الدين النووي رحمه الله تعالى عن وصي أيتام وله أولاد عيال وله وللأيتام ملك مشترك ويأكلون كلهم جميعاً ويضيف الوصي بعض الأوقات ناساً من ذلك الطعام المشترك بينه وبين الأيتام هل يجوز له ذلك فأجاب بقوله يجوز ذلك كله بشرط أن لا يكون على الأيتام حيف في ذلك والله تعالى أعلم أ هـ .
فهل هو كالمسئلة المذكورة فإن قلتم نعم فذاك وإن قلتم لا فما الفرق أوضحوا القول لنا في ذلك أثابكم الله الجنة. فأجاب: بقوله الجواب عن هذه المسئلة أنه لا يحل أخذ ذلك من الولي لأن الولي لا يجوز له أن يتبرع بشيء من مال موليه وليست هذه المسئلة كمسئلة النووي فإن الضيافة لتأكدها سامحوا فيها ما لم يسامحوا في غيرها مع أنه ليس فيها تفويت شيء على اليتيم لأن الصورة أن الولي هيأ ذلك الطعام المشترك بينه وبين اليتيم ثم أفرز منه لليتيم كفايته فبقيت حصة الولي فله أن يستقل بأكلها وله أن يشرك غيره معه فيها فلا وجه لمنعه من ذلك وقد أشار النووي لما ذكرته بقوله بشرط أن لا يكون على الأيتام حيف في ذلك ولا يتصور انتفاء الحيف إلا في الصورة التي ذكرتها بخلاف الصورة التي ذكرها السائل فإن في إعطاء الولي من المال المشترك بينه وبين اليتيم حيفاً(2/222)
عليه في ذلك حتى لو فرض أنه نزل به أضياف لم يجز له أن يزيد لأجلهم في الطعام الذي يكفيه ويكفي يتيمه من المال المشترك بينهما لأن فيه حيفاً على اليتيم حينئذٍ وإنما الواجب عليه أن يزيد لهم ما يكفيهم من خالص ماله فالحاصل أنه متى تحقق التبرع من مال اليتيم بفلس حرم على الولي إعطاؤه وعلى غيره قبوله وهذا واضح من كلامهم والله تعالى أعلم.
وسئل: عن شخص عليه ديون لصبي أو محجور عليه أو لبالغ وليس معه إلا عقار أو معه بعض ما يوفي ما عليه فما الحيلة في جواز سفره بغير إذن الغريم. فأجاب: بقوله سفر الغريم بغير إذن دائنه لا يجوز إن كان الدين حالاً والمدين موسراً فإذا وجد هذان الشرطان فلا حيلة في جواز السفر بغير إذن الدائن وإن فقدا أو أحدهما جاز السفر فلا يحتاج لحيلة ومعلوم أن العقار يجب بيعه في الدين فلا يجوز لمن له عقار وعليه دين حال السفر إلا إذا باعه ووفى به فإن فضل عليه شيء وهو معسر جاز له السفر بلا إذن والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/223)
وسئل: هل يجوز للولي بيع مال اليتيم بدون ثمن المثل إذا خشي عليه التلف. فأجاب: نعم يجوز له ذلك فقد أفتى القفال عن ضيعة خراب يطلب مالها من الصبي وتستأصل ماله فقال يجوز بيعها ولو بدرهم لأن المصلحة فيه وقضيته أن له بيع كل ما خيف غصبه أو هلاكه بدون ثمن مثله ويؤيده إفتاء الغزالي بأنه يجوز للأب نقص الصغيرة عن مهر المثل للمصلحة وأخذ منه ابن عجيل مسئلتنا ومثله بما لو أبق عبد المحجور المكتسب مالاً وتعذر استرداده وما معه فباعه ممن يقدر على انتزاع الكسب منه بدون ثمن المثل وشرط أن يرد له الكسب جاز ولا نظر لكون هذا وعداً لأن الظاهر بقاؤه عليه نظير قولهم لو زاد راغب وقد باع الوكيل في زمن الخيار انفسخ البيع وإن كان له الرجوع لأن الظاهر بقاؤه على الزيادة ويؤيده تجويزهم تعييب مال اليتيم إذا خيف أخذ ظالم له كقضية السفينة مع الخضر عليه السلام ومن ثم أفتى الأزرقي بأنه لو كان له ثوبان سرق أحسنهما ولم يردّه اللص إلا بأخذ الأدون جاز إعطاؤه والله تعالى أعلم.
وسئل: عن الأمور التي تعم بها البلوى بين أهل بلد في المعاملات كالبيع على اليتيم إذا لم يكن له ولي وغير ذلك إذا كان له مصلحة في مبادلة عقار بعقار أحسن منه فإذا اجتمعت أكابر بلدتين بين يدي محكم وبادلوا بحديقة لليتيم في حديقة أخرى أحسن من حديقة اليتيم وظنوا أن هذه المبادلة أصلح لليتيم فهل يجوز ذلك أم لا. فأجاب: بقوله إذا لم يكن لليتيم ولي ولا قاض بالبلد جاز لأهل تلك البلد إذا لم يكونوا تحت حكم أحد أن ينصبوا قاضياً فإذا اتفقوا على نصب قاض كان ولياً لليتامى فله أن يتصرف أو يفوّض إلى عدل أمين يتصرف في أموالهم بالمصلحة إذا علم ذلك فعلى أهل تلك البلد أن ينصبوا قاضياً والقاضي ببيع تلك الحديقة بعد أن يثبت عنده وجه المصلحة والله تعالى أعلم.(2/224)
وسئل: رضي الله عنه عن امرأة شهد لها أجنبي بالرشد هل يقبل. فأجاب: بقوله أفتى البرهان المراغي وغيره بالقبول وأنكره القاضي شمس الدين بن خلكان بأنه خلاف نص الشافعي في المختصر على أنه لا يقبل إلا شهادة المحارم ولفظه واختبار المرأة مع علم صلاحها لقلة مخالطتها في البيع والشراء أبعد فتختبرها النساء ذوات المحارم بمثل ما وصفت به أ هـ .
وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه وأما الإِناث فإنه يدفع إليهن شيئاً من المال ويجعل نساء ثقات يشرفهن عليهن فإن غزلن واستغزلن ونسجن واستنسجن سلم المال إليهن فلم يتعرض لتخصيص الشهادة بالمحارم وهذا موضع بيانه ولو كان كلام الشافعي رضي الله عنه يشير إليه لبينته وإنما تعرض الشافعي للطريق الغالب في الاختبار دون الشهادة قال القاضي في تعليقه وأما الجارية فتختبر بأن يعاملها محارمها والنسوان وتؤمر بالتصرف في القطن والغزل الخ. وقال في الحاوي واختبارها في رشدها أصعب من اختبار الغلام لأن حاله أظهر والذي يتولى اختبارها ذوو محارمها ونساء أهلها بخلاف الغلام الذي يجوز للولي اختباره وإن كان أجنبياً وحال النساء أيضاً مختلف في البروز والتحصين فيدفع إليها من مالها ما تتولى إنفاقه على نفسها في تدبير خدمها الخ. وصرح هو والقاضي بأنه لا فرق فيما ذكره بين أن تزوّج أو لا قال في المهذب ويختبره الولي اختبار مثله من تجارة إن كان تاجراً أو بناءً إن كان بانياً أو إصلاح أمر البيت إن كانت امرأة فقد صرح باختبار الولي المرأة من غير اشتراط المحرمية.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/225)
وسئل: عن شخص مات بمحل لا حاكم به وله فيه مال وعيال صغار فمن القيم عليهم ومن يتولى قضاء ديونه ونحوها وما الحكم فيما لو عم الفسق أهل الموضع المذكور. فأجاب: أفتى ابن الصلاح فيمن عنده يتيم له مال لو سلمه لولي الأمر خاف ضياعه وليس بولي ولا وصي شرعاً بأنه يجوز له النظر في أمره والتصرف في ماله واستحسنه الأذرعي قال الأزرقي كصاحب التعجيز قياساً على أوقاف المسجد إذا لم يكن لها ناظر فإنه يجوز لصلحاء الموضع صرفها في مصارفها ثم قال ابن الصلاح ويجوز له مخالطته في الأكل وغيره على ما هو الأصلح وله استخدامه بما هو تخريج له وتدريج قاصداً مصلحته ويجوز من غير ذلك ما لا يعد لمثله أجرة وما سواه لا يجوز إلا بأجرة مثله وعبارة صاحب التعجيز فإن لم يوجد للطفل ولي أو وجد حاكم جائر وجب على المسلمين النظر في ماله وحفظه وفي المجموع للأخ والعم ونحوهما تعليم الصبي وتأديبه والإِنفاق عليه في ذلك من ماله وإن لم يكن لهم وصاية وسئل الجمال بن ظهيرة رحمه الله تعالى عما إذا فسدت أحوال الناس ولم توجد العدالة المعروفة وإذا بطلت ولايتهم تعطلت أحوال الأيتام فأجاب بأنه يحتاط وينظر أقربهم إلى العدالة إذا فقدت شروطها أو بعضها منهم وأقربهم إلى الأمانة وأقلهم تعاطياً لما يخل بالعدالة فيقام على الأيتام ويوصي إليه من له الإِيصاء للحاجة الداعية إلى ذلك والأمر إذا ضاق اتسع والضرورات تبيح المحظورات إذ لا يستغني عمن يقوم بمثل هذه الأمور وسئل أبو شكيل رحمه الله تعالى عما إذا لم يثق الحاكم بأحد في تسليم نفقة الطفل إليهم إلا أمه لكونها أشفق لكنها لا تصلي مع عموم الفسق في غيرها حتى الحاكم هل في التسليم إليها رخصة لعدم عدل في ذلك الموضع فأجاب بأنه لا يبعد أن يسوّغ له في ذلك فإنه موضع ضرورة إذ لا غنى عمن يتولى أمر هذا اليتيم وإذا توقف الحكم في ذلك على طلب العدل ضاع أ هـ .
وبهذا كله إن سلم يحمل ما ذكره الأصحاب على غير حالة الضرورات.(2/226)
وسئل: عمن اشترى شيئاً فادعى البائع أنه لم يكن رشيداً حال البيع فهل يقبل. فأجاب: بقوله قضية كلامهم في باب القصاص وغيره سماع الدعوى وتصديق المدعي المذكور بيمينه حيث لا بينة إذا ادعى حجر السفه المقارن للبلوغ ولم تتوفر قرائن الحال على تكذيبه ومن ثم قال بعض شراح الوسيط لا تسمع دعواه إلا إن صرح بأن حجره حجر السفه مثلاً فإن أطلق الحجر استفصله الحاكم بأن يذكر حجراً مستداماً من الصبا أو طارئاً كحجر الحاكم عليه ففي الأول القول قوله لأن الأصل بقاؤه إلى البيع وفي الثاني القول قول المشتري بيمينه لأن الأصل عدمه هذا إذا لم تكن بينة ويقرب من ذلك قول الروضة في اختلاف الزوجين في النكاح ولو باع عبداً ثم قال بعد البيع بعته وأنا محجور عليّ أي وأنكر المشتري فإن لم يعهد للبائع ما ادعاه ولا بينة فالقول قول المشتري بيمينه لأن الظاهر صحة البيع ونحوه قول أبي زرعة في الكتابة من تحريره قوله يعني المنهاج ولو قال كاتبتك وأنا مجنون أو محجور عليّ قال أي بسفه طارىء أو بفلس فلو كان بصبا أو بسفه مقارن للبلوغ لم يحتج لقوله إن عرف سبق ما ادعاه فدل ذلك كله على ما قدمناه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/227)
وسئل: سؤالاً صورته ذكروا أن السفر بمال اليتيم في البحر لا يجوز فهل يشمل ما لو كان ببلد وماله بآخر ولا طريق أمن إلا البحر واليتيم محتاج إلى ماله لمؤنته وهل يجوز نقل ماله في البحر إذا خيف عليه من ظالم أو يتعين الإِقراض في كلا الصورتين وللمقترض السفر وهو في ذمته إذا اقترضه من قاضي بلد المال أو من وكيل وليه إذا كان سفره إلى بلد اليتيم ليوفي الولي ما في ذمته. فأجاب: بقوله أفتى بعضهم بجواز ركوب البحر حينئذٍ لأن الضرورة دعت إلى ذلك وأما قرضه من مليّ ثقة فجائز للقاضي مطلقاً وحينئذٍ للمقترض السفر إلى بلد اليتيم إذا طلب قاضي بلد اليتيم إشخاصه إليه ولا خفاء أن السفر بماله في البحر إذا كان آمن من بقائه في بلد المال تعين على الولي حيث أمكن وقد صرحوا بأن الحاجة إذا دعت إلى شراء ما لا بدّ له منه بأكثر من ثمن مثله جاز فأولى هذا لأن ذاك فيه تحقق فوات الزائد على ثمن المثل.
وسئل: رضي الله عنه عن قول الأنوار يجوز لولي اليتيم أن يضيف من ماله إن لم يكن عليه حيف في ذلك هل هو معتمد. فأجاب: بقوله هو مفروض في مخلوط بينه وبينه ليأكلا منه فله أن يطعم عياله منه ويضيف منه بشرط أن لا يكون على اليتيم حيف في ذلك كما في فتاوى النووي.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما في الأنوار عن فتاوى ابن عبدان أن من مات عن يتيم ولا وصي ولا حاكم أمين جاز للأمين من أقاربه بيع ماله بالمصلحة والغبطة هل هو معتمد. فأجاب: بقوله هو متجه فقد أفتى به ابن الصلاح واستحسنه الأذرعي واعتمده غيره وفي المجموع في الحج ما يؤيده وحينئذٍ فللأمين المذكور النظر في أمره والتصرف في ماله بالمصلحة ومخالطته في الأكل بما هو الأصلح له.(2/228)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما في نكت ابن كبن لا يجوز للولي أن يوكل فاسقاً في بيع مال محجوره هل هو معتمد. فأجاب: بقوله نعم هو معتمد رعاية لمصلحة المولى عليه وقد ذكروا أن الوكيل حيث جاز له التوكيل إنما يوكل أميناً إلا أن يعين الموكل غيره وظاهر أن هذا الاستثناء لا يأتي نظيره في مسئلتنا.
وسئل: عمن بلغ ولم يثبت رشده ثم تصرف ومات فادعى الآخذ منه أنه رشيد ووارثه أنه غير رشيد فمن المصدق منهما. فأجاب: بقوله المصدق الوارث كما أفتى به جمع متأخرون وهو متجه إذ الأصل بقاء السفه ولأن ارتفاع الحجر عنه إنما هو إذا ثبت رشده فحيث لم يثبت كان الحجر باقياً ومن قال الأصل بقاء الرشد يتعين حمل كلامه على من عرف له حالة رشد ثم اختلف في سفهه فحينئذٍ يصدق مدعي الرشد لأنه الأصل حينئذٍ وحلف الوارث في صورة السؤال يكون على نفي العلم بالرشد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
وسئل: عما ذكروه في بيع الولي لمال محجوره نسيئة يتأتى في إجارة أرضه كذلك وفي إجارة ناظر وقف على معين أو جهة. فأجاب: بقوله نعم يتأتى ذلك في إجارة أرضه لأنها بيع منافعها وأما إجارة الوقف فحيث اعتبرت المصلحة في حق المؤجر كان كالولي وإذا لم تعتبر كما إذا كان المؤجر يستحق المنفعة فتصح الإِجارة وإن جرت من غير غبطة أو مصلحة في حقه.
وسئل: عن ولي تحت حجره أيتام شركاء في مال فاشترى منه لهم شيئاً فهل يقع لهم بحسب رؤوسهم أو بحسب أنصبائهم. فأجاب: بقوله الأوجه وفاقاً للأصبحي أنه إذا لم يفصل ذلك ولا نواه انعقد البيع على السوية بينهم.(2/229)
وسئل: عن قن اشترى قبل بلوغه أتى بالشهادتين والصلاة والصيام هل يحكم بإسلامه فيمكن من مس المصحف وحمله وهل تجب زكاة الفطر عنه وهل يصلى عليه إذا مات حينئذٍ كما أفتى به بعض المتأخرين وإن كانت امرأة فهل يجوز تزويجها أو لا وشراء المسلم أطفال الكفرة من آبائهم وأمهاتهم هل يصح أو لا للحكم بعتقهم لوقوعهم في ملك الأصل كما إذا ملك أحد المسلمين أصله أو فرعه. فأجاب: بقوله مذهبنا أنه لا يحكم بالإِسلام الصادر من حر أو قن قبل البلوغ بأن لم يحتلم ولا أكمل خمس عشرة سنة فتجري عليه أحكام الكفر لكن بالنسبة إلى الأحكام الدنيوية فلا يمكن من نحو حمل مصحف إلا إن لم يخش عليه منه ورجي إسلامه بعد بلوغه ولا يزكى عنه زكاة الفطر ولا يصلى عليه إذا مات ومن أفتى من الشافعية بأنه يصلي عليه فقد وهم ولا يزوج إن كان امرأة لمسلم إلا أن وجدت فيها شروط نكاح الكافرة ولا يصح شراء المسلم الكافر من أصله أو فرعه لأنه لا يتصور صحة البيع إلا من مالك وهذا متى ملكه عتق عليه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/230)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن ولي يتيم بيده مال لليتيم والولي والمال ببلد غير البلد التي بها اليتيم فهل يجوز للولي المذكور المسافرة في البحر عند غلبة السلامة في البحر إذا كان يخاف على المال الذي بيده في البلد الذي يريد السفر منها لو ترك المال فيها أم لا فقد سئل محمد بن عمر باقضام مفتي عدن عن قول الفقهاء أن السفر بمال اليتيم في البحر لا يجوز فلو كان اليتيم ببلد وماله بآخر ولا طريق آمن إلا البحر واليتيم محتاج لماله فهل يجوز للولي أن يأذن لشخص في نقل مال اليتيم في البحر ليوصله إليه في بلد اليتيم وهل يجوز نقل مال اليتيم هذا في البحر إذا خيف عليه في البلد الذي هو فيها من ظالم ويقال بجواز إركابه البحر والحالة هذه أو يمتنع أو يتعين الإِقراض في الصورتين ويجوز للمقترض السفر وهو في ذمته إذا اقترض من ولي اليتيم أو وكيله أو من قاضي بلد المال إذا كان سفره إلى بلد اليتيم ليوفي الولي مال اليتيم الذي في ذمته فأجاب بأنها إذا دعت الضرورة إلى ركوبه في البحر جاز إذ الضرورات تبيح المحظورات وأما قرضه من مليء ثقة فجائز للقاضي مطلقاً وأما غير القاضي فلا يجوز أن يقرض مال الصبي إلا لضرورة كالسفر والنهب وحينئذٍ يجوز للمقترض المسافرة إلى بلد اليتيم ليوفي ما عليه من القرض ثم قال ولا خفاء أنه إذا كانت المسافرة بماله في البحر آمن من بقائه في بلد المال تعين على الولي المسافرة به حيث أمكن ذلك والحالة هذه وقد صرحوا بأنه إذا أرهقت الحاجة إلى شراء ما لا بدّ لليتيم منه بأكثر من ثمن مثله جاز للولي شراؤه له بذلك فإذا جاز للولي مع تحقق الزائد على ثمن المثل فالمسافرة به في البحر مع ندرة خوف الفوات أولى بالجواز عند الضرورة والله أعلم أ هـ .
جوابه فهل مسئلتنا من هذا القبيل أو لا وهل ما قاله معتمد أو لا أفتونا جزاكم الله خيراً فالمسئلة واقعة وإليكم أحكامها راجعة لأَعدمكم المسلمون. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بقوله معنى(2/231)
قول الفقيه المجيب رحمه الله وشكر سعيه إذا دعت الضرورة إلى ركوبه في البحر الخ. أنه إن لم يوجد في البر طريق آمنة يسافر به فيها وتعذر إبقاؤه في البلد لخوف نهب أو نحوه واضطر اليتيم إلى مجيء ماله إليه للإِنفاق عليه منه لتعذره من غيره فلا شك في جواز السفر حينئذٍ في البحر الذي تغلب فيه السلامة وكلامهم مصرح بذلك في بابي الإِيصاء والوديعة وغيرهما ومنه أنه يجوز للولي تغييب مال المولى إذا سلم به من نحو ظالم وكذا إعطاء بعضه له لسلامة باقيه ونحو ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات أما إذا كان البر آمناً فلا يجوز السفر به في البحر مطلقاً وإن كان مصروف البحر أقل لأنه لا ضرورة بل ولا حاجة في ركوب البحر به حينئذٍ وكذا إذا لم يتعذر إبقاؤه في البلد لوجود أمين بها حيث لا قاضي أميناً بها يكون عنده وترقب خوف عليه بفرض موت الأمين لا نظر إليه لأنا لا ننظر للمستقبلات المبنية على التوهمات سيما والخوف في البحر موجود حالاً وفي الإِيداع للأمين موجود مآلاً والخوف الحالي مقدم على المآلي كما صرحوا به وكذا إذا تعذر إبقاؤه في البلد ولم يضطر اليتيم لإِحضاره لبلده ووجد موسر ثقة يقترضه بشرطه لانتفاء الضرورة حينئذٍ إلى السفر به في البحر هنا أيضاً فإن لم يوجد مقترض كذلك أو وجد ولم يجز إقراضه وخيف عليه في البر وخيف على إبقائه في البلد فقد تعارض في هذه الصورة مخوفات متعددة خوف البحر وخوف البر وخوف الإِبقاء في البلد فإن زاد خوف البلد والبر على خوف البحر فإن كانت السلامة فيه أغلب منها فيهما وكان الخوف ناجزاً في الكل لا مترقباً احتمل أن يقال في هذه الحالة بجواز السفر في البحر لأنا علمنا من كلام الأئمة في التعييب وإعطاء البعض المذكورين آنفاً أنهم راعوا أخطر الضررين فليراع الأخطر في مسئلتنا وإذا روعي فيها جاز السفر به في البحر لما تقرر أن البر والبلد أخطر منه بخلاف ما لو استوى خطر الثلاثة فلا يجوز البحر لأن إيثاره على(2/232)
نظيريه ترجيح من غير مرجح لا سيما والأصحاب أي أكثرهم مصرحون بحرمته فلا يخرج عن كلامهم إلا عند الضرورة كما في الحالة الأولى أو عند القريب من الضرورة كما في الحالة الثانية وأما الثالثة فلم يوجد فيه ذلك فبقيت الحرمة فيها على أصلها هذا حاصل ما يظهر في هذه المسئلة فيجب على الولي أن يجتهد ويراعي الأقسام الثلاثة ويعمل بما قلناه في كل قسم منها وكلام الفقيه المجيب منزل على ما فصلته وإن كان فيه مناقشة لأنه عبر عند الضرورة بالجواز وعند كون البحر آمنا بالوجوب واللائق بل الصواب عكس ذلك وهو الوجوب عند الضرورة والجواز عند غيرها فتأمل ذلك وفيه مناقشة أخرى وهي قوله آخراً فالمسافرة به في البحر مع ندرة خوف الفوات أولى بالجواز عند الضرورة فصرح هنا بالجواز في الحالين مع ما قدمه من الجواز عند الضرورة والوجوب عند عدمها وهذا عجيب وأعجب منه تعبيره هنا بأولى إذ كيف يتعقل أنه عند ندرة الفوات أولى بالجواز عند الضرورة لكن هذا يؤيد أنه أراد بالجواز عند الضرورة حقيقته وبالوجوب عند عدمها حقيقته أيضاً وليس هذا كالذي قبله مراداً للفقيه وإن أوهمته عبارته فتأمل ذلك فإنه مهم ثم رأيت
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/233)
الكمال الرداد شارح الإِرشاد أفتى بما يوهم خلاف ما ذكرته وذكره باقضام فإنه سئل عن نحو ما سئل عنه باقضام فقال في جوابه الوجه في الصورة المذكورة مع غلبة السلامة في البحر قرض ماله ممن يجوز إقراضه للضرورة ويسافر المقترض في البحر إلى بلد طفل الأمين إذا لم يكن عليه وصي إذ ذاك من الضروريات ثم نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه استدل بأن عائشة رضي الله عنها كانت تبضع بأموال بين أخيها محمد رضي الله عنهم في البحر قال البلقيني وهذا يدل على خلاف ما رجحه الشيخان من منع السفر في البحر وإن غلبت السلامة أ هـ .
وقد قدمت أن المعتمد الذي عليه أكثر الأصحاب ما عليه الشيخان من منع السفر في البحر وإن غلبت السلامة ثم ما أفتى به الكمال من تعين الإِقراض له وجه إن وجد مليء ثقة طيب المال غير مماطل له في بلده مال يفي بما اقترضه لو فرض هلاكه مع ما اقترضه في البحر فإذا وجد هذا فتعين إقراضه وجيه وأما إذا اختل شرط من ذلك فالوجه ما قدمته من التفصيل وفي فتاوى السبكي في باب القضاء أنه لم يرَ نقلاً فيما إذا تحقق أن المبذول في عقار اليتيم دون القيمة ولم يجد راغباً بأكثر ودعت حاجة اليتيم إلى البيع للأكل مثلاً ولم يجد من يقترض منه عليه قال والأقرب أنه إذا فرض ذلك وحقت الحاجة الجواز ويأتي مثله في البيع على المدين إذا طالب الغريم ولم يجد طريقاً غيره أ هـ .
ويوافقه قول الأذرعي في توسطه في الكلام على بيع مال المفلس بثمن مثله أنه لو كان ماله مما يسرع فساده كالرياحين والبقول ونحوها فيظهر جواز بيعها بدون ثمن مثلها إذا لم يجد من يشتريها به لئلا تتلف جملة ورأساً أ هـ .
وهذان ظاهران مما قدمته من التفصيل.(2/234)
وسئل: بما لفظه سئل بعض المفتيين عما إذا كان كتاب لجماعة وفيهم محجور عليه فهل يجوز لأحد مطالعة الكتاب بإذن بعض الشركاء من غير إجازة حيث لا ضرر وإن قلتم لا يجوز فما الفرق بين هذه المسئلة وبين ما نقل عن الجويني من أنه يجوز دخول الدار المشتركة بإذن بعض الشركاء فأجاب رحمه الله تعالى فقال: يجوز لكل واحد من الشركاء مطالعة الكتاب المشترك بشرط سلامته والخوف عليه من الأرضة والتراب والغبار وخوف الفساد ولا يجوز لأجنبي أن ينظر في الكتاب إلا بإذنهم والحالة هذه والله تعالى أعلم أ هـ .
جوابه فهل يا شيخ الإِسلام بل آخر الأئمة الأعلام ما أجاب به هذا العالم صحيح معتمد أوضحوا لنا القول في هذه المسئلة جزاكم الله تعالى ألف خير. فأجاب: بقوله الذي ذكروه أن الشريك بالنسبة إلى المال المشترك كالأجنبي بالنسبة إليه فلا يجوز له أن يأذن لأحد في دخول الدار المشتركة بغير إذن جميع شركائه وما نقل عن الجويني مما يخالف ذلك ضعيف فحينئذٍ لا يجوز لأحد المطالعة في الكتاب المذكور ما لم يكمل المحجور عليه ويأذن كبقية الشركاء والخوف عليه من نحو الأرضة لا يجوّز لغير الولي ذلك على أنه يندفع بغير المطالعة فلا ضرورة إليها وعلى السائل وفقه الله الفحص والتنقير عما يجده من الفتاوى الصادرة ممن لم يتأهل للنظر في كلام الأصحاب بل يكتفي بمجرد كلام يجده لبعض المتأخرين وهذا لا يجوز كما صرح به النووي رحمه الله حيث قال لا يجوز لمن لم يتأهل الإِفتاء بما يجده في الكتب وإن رأى ذلك الحكم في عشر كتب فأكثر لأن تلك الكتب كلها قد تكون ماشية على طريقة ضعيفة أ هـ .
والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/235)
وسئل: عن شخص اشترى من آخر أرضاً ومات المشتري وهي بيد البائع ولهذا المشتري ولد سفيه وله زوجة أقامها عليه أبوه وحجره لها فمات هذا الولد وله أولاد من هذه الزوجة فأقامها عليهم أيضاً جدهم المشتري المذكور بعد موت والدهم وحجرهم لها ومات وهذه الأرض بيد بائعها فعمدت هذه الزوجة إلى إنسان من ذوي الشوكة وجعلت له على خلاص هذه الأرض من بائعها المذكور جميع ما يتحصل فيها من الغلة مدة ثلاث سنوات لكون أن بائع الأرض المذكورة متغلب عليها والمشتري يضعف عن الاستخلاص منه فقام هذا الإِنسان على هذا البائع ورفع إلى ذي سلطان له قدرة على انتزاع الأرض منه بالحق وانتزعها منه واستقل بغلتها سنة فقط فماتت الزوجة فقام الأولاد على هذا الإِنسان وطالبوه بالغلة التي أخذها من هذه الأرض ومنعوه من السنتين اللتين تأخرتا له من الجعالة فهل لهم هذا أم لا وهل هذه الجعالة صحيحة أم لا. فأجاب: بقوله حيث كان لأم الأولاد ولاية عليهم بوصاية من الجد أو نيابة من الحاكم وعلمت أن الأرض لا تتخلص من بائعها إلا بما فعلته مع ذلك الإِنسان وكانت الغلة معلومة بينها وبينه بأن وصفتها له بأوصاف السلم استحق ذلك الإِنسان تلك الغلة أو قدرها في مدة السنين الثلاث وإن لم تكن الغلة معلومة لذلك استحق عليها من مال الأولاد أجرة مثله وأما إن كانت لا ولاية لها عليهم فيستحق عليها أجرة المثل من مالها وفيما إذا استحق أجرة المثل من مال الأولاد يقاصمهم بما استغله من أرضهم إن وجدت شروط التقاص وإلا رد إليهم غلتهم ورجع عليهم بأجرته وفيما إذا استحقها من مال الأم يتعين عليه رد الغلة ورفع يده عن الأرض ويرجع عليها بأجرته.(2/236)
وسئل: عن الأم والجدة إذا كانت وصية أو قيمة على أولادها وباعت عليهم مالاً من غير ثبوت حاجة ولا غبطة ولا ثمن مثل لدى حاكم شرعي أو أخلت بواحد من الثلاثة المذكورين فهل هذا البيع صحيح ويسجل عليه القاضي لشفقتها عليهم كبيع الأب أو الجد إذا باعا على أولادهما أم غير صحيح لكونها وصية أو قيمة فلا بدّ من ثبوت ما ذكر أعلاه وإذا بلغ الولد وادعى على أبيه أو جده أنه باع ماله بغير غبطة أو حاجة أو بدون ثمن المثل فقالا له: بل بعنا بغبطة أو حاجة مثلاً فإذا قلتم القول قولهما مع يمينهما فإذا ماتا وادعى الولد على المشتري بما ذكر فهل يحلف المشتري كحلف أبيه أو جده أنهما باعا عليه بعد ثبوت الحاجة والغبطة أو ما يكون الحكم في ذلك وإذا انتقل المال من واحد إلى عشرة مثلاً فهل للولد هذه الدعوى على كل واضع أو لمن هو تحت يده يوم الدعوى. فأجاب: بقوله الذي اعتمده بقاء كلامهم على إطلاقه من أن غير الأب والجد من الوصي أو القيم ولو أما لا يسجل القاضي بنحو بيعه إلا إن ثبت عنده مسوّغه الشرعي ولا يكتفي بقوله في ذلك وليس في تعليلهم اغتفار ذلك في الأب والجد بالشفقة ما يقتضي أن الأم الوصية مثلاً كذلك لأن ذلك التعليل لا ينظر للشفقة فحسب بل إلى كونها من كامل العقل والتصرف فالعلة مركبة فتخرج الأم لأن شفقتها مع نقص عقلها وتصرفها لا يعول عليها فوجب أن لا تلحق بالأب لوضوح الفرق بينهما وبهذا يتضح ضعف بحث بعضهم إلحاقها به والدعوى على المشتري من الأب والمشتري منه وهكذا كهي على الأب وله الدعوى على كل من وضع يده على المبيع.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما حكم معاملة من بلغ وهو مصلح لدنياه فقط. فأجاب: بقوله حكمه أنه لا تصح منه العقود المالية كالبيع والشراء ونحوهما كالشهادة والولاية على الغير كبنته في نكاحها وغير ذلك من الفروع التي ذكروها والله أعلم.(2/237)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ بما لفظه ما معنى قولهم في شرح قوله وإن تبرم استأجر أنه لو طلب الولي من القاضي أنه يفرض له أجرة لم يجبه هل المانع من الإِجابة صورة الفرض دون صورة الاستئجار أم المانع دوام ولايته حتى يكون عزله والفرض له بعده سائغ ولا يحتاج إلى صورة الاستئجار أم مجرد الفرض كاف. فأجاب: بقوله ما ذكره السائل فيه غموض ويتضح جوابه بنقل كلامهم على وجهه وهو أنه إذا تبرم الولي بحفظ مال موليه والتصرف فيه جاز له أن يستأجر من يتولاه بأجرة المثل فأقل من مال موليه ولا يجوز له أن يقرر منه لنفسه شيئاً لأنه حينئذٍ يكون متهماً تهمة قوية في فرضه لنفسه وإن كان أباً أو جداً بخلافه في توليه لطرفي البيع مثلاً من نفسه له وعكسه وجاز له أن يرفع الأمر إلى القاضي لينصب قيماً لذلك ولو بأجرة إذ لا تهمة حينئذٍ بوجه فإن رفع إليه ليقرر له أجرة فأطلق الأكثرون أنه لا يقررها له وإن كان فقيراً ويوجه بأنه متهم في الرفع هنا أيضاً فلم يلتفت إليه القاضي لكن حمله جمع محققون ك الغزالي و ابن الصلاح وسبقهما إليه الماوردي قال البارزي وهو المختار وعليه العمل على ما إذا وجد متبرعاً فإن لم يجد متبرعاً أجابه وقرر له أجرة وقدرها القاضي بما يليق بحاله وعمله لأن له الاستئجار فله أن يطلب الأجرة لنفسه حيث انحصر الأمر فيه هذا كله حيث لم يعزل نفسه أما إذا عزل نفسه فيجب على القاضي أن يتسلم المال منه ثم ينصب له من يراه بأجرة أو بدونها بحسب المصلحة هذا كله فيما إذا تبرم من غير أن يشتغل بحفظ مال المولى أو بتنميته أو بالتصرف فيه عن كسبه الذي يكفيه أما إذا اشتغل به عن ذلك فله إذا كان غير قاضٍ وكان فقيراً أو مسكيناً أخذ الأقل من كفايته وكفاية ممونة أي أقل أنواع كفاية ذلك فيما يظهر ومن أجرة عمله ولا يضمن بدل ما أخذه لأنه بدل عمله كالإِمام إذا أخذ الرزق من بيت المال نعم إن نقص أجر الأب والجد والأم إذا كانت وصية عن نفقتهم وكانوا(2/238)
فقراء تمموها من مال محجورهم لأنها إذا وجبت بلا عمل فمع العمل أولى فاندفع ما للأسنوي وغيره هنا من الاعتراض فإن قلت لم جوّزوا له هنا الاستقلال بالأخذ من غير إذن القاضي بخلافه فيما مر في صورة التبرم قلت يفرق بأن هذه حالة ضرورة فالتهمة فيها ضعيفة جداً لأن شغله بمال موليه عن كسبه الذي يكفيه شاهد له بأنه إنما أخذ ما اضطر إليه ومن ثم اشترطنا كونه فقيراً بخلاف المتبرم فإنه لم يضطر للأخذ فلم تمكنه من الأخذ بنفسه بل أمرناه بالرفع للقاضي فإن رأى متبرعاً غيره استعمله وإلا فرض له كما مر بسطه هذا حاصل كلامهم في هذا المحل مع توضيحه وتقريره فعلى السائل نفع الله به أن يتأمله حتى تزول عنه تلك الترديدات المنبثة عن أنه لم يتحرر له من كلامهم شيء يرجع إليه أو عن أنه لم يتأمله إذ كيف يتردد بين الفرض والاستئجار مع أن الفرض هو الاستئجار كما صرحوا به في قولهم الذي ذكره أن يفرض له أجرة ففرض الأجرة لا يتصوّر أن يكو بغير استئجار وأما قوله أم المانع دوام ولايته فجوابه أن ما قررناه صريح في أن المانع من إجابته ليس هو دوام ولايته بل اتهامه في طلبه الفرض لنفسه مع وجود متبرع غيره ومن ثم لو لم يوجد متبرع غيره فرض له الأجرة كما تقرر فعلمنا أن دوام ولايته لا دخل له في المنع بمجرده لأنه إذا لم يجد متبرعاً غيره يفرض له الأجرة مع دوام ولايته ولا يحتاج إلى عزله ثم توليته بأجرة لأن هذا بالعبث أشبه وقوله ولا يحتاج إلى صورة الاستئجار الخ. مبني على ما فهمه من تغاير الفرض والاستئجار وليس كذلك كما تقرر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38(2/239)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا شهدت بينة بأن فلاناً بالغ بالسن وبينة أخرى بأنه لم يبلغ به أو بأن عمره ثلاث عشرة سنة فهل تكون من شهادة النفي أو لا وهل يفرق بين الصورتين وإن قيل هذا فما صورة شهادة النفي المقبول وغيره. فأجاب: بقوله الذي صرحوا به أنه لا بدّ في الشهادة بالبلوغ بالسن من كون الشاهدين خبيرين وأنه لا بدّ من ذكرهما لعدد السنين لاختلاف العلماء في سن البلوغ فحينئذٍ إذا تعارضت بينتان فإن كانت إحداهما خبيرة به دون الأخرى قدمت الخبيرة على الأخرى وكذا إذا أطلقت إحداهما وعينت الأخرى فتقدم المعينة على المطلقة وإن كانتا خبيرتين وعينتا كأن قالت واحدة سنه خمس عشرة سنة وقالت الأخرى سنه أربع عشرة سنة قدمت الأولى لأن معها زيادة علم بكونها ناقلة عن أصل بقاء الحمل في البطن والأخرى مستصحبة لبقائه فيها والناقلة مقدمة على المستصحبة كما صرحوا به نعم إن عينت زمناً للولادة بأن قالت ولد وقت كذا وقالت الأخرى شاهدنا أمه في ذلك الوقت وهي غير والدة تعارضتا وتساقطتا وبما تقرر علم أن ما ذكره السائل نفع الله به من شهادة البينة بأن فلاناً بالغ بالسن غير مقبولة وكذا شهادة البينة الأخرى أنه غير بالغ بالسن لما تقرر أنه لا بدّ من ذكر عدد السنين وهذا من صور شهادة النفي غير المقبول وأن بين من لم يبلغ بالسن وعمره ثلاث عشرة سنة فرقا إذ الأولى غير معينة للسنين فلا تقبل وإن لم يعارضها بينة أخرى والثانية معينة لها فتقبل ما لم تعارضها بينة أخرى كما قدمته وصورة شهادة النفي المقبول هنا ما ذكرته من أن تعين بينة وقتاً للولادة وتقول الأخرى شاهدنا أمه في ذلك الوقت غير والدة فهذا نفي محصور فتقبل بمعنى أنه تلغى البينة الأخرى لما تقرر من تعارضهما.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 38
باب الصلح(2/240)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ في رجلين تصالحا على إنكار ثم أقر بعد الصلح أنه لم يبق له عنده شيء وأبرأه فهل ينفذ الإِقرار والإِبراء مطلقاً أم فيه تفصيل بينوا ذلك مع بسط الجواب فيه فالحاجة داعية إليها. فأجاب: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عبارة الأم للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الصلح على الإِنكار وإذا كان المدعى عليه منكراً فالصلح باطل وهما على أصل حقهما ويرجع المدعي إلى دعواه والمعطي بما أعطى وسواء إذا ألغينا الصلح قال المدعي قد أبرأتك ما ادعيت عليك أو لم يقله من قبل إنما أبرأه على أنه يتم له ما أخذه منه وليس هذا بأكثر من أن يبيعه البيع الفاسد فإذا لم يتم له للفساد رجع كل واحد منهما عن أصل ملكه كما كانا قبل أن يتبايعا أ هـ .
وهو صريح في أنه لا أثر لقول المدعى بعد الصلح الفاسد قد أبرأتك لما علل من أنه إنما أبرأه على أن يتم له ما أخذه منه أي ولم يتم له ذلك لأن المدعي لا يملك ما أخذه بالصلح الفاسد بل يرجع عليه به المدعى عليه وهو إنما أبرأ على ظن سلامة ما أقبضه له ولو ظن أنه لم يسلم له لم يبرئه فإذا لم يسلم بأن فساد إبرائه فيبقى دينه بحاله وجرى على هذا الذي فهم من هذا النص الماوردي فقال إذا صالح مع الإِنكار من الألف على خمسمائة وأبرأه من الباقي لم يبرأ ولزمه في الحكم رد ما قبض حتى لو أقام بالألف بينة عادلة كان له استيفاء جميعها لأن الإِبراء كان مقروناً بملك ما صالح به فلما لزمه رده لعدم ملكه بطل إبراؤه لعدم صفته كمن باع عبداً بيعاً فاسداً فأذن لمشتريه في عتقه فأعتقه المشتري بإذنه لم يعتق لأن إذنه كان بملك العوض فلما لم يملكه بالعقد الفاسد لم يعتق عليه أ هـ .
وجرى على ذلك المتولي أيضاً مع زيادة فقال لو قال بعد الصلح برئت من الحق أو كان المدعى عيناً فقال: قد ملكتكها فله العود إلى الدعوى لأن اعترافه على تقدير سلامة العوض له كما لو قال لمكاتبه بعد قبض النجوم أنت حر ثم خرجت مستحقة يرد إلى الرق على(2/241)
النص لأن اعترافه على تقدير سلامة العوض له ولم يسلم فإن قال بعد الصلح أبرأتك فإن كان يعتقد صحة الصلح لم يكن له حكم كمسئلة الكتابة وإن كان يعتقد الفساد صح الإِبراء وكذا لو قال بعد الصلح وهبتها منك وكان المدعي عيناً. وقال: قبلت فإن اعتقد فساد الصلح صحت الهبة وإلا لم يكن لها ولا للإِبراء حكم أ هـ .
وحاصله أنه تارة يأتي بعد الصلح بما يحتمل الإِقرار والإِنشاء كقوله برئت من الحق وملكت العين فلا تحصل البراءة ولا الملك قياساً على مسئلة الكتابة السابقة وتارة يأتي بما هو صريح في الإِبراء والملك كأبرأتك وملكتك فإن علم فساد الصلح صحا لأنه لم يأتِ بهما على ظن شيء وإن جهل فساده فسداً لأنه أتى بهما على ظن أنه يسلم له ما صالح به فلما لم يسلم له بان عدم صحتهما ثم تفصيله المذكور في أبرأتك وملكتك إنما يتمشى على قول شيخه القاضي وصاحبه البغوي وغيرهما في الرهن ونظائره على ظن الوجوب أنه فاسد واعتمده البلقيني أما على المعتمد الذي صححه النووي في الرهن تبعاً للشيخ أبي محمد وولده الإِمام والغزالي من الصحة قال
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/242)
الإِمام وقول القاضي بالفساد غلط، فالقياس صحة الإِبراء والتمليك في أبرأتك وملكتك مطلقاً وهو الوجه وأما ما مر عن المتولي في برئت فقياس ما مر في مسئلة الكتابة يقتضي أنه المعتمد والفرق بينه وبين أبرأتك إن برئت وأنت حر كل منهما محتمل للإِقرار والإِنشاء بل برئت صريح أو كالصريح في الإِقرار لكن القرينة الظاهرة صرفت ذينك عن الإِنشاء ومحضتهما للإِقرار على أن ظن أن لا شيء له فإذا بان بقاء حقه بان أن إقراره لم يصادف محلاً وأما أبرأتك وملكتك فهما صريحان في الإِنشاء والقرينة وإن قويت لا قوة لها على صرف اللفظ الصريح في معنى إلى غير ذلك المعنى فعملا بما في معناهما من إفادة الإِبراء والملك سواء ظن صحة الصلح أم لا وبهذا يتبين أن ما مر عن النص وكلام الماوردي إنما يأتي على كلام القاضي الضعيف ويؤيد ذلك أن البلقيني أيد كلام القاضي بذلك النص وإن ما ذكره الماوردي بقوله كمن باع الخ. فيه نظر وأن القياس العتق لصحة الإِذن ومصادفة الإِعتاق الملك باللفظ الصريح بخلافه في مسئلة الكتاب السابقة أما إذا لم يوجد الإِبراء صريحاً بل ضمناً كأن يقتصر على قوله صالحتك من الألف على خمسمائة فظاهر أنه لا يبرأ في الظاهر وكذا الباطن إن اشترطنا القبول من بقية الألف إذا بان بعد ذلك ثبوتها بإقرار وبينة لأن الإِبراء هنا إنما كان في ضمن الصلح فإذا فسد فسد الإِبراء تبعاً له بخلاف ما إذا زاد على ذلك بأن قال صالحتك من الألف على خمسمائة وأبرأتك من الخمسمائة الأخرى فالإِبراء هنا وجد مستقلاً فيكون صحيحاً ولا نظر لتبعيته للصلح لأن شأن التابع أن لا يمكن استقلاله بنفسه مع وصف التبعية وهذا مع كونه تابعاً في هذه الصورة يمكن استقلاله بنفسه فأثر في مدلوله وإن فسد ما سبقه من الصلح هذا هو الذي يتجه فيما قررته تبعاً للسبكي وإن قال البلقيني ـ رضى الله تعالى عنه ـ نصوص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الكتابة والصلح وغيرهما تدل على أن باني الأمر في(2/243)
نحو ذلك على ما اعتقده مخالفاً لما في الباطن لا يؤاخذ به أ هـ .
ووجه رده إن هذا الباني تارة يعذر في بنائه بأن يأتي بصيغة للقرينة دخل في تخصيصها فلا يؤاخذ وتارة لا يعذر بأن يأتي بما لا تؤثر فيه القرينة فيؤاخذ كما سبق إيضاحه وقد جرى في الأنوار على أنه لا فرق بين برئت وأبرأتك فقال لو صالح من الإِنكار ثم قال برئت من الحق أو أبرأتك عنه أو كان المدعي عيناً. فقال: ملكتها فله العود إلى الدعوى ولا مؤاخذة بالإِقرار للعلم بأنه مستند إلى ما جرى أ هـ .
وقد علمت مما تقرر أنه صحيح إلا ما ذكره في أبرأتك لما مر من صحة الإِبراء حيث وجدت هذه الصيغة مطلقاً ولا ينافي ذلك قول
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/244)
الأذرعي إذا لم يصح الصلح على الإِنكار فالمدعى عليه يرجع إلى العوض الذي دفعه ولا يبرأ بذلك أي بإبراء المدعي له سواء صرح بالإِبراء أو لم يصرح فإنه وإن صرح فإنه إنما أبرأه ليسلم له العوض ولم يسلم له فبطل الإِبراء هكذا رأيته مجزوماً به في طريقة العراقيين وأورده في الذخائر عن المذهب أ هـ .
ووجه عدم منافاته لما قلناه حمل قوله سواء أصرح بالإِبراء على ما إذا صرح به بلفظ برئت لا بلفظ أبرأتك لما مر وكذا يحمل على ذلك قول الحلية وإن صالحه على الإِنكار على مال ادعاه عليه لم يصح الصلح ويرجع بما دفع من العوض سواء أصرح بإبرائه أو لم يصرح ومن أصحابنا من قال إذا صرح بإبرائه بعد الصلح سقط حقه وإن قال أسقطت عنك الدين من غير ذكر صلح ففي الحاوي فيه وجهان: أحدهما: أنه يسقط كأبرأتك أ هـ .
وهذا الوجه الذي اقتصر عليه في أسقطت هو الذي يتجه ترجيحه والحاصل إن من صرح من العراقيين بأنه لا فرق بين التلفظ بعد الصلح بالإِبراء وعدمه إن أراد أنه بلفظ برئت دون أبرأتك فكلامه صحيح وإن أراد أنه لا فرق بين اللفظين فكلامه ضعيف والذي يتجه ما نقله في الحلية عن بعض الأصحاب من صحة الإِبراء إذا كان بلفظ أبرأتك مطلقاً ومر ما يصرح به ويؤيده إطلاق الرافعي وغيره أنه لو أبرأ المدعى عليه وهو ينكر وقلنا لا يفتقر الإِبراء إلى القبول صح لأنه مستقل به قال بعضهم والظاهر أن الصورة حيث لم تجر مصالحة ويحتمل التعميم كما هو الوجه الآخر اهـ. والتعميم هو الأوجه كما مر بيانه ولهذه المسئلة تتمات ومناسبات منها أفتى النووي بأنه لو استوفى دينه من مال حرام لم يعلم به وأبرأه فإن أبرأه براءة استيفاء لم يصح والدين باقٍ في ذمته أو براءة إسقاط سقط وألحق الزركشي ما إذا أطلق بالاستيفاء فلا يسقط وفيه نظر وقياس ما مر إلحاقه بالإِسقاط فيسقط ولأن لفظ الإِبراء صريح في الإِسقاط فلا يحمل على غيره إلا بنية وفي الأنوار لو اشترى طعاماً في الذمة وقضى ثمنه من(2/245)
حرام فإن سلمه البائع قبل قبض الثمن بطيب قلبه وأكله المشتري قبل أداء الثمن حل أدّاه من الحرام أو لم يؤد أصلاً والثمن باقٍ في ذمته فإن أداه من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بحرمته برىء ولكن أثم وإن أبرأه بظن الحل لم يبرأ وهذا مبني على ما مر عن المتولي وقدمت ما فيه ومنها قال في البحر لو قال لرجل أبرأتك من ألف درهم وهو لا يعلم أن له عليه شيئاً ثم علم أن له عليه ألف درهم قال الأصحاب: تصح البراءة في الحكم ولا يقبل قوله إني لم أعلم ذلك والمذهب أنه لا يبرأ باطناً لأنه إذا لم يعلم الدين فهو مجهول وعلى هذا الخلاف إذا اعتقدت قبض مهرها، فقالت: أبرأتك عن مهري. ثم بان بقاؤه عليه أو قال: أبرأتك مما أستحقه عليك من الشفعة باطناً وهو لا يعرفها أو طلق أو أعتق من جهلها زوجته أو أمته اهـ. ملخصاً ومنه يؤخذ صحة إفتاء الأصبحي فيمن خالع زوجته بمهر مثلها في ذمة أمها فظن براءة ذمته من المهر فأبرأ الأم مما ثبت له عليها من عوض الخلع لظنه أنه برىء من مثله الذي للزوجة بذمته بأنه لا يقبل قوله أنه لا يعلم ذلك بل يحكم بصحة البراءة ظاهراً إن نشأ بين المسلمين أ هـ .
ويوافقه إفتاء
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/246)
أبي مخرمة فيمن ضمن فأبرأ المضمون له المضمون عنه لظنه أنه يتحول الحق ولم يرد سقوط دينه عنهما بأنه يبرأ المضمون عنه والضامن عن الدين المذكور ولا عبرة بالظن البين خطؤه أ هـ .
وهذان صريحان فيما قدمته من الإِبراء بقوله أبرأتك بعد الصلح مطلقاً لأن هذين الإِمامين لم ينظرا للقرينة في هاتين الصورتين فكذا في تلك نعم نقل الأزرقي عن الأصبحي أنه لو علق طلاقها على البراءة والشرط فوري فأبرأته على التراخي جواباً لكلامه على ظن حصول الطلاق لها لم تصح البراءة على قياس نظائرها في الصلح أ هـ .
وفيه ميل إلى ما مر من عدم صحة الإِبراء بعد الصلح الفاسد وقد مر أن الأوجه خلافه فقياسه أن الزوج هنا يبرأ وقد يفرق بأن الإِبراء هنا وقع في ضمن معاوضة وهي الخلع فإذا فسدت فسد ويلزم من فساد المعاوضة المشتملة على الإِبراء فساده وأما في الصلح فلم يقع في ضمن معاوضة وإنما وقع على جهة التبرع به بعد الصلح فلا يلزم من فساد الصلح فساده ومنها ما تقدم في مسئلة الكتابة فيه خلاف حاصله أن السيد لو قال للمكاتب حين أدى النجوم اذهب فأنت حر أو فقد عتقت فاستحق بعضها لم يعتق لأنه بنى قوله ذلك على الظاهر وهو صحة الإِداء فهو كمن اشترى شيئاً فاستحق فقال مع مخاصمته للمدعي هو ملك بائعي إلى أن اشتريته منه لم يضره ذلك في رجوعه على بائعه بالثمن فإن قال المكاتب أردت بذلك عتقي وقال السيد إنما أردت أنك حر أو عتقت بما أديت وبان فساد الاداء صدق السيد بيمينه للقرينة وهي إطلاق الحرية عند قبض النجوم بخلاف ما إذا لم توجد قرينة كأن قال له ذلك لا عند قبض شيء ونظير ذلك من قيل له طلقت امرأتك فقال: نعم، طلقتها. ثم قال: ظننت أن ما جرى طلاق وقد أفتاني الفقهاء بخلافه وقالت الزوجة: بل طلقتني فلا يقبل إلا بقرينة كأن تخاصماً في لفظة أطلقها فقال: ذلك ثم ذكر التأويل فحينئذٍ يقبل وهذا في الصورتين تفصيل للإِمام نقله عنه الشيخان. وقال: إنه قويم لا بأس بالأخذ(2/247)
به، ثم قال: وتصديقه بلا قرينة عندي غلط لأن الإِقرار جرى بالصريح فقبول قوله في دفعه محال وأطلق في الوسيط في الأولى تصديق السيد بيمينه وإن لم توجد قرينة وأطلقه الصيدلاني وغيره فيهما. قال الزركشي : وما في الوسيط قطع به العراقيون وغيرهم. وبالجملة فهو المنقول فيهما أ هـ .
ومع ذلك ما قاله الإِمام فهو الوجه ويؤيده قول الأصحاب لو أقر ببيع. ثم قال: كان فاسداً أو أقررت لظني الصحة لم يقبل لأن الاسم يحمل عند الإِطلاق على الصحيح ولا يفرق بان ما هناك لم يعين مستند ظنه بخلافه هنا لأن هذا لا تأثير له إذ الصريح لا يرتفع بظن خلافه سواء بين لظنه مستنداً أم لا ثم إذا تأملت ما تقرر علمت أن الخلاف إنما هو فيما إذا قال: أنت حر أو قد عتقت فنظيره في مسئلتنا أنت بريء أو قد برئت فيقبل لقرينة الصلح الفاسد وأنه لو قاله أعتقتك عتق حتى على كلام الإِمام والشيخين لأن القرينة لا تأثير لها فيه فنظيره الإِبراء في أبرأتك مطلقاً لأنه لا تأثير للقرينة فيه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/248)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن صورة اعتراض عليه في فتوى سابقة بقوله بسم الله الرحمن الرحيم ذكرتم في أول جوابكم السابق للمالك أن يحفر في ملكه كيف شاء وله مطالبة جاره بتحويل عروقه من أرضه وإن امتنع حولها هو فإن تعذر تحويلها فله قطعها، ثم ذكرتم في آخر الجواب وليس له أن يتصرف في ملكه بما يخالف العادة إلا إذا لم يؤدِ ذلك إلى ضرر ملك الجار فإن أدى إلى ضرر ملك الجار ضمنه والحال أن عادة أهل البلاد قديماً وحديثاً إذا كان يتضرر مالك الأرض من عروق شجر الجار في أرضه وأراد مالك الأرض إزالتها إما بيده أو بغيره منعوه من ذلك لأن في مصلحته ما يؤدّي إلى إتلاف ملك الغير وقد قالوا لكل من الملاك أن يتصرف في ملكه على العادة فإن تعدى ضمن أي مخالف العادة وقالوا إن تصرف بما يضر الملك فله منعه وإن تصرف بما يضر المالك فلا منع وقالوا لو فعل ما الغالب فيه ظهور الخلل في حيطان الجار كدق عنيف يزعج الحيطان فالأصح المنع واختار جماعة المنع من كل مؤذٍ لم تجر العادة به مطلقاً. فأجاب: بأن الذي يتحرر في هذه المسئلة ما أشرت إليه في الجواب الأول بل وصرحت به أن الشخص متى تصرف في ملكه بما يوافق العادة لم يمنع مطلقاً ومتى تصرف بما يخالفها فإن أضر بالمالك لم يمنع أو بالملك منع والكلام في غير العروق المذكورة أما هي فالحكم فيها ما ذكرته في الجواب السابق سواء اعتاد أهل البلد إبقاءها أم قطعها لأنها شاغلة لملك الغير ومانعة له من تمام التصرف فيه والشخص لا يلزم بأن يتحمل الضرر ببقاء مال الغير في ملكه نظراً إلى إزالة ذلك المال عن الملك أن يتلفه فإن الضرر لا يزال بالضرر وضرر صاحب الأرض مقدم على ضرر صاحب الشجر لأنها وضعت أو نبتت في أرضه بغير حق فلم يكن لإِلزامه ببقائها وجه فلا تلتبس عليك هذه المسئلة بما قبلها والله أعلم.(2/249)
وسئل: عن رجل في ملكه شجرة وعروقها في ملك رجل آخر فأراد الذي في ملكه عروق الشجرة أن يقطعها وادعى ضررها عليه فمنعه صاحب الشجرة، وقال: إذا قطعت عروقها فسدت الشجرة فما يكون الحكم في ذلك. فأجاب: بأنه يجوز لمالك الأرض قطع العروق السارية إليها من ملك الغير وإن حصل للغير تضرر بذلك لأن ضرر صاحب الأرض مقدم على ضرر صاحب الشجرة فلا نظر لفسادها بقطع عروقها المذكورة.
وسئل: عن شجرة بملك شخص خرجت أغصانها إلى ملك آخر فأضرت بزرعه أو شجره هل له قطعها. فأجاب: بأن له أن يطالبه بتحويلها فإن امتنع فله قطعها ولو بلا إذن قاضٍ كما صرحوا به حيث قالوا: ولمن تحولت أغصان شجره لهواء ملكه الخالص أو المشترك وكذا ما استحق منفعته بنحو وصية إن قلنا أنه يخاصم إنه يطالب المالك بتحويلها فإن امتنع المالك جاز له تحويلها إن أمكن وإلا جاز له قطعها وإن لم يأذن له القاضي ولا يصح الصلح عن إبقائها لأنه اعتياض عن مجرد الهواء لا عن اعتمادها على جداره ما دامت رطبة وكالأغصان فيما تقرر انتشار العروق وميل الجدار وحيث تولى القطع بنفسه لم يكن له أجرة بخلاف ما لو تولاه بعد أن حكم القاضي عليه بالتفريغ ومتى قطع مع إمكان التحويل ضمن نقص قيمة الشجرة ولو دخل الغصن المائل إلى هواء ملكه في برنية ونبت فيه أترجة وكبرت حتى تعذر إخراجها قطع الغصن والأترجة لتسلم البرنية لاستحقاق قطعهما قبل ذلك وإنما لم يذبح حيوان غيره إذا بلع جوهرة لأن له حرمة قاله الماوردي و الروياني وللمالك غرس الأشجار في ملكه وإن علم انتشار أغصانها إلى هواء ملك جاره ثم إذا انتشرت إلى ذلك يأتي فيها ما مر ولو سكت المالك عن مطالبته بالقطع فيما مر ثم باع ملكه فللمشتري مطالبته به والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/250)
وسئل: عن شجر على جسر بين أرضين أحدهما لصاحبه خرج منه أغصان وانتشرت في هواء الأرض الأخرى حتى تضرر صاحبها بها فهل تقطع أو لا. فأجاب: بما حاصله إن جواب هذه المسئلة كالمسئلة السابقة في شجرة خرجت أغصانها إلى ملك آخر فأضرت بشجره أو زرعه والله أعلم.
وسئل: رضي الله عنه عن رجال مشتركين في دار فمال بعضها فهدموه ثم أعادوه بنقضه وزيادة فادعى أحدهم أنه لم يأذن بالهدم ولا بالإِعادة ما الذي يستحقه هذا المدعي على المذكورين. فأجاب: بقوله يصدق منكر الإِذن في الهدم فله على الهادمين بغير إذن شرعي الأرش وهو ما بين قيمة الجدار قائماً مائلاً وقيمته مهدوماً وليس لهم عليه شيء في مقابلة ما أعادوه لكن إن أعادوه بآلة يملكونها دونه جاز لهم نقضها وإلا فلا.
وسئل: رضي الله عنه خرجت شجرة من ملكه فتلف بظلها زرع غيره هل يضمنه أو لا. فأجاب: أفتى بعضهم بأنه يضمنه سواء أطلب مالكها إزالة الشجرة عنه أم لا قياساً على الميازيب فأنه لا فرق فيه بين طلب إزالتها وعدمه والله أعلم.(2/251)
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته سئل بعض المفتين عن جدار مشترك بين رجلين فخاف أحدهما سقوطه فهدمه أي بغير إذن شريكه ثم أعاده على الحالة الأولى أو أحسن فهل يلزمه شيء فأجاب بقوله نص الشافعي رحمه الله أن من هدم جداراً بناه لكن قال جمهور العلماء أنه لا يلزمه البناء لأن البناء يختلف ويجب عليه أرش النقص فلو بناه كبنائه الأول أو أحسن فلا شيء عليه وإن كان دونه فعليه أرش ما نقص ا هـ جوابه فهل جوابكم كذلك. فأجاب: بقوله الجواب عن هذه المسئلة يحتاج لمقدمة وهي أن أصحابنا اختلفوا في الجدار المشرف على الانهدام فقال: جماعة إذا مال الجدار إلى الطريق أجبره الحاكم على نقضه فإن لم يفعل فللمارة نقضه وقال الماوردي لو مال وخشي الجار من سقوطه عليه أو على ماله وطالبه بهدمه لم يلزمه لأنه لم يفوّت عليه في الحال شيئاً وانهدامه مظنون قال القمولي ومراده إذا لم يدخل في هوائه وقال المتولي لو أشرف الجدار المشترك على الانهدام وخشي سقوطه في الطريق وتضرر الناس به أجبر مالكاه على نقضه فإن طلبه أحدهما أجبر الآخر عليه وفرق بين هذا وبين ما قبله بأن الشريك يخاف تلف النقض المشترك بخلاف الجار وقضية كلام جماعة أنه لا يلزمه النقض مطلقاً حيث بناه مستوياً فعرض له الميل أو الاستهدام وجزم به بعض مشايخنا إذا تقرر ذلك فمتى كان هدم الشريك سائغاً بأن امتنع شريكه وحكم له حاكم به من غير إذن شريكه لم يلزمه أرش نقص حصة شريكه وإلا لزمه بأن يقوّم الجدار قائماً ومهدوماً وينظر للتفاوت بينهما فيلزمه حصة شريكه هذا ما يتعلق بهدمه وأما ما يتعلق بإعادته فتارة يعيده بآلة نفسه وتارة يعيده بالآلة المشتركة فإن أعاده بآلة نفسه كان المعاد ملكه يضع عليه ما شاء وينقضه إذا شاء وللشريك الآخر هدمه إن بناه شريكه قبل امتناعه من البناء وإن أعاده بالآلة المشتركة فهما باقيان على ملكهما له ولا رجوع للمعيد بشيء على صاحبه لأنه متبرع بالإِعادة وما غرمه(2/252)
له من أرش الهدم يفوز به الآخر بل له عليه أيضاً أرش نقص حصته من الهدم إن نقصت منهدمة عنها مبنية إلا أن الغالب أن قيمتها مبنية تزيد عليها منهدمة على أن الفرض في السؤال أنه أعاده كما كان أولاً أو أحسن فعلم بهذا التفصيل المأخوذ من كلامهم أن ما أطلقه المفتي المذكور يحتاج إلى هذا التقييد والتفصيل الذي ذكرته والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55
مسئلة: شخص أخذ من مال أبيه في حياته مبلغاً مجهول العدد منه فضة مختلفة الضرب والصفة والوزن ومنه ذهب مختلف النوع ثم توفي والده وخلف ولداً غيره فقال الولد المذكور لأخيه الا?خذ المذكور أنت أخذت من مال أبينا عشرين ألفاً من الأشرفية منها ما هو فضة مختلفة الضرب والصفة والوزن ومنها ما هو ذهب مختلف النوع فأنكر الآخذ أخذ القدر المذكور وقال إنما أخذت تسعة آلاف مثلاً منها ما هو فضة مختلفة الضرب والصفة والوزن ومنها ما هو ذهب مختلف النوع فطال النزاع بينهما في ذلك ثم إنهما تصالحا على أن الآخذ يدفع لأخيه المذكور ألفاً وخمسمائة أشرفي من الفضة السليمانية المتفقة الضرب والصفة وتكون مؤجلة في ذمة الآخذ إلى أجل معلوم ولم يجر بينهما تقابض في المجلس فهل هذا الصلح صحيح أم لا وإذا ضمن الآخذ شخص في المبلغ المؤجل الذي وقع الصلح عليه فهل يكون الضمان صحيحاً أم لا. الجواب: هذا الصلح باطل من وجوه أحدها أن المدعى عليه لما أقر بالتسعة آلاف المذكورة لم يبين كم قدر الفضة منها ولا كم قدر الذهب ولا بين أنواع كل منهما ولا صفاتها المختلفة وحينئذٍ فهي مبهمة والصلح عن المبهم عند المتصالحين أو أحدهما باطل كما يفيده قول أصحابنا أن الصلح عن المجهول لا يصح وأما قول الشافعي رضي الله عنه لو ادعى عليه شيئاً مجملاً وأقر له به وصالحه عن عوض صح فحمله أصحابه كالشيخ أبي حامد وغيره على ما إذا كان المعقود عليه معلوماً للمتصالحين فحينئذٍ يصح الصلح بخلاف ما(2/253)
إذا كان مجهولاً لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح الصلح ذكر ذلك الشيخان وغيرهما. ثانيها: أنه صالح من الحال على مؤجل وهو باطل أيضاً ففي الروضة وأصلها وغيرهما. لو أتلف عليه شيئاً قيمته دينار فصالحه عنه بعوض مؤجل لم يصح الصلح فإن قلت ينافي ذلك قولهما أيضاً لو صالحه من ألف حالة على خمسمائة مؤجلة فهذا ليس من المعاوضة في شيء بل هو مسامحة من وجهين: أحدهما: حط خمسمائة. والثاني: إلحاق أجل بالباقي والأول سائغ فيبرأ من خمسمائة. والثاني: وعد لا يلزم فله المطالبة بالباقي في الحال أ هـ .
قلت لا منافاة لأن الأول في صلح المعاوضة فهو أن يصالح على غير المدعى فإذا صالح من عين أو دين على عين أو دين كان بيعاً فيشترط فيه أحكامه ومنها أنه يشترط تعيين عوض الدين في المجلس وكذا قبضه فيه إن كان العوضان ربويين وأنه لا يصح بالمؤجل عن الحال ولا عكسه وأما الثاني فهو في صلح الحطيطة وهو أن يصالح على بعض المدعى عيناً كان أو ديناً كصالحتك من الألف التي عليك على خمسمائة في الذمة وكذا إن كانت معينة كما اقتضاه كلام الشيخين وصرح به جماعة من الأصحاب وقول الإِمام لا يجوز لأن تعيينها يقتضي كونها عوضاً فيصير بائعاً الألف بخمسمائة أشار
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/254)
الرافعي إلى رده بأن الصلح منه على بعضه إبراء للبعض واستيفاء للباقي أ هـ .
وذلك لأن صلح الحطيطة هبة لبعض العين وإبراء عن بعض الدين فإن كان بلفظ الصلح وجب القبول فيهما وقبض الموهوب بالإِذن وإن كان بلفظ الإِبراء ونحوه كأبرأتك عن خمسمائة وصالحتك على الباقي لم يجب القبول ولا يشترط في هذا النوع تعيين الباقي في المجلس ولا قبضه فيه ولا يعود الدين المبرأ منه بامتناعه من إعطاء الباقي ولو قال صالحتك عن الألف بخمسمائة على أن تبرئني من الباقي لم يصح الصلح فإن قلت فما في السؤال هل هو من أنواع صلح المعاوضة أو صلح الحطيطة قلت هو من أنواع صلح المعاوضة لأنه صالحه من المدعى به على غيره لا على بعضه وحينئذٍ فالتأجيل فيه يفسده فإن قلت هو مصالحة من التسعة آلاف المذكورة على الألف والخمسمائة المذكورة فيحتمل أن المصالح عليه موافق لبعض أنواع المصالح عنه قلت إذا فرض ذلك كان فيه تفصيل أشار إليه الشيخان بقولهما ولو كان له في يد رجل ألف درهم وخمسون ديناراً فصالحه منه على ألفي درهم لا يجوز وكذا لو مات عن ابنين والتركة ألفا درهم ومائة دينار وهي في يد أحدهما فصالحه الآخر من نصيبه على ألفي درهم لم يجز ولو كان المبلغ المذكور ديناً في ذمة غيره فصالحه منه على ألفي درهم جاز والفرق أنه إذا كان في الذمة فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه فيجعل مستوفياً لأحد الأَلفين ومعتاضاً عن الدنانير الألف الأخرى وإذا كان معيناً كان الصلح عنه اعتياضاً فكأنه باع ألف درهم وخمسين ديناراً بألفي درهم وهو من صورة مد عجوة أ هـ .
وحاصله الامتناع فيما إذا كان المصالح عنه معيناً وجوازه إن كان في الذمة والفرض أن كلاً منهما صلح معاوضة وحينئذٍ لا ينافي ما مر في مسئلة الإِمام لأن الصلح فيها صلح حطيطة فبعد فيها الاعتياض وفي الجواهر وغيرها لو تصالح وارثان عن تركة هي عرض وعشرة دنانير مثلاً على أن لواحد العرض وللآخر الدنانير جاز وكأنه استوفى خمسة(2/255)
واعتاض عن نصف العرض خمسة أو وهي درهم ودينار مثلاً وهما معينان بدرهمين أو دينارين بطل أو في الذمة صح ولا تقدر فيه المعاوضة بل هو مستوفٍ لدرهم ومعتاض عن الآخر بالدينار. ثالثها: كون الألف والخمسمائة صلحا عن التسعة الآلاف إن كانت معينة والحال أنها من أنواع صلح المعاوضة لما تقرر من بطلان الصلح حينئذٍ فإن فرض أن التسعة الآلاف كانت في الذمة صح الصلح إن قبضت الألف والخمسمائة في المجلس لما تقرر أن صلح المعاوضة يشترط فيه قبض العوض في المجلس إن كان العوضان ربويين. رابعها: عدم قبض الألف والخمسمائة التي صالح عليها إن كان الفرض أنها من أنواع صلح المعاوضة لما تقرر فإن فرض أنها من صلح الحطيطة بأن كانت الألف والخمسمائة كلها من بعض أنواع التسعة آلاف صح الصلح ولم يشترط قبضها في المجلس ولا يضر شرط التأجيل فيها لما تقرر آنفاً وأما إذا كان بعض التسعة آلاف موافقاً لنوع الألف وخمسمائة وبعضها مخالفاً له فإن كانت التسعة آلاف باقية تحت يد المدعى عليه فالصلح باطل وإن كانت كلها تالفة فهذه الصورة محل نظر والذي يتجه فيها أخذاً من كلامهم الذي ذكرته أن هذا الصلح حينئذٍ اجتمع فيه صلح المعاوضة وصلح الحطيطة وذلك إننا ننسب النوع الذي في التسعة آلاف الموافق للمصالح عليه إلى التسعة آلاف ثم نأخذ بمثل تلك النسبة من المصالح عليه فإذا فرضنا ذلك ثلثا مثلاً جعلنا ثلث الألف وخمسمائة في مقابلته ويكون حينئذٍ صلح حطيطة بالنسبة إلى ثلثها فيصح الصلح بثلثها عن ثلث التسعة آلاف ولا يضر بالنسبة لهذا الثلث اشتراط التأجيل ولا عدم القبض في المجلس ولا فرق فيه بين أن يكون المصالح به أو عينه معيناً أو لا لما مر في صلح الحطيطة وأما ثلثا الألف والخمسمائة فيكون الصلح بهما عن ثلثي التسعة آلاف صلح معاوضة فيشترط فيه القبض في المجلس وعدم التأجيل وكون المصالح عنه في الذمة فإن قلت لم لم تجعل هذه الصورة على وزان الصورة السابقة عن الشيخين وهي(2/256)
ما لو صالح عن ألف درهم وخمسين ديناراً في الذمة بألفي درهم فإنه يجوز ويكون مستوفياً أحد الألفين ومعتاضاً عن الدنانير الألف الأخرى وقياس هذه الصورة المذكورة أنه يكون مستوفياً لما في التسعة آلاف من الفضة السليمانية بقدرها من الألف وخمسمائة ومعتاضاً لباقيها بباقي تلك قلت هذا ظاهر إن كان ما في التسعة آلاف من الفضة السليمانية دون الألف وخمسمائة لأنه حينئذٍ يفضل شيء يقابل به الباقي فإن فرض أنه أكثر تعذر كون الأقل عوضاً عنه لأنه جعل عوضاً عن جميع التسعة آلاف فلم يمكن حينئذٍ إلا القول بتفريق الصفقة لأن المصالحة حينئذٍ اشتملت على مقابلة السليمانية بالسليمانية وغيرها. ومقابلة السليمانية بالسليمانية له حكم ومقابلتها بغيرها له حكم إذ الأول من صلح الحطيطة إن كان المصالح عليه أقل والثاني من صلح المعاوضة وإذا اشتملت الصفقة على حكمين مختلفين وجب رعاية كل منهما ولا يمكن ذلك هنا إلا بما قلناه من أنا ننسب ما في التسعة آلاف من السليمانية إليها ونأخذ بمثل تلك النسبة من السليمانية المصالح عليها ونجعله صلح حطيطة وندير عليه أحكام صلح الحطيطة ويكون الباقي من السليمانية المصالح عليها عوضاً عن بقية التسعة آلاف فيكون صلح معاوضة ويدار عليه أحكامه السابقة فإن قلت فلو كان بعض التسعة باقياً وبعضها تالفاً ما حكمه قلت الذي يتجه في هذه أيضاً أن يقال ننسب التالف إلى الباقي فإن كان النصف مثلاً بطل الصلح في نصف الألف والخمسمائة وبقي الصلح واقعاً بنصف الألف والخمسمائة عن النصف التالف من التسعة آلاف فإن لم يكن في هذا التالف شيء من السليمانية فهو صلح معاوضة وإن كان فيه شيء منها يأتي فيه ما ذكر من تفريق الصفقة إذا تقرر ذلك وضمن شخص المدعى عليه في الألف والخمسمائة المصالح عليها فحيث حكمنا بصحة الصلح عليها جميعها صح ضمانها لأنها حينئذٍ دين ثابت لازم معلوم وحيث حكمنا بصحته على بعضها صح ضمان ذلك البعض وحيث حكمنا(2/257)
ببطلانه في جميعها لم يصح ضمانها والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55
وسئل: رضي الله عنه عمن له في ذمة شخص خمسون ديناراً وألف درهم صالحه على ألفي درهم جاز ويجعل مستوفياً للألف ومعتاضاً عن الخمسين الألف الأخرى ذكره الشيخان في الصلح وقياس قاعدة مد عجوة البطلان فما المعتمد في ذلك. فأجاب: بقوله المعتمد ما ذكراه وليس ذلك من قاعدة مد عجوة لأن ألفاً مما صالح به مماثلة للألف التي في الذمة فلا يمكن أن يكون جعلها في مقابلتها بيعاً بل ذلك هو حقيقة الاستيفاء والألف الأخرى تعينت معاوضة عن الدنانير لأنها من جنسها وحينئذٍ فعقد المعاوضة لم يشتمل على شروط قاعدة مد عجوة لأن الاعتياض عن الدنانير بالدراهم ليس من ذلك فلذا صحح الشيخان ما ذكر من الصحة.
وسئل: عن الجدار بين المالكين إذا كان لأحدهما فيه باب هل يرجح. فأجاب: بقوله قياس عدم الترجيح بالجذوع عدمه بالباب أيضاً.
وسئل: عن شجرة على الطريق منعت الناس من الممر تحتها ركباناً ولم يعلم أسبقت الطريق أم لا فهل يقطع المانع. فأجاب: بقوله نعم يقطع كما يؤخذ من فتاوى البغوي في الصلح.
وسئل: عمن فتح في ملكه طاقات تشرف على جميع جيرانه فهل يؤمر بسدها. فأجاب: بقوله لا يؤمر بسدها بل بعدم الاطلاع من الكوّات.(2/258)
وسئل: رضي الله عنه عمن له داران في أحدهما شجرة فتدلت أغصانها إلى الأخرى فاشترى شخص التي فيها الأغصان ثم زاد انتشارها على ما كانت عليه حال البيع فهل يكلف قطعها. فأجاب: بقوله أفتى البارزي بأن له مطالبة البائع بذلك لأنه لم يرض إلا بالوجود ولا يقال شراؤه لذلك إقدام منه على نموه لأن نموّه غير منضبط بل لو قال رضيت بما يمتد من ذلك كان له الرجوع عنه بل لو صالح على إبقائه لم يصح لأنه بيع هواء بلا أصل فإن قلت يشكل عليه ما لو اشترى مريضاً عالماً بمرضه فمات فإنه لا خيار له لأن رضاه بمرضه رضا منه بما يحدث منه قلت يمكن أن يجاب بأن الرضا بالمرض مستلزم لتوطين النفس على الرضا بتلف المبيع من أصله وذلك معلوم منضبط بخلافه فيما مر لأنه غير منضبط والرضا به أمر خارج عن المبيع فلم يكن الرضا به مستلزماً لتوطين النفس على نظير ما ذكرته.
وسئل: ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل إذا كان بين شخص وجماعة عقار وفيه علو فآل العلو إلى السقوط وتضرر منه الجار والمار فأراد الشخص أن يهدمه فلم يمكنه إلا بعمارة شيء في العقار المذكور يصعد منه إليه فعمره بغير إذنهم وهدم العلو أيضاً بغير إذنهم وبغير إذن حاكم وإنما هو بمجرد تضرر من ذكر فهل وقع ذلك في محله ويحسب له ما صرفه للعمارة والهدم وإذا عمر في المكان المذكور شيئاً بغير إذنهم فهل له الرجوع عليهم وإذا كان تحت يده شيء لم يعلموا به فصرفه على المكان ثم آل إلى التلف بالكلية فهل يبرأ بذلك ويسقط حقه من العمارة أم لا. فأجاب: بقوله الهدم المذكور فيها لم يقع في محله ولا يحسب له ما صرفه للعمارة والهدم وليس له الرجوع عليهم بما عمره من غير إذنهم ولا يبرأ بما صرفه مما تحت يده لهم لكن الآلة التي عمر بها على ملكه فله هدمها والرجوع في أعيانها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/259)
وسئل: عما إذا تنازعا عيناً ثم تصالحا عليها بعد إقرار أحدهما أنها للآخر فإذا مضى لها مدة تحت يد المقر ولم يتعرضا في الصلح لذكر الأجرة فهل تلزم المقر أم لا. فأجاب: بقوله إن تقدمت المدة على الإِقرار فلا أجرة إذ يكفي في صدق الإِقرار المطلق سبق الملك عليه بلحظة وإن تأخرت عنه وتضمن ما يقتضي وجوب أجرتها فالصلح على مجرد العين لا يتناول الأجرة الواجبة بسببها فيجب.
وسئل: عن امرأة توفيت عن زوج وبنت وأم ولها حصة في عقارات فصالحت الأم الزوج عن حصته وحصة بنته بعد إخفائها مستند الميتة وأبرأها الزوج عن حقهما. فأجاب: بقوله الصلح إن وقع بعد إنكار المدعى عليه فهو باطل أو بعد إقراره أو إقامة بينة بالحق صح في نصيب الزوج وبطل في نصيب بنته حيث لم يكن لها فيه حظ والأصح أيضاً وأما الإِبراء هنا فباطل إذ المبرأ منه عين لا دين.
وسئل: عمن هلك عن زوجة ولها عليه حق وكساوي فعوّضها أخوه شيئاً من ماله وليس بوصي فهل يصح وإذا أبرأته بسبب ذلك فهل تصح البراءة أو لا. فأجاب: بقوله إن كان الأخ المعوّض وارثاً وعلم هو وهي أن ما تعوّضت عنه ينقص عن حقها أو يساويه صح التعويض في حصته وإلا فلا يعتد به وكذا لو جهلت القدر المبرأ منه.
وسئل: هل يجوز التوكيل في استيفاء الحق والصلح أم لا لقوله في الأنوار ولو وكله في الخصومة وأجاز صلحه وإقراره بطل التوكيل. فأجاب: بقوله يجوز التوكيل في استيفاء الحق والصلح عنه كما ذكروه ولا ينافيه ما ذكر عن الأنوار إن سلم أنه فيه لأن معناه أنه لو وكله في الخصومة ولم ينص له على صلح ولا إقرار فتعدى وصالح أو أقر عن موكله بطل توكيله في تلك الخصومة كما ذكره في الروضة لبطلان ما فعله بتعديه من الصلح والإِقرار على أن التوكيل في الإِقرار لا يصح وإن نص له الموكل على ذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/260)
وسئل: عمن أحدث وفتح في جداره نقباً إلى زقاق ضيق من شوارع المسلمين وحمل جيرانه وركب على هذا النقب في هواء الشارع بربخا وسلط على هذا الشارع الضيق مياه بيته من الطهر وغيره وركب فوق البربخ خارج الجدار ألواحاً من الخشب لحفظ البربخ عن الكسر وتضرر بذلك المسلمون وجيرانه المارون في هذا الزقاق بسبب ما ينزل من المياه النجسة والذي أحدثه من النقب المذكور إحداث منه وبدعة صدرت عنه لم تكن من قبل أبداً فهل له إحداث هذا الأمر المضر للجيران والمسلمين المارين في هذا الزقاق وهل لحاكم الشرع زجره ومنعه عن ذلك. فأجاب: بقوله ليس له إحداث ما ذكر في الشارع الضيق إذا تضرر به المارة تضرراً لا يحتمل عادة كما أفهمه كلامهم سيما كلام المنهاج فإنه قال الطريق النافذ لا يتصرف فيه بما يضر المارة قال في دقائقه وتعبيري بما يضر المارة أعم من قول غيري بما يبطل المرور أ هـ .
ومراده بالضرر ما ذكرته لتصريحهم بأنه يغتفر فيه الضرر الخفيف الذي لا يدوم كإلقاء نحو الحجارة للعمارة ومن ثم قال الأذرعي : وفي عبارة المنهاج شمول لما ذكرناه أي من أن ما أضر بهم ضرراً لا يحتمل يمنع منه وإن لم يقصد به الدوام كحفر القناة على وجه الأرض والرش المفرط وغير ذلك مما لا يحتمل ضرره أ هـ .
على أن الغزالي رحمه الله صرح بخصوص مسئلتنا في الإحياء، فقال: وكذا القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فيمنع منه بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحاً ففي ذلك تضييق وإضرار بسبب ترشيش النجاسة وإضرار بسبب استقذار الطباع القاذورات وكذا طرح القمامة عى جواد الطريق وتبديد قشور البطيخ أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذا إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطرق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب ويضيق الطرق ولا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن أ هـ .
كلام الإحياء واعتمده جمع محققون من المتأخرين(2/261)
كالزركشي وغيره بل جزم به بعضهم جزم المذهب ولم يسنده إليه ووجهه ظاهر فإن ما قدمته من كلام المنهاج وغيره صريح فيه ويؤخذ من كلام الإحياء المذكور أن المراد بالضيق ما لا يمكن العدول عن الماء النازل من الميزاب فيه إلى محل آخر من جانب الطريق بحيث لا يصيبه شيء من النازل منه وبالواسع ما يمكن العدول عنه إلى ما لا يصيبه شيء منه إذا تقرر ذلك فهذا الميزاب المحدث المذكور إن كان المار لا يمكنه العدول إلى محل يمنعه من تلوثه بمائه وقت نزوله يمنع منه مخرجه ويجب على حاكم الشرع وفقه الله وسدده إلزامه بهدمه أو نحو أخدود في جداره ينزل فيه ماؤه إلى موضع لا يضر بالمارة الضرر السابق ومتى امتنع محدثه من ذلك بالغ في زجره ونكاله حتى ينزجر غيره عن أمثال هذه المحدثات المنكرات ولا يعارض ما تقرر خبر مسند أحمد في قلع عمر لميزاب العباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما. ثم أعاده لما قال له إن النبي وضعه بيده مع أن النازل منه دم مختلط بما حمل عمر على قلعه أوّلاً ثم لما أعاده لما ذكر لم ينهه عن ذلك لأن هذه واقعة حال فعلية طرقها احتمال أن الشارع كان واسعاً فلا دلالة فيها على خلاف ما قلناه وبما تقرر علم أن لصاحب الميزاب في الطريق الواسع النافذ أن يجري منه ما شاء من ماء المطر والغسالة الطاهرة والنجسة وغير ذلك إذ لا ضرر على أحد مع الاتساع المذكور السابق ضابطه والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/262)
وسئل: عن ساقية لأَراض متعددة لكل منها منفذ وبعض منافذها مرصد بوضع أحجار فيه ولا يسد شيء من المنافذ لشرب آخر وأراد صاحب المنفذ الذي لا رصد عليه أن ينحت تراب أرضه وينقله لينخفض ويأخذ الماء على أصحابه لانخفاض أرضه اللازم معها انخفاض منفذها بجري فهل لصاحب الأرض المرصدة منعه والحال أن منافذها متساوية الاتساع أو متفاوتة وهل لو اطردت عادة بأن الذي لا رصد عليه له فعل ذلك وهل لهذه أثر أو لا. فأجاب: بقوله قد صرحوا بأن من أراد حفر نهر فوق نهر غيره إن ضيق عليه منع وإلا فلا وبأنه لو أراد من أرضه أسفل توسيع فم النهر أو أراد الأوّلون تضييقه أو أراد أحدهم بناء قنطرة أو رحى عليه أو غرس شجرة على حافته أو تقديم رأس ساقيته أو تأخيره لم يجز إلا برضا الجميع وبذلك يعلم أن نحت التراب ونقله إن كان يضر بأحد الشركاء بأخذ ماء أكثر أو بغيره منع منه مطلقاً.(2/263)
وسئل: عن بيت بابه نافذ إلى الشارع لكنه في منعطف بحيث كانت فتحة الباب في مقابلة طول الشارع دون عرضه فالخارج منها يمشي ابتداءً في الشارع من غير احتياج إلى انحراف وقد اتصل بفتحة الباب دكة ممتدة تحت جدار البيت عرضها مسامت لعرض الفتحة بحيث لو مد جدار الفتحة المتصل بالشارع كانت الدكة في داخله إلى جهة البيت ولم يعلم أن موضع تلك الدكة من الشارع ولا أنها موضوعة بغير وجه شرعي مسوّغ لوضعها وأهل البيت مستولون على تلك الدكة منتفعون بها بالجلوس عليها ووضع الأمتعة وغير ذلك وأحدثوا على بعض أجزائها عشة وكل من الدكة والعشة التي بها لا تضر بالمارة فهل يجوز لأحد إزالة تلك الدكة أو العشة قهراً على أهل البيت من غير أن يثبت أن أصلهما من الشارع وأنهما موضوعان فيه بغير وجه شرعي مسوّغ لوضعهما أو لا يجوز ذلك حتى يثبت أن أصلهما من الشارع وأنهما موضوعان فيه بغير وجه شرعي مسوّغ له فيبقيان على حالهما ويمكن أهل البيت من الانتفاع بهما بالجلوس ووضع الأمتعة وسائر وجوه الانتفاعات التي لا تضر بالمارة حتى يثبت أن وضعهما بغير وجه شرعي وهل إذا ادعى منازع أنهما يضران بالمارة يلتفت إلى قوله بدون إثبات ذلك بطريقه الشرعي وهل إذا كان معهما يمكن مرور البعير وعليه المحمل بدون مصادمته لهما ولا ضرر يلحقه في مروره لكن مروره بدونهما أبعد عن المصادمة لكونه يمكنه حينئذٍ أن يقرب من كل جانب بلا مصادمة يكون ذلك من ضرر المارة أو لا. فأجاب: بقوله إذا لم يعرف أصل الدكة المذكورة فالظاهر أنها وضعت بحق وأن محلها مستحق لأهلها كما صرح به أئمتنا في مسائل ففي الروضة وأصلها والجواهر وغيرها لو وجدنا جذوعاً موضوعة على جدار ولم نعلم أصلها فالظاهر أنها وضعت بحق فلا تنقض بل يقضى لصاحبها باستحقاق وضعها دائماً حتى لو سقط الجدار فأعيد جاز له وضعها عليه قال في الروضة بلا خلاف وعلله بأنا حكمنا بأنه وضع بحق وعلله(2/264)
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55
المحاملي بأن الظاهر حصوله على الحائط بحق وفي باب العارية من الكفاية لو لم يدرأ وضعت الجذوع بحق أو غيره حمل على أنها موضوعة بحق لازم كما صرحوا به ويجيء مثله في الأجنحة المطلة على ملك الجار والقنوات المدفونة تحت الأملاك لأن صورها دالة على وضعها بحق وبه صرح عز الدين في القواعد أ هـ .
قال الجلال البلقيني ولا أجرة له في المستقبل لجواز أنه استحقها مؤبدة ببيع وألحقت بذلك ما لو رأينا ساقية مشتركة على فويهة بئر وعليها بستانان وماء أحدهما يمر على الآخر فليس له منعه من إجرائه في أرضه ولا أجرة له لأن الأصل أنه بحق فلا يزال بغير حق أ هـ .
وأفتى والده في مصارف على قناة حمام لا يعرف أصلها بأنه إن عرف حدوثها سدت وإلا بقيت ولا يشاركه أصحابها في نزح تلك القناة حيث لم تجر العادة بذلك وأفتى شيخ الإِسلام البارزي وأئمة عصره فيمن له دار ينزل إليها الضوء من كوّة بجدار الغير بأنه ليس لذي جدارها هدمه ولا سدها ونقله بعضهم عن فروق الجويني والتوقف فيه بأن مجرد الضوء لا يقابل بعوض فكيف يتصوّر فتح هذه بحق لازم رده الشيخ تاج الدين بأنه قد يكون اشترى منه بعض الحائط وفتحه طاقة وأفتى التاج الفزاري وغيره فيمن له في أرض غيره قناة أو جذوع ادعى تعديه بها بأنها لا تزال إلا ببينة تشهد بأنها وضعت تعدياً إذ الفرض أنه لا يعرف أصلها فالظاهر أنها بحق وأن محلها مستحق لأهلها فإن قلت كيف يتصوّر ذلك في الشارع قلت تصوره فيه أقرب من تصوير مسئلة الكوّة المذكورة فإن ذلك الاحتمال المذكور فيها في غاية الندور ومع ذلك راعوه وقضوا باحترامها لأجله بل وقدموه على يد مالك الجدار حتى منعوه من هدمه وسدها فإذا قالوا بذلك في هذا النادر فقولهم به في مسئلتنا أولى لأن تصوير الوضع فيها بحق أظهر وأشهر بأن تكون البقعة مسبلة إلا محل تلك الدكة أو بأن يخص الإِمام أهلها بمحلها إذا رآه أو(2/265)
بأن يكون من أصل الدار فأخرجها أهلها منها لينتفعوا بها فهذه كلها صور قريبة لا ندرة فيها فرعايتها في الاحترام والدلالة على الاستحقاق المؤبد أولى من رعاية الأئمة لما قدمته عنهم فظهر ما قلناه واتضح ما حررناه وحينئذٍ فلا يجوز لأحد أن يتعرض لهذه الدكة بهدم ولا غيره إلا إن أقام بينة أنها وضعت بطريق التعدي والظلم ولا يكفي شهادتهم بغير ذلك مما لا يستلزمه بل لو قامت بينة بأنها من الشارع وبينة بخلافها تأتي فيها نظير ما ذكره ابن الصلاح
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 55(2/266)
وتبعوه بل جزم به غير واحد من غير عزوه إليه وهو أنه لو أقام شخص بينة أن هذا طريق يختص به وأقام آخر بينة أنه طريق لعموم المسلمين فإن كانت اليد للأول لاختصاصه بالتصرف فيه قدمت بينته أو للمسلمين لسلوكهم له على العموم مدة قدمت بينة الثاني فإذا كانت اليد لأهل الدكة كما ذكر في السؤال قدمت بينتهم أنهم يختصون بها وذكر ابن الصلاح أيضاً أن تصرف المتصرف راجح مثبت لدوام شجر ذي التصرف في أرض الغير فإذا أثبت هذا التصرف الدوام في ملك الغير فالشارع كذلك وإذا ثبت أن الدكة المذكورة مستحقة لأربابها فلهم أن يضعوا عليها عشة ثم إن خرجت تلك العشة في هواء الشارع اشترط عدم ضررها للمارة قال الشيخان ويرجع في معرفة الضرر وعدمه إلى حال الطريق ثم قال والأصل في الشوارع الإِباحة وجواز الانتفاع إلا فيما يقدح في مقصودها وهو الاستطراق ثم المراد كما صرحوا به بضرر المارة الضرر الذي لا يحتمل عادة بخلاف اليسير الذي يحتمل عادة فإنه لا منع منه وبه يعلم أن ما ذكر في السؤال من خشية المصادمة عند العدول عن جادة الطريق ليس من الضرر المنافي للاستطراق فلا ينظر إليه وإن لم تخرج تلك العشة في هواء الشارع بأن كانت في هواء الدكة فلا منع منها وإن أضرت بالمارة لما علم مما قدمته عن الأئمة أن أرباب الدكة يستحقون التصرف فيها حتى بهدم جدارهم وإدخالها في دارهم إذ هواؤها مستحق لهم وليس هواء شارع فلم يراع حينئذٍ ضرر المارة به لأن محل رعايته إنما هو حيث كان البارز في هواء الشارع كما صرحوا به هذا كله بناءً على المعتمد الذي عليه الشيخان والجمهور إن إحداث الدكة بالشارع لا يجوز وإن لم تضر بأن كانت في منعطف أما على مقابله الذي اعتمده جمع متقدمون ومتأخرون وانتصر له السبكي من جواز أحداثها حيث لا ضرر فواضح أنه لا نزاع فيها إلا إن أثبت ضررها الذي مر ضبطه والله تعالى أعلم.(2/267)