شرح التدمرية للعلامة العثيمين [ تفريغ من الشريط الأول للعاشر ]
الشريط الأول
التدمرية
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى 1402هـ
غير خاف على الجميع حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ومواقفه في الإسلام هجوماً على الأعداء ودفاعاً عن الإسلام ، فكلامه رحمه الله داخل بين أمرين بل مؤلفاته كلها إما دفاعاً عن الإسلام وذلك في ما ألفه في باب الردود مثل رده على الرافضة في كتاب منهاج السنة وغيره من الكتب .
وإما هجوم على الباطل يؤلف فيه تأليفاً حديداُ ويثبت فيه الحق ويبطل الباطل ومقاماته معروفه في هذا ، وبإمكان الرجوع إلى ترجمته ,
( الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
أَمَّا بَعْدُ :)
ابن تيمية دائماُ يصدر كتبه بهذه الخطبة المعروفة التي هي خطبة الحاجة كما قال ابن مسعود رضي الله عنه علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة في الحاجة وهي كما سبق وقوله ( الحمد الله ) هذه جملة أسمية مكونة من مبتدأ وخبر وهي تفيد الثبوت والاستمرار بحق أن الوصف بالكمال والفضل والإحسان يستحق لله لأن المحمود يحمد على كماله وعلى فضله وإنعامه ، وما سواه فما فيه من الكمال والفضل فإنه من الله سبحانه ، فالمحمود لذاته هو الله عز وجل ، وهو سبحانه كامل في صفاته متفضل بإنفاقه وإحسانه ولا يصح أن نقول أن الوصف
ص1(1/1)
هو الثناء ولأنه ثبت في الصحيح ( أن الله يقول قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال الحمد الله رب العالمين قال حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم قال اثنى علي عبدي ... الحديث )
فهناك فرق بين الحمد والثناء والذين فسروا الحمد بالثناء الجميل فقد أخطأو ولأن الثناء لا يكون إلا بتكرار الحمد فالحمد لله رب العالمين جعله الله تبارك وتعالى حمداً والرحمن الرحيم جعله ثناء
أما قوله ( نحمده ) فجمله فعليه ففي الأولى أتى بالجملة الاسمية وهي الحمد الله الدالة على الثبوت والاستمرار ثم أتى بالجملة الفعلية الدالة على التجدد .
كأن القائل يقول بعد أن أثبت الحمد الله أعود فأحمده أيضاً ، فصارن نحمده جمله فعليه تفيد التجدد والحدوث .
وقوله ( نستعينه ) فطلب منه العون ( ونستغفره ) طلب منه المغفرة ، والمغفرة ستر الذنوب والتجاوز عن العقوبة لأنها مأخوذة من المغفر الذي يوضع على الرأس عند الحروب وهذا المغفر يحمي رأسك ويقيه ويستره .
فيكون معنى نستغفره نسأله المغفرة وهي ستر الذنوب مع التجاوز عنها فلا يعاقبنا عليها .
وقوله ( وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا )(1/2)
نعوذ بالله أي نلتجئ ونعتصم من شرور أنفسنا جمع شر والنفس فيها شر وفيها خير والنفس المطمئنة فيها خير والنفس اللوامة فيها شر وقيل أن النفس اللوامة تلوم فقط بينما النفس الأمارة بالسوء هي التي فيها شر ، لأن الإنسان فيه ثلاث قوى قوة تأمره إلى السوء وهذه هي النفس الإمارة ، وقوة تأمره بالخير وهذه النفس المطمئنة وقوة ثالثة تلومه إذا فعل الشر ، وإذا فوت الخير وهذه هي النفس اللوامة وكلها مذكورة في القرآن قال تعالى ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) )( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)) ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)) الآية
وعلى كل حال فالأنفس فيها شرور فأنت تستعيذ بالله من شرها لأن الله أن لم يعصمك من شرها أهلكتك ومن سيئات أعمالنا المراد هو من السيئات فعلاً وعقوبة فالمراد إذاً هو
ص2
من سيئات أعمالنا أن نفعلها أو أن يقع بنا عذابك فيها .
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له : المراد تفويض الأمر إلى الله تبارك وتعالى في الهدايه ، فمن يهده الله أي يقدر هدايته فلا مضل له ومن يهده بالفعل أيضاً فلا أحد يستطيع أن ينتشله من هذه الهدايه .
فكلمة من يهده تقديراً أو فعلاً واقعاً فمن قدر الله أن يهديه لا يستطيع أحد أن يصرفه عن الصراط المستقيم والذي هداه الله بالفعل لا يستطيع أحد أن ينتشله من هذه الهدايه فهو شامل للأمرين .(1/3)
ومن يضلل أي من يقدر الله له الضلالة فإنه لا أحد يهديه وكذلك من أضله فعلاً فلا أحد يستطيع أن ينتشله من هذا الضلال لأن الله تبارك وتعالى هو الذي له الأمر وحده ، وهذه الجملة لا حجة فيها للعصاة لأننا نقول أن الله تعالى جعل للعبادات أسباباً وللضلال أسباباً وأعلمك بها واقدر ك عليها كما في قوله ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) أي سواء كان شاكراً أو كفوراً فقد هداه الله للسبيل وبينه له ولهذا يقول الله عز وجل في الضالين ( { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } إذاً هم السبب في أن الله يضلهم ولهذا تجد هؤلاء الذين يحتجون بالقدر ويقولون ( من يهده الله فلا مضل له ) تجدهم في مصالح الدنيا لا يحتجون به تجدهم مثلاً لا يسلكون الطريق التي فيها قطاع طرق التي فيها عطش ، والطرق التي فيها الموت بل يتحرى الطريق الآمن المعين فو فرض أن هناك طريقان يؤديان إلى نفس البلدة أحدهما آمن ويعبد والأخر معروف بقطاع الطرق والخوف ، فلو خيرنا الناس أيهم تسلكون لقالوا كلهم نسلك الطريق الأمن المعبد .
ولا يقول بعضهم نسلك الطريق الخطر وهذا مقدر على.
فايضاً للجنة طريق وللنار طريق فمن سلك طريق الجنة انتهى به إلى الجنة ومن سلك طريق النار انتهى به إلى النار والعياذ بالله ، فأنت الآن بين طريقين اسلك الذي تريد منهم ، فالمؤمن يسلك طريق الخير وطريق الجنة لذا تبين لنا أن هذا الاحتجاج باطل بلا شك ، لأننا نقول أنت في نفسك في أمور دنياك تحتار لنفسك ما تراه اسلم وأصلح
ص3
إذاً يجب عليك أن تختار لدينك ما تراه أسلم وأصلح .
قوله ( وأشهد أن لا إله إلا الله ) الرواية جاءت أشهد دون نشهد ، قال ابن تيمية " والسبب أنه يقول في الأول نحمده ونستعينه وهنا قال أشه لأن مقام التوحيد الأنسب فيه توحيد الفعل "
أي الأنسب في التوحيد أن نوحد الفعل فأنت إذا فعلت أشهد هذا فعل توحيد بينما نشهد جماعة .(1/4)
معنى ( لا إله إلا الله ) الإله بمعنى المعبود فهو فعال ، بمعنى مفعول فتأتي في اللغة العربية فعال بمعنى مفعول كثيراً ، فلا إله إلا الله والحصر هنا على رأى أكثر المقدرين حصر إضافي لا حصر حقيقي والفرق بين هذين الحصرين أن الحصر الحقيقي معناه أن يحصر المحصور حرفاً بحسب الواحد أن يكون الحصر بحسب الواحد ، والإضافي عكسه ، فمثلاً إذا قلت لا شمس إلا هذه فهذا حصر حقيقي وإذا قلت لا شجاع إلا خالد بن الوليد فإن هذا حصر إضافي لأن فيه شجاع غيره .
فلا إله إلا الله يكون حصر إضافي لأننا نشاهد أن الأشجار تعبد والأصنام تعبد وكذلك والملائكة والجن يعبدون .
إذاً يجب أن نعرف ما نوع الإضافة هنا وهي " لا معبود يستحق العبادة إلا الله وحده " فكل هذه المعبودات وإن سميت إلهة فهي ليست إلا كما قال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ][النجم:23].
وإلا فإنها ليست آلهة ، لأنها لا تستحق أن تكون آلهة ، فعندما يقول المشرك هذه الشجرة آله فهذا ليس بصحيح لأن الأله هو الذي يستحق العبادة وحده ، فالشجرة ليست آله تستحق العبادة ،
وقوله ( وحده لا شريك له ) أي أن الله سبحانه وتعالى لا يوجد آله إلا هو وحده لا شريك له تحقيق التوحيد ، فوحده تأكيد للنفي ولا شريك له تأكيد لوحده .
وقوله ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) هذه عبودية خاصة وأيضاً متضمنة للعبودية العامة لأن كل ذي عبودية خاصة ففيه عبودية عامة والعكس .
فعندما نقول مثلاً هذا الرجل الفاجر هو عبد الله بالمعنى العام ، نعم هو عبد الله بالمعنى العام ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا*} [مريم : 88].(1/5)
ولكن بالمعنى الخاص ليس عبد الله ، فالمؤمن عندما نقول أنه عبد الله فهو عبده بالمعنى الخاص والعام ، وقوله ورسوله أي أرسله الله إلى جميع الخلق صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم .
ص4
هذه الخطبة خطبة الحاجة ينبغي للإنسان أن يقدمها بين يدي حاجاته ، عندما يريد أن يتكلم بكلمة ينبغي أن يقول هذه الخطبة ، وكذلك عندما يريد أن يعقد نكاح فإنه يقول هذه الخطبة ويقرأ أيضاً قوله تعالى ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 102] .وقوله ( { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 70، 71].وقوله ( { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1] .وهي تابعة لخطبة الحاجة
وقوله ( أما بعد ) وهذه يقولون أن مضادها الانتقال إلى الغرض .(1/6)
[ فقد سألني من تعينت إجاباتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد وفي الصفات وفي الشرع والقدر لمس الحاجة إلى تحقيق هاذين الأصليين ، وكثرة الاضطراب فيها ، إنها مع حاجة كل أحد إليها ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد لا بيان يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات ، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبهة التي توقعها ي أنواع الضلالات ، فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات .
والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتا ،
قوله فقد سألني من تعينت أجابتهم : لم يبين المؤلف من هؤلاء الذين سألوه لكن قال من تعينت أجابتهم يعني وجب علىَّ أجابتهم فهل هو لشرفهم وجاههم أو لحاجتهم إلى ما سألوه وهذا هو الظاهر أنه إلى حاجتهم إلى ما سألوه لأن من سأل علماً وهو يطلب الحق وجب على المسئول أن يجيبه ، والظاهر والله أعلم أن هؤلاء السائلة كانوا من أهل تدمر ولهذا سميت هذه الرسالة بالتدمورية ، وتدمر من قرية من قرى حلب بالشام معروفة إلى الآن .
وقوله : (أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين
ص5
والأصلان هما التوحيد والصفات واشرع والقدر ) وفي هذه الجملة بيان سبب تأليف المؤلف لهذا الكتاب .
لأن الحاجة ماسة لتحقيقها هذه واحدة .
والثانية قوله وكثرة الاضطراب فيها والاضطراب معناه الاختلاف اختلاف العلماء في هذين الأصليين وهما التوحيد والصفات والشرع والقدر .(1/7)
لذا فلا بد من تبيين الحق ، لأنه لو لم تكن الحاجة ماسة إلى تبيين هذين الأصلين فإنه لا يهمنا سواء عرفنا أم لم نعرف ، ولو كان العلماء منفقين فيها على شيء لكانت الحاجة أيضاً ليست داعية إلى البيان ، فلما مست الحاجة إليها واضطراب الناس فيها صار لابد من أن يتبين الحق فيها .
وقوله ( فأنهما مع حاجة كل أحد إليهما ومع أن أهل النظر والعلم والإدارة والعباد : لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال )
هذا يعود إلى قوله : (لمسيس الحاجة ) أن كل أحد محتاج إليها ،
وقوله: ( ومع أن أهل النظر والعلم ..) هذا عائد إلى قوله ولكثرة الاضطراب لأن كل واحد يرد في قلبه أو على لسانه من الخوض في هذين الأصلين ما هو خلاف الحق أحياناً وما هو الحق أحياناً حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاء الصحابة يشكون إلى الرسول يقولون " أن أحدنا يجد في نفسه ما يحب أن يخر من السماء ولا يتكلم به " حيث يوسوس الشيطان في قلب الإنسان بعض الناس يهديه الله وبعض الناس يضل .
فمن قول المؤلف رحمه الله ( أما بعد ... إلى قوله أنواع الضلالات ) يتضمن مسألتين :
1. السبب في تأليف المؤلف لهذا الكتاب وهو أنه مسألة بعض من يتعين عليه أجابته أن يكتب في باب التوحيد والصفات وفي باب الشرع والقدر .
2. حرص المؤلف على أن يجيب السائلين على هذا وذلك لسببين هما :
أ. مسيس الحاجة إلى بيان هذين الأصلين .
ب. اضطراب الناس في هذين الأصلين أي اختلاف الناس ي هذين الأصلين وهذا الاختلاف منشأه ما يخطر في البال من هذه الشبه .
قول المؤلف :( فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخير الدائر بين النفي والإثبات ):
فالكلام في التوحيد والصفات ليس من الطلب والإرادة بل هو في الحقيقة من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات ,
فالتوحيد أساسه لا إله إلا الله ،
ص6(1/8)
وهي خبر فالله تبارك وتعالى سميع بصير خبير غفور رحيم هذا كله خبر .
كما في قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)]{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }فهذا خبر لا إله إلا الله الأول توحيد والثاني صفات.
فالكلام في باب التوحيد والصفات وهو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات .
قوله تعالى ({ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }هذا أثبات ، وقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى:11 ]، هذا نفي وأيضاً من النفي قوله عز وجل{ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 47 -49] وقوله :(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) وقوله :({ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ }
والآية التي تجمع النفي والإثبات هي قوله سبحانه ({ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
وقوله : والكلام في ( الشرع والقدر ) : هو من باب الطلب والإرادة : الدائر بين الإرادة والمحبة :
والشرع كله أمره أفعل كذا أو لا تفعل كذا ، ويدور بين الإرادة والمحبة هذا قسم وبين الكراهة والبغض .
فعندما يأمرك الله بأمر مثل أقم الصلاة فإنك ستقابل هذا الأمر بإرادة أو كراهة ولا نقابله بتصديق أو تكذيب ، لأنه ليس خبراً بل أمر ، ولكن عندما يقول الله ( قل هو الله أحد ) فإنك أما أن تصدق أن الله أحد واحد أو تكذب لأنه خبر .
فهناك فرق بين التوحيد العلمي الذي يقابل إما بالقبول أو الرفض .
إذاً فباب الشرع غير باب التوحيد والصفات ، فباب التوحيد والصفات الكلام فيه من باب الخبر الذي هو نفي واثبات مقابل بالتصديق أو التكذيب
وباب الشرع من باب الطلب المقابل بالقبول ، والتنفيذ أو بالكراهية والرفض ، فالقرآن كله شرع وقدر وتوحيد وصفات .(1/9)
ثم يقول المؤلف نفياً وإثباتا ، معناه أنه قد تنتفي الكراهة والبغض فتأتي المحبة وقد تنتفي المحبة فيأتي البغض .
وقوله ( والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب وبين الحب والبغض والحض والمنع ) : صحيح أن الإنسان يجد في نفسه الفرق بين هذه الأشياء في باب النفي والإثبات يقابل هذا بالتصديق أو التكذيب فعندما يكون هناك خبراً ، نفياً كان أو أثباتاً تجد نفسك متعلقة بهذا الشيء إما مصدقه أو مكذبة .
ص7
بالنسبة للإنشاء الذي يقول المؤلف فيه الإنشاء أمر ونهي وإباحة فعندما يقول الله سبحانه أفعل كذا فهل يكون بإمكانك تصديق وتكذيب أو حب وبغض فالذي يكون هنا هو حب أو بغض .
إما أن تحب ما أمرك الله فتفعله أو تبغضه فلا تفعل كذلك الحصن والمنع فليس بالنسبة للفاعل الوجه إليه الأمر بالنسبة للآية يحضنا أو يمنعنا إن كان أمراً فهو حصن وأن كان نهياً فهو منع .
جواب السائل عن القدر بمعنى تقدير الله عز وجل لأن تقدير الله شرعة لا يتنافيان ، فلا نقول أن الله إذا أمر بشيء فمعناه أنه جعله بالقدر كلا .
فأنت تفعل المأمور به ولا تقوم بذلك معارضة للقدر وتترك المنهي عنه ولا تقوم بذلك معارضة للقدر ، إنما القدر يتعلق بالفاعل الذي هو الإنسان إرادة من الله تعالى وخلقاً ومع ذلك لا ينافي الشرع .
وقوله : ( حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ) :
ولكن عندنا غير معروف يعني نحن الآن نعتبر لسنا من العامة ولأن الخاصة ، فالمؤلف يقول أن الفرق بين الإنشاء أو بين الطلب والخبر معروف عند العامة والخاصة وهذا صحيح فعندما نقول للطفل الصغير أعطني كذا وكذا فهل يقول تكذب ؟؟ كلا فهو إما أن يقوم يأتيك به أو يقول لا ، ولكن عندما تقول له جاء أبوك فماذا يقول ؟ إما يقول جزاك الله خيرا أو يقول تكذب . إذاً يجد الفرق .(1/10)
فهو في الحقيقة معروف الفرق عند العامة والخاصة ، الفرق بين الأمرين بين الإنشاء وبين الخبر ، معروف عند الناس كلهم ، لكن يبدوا أنكم بعيدو العهد بهذا الشيء إلا وهو كما قال الشيخ رحمه الله : معروف عند العامة والخاصة .
( عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان )
فقد ذكر الفقهاء في كتاب الإيمان ، والإيمان ، جمع يمين ـ الفرق بين الخبر الحصن وبين الإنشاء المحصن وبين ما يراد به الحصن والمنع وما يراد به الخبر المطلق فقد ذكروا هذا وفصلوه ، حتى إنهم قالوا أن الرجل إذا قال لزوجته أن فعلت كذا فأنت طالق يقصد المنع ففعلت لم تطلق ، وأن قصد الخبر وإنها أن فعلت فهي طالق فإنها إذا فعلت تطلق فرقوا بين الحصن والمنع وبين الخبر المجرد .
ص8
(كما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان )
معناه أن العلماء كلهم خاضوا في هذا الباب وتكلموا فيه وبينوا الفرق بين الخبر والإنشاء الذي هو الطلب .
(فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وإنشاء والخبر دائر بين النفي والإثبات والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة )
وهذا واضح كما مر معنا ، وذلك مثل قوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }، فهذا نوع من أنواع الإنشاء وهو الأمر .
وقوله تعالى ( { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا ) ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقّ ) ( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) ، هذا أيضاً إنشاء وهو نهى .
وفي قوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة: 96] وهذا أيضاً إنشاء وهو إباحة فالخلاصة أن الكلام ينقسم إلى نوعين :
1. خبر دائم بين النفي والإثبات .
2. إنشاء دائر بين الأمر والنهي والإباحة .
ويقابل الخبر بالنسبة للمخبر بالتصديق أو التكذيب ، ويقابل الإنشاء بالمحبة والبغض .(1/11)
( وإذا كان كذلك : فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ) :
وهذا في باب الخبر لابد أن يثبت لله ما أشتبه من صفات الكمال وإلا كان مكذبا بالخبر ،
فالذين يقولون أن الله ليس له يد يعتبرون مكذبين بالخبر ، وكذلك الذين يقولون ليس له سمع ولا بصر ، فالواجب للإنسان المؤمن أن يثبت لله ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال ، وعندما قال المؤلف ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ...فقد يسأل سائل هل أثبت الله لنفسه شيئاً من صفات النقص والجواب لا .
إذ أن صفات الكمال بيان بالواقع وليس قيداً إذ جميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه فهي صفات كمال .
ويجب أن ينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد وهذه الحال : فالمقصود بالحال
ص9
هي صفات الكمال ، وضد صفات الكمال صفات النقص وما ليست نقصاً ولا كمالاً أي صفات سلبية .
(ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن من يخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئة ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه : من القول والعمل ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل) :
قلنا أن باب التوحيد والصفات من باب الخبر وواجبنا نحوه هو ما ذكره المؤلف أن نثبت لله ما أثبته من صفات الكمال وأن ننفي عنه ما يضاد هذه الحال وهو ما كان نقصاً أو ما كان سلبياً .
ونأتي الآن إلى النوع الثاني وهو الشرع والقدر :
فقوله لابد في أحكامه من أن يثبت خلفه وأمره ، فخلقه القدر وأمره الشرع .
وقوله :[فيؤمن من يخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئة ]: كل هذا بالنسبة للقدر ,
وقوله :[ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه : من القول والعمل ويؤمن بشرعه ] :هذا بالنسبة للشرع ثم قال أجمالاً :[ ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل ] .(1/12)
والخلاصة : أن الإنسان مخاطب من الله بأمرين هما أخبار وإنشاءات وموقفه من الأخبار هو التصديق واثبات كل ما أثبته الله لنفسه ، وكذلك النفي ينفي عنه ، أي عن الله سبحانه ، ما يضاد ذلك مما نفاه عن نفسه .
بالنسبة للقسم الثاني المخاطب به من الله هو الإنشاء : فالعبد مأمور بان يؤمن بالخلق والأمر ، قال تعالى ( إلا له الخلق والأمر ) فيؤمن بعموم خلق الله ومشيئته وأن الله خالق كل شيء وشاء لكل شيء حتى أعمالنا نحن فهي مخلوقه لله عز وجل وقد شاءها الله .
كذلك يؤمن بالأمر الثاني وهو الشرع المتضمن البيان لما يحبه الله ويرضاه من القول والعمل وهو الذي جاء به الرسول فالإنسان مأمور بالإيمان بهذا وهذا .
(وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل و الأول يتضمن التوحيد في العلم والقول ):
ص10
قول هذا أي الإنشاء ، يتضمن التوحيد ي عبادته : لأن العبادة إرادة وقصد إذا من باب الإنشاء ، ويلاحظ أن المؤلف يكتب الكتاب وفي الغالب لا يرجع إليه ولهذا يكثر فيه الترادف .
والقصد والإرادة معناهما واحد .
وقوله : [ التوحيد في القصد والإرادة والعمل ]:
معناه عندما تصلي توحد الله فالصلاة عبادة ، فتوحيد الله في القصد فلا تقصد بصلاتك إلا الله ، وفي عملك الذي هو الصلاة ما تقصده به إلا الله ، والأول الذي هو الخبر يتضمن التوحيد في العلم والقول .
بأن تعلم بأن الله واحد في أسمائه وواحد في صفاته وواحد في أفعاله وهي الربوبية ، فأنت الآن توحد لا في القصد والطلب ولكنك توحد كما قال المؤلف في العلم والقول ، يعني علمك الآن في قلبك أن الله واحد في صفاته ليس له شريك ،
وكذلك في قوله : [ توحيد الله في القول ] : فليس المراد بقوله توحيد الله في الذكر والعبارة وإنما المقصود بالقول الخبر عن الله بأن توحيد الله تعالى كما وحد نفسه بذلك .(1/13)
[ كما دل على ذلك سورة { قل هو الله أحد } ودل على الآخر سورة : { قل يا أيها الكافرون }]
فسورة [ قل هو الله أحد ] من باب الخبر الذي يطلب منا العلم والقول ، وهو أن نعلم أن الله أحد صمد ونقول ذلك بألسنتنا ، أما سورة الكافرون ، نجد أن الإخلاص فيها هو أخلاص القصد والإرادة [ لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد ] فأنت أخلصت لله تبارك وتعالى فيمن تعبده ولا تعبد إلا الله ولا تعبد الأصنام .
[وهما سورتا الإخلاص وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك ]
أيضاً كان يقرأ بهما في الوتر في الركعة الثانية والثالثة وفي الركعة الأولى يقرأ بسبح أسم ربك الأعلى ، فكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في ابتداء العمل كما في الوتر ، ويقرأ بهما في ركعتي الطواف ، لأن الحج يطلب فيه الإخلاص ،
ص11
خلافاً لقريش الذين يلبون ويقولون لبيك لا شريك إلا شريك هو لك تملكه وما ملكت .
الخلاصة :
أن الكلام إما خبر وإما إنشاء ، فالخبر دائر بين النفي والإثبات مقابل بالتصديق أو التكذيب ، والإنشاء دائر بين الأمر والنهي والإباحة مقابل بالإرادة والمحبة أو الكراهة والبغض .
يعني أن المأمور أو المنهي إما أن يقبل ويحب ويريد ويعمل أو يرفض العمل ، ولا يوجد هنا تصديق أو تكذيب .
الكلام في الشرع والقدر هو من باب الإنشاء الذي هو دائر بين الإرادة والمحبة ، تريد فتحب فتعمل بشرع الله ، أو تكره وتبغض فلا تعمل .
لكن توحيد الله وصفاته من باب الخبر ولهذا تجد الناس فيه أما مصدق أو مكذب .(1/14)
فسورة قل هو الله أحد تضمنت الخبر ، وسورة قل يا أيها الكافرون تضمنت الإنشاء لأنها عبادة وإخلاص وقصد فقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) يعني أنما أعبد الله (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد )يعني وإنما تعبدون الأصنام ( َلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُم ) يعني لا أعبد عبادتكم وإنما أعبد عبادة شرعها الله ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) كذلك ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين )
هذه البراءة الكاملة القدر بالنسبة لفعل الله من باب الخبر لأنه فعله ، لكن بالنسبة لفعل العبد من باب الطلب لأنك مأمور في العقيدة أن الله تعالى خلفه شامل لكل شيء ومشيئة شاملة لكل شيء .
[ فأما الأول وهو ( التوحيد في الصفات ) فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله : نفيا وإثباتا فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه ]
المقصود بالباب باب التوحيد والصفات وهو أن يوصف الله بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسله نفياً وإثباتا .
فمثال النفي ( ليس كمثله شيء ) ومثال الإثبات ( وهو السميع البصير ) فهذه الآية الكريمة جمعت بين النوعين ، النفي والإثبات لكن فعلاً أن النفي الموجود في صفات الله تضمن أثباتاً ليس نفياً محضاً ولكن هو نفي لا ثبات ضده .
لأنه لا يحصل الكمال إلا بذلك ، وليس النفي الموجود
ص12
في صفات الله تعالى نفياً محضاً .
مثلاً نأخذ صفة من الصفات قوله تعالى ( { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }فهذه الصفة نفي فهل نقول أن الله أن المراد أن الله تعالى مقتصر بانتفاء الظلم عنه إنتفاءاً مجرد فقط أو نقول أن المراد بذلك أثبات كمال عدله ، وأنه سبحانه لكمال عدله لا يظلم ؟
فنقول أن المراد بذلك أثبات كمال عدله وأنه لكمال عدله لا يظلم(1/15)
فنقول أنه لا يظلم ليس معناه أنه فقط لا يظلم أحداً وإنما نقول أنه سبحانه وتعالى عدله لا يظلم لأن المنفي المجرد قد يكون سببه النقص والعجز وقد يكون سببه عدم القابلية وقد يكون سببه الكمال .
فعندما نقول لرجل ضعيف زين هذا الرجل لا يظلم أحداً ، فهل يعتبر هذا مدحاً ؟ لا لأنه ضعيف وعاجز عن الظلم .
لهذا يقولون أن قول الشاعر :
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
وفي قول الشاعر :
لكن قوى وأن كانوا ذوي حسب ليسو من الشر في شيء وأن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء أحسانا
فعندما نقرأ هذه الأبيات نقول هذه صفات لأنهم يجزون من أهل الظلم مغفرة وأهل السوء أحسانا لكن هذه في الحقيقة تعتبر صفات نقص لأنهم عاجزون عن ذلك .
ولهذا قال الشاعر :
فليس له بهم قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
إذاً هذا لا يريدهم لأنهم قوم عاجزون ولا يقدرون يغدرون ولا يقدرون يظلمون ولا يأخذون بحقهم .
إذا قلت ولا يظلم ربك أحدا ، وجعلته نفياً مطلقاً فقط فإنه يكون غير متضمن لكمال فلم يكن مدحاً .
مثل : هناك شخص يقول أنا عندي جدار يستند إليه الناس يلقون عليه ظهورهم ولا يظلمهم فهل يكون هذا مدحاً للجدار أنه لا يظلم أحد ؟ كلا لا يكون مدحا للجدار لأنه غير قادر على أن يظلم ، فنفي الظلم عنه
ص13
هنا لعدم القادر به ، ونفي الظلم في قول الشعار السابق ولا يظلمون الناس حبة خردل المقصود به للعجز .
ونفي الظلم عن الله جل وعلا ر عجزاً ولا عدم قادرية لأنه سبحانه قادر على الظلم لكنه سبحانه وتعالى لكمال عدله منع الظلم عن نفسه كما في الحديث ( يا عبادي أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... الحديث )(1/16)
وقول المؤلف : إنهم ينفون ما نفاه عن نفسه : ويجب أن نقول ما نفاه الله عن نفسه فإنه متضمن للإثبات النفي الذي في صفات الله متضمن للإثبات وليس نفياً محضاً لأن النفي المحض ليس مدحاً لأن للنفي أسباب فلا يكون مدحاً إلا إذا كان سببه الكمال ، فالآيات ( ولا يظلم ربك أحدا ) لكمال عدله وقوله ( وما ربك بغافل عما يعملون ) لكمال علمه وأحاطته ومراقبته وقوله ( ولقد خلقنا السماء والأرض في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) ولذلك لكمال قوته سبحانه فدل هذا على أن النفي المحض ليس كمالاً حتى يكون متضمناً للإثبات .
والله أعلم ............أنتهي الشريط الأول .
ص14
الشريط الثاني
بداية الشريط الثاني
قال المؤلف : [وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأتمها إثبات ما أثبته من الصفات من غير بكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل]
قال المؤلف سلف الأمة وأئمتها ولم يقل سلف الأمة وخلفها لأن الخلف انحرفوا عن الصواب في باب الأسماء والصفات ، لكن الأئمة من السلف والخلف كلهم على النهج الصواب في هذا الباب ، وسلف الأمة مطلقاً الذين هم الصحابة والتابعين بل القرون المفضلة الثلاثة كلهم على الصواب في هذا الباب .
وطريقتهم أثبات ما أثبته الله من الصفات من غير تكييف والتكييف أن يذكر كيفية الصفة مثل أن يقول القائل كيفية استواء الله على العرش كذا وكذا وهذا لا يجوز لأنك لا تحبط بذلك علماً وقد قال تعالى ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) والتمثيل ذكر كيفية الصفة لكن مقيدة بمماثل مثل أن تقول كيفية يد الله مثل كذا وكذا ، وهذا حرام أيضاً لأن الله نفاه بقوله سبحانه ( { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى:11 ]وقوله { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65] ، أي مشابهاً .
وكل ممثل مكيف وليس كل مكيف ممثل لأن الممثل يقول يد الله مثل كذا وكذا ومعنى ذلك أنه ذكر لها كيفية مثل من شبه به .(1/17)
وعلى هذا يكون التمثيل أخف لأن ما جاز أن يخبر به فهو أعم ، فالخبر دائماً يكون أعم من المبتدأ فنقول كل ممثل مكيف وليس كل مكيف ممثل .
والقاعدة أن ما صح أن يخبر به فهو وما أمتنع أن يخبر به فهو أخف ، فنقول مثلاً الإنسان ذو روح فهذا صحيح فكل إنسان فهو ذو روح وكل ذي روح فهو إنسان فهذا غير صحيح .
فالإنسان أخف لأنك تخبر بذي الروح عن الإنسان ولا تخبر بالإنسان عن ذي الروح ، فإذا أقتنع أن تخبر بشيء عن شيء دل على أنه أخف إذا فالتمثيل أخف لأنه يصح بأن يخبر بالتكييف عنه ولا يصح العكس ، وهنا يجب أن نفرق بين التكييف والكيف ، فلا يصح أن نقول نثبت صفات الله من غير تكيف لأن صفات الله لها كيفيه لكن مجهولة .
ولهذا قال
ص15
الإمام في جوابه على المبتدع الكيف مجهول فلم يقل لا كيفية لها . فالصفات إذاً لها كيفية لكن مجهولة فلا نستطيع أن نعلمها ولا نحيط بها علماً .
إذاً من غير تكييف كلام حق حيث أننا نحن لا نكيف وأن كنا نؤمن بأن لها كيفية .
قوله من غير تحريف ولا تعطيل ، التحريف يتعلق بالنصوص ، والتعطيل يتعلق بالصفات ، فالتحريف هو تغير النصوص من الكتاب والسنة ويكون باللفظ تارة وبالمعنى تارة أخرى ، فالذي قرأ من المبتدعة قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )
فهو يقول أن الله لا يتكلم وإنما المتكلم موسى ، فهذا تحريف لفظي تبعه تحريف المعنى ، وفيه تحريف معنوي وهو إبقاء اللفظ بحاله وصرف معناه عن المراد به مثل أن يقرأ قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [الفرقان: 59] ويقول معنى استوي استولى فهو تحريف المعنى دون اللفظ .
فأهل السنة والجماعة اعتقادهم منزه عن التحريف باللفظ والمعنى .
أما التعطيل فهو يتعلق بالصفات والتعطيل معناه التخلية ، ومنها قوله تعالى {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ الحج: 45 ] .(1/18)
يعني مخلاه متروكة ، والمراد بالتعطيل تعطيل ما يحبه الله تعالى من الأسماء والصفات أي يخلي الله منها ولا يوصف بها ، فلا يوصف مثلاً بالاستواء ولا بالنزول ولا بالوجه ولا باليد ، ومثل ذلك .
والتعطيل شرعاً هو تخليه الله سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته وأهل السنة والجماعة اعتقادهم منزه عن التعطيل ,
[وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات ] :
فكل ما نفاه الله عن نفسه ينفونه عنه ولا يثبتونه ، فإذا نفى عن نفسه الظلم فلا يمكن أن يكون الله ظالماً ، وإذا نفي عن نفسه الغفلة فلا يمكن أن يكون أو نقول أن الله غافل .
وإذا نفى الله عن نفسه أنه ليس كمثله شيء لا يمكن أن يكون له مثل ، ومع أثبات ما أثبته من الصفات ، فهو فهو تكرير من شيخ الإسلام ابن تيمية للمسائل المهمة لتثبت المعنى ، ولا نقوله مع أثبات ما أثبته من الصفات هو مثل ما سبق أثبات ما أثبته من الصفات .
والصفات منها الأسماء فالأسماء كل أسم فهو متضمن للصفات من أسماء الله فأسماء الله دائماً تتضمن الصفات ، ولا يظن أن الصفات مجرد الصفات الخبرية فقط .
ص16
[ من غير إلحاد : لا في أسمائه ولا في آياته ]
فكلمة ألحاد مصدر لفعل ألحد ومعنى ألحد ولحد أي مال ومنه اللحد للقبر لأنه مائل عن وسطه ، وبين المؤلف أن الإلحاد يكون في أمرين في الأسماء وفي الآيات .
فالإلحاد في الأسماء هو الميل بها عن ما يجب وقد قسموه إلى أقسام لا حاجة لنا به الآن ، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى بدائع الفوائد لأبن القيم رحمه الله .
والذي يجب في أسماء الله تعالى أثبات الاسم واثبات الصفة التي دل عليها واثبات الأثر وأن لا يسمي الله بغير ما سماه نفسه ، كل هذا يجب في أسماء الله عز وجل أما الإلحاد في آيات الله فإن الآيات تقسم إلى نوعين آيات شرعية وآيات كونية ، فالآيات جمع آية وهي لغة العلامة وشرعاً كل ما يدل على ذات الله وأسمائه وصفاته فو آية .(1/19)
فالآيات الشرعية ما جاءت به الرسل والآيات الكونية هي المخلوقات ، فكل المخلوقات آيات كونية تدل على وجود الخالق وعلمه وحكته سبحانه.
قال تعالى { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37].
ومعنى آية أنها تعجز البشر وكل المخلوقات { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]،
وفي الآيات الشرعية ( { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88] ،
إذا تبين وجه الآية أنها علامة فارقه بين أن يخلق ومن لا يخلق ، إذا الآيات الكونية هي المخلوقات لأنها علامة على الخالق ولا حاجة للتفصيل لأن الذين يسمعون بالتشريع في الأجسام الحية يكون عندهم من العلم بهذا أكثر بما عندي أنا ، وكذلك الذين يقرأون في الفلك وفي الأرض وغيرها يمكن أن يعرفوا عن هذه الآيات أكثر مما نعرف .(1/20)
أما الآيات الشرعية فلا أحد يستطيع أن يأتي بمثل آيات الله الشرعية ، الكلام من جهة النظم ومن جهة الأسلوب ومن جهة التأثير ومن جهة التشغيل والتنظيم للخلق الذي تقوم به المصالح لا أحد يستطيع أن يأتي بمثله أبداً ، فعلى هذا نقول الآيات الكونية والشرعية كيف يكون الإلحاد فيها ؟؟
ص17
فالإجابة على هذا هو أنه يكون الإلحاد في الآيات الشرعية بالتكذيب مثل ما فعل المشركون حيث كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما بالتحريف يؤمن بها ولكن يحرفها لأن التحريف ميل ، فهو إلحاد كما فعل توم موس وكما فعل المثبتة من هذه الأمة من الجهمية وغيرهم وإما بالمخالفة والعصيان ، وعلى هذا يكون كل عاص ملحد خلاف ما نفهم في غرفنا أن الملحد هو الكافر المطلق ، لكن حقيقة الأمر أن الإلحاد قد يكون بالمعاصي ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
إذاً الإلحاد في الآيات الشرعية يكون لواحد من أمور ثلاثة :
1. بالتكذيب أو 2. بالتحريف أو 3. المخالفة والعصيان .
والمخالفة تكون إما بفعل المحضور أو ترك المأمور .
وعلى هذا فالفاسق ملحدون لأنهم مائلون عن ما يجب عليهم في هذه الآيات الشرعية ، أما الإلحاد في الآيات الكونية فيكون بأمور :
1. إنكار أن الله هو الخالق مثل ما يوجد من بعض الملاحدة يقولون بأن الطبيعة هي التي تتفاعل وتكون هذه الأشياء وليس لها خالق .
2. إضافتها إلى غير الله .
3. اعتقاد أن الله تعالى بها شريكاً أو معيناً ، فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسمائه سبحانه ولا في آياته ، فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأعراف (180) }(1/21)
فالحسنى معناها البالغة في الحسن غايتها ، لأن الحسنى مؤنث أحسن ، وأحسن أسم تفضيل وهنا أسم تفضيل مطلق ، فلا نقول أحسن من كذا فمعنى أنها بالغة في الحسن غايته لأنها تدل على أشرف الأسماء وهو الله .
وتدل على أكمل المعاني وهو ما تضمنته من الصفات ولذلك كانت الحسنى ، وعندما نقول الرحمن هذه الكلمة دلت على ذات الله المسمى بها ودلت على صفة الرحمة الواسعة العظمية وأنها رحمة يرحم بها لأنه إذا كان له رحمه من دون أن يرحم لا يكون لها فائدة .
ولهذا قال أسماء الله : حسنى لأنها تضمنت الدلالة على أشرف مسمى وأعظمه ولأنها تضمن من الصفات أعلاها وأكملها ، فهي دالة على الذات وعلى الصفات .
لكن أسماء غيره ليست كذلك فيمكن أسمى شخص عبد الله وهو من أكبر الناس استكبارا ليس عبد لله ولا يعرف الله ومع ذلك أسمه عبد الله ، ويمكن أن أسمى شخص محمد أي يحمد الله حمداً كثيراً وهو ليس عنده من الصفات التي يحمد عليها أي شيء لكن في صفات الله ممتنع هذا فأسماء الله متضمنة للصفات التي دلت عليها .
ص18
الحاصل أننا قلنا الحسنى لأنها بلغت في الحسن غايته ووجه ذلك أنها دالت على أشرف مسمى وعلى أكمل صفة ولذلك كانت الحسنى .
ومثال متابعاً لهذا الخبر { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } قال متابعاً له والفاء هنا لتفريغ (َفادْعُوهُ بِهَا ) دعاء مسألة ودعاء عبارة ، الدعاء هنا يتضمن الاثنين دعاء عبادة ودعاء مسألة فنختار من أسمائه ما يناسب المدعو به فلا نأتي بشيء لا يتناسب مثل أن يقول يا شديد العقاب أغفرلي ، وإنما يقول يا غفور أغفرلي .
دعاء العبادة فعندما تعلم أن من أسماء الله الرحمن فإنك تفعل ما يكون سبباً للرحمة كالقيام بما أوجبه عليك عند ما تعرف أن الله رحيم تتعرض لرحمته ومن أسباب الرحمة طاعة الله ( { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية[الأعراف: 156، ](1/22)
فدعاء العبادة معناه أنك تتعبد الله تقتضيه هذه الأسماء فإن كنت مؤمناً بان لله رحمان فمعنى ذلك أنك تتعرض لرحمته بفعل طاعته ، وعندما تعلم أنه شديد العقاب فإنك تتجنب ما يكون سبباً لعقابه لأنك تعلم أنه شديد العقاب ، وعندما تعرف أنه غفور تتعرض لأسباب المغفرة بالاستغفار وفعل الطاعات المكفرة للسيئات ...ألخ .
إذا دعاء الله بأسمائه الحسنى يتضمن دعاء المسألة ودعاء العبادة ، فدعاء المسألة معناه أن تجعلها وسيلة لما تدعوه بها ولما تسأله مثل عند سؤالك المغفرة نقول يا غفور أغفرلي ، ودعاء العبادة أن تتعبد الله بما تقتضيه هذه الأسماء فالغفور يقتضي المغفرة ، إذا تفعل أسباب المغفرة ومن أساب المغفرة مثلاً ، حج مبرور ، يصلي ركعتين لا يحدث بهما نفسه ، يسبح الله ويحمده ثلاثا وثلاثين مرة ، دبر كل صلاة ويختمها بلا إله إلا الله ....ألخ ، الحاصل أن هذا هو معنى فأدعوه بها .
قال تعالى : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) }
هذه الآية تضمنت أمراً وحكماً ، الأمر :
ذروا الذين يلحدون في أسمائه . والحكم : سيجزون ما كانوا يعملون.
وهذا تهديد بالغ ، ولاحظ أنه قال سيجزون ، ذكر أهل المعاني أنها تفيد معنيين التحقيق والتقريب ، إذا قال قائل سأفعل كذا معناه أنه أكد هذا الفعل وقربه بالسين .
ص19
سيجزون إذاً عقوبتهم قريبة ، وإن لم تحصل إلا بعد الموت حتى ولو تأخرت إلى بعد الموت فهي قريبة ، ( إنما توعدون لآت ... ) الآية ، فما قال فهو قريب .
فالحاصل نقول ( سيجزون ) هذا الحكم وهو مفيد للتهديد البالغ ، والسين تفيد التحقيق والتقريب .
يقول المؤلف ( قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} الآية(1/23)
فالذين يلحدون في آيات الله يلقون في النار ، والذين لا يلحدون يأتون يوم القيامة أمنين .
قال تعالى : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم ) لأنه بعد هذا البيان أعملوا ما شئتم أمر للتهديد وليس للإباحة لأن الإنسان ليس مباحاً له أن يفعل ما يشاء ولكنه بعد ما بين قال أعمل ما شئت ، مثل ما تقول للطفل أنت إذا فعلت كذا عاقبتك ، وإذا فعلت كذا أعطيتك كذا ثم تقول له بعد ذلك أعمل ما تريد كأنك تتوعده إذا خالف أمرك .
قال المؤلف ( فطريقهم تتضمن أثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات : أثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل )
قوله أثبات بلا تشبيه يعني سنثبت مثلاً لله وحيها ،، لكن لا يشبه أي مخلوق .
وقوله تنزيه بلا تعطيل يعني تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به .لكنهم لا يعطلون ما وصف به نفسه ، خلافاً للذين يثبتون مع التشبيه وهم المشبهة ، والذين ينزهون مع التعطيل وهم المعطلة .
مثل المعطل يقول : الله ليس له يد ولا وجه وغير ذلك ويقول لأننا ننزه الله عن هذه الأشياء ، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون نحن ننزه الله عن النقائص والعيوب ، لكننا لا نعطل أسماء الله وصفاته كما قال تعالى ( { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى:11 ].
ففي قوله ليس كمثله شيء رد للتشبيه والتمثيل ، وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) رد للأحاد والتعطيل .
إذاً الآية تضمنت الرد على طائفتين من المثبتة وهم المشبهة في قوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ).
والثاني المعطلة في قوله ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
قال المؤلف رحمه الله مبيناً قاعدة مهمة جداً [ والله سبحانه : بعث رسله ( بإثبات مفصل ونفي مجمل )
( بعث رسله ) يعني أرسلهم [ بإثبات مفصل ] والتفصيل ضد الإجمال يعني مبين ، وكذلك متعدد الصفات / ( ومنفي مجمل ) أي غير مفصل .(1/24)
فقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) هذا مجمل فلم يقل ليس كمثله شيء في العمى والصم وفي العجز والضعف وغير ذلك ، ولكنه أجمل في كل شيء ، أنه ليس كمثله شيء ، وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) هذا مفصل لأنه لو كان مجملاً لقال وهو الكامل ولو قال وهو الكامل لصار هذا مجملاً ، لكنه عندما قال وهو السميع البصير صار ذلك مفصلاً حيث الكنه محدود ، والتفصيل أيضاً له معنى محدد ما يتعدى غيره ,
أيضاً لاحظ ما أكثر ما في القرآن من أسماء الله وصفاته المثبتة والمفصلة ، لكن عند النفي لا تجده ينفي شيء معين إلا ما وصف به من أعداءه فينفيه بأخبارهم.
وكمثال على المثبت المفصل أقرأ سورة الحشر ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) الآيات .
فهذه الآيات مفصله لكن تجد النفي مجمل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] .( { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65].
فهذه آيات مجملة غير مفصلة إلا شيئاً وصف به من العيوب فإنه يذكره بعينه مثل ( { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ) فهذا مفصل لأنه وصف به من المشركين فأراد الله تعالى إبطاله .
أما ما يمتنع به نفسه فإنه لا يأتي مفصلاً وإنما يأتي مجملاً ، كذلك يأتي التفصيل إذا كان المقصود به أثبات كمال صفة المدح مثل ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) } .
حيث لا يخاف من الله ظلماً ولا هضما ، فهذا يحتاج إلى نفي الظلم لإثبات كمال العدل .
س1: كيف نستطيع أن نمثل للإثبات المفصل ؟؟
ج1: المثال هو آخر سورة الحشر لأنها أكثر ما جمعت من الأسماء .
س2: كيف نستطيع أن نمثل للنفي المجمل ؟
ج2: المثال قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) .
أنتهى الوجه الأول من الشريط الثاني ....
*****************(1/25)
قال المؤلف : ( فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا }.
من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] .
قال أهل اللغة : هل تعلم له سميا أي نظيراً يستحق مثل أسمه ، ويقال مسامياً يساميه ، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس ( هل تعلم له سميا ) مثيلاً وشبيهاً .
قوله :فأثبتوا لله الصفات يحتمل المراد بذلك يعود إلى سلف الأمة وأئمتها أو يعود على الرسل لأنه قال سابقاً ( بعث رسله ) يعني أثبت الرسل لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل ، وقوله ( هل تعلم له سميا ) يعتبر مجمل .
[ وقال تعالى { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد }، فهذا فيه مجمل وفيه مفصل ، فالمجمل قوله تعالى (ولم يكن له كفوا أحد ) والمفصل قوله تعالى (لم يلد ولم يولد ) وقد يسأل سائل لماذا عين هنا ؟ فنقول لأنه وصف بإن ولد وهم النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله وكذلك اليهود قالوا عزير ابن الله ، وكذلك المشركون قالوا الملائكة بنات الله .
فبذلك يكون قد وصفه من عبادة من تعدى حدوده بأن له ولد فرد عليهم سبحانه وتعالى بقوله لم يلد ولم يولد ، وأتى بلم يولد لتمام المقابلة لأنه قد يقال لم يلد لكن هل ولد هو ؟
وقد يكون هذا رداً على الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد أنسب لنا ربك ، فقال ولم يولد أي ليس له قبيلة ينتسب إليها سبحانه وتعالى لأنه الخالق .
وقوله تعالى ( لم يكن له كفواً أحد ) هذا مجمل .(1/26)
[وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ] الأنداد جمع ند وهو النظير ومعنى وأنتم تعلمون أي تعلمون أنه لاند له لأن من يخالف معلومة أقبح ممن يقول عن جهل فأنتم كيف تجعلون لله أنداداً في العبادة وأنتم تعلمون أن الله تعالى لاند له لأنك لو سألتهم من خلق السموات والأرض لقالوا الله .
[ وقال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه ] ، ومن الناس وتسمى من للتبعيض ، الأنداد هنا للمحبة ومن أحب شيئاً طاعة ، إذاً هم مكبون هذه الأنداد ويطيعونها لأنهم يعبدونها لكن يقول تعالى ( َالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه ) فالمؤمنون أشد حباً لله من هؤلاء لله ، لأن هؤلاء يحبون الله لكن يحبون الأصنام أيضاً لحب الله إذاً فمحبة الله عندهم مشروكه ، أما المؤمنون فمحبتهم خالصة لله غير مشروكة ، وقيل أن المعنى للآية أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء الأنداد وهم لأنهم يحبون الله عن رهبة ورغبة وهؤلاء يحبون أندادهم عن رغبة ورهبة .
[وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }
فالشركاء هم الجن ولهذا الجن تعتبر عطف بيان لشركاء لأنها بينت هؤلاء الشركاء ، وخلقهم الجملة هذه الآية حالية على تقدير قد أي وقد خلقهم أي الجن فإذا كان الجن مخلوقين فكيف يصبح أن يكونوا شركاء لله ، وقوله (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) خرقوا معطوف على جعلوا يعني وكذلك أيضاً خرقوا لله بنين وبنات بغير علم ، وخرقوا مثل خلقوا بل هي أشد والمعنى اختلفوا وقالوا كذباً ، فكلمة خرق أشد من كلمة خلق حتى على اللسان فاللام خفيفة في خلق ولكن الراء شديدة في خرق .(1/27)
إذا فخرق أعظم لأن هذا الاختلاق من أعظم الأختلاقات ولهذا قال وخرقوا له أي اختلقوا له لأن هذا الاختلاق من أعظم الأختلاقات ولهذا قال وخرقوا له أي اختلقوا له والذين اختلقوا البنين والبنات هم اليهود والنصارى{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه ) والذين اختلقوا البنات هم المشركون ( قالوا الملائكة بنات الله )
وقوله بغير علم ، بل العلم خلاف ما اختلقوا سبحانه وتعالى عما يصفون ، ومعنى سبحانه تنزيه الله تعالى عما يصفونه من الشريك ، ومن اتخاذ الولد ثم أبطل الله سبحانه وتعالى هذه الدعاوى الكاذبة قال بديع السموات والأرض ومعنى بديع أي مبدع ومعنى مبدع أي الخالق على غير مثال سابق ، لأن الأرض البديعة هي التي ليس لها مثال سابق .
فالله خلق السموات والأرض على غير مثال سابق كما قال المفسرون أي لم يسبق لها نظير ،
وقوله ( أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبه فكيف يكون له ولد وليست له صاحبه والصاحبة الزوجة لأن الولد لا يتكون إلا بين الزوجين أو من الأنثى فقط مثل ما حصل من ابن مريم مع أن عيسى عليه السلام ما حصل إلا بعد نفخ الروح في مريم عليها السلام .
وقوله ( وخلق كل شيء )هذا دليل آخر أيضاً على امتناع أن يكون له ولد لأنه خالق كل شيء ومن جملة ما خلق من زعموهم أبناء وبنات لله فكيف يكون المخلوق أبناً للخالق .
وهو بكل شيء عليم أي وعلمه بكل شيء مع نفى أن يكون له ولد يدل على أمنتاع الولد وإلا لواقع الخبر على خلاف المعلوم وهذا شيء مستحيل .
المهم والشاهد أن الله تعالى ذكر هذه الأشياء وأبطلها فليس له شريك لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في حقوقه وليس له ابن ولا صاحبه .
[ وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك }] .(1/28)
الفرقان هو القرآن ووصف بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وعبده هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ( ليكون ) الضمير يعود على الرسول لأنه أقرب وقد قيل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ( نذيراً ) أي منذر .
وقوله ( الذي له ملك السماوات والأرض ) هو صفه للذي نزل الفرقان ، وهذا أبدال ( ولم يتخذ ولدا ) هذا نفي عام مفصل لأنه الإبطال من وصفه به .
( ولم يكن له شريك في الملك ) هذا نفي عام لا أحد يشركه في الملك ولا في العبادة ولا في الخلق ولا في الرزق ولا في حياء ولا ي الإماتة .
[ { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) }
إلى قوله ( { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ ) الاستفهام هنا للإنكار والتوضيح ( َلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) هذا حكم جائز ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ) فالجواب لا !!(1/29)
[ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ ] ولد فعل ماضي والله فاعل ، أي أتخذ ولداً ، [ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ] أصطفى أصله أأصطفى فالهمزة هنا للاستفهام وهمزة الفعل سقطت لالتقاء ساكنين لأن الصاد ساكنه وهمزه الوصل ساكنه فلذلك سقطت الهمزة ، فالهمزة في قوله أصطفى لا نقول الهمزة هذه من الفعل ولكن الهمزة للاستفهام
(أَصْطَفَى الْبَنَاتِ ] أي أختار البنات على البنين والجواب لا .
(مَا لَكُم ) جملة مستقلة ولهذا ينبغي الوقوف عليها ، ومعناها أي شيء لكم بهذا الحكم الجائز ، ( كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) لو تذكرتم لعلمتم أن الله سبحانه وتعالى لم يتخذ ولداً ولعلمتم أن من القسمة الضيزى الجائرة أن تجعلوا لله البنات ولكم البنين ( أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) سلطان بمعنى حجة ,
مبين بمعنى بين موضح ، ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ) الأمر هنا للأعداد والتحدي ، فإن كان لكم سلطان وحجة فأتوا بكتابكم ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون ) الجنة هم الجن وقيل المراد بالجنة هنا الملائكة وأنهم سموا جناً بالمعنى الأعم ولكن هذا القول ضعيف فألفاظ القرآن كلها تدل على خلاف ذلك .
ولعل أحد من العرب أو المشركين يعتقدون أن بين الجن وبين الله تعالى نسباً يعني قرابة ولكن الله عقب ذلك بقوله (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون ) .
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) تنزيه الله عما يصفون به من اتخاذ الولد والنسب الذي بينه وبين الجنة وغير ذلك مما وصف الله به .(1/30)
(إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الاستثناء هنا يبدوا أنه منقطع يعني لكن عباد الله المخلصين لم يصفوه بمثل ما وصفه به هؤلاء إلى قوله ( { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
[ فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع الخلوقات ]
والخلاصة : المؤلف رحمه الله أتى بهذه الآيات العديدة لإثبات ما أبطله وهو النفي المجمل والإثبات المفصل .
فقد بين عقيدة سلف الأمة وأئمتها وهم أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ويثبتون ما أثبت لنفسه من الصفات أثباتاً بلا تشبيه وتنزيهاً بلا تعطيل هذه قاعدة .
القاعدة الثانية / الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل ليس فيه تفصيل ، إلا أني قلت لكم أن النفي قد يفصل فيه إذا كان رداً لوصف وصف به أو مثل له مقابله أو بيان الكمال .
[ وأما ( الإثبات المفصل ) : فانه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية بكمالها ]
وتسمى هذه الآية آية الكرسي من قرآها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح وهي أعظم آيه في كتاب الله .
والآية هي ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) فقوله تعالى ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) هذا مفصل ولكن قد جاء بالنفي المفصل لبيان كمال الإثبات هنا ، (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) أثبات كمال حياته وقيوميته لكمال حياته لا ينام ولكمال قيوميته على عباده لا ينام لأنه سبحانه لو نام من يتصرف في الخلق وهو نائم تعالى عن ذلك علواً كبيرا(1/31)
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْض ) هذا عموم الملك ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه ) هذه الصفة فيها أثبات كمال السلطان ومعناها أنه حتى الذين يشفعون لا يمكن أن يشفعون عند الله إلا بعد أذنه .
ونضرب مثلاً لملوك الدنيا ولله المثل الأعلى فكلما كان الملك أشد احتراما وعظمة عند الناس ما تجد أحد يتكلم عنده بشيء أبداً . يعني إذا جئت للعظماء تجد لو كان المجلس مملوء بالناس ما يتكلمون إلا بعد الاستئذان منه ، لكن الذين ليس عندهم قوة شخصية وقوة سلطان فلا يبالون الناس بهم ، فكلما عظم السلطان عظمت الهيبة وكلما عظمت الهيبة أمتنع التصرف إلا بعد الأذن ، فلله تعالى سلطان لا أحد يشفع حتى الشفاعة من غيره لا يشفع إلا من بعد أذنه .
وملوك الدنيا مهما عظمت منزلتهم فإن أقاربهم وأصدقائهم يستطيعون أن يشفعوا عندهم وإن لم يأذنوا ، ولهذا مثلا يأتي صديق السلطان فيقول نريد أن يشفع لفلان مثلاً ولو لم يأذن السلطان ، والله تعالى لكمال سلطانه لا أحد يشفع عنده إلا بعد أذنه .
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) فيها أثبات العلم ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) فيها أيضاً أثبات العظمة بحيث لا يستطيع أحد أن يحيط بشيء من علم الله غلا بما شاء ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) وهي تدل على عظيم صفته تبارك وتعالى وعظيم الصفة يدل على عظم الصفات (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ) أي لا يثقل الله حفظ السموات والأرض لكمال علمه وقدرته فهو عالم قادر ولهذا يحفظ السموات والأرض بدون كلفه ومشقه ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم ) أثبات العلو والعظمة لله تبارك وتعالى .
المهم : هذه الآية تضمنت على أثبات مفصل وعلى نفي مجمل أو مفصل حسب ما يقتضيه المقام .(1/32)
[ وقوله : ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ] الصمد هذا أثبات ، لم يلد ولم يولد هذا نفي .
[ وقوله : { وهو العليم الحكيم }{ وهو العليم القدير } { وهو السميع البصير } { وهو العزيز الحكيم } { وهو الغفور الرحيم } { وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد } { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم * هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }
قوله : وهو العليم الحكيم ، فيه أثبات العلم وإثبات الحكمة ، والحكمة مشروعة من حكم وأحكم ، فالحكم غير الإحكام ، فالإحكام إتقان الشيء ، ووصفه محله وهي الحكمة وأما الحكم فهو التصرف والله له الحكم المطلق في السموات والأرض الحكم الكوني والشرعي وله الحكمة البالغة .
وقوله تعالى ({ وهو العليم القدير }أثبات العلم والقدرة ({ وهو السميع البصير } أثبات السمع والبصر ، { وهو العزيز الحكيم } أثبات العزة والحكمة ،{ وهو الغفور الرحيم } أثبات المغفرة والرحمة ، { وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد }المجيد لها قراءة بالرفع ولها قراءة بالجر فإن قلنا ( ذو العرش المجيد ) فهي صفة لله وإذا قلنا ( ذو العرش المجيد ) فهي صفة للعرش وقوله { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء )
وقوله (* هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }(1/33)
فالله يعلم ما يلج في الأرض أي ما يدخل فيها مثل الأموات وجذور النبات والمياه التي تنزل في الأرض كل هذا يلج في الأرض (وما يخرج منها ) أي من الأرض مثل النباتات وبنو آدم ( وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) أي ما ينزل من السماء من مطر والوحي والأمر (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ) وما يعرج فيها أن عرج يعرج تعرج الملائكة والروح إليه المعروف أن عرج تتعدى بإلى فيقال عرجت إلى كذا ، وهنا قال ( وما يعرج فيها ) فما هو المخرج من هذا ؟؟
لعلماء النحو في ذلك رأيان :
إذا عدى الفعل بحرف لا يعدي به فقال بعض النحويين تجعل الفهل مضمناً المعنى يتناسب مع الحرف ، وبعضهم يقول العكس ضمن الحرف حرفاً يناسب الفعل ، هنا ( وما يعرج فيها ) على الرأي الأول يضمن يعرج معنى يدخل أي وما يدخل فيها لكن كلما كانت السماء عالية قبل يعرج وعلى الرأي الثاني تجعل في بمعنى إلى فتحول الحرف إلى حرف يناسب الفعل .
مثال آخر قوله تعالى ( عينا يشرب بها عباد الله ) يشرب بها فالعين يشرب فيها فبعض العلماء يقول البا هنا بمعنى من وتكون يشرب منها عباد الله ، وبعضهم يقول الباب معناها الحقيقي لكن يشرب بمعنى يروي فيحول معنى الفعل إلى ما يناسب معنى الحرف .
وقوله ( { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } هذه صفة ثبوتيه حيث فيها أثبات المعية هذه المعية يجب أن نعرف أنها لا تقتضي ولا تستلزم أن يكون معنا في المكان لأن البعض المبتدعة كحلولية الجهمية يقولون أن معنى (وَهُوَ مَعَكُمْ ) أنه معنا في المكان ، يعني إذا كنت في الغرفة صار الله في الغرفة ، وإذا كنت في المسجد صار الله في المسجد ، ولو كنت في السوق صار الله في السوق وأن كنت في مكان قذر والعياذ بالله على رأيهم صار الله ي هذا المحل .(1/34)
لأنهم يرون أن المعية هي حلول الله عز وجل ي المكان الذي أنت يه فهل هذا لائق بالله عز وجل ؟! لا أبداً بل هذا ممتنع لأن الله لا يحل ي شيء من مخلوقاته وكيف يكون الله عز وجل عندنا ي هذه الغرفة وعند الآخرين ي الغرفة الثانية فكم يكون الله من واحد ؟!
متعدد والأمكنة وهذا شيء مستحيل ، وهو معنا وهو فوقنا لأن من كان محيطاً بك علماً ورؤيه وسمعاً وتدبيراً وسلطاناً فهو معك وان كان فوقك .
إذاً فنحن هنا والله تعالى لا يخفى عليه أمرنا يرى ما نفعل ويسمع ما نقول ويدبر أمرنا ، إذا هو في الحقيقة معنا وأن كان في السماء .
وإذا قال قائل : هل يعقل أن يقال للشيء إنه معك وهو في السماء ؟
قلنا نعم يعقل هذا وهو مستعمل لغة فالعرب يقولون : ما زلنا نسير وسهيل معنا أو القمر معنا أو والقطب معنا ، وهذه كلها محلها في السماء وهذا شيء مستعمل ، بل الإنسان يأتيه ولده فيقول الأولاد ضربوني في السوق ولن ألعب في السوق ، يقول له الأب أخرج أنا معك يخرج الابن وأبوه في البيت وهو يقر أن والده معه لأنه سيسمع ما يقال له ويرى ما يعل به فهكذا إذاً معيه الله عز وجل .
المؤمن بفطرته لا يتصور عندما يقرأ قول الله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } لا يمكن أن يتصور أن الله معه في مكان فهذا أمر لا تقتضيه الفطرة ولا تقتضيه اللغة ولا يمكن بحق الله فكيف نقول أن هذا هو ما عليه كلام الله ، وهل كلام الله يدل على شيء محال ؟ لا إذاً هو معنا لكنه في الماء على عرشه ، لكن معنا بالإحاطة علماً وقدر وسلطانا وتدبيراً وسميعاً وبصيرا ....
وقوله تعالى ( {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } هذه تعميم للمكان يعني في أي مكان كنتم قوله ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) كل هذه صفات ثبوتيه .
انتهى الشريط الثاني ....
الشريط الثالث
بداية الشريط الثالث ....
قال المؤلف رحمه الله :
وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم }...(1/35)
فيها صفتان ثبوتيتان هما ( ما أسخط الله ) صفة السخط ، ( وكرهوا رضوانه ) صفة الرضا ، فلله تعالى سخط ورضا يليقان به عز وجل .
وأهل التعطيل ينكرون أن الله يغضب فيقولون أن الله لا يغضب ، ويفسرون الغضب بالانتقام أو إراداته ،فلا يفسرون الغضب بصفة في نفس الله تقتضي الانتقام وإنما يقولون أن الغضب هو الانتقام وهذا خطأ ويقولون لأن الغضب عبارة عن غليان دم القلب فهذا غضب المخلوق ، أما غضب الله سبحانه وتعالى فإنه يليق به ، فهذه الآية فيها ثبات السخط وإثبات الرضا لله سبحانه وتعالى .
[ وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } الآية
( فسوف ) هذه جواب الشرط في الآية الثانية ، وهي قوله ( { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه }
قوله ( {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } فيها أثبات صفة المحبة لله عز وجل ، ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) معنى أذلة يعني لا يستكبرون على المؤمنين ولا يغضبون عليهم ...
أما على الكافرين فهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )أي أقوياء أشداء كما وصف الله عز وجل بينه وأصحابه بأنهم ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )
وقوله (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )وقوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
وقوله ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُون )(1/36)
في الآية الأولى أثبات صفة الرضا لله عز وجل وقوله ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) أي خافة مخافة صادرة عن علم لأنه يقول ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )
أما الآية الثانية ففيه وعيد شديد لمن يقتل مؤمناً متعمداً لأن الآية فيها جهنم والخلود فيها ، والغضب ، واللعنة ، وأعد لهم عذاباً أليما ، فهذه خمس عقوبات لمن يقتل مؤمناً متعمداً والشاهد من هذه الآية في هذا المقام قوله (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ) فاللعنة من فعلة والغضب ...
فالله سبحانه وتعالى يغضب ويلعن ، ومعنى اللعنة : الطرد والأبعاد عن رحمة الله ، أما الغضب فهي صفة تليق به ليس كغضب المخلوقين ،
أما الآية الثالثة :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُون )
هذا النداء يوم القيامة ( َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) المقت هو أشد الغضب ( َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، مقت مضاف ، الله مضاف إليه وهو من باب إضافة المصدر إلى فاعلة ، فتقدير الكلام هو لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم ..
فيوم القيامة حينما يرون العذاب فحينئذ يلومون أنفسهم على ما قدموا من الكفر فينادون توبيخاً أن مقت الله إياكم دعيتم للإيمان فكفرتم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم ، والشاهد من هذه الآية في هذا المقام قوله تعالى ( َلمَقْتُ اللَّهِ ) وظاهر كلام ابن تيمية رحمة الله تعالى حينما أستشهد بها على أثبات صفة الله أنها مضافة إلى الفاعل أي أنه يريد أن يثبت أن الله تعالى يمقت يعني يبغض وهو أشد البغض .(1/37)
وقوله ( { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } [البقرة : 210]وقوله ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين ) .
في الآية الأولى هل استفهامية لكن بمعنى النفي ( ينظرون ) بمعنى ينتظرون ,
والمعنى ما ينظر هؤلاء إلا هذا اليوم الذي يأتي به الله سبحانه وتعالى في ظلل من الغمام وهو يوم القيامة . (يأْتِيَهُمُ اللَّهُ )فاعل يأتي هو الله فإذا الآتي هو الله ، وهذه صفة ثبوتيه حيث أثبت الله لنفسه الإتيان ,
وأهل البدع يقولون أن الله لا يأتي ولكن الذي يأتي هو أمر الله ، والإشارة أن هذا تحريف لأنه أخراج للكلام عن ظاهره فالله تعالى يقول ( يأْتِيَهُمُ اللَّهُ ) فكيف نقول يأتيهم أمر الله ، ( فِي ظُلَلٍ ) جمع ظله (مِنَ الْغَمَامِ ) وهذا الغمام ورد في الحديث ( أنه غمام أبيض عظيم يملأ الأجواء كلها ) وكما قال الله تعالى { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [الفرقان: 25] ، الآية ..
أما الآية الثانية (ثم ) أي بعد خلق الأرض أستوي إلى السماء بمعنى قصد إلى السماء على وجه التمام والتنفيذ (وَهِيَ دُخَانٌ ) جملة حالية ومعنى ( دخان ) أي مثل الدخان ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ )، أثبات القول وأن الله تعالى يقول ( اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا )معنى أئتيا أي أنقادا لأمره سبحانه .
والشاهد في هذه الآية أن المؤلف أتى بها لإثبات أن الله تعالى يقول وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يتكلم ويقول بقول مسموع ، بحروف لكن الصوت الذي يتكلم الله به لا يشبه أصوات المخلوقين ولا يمكن أن يشبه أصوات المخلوقين لأن الله تعالى ( ليس كمثله شيء ) .(1/38)
وقوله ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) وقولة ( { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) وقوله ( { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الآية: 62].وقوله ( { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]وقوله ( { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر: 22 -24]
في الآية الأولى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )كلم فعل ماضي ، الله فاعل ، تكليما مصدر مؤكد ، قال العلماء ( علماء اللغة ) والتأكيد ينفي احتمال المجاز ، يعني إذا كانت الكلمة تحتمل المجاز ثم أكدت ل هذا على أنها ليست مجاز ، وتكليماً مصدر مؤكد ، ومعنى ذلك أن الكلام هنا حقيقة أن الله كلم موسى كلاماً بحروف وأصوات حقيقية وسمعه موسى علية الصلاة والسلام .
والذين ينكرون أن الله يتكلم من الجهمية غيرهم يفسرون الآية ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) يفسرون هذه الآية ومنهم الزمخشري أي جرحه بمخالب الحكمة ، هم فروا من شيء يضنونه باطلاً إلى شيء أثقل منه ، فجرحه بمخالب الحكمة ليس لها معنى ، ويقولون أن الكلم يأتي بمعنى الجرح ومنه ما جاء في الحديث ( وما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دم اللون لون دم والريح ريح مسك )(1/39)
فيقال أن الكلم بمعنى الجرح صحيح لكن التكليم ليس بمعنى الجرح وحتى ولو كان بمعنى الجرح فمنها ممتنع ,,, (نقص )
وهناك أناس حرفوا الآية لفظاً قالوا فيها ( وكلم اللهَ موسى تكليماَ ) فيصير المكلم المكلم موسى ( أي موسى فاعل التكلم ) ولكنهم لو استطاعوا أن يحرفوا الكلمة هذه ما استطاعوا أن يحرفوا قوله تعالى ()وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ )(لأعراف: من الآية143).
أما الآية الثانية ( ناديناه ) والنداء هو ما كان بصوت عال أما المناجاة فهو ما كان بصوت أقل ، واستدل المؤلف رحمه الله بهذه الآية على أن الله يتكلم بكلام مسموع إما مناداة أو مناجاة ,
أما الآية الثالثة : ()وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ...)(القصص: من الآية62).، فهذا يكون يوم القيامة حيث يتحداهم ويقول أين الشركاء الذين تعبدونهم مع الله هل تنفعكم ؟؟
والجواب طبعاَ لا ، (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (الانبياء:98) ،
أما الآية الرابعة : )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82) ، هذا الإثبات أن الله تعالى يقول بحرف كن هذه حروف من الكاف والنون ,
أما الآية الخامسة والأخيرة هنا : )هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.....)(الحشر: من الآية22) ،(1/40)
أولاً : (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، فيها إثبات الإلوهية (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (الحشر:22) ، إثبات العلم (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) إثبات الرحمة (الْمَلِكُ) إثبات الملك ، ( الْقُدُّوسُ ) أثبات القدوسية وهي الطهارة والتنزه عن كل قذر ، ( السلام ) بمعنى السلامة من كل عيب ، ( المؤمن ) معناها المصدق لكل ما هو حق ولذلك فهو سبحانه وتعالى يصدق برسالة رسله ويصدق بكل ما وعد به من ثواب وعقاب ( المهيمن ) أي الشهيد والرقيب على عبادة . وقولة ( إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته فان ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل واثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هذى الله به عباده سواء السيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)
أما قولة (إلى أمثال هذه الآيات ) فالتي أمامنا آيات لكن قولة ( والأحاديث ) فهو لم يذكر أحاديث لكن الأحاديث المتصورة في الذهن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته ( في أسماء الرب تعالى وصفاته ) فهو ما قله المؤلف في الآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من إثبات هذه الصفات ما هدى الله به عبادة المؤمنين إلى سواء السبيل .
والقاعدة : أن طريقة الرسل التي بعثهم الله بها هي التفصيل في الإثبات ، والإجمال في النفي ولا يفصل النفي إلا ما كان رداً لصفة وصف بها من صفات العيب فإنه يرد بها على وجه التفصيل أو كان لبيان كمال صفة ثبوتيه .
وقولة (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل فى هؤلاء من الصابئة المتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم : فأنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجود مطلقا لا حقيقة في الأعيان)(1/41)
لما ذكر المؤلف رحمه الله طريقة الرسل وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام من التفصيل في الإثبات والأجمال في النفي ذكر (من زاغ وحاد عن سبيلهم )زاغ وحاد معناهما متقارب وهما مترادفتان ، (عن سبيلهم )أي عن طريقهم (من الكفار والمشركين ) الكافر أعم من المشرك لأن المشرك كفره خاص باتخاذ الند من دون الله عز وجل .
(والذين أوتوا الكتاب ) وهم اليهود والنصارى ، (ومن دخل فى هؤلاء من الصابئة المتفلسفة ) الصائبة يعني الصائبون وقيل أنهم المجوس الذين يعبدون النار ، وقيل أن الصابئين من لا دين له فكل من لا دين فهو صائبي .
والمتفلسفة يقال فلاسفة ويقال متفلسفة ، وأصل الفلسفة في اللغة اليونانية محبة الحكمة ، فالفليسوف عندهم محب للحكمة أو الحكيم ، والفلاسفة عندهم الحكماء ، وفي اللغة العربية فالمتفلسف معناه المنتسب إلى الفلاسفة والذي ينحني منحاهم وأن لم يكن منهم في كل ما يقولون لأن الفلاسفة غالبهم كفار لكن فيه أناس ممن ينتسبون إلى الإسلام فأخذوا من طرق الفلافسة والفلسفة .
( والجهمية ) وهم أتباع جهم بن صفوان وهو تلميذ للجعد بن درهم والجعد بن درهم هو مؤسس طريقة الجهمية لأنه ـ الجعد بن درهم ـ والعياذ بالله هو أول من قال بالتعطيل وقال بالتعطيل كلمتين فقط قال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليما ، فنفى المحبة ونفى الكلام ، والمحبة والكلام هما الشرع لأن شرع الله أخذ من وحيه ووحيه كلامه فإذا أبطل الكلام أبطل الشرع ومحبة الله تبارك وتعالى أيضا ناتجة على ضوء عبادته فكل من تعبد الله على طريقة رسله فهو محبوب إلى الله .(1/42)
لذلك فإن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد بن درهم ، فقد خرج به مقيدا في أغلالة إلى مصلى العيد وكانت عادة الناس من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن إمام المسجد يخرج بأضحيته إلى المصلى فيذبح أضحيته هناك ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى لأجل أن يكون تفريق اللحم على المساكين أمراً ميسوراً .
فخالد خرج بالجعد بن درهم مقيداً بأغلاله وخطب بالناس وقال ( أما بعد ، أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم لأنه قال بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ) ثم نزل فذبحه فكانت أضحيته مقبولة ومشكورة لكنها غير مأكولة ، وبهذا يقول ابن القيم في نونيته :
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
( والقرامطه الباطنية ) وهؤلاء بنو طريقتهم على أن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لها ظواهر ولها بواطن فالظاهر يخاطب بها عامة الناس والبواطن يخاطب بها الخاصة من الناس فجعلوا للشرع ظهراً وبطناً لهذا سموا باطنية ، وقالوا في مسألة الأصول أن هذه النصوص الدالة على وجود الجنة والنار والرب وغير ذلك .
كلها لا حقيقة لها في الواقع ولكن خوطب لها العامة لإقامة أحوالهم وكذلك بالنسبة للصلوات والصيام والزكاة وغيرها ، قالوا هذه أيضا إنما هي تشريعات للعامة فقط ، وهذه ظواهر النصوص لكن الخواص منا ـ الكلام للباطنية ـ ليس لهم هذه الظواهر وإنما لهم بواطن النصوص وهي أن كل هذا شيء ولا حقيقة له حتى إن الصلاة يقولون إنها ليست هي الصلاة الشرعية المعروفة ذات الركوع والسجود ، لكن الصلاة معرفة أسرار مشائخنا ،
والصيام هو عبارة عن إتمام أسرارنا لأن الصيام إمساك فمعناه أن تمسك عن بيان أسرارهم التي هم عليها ،(1/43)
والحج ليس قصد مكة ولكنه قصد مشائخهم ، أوليائهم ولهذا سموا قرامطة نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط ، وقيل لهم باطنية نسبة إلى مذهبهم على أن للنصوص ظواهر وبواطن .
الظواهر يخاطب بها العامة وتبقى على ظواهرها ، والبواطن مما يخاطب بها الخاصة ولا يعلمها إلا الخاصة فقط .
هؤلاء المنحرفين يقول ابن تيمية فيهم ( فإنهم على ضد ذلك ) المشار إليه طريقة أهل السنة والجماعة ، (يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ) .
السبب بمعنى النفي فمعنى الصفات السلبية أي يصفونه بصفات النفي على وجه التفصيل فيقولون مثلاً ، أن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ولا ينزل ولا يستوي على العرش ....ألخ .
(ولا يثبتون إلا وجود مطلقا لا حقيقة في الأعيان )
يعني أنهم هم لا يثبتون من الله سبحانه وتعالى إلا أنه وجود مطلق ، والمراد بالوجود المطلق هنا الذي لا يتصف بصفات أي لا صفات له أي غير مقيد بصفة لا بسمع ولا بصر ولا علم ولا حكم ولا عزة ولا شيء وجود مطلق .
أما الوجود الذهني فهو غير الوجود العيني ، فمعنى الوجود الذهني أن يفرض الذهن شيئاً ولكنه لا يمكن أن يوجد في الخارج .
أما ذهن الإنسان قد يفرض أن شيئاً موجوداً ولا له صفات ، يعني أن الشخص يتخيل أن فيه شيء موجود ليس له سمع ولا بصر ، ولا قوة ولا عزة ولا حكمة وغير ذلك ، فهذا الشيء قد يتخيله الإنسان ولكن هل يمكن أن يوجد شيء لا صفات له ؟!!
الجواب : بالتأكيد لا ، لأن أقل ما يقال أن فيه صفة الوجود فما دام موجود فمعناه أن صفة الوجود ثابته فيه ، ففرض أمر لا صفة له ثبوتيه هذا يقول المؤلف يمتنع تحقيقة في الأعيان ، والفرق بين الوجود العيني، والوجود الذهبي أن الوجود الذهبي فهو ما يقدره الذهن وإن كان يمتنع وجوده أنا الوجود العيني فهو ما وجد بالفعل .
(فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فأنهم يمثلونه بالممتعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات )(1/44)
وذلك مثلاً إذا قالوا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأنه موجود ، ولا معدوم يعني لا يمكن أن نقول ان الله موجود ولا معدوم فهذا الكلام ممتنع لأن كل شيء فإنه أما موجود وأما معدوم ، وإذا قالوا أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا تحته ، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه ، فهذه الأوصاف ممتنعة ، إذا يصفونه بالممتنعات والمعدومات لأن كل ممتنع فهو معدوم .
كذلك يصفونه بالجمادات ، مثل إذا قالوا أن الله ليس له حياة ولا علم ولا سمع ولا بصر ولا يفعل ولا ينزل ولا يأتي ولا يغضب ولا يرضى ،
فهم بذلك شبهوه بالجماد الذي هو عبارة عن تمثال فقط ولهذا قال المؤلف (أن قولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فقولهم يستلزم غاية التعطيل، وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات،)
لأنهم إذا عطلوا كل صفة حيث أن هؤلاء يعطلون وصف الله بأي صفة وهذا يستلزم نفي الذات لأنه مستحيل أن يوجد ذات بدون صفة فإذا نفوا كل صفة عن الله فإن قولهم هذا يستلزم نفي الذات ، فوجود ذات بدون صفة لا يمكن أن يتحقق في الأعيان نعم يمكن أن تفرض الأذهان ولكن ليس كل ما تفرضه الأذهان يكون واقعاً في الأعيان ، أليس ذهنك مثلاً يمكن أن يفرض أن تنقسم أنت ألف واحد ؟؟ ربما يفترض ذلك لكن هل له وجود ؟ بالطبع ليس له وجود ، فالفرض الذهني غير الوجود العيني ، فهم يفرضون أشياء لا يمكن أن توجد في الأعيان ، فإذا قالوا أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يوصف بصفات ثبوتية أبدا ، فأي صفة فيها أثبات فالله تعالى ممتنع عليها في الذات ومعنى هذا نفي الذات ، فإذا قالوا إنه لا يمكن أن نقول أن الله حي ولا موجود ولا يتصف بصفات الكمال فمعنى ذلك انه معدوم لهذا يقول المؤلف ( ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات، )(1/45)
ونلاحظ فيما يأتي أن المؤلف رحمه الله بدأ بالفِرق حسب شدتها في الباطل فبدأ ( بغلاتهم ) وبعد ذلك بقوله ( وقاربهم طائفة ..) وهكذا .
فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات
قولة ( فغلاتهم ) المقصود بغلاتهم أي غلاة الطوائف التي ذكرها المؤلف وهي المتفلسفة والصائبة والجهمية والقرامطة الباطنية ، ( يسلبون عنه ) يسلبون بمعنى ينفون ( عنه ) أي عن الله ( النقيض ) يجب أن نتحدث عن النسبة بين الأشياء ، فالنسبة بين الأشياء تنقسم إلى أقسام :
أولاً : نسبة التناقص بمعنى أن يكون الشيئان نقيضين ومعنى النقيضين هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان بمعنى محال اجتماعهما ومحال ارتفاعهما مثال ذلك الحركة والسكون هذان نقيضان لا يجتمعان أي لا يمكن أن يكون الشيء متحركاً ساكناً لأنه إذا كان متحرك فليس بساكن وإذا كان ساكناً فليس بمتحرك .
فلا يمكن أن يجتمعان ولا يمكن أن يرتفعان ، وأيضاً لا يمكن أن يرتفعان لأن الشيء إما ساكن أو متحرك فليس هناك أحتمال ثالث إذا لا يرتفعان فلا بد أن يوجد واحد منهما .
كذلك أيضاً الوجود والعدم نقيضان لأنهما لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون الشيء موجوداً معدوماً ، ولا يرتفعان حيث أن الشيء لا يمكن أن يكون غير موجود وغير معدوم ، فلا بد أن يكون إما موجود أو معدوماً ، كذلك الحياة والموت ، بالنسبة للإنسان نقيضان حيث لا يمكن أن يجتمعا فلا يمكن أن يصير الإنسان حياً ميتاً في آن واحد ، ولا يمكن أن يرتفعان لأن الإنسان إما حي وإما ميت .(1/46)
إذاً تعريف النقيضان هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان بمعنى لا يمكن أن يجتمعا مطلقاً ولا يرتفعان جميعاً .
ثانياً : تنافس يسمى تنافس الضدين هذا ضد هذا ، والضدان لا يجتمعان ويرتفعان ، بمعنى يمكن أن يرتفعان كلاهما ولكن لا يمكن أن يجتمعان ، مثل السواد والبياض ضدان فلا يمكن أن تكون النقطة سوداء وبيضاء في آن واحد ، لكن يمكن أن يرتفعان بمعنى أنه يمكن يصير الشيء لا أسود ولا أبيض فقد يكون أحمر مثلاً ، إذاً فالضدان لا يمكن أن يجتمعان ويمكن أن يرتفعان .
لذلك يجب أن تفرق عندما تقول السواد ضد البياض أو نقيض البياض حيث يجب أن تقول أن السواد ضد البياض ، فلو قلت نقيض البياض فإن ذلك خطأ ، ولو قلت أن الوجود ضد العدم فإن ذلك خطأ فالصواب أن تقول الوجود نقيض العدم .
ثالثاً : نسبة الخلاف بمعنى أن يقال للشيئان هذان خلافان فالخلافان متغايران بحيث يمكن أن يجتمعان وأن يرتفعان .
فالخلافان يجتمعان ويرتفعان لكنهما مختلفان في الحقيقة مثال ذلك : البياض والحركة ، فالبياض غير الحركة ، فالبياض لون والحركة فعل لكنهما يجتمعان يمكن أن يكون الشيء أبيضاً متحركاً ، ويرتفعان حيث يمكن أن يكون الشيء ساكناً أسوداً ، إذاً فالخلافان متغايران لكنهما يجتمعان ويرتفعان .
رابعاً : المثلية فالمثلان متفقان ، مثل الإنسان والبشر فنسبة الإنسان للبشر نسبة مثلية فكل إنسان فهو بشر ، وكل بشر فهو إنسان فالنسبة بين المثلين هذه تسمى مماثلة ، يعني يسمونها المثلين ، فصارت المسألة عندنا أربع ، وأهم شيء عندنا أن نعرف النقيضين والضدين لأن بعض الناس يعبر بالنقيضين عن الضد وبالضد عن النقيضين .
فقول المؤلف ( فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين ) فهذا غير ممكن فسلب النقيضين نفيهما يعني نفي النقيضين وهذا غير ممكن لأن النقيضين لا يرتفعان فنفيهما غير ممكن .(1/47)
( فيقولون لا موجود ولا معدوم ) فهذا سلب للنقيضين لأن الوجود والعدم نقيضان ( ولا حي ولا ميت ) وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون موجوداً ( ولا عالم ولا جاهل ) وهذا غير ممكن لأن كل ذي ... لابد إما أن يكون عالم وإما جاهل .
(لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين،) فأنظر إلى هذه الشبهة الباطلة يقولون أن أثبت لله صفة ثبوتية فإنك شبهته بالموجدات وإن وصفته بصفة عدمية ( سلبية ) شبهته بالمعدوم إذاً لا تصفه لا بهذه ولا بهذه فنقول لهم أنتم الآن شبهتموه بالممتنعات لأن المعدوم يجوز وجوده والموجود يجوز عدمه أما انتم الآن شبهتموه بالممتنعات وهذا لا يمكن أن يصير أبداً ، فإذا أردت أن تنفي الله فقل لا موجود ولا معدوم ( فسلبوا النقيض وهذا ممتنع في بداهة العقول) وهذا صحيح فمجرد ما يتصور الإنسان هذا الكلام يجد أنه باطل .
( وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول، ) فإذاً نقول لهؤلاء أنتم وقعتم في شر مما فررتم منه لأنكم لأنكم تقولون أن قلتم أن الله حي شبهتموه بالموجدات وأن قلتم ميت شبهتموه بالمعدومات إذا ماذا نقول ؟؟؟
يقولون قولوا لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا بصير ولا أعمى ولا سميع ولا أصم ، فنرد عليهم أنكم شبهتموه بالشيء الممتنع وتشبيه الشيء بممتنع يجعله ممتنعاً ، فأنتم الآن وقعتم في شر مما فررتم منه وأيضاً سلبتم النقيضين وسلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما ممتنع ، بمعنى سلب النقيضين أي رفعهما وجمع النقيضين أي اجتماعهما فكما أنه لا يمكن أن يكون الشيء متحركاً ساكناً في آن واحد لأن هذا جمع بين النقيضين كذلك لا يمكن أ ن يكون لا متحرك ولا ساكن لأن هذا سلب للنقيضين ,(1/48)
{وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلا عن الوجوب أو الوجود، أو القدم }
العلم نوعان : علم نظري ، وعلم اضطراري .
فإذا كان العلم يحتاج إلى نظر واستدلال سمي علماً نظرياً ،
وإن كان لا يحتاج إلى نظر واستدلال سمي علماً ضرورياً أو اضطراريا .
فمثلاً إذا قال لك قائل هل الوتر واجب أو سنة علمنا بأنه واجب أو سنة ، علم نظري لأنه يحتاج إلى تتبع للأدلة والنظر فيها ولا يعرفه إلا أهل العلم لكن علمنا بأن الوجود لابد له من موجود علم ضروري ، فكل واحد يفهمه .
قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج إلا تدل على السميع البصير .
هذا الرجل أستدل بأشياء تدل على الموجود لهذه السموات والأرضيين والبحار والأشجار والأنهار وهذا النظام البديع وهذا التآلف بين أجزائه مع اختلافهما تدل على أن له منظم وموجود ، إذاً هذا معلوم بالضرورة بأنه لابد له من موجود واجب بذاته ، الواجب هنا غير الواجب في الفقه ، فالواجب في الفقه هو الذي يلزم فعله ، والواجب هنا هو الذي لا يمكن عدمه .(1/49)
فمعنى (واجب بذاته ) أي لا يمكن عدمه ، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون معدوماً فهو أزلي أبدي ( غني عما سواه ) لأنه لو أحتاج إلى غيره لم يكن قائماً بالخلق فلا يكون كمال ( قديم أزلي ) كلمة قديم هنا من الأمر الذي يستغرب على المؤلف لأن المؤلف نفسه مما ينكر هذا الوصف لكنه قال ذلك لأنه يتكلم مع فلاسفة يصفون الله بالقديم يعني ما يعرفون الله إلا بالقديم فهو يتكلم معهم بلغتهم وإلا فمن المعلوم أن كلمة قديم ليست من أسماء الله ولا من صفاته ، ولهذا أردفها بقولة أزلي ،ومعنى الأزلي الذي لم يزل موجوداً وإنما أردفها بالأزلي لأن القديم في اللغة العربية هو ما تقدم غيره وأن لم يكن أزلياً ، وأنظر إلى قول الله عز وجل (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّس:39)
ومعنى العرجون القديم السابق على غيره وإن كان ليس أزلياً فعرجون النخل ليس أزلي وإن كان سابقاً لغيره .
فالحاصل أن نقول أن القديم الأزلي ليس من أسماء اله ولا من صفاته فلم يرد في كتاب الله ولا في سنة نبيه ، لكن المؤلف تكلم بها لأنه يخاطب الفلاسفة بهذه الصفة .
والمؤلف خرج عن الأمر الذي يتوهم من كلمة قديم خرج عن ذلك بقولة أزلي حتى لا يظن أن القديم الذي غيره وإن كان حادثاً بل القديم هنا الأزلي ، الذي لا أول لوجوده ، وقد ذكر الله بدلاً عن هاتين الكلمتين كلمة واحدة أفضل منها وأقوم وهي قوله تعالى ( هو الأول ) وهي تعطي معني غير الأسبقية والمعنى الذي تعطيه هو أن كل شيء يؤل إليه فهو أول سابق على غيره ، وهو أول تؤول إليه الأشياء وترجع .(1/50)
ولهذا نقول أن هاتين الكلمتين لو تركهما المؤلف لكان أحسن لكن عذر المؤلف أنه يتكلم بلسان قوم ألفواهتين الكلمتين ولا بأس أن يخاطب الناس باختلافهم إذا تبين الحق وأزيل الوهم ، وهنا المؤلف أزال الوهم بقولة ( أزلي لا يجوز عليه الحدوث ) وكلمة لا يجوز عليه الحد وتأكيد بقولة ( واجب بذاته ) ( ولا يجوز عليه العدم ) لأنه الواجب ما لا يمكن فصله ، فلو كان يجوز عليه العدم لكان ممكناً وبهذه المناسبة أود أن أبين أن الذين يتكلمون في هذا الباب يتكلمون بلسان المناطقة أحياناً ، فيفسرون الواجب بأنه ما لا يمكن عدمه ، والمستحيل ما لا يمكن حدوثه .
والجائز ما يكون جائز الوجود والعدم .
( فوصوفه بما يمتنع وجوده ) أي وصفوه بسلب النقيضين حيث قالوا لا موجود ولا معدوم ، فنفوا عنه أنه واجب الوجود ، بل زعموا أنه متصف بما يمتنع ببداهة العقول .
(فضلاً عن الوجوب أو الوجود ( لأنهم لا يصفون الله بأنه موجود ( أو القدم ) لأنهم لا يصفون الله تعالى بأنه أول أو قديم فسلبوا عنه النقيضين .
خلاصة ما سبق : الذين حادوا وزاغوا عن سبيل الرسل وأتباعهم ينقسمون إلى ثلاثة فرق وهم :
الغلاة وهم الذي يسلبون ( ينفون ) عنه النقيضين الوجود والعدم والحياة والموت والعلم والجهل والسمع والصمم وهكذا ..
وحجتهم يقولون أن أثبتنا له الصفة شبهناه بالموجدات وأن نفينا عنه الصفة شبهناه بالمعدومات فإذاً لا نثبت ولا ننفي حيث يقولون لا موجود ولا معدوم ولا سميع ولا غير سميع ولا حي ولا ميت ولا متكلم ولا غير متكلم ... ألخ .
وللرد عليهم نقول : أنكم لما فررتم من تشبيهه بالموجودات والمعدومات وقعتم في تشبيهه بالممتنعات الذي ببداهة العقول يعلم أنه غير ممكن وقد علم كما قال المؤلف بالاضطرار أن الموجود أو الوجود لابد له من موجد .
فنقول لهؤلاء الفلاسفة هل أنتم موجودون أم معدومون ؟؟؟(1/51)
فسيقولون موجودون ، نقول من الذي أوجدكم ؟ يقولون أوجدنا من ليس بموجود وليس بمعدوم ، وهذا غير ممكن حيث أن الموجود لا بد له من موجود .
ورد آخر : نقول لهم إذا كنتم تقولون ا، أثبتنا شبهناه بالموجود وأن نفينا شبهناه بالمعدوم ، أنتم الآن شبهتموه بالشيء الممتنع غاية الامتناع وذلك أنه كان كما أن جمع النقيضين ممتنع فكذلك نفي النقيضين ممتنع أيضاً .
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق، بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف .
فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم، والقدرة، والمشيئة، جحدًا للعلوم الضروريات،
وقولة ( وقاربهم ) أي قارب هؤلاء الغلاة الذين أنكروا أن يكون الله موجوداً أو معدوماً ، يعني قالوا أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالسلب وصفاته إما سلبيه أو إضافية وإما أن تكون ثبوتية وجودية فلا ، فالمؤلف يقول أن هؤلاء قالوا أن الله تعالى موصوف بالسلوب والإضافات ، والسلوب جمع سلب وهو النفي يعني إنما يوصف بالنفي فقط .
وإذا وجدت صفة مثبته لله فهي على سبيل الإضافة لا على سبيل الإثبات والوجود .
فمثلاً يقولون لا تصف الله بأن له سمع ، ولكن قل أن الله ليس بأصم ، فإن أثبت أن له سمع وجعلتها صفة ثبوتية فهي أضافية ، ومعنى سمعه خلق السمع في غيره ،
فإذا قلت سمع الله يعني السمع الذي خلق الله في غيره كالإنسان وفي الحيوان ...ألخ .
فهم يقولون ليس لله صفة ثبوتية فصفاته ، إما سلبية ( منفية ) وإما إضافية بمعنى أن أثباتها له بالإضافة إلى غيره .
يعني لا يمكن أن يوصف الله عندهم بأنه سميع أي ذو سمع بنفسه لكن إذا أردت أن تثبت أن الله سميع بمعنى ثبوت السمع له لا تقل أن السمع له ولكن قل أن السمع خلقه .(1/52)
أي خلقه في غيره ، فإضافة السمع إلى الله إضافة مخلوق إلى خالق لا إضافة صفة إلى موصوفها يقول ( دون صفات الإثبات ) فلا يثبتون لله صفة ( وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ) جعلوه أي الله هو الوجود المطلق ، بشرط الإطلاق معناه ليس مقيد بصفة ثبوتية لكنهم يخالفون الأولين ، حيث أن الأولين يقولون ليس مقيداً بصفة لا ثبوتية ولا سلبية ، وهؤلاء يقولون ليس مقيدا بصفة ثبوتية وهؤلاء أهون من أولئك حيث أن الأوائل ينفون عنه أن يكون موجوداً أو معدوماً حيث يقولون لا موجود ولا معدوم ولا سميع ولا أصم ولا عالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت .
ولكن هؤلاء يقولون ليس معدوماً وليس بأصم وليس بجاهل ، فالصفات السلبية يقرون بها .
والصفات الثبوتية إذا أقروا بها يجعلونها مضافة باعتبار المخلوق لا باعتبار أنها صفة ، فيقولون السمع إذا أثبتناه لله فالمعنى أنه خالق السمع في غيره ، أما الصفة ثبوتية له فهذا لا نقربه .
فهؤلاء يقولون الله موجود لكن وجود مطلق أي غير مقيد بصفة ثبوتية ويمكن أن يكون مقيد بصفة سلبية .
( وقد علم بصريح الفعل ... الموجدات ) نسمع دائماً صحيح النقل وصريح العقل ، فمعنى صحة النقل يعني النقل الصحيح الثابت ، وصريح العقل يعني العقل الصريح ، والصريح معناها الخالص من الشبهات ، فالفعل الصريح الذي ما عنده شبهه وعنده علم ولا عنده إرادة سيئة ، إذا العقل الصريح العقل الخالي من الشبهات والشهوات ، والمراد بالعقل ذهن الإنسان لأن ذهن الإنسان يعتريه أحياناً شبهات فلا يتبين له الحق ، وإذاً فالعقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات بمعنى أنه عالم يعني عقل مبني على علم وعلى إرادة حسنة .(1/53)
يقول ( علم بطريق العقل ) يعني بالعقل الصريح الذي لم يخالطه شبهات ولا شهوات ، (أن هذا لا يكون إلا في الذهن ) هذا الإشارة إلى الوجود المطلق ، بمعنى أن يتصور الإنسان شيء موجود وليس له صفة فهذا ممكن ، ولكن هذا الشيء المطلق الذي ليس له صفة غير موجود فعلاً ، فلكي يكون موجوداً يجب أن يكون له صفة ، فليس كل ما يفرضه ويتصوره الذهن يوجد في الخارج فمن الممكن مثلاً أن تفرض في ذهنك مثلاً أن رجل له مائة رأس وهو رجل واحد ، أو تفرض أن رجل ليس له إلا رجل واحدة أو له خمسين يد .. فهذا افتراض يمكن أن يفترض الذهن ، ولكن ليس من الضروري أن يوجد في الخارج ، إذاً ما يفترضه الذهن لا يلزم أن يكون موجوداً في الخارج .
فهؤلاء إذا كانت أذهانهم تصور لهم أن الرب سبحانه وتعالى ليس له صفة ثبوتية وإنما هو مطلق بدون صفات ،
فإذا كانوا يفرضون ذلك في أذهانهم فإنه لا يلزم من فرض الذهن أن يوجد الشيء في الحقيقة .
نهاية الشريط الثالث .
الشريط الرابع
بداية الشريط الرابع
قال المؤلف رحمه الله ( وجعلوا الصفة هي الموصوف ) أي جعلوا صفة الشيء هي الشيء ، ( فجعلوا العلم عين العالم ) لو أن العلم هو العالم لكان العالم إذاً جلس يقرر أو يشرح لعشرين طالباً فيكون عشرين واحداً .
وهذا غير صحيح ، والعاقل مهما كان لا يجعل الصفة هي الموصوف لكن يجعلها قائمة بالموصوف وإذاً فملخص الخطأ في تصوارتهم وطريقتهم هي :
1. جعلوا الآلة سبحانه وتعالى هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق
2. جعلوا الصفة هي الموصوف ( فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهيات )والقضايا البديهيات معناها التي تعلم ببداهة العقل دون أي تكلف
3. جعلوا الصفات مترادفة أي شيء واحد يقول المؤلف ( وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم، والقدرة، والمشيئة، جحدًا للعلوم الضروريات، ) .(1/54)
فهم جعلوا الصفات مترادفة وأنها شيء واحد ، فجعلوا العلم والقدرة والمشيئة والعزة والحكمة كل الصفات هي عبارة عن صفة واحدة لأنهم يسلمون أنهم لو قالوا أن الصفات متعددة لزم تعدد الموصوف فيجب أن تكون الصفات واحدة ، فالسمع هو البصر وهو العزة وهو القدرة وهو المشئية وهو الحكمة !!
يقول المؤلف ( هذا جحداً للعلوم الضروريات ) يعني أن العلم الضروري ينكر هذا الكلام ، هل هناك أحد يقول أن العلم هو القدرة ؟ ولو قاله لقلنا أنه مجنون فكم من إنسان عالم ولكن لا يستطيع أن يتحرك ، وكم من إنسان قادر وقوي ولكنه غير عالم ، ففرق بين العلم والقدرة وكذلك السمع والبصر فكم من إنسان يسمع ولا يبصر ويبصر وهو لا يسمع .
فإذا القول بان الصفات واحدة هذا أيضاً قول باطل .
فإذاً الوجود المطلق والصفة هي الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى هذه طريقتهم وكل هذه الطريقة كلها فاسدة معلومة ببداهة العقل وبالعلوم الضرورية .
فالآن انتهينا من الطائفة الثانية وهي أقل من الطائفة الأولى وذلك أنها لا تسلب عن الله النقيضين ، وأولئك يسلبون عنه النقيضين وأولئك قولهم ممتنع ، وهؤلاء أيضاً لا يسلبون عنه النقيضين ، لكن قولهم أيضاً ممتنع إذا وجود موجود بدون شرط أمر مستحيل فكون الصفة غير الموصوف ممتنع ، وكون كل صفة هي الأخرى أيضاً ممتنع .
وقولة (وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء، دون ما تتضمنه من الصفات،فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير، كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال : عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم، دون ما تضمنه من الصفات، )
هؤلاء طائفة أهون من السابقين لكنها قريبة منها ،(1/55)
قولة ( من أهل الكلام ) أهل الكلام هم الذين يتكلمون في العقائد والطرق النظرية دون الطرق النقلية ، يعني الذين يحاولون ان يثبتوا العقيدة بطريق النظر لا بطريق الأثر ، فهؤلاء هم اهل الكلام ، يعني بنوا عقيدتهم على غير الكتاب والسنة ، ولكن على الأمور النظريات التي يزعمونها عقلاً وليست بعقل ،
( من المعتزلة ) المعتزلة هم أصحاب وأصل بن عطاء الذي أعتزل الحسن البصري رحمه الله وذلك لما ذكر حكم الإسلام في المؤمن والكافر وأن فاعل الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان ، ولكن واصل بن عطاء قال أن فاعل الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، وحصل بينه وبين الحسن مشادة ثم قام فأعتزل مجلس الحسن مع أنه سابقاً في مجلسه فلهذا سموا معتزلة .
( فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات ) فالله تعالى سمى نفسه بالعليم والحكيم والعزيز والرحيم والرحمن والخبير واللطيف .....ألخ .
وهؤلاء أقروا بالأسماء ، فطبعاً إذا أقروا بالأسماء فهم أقروا بالمسمى فيقولون أن الله موجود وأنه متسمى بهذه الأسماء لكن الخطأ منهم .
(فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير، كالأعلام المحضة المترادفات، )
يعني جعلوا هذه الأسماء أسماء جامدة مترادفة ، ماتدل إلا على العين فقط ما تدل على المعنى .
يقولون مثلاً الأسم مثل القدير والسميع والبصير ، فهذه الأسماء لا تدل على أن الله له سمع أو بصر أو ما أشبه ذلك أو ما تدل أصلاً على معنى متغاير ، هي أعلام مترادفة فقط لا تدل على معنى متغاير تسمى الأسد أسداً وتسميه ليث وتسميه هزير ونسميه ضيعم هذه الأسماء مترادفة ، أعلام مترادفة وليس كل واحد منها يدل على شيء ، ومنهم من قال العلم غير القدرة وغير السمع وغير البصر لكنه عليم بلا علم وقدير بلا قدرة سميع وبصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الأسم دون ما تتضمنه من الصفات ، وهذا غير معقول أسم مشتق يفصل بينه وبين المعنى المشتق منه ، وهذا غير ممكن .(1/56)
وشبهتهم باطلة ، يقولون لأننا إذا أثبتنا تعدد المعاني بتعدد الأسماء لزم من ذلك تعدد القدماء ، والقدماء عندهم الآلهة يعني يلزم تتعدد الآلهة .
فنرد عليهم بما يلي :
أنكم كابرتم المعقول لأن تعدد الصفة لا يزم منه تعدد الموصوف حق الإنسان نفسه يقال له هذا الرجل أبيض وطويل وعالم وسميع وبصير فهذه عدة صفات لشخص واحد فلذلك تعدد الصفات لا يلزم منه تعدد الموصوف ، فلماذا تمنعون أن يكون الله جل وعلا متصفاً بصفات وهو واحد .
والعقل لا ينكر هذا ولا هذا ، فنقول أنتم قلتم قولاً لا دليل عليه لأن مجرد كون السميع والبصير والقدير مجرد أعلام محضة ، أين الأسماء الحسنى من الأعلام المحضة فالعلم المحض لا يكون حسناً حتى يتضمن صفة ومعنى كاملاً يكون فيه حسناً ... وكذلك من غير المعقول أن يشتق أسم من معنى ثم يسلب من هذا المعنى فهذا غير ممكن ، فلا يمكن أن تقول للأصم أنه سميع ، ولا يمكن أن تقول للأعمى أنه بصير ، ولا للعاجز أنه قادر ، بل لا يمكن أن تقول قادراً لمن أتصف بالقدرة وغير ذلك من الصفات .
ولهذا تبين ضلال هؤلاء الذين يزعمون أنهم ذووا عقل لأنهم كابروا المعقول وخالفوا المنقول وخرجوا عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم .
( والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح ، المنقول مذكور في غير هذه الكلمات، )
صحيح المنقول أي النقل الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله ، أما صريح المعقول أي العقل الصريح الخالص من الشبهات والشهوات ، لأن أنحراف العقول إما لشبهات تعرض للإنسان أو شهوة بمعنى إرادة سيئة يريد مخالفة الحق .
لو تأملت جميع عن الشرع لوجدت أن هذا هو أساس إنحرافهم إما شبهه تعرض لهم إما لنقص في العلم أو نقص في التصوير وإما شهوة بمعنى إرادة سيئة هذا في الحقيقة هو الأسباب التي يصل بها من ضل من الناس .(1/57)
( وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء، فيقعون في نظيره وفي شر منه مع، ما يلزمهم من التحريف والتعطيل، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين آوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول، هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، )
المؤلف رحمه الله قال كلاماً عاماً قال إنهم يقرون من شيء فيقعون في نظيرة بل في شر منه مع محضور آخر ( مع ما يلزم من التحريف والتعطيل )
نضرب مثلاً لهؤلاء : الذين قالوا أننا نسلب عن الله النقيضين ونقول لا موجود ولا معدوم ، فهؤلاء فروا من التشبيه فوقعوا في مثل ما فروا منه ، بل شر منه ، أنتم لو قلتم أنه موجود لكنتم شبهتموه بأمر ممكن لأن الموجودات ممكنة وقد تكون واجبة ، لكن الآن شبهتموه بشيء ممتنع غير ممكن ، كذلك الذين قالوا نؤمن بوجوده ونقول أنه موجود ولكن بشرط الإطلاق ولا نثبت له صفة ثبوتية ، نقول لهم أنتم وقعتم في شر ما فررتم منه ، فهم فروا من أنهم إذا أثبتوا الصفة شبهوه بالموجدات ،
نقول لهم أيضاً أنتم إذا نفيتم الصفة وقلتم أنه موجود مطلق بشرط الإطلاق أو جعلتم الصفة هي عين الموصوف وإنها ليست شيء زائداً على الموصوف .
أو جعلتم الصفات أيضا مترادفة وقعتم في شر مما فررتم منه ، الوجود المطلق لا وجود له ن بل كل موجود لابد له من موجد .
ومعلوم أيضاً أن الصفة غير الموصوف وليس هناك أحد من الناس العقلاء يقول أن الصفة هي عين الموصوف أبداً .
وكذلك نعلم بالضرورة ان الصفة والصفة الأخرى بينها تباين وليسوا مترادفات ، فالعلم غير القدرة ، والقدرة غير السمع ....ألخ .
فأنتم الآن فررتم من شيء ووقعتم في شر منه ، بالإضافة إلى إنهم حرفوا النصوص ، فالله يثبت لنفسه هذه الصفات وهم ينفونها .(1/58)
فإذاً كل هؤلاء الطوائف الثلاث نخاطبهم جميعاً فنقول ما فررتم منه وقعتم في شر منه ، ونرد على ذلك أيضاً بتحريف النصوص والتعطيل ، وأهل السنة والجماعة ولله الحمد ما وقعوا في مثل هذه الشرور ،
قولة ( ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، )
يعني لو أن الإنسان أمعن النظر في كل شيء وليس في أسماء الله وصفاته فقط فإنه يجد أن المتماثلات متساوية ، ووجدوا إيضاً أن المختلفات متفرقة ، مثال ذلك بالنسبة للصفات :
معلوم أن الخالق غير المخلوق ، فإذا أثبت الخالق نفسه صفة من الصفات يجب أن تكون الصفة غير الصفة التي تكون للمخلوق ، فأنت إذا أثبت لله ذات ليست كذوات المخلوقين فأنت على حق ، وكذلك أيضاً في الصفات .
(ولكانوا من الذين آوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول، هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، )
فهم لو رجعوا إلى الكتاب والسنة لكانوا من أهل العلم ، ولكنهم كما قال المؤلف :
(ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات، )
المجهولات أي ضد المعلومات ، ( المشبهه بالمعقولات ) لأنهم يزعمون أن العقل ما كانوا عليه ولذلك أن هؤلاء يحكمون العقل والنظر دون الأثر والنقل .
فهم لو رجعوا إلى الكتاب والسنة لكانوا من أهل العلم لكنهم حكموا عقولهم مضارهم من أهل الجهل .
(يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات، )
السفسطة عبارة عن إنكار المحسوس ، بمعنى أن الإنسان يشك في كل شيء ، نقول له مثلاً هذا كتاب من ورق فيقول لا أدري لعله من ورق فهذه سفسطة .
تقول له هذه شمس فيقول ما ادري يمكن هذا قمر ، فيمكن أن الليلة البدر وهذا القمر .
أحياناً يقولون عن بعضهم أنه ينكر نفسه فينام فإذا أصبح قال لعلَّي فلان حتى أنه ما ينام بعضهم إلا وقد ربط نفسه بخيط وذلك علامة على أنه هو الذي نام الأول يخشى أن يكون فلان الثاني .(1/59)
وبعضهم يسلم على بعض ويقول لعلي سلمت على نفسي لأن ما فيه أحد لأن هذا هو أنا ,
الحاصل هذه سفسطة في العقليات ,
أما القرمطة في السمعيات فقد سبق أن قلت أن القرامطة الذين يتبعون حمدان قرمط ، هؤلاء أنكروا النصوص وقالوا أن للنصوص ظواهر وبواطن وأن ظواهر النصوص للعامة وأن بواطن النصوص للخاصة .
ويذكر المؤلف الرد على الطوائف الثلاث بقولة (وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غنى عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، كما قال تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [ الطور : 35 ] . فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقا خلقهم، )
قولة
(وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غنى عما سواه ) كلمة قديم كما ذكرنا فيما سبق معناها في اللغة ما تقدم غيره وإن لم يكن أول ، وكلمة الأول أولى من كلمة قديم ، كما قال تعالى ( هو الأول ) .
إذاً قول قول المؤلف أبن تيمة رحمه الله ( لابد من موجود قديم ) موجود صحيح يعني يخبر به عن الله وإنما لا يسمي به ، فلا يقال يا موجود ( غني عما سواه ) هذا صحيح كما قال الله سبحانه وتعالى ( والله هو الغني الحميد ) (إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع )(1/60)
يقول المؤلف نحن نشاهد حدوث هذه المحدثات بل نشاهد تغير هذه المحدثات فضلاً عن وجودها نحن نشاهد مثلاً الشمس تقرب منا أحياناً وتبعد ، والقمر والنجوم هذه الأشياء وجودها بعد أن كانت معدومة يدل على أنها ليست واجبة الوجود ، لأنها لو كانت واجبة الوجود ما كانت معدومة من قبل ، فواجب الوجود لا يلزم ان يكون معدوماً لأن واجب الوجود عند الفلاسفة والمتكلمين هو مالا يمكن عدمه .
حدوث هذه الحوادث يدل على أنها ليست واجبة الوجود لأن واجب الوجود لا يمكن أن يكون معدوماً وحدوثها أيضاً على أنها ليست من المستحيل لأنها لو كانت مستحيلة ما وجدت .
هذه الحوادث مخلوقات من إنسان وحيوان ونبات وغيرها ليست واجبة الوجود ولا ممتنعة الوجود
لو كانت واجبة الوجود ما كانت معدومة من قبل ، ولو كانت ممتنعة الوجود ما وجدت ، إذاً فهي من الممكن الجائز الوقوع والمؤلف يقول ( ليس بواجب ولا ممتنع ) .
(وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، ) أي علماً ضرورياً أن الحادث لابد له محدث كما قال الأعرابي : الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير . فكل حادث لابد له من محدث .
عندما أقول مثلاً هذا البناء حادث حيث كان المكان بالأول فراغاً ثم كان بناءاً ، هذا البناء الحادث نعلم بالضرورة أنه لابد له من محدث وهو إنسان بناه أو آله وغيره ، إذاً كل حادث لابد له من محدث .
وكل ممكن ـ ويعني بالممكن ما(1/61)
ليس بواجب ولا مستحيل ـ لابد له من موجود كما قال تعالى (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35) أم هنا منقطعة بمعنى بل ، والهمزة استفهام إنكاري بمعنى بل خلقوا من غير شيء ، أم هم الخالقون ، والجواب ليسوا هم الخالقون فالإنسان ما خلق نفسه لأنه قبل أن يوجد معدوم ، والمعدوم لا يخلق وليس مخلوقاً بدون خالق حيث لابد له من خالق ، والبشر والمخلوق كله نعلم أنه لم يخلقه فيكون الذي خلقه هو الله سبحانه وتعالى .
قال جبير بن مطعم رضي الله عنه وكان أسيراً من أسرى بدر في المدينة قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قولة تعالى ( (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور:35: 36)
قال كاد قلبي يطير ووطن الإيمان في قلبي .
فهم لم يخلقوا من غير خالق وليسوا هم الخالقون ، فيتعين عندئذ أن يكون لهم خالق غير أنفسهم هو الله ، وغيره لا يخلق ذبابة .
والمؤلف أراد إثبات وجود الله عز وجل بدلالة الحوادث عليه ، لأن هذه الحوادث التي تحدث لابد لها من محدث ، هذا المحدث هو الله .
(وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره،)(1/62)
علمنا الآن وذلك بعد التقرير السابق أن في الوجود ما هو موجود واجب الوجود ـ هو الله ـ وما هو ممكن الوجود ـ وهو المخلوق ـ وهما اتفقا في الوجود فكل منهما موجود ، فيقول المؤلف رحمه الله ( ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره،)
الاسم العام الذي اتفقا فيه هو الوجود ، لا يلزم منه أن يتماثلا في ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد . كلمة وجود لفظ مطلق لكن عند الإضافة والتقييد ، يقول وجود الخالق واجب ، ووجود المخلوق جائز أي ليس بواجب ، فبين الآن أن مجرد أتفاق الاسم بين الشيئين لا يلزم فيه اشتراكهما فيما يختص به كل واحد ، فإذا كان كذلك فإنه ما لمانع أن نثبت لله صفات ثبوتيه ونقول أنها تختص به ولا تشبه صفات المخلوقين فليس هناك ما وقع كما أننا اتفقنا جميعاً على أن الوجود صفة وهي عند الإطلاق يشترك فيها الخالق والمخلوق لكن عند الإضافة والتقييد يكون وجود الخالق يخصه ووجود المخلوق يخصه .
(فلا يقول عاقل إذا قيل أن العرش شيء موجود وأن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا، هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه، لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما، )(1/63)
فليس هناك أحد عاقل يقول العرش موجود جائز الوجود والبعوض جائز الوجود وكل منها شيء موجود ، فإذا كانا هاذان الموجدان متفقان في الوجود وأن وجودهما من باب الجائز وليس من باب الواجب الوجود ومع ذلك لا يلزم من اتفاقهما في الوجود أن يكونا متفقين في الحقيقة والذات ولا يمكن لأي عاقل أن يقول أن البعوض مثل العرش ()وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(البقرة: من الآية255)
والعرش أكبر بكثير من الكرسي لأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ، يعني لا يمكن أن يقول قائل أن هذه البعوض التي هي من أحقر المخلوقات تكون مثل العرش الذي هو أعظم الموجدات ، فإذا كانت المخلوقات وهي ممكنة وليست واجبة الوجود .
تتفق في أسم الوجود الممكن ولا يلزم من اتفاقهما في هذا أن يتفقان في غير دل هذا على أنه لا يمكن أن يكون أتفاق الوجود في الله سبحانه وتعالى وفي غيره لا يلزم أن يكون الموجودان شيئاً واحداً .
(إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود ) يعني لا يمكن أن يكون مثله من أجل أنها تتفقان في مسمى الشيء والوجود ، (لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه ) غيرهما الضمير يعود على الشيء والموجدات يعني أن العرش والبعوض ليس في الخارج شيء يشتركان فيه سوى كلمة شيء موجود ، فالبعوضة شيء والعرش شيء ، والبعوضة موجودة والعرش موجود ، هما اتفقا في هذان الشيئين لكن في الخارج لا يتفقان فيما عدى ذلك .
فيما عدى كلمة شيء وموجود ، ليس بين العرش والبعوض اشتراك بل بينهما من الفرق ما لا يمكن إدراكه لأن العرش لا يمكن إدراكه ، وكلمة في الخارج تعني الوجود العياني الذي يشاهد ويسمع ، لأن هناك شيء ذهني وشيء خارجي ، فالشيء الذهني هو ما يفرضه الذهن .(1/64)
والشيء الخارجي هو ما هو موجود فعلاً ( بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا، هو مسمى الاسم المطلق، ) الاسم المشترك الكلي الذي يأخذه الذهن هو وجود شيء بالنسبة للعرش والبعوض يتصور أن هاتين الذاتين اشتركتا ذهناً في شيء واحد وهو شيء ووجود ، لكن وجود هذا غير وجود هذا فوجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه .
(وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه، لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما، ) إذا قيل العرش موجود والبعوض موجود هذا صحيح حيث الاسم حقيقة في كل منها لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه .
(ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة، والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص،)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : أن الله سمى نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء وسمى بتلك الإسماء نفسها بعض مخلوقاته فلا يلزم لذلك من أتفاق الاسم أن يتفق المسمى ، هذا خلاصة كلام المؤلف ,
فإذا كان لا يلزم فإنه لا يلزم من إثبات صفات الله عز وجل أن يكون مشابهاً للمخلوقات ، هذا هو تقرير كلام المؤلف . ليلزم به كل من الطوائف الثلاث ، لأن جمع الطوائف الثلاث أقل من فيهم الذين اثبتوا الأسماء دون ما تضمنته من الصفات فراراً من الوقوع في التمثيل ، فنقول لهم ، هذا الفرار الذي فررتم منه أو وقعتم في شر مما فررتم منه مع تعطيل النصوص وتحريفها ، ثم ما ذكرتم أنه لازم ليس بلازم ، وقد ضرب المؤلف أمثلة وذلك من قولة :(1/65)
( فقد سمى الله نفسه حياُ فقال (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم)(البقرة: من الآية255) وسمى بعض عباده حيا فقال ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ )(الأنعام: من الآية95) .
وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قولة الحي أسم لله مختص به وقولة () يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) أسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق ، والمخلوق عن الخالق ) .
( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ) لا يلزم من اتفاقهما في الاسم أن يتفقان في الحقيقة وحياة الخالق يختص به وحياة المخلوق يختص به ، فهذا الحي الذي يخرجه الله ليس مثل الله ، حتى الإنسان نفسه وأن أتفق الناس في الإنسانية فإنسانية كل شخص تختص به وتختلف عن الآخر .
فبعض الناس يكون إنساناً ويستعمل إنسانيته فيما يليق به وبعض الناس يكون إنساناً ولكنه حيوان ، وقولة (وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ) مثلاً كلمة الحي ولو قلت مائة مرة أنما يتفقان ويكون معناهما إذا جردا عن الإضافة والتخصيص أي لم نضيف الحي إلى الله ولا إلى الإنسان ، فإذا لم تضف إلى أحد صار متفقان لكن عند الإضافة والتخصيص يختلف بحسب ما يضاف إليه ولهذا قال المؤلف (وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين )(1/66)
معنى المطلق أي الذي لم يضف إلى أحد ومجرد عن الإضافة والتخصيص عندما نقول الحي ولكن لا نضيف أسمه إلى شيء معين فإن هذا مطلق لكن ليس له وجود في الخارج ، يعني عندما تقول الحي أو الكريم أو القدير مثلاً وأنت لا تقصد به شيئاً معيناً فمعنى ذلك أنه ليس له وجود في الخارج وإنما تفرض حياً ليس له وجود ، فلا يمكن أن يوجد أسم مطلق غير مقيد باسم أحد إلا في الذهن فقط ، فإذا وجد في الخارج فإنه لابد أن يتميز ويكون بحسب الإضافة والتخصيص هذه بحوث منطقية ليست صعبة وكما قال شيخ الإسلام عن المنطق يقول فيه ( أنه لا يستنفع في البليد ولا يحتاج إليه الذكي )
والمؤلف قال هكذا لأجل أن يبين لهؤلاء الذين يقولون : إذاً أثبتنا لله صفة لزم أن يكون مشابهاً لغيرة لأن القدر المشترك موجود في هذا وهذا .
عندما نقول الحي القدر المشترك إنما يفرضه الذهن فقط ما فيه شيء مطلق لكن عندما تضيف وتقول الحي هو الله عز وجل ، أو الحي وهو الإنسان فإنك تعرف الفرق .
وقولة (ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق، ) إضافة إلى قولة
(ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق، للخالق في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى، )
يعني كذلك الصفات كالعلم مثلاً فالعلم موجود في الإنسان وموجود في الله جل وعلا ، والقدر المشترك من العلم يتفق فيه هذا وهذا وهو المعنى الكلي المطلق لكن هذا المعنى الكلي المطلق ليس له وجود في الخارج ، إنما وجوه في الذهن ، نفرض كأن علماً اشتركت فيه جميع العالمين ولكن فرض في الذهن فقط والحقيقة أن في الخارج لأبد أن يتميز كل علم عن الآخر .
عندما نقول الله تعالى عليم والإنسان عنده علم (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(يوسف: من الآية76) .(1/67)
لكن علم الله ليس كمثل علم المخلوق ، بل أن علوم المخلوقين تختلف اختلافا ظاهراً عن علم الله ، وإذا كان كذلك فإنه لا يلزم من أتفاق المخلوق مع الخالق في الاسم أن يتفقان في الحقيقة .
والغرض من هذا الكلام الطويل تفصيل إبطال قول الذين قالوا أن إثبات الصفة لله عز وجل يلزم منه التشبيه والمماثلة والمؤلف يريد أن يقرر بإذن هذا الأمر خطير جداً ، ولا يظن أنه أمر سهل لأنه عقيدة ، فعندما تعتقد بأن لك رباً لا يسمع ولا يبصر ولا يقول ولا يفعل ، فأين الرب ؟؟؟ فمعناه ليس هناك رباً .
ولهذا إبراهيم علية الصلاة والسلام قال لأبية (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (مريم:42) ،
أولئك الفلاسفة والطوائف الثلاث الذين ذكرهم المؤلف يقولون إنهم يعبدون من لا يسمع ولا يبصر ولا يقول شيء ، وهذا كفر .
الحاصل : الذي خلصنا منه في هذا الدرس هو أننا فهمنا أموراً ثلاثة :
1) ... أن كل حادث لابد له من محدث ، وكل ممكن لابد له من واجب ،/ والدليل على ذلك قولة تعالى ")أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35) فإن هذا استدلال بالحوادث على وجود الخالق .
2) ... أن اشتراك شيئين في معنى من المعاني إنما يشتركان في المعنى المطلق المجرد عن الإضافة والتخصيص .
3) ... أن الله سمى نفسه بأسماء وصفات بأسماء وللمخلوقين نظير هذه الأسماء ولا يلزم من اتفاقهما في المعنى الكلي المطلق أن يتفقان في هذا المعنى عند الإضافة والتخصيص .(1/68)
(وكذلك سمى الله نفسه عليمًا حليمًا وسمى بعض عباده عليمًا فقال : وبشرناه بغلام عليم، يعني إسحق، وسمى آخر حليمًا، فقال : وبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] ، وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال : {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، وسمى نفسه بالرءوف الرحيم فقال : {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] ، وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم، وسمى نفسه بالملك فقال : {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } وسمى بعض عباده بالملك فقال : {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } [ الكهف : 79 ] ،(1/69)
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 50، 54 ] . وليس الملك كالملك، وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] . وليس المؤمن كالمؤمن، وسمى نفسه بالعزيز فقال : {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } [ الحشر : 33 ] . وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال : {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } [ يوسف : 51 ] . وليس العزيز كالعزيز، وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [ غافر : 35 ] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وقال {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] وقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال : {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا } [ الإسراء : 85 ] وقال : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] وقال : {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [ غافر : 83 ] وقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] وقال {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } [ هود : 52 ] . وقال {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] أي بقوة، وقال {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ } [ ص : 17 ] أي ذا القوة، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ) .(1/70)
هنا نقف ونقول هل شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير الآية بالقوة هل هو محرف كما فسر أيد الله بالقوة أو ليس بمحرف؟!
والصحيح أنه ليس بمحرف ، والفرق بين تفسير ابن تيمية الأيد هنا بالقوة وتفسير من قال بأيد ولم يقل بأيدينا ، فلو أضافها إلى نفسه لصارت مثل ذلك ، ولذلك فإن التي أضافها إلى نفسه نقول أنها من صفاته فلا يمكن أن نفسرها بالقوة مثل قولة تعالى ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(الفتح: من الآية10) لا يمكن أن نفسرها بإن قوة الله فوق قوتهم لأنهما أضيفت إلى الله أو في قولة تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) (يّس:71 ) ، فلا يمكن أن نقول مما عملت قوانا ، لأنها أضيفت إلى الله .
أما هنا فلم تضف إلى الله حيث قال (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) ، ويد هذه مصدر أد ، يؤد ، أيداً ، مثل باع يبيع بيعاً ، والأيدي في اللغة القوة فليس هناك تحريف .
(ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال : {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28، 29 ] وقال {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الإنسان : 29، 30 ] وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال : {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 67 ] .(1/71)
ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة فقال : {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] . وقال {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال : {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ البينة : 8 ] ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه، وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [ غافر : 10 ] .
وليس المقت مثل المقت . )
هنا من كلام المؤلف أنه يرى أن قولة (لَمَقْتُ اللَّهِ ) من باب إضافة المصدر إلى فاعلة وتقدير الكلام : لمقت الله إياكم فيكون من باب إضافة المصدر إلى فاعلة ، والمقت هو أشد البغض .
(وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال : ويمكرون ويمكر الله، وقال : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا . وَأَكِيدُ كَيْدًا } [ الطارق : 15، 16 ] ، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد، )
هنا يجب أن نقف ونقول هل المكر صفة نقص وذم أو صفة كمال ومدح ؟! والصحيح أنها تكون بحسب ما تضاف إليه فقد تكون صفة نقص وقد تكون صفة ذم ، أن قبل في مقابلة الغير بياناً لأنه أعظم فهو صفة مدح ، وإن قبل مطلقاً فهو صفة ذم . ولذلك لا يوصف الله به مطلقاً أبداً ، فلا يجوز أن نقول أن الله ماكر فهذا حرام ، أو نقول أن الله كائد لأن هذا يكون صفة نقص .
ويمكن أن نقول ماكر بمن يمكر به أو بأعدائه ، لأنه كون الله يمكر بهم مع أنهم هم يمكرون يدل على أن الله تعالى أقوى منهم وأعلم منهم سبحانه وتعالى .
نهاية الشريط الرابع .
الشريط الخامس
بداية الشريط الخامس(1/72)
قال المؤلف رحمه الله (ووصف نفسه بالعمل، فقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [ يس : 71 ] ووصف عبده بالعمل فقال : {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وليس العمل كالعمل ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال : {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [ مريم : 52 ] وقال : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } [ القصص : 62 ] وقال {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } [ الأعراف : 22 ] ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] وقال {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } [ المجادلة : 12 ] وقال : {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المجادلة : 9 ] وليس المناداة ولا المناجاة، كالمناجاة والمناداة، ووصف نفسه بالتكليم في قوله {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [ النساء : 164 ] .(1/73)
وقوله : {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [ الأعراف : 143 ] وقوله : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } [ البقرة : 253 ] ، ووصف عبده بالتكليم في قوله {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : 54 ] وليس التكليم كالتكليم، ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال : {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [ التحريم : 3 ] . وليس الإنباء كالإنباء .
ووصف نفسه بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال : {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1 : 4 ] وقال : {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } [ المائدة : 4 ] وقال : {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] . وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال : {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } [ الفتح : 6 ] ، ووصف عبده بالغضب في قوله {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } [ الأعراف : 150 ] وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوي على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوي على العرش،ووصف )
أنا عندي أن كلام المؤلف لحن ، مخالفة لقواعد اللغة العربية وذلك في قولة ( سبع مواضع ) والصواب أن يقول سبعة مواضع لأن موضع مذكر .(1/74)
{ العرش،ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [ الزخرف : 13 ] وقوله : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } [ المؤمنون : 27 ] وقوله : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [ هود : 44 ] وليس الاستواء كالإستواء، ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال : {وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } [ المائدة : 64 ] .
ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة، فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته بخلقه، فمن قال ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادي ولا ناجى ولا استوي . كان معطلا جاحدا، ممثلا لله بالمعدومات والجمادات .
ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي، كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات بل لا بد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين . ولله المثل الأعلى . وبخاتمة جامعة ] .
في الكتاب ذكر ( أو يدان كيداي ) وهذا خطأ والصواب ( كيدي ) والفرق بينهما أن يداي مرفوعة أما يدي فهي إما منصوبة أو مجرورة
وملخص كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يلزم من تماثل الأسمين أو الصفتين أن يكونان متماثلين في الحقيقة بل لكل من المخلوق والخالق ما يختص به من أسماء وصفات .
فصل
إثبات بعض الصفات إثبات الباقي .(1/75)
{ فأما الأصلان : فأحدهما أن يقال : القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول : بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، }
المؤلف رحمه الله أراد أن يبين صحة ما عليه أهل السنة والجماعة المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم وبطلان ما عليه أهل البدع المخالفون للرسل بأصلين ومثلين وخاتمة .
أما الأصلان فهما :
1/ إذا كان الذي يقول ببعض الصفات وينكر بعضها ، والمؤلف يشير بهذا للأشاعره فالأشعرية يقولون ببعض الصفات وينكرون بعضها ، يقولون أن الله له سبع صفات حقيقة وما عدا ذلك فليس حقيقة ، فنقول له أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، يعني أنه يجب أن نقول في بعض الصفات التي تنكرونها كما نقول في الصفات التي أنتم تثبتونها .
مثل ما أن القول في الصفات كالقول في الصفات كالقول في الذات كذلك القول في بعض الصفات ، كالقول في بعض .
فإذا كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة ، عليم بعلم ، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، يتكلم بكلام مريد بإرادة ، فهذه سبع صفات وهي التي يثبتها الأشاعرة .
يقولون هذه الصفات السبع صفات ثابتة لله حقيقة ، لكنهم يفسرون الكلام بغير معناه إذا إنهم يقولون : أن الكلام هو المعنى القائم بنفس الله وأن هذه الحروف خلقت خلقاً لتعبر عن ما في نفس الله .(1/76)
ليسوا يقولون في الكلام على ما يفهمه أهل السنة والجماعة أن الكلام كلام الله لفظاً ومعنى بحرف وصوت . فهم يقولون ‘نهم يثبتون صفة الكلام لكن عندما نسألهم ما هو كلام الله يقولون لك هو المعنى القائم بتفسير بنفس الله وليس هو هذه الحروف ، والأصوات وإنما الحروف والأصوات خلقت لتعبر عن ما في نفس الله ، فإذاً الكلام للإشاعرة يقولون : هو المعنى القائم بنفسه دون هذه الحروف ودون الصوت الذي سمعه جبريل ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الصوت الذي سمعه جبريل وهذه الحروف مخلوقه لتعبر عن ما في نفس الله .
وهذا الكلام غير صحيح ولا يمكن أن يفسر الكلام بمثل ما قالوا ، إنما هم على كل حال يقولون أن الله متكلم بكلام ويثبتون هذه الصفات السبع ،
وقولة (ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ) فمعنى ذلك أن بقية الصفات غير السبع عند الأشاعرة من باب المجاز وليست حقيقة ، أي أن الله لم يتصف بها حقيقة وإنما هي مجاز .
(ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ) يعني مثلاً عندما يأتي إلى صفة المحبة يقولون المحبة ليست صفة ثابتة لله ، ولكن معنى المحبة الثواب ، ولهذا تجدون في تفسير الجلاليين من يفسر قولة تعالى ( يحبهم ويحبونه ) قال ، يثيبهم ، فيغرسون المحبة بالثواب والثواب كما قال المؤلف رحمه الله مخلوق فيفسرون صفة المحبة ببعض المخلوقات ، أو يفسرون المحبة بالإرادة لأنهم يثبتون الإرادة فيقولون معنى يحبهم أي يريد ثوابهم .
الغضب عند الإشاعرة لا يفسرونه بالغضب حقيقة ، ويقولون المراد بالغضب الانتقام ، فيفسرونه بالعقاب ، ويقولون الغضب إرادة الانتقام فيفسرونه بالإرادة .
فصار هؤلاء الأشاعرة لهم فيما نفوه من الصفات طريقان :(1/77)
اتفقوا على أنها مجاز ولكن تفسير إما بالإرادة وإما بشي مخلقو ، والإرادة صفة لله ، فهم يفسرون بالإرادة لأنهم يثبتون صفة الإرادة حقيقة ويقولون أن الله مريد بإرادة حقيقية لكنه ليس يغضب بغضب حقيقي ، ويقولون معنى يغضب أي ينتقم أن فسروها بشيء مخلوق ، أو يريد الانتقام إذا فسروه بالإرادة .
ويفسرون الرضا في قولة تعالى ( رضي الله عنهم ) فلا يقولون رضا حقيقي بل يقولون معنى رضي عنه أي أراد إثباته أو أنه أثابهم فيقال للمخاطب الذي يقول بإثبات هذه الصفات السبع دون غيرها من الصفات وهم الأشاعرة : (لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، ) ( فلا فرق بين ما نفيته )
مثل المحبة والغضب والرضا ,,,,ألخ من الصفات ما عدا السبع الصفات ,
( وبين ما أثبته ) أي السبع الصفات ، (بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، ) إثباتاً أو نفياً .
(فإن قلت : أن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه . وهذا هو التمثيل )
يقصد المؤلف الذي يثبت صفة الإرادة فيقول هذه الإرادة أجعلتها مثل إرادة المخلوقين فإنه يكون أيضاً غضبه ومحبته ورضاه كلها أيضاً من جنس صفات المخلوقين وحينئذً نقع نحن وأنت في التمثيل ، وأنت لا تقر بالتمثيل ونحن كذلك لا نقر بالتمثيل .
(وإن قلت : أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك : وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به، )
فصار يلزمه فيما ثبت ما يلزمه فيما نفى فإذا قلنا له أنت الآن تثبت لله إرادة مثل إرادة المخلوقين ، إذاً قال نعم ، أثبت ذلك مثل إرادة المخلوقين قلنا ونحن أيضاً نثبت مثلك محبة تماثل محبة المخلوقين فتقع نحن وأنت في التمثيل .(1/78)
وإن قلت لا أبداً حاشا لله أن نثبت إرادة مثل إرادة المخلوقين بل أقول له إرادة تليق به وله كلام يليق به وله سمع يليق به وله قدرة تليق به إلى آخر الصفات السبع ، قلنا له نحن وكذلك له محبة تليق به وغضب يليق به وكل شيء من الصفات التي تنفي تليق به
(وإن قلت : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قلت : هذه إرادة المخلوق قيل لك : وهذا غضب المخلوق )
وهذا صحيح أن القلب يغلي ولهذا يفور الدم وتحمر العين ويقف الشعر ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم ) ، فهي حرارة يفور الدم منها لكن هذا غضب المخلوق ، ( فنقول له ، فيقال له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة )
أريد مثلاً أن أدرس في الكلية فهذا لجلب منفعة ، أريد مثلاً أن ألبس ثوباً أتدفئ منه عن البرد فهذا الدفع مضرة ، إذاً الإرادة هي ميل النفس على جلب منفعة أو دفع مضرة والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى جلب منفعة ولا إلى دفع مضرة وأنت أثبت لله الإرادة ، فإذا أنت الآن أثبت أن الله تعالى يحتاج إلى جلب منفعة ودفع مضرة ، ( فإن قلت هذه إرادة المخلوق ) التي هي ميل النفس إلى جلب المنفعة أ و دفع مضرة قيل لك هذا مثل هذا ، أي غليان القلب لطلب الانتقام هذا غضب المخلوق ، فهذا إلزام بين واضح لا ينفك عنه أبداً ، لأنه كل شيء يقدره في الصفات التي نفاها نحن نقدره في الصفات التي أثبتها إذاً لا فرق حيث قال في الذي نفى مثل ما يقال فيما أثبته .(1/79)
فإذا كان يثبت إرادة قلنا الإرادة هي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع منفعة أو دفع مضرة ، والله جلا وعلا لا يليق به هذا الشيء فإذا قال هذه إرادة المخلوق وأنا أثبت لله إرادة تليق به وللمخلوق إرادة تليق به قلنا له : الغضب الذي أنت تقول أنه غليان دم القلب لطلب الانتقام ، إنما هو غضب المخلوق ونحن نثبت لله غضباً يليق به وللمخلوق غضب يليق به ، فعند ذلك يلزمه أن يقر بالصفات التي نفاها ، فالمؤلف رحمه الله صانع البحث على تقدير الإثبات وعلى تقدير النفي ، فإذا أثبتت الإرادة قلنا الإرادة على هذا المعنى لا تليق بالله ونقصد بذلك ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة .
إذا أثبت الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فالغضب بهذا المعنى لا يليق بالله ، إذاً يجب عليه نفي الإرادة ونفي الغضب والمؤلف رحمه الله ناقش كلامهم بالنفي والإثبات .
قالوا إذا أثبتنا لله إرادة فالإرادة ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة وهذه لا تليق بالله ، الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام وهذا لا يليق بالله ، إذا قال الأشعري أنا أثبت الإرادة والنفي والغضب ، ثبت لله الإرادة التي تليق بالله ، والإرادة التي هي جلب منفعة أو دفع مضرة هذه الإرادة للمخلوق ، وأنا أثبت لله إرادة لا تشبه إرادة المخلوق .
قلنا إذا الغضب الذي يقولون أنه غليان دم القلب لطلب الانتقام إنما هو غضب المخلوق ، ولماذا لا تثبت لله غضباً يليق به مثلما أثبت لله إرادة تليق به ؟!
(وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال : أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له : وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة )(1/80)
المعنى أن المؤلف يقول الصفات الباقية التي أثبتوها وهي ست صفات هي السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والحياة يلزم منها ما يلزم صفة الإرادة .
وإذا قلنا أن السمع هو عبارة عن إدراك المسموع بصفة معينة على شكل محسوس ، هذا السمع إذا قلنا أن سمع الله هكذا لزم أن يكون مشابهاً للمخلوق ، وأن يكون ناقصاً ، فإذا قال لا ، أنا أثبت لله سمعاً لا يشبه سمع المخلوق ، قلنا له : إذاً بقية الصفات يجب عليك أن تثبتها لله على وجه يليق به ولا يشبه صفات المخلوقين ، يقول (فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال : أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له : وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة )
يعني إذا قال لك أن الغضب والكراهة والمحبة لا حقيقة لها إلا ما يليق بالمخلوق قلنا له وكذلك السمع والبصر والكلام .
فالحاصل أن من قال ببعض الصفات ونفى بعضها فإن قوله متناقض ووجه التناقض أنه يلزمه فيما أثبت نظير ما يلزمه فيما نفى ، فإن أثبتها على وجه التمثيل قلنا له أنك ممثل ، ولكن هو ما يثبت على وجه التمثيل ، يقول الصفات السبع تليق بالخالق وما يقابلها من المخلوق تليق به ، نقول له هكذا يجب عليك في بقية الصفات أن ثبت لله من الغضب والرضا والمحبة ما يليق به ، وللمخلوق من ذلك ما يليق به ، وسبب إثباتهم لهذه الصفات السبع يقولون أن هذه الصفات السبع دل عليها العقل فأتفق عليها العقل والسمع ، فوجب إثباتها ، إما بقية الصفات فالعقل لا يدل عليها فلا يجوز إثباتها ولذلك هم يرون تحكيم العقل في باب الصفات ، فلا يرجعون للسمع يقولون العقل مقدم على النقل ، فإذا وجد في النقل ما يخالف العقل وجب تكذيبه ـ أي تكذيب النقل ـ أن أمكن أو تأويله .(1/81)
يقولون الحياة مثلاً العقل يدل عليها ، إذا لا يمكن أن يكون خالق وهو ميت السمع والبصر يدل عليه العقل ، لأن ربا لا يسمع ولا يبصر فلا يمكن أن يكون رب ، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه ( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ )(مريم: من الآية42) .
والقدرة أيضاً دل عليها العقل لأن ربا ليس بقادر لا يصح أن يكون رباً ، ولهذا ينفي الله سبحانه إلوهية معبود المشركين لأنه لا يقدرون على شيء ، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام ()وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(مريم: من الآية42).
والكلام لا يمكن أن يكون رباً بدون كلام لأنه كيف يبلغ وحيه إلى خلقه وما يريد من خلقه إلا بطريق الكلام .
والإرادة أيضاً يقولون نحن نشاهد المخلوقات تتبدل وتتغير ولا يمكن أن يكون الخالق يبدلها ويغيرها إلا بإرادة .
فهم يقولون هذه الصفات السبع دل عليها العقل فيجب أتباتها ، وغيرها لا يدل عليها العقل فلا يجوز إثباتها . ونحن نقول فيه من الصفات ما أنكرتموه ، وقد دل عليه العقل دلالة قطعية الرحمة مثلاً ، فهم لا يثبتون لله رحمه ، ويقولون أن الرحمة هي إرادة الإحسان أو هي الإحسان لأنهم يفسرون بالإرادة أو با لإحسان .
فنقول الرحمة أليس في العقل ما يدل عليها ، ألسنا نجد إن الله يكشف السوء وأن الله يجلب الخير ، وأسباب هذا هو الرحمة وعلى هذا فقل ،
فنحن نقول لهم الذي نفيتم وزعمتم أن العقل لا يدل عليها هي أيضاً يدل عليها العقل ، بل أن دلالة العقل على بعضها أقوى من دلالاته على ما أثبتم .
(فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له : فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، )
المقصود بالمنازع أي المنازع في الإثبات لأن فيه ناس غير الأشاعرة يقولون جميع الصفات لا يجوز إثباتها لله كما مر بنا فيما سبق .(1/82)
فإذا قال الأشعري : أنا أثبت لله سمعاً وقال المعتزلي : أنا لا أثبت لله سمعاً ، لأن إثبات السمع تمثيل وتشبيه ، فيقول الأشعري رداً على المعتزلي : العقل يدل على إثبات السمع وكذلك اثبت الله سمعا يليق به ، وحينئذ لا تنفعه ، فنقول له أبضا أنت نقول لك فيما نفيت من الصفات ونحن نثبتها نقول لك مثل ما قلت أنت للمعتزلي الذي ينكر الصفات ،
حيث أنك قلت له حجة واضحة حيث قلت أثبت لله سمعاً ليس كسمع المخلوق وأثبت له قدرة ليست كقدرة المخلوق ، وأثبت له إرادة ليست كإرادة المخلوق ، فإذا نحن نقول لك مثل ما تقوله أنت ، ولهذا يقول المؤلف ( يقال له فيما نفاه ) كالغضب والرحمة (كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته،) منازعة فيما أثبته هو المعتزلي والذي يثبته الأشعري السبع صفات المذكورة كالسمع والبصر والقدرة والحياة والكلام والإرادة والعلم .
(فإذا قال المعتزلي : ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، )
حيث أن المعتزلة ينكرون جميع الصفات ، ومن ضمنها السبع الصفات التي يثبتها الأشاعرة ، فيقول المعتزلي أنه سميع بدون سمع وأنه بصير وليس له بصر ، أو يقول أن هذه أسماء جامدة ما تدل على معاني أطلاقاً ، إذا قول المعتزلي ليس له إرادة ولا كلام قائم به لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات ، وخصوم المعتزلي الآن الآشاعرة وأهل السنة والجماعة فكلهم الآن يقومون عليه .
يقول المؤلف يبين لهم أن هذه الصفات يتصف بها القديم والمراد به الله سبحانه وتعالى ولقد ذكرت لكم من قبل أن هذا التعبير من شيخ الإسلام مما يؤخذ عليه ، لكنه رحمه الله يقول هذا الكلام في حاجة من يقولون :(1/83)
لا إقرار له لكن تنزلاً مع الخصم والتنزل مع الخصم ليس به بأس وإن كان الإنسان لا يقره ولقد قرأت عليكم قول الله تعالى ( أم لهم آلهة تمنعهم .....الآية )
بل أبلغ من ذلك قوله تعالى ( آالله أخيرا أما يشركون ) فليس هناك مقارنة بين الله وبين ما يشركون ولكن تنزلاً مع الخصم ...
نقول أن المؤلف رحمه الله يقول (أن هذه الصفات يتصف بها القديم، .....ونحو ذلك ) المقصود أن المشتركين لسائر الصفات وهم أهل السنة والجماعة كما يقولون للمعتزلي والأشعري يقولون لأحدهما في سائر الصفات كما يقول هؤلاء فيما أثبتوه .
الخلاصة :
المؤلف رحمه الله يبين لنا الطريق البين على الرد على من يثبت بعض الصفات وينفي بعضاً .
(فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على
) القدرة والتخصيص، دل على الإرادة والإحكام، دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمه للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر والكلام، أو ضد ذلك
قوله ( فإن قال ) الضمير يعود على الأشعري الذي يثبت بعض الصفات دون بعض ( تلك الصفات ) يعني الصفات السبع التي يثبتونها ( أثبتها العقل ) وجه دلالة العقل عليها ( لأن الفعل الحادث دل علي القدرة ) والمراد بالفعل هنا المفعول حيث أن المفعول يدل على قدرة الفاعل ، لأن من لا يقدر لا يفعل ، ونحن نشاهد حدوث المطر نشاهد حدوث الإنسان نشاهد طلوع الشمس وغروبها ، هذا الفعل الحادث يدل على القدرة ، لأن من لا يقدر لا يحدث ، ( والتخصيص دل على الإرادة ) يعني تخصيص الشي بما هو عليه دال على الإرادة ، عندما يخلق الله من هذه النطفة ذكراً أو من النطفة الآخر أنثى فهذا يدل على أنه أراد أن تكون هذه النطفة ذكرا ، أو أراد أن تكون النطفة الأخرى أنثى .(1/84)
فتخصيص كل شي بوقته يدل على الإرادة لأنه لولا الإرادة ما كان هذا ذكر، وهذه أنثى ، فتخصيص المخلوق بما هو عليه دليل على الإرادة ( والإحكام دل على العلم ) وأحكام الشيء يعني إتقانه ، ونحن نشاهد المخلوقات محكمة متقنة ، وهذا الإحكام يدل على العلم لأن الذي لا يعلم فلا يمكن أن يحكم شيء لا يدري عنه ، عندما تضع أي آلة فإذا كان ليس عندك علم فكيف تحكمها وتتقنها ،
كذلك أيضا ( هذه الصفات ) المقصود بها الذي ذكرها من قليل وهي القدرة والإرادة والعلم ( مستلزمه للحياة ) لأنه لا يمكن أن تصير عالم أو قادر أو مريد إلا من كان حيا فالميت لا يمكن أن يصير عالما أو كذلك . لا يمكن أن يصير قادرا أو مريدا إذا ً فهو حي وهذه أربع صفات ,
( والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ) التعبير الأخير في دلالة العقل أكثر مما قاله المؤلف لأن قوله الحي لا يخلو عن السمع والبصر قد ينازع فيه ، فقد يكون حيا بلا سمع فقد يكون أصم ، أو أعمى كذلك الكلام قد يكون أخرس .
لكن نقول أن عدم السمع والبصر دليل على عدم الصلاحية للربوبية فلا يمكن أن يكون ربا وهو لا يسمع ولا يبصر ، ولهذا إبراهيم علية الصلاة والسلام قال لأبيه ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ)(مريم: من الآية42)فلا يمكن أن يكون ربا ، فإذا قال أن الله رب وخالق فلا بد أن يسمع ويبصر .
الكلام إيضا لابد منه للرب ليبلغ ما يريد لخلقه ، نحن لا ندري ما يريده الله إلا بواسطة الكلام ، فلولا أن الله تكلم بالوحي ونزل به جبريل على الرسل فإننا لا ندري ماذا يريد الله منا .
على كل حال هذان طريقان لإثبات السمع والبصر والكلام .
الطريقة الأولى / ما ذكرناه آنفاً ، والطريقة الثانية / قول المؤلف أن الحي لا يخلو من السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ، ضد ذلك المراد به ضد السمع وهم الصمم ، وضد البصر وهو العمى ، وضد الكلام وهو الخرس وهذا لا يليق بالله عز وجل .(1/85)
(قال له سائر أهل الإثبات : لك جوابان أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فثبت أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فانه لا ينفيه وليس لك أن ينفيه بغير دليل )
إذاً نقول / عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول، وذلك لأن المدلول قد يثبت بدليل آخر غير هذا الدليل المعين ، فإذا قدرنا أن العقل لا يدل على بقية الصفات على زعم الأشعري فالسمع دل على هذه الصفات ، هذا هو ما يدية المؤلف ، وخذوا هذه القاعدة فهي نافعة / فإذا أبطل أحد دليل على شيء وقال هذا لا يدل على هذا الشيء فإنه لا يلزم من بطلان الدليل على هذا المدلول على هذا الشيء أن لم يثبت هذا الشيء بدليل آخر ، لأنه قد ينتفي الدليل هذا لكن يثبت الشيء بدليل آخر .
يقول المؤلف ( عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ) لأنه قد يثبت بدليل آخر ,
وقوله (فثبت أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك) هي بالمعنى قدر أو فرض ، أي قدر أن الذي سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك ، أي ما نفيته من الصفات لأن الأشعري ينفي ما نفى من الصفات حجته أن العقل لا يدل عليه ، نقول هب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ما نفيت من الصفات فإنه ـ أي الدليل العقلي ـ ( لا ينفيه ) يعني مثلا إذا قلت أن الدليل العقلي لا يدل على إثبات بقية الصفات ، فإن الدليل القعلي أيضا لا ينفي هذه الصفات ,
( والنافي لا بد أن يأتي بدليل كالمثبت ) كل غنسان ينفي شيئا فعليه الدليل على نفيه والدليل قد يكون ثبوتيا وقد يكون بناء على الأصل وقد يكون بناء على الظاهر ، المهم أن من نفي شيئا لابد أن يأتي بدليل كالمثبت سواء بسواء ( وليس لك أن تنفيه ) أي أن تنفي ما نفيت من الصفات ( بغير دليل لأن النافي عليه دليل كما على المثبت ) إذا نقول لهذا الإشعري الذي أنكر ما أنكر من الصفات بناء على أن العقل لا يدل عليه منقول له جوابان :(1/86)
الأول : أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ، وذلك لأن قد يثبت بدليل آخر ،
الثاني / إذا قدرنا أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ما نفيت من الصفات فإنه لا ينفيه ، وإذا كان دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن العارض المقاوم .
الثاني / أن يقال يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة ، وإكرام الطائفين يدل على محبتهم ، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم ، كما ثبت بالشهادة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب إعدائه ، والغايات المحمود في مفعولاته ومأموراته وهي تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العراة الحميدة ، تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصص على المشيئة وأولى القوة العلة الغائبة ، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم ، أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة )
يقول المؤلف في الرد على من يقول إن العقل يدل على الصفات السميع (قال له سائر أهل الإثبات )
المقصود بهم أهل السنة والجماعة الذين يثبتون جميع الأسماء والصفات ، ( لك جوابان أحدهما أن يقال عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ) معنى هذا أن الكلام أن الأشياء التي لها أدله إذا عدم من هذه الأدلة دليل واحد هل يستلزم عدم المدلول ، يعني مثلاً إذا فرضنا أن هذا الشيء محرم وله عدة أدلة ، فإذا انتفى واحد من هذه الأدلة فإننا لا نقول أنه الآن صار مباحاً ، فيبقى محرماً بالدليل الثاني .(1/87)
فإذا قلنا أن الصلاة واجبة لأن الله يقول ( أقيموا الصلاة ) والصلاة واجبه لأن الله توعد المتهاونين بها فقال( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ) [مريم/59] والصلاة واجبة لأن الله تعالى فرضها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أن الله فرض عليهم خمس صلوات ) هذه مثلاً ثلاث أدلة إذا انتفى واحد من هذه الثلاثة ولم نجد دليلاً يدل على أنها فرض بهذا اللفظ فليس معنى ذلك أنها لا تكون فرضاً لأن هناك أدلة أخرى غير هذا
لا ينفيه فعليك الدليل على نفيه ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ( والسمع قد دل عليه ) المراد بالسمع هنا الكتاب والسنة ، لأنه دليل بطريق السمع حيث دل على ما نفيت من الصفات ، ( ولم يعارض ذلك معارضه عقلي ) لأن الأشعري لا يقول أن العقل ينفي ذلك وإنما يقول العقل لا يثبته ، فإذا قلنا العقل لا يثبت فليس ينفي ,
( ولا سمعي ) فإذاً إذا دل عليه السمع ولم يكن هناك معارضه فالواجب : ( فيجب أثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم ) تقرير هذا الجواب : أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين لأنه قد يثبت لغيره ، والمثل على ذلك الصلاة التي دل على وجوبها عدة نصوص فإذا أنتفلا نص من هذه النصوص لم يلزم انتفاء وجوب الصلاة لأن هناك دليل آخر .
كذلك الصفات تقول هب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ما نفيته من الصفات تقول فإنه لا ينفيه ، وإذا كان لا ينفيه فلا يجوز لك نفيه بغير دليل ، وإذا كان الدليل العقلي كما زعمت لا يثبته فإن الدليل السمعي قد أثبته وليس له معارض من عقل ولا سمع ، ولهذا السبب فالواجب إثباته .(1/88)
( الثاني : أن يقال : يمكن أثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات) حيث أنه أثبت كما سبق من الصفات العلم والقدرة والإرادة ، فالأحكام قال إنه دليل على العلم ، والتخصيص دليل على الإرادة ، والحدوث دليل على القدرة ، فهو أثبت بدليل عقلي ، فيمكن أن نثبت ما نفي هو من الصفات بدليل عقلي أيضاً ونقول له أن قولك أن العقل لا يدل على إثبات ما نفي قول خطأ ، وأن العقل قد دل على أثبات هذه الصفات ، (فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة ) الإنسان الذي يخرج له الزرع والذي ينزل له الماء والذي أمره بالصحة هو الله سبحانه وتعالى وهذا يدل على الرحمة لأنه لولا رحمة الله ما حصلت هذه المنافع ، ولولا رحمة الله ما اندفعت المضار ، فوجود النافع واندفاع المضار يدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق ،
( كدلالة التخصيص على المشيئة ) الأشعري كما سبق استدل بالتخصيص على الإرادة والإرادة والمشيئة واحدة ، ( وإكرام الطائعين يدل على محبتهم ) وإكرام الطائعين موجود ومشاهد وذلك بنصرهم وخذل عدوهم ، وما أشبه ذلك وهذا يدل على المحبة لأن الله لو لم يحبهم لما أكرمهم ، ولا يمكن لأي أحد أن يكرم أحداً إلا محبة أو خوفاً ، والخوف ممتنع على الله سبحانه وتعالى وعقاب الكافرين ثابت ومشاهد والقرآن مملوء بذكر الأمم التي عاقيها الله ، وهذا يدل على بغضهم ( كما قد ثبت بالشهادة والخبر ) ثبت أي إكرام الطائعين وعقاب الكافرين ، والمشاهدة أو الشهادة أي ما شاهدناه نحن أو شيء أخبرنا عنه ( والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - يدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى )(1/89)
وهذا استدلال عقلي صحيح ، الغايات المحمودة في مفعولاته أي مخلوقاته ، وفي مأموراته أي الشرع ، فالخلق له حكمة وغاية عظيمة فمنافع الشمس معروفه ، ومنافع الليل والنهار معروفه ، ومنافع المياه والأمطار معروفه ، وهكذا ... هذه الغايات مقبولة في المفعولات والمأمورات مثل الشرع ، مثل وجوب الصلاة ، وجوب الصيام ، وجوب الحج كل له غايات معروفه ومشهودة ، هذه الغايات في المفعولات والمأمورات تدل على الحكمة ، يعني ما فعل هذا إلا لهذه الغاية المحمودة ، إذاً الغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على حكمة أنه لم يفعل شيء ولم يشرع شيء إلا لحكمة ، لأن السفيه يفعل الشيء أعتباطاً بدون أن ينظر إلى عواقبه وبدون أن ينظر إلى حاله لكن الحكيم لا يفعل ولا يأمر بشيء إلا لحكمة ، وكلنا يعرف الغايات الحميدة التي تنشأ من مأموراته ومن مفعولاته وهذا دليل عقلي على الحكمة وأنه سبحانه وتعالى له حكمة والرحمة والمحبة والغضب هذه الأربع صفات التي مثل بها المؤلف لا يقر بها الأشاعرة لأنهم يزعمون أن ( الفعل ) لا يدل عليها ونحن نقول بل العقل يدل عليها ، ووجه الدلالة من العقل على هذه ما اشار إليه المؤلف رحمه الله ( : لقوى العلة الغائية ) معنى ذلك أي قوة دلالتها فإنه العلة الغائبة التي ينتهي إليها المفعول أو المأمور تأثيرها أبلغ من تأثير الإرادة والتخصيص .
( ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم : أعظم مما في القرآن من بيان ما فيهما من الدلالة على محض المشيئة )
فمثلا القرآن كله مملوء بلام التعليل ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) كذلك قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) وكثير جداً في القرآن أثبات العلة سواء باللام أو بأن أو بالفاء أو بالشرط أو غيرها مما يحصل به التعليل .(1/90)
كل شيء فيه تعليل بالقرآن دال على الحكمة لأن العلة هي الحكمة والله سبحانه وتعالى لا يلزم من حكمته عله ، وإنما يسميها حكمة ، لكن العلة هذه جاءت من قبل اصطلاح الأصول .
(وان كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كا لمعتزلي الذي يقول : انه حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة )
العجيب أن المعتزلة يصفون أنفسهم بالعقلاء أقرب إلى مجانين المجانين أقرب !!
المعتزلي ينكر الصفات ولا يثبت لك صفة أبداً ، لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا وجود ولا إرادة ، ولا كلام ولا شيء ، ولكن يقر بالأسماء فيقول : إن الله حي لكن ينفون أن يتصف الله بالحياة فيقولون : أنه حي بلا حياة ، كذلك يقولون الله عليم لكن بلا علم ويقولون إن الله قدير ولكن بلا قدرة .
نهاية الشريط الخامس .
الشريط السادس
بداية الشريط السادس الوجه الأول .
( وان كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول : انه حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة قيل له : لا فبق بن أثبات الأسماء وإثبات الصفات فإنك أن قلت : أثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أ تجسيما لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم)
هم يقولون : أن الله حي لكن ليس له حياة ، وقدير ليس له قدرة وعليم ليس له علم ، فنقول لا فرق بين أثبات الأسماء واثبات الصفات ،
فإن زعمت أن أثبات الصفات يستلزم التمثيل ، فإثبات الأسماء يستلزم التمثيل ، وأن لم يستلزم أثبات الأسماء الثمثيل فإن إثبات الصفات لا يستلزم التمثيل ، فعندما نقول ( عليم ) فإن هذا أسم و ( العلم ) صفة ، هذا هو الفرق بين السم والصفة ، القدرة صفة والقدير نفس القادر .(1/91)
هذا المعتزلي يقول : أن أثبات العلم والقدرة والحياة يستلزم التشبيه لأننا لا نجد في الشاهد أي المشاهدة لا نجد فيه متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم ، حيث لا نجد متصفاً بصفة الحياة إلا من هو جسم ، ولا بصفة العلم إلا ما هو جسم ، ولا بصفة القدرة إلا ما هو جسم .
( قيل لك : ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسيم فان نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى : فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات)
إذا كان أثبات حياة علم قدرة يستلزك جسماً فإن أثبات حي عليم قدير يستلزم جسماً .
كذلك لا نجد مسمى بحي وعليم وقدير وسميع وبصير إلا ما هو جسم فكل ما يجتمع به مثبت الأسماء ، كحجة الجسم مثلاً ، يحتج به أيضاً في الأسماء بذلك يكون ما هو جواباً لذلك جواباً لمثبتي الصفات .
ولذلك يقال أن من أثبت الأسماء لزمه أن يثبت الصفات وأن نفى الصفات ، وأقر بالأسماء تناقض كلامه .
( وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم )
الغلاة : هم أشد من المعتزلة ، يقولون ننكر حتى الأسماء وليس الصفات فقط ، والأقوال أنه حي ولا عليم .
لأني لا أشاهد شيئاُ يتصف بهذا إلا ما هو جسم ، وهذا في الحقيقة أحسن من المعتزلي من وجه لأن المعتزلى متناقض يثبت شيء وينفي نظيره وهذا الرجل ينكر الجميع فيرد عليه
( قيل له : وكذلك إذا قلت : ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير : كان ذلك تشبها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات )(1/92)
إذا قلت بإن الله ليس حياً فإنك شبهته بالمعدومات وكذلك ليس موجوداً أيضاً وليس قديراً أن شبهته بالعاجز وليس سمعياً شبهته بالأصم ، والتشبيه بالمعدوم أقبح من التشبيه بالموجود ، لأن الموجود له كيان وله ذات ، وله حسن ولكن المعدوم معدوم .
فإذا الذي ينفي الأسماء والصفات نقول له لقد شبهت ربك بالمعدوم .
( فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات قيل له : فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضات من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما أولا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود العدم ونفى الحياة والموت ونفى العلم والجهل)
أن قال أنا أقول لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ، فإننا نقول له أنت بذلك شبهته بالممتنعات وهذا أشد لأن الجمع بين النقيضين ممتنع حيث لا يمكن أن يكون هناك شيء لا موجود ولا معدوم ، فلابد أن يكون هذا الشيء إما موجود أو معدوم .
( فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لها وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذا ليس بقابل لهما )
سبق أن قلنا أن الجمع بين النقيضين ممتنع ، وأن رفع النقيضين ممتنع ، وهذا فيما إذا كان تقابلهما تقابل نفي وإثبات ، فإنهما لا يترفعان ولا يجتمعان ، لكن إذا كان تقابلهما تقابل عدم وملكه ، بمعنى أن الشيء هل يقبل الاتصاف بهما أو لا يقبل ،فإنه يجوز رفعهما عما لا يمكن أن يكون قابلاً لهما .(1/93)
مثال ذلك : الجدار ، وقد قلنا أن العلم والجهل نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وذلك فيما يمكن أن يكون قابلاً لهما ، لكن الشيء الذي لا يقبل النقيضين يمكن أن يرفع عنه النقيضين ، مثل الجدار ، حيث يمكن أن تقول عنه ، لا عالم ولا جاهل ،فأنت بذلك سلبت عنه النقيضين وأنت قلت أن ارتفاع النقيضين يمكن ، فكيف أمكن هذا أن نرفع النقيضين وهما العلم والجهل عن الجدار ؟
نقول أنه أمكن لأن تقابلهما بالنسبة للجدار تقابل العدم والمملكة بمعنى أنهما معدومان بالنسبة للجدار لأنه ليس بقابل لهما .
والمملكة معناها القبول .
وها ليس في كل نقيضين ، لأنك لو قلت أن الجدار لا موجود ولا معدوم فإن هذا لا يصح لأن الجدار قابل للوجود والعدم ، فيرد الشيخ بما يلي .
( قيل لك : أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم فأنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فليزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر )
فهذا الرجل الذي يقول أن الله لا موجود ولا معدوم ، فإننا نقول له ، بأنه لا يمكن أن تصفه بالوجود والعدم .
فقال إنه يمكن لأن الوجود والعدم نقيضان لا يرتفعان بالنسبة لما يكون قابلاً لهما وأما الله فليس قابلاً لهما .
فإننا نقول له جواباً على هذا ، بالنسبة للوجود والعدم ، ولا يصح لأن كل شيء قابل للوجود والعدم ، فكل شيء يمكن أن تصفيه بأنه أما موجود وإما معدوم .
إذاً تقابل العدم والوجود تقابل سلب وإيجاب وليس تقابل عدم وملكه " ومعنى الملكة كما سبق اي القبول ، والعدم أي عدم القبول ( وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل : فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون وإلا صطلاحات )
اللفظية ليست دليلاً على الحقائق العقليه .
وقد قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) )(1/94)
فسمى الجماد ميتاً وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم . )
اي كونهم يصطلحون ويقولون لا يوصف بالحياة والموت الآمن له إحساس هذا هو اصطلاح المتفلسفة .
وهذه الاصطلاحات اللفظية لا تغير الحقائق العقلية ، فلذلك ليست دليلاً تتغير به الحقائق العقلية .
والدليل على هذا أن هذا الاصطلاح ليس بصحيح ، وهذه الآية المذكورة حيث وصف الله هذه الأصنام بأنهما أموات غير أحياء ، ومع أن هذه الأصنام من الجمادات كالأشجار والأحجار .
ولكن المتفلسفة يمنعون هذا الوصف ، حيث يقولون لا يمكن أن تقول عن الجماد أنه ميت وليس بحي ، بل تقول لا حي ولا ميت .
فنحن نأخذ بالحقائق العقلية التي دل عليها الشرع ولا نأخذ اصطلاحاتهم .
(وقيل لك ثانيا : فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات انقض مما يقبل ذلك - فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدا منهما ) .
أن قال إنما أرفع النقيضين عن الله لأنه غير قابل لهما نقول لك .. مالا يقبل ذلك أنقض مما يقبله وهو عدم فيه .
فالذي لا يقبل هذا الشيء وليس من شأنه أن يكون متصفاً بهذا الشيء هو أنقص مما يكون من شأنه الاتصاف به ، ولكنه لا يتصف به لعله
فالأعمى وإن كان غير مبصر أكمل حالاً من الجدار الذي لا يقبل العمى ولا البصر ، وبذلك يكون قد شبه بما هو أنقض لأنه يقول : أشبه الله بالجدار ، الذي ليس له من ملكته السمع والبصر .
( فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك )
فنقول له : أنت شبهت الله بالجماد الذي لا يقبل أن يكون بصيراً ، وفررت من تشبيهه بالأعمى الذي يقبل أن يكون بصيراً لأن الحيوان الذي يقبل السمع والبصر خير وأكمل من جماد لا يقبل البصر ولا يمكن أن يتصف بالبصر ، وليس من شأنه وحقيقته أن يتصف بالبصر .(1/95)
( وأيضا فما يقبل الوجود والعدم : أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم بل ومن اجتماع الوجود والعدم) .
كلام المؤلف فيه شيء من الأشكال حيث لا يوجد شيء لا يقبل الوجود والعدم ، لكن هذا على فرض أن يقدر هؤلاء ذهناً بان شيئاً لا يقبل الوجود والعدم .
وإلا فما من شيء إلا ويقبل الوجود والعدم ، سواء كان عيناً أو صفه .
والمعنى أنكم أنتم إذا قلتم أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يقال موجود ولا يقبل أن يقال معدوم ، فأيهما أعظم امتناعا من أن يكون قابلاً لهما ، ولكنهما لم يجتمعا .
إنما لا يقبل فهذا أعظم امتناعا لأن ما لا يقبل أمر غير ممكن لا يفرضه غلا الذهن .
كذلك الذي لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعا من شيء يقال أنه موجود معدوم في آن واحد ، ولهذا قال ومن اجتماع الوجود والعدم فالصور الثلاث للوجود والعدم هي :
* أن تقول هذا الشيء غير قابل للوجود والعدم ، أي لا يصح أن تقول أنه موجود ولا أنه معدوم ، وهذا ممتنع ، لأنه ليس هناك شيء نقول أنه لا موجود ولا معدوم .
* أن تقول هذا الشيء قابل للوجود والعدم لكنه ليس موجود ولا معدوم فالذي لا يقبل أن يكون موجوداً معدوماً أعظم امتناعا من الذي يقبل .
* أن تقول هذا الشيء يمكن أن يقبل الوجود والعدم ، وأنه موجود معدوم ، فهذا ممتنع ، ولكن مع ذلك فالصورة الأولى أعظم .
( ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم : كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم )
وذلك لأنك إذا قلت هذا الشيء لا موجود ولا معدوم وهو قابل لأن يكون موجود أو معدوماً ، فهو أهون مما إذا قلت هذا الشيء لا موجود ولا معدوم وهو غير قابل للوجود والعدم .
فقوله نفيهما جميعا ، المقصود نفي الوجود والعدم لكن مع وجود القابلية نه مع عدم وجود القابلية هي الصورة الأولى .(1/96)
( وإذا كان هذا ممتنعا في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعا فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد )
المؤلف يقول أن هؤلاء الفلاسفة : يقولون أن الله سبحانه وتعالى ليس حياً ولا ميتاً ، وليس قادراً ولا عاجزاً ، وليس جاهلاً ولا عالماً ، وليس موجوداً ولا معدوماً ، وذلك لأنه ليس قابلاً أن يوصف بذلك مثل أن الجدار غير قابل أن يوصف أنه أعمى أو بصير كذلك الله ليس قابل أن يوصف أنه موجود أو غير موجود .
وكلامهم هذا غير ممكن ، ويمتنع غاية الامتناع وذلك لأن سلب النقيضين " أو اجتماع النقيضين " أو عدم قبول الشيء لاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أمر ممتنع .
وأعظم امتناعا أن نقول أنه لا يمكن سلب النقيضين ولا جمع النقيضين وأن نجعل الشيء الواجب مستحيلاً .
مثال ذلك :
الوجود والعدم نقيضان فلو قلت أن هذا الشيء لا موجود ولا معدوم فهذا غير ممكن ، ولو قلت أن هذا الشيء موجود معدوم فهذا غير ممكن أيضاً ، وإذا قلت أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون معدوماً موجوداً ولا يمكن أن يكون لا معدوماً ولا موجوداً ، فهذا أعظم امتناعا مما يمكن أن يوصف ولكنه لم يوصف .
مثال آخر .
لو قلنا أن فلان عالم هذا ممكن ، ولو قلنا أن فلان جاهل فهذا ممكن أيضاً ، بينما إذا قلنا فلان لا عالم ولا جاهل فهذا لا يمكن .
بينما إذا قلنا أن فلان عالم جاهل فهذا لا يمكن أيضاً .
ولكن إذا قلنا أن فلان لا يقبل أن يوصف بالجهل والعلم فهذا أشد من الذي قبله ، حيث معنى ذلك أنك جعلت الشيء المستحيل واجب الوقوع ، وجعلت واجب الوقوع أمراً مستحيلاً .
فهؤلاء الفلاسفة وصفوا الله سبحانه وتعالى بأمر لا يمكن أن يوجد ، وهو أعظم الممتنعات وهو أنه يجوز أن يوصف بالوجود والعدم .(1/97)
(وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين : الوجود والعدم ورفعهما كجميعهما من يقول لا أثبت واحدا منهما فامتناعه عن إثبات أحداهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر وإنما هو كجهل الجاهل وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق )
قوله : " ورفعهما كجميعهما " كمثل إذا قلت لا موجود ولا معدوم مثل قولك موجود ومعدوم .
وقوله : " ومنهم من يقول لا أثبت واحدا منهما " حيث يقول لا أقول لا موجود ولا معدوم ، ولا أقول موجود معدوم .
كونه يسكت ، فيقول لا أثبت هذا ولا هذا امتناعا لا يمنع تحقق واحد منهما ، حيث يكون مثل الإنسان الجاهل ، الذي يقول لا أدري ومثل الإنسان الساكت .
( وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعا مما يقدر قبوله لهما - مع نفيهما عنه - فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا العمى ولا البصر ولا السمع ولا الصمم : أقرب الى المعدوم الممتنع مما يقدر قال لا بهما - مع نفيهما عنه -)
المؤلف قال سابقاً : أن الموجود والعدم باتفاق العقلاء أنه لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما .
لكن مسألة الحياة والموت والعلم والجهل يمكن أن يأتي شخص ويقول أن تقابل هذه الأشياء تقابل عدم وملكه ، فعلى هذا يمكن أن يرتفعان عما لا يكون قابلاً لهما .
انتهى الشريط السادس
الشريط السابع
[وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ - قَابِلًا - وَجَبَ لَهُ]
يعني أن ما جاز لوجوب الوجود يعلم أنه ليس عندنا شيء واجب الوجود إلا الله إذ كان الشيء ممكن وهو خاص بالله صار واجب في الحق ولهذا قال المؤلف ((وجب له )) فالحياة إذا قلنا أنها ممكن في حق الخالق تكون واجبة له
[لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ](1/98)
والمعنى أن صفات الله عز وجل إذا كان متصف بصفات الكمال تتضمن له لعد م توافق صفاته على غيره أي أن صفاته من لوازم ذاته بخلاف غير الخالق فإن صفاته تتوقف على غيره فالإنسان حي لكن الله هو الذي جعل الحياة فيه
[فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ ؛ وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْقَبُولِ وَجَبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيْنَ وُجُوبِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ]
كلام المؤلف هذا فيه نوع من التناقض مما عني قبله ولذا أرى أن ننزل هذه النقطة لأن فيها تناقض مع ما قبله
[وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا : اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ : لَيْسَ هُوَ التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ الَّذِي نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ أَوْ امْتِنَاعِهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْرَكَهُ
ص88
مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى]
اتفاق المسمين في الاسم لا يقتضي مماثله وذكر المؤلف له أمثلة كثيرة فالإنسان سميع والله سميع لكن ممتنع هذا أن يجعل المعنى يجعل المعنى الذي للإنسان مثل المعنى الذي لله ويكون مما يختص بهذا يختص بهذا
فالحياة بالنسبة للخالق واجبه , وبالنسبة للمخلوق جائزة ...ولهذا حدثت بعد العدم وستعوم بعد الوجود
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }الإنسان1(1/99)
[وَأَمَّا مَا نَفَيْته فَهُوَ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَسْمِيَتُك ذَلِكَ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا تَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بِهَذَا الِاسْمِ يَجِبُ نَفْيُهُ ؛ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ كُلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الْحَقَّ بِأَسْمَاءِ يَنْفِرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيُكَذِّبَ النَّاسُ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ : أَفْسَدَتْ الْمَلَاحِدَةُ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ عَقْلَهُمْ وَدِينَهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إلَى أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ وَإِنْ قَالَ نفاة الصِّفَاتِ : إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ قِيلَ : وَإِذَا قُلْتُمْ : هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ وَعَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ . أَفَلَيْسَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا ؟ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرَةٌ فِي الْعَقْلِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ عِنْدَكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا فَإِنْ قَالُوا : هَذَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ هَذَا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا قِيلَ لَهُمْ : وَاتِّصَافُ الذَّاتِ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ
ص89(1/100)
عَالِمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَادِرًا وَلَا نَفْسُ ذَاتِهِ هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا ؛ فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ سَفْسَطَةً ثُمَّ إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ إنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودَ هَذَا فَيَكُونُ الْوُجُودُ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ هُوَ وُجُودَ الْوَاجِبِ كَانَ وُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ يُعْدَمُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ وَيُوجَدُ بَعْدَ عَدَمِهِ : هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ الْقَدِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ تَشْبِيهٍ وَتَجْسِيمٍ وَكُلِّ نَقْصٍ وَكُلِّ عَيْبٍ ؛ كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ ( أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ أَقْوَالُ نفاة الصِّفَاتِ بَاطِلَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ]
أما ثبوت هذه الصفات بالشرع فهذه أكثر محسنات يحصر وما أكثر الأدلة الدالة على أسماء الله وصفاته وأما ثبوت ذالك بالعقل فقد سبق أن من الأشعرية يثبتون من الصفات المتسع بالعقل ويوافقون أهل السنة والجماعة في ذالك وثبت أيضا أن أهل السنة والجماعة يثبتون ما نفاه الأشعرية بالعقل أيضا فيذكرون أن دلالة العقل على ماتقستم أو على بعضة على الأقل ((أعظم من دلائل ما ذكرتم مثل الرحمة والحكمة وما أشبه ذالك ))(1/101)
تقول للذي يثبت أن لله مستوى على العرش مجسم الذي يثبت أن لله يد حقيقة ممثل إذا سمعه جاهل عاصي يظنه صحيحاً ظاهر عليه ولهذا من جملة العبارات التي عندهم أن الله منزه عن الأبعاد من يد ووجه والعين والأعراض من الصفات والأغراض من الحكمة فعندما يقرأ العاصي هذا الكلام يقول هذا هو الحق لكنه تمويه كما يقول المؤلف
فهم يظنون أن كل معنى سماه الإنسان تمثيلاً أ وتجسيماً فأنه يجب نفيه ولو ساغ لهم أن يقولوا كل شيء نرى ما نخالف نفيه بعينه لكان كل واحد أن ينفر الناس يرفق قوله بالعيب فأهل السنة
ص90
والجماعة عند أهل التعطيل يسمونه شبه
وأهل السنة والجماعة عند أهل التشبيه معطله فهذه الطريقة طريقة التمويه
أفسدت الملاحدة على الناس عقولهم ودينهم حتى صاروا اشككين في الدين وفي العقيدة السليمة وهذا لا يزال الآن بالنسبة للملل .. حتى الآن النصارى يشككون المسلمين فيما يتعلق بأحكام الإسلام وكذالك اليهود وكذالك الملاحدة كلهم يشبهونه بمثل هذا التمويهات والغبارات
الطريق الثاني يقولون إثبات العلم والقدرة والإرادة والإرادة مستلزمه تعدد الصفات .. أن يكون الموصوف له علم وقدرة وإرادة وسمع وما أشبه ذالك وهذا تركيب ممتنع أي ركبت كل ثلاث صفات ... كل مع الأخرى في موصوف واحد قالوا وهذا يستلزم الصفات على أن تعدد الصفات يلزم منه تعدد الموصوف وهذا ضد التوحيد تقول لهم وإذا قلتم هذا موجود واجب فهم يصفون الله بأنه موجود ويصفونه بأنه واجب الوجود وكذالك بعضهم يصف الله بأنه عقل وعاقل ومعقول فعندهم الذي يدبر الخلق عقل ويقولون أيضا مع ذالك أنه عاقل ومعقول بالنسبة لغير وهذا تركيب
وبعضهم يقول عاشق ومعشوق وهؤلاء جماعة غلا الصوفية الذين يصفون الله بالعشق فيقولون أنه عاشق لأوليائه معشوق أوليائه ولذيذ ومتلذذ ولذه وهذا أيضا ًعند بعض الصوفية فأهل الصوفية يقولون إن الله موصوف بهذا الصفات(1/102)
وقوله (أَفَلَيْسَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا ؟ ) والجواب بلى لأنكم ركبتم فجمع ذالك أنتم مصرون بها فالذي يفهم من هذا الذي ذكرتم يفهم منه الذي ذكرنا فإن كان ما ذكرتم حقا لا يلزم التركيب فما ذكرنا كذالك وإن كان ما ذكرنا موجب بالتركيب وليس بحق
ص91
فما ذكرتم . موجب بالتركيب وليس بحق
فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرَةٌ فِي الْعَقْلِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ عِنْدَكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا
هذا كلام المؤلف في الرد عليهم فيما يقولون وما يعتقدونه ونقول أنه من المعلوم في تعدد الصفات لا يستلزم التركيب ولا يستلزم التعدد فأنتم بأنفسكم تصف الواحد بأنه حي وبأنه عاقل وبأنه مبصر وبأنه قادر فلا يلزم إذا قلنا لواحد منكم أنه مركب من عدة أشخاص لا يلزم ذالك فإذا كان تعدد الصفات في المخلوق لا يلزم التركيب فالخالق من باب أولى والعالم متصف بالعلم والقادر متصف بالقدرة وكم من إنسان قادر وهو جاهل وكم من إنسان عالم وهو عاطل وكونه عالماً قادراً حال دائبة على الذات وليس كون الشيء هو الشيء نفسه يكون عالماً وقادراً إذا أن كونه عالماً قادراً وصف دائب على وصف الذات والذي يقول أن الصفة تنفي عين الموصوف في هذا مسفط لأنه أنكر الحقائق(1/103)
والذي يقول أن الصفة هي الموصوف فإنه متناقض وذالك يلزم إذا قال إن الصفة عين الموصوف أن يكون وجود فلان هو وجود فلان وإذا كانت الصفة عين الموصوف صار فلان هو عين فلان فيكون الموجود واحد في العين لا في النوع فأنا أنت وأنت أنا وصاحب الحمار هو الحمار والحمار هو صاحب الحمار لأن هذا هو وحدة الوجود وهذا مذهبهم فيذكرون الخالق والمخلوق شيء واحد والذكر والأنثى شيء واحد والحيوان البهيمة والإنسان شيء واحد ونقول أن صفة الموجود والموجود شيء واحد في العين لا في النوع وعليه فوجود الله هو وجود المخلوق ووجود المخلوق هو وجود الله فيلزم من ذالك أن يكون المخلوق موجود وهو معدوم
وإذا قدر صار الواجب الذي هو واجب الوجود موصوفاً بكل تشبيه لأنك جعلت وجود الخالق هو وجود المخلوق وجعلت
ص92
الخالق هو المخلوق وهذا تشبيه والعياذ بالله فهم يجعلون الخالق هو نفس الكلاب والحمير والخنازير وغيرها وهذا بلا شك من أعظم ما ينكرن لتشبه الخالق .
والغريب أن هؤلاء يريدون أن ينفروا من التشبيه ويقعون في ما هو أعظم وأفضع منه
[وَهَذَا بَابٌ مُطَّرِدٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النفاة لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الصِّفَاتِ : لَا يَنْفِي شَيْئًا فِرَارًا مِمَّا هُوَ مَحْذُورٌ إلَّا وَقَدْ أَثْبَتَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَلَا بُدَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ ]
قوله في أخر الأمر لابد أن يثبته أي أن يثبته من حيث الصفة القائمة عليه أما أن ينفاه لهذه الصفة فهذا أمر مردود دون حقيقتان لأنهم مازالوا على باطلهم فلا بد في آخر العمل باعتباره إقامة الحجة عليهم والحقيقة أن ذالك لم يكن وما زالت هذه الأقوال موجودة الآن وما زالو أهلها متمسكون بها(1/104)
[ فَيُقَالُ لَهُ : هَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الصِّفَاتِ وَكُلُّ مَا تُثْبِتُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ : فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ تَتَوَاطَأُ فِيهِ الْمُسَمَّيَاتُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ ]
يقول المؤلف كل ما يثبت من الأسماء والصفات فلابد قدرة مشتركة تتوفر فيه المسميات فمثلاً السمع فلله سمع وللإنسان سمع لأبد من قدرة مشتركة بين سمع الخالق وسمع المخلوق وهو إدراك المسموع لكن إدراك المسموع بالنسبة ليس كإدراك المسموع بالنسبة للمخلوق فلا بد أن يكون هناك تميز
ص93
ولولا أن هناك قدر مشتركا بين الصفات تخطي كل صفة بما تتميز به فالفاكهة في الآخرة بينه وبين ما في الدنيا ولولا القدر المشترك بين هذا وهذا لما فهمنا لكن حقائق ما في الآخرة لا تشابه حقائق ما في الدنيا
[ وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ وَامْتَازَ عَنْ خَلْقِهِ : أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بِالْبَالِ ]
القول في الصفات كالقول في الذات(1/105)
[ الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ . فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ : كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ؟ قِيلَ لَهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْإِجَابَةُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ؟ قِيلَ لَهُ : كَيْفَ هُوَ ؟ فَإِذَا قَالَ : لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ قِيلَ لَهُ : وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ إذْ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ وَتَابِعٌ لَهُ ؛ فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَاسْتِوَائِهِ وَنُزُولِهِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَإِذَا كُنْت تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ فَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَنُزُولُهُ
ص94(1/106)
وَاسْتِوَاؤُهُ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُمْ وَكَلَامُهُمْ وَنُزُولُهُمْ وَاسْتِوَاؤُهُمْ وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ : فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ - إذَا - أُلْزِمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ وَلَوْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا : لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ]
بعد ما سبق من إجابات المؤلف على كل الأقسام الثلاثة وهم الذين يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضا فيثبتون جميع الأسماء فهم الأشاعرة والذين يثبتون الأسماء دون الصفات هم المعتزلة والذين ينكرون الأسماء والصفات هم الغلاة من الفلاسفة
أجابتهم إجابات تابعة للأصل الأول وهو أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الأخر ويتبين ويتضح شيء آخر وهو أن القول في الصفات كالقول في الذات أي أننا نقول في الصفات كما يقول هؤلاء في الذات ف‘ن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ونقول لهذا المنكر بالصفة أثبت لله ذاتا؟ فيقول نعم فنقول هل هذه الذات التي أثبتها لله تشبه ذوات المخلوقين ؟ سيقول لا لأنه فر من إثبات الصفات خوفا من التشبيه والتمثيل ونقول له أن القول في الذات كالقول في الصفات إذ فلله صفات لا تشبه صفات المخلوقين
أثبات الصفة ولكن لا نثبت كيفية الصفة
قوله قَالَ السَّائِلُ : كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ؟
فإن الاستواء معلوم من حيث المعنى لأن معناه العلو والاستقرار والكيف مجهول ...
أي له كيفية لكنه مجهولة والإيمان به واجب
ص95(1/107)
لأنه جاء في كتاب الله والسؤال عن الكيفية بدعة لأنه سؤال عن مما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه
وهذا التعليل فيه نظر كما سبق لأن هذا التعليل يقتضي أن يكون السؤال عنه تكلفا ومحاولة
ولكن نقول السؤال عنه بدعه لأنه لم يسال عن الصحابة ولا السلف الصالح
[وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ؟ قِيلَ لَهُ : كَيْفَ هُوَ ؟ فَإِذَا قَالَ : لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ قِيلَ لَهُ : وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ]
نقول القول في الصفات كالقول في الذات فما دام هذا النافي يثبت الله ذاتا حقيقية ويقول إن هذا الذات لاتشبه ذوات المخلوقين نقول هل تثبت لله ذات حقيقية لاتشبه صفات المخلوقين لأن القول في الذات كالقول في الصفات فكى أنا لا نعلم كيفية ذاته فإننا لا نعلم كيفية صفاته لأن لو علمنا كيفية صفاته لزم ان نعرف كيفيه ذاته لأن الصفة تابعة لموصوف وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات .. العقليات مايحكم به العقل ، السمعيات هي الكتاب والسنة .فقالوا مثلاً .. المراد باليد القدرة .. فنقول في ما يلزمكم اليد ما يلزمكم في القدرة .. وهم يقولون اليد الحقيقة ما يمكن ..لأن الله يقتضى التشبيه نقول أيضا القدرة الحقيقية يقتضى التشبيه لأن الإنسان له قدره فإذا أولتم لزمكم فيما أولتم نظير مايلزمكم في الحقيقة .(1/108)
[وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ : إمَّا التَّفْوِيضَ ؛ وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ وَكَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنْ
ص96
الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا فَإِنَّهُمْ إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ : لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ : هُوَ إرَادَتُهُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ فَهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ ](1/109)
هم إذا قالوا من نثبت المحبة ونفي البغض ... وإنما نفسر ذالك بالإرادة الثواب والعقاب فنقول يلزمكم في الإرادة نطير ما يلزمكم في إثبات الحب والبغض فأنتم إذا قلتم إثبات الحب والبغض من يقتضي المماثلة لأنه صفات المخلوق قيل لهم قيل لهم والإرادة من صفات المخلوقين فيلزم بإثبات الإرادة إثبات المشابه لأنه إذا زعمتم أن إثبات المحبة يقتضي المماثلة فكذالك إثبات الإرادة يقتضي المماثلة .
ونقول لهم هذا الكلام ليس بصحيح أننا نقول محبة الخالق تليق به وكذالك غضبه يليق به ... وعلى كلامهم يلزم أن يجعلوا لله مثيلا لأنهم قالوا الله يريد ونقول لهم الإنسان يريد كما قال تعالى { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } فيلزم على قولكم إثبات التمثيل كما زعمتم
قالوا إذا نفسر المحبة والبغض بما ينتج عن ذالك من الثواب والعقاب مفعول لله فهم يفسرون المحبة بالمفعول ماهي بالإرادة وقالوا المقصود المحبة أي الثواب وليس إرادة
ص97
الثواب والمراد بالبغض العقاب
فرد المؤلف عليهم لو فسر ذالك بمفعولاتة وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب ..فإنه يلزمه في ذالك نظير ما شرحته أي في ذالك التشبيه فإن الفعل لأبد أن يقوم أولاً بفاعل فالثواب ما يكون حتى يكون إثباته ... إذاً اتصاف الفاعل بالمفعول سابق على وجود المفعول فمتى أقروا أن لله ثواب وعقاب ... لزم أن يقروا بأنه مثاب ومعاقب وأنه موصوف بصفة الإثبات وصفة العقوبة
مثال ذالك المحبة عند أهل السنة والجماعة حقيقة على معناها الحقيقي أهل التأويل أولوها إلى وجهين
• ... مرة يقولون المراد بالمحبة إرادة الثواب
• ... مرة يقولون المراد بالمحبة نفس الثواب(1/110)
فالذين فسروا المحبة بإرادة الثواب يلزمهم بإرادة ما يلزمهم في المحبة والذين فسروها بالثواب نفسه تخلصا من إلزامهم في الإرادة ما يلزمهم في المحبة فسروه بالثواب أن المفعول باين عند الفاعل .. عندما ابني بيتا بنيه هذا البيت يسمى بنيا أي مفعول ... وهو باين من الفاعل فالثواب الذي يثيبه الله تعالى من يحب باين من الله ولأبد للمفعول من فاعل ولأن للفاعل معنى الفعل وحيث اثبت لله صفة الفعل فتقول لهم هل تقولون أن هذا الفعل مثل فعل المخلوقين ... وهذا يلزمهم
ص98
الشريط الثامن
ما يثبت من الصفات
( ( الْمَثَلَانِ الْمَضْرُوبَانِ : فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : مِنْ أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ ؛ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ فِيهَا لَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ مُوَافِقَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهَا ؛ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى : فَالْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ مُبَايَنَةَ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ وَمُبَايَنَتُهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ : أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ مَوْجُودِ الْآخِرَةِ لِمَوْجُودِ الدُّنْيَا إذْ الْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى الْمَخْلُوقِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الِاسْمِ مِنْ الْخَالِقِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ )(1/111)
هذا المثل يميل المؤلف رحمه الله أن يطري به الموضوع وهو إتفاق الأشياء في الأسماء مع إختلافهما في الحقائق ، ذكر الله أن في الجنة ذهباً وحريراً ....إلى آخر ماذكر .
هذه الأشياء في الجنة لا يوجد لها في الحقيقة شيء في الدنيا ، أما في الأسم فنعم ، لأنه لو لم يوجد له إسم كما سبق ، ما أمكننا أن نتصور ذلك .
ففي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
إذاً الحقائق غير الحقائق والأسماء واحدة ، فإذا إجاز أن تتوافق المخلوقات في الأسماء مع الأختلاف في الحقيقة فذلك فيما بين الخالق والمخلوق أبين وأظهر ، فإذا قلنا للخالق رحمه ، وللمخلوق رحمة فإنه لا يلزم أن يكون متماثلين .
ص99
وهناك مثال يقرب الموضوع ، ويمثل ما ذكر المؤلف .
ما ذكر في الأخرة من النعيم موجود له النظير في الأسم ومع ذلك لا يلزم من تماثل في الأسم إذا يتماثلا في الحقيقةيان ، فإذا جاز البيان بين المخلوقات المتفقه في الأسماء ، " في حقائقها " فالتباين فيما بين الخالق والمخلوق من باب أولى .
ثم ذكر المؤلف أقسام الناس بالنسبة فيما يتعلق بالأسماء والصفات وبالنسبة لما في اللآخرة من هذه الأمور .
( وَلِهَذَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَ فِرَقٍ : فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ : آمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمُبَايَنَةِ الَّتِي بَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ أَعْظَمُ )
فالسلف والأئمة آمنوا بإن الأمرين على الحقيقة ما أخبر الله به عن نفسه وما أخبر به عن الآخرة أن ذلك كله حق " وبين ما للنخلوق وماللخالق .(1/112)
( وَالْفَرِيقُ الثَّانِي : الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ ؛ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ )
فالأشعريه يقولون " ما أخذ الله به من الثواب والعقاب ، هذا حق ، ففي الدنيا نار وفي الآخرة نار وفي الدنيا فاكهة ونخل ....ألخ .
وفي الجنة مثل ذلك لكنهم يؤمنون أي الأشعريه وأهل الكلام إن ذلك حق في هذا وهذا ، وإنهما لا يتمثالان لكن ما أخبر الله به عن نفسه ينفون كثيراً منه ، ولهذا قال نفوا كثيراً مما أخبر
ص100
به من الصفات .
فنقول فالحكمة كما سبق .. والرحمة والعزه ،، وأكثر صفات الله نفوها ،، ولم يثبتوا من الصفات إلا سبع .
فهم أخطأوا في شيء واصابوا في شيء .
فما أثبتوه من الثواب والعقاب في الآخرة وأنه حق على حقيقته وأنه لا يماثل مافي الدنيا ، فهذا صواب .
وبالنسبة لما نفوه من صفات الله فهذا خطأ بل يجب عليهم أن يقروا بهذا وهذا .
( وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ : نَفَوْا هَذَا وَهَذَا كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَتْبَاعِ الْمَشَّائِينَ )
نفوا هذا وهذا ، بإن قالوا لا حقيقة للجنة ولا ما فيها من النعيم ولا حقيقة لأسماء الله وصفاته ، فكل هذا ليس له أصل أو حقيقة .
فإذا قيل لهم : الرسل أخبرت بالجنة والنار ، والوعد والوعيد ، قالوا : نعم هذا المقصود منه إصلاح الخلق ، كذبوا على الخلق لأهل المصلحة ، لأن الخلق إذا لم يقل لهم إن فيه نار يعاقب فيها من خالف وجنه يثاب فيها من وافق ، إذا لم يقل لهم ذلك ، فإنهم لا يوافقون .
فلو لم يخوفوا ويرغبوا ما خافوا وما رغبوا .
وهم يقولون : الرسل تعلم أن ما أخبرت به عن اليوم الآخر لا حقيقة له .(1/113)
(وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَيَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا : لَهَا تَأْوِيلَاتٌ بَاطِنَةٌ تُخَالِفُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا كَمَا يَتَأَوَّلُونَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ
ص101
وَحَجِّ الْبَيْتِ فَيَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ ،)
الصوات ليست أنك تركع وتسجد ولكنك تعرف أسرارهم ، التي عندهم ، لأنهم باطنية يرون أن الدين له ظاهر وباطن .
فالظاهر لعوام الناس ، والباطن لخواص الناس ، فإذا قيل لهم : الصلاة التي أمر الله بها ، قالوا الصلاة أن تعرف أسرارهم لا أن تصلى مستقبلاً القبله في اليوم خمس مرات ,
( الصيام .. هو كتمان اسرارهم )
الصلاة أن تعلم ، والصيام أن تكتم ، لأنهم يقولون أن الصلاة من الصله ، وكلما كان الإنسان أقوى صله بالشخص كان أدرى بأسرارهم فالصلاة معرفة أسرارهم .
الصيام لغة الأمساك ، فكونك تمسك عن الكلام فيما علمت من أسرارهم هذا هو الصيام .
( حج البيت ، السفر إلى شيوخهم )
لأن الحج معناه العقد فيقولون معنى الحج أنك تقصد المشائخ وتسافر إليهم لا تقصد الكعبة وتحج إليها بل تقصد هؤلاء .(1/114)
(وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَقَدْ يَقُولُونَ الشَّرَائِعُ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ فَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ مِنْ عَارِفِيهِمْ وَمُحَقِّقِيهِمْ وَمُوَحِّدِيهِمْ : رَفَعُوا عَنْهُ الْوَاجِبَاتِ وَأَبَاحُوا
ص102
لَهُ الْمَحْظُورَاتِ )
فهم يقولون الآن وصلت إلى الغاية ، والعبادات والشرائع إنما هي وسائل .
فإذا وصلت إلى هذه الغاية المعينه سقطت عنك الواجبات ، وابيحت لك جميع المحضورات ، حتى إنهم يجوزون للرجل أن يتزوج أبنته وأمه ، وماشاء من النساء .
وقد سمعت من الحجاج القادمين من إفريقيا وما أكثر المتصوفه فيهم ، أن بعض مشائخهم يتزوج من بنات الحي ماشاء الله وبدون إصلاح وبدون مهر ، حيث يقولون عندنا شيخ عنده خمسون إمرأة .
وكل هذا من الكفر الصريح الواضح كما قال المؤلف إلحاد في آيات الله والأمن الذي تسقط عنه الشرائع .
يذكر عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله من علماء الحنابله وهو صوفي أيضاً ، لكن صوفيته معتدله ، يقول إنه رأى ليلة من الليالي رأى نوراً فخوطب من هذا النور بأني ربك ثم قال وقد أسقطت عنك الصوات .
فلما قال هذا ، قال كذبت ولكنك شيطان ، قال : فلما قلت ذلك تبدد النور ولم أرى شيئا ، وهذا صحيح لأن الشيطان القى هذا الضوء وتكلم بهذا الخطاب .
وقد يلقى الشيطان خطابا حتى في كلام الله .
قال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )(1/115)
( وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ مَنْ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ : هُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
ص103
أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ : يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ إلْحَادِهِمْ )
قصد المؤلف رحمه الله أن هناك من أهل الإثبات يحتجون عليهم بحجج عقليه ، هذه المحجة التي يحتج بها هؤلاء على هؤلاء يحتج بها أهل الأثبات المطلق على هؤلاء الذين يثبتون بعضاً وينكرون بعضا .
مثلا الأشاعرة والمعتزلة يثبتون حقائق ما أخبر الله به عن اليوم الآخر ، فالمعتزلة يقولون ما أخبر الله بإن هناك حتى ففيه يوم آخر ، وثواب وعقاب .
لكنهم ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه ، إما إنكاراً كلياً كالمعتزلة ، أو إنكاراً جزئياً كالأشاعرة .
هؤلاء الجماعة يحتجون على الذين ينكرون حقائق اليوم الآخر مثل الباطنية ، والذين سماهم المؤلف في الحمويه أهل التخييل هذه الأمور التي أخبر الله بها خيال مالها حقيقه .
فيما يحتج به هؤلاء على الملاحدة يحتج به أهل السنة على هؤلاء ولقد علمتم أن الدليل هو نفسه الدليل ، قد علم بالضرورة أن الرسل جاءت بإثبات الصفات لله ، وأن الشبهه المانعه من ذلك فاسده ، فيجب علينا بعد ذلك القول به كما قلتم أنتم بالنسبة للملاحدة .
على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم هؤلاء البعض هو إنكار حقائق صفات الله ، هذا هو الألحاد,، لأن هؤلاء ينكرون حقائق اليوم الآخير وهؤلاء ينكرون حقائق صفات دون اليوم الآخر .
ص104(1/116)
( إلْحَادِهِمْ فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ ؛ بَلْ لَهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ )
قياس تمثيل ، بمعنى أنك تقول هذا مثل هذا ، فمثلاً إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " البر بالبر مثل بمثل سواء بسواء يداً بيد "
ونحن نقول الرز مثل البر ، الرز بالرز يجب أن يكون مثل بمثل سواء بسواء يداً بيد هذا تسمية قياس تمثيل ، لأن كلمة البر لا تشمل الرز ، ولكن الرز مثله فيقاس عليه قياس تمثيل .
أما قياس الشمول .
ففي باب العام والخاص في أصول الفقه ، فاللفظ العام تدخل فيه جميع أفراده ، أو جميع أنواعه ، أيضاً على وجه قياس الشمول ، هناك قاعده في العام ، " العبره بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " فإذا ورد لفظ عام على سبب خاص قلنا أنه شامل لجميع أفراده .
مثال ذلك ..
قال تعالى ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا )
وردت في قصة رجل معين _ هو أوس بن الصامت _ حينما ظاهر زوجته ، لكن الذين يظاهرون نجد أنه لفظ عام ، فعموم زيد وبكر وخالد سواء أوس أو غيره ، لأن اللفظ تستوى فيه هذه الأفراد .
عموم هنا قياس شمول ، لأن الذين يظاهرون شامله لجميع الناس الذين يقع منهم هذا الأمر .
إذن هل الله سبحانه وتعالى يقاس بخلقه قياس تمثيل أو قياس
ص105(1/117)
شمول تستوى أفراده ؟ لا هذا ولا هذا لأن ذلك نقص في الله عز وجل لو فرض ، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى وهو أن كل ما أتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به .
ولكن الكمال نوعان ..
* كمال مطلق . فهذا هو الذي إذا أتصف به المخلوق فالخالق منه الأكمل .
* وكمال نسبي فهذا لا يلزم إذا أتصف به المخلوق أن يتصف به الخالق مثال ذلك .
كون الإنسان يأكل ويشرب شرباً عادياً ، وينام نوماً طبيعاً ، فهذا كمال بالنسبة للإنسان ، وهو كمال نسبي ، ولكن لا يمكن أن يوصف الله بذلك ، لأنه كمال نسبي للإنسان في هذه الحياة ، لكنه ، في الحقيقة صيغة نقص لأن من يحتاج إلى أكل وشرب ونوم ناقص بالنسبة إلى من لا يحتاج ، إلأى الأكل والشرب .
قال تعالى ( { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام: 14] )
أما الكمال المطلق كالحياة والعلم والقدرة والقوة والحكمة ، فهذه يوجد في المحلوقات ، ولله المثل الأعلى .
( وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ ، وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ ، فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ )
المخلوق منزه عن مماثلة المخلوق وذلك مع المشاركة في الأسم ، حيث الإنسان كرمه الله ، قال تعالى ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) فالإنسان والكلب كلاهما مخلوق ومع ذلك فإذا الإنسان ينزه عن أوصاف الكلب
ص106(1/118)
( وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي ( الْمَثَلِ الثَّانِي . وَهُوَ أَنَّ ( الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا ؛)
الروح في جسمك ، ومع ذلك أضطربوا فيها وهي موجودة في الإنسان وذلك لأنها حقيقة لا يشاهدونها ، أو لا يشاهدون تطيرها ، فليس في الشاهد ما يشبه تلك الروح ، ولهذا إضطرب فيها النظار من المتكلمين وغيرهم .
{ ؛ فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ الَّتِي تردد فِي الْبَدَنِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهَا الْحَيَاةُ أَوْ الْمِزَاجُ أَوْ نَفْسُ الْبَدَنِ وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ : لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ }
إذن الروح ، إما جزء أو صفه في البدن .
قوله " واجب الوجود عندهم ، إنهم يقولون لا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت
فالأوصاف التي ذكرها المؤلف كلها ، أوصاف سلبيه تدل على أنها أمر لا وجود له يعني إذا قيل لك صف العدم لم تجد أحسن من هذا الوصف لاهي داخله ولا خارجه ولا مباين ولا مداخل ولا متحرك ولا ساكن فهو سلب للنقيضين .
ص107(1/119)
{ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ }
وهذا إيضاً خطأ ، فولا وجود النفس في البدن ما أدرك شيئاً والإنسان يدرك الأمور الكلية والأمور الجزئيه كما هو معروف .
{ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً وَرُبَّمَا قَالُوا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا : بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا}
يريد بالكليات ، المعاني العامة ، كما نقول في الكليات ، أنا إنسان وأنت إنسان ، وذاك إنسان ، يتخيل الإنسان أن هناك كليه عامه . مطلقه تسمى الإنسانية ، أشتركنا فيها هذه الإنسانيه التي تصورنا أنا مشتركون فيها ، لا يشار إليها لأنها غير موجوده .
كذلك الحيوان ، الإنسان حيوان والبعير حيوان ، والفرس جيوان والحمار حيوان ، وهكذا يتصور الإنسان أن هناك حيوانيه مطلقه عامه ولكن هذا التصور ليس بحقيقه لأنها غير موجوده .
ولهذا يقولون : أننا نقول أن الروح لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليها ، وأن هذا شيء ممكن وحجتهم بدليل أن الكليات ممكنة موجودة .
{ وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ ؛}
ص108(1/120)
الكليات هذه لا توجد إلا في الأذهان ، الذهن هو الذي يفرض أن هناك كليه عامه ، أشتركنا فيها ، لكن حقيقة غير موجودة في الأعيان ولا نعاينها بأعيننا .
{ فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ ْ}
كون الإنسان كلما توهم شيئاً أو تخيل أثبت أنه حقيقة ، هذا غير ممكن ، ولا يمكن أن يأتي من أي عاقل ، لأنك يمكن أن تتصور مثلاً جسم رأسه رأس إنسان ويده يد طير ورجله رجل بعير ، وبطنه حجر وظهره أنبوبة ماء ، فيمكن أن نتصور ذلك ، لكن لا يوجد في الخارج .
يتبين من هذا أن فرض الأذهان لا يجوز أن يحكم عليه حكم الأعياد لأن فرض الأذهان قد يكون ممكناً ، وقد يكون ممتنعاً غاية الممتنعات وقد يكون إيضاً واجباً .
مثل ما تصورت أن كل محدثة لابد له من محدث ، وهذا التصور حقيقة وواجب ، ولهذا الأعرابي البعيد عن الثقافه والعلم سئل بما عرفت ربك فقال _ ببديهته _ الأثر يدل على المسير ، والبعرة تدل على البعير ، وسماء ذات إبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج اولا تدل على السميع البصير ؟؟؟
وَاضْطِرَابُ النفاة وَالْمُثْبِتَةِ فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ - لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا ؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ
ص109(1/121)
{ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ : الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالرُّوحُ لَيْسَتْ جِسْمًا ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : الرُّوحُ وَالْجِسْمُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ : إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ ؛ فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الرُّوحُ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا بَصَرُ الْمَيِّتِ - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ } - كَانَتْ الرُّوحُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً : تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ تَكْيِيفِهَا(1/122)
وَتَحْدِيدِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا . وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ . فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَا .
ص110
فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ : الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا " وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ .}
ذكرنا أن هناك مثلان ، وذكرنا المثل الأول ،
أما المثل الثاني : فمسألة الروح ، كلنا تعلم أن كل حي له روح وجسم ، وأن الإنسان هو الروح والجسم ، والجسم هذا المشاهد الذي نشاهده ويوصف بالطول والعرض ، والبياض والسواد .
والروح هي الحالة في هذا الجسم ، وهذه الروح اختلف فيها النظار
* فمنهم من يقول هي الدم ، ومنهم من يقول هي النسب . زمهنهم من يقول هي شغول .
لكن النصوص دلت على أن هذه الروح جسم من الأجسام جسم لكن ليس كأجسامنا ، ودلت الأدلة على هذا لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنها تمسك ،(1/123)
( { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ]
وأخبر أنها توفى .
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )
كذلك الحديث ، إنها إذا قبضت تبعها البصر ، أي جعل يرمق لها ينظر إليها ، ولهذا تبقى عين الميت فاتحه ، لأنه ينظر إلى روحه التي خرجت من جسمه نظر عيان .
كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وهو يقبض وقد شخص بصره ، قال : " أن الروح إذا قبضت أتبعه البصر " وأخبر أنها تكفن بكفن من الجنة حنوط من الجنة وأنه يصعد بها إلى الله عز وجل من سماء إلى سماء ثم ترجع إلى بدنها ،
كل هذا يدل على أنها جسم ، ومع ذلك ليست كهذه الأجسام
ص111
ولا يعتريها ما يعتري الجسم .
فإذا كان هذا الروح التي بين جنبينا أو بين جنوبنا لا نعرف عن كيفيتها ولا نستطيع معرفة حقيقة كفيتها ، مع أننا نؤمن بأنها تقبض وترسل وتمسك وتكفن ويصعد بها ....ألخ
ومع أنها مباينه لأجسامنا هذه ، فالمباينه بين الخالق والمخلوق من باب أولى .
ثم أن المؤلف تعرض أثناء الكلام إلى أن الشيء لا يمكن أن يعرف إلا بالمشاهدة أو مشاهدة نظيره ، ونحن نقول شيئاً ثالثاً ، الخبر الصادق عنه قد ى تشاهده أنت ولا نظيره ولكن يخبرك إنسان صادق بإنه شاهده على هذا الوصف.
إذن لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقة الشيء حتى يشاهده هو أو يشاهد نظيره أو يخبر خبراً صادقاً عنه .
كل هذا بالنسبة لحقيقة ذات الله وصفاته غير ممكن ، فالله ليس كمثله شيء لا نظير له ، ونحن لم نشاهده ولو شاهدناه ما أدركناه " لا تدركه الأبصار "(1/124)
فلم يخبرنا الله عن كيفية إستوائه على العرش ، إذن لا يمكننا نحن أن ندرك حقيقة ذات الله أو صفاته ، ومع ذلك لا يمتنع أن نؤمن بإن له ذااً حقيقة " وإنه له صفات حقيقة "
نهاية الشريط الثامن .
الشريط التاسع
الخاتمة الجامعة
[ وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ]
[ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِك ]
كل هذا إثبات ونضيف لهذه القاعدة ـ إن كان المؤلف لم يذكرها هذه الإضافة نضيف إليها
أن كل ما أثبتة الله لنفسه فهو صفة كمال لكن هذا الكمال لا يلزم أن يكون كمال حقنا
فمثلاً من صفات الله سبحانه وتعالى (( السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة )) كلها صفة إثبات وهي كمال
وبالنسبة لنا كمال فالإٌنسان الذي يسمع ويبصر ويعلم ويقدر أكمل من ليس كذالك
التكبر بالنسبة لله صفة كمال .. وبالنسبة لنا صفة نقص وليس كل صفة كمال للخالق تكون صفة كمال لنا .
[وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ]
لا تأخذه .. يعنى لا تغلبه أخذ في النوم لا يمكن أن ينام .. ولاأن يتصف بمقدمات النوم .. وهى السّنة وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام )) معنى لا ينبغي أي لا يصح ولا يمكن أن ينام لأن كل ما جاءت كلمة لا ينبغي في القرآن و السنة فالمراد لا يمكن ولا يستقيم
( 113 )
[ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ ]
يعني ما ذكر الله تعالى من صفات النفي التي ذكر الله بها نفسه لا يمكن أن تصير مدحاً إلا إذا تضمن أثابتاًً(1/125)
فمثلاً ( لا تأخذه سنة ولا نوم )لا يمكن أن يقال مدح إلا تضمنا إثباتاً أي صفة ثبوتيه .. وجه ذلك ..
[؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ : لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالًا وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ . فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ ]
القاعدة هذه في النفي تقول النفي المحض الذي لا يراد منه إثبات كمال هذا ليس بمدح .. وجه ذلك .. لأن النفي المحض معناه : العدم نفي عدم فنفي المعدوم .. العدم المحض الشيء المعدوم مثل ماذا قال المؤلف (( الشيء المعدوم ليس بشيء إذا كان ليس بشيء هل يمكن أن يكون مدحاً .. لا
تبين الآن أن النفي إذا لم يتضمن إثباتاً فلا يمكن أن يتصف الله به لأن الله موصوف بصفات الكمال فإذا لم يتضمن النفي كمالاً لا يمكن أن يتصف الله به
الآن مثلاً عندما أقول هذه المروحة لا تأخذها سنة ولا نوم هل هذا صحيح أم لا ؟ !
نعم صحيح لكن هل هذا مدح لأنها بقابلة إذن فليس لا تأخذها
( 114 )
سنة ولا نوم لكمالها ولكنها غير قابله لذلك
عندما أقول هذا الرجل شجاع لا يمكن أن ينام والعدو أمامه هل هذا مدح ؟! لا ينام والعدو أمامه هذه كلمة
هل لا ينام والعدو أمامه من أجل الخوف والذعر أو لا ينام والعدو أمامه من أجل القوة ليقضي على عدو
إذن تحتمل أمرين
إذا لم تتضمن مدحاً صارت ليست مدحاً ولهذا قال تعالى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ }الأنفال11
في يوم بدر دليل على أنهم ليسوا خائفين
فالحاصل أن تقول النفي المحض ليس بنفي حتى يتضمن إثباتاً مدح(1/126)
قال الله عن نفسه [ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ] لماذا ؟ !
مكمال حياته وقيد بنية لأن الحياة الكاملة لا تحتاج إلى نوم بل الحياة الناقصة تحتاج إلى نوم لأن النوم ينقص منا سبق من تعب ويستجد نشاطه لما يستقبل
إذن فمعنى هذا أن الجسم أرهق فاحتاج إلى النوم فاحتاج إلى راحة وأنه لا يمكن أن يستمر في نشاطه فيحتاج إلى تجديد نشاطه ... فيدل النوم على النقص ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم
كمال القيوميه في عدم النوم إذ أن القيوم هو القائم بنفسه وعلى غيره كما قال تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }
ولهذا قال
{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء }
القائم على غيره هل يمكن أن ينام مع تمام القيام على غير؟!
لا سيما وأن هذا الغير كل كائن في السماء والأرض فما دام الغير الذي قائم الله عليه .. هو كل كائن في السماء والأرض فهذه الكائنات محتاجة إلى مراعاتها وإعدادها وإيجادها وإعدامها
( 115 )
في كل لحظة فلا يمكن أن ينام لكمال فيوميته
أصبح الآن نفي السنة والنوم تضمن إثباتاً أم لا ؟!
ما هو الإثبات الذي تضمنه ؟! هو كمال
وأصبحت القاعدة لنا في النفي هي
أنه لا يعتبر... ولا يصح أن يكون كمالاً إلا إذا تضمن هذا الإثبات الذي يتضمنه هو كمال ضد هذا المنفي
فإذا نفى الله عن السنة والنوم فمعناه أننا استفدنا من هذا فائدتين
الأولى :
ما دل عليه اللفظ بالمطابقة .. وهو عدم السنة والنوم
الثانية :
ما دل عليه اللفظ بالإلتزام .. وهو كمال الحياة والقيوميه
ونفى الله عن نفسه الظلم لكمال عدله لا لنفي الظلم المطلق لو كان لمجرد النفي لم يكن ذلك مدحاً بل ربما يكون ذما
وقد قلنا مثلاً لو قلنا هذه المروحة لا تظلم فليس ذالك مدحا لها لأن عدم القابلية فلا يتضمن الإثبات ولا نقول لا تظلم لو أنها عادلة
ولو قلنا في رجل ضعيف سبب هذا الرجل لا يظلم فإن هذا ليس مدحا بل ذم(1/127)
أصبح النفي الآن في الأول ما دل على المدح ولا الذم لعدم القابلية وهنا دل على الذم لأنه إستلزم إثبات صفة نقص
وفيه يقول الشاعر
قُبيلة لا يغّدرون في ذمه ولا يظلمون الناس حبة خردل
لماذا ؟! لكمال عدالتهم .. ووفائهم .. أم لعجزهم وعدم قدرتهم ؟!
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسو من الشر في شيء وإن هانا
( 116 )
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحساناً
قومه ليسوا من الشر في شي هذا نفي بانتسابهم للشر وليس متضمن للمدح بل للذم ولذا قال
فليت لي بهم قوماً إذ ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركباناً
فبين بهذا أن ما نفلا الله عن نفسه يجب أن يكون مستلزم إثبات صفة الكمال هذا الكمال هو نقيض ما نفي الله عن نفسه
قول المؤلف [وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ ]
المعدوم والممتنع يوصف بالنفي المحض .. فال تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }الإنسان1
هذا نفي أن يكون شيئاً مذكوراً لأنه معدوم فنفى الله أن يكون الإنسان شيئاً لأنه معدوم فالنفي إذن يكون للمعدوم والمعدوم ليس بشئ أن يكون في الشئ الممتنع قال تعالى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
هذا نفي هل هو الشيء ممتنع أم الشيء ممكن لكن لم يوجد ؟!
بل هو نفي لشيء ممتنع لم يكن الإنسان خالقاً نفسه ... هذا نفس لشئ ممتنع (لا أثر بدون مؤثر ) نفي لشيء ممتنع
إذن ما دام أن النفي المحض يوصف به الشيء المعدوم والممتنع إذن لا يمكن أن يكون ما نفى الله عنه نفسه من الصفات يجر نفي فقط بل لابد من إثبات كمال(1/128)
فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }
( 117 )
الجملة هذه ماذا دلت عليه من الصفات ؟! دلت على نفي السنة والقيوم دلالة نطق أم دلالة المفهوم ؟!
بل دلالة النطق
فهل هو مطابقة أم تضمن أم التزام ؟!
لتبين معنى الدلالات لقول هذا المثل
إذا قلت كلمة (( هذا بيت )) كلمة بيت تدل على مجموع البناء كله بحجره وغرفة وفسحاته تدل عليه مطابقة لأن بيت مطابق لما دل عليه فجميع أجزاءه دلالة هذه الكلمة على هذه الغرفة وحدها ... والغرفة وحدها ... والحجرة وحدها .. دلالة تضمن
دلالته على أن هذا البيت لابد له من باني .. دلالة التزام
عندما نقول { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } دلالتها على نفي السنة من باب دلالة المطابقة ودلالتها على كمال حياته وقيوميتة من باب دلالة الإلتزام
ولهذا قال المؤلف
[ فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ : يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ ]
جميع ما سبق عبارة عن تطبيق القاعدة السابقة التى ذكرنها
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ }
لا يعزب لا يغيب
فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض
( 118 )(1/129)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ }
فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ }
لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به رؤية لأن إدراك الشيء بمعنى الإحاطة .. أدركته .. أحطته
فالمعنى أن الأبصار لا تحيط به رؤية .. وكلمة لا تدركه إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قال ـكثر العلماء .. لم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لا يرى ..
صحيح هو لم يقل إن الله لا يرى .. بل قال لا تدركه الأبصار ونفي الأخص لا يقتضي الأعم .. أي أن نفي الإدراك .. كونك ترى الشيء ولا تدركه .. لا ينبغي أنك تراه فقط بدون إدراك
يعني نحن نرى الشمس ولكن هل نحن ندركها ؟! لا بل لا ندركها
وهذه القاعدة وهي نفي الأخص لا يقتضي نفي الأعم ـ معروفه عند أهل العلم سوء كان ذالك في المحسوسات أو كان ذالك في المعنويات
عندما تقول مثلاً ( فلان لا يجيد الخط ) هل معنى ذالك أنه لا يكتب لا فلا ننفى أنه لا يكتب .. بل أن يكتب بدون إجادة
ولهذا إستدل بعض العلماء في هذه الآية على إثبات رواية الله وكذالك وكذلك أستدل بها من ينكر بأن الله يرى وأستدل بها من يقول إن الله يرى
المصيب الذي استدل بها على أن الله يرى ذالك لأن نفى الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية .. ولو كان أصل الرؤية مفقوداً لقال ..لا تراه الأبصار
لأن كونه يعبر عن أصل الرؤية بالإدراك هذا الغز وليس بيان والقرآن بيان
إذن يقول المؤلف
( 119 )(1/130)
[نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ ]
وفي الحقيقة كون قول المؤلف لأن المعدوم لا يرى هذا قد يعارض فيه من يعارض .. ويقول إذا كان الموجود ممدوحاً فأنه الموجود لا يرى
الآن مثلاً ـ لو كان أحداً خلف هذا الجدار لكنا لا نراه لأنه معدوم أو لأنه محجوب ؟! لأنه محجوب
والجواب على هذا أن يقال إن هذا المحجوب من شأنه أن يرى لولا المانع إذن فالذي لا يرى مطلقاً بدون موانع هذا المعدوم وأما المحجوب فصحيح أنه لا يرى ولكن لوجود مانع
إذن نقول إن الله لا يمتدح بكونه لا يرى لأن الأصل فيما لا يرى العدم
[ وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا : فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا]
ما هو دليل على إثبات الرؤيا ؟!
نفي الإدراك .. إذن نفي الإدراك دل على أمرين
* كمال عظمة الله لأنه لعظمة لا يدرك والشيء العظيم لا يمكن أن تدركه أيها الإنسان لا تدركه لو أن هناك جيلاً كبيراًً واسعاً أو بحراً عميقاً واسعاً ..لم تستطع أن تدركه ..لأي شيء ؟!
( 120 )
..(1/131)
لغظمته .. وكذلك لو كان شيئاً بعيداً غالياً أو منيراً يحجب الرؤية .. أوماشابه ذلك .. فارأيته .. لاجل عظمته .. فنفي إدراك الرؤية بالنسبة لله .. دليل على كماله .. دليل على إثبات الرؤية في يوم القيامة . وجهة قوله
[لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ : وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ ]
وهذا قد سبق شرحه .. وهو أن القاعدة فيما نفي الله عن نفسه .. أنه متضمن إثبات صفة كمال
[فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ : لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ ]
الذين يصفونه بالسلوب مطلقاً .. كما مر يقولون .. لا موجود ولا معدوم .. ولا جاهل ولا عالم .. ولاحي ..ولا ميت .. فلا يصفونه إلا بالسلب ..
هناك أناس يشار كهم في هذا .. ولكن ليس فيه كله .. مثل الذين قالوا لا يتكلم ..والذين قالوا أنه لا يرى .. والذين قالوا ليس فوق العالم " والذين قالوا ليس مستوياً على العرش "
هؤلاء وصفوه بالسلوب .. والسلوب معناه النفي .. الذين قالوا هذا القول "الأشعرية" .. قالوا إن الله يتكلم .. لكن فسروا الكلام من ليس الكلام .. فقالوا في كلام الله أنه هو المعنى القائم نفسه .. وليس الصرف إو الحروف
.. فهم فسره الكلام
(121)(1/132)
مما ليس بكلام " الذين قالوا لا يرى .. هم نفس الأشعرية .. يقولون أن الله لايرى .. مستحيل .. أن الله يرى .. لا في الدنيا ولا في الآخرة .. الذين قالوا ليس فوق العالم .. والذي يقول أن الله فوق العالم فهو مجسم ممثل
فإذا قيل لهم العلو .. يقولون العلو الذي اثبت الله لنفسه إنما هو علو بالصفات فقط .. وليس علو الذات
والذين قالوا لم يستوي على العرش أيضاً هم الأشعرية يقولون أن الله لم يستوي على العرش
وبما أنهم ينكرون أن الله فوق العالم لم يستوي على العرش ..إذن أين الله
[وَيَقُولُونَ : لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ وَلِهَذَا " قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين " لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ : مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ . ]
إذا قال أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ... ولا مبياين للعالم ومحايد وهناك أيضاً كلمتين هما ولا متصل ولا منفصل
نقول لمن قال الكلام هذا ...أين الله ؟ !
ليس موجود ....إذن هذا معدوم
ولهذا قال الملك المعروف .. بين لنا الرب الذي تثبتة
[ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ
( 122)
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ : مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ ]
فمثلاً نفي الكلام قد يكون الشيء موجود ولا يتكلم لكن لا يتكلم فهو أنقض من الذي يتكلم .. من ليس فوق العالم قد يكون موجوداً ولكن من كان فوق العالم .. أكمل من ليس فوق العالم(1/133)
والمهم أنهم لا يصفون الله بهذه الصفات الا وهي صفة لمعدوم لا يوجد أو لموجود ناقص وكل ذالك القول لهم قصد من ذالك وهو الفرار من التشبيه لكن وقعوا في شر مما فر منه
د محمد بن سبكتكين هذا .. كان أمير على الهند وما ولاها من قبل السلطان العباسي القادم بالله وكانت ولادته كما عندي الآن سنه 361 ووفاته سنة 421 وقد ذكروا أنه كان فصيحاً جداً بليغاً وأنه كان يحب أهل العلم ويحب أهل الحديث ويقر بهم وكان لهم إنتصارات في الهند والسند ولهذا جعله السلطان
العباسي القادم بالله جعله سلطان على تلك البلاد لا أمير فقط .. بل جعله سلطاناُ عليهما لأنه ذو كفاءة تامة وهو رحمه الله من خير من تولى على تللك البلاد
[وَالنَّاقِصُ فَمَنْ قَالَ : لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ ]
إذا قالوا إن الله ليس قائم بنفسه ولا بغيره .. معنى ذالك أنه معدوم لأن ما من موجود إلا وهو قائم بنفسه أو قائم بغيره .. المخلوقات كلها قائمة بغيرها .. قائمة بالله
( 123)
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يعني وهو الله المقابل محذوف والتقدير كمن لا يملك ذلك
كذلك إن الذي يقول إن الله لا داخل العالم ولا خارجه مثل الذي يقول إن الله ليس قديما ولا محدثاً لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره وهذا بلا شك وصف له بالعدم تماماً(1/134)
[وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ . فَإِنْ قَالَ : الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ قِيلَ لَهُ : هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ ]
الذين قالوا أنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم هؤلاء الذين نفوا عنه الصفات دون الأسماء وهم الجهمية والمعتزلة
يقول المؤلف لزمه أن يكون ميتا مقابل ليس بحي وكذلك أصم مقابل ولاسميع وأعمي مقابل ولا يبصر وأبكم مقابل ولا يتكلم ومن زعم هذا من باب مقابل العدم والمعرفة قلنا له هذا اصطلاح اصطلحته .. وأنتم تقولون أن الجماد لا يوصف بالحياة والموت والله قد وصفه بالحياة والموت
قال تعالى {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء } واصطلاحكم هذا لا يغني عن الحقائق ولا يغير الألفاظ عن مدلولها
[وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ : يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ ]
الذي يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر وقال هذا ليس بحي يمكن أن يقول هذا ميت .. الجدار ليس بحي .. الحديد ليس بحي إذن يصح
( 124)
أن تصف ما ليس بحي بأنه ميت
قال تعالى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }البقرة28
كنتم أمواتاً أي نطفاً قبل أن تنفخ فيهم الروح فسمى ما ليس بحيّ سماه ميتاً .. مع أن الموت كما هو معروف يرد على الحياة ومع ذلك سمى الله تعالى ما ليس ترده الحياة أي ما لم تحله الحياة ميت قوله والعجمة .. أي عدم الكلام(1/135)
[ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا ]
من حيث قدرة الله وإن كان الموجود في العادة ليس بحي لكن اليس الله قادر على أن يجعله حيا
والمثال على ذالك .. كما جعل عصا موسى حية مع العصا جماد صار حيأ يتحرك ويريد ويقصد
قال تعالى { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }
الأرض يومئذ تحدث أخبارها فجعلها الله ناطقة والحصى سمع تسبحيه بيد النبي صلى الله عليه وسلم . وسلّم عليه الحجر ومع هذا
فهو لا يقبل الكلام في الأصل لكن الله قادر على جعله متكلماً فبهذا تبين أن كل موجود يمكن أن يكون حيا بإذن الله
هذا جوابان :ـ
الجواب الأول
أن تقول أن التفريف يبين كون هذا يقبل ولا يقبل .. ما هو إلا اصطلاح منكم ... والاصطلاح لا يغير الحقيقة
بدليل بأن ما زعمتم غير ممكن ولا قابل قد جعله الله ممكنا وقابلاً فوصف ما ليس بحي وصفه بالموت
( 125 )
الجواب الثاني
أن تقول حتى الشئ الذي لا تأخذه الحياة فإن الله قادر على أن يجعله حياً فيصح نفي الحياة عنها وإن كان لا يقبلها بحسب العادة
وهناك وجه ثالث قال
[وأيضاً ... فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا]
يعني المؤلف أن الشيء الذي لا يمكن أن يتصف بهذه الصفات والشيء الذي يمكن .. لكن متصف بالنقائض .. فإن الأول أعظم نقصاَ
الأول أعظم نفصاً لأنه لا يمكن أن يرد عليه الكمال
والثاني يمكن أن يرد عليه الكمال لكنه نقض
هل نستطيع أن ننافس المؤلف في هذا الكلام
مثاله .. الجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس
أعظم نقصاَ من الحي الأعمى الأخرس
( نهاية الوجه الأول رقم 9 )(1/136)
المؤلف رحمه الله لاحظ أن القابل لصفات الكمال مع اتصافه بالضد أنها عين قابلة لأن تكون كاملة وأما ما لا يقبل هذا ولا هذا فهي عين لا تقبل أن تكون كاملة فهي من هذا الوجه أعظم نقصاً
لكن قد تقول له أن العمى في الحي نقص فيعتبر نقصاً والعمى في الجدار ليس بنقص لأن الجدار لم تفته صفة كمال لكون لا يبصر والحي فاتته صفة كمال لكونه لا يبصر
فالمؤلف لم يلتفت إلى هذا بل إلي أصل هذا الشيء هل هو قابل للكمال أو غير قابل بكمال
[ فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ : أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ ]
( 126 )
فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ : كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ]
هذه المسألة مثل ما قلت قريباً يمكن أن يناقش فيها الإنسان ويقال إن فقد البصر فيما في شأنيه أن يبصر يعتبر نقصاً وإن فقد البصر فيما ليس من شأنه أن يبصر ليس بنقص
[مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا ]
هذا صحيح إذا قيل إن الله لا يقبل الإتصاف السمع والبصر فإنه يكون مشبهاً بالجماد .. ومعلوم أنه لو قيل لك شبه إنساناً يشخص ناقص أو شبه بالجدار فإن تشبيه بالجدار أعظم حزازة
[ وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ ]
أي أن هذا من أعظم ما يكون بالتقيص فيكف بمن قال غير ذالك(1/137)
يعنى أنت الآن لو قلت ذلك على غيرك من غير الله هذا يعتبر من أعظم الجنايات أن تشبه أعظم الذوات قدراً بأخصها قدراً وهذا مع أن عندي فيما قلق في الحقيقة لا أدري في هل هذا صواب دقيق وه فكيف من قال ذالك على غير مما يزعم أنه أنه تشبيه بالحي
يبدو لي أن العبارة ليست واضحة
( 127 )
ولكن معناها تقريباً
أن الذي يشبه الله بالجماد أعظم من الذي يشبه بالحي لأنهم يزعمون أنك إذا أثبت الصفات شبهت الله بالأحياء أما الإنسان فنقول أنتم شبهتموه بما هو أعظم نقصاً
[ وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ ]
نفس نفس هذه الصفات نقص سواء بقطع النظر عن كونها تنفي عمن يمكن الإتصاف بها أو من لا يمكن ونفيها يعتبر نقصاً لأن أمثالتها كمال
اليست الحياة نفسها فكلمة الحياة بقطع النظر عن المتصف بها فلان أو فلان هي صفة كمال
قال تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ }
[وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ] كل هذا صفات كمال بقطع النظر عن الموصوف بها ولذلك يقول المؤلف
[وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ : فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ . ]
يقال هذه الصفات التي تقيم النفي للحياة والسمع والبصر والكلام الأشعرية لأنهم يثبتون هذه الصفة نقول لهم أنتم الآن
( 128 )(1/138)
إذا نفيتم هذه الصفات عن الخالق فقد نفيتم عنه صفة كمال لأن هذه الصفات من حيث هي بغض النظر على من إتصف بها هي صفة كمال فإذا قلت ليس الله بحي وقلت المخلوق حي معنى ذالك جعلته المخلوق أكمل من الخالق وهذا شيء متعذر
[وَاعْلَمْ أَنَّ الجهمية الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ : يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَهُ بِالنَّقِيضَيْنِ حَتَّى يَقُولُونَ لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ فَقَالُوا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ وَأُولَئِكَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ قَالُوا إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادًا ]
قول المؤلف سبق مراراً في الذين يصفونه بالسلوب المتناقضة أو بالسلوب دون إثبات مر علينا طائفة يسلبون عنها النقيصين ويقولون ليس بموجود ولا معدوم
وطائفة أخرى تسلب عن الصفات فقط فلا تصفه بالإثبات إنما الذي نحتاج فهمه من هذه العبارة هي قوله
(أن كل واحد منهم ــ من هاتين الطائفتين ـ أشد كفراً من الأخرى من وجه )
فالطائفتين كما تقدم
طائفة تقول لا تصفه لا بهذا ولا بهذا يقول ليس بموجود ولا ليس بموجود .. هذه الطائفة كما مر فر من أن يشبه الله بالموجودات أو بالمعدومات ولكنهم وقعوا في شر من ذالك حيث شبهوه بالممتنعات أي لا يوجد شيء لا موجود ولا معدوم فهذا كفر وتناقض ظاهر
( 129 )(1/139)
أما الذين قالوا أنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا يتكلم وما أشبه ذالك
قال المؤلف إن هؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه أي كل واحد من هاتين الطائفتين أعظم كفراً من الأخرى من جهه
فإن الطائفة الأولى التي تصفه بشيء ممتنع أعظم كفراً من الأخرى لأن قولهم بالحقيقة يؤدي إلى أن هناك لا رب ولا شيء وإنه يمتنع أن يوجد رب إذ أن الموصوف بهذه الصفات يمتنع .. يلزم من هذا أن يكون .. أن يمتنع وجود الرب
وهذا أشد كفراً من أولئك من وجه آخر من حيث أنهم وصفوا وقالوا على قولهم .. يجب أن يكون الله متصف بالنقص
لأن ضد الحي الموت .. ضد السميع الأصم وضد البصير الأعمى وكرر المؤلف ما كرر أورده سابقاً .. من أن هؤلاء يجيبون عن قولهم بأننا ننفي عنه النقيضين .. لأنه ليس يقابل لها .. ونفي النقيضين عن ما ليس لقابل لهما ممكن
[وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا قِيلَ : لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ - وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ قَالُوا هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ ]
[. فَيُقَالُ لَهُمْ عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ : هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ ]
يعني الخلق كلهم يعلمون بأنه يمتنع الخلو من هذين النقضين وهما الوجود والعدم ... يمتنع أن يكون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً
( 130 )(1/140)
ولا حيا ولا ميتا وهكذا فهذا العلم هل يستثني منه شيء بأن يكون قابل أو غير قابل؟! لا أبداً لأن كل شيء فهو قابل لابد له من العدم وقد سبق أن تقابل الوجود والعدم من باب تقابل السلب والإيجاب لا العدم .. والملك فلا يمكن لأن المخلوق أنه يمكن خلو الأشياء عن هذين فالآن هم يقولون يلزم
التحيز فالتحيز معناه أن يكون الشيء محنازاً في حيز وحيز التميز ما أحاط به
يقول المؤلف في تفصيل كلمة التحيز ..
[ وَالتَّحَيُّزُ الْمَذْكُورُ : إنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ الأحياز الْمَوْجُودَةِ تُحِيطُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ]
التحيز يقول المؤلف إن أريد به كون الإحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم
بالنسبة للمخلوقات فإنه يراد بها هذا فالإنسان المتحيز بمعنى أن الأحياز التي تحوزه وتحيط به ... محيطة به ..
فنحن الآن في الغرفة متحيزون .. محنازون ولدينا من كل جهة أسوار تحيط بنا .. إذن فنحن الآن داخل العالم
وكل ما تحت العرش فإن العرش محيط به فهو منحاز داخل العالم وقد يراد بالتحيز .. ما كان خارج العالم .. أي المنحاز عن المخلوقات البائن منها وهذا بالنسبة إلى الله حق ..
فإن الله تعالى مباين من مخلوقاته .. فهم إذا قالوا ليس بمتحيز فإنه يلزم من قولهم أن لا يكون داخل العالم تحيط به الأحياز ولا خارج العالم منحاز بائن عن العالم فيلزم على قوله .. أن لا يكون ثمة ربط
( 131 )
وهذا في الحقيقة هو التعطيل المحض
ومعروف أن كلمة الحيز لا تكون مبتدأ(1/141)
لا يوجد في كلام الله ولا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما أتى به أهل البدع ليوهموا الأغرار الذين لا يعرفون يوهموهم أن هذا باطل ليتوصلوا بذالك إلى نفي الصفات ولذالك قال المؤلف
[فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ ؛ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ ]
فخلاصة القاعدة
أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي
والقاعدة في الإثبات ... أن كل ما أثبته الله فهو صفة كمال وكل ما ذكره المؤلف أثناء القاعدة فهو تكرار لما سبق
وأما النفي فقلنا أن كل ما نفى الله عن نفسه فهو صفة نقص لكنه يتضمن إثبات المدح
( 132 )
القاعدة الثانية
[الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ - سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ - لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ؛ فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ ]
القاعدة الثانية : أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه سوء عرفنا معناه أم لم نعرفه
لكن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم له وجهتان
•الوجهة الأولى الكيفية
•الوجهة الثاني المعنى
أما الكيفية فلا سبيل لنا إلى العلم بها مهما كان .. لا سبيل لنا إلى العلم بكيفية ما أخبر به الرسول عن ربه(1/142)
وجه الإمتناع أن الشيء لا يعلم أو طرق العلم بالشيء ثلاثة
•إما مشاهدة هذا الشيء
•أو مشاهدة نظيره
•أو الخبر الصادق عنه
وكل هذه الثلاثة بالنسبة لكيفية صفات الله منتفية
فالله تعالى لم يشاهد الخلق ولا نظير له سبحانه وتعالى ولم يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن كيفية تلك الصفات
أما علم المعنى فإنه غير منتفي ولكن يخفي بعض المعاني على بعض الناس فحنئذ يجب التوقيف لكن يجب الإيمان يجب الإيمان بأن ما وصف الرسول به ربه فهو حق ولو لم نعرف معناه ولكن عدم معرفة المعنى أمر نادر بالنسبة لما يعرف ولهذا قال مالك رحمه الله في الإستواء معلوم والكيف مجهول .... إلى آخر
( 133)
قول المؤلف وسواء نعرفه أم نعرفه .. هذا باعتبار الواقع أو على فرض أن يوجد ذلك ..
.. وعلى فرض أن يوجد ذلك .. وهذا قد يوجد لبعض الناس في بعض الصفات .. أما أن نقول أن جميع الصفات يمكن أن نجهل معناها فهذا لايمكن ..لأن هذا خلاف البيان الذي نزل به القرآن
والقرآن في بيان للناس .. ولا سيما في أعظم الأمور .. وهي صفات الله تبارك وتعالى ..
قول المؤلف لأنه الصادق المصدوق
الفرق بين الصادق والمصدوق هو أن .. الصادق .. من أخبر بالصدق
..أى بما يطابق الواقع .. المصدوق .. من أخبر به .. يعنى الذي أخر بما يوافق الواقع ..
قول المؤلف "فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه .. وكذلك ما شبة باتفاق سلف لأنه المؤلف قسم هذه القاعدة إلى قسمين
قسم جاءت به النصوص أو اتفقت عليه الأمة وأئمتها .. فحكمه يجب الإيمان به .. علمنا معناه .. أم لم نعلمه .
وقسم آخر تنازع الناس فيه .. وهو الذي أشار إليه بقوله(1/143)
[وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ : أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى]
ما تنازع فيه فليس علينا أن نؤمن به ولا علينا أن نؤ من به بل ولا له أن نؤمن به ..
ليس علينا أن نؤمن به .. لأنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ولا أجمعت
(134)
عليه الأمة .. وليس لنا أن نؤمن به أو لا يحق لنا أن نؤمن به أى ليس صباحاً لنا أن نؤمن به
قول المؤلف بل ولا له أن يوفق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه ..
مثال ذلك ...
[كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَفْظُ الْجِهَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ]
يعنى مثلاً .. أن تقول هل الله سبحانه جهة .. أوفي جهة ؟!
هذه المسألة .. ما موقفنا نحن بهذا الشيء..
إذا قال المبطون مثلاً ..أو المبتدعون .. نحن لا نؤمن بأن الله عالم بذاته .. لأنه يلزم أن يكون جهة .. أو أن يكون في جهة ؟! ما موقفنا من هذا ؟! هل نؤمن بالجهة أو ننكره ؟!... نقول الجهة بالنسبة من تشتمل على حق وباطل .. فيحب أن نفصل .. ماذا تريد بالجهة ؟! إن أراد معنى يليق بالله تعالى ولا ينافي كماله .. حينئذ نقبل المعنى فقط .. وأما اللفظ فنجعله خارجاً .. لا نثبه .. ولا ننفيه ... لماذا ؟!(1/144)
لأنه لم يرد في الكتاب ولافي السنة نفيه ولا إثباته .. لكن هم أتوا بهذا لكى يتوصلو بهذا إلى نفي ماأشبة الله لنفسه من العلو ..وجعلوا يقولون جهة ماأشبه ذلك .. فنقول لهم ..الجهة إن أريد به شيء موجود غير الله كان مخلوقاً .. مثل إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات .
من معلوم أنه إذا أريد بالجهة مافوق العالم ..فإنه يصح
(135)
إثباتهما من حيث المعنى لله لأن الذي فوق العالم هو الله
[وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ]
يعني بذالك أنك لا تجد في القرآن ولا في السنة أن الله في جهة أو أن الله جهة .. جهة العالم .. لا نجد هذا نفياً ولا إثباتاً لكنك تجد إثبات العلو والإستواء والفوقية والعروج إليه
[وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ : أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ : أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ ]
فأصبحت الجهة تقال على وجهين
أحدهما : أن يقال الله جهة .
والثاني : أن يقال الله في جهة(1/145)
وكلا الأمرين لم يرد في الكتاب والسنة لا إثباتاً ولا نفياً وإذ قيل هذا من قائل فنقول له ماذا تريد بالجهة إن أردت بالجهة ما هو مخلوق فالله تعالى لا يصح أن يطلق عليه جهة . وإن أردت بالجهة ما فوق العالم فمعلوم أن الله تعالى فوق العالم
( 136 )
لكن لفظ أن تثبت بأن الله جهة أو أن الله ليس بجهة بهذا اللفظ لا نوافقك .. بل نقول ماذا تريد ؟! إذا أردت شيء لا يليق بالله قلنا لك لا نقبل هذا لا إثبات لفظه ولا معناه وإن أردت به شيء يصح أن يكون لله وافقناك على المعنى وخالفنك في اللفظ .
الصورة الثانية : أن يقال الله في جهة نقول كلمة جهة إذ أردت أنها جهة تحيط به ونحو ذالك كما إذ قلت فلان جهة المنارة فالمعنى أن المنارة تحمله والسقف يحمله وتحيط به وإذ أردت بالجهة هذا المعنى فهذا باطل بلا شك .. بالفظ والمعنى
وإذا أردت بالجهة أن الله تعالى في جهة علو لا يحيط به من مخلوقات فهي حق ولكننا مع ذالك لا نقول إن الله في جهة لأن الله سبحانه وتعالى أتي بدلاً من كلمة في جهة .. بدلاً عنها بالعلو والإستواء على العرش والفوقيه وما أشبه ذالك .
نهاية الوجه الثاني من رقم ( 9 )
( 137 )
الشريط العاشر
[وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاَللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ ؛ بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ]
أيضا في مسألة التحيز تفصيل فنقول إن أردات أن الله تبارك وتعالى في حيز بحيث تحيط به المخلوقات فهذا لا يجوز .. لأن الله أعظم من أن تحوزه المخلوقات فإنه كما قال المؤلف [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ](1/146)
والكرسي كما قال ابن عباس رضي الله عنهما موضع القدميه فإذا كان موضع القدمين قدر السموات والأرض .. معنى أحاط بهما السماوات والأرض جميعاً .. فما بالك بالعرش وما بالك بالخالق
ص137
والآية تبين أن كل السموات السبع مطويات بيمينه ، وكمال قال تعالى ( { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (104) }
{ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانَ بِالْكُرَةِ }
يعني أن الله سبحانه وتعالى يقبض السموات مثل ما يقبض الصبي الكرة ويدحوها بيده ، وتعالى الله أن يشبه .
[ َفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ ]
الخردلة حبة صغيرة يضرب بها المثل في الصفر ، السموات والأرضون في يد الله كخردلة في يد أحدكم " هذا أيضاً على سبيل التقريب لا التحقيق لأن الله تعالى ليس كمثله شيء بل هي أصغر من ذلك .
[ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ حَالًّا فِيهَا : فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . ]
إن أراد أن الله منحاز ، يعني في حيز في مكان بائن من الخلق عالٍ عليهم " فالله سبحانه وتعالى كما قال أهل السنة بائن من خلقه والمعنى أننا نقر بذلك لأن هذه الطريقة أئمة السنة .
ص138
القاعدة الثالثة(1/147)
[ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ : ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ ]
هذه نقطه مهمه " إذا قال القائل ، ما تقولون في نصوص الصفات ، هل ظاهرها سواء أم ليس بمراد ؟ فإننا نقول له
[ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ ]
ضد الإجمال ، التفصيل والبيان ، واشتراك ، يعني بين ما يصح وما لا يصح ، وضد الإشتراك الصريح ، لأن الصريح هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً ، وغير الصريح مشترك .
[ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ]
إذا كان هذا القائل الذي يقول ظاهر النصوص مراد أو غير مراد نقول ماذا تريد بالظاهر .
أن أردت بالظاهر أنه يشبه صفات المخلوقين ، فهذا ليس بمرارقطعاً ، يعني لو أردت أن ظاهر قوله تعالى
" بل يداه مبسوطتان " أن ظاهره أن اليدين المذكورتين كأيدي المخلوقين ، أو أنها أيدٍ يلحقها ما يلحق أيدي المخلوقين من التعب والأعياء والعيب وما أشبه ذلك ، فهذا غير مراد لأنه ينافي كمال الله سبحانه وتعالى .
[ وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذَا ظَاهِرَهَا وَلَا يَرْتَضُونَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كُفْرًا وَبَاطِلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ
ص139
نَفْسَهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالٌ ْ]
أهل السنة لا يؤمنون ولا يرون أن هذا هو ظاهر النصوص لأن هذا كفر ، وباطل ، وهل يمكن أن يكون ظاهر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته كفراً وباطلاً لالا يمكن هذا .(1/148)
[ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ يَغْلَطُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ : تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ حَتَّى يَجْعَلُوهُ مُحْتَاجًا إلَى تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ]
الذين يقولون أن هذا هو ظاهر النصوص يغلطون من وجهين :
الأول : إنهم يحعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ . والمعنى الفاسد هو التشبيه أو إمكان العيب يجعلونه ظاهر اللفظ ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر .
مثال ذلك اليد .
إذا قالوا بل يداه مبسوطتان ، ظاهر النص ، أن اليدين تشبه أيدي المخلوقين .
نقول أنتم تغلطون حيث زرعتم أن هذا هو الظاهر .
وكما اعتقدوا ذلك ، قالوا : يجب أن يؤل ، ونقول المراد في اليد القوة ، وهذا فرار من التشبيه بحيث اعتقدوا أن هذا ظاهر القرآن ، وهو تشبيه الله بالخلق في هذه الصفات .
الثانية : يردون معنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ ، لاعتقادهم
ص140
أنه با طل ، فإذا قلنا نحن يل يداه مبسوطتان ، " معناه " اليد الحقيقية اللائقة بالله بدون تشبيه هم يردون هذا القول بأعتبارهم أنه باطل .
فمثل المؤلف على الحالتين فقال .
[ ( فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي } الْحَدِيثَ وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ : { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَقَوْلِهِ : { قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } فَقَالُوا : قَدْ عُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا أَصَابِعُ الْحَقِّ ]
في قوله " عبدي جعت " هل الله يجوع ؟ لا يجوع فهم يقولون أن هذا اللفظ ظاهرة مستحيل على الله فيجب أن يؤول .(1/149)
والأمثله هذه يقولون أن ظاهرها معنى باطل فيجب أن تؤل والححديث الثاني ، الحجر الأسود ، فإن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المؤلف أتى به لأنه يذكره تمثيلاً لهولاء الذين مثلوه ، لأنهم مثلوا بهذا الحديث " وفي الحقيقة كان عليه أن يبين ذلك ، لأنه إذا بين أنه غير صحيح يسلم منه لكنه إما أنه يراه أنه حسن وأثبته .
[ فَيُقَالُ لَهُمْ : لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا ( الْوَاحِدُ فَقَوْلُهُ : { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَيْسَ هُوَ صِفَةً لِلَّهِ وَلَا هُوَ نَفْسُ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ : { فَمَنْ قَبَّلَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ
ص141
فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مُسْتَلِمَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ يَمِينِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ظَاهِرُهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ . مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ ]
هذا الحديث لا يدل على ما قالوا لسببين :
الأول :
أنه قال يمين الله في الأرض " ومعلوم أن الله في السماء " قيمته في السماء فلا يمكن أن تكون في الأرض .
الثاني :
قال فكأنما صافح الله ، وقبل يمينه ولو كان هو يمين الله لقال ، صافح الله وقبل يمينه فكأنه لما قال فكأنما علم أن هنذا ليس المراد أن الحجر نفسه يمين الله لأن المشبه ليس المشبه به .(1/150)
فثبت بحمد الله أن هذا الحديث لا يحتاج إلى تأويل لأن المعنى الفاسد الذي إعتقدوه في هذا الحديث غير صحيح .
فلو فرض أن هذا الحديث صحيح عن أبن عباس ، فأننا قد نقول ، أن ابن عباس إذا قال مثل هذا القول حكم له بالرفض لأن مثل هذا القول لا يقال بالرأي .
وكما هو في المصطلح " أن الصحابي إذا قال قولاً لا يقال بالرأي " فحكمه الرفع فهو مرفوع حكماً ، لكن بشرط أن يكون هذا القائل معروف ، بالأخذ عن الأسرائيليات ، وقد ذكر عن ابن عباس وعن ابيه رضي الله عنه فمن أخذ عن الأسرئليات مع أن البخاري ذكر عنه أنه لا يرضى أن يؤخذ الدين عن بني إسرائيل ,
وعهدي بسند هذا الحديث ضعيف ، ولا يصح حتى ولا عن ابن عباس رضي الله عنه ، وعلى فرض أنه صحيح فإنه لا يفهم منه ماقاله هؤلاء من أن الحجر يمين الله حقاً ، وذلك لا يحتاج إلى تأويل .
ص142
[ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ : فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مُفَسَّرًا : { يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ : رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ : رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ ](1/151)
يبين المؤلف أن تفسير الحديث الآخر ، بحديث آخر وبذلك لا يكون هذا الحديث ظاهره يحتاج إلى تأويل كما يقولون .
[ وَأَمَّا قَوْلُهُ { قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَصَابِعِ وَلَا مُمَاسٌّ لَهَا وَلَا أَنَّهَا فِي جَوْفِهِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ لِيَدَيْهِ وَإِذَا قِيلَ : السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ ]
يقولون أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ، أ، هذا معنى باطل ، لأنه لا يمكن أن يصبح القلب بين أصبعين من اصابع الرحمن ، إذن فالمراد به معنى خلاف هذا الظاهر ، ويجب أن يؤل ويقال القلوب كفاية عن تصريف الخلق ، فرد المؤلف عليهم بقوله .
ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ، ولا حماس لها ، ولا أنها في جوفه ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي مباشرة ليديه .
نعم إذا قلت هذا الكتاب بين يدي " فإذا أبعدت يدي عنه وقلت
ص143
ذلك فإن قولي يعتبر صحيحاً ، ولا يقتضي أن يدي قد مسته ، ولا يلزم ذلك قوله ، إذا قيل السحاب المسخر بين السماء والأرض .
فإنه لا يلزم أن السحاب حماس لهما بل أن السماء بعيده عنه .
[ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ]
قوله " ومما يشبه هذا القول أي بإن ظاهر النص باطل فيجب أن يعرف .
وآية خطاب للشيطان والمراد بما آدم وهنا قال لما ولم يقل لمن ، مع أن " من " للعاقل و " ما " لغير العاقل ، وأدم عاقل ,(1/152)
والسبب أن من تقال للعاقل " إذا قصد بها مجرد الشخص " لا إذا قصدت بها معاني التي أتصف بها الشخص .
فإذا قصد بها مجرد الشخص تقول " من " وإذا قصد المعاني التي ( تصف بها الشخص " تقول " كمثل قوله " فأنكوا ما طاب لكم من النساء " ما طاب بالصفات لأن المرأة تطيب بصفاتها لا لمجرد أنها إمرأة ولكن لصفاتها .
لما خلقت بيدي " هنا " المقصود تغليب المعنى على الشخصية لأن كون الله خلقه بيده أمر لا يشاركه فيه أحد لكن مجرد أنه مخلوق يشاركه جميع الخلق .
جواب أبليس " أأسجد لمن خلقت طينا" فلم يقل لما خلقت طيناً بل قال " لمن " والسبب إنكاراً للفضائل والمعاني التي تميز بها آدم وجعل له كأنه خلق خلقاً عادياً كغيره ، مراعي فيها الشخصيه دون الصفات والمعاني وما تأتي لغير العاقل ، وللماعني والصفات سواء كانت حميده أو غير حميده .
[ فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا
ص 144
أَنْعَامًا } ؟ فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي ]
فهذا ليس مثل هذا ، لو قال قائل ، إن آدم لم يخلق بيد الله لأن الله قال " لما خلقت بيدي " فهو كقوله " مما عملت أيدينا أنعاماً "
المعلوم أن هذه الأنعام وهي الأبل لك يخلقها الله بيده ، ومع ذلك مما عملت أيدينا ، وقصده من هذا المثل ، أن ينكر اليد الحقيقة لأنه من المعلوم أن الله خلق الأبل بقدرته ، وليس بيده ، فهو يقول أنا سأفعل بما خلقت بيدي بقدرته ، وأجعلها مثل قوله مما عملت أيدينا ، لأننا نعلم أن الله ما خلق هذه البهائم بيده ، لكنها كم عمل يده فهم يقولون هذا ، وبذلك لا يستلزم الإثبات لليد الحقيقية وإنما المراد بها القدرة والقوة .
لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي والفعل عملت واضيف إلى الأيدي ولم يقل مما عملنا ، لكن لما خلقت بيدي اضاف الفعل إليه وجعل اليدين مخلوقاً بهما وهو الخالق .(1/153)
أما هنا فجعل الأنعام مفعولاً وهو الفاعل ولم يجعل هناك واسطة بين فعله ومفعوله .
[ { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ : { لِمَا خَلَقْتُ } ثُمَّ قَالَ : { بِيَدَيَّ } ]
نعم لو قال ما منعك أن تسجد لما خلقت أيدينا ، لكان مثل ما عملت أيدينا ، أما هنا فأضاف الخلق إليه ، لما خلقت ، ثم جعل اليدين مخلوقاً بهما .
مثال ذلك إا قلت
قطعت اللحم بالسكين ، هذا فهمنا أن السكين غير نفسي لما خلقت بيدي فهمنا أن اليدين غير ذات الله فليست هي ذات الله بل هي معنى آخر زائد .
[ وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ هُنَا ذَكَرَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَفِي الْيَدَيْنِ ذَكَرَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَهُنَاكَ أَضَافَ الْأَيْدِيَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } ]
هنا أضاف الفعل إلى نفسه ونفسه المقدسة بصيغة المفرد ( بيدي ) أصلها ( يدين لي ) فحذفت اللام ثم أضيفت اليدين إلى ضمير المفرد ( بيدي ) وبأيدينا .
بيدي أضاف الهاء إلى المفرد ، وهناك أضيف إلى الجمع ، كذلك المضاف فو قوله ( بيدي ) مثنى ، والمضاف في قوله أيدينا جمع فكيف يجعل هذا مثل هذا ، فصار الفرق الآن ...
* مما عملت أيدينا اضاف الفعل إلى الأيدي .
* لما خلقت بيدي أضاف الفعل إلى نفسه .
* مما عملت أيدينا اضاف الأيدي إلى ضمير الجمع .
* ولما خلقت بيدي أضافهما إلى مفرد .
* ولما خلقت بيدي مثنى ، المضاف مثنى ولما عملت أيدينا جمع .
أيضاً هناك فرق في قوله " لما خلقت بيدي " جعلها هنا مخلوقاً بها لا خالقه وأما مما عملت فجعلها اي اليد عاملة لا معمول بها .
انتهي الشريط العاشر .(1/154)
شرح التدمرية للعلامة العثيمين [ تفريغ من الشريط الأول للعاشر ]
الشريط الحادي عشر
[ وَهَذَا فِي ( الْجَمْعِ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ فِي ( الْمُفْرَدِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَفْسَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَلَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ قَطُّ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ؛ وَرُبَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَأَمَّا صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فَتَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } لَمَا كَانَ كَقَوْلِهِ : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَلَوْ قَالَ خَلَقْت بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لَكَانَ مُفَارِقًا لَهُ ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَ خَلَقْت بِيَدَيَّ ؟ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ](1/1)
[وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ ]
مثال ذالك .. نحن نتكلم مع الأشعري الذي يثبت للنصوص معنى حسب الظاهر .. الأشعري يثبت أن لله قدرة .. عن غير جنس قدرة المخلوقين نقول له .. إذا كنت تعتقد أن النصوص التي تنازعنا فيها مثل الرحمة الرضا الغضب وغير ذالك فيدل أن المراد بالرحمة الإحسان نقول له فسرت الرحمة بغير ظاهرها .. فالظاهر عنك غير مراد ..
مثلاً {يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ }
وإن كنت تريد أن تعتقد أن ظاهر الرحمة رحمة تليق بالله فظاهرهما مراد .. مثل أن تقول القدرة قدرة تليق بالله ثم فرع المؤلف على هذا وقال
( 147 )
[- فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ : كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَا وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً ؛ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ اسْتِوَاءً كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا حُبًّا كَحُبِّهِ وَلَا رِضًا كَرِضَاهُ ](1/2)
الصفات التي ذكرها الثلاث لا يوافقنا عليها الأشاعرة نقول الأشاعرة الذين يثبتون العلم والقدرة وما سبق .. نقول أنهم يعتقدون أن هذا العلم حقيقة وأن النصوص عليه ظاهرة وتعتقدون أنه ليس مثل علم المخلوق ولا كقدرته .. ونحن نقول أيضاً في المحبة والرضى أنه حتى على ظاهر ولا يشبه محبة المخلوقين ورضاهم وإستوائهم
فالأمر واضح .. أن ظاهر النصوص كلها مراد ولكن ظاهرها المعنى اللائق بالله وليس التشبه الذي هو الكفر
[فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَ الصِّفَاتِ تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ مُرَادًا ]
إذ كان يظن أن ظاهر النصوص إثبات التمثيل يلزمه أن جميع الصفات ليس مراد .. ظاهرهما لأنه يعتقد أن الظاهر هو التمثيل .. التمثيل بلا شك غير مراد لله سبحانه وتعالى من صفاته
( 148 )
[ مُرَادًا وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذَا الظَّاهِرِ وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ ؛ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ مَا يَنْفِي هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفِي بِهِ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدًا ]
إذا كان يعتقد المستمع أن ظاهر النصوص هو اللائق بالله فهل يجوز أن ينفي هذا ؟ ! .. لا .. ولهذا لم يكن له نفي هذه
أي أن يقول ؟ظاهرها غير مراد .. ولا نفي أن يكون مراداً
فالخلاصة : أن نقول إن أريد بالظاهر ــ أي ظاهر النصوص إن كان القائل يفهم أن ظاهرها معنى يليق بالله .. فالظاهر مراد .. كان يفهم إن ظاهرها معناً لا يليق بالله .. فالظاهر غير مراد .. لكن ليس ظاهرها(1/3)
[وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ صِفَاتِنَا مِنْهَا مَا هِيَ أَعْيَانٌ وَأَجْسَامٌ وَهِيَ أَبْعَاضٌ لَنَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ : وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَا : كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . ]
معان ضد أعيان وأغراض من أجسام .. فالمؤلف هنا يقسم صفات الإنسان يبين أن صفاتنا شيء منها أعيان وأجسام ضرب لنا مثل اليد .. والوجه .. والعين .. والرأس .. الرجل
وشيء من صفاتنا أعيان وأغراض يعني معاني وأغراض مثل العلم .. مثلاً عن علم وقدرة .. ولكن هل أنتم تشاهدون علمي وقدرتي بشيء متميز .. كما تميز اليد ؟! .. لا إذن صفاتنا تنقسم إلى قسمين كما بينا
[ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ
( 149 )
[ لَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا ؛]
هنا المؤلف رحمه الله سيقيس الصفات التي هي غير معاني إلى الصفات التي هي معاني فالآن صفاتنا معاني وأجسام .. صفات الله تعالى .. معاني وشيء يشترك بالاسم مع ما هو أبعاض لنا ولا نستطيع أن نقول إنه بعض لله .. لكن نقول يشارك في الاسم ما هو من أبعاضنا مثل اليد(1/4)
[ فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ . فَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ . ]
المؤلف هنا أن في صفات معان متفق عليها وصفات معان مختلف عليها وصفات معنوية وصفات حسية
الصفات المعاني المتفق عليها
العلم .. القدرة.. السمع .. البصر .. هذا كلنا متفقون على أن هذا النصوص فيها مراد
الصفات المعنوية متنازع فيه
( 150 )
مثل المحبة .. الإستقراء .. الرضا .. أهل السنة والجماعة يقررون أن ظاهر ها مراد .. ولكنه المعنى الذي يليق بالله .. والذين ينازعهم في هذا يقولون إن ظاهرهما غير مراد لأنهم يعتقدون أن ظاهرها التشبيه قالوا غير مراد
الصفات المعنوية ... والصفات العينية
من صفاتنا ما هو معنى كالعلم ومن صفاتنا ما هو عين وبعض مثل اليد
فنحن نقول كما أن الصفات المعنوية المثبة لله كالعلم لا يشبه صفات المعنوية .. كعلمنا فكذلك الصفات الأخرى التي تشارك ما هو لنا .. لا نشبه
ما هو عين لنا .. فيد الله لا تشبه أيدينا .. كما أن علمه لا يشبه علمنا
( 151 )
القاعدة الرابعة(1/5)
[ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا ؛ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ]
المؤلف أن بكل ما يمكن من طوائف المبتدعة
• ... وبقولهم في بعض الصفات .. وهؤلاء الذين يثبتون أكثر الصفات
• ... بقولهم في كثير منها أن أكثرها .. وهؤلاء الذين يثبتون بعض الصفات وينفون أكثرها مثل الأشعرية
• ... بقولهم في كل الصفات .. وهؤلاء الذين ينكرون جميع الصفات مثل الجهمية والمعتزلة هؤلاء يتوهمون أنها تماثل صفات المخلوقين
[ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي ( أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَحَاذِيرِ ]
فهمنا أن بعض الناس يتوهم في صفات الله كلها أو بعضها يتوهم أنها تماثل صفات المخلوقين .. إذا توهم هذا يريد أن ينفي ذالك عن الله
أي ينفي التمثيل و ولا طريق له إلى نفي التمثيل هذه الصفات لأنه يعتقد أن الصفات تماثل صفات المخلوقين .. فإذا كان الله لا مثل له ةهذه الصفة تقتضي التمثيل .. فالواجب نحو هذه الصفة نفيها
فيقع هذا الذي فهم أن الصفات تماثل المخلوقين في أربعة محاذير
( أَحَدُهَا كَوْنُهُ مِثْلَ مَا فَهِمَهُ مِنْ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ )
إذن فالأولى .. فهمه التمثيل
( 152 )
[ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ ]
الثاني أنه جعل هذا هو مفهوم النصوص فإنه سيعطل النصوص عن معناها .. وسيقول .. ويبقى وجه ربك لا تدل على وجه الله .. إذن يكون عطل معناها .. عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائق بالله(1/6)
[فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى ]
فنقول إنه جنى على النصوص .. وجنى على النصوص بأمرين :
• ... بظنه أن هذا تمثيل
• ... تعطيله ما دلت عليه من المعاني اللائقه بالله
ظنه السئ بالله ورسوله حيث يفهم من كلام الرسول وصفات الله التمثيل
ثم بعد ذالك عطل النصوص عما دلت عليه عن المعاني اللائقة
[ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ ]
هذا أيضاً محذور ثالث .. حيث تكلم بغير علم .. بل بالحقيقة تكلم بجهل مركب .. لأنه .. لأنه مبني نفيه على ظنه أنها تماثل صفات المخلوقين ـ وهذا جهل مركب لأنه غيرهما عما تدل عليه
وقد قال تعالى { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
( 153 )
زعم أن كلامه يدل على تمثيل الله بخلقه .. فيكون فد قال على الله ما لا يعلم
وكذالك قوله تعالى ..
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وهذا قنا ما ليس له به علم
[ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ ُ]
بل نقول أوصاف الممتنعات وقد سبق أن بعض هؤلاء غلاة يسلبون عنه التنقيصين .. أي يصفونه بالممتنعات ولا يصرح تبعيض تلك الصفات .. بل من لازم قوله
فمثلاً إذا قال إن الله ليس عالم بذاته يلزم ذالك أن يكون سافلاً لأنه ما من شيء إلا عالي أو سافل(1/7)
ولكنه لا يقول بأن الله في السفل إلا أنه يلزم من قوله ذالك
وذالك إذا نفى الرحمة .. ضد الرحمة أن يكون قاسياً
فإذا قال إن الله لا يمكن أن ينزل إلى السماء الدنيا لا يمكن يأتي إلى الفضاء بين عباده .. لا يمكن أن يستوي على العرش لأن هذا يستلزم الحركة وهي ممتنعه عن الله يثبتون الله إذن جماد أو ميت
صفات الممتنعات كأن يقول الله ليس حياً ولا ميتاً و ليس عالم ولا جاهل ولا فاعل ولا بساكن .. فوصف بالأشياء الممتنعه لا يمكن في بداهه العقول أن توجد
[ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ
( 154 )
.. التعطيل والتمثيل .. فيكون ملحداً في أسماء الله وصفاته . ]
التعطيل و التمثيل ..كلاهما إ لحاء .. لأن المعطل نقص وفرط الممثل زاد وأفرط ...
المعطل ..الذي يقول لا يوصف الله بالصفات الثلاثيه .. هذا المعطل زاد وأفرط ..في دلالة النصوص ..
والذي يقول يوصف بهذا مع التمثيل يكون قد زاد و أفرط
[( مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ - فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ]
العلو دلالته عقليه وسمعية
دليل العقل على العلو .. وجهة الدلالة.. أن نسأل هل العلو صفة كمال أو صفة نقص ؟!.. صفة كمال .. وهل الرب يجب له صفات الكمال أو يجب عليه صفات نقص ؟! يجب عليه صفات الكمال ويمنع عنه صفات النقص إذن يلزم ثبوت العلو لله تعالى بذاتيه ..فهذا دلالة العقل . دلالة السمع ..(1/8)
قوله تعالى (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء ) ... وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى }... وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية . . أين الله ؟! قالت في السماء
وأشار في خطبة عرفة أشارة إلى السماء يشهد على الخلق لما قال اللهم اشهد
وهناك أدلة زائدة على العقل والسمع وهي
الفطرة تجاه كل إنسان مفطور على علو الله وبذالك لو سأل إنسان الله بدون أن يعلم أن الله في السماء فإنه ينصرف قلبه إلى العلو
( 155 )
ولهذا قال أبو المعالي الجويني رحمه الله وكان من الأشاعرة الذين ينكرون علو الله ويقول ( كان الله ولم يكن شيء معه وهو الآن على ما كان عليه
صحيح كان الله ولم يكن شيء معه ثم قال وهو الآن على ما كان عليه فإذا كان الآن هو ما كان عليه .. معناه .. أنه الآن ليس عالياً على الخلق لأنه ليس معه شيء
فقال له الهمذاني يأيها الشيخ دعنا من ذكر العرش وأخبرنا عن هذا الضرورة التي يجدها كل إنسان ما قال عارف قط ياللله إلا وجد من قلبه ضرورة في طلب العلو ..
فجعل أبو المعالي الجويني يلطم على نفسه ويقول حيرني الهمذاني
وهناك دليل رابع .. وهو إجماع السلف على أن الله تعالى في العلو
[وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ ]
هل العقل يهتدي إلى أن الله إستواء على العرش ؟! لا لا يهتدي العقل إلى ذالك لو لا أن الله لم يخبرنا ما علمنا بذلك(1/9)
[وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَهُ وَلَا مُدَاخِلَهُ فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ : كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ ؛ كَقَوْلِهِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فَيَتَخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَلَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا ]
( 156 )
[عَلَيْهَا وَلَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا . فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ]
فعلى هذا يكون يفهم من كلامه أنه إذا عدم العرش يسقط على زعمه ذلك
ولما رأى أن هذا ممتنع على الله أنكره الإستواء وقال الله لم يستوى على العرش(1/10)
[ثُمَّ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولَ : لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودِ وَلَا اسْتِقْرَارٍ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى الْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَقِرًّا وَلَا قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إلَّا مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْقُعُودِ فُرُوقًا مَعْرُوفَةً . وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَكَأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ . فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَلَا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ]
( 157 )
فلو قدر على وجه الفرض الممتنع أنه هو مثل خلقه ــ تعالى عن ذالك(1/11)
لكان إستواءه مثل إستواء خلقه .. أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه بل علم أنه الغني عن الخلق وأنه الخالق للعرش ولغيره .. وأن كل ما سواه يفتقر إليه .. وهو الغني عن كل ما سواه . وهذا لم يذكر الأستواء وهو لم يذكر إستواء يتنازل غيره ولا يصلح له كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه الإ ما يختص به فكيف يجوز أن يتوهم إنه إذا كان ستوياً على العرش كان محتاجاً إليه وأنه لو استواء العرش لخر من عليه .. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً
هل هذا الإ جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه أو ظنه ظاهر اللفظ
أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخالق
بل لو قدر أن جاهلاً فهم مثلاً هذا أو توهمه يبين له أن هذا لا يجوز وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً كما يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه
فلما قال سبحانه وتعالى {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج الذي يحتاج إلى مجارف وضرب لبن جيل طين وأعوان ؟!
فلا يجوز أن يعتقد أن إستواء الله على عرشه كاستواء الإنسان على الفلك والأنعام لأن الله تعالى لم يذكر إستواء مطلقاً بل ذكر إستواء فيه مقيد بالعرش .. إستواء من خاص على خاص .. فلا يجوز أن يجعل كاستواء المخلوق على المخلوق
ذكر المؤلف مثل آخر وهو كلمة ( بنيناها ) هل أحد يتوهم أن بناء الله للسماء مثل بناء الإنسان للبيت يحتاج إلى وغيرها
إذن أن بناء الله للسماء خاص به كما أن إستوائه على العرش خاص به
( 158 )(1/12)
[ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَافِلِهِ فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَرْضُ وَالسَّحَابُ أَيْضًا فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إلَى حَمْلِ الْأَرْضِ لَهَا ؛ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ إذَا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ : كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى خَلْقِهِ أَوْ عَرْشِهِ ؟
أَوْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ هَذَا الِافْتِقَارَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ مِنْ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى ]
المؤلف أتى بدليل عقلي وهو أن الشيء الأعلى لا يفتقر إلى الأسفل وإذا كان الهواء لا يفتقر إلى الأرض وهو فوقه .. والسحاب لا يفتقر إلى الأرض وهو فوقه والسموات لا تفتقر إلى الأرض وهي فوقها فكذلك الله سبحانه وتعالى .. فوق العرش ولا يفتقر إلى العرش
وإذا كنت غني أنت عن فلان أو فلان فلست بحاجة أن يساعدك مال أو جاه أو بدن إذن الله تعالى أولى بالغنى من غيره
[وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي دَاخِلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ ]
كلمة ( في ) تأتي باللغة العربية بالظرفية ومعلوم أن الظروف داخل الظروف مثلاً الماء في الإناء .. الإناء محيط بالماء .. والماء داخل الإناء
الإنسان في البيت .. البيت محيط به .. وهو داخل البيت(1/13)
( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) قد يتوهم إنسان أن السماء محيطة بالله
( 159 )
وأن الله في داخلها لأنه يعرف من معاني ( في ) الظرفية والظرفية لابد أن تكون الظرف محيطاً بالمظروف والمظروف داخل الظرف فيقول المؤلف من توهم ذالك فهو جاهل ضال بالاتفاق
[إذَا قُلْنَا : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَرْفَ ( فِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ - فَهُوَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْآةِ وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خَاصَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَرْفُ ( فِي مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ ]
يقول المؤلف حرف ( في ) متعلق بما قبله وبما بعده من حيث المعنى لا من حيث العمل فينظر لما قبله وينظر إلى ما بعده ويفسر في كل مكان بحسب مكانها
في النظر في الأمثلة التي ذكرها
إذ قال إنسان الشمس في السماء ( في ) للظرفية فالسماء محيطة بالشمس وهي داخل السماء والمراد بالسماء العلو كما هو معروف
وإذا قيل الشيء في المكان والجسم في الحيز بينهما فرق الشيء في المكان نحن الآن في الغرفة جدارتها محيطة بنا ولكن ليست بالملاصقة بالجسم لأن الجسم لا يشغل إلا الحيز الذي هو معنى هذا الكون محيطاً به ملاصقا به
كذالك العرق في الجسم أي تقول مثلاً الطول في البدن .. الحمرة في الوجه وليست بمثل معنى قولنا الشيء في المكان لأن الظرفية هنا غير الظرفية هناك
وكذالك تقول شخص كتب كلمة في ورقة فنقول هذا الكلام في الورق
وهو أصل قولك هذت الجسم في المكان ... لا لأن الكلام الواقع عبارة
( 160 )
عن حروف كان في الورق .. أما الكلام .. فإنه يخرج من الفم(1/14)
[فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ؟ لَقِيلَ فِي السَّمَاءِ وَلَوْ قِيلَ : الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ ؟ لَقِيلَ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ دَاخِلَ السَّمَوَاتِ بَلْ وَلَا الْجَنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ }
[فَهَذِهِ الْجَنَّةُ سَقْفُهَا الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ . مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ سَوَاءٌ كَانَتْ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ أَوْ تَحْتَهَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }
إذا قيل العرش في السماء أوفي الأرض هل يلزم من كون العرش في السماء أن تكون السماء محيطة به .. وهو داخل السماء ؟! لا لأن السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقت في فلاة من الأرض والكرسي فضل العرش عليه كفضل الفلاة على تلك الحلقة
فهل يمكن أن ما هذا سعته داخل في السماء ؟! لا يمكن فعلى
هذا نقول السماء يراد به العلو .. و انظر إلى المثالين التى أوردها المؤلف
قوله تعالى { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ } يعني إلى العلو
كذلك قوله { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } المراد بالسماء هنا العلو(1/15)
وَلَمَّا كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ؛ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ
( 161 )
. وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ إنَّمَا أَرَادَتْ الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا وَإِذَا قِيلَ : الْعُلُوُّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَمَا فَوْقَهَا كُلَّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَوْ قِيلَ : الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ السَّمَاءَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَفْلَاكُ : كَانَ الْمُرَادُ إنَّهُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وَكَمَا قَالَ : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } وَكَمَا قَالَ : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } وَيُقَالُ : فُلَانٌ فِي الْجَبَلِ وَفِي السَّطْحِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ
( نهاية الوجه الثاني 11 )
( 162 )
الشريط الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية الوجه الأول من الشريط رقم 12
يقول المؤلف رحمه الله تعالى
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ُ }
لنا فيها ثلاثة تصورات تصور باطل وتصوران صحيحان
التصوير الباطل
أن تظن أن معنى كونه في السماء أن تحيط به وأنه داخلها فهذا تصوير باطل يبطله العقل والشرع وأتى المؤلف بأمثلة تدل على في للظرفية ولكن حسب ما تضاف إليه .. بحسب ما قبلها وما بعدها .(1/16)
التصور الثاني : ــ
أن تقول أن المراد بالسماء هنا العلو .. وتقول في السماء أي في العلو لا في الأجرام المتعينة ولا شك أن الله في العلو وليس في السفل ولكن تحتج يطالبنا إنسان فيقول أحضروا لنا دليل على أن السماء بها العلو فنقول له قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } يعني من العلو ومثل{ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء } أي إلى العلو وكما يقال الجنة في السماء يعني في العلو ليس معنى أن السماء محيطه لأن الجنة فوق السماء
التصور الثالث :
أن تجعل في بمعنى على ونقول معنى من في السماء أي من على السماء وإذا كان عليهما لا يمكن أن تكون محيطة به ... وإذا قلنا في بمعنى على يحتاج لشاهد يدل على هذا { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } والمعنى أصلبكم على جذوع النخل كذالك قوله تعالى{ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } أي سيروا على الأرض فتبين بهذا أن في تأتي بمعنى على
( 163 )
القاعدة الخامسة
أننا نعلم بما أخبرنا به من وجه دون وجه ) ... إلى آخره
هذه القاعدة مهمة وذلك لأن بما أخبرنا الله به عن صفاته من وجه دون وجه .. ونحن نضرب مثلاً لذلك ....
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)
خلق السموات والأرض ..نحن نعلم معنى خلق .. وأن الخلق هو الإيجاد والإبداع والإختراع وما أشبه ذلك .. لكن هل نعلم كيف خلق هذه ..؟
الجواب .. لا لقوله (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
استوى على العرش . استوى على العرش نحن نعلم إستوى وأنه على واستقر .. لكن لا نعلم كيف استوى .. إذن نحن نعلم ما أخبرنا إليه به من وجه دون وجه ..
من وجه المعنى نعلمه ومن وجه الحقيقة والكيفية لا نعلمه .. ومنها يزول
الإشكال الذي يرد ... هل آيات الصفات من المتشابه أو من المحكم ؟(1/17)
الجواب على هذا السؤال نقول ..إن أردت المعنى فهي من المحكم
إن أردت الكيفية والحقيقة نهى من المتشابه .. نهى من حيث المعنى
مردف .. كما قال مالك رحمه الله .. الاستواء معلوم ومن حيث الكيفية مجهولة ...
ثم المؤلف فرع وأطال على هذه المسألة بما سنقرأه .. المغيبات .. الأسماء والصفات والجنة أيضا ومما فيها من النعيم والنار وما فيها من الجحيم .. كلها نعلمها من وجه دون وجه .. فكل الأمور التي شاهدناها نعلما من وجه ودن وجه
الدليل (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .. والإستفهام هذا لتوبيخ من لم يتدبر القرآن وكان يتدبر القرآن موبخاً يدل على فهم القرآن يمكن الوصول إلى معناه إذا لو لم يمكن الوصول إلى معناه كان التوبيخ على تر ك التدبر حالاً محمله يعني ليس واقع في محله كيف يوبيخ الإنسان على ما لم يمكنه فهمه .
(164)
هل يمكن أن يوبخ الإنسان على عدم تدبر مالا يمكنه فهمه ..
الجواب .. لا يمكن .. إذاً ما هو الدليل على أننا نعلم ما أخبر به من وجه لوجه والدليل {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }.. وجه الدلالة توبيخ الله هؤلاء الذين لا يتدبرون القرآن .. هذا وجه الدلالة يدل على إنه يمكن الوصول إلى معناه وإلا لما كان لتوبيخه محمل
قوله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }
وقال تعالي {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }.. مراتب القول ما قيل لهم وهو القرآن ..وقال تعالي {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ }
فيتدبروا آياته هذا الشاهد .. وبعد التدبر ومعرفة المعنى يتذكروا أولوا الألباب { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }
لو كنا لا نعرف معنى القرآن هل يمكن أن نتذكر .. أبداً .. لو يأتي أمرواً(1/18)
في اللغة الأعجمية ويقف أمامنا ويخطب خطاباً فصيحاً ونحن لا نعرف لغته فانه لا يؤثر فينا .. إذاً القرآن لولا أنه يمكن الوصول معناه ما قال ليتدبروا آياته وليتذكر إذ لا تذكر إلا بعد فهم المعنى ..
وقال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }
فأمر بتدبر القرآن كله .. أين الأمر في الآية الذي هو بصيغة الأمر
الجواب .. في الآية ما يدل الأمر وهو التوبيخ والإنكار على من لم يتدبر فمن لازم ذلك أنه يؤمر الإنسان بتدبره هل تدبر كل القرآن .. أو لآ آيات الصفات ..
بل كل القرآن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }.. ولم يقل الآ آيات الصفات
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }.. لم الآ آيات الصفات .
ومنها آيات الصفات وحينئذ يمكن أن نعرف أنه يمكن الوصول إلى معاني آيات الصفات .
قال المؤلف .. وقال تعالي
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... }.
(165)
هذه الآية تدل على أننا نعلم ما في القرآن من وجه دون وجه .. لكن يبين أن القرآن ينقسم إلى قسمين .. محكم ومتشابه ..
فالمحكم : ما علمنا معناه وحقيقة
مثل {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } هذا محكم لأننا نعرف معنى لإقامة الصلاة
{ َآتُواْ الزَّكَاةَ } هذا أيضاً محكم
لكن صفات الله سبحانه .. هل هي محكم أم متشابه ؟
الجواب من حيث المعنى هي محكم
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }
(إِلاَّ اللّهُ ) وقف وتعرب الله فاعل ( تَأْوِيلَهُ ) مفعول
وتعرب ( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )
وَالرَّاسِخُونَ : مبتدأ ويقولون الجملة خبر المبتدأ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ : الواو للإستأناف والراسخون مبتدأ
جملة يقولون خبره
قوله تعالى { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }(1/19)
يعني ما يتعض إلا أصحاب العقول ( وجمهور وسلف الأمة وخلفها على أن أن الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ })
هذا الوقف لازم أم جائز ؟
الوقف هنا لازم لأنه لو وصلت لاختلف المعنى
فالمقصود المعنى هنا لزوماً على قوله { إِلاَّ اللّهُ }على رأى سلف الأمة وخلفها ( وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب .. وابن مسعود .. وابن عباس وغيرهم )
( وروى عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أوجه
• ... تفسير تعرفه العرب من كلامها
• ... تفسير لا يعذر أحد بجاهلته
• ... تفسير تعلمه العلماء
• ... تفسير لا يعلمه إلا الله من أدع علمه فهو كاذب )
( 166 )
• ... تعرفه العرب من كلامها مثل الكأس والنمارق والسرر والأكواب وما أشبه ذالك كل هذا نرجع فيه إلى اللغة العربية
• ... تفسير لا يعذر بجهالته يعني لا يعرف ولكن لابد أن يعرف وذلك مثل الأمور التي تلزم العبد مثل إقامة الصلاة .. وإيتاء الزكاة والحج وما أشبه ذلك .. هذا ما كل واحد يعرفه ولكن لا يعذر إنسان بجهله ويجب أن يتعلمه الإنسان
• ... تفسير تعلمه العلماء .. مثل الناسخ والمنسوخ .. والعام والخاص وتعارض ما يحتاج إلى جمع ... وما أشبه ذلك هذا ما كل واحد يعلمه ولكن يعلمه العلماء
• ... وتفسير لا يعلمه إلا الله .. مثل حقائق ما أخبر الله عن نفسه وعنة اليوم الأخر .. هذا ما يعلمه إلا الله .. ما أحد يقدر يقول أنا أعرف حقيقة وجه الله ــ وأعرف حقيقة الجنة أو أعرف حقيقة النار .. ما أحد يعرف ولو أدعى العلم فهو كاذب
[ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ]
فيه رأي آخر(1/20)
يرون أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وهؤلاء هم الأقل لأن ما دام يقول جمهور الأمة سلفها وخلفها هذا الوقف على الله بمعنى ذالك أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله
لكن روي عن مجاهد وطائفة من أهل العلم حتى عن ابن عباس أن من الراسخون الذين يعلمون تأويله وما روي عن مجاهد بأنه عرض المصحف من فاتحة إلى خاتمة على ابن عباس يقفه عند كل آية ويسأله
يدل على أن الراسخون في العلم أيضا يعلمون التأويل
وعلى هذا يدل الرأي لا يلزم الوقف على قوله { إِلاَّ اللّهُ }بها تصل وما {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }
ونقر بها الآن على هذا الوجه فنقول
( 167 )
الواو حرف عطف .. والراسخون معطوفة على الله فتكون فاعلاً فالراسخون إذا يعلمون تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ويكون جملة يقولون حالاً من الراسخين في العلم يعني أنهم يعلمون بقلوبهم هذا المعنى ويقولون بألسنتهم آمنا به كل من عند ربنا .. وسبب إيمانهم أمكنهم الوصول إلى معرفة هذا المتشابه ..لأن الذي لا يؤمن إذا عرضت عليه الآيات المتشابهان يزداد نفوراً والمؤمن الذي يعرف أنه من عند الله وأنه لا يمكن أن يتناقض فيحقق ويتدبر فيزداد إيماناً .. ولهذا قال كل من عند ربنا
هل بين القولين خلاف وتعارض ؟
قول من يقول إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ... وقول من يقول إن المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم ..هل بينهما تعارض ؟ يقول المؤلف [ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ]
فصار عندنا في الآية رأيين لا منافاة بينهما(1/21)
[التَّحْقِيقِ فَإِنَّ لَفْظَ ( التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : - ( أَحَدُهَا - وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ - أَنَّ ( التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ ]
يعني توؤل الكلام إلى كلام :
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ }
يظهر لك إذا قرأت أي قرأت مع أن المراد إذا ابتدأت
صرف إذا قرأت إلى معنى إذا ابتدأت .... ويعتبر هذا تأويلاً لامنا صرفنا الكلام عن ظاهره عن الإحتمال الراجح إلى المرجوح
بدليل وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يستعذ إذا انتهى من القراءة ..ولكن يستعذ إذا ابتدأ القراءة
ونسمي هذا التفسير على الاصطلاح ... تسمية تأويلاً
( 168 )
إستوى على العرش ... أستولى على العرش هذا تأويل صرف المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح .. لكن هل هناك دليل على كلمة الدليل ليست من تمام التعريف ... ولكنها من تمام صحة التأويل أي يكون التأويل صحيحاً إذ كان له دليل ولا يكون صحيحاً إذا لم يذكر له دليل
والذين يقولون استوى بمعنى إستولى يزعمون أن لهم دليل على ذالك ... وهو أن العقل يشير أن يكون الله تعالى مستوياً أو مرتفعاً وعالياً على العرش .. إذ هو دليل عقلي ونحن نرى أن هذا غير دليل .. ولهذا قلنا أن التأويل فاسد
[وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا ؛ يعني أنهم يريدون في تأويل الصفات صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح
وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ ؟ ](1/22)
نقول إذا أتا عليه الدليل الصحيح فهو محمود وهو حق ... والذي ليس عليه الدليل فهو مذموم وليس بحق
( الثَّانِي : أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ )
ويقال تأويل قوله تعالى كذا أي تفسيرها
[كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ - مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ]
ولا سيما الذين يفسرونه بالأثر الذين تفسيرهم تفسير أثري هؤلاء إذا قالوا التأويل أو تأويل قوله تعالى يريدون بذلك التفسير إذن هذا بمعنى آخر للتأويل
يقول المؤلف (وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ)
إمام المفسرين في زمنه وإن كان قبله من هو أعلم منه كابن عباس مثلاً .. لكن إمام المفسرين من التابعين
( قَالَ الثَّوْرِيُّ : " إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ " )
يعني معناه أنه يكفيك عن غيره ولهذا قال المؤلف
( 169 )
[ وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ ]
إذا قلنا التأويل أي التفسير ..فهنا يكون الصواب في الآية هو الوصل لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه
فإذا قلنا بالمعنى الثاني أن التأويل أي التفسير .. فبلا شك أن قراءة الوصل أصح .. لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه
ولهذا روى ابن عباس قال أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله أي تفسيره
وهو الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم (( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )) التأويل أي التفسير
بعبارة الآية إذا حملنا التأويل على التفسير في قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } كان الوصل أولى من الفصل لأن الراسخين في العلم يعلمون التفسير(1/23)
[الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ : هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } . فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ : مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا الثَّانِي : هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا ( التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ . { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ]
( 170 )
الْقُرْآنَ يَعْنِي قَوْلَهُ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عيينة : السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ : هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ ](1/24)
هذا المعنى الثالث هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام إذا كان الكلام خبراً عن شيء فتأويله هو وقوع المخبر به وإذا كان الكلام أمر تأويله هو فعل المأمور به
يوسف عليه السلام .. رأى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين .. هذه الرؤيا خبر في الواقع لأن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزاء من النبوة .. فكأنه لما رأى هؤلاء يسجدون له كأنه أخبر أن هؤلاء يسجدون له .. بعد مده ودخولهم مصر خروا لهم سجد ثم قال هذا تأويل رؤياي من قبل فما معنى تأويلها؟
الجواب هو وقوع ما أخبر به
كذلك يقول الله عز وجل في المكذبين بيوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } أي وقوع ما أخبر به يوم يأتي تأويله
للذين نسوه من قبل قد جاء رسل ربنا بالحق هذا التأويل الذي بمعنى الحقيقة نقول أنه بمعنى الحقيقة إن كان خبراً فتأويله وقوع المخبر به وإن كان أمراً فتأويله المأمور به
لذلك قالت عائشة رضي الله في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمد اللهم اغفر لي قالت أنه يتأول القرآن أي يفعل ما أمر به لأن مآل الكلام إذا كان أمراً أن يفعل هذا الأمر ومآل الكلام إذ كان خبر أن يقع المخبر به على هذا المعنى أن التأويل بمعنى العاقبة والحقيقة المخبر به وحقيقة المأمور به .. على هذا المعنى يكون الفصل على قوله ( إلا الله ) أرجح من الوصل لأن حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر يعلمها الله ولا يعلمها الراسخون في العلم يتبين الآن التوبيخ بأقسامه الثلاثة ما هو يتناسب والآية ؟
( 171)
لأنك عرفت منهجه وأسلوبه وكذلك كل إنسان يتكرر قرآتك لكلامك لا شك أنك ستعرف من كلامه مل لا يعرفه غيره(1/25)
[إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ]
[ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ ](1/26)
المؤلف يقول لا بد أن يخبر الله عما في الجنة من النعيم ... ولكن بماذا يخبر ؟ يخبر بألفاظ تكون مماثلة بما نشاهد في الدنيا الآن مثل في الجنة فاكهة ونخل ورمان .. الحقيقة مختلفة .. لكن هي غائبة عنا .. هل يمكن أن نعرف هذا إلا بما نعبر بها عما نعلمه ؟ لا يمكن إلا نعبر بها بعبارة نعلمها
وكأن المؤلف يقول وأن ما أخبر الله به عن نفسه وما أخبر به عما في الجنة من النعيم ... وما في والنار من عذاب .. لا بد أن يعبر به بألفاظ معلومة لنا
نعرف معانيها .. لأنه لو لم يعبر بها كذلك ما عرفنا شيئا .. إذ الغائب لا يمكن معرفته إلا بالتعبير عنه بما للشاهد
( 173 )
[ وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ ]
الكلام الذي يتعلق بالصفة اتفق عليه مالك وشيخه وهو الإستواء معلوم والكيف مجهول .. من الله البيان .. أوجب الله على نفسه أن يبين للناس {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وعلى الرسول البلاغ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } وعينا الإيمان(1/27)
[وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } ]
...
[ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ]
الأسماء التي إستأثر الله بها ليست معلومة لدينا لا بألفاظها ولا بمعانيها .. والأسماء التى بينها الله لنا معلومة لنا بألفاظها ومعانيها
[ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ]
( 174 )
[غَفُورٌ رَحِيمٌ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ ]
أسماء الله سبحانه وتعالى اتفقت واختلفت .. اتفقت بدلالتها على شئ واحد هو الدلالة على ذات الله .. فالغفور وهو الله .. والرحيم هو الله والسميع هو الله والبصير هو الله(1/28)
إذا هي مرتبطة بالدلالة المسمى بها وهو الله وفي الدلالة على معانيها وأن لكل واحد منها معنى يختص به مختلفة ..فالغفور غير الرحيم والسميع غير البصير والعزيز غير الحكيم
إذا فيقول المؤلف فهي متفقة متواطئة من حيث الذات في ذات الله أي أنها تدل على ذات واحده .. لكن يقول متباينة من جهة الصفات فالصفة المفهومة من العزيز غير الصفة المفهومة من الحكيم مثلاً
فإذا قال لك قائل .. هل أسماء الله مترادفة أم متباينة ؟
فنقول أما من حيث دلالتها على الذات فهي مترادفة وأما من حيث دلالتها على المعنى فهي متباينة .. لأن لكل منها معنى يختص به
[وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ ]
النبي صلى الله عليه وسلم له أسماء متعددة وهذه الأسماء في دلالتها على ذات واحدة متفقة أو مترادفة .. وباعتبار دلالة كل واحد منها على معنياه تكون متباينة
[وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ]
هذه الأسماء في دلالتها على القرآن مترادفة ,, وباعتبار أن الفرقان له معنى والهدى له معنى والنور له معنى والتنزيل
( 175 )
له معنى .. والشفاء له معنى .. تكون متباينة
[ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ ؟ كَمَا إذَا قِيلَ : السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ ](1/29)
لأن العلماء اختلفوا .. هل الأسماء من المترادفة أم من المتباينة منهم من يقول أنها مترادفة .. نظر إلى اتحادها في الذات .. ومنهم من قال متباينة نظراً إلى اختلافها في الصفات ولكن منهم نظر إلى وجه وأغفل وجه آخر .. وإذا نظرنا إلى الوجهين
قلنا مترادفة باعتبار دلالتها على الذات والمتباينة باعتبار دلالتها على الصفات ..كما قال المؤلف هذا هو التحقيق
[وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ ]
يعني القرآن وصف بثلاثة أوصاف : ـ
وصف بأنه محكم .. ووصف بأنه متشابه .. ووصف بأنه محكم ومتشابه
الآيات التي دلت على ذلك { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }
في التشابه قوله تعالى
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } والمراد به القرآن فوصفه كله بأنه متشابه وصف بعضه بالتشابه وبعضه بالأحكام مثل قوله{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
[ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا ]
(176 )(1/30)
[، وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ : حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنْ اللِّجَامِ وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إتْقَانُهُ ]
أراد المؤلف أن يبين أن الحكم هو الفصل بين الشيئين والإحكام هو الإتقان .. القرآن بهذا المعنى كله محكم يعني متغن ... والقرآن كله حكم يعني فصل بين الحق والباطل والصدق والكذب والنافع والضار وغير ذالك فلهذا صح أن تقول أن القرآن كله محكم بهذا الارتباط
( نهاية الوجه الثاني من الشريط رقم 12 )
المؤلف يتكلم على أن القرآن محكم ومتشابه وبعضه محكم وبعضه متشابه(1/31)
[ فَإِحْكَامُ الْكَلَامِ إتْقَانُهُ بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنْ الْغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ ؛ كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } أَيْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } ]
هذا المعنى الأول من كون القرآن محكم يعني متقناً في
( 177)
الشريط الثالث عشر
أخباره وفي أحكامه ... ففي أخباره يميز بين الحق والباطل .. والصدق والكذب .. وفي أحكامه يميز بين العدل الجور .. والنافع والضار ..(1/32)
ويقول [وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } . فَالتَّشَابُهُ هُنَا : هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ : بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ]
فإذا كان هناك نسخ فقد يأمر بنقضه لأن النسخ يرفع الحكم الأول .. لكن إذا لم يكن نسخ لا يمكن أن يتناقض .
[وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ ](1/33)
وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ بَلْ يَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَهُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً وَيَنْفِيهِ أُخْرَى أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَمْدَحُ أَحَدَهُمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا : هِيَ الْمُتَضَادَّةُ . وَالْمُتَشَابِهَةُ : هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا : كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهًا ؛ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُهُ بَعْضًا فَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ : لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ
(178)
لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا ](1/34)
إذا التشابه الخاص هو الذي وصف به بعض القرآن .. لأن عندنا تشابه عاماً .. اى وصف به جميع القرآن .. وعندنا تشابه خاص .. وهو الذي وصف به بعض القرآن ..
فالتشابه الخاص بعضهم يقول هو ماأشكل معناه .. وهذا التفسير بالتشابه الخاص .. واضح ولايحتاج إلي جهد ..
إن الإحكام الخاص . أي وضوح المعنى .. والتشابه الخاص بمعنى اشتباه المعنى .. بحيث ..لايعرفه لا الراسخون في العلم ..
أما الإحكام العام هو بمعنى الإتقان في أخباره .. وأحكامه .. والتشابه العام بمعنى التماثل والتناسب بحيث لا يناقص بعضه بعض
[ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ ؛ فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ]
اذاً يمكن أن يمثل التشابه الخاص .. بما وعدنا به في الآخرة من الثواب .. فهل مثلاً الزمان الذي في الآخرة مثل الزمان الذي في الدنيا ؟ .. الجواب لا .. لكن بعض الناس قد يظن
(179)
أنه مثله فيشبه عليه هذا بهذا(1/35)
[وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ؛ وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ : اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ ؛ وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ ؛ فَالتَّأْوِيلُ : فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، وَالْقِيَاسُ : فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ ]
إن هذا الاشتباه الذي يقع في مثل هذا الأمور يعرفه الراسخون في العلم بحيث لا يكون عندهم اشتباه في اللفظ فيؤولون تأويلاً فاسداً ولا في المعنى فيثبون قياساً فاسداً
لأن القياس هو إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه بعلة هذا الإلحاق قد يكون بعض الناس يشبه عليه المعنى فيظنه أن المعنى الذي في المقيس عليه موجود في المقيس فيلحقه به وليس كذالك
كذلك أيضاً في الألفاظ الإشتباه في اللفظ قد يظن بعض الناس أن معنى اللفظ كذا وكذا وهو ليس كذلك فيظل(1/36)
فصار كما قال الإمام أحمد أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل وهذا باعتبار الألفاظ الأدلة السمعية والقياس وهذا باعتبار المعاني وهي الأدلة العقلية
( 180 )
[وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ ]
وهذا من أبعد الظلال فقالوا نحن نريد ـن نوحد أهل التوحيد .. التوحيد بين الخالق والمخلوق .. وجعلوهما واحداً وهذا خطأ عظيم فهم يعتبرون أن التوحيد هو جعل الأعيان واحدة ومعنى ذالك أن الخالق هو عين المخلوق وهذا الكلام غير صحيح .. لكن اشتبه عليهم معنى التوحيد فأخطأوا في فهمه ثم فسروه حسب ما فهموه
والمؤلف يقول [مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ ؛ أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ ]
فالخالق والمخلوق بينهما تباين شديد .. ومع ذالك اشتبه على هؤلاء الجماعة ..أهل وحدة الوجود .. وظنوا أن حقيقة التوحيد في أن تجعل الخالق عين المخلوق .. وهذا من أشد الظلالات والعياذ بالله
[فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ ؛ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَرَأَوْا الْوُجُودَ وَاحِدًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ ](1/37)
بينهما فرق الواحد من نوع قد تجد أمور كثيرة في نوع واحد قلنا الآن مشتركون في نوع واحد على أننا إنسان ومن بني آدم لكن واحد بالعين .. فهل نحن بني آدم واحد بالعين ؟
لا لسنا واحد بالعين .. فيجب أن نفرق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع
( 181 )
الخالق موجود .. المخلوق موجود.. إذاً هما في نوع الوجود متحدان لكن في عين الموجود .. غي متحدين
فاشتبه على بعض الناس اشتبه الوحدة بالنوع .. مع الوحدة بالعين فجعلوا هذا هو هذا .. ومعلوم الفرق بينهما
[وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ فَقَالُوا : لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ ]
هؤلاء ظنوا بلفظ المعنى .. ظنوا أن لفظ الوجود مشترك إشتركاً لفظياً من حيث يشمل وجود الخالق ووجود المخلوق على حد سواء .. وإذا أختلف الخالق عن المخلوق
ولكن هؤلاء قد أخطأوا لأننا نعلم أن في الموجود ماهو قديم وما هو حادث
[ وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ ](1/38)
السبب في أن بعض الذين أنكروا صفات الله قالوا أنه يلزم إذا كان الله موجوداً أن يكون مشابهاً للموجودات ظنوا أن هناك وجود مطلق تشترك فيه الموجودات .. وهذا الأخير يشير إلى مذهب المعتزلة
( 182 )
[وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمُورِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ ( إنَّا ) وَ ( نَحْنُ ) وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ ؛ لَا شُرَكَاءَ لَهُ فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } ]
هذا مثال .. عندما يقول واحد منكم نحن فاهمون للدرس فإن ذالك يقتضي التعدد يعني نحن كل من في الفصل وهذا متعدد .. عندما يقول الملك إنا سنقتل فلان المجرم يقصد هو وأعوانه
يقول الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ }فيقول النصراني بأن نحن جمع ونزلنا جمع .. إذاً فالله ثالث ثلاثة .. وهذا اشتباه شبه عليه هذا الضمير الجمع بأنه يلزم من تعدد الآله فقال إن الله ثالث ثلاثة
ونقول عندنا آية محكمه {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }هذه الآية محكمة(1/39)
والنصراني في قلبه زيغ فتتبع المتشابه .. والراسخون في العلم قالوا عندنا آية محكمة يجب أن ترد إليها متشابها
[ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ ؛ وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ ]
( 183 )
يعني إذا قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ }أي أن له من الصفات العظيمة التي تكون كل صفه بمنزلة واحد مما جعلته يقول {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر }
[وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا لَهُ مِنْ الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا هُوَ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ الْمَلِكِ مِنْ الْبَشَرِ إذَا قَالَ : قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِثْلُ كَاتِبِهِ وَحَاجِبِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ]
الملك عندما يقول أمرنا لك بكذا وكذا قد يكون أمرنا لك بعطاء قد يكون الأمر وزير المالية أمر بكذا وعرضه على الملك ووافق .. فالملك لم ينفرد بالأمر .. أما الله سبحانه وتعالى . عندما يقول أمرنا بكذا أو فعلنا كذا فهو بمفرده لكن لعظمته وصفاته العظيمة جاء بصيغه التعظيم(1/40)
[وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُعْلِمُ عِبَادَهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ ]
الملك وبنو آدم قد يعلم الناس من حقائق ما أمر به أما الله عز وجل فنحن لا نعلم هذه الحقائق ولا نعلم حكمته العظيمه المبالغة في أمره وخلقه
[ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَاطِئَةِ وَإِنْ
( 184 )
[ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ : مِنْ إضَافَةٍ أَوْ تَعْرِيفٍ كَمَا إذَا قِيلَ : فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ فَهُنَاكَ قَدْ خَصَّ هَذَا الْمَاءَ بِالْجَنَّةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَاءِ الدُّنْيَا لَكِنَّ حَقِيقَةَ مَا امْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَهُوَ مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ]
المتواطئة ما اتفقت في اللفظ والمعنى .. والمشتركة ما اتفقت في اللفظ واختلفت في المعنى
مثلاً إنسان هذا من اللفظ المتواطئ لا تناله اللفظ والمعنى والتعدد هنا بالعين كلمة عين فإنها مشترك لكونها متفقه في اللفظ ومختلفة في المعنى فالعين تطلق على العين الناضرة وعين الماء فهي لفظ واحد .. ومعنى مختلف والتعدد هنا نوع(1/41)
أما كلمة الحي تطلق على الخالق وعلى المخلوق .. فإذا نظر إلى أصل الحياة قال إنها من المتواطئ .. ومن نظر إلى الإختلاف والتباين بين حياة الإنسان وحياة الخالق .. قال أنها مشترك ولهذا سماها بعض الناس مشككه لتشككك الإنسان فيها
وأن شيخ الإسلام حقق أنه متواطئ لأنه نوع خاص من المتواطئ إعتباراً با لأصل
وقد مثل المؤلف بكلمة وجود فوجود الله سبحانه وتعالى ووجود المخلوق
في أصل المعني متفق لكنه في حقيقة ووضعه .. لا .. مختلف فننظر إلى أصل المعنى ونقول أنه متواطئ على نوع خاص
[ وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الجهمية وَأَمْثَالِهِمْ - مِنْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ ]
( 185 )(1/42)
[ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ : فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ : مِنْ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِهِ فَذَلِكَ لَا يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَذَاكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا : اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ إنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا ]
إذا قال قائل هل التأويل مذموم نقول فيه تفصيل
• ... التأويل بمعنى التفسير لا يذم بل يحمد صاحبه
• ... التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره أو عن المعنى الراجح هذا هو المذموم إلا إذا قام عليه دليل(1/43)
• ... والتأويل بمعنى الحقيقة التي يؤل إليها هذا .. لا أحد يتكلم فيه ومن حاول أن يتكلم فيه فهو مخطأ لأنه لا يمكن الوصول إلى ذالك
[ وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ
( 186 )
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ : فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْل التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ وَيَصْرِفُونَهُ إلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ [ الثَّابِتُ مِثْلَهُ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّا خُوطِبْنَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ ؛ أَوْ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ ]
القرآن كل ما فيه له معنى اللهم إلا الحروف الهجائية في أول بعض السور والصحيح أنه ليس لها معنى .. لأنها حروف هجائية .. ما ركب منها كلمة وليست كلاماً أيضاً .. فهي ليست رموز كما قيل وليست لها معاني .. الله أعلم بمراده بها بل حسب ما فهموا من اللغة العربية والقرآن واللغة العربية(1/44)
أنه ليس لها معنى ولهذا ذهب بعض السلف منهم مجاهد إلى أنها حرف هجاء لكن لها مغزى .. أن هذا القران الذي نزل وأعجزكم هو من هذه الحروف التي هي مادة لغتكم ومع ذلك أعجزكم كذلك قد يظن الإنسان الذي ينفي التأويل مطلقاً أننا ضد ظن بما لا يفهم منه شئ وهذا لا شك أنه نقص القرآن ولهذا قال شيخ الإسلام في كلامه له .. إن أهل التفويض أن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد الذين يقولون نقرأ آيات الصفات ونفوض الرحمن على العرش استوي ما نقول شئ نفوض علمه إلى الله
وهذا خطأ بل نقول الإستواء معلوم كما قال أهل السلف
( 187 )
[وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يُوَافِقُهُ ؛ لَا مَكَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ : لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ لَنَا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلَالَةً عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَكُونُ تَأْوِيلًا ]
إذا كنا لا نفهم من اللفظ شيئاً فيجب أن لا نقول بأن لهذا تأويل لا يعلمه إلا الله ..لأن اللفظ الذي لا يفهم عنه شئ يمكن أن يكون له تأويل علمه الله وغيره ... ويمكن إلا يكون له تأويل ويمكن أن يكون له تأويل لا يعلمه إلا الله فقط
إذا كنت فائهم عن هذا الكلام شيء .. كيف تقول له تأويل ؟
لا يعلمه إلا الله معناه أنك عرفت أن له تأويلاً وأنه لا يعلمه إلا الله
[ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا نَعْرِفُهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ]
يعني على تقدير أنه غير مفهوم لنا .. إذا قدرنا أنه غي مفهوم لنا .. فإنه لا يجوز أن تقول أنه دال على معنى لا نعرفها(1/45)
[ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَدْ لَا نَكُونُ عَارِفِينَ بِهَا وَلِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ اللَّفْظَ وَمَدْلُولَهُ فَلِأَنْ لَا نَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادُ بِهِ أَقْوَى مِنْ إشْعَارِهِ بِمَا لَا يُرَادُ بِهِ ]
إذا صار أنك لم تفهم اللفظ ولا تفهم معناه فالمعاني التي ما دل عليها لا تفهم
لأنه مادام أن اللفظ لا تفهمه ولا تفهم معناه المراد به فكيف تفهم شيء لا يدل عليه اللفظ .. فأمتناع فهم ما دل عليه اللفظ دليل على إمتناع فهم مالم يدل عليه .. لأن إشعار بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به
( 188 )
[ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى أَصْلًا لَمْ يَكُنْ مُشْعِرًا بِمَا أُرِيدَ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَوْلَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْخَلْقِ ]
إذا أردا هذا تأويل ونفس التأويل فريداً به هذا المعنى فكلامه صحيح لأن هذه الآيات لا يراد بظاهرها مل يختص بالمخلوق
[فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ . لَكِنْ إذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ مِنْهَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ ](1/46)
لأنه كيف يكون لها تأويل لا يعلمه إلا الله ثم يقول تجري على خلاف الظاهر .. هذا أيضاً تناقض إذا كان أنك تقول لها تأويل لا يعلمه إلا الله فلا تقول تجري على خلاف الظاهر .. إذ أنه من الجائز أن يكون ظاهرها هو التأويل الذي يعلمه الله فكيف تنفي هذا تناقض .. ولكن الظاهر أن نتكلم وكأننا عجم بين عرب أو عربي بين عجم هل فهمتوا وإلا لا
[ وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ هُنَا مَعْنًى وَهُنَاكَ مَعْنًى : فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَانَ تَلْبِيسًا وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ أَيْ تَجْرِي عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ كَانَ إبْطَالُهُمْ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ إثْبَاتُهُ تَنَاقُضًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ تَأْوِيلًا أَوْ نَفَاهُ فَقَدْ فَهِمَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي . وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَتَبَيَّنُ تَنَاقُضُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ وَمُثْبِتِيهَا فِي هَذَا الْبَابِ . ]
( 189 )
القاعدة السادسة
[الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ ]
يقول هل هناك ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في باب النفي وباب الإثبات .. لأنك لو تقول أنا قلت مثل من غير تشبيه وأنا أنفي من غير تعطيل فيكفي هذا على قدر مشترك أي مثلاً .. الحياة الله والحياة للإنسان هذا قدر مشترك..(1/47)
على قدر مميز .. أن حياة الله سبحانه وتعالى كاملة ليس فيها نقص وحياة الإنسان ناقصة .
[فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ : إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ وَأَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ ]
عندنا نفى وعندنا إثبات قد يقول قائل .. أن الإعتماد على مجرد التشبيه .. بأن تقول إن الله لا شبيه له لا يكفي هذا لأن الذين ينكرون اليد لله يقولون ننكرها لأن إثباتها تشبيه نقول إن أردت أن ذلك تشبيه للخالق بالمخلوق من كل وجه فهذا باطل لأنه لا يقتضب إذا كان لله يد وللإنسان يد أن
( 190 )
يكون مشابهة له من كل وجه .. وإذا قلت أنهى اليد لأنها مشابه لله من وجه دون وجه .. أو المراد به المشابهة المشاركة في الاسم قلنا له هذا التشبيه الذي اعتمد في نفي اليد عليه ... يلزمك فيها تشبيه أي يثبت القدرة .زيثبت الحياة .. يثبت العلم .. كما مر علينا فيمن يثبتون سبع صفات(1/48)
يقولون أن التشبيه والتماثل أن يكون الشيئان المتماثلان يجوز أحدهم ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له هذا معنى المماثل إذاً المماثلة بين الخالق والمخلوق بهذا المعنى لا يمكن فمثلاً يجوز على الإنسان الموت ولا يجوز على الله كذلك يمتنع على الإنسان الدوام .. ولا يمتنع على الله ويجب لله كمال ولا يجب للإنسان فكيف يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بمجرد إثبات حقيقة لله عزو جل إذن نقول لهؤلاء الذين يعتمدون في نفي ما نفوه من الصفات على مجرد نفي التشبيه نقول إذ أردتم المشابهة من كل وجه فهذا باطل لأنكم تفسرون المشابهة والتماثل .. بأنه يجوز على المتماثلين ما يجوز على أحدهما وما يمتنع عليه وما يجب له وهذا شيء مستحيل وإن أردتم المشابهة من وجه دون وجه فأنتم تثبتون لله بعض الصفات وذلك مشابهة من وجه دون وجه أو مشاركة في الاسم فعليه يلزمهم لآن إلا تعتمد مجرد نفي التشبيه لأن المشابهة من جميع الوجوه منتفيه
وإذا أردتم بالتشبيه الذي نفيتموه المشابهة من وجه دون وجه أو المشاركة في الاسم والحقيقة فأنتم قد أثبتم هذا التشبيه فيما أثبتموه من الصفات
[ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إثْبَاتَ التَّشْبِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ ]
لا أحد يقول إن الله مشابه للمخلوق في أنه يجب للمخلوق ما يجب لله ويمتنع عليه ما يمتنع على الله ويجوز عليه ما يجوز على الله
( 191 )(1/49)
[ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا نَفْيُ التَّشَابُهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي ثُمَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا : إنَّهُ مُشَبِّهٌ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ : ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ التَّشْبِيهِ ]
من الناس من يفسر التشبيه بمعنى آخر لأن عرفنا هذا التشبيه ممتنعاً .ز فينكر من أجله الصفات .. ومن الناس من ينازعه ويقول ليس هذا من التشبيه الممتنع والمثال الإرادة
إذا قال المعتزلة إثباتهما من التشبيه فينكرونها .. نازعهم الأشاعرة فقالت بأن إثباتهما ليس بتشبيه فلا ينكرونها
( نهاية الوجه الثاني من الشريط رقم 13 )
[ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ : كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ صِفَةً قَدِيمَةً فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُمَثِّلٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَدِيمًا أَوْ قُدْرَةً قَدِيمَةً كَانَ عِنْدَهُمْ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ هُوَ أَخَصُّ وَصْفِ الْإِلَهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً قَدِيمَةً فَقَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا قَدِيمًا وَيُسَمُّونَهُ مُمَثَّلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا بَلْ يَقُولُونَ : أَخَصُّ وَصْفِهِ مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ وَالصِّفَةُ لَا تُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ](1/50)
عند أهل السنة والجماعة لا يفرقون بين التشبيه والتمثيل والمؤلف يقصد هنا التفريق بين التشبيه والتمثيل فنقولك هذه اليد ثابتة لله دون تشبيه كذلك هذه اليد ثابتة لله دون تمثيل وهناك من الناس من يفرق .. فرق هنا باعتبار القلة من الفاعل لا عن قلة الوجودية يعني قد يفرق بعض الناس
( 192 )
الشريط الرابع عشر
وضرب مثل لهذا المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون كل من أثبت لله صفة قديمة ومعنى قديمة ما نسمية نحن بالصفات الذاتيه فهو مشبه وممثل " مثل العلم والقدرة "
يقولون أن من قال أن لله علماً قديماً فهو ممثل ، والقديم عندهم ماليس له أول ، وليس القديم عندهم أنه السابق لغيره فما ليس له إبتداء هو القديم عند الفلاسفة .
فإذا قلت أن لله علماً قديماً فقد شبهت كيف ؟
لأن أخص وصف الآله عندهم هو القدم يعني الذي يوصف به الله ولا يوصفه به غيره هو القدم ، فإذا قلت لله علم قديم فقد أثبت قدمين احدهما الله والثاني العلم ، وحين إذا تكون مشباً ولذلك يمنعون الصفات القديمة الذاتيه لأن عندهم الوصف الذي لا يحق إلا لله هو القدم فلا يمكن أن يشابه الله غيره إذاً وعندهم القديم ( عند جمهورهم ) هو أخص وصف الإله ومعنى أخص وصف الإله الذي لا يمكن أن يشركه منه أحد ، فمن أخص وصف الإله مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير وأنه واحد ونحو ذلك .
والصفة لا توصف بشيء من ذلك ، أي لا تقول أن قدره الله رب العالمين ولهذا يحكم عليك أن تقول يا قدرة الله هبي لي كذا وكذا ، ومن هنا يعرف أن تعبير بعض الناس بقولهم شاءت المشيئة أو قضت مشيئة الله أن فيها نظراً لأن المشيئة وصف لا موصوف فالذي يقضى ويشاء هو الله ، فالصفة ليست موصوفه ، وكذلك قول اقتضت حكمة الله لكن هذه اخف من الأولى وهي تدل القائل شاءت مشيئة الله لأن أقتضت حكمة الله معناها أستلزمته ، المهم أن يفرق بين الصفه والموصوف ,(1/51)
[ ذَلِكَ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصفاتية مَنْ لَا يَقُولُ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا قَدِيمَةٌ بَلْ يَقُولُ : الرَّبُّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ قَدِيمٌ وَصِفَتُهُ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُ : هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ .
( 193)
[ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصِّفَةِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ فَإِنَّ الْقِدَمَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ وَإِلَّا فَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَا وُجُودَ لَهَا عِنْدَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْقِدَمِ وَقَدْ يَقُولُونَ : الذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَالصِّفَاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ إلَهًا وَلَا رَبًّا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ مُحْدَثٌ وَصِفَاتُهُ مُحْدَثَةٌ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ نَبِيًّا ]
معنى الصفاتيه يعني الذين يثبتون الصفات كلها أو بعضها منهم من لا يقول أن الصفات قديمة ، يعني يمتنع أن يقول حياة الله قديمة وسمعه قديم وبصره قديم ، ولكن يقول الرب بصفاته قديم إذا ما من ذات إلا ولها صفات ولا يمكن أن يوجد ذات مجرده بدون صفة إطلاقاً ، ومنهم من يقول هو قديم وصفة قديمة ولا يقول هو صفاته قديمان .
وأقرب الأقوال أن نقول هو وصفاته قديمان ، لكن ذلك لا يقتضي أن تكون الصفة مشاركة لله في شيء من صفاته لأن الذات المجردة عن الصفات غير ثابته .(1/52)
وقد يقولون الذات متصفه بالقدم والصفات متصفه بالقدم ، وليست الصفات إلهاً ولا رباً ، يعني معناها يفصلون هذا عن هذا ويقولون ليست الصفات إله ولا رباً مثل أن النبي محدث وصفاته محدثه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم محدث صفاته من الطول والقصر أو البياض أو السواد أو ما أشبه ذلك محدث ، تقول مثلاً النبي صلى الله عليه وسلم رسول ، صحيح ، نقول ليس بالقصير الباين قصره ، ولا بالطويل الباين طوله هل هذه رسول ؟
ليست هذه الصفة برسول تقول بياض وجهه ليست برسول فنقول بإن الله قديم ولكنه ليست صفته التي هي قديمة ليست هو إذاً ، كما أن الرسول محدث وليست صفته المحدثه رسولاً .
( 194)
فنقول ان الله وصفاته قديمان ولكن ليس معنى ذلك ان الصفة متميزة عن الخالق بحيث تكون رباً أو إلهاً ، والتفريق بين الله قديم وصفاته قديمة وإن الله وصفته قديمان فلا وجه له لأن الأمر يدور على المعنى وليس على التعبير .
والحاصل أن التشبيه المنفي أن أوريد به المماثلة التي فيها يجوز كل واحد منها ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع ويجب عليه ما يجب فإن أوريد بها ذلك فهو باطل أي لا يمكن أن احد يقوله ، وإن أوريد بالمشابهه المشابهه من وجه دون آخر أو المشاركة في الأسم هذا جائز ، ولكن لا يجزم القول به لأن كل من يدعي أن هذا تشبيه ينكره أو ينازعه في ذلك خصمه ويقول ليس بتشبيه .
فتبين أن الأعتماد في إثبات الصفات على مجرد نفى التشبيه حكمه لا يجوز .(1/53)
[ فَهَؤُلَاءِ إذَا أَطْلَقُوا عَلَى الصفاتية اسْمَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ : كَانَ هَذَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أُولَئِكَ ثُمَّ تَقُولُ لَهُمْ أُولَئِكَ : هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ تَشْبِيهًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَنْفِهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نَفْيُ مَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْقُرْآنُ قَدْ نَفَى مُسَمَّى الْمِثْلِ وَالْكُفْءِ وَالنِّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَلَمْ يَنْفِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُتَحَيِّزٍ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُ : هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الصفاتية الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ
(195)
وَيَنْفُونَ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : الصِّفَاتُ قَدْ تَقُومُ بِمَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَمَّا الْعُلُوُّ عَلَى الْعَالَمِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ جِسْمًا فَلَوْ أَثْبَتْنَا عُلُوَّهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَحِينَئِذٍ فَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ ]
الصفاتيه هم الذين أثبتوا الصفات سواء أثبتوا الجميع أو أثبتوا البعض .
الأشاعرة يقولون لأهل السنة أنتم مشبهه لأنكم تثبتون لله الرحمة والمحبة ونحو ذلك .(1/54)
والمعتزلة يقولون للأشاعرة أنتم مشبهه لأنكم تثبتون الإدراة والسمع والكلام والبصر .
والغلاة الذين يقولون الله لا موجود ولا معدوم ، يقولون لمن أثبت وجود الله أنت مشبهه .
لو قلت أنا أثبت السمع لله سبحانه وتعالى وأهل التعطيل يقولون إثبات السمع تشبيه نقول لهم هب أن إثبات السمع يسمى في إصطلاحه تشبيهاً ( هب بمعنى قدر ) فهل إذا سميته انت تشبيهاً يجب عليه نفيه مع أن الأدلة أثبتته ؟
لا ولهذا يقول بإن هذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع بل أثبتته الأدلة العقليه والسمعي ة فالواجب إثباته.
مع اننا نحن لا نثبته على سبيل التشبيه ، إذا أننا نقول أن لله سمعاً لا يشبه أسماع المخلوقين وبصراً لا يشبه أبصار المخلوقين ، ونحن إذا رأينا في المشاهد أن السامعات تختلف أسماعها والباصرات تختلف أبصارها ، فالطير في السماء يرى الحبة على الأرض ونحن لو كنا على السطح لا نرى الحبة في الأرض .
والقرآن قد نفى مسمى المثل والكف والند ونحو ذلك هذا الذي فيه المحذور أن تكون المشابهه مطلقه بحيث أن يكون هذا كفء لهذا وهذا بد لهذا ، ولكن يقولون الصفة في لغة العرب
(197)
ليست مثل الموصوف ولا نده ولا كفره ، فلا يدخل في النص " ليس كمثله شيء " فالصفة معنى في الموصوف ، وليست هي الموصوف فالبصر هل هو العين ؟ لا ليس العين ولكنه قوة في العين .
وإما العقل فلا ينفي مسمى التشبيه في غصطلاح المعتزله
فالمعتزلة يرون أن كل من أثبت صفة فهو مشبه فكل غثبات صفة عندهم تشبيه فالعقل لا نن ذلك .
فتقرير المعتزلة بإن إثبات الصفات تشبيه فهم يقولون إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متميز والإجسام متماثلة ، والنتيجة فلو قامت به الصفات يعني بالله للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وهذه حجة المعطلة الذي منهم المعتزلة على أهل الإثبات الذين نسميهم هنا الصفاتيه .(1/55)
هناك أناس يثبتون الصفات وينفون بعضها ومنها أنهم ينفون مما سواه على العرش وقيام الأفعال الأختيارية به مثل الأشاعرة يثبتون بعض الصفات وينفون علوه على العرش ، يعني مما أستوى عليه ينكرون قيام الأفعال الأختيارية به مثل النزول إلى السماء الدنيا قالوا لأن هذه الصفات ما تقوم إلا بجسم والأجسام متماثلة .
إما السمع والبصر فإنه قد يقوم بما ليس بجسم ، وفي الحقيقة أن قولهم أن الصفات لا تقوم إلا بجسم وتقوم بغير جسم هذا صحيح ولهذا أريد أن أرد عليهم وعلى الأولين فنقول .
قول الأولين أن الصفات لا تقوم إلا بجسم مردود بقول الآخرين أن الصفات قد تقوم بما ليس بجسم ، فمثلاً .
أنت تقول اليوم طويل وتقول نهار طويل وليل قصير ، فتصف النهار بالطول وتصف الليل بالقصير ، فالطول والقصر صفة والنهار والليل غير جسم ، فنقول الأولين غير صحيح لأنه يرده الواقع .
ويصير قول الآخرين الذين بعدهم أن الصفات قد تقوم بما ليس بجسم فهو قول صحيح ، أما قولهم الأجسام مماثلة فهذا غير صحيح فالأجسام غير متماثلة بلا شك . لا في الكبر ولا الصغر ولا في الحجم ولا في الوزن
(198)
بعضها خفيف وبعضها ثقيل ولا في اللون ولا في الشكل .
إما أن أراد تماثل الأجسام من حيث الوجود فهي متماثلة من حيث الوجود فكل موجود لابد أن يشارك غيره في أصل الوجود ,
لكن إن أرادوا بالحقيقة لا يمكن أن تتماثل .
إذاً فمنع المقدمة الأولى والثانية ، وإذا منعنا المقدمتين أتفقت النتجية لأن النتيجة مبنية على ثبوت المقدمتين.
[ فَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَأَمْثَالُهُ ](1/56)
يعني أن عندهم أن هذا يقتضي التشبيه وهذا لا يقتضي التشبيه الذي يثبت العلو يثبت أن له جسم والذي يثبت السمع والبصر لم يثبت أنه جسم وهذا تحكم بالحقيقة وليس هناك فرق.
[ وَكَذَلِكَ يُوَافِقُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعُلُوَّ صِفَةً خَبَرِيَّةً كَمَا هُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ ]
فالقاضي أبو يعلى وأمثاله يقولون نحن نثبت الأجسام ونرى أن الأجسام متماثلة لكن يمنعون أن تكون الصفات لا تقوم إلا بجسم ويجعلون العلو صفة خبرية ,
فعندهم العلماء يقسمون الكلام في الصفات أو يقسمون الصفات إلى قسمين ، صفات خبرية بمعنى أن أثباتها جاء عن طريق الخبر المحض مثل إثبات الوجه واليد والعين ، لولا أن الله أثبتها لنفسه لا نثبتها نحن ولا تدل عليها النظرة ولا العقل .
فلو قال قائل أتثبتون أن لله رأساً ؟ نقول لا يقول لماذا لا تثبتون ؟ نقول لأن السمع لم يرد به ، ونثبت أن الله يتكلم لأن الشرع والعقل
( 199)
يدل عليه ، ولا نثبت أن له لساناً لأن السمع لم يأت بذلك .
فالصفات الخبرية هي ما طريقة إثباته الخبر الذي هو السمع العظمة والعزة والخلق ، هذه صفات خبرية عقليه .
[ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ لَا يُنَافِي الْجِسْمَ كَمَا يَقُولُونَهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ]
يعني أبو يعلى ومن وافقه يقولون أن ما أثبتناه لا ينافي الجسم يعني وأن قلت أن الله جسم حيث اتصف بهذه الصفات فلا ما نع من ذلك ونقول أن الأجسام ليست متماثلة .(1/57)
[ وَالْعَاقِلُ إذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ الْأَمْرَ فِيمَا نَفَوْهُ كَالْأَمْرِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ لَا فَرْقَ وَأَصْلُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّجْسِيمِ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ ]
هذا الأصل جميع الكلام الذي يدور من أخذ ورد ، يعود على هاتين النقطتين التي هي أثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة ، ونحن نجيبهم بمنع المقدمتين جميعاً فنقول :
قولهم إثبات الصفات يستلزم للتجسيم ليس بصحيح ، قد تقدم الصفة بما ليس بجزء .
وقولهم الأجسام متماثلة ليس بصحيح لأنها متباينه كما هو معلوم وعلى هذا يمتنع وجود النتيجة " وهي التشبيه "
نهاية الوجه الأول رقم ( 14 )
[ وَالْمُثْبِتُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا تَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَتَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَتَارَةً بِمَنْعِ كُلٍّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بالاستفصال ]
الإستفصال أي ماذا تعني بالتماثل ؟
إن أردت بالتماثيل التماثيل بالحقيقة فهذا ممنوع ، وأن أردت التماثيل الثماثيل في أصل الشيء كأصل الوجود مثلاً فهذا جائز وليس
(200)
[ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَوْجُودِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ]
يعني أنهم مختلفون في تفسير الجسم فمنهم من يقول أن الجسم مايشار إليه ومنهم من يقول أن الجسم هو القائم بنفسه ، فأما الذي يكون بنية في غيره فليس بجسم كالطول والقصر والبياض والسواد والحمرة أما الموجود ما أدري عنه .
لكن على كل حال ما يفهم من كلام شيخ الإسلام الآن إن من الناس من فسر الجسم بالموجود وهذا في الحقيقة ما أنا بمتصوره .(1/58)
الهيولي : هي إسم لشيء للحقيقة التي عليها الشيء مثل الإنسان هيولي وصوره يعني جسم غير مصور وصوره أيضاً ، فالهيو لي أسم شيء والصورة أسم لصفة فيكون ما تركب من شيء وصفه فهو بسم وماليس بكذلك فليس بجسم .
[ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا فَسَّرُوهُ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ ؛ وَعَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَعَلَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ ]
ويعني بصحة ذلك بالتفسير الجسم بالمركب من الجواهر المفردة ،
الثاني : إثبات هذه الجواهر والثالث : إنها متماثلة .
وجوهر الفرد يعني لا يتجزء والجوهرالفرد يقولون أنه يمكن وجوده بجمهور العقلاء ، كما قال شيخ الإسلام ينكرون وجوده ، لأن الذين يقولون بوجوده يقولون أن رأس الأبرة جوهر فرد لأنه لا يمكن أن يتجزء ، ولكن جمهور العقلاء يقولون ما من شيء إلا ويمكن أن يتجزء أن ينتهى إلى أن لا يكون شيء .
ولآن في عالم الذرة تبين أنه ما من شيء له حجم مهما كان صغيراً لا ويمكن أن يتجزء .
وعلى هذا فالجواب الفروه غير موجوده .
(201)
والخلاصة أن هذا الكلام المقصود منه واحد وهو بطلان كون الأجسام متماثلة ، أياً فسره الجسم ، فإنه لا يمكن أن تكون الأجسام متماثلة .(1/59)
[ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ التَّشْبِيهَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ تَجْسِيمًا بِنَاءً عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَالْمُثْبِتُونَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ ؛ كَإِطْلَاقِ الرَّافِضَةِ النَّصْبَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَهُوَ ناصبي وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَا وَأَيْضًا فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ لَا يَنْفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْحُجَّةِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْجِسْمَ ٍ]
ليس لديهم حجة ينفون بها الجسم لأنا لو قلنا بإن إثبات الصفات يستلزم للتجسيم ، فإنه قد سبق أن نقول للذي إن الله بجسم أو بغير جسم نقول له بماذا تعنى بكلمة الجسم ؟ أن أردت بها معنى صحيح يليق بالله فهذا حق وأن أردت معنى باطلاً فهذا باطل .
فلو قال أردت بالجسم ما يقوم بنفسه ويتصف بالصفات الائقه به قلنا هذا هو الله ,
وأن أردت بالجسم ما يكون مكوننا ومركباً من دم وعظم ولحم إلى آخره فهذا باطل .
[ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ وَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْجِسْمِ
(202)(1/60)
كَانَ هَذَا وَحْدَهُ كَافِيًا فِي نَفْيِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُ ذَلِكَ إلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ لَكِنَّ نَفْيَ التَّجْسِيمِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى نَفْيِ هَذَا التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُقَالَ : لَوْ ثَبَتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ جِسْمًا ؛ ثُمَّ يُقَالُ : وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ . ]
كلام المؤلف فيه صعوبة من حيث التصور لكن من حيث المعنى العام واضح .
يقول مثلا ايه لو ثبت كذا وكذا لنفرض أن الكلام في الأستواء على العرش ، لو ثبت أن الله مستوى على العرش لكان جسماً والأجسام متماثلة .
يقول هذا المنكر للصفة لو كانت الأجسام متماثلة وجب إشتراكهما فيما يجب وفيما يجوز وفيما يمتنع ، وهذا ممتنع على الله لأنه يؤدي إلى ممتنع .
[ لَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مُعْتَمِدًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ ؛ فَيَكُونُ أَصْلُ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجِسْمِ وَهَذَا مَسْلَكٌ آخَرُ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ ]
لو قلت ننفي عن الله كل ما يقتضي التشبيه فإن هذا الأعتماد لا يكفي لأنه ما من شيئين إلا يشبهان من وجه ويفترقان من وجه . فنجد أن الخالق سميع وبصير والإنسان سميع وبصير لكن نعتمد على المشابهه التي تقتضي النقص والعيب .(1/61)
مثل أن الله حي لكن حياة لا تشبه حياة المحلوقين سميع لكن لا يشبه سمع المخلوقين ، وهكذا .
[ وَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا
( 203)
فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ : وَهُوَ أَنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ]
إن من الصفات ما يكون كمالاُ في حق المخلوق ، ونقصاً في حق الخالق وما يكون نقصاً في حق النخلوق ، يكون كمالاً في حق الخالق ، وذلك لأن الخالق لا يشبه المخلوق ، فالنوم والأكل والشرب والنكاح بالنسبة للمخلوق يقدر كمالاً ، لأن الذي لا ينام مريض فيه عيب وكذلك الذي لا يأكل ولا يتزوج فيه عيب ، وبالنسبة للخالق نقص .
أما التكبر والعظمة بالنسبة للخالق صفة الكمال ، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص .
وفيه ما يكون كمالاُ في المخلوق والخالق لكن للخالق ما هو أكمل مثل السمع والبصر والقدرة والقوة ، وما أشبه ذلك .
ونقصاُ في الخالق والمخلوق ولكن الخالق أشد تنزهاً عنه مثل العجز والصمم والبكم والمرض .
[ ( فَإِنْ قِيلَ إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ ]
الشيء غذا شابه غيره من كل وجه ، فإنه يجوز على هذا المشابه ما يجوز على المشابه ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، ويجب له ما يجب له .(1/62)
هذا إذا شابه غيره من وجه دون وجه وهذا بالنسبة للخالق والمخلوق ممكن يشابهه في أصل وجود الحياة ، ولكن لا يشابهه في حقيقتها .
يشابهه في اصل وجود الفطرة ولكن لا يشابهه في حقيقتها ، وهكذا ,
( 205)
[ ( قِيلَ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَلَا نَفْيُ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا]
يعني أنه إذا شابهه من وجه دون وجه وجب له في ذلك الوجه ما يجب للآخر ، وأمتنع عليه ما يمتنع على الآخر ، وجاز له ما يجوز على الآخر ، فيقول قدر إذا شابه الخالق المخلوق من هذا الوجه جاز للخالق ما يجوز للمخلوق وامتنع عليه ما يمتنع على المخلوق ، ووجب له ما يجب للمخلوق .
هب أن الأمر كذلك هذه الكلمة تدل على أن الأمر غير مسلم لكن على سبيل التقدير ، فإشتراك الخالق والمخلوق في أصل السمع والبصر ، وأختلف في حقيقته ، ونقول إن هذا الأصل لما إشتركا فيه ، فإنه لا يجب للمخلوق ما يجب للخالق ، لأن المخلوق يجوز أن يعدم هذا الأصل فيجوز أن يكون غير سميع وغير بصير ,
والخالق يمتنع عليه ذلك ، " الخالق يجب أن يكون سميعاً بصيراً والمخلوق لا يجب أن يكون سميعاً بصيراً "
إنما سمعه وبصره من باب الجواز الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه .(1/63)
[ كَمَا إذَا قِيلَ : إنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ حَيًّا سَمْعِيًّا عَلِيمًا بَصِيرًا فَإِذَا قِيلَ : يَلْزَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا قِيلَ : لَازِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُدُوثًا وَلَا إمْكَانًا وَلَا نَقْصًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ الْعِلْمُ أَوْ الْعَلِيمُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ الْبَصَرُ أَوْ السَّمِيعُ أَوْ الْبَصِيرُ أَوْ الْقُدْرَةُ
( 205)
َوْ الْقَدِيرُ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لَا فِيمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ ]
قلنا مثلاً الأشتراك من وجه دون وجه ، فالسمع والبصر والقدرة يشترك فيها الخالق والمخلوق في القدر المشترك .(1/64)
[ فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ أَصْلًا ؛ بَلْ إثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ ، فَكُلُّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَا وَمَنْ نَفْيِ هَذَا لَزِمَهُ تَعْطِيلُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ ]
لابد من إثبات الحياة وكون المخلوق له حياة والخالق له حياة لا يلزم من ذلك تشبيه ، مثل لو قلنا للإنسان جسم وللجبل جسم لا يلزم من ذلك تشبيه .
[ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الجهمية سَمُّوهُمْ مُعَطِّلَةً وَكَانَ جَهْمٌ يُنْكِرُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَرُبَّمَا قَالَتْ الجهمية هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ فَإِذَا نَفَى الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مُطْلَقًا لَزِمَ التَّعْطِيلُ الْعَامُّ .(1/65)
وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : تَجِبُ لَوَازِمُهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِهِمْ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ : زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ
( 206)
الشريط الخامس عشر
[ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ : زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبُيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا ]
وهذا أيضاً تقدم الكلام عليه أن المشرك الكلي لا يوجد في الخارج وإنما يوجد في الذهن .. مثلاُ أنا وأنتم أحياء يتصور الإنسان أن هناك حياة شاملة تجمعنا جميعاً هذه الحياة الشاملة هل هي موجودة في الخارج يعني هل هناك حياة كأنها حياة كأنها قنديل تشع على الناس جميعاً ؟! لا .. لكنها يتصورها الذهن ويفرضهن وهي ليست موجودة في الخارج .. ولا يمكن أن توجد في الخارج إلا كما قال المؤلف ــ رحمه الله ــ إلا على وجه معين مقيد(1/66)
فمثلاً الإنسان الواحد منا تواجد حياته في الخارج في هذا المجال ولهذا يقول المؤلف ( المشرك الكلى لا يوجد في الخارج إلا معيناً ومقيداً ) معيناً كحياة فلان .. ومقيداً بما يختص به في حياة المخلوق تناسبه حياة الخالق ..أما أن يوجد قدر مشترك كلي وهو اسم الحياة يوجد قي الخارج .. فهذا شي لا يمكن .. مثلاً كل إنسان أن يقول أن يقول كلنا ميتا بمعنى الإنسانية . هل الإنسانية شيء موجود في الخارج يشار إليه ويسمع ويرى ؟! .. لا يمكن الشخص من توجد الإنسانية فيه .. إنسانية معينة مقيدة . لأن إنسانية هذا الإنسان الآخر .. وقد يكون هذا الشخص أخذ من الإنسانية بالكمال والثاني أخذ من الإنسانية بالنقص وصار مثل البهيمة
هذه من من القواعد التي هي فرع من القاعدة الأولي وهي ( القدرة المشترك الكلي الذي يجمع أشياء لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً
[وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ]
( 207 )
الخالق له حياة والمخلوق له حياة .. وكل منهما موجود إشتركاً في الحياة إذن يتشابهان من هذا الوجه فقط .. لكن حياة الخالق تخصه وحياة المخلوق تخصه
إنسان عالم علمه غزير .. وإنسان عالم علمه أقل كلاهما اشتركا في أنه فيه تشابه من هذا الوجه .. لكن علم هذا يختص به وعلم هذا يختص به ـ أليس كذالك
الإنسان والحيوان كلاهما يأكل إشتركا في المعنى الكلي للأكل كلاهما آكل ولكن معلوم أن أكل الحيوان غير أكل الإنسان وأكل الإنسان غير أكل الحيوان
وهذه قاعدة عامة تنتفعون بها كيف تنتفعون بها(1/67)
نقول مثلاً ألخالق له قدرة والمخلوق له قدرة .. هل يلزم من إشتركهما في القدرة أ، يتشابهان في حقيقة هذه القدرة ؟! وهل يلزم أن يتشابهان في أصل القدرة ؟! نعم.. لكن تشابها في الأصل لا يعني تشابها في الحقيقة وبهذا يزول الإشكال أننا لو نفينا التشابه كله يعنى مطلق التشابه بين الخالق والمخلوق وكان في أي شئ يعني لو أننا نفينا مطلق التشابه وقلنا لا يمكن أن يكون بين الخالق والمخلوق تشابه إطلاقاً (( ما هو معناه ؟! معناه تنفي كل صفات الخالق عن المخلوق وقد ثبت أنه نفينا عن الإثبات ووقعنا في التعطيل شبهناه بالمعدومات ثم إذا قال القائل أنا لا أقول لا كذا ولا كذا شبهناه بالممتنعات والمستحيلات لأن نفي النقضين في الصحيح كمعنى إثباتهما في المستحيل وبيناً أيضاً
[ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ لَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ]
المعنى هذا واضح
( 208 )
[ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مُتَنَاقِضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرٍ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ النفاة ]
يعني مثلاً الإستواء على العرش معناه الإستقرار والعلو عليه بعض الناس يظن أن إثبات الإستواء كالخالق والمخلوق في قوله{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ }(1/68)
يتضمن التشبيه لأنهما إشتركا في أصل معنى الإستواء فيظن أن ذالك تشبيه فينفيه
وتارة يتفطن أنه لابد من قدرة مشترك ولكن هذا القدر المشترك لا يوجب التشبيه فيثبت ويجيب من نفاه بناء على أنه يحتوي التشبيه
والحاصل أن الذي يجب أن نعرفه نحن ونبني اعتقادنا عليه أن لابد من الإشتراك في المعنى الكلي .. وأن الإشتراك في المعنى الكلى لا يمكن أن يوجد في الخارج ..فإثباتنا إشراك في المعنى الكلي لا يعنى التشبيه لأنه ليس موجوداً في الخارج لأن هذا المعنى الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً معيناً بمن احتفظ به مقيداً بما يختص به كما مر علينا قريبا وعلى هذا فلا يمكن إذا أثبتنا أن الله قدرة للمخلوق قدرة لا يمكن أن نقول ذلك تشبيه ضروري أن نثبت هذا
[وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ ؟ ]
الله سبحانه ذات مقدسه قائم بنفسه إذا قلت وجود الله هل وجوده هو نفسه ... أو هل هو أمر زائد على نفسه ؟!
هذا هو الذي اختلف فيه الناس وفي الحقيقة إن هذا الإختلاق اشملناه أن يكون أمراً جدلياً فقط لأنه ما دمنا أثبتنا أن إله فلابد أن نثبت أنه موجود وإذا أثبتنا أنه موجود فلا بد فيه من الوجود
( 209 )
إذ لا يوصف الشيء بأنه موجود إلا حيث تحقق الوجود .. إذا لم يتحقق وجود كيف يكون موجوداً ولكن مع ذلك نقول أن الوجود صفة زائدة على الذات لكنها لازمة للذات الموجودة
عندما أقول وجودي أنا .. هل وجودي هو نفس ذاتي أم شيء زائد عليه ؟! بل زائد عليه .. لأنه صفة .. لكنه في الحقيقة صفة لازمة .. إذا مجر كوني إنساناً وأوجدت في هذا الوجود فماذا يلزمني ؟ !
يلزم سنة الوجود .. مجرد خروجي لهذا الكون معناه أني ولدت فوجودي ؟ إذاً لازم الموجود إذا لازم(1/69)
كوننا نبحث هل هو عين ماهيته أو هل هو أمر زائد عليه ماهيه هذا في الحقيقة جدل محض
الآن وجودي صحيح ليس هو هذا الجسم من لحم ودم وعظم وعصب .. لا ليس من شيء في أنه ليس هو أو ليس إياه على الأصح لكنه لازم لهذا
فما دام أمامكم للآن شخص قائم فلا بدأن يكون موجوداً .. ولابد أن تكون صفته الوجود
فالبحث في هذه الأمور هو من الأمور الجدلية المحضة وبذلك تقول كل موجود فلا بد أن يكون الوجود صفته
[وَهَلْ لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ التَّوَاطُؤِ أَوْ التَّشْكِيكِ ؟ ]
وقد سبق الكلام عنه أيضا
المشترك اللفظي : هو ما اتفق لفظه واختلف معناه .. مثل
العين .. بالنسبة للعين الباصرة .. وبالنسبة للماء الناتج
المتواطئ : ما اتفق لفظه ومعناه
الشكك : ما اتفق في أصله واختلف في وصفه فيه إشتراك وفيه تواطئ ولهذا يسمى بعض الناس مشكك
وقد تقدم أن المؤلف نقلنا له قوله في الحمريه ــ يرى أنه من المتواطئ ولكنه نوع خاص سنة نظراً إلى أن العبرة بالأصل لا بالوصف فمثلاً
( 210 )
المعية تقال لله وتقال لغيره .. يقال إن الله معنا .. ويقال فلان معي .. هل المعية هنا من باب الشرك .. يعني أن كلمة ( مع ) أطلقت على معية لله وهي مستقلة .. ومعية للمخلوق مستقلة ... أو هي من المتواطئ لأنها كلها بمعنى المصاحبة ؟ !
أومن باب المشكك لأنها اتفقت في أصل المعنى وهو المصاحبة لكن تختلف في الإضافة فمعية الخالق ليس كمعية المخلوق
وعلى هذا نقول مشككة معناها أنها تشكك الإنسان هل هي من المتواطئ أو من المشترك
فلذلك نقول أن الصحيح أنها من المتواطئ
كلمة الوجود الآن .. الله له وجود .. والإنسان له وجود .. فكلمة نقوله للخالق والمخلوق .. ويطلق بها الخالق والمخلوق
ولكن هل إن هذا اللفظ وجود مشترك بحيث نجعل وجود الخالق معيناً مستقلاً لا يشاركه المخلوق في شيء(1/70)
وفي المتواطئ بحيث نجعل حقيقة والوجود والإنسان شيء واحد ؟! أو من المشكك لأنها اشتركت في أصل المعنى وهو الوجود واختلفت في وصفه لأن وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن أو جائز
أما القول بأنه من المتواطئ نظراً إلى أصل المعنى والوجود مشترك كلي يرونه أنه من المتواطئ ويقولون أن الإختلاف في الوصف لا يخرج عن كونه متواطئاً
والذين يقولون إنه مشترك لفظي يعتبرونه وصفاً ويقولون ما دام أن الخالق نقول وجوده واجب والمخلوق وجوده ممكن
وقد اختلف الوجودان اختلافا متبايناً فهو كما لو قلت للعين الباصرة وللعين النابعة فهذان متباينان كذلك وجود الخالق مباين لوجود المخلوق فهما من المشترك
وبذلك أصبح من نظر إلى أصل معنى الوجود متواطئ
ومن نظر إلى إختلاف معنى الوجود .. وصف الوجود بالنسبة للخالق والمخلوق جعله من المشترك
( 211 )
لهذا قال بعض العلماء. أنا سأتوسط سأقول مثل هذه الأشياء يسبها مشكلة
ومما سبق من تقسيم العلماء المتفق عليه بأن الكلمات تقسم إلى أربع صفات متباينة ومتواطئة ومترادفة ومشتركه ..
وبذلك يبقى القسم الخامس المشكل ..
الذي اتفق في أصل المعنى واختلف في وصفه .. فمنهم من يراه مشترك
ومنهم من يراه ..ومنهم من يراه قسم مستقلاً ويسميه مشككا ..
[كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا ]
الأحوال بمعنى أن يقولون القدرة صفة والقادر موصوف ..
فالذين ينكرون الصفات يثبتون الأحوال .. يقول :لا أقول أن الله قادر بمعنى أنه له القدرة .. فأثبت الصفة .. ولكنى أقول : قادر حالة القدرة .. ولا أقول صفته القدرة .. يعنى معنى قادر ذو قدرة ولكن ليس له قدرة
..(1/71)
وهذا الكلام غير صحيح .. لأنك إذا قلت ذو قدرة أو حالة القدرة .. معنى هذا أذ له قدره ..لهذا يقولون أن الأحوال من الأمور التي لا حقيقة لها .. فما يقال ولا حقيقة تحته تبدو إلى الأذهان . الأنهام
الكف عند الأشعري والحال عند الهاشمي وظفرة النظام فهذا ثلاثة أشياء كل واحد عليهما طائفة ..ومالها حقيقة الكف عند الأشعري ..والحال عند الهاشمي " وهذا الأحوال التي قالها المؤلف " وظفرة النظام أيضا معروف أنهم المعتزلة يقولون إن الخلق لا نقول أنه وجد من العدم ولكن وجد من ظفره
وكذلك يقول المؤلف المعدوم هل هو شيء أو ليس شيء المعدوم مادام معدوم فليس بشيء .. كيف يصير معدوماً وهو بشيء
[ 212 ]
[ وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لَا ؟ ]
والصحيح أن وجود الموجودات وصف .. ولكن لا بد لكل موجود الإتصاف
وإلا لم يصح أن نقول أنه موجود ــ وماهية الشيء يعني حقيقة الشيء
ولكن هل وجود الموجودات زائد على ماهيتها أم لا ؟
الحقيقة أن الوجود موجود ومن صفته الوجود فجميعه مثلاً الشيء المركب أو جسم الشيء .. ليس من شك أن الجسم غير موجود وإذا أريد الازمه فلا شك أن الموجود ملازم للوجود وأنه لا يمكن للموجود بدون وجود كما أنه لا يمكن وجود بدون موجود
وجميع هذه الأمور قد شغلت الناس في العصور الوسطى في هذه الأمة وذلك لأن الجهاد معطل .. والإنسان مناسب أن يتكلم بهذا الكلام الذي أدخله المتكلمون على الأمة الإسلامية وقد شغلوا به المسلمين
عما عندهم مثل ما وجد في الفقه من تعريفات لا وجود لها في الحقيقة مثل إذا هلك هالك عن عشرين جدة وعشرة أجداد هل يمكن أن يوجد هذا؟ ! لا يمكن
والحاصل أن هذه الأمور فما شدد فيها الناس وليس من فائدة فيها .(1/72)
[ وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ؛ فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَيَحْكِي عَنْ النَّاسِ مَقَالَاتٍ مَا قَالُوهَا ؛ وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ ]
ومن نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن هذه الأشياء تعرف بالضرورة وأن كل إنسان يعرف أن كل موجود لا بد له من وجود وأن المعدوم ليس بشيء إلا المشترك هذا شيء معدوم وقد اعتبرته بشيء من هذا المعنى .. ولذلك من نظر إلى مثل هذا التعليل قال إنه شيء .. ومن نظر إلى المعدوم غير موجود فليس بشيء
وعلى كل حال هذه كلها مثل ما قال المؤلف كلام بدون فائدة
( 213 )
[ وَقَدْ بَسَطْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيهَا لِأَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ ؛ بِخِلَافِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ ؛ وَأَنَّ لَفْظَ الذَّاتِ وَالشَّيْءِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ ]
وهذا الذي ذكره المؤلف قد سبق الكلام عليه
[ فَإِذَا قِيلَ : إنَّهَا مُشَكِّكَةٌ لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ أَوْ مُتَمَاثِلًا ]
وهذا سبق كلامنا عليه وبينا أن الكلمات تنقسم باعتبار هذا المعنى واللفظ إلى أربعة أقسام(1/73)
[وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ ]
الآن يقول المؤلف ( الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني )
فما هو الفرق بين الوجود العلمي والعيني ؟!
العلم ما وجد في الذهن
والعيني ما وجد في الخارج
فعندما أعلم أن هذا الشيء ممكن فهذا وجود علمي بمعنى أنه وجد فعلاً
وعندما يبرز هذا الشيء ويشاهد يكون موجوداً عينياً
ذكرتم مثلاً أن الإختبار في السادس عشر من هذا الشهر
( 214 )
علمنا أنه سيكون في السادس عشر من هذا الشهر فهذا وجود علم .. ولكن عندما يقع هذا الإختبار .. يكون موجوداً بينياً هو في شبه في قولنا فيما سبق الوجود الذهني والوجود الخارجي
[وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ : لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ ]
الأحوال أيضا مثل ما قال المؤلف تختلف باختلاف أصحابها ولكن ليس لها وجود في الخارج إلا إذا وجدت
فوجود الله سبحانه وتعالى ووجود الإنسان مشتركان في أصل الوجود ولكن حال وجود الله سبحانه وتعالى ليس كحال وجود الإنسان تختلف القوال فيها ومن ثم يقال هل الوجود يقال بالاشتراك أو يقال بالتواطىء أو يسمى مشككاً ؟
فالمؤلف ذكر أن العلماء اختلفوا فيه وأن الصحيح أنها نوع من المتوطئ لكنها تختص بكل ما يختص به(1/74)
[وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ ؛ ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ ؛ إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ " ]
قوله في الطبعة إمكان إغلاق باب الظلال الصواب أمكنة إغلاق باب الظلال
والمؤلف ذكر هذه الأمور في كتاب يسمي وراء تعارض العقل والنقل وبعضهم يسميه كتاب العقل والنقل .. ويسمى أيضا موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول وهو معروف فقد كان في الأول على هامش كتاب منهاج السنة لكنه طبع طبعه منفردة بنحو ثمانية أجزاء وهو كتاب مهم ويقول ابن القيم في السفارينية وله كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثاني
( 215 )
[" وَالْمَقْصُودُ " : هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنْ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ .]
إذن الاعتماد على مجرد النفي لا يصلح وعلى مجرد الإثبات لله يشبيه لا يصح أيضا .. لأن في الإعتماد على هذا وهذا فيه إشتباه خطر وعرفتموه بما أختلف أهل العلم من هذه الأمور التي يدعي بعض الناس أن إثبات هذا يستلزم التشبيه وأن بعضهم يقول هذا لا يلزم التشبيه ...وبعضهم يقول أن إثبات هذا فيه تشبيه
ما يسلكه نفاة الصفات(1/75)
[ ثم قال المؤلف وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ : مَا يَسْلُكُهُ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا إذَا أَرَادُوا أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَنْ يُرِيدُوا تَنْزِيهَهُ عَنْ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ : الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ]
هذا كذب ليس فيه من شك ـ وصف اليهود له بهذا الصفات ـ اليهود لا يتورعون عن وصف الله بصفات النقص "النقص المعنوي والنقص الغير المعنوي" ..هم يقولون أن الله لما خلق السموات والأرض في ستة أيام تعب "الأحد ... الاثنين ... إلى الجمعة "..تعب .. فلما كان يوم السبت استراح وما صار يفعل ..
ولهذا عندهم الراحة يوم السبت .. هذه واحدة ..
ويقولون إن الله فقير ونحن أغنياء .. ويقولون أن الله بخيل ويقولون أن يد الله مغلولة ..فهم أعوذ بالله ـ وصفوا الله بأسواء الصفات .. فوصفوه بأسواء الصفات لا الصفات المعنوية
[ 216 ]
أو الغير معنوية ..
ويقولون أيضا أنه بكى على الطوفان وأنه أصابه الرمد في عينه فعادته الملائكة " "قبحهم الله ..لم يقدروا الله حق قدره " .. وكذلك يقولون بأولوهية بعض البشر أنه الله .. وإذا أراد نفاة الصفات أن ينزهوه عما يجب من هذا الأمور..
[مِنْ النَّاسِ يَحْتَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَوْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ]
أنظر كيف يردون ..يقولون .. أن اليهود لو أننا وصفناه بأنه يبكى لكان جسما ..
فهل ان يرد على اليهود بمثل هذا ؟! .. أبداً لا يمكن(1/76)
لأنهم يقولون إذا كان جسما في المانع .. وحينئذ يثبتون أن الله تعالى يبكى .. فينبغي هذه الأشياء وهذه النقائص الفظيه بهذا الأمر الذي ليس ينقض وفيه تفصيل بهذا خطأ
[ وَبِسُلُوكِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ لِوُجُوهِ ]
أستظهر عليهم أي أسقلوا ..ومنه قوله تعالى } لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ {
أي ليعليه
هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوده ..
[ أَحَدُهَا أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَنْ نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ ]
هل يمكن أن عنوان البحث ..
أتخذ بعض النفاة في الرد على اليهود سلكاً .. وهو أن وصف الله بما ذكره
اليهود يستلزم أن جسماً والجسم ممتنع .. فهل هذا المسلك صحيح .. وممكن أن فجعله عنوان البحث .. لأن العنوان هو أن يقال
( 217 )
قيل لنا بعض النفاة سلكوا في الرد على اليهود والذين وصف السبب بأنه بكى على الطوفان .. ونحو ذالك واختلفوا في الرد عليهم بأن قالوا لو كان كذلك لكان جسماً أو متحيزاً فهل الملك صحيح
( نهاية الوجه الأول رقم 15 )
يعني وصف الله سبحانه وتعالى في هذه الأمور أظهر خسارة من نفى التحيز والتجسيم معناه أنه يكفي أن نقول أنها تقتضي هذه لانتفاء التجسيم والتحيز
هم يقولون الذين ردوا على اليهود يجب أن تنتفي هذه الإنتفاء التحيز والتجسيم
فنقول إن نفى النقائض عن الله أبين وأظهر من انتفاء التحيز والتجسيم لماذا ؟!
لأن وصفه بهذه النقائض أظهر خسارة من وصفه بالتحيز والتجسيم والحاصل أن هؤلاء وصفوا الله بالنقائض ( اليهود) ونحن زيد أن ننفيهما فما الطريق لنفيهما ؟!(1/77)
الطريق أن نقول إن الله ليس بجسم ولا متحيز فنقول إنتفاء هذا النقائض عن الله أظهر من إنتفاء التحيز والتجسيم
[فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ ]
فإذا هذا الضمير يعود على التحيز والتجسيم فيه من الاشتباه والنزاع والحفاء ما ليس في ذالك
الإشتباه كيف ؟! لأنه أن وصف الله بالجسم أو التحيز وقلنا في تفصليه
من أراد بالجزئية أن الله أن الله سبحانه وتعالى هو القائم بنفسه المتصف بما يليق به هذا حق بلا شك
ومن أراد بالجسم أنه محدث مكون من أعضاء وأجزاء فهذا ممتنع على الله إذا فيه تفصيل
( 218 )
.. لكن عندنا نقول أن الله تعالى بكى على الطوفان وأصابه الضحك لا
يصلح التفصيل .. غير التفصيل ..
لا يصلح أن نفصل أن نقول كذا من كذا .. لأنه كله نقص .. كله نقص
" إن الله بكى حتى رمد" على تفصل ولا يجب فيه التفصيل .
إذا أيهما أعظم فساداً؟؟ الذي يمكن أن يكون على وجه صحيح .. أو الذي لايمكن أن يصلح على أي وجه ؟!..
الذي لا يمكن أن يصلح على أي وجه أشد ..
[وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ وَكُفْرُ صَاحِبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ مُعَرِّفٌ لِلْمَدْلُولِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَبْيَنِ بِالْأَخْفَى كَمَا لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ]
" كفر صاحب ذلك " يعني الذي وصفه بأنه رمد وعادته الملائكة ...
عندما نريد أن نستدل على إنتفاء ما وصفه به اليهود بانتفاء الجسم والتميز عن الله .. هل هذا سبيل الإنتفاء ؟!..
سبيل .. ما السبب ؟! .. لأننا لأن أستدلنا بالأخفى على الأظهر .. لأن إنتفاء الرمد عن الله أظهر من إنتفاء التميز والتجسم
وهل يعقل أن نستدل بالإخفى على الأظهر ؟!(1/78)
أيضا نقول .. كفر من يقول أن الله رمد حتى عادته الملائكة أظهر من كفر من يقول أن الله جسم .. بلا شك .. لأن إن الله جسم وإذا أراد بالجسم القائم بنفسه المتصف بصفات فهذا نقص ..
هذا وجه .. يبين فساد إحتجاج هؤلاء المتكلمين على إبطال ما وصفه به اليهود
[الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ : يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي التَّجْسِيمَ فَيَصِيرُ نِزَاعُهُمْ مِثْلَ نِزَاعِ مُثْبِتَةِ الْكَلَامِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَصِيرُ كَلَامُ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ وَاحِدًا وَيَبْقَى رَدُّ]
(219)
[ النفاة عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِطَرِيقِ وَاحِدٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَاد ]
الوجه الثاني أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات يعني بهم اليهود ــ يمكن أن يقولون نحن لا نقول بالتجسيم يقولون أنه رمد ولكن لا تقول أنه جسم ..أليس كذلك يمكنهم في باب المجادلة أن يقولون نحن لا نقول بالتجسيم وبالتحيز ولكننا نصفه بهذه الصفات نقول تعب .. ونقول حزن .. ونقول أنه فقير .. وأنه بخيل .. ومع ذالك لا تقول أنه جسم لا يلزمونا بالجسم
كما أن الذين يثبتون الصفات لله تعالى هل يلزمهم التجسيم ؟!
عندما نقول أن الله يد ووجه وعين وقدرة وسمع هل يلزمنا بالقول بالتجسيم ؟!
معنى هذا نقول لهؤلاء المنكرين الذين استدلوا على بطلان ما قال اليهود .. بأن لو ثبت ما قالوه لكان جسماً ..يمكن لليهود أن يقولوا نحن نثبت ذلك بدون تشبيه مثل ما قال أهل السنة والجماعة نحن نثبت لله قدرة وسمعاً وبصراً واستواء .. إلى آخره ولا يلزمنا أن نقول أنه جسم(1/79)
[(الوجه الثَّالِثُ ) أَنَّ هَؤُلَاءِ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ]
أن هؤلاء الضمير يعود على الذين رددوا ما قال اليهود معنى التجسيم يعني بهم الأشاعرة فثبت بعض الصفات هؤلاء المثبتين بعض الصفات نفوا صفات الكمال بمثل هذه الطريقة ماذا قالوا ؟! قالوا لو استواء على العرش لزم أن يكون جسماً والجسم ممتنع فيجب امتناع إستواء الله على العرش
[( الرَّابِعُ ) : أَنَّ سَالِكِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُتَنَاقِضُونَ فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى ]
( 220 )
[ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ]
مثال ذلك
...
[ . فَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ - كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - إذَا قَالَتْ لَهُمْ النفاة كَالْمُعْتَزِلَةِ : هَذَا تَجْسِيمٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْجِسْمِ أَوْ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا جِسْمًا . قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ : وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ . وَقُلْتُمْ : لَيْسَ بِجِسْمِ ؛ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَوْجُودًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا فَقَدْ أَثْبَتُّمُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمْتُمْ فَكَذَلِكَ نَحْنُ](1/80)
نقول الوجه الرابع .. أن سالكى هذه الطريقة وهي الإعتماد فيما يوصف الله به أو ينفي عنه على التجسيم ـ الإعتماد عليها .. نقول أن هؤلاء الذين إعتمدوا عليها متناقضون .. وجه التناقض ..كما قال المؤلف .. " فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوفقه فيه من الإثبات ..كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوفقه من النفى ..
والمثال عندنا .." وهو مثبته الصفات كالحياة والعلم ..والقدرة والكلام ..ولسمع والبصر" هؤلاء ست صفات ..وغيرها من الصفات
"إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة هذا تجسيم " هذا أي إثبات هذه الصفات تجسيم " لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم" ..
يعنى يقولون مثلاً العلم والقدرة والكلام ...إلى آخره هذا إعراض يعنى معاني لا تقوم إلا بالجسم ..إذ لا حياة إلا بالحي .. ولا قدرة إلا بقادر وهكذا ..أو يقولون أيضاً .. لا نعرف موصوفاً من صفات إلا بالجسم.. يعنى لهم بإلزام هذا الإثبات لتجسيم ..
" قالت لهم المثبتة " .. المثبتة هم مثبته هذه الصفات .. أنتم قد قلتم أنه حي عليم قدير وقلتم ليس بجسم .. وأنتم لا تعلمون موجوداً حيا عالماً قادراً إلا جسمآ " .. وأيضا الحياة والعلم والقدرة أعراض والأعراض لا تكون إلا بجسم .. فقد تناقضتم .. فقد أثبتموه على
( 221 )
خلاف ما علمتم ..ماذا أثبتموه ؟! .. أثبتموه يعنى أثبتم هذه الصفات وأنتم تعلمون أنه لا يتصف بها لأن ما هو جسم ..فأثبتموها .. وقلتم . ليس بجسم
.. أثبتم الأمر على خلاف ما علمتم ..
[وَقَالُوا لَهُمْ : أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا ؛ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ]
أيضا قالوا لهم المثبتة لهؤلاء المعتزلة أنتم تقولون أن الله حي بلا حياة وعليم بلا علم ... وقدير بلا قدرة .. وهل هذا يمكن ؟!(1/81)
المؤلف يقول هذا تناقض يعلم بضرورة العقل ..إذ كيف نقولون وليس به حياة ..أو قدير وليس به قدرة أو عليم وليس به علم .. لو أنت قلت للصبى
الذي خرج من بطن أمه لآن .. هذا عليم يعرف الفقه والتفسير ويعرف شرح الطحاوية .. يصلح هذا؟!... لا يصلح ...
كذلك إذا قلت لإنسان ميت هذا حي وليس به حياة ..لا يصلح أيضاً ..
فكيف تقولون إن الله حي بلا حياة .. عليم بلا علم .. قدير ولكن بلا قدرة ؟! هذا غير معقول .. لأن كلمة قدير أسم مشتقه من القدرة وعليم اسم مشتق العلم ..وكذلك حي من الحياة
.
[ ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتُونَ إذَا قَالُوا لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ أَوْ مَنْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ أَوْ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا قَالُوا : هَذَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ : فَأَنْتُمْ قَدْ وَصَفْتُمُوهُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَهَذَا هَكَذَا ؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا الْجِسْمُ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوصَفَ بِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ ؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ]
لأن أنظر كلام المؤلف رحمه الله ..أول النزاع بين المعتزلة والأشاعرة .
( 222 )
لأنه قال المثبتة كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وبقي واحدة سهى المؤلف عنها وهي الإرادة
نأتي إلى النازع بين أهل السنة والجماعة المثبتة إثباتاُ كاملاً وبين الأشعرية هؤلاء المثبتون الصفات السبع(1/82)
إذا قالوا لمن أثبت .......... إلا ما هو جسم ) ثم قال المؤلف قالت لهم المثبتة .. المثبتة لأي شيء .. لجميع الصفات وهم أهل السنة والجماعة (( فأنتم قد وصفتموه .... بين المتماثلين ..
وهذا واضح وقد تقدم لنا
والحاصل أن تقول لهؤلاء المثبتة الذين يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها نقول لكم إنكم أنتم متناقضون لأنه يلزمكم بما نفيتموه نظير فيما يلزمكم
[وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا فَاسِدًا : لَمْ يَسْلُكْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالْجِسْمِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَا بِالْجَوْهَرِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِبَارَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَا تُحِقُّ حَقًّا وَلَا تُبْطِلُ بَاطِلًا ]
[وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ ]
وأنا إذا أردنا نفي هذه النقائض عن الله ... السلف لا يقولون لأن هذا يقتضي التجسيم أو هذا يقتضي التحيز
يقولون لأن هذا نقص ــ مثلاُ عندما يقولون اليهود إن الله رمد وبكى وما أشبه ذالك يقولون إن الله متنزه عن ذلك لأنه يقتضي التجسيم ..لا ولكنه نقص والله منزه عن النقص
يقولون السلف ما نطقوا بالجسم ولهذا الصحيح في مسألة الجسم أنه لا يجوز بالنسبة للفظه لا يجوز إثباته أو نفيه
لا نقول إن الله جسم أو ليس بجسم لكن في معناه يجب أن نفسره فإذا أردت بالجسم أنه سبحانه ذات قائم بنفسه
( 223 )
متصف بما يجب له فهذا حق )
وإن أردت أنه جسم مركب من أعضاء وعظام وأعصاب فهذا ليس بجائز
[ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ : مَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ .
](1/83)
من أثبت بعض الصفات أثبت الباقي
[ وَأَمَّا فِي طُرُقِ الْإِثْبَاتِ : فَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الْمُثْبَتَ لَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ إذْ لَوْ كَفَى فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَجَازَ أَنْ يُوصَفَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَالْأَفْعَالِ بِمَا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ - مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنْ يُوصَفَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ ]
وهذا قد قررناه من قبل لو قلنا أنه يكفي أن تعتمد في الإثبات على نفي التشبيه لو قلنا هكذا هل يصح هذا أم لا يصلح ؟ !
لا يصلح أن تقول أنا أثبت لله صفات بدون تشبيه لا يمكن أبداً
أولاً : لأنه سبق لنا ذكر القاعدة .. أن صفات الله توقيفية لا أن نثبتها من عند أنفسنا
والثاني : ثبت أن الله تعالى لا يمكن أن يوصف بالنقص لا على وجه التشبيه أو على غير تشبيه
لو قلت مثلاً ــ و لله المثل الأعلى ــ وحاشى أن يكون ـ لو قلت أن الله أعرج لكن ليس كعرج الإنسان فإنه لا يجوز
لو قلت يأكل ولكن ليس كأكل الإنسان .. لا يجوز
إذن فا الاعتماد في الإثبات على نفى الشبه غير جائز ولهذا المؤلف أنظر ماذا يقول إذ لو أتكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى ما هو ممتنع
( 224 )
عليه مع نفي التشبيه
نعم صحيح هذا أم لا كأن نقول له يد لا اليد الثابتة
كأن نقول له رأس وله أذن وله سر وله كذا وله كذا ولكن بدون تشبيه .. هذا لا يجوز ولا يصح
كأن نقول بالنسبة للأفعال أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا ما يمتنع عليه ولكن بدون تشبيه هذا أيضا لا يجوز
وأن يوصف بالنقائض التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه
كأن يقول إنه أعور ولكن ليس كعور الناس أو أنه أصم ولكن ليس كصمم الإنسان مثلاً(1/84)
إذن لا يجوز أن نثبت له ..بأن نعتمد في الإثبات على نفي التشبيه
[كَمَا لَوْ وَصَفَهُ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ . وَكَمَا لَوْ قَالَ الْمُفْتَرِي : يَأْكُلُ لَا كَأَكْلِ الْعِبَادِ وَيَشْرَبُ لَا كَشُرْبِهِمْ وَيَبْكِي وَيَحْزَنُ لَا كَبُكَائِهِمْ وَلَا حُزْنِهِمْ ؛ كَمَا يُقَالُ يَضْحَكُ لَا كَضَحِكِهِمْ وَيَفْرَحُ لَا كَفَرَحِهِمْ وَيَتَكَلَّمُ لَا كَكَلَامِهِمْ . وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : لَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا كَأَعْضَائِهِمْ كَمَا قِيلَ : لَهُ وَجْهٌ لَا كَوُجُوهِهِمْ ]
يضحك ويفرح ويتكلم يقال هكذا أو لا يقال ؟!
يقال كذا لأن الفرج والضحك والكلام صفات كمال ولهذا يقول الرسول عليه السلام (( لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من راحلته .. الحديث
ويقول يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الأخر كلاهما يدخل الجنة
ويقول ( لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم )
الحاصل أننا نقول هذه الأمثلة يجوز لأن الله أثبتها لنفسه لكن الأكل والنوم والشراب وما أشبه لا يجوز لأن الله نفاه عن نفسه
ويجوز أن نقول أيضا له وجه لا كوجوههم نعم يجوز
( 225 )
[ وَيَدَانِ لَا كَأَيْدِيهِمْ . حَتَّى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ وَالْأَمْعَاءَ وَالذَّكَرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا](1/85)
ولهذا قال بعض المشبهة .. سلوني عما شأتم ..واعفوني من ذكر اللحية والفرج ـ أعوذ بالله ـ كل شيء تريدونى أن أعلمكم عن الله أنا أعلمكم ..الأسألين اللحية والفرج ..أنا لا أقدر أن أقول أن الله له لحية ولا أقدر أن قول أن الله له فرج .. والباقي كله أجزكم به ..ـ أعوذ بالله ـ .. هذا من الإفتراءعلى الله الجرأه عليه سبحانه وتعالى وهذه التى ذكرها المؤلف أمثله فقط على أن الاعتماد في الإثبات على نفي التشبيه لا يجوز .
[ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَمَا أَثْبَتَّهُ إذَا نَفَيْت التَّشْبِيهَ وَجَعَلْت مُجَرَّدَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَافِيًا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا بُدُّ مِنْ إثْبَاتِ فَرْقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ]
المهم أن المؤلف أصل هذه القاعدة المهمة العظمية ..
وهى أنه لا يكفى في صفات الله الإعتماد على إثبات بدون تشبيه ..ولا على مجرد نفي التشبيه ..
أما الأول .. الاعتماد على مجرد نفي التشبيه ..فقد سبق بيان بطلانه .. لأنه ما من أحد ينفي شيئا إلا ويدعي أنه تشبيه .. لا يمكنه الإعتماد عليه .
أما الثاني .. الإثبات بدون تشبيه .. لو اعتمدنا عليه لقلنا إن كل إنسان يجوز أن يصف الله بكل وصف ويقول بلا تشبيه وهذا ممتنع
.
[ فَإِنْ قَالَ : الْعُمْدَةُ فِي الْفَرْقِ هُوَ السَّمْعُ فَمَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ أَثْبَتَهُ دُونَ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ السَّمْعُ ]
قيل له أولاً . السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه .. فما أخبر به الصادق فهو حق من نفى أو إثبات والخبر دليل على المخبر عنه .. والدليل لا ينعكس .. فلا يلزم من عدمه .
( 226 )(1/86)
[عَدَمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ لَمْ يَنْفِ هَذِهِ الْأُمُورَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَنْفِيهَا مِنْ السَّمْعِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ نَفْيُهَا كَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا ]
إذا قال القائل أنا اعتمد في ذلك على السمع .. قيل له أولاً السمع هو خبر الصادق بما هو الأمر عليه في نفسه السمع الذي يجب قبوله هو خبر الصادق بما هو عليه الأمر في نفس الأمر .. أي في نفس الأمر
مثل الذي أخبر الله عن نفسه أن له وجهاً فهذا خبر صادق عما هو المر عليه في نفس في نفس الأمر
الأمر الواقع أن الله له وجهاً أخبر الله به عن نفسه فهو خبر ولكن الإعتماد على هذا الخبر في هذا الأمر في الحقيقة مما دعه لأنه لا يمكن أن نقول هذا الكلام ولأنك لو اعتمدت على مجرد الإثبات لما استطعت أن تنفي عن الله الأكل اللهم إذا قلنا وهو لا يُطعم ولا يطعم ))
لكن لا تستطيع أن تنفي أن الله له أمعاء .. فليس في القرآن ولا في السنة نفي الأمعاء عن الله ولا في القرآن ولا في السنة نفي الأذان عن الله ولا في القرآن ولا في السنة السرة عن الله ولا في القرآن والسنة إثباتها
إذن يقول المؤلف والخبر دليل على المخبر عنه )
إذا أخبر الله عن شيء فإن هذا الخبر دليل على المخبر عنه
إذا أخبر الله عن شئ فإن هذا الخبر دليل على المخبر عنه (( والدليل لا ينعكس )) معنى لا ينعكس قول المؤلف ( فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه .. المعنى أننا إذا عدمنا الدليل على شيء المراد الدليل المعين كما مر علينا فإنه لا يلزم من نفي الدليل المعين إنتفاء المدلول
ولا يلزم لأنه قد يكون له دليل آخر سوء هذا الدليل
( 227 )(1/87)
وهذا كثير في مسائل العلم فنجد أن المسألة الواحدة لها عدة أدلة فماذا انتفى عنها دليل واحد من هذه الأدلة ثبت بالدليل الآخر
فنحن نقول الآن إذا قدرنا أن السمع لم يرد بنفي هذه الصفات عن الله
المؤلف يريد أن يركز في الرد على من يقول أنا اعتمد على السمع كما أثبته وننفيه فالسمع الآن ما ورد أنه نفى عن الله هذه الصفات التي أنكرها عليهم مثل الحزن والبكاء والرمد وكذلك التعب ولكن التعب موجود في القرآن نفيه ولأمعاء والأذان هذه لم يرد نفيها
لكن هل نقول لما لم يرد نفيها أن تكون منفية ؟ !
لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه
ولكن إذا وجد في العقل ما يمنعه وجب أن تمنعه هذا الذكر ذكرنا .. الرمد .. الحزن .. والخوف من الله أن الله يخاف هذا ما ورد به السمع وما ورد
نفيه بالسمع لكن هل نقول لما لم يرد به السمع بنفيه يجوز إثباته لا .. لأنه هناك دليل آخر عقلي يمنع وجودة
فمعلوم أن السمع لم ينفي هذه الأمور بأسمائها الخاص فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينذ نفيهما كما لا يجوز إثباتهما
ولكننا نقول كما تقرر من قبل أنه لم يرد أن السمع نفاه بأسمائها الخاصة لكن نفاه بالمعنى العام
ما هو المعنى العام هو أن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص فكلما اقتضى نقصاً أو حدثاً كان الله منزه عنه
( 228 )
[وَأَيْضًا : فَلَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُثْبَتُ لَهُ وَيُنْفَى فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ : يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الْمَنْفِيِّ عَنْ الْمُثْبِتِ بِمَا يَخُصُّهُ بِالنَّفْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الثَّابِتِ عَنْ الْمَنْفِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ بِالثُّبُوتِ ](1/88)
كما قال المؤلف لابد من فرق بين ما يثبت له وينفي عنه لو أن نفرق إلا ومعنا في حيز و التفريق مدارة كما قلنا
"كما أراد المؤلف " مداره على الكمال والنقص فما اقتضى نقصاً فإنه ممنوع عن الله وما لم يقتضي نقصاً فهو ثابت لله
إذا قال قائل :
أنا سأثبت أن الله يحزن كما يفرح .. فماذا نقول له ؟ !
نقول لا والفرق بينهما ظاهر الفرح صفة كمال .. والحزن صفة نقص .. لماذا صفة نقص ؟!
لأن الحزن معناه أنه عاجز عن وقوع ما نزل به
لكن الفرح ليس فيه نقص أبداً بل هو دليل على كمال الفارح فإن الله إذا كان يفرح بتوبة عبده دليل على محبته للكرم والتوبة على عباده
( انتهي الوجه الثاني رقم 15 )
لو قال قائل أن الله يكره كما أنه يحب ماذا نقول ؟ !
نقول نعم الكراهية وردت ليس فيها شيء
قال تعالى { وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ }
وأيضا إذا قال لماذا لا نثبت لله الحزن كما نثبت له الكراهية ؟!
نقول الحزن يدل على ضعف الحزين والكراهية لا تدل على ضعف الكاره
فالإنسان يكون كاره للشيء وهو أقوى ما يكون بالنسبة له لإذن الكراهية لا تقتضي النقص ولذلك ثبتت لله وهي
( 229 )
الشريط السادس عشر
ضد المحبة والحزن يقتضي النقص ولذلك وجب نفيه عن الله دون الفرح
فالفرق بين إذن بين ما نثبته لله وما ننفيه هو أن ما اقتضى إلى النقص فهو منفي عن الله عقلاً وسمعاً ..وما لم يقتضي النقص بل احتوى الكمال فهو ثابت لله عقلاً وسمعاً وإن لم يقتضى عليه بعينه
إذا كان يقتضي الكمال وهو غير وارد فإننا لا ننفيه عن الله ولكننا نتوقف في إثابته ونستفصل عن(1/89)
لدينا قاعدة .. ولكن الشيء بخصوصه أثبت هذا .. يقتضي كمالاً فقد يكون يقتضي كمالاً حسب مفهومي أنا ولكنه في الواقع لا يقتضي كمالاً فالشيء الذي لم يرد في الكتاب ولا السنة وهو في نظري يقتضي كمالاً لا يجوز إثباته بعينه لكن أقول إن كان كمالاً فهو ثابت لله وإن كان نقصاً فهو منزه عنه أما أني أثبته لله فهذا لا يجوز لأنه يمكن أن يكون أعتقد أن هذا كمال وهو في نفس الأمر ليس بكمال
المهم أن ما ورد به الشرع إثباتاً أو نفياً هذا أمره معلوم فلا يثبت الله لنفسه إلا ما هو كمال ولا ينفي إلا ما هو نقص
ولكن بالنسبة لنا هل نقول أن نثبت بدون تشبيه ؟!
لا لا نثبت لله بدون تشبيه لأنه ما يثبته له إلا صفات كمال
فإذا قال إنسان أنا اعتمد على السمع فما أثبته أثبته وما نفاه عن نفسه نفيه ..قلنا له هذا غير كاف
لأن الشرع والسمع لا ينفي على هذا المعنى بعينه وهو يكون منفياً عن الله .. فهل نفى الله عن نفسه الرمد
( 230 )
ليس في القرآن والسنة ذلك
لكن نعلم أنه نفى عن الله ولأن صفة الرمد صفة نقص .. السمع المقصود به القرآن والسنة
[وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُوجِبُ نَفْيَ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُثْبِتُ لَهُ مَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ كَافِيًا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَمَا الْفَرْقُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ فَيُقَالُ : كُلَّمَا نُفِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْقِدَمِ : عُلِمَ امْتِنَاعُ الْعَدَمِ وَالْحُدُوثِ عَلَيْهِ وَعُلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ ](1/90)
علم الجواب .. الجواب يقال كلما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه .. مثاله ..
إذا علمنا أنه موجود واجب الوجود بنفسه .. موجود هذه واحدة .. واجب الوجوب هذه الثانية ..بنفسه هذه الثالثة وأنه قديم واجب القدم علم امتناع العدم
لأن العدم ضد الوجود والحدوث عليه ضد القدم وعلم أنه غني عما سواه لو قال قائل
هل يجوز الحدوث على الله ــ أن يكون حادث .. لا ..
والدليل لأنه واجب الوجود ووجوب الوجود بنفسه صفة كمال وتجويز الحدوث عليه إذ افتقاره عليه صفة نقص
فعلى هذا نعرف أن الحدوث إذ افتقار الله إلى غيره ... ممتنع
( 231 )
لأنه مناف لصفات الكمال الذي هو واجب الوجود بنفسه
[فَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَا سِوَاهُ فِي بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ : لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِنَفَسِهِ وَبِذَلِكَ الْآخَرِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِهِ . ]
هذه بحوث عقليه إلا أن معناها العام هو أننا لا نعتمد في الإثبات أو النفي بما يليق بالله وننفي عنه .. لا نعتمد على طرف التشبيه أو على الإثبات بلا تشبيه
[وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَكُلُّ مَا نَافَى غِنَاهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ]
يعني لو قال أحد أن الله يقول يفتقر إلى كذا .. إلى الأكل والشرب واللباس وإلى النوم مثلاً لقلنا أن الله عز و جل حتى وإن لم يرد في الشرع نفي ذلك .. لأنا نعلم أن الله غني عما سواه .. وافتقاره إلى هذه الأشياء ينافي عناه فكل ما نافى صفات كماله فهو منزه عنه
كذلك لو قال
أن الله خلق السماوات والأرض فتعب كما قال اليهود قلنا هذا ممتنع .. لأن التعب ينافي كمال القوة .. فكلما نافى كمال الصفات فهو منزه عنه
( 232 )
[وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَيُّومٌ فَكُلُّ مَا نَافَى حَيَاتَهُ وقيوميته فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ](1/91)
إذن القاعدة بما ينزه عنه الله ليس هذ بالجسم كما قال المعتزل وليس هو تشبيه كما يقول من يقوله .. ويعتمدون على مجرد نفي التشبيه إنما ينزه عما كل ينافي كمال صفاته
[وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمْعُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَا قَدْ وَرَدَ فَكُلُّ مَا ضَادَّ ذَلِكَ فَالسَّمْعُ يَنْفِيه كَمَا يَنْفِي عَنْهُ الْمِثْلَ وَالْكُفُؤَ فَإِنَّ إثْبَاتَ الشَّيْءِ نَفْيٌ لِضِدِّهِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ وَالْعَقْلُ يَعْرِفُ نَفْيَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ إثْبَاتَ ضِدِّهِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ لِلْآخَرِ ]
ليس فيه إشكال إذا وصفنا الله بصفات الكمال
وكل ما نافى صفات الكمال فالله منزه عنه والله قد وصف نفسه بصفات الكمال كما في الكتاب والسنة فكل ما نافى هذه الصفات الكاملة فإنه يجب أن ينزه عنه لأن إثبات الشيء نفي لضده وهو ما يستلزمه ذلك الضد
[فَطُرُقُ الْعِلْمِ بِنَفْيِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ مُتَّسِعَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ ]
الفرق بين القصور والتقصير أن القصور معناه أن الإنسان ليس لديه علم .. فهو قاصر .. والتقصير .. يكون
( 233 )
مقصر هؤلاء عندهم قصور في العلم وعندهم تقصير أيضا في طلبه
والتقصير أشد من القصور لأن التقصير من فعل والقصور من غير فعل .. قد يكون الإنسان قاصر لا يستطيع الكمال وقد يكون يستطيع الكمال لكنه مقصر في طلبه فهؤلاء عندهم قصور وتقصير حيث الغت عقولهم ما يحب الله وما يمتنع عنه ما طلبوه من الكتاب والسنة فطلبوه من عقولهم الذين هم متناقضة كما وقع بين كثير منهم(1/92)
[الَّذِينَ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا احْتَجَّ عَلَيْهِ مَنْ نَفَاهُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْقَرَامِطَةُ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى نَفَوْا النَّفْيَ فَقَالُوا : لَا يُقَالُ لَا مَوْجُودَ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيَّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْمَوْجُودِ أَوْ الْمَعْدُومِ فَلَزِمَ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ : وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ امْتِنَاعًا ]
وقد تقدم أن هذا تشبيه لفظي امتناعي
[ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْجَمَادَاتِ : أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْأَحْيَاءِ الْكَامِلِينَ فَطُرُقُ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مُتَّسِعَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يُنْفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - النَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِثْبَاتِ إذْ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ ]
هذا قد تقدم وهو أن النفي ما نفاه الله عن نفسه فهو نفي متضمن الإثبات لأن مجرد النفي ليس مدحاً وقد قلنا
( 234 )
فيما سبق أن النفي قد يكون لكون الشيء غير قائم له كما لو قلت الجدار لا يظلم وقد يكون النفي لضعف في المنفي عنه
فالنفي المجرد ليس مدحاً والله سبحانه ليس له من الصفات الكاملة وما ليس بمدحاً .. ليس بكمال
على هذا لا يمكن أن تكون في صفات الله نفي مجرد
عندما تقرأ هذه الآية { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }يأتي بالمقول لأصله لا لأنه عاجز عن القوى ولا لأنه غير قادر فتبين لنا أنه لا يوجد في صفات الله من نفى مجرد ... والمجرد علله هنا وعلله هنا لأن مجرد لا مد ح فيه(1/93)
[كَمَالَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَالْمَعْدُومَ لَا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ]
فهمتم من كلام المؤلف أن الله تعالى لا يوجد في صفاته نفي مجرد حتى يكون هذا متضمناً للكمال وذلك لأن النفي المجرد ليس فيه نفى وليس فيه كمال .. كما سبقت الإشارة إليه
[وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَالْمَوْتُ ضِدُّ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ وَالسِّنَةُ ضِدَّ كَمَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ اللُّغُوبُ نَقْصٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ فِيهِ افْتِقَارٌ إلَى مَوْجُودٍ غَيْرِهِ ]
( 235 )
[كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْغَيْرِ وَالِاعْتِضَادَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ تَتَضَمَّنُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ وَالِاحْتِيَاجَ إلَيْهِ ]
وقد قال تُرِيدُونَ
من ظهير .. أي معين وذلك لأنه مستغني عن غيره فلا يحتاج إلى معين ولا إلى أحد يساعد على خلقه(1/94)
[وَكُلُّ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ أَوْ يُعِينُهُ عَلَى قِيَامِ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ مَنْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَالْآكِلُ وَالشَّارِبُ أَجْوَفُ وَالْمُصْمَتُ الصَّمَدُ أَكْمَلُ مِنْ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ صمدا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ وَالسَّمْعُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ نَسَبُ الرَّحْمَنِ أَوْ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ ]
لاحظ أن المؤلف قال وكل نقص تنزه عن المخلوق )) لم يقل كل ما يجب أن ينزه عنه مخلوق
مر علينا من صفات الله ما لا يجوز للمخلوق أن يتصف به مثل المتكبر
كذلك قوله هي ( نسب الرحمن ) لأن المشركين قالوا يا محمد أنسب لنا ربك من أ] قبيلة فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}
( 236 )(1/95)
[وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ : مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ ؛ إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ؛ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ . ]
إذا قال قائل هل يجوز أن نثبت لله طحالاً وكبداً ومعده وما أشبه ذالك ؟
قلنا له لا يجوز لأن هذا إنما هي للأكل والشرب أوعية الأكل والشرب والله سبحانه وتعالى لا يأكل ولا يشرب فليس بحاجة إلى هذا .. لا إلى الأكل ولا إلى الشرب ولا لغيره
بخلاف اليد فيجوز أن نثبت لله بل يجب أن نثبت لله فالله سبحانه وتعالى يفعل ويعمل
قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }
وقال تعالى { وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }(1/96)
[وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَعَنْ آلَاتِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ : هُوَ مُسْتَلْزِمٌ الضَّعْفَ وَالْعَجْزَ الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ ؛ بِخِلَافِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ : فَإِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكَمَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ وَبِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَبِالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَبِالسَّمْعِ دُونَ الصَّمَمِ وَبِالْبَصَرِ دُونَ الْعَمَى وَبِالْكَلَامِ دُونَ الْبُكْمِ : فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ وَبِالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ]
( 237 )(1/97)
[ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ مَا أَثْبَتَهُ السَّمْعُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا السَّمَوَاتِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْهَوَاءِ وَلَا الْمَاءِ وَلَا الْأَرْضِ وَلَا الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَنْفُسِهِمْ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ عَنْ مُمَاثَلَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَبْعَدُ مِنْ سَائِرِ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مُمَاثَلَتَهُ لِشَيْءِ مِنْهَا أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لِحَقِيقَةِ مَخْلُوقٍ آخَرَ فَإِنَّ الْحَقِيقَتَيْنِ إذَا تَمَاثَلَتَا : جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأُخْرَى وَوَجَبَ لَهَا مَا وَجَبَ لَهَا .(1/98)
فَيَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْعَدَمِ وَالْحَاجَةِ وَأَنْ يُثْبَتَ لِهَذَا مَا يُثْبَتُ لِذَلِكَ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْفَنَاءِ فَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنُ النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : بَصَرٌ كَبَصَرِي أَوْ يَدٌ كَيَدِي وَنَحْوِ ذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا اسْتِيفَاءَ مَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَا مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ وَاسْتِيفَاءَ طُرُقِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ السَّمْعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيه سَكَتْنَا عَنْهُ فَلَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيه . فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ وَنَسْكُتُ عَمَّا لَا نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ]
القاعدة في هذه المسألة جلية وهي أنا أنه لا يجوز الاعتماد على نفى أو أثبات صفات الله على مجرد نفى التشبيه أو الإثبات بلا تشبيه ويجوز أن نعتمد على هذه وذلك لأن كل من هاتين القاعدتين مثلاً يرد
( 238 )
عليها ما يرد " ما ذكره المؤلف
لأنك إذا قلت أعتمد على مجرد نفى التشبيه .. أدعي أحد من الذين يثبتون الصفات أنها تشبيه كما سبق(1/99)
وإذا قلت أيضاً أعتمد على مجرد نفى التشبيه .. فإنك تقول أنه ليس له حياة لأن الإنسان له حياة وليس بصر لأن الإنسان له بصر كذلك إذا اعتمدت على الإثبات بدون تشبيه يلزمك على هذا أن تثبت أن لله ـ إذا قلت أعتمد على مجرد الإثبات بدون تشبيه يلزمك أن تصفه بصفات النقص بدون تشبيه وتقول يكل لا كأكل المخلوقين وهكذا
وهذا أيضاً ممتنع والاعتماد الصحيح على ما يجب أمثاته هو أن نقول هو الكمال والنقص وقد ورد في السمع في آيات كثيرة في إثبات الكمال له وورد أيضاً ينفي النقائض عنه
ثم العقل ـ كما قال المؤلف ـ يثبت الكمال لله على سبيل الإطلاق إلا على سبيل التفضيل وينفي النقص على سبيل الإطلاق التفصيل أيضاً
ما ورد إثباته في الصفات الكمال فإنه يقول يجب نفي ضده من صفات النقص كما ورد " السمع بأنه سميع " يكفي نفي السمع .. بصير يجب بنفيه العمى
وليس في القرآن ولا في السنة بأن الله ليس بأعمى ولكن ورد بأن بصير والبصر صفة كمال وضد العمى صفة النقص إذا العمى منتفي عن الله
بدلالة العقل وبدلالة السمع
ودلالة السمع أنه قد أخبر بأنه بصير
ودلالة العقل لأن العمى نقص والله منزه عنه
( 239 )
[الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ " السَّمْعُ " يُعْلَمُ " بِالْعَقْلِ " أَيْضًا ]
السمع هو الكتاب والسنة وسمي سمعاً لأنه يسمع ليس للعقل فيه مجال بل يدرك بالسمع فيسمعه الناس لعضهم من بعض
وهذا صحيح أنه كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل فمثلاً كون الله تبارك وتعالى سميعاً بصيراً عليماً قادراً هذا دل عليه السمع ويدل عليه العقل ولهذا قال إبراهيم لأبيه بأن الأصنام لا تصلح أن تكون إلهاً بقوله
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }مريم42
فالذي لا يسمع ولا يبصر لضعفه وعجزه لا يمكن أن يعبد(1/100)
أما استواء الله على العرش دل عليه السمع ولكن لم يدل عليه العقل
إذ لو أن الله لم يخبرنا لما علمنا
كذلك العلو دل عليه السمع ودل عليه العقل لأن الرب لا ينبغي أن يكون في أسفل بل لابد أن يكون عالياً
لذلك المؤلف احترز فقال إن كثيراً مما دل عليه السمع ولم يقل ‘ن مادل عليه السمع
لأن في صفات الله ممادل عليه السمع ما لم يدل عليه العقل
نقوله كثيراً خرج به أن شيئا ممادل عليه السمع لم يدل عليه العقل
[ وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ ؛ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : بَيَّنَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ ؛ وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ هِيَ شَرْعِيَّةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ : - مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِهَا ]
( 240 )
[. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا ]
المقصود بالمطالب : ما يطلب من صفات الله تعالى من إثباتها أو نفيها فهي شرعيه من جهتين
أولاً : من جهة أن الشرع أخبر بها
فكل ما أخبر به الشرع من صفات الله فإنه شرعي بلاشك
الثاني أن بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها مثال ذالك
[وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ " أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ " وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا ](1/101)
الأمثال المضروبة هي أقيسة عقلية فمثلاً ضرب الله مثلاً بقدرة على أحياء الموتى بأنه يحي الأرض بعد موتها { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى }
فهذا قياس عقلي أي أن الأرض اليابسة ليس بها شيء فينزل عليها المطر فإذا هي رابية تزبد وتنبت ففى هذا دليل على القدرة على إحياء الموتى
فكون الشارع يرشدنا إلى الاستدلال بهذا القياس العقلي فهذا إرشاد شرعي
مثال آخر للأمثال الضروبة في القرآن
المشركين اتخذوا مع الله إلها .. وهو ممتنع لأنه نقص
قال تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ }
فهذا مثال للموحد وللمشرك فالموحد السلم لرجل والمشرك الذي فيه شركاء متشاكسون
فهنا استدل على وحدانية الله بمثل مضروب .. معنى ذالك أن هذا من الأدلة الشرعية لكنها بواسط العقل الذي أرشد الشرع إليه
قوله وهي عقليه من جهة أنها تعليم بالعقل أيضاً
ذكرنا أن سمع الله وعلمه وقدرته .. تعلم بالشرع
( 241 )
وكذلك تعلم هذه بالعقل
فتكون هذه المطالب شرعيه وعقليه
شرعية من جهة أن الشرع أخبر بها وأرشد إلى الاستدلال بالعقل عليها
وعقليه من جهة أن العقل أيضاً يدل عليها
[وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي هَذِهِ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا ( ب ) لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ مُجَرَّدُ إخْبَارِ الصَّادِقِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ النَّبِيُّ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ بِالْعَقْلِ ]
الأصول العقلية يعني ما يجب إثباتها أو نفيها عن الله لأنه يزعم أنها لا تثبت إلا بالعقل فقط
القول بأن هذا لا يعلم إلا بالعقل سيب المؤلف أن تركهم هذا خطأ هذا خطأ يبين قولهم ذلك بأنهم يقولون لأن هذه ثبتت بخبر النبي(1/102)
فصفات الله المثبتة والمنفية تثبت بأخبار الأنبياء فنحن لا نعلم أنهم أنبياء إلا بعد دلالة العقل على نبوتهم فلذلك لم يرسل الله نبياً إلا جعل له آيات يستدل بها الناس على نبوته وهذا الإسدال بالعقل
فهم يقولون هذه عقليه لأنها جاءت من طريق النبي والنبي لا يعلم أنه نبي إلا بطريق العقل وتبين هذا القول
[ ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهَا . " فَطَائِفَةٌ " تَزْعُمُ : أَنَّ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ ]
( 242 )
[وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِدُونِ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ مِمَّا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ و " طَائِفَةٌ " تَزْعُمُ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالصَّانِعِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ ، وَحُدُوثُهَا يُعْلَمُ إمَّا بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ ، وَإِمَّا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهَا فَيَجْعَلُونَ نَفْيَ أَفْعَالِ الرَّبِّ وَنَفْيَ صِفَاتِهِ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إلَّا بِهَا ]
يتنازعون بالأصول التي إثبات النبوة عليها فالاختلاف بأن طائفة تقول بتحسن العقل وتقبيحه وأن من الأصول التي يعلم بها ثبوت النبوة تحسين العقل وتقبيحه فمعنى ذلك
أن العقل مثلاً يحسن أن الله تبارك وتعالى يرسل الرسل حتى يبين للناس ويقبح أن يجعل الله الناس بدون رسل وبذلك يقولون إثبات النبوة أو إثبات صحة النبوة مبنية على تحسين العقل وتقبيحه
وطائفة أخرى تقول حدوث العالم من هذه الأصول وأن العالم بالصانع لا يمكن إلا بحدوث الجسام فنحن لا نعرف أن العالم حادث إلا بحدوث الأجسام
( نهاية الوجه الأول رقم 16 )(1/103)
بأي شيء يعرف حدوث الأجسام ؟! ما يعرف بحدوث الصفات وأما بحدوث الأفعال الناتجة بها
مثال حدوث الصفات كأن يقولون .. يكون طويلاً بعد أن كان قصيراً .. وكان ذكيا بعد أن كان بليد .. ويغضب بعد أن كان هادئاً
فحدوث الصفات في هذا الجسم تدل على أن الجسم حادث وهذه القاعدة ليست بصحيحة .. لأننا لو قلنا هذا لزم أن نقول بنفي الفرح عن الله ونفى الغضب وإلا لزم أن تقول إن الله حادث وهذا ليس بصحيح
( 243 )
مثال حدوث الأفعال كشخص ذهب إلى الصلاة فيفعل .. يذهب إلى المدرسة فيفعل فحدوث هذا الفعل أن لما قام من هذا العزم و من هذا الحدث فحدوث هذا الفعل من هذا الجسم يدل على حدوث الجسم وهذا أيضاً ليس بدليل صحيح .. لأننا لو قلنا بهذا لزم إذا قلنا أن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويستوي على العرش يلزم أن نقول أن الله تعالى حادث إذا قلنا أن حدوث الأفعال يدل على حدوث الأجسام وبذلك هم جعلوا نفى صفات الرب .. ونفى أفعال الرب من الأصول التي لا يمكن إثبات العبودية إلا بها والعياذ بالله ليس بصحيح قوله
[ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارِضُ السَّمْعِ - وَهُوَ أَصْلُهُ - فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَالسَّمْعُ : إمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ ]
لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم يعنى معناه أن الكتاب والسنة لا يقبلونه بالأمر الذي يخالف قولهم والسبب لأنهم ظنوا أن العقل عارض السمع وهو أصله فيجب تقديمه عليه قالوا أن العقل عارض السمع في هذا وهذا الأصل عندهم أن العقل هو الأصل .. وإذا كان العقل هو الأصل فالواجب تقديم الأصل فيقولون مثلاً(1/104)
إن هذه الصفات يمنعها العقل فهو معارض للجميع وإذا كان هو أصل السمع فإن الأصل يجب أن يقدم على الفرع وتنفى هذه الصفات فطريقتهم إذا إلى شيء يخالف العقل .. أما أن يؤول وأما أن يفوض
يؤول : يصرف عن ظاهره
يفوض لا يتكلم في معناه إطلاقاً ويقال هذا لا نعلم عنه شيء
( 244 )
مثال ذلك .. إستوى على العرش ... له ثلاثة معان :
معنى صحيح ... ومعنى مؤول .. ومعنى مفوض
• ... المعنى الصحيح .. أي على عليه واستقر على الوجه الذي يليق به
• ... المعنى المؤول .. أي إستولى
• ... المعنى المفوض .. لا تقول في معناه شيئاً نقرأه ولا نتكلم في معناه فيكون عندنا بمنزلة اللغة الأجنبية التي لا نعرف معناها
فالمفوضة يقولون : أن الصفات جميع آيات الصفات وأحاديثها بمنزلة اللسان الأعجمي أمام اللسان العربي ولا يعرف معناها إطلاقاً فهذا بمعنى التفويض
قوله وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم
فهم لا يقبلون الكتاب والسنة على طريقتهم مع ذلك
وهذا نحتج به على جميع النفاة .. فإن كل من نفى الصفات نستطيع أن نحتج عليهم بمثل ما احتجوا به .
[وَهَؤُلَاءِ يَضِلُّونَ مِنْ وُجُوهٍ : - ( ج ) ( مِنْهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّمْعَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ تَارَةً وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ بَيَّنَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ - الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ - مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَطَالِبُ : شَرْعِيَّةً عَقْلِيَّةً ]
يظنون هم أن السمع ما هو إلا خبر وليس مبنى على معقولات ودلائل والشيخ رحمة الله ـ يقول هذا ليس بصحيح .. بل في القرآن من الأدلة العقلية ما لا يوجد في كلام هؤلاء
مثال ذالك البعث بعد الموت .. فهل هذا ثابت بالسمع الخبري فقط؟! أو بطريق السمع الخبري والنظر العقلي ؟ !
( 245 )(1/105)
بل بالسمع الخبري .. والنظر العقلي والله سبحانه يضرب الأمثال وإنما لا مكان البعث بأنه ينزل الماء على الأرض اليابسة الهامدة فإذا هي رابية
{ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى }
كذلك ضرب الله أمثالاً معقولة للمشركين به
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً }
فهذا مثل عقلي أنهما لا يستويان
وضرب الله مثلاً أيضا بالذين يدعون من دون الله
َ{الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ }
فالذي يبسطهما في الماء فلن يصل إليه الماء لأنه لم يضمها إلى بعض ليمنع الماء من التسرب فلا يمكن أن يبقى بها ماء
فالحاصل أن في القرآن الكريم من الأدلة العقلية .. ما لا يوجد له نظير في كلام هؤلاء
[و ( مِنْهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي سَلَكُوهَا وَهُمْ مُخْطِئُونَ قَطْعًا فِي انْحِصَارِ طَرِيقِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ]
هم يقولون مثلاً أننا نعلم صدق الرسول ويعلمونه بطرق معين يعلمون بصدقه ويتركون ما سواه .. ولكن العلم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم منحصراً فيما ذكروه .. مثل أن يقولون أن الرسول جاء بأشياء تعجز البشر فهذا الطريق طريق إثبات النبوات فنحن نقول لهم لا فهو أتى بأشياء تعجز البشر تحير العقول وأنظمة بديعة تصلح الخلق
فالقرآن ليس دليلاً على رسالة الرسول .. من حيث هذا المقياس فقط بل من حيث أحكامه وحكمه وأسراره وأخباره
( 146 )(1/106)
فكون قولهم لا نعرف برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بطريق معين ولا نعلم ما يستحقه الرب إلا بطريق معين
فهذا خطأ منهم لأن الأدلة أكثر أو أوسع من المدلول فقد يكون للشيء دليل واحد فقط ..وقد يكون عليه أدلة متعددة .. تحصر أو لا تحصر
فكونهم يحصرون الدليل على النبوة بهذا الطريق المعين فهذا خطأ .. بل نعلم أن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لها طرق كثيرة بغير ما ذكروا
[و ( مِنْهَا ): ظَنُّهُمْ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكُوهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً ]
وهذا هو الواقع فهم يظنون إن ماهم عليه هو الحق وأن من سواهم على باطل
ولهذا يسمون أهل السنة الجماعة المجسمة والمشبهة يقولون .. إنهم إذا قيل لهم هذا تجسيم .. قالوا .. لا .. فنقول هذا بلا كيف .. فيزعمون أن قول أهل السنة والجماعة بلا تشبيه وبلا تكييف هو فرار من التجسيم وليس على سبيل الحقيقة
ومن المعلوم أن من سلك هذا المسلك فقد أخطأ أن من سلك بأنه على حق وما عداه فهو باطل .. فهؤلاء مخطئون لأن الحق لا يتعين بما قاله فلان أو فلان
( 247 )
[وَمِنْهَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا عَارَضُوا بِهِ السَّمْعَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَيَكُونُونَ غَالِطِينِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا وُزِنَ بِالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ وُجِدَ مَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ الْمَجْهُولَاتِ ؛ لَا مِنْ الْمَعْقُولَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ]
وقد سبق ذلك .. حيث أنهم ظنوا أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل ..(1/107)
فنقول لهم .. كل ما عارض الكتاب والسنة إذا ما وزن بالميزان الصحيح .. فإنه يكون من المجهولات .. لا من المعقولات ... هذا قول المؤلف .. وعن نقول أنه من السفاهات أيضاً .. ليس من المعقولات فإن الله يقول {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } فكل من عارض الكتاب والسنة .. وادعى أن المعقول ما ذهب إليه نقول لا .. بل ما ذهب إليه فهذا المجهول والسفه
[وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِنْ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى " مَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ ؛ كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }]
هنا .. أي قوله { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } فيها إثبات الحكم والدليل فالحكم هو علم الله .. والدليل الخلق .. فإنه لا يمكن أن يكون الخالق غير عالم بما خلق
قوله { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } .. فاعل .. أي لا يعلم الخالق مخلوقه ؟! بلى
[وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ : عَلَى أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ( عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ حَيٌّ ؛ عَلِيمٌ ؛ قَدِيرٌ ؛ مُرِيدٌ ؛ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ ؛ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ . يَثْبُتُ ( د ) بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ . يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَمُبَايَنَتُهُ ]
( 248 )(1/108)
[لَهَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا أَثْبَتَتْهُ بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ : مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ : عَبْدِ الْعَالِي الْمَكِّيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ : يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ ]
الرؤية .. إثبات أمكان غير الله هل هو اثبت بالشرع والعقل ؟! لا .. إمكانه
ثابت بالعقل .. ووجوبه ثابت بالشرع لأن الله لولا أخبرنا بأنه يرى فاعلمنا بذلك .. لكن إثبات رؤية الله ثابتة بالعقل والإمكان غير الوجود
ويمكن قول ذلك على طريقين
• ... إما نقول .. كل قائم بنفسه .. يمكن رؤيته
• ... أو نقول .. كل موجود يصح رؤيته
فالأصح .. كل قائم بنفسه تصح رؤيته
[وَقَدْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بِتَقْسِيمِ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُقَالُ : إنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ : أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ ]
فالطريقة الثانية أري أنها شبيه بالطريقة الأولى وهي إمكان الوجود .. وهي الوجود .. وغير الوجود .. إمكان الرؤيه مقيد بالوجود يقول مثلاً .. الرؤية لابد أن تكون منها وجوديه محل وصف ومحل قائم عندما نقول إنسان أعمى فإن الرؤية لا تثبت ..لأنه ليس له آلآن يتوصل إلى البصر
وعندما يكون الشيء غير قائم بنفسه لا يمكن رؤيته
( 249 )
[ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ](1/109)
فمسألة الرؤية تبين لنا أنها تثبت بالعقل إمكان وتثبت بالشرع وجوباً
.. أي إن كان وجودها ثابت بالعقل فلكن وجوب وجودها ثابت في الشرع
[وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ نُظَّارِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن : لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالْأُخْرَى ؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ ( ه ) بِالْقُدْرَةِ لَوُصِفَ بِالْعَجْزِ ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْبُكْمِ وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ . فَسَلْبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُخْرَى وَتِلْكَ صِفَةُ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْكَامِلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهَا أَوْلَى . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ غَيْرُ قَوْلِنَا إنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِأَنْفُسِهَا مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ إثْبَاتِهَا بِنَفْيِ مَا يُنَاقِضُهَا ]
بين المؤلف أن إثبات صفات الكمال له طريقتين
• ... طريقة تقول أن هذه صفة كمال فيجب إثباتها لله .. السمع صفة كمال فيجب إثباتها لله
• ... طريقة تقول
أنه يقابل السمع الصمم .. والصمم صفة نقص ينزه الله عنها وبما أن الصمم صفة نقص فيجب إثبات السمع لأن السمع صفة كمال
وهذا قد سبق بأن نفي أحد النقيضين يستلزم إثبات الآخر
( 250 )(1/110)
[وَقَدْ اعْتَرَضَ طَائِفَةٌ مِنْ النفاة عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِاعْتِرَاضِ مَشْهُورٍ لَبَّسُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ ؛ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَظُنُّ صِحَّتَهُ وَيُضَعِّفُ الْإِثْبَاتَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ حَتَّى الأمادي أَمْسَى مَعَ أَنَّهُ أَصْلُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الجهمية . فَقَالُوا : الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا : لَكَانَ مُتَّصِفًا بِمَا يُقَابِلُهَا فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ ( الْمُتَقَابِلَيْنِ . وَبَيَانُ أَقْسَامِهِمَا . ) فَنَقُولُ : ( و ) أَمَّا الْمُتَقَابِلَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ]
المتقابلان كضدين مثلاً والنقيضين لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة .. فلا يصح أن نقول أن إنساناً سميعاً أصم لكن يمكن أن نقول سميعاً في وقت .. وأصم في وقت آخر .. لكن من جهة واحدة فلا
[وَهُوَ إمَّا أَلَّا يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ : أَوْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهُوَ تَقَابُلُ التَّنَاقُضِ ؛ وَالتَّنَاقُضُ هُوَ اخْتِلَافُ الْقَضِيَّتَيْنِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ لِذَاتَيْهِمَا ؛ كَقَوْلِنَا : زَيْدٌ حَيَوَانٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِحَيَوَانِ ](1/111)
عندنا الآن قضيتان إحداها صادقة والأخرى كاذبة لا يجتمعان في الصدق ولا يجتمعان في الكذب .. زيد حيوان ... زيد ليس بحيوان .. أيهما الصادقة ؟! فإن زيد حيوان على إطلاقها ليس بصحيح .. وزيد ليس بحيوان على إطلاقه ليس بصحيح .. فهما كاذبتان سلباً وإيجاباً
ويصحان إيجاباً إذا قلت زيد حيوان ناطق .. فهنا صحت الإيجابية
وتصح السلبية إذا قلت زيد ليس بحيوان غير ناطق التقابل إذا
( 251 )
يقول المؤلف أما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق والكذب أو يصح ذلك في أحد الطرفين يعني السلب والإيجاب
[وَمِنْ خَاصَّةِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ طَرَفَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ : أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ ؛ إذْ كَوْنُ الْمَوْجُودِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَمُمْكِنًا بِنَفْسِهِ . لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ]
وهذا قد سبق حيث قسمنا الأشياء إلى أربعة أقسام
متباينان .. ومفترقان .. ومتناقضان .. ومتضادان ومتماثلان
فالناقضان فإنه لا يمكن كما قال المؤلف إذا نفى أحدهما الآن اثبت الآخر
فالصمم والسمع متناقضان إذا قلت أن الله ليس بسميع .. لزم أن تنفيه بالصمم فإذا قلت هذا فيما يقبل قلنا كونك هذا فيما يقبل
أو ما لا يقبل هذا أمر اصطلاحي ولذلك وصف الله الأصنام بأنها أوات غير أحياء وهي لا تقبل الموت والحياة على اصطلاحا
وثانياً : أن تقول أن ما لا يقبل أعظم امتناعا مما يقبل وأعظم نقصاً وسبق هذا(1/112)
[فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ : وَهُمَا " النَّقِيضَانِ مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ " فَهَذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَلَيْسَ هُمَا السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فَلَا يَصِحُّ حَصْرُ النَّقِيضَيْنِ - اللَّذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ - فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ ثَبَتَ وَصْفَانِ - شَيْئَانِ - لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ؛ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْمَوْتَ مَعْنًى وُجُودِيًّا : فَقَدْ يَقُولُ إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ ]
( 252 )
والصم والبكم ونحو ذالك
[( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقَسِيمُ يَتَدَاخَلُ ؛ فَإِنَّ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ : يَدْخُلُ فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ والمتضايفان يَدْخُلَانِ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ إنَّمَا هُمَا نَوْعٌ مِنْهُ ]
المؤلف أرد أن يحصر الأقسام الأربعة في قسمين يريد أن يجعل ما يتقابلان تقابل العدم والملكة داخلان في السلب والإيجاب .. السمع والبصر يتقابلان يتقابل العدم والملكة .. السمع والصمم متقابلان .. تقابل العدم والملكة لأنهما قد يرتفعان عن مالا يمكن أن يسمع أو يبصر من يقال أن هذا الجدار ليس سمعياً ولا أصم فهما متقابلان تقابل العدم والملكة(1/113)
شيخ الإسلام يقول يمكن أن نجعل ما يتقابلان تقابل العدم والملكة من باب النقيضين الذي هو تقابل السلب والإيجاب لأن تقابل السلب والإيجاب يعنى النفي والإثبات بالاتفاق أنهما من باب تقابل المتناقضين فالشيء إما موجود أو غير موجود كذلك أما سميع أو أصم فالجدار أن كان لا يصح أن نصفه بأنه أصم وهو في الحقيقة لابد أن يتصف بأحدهما فإن أردت بالسمع الذي هو سمع الإنسان هذا غير ممكن لأنه لا شعور له
وأن أردت بالسمع الذي هو عام فإن الله يقول {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }
هل تحدث بما لا تسمع وهي تشهد بما يحدث عليها إذن فهي تسمع ما يقال عليها وتشهد به وتبصر ما يفعل عليها وتشهد به
فأما تقابل السمع والصمم فتقابل العدم والملكة ومع ذلك أن يجعلهما تقابل السلب والإيجاب بالنسبة للخلاقين يقول شيخ الإسلام يمكن أن نجعلهما من باب المتضادين ولكنها نوع منه وسبق أن الخلافين هي الذين يجتمعان ويرتفعان لكنها ليس بواحد مثل قيام الإنسان وكونه أبيض فالبياض غير القيام يمكن أن يجتمعان ويمكن أن يرتفعان
( 253 )
يسمونه الخلافان والمتضايفان .. بقولون هما ما لا يعقل أحدهما بدون الأخر مثل إذا قلت الصبح قبل المساء هذا متضايفان لأني قلت قبل المساء .. علم أنه صحيح ..وإذا هذا ولد فلان فالولد لا يعقل إلا بإضافة الأب له فمجرد إثبات الولد لابد أن يكون له أباً وهذا حسب العادة .. لا حسب العقل وإلا فالله قد خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من غير أب(1/114)
[فَإِنْ قَالَ : أَعْنِي بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ : فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ - وَهُوَ أَنْ يُسْلَبَ عَنْ الشَّيْءِ مَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ - وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ . إلَى آخِرِهِ قِيلَ لَهُ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنَّ السَّلْبَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَلْبُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِهِ وَالثَّانِي : سَلْبُ مَا لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهِ . فَيُقَالُ : الْأَوَّلُ إثْبَاتُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ وَلَا يَجِبُ وَالثَّانِي : إثْبَاتُ مَا يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ . وَإِثْبَاتُ الْوَاجِبِ . كَقَوْلِنَا زَيْدٌ حَيَوَانٌ فَإِنَّ هَذَا إثْبَاتٌ وَاجِبٌ ، وَزَيْدٌ لَيْسَ بِحَجَرِ فَإِنَّ هَذَا سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ ]
أن يقال أن غاية هذا أن السلب يعنى النفي وينقسم إلى نوعين
• ... الأول سلب ما يمكن أتصاف الشيء به كما إذا قلنا زيد ليس بأعمى نفيا عن العمى وهو يمكن اتصافه به
• ... والثاني سلب ما لا يمكن اتصافه به مثل أن نقول أن الجدار ليس بأعمى فهذا سلب لكنه سلب شيء لا يمكن اتصافه به
كذلك قولنا زيد ليس بحجر صحيح ـ ولكنه سلب شيء ممتنع فإن ممتنع أن يكون زيد حجراً ومع ذلك صح سلبه عليه
( 254 )(1/115)
[وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - كَقَوْلِنَا الْمُثَلَّثُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ - يَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّ ( ح ) ذَلِكَ الْقِسْمَ يَخْلُو فِيهِ الْمَوْصُوفُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ عَنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - فَصِفَاتُ الرَّبِّ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ - فَإِذَا قِيلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ عَلِيمًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا أَوْ مُتَكَلِّمًا ؛ أَوْ لَا يَكُونُ : كَانَ مِثْلُ قَوْلِنَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . وَهَذَا مُتَقَابِلٌ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مِثْلُهُ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ إمْكَانُ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ : قِيلَ لَهُ هَذَا إنَّمَا اشْتَرَكَا فِيمَا أَمْكَنَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ وَيَزُولَ كَالْحَيَوَانِ ؛ فَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى : فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَهُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ضَرُورَةً ؛ فإنه لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا وَبِعَدَمِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .(1/116)
فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَيًّا وَتَارَةً مَيِّتًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً سَمِيعًا وَهَذَا يُوجِبُ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ قَطْعًا ؛ بِخِلَافِ مَنْ نَفَاهَا وَقَالَ : إنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِنَقْصِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِهَا لَا يَكُونُ نَفْيُهَا نَقْصًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا : أَنْتَ فِي تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ إنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ الطَّرَفَيْنِ : لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ وَاجِبُ الْوُجُودِ ؛ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ ؛ ( ط ) وَالْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ هُنَا مَعْلُومُ الْوُجُودِ . وَالْآخَرَ مَعْلُومُ الِامْتِنَاعِ وَإِنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ أَحَدِهِمَا صَحَّ أَنْ تَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مُمْكِنًا صَحَّ التَّقْسِيمُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا : كَانَ الْإِثْبَاتُ وَاجِبًا وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاعْتِرَاضِ ؛ لَكِنَّ غَايَتَهُ : أَنَّهُ إمَّا سَمِيعٌ وَإِمَّا لَيْسَ ]
( 255 )(1/117)
[بِسَمِيعِ وَإِمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ ؛ وَالْمُنَازِعُ يَخْتَارُ النَّفْيَ فَيُقَالُ لَهُ : عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَالْمُثْبَتُ وَاجِبٌ ؛ وَالْمَسْلُوبُ مُمْتَنِعٌ . فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَاجِبَةً لَهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لَا وَجْهَ لَهُ ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ بُطْلَانَ الِامْتِنَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ أَصْلِ الصِّفَاتِ ؛ وَقَدْ عُلِمَ فَسَادُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فِي إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبَةٌ لَهُ وَإِمَّا مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا ( ى ) لَهَا خَالِيًا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِمَنْ سَلَكَهَا مِنْ النُّظَّارِ ( الْجَوَابُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا زَيْدٌ إمَّا عَاقِلٌ وَإِمَّا غَيْرُ عَاقِلٍ ؛ وَإِمَّا عَالِمٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِعَالِمِ وَإِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ حَيٍّ وَإِمَّا نَاطِقٌ وَإِمَّا غَيْرُ نَاطِقٍ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سَلْبُ الصِّفَةِ عَنْ مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا دَاخِلًا فِي قِسْمِ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَخِلَافُ اتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِ .(1/118)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا تَتَنَاقَضُ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ صِدْقُ إحْدَاهُمَا كَذِبُ الْأُخْرَى فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ التَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهَا . وَغَايَةُ فِرَقِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا قُلْنَا : هُوَ إمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ : كَانَ إيجَابًا وَسَلْبًا وَإِذَا قُلْنَا : إمَّا بَصِيرٌ ؛ وَإِمَّا أَعْمَى : كَانَ مَلَكَةً وَعَدَمًا وَهَذِهِ مُنَازَعَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ . فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ التَّقَابُلِ : أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَإِنَّ الِاسْتِحَالَةَ ]
( 256 )(1/119)
[هُنَا مُمْكِنَةٌ كَإِمْكَانِهَا إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْعَمَى ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : التَّقْسِيمُ الْحَاصِرُ أَنْ يُقَالَ : الْمُتَقَابِلَانِ إمَّا أَنْ ( ك ) يَخْتَلِفَا بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَخْتَلِفَا بِذَلِكَ بَلْ يَكُونَانِ إيجَابِيَّيْنِ أَوْ سَلْبِيَّيْنِ . فَالْأَوَّلُ هُوَ النَّقِيضَانِ . وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُمْكِنَ خُلُوُّ الْمَحَلِّ عَنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَالْأَوَّلُ : هُمَا الضِّدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ .(1/120)
وَالثَّانِي : هُمَا فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَإِنْ كَانَا ثُبُوتِيَّيْنِ كَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالْغَيْرِ وَالْمُبَايَنَةِ وَالْمُجَانَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ وَالصَّمَمَ وَالْبُكْمَ وَالسَّمْعَ : لَيْسَ مِمَّا إذَا خَلَا الْمَوْصُوفُ عَنْهُمَا وُصِفَ بِوَصْفِ ثَالِثٍ بَيْنِهِمَا كَالْحُمْرَةِ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَفَى تَعَيَّنَ الْآخَرُ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ : الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا : : أَنْقَصُ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْبَلُ ذَلِكَ وَيَخْلُو عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْحَجَرُ وَنَحْوُهُ أَنْقَصَ مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْبَارِئُ مُنَزَّهًا عَنْ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا فَتَنْزِيهُهُ عَنْ امْتِنَاعِ قَبُولِهِ لَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى إذْ بِتَقْدِيرِ قَبُولِهِ لَهَا يَمْتَنِعُ مَنْعُ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَاتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ مُمْتَنِعٌ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ قَبُولِهِ ( ل ) لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ لَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ .(1/121)
أَنْ يُقَالَ : أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِثُبُوتِ فَإِذَا عَنَيْتُمْ بِالْإِمْكَانِ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ - هُوَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ - كَانَ هَذَا بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُلْزِمُكُمْ أَنْ تَكُونَ الْجَامِدَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا لَا حَيَّةٌ وَلَا مَيِّتَةٌ وَلَا نَاطِقَةٌ وَلَا صَامِتَةٌ وَهُوَ قَوْلُكُمْ - لَكِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ - وَأَلَّا تَصِفُوا هَذِهِ الْجَمَادَاتِ بِالْمَوْتِ وَالصَّمْتِ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ . ]
( 257 )
[ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } فَهَذَا فِي " الْأَصْنَامِ " وَهِيَ مِنْ الْجَمَادَاتِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمَوْتِ وَالْعَرَبُ تُقَسِّمُ الْأَرْضَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالْمَوَتَانِ(1/122)
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْمَوَتَانُ بِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْحَيَوَانِ يُقَالُ : اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ أَيْ اشْتَرِ الْأَرْضَ وَالدَّوْرَ ؛ وَلَا تَشْتَرِ الرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ ؛ وَقَالُوا أَيْضًا : الْمَوَاتُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا إنَّمَا يُسَمَّى مَوَاتًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ " لِلْحَيَاةِ " الَّتِي هِيَ إحْيَاءُ الْأَرْضِ : قِيلَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ أَعَمُّ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلزَّرْعِ وَالْعِمَارَةِ ؛ وَالْخَرَسُ ضِدُّ النُّطْقِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ ( م ) " لَبَنٌ أَخْرَسُ " أَيْ خَاثِرٌ لَا صَوْتَ لَهُ فِي الْإِنَاءِ " وَسَحَابَةٌ خَرْسَاءُ " لَيْسَ فِيهَا رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ " وَعَلَمٌ أَخْرَسُ " إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِي الْجَبَلِ صَوْتُ صَدًى " وَيُقَالُ : " كَتِيبَةٌ خَرْسَاءُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هِيَ الَّتِي صَمَتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الدُّرُوعِ لَيْسَ لَهُ فقاقع وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ ؛ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ إذَا تَرَكَهُ ؛ بِخِلَافِ الْخَرَسِ فَإِنَّهُ عَجْزٌ عَنْ النُّطْقِ . وَمَعَ هَذَا فَالْعَرَبُ تَقُولُ : " مَا لَهُ صَامِتٌ وَلَا نَاطِقٌ " فَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنَّاطِقُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ فَالصَّامِتُ مِنْ اللَّبَنِ : الْخَاثِرُ وَالصَّمُوتُ : الدِّرْعُ الَّتِي صَمَتَ إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ .(1/123)
وَيَقُولُونَ : دَابَّةٌ عَجْمَاءُ وَخَرْسَاءُ لِمَا لَا تَنْطِقُ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا النُّطْقُ فِي الْعَادَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } وَكَذَلِكَ فِي " الْعَمْيَاءِ " تَقُولُ الْعَرَبُ : عَمَى الْمَوْجُ يَعْمِي عما إذَا رَمَى بِالْقَذَى وَالزَّبَدِ ؛ و " الأعميان " السَّيْلُ وَالْجَمَلُ الْهَائِجُ . وَعَمَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ إذَا الْتَبَسَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ } وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إنَّهُ عَدَمٌ مَا يَقْبَلُ الْمَحَلَّ الِاتِّصَافَ بِهِ كَالصَّوْتِ ؛ وَلَكِنْ فِيهَا مَا لَا يَقْبَلُ كَمَوْتِ الْأَصْنَامِ . الثَّانِي : أَنَّ الْجَامِدَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ ]
( 258 )(1/124)
[أَنْ يَخْلُقَ فِي الْجَمَادَاتِ حَيَاةً كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً تَبْتَلِعُ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ - وَإِذَا [ كَانَ ] ( ن ) فِي إمْكَانِ الْعَادَاتِ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ - وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَائِلُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ الْجَمَادَاتُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِالْحَيَاةِ وَتَوَابِعِ الْحَيَاةِ ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْخَالِقُ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمْكَانِ وَإِنْ عَنَيْتُمْ الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ - وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ - فَهَذَا حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ اتِّصَافِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ( الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ فَإِمْكَانُ الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ يُعْلَمُ تَارَةً بِوُجُوهِ لَهُ أَوْ بِوُجُودِهِ لِنَظِيرِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ لِمَا هُوَ الشَّيْءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ : ثَابِتٌ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَمُمْكِنٌ لَهَا . فَإِمْكَانُهَا لِلْخَالِقِ تَعَالَى أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ فَإِنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ . وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ ؛ وَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً فِي حَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا(1/125)
بِأَضْدَادِهَا ( الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : مُجَرَّدُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ لِذَاتِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ عَمًى وَصَمَمًا وَبُكْمًا أَوْ لَمْ تُسَمَّ . وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَتَكَلَّمُ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ عَبَدَ مَا تَنْتَفِي فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ ؛ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ ( 88 ) إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } وَقَالَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ : { فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ }
} وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي الْعِجْلِ : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَابَلَ بَيْنَ الْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ الْآمِرِ بِالْعَدْلِ : الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . }
(259 )
الشريط السابع عشر
التوحيد في العبادات(1/126)
[وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي ( وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ ) الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا ]
قوله الأصل الثاني معطوف على قوله وفي الكتاب ـ الأصل الأول في التوحيد في الصفات الأصلان والمثلان المضروبان كلها تتعلق بالتوحيد في الصفات
فتوحيد العبادات يتضمن الإيمان بالشرع والقدر جميعاً فالشرع وما شرعه الله تعالى على السنة رسله من العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج ..
أما القدر فهو ما يقضيه الله تعالى على عبادة مما تقتضيه الحكمة حيث أن أحكام الله نوعان :
• ... حكم شرعي .. يجب على العبد الرضا به وتنفيذه
• ... حكم قدري .. تنفيذه على الله ويجب على العبد الرضا بالله تبارك وتعالى وبما يقدره عليه
[فَنَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ]
لا بد من الإيمان بهذين الأمرين :
• ... بخلق الله وهو يتعلق بالقدر
• ... وبأمره وهو الشرع
فهذا يتعلق بالقدر لأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير .. وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فكل هذا يتعلق بالقدر
( 260 )(1/127)
[وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . ]
إلى هنا انتهى كلامه على القدر فيجب علينا بالنسبة للقدر الإيمان بما يلي
• ... أولاً : عموم علم الله .. لقوله ((عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ))
• ... ثانيتاً : أن نؤمن بأن الله كتب مقادير كل شيء لقوله
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فالآية جمعت الدليل للأمرين وهما العلم والكتابة
• ... ثالثاً : أن تؤمن بأن كل ما كان فهو بمشيئة الله لقوله ((مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ )) فكل ما يوجد في الكون مما يفعله الله تعالى أو يفعله الخلق فإنه واقع بمشيئة الله
• ... أن نؤمن بأن كل شيء مخلوق لله لقوله ((وِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ )) فكل ما وقه في الكون فهو مخلوق لله سبحانه وتعالى
فجمعت في قول الشاعر
علم كتابة مولانا مشيئة *** وخلقه وهو إيجاد وتكوين
فهذه المراتب الأربع هي مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
فخلق الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فكتب كل شيء من مقادير الخلق وهذه الكتابة في اللوح المحفوظ
وثمة كتابات أخرى تكون بحسب ما تقتضيه حكمة الله .. ففي ليلة القدر
( 261 )(1/128)
تكتب مقادير السنة .. وإذا خلق الإنسان في بطن أمه ..بعث الله الملك فكتب رزقه .. وأجله وعمله .. وشقي أم سعيد
إنما الكتابة الأولى العامة الشاملة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
[. وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ كَمَالُ الذُّلِّ وَالْحُبِّ لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ]
هذه الجملة تتعلق بالشرع فتؤمن بأمر الله سبحانه وتعالى وبأن الأمر له .. والتشريع إليه وعلى هذا فتعبده .. و العبادة كما يقول المؤلف ــ رحمه الله ـ تتضمن كمال الذل والحب له .. لأن العبادة من الذل ومن القصد ففيهما حب وذل فبالحب يفعل الإنسان الأوامر وبالذل يتجنب النواهي ..لأن المحبوب مطلوب .. والمطلوب يفعل الإنسان الطرق التي توصل إليه .. والمتذلل له محذور فيهرب الإنسان من مخالفته وبهذا العبادة مبنية على هذين الأمرين
من يطع الرسول هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .. ولكن من أطاع غيره من الرسل في زمن قيام رسالته فقد أطاع الله
[وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } ]
ما أرسل من رسول إلا ليطاع حتما لا بل بإذنه سبحانه وكممن رسول أرسل ولم يطاع لأن الله لم يأذن بذلك
[وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
( 262 )
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ]
هذه نزلت في قوم أدعوا أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية
فأي إنسان يزعم أنه يحب الله فإننا ننزل قوله بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .. إذ كان متبعاً له فقوله حق .. وإن كان مخالف له فقوله باطل .. ولهذا فهؤلاء المبتدعة(1/129)
الذين يبتدعون الموالد لرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها من مناسبات
إذا قالوا نفعل ذالك محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له فنقول لهم كذبتم في هذا .. لو كان عندكم محبة وتعظيم للرسول عليه السلام للزمتم طريقة وسنة وإن كانت مسألة دعوي لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم .. ولكان المشرك يدعي أنه يحب الله تعالى ويتوسل إليه بالصنم
[وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ]
الرسول يقول له الله أسأل ؟!
ولكن هل أدرك أحد الرسول ؟! كيف يؤمر بأمر ولا يطيقه ؟!
الجواب .. أن المعنى أن كتبهم موجودة ورسالتهم موجودة وأخبارهم موجودة فا بحث وأسال من أرسلنا من قبلك ومن ذلك أحبارهم المنصفون
فسألنا هل جعل الله من دون الرحمن آلهة يعبدون ؟! لا
[{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ]
( 263 )
[وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } ]
هذه الآية وآيه أخرى في سورة الأحزاب
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }الأحزاب7
قال أهل العلم في هاتين الآيتين ذكر أولو العوم من الرسل لأن أولو العزم من الرسل خمسة الرسول .. وإبراهيم .. وموسى .. ونوح .. وعيسى فهؤلاء ألوا العزم(1/130)
[وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا ؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ }]
أولاد العلات هم الأخوة من الأم وأبوهم متفرق .. أي أن الأصل واحد والفروع مختلفة
قوله أنه ليس بيني وبينه نبي .. فيه دليل على بطلان قول المؤرخين الذين يقولون أن أناس من الجاهلية كانوا أنبياء .. مثل خالد بن سفيان وغيره ... فهؤلاء كذبوا في ذالك .. فليس بينها نبي لا من العرب ولا من غيرهم
[وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ
( 264 )(1/131)
[قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلَى قَوْلِهِ ؛ { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ عَنْ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَقَالَ عَنْ بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ]
هذه الآيات ساقها المؤلف ليبن أن الإسلام دين الأنبياء ليس دين محمد عليه الصلاة والسلام .. لكن بعد أن بعث محمد ونسخ الأديان أصبح الإسلام هو دين الرسول عليه السلام فقط
وإلا في زمن موسى .. فإن الإسلام اليهودية
وفي زمن عيسى الإسلام .. النصرانية
وفي زمن إبراهيم الإسلام دين
وهكذا فإن الإسلام دين الأنبياء خص الإسلام بالمعنى المفهوم عرفاً الآن دين محمد عليه السلام لان كل ما سواه نسخت
( 265 )
وأصبحت باطلة فلم تكن الآن إسلاماً(1/132)
فالنصارى ليسوا مسلمين اليوم ولكنهم في زمن عيسى مسلمون واليهود ليس اليوم مسلمين لكنهم في زمن موسى مسلمون
فإذا كان الإسلام دين الأنبياء فما هو الإسلام بالمعنى العام
[فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ . ]
ما هو الإسلام ؟! نقول هو الاستسلام لله وحده فمن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته ومن استسلم له ولغيره فهو مشرك في عبادته والمشرك والمستكبر عن عبادته كلاهما كافر
وهذا هو التعريف هو عام وليس يخص بعثة محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام هو الاستسلام لله وحده لكنه بعد ما بعث محمد ونسخ لنا الأديان أصبح خاصاً بما عليه الرسول عليه الصلاة والسلام
[فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ : كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ ]
تعليل الاستسلام .. أن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت فالإسلام لله في زمن موسى هو طاعته في إتباع التوراة وفي زمن عيسى طاعته بإتباع الإنجيل وفي زمن محمد طاعته في إتباع القرآن
( 266 )
والمسلمون حيث قدموا المدينة .. يصلون إلى بيت المقدس وبعد ذلك صرفوا إلى الكعبة .. فصلاتهم إلى بيت المقدس إسلام وصلاتهم إلى الكعبة بعد أن نسخ إسلام .. ولهذا(1/133)
قال تعالى { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }.. قال العلماء معنى إيمانكم إي صلاتكم إلى بيت المقدس .. فسماه الله إيماناً ..
ومع ذلك لو صلى أحد إلى بيت المقدس الآن صار مجرماً وفاعلاً لمحرم
ولو استحله أو أوجبه أصبح كافراً
[فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ]
فالدين واحد وهو الإسلام لله بهذا أو بهذا مادام أن الشرع قائم في شريعة واحدة أو شرائع .. فالإسلام طاعة الله في ذلك الدين .(1/134)
[وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ : أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
(267)
عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }
هذا يفيد بأن الرسل أولهم يبشر بآخرهم .. ويؤمن به حتى عيسى آخر الأنبياء .. قال لقوله : إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة .. ومبشراً برسول من بعد اسمه أحمد ".
ولهذا النصارى يعتبرون الآن كافرين بعيسى .. كماهم كافرون بمحمد .. لأن عيسى بشرهم بشارة خاصة .. وهل يمكن أن يبشر الإنسان بما لم ينتفع به ؟! .. وهل يمكن أن ينتفع بمحمد إلا بأتباعه(1/135)
[ وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مُتَلَازِمًا وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { تَعْمَلُونَ } ]
فالآية الأولى تدل على أن من فرق بين الرسل فهو كافر .
والآية الثانية تدل على أن من كفر ببعض شريعة النبي وآمن ببعض فهو أيضا مستحق للعقوبة ..
وعلي هذا فالإسلام لله .. هو أن يستسلم لله ظاهراً وباطناً بطاعة الله في وقت بما أمر به ذلك الوقت .
[وَقَدْ قَالَ لَنَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ
(268)
[وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }]
الأسباط في بني إسرائيل .. وقد قيل أنهم لهم أولاد يعقوب وقيل إنهم غيرهم ..
وأما قوله " ونحن له مسلمون " .. فالضمير في (له ) .. يعود على الله ونحن له أي لله مسلمون .. وفي تقديم المعمول له مسلون له .. دليل على
الحصر .. واننا لا نسلم إلا لله تبارك وتعالى ..(1/136)
وفي قوله {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ }.. دليل على أن هذا هو الإيمان .. وأنه بعد بعثة الرسول عليه السلام لا يصح الإسلام إلا على هذا الوصف
[ فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا ؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ . كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَقَالُوا : لَا نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ]
قوله .. كما ذكروا يعنى المفسرين .. فانهم ذكروا هذا .. ولكن هذا ليس له سند يعتمد عليه .. وإنما هو منقطع فالآية عامة ..
[فَإِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حِجِّ الْبَيْتِ ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ]
(269)
شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ }(1/137)
وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا ؟ " وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . ]
فصار أن نقول أنهم مسلمون .. الذين تقدموا من إتباع موسى وعيسى وغيرهما أيضا كلهم مسلمون
وقوله أن النازع لفظي .. أي لا يؤدي إلى تفرق في المعنى فالذين يقولون أنهم ليسوا مسلمين .. يعنون هذا باعتبار اليوم أما الذين يقولون أنهم مسلمون باعتبار شريعتهم
[وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ]
ورأس الإسلام مطلقاً .. يعني به الإسلام الذي بعد بعثة الرسول عليه السلام والإسلام الذي قبله
قوله واجتنبوا الطاغوت .. المراد بالطاغوت .. كل ما تجاوز به الإنسان حده من معبود أو متبوع أو مطاع فالأصنام نسميها طواغيت أو متبوع كالأخبار والرهبان المضلين .. أو مطاع كالأمراء الفسقة
( 270 )(1/138)
[وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ عَنْ الْخَلِيلِ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ]
وجعل حول هذه البراءة كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
والكلمة إنني برئ مما تعبدون إلا الذي فطرني .. هذا في المعنى على وزان قول لا إله إلا الله .. لا إله تبرء من جميع العالم .. إلا الله إثبات الألوهيه لله عز وجل
فقوله هنا (( إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ )) بمعنى لا إله إلا الله
وقوله ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ )) أي هذه البراءة من عبادة غير الله جعلها كلمة باقية في عقبه أي إبراهيم
فيدخل فيهم اليهود والنصارى لأن اليهود والنصارى من بني إسرائيل وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
[وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } وَقَالَ { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ ](1/139)
هنا إشكال وهو كيف يؤمر أن يسأل الرسل وقد ماتوا وعلى هذا أمر بما لا يستطاع ؟ فالجواب هو أن يرجع إلى أتباعهم من العلماء لأن العلماء ورثة الأنبياء
[وَذَكَرَ عَنْ رُسُلِهِ : كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
( 271 )
[{ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ ]
فقوله ( إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ) دل هذا عظم الشرك .. وهل يشمل الشرك الأصغر ويكون غير مغفور أو المراد الشرك الأكبر فنظر الآية
(إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ) لا يغفر نفي .. وأن الشرك به مؤول بمصدر .. فيغفر إشراكاً به والمعروف أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر والذي يحلف بغير الله لا يغفر له هذا إلا إذا تاب منه
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى أن أحلف بغيره صادقاً
لأن الحلف بغير الله من الكبائر .. والحلف بغيره صادقاً من الشرك وخطيئة الشرك أعظم من خطيئة الكبائر(1/140)
[وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ ، وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَالشِّرْكَ بِالْكَوَاكِبِ ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ - فَقَالَ عَنْ النَّصَارَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ ]
( 272 )
[قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } { مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }]
قول الله تعالى لعيسى هذا يكون يوم القيامة ـ والغرض منه توبيخ عباديه .. أما الله يعلم أنه ما قال لهم إلا ما أمر به ... وهذا التوبيخ .. كما في قوله تعالى {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ } {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }فالمؤدة تسئل توبيخاً لمن قتلها .. وليس هي توبيخ لأنها هي المفترى عليها .(1/141)
[وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ؟ فَبَيَّنَ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ . بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ]
هذا صحيح .. حيث أنهم إذا سئلوا عن خلق السموات والأرض قالوا الله وكذلك صحيح أنه لم يقل أحداً أن العالم فيه صانعان .. لكن المشهور أن المجوس يقولون أن العالم صانعين .. أو خالقين .. لكنهم .. لا يرون أن
هذين الخالقين متكافئين في الصفات والأفعال .. بل يقولون أن النور فضل من الظلمة .. لأن الخالقين عندهم هما النور والظلمة
ولذلك النور يخلق الخير والظلمة تخلق الشر .
قوله ((بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ))
هنا إشكال في تصور المجمل حيث أن فرعون يقول لقومه(( فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ ))
( 273 )
غَيْرِي .أَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ )) فكيف يكون كلام المؤلف صحيح ؟! وقد ذكر عن فرعون ذلك(1/142)
الجواب .. تقول إن فرعون في قرارة نفسه لا يرى ما يقول ولهذا قال له موسى ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ )) فهنا قال موسى لقد علمت يخاطب فرعون .ز بعد ذلك سكت لم ينكر
كذلك يقول الله عنهم (جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ )
من هذا نرى أنه لا يمكن أن يستقر على هذا القول ..أن للعالم خالقين متساويين في الصفات والأفعال .. لا يمكن أبداً
بل ولا يمكن لأي عاقل أن يقر له قدم أنه لا خالق للخلق أبداً حتى الشيوعيه الآن لا شك أن العائل منهم يدر بأن للعالم خالق لكنهم مثل فرعون لا يقرون
[بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ : مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ بَلْ عَامَّتُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا ؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : " لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ " ]
أنظر التناقض .. لا شريك إلا شريك هو لك ..إذا كان له كيف يكون له شريك فهل يكون المملوك شريكاً للمالك ولهذا يقول الله تعالى ((ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء)) أي أن عبيد فهل عبيده يشاركونه في ملكه ؟! لا فالجواب على تسأل الآية لا
[" فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ : " { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك } ]
( 274 )(1/143)
[ وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ : مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الثنوية الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ " النُّورِ " و " الظُّلْمَةِ " وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ ، وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتْ الشَّرّ ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إلَّا الشَّرَّ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولَاتِهَا عَنْ النُّورِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } إلَى قَوْلِهِ { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ(1/144)
إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } ]
لذا لم يتخذ ولداً ؟! لكمال غناه عن الولد لأنه ليس كمثله شيء كذالك لا شبيه له والولد فرض أن له ولداً لكان شبيها له وهذا لا يمكن لأن الله منزه عن ذالك
فالأول : ما أتخذ الله من ولد
والثاني : وما كان معه من إله فمن حرف جر زائد من حيث الإعراب من حيث المعنى للتوكيد بمعنى وما كان من إله .. ( إذا ) هذا التنوين
( 275 )
عوض عن جملة تقديرها .. إذ لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق فلو كان معه إله لوجوب أو للزم أن ينفرد كل إله بما خلق فيكون للعالم بذلك خالقين ينفرد بما خلق
ولكن نحن نشاهد أن الكون شيء واحد فيه ليس فيه تناقض ولا تناسب ولا يصادم بعضه بعضا .. ولا يخالف بعضه بعضا مما يدل دلالة قطعية على مدبر واحد فلو كان غير ذلك لكان كل ملك له مملكة واحد خاصة به لا يدخل عليه الأخر
والأمر الثاني مما يدل على الامتناع ولعلا بعضهم على بعض وهذا أيضا ضروري أن يعلوا بعضهم على وإذا حدث ذالك فمن يكون إلها ؟! ويستحق أن يكون إله ؟! الجواب هو الذي يستحق أن يكون إلها ويتفرد بالإلوهية
وإن عجز بعضهم أن يعلو بعض صار الجميع غير صالح بالإلوهية لأن الإله لا يكون عاجز(1/145)
[وَقَالَ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ : يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ : غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ( ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ ) . فَيَقُولُونَ : هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ " وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى قَدْ يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ ]
( 276 )
يقولون هو واحد في ذاته لا قسيم له .. معنى ذالك أنه لا ينقسم واحد في ذاته فلا يمكن أن ينقسم
واحد في صفاته لا شبيه له في صفاته فصفاته تختص به
واحد في أفعاله لا شريك له فأفعاله لا يشاركه أحداً فيها فهو الذي يخلق السموات والأرض وهو الذي يحي ويميت ويعز ويذل فهذا الكلام إذا قرأته تظنه غاية التوحيد
فهم يقولون
هل الله ينقسم ؟! لا لا يمكن
هل الله له مشابه في صفاته ؟! لا فهو واحد في صفاته
هل الله له مشارك في أفعاله ؟! لا إذن الله واحد
هذا هو التوحيد عندهم
لكن نقول بقي علينا توحيد آخر ... التوحيد الذي بعث به الرسل
فانهم لم يقولوه وهو أن الله واحد في الإلوهية لأن توحيد الإلوهية ساقط على رأي هؤلاء(1/146)
فأشهر الأنواع الثلاثة هو توحيد الأفعال عندهم في كتب التوحيد أما عندنا أهل السنة والجماعة فالتوحيد ثلاثة أقسام
• ... توحيد الربوبية وهو توحيد الأفعال
• ... توحيد الألوهية .. وهو توحيد العبادة أي توحيد الله بأفعالك
• ... توحيد الأسماء والصفات وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته
هم بذلك أتوا بقسم ثالث لا حاجة له وهو قولهم واحد لا قسم له معنى ذلك معلوم بأن الله عز وجل إله واحد وكلمة قسيم لم تأت في الشرع
فنقول هو واحد في صفاته لا شبيه له ولا شريك له فيها أيضا وبأفعاله لا شريك له .. وبألوهية لا شريك له
[وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا : لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا وَهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ ]
( 277 )
أي مع كونهم يقرون بأن الله هو الخالق وحده ويقولون بقدرة الله وأن الذي بيده ملكوت كل شيء مع هذا هم مشركون
وتبين أن هذا التوحيد الذي سلكه هؤلاء النفاة أهل الكلام أنه توحيد قاصر لأنهم أسقطوا ركن من أهم أركان التوحيد وهو توحيد الله في الوهية في العبادة بمعنى أن لا نعبد سواه
[فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ ؛ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُمْ خَلَقُوا أَفْعَالَهُمْ ](1/147)
قوله في أصل هذا الشرك يعني أنه ليس في العالم من يقول هذا ليس بشرك ... والمراد بالشرك هنا شرك الأفعال فكل العالم متفقون على أن الله سبحانه واحد في أفعاله وأنه ليس مع الله شريك مسوي له في هذا ولكن القدرية جعلوا الموجودات خلق لغير الله .. والمراد بالقدرية هنا الذين
يثبتون القدر أو ينفونه المراد هنا الذين ينفون القدر لأن الذين يثبتون القدر نوعان معتدلون ... وغالون
المعتدلون ... أهل السنة والجماعة
الغالون .. الجبرية الذين يقولون إن الإنسان مجبر .. قابلهم في ذالك القدرية الذين ينكرون قدرة الله في أفعال العباد ويقولون أن أفعال الإنسان ليست مخلوقة لله شيء خلقها إذا ؟ ! خلقها الإنسان
لكن مع ذالك فهم يقولون نفس الإنسان الذي خلق هذه الأفعال مخلوق لله عز و جل قدرته مخلوقه لله
وفي الحقيقة أن خالق أصل خالق للفرع فما دام أن الإنسان نفسه مخلوق لله .. وقدرته لله .. إذن فالأفعال الناتجة عنه وعن قدرته مخلوقه
( 278 )
لله ولكن هم ينكرون ذلك
[وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالطَّبْعِ وَالنُّجُومِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُبْدِعَةٌ لِبَعْضِ الْأُمُورِ هُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلَاتِ مَصْنُوعَةً مَخْلُوقَةً لَا يَقُولُونَ إنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْخَالِقِ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَاكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَ فِرْعَوْنُ ]
أهل الفلسفة والطبع .. الطبع ..هم الذين يجعلون الأمور تتفاعل بطبائعها .. وكذلك أصحاب النجوم .. الذين يجعلون النجوم لها تأثير في الخلق فيقولون هذا النجم يأتي بالمطر وهذا النجم إذاولد فيه الإنسان يكون سعيداً وما أشبه ذالك
هؤلاء أصحاب النجوم يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور مثلاً يجعلون الطبيعة تتفاعل .. وبعضها ينشيء بعضا(1/148)
ومع ذلك يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة .. لا يقولون أنها غنية عن الخالق .ز مشاركة له في الخلق
وكأن المؤلف ــ رحمه الله ــ يريد أن يجيب عن أشياء فيه شبهة وخلاصة الشبهة أنه لا يوجد من يقول أن للعالم خالقين متساويين
أما من أنكر الصانع فهذا في الحقيقة غير مشرك لأنه جاحد قال تعالى ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ )) فهذا في الأصل لم يثبت خالق .. يقول عن نفسه أنا ربكم الأعلى ولم يقل أنا والله سواء
وهذا أيضا قدرة المؤلف سؤالاً وأجاب عنه كأنه قيل فرعون أنكر الخالق .. قال نعم .. و لكن لم تجعله شريك بل أنكر الخالق إطلاقاً وقال ما علمت لكم من إله غيري
[وَالْكَلَامُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ فَإِنَّ
( 279 )
[هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي قَرَّرُوهُ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ]
نقول يا أهل الكلام توحيدكم هذا الذي زعمتم أنه هو التوحيد ما هو .. أنه واحد في ذاته لا قسيم له ... وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له
نقول هذا التوحيد هو توحيد المشركين فإنه لا يوجد أحد من المشركين
قال أن الله قسيم .. ولا أن الله له شبيه في صفاته ولا أن الله له شريك في أفعاله يقولون الله ليقولن الله(1/149)
[وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّانِي " - وَهُوَ قَوْلُهُمْ : لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ - فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ مَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ قَالَ إنَّهُ يُشَارِكُهُ . أَوْ قَالَ : إنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ ؛ بَلْ مَنْ شَبَّهَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّمَا يُشَبِّهُهُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ]
هذا تقدم .. فلو قلنا أن لله تعالى مشابه يشاركه فيما يجب ويجوز ويمتنع .. لزم الجمع بين النقيضين ضرورة لكان الخالق واجب الوجود والمخلوق واجب الوجود فهذا جمع بين النقيضين
أو كان الخالق واجب الوجود والمخلوق جائز الوجود فمستحيل أن يكون الإنسان واجب الوجود بنفسه ...لأنه .. واجب الوجود لا بد أن يقابله جائز الوجود
( نهاية الوجه الثاني رقم 17 )
(280 )
الشريط الثامن عشر
قال المؤلف رحمه الله [ وَعُلِمَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ]
إن كل موجودين قائمين بإنفسهما فلا بد فيها من قدر مشترك ، ( القدر المشترك هو كإتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس ) فهما إشتركا في الوجود لأنهما موجودين لكن لا يلزم في الوجود إشتراكهما فيه ، فقد يكون هذا موجداً واجب الوجود والثاني موجوداُ جائز الوجود .(1/150)
إشتركا إيضاً بالقيام بالنفس فكل منهما قائم بنفسه لكن بينهما فرق أحدهما قائم بنفسه أستقلالاً والثاني قائم بنفسه بإقامة غيره له .
والذات اي كل موجودين قائمين بنفسهما كل منهما ذات .
إذاً لابد بضرورة العقل من تساوي كل شيئين موجودين في الأصل المشترك بينهما وهو الوجود والقيام باالنفس والذات وكإتفاق لصفات وما أشبه ذلك
(فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ )
[ ثُمَّ إنَّ الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَدْرَجُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَصَارَ مَنْ قَالَ : إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُشَبَّهٌ لَيْسَ بِمُوَحَّدٍ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَقَالُوا : مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ : فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ ]
يقولون نفي الصفات من توحيد الله ، ولا يتم التوحيد إلا بنفي لصفات لأنه مر علينا مقالة الجهمية والمعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه ، والتشبيه تشريف بين الخالق والمخلوق في هذه
(281)
الصفة ، فليزم على قولهم أن من شرط التوحيد نفي الصفات ولذلك هم قالوا نحن أهل التوحيد ، نحن الذين وجدنا الله .
وأنتم إذا قلتم أن الله علماً معناه أثبتم مع الله شيئاً ، وإذا قلتم أن الله قدره أثبتم أن مع الله شيئاً وهو القدرة ، وهذا ليس يتوحيد .
ولذلك يقول كذلك إذا قال إن الله يرى في الآخرة كمال التوحيد لأن الإنسان يرى ، فقد جعلت لله تعالى شريكاً بالرؤيه وهكذا وقد تقدم أن هذا أمراً ليس بصحيح وأنه لا يلزم التشبيه .(1/151)
تقدم أن المؤلف رحمه الله قال ( إنه لا يوجد في مقالات أحد من الناس إثبات خالقين للعالم متساويين في جميع الصفات ) وسبق أنه يقول ( إن النضار من المتكلمين وغيرهم يرون أن التوحيد هو أولاً أن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له بمعنى أنه لا ينقص ، وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له ، ويرون أن هذا هو غاية التوحيد ، وقال المؤلف إن أشهر أنواع التوحيد عندهم هو النوع الثالث وهو أنه واحد في أفعاله لا شريك له .
وبين المؤلف رحمه الله أنه لم يقل أحد من الخلق أن الله تعالي له مشارك في أفعاله مساوٍ له من كل وجه أبداً ، وأن هذا التوحيد الذي قالوه هو التوحيد الذي قاله المشركون على حد سواء ، فإن المشركين واحد في أفعاله لا شريك له ، بل هم يقولون أي المشركون أن الله واحد في أفعاله لا شريك له ، وبينا أن هذه الأنواع الثلاثه عندهم قد تنقص نوع مهم وهو توحيد الأولوهيه لأنهم لم يقولوا واحد في الأولوهيه لا شريك له ، وإنما معنى الإله عندهم هو القادر على الأختراع فيجعلون الإله بمعنى آله ، والحقيقة أن آله بمعنى مألوه وليس بمعنى آله ،
أي معبود كما سيذكر المؤلف فيما بعد ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن هذا التوحيد بجميع أنواعه فيه نقص سيأتي أن قولهم واحد في ذاته لا قسيم له ، إنهم يريدون بذلك نفي الصفات الخبريه بإن الله ليس له يدو ولا وجه ولا عين ولا رجل .
(282)
وما اشبه ذلك ، يقولون لو كان له هكذا لكان له قسيم وكان يتجزأ ويتقسم من أقسام وأجزاء ، فجعلوا هذا التوحيد يتضمن إنكار الصفات التي وصف الله بها نفسه ، كذلك واحد في صفاته لا شبيه له ، هذا أيضاً قالوا لأن كلمة لا شبيه له المعتزله ، ينكرون الصفات ويقولون إن هذا توحيد لأننا لو أثبتنا الصفات لشبهنا الله بخلقه والله تعالى واحد في صفاته لا شبيه له .(1/152)
فتبين أيضاً أن هذا التوحيد مجمل فيه حق وباطل لأنهم لو أرادوا لا شبيه مطلق المشابهه فهذا ليس بصحيح ، فكما قال المؤلف ( ما من موجدين إلا وبينهما إشتراك في مطلق الصفه كالوجود والذات والقيام بالنفس وما أشبه ذلك )
وأنهم لو أرادوا لا شبيه له المشابهه المطلقه هذا أيضاً خطأ لأنه ما من أحد يقول أن الله تعالى له شبيه مشابهه مطلقه فتبين أيضاً أن هذا التعريف بالتوحيد ناقص .
واحد في أفعاله لا شريك له ، يقول المؤلف ( ما من أحد يقول أن الله مشارك في أفعاله مساوٍ له من كل وجه أبداً حتى القدرية الذين يقولون أن العبد يخلق فعله وأن الله ما خلق فعل العبد لا يرون أن العبد مستقل ومشارك يرون أن الله خالق للعبد وخالق لقدرته التي مكنته من الفعل .
سننا قسن هذا الكلام أو هذا التوحيد الذي زعم النظار أنه هو التوحيد ، وبيان أن هذه الكلمات الرنانه التي من سمعها قال هذا هو الغاية ، فعليها مؤاخذات ، كما أنه ناقص هذا التعريف أيضاً ناقص من جهة أنهم اسقطوا توحيد الإلهيه
والكتاب هذا يتضمن أمرين توحيد الصفات وقد ثبت ، والثاني توحيد العباد وهذا هو الأصل الثاني ، والمؤلف رحمه الله يناقشهم مناقشة دقيقة ، والكلام المقبل الآن في تقرير أبطال هذا التوحيد ثم الأتيان بتوحيد الألوهية .
[ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى
(283)(1/153)
وَقَالُوا : مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ : فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْغُلَاةِ وَقَالُوا : لَا يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْبِيهًا لَهُ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَقَعُوا مِنْ جِنْسِ التَّشْبِيهِ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِهِمْ - بِزَعْمِهِمْ - لَهُ بِالْأَحْيَاءِ ]
حتى الأشاعرة الذين أنكروا بعض الصفات يقولون : إن نفي الصفات التي نفيناها هو توحيد ، ثم الذين أنكروا الصفات وأثبتوا الأسماء مثل الجهمية ةالمعتزلة يقولون : أن نفي الصفات وأثبات الأسماء توحيد ، ثم الذين أنكروا حتى الأسماء مثل غلاة الفلاسفة والقرامطة وما شابههم يقولون : أن نفينا للأسماء والصفات توحيد ,
ثم غلاة الغلاة الذين أنكروا وصفه بالأثبات والنفي يقولون : أن هذا هو التوحيد ، لأن إثبات ذلك تشبيه والتشبيه ينافي التوحيد لأنه واحد في صفاته ، لاشبيه له ، وقولهم أنه واحد في صفاته لا شبيه له : على إجماله فيه حق وباطل ورد ونقاش عليهم المؤلف برد قوي جداً ، وهذا الذي يجب أن نتصف به ، لأننا إذا سمعنا أقسام هذا التوحيد عند هؤلاء النظار نظن أن هذا هو قمة التوحيد .
لكن عندما نتاقش ونعرف ما يريد هؤلاء الغرف المقصود .
فالحاصل أنه يجب علينا أن نعرف كيف نبطل هذا والتعريف بالتوحيد عند هؤلاء النظار .(1/154)
[ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ لَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى حَدٍّ مَا يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الذَّاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لِلذَّوَاتِ : لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الجهمية الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هَذَا تَوْحِيدًا ؛ وَيَجْعَلُونَ مُقَابِلَ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُهُمْ : هُوَ وَاحِدٌ
( 284)
هُوَ وَاحِدٌ لَا قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ لَا جُزْءَ لَهُ أَوْ لَا بَعْضَ لَهُ ؛ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَرَّقَ أَوْ يَتَجَزَّأَ أَوْ يَكُونَ قَدْ رُكِّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ ؛ لَكِنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيِهِ وَتَعْطِيلِهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ ]
وفي قوله ( ويجعلون تقابل ذلك التشبيه ) الأصح أن يقول : ويجعلون نقابل ذلك تشبيهاً ، كذلك أيضاً ينكرون اليد والوجه والعين بحجة أن هذه أجزاء وأن التوحيد هو أن توحد الله في ذاته فنقول لا قسيم له ويجعلون هذا من التقسيم ، فصاروا في الحقيقة يريدون بهذه الكلمات المجملة معنى باطلاً ويجب أن نلاحظ أنهم يدسون السم في الدسم ,(1/155)
يقولون مثلاً ( هذا ليس من الشرح بل من التمثيل ) سبحان من تنزه عن الفحشاء فمن يسمع بهذا الكلام يقول إنه كلام طيب ، ولكن هم يريدون بهذا القول أن فعال العباد ليست مخلوقه لله لأن أفعال العباد تتضمن الفحشاء ، ويقولون سبحان من تنزه عن الأبعاض والأعراض والأغراض ، فهذه كلمات مجمله وجيده من القائل ، ولكن يريدون بمعنى سبحانه من تنزه عن الأبعاض يعني أنه ليس له وجه ولا يد ولا عين والأعراض يعني ما يغضب ولا يحب ولا يرضى ولا يكره لأن هذه أعراض أي صفات عرضيه ,
والأغراض يعني الحكمة أن الله ليس بحكيم فمن يسمع هذه الكلمات يقول انها طيبة .
وعندما قرأنا التوحيد بأقسامه قلنا انه به نقص وهو توحيد الألوهية وقد تبين الآن أنه كله نقص ، لأنهم يريدون بهذا اللفظ مجمل معاني باطله ويجب ان نلاحظ ما يترتب أو ما يعارض به كل واحد من هذه الأقسام الثلاثه لأن هذا مهم جداً .
[ ِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا : فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَقًّا ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(285)
بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ]
يعني لو قدر أنهم أرادوا بظاهره معناه الحقيقه مع أنهم لا يريدون هذا لكن لو أرادوا المعنى الحقيقي المتبادر من هذا اللفظ هو حق فإن المشركين إذا أقروه بهذه الأشياء فلا يكونوا موجدين ، وينقصهم توحيد الألوهيه ,
فهذا التعريف بالتوحيد الذي زعمه المناظرون انه غاية التوحيد عليه مناقشات :
أولاً : من جهة تصوره حيث اسقط توحيد الأولهيه وعلى هذا فليس بصالح إطلاقاً .(1/156)
ثانياً : من جهة جماله حيث أ هذا الكلام الذي قالوه يدخل فيه أشياءهم أنكروها والله تعالى أثبتها ، فالمناقشة إذا قيل لك ناقش هذه العبارة من جميع الوجوه نناقشها .
أولاً : من حيث معناها الذي فيه حق وباطل .
ونناقشها أيضاً من حيث قصورها حيث سقط منها توحيد الألوهية حتى لو قدر أن هذه الكلمات الثلاث حق فإنه قد سقط منها توحيد الألوهيه الذي قائل الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين عليه .
[ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ( بِالْإِلَهِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يُعْبَدَ فَهُوَ إلَهٌ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ ؛ لَا إلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ ؛ وَالتَّوْحِيدُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَرِّرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ ؛ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ هَذَا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ ]
إذاً ليس ما يقرره هؤلاء هو التوحيد ما دام أن المشركين يقرون ويقررونه أيضاً كما قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله )
(286)
ومع ذلك فهم مشركون فدل هذا على ان ما ذكره ليس بتوحيد عند الله .(1/157)
[ وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ : غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ شُهُودُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ لَا سِيَّمَا إذَا غَابَ الْعَارِفُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وَجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَدَخَلَ فِي فَنَاءِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا ]
العارفون هم شيوخ الصوفيه يقولون الذين عرفوا الله فهؤلاء عندهم فناء في التوحيد ، في توحيد الربوبية بمعنى انه يشهد ان الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ، لكنه يغيب بموجوده عن وجوده وبمشوره عن شهوره ، وبمعروفه عن معرفته ، يعني عندما يفكر هو بزعمه في الله يغيب حتى عن نفسه فهو يغيب بموجوده عن وجوده ، فموجوده الله وعن وجوده أي عن كل الوجود ، ويصير ينسى كل شيء حتى نفسه وهذه حاله قد ترد للإنسان مع قوة الإرادة والرغبه والمحبه لكنها قاصرة في الحقيقة لأنه إذا غاب بموجوده عن وجوده صار كأنه التزم لا تعمل بنيته ، ويغيب حتى عن عبادته ما يدري ماذا يصنع في عبادته لأنه مثل مالو قلنا إن الإنسان إذا لاقاه صديق له يحبه حباص شديداً لأول مره تجد أنه يندهش وينسى كل شيء كأن لا شيء أمامه إلا هذا الإنسان ، وربما يتصرف من شدة الفرح تصرفاً غير لائق لأنه ذهب فكره وقلبه لهذا الوارد .
هؤلاء يغيبون بمعبودهم عن عبادتهم حتى عن العبادة فلا يدري هو هل هو يصلى او يركع او يسجد أو يسبح أو يقرأ .(1/158)
يغيب عن هذا لأن ما في قلبه مشاهد إلا المعبود ، فيغيب عن نفسه وعن فعله فيرون أن هذا غاية الكمال ، والصواب أنها ليست غاية الكمال بل هذا نقص فالرسول صلى الله عليه وسلم لاشك أنه أكمل العابدين وأول العابدين ، فهل غاب بمعبوده عن عبادته !؟ أبداً بل كان
( 287)
يوجز في الصلاة لأنه يسمع بكاء الطفل مخافة أن تفتتن أمه ، وكان صلى الله عليه وسلم يرى اصحابه من وراءه ويراهم إذا تأخروا في الصفوف ، وكان يصبر للحسن وهو ساجد وراكب على ظهره ,
فهل غاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمعبوده عن عبادته ؟!
طبعاً لا فهل هؤلاء أكمل من الرسول !؟ لا بلا شك .
فالغاية الحقيقة أن يكون الإنسان متزناً قائماً بهذا وبهذا ، يعبد الله حقاً لكنه لا يغيب بمعبوده عن عبادته ، ولا بموجوده عن وجوده . ولا بمعروفه عن معرفته ، والمعروف هنا الله سبحانه وتعالى اي يغيب بالمعروف عن معرفته حتى كأنه لا يعرف شيئاً ولا كأن شيئاً أمامه من الدنيا ، كل هذا في الحقيقة وأن كانوا يعدونها كمالاً فهى في الواقع نقصاً بلا شك .
وهنا ملاحظة على كلمة موجود وهي أنه ليس من أسماء الله موجود ولا يجوز وصفها له أبداً بل هو منكر .
ولكن يصح أن تخبر بأن الله موجود ولكن لا تسمى الله بإنه موجود فالموجود أسم مطلق يشمل الناقص والكامل والخبيث والطيب ، وما كان منقسماً لا يمكن إطلاقه على الله سبحانه وتعالى , لكن هذه من العبارات المبتدعه التي يجب النهي عنها وإنكارها .
وقولهم ( يفنى من لم يكن ) فكل شيء سوى الله لم يكن وأيضاً قولهم ( يبقى من لم يزل ) أي الله عز وجل .(1/159)
[ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّوْحِيدِ مُسْلِمًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ مِنْ سَادَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ : يُقَرِّرُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَيَفْنَوْنَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ إثْبَاتِ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِ الْمُبَايِنِ لِمَخْلُوقَاتِهِ ، وَآخَرُونَ يَضُمُّونَ هَذَا إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ فَيَدْخُلُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَعَ هَذَا ، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينٍَ]
نعم لأن بعض المشركين يقرون بالصفات وينكرون البعض ، وهؤلاء ينكرون جميع الصفات ، فما رأيكم في توحيد يكون كثير من المشركين خيرا منه ؟! .
(288)
[ وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ لَكِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ : فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّ جَهْمًا وَمَنْ اتَّبَعَهُ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ ؛ فَيَضْعُفُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عِنْدَهُ ]
معلوم أن الجهمية يقولون بالجبر ومعناه أن الإنسان على عمله ، اي ماله إرادة ولا أختيار ، ويقولون لأن هذا فيه تعظيم للأمر والنهي لكنه يقول بالإرجاء والقول بالإرجاء يضعف الأمر والنهي ,
ومعنى الإرجاء أن الطاعات ليست داخله في الإيمان وأن الإيمان هو الأقرار بالقلب ، وعلى هذا فالأعمال لا تدخل في الإيمان ، فلا ينقص الإيمان معصيه ولا يزيده طاعه ، يقول أفجر الناس واتقى الناس في الإيمان سواء .
ولذلك عند جهم ومن تابعه :(1/160)
الزاني والسارق وشارب الخمر وللائط ، كل هؤلاء ليسوا فساقاً ، بل هؤلاء مؤمنون كاملوا الإيمان ، فإيمانهم مثل إيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الإنسان يعتقد هذه العقيده فهل يضعف الأمر والنهي في حقه ؟ بمعنى هل يتهاون بالأمر والنهي أم لا ؟ طبعاً يتهاون، إذا كان يقول أنه مؤمن كامل الإيمان لو زنا وسرق وفعل كل الفواحش ، فيكون الأمر والنهي لديه ضعيف بلا شك ولذلك يقول المؤلف إن الإرجاء يضعف الأمر والنهي والعقاب والثواب ، وعنده الزاني والسارق وقاتل النفس وما أشبه ذلك لا يدخلون النار لأن عنده هذا ماله تعلق بالإيمان ، وكل مؤمن فهو بالجنة ، وعلى هذا فكل من عمل هذه الكبائر فإنها لا تنقص إيمانه ولا تحول بينه وبين دخول الجنة بدون أن يدخل النار .
فحقيقة مذهب جهم الذي هو الإرجاء أنه يصلح لفساق هذا الزمان فيقولون ما دام أننا إذا سرقنا وشربنا الخمر ,,, فإننا مؤمنون كاملي الإيمان فنفعل ذلك ونرفع شعارات الإيمان ، وهذا قول من أبطل الأقوال .
يقولون أن الجهمية فيهم ثلاث جيمات هي الجهم _ الجبر _ الإرجاء
(289)
بئس الجيمات الثلاث ، فغلاة المرجئه هم الجهمية ، وإلا فيه مرجئة آخرون أقل منهم وجه وأشد من وجه آخر .
[ والنجارية والضرارية وَغَيْرُهُمْ : يَقْرَبُونَ مِنْ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ .(1/161)
والكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةُ : خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ ، وَأَئِمَّتُهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فُصِّلَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ . والكلابية هُمْ أَتْبَاعُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي سَلَكَ الْأَشْعَرِيُّ خُطَّتَهُ وَأَصْحَابُ ابْنُ كِلَابٍ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَنَحْوِهِمَا . خَيْرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا وَهَذَا فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ ]
بالنسبة للتكفير لا نحكم بكفرهم لأننا الآن ما نتكلم بمسألة التكفير ولكن نتكلم عن مقالاتهم ، لأن مسألة التكفير مسألة دقيقة جداً ولا تعنينا .
ولا نستطيع أن نحكم حكماً عاماً ، لأن بعضهم أقرب إلى أهل السنة والجماعة باب وأبعد في باب آخر .
فمثلاً الأشاعرة بالصفات لا شك أنهم أفضل من المعتزله لأهل السنة والجماعة ، فلا يمكن أن نفضل بعض على بعض على سبيل الإطلاق ، نقول إنه الصفات أقربهم الأشعرية بل الماتوريديه أقرب منهم
[ والكرامية قَوْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ حَيْثُ جَعَلُوا الْإِيمَانَ قَوْلَ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَيَجْعَلُونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا ؛ لَكِنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فَخَالَفُوا الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ فَهُمْ أَشْبَهُ مِنْ أَكْثَرِ
( 290)(1/162)
طَوَائِفِ الْكَلَامِ الَّتِي فِي أَقْوَالِهَا مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ ]
فمنها من قبل طائفة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد الأعتقاد بالقلب والثاني او الطائفة الثانية الكرامية يقولون الإيمان قول باللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب وعلى رأي هؤلاء لا يكون المنافقون مؤمنين لكن مع ذلك يقولون المنافقين فمدي مخلدين في النار وأهل السنة والجماعة يقولون : الإيمان هو أقرار القلب وقول اللسان وعمل الإركان .
[ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُقَارِبُونَ قَوْلَ جَهْمٍ لَكِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقَدَرَ ؛ فَهُمْ وَإِنْ عَظَّمُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ؛ وَغَلَوْا فِيهِ ؛ فَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ فَفِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ خَيْرٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ]
الفرق بين المعتزلة والجهمية والموافقه : يوافق الجهمية المعتزلة في نفي الصفات ، والمؤلف يقول ( يقاربون قول جهم ) لأن جهماً ينكر جميع الصفات بدون تفصيل ، واولئك يثبتون ثلاث صفات وهي :
الحياة والعلم والقدرة وإن كانوا يفسرونها بغير تفسير أهل السنة والجماعة فهم في الصفات مثل الجهمية او متقاربون لهم وفي باب الإرجاء المعتزلة على العكس من الجهمية لأن الجهمية يقولون بالإرجاء والمعتزلة على العكس يقولون : في المنزلة بين المنزلتين مثال ذلك :(1/163)
مثلاً فاعل الكبيرة عند الجهمية مؤمن كامل الإيمان وعند المعتزله ليس بمؤمن ولا كافر لكنه مخلد في النار وهو في منزلة بين المنزلتين ، فالفرق بينهم واضح وفي باب القدر أن المعتزلة على العكس من الجهمية تماماً لأن المعتزلة ينكرون القدر والجهمية يثبتون مع المغالاة فيثبتون الجبر وفرق بين الإنسان الذي يقول أن العبد يفعل فعله بلإختياره وإرادته وليس لله فيه إرادة ولا أختبار ، وبين الذي يقول : أن العبد يفعل بدون إختياره ولا إرادته وهو مجبر على فعله لأن ذلك تقدير الله .
فالمعتزله يعظمون الأمر والنهي لأنهم يقولون : الذي يفعل
( 291)
الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر بل منزلة بين المنزلتين ويخلد يوم القيامة في النار ، فهم مغالين فيه ، ويقولون أي مخالفة تقع من افنسان من الكبائر يخرجه من الإيمان ، وهذا يكون تعظيماً للأمر والنهي ,
والجهمية لا يعظمون الأمر والنهي لأنهم يقولون : كل معصية من الإنسان لا تضره لأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
والنقطة الأخرى وهي أن الإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد ، وهذا واضح أنه خير لأن الثاني يتضمن أن أمر الله ونهيه يكون عبثاً ، فالذي يعظم القضاء والقدر وينكر الأمر والنهي والوعد والوعيد يصير أمر الله أو نهيه عنده من باب العبث وليس له فائدة ، ما دام أنك تأمره ثم تجبره إلا يفعل ، وتنهاه ثم تجبره أن يفعل فيكون هذا من باب العبث بل قد يكون ظلماً ، ولكن الذي يعظم الأمر والنهي ويقول إن الإنسان له أختيار وإراده ، وإذا فعل المنهيات لا يعاقب فإذا عوقب فهو مظلوم .(1/164)
[ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَنْفِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَكَانَ قَدْ نَبَغَ فِيهِمْ الْقَدَرِيَّةُ كَمَا نَبَغَ فِيهِمْ الْخَوَارِجُ : الحرورية وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ : أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ ]
نعم فالمشركون شر من المجوس لأن المجوس يصرون بالجزية بالنقص والمشركون لا يقرون بالجزيه عند أكثر أهل العلم وإن كان الصحيح أنهم يقرون ,
(292)
فصار المشركون شراً من المجوس وإن كان المجوس يطلق عليهم أنهم مشركون لأنهم يعبدون النار ، لكن المشركون الذين يعبدون الأوثان ولا يدينون بدين المجوس .
فالذين يشبهون المشركين هم الجهميه الذين يشبهون المشركين والمعتزلة يشبهون المجوس لأن المعتزلة يقولون الإنسان خالق أفعاله ، كما أن المجوس يقولون العالم له خالقان .
والمراد بشهود الحقيقة الكونية ما سبق أنهم يغيبون عن مشاهد الكون بالخالق ولا يعظمون الأمر والنهي حتى أن بعضهم يسقط الأمر والنهي إذا بلغ الواحد منهم مرتبة معينه ، قالوا هذا شهد الحقيقة فلا يؤمر ولا ينهى حتى فسروا قول الله تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) أن المراد باليقين مشاهدة مقام الربوبية اي أنك تعبد الله إلى أن تصل إلى هذه الدرجة فإذا وصلت سقطت عنك البعاده ,(1/165)
وهذا بلا شك تحريف للقرآن وأن المراد الحقيقي بالآيه أعبد ربك حتى يأتيك الموت ، لأن الموت يتيقين به الإنسان ما وعد ويشاهد أمور الآخره ، الحاصل أن هؤلاء المتصوفه الذين يشهدون الحقيقة الكونية يغفلون عن الشرع والقدر ، يغيبون بمشهودهم عن شهادتهم وبمعبودهم عن عبادتهم ويموجودهم عن وجودهم كما سبق .
[ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ . ]
وذلك كما سبق من تعريف التوحيد عند هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أنهم هم أهل التوحيد ، وقد عرفنا ما يدخل في مسمى التوحيد عندهم من الضلالات والكفر .
(293)(1/166)
[ فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ : لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : - الْأَصْلُ الْأَوَّلُ " تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ " فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }(1/167)
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ ، وَقَالَ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ
(294)(1/168)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ]
كل الآيات السابقة تدل على أن الشفاعة لا يمكن أن تقع إلا بشرطين
1. أن يأذن الله
2. أن يرضى الله .
أي يرضى الشفاعة والمشفوع له ، كما في قوله تعالى ( إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )
فهولاء المشركون الذين زعموا أن أصنامهم شفعاء نقول إن أصنامكم لا تنفعكم لأن الله لم يرضى بذلك ولم يإذن أيضاً بهذه الأصنام التي تعبد أن تشفع بل قال تعالى ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ومن كان حصب لجهنم فلا يمكن أن يشفع ، فإذا كان لم ينجي نفسه فكيف ينجي غيره .
إذاً هذه الأصنام التي أتخذوها وأرادوا أن تكون وسيلة إلى ربهم لا تنفعهم ، أيضاً من أتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيعاً بينه وبين الله وصار يدعو رسول الله أو أتخذ علياً بن أبي طالب شفيعاً عند الله فإن ذلك لا ينفعه .
لأنه لا يتحقق فيه الشرطان السابقان وهما إذن الله ورضاه سبحانه وتعالى
لأننا نعلم أن الله لن يرضى أن يشفع أحد دون أذنه ولم يأذن لمشرك أن تكون له الشفاعة من أي أحد كان ، وفي الآية الأخيره من قوله تعالى ( قل أدعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذره في السموات ولا في الإرض ومالهم فيها من شرك وماله منهم من ظهير ) فقد قطع الله سبحانه وتعالى جميع الأسباب التي يتعلق بها هؤلاء(1/169)
1. فهم أي الذين يدعون من دون الله لا يملكون مثقال ذره إستقلالاً
2. ومالهم فيها من شرك شركه أي ولا مشاركه مع الله في ملكه
3. وماله اي الله منهم أي مما يدعون من دون الله فلا لها حتى إيمانه فيما يخلق الله عز وجل ، فيبقى الشفاعة ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن
(295)
له وهؤلاء لن يؤذن لهم ، فهذه الأصنام ليس لها حقاً في السموات والإرض إستقلالاً ولا مشاركة ولا مساعده ولا شفاعة
[ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ]
فقوله : أولئك الذين يدعون فخبر أولئك هو يبتغون إلى ربهم الوسيلة فهم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة فكيف تتخذونهم أنتم وسائل ووسائط تعبدونهم من دون الله .(1/170)
[وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ ؛ كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { الشَّاكِرِينَ } وَكُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } .(1/171)
فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ : { مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ : وَرَسُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَأَمَّا الحسب فَهُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
(296)
}(1/172)
فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلُّهُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين إذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَسْبُهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حسبا لِلرَّسُولِ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : فَحَسْبُك وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ : حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَيْ يَكْفِيك وَزَيْدًا جَمِيعًا دِرْهَمٌ وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ .(1/173)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : " { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا . } وَقَالَ : " { وَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } فَفِي الطَّاعَةِ : قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ ، وَفِي الْمَشِيئَةِ : أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ " ثُمَّ " وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ
(297)(1/174)
طَاعَةٌ لِلَّهِ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَطَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَشِيئَةً لِلَّهِ ، وَلَا مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَمْ يَكُنْ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ . ]
هذه الأمور من العبادة لا تصلح لغير الله ولو يثم ، مثلاً لو واحد يريد أن يعبد غير الله بعد الله فلا يصلح هذا مثل أن نقول : أعبد الله أعبد فلان ، بخلاف الأمور القدرية فلا ما نع أن تشرك مع الله غيره بحرف يقتضي الترتيب مثل ماشاء الله ثم شئت ، لولا الله ثم أنت
وهنا ملاحظة : فمعروف أن التوكل من العبادة ولكن نسمع كثيراً من الناس يقولون : أنا متوكل على الله ثم عليك ، فكيف يقولون هذا مع أن التوكل عباده ؟ والله يقول ( فاعبده وتوكل عليه ) لكن يجب أن نعرف أن توكل العباده هو الذي يقتضي الحب والتعظيم أو الذل والخشوع هذا هو توكل العباده الذي لا يجوز إلا الله جل وعلا .
أما التوكل الذي هو الأعتماد والمطلق ولو مع أعتقاد المتوكل أنه دون المتوكل عليه فهذا يصلح لله ولغيره ، ولهذا فرق الله بينهم فقال تعالى ) فأعبده وتوكل عليه ) فليس التوكل بجميع أقسامه أو على وجه الإطلاق العبادة .
فالتوكل الذي هو مطلق الأعتماد وهذا يصح لله ولغيره ,
هذا نقول هذا وكيل لي وأنا موكله ، وتوكلت عليه يعني : أعتمدت تقول فوضت الأمر لفلان وتقول وأفوض أمري إلى الله .
ومثله أيضاً الخوف والخشية : فالخوف أيضاً منقسم ، قال تعالى ( فلا تخافوهم وخافون أن كنتم مؤمنين ) فالخوف يكون عباده ويكون غير عاده ، فخوف الإنسان من المخلوق ليس عباده على الإطلاق ، ولكن خوف العباده الذي يقتضي الذل والخشوع هذا لله وحده ، ولذلك تخافه فتطيع أمره حباً وتعظيماً .(1/175)
تخاف الملك أو السلطان أو أشبه ذلك وتفعل أمره لكن لا محبة وتعظيماً إنما تمشياً مع أمر الله تعالى بقوله ( يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فطاعة الرئيس مثلاً ليست لذاته
(298)
ولكن لأمر الله تعالى لطاعته ، فتبين أن طاعته طاعة لله عز وجل والخوف منه ليس تقرباُ إليه ، والخشية أيضاً تكون من قوة المخشي وعظمته ، والخوف يكون من ضعف الخائف ، فالخشية أعلى وأقوى وهي أيضاً تكون عباده وتكون غير عباده .
وفي قوله تعالى ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ففيه دليل على أن كل من أمر بالشرك فهو جاهل ولو كان عالم ، وكل من أشرك فهو سفيه ولو كان عاقلا ً لقوله تعالى ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) وقال تعالى ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) فالذين يصفون الغرب وغير الغرب ممن اعطوا علماً للكون يصفونهم بالعلم وإذا حصل أي شيء قال هذا العلم وهؤلاء العلماء ، وتجده يثني على هؤلاء بالعلم أكثر مما يثني على علماء الشريعه بالعلم ، فهذا في الحقيقة يدل على جهله ، لأن العلم بطبائع الكون هو كعلم البهائم بإن هذا العلق ملائم لها فتأكله وغير ملائم فلا تأكله ، وهو علم يدرك فأي إنسان يضع باله لهذا الشيء يدركه ، لكن علم الشريعه الذي لا يتلقى إلا من الوحي هذا علماً لا يدركه إلا من وفقه الله إليه .
فالحاصل لا ينبغي أن يكون هؤلاء العلماء محط المدح لعلماء مافي الكون ففي الحقيقة ليس بعلم .
هو علم أن إستعان به الإنسان على معرفة الخالق والإطلاع على حكمته فهذا يكون خيراً ، لكن لا خيراً ذاتياً ولكنه خيراً لغيره ، ولكن إذا كان ينتفع به بمجرد الدنيا فهذا لا ينفع إلا في الدنيا وما لا ينفع إلا في الدنيا فإنه ليس بشيء .(1/176)
ثم أن هذه المعلومات لو أن اي واحد من الناس عنده تجربه يستطيع أن يدركها وهم في الحقيقة ما سبقوا بموهبة وهبها الله سبحانه لهم ولا على وجه يمدحون عليه ، إنما هي موهبة صالحة لكل إنسان يستطيع أن يعمل بهذه الأعمال ، فبعض الناس يقول أمش بالعقل المعيش أي رافق الصالحين وداهن الكفار ليتسهل لك ما تريد ، فهذا خطأ ليس بصحيح أبداً ، ففي الآيات السابقة من قول المؤلف صفات لله خاصه ، ومنها صفات لنفسه جل وعلا ولرسوله وذلك مثل
(299)
الطاعة والأتيان والشرع والعلم وما أشبه ذلك فهذا يكون لله ولرسوله ولذلك نحن نقول : الله ورسوله أعلم ، ويزل ( سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) ( ولو أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله ) وهذا إتيان شرعي لا إتيان قدري .
والأتيان الشرعي يكون للرسول كما يكون لله ، بل قد يكون لمن دون الرب والرسول ( وأتوهم من مال الله الذي أتاكم ) ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) وغيره ، والأشياء التي لا تصلح إلا لله لا يجوز أن يشرك فيها مع الله أحداً لا على وجه الأستقلال ولا على وجه التبعيه فلا يجوز أن أقول : أخش فلاناً خشية العبادة ، ولا أن أقول خشي الله ثم أخش فلان ، والشيء الذي يكون لله ولغيره لا يعد شريكه لله معه فيه شركاً لأن الله ولغيره مثل الطاعة .
وأما قوله تعالى ( يا أيها النبي حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين ) فإن الواو حرف عطف لكنها ليست معطوفة على الله وذلك لفساد المعنى بذلك لأن المعنى عندئذ يكون ، حسبك الله وحسبك من أتبعك من المؤمنين ، وهو ليس كذلك فإنه لا يمكن أن يكون احداً كافياً مع الله بل الله وحده هو الكافي ثم على فرض أن يكون الكفاية تحصل لغير الله فإنه لا يمكن أن تشرك كفاية الله مع غيره بالواو .
نهاية الشريط الثامن عشر
*************
بداية الشريط التاسع عشر(1/177)
والمعنى الصحيح لهذه الآية هو : يا أيها النبي حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله أيضاً ، فالحسب والكفاية لا تصح إلا لله سبحانه فقد استدل المؤلف بهذا البيت ،فحسبك والضحاك سيف فهذا اي حسبك أنت والضحاك جميعاً حسبكما السيف ، فالآية السابقة ميزان هذا البيت بمعنى أن هذا البيت بيت لغة مشهور .
( 300)
الشريط التاسع عشر
وهذا تقرير بأن العبادة لا تكون إلا لله وحده أما الطاعة فأنها تكون لله ولرسل ولمن دون الرسل قال تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا }وفي آية أخرى أطعهما ولذالك قوله تعالى { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي}
[الْأَصْلُ الثَّانِي : حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ وَنُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَهُ وَنُرْضِيَهُ وَنُحِبَّهُ وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ](1/178)
فنقوله نرضيه ولم لم يقل لنرضيه إذ لو قال لنرضيه فهو واحد ويعنى نرضيه وهو صلى الله عليه وسلم أن تفعل ما يرضى به قال تعالى
{ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وقد يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض عليه أعمال أمته كما روي عنه صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا الحديث ضعيف لكنه إذا كان كذلك فإنه إذا علم بعمل أمته فإنه يرضى أو يغضب حتى لو كان ميتا وقوله تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... الآية } فاللام هنا ليست نافية ولكنها مؤكدة للتنبيه و التوكيد فهي من حيث الإعراب زائدة . والأصل : ـ فوربك لا يؤمنون
فلا يؤمنون إلا بثلاثة
1 ) أن يحكموك فيما شجر بينهم فلا يحكمون غيرك من القوانين الطواغيت
2 ) أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت أي ضيقاً فإذ وجدت أن نفسك تضيق بشئ من الشرع فأعلم أن إيمانك ناقص
3 ) أن يسلموا تسليماً فلا بد من تسليما تام للغاية وهو التنفيذ فذكر الوسيلة والأطمئنان القلبي والتنفيذ
( 301 )
الفعلي فالوسيلة : يحكموك والأطمئنان القلبي : لا يجدوا حرجاً مما قضيت والتنفيذ الفعلي : أن يسلموا تسليما
فيجب أن يطبق كل فرد من المسلمين هذه الأوصاف على نفسه فإن انطبقت كلها فهو مؤمن وإن نقصت منها شيء فهو أن إيمانه فيه خلل فليراجع نفسه
وقوله تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } هذه الآية وتسمى آية المحنة لأن قوماً أدعوا أنهم يحبون الله فجاءت هذه الآية امتحاناً لهم فمميزات محبة الله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فبقدر إتباعك للرسول تكون محبتك لله تبارك وتعالى
فعندما يقال لك إن كنت تحب الله فاتبعني من أجل أن تكون صادقاً في قولك وهذا الذي يتوقع لكن الله أتى به فوق الشرط وهو يحببكم الله
قال أهل العلم : ليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله(1/179)
وهذه هي النتيجة والثمرة العظيمة أن يكون الله تيارك وتعالى محباً لك فيكون الجواب هنا أفاد فائدتين هما
1 ) أفاد تصديقك في دعواك 2 ) وأفاد ثوابك وهو أن الله يحبك
[: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا : فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ : بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ : مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية فَالْمَجُوسِيَّةُ : الَّذِينَ كَذَّبُوا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ آمَنُوا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ؛ فَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ وَمُقْتَصِدُوهُمْ أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ ]
القدرية هم المعتزلة وهم مجوس هذه الأمة لأنهم أنكروا قدرة الله سبحانه وتعالى فيما يختص ويتعلق بأفعال العبد ولكنهم عظموا الأمر و الشرع
لكنهم اتفقوا في الأمر والخلق والقضاء والقدر فغلاتهم انكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا المشيئة والخلق
والقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب وهي 1 ) الإيمان بالعلم 2 ) الكتابة
3 ) المشيئة 4 ) الخلق والقدرية انقسموا إلى فريقين
( 302 )
الفريق الأول الغلاة فغلاتهم السابقون أنكروا العلم والكتابة فمن باب أولى أن ينكروا المشيئة والخلق يقولون إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا إذا وقعت ولا كتبها في اللوح المحفوظ وإنما الأمر أنف أي مستانف
وأما الفريق الثاني المقتصدين فالمقتصدين فهم استقرر أي المعتزلة عليه هم الذين يقولون إن الله يعلم ولكن لا يشاء ولا يخلق وهؤلاء وصفهم مجوسية ولهذا جاء في الحديث ولو كان ضعيفاً ( القدرية مجوسية هذة الأمة )(1/180)
[وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ : المشركية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ؛ قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَمَنْ احْتَجَّ عَلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قَدْ كَثُرَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْحَقِيقَةَ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ ]
والمشركيه من الذين هم من طوائف المبتدعة المقصود بهم الجبرية ( أو المرجئة ) فهؤلاء يقولون ليس لكم حق في أن تلومننا على المعاصي لأن الله كتبها واجبرنا عليها { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } الآية
فقالوا نحن لا علينا أمر ولا نهي نحن اناس نتحرك بغير إرادة ونفعل بغير إرادة فبقتل ويزني ويسرق ويقول أنا لست ملوم على هذا لأنه مقدر عليّ وقد قيل ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جيء له بسارق يسرق فأمر بقطع يده فقال الرجل : مهلاً يا أمير المؤمنين والله ما سرقت إلا بقدر الله فقال عمر : نعم ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله مقابل الحجة بالحجة مع أن أمير المؤمنين معه حجتين 1 ) حجة شرعية لأنه مأمور بقطع يد السارق 2 ) حجة قدرية وهو سيقطع يد هذا السارق بقدر الله والسارق ليس معه إلا حجة قدرية وليس مأمور بالشرع أن يسرق . مع أن الحجة القدرية باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما كانت لله على الناس حجة بعد الرسل أي الرسل ليسوا بحجة . وأما قوله ( من يدعي الحقيقة من المتصوفة ) وهم قوم
( 303 )
لهم منهج معين في العبادة وهم يغلون في العبادة وسموا متصوفة أما نسبة إلى الصفا 2 ) وقيل إنهم نسبه إلى الصوف 3 ) وقيل نسبة إلى أهل الصفة والأصح نسبة إلى الصوف تزهد أنهم فهم لا يلبسون بل يلبسون الصوف الخشن جداً(1/181)
[وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُمْ الإبليسية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْأَمْرَيْنِ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاقِضًا مِنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَطَعَنُوا فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ إبْلِيسَ مُقَدِّمِهِمْ ؛ كَمَا نَقَلَهُ أَهْل الْمَقَالَاتِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ]
الابليسية نسبة إلى إبليس وهم يحتجون على الله تعالى بالشرع يقولون كيف أن الله يأمرنا وينهانا وهو يجبرنا مثل ما قال إبليس عندما أمره الله أن يسجد لآدم قال أنا خير منه كيف تأمرني أن اسجد له وأنا خير منه فاحتج على شرع الله بقدر الله والأبليسيه يحتجون بالشرع على القدر وبالعكس يرون أن هذا متناقض ويقول لقائل منهم
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
يقولون أن الله أمرنا ونهانا ثم يجبرنا على أن نعصى الله فهذا تناقض هذا ليس بصحيح . فالذين عطلوا الأمر والنهي المشركين الذين أقروا بالأمر والنهي وبالقدر لكن جعلوا ذلك تناقضاً فهؤلاء إبليسية
والأولون بحوسيه لأنهم زعموا أن العبد خالق مع الله عزو جل وأنه مستقل بفعله(1/182)
[وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَقَوَّلَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ : فَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَهَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ إثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ ]
( 304 )
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ ]
نحن نؤمن بأن القدر له سبب والسبب له خلقه الله والله حكيم يجعل لكل شيء سببا فالماء سبب لإخراج الثمرات فالكتاب في الآية سبب للهداية وسبب للإضلال(1/183)
[وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِنْكَارِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ الَّتِي يَفْعَلُ الْحَيَوَانُ بِهَا مِثْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَأَضَافَ فِعْلَهُ إلَى غَيْرِهِ ]
أشار المؤلف في هذا إلى ثلاثة أراء بدعية 1) ما يقول أنه يفعل عند الأسباب لا بها وهذا مذهب الأشاعرة الذين ينكرون تأثير الأسباب بالمسببات ويقولون أن المسببات تحصل عند السبب لا به فمثلاً إذا كسرت الزجاج وانكسرت لا يقولون إن الانكسار حصل بالكسر ولكن حصل عندالكسر وعندما توقد النار وتفور الماء يقولون ا، الماء لا يفور بالنار ولكنه يفور عند النار لا بها فهم ينكرون أن يكون للأسباب تأثير في مسبباتها ويقولون إن تأثير الأسباب ليس مباشر للمسببات ولكنه يحصل عند الأسباب لا بالأسباب ويقولون لو أنا قلنا أن الأسباب مؤثرة بنفسها شابهنا القدرية الذين يقولون ثم خالق غير الله والحقيقة أنهم خالفوا ما جاء به القران الكريم فإن الله اثبت أن للأشياء أسبابا وخالفوا أيضا أنهم أنكروا ما خلقه الله من القوى والطبائع فعندما تحتمي الحديدة بالنار فهي احتمت بالنار وليس عند النار كما يزعمون مع أنه لو وضعت حديده عند النار
وقت طويل لما احتمت 2 ) قوله أنكروا ما خلقنا الله من القوي والطبائع وهذا مذهب الجبرية الذين ينكرون أن للعبد قدرة على عمل فهو يفعل بدون اختيار
( 305 )
يقولون إن العبد مسلوب القدرة عن فعله فهؤلاء أشبهوا الجبرية في هذه الناحية 3 ) وقوله كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره وهذا مذهب القدرية(1/184)
أما مذهب أهل السنة والجماعة فخلاف هذه المذاهب الثلاثة ( الأشاعرة والجهمية والمعتزلة ) فيقولون إن الإسباب مؤثرة في مسبباتها مباشرة والذي جعل الأسباب مؤثرة هو الله سبحانه وتعالى ولهذا القي إبراهيم عليه السلام في النار وهي تتأجج تحرق ما حولها فضلا عمن وصارت برداً وسلام عليه خالق هذه الأسباب التي أودع الله فيها القوة الفاعلة هو الله عز وجل فنحن إذا قلنا هذا الشيء يحرق يفعل كذا وكذا فلسنا نعني أنه ينفرد بذلك عن الله بل نعني أن الله بل نعني أن الله فيه هذه القوة المؤثرة وهذا ما فيه إشراك مع الله
[وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ فِي حُصُولِ مُسَبِّبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ إذَا شَاءَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أَيْ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ وَلِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - كَانَ جَاهِلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدٌ صَدَرَ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ - لَا وَاحِدَ وَلَا اثْنَانِ - إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ فَالنَّارُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا حَرَارَةً لَا يَحْصُلُ الْإِحْرَاقُ إلَّا بِهَا وَبِمَحَلِّ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ ؛ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى السمندل وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ تُحْرِقْهُمَا وَقَدْ يُطْلَى الْجِسْمُ بِمَا يَمْنَعُ إحْرَاقَهُ ](1/185)
أن الله خلق من كل شيء زوجين يحصل بها هذا الشيء فهم يقولون
ما من شيء إلا وهو مركب ولم يكن ألا سبب ومسبب لكان زوجاً ليعلم من كل شيء وخلقنا زوجين ليعلم أن الخالق واحد
القوة التي في النار وهي الحرارة تحرق ولكن قد يكون هناك مانع يمنع الاحراق
وقدرة الله عز و جل مثل ما حصل لإبراهيم عليه السلام كذلك بعض المركبات
( 306 )
تمنع الاحتراق كذلك السمندل والياقوت يمنع الاحتراق ويوجد الآن أجسام أيضا لا تحترق وتستخدم في إطفاء الحرائق وأيضا ملابس رجال الإطفاء
ويقولون أن شيخ البطائحية وهو من المبتدعة وهم صنف من الصوفية تناظر هو وشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في مسالة من المسائل وقال له شيخ البطائحية ‘ذا كان كلامك حق أو كلامي حق فستدخل في هذه النار والتي تأكل النار معه الصواب وكان شيخ البطائحية قد طلا جسمه بشيء يمنع الاحتراق ففطن شيخ الاسلام لهذا وقال له مافيه مانع ندخل أنا وإياك في النار والذي على الصواب ما تأكله النار لأن إبراهيم على حق ولم تأكله النار ولكن اشترط عليك شرط أننا الآن ننزل ونغتسل ثم ندخل النار فقال الرجل : لا
فالسبب وجود مانع منع نفوذ هذا السبب والأشياء لا يمكن تتم إلا بوجود أسبابها وانتفاء موانعها
[وَالشَّمْسُ الَّتِي يَكُونُ عَنْهَا الشُّعَاعُ لَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ يَقْبَلُ انْعِكَاسَ الشُّعَاعِ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ حَاجِزٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ سَقْفٍ : لَمْ يَحْصُلْ الشُّعَاعُ تَحْتَهُ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ]
وهذا صحيح فالجو المظلم لا يمكن أن يبين نور الجسم إلا إذا قابله جسم ينعكس عليه الضوء فعندما يكون بالجو غبار يصير أبيض لأن أشعة الشمس انعكست عليه لكن عندما يكون الجو صحوا يبين لنا طبقة زرقاء معتمة وعندما يكون هناك جسم كثيف فإن الأشعة لا تنفذ من وراءه بعكس الجسم الأقل كثافة فإنها تنفذ من وراءه(1/186)
فالحاصل أن كل شيء لابد من وجود أسبابه وانتفاء موانعه
[وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ " الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ " فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ ، وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ ]
( 307 )
وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ ؛ وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ ]
هنا من أمه إلا ولها شرع وهذا الشرع إما أن يكون شرعاً منزلاً أو شرعاً مبدلاً أو شرعاً موالاً فالمسلمين شريعتهم منزلة من عند الله وأهل التأويل والبدع شرعهم موأول وأهل الإنحراف شرعهم مبدل استبدلوا شريعة الله بغيرها أي لا يمكن لأمة إلا وتمشي على نظام إما نظام من عند الله وهو الشرع المنزل أو نظام من عندها من عند الأمة وهو الشرع المبدل أو محرف ومبدل فالشيوعيين عندهم أنظمة يمشون عليها والرأسماليون عندهم أنظمة يمشون عليها ولكن النظام الذي يقوم به صلاح الخلق على الإطلاق هو نظام الله سبحانه وتعالى وشرعه لأنه نظام من علم بأحوال الخلق وما ينفعهم وما يضرهم وهو أرحم بالخلق من أنفسهم قال تعالى(1/187)
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }
[. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَاتِ فَإِذَا كَانَ لَهُ إرَادَةٌ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُرِيدُهُ هَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُ أَوْ ضَارٌّ ؟ وَهَلْ يُصْلِحُهُ أَوْ يُفْسِدُهُ ؟ ]
ومعنى حارث وهمام أن حارث من فاعل من حرك يتحرك ويفعل وهمام من الهمة وهي الإرادة فكل إنسان عنده حركة وهمة
[وَهَذَا قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهُ النَّاسُ بِفِطْرَتِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاعَهُمْ
( 308 )(1/188)
[بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَمَا يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ بِفِطْرَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَاَلَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ بِعُقُولِهِمْ وَبَعْضُهُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ الرُّسُلِ وَبَيَانِهِمْ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِمْ لَهُمْ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ . فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَوْ يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُؤْذِيه وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكُونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ : مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ ]
مسألة الحسن والقبيح تعرف بالشرع وبعضه بالعقل وبعضه بهما جميعاً بمعنى أن بعض الأشياء نعرف أنه حسن أو قبيح وإن لم يرد به الشرع وليس المعنى أننا إذا حسنا شيء أو قبحنا فإن الشرع لا يحسنه ولا يقبحه وبعضه لا نعرف أنه حسن أو قبيح إلا عن طريق الشرع وبعضه نعلم أنه حسن أو قبيح بالعقل والشرع أيضا ورديه فبعض الأشياء من الأمور لا نعلم نحن عنها جيداً الحكمة في التشريع فقبيحها أن كانت منهى(1/189)
عنها أو حسنها أن كانت واجبة هذا معلوم بالشرع كما لو قيل لماذا لا تصح الصلاة في أعطان الأبل ؟ فعند الذين يقولون إن العلة تعبد به يعلم قبح الصلاة في أعطان الأبل بالشرع لا بالعقل وعندما نقول لماذا يجب الوضوء من لحم الأبل ؟ فالذين يقولون إن الوضوء من لحم الأبل تعبدي ولا نعرف علته يعلم حسنه بالشرع لا بالعقل
ومثلاً الإعتداء على الناس معلوم قبحه بالشرع والعقل ويوجد أشياء يهتدى بها العقل بحسنها أو قبحها وإن لم يرد بهاالشرع مثل كثير من العادات وقد يستحسن الإنسان شيئاً بعقله وهو قبيح في الشريعه كمن يستحسن حلق اللحية مثلاً فنقول أن هذا العقل ليس بعقل بل هو عقل منحرف لأن تحسين العقل أن ينزل كل إنسان في منزلته
( 309 )
[فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَجَاءَ بِهِ الْكِتَابُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } ]
فقوله تعالى { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي .. الآية }(1/190)
فهذه المسألة فرضية وليس واقعية وهذا من باب التنزيل مع الخصم مثل قول مؤمن ال فرعون { إِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ }
وهذا المؤمن يعتقد أنه صادق لكن قاله على سبيل التنزل مع الخصم وقوله تعالى { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس بينهما مفاضلة ومعلوم أن الله جل وعلا خير ولكن قال ذالك دليل التنزل مع الخلق
وقوله تعالى { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } والجواب نحن على هدى وهذا أيضا من باب التنزيل مع الخلق وبالعقل لا يستقل بالتحسين أو التقبيح وإنما لا بد له من الشرع
[وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ : يَخْرُجُ عَنْ هَذَا فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَوْ الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ ثُمَّ إنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا تُنْكِرُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ : تَنَازَعُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مِنْهُ قَبِيحٌ هَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا هُوَ قَبِيحٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ لِمُجَرَّدِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ]
( 310 )(1/191)
فمثلاً الظلم قبيح شرعاً وعقلاً فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن الظلم مع قدرته عليه وهذا هو وجه المدح والكمال أنه يكون قادر لكنه منزه عنه لأننا لو قلنا أنه مستحيل الظلم وكل قبيح مستحيل على الله لذاته فهذا ليس مدح وليس أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح فليس ممتنع على الله لذاته بمعنى أن الله لا يقدر عليه وإنما الله فادر عليه ولكنه منزه عنه ويجب أن نعرف أن عقولنا ليست هي الميزان للعقل القبيح والحسن ولو كانت عقولنا هي الميزان لكنا مثلاُ نحن أن يكون كلهم أمة واحدة على الحق أحسن من أن يكون بعضهم بالنار وبعضهم بالجنة وقد يحسن عقلنا هذا لكن هذا غير صحيح وليس هذا هو الحسن وإنما الحسن أما اقتضته حكمة الله عز وجل أننا ات نحيط بحكمته سبحانه ولا نحيط بقدرته حتى نحكم عليه بعقولنا ونقول هذا حسن لماذا لم يفعله الله وهذا قبيح لماذا فعله ؟!(1/192)
[وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أُولَئِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ ؛ فَلَا جَعَلُوهُ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ مَا تَرَكَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالنِّقْمَةِ وَالْآخَرُونَ نَزَّهُوهُ بِنَاءً عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَسَوَّوْهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ ، وَشَبَّهُوهُ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَقَطْ وَعَظَّمَ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَقَفَ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ : لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ]
والمقصود هنا الجهمية والقدرية كما مر علينا فالذين ينظرون إلى الحقيقة الكونية فقط لا يمكن ... لأنهم يقولون الكل من إرادة الله يقولون نحن نفنا في توحيد الله توحيد الربوبية فلا نقول هذا حسن وهذا قبيح لأن الكل يكون حسن عنده كله من تقدير الله
( 311 )(1/193)
فهو يعنى أن يشاهد الحسن والقبح فيما يقع في أفعال الله سبحانه ويقول كل ما أوجده الله سبحانه وتعالى فإنه حسن لأنه يقف أمام القدر وقوف الميت بين يدي المغسل . لا يشعر بما يفعل فيه فهو يقول نحن نعظم القدر غاية التعظيم في توحيد الربوبية ونفنى في هذا التوحيد عما سواء . ومعنى الفناء فيه :ـ الإنغماس بحيث يقمحل وجود المرء فهو الباب فهم لا يميزون بين الضار والنافع لأن الكل بتقدير الله . فهم يقولون كل ما قدر الله فلا فرق فيه يجب ان نستسلم للربوبية إستلام كامل أعمى . فلا نفرق بين الضار والنافع ولا بين الحسن والقبح ولا بين الظلم والعدل ... لأن الكل من فعل الله . فهم يفنون في هذا التوحيد عن كلما يقع من جانب الربوبية .فهذا الذي يقصده المؤلف ( فمن نظر إلى القدر فقط أعظم الفناء في توحيد الربوبية ...).
[وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ بِالضَّرُورَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَشَرَائِعِهِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالذَّوْقِ وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَذَّ بِشَيْءِ وَيَتَأَلَّمَ بِشَيْءِ فَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَمَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ . ]
فالمؤلف رحمه الله يرد عليهم ويقول أنتم تعرفون الذي ينفعكم ويضركم بين هذا الأشياء هو ما جاءت به الشريعة : فكيف تفنون في التوحيد الربوبية وتفنون ما جاءت به الشريعة هذا أمر فخالف للكتاب والسنة وحتى مخالف للفطرة .(1/194)
[وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ دَائِمًا : فَقَدْ افْتَرَى وَخَالَفَ ضَرُورَةَ الْحِسِّ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَارِضٌ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ
(312)
[(1/195)
فَأَمَّا أَنْ يَسْقُطَ إحْسَاسُهُ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ النَّائِمَ لَمْ يَفْقِدْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بَلْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُوءُهُ تَارَةً وَمَا يَسُرُّهُ أُخْرَى فَالْأَحْوَالُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ عَدَمَ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ مَعَ نَقْصِ صَاحِبِهَا - لِضَعْفِ تَمْيِيزِهِ - لَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْقُطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ مُطْلَقًا وَمَنْ نَفَى التَّمْيِيزَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُطْلَقًا وَعَظَّمَ هَذَا الْمَقَامَ فَقَدْ غَلِطَ فِي الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ : قَدْرًا وَشَرْعًا وَغَلِطَ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَفِي أَمْرِهِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ وُجُودَ هَذَا ؛ لَا وُجُودَ لَهُ وَحَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ وَلَا مَدْحَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ : الْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ . وَإِذَا سَمِعْت بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ لَا حَظَّ لَهُ وَأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إنَّمَا يُمْدَحُ مِنْهُ سُقُوطُ إرَادَتِهِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا وَعَدَمُ حَظِّهِ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ كَالْمَيِّتِ فِي طَلَبِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَبِهِ وَتَرْكِ دَفْعِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَبْطُلُ إرَادَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ ؛ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ . وَمَنْ مَدَحَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ . ](1/196)
قضية الفناء أنهم ينفون في توحيد الربوبية يردن أنهم كالسابح في البحر تتلاطمه الأمواج وهو لا إرادة له ولا شعور ولا قدرة . فهو ما شيء مع
لأمواج إن أرتفعت ارتفع . وإن انخفضت إنخفض . فهو يقول :ـ الكل حسن فهو لا يعرف بين الضار والنافع ولا بين الحسن والقبح .ولا الواجب والمحرم ويقولون إننا سائرون في قضاء الله وقدرته وإرادته وسيطرته الكاملة . وهذا كما قال المؤلف مخالف للشرع ومخالف للدين ومخالف للفطرة والحسن والعقل والقدرة إيضاً ففيه أشياء ماالزمنا أن نرضى بها . فلا يجوز مثلاً أن نرضى بالمعاصي مع إنها بقدر الله بل يجب مدافعيها وإزالة المنكر قال صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسناه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان " وهذه الطريقة من الفناء التي يزعم هؤلاء الشيوخ شيوخ الصوفية ـ الذين يسمون أنفسهم بالعارفين بالله يزعمون أن هذه
(313)
هي حقيقة توحيد الربوبية : فتقول هذه حقيقة الجنون فمن لا يميز لا فرق بينه وبين المجنون والبهمية خير منه(1/197)
[وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَعَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ]
فالأول الفناء الديني الشرعي وهو الفناء بالطاعة عن المعصية وبكل ما أمر الله به عما نهى الله عنه . الفناء هو الذوبان . وقول الشيخ الفناء الديني أعتقد انه من باب تتميم الأقسام وإلا لا يصح أن نقول أن هذا فناء ديني .نقول
اشتقاقا لا بأس به كقول اشتغل بطاعة الله عن معصية . اشتغل بالتوكل على الله عن التوكل عن غيره اشتغل بخوف الله عن خوف غيره . أما كلمة فناء فإنها كلمة محدثة بلا شك .ولهذا ما نجد في القران ولا في السنة أن الله أو رسوله سمى الاشتغال بالعبادة فناء . لكن المؤلف جاء به من باب تتميم الأقسام فقط وفي الحقيقة أن الإشتغال بالدين تسميته فناء أمر محدث.(1/198)
[( الْفَنَاءُ الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ
(314)
[وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ ]
وهذا الفناء ليس بمحمود لأنه لم يعرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام ولا التابعين فهو شرع مبتدع وقد مر علينا هذا من قبل وجعله بعضهم من تمام التوحيد ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يغيب بمعبود عن عبادته . بل كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي خوفاً أن تفتتن به أمه وكان يحمل أمامة بنت زينب وهو في صلاته
وكان عمر رضي الله عنه يقول : كنت أجهز الجيش وأنا في الصلاة بل كانوا يعبدون الله كأنهم يرونه ولم يكونوا ينسون عبادتهم اشتغالاً بعادتهم . وقصة عروة بن الزبير أراد وقطع رجله فقال إذا قرأن القرآن فاقطعوها فهو لم يغيب بعبادته عن معبوده . بل غاب بعبادته عما سيفعلونه به وهو قطع رجله . أي غاب بعبادته عما سو في العبادة
نهاية الشريط التاسع عشر(1/199)
... قال المؤلف رحمة الله [وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ ]
السوي هنا بمعنى الغير وهو الفناء الفاسد يغيب عن وجود سوى الله بمعنى أنه يعتقد أن الخالق والمخلوق شيء واحد وأن لا إله إلا الله أي لا موجود إلا الله يغيبون عن وجود شيء سوى الله فيجعلون المخلوق هو عين الخالق فهو يغيب عن كل شيء ويرى أن كل شيء فهو الله وما يشاهد إلا الله
( 315 )
الشريط العشرون
وهؤلاء من أضل العباد ، وهذا أيضاً فناء وحده الوجود ، وفي هذه المناسبة أحذركم من رجل يدعى مصطفى محمود يأتي بالتلفزيون ويزعم أنه كان شاكاً في الأول ثم صار موقناً ، وله كتاب في ذلك أسمه ( رحلتي من الشك إلى اليقين ) وفي الحقيقة والله أعلم أنه إرتحل من الشك إلى يقين الكفر لأنه له كتاب تفسير القرآن بالمفهوم العصري فيقول معنى لا إله إلا الله أى لا موجود إلا الله وهذا تفسير أهل وحدة الوجود ، ونقل لي عنه أنه كان يقول أنه ما يجوز أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى مباين للخلق وأنه على العرش وأنه في العلو فهذا لا يمكن لا نتصور أن الله كذا .... فيحاول أن يقرر مذهب الجهمية وهم جلولية فهم يرون أن الله بذاته في كل مكان .(1/200)
[ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ وَقِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ : مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } ]
التقوى مأخوذة من الوقاية وهي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه ووجه ذلك أن التقوى مأخوذة من الوقاية وهي أن يتخذ المرء وقاية من عذاب الله ولا يقيه من عذاب الله إلا فعل ما أمر الله وترك ما نهى عنه .
(316)(1/201)
[ فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } .]
والغان هو الضيق وهو من فضل الله على العباد ، فإن المسلم إذا غفل عن عبادة الله ولهى حس بضيق حتى يتذكر عبادة الله ويستغفر الله وهذا كما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم عندما نقصت الصلاة وقام إلى خشبة وشبك بين أصابعه في المسجد كأنه غضبان لأن عيادته لم تتم ولم تكمل وهذا حساب نفسي لا يشعر به المرء لكنه من نعمة الله على العبد إذا حصل له مثل هذا يحصل هذا الأنقباص ليعود إلى
العبادة ، إما الإنسان الذي لا يحس بهذه الأمور فيبقى على ضلاله ومعصية ولا يحس بطاعة ولا بمعصية والعياذ بالله ,
[ وَكَانَ يَقُولُ " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ } ](1/202)
في هذا الحديث دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطئ وأنه ليس معصوم من الذنوب خلافاً لمن قال أنه معصوم من الذنوب فالله يقول ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وقوله ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) والغريب أن الذين الذين يقولون بإنه معصوم يحرفون القرآن تحريفاً بالغاً مثل قوله تعالى ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي ليغفر لأمتك لكن الشيء الذي يجب أن نعرفه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ وهذا هو الفرق بينه وبين غيره فإما أن ينبأه الله بالوحي أو يسير الله له قدراً بذلك فيقلع عنه ، والخطأ من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقدح في نبوته لأنه بشر ولكن الله يبين له ويعلمه ، بل هذا من كماله فكم من عبد عصى الله ثم تاب وصار بعد التوبة أكمل منه قبل المعصية .
(317)(1/203)
[ وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ : " { يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ](1/204)
الإستغفار هو طلب المغفرة والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه ، يدل على ذلك أولاً الأشتقاق لأنه مشتق من المغفر والمغفر يستر الرأس ويقيه وليس مجرد الستر لأن مجرد الستر ليس فيه غفر ، ويدل على ذلك أيضاً في الحديث القدسي " أن الله يغفر لعبده المؤمن ويقرره بذنوبه فيقول : عملت كذا يوم كذا وكذا فإذا أقر قال : قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ففي الحديث فرق بين الستر وبين الغفر ففي الدنيا ستر وفي الآخرة مغفره ، فأنت إذا قلت استغفر الله يعني أسأله تعالى أن يستر على ذنوبي وأن يقيني عذابها .
[ وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( 318)
{ دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ } ]
ذي النون أي صاحب الحوت وليس منه قوله تعالى ( ن والقلم وما يسطرون الآيات ) فإن ( ن) هذه حرف هجائيه وليست للحوت كما قيل ولو كانت للحوت لكتبت بلفظ ( نون ) .(1/205)
[ وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ . فَفِي " الْأَمْرِ " عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : " { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ]
هذان الأصلان في الأمر
1. الأجتهاد في الأمر علماً وعملاً .
2. الأستغفار عن نقص حصل أو عن تجاوز حصل .(1/206)
[ وَأَمَّا فِي " الْقَدَرِ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ ]
المقدرو أصلين :
1. أن يستعين بالله على فعل المأمور وأن يستعينه على ترك المحضور لأنه أن يعينه الله لم يستطع ذلك ولهذا جمع الله بين الأستقامه والعباده في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فإياك نعبد هذا مقصود وإياك نستعين هذه وسيلة فلا يمكن نحقيق
( 319)
العباده إلا بمعونة الله
2. الأصل الثاني الصبر على المقدور لأن الله سبحانه وتعالى قد يقدر على الإنسان ما لا يلائمة من فوات المحبوب وحصول المكروه فعليه أن يصبر على ذلك ومن هذا إيذاء الناس له بالقول أو الفعل سواء في دينه أو في ماله أو في نفسه .(1/207)
فقد يؤذي في دينه كأن يسخر به إذا صلى أو يعاب عليه في ترك لحيته كذلك عند أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر كل هذا من تقدير الله ويجب عليه أن يصبر ويتحمل في سبيل الله ، وإذا أردت معرفه حقيقة ذلك فأنظر إلى ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى قال الله تعالى ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ويجب أن لا ييأس المسلم ويوقل زال أهل الخير وانتهى الخير من الناس فكم من إنسان صبر وكانت العاقبة له ثم إن صاحب الخير الذي يدعو إليه لا يدعو إاليه شخصياً وإنما يدعو للخير نفسه ، فلو فرض أن شخص حبس وسجن وقد يقتل لكن الدعوة التي يريدها باقيه وهذا هو المهم ولهذا الذي يدعو إلى الخير ليس يدعو لنفسه في الحقيقة والذي يدعو لنفسه ينكر عليه الناس ذلك ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل ادع إلى نفسك(1/208)
[ نْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ]
هذا الحديث القصة فيه أن آدم وموسى تحاجو بموسى عليه السلام أحتج على آدم عليه السلام قال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟
(320)
ونسب الإخراج إليه لأنه هو سببه فهو الذي عصى فأخرج بمعصيته من الجنة لكن آدم قال له : أن هذا أمراً قد كتبه الله علىأتلو مني علىّ أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن أخلق ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى بمعنى غلبه بالحجة ، هذا الحديث إختلف فيه الناس فالمعتزلة أنكروه وكذبوه مع أنه ثابت في الصحيحين ، لكن طريقة المعتزلة أنه إذا جاءت الأحاديث على خلاف رأيهم لا يبالون أن يطعنوابها وينكرونها ويكذبوها ويقولون أن الرواة كلهم كذابوان ، ومنهم من قبل هذا الحديث واحتج به على الجبر وهؤلاء هم الجبرية .(1/209)
وأما أهل السنة والجماعة فقبلوا هذا الحديث ولم يحتجوا به على الجبر قالوا لأن موسى عليه الصلاة والسلام ما أراد أن يحتج على آدم بفعل المعصية وآدم ما أراد أن يبرر المعصية بأنها كتبت عليه ، ولكن موسى احتج على آدم وقال : لماذا أخرجتنا من الجنة ولم يقل لماذا عصيت والإخراج من الجنة مصيبة ، فهو عاتبه على المصيبة التي هو سببها لا على ذنبه لأن ذنبه تاب منه ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، وموسى عليه السلام لا يمكن أن يجهل أن آدم ليس عليه لوم بعد أن تاب ولذلك قال ( ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) وآدم قال هذا أمر قد كتب عليّ قبل أن أخلق ولكن السبب مني وقد ثبت من هذا السبب فلا لوم عليّ فيه .
فيكون هنا من باب الإجتماع على القدر في المصائب ولذا يقول المؤلف رحمه الله ( وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب ) وليس هنا إحتجاجاً بالقدر على العايب ، هذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أما تلميذه ابن القيم فسلك مسلك آخر وقال : أن الحديث إذا حملناه على أنه إحتجاجاً من موسى على آدم للإخراج فقط ، فإن في هذا تعسفاً ، ثم قد يكون
مردوداً فيقال الإخراج سببه المعصية فيكون الإحتجاج على الإخراج إحتجاجاً على سبب الإخراج لأنه لولا السبب ما حصل الإخراج ولكن يقول ابن القيم : نذهب إلى القول بإن الإحتجاج بالقدر حجة على المعاصي بعد الفعل لا بأس به لأنه حقيقة ولكنه ليس حجة للمرء على الأستمرار ، بل يجب أن يتوب وأيد رأيه ابن القيم بإن الرسول صلى الله عليه وسلم
( 321)
جاء إلى علي بن أبي طالب وفاطمة وهما نائمان ولم يقوما في الليل فقال ما منعكما أن تقوما أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال على يارسول الله أن أنفسنا بيد الله لو شاء أن نقوم لقمنا فذهب رسول الله وهو يضرب على فخذه ويقول ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(1/210)
فهنا احتج على القدر لكن بعد وقوع الأمر مع أن الرسول حقيقة لم يقره لأنه جعل هذا من باب الجدل ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره لأنه جعل هذا من باب الجدل ، ولكن النبي النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه هذا القول ( الجدل ) بل جعله جدلاً ولكنه لم ينكره .
فالذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله جيد ، فصار المسالك في هذا الحديث أربعه :
1. قوم قبلوه واحتجوا به على القدر أي على الجبر وهم الجبريه ( الجهمية )
2. قوم أنكروه وقالوا هذا لا يصح لأنه يخالف مذهبهم وهم القدرية .
3. قوم قبلوه وجعلوه من باب الأجتماع بالقدر على المصائب لا على المعايب وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
4. قوم قبلوه وقالوا أنه من باب الإحتاج بالقدر على المعايب بعد أن تفلت من الإنسان وأن تقع منه ، وهو حينئذ له أن يحتج بالقدر على معصية زالت منه مع أستعتابه منها ، وهذا ما ذهب إليه أبن القيم رحمه الله ، وأنا ابن عثيمين أميل إليه لأن قول ابن تيمية صعب الفهم وقد يكون تخيل فيه .(1/211)
[ فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ : كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } ]
(322)
قولة تعالى ( عليه توكلت وإليه أنيب ) فيها أصلين :
1. التوكل يعود للقدر
2. الإنابة عبادة تعود للأمر ، لكن قولة تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) فيها أيضاً الأصلين
1. من يتق الله هذا الأمر تعظيم الأمر على الشرع .
2. ومن يتوكل : القدر .
[ فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ ]
قولة ( ما لم يكن بالله لا يكون ) هذه عبارة جيدة لأن الله إذا لم يرد شيئاً لم يكن ( وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم ) وحتى لو نفع فإنه لا يدوم فلا بد من أن يكون الشيء بالله ولله ونحن نزيد أيضاً شيئاً ثالثاً وهو : في الله .
فلا بد أن يكون الشيء لله وبالله وفي الله .(1/212)
لله هذا اللإخلاص ، بالله الإستعانة في الله المتابعه أي في شريعة الله ، فهذه الأمور الثلاثة في الحقيقة مبنى العبادة .
[ وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ ( وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا ؛ وَقَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ : مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا ؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ ]
العبادة لابد لها من أصلين هما
1.الإخلاص .
2. الموافقة والمتابعة ,
لأن العبادة مبنية على الحب والتعظيم ، فبالحب يكون الإخلاص ، وبالتعظيم تكون الموافقة , فلا بد للعبادة من أصلين ، الإخلاص الذي منشأه المحبة لأنك إذا أحببت شيئاً أخلصت له ، والثاني المتابعه التي منشأها
(323)
التعظيم لله ، لأن من عظم الله فلا يمكن أن يخرج عن شريعته فإذا خرج عن شريعته فليس عنده تعظيم فقد نقص من تعظيمه لله سبحانه وتعالى بمقدار ما خرج من شريعته .(1/213)
[ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنْ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ .
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هُمْ لَهُ وَبِهِ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَهُ . وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا صَبْرٍ فَتَجِدُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ ؛ بَلْ فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ . وَطَائِفَةٌ فِيهِمْ اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأَمْرِ وَلَا مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ فَقَدْ يُمَكَّنُ أَحَدُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيُعْطَى مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ؛ فَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ دِينٌ ضَعِيفٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ ؛ إنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ وَاتَّبَعَ فِيهِ السُّنَّةَ ](1/214)
المؤلف فرق بين الثاني والثالث لأن الأول عاقبته أحسن من الثاني ـ لأن الأول عنده عباده وتقوى لكن عنده جزع وعجز ، والثاني أحسن حالاً وليس أحسن عاقبه ، والذي أحسن حالاً الذي عنده استعانه وصبر يكون عنده من الجلد والصبر ما ليس عند الأول ، لكن عنده ضعف في دينه وقلة فعل لللأوامر وعدم أجتناب النواهي ، ولذلك تكون عاقبته أفضل من عاقبة الأول ، فالفرق بينهما من حيث العاقبة والحاضر ، فأحسنهما حالاً الثاني الذي عندع استعانة وصبر لكن الأول احسن عاقبة .
فمثلاً شخص عنده إقدام وقوة في الحرب لكن ليس عنده العبادة التامة .
( 324)
فهو من حيث الحال أحسن من العاجز الضعيف لكن عنده قوة في الطاعة ( وهو الضعيف ) ولكنه أحسن مآلاً .
[ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ ؛ فَهُوَ لَا يَشْهَدُ أَنَّ عِلْمَهُ لِلَّهِ وَلَا أَنَّهُ بِاَللَّهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ - مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ - هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ فِي الْقَدَرِ وَمُشَاهَدَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ : خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إعْرَاضٍ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمْ فَهُمْ مُعْتَزِلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ يَكُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ شَرًّا مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ ](1/215)
المعتزلة في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الجبرية ، درجة ذلك أن المعتزلة ) القدرية ) يرون أن الإنسان يفعل بإختياره ، وإذا كان يفعل بإختياره فإنه يلحقه اللوم إذا أنعل مالا ينبغي ويدرك الثواب إذا فعل ما ينبغي ، والإنسان الذي يشعر أن الثواب والعقاب على حسب فعله لابد أن يكون قائماً بالأوامر تاركاً للنواهي فهو معظم لها لأنه يعرف أنه ملام على المعصية ومثاب على الطاعة ، وأما الجبرية فيقولون أن الإنسان مجبر على عمله فلا يلام على مكرره ولا يحمد على محبوب فعلى هذا إذا شعر الإنسان أنه لا لوم عليه بالمعصية وأنه لا مدح له بالطاعة فإنه لا يعظم الأمر والنهي لأنه لا يمه يقول : أن العاصي والمطيع سواء كل منها ل أختيار له في مراده وفعله فلا يستحق هذا اللوم ولا هذا المدح ولهذا لا يعظمون الأمر والنهي لأنهم يرون أن الإنسان مجبور على عمله .
ويقول في الصوفيه أنهم في القدر خير من المعتزلة لكن فيهم من البدع وذلك لأن المعتزلة يرون أن الإنسان مستقل في عمله فلا يستعين
(325)
بالله ولا يتوكل عليه لأنه يرى نفسه مستغنى عن ربه ، لكن الصوفيه لا يرون ربهم كذلك ، يرون أن الإنسان محتاج إلى ربه تبارك وتعالى إلا إنهم يخطئون في المبالغة في مشاهدة الربوبية فقد سبق معرفة أن الواحد منهم يفنى بمشهوده عن شهوده وبمعبوده عن عبادته .(1/216)
[ وَإِنَّمَا دِينُ اللَّهِ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِ الْقُرُونِ وَأَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ ، قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فَرَضِيَ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : " { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ ؛ أُولَئِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا ؛ قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا(1/217)
بَعِيدًا وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ حَوْلَهُ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } وَقَدْ أَمَرَنَا سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صِلَاتِنَا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَالنَّصَارَى عَبَدُوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ . ]
(326)(1/218)
والتابعين الأولين قد يكونوا اتبعوه بإحسان وقد يكونوا اتبعوه بغير إحسان وهذا دليل على أن مذهب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مذهب صحيح ما فيه تقديم إلى إحسان وعدم إحسان ، ولكن المذاهب الأخيره التي بعدهم هي التي فيها إحسان وغير إحسان ، وبه تعرف صحة قول من يقول أن عمل الصحابة حجة وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم من المهاجرين والأنصار ، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "من كان مستناً فليستن بمن مات" وهذا لا ينطبق على كل عصر لأنه لو كان ينطبق على كل عصر لقلنا أن الذين جاءو بعد عبد الله بن مسعود أيضاً أهل لأن يقتدى بهم لكن مراد ابن مسعود في العصر الذي يتكلم فيه ، والذين ما توا في عهده من الصحابة قبل الفتنة ، والحي لا تؤمن عليه الفتنة فكم من إنسان يكون في أول أمره مستقيماً ثم في آخر الأمر ينحرف ، فإذا قلدته أنت وأتبعته وأتخذته أماماً في حال إستقامته ربما ينحرف وأنت لا تشعر لأنك وثقت فبه وحينئذ تهلك معه ، والصحابة يجوز تقليدهم والأمام أحمد رحمه الله يرى أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالف الشرع ولكن ما أرى جواز التقليد للصحابة إلا للضرورة ، أما قوله عليه الصلاة والسلام " اليهود مغضوب عليهم " فليس هذا معناه أن قوله ( غير المغضوب عليهم ) هو اليهود وإنما المعنى أن اليهود من المغضوب عليهم ، وكل من عرف الحق وخالفه فهو مغوب عليه وفيه شبه من اليهود .
وكل من عبد الله على ضلاله فهو ضال من الضالين وفيه شبه من النصارى ، وهذاه الأمه ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
1. قسم علم الحق وأتبعه وهذا من الذين أنعم الله عليهم
2. وقسم علم الحق وخالفه وهذا من المغضوب عليهم
3. وقسم جهل الحق وعمل بالباطل وهذا من الضالين فخير هذه الأمه من علم الحق واتبعه(1/219)
[ . وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا
(327)
وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُهْتَدُونَ مُفْلِحُونَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ والصديقين وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ](1/220)
قوله تعالى ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ... الآية ) واضحة والمراد بالشهداء في قوله ( والشهداء والصالحين .... الآية قيل أن المراد بهم العلماء
لأنهم يشهدون على شريعة الله ، ويشهدون على عباد الله وقيل أن المراد بالشهداء من قتلوا في سبيل الله والصحيح أنها تشمل هذا وهذا ، وقوله ( وحسن أولئك رفيقا ) أي رفقاء فريقين هنا يستوى فيه الجمه والمفرد ,
أتم الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه شرح : التحفة المهدية بشرح الرسالة التدمورية للمؤلف الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي رحمه الله ليلة الجمعة 28/ 7/ 1402هـ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى يهديه إلى يوم الدين والحمد الله رب العالمين .(1/221)