http://www.islamset.com/arabic/abioethics/engab/hthot5.htm
حول اطلاع الجنس على عورة الجنس الآخر
في الممارسة الطبية
للأستاذ الدكتور حسان حتحوت
كان السلاح الطبي لجيش رسول الله صلي الله عليه وسلم مكونا من طائفة من السيدات المؤمنات ذوات البصر بالتطبيب أطلق عليهن اسم الآسيات فكن يخرجن مع الجيش ومعهن أدوات العلاج وربما ضربت لهن الخيام على حافة ساحة المعركة فكأنها ما نسمية اليوم مستشفيات الميدان ... فإذا سقط الجريح حملنه وطببن جراحه في أي مكان من جسمه .
واستقر ذلك منذ بدر وأحد دون أن يثير جدالا أو خلافا ومنهن من برعن فى أداء الخدمة بل منهن من تجاوزت العمل الطبي إلىالعمل القتالي المباشر كنسيبة بنت كعب التى قاتلت فى أحد واشاد بها النبي عليه الصلاة والسلام .
ذلك بأن امر العلاج امر ضرورة ولئن بين التشريع أحكام العورات في الرجال والنساء فلقد كان جليا ان داعي العلاج هو استثناء من القاعدة العامة ولم نجد ما فى هذا الاستثناء حرجا ولا غضاضة ولا مجافاة للدين فلم يصروا على أن يجعلوه مجالا للحرج أو الاحتجاج .
وعلى ذلك جري الفقه حتي الآن تظل عورة الرجل حراما على الرجل والمرأة وتظل عورة المرأة حراما على الرجل والمرأة كليهما ... ولا ينحسر هذا التحريم إلا فى شأن العلاج ومقام الطبابة وطالما توفر هذا الشرط أي الحاجة الطبية وتوفرت تقوي الله وصلاح النية فلا إثم ولا بأس .
ويلتبس الأمر على بعض الإخوة المسلمين فيعبرون عن قلقهم من ذلك فى حقل أمراض النساء والتوليد بالذات ... ولكن الناظر إلى المهنة الطبية البصيرة والناظر إلى الشريعة الإسلامية نظرة البصيرة كذلك يستطيع أن يجد فى كل ما يرفع عنه أحد ذلك الحرج ذلك بأن بدن المرأة عورة كله إلا وجهها وكفيها فإن تركنا تخصص أمراض النساء والتوليد جانبا فماذا عن الباطني الذى يفحص الصدر والبطن والظهر والأطراف .(1/1)
وماذا عن الجراح الذي قد يتناول الثديين بالجس والحس ليطمئن إلى خلوهما من ورمة قد تكون سرطانية وما الفرق فيما تقع عليه العين بين عملية البواسير أو النواسير فى الشرج وعملية زلق العجان الممزق بعد الولادة .
الحق ان فى العمل الطي اعتبارات خاصة لاتكمن الا فيه فالجسم فيه تركيب وتشريح وتكوين سوي أوغير سوي ولقد يكمن المرض فى جزء دون جزء أو يحل جهازا فى الجسم فينعكس على جهاز آخر أو على الجسم كله .
وينظر الطبيب إلى الجسم نظرة المهندس إلى البناء أوالميكانيكي إلى الماكينة ولايعود البصر ولا البصيرة يترجم الجسم إلى فتنة او عورة أو غواية أو إغراء كما هو الحال خارج الممارسات الطبية وعملية إعداد الشاب والفتاة ليكونا طبيبا وطبيبة تسبكهما فى هذا القالب الحرفي الذى قد لايراه من لم يكن من أهل المهنة يبدأ ذلك من أول الطريق خلال دراسة تشريح جسم الانسان وتركيبه ووظائف أعضائه وتداخل هذه الوظائف واشتباكها ثم فى باقي الطريق فى دراسة الانسان وكيف يصح وكيف يمرض وكيف يعالج ولوصحب هذا الاعداد تزكية للإيمان والتقوي وتنشئة على الخلق القويم لانعدمت تلك النماذج الشاذة والنادرة والخارجة التى نسمع بها بين آن وآن آخر فى كل زمان ومكان والتى توخت منها المهنة الطبية فجعلت من ركائز دستورها أن فحص الطبيب لمريض من الجنس الآخر لابد وأن يكون فى حضور طرف ثالث من المهنة الطبية هو عادة الممرضة أو مثلها .
وآراء فقهاء المسلمين فى القديم والحديث على هذا الرأي ولهم منذ مئات السنين احكام تعد بمقاييس عصرنا غاية فى الاستنارة وسعة الأفق وتفهم روح الشريعة ونصوصها جامعين فى ذلك ما بين العاطفة الإسلامية الدافئة والعقل المسلم الرصين والادلة على ذلك كثيرة فإن أردنا المثال لا الحصر طالعنا فى الجزء السادس من كتاب المغني لابن قدامه ص 558 قوله " ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة وغيرها فإنه موضع حاجة " .(1/2)
ومن اللطيف ما قرأناه فى كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي ( الجزء الثاني ص 464 حيث قال وقال المروزي قلت لابي عبد الله المرأة يكون بها الكسر فيضع المجبر يده عليها قال هذه ضرورة ولم ير به بأسا قلت لأبي عبد الله مجبر يعمل بخشية فقال لابد لي من أن اكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها قال طلحه يؤجر فسألت راي ابن مضرس قال " هذه ضرورة ولم ير به بأسا :
وتورد نفس الصفحة : " فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها ما تدعو الحاجة إلى نظرة منه حتي الفرجين وكذا الرجل مع الرجل قال ابن حمدان : وإن لم يوجد من يطبه سوي امرأة فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظرة منه حتي فرجيه .
قال القاضي ( يعني أبا يعلي من فقهاء الحنابلة ) يجوز للطبيب ان ينظر من المرأة إلى العورة عند الحاجة إليها وكذلك يجوز للمرأة والرجل أن ينظر إلى عورة الرجل عند الضرورة وفى حاشية ابن عابدين الحنفي جزء 5 ص 237 وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة "
علي أن فريقا من الأخوة المسلمين يقفون وقوف القلق عند تعبير الضرورة او إذا لم يوجد من يعالجها غير رجل وما إلى ذلك ونتمني لو امتد حبل التفكير الهادئ بنا معا قبل القطع بالنتائج .
فهذه التحفظات لاتقتصر علي العمل فى التوليد والأمراض النسائية فقط وإنما تشمل العمل الطبي أيضا .(1/3)
كذلك ينبغي ان نعلم ان نظر المرأة إلى عورة المرأة ليس مباحا على إطلاقه ولكنه ايضا استثناء من القاعدة العامة من أجل الضرورة وهي هنا الضرورة الطبية فالأصل أن المرأة المسلمة تنظر من المرأة كالرجل حاشية ابن عابدين ج 5ص 237 فإن ولجت تخصص التوليد والأمراض النسائية فبحكم الاستثناء الذى أفضت إليه ضرورة العلاج فانحسرت عنه القاعدة العامة وطبيباته وإن تباينت الآراء من بعد ذلك على توزيع العمل بينهن ولكن ينبغي العلم ان عملية إعداد الطبيب او الطبيبة توجب ان يطلع كل منهما على عورة الجنس الآخر من البداية فلن يتكون اطباء من الرجال إذا حذف جسم المرأة كله او بعضه من مقررات الدراسة ولن تتكون طبيبات من النساء إذا حذف جسم الرجل كله أو بعضه من مقررات الدراسة فطبيعة الدراسة الطبية تجعل ذلك محالا .
ولايكون التخصص فى فرع من فروع الطب الا من بعد الدراسة العامة الشاملة فالتخصص يفرض معرفة عامة بالكل يتلوها تعمق فى أحد الأبواب وإلا كان المتخصص كالناظر من ثقب المفتاح لاينظر إلا إلى جزء من صورة لا يدري ما حوله وما يسبقه وما يتلوه وما يتفاعل معه وما يتشابك فيه .
وأريد بذلك أن أطمئن نفرا من الأبناء والبنات الحريصين على دينهم أول دخولهم كلية الطب وظنهم أنهم يرتكبون معصية بالنظر إلى الجنس الآخر جثة كانت أو مريضا .
وإذا كان إعداد الأطباء والطبيبات واجبا شرعيا فإن مالا يكون الواجب إلا به فهو واجب ولا إثم هناك ولامعصية .(1/4)
ونعود للرأي المنادي بقصر العمل فى التوليد والأمراض النسائية على النساء فنري انه كان الأولي بالنداء هو قصر علاج النساء على الطبيبات وقصر علاج الرجل على الأطباء فى كافة فروع الطب من جراحة أو صدرية أو قلبية أو باطنية أو غددية أو جلدية أو مفصلية أو اشعة أو عصبية أو سوي كل ذلك وليس فى مجال التوليد والنساء فقط لأن العمل فى كل هذه الفروع قد يقتضي معاينة عورة المرأة في أي موضع من جسمها بغير استبعاد موضع معين .
فهل إلى ذلك من سبيل ؟
وهل تقتصر إباحة الاطلاع على العورات لفترة التلمذة فقط ثم نوزع العمل بعذ ذلك فى كل فروع الطب فالأطباء للرجال والطبيبات للنساء ؟
لأن عدد الطيببات فى أي تخصص طبي وحتي بغير تخصص طبي لن ينهض للقيام بهذا العبء عبء علاج النساء نصف المجتمع ولايطمح تخطيط طبي فى أن يكون نصف القوة الطبية في كل تخصص طبي من النساء .
ونود أن نصحح مفهوما واسع الانتشار خارج الوسط الطبي خاصا بتخصص التوليد وأمراض النساء الذى يظنه الأكثرون هو التخصص الذى تتجه إليه الطبيبة المرأة بحكم أنوثتها .
ولسنا هنا نعني القبالة العادية او تدبير امر الولادات الطبيعية فهذا أمر تقوم به القابلات المولدات من أفراد الهيئة التمريضية سواء فى المستشفيات او مراكز التوليد وهو امر معمول به فعلا منذ مدة كبيرة
وإنما موضع الحاجة إلى الطبيب المختص عندما يكون الأمر خارج النطاق السوي او يتعسراو يتفاقم او تعتوره الطواريء والمضاعفات للوالدة او للجنين .(1/5)
وهنا نقول بحق ان العمل فىهذا التخصص هو من أشق الأعمال فى الحقل الطبي إن لم يكن أشقها على الاطلاق فهو من أنواع الجراحة التى قد تدعو لاتخاذ أخطر القرارات وفى لحظات من الزمان وتنفيذها فى حسم وسرعة وجرأة لا يؤثر فى ذلك نوم ولايقظة ولا ساعات عمل طوال فى الليل أو النهار وهو تخصص لا يتهيأ إلا لذي العزم الأكيد والجسم الحديد والبديهة النشطة والدقة فى ميزان الأمور والتصرف الفوري الحكيم دون تعجيل أو تأجيل .
وأهل المهنة يعلمون ان هذا الطراز غير وفير لا في الرجال ولا فى النساء ولعله عن طبيعة النساء أبعد .
ولهذا فالنابهات فيه من النساء قليلات وهن ولاشك يبذلن تضحية غير هينة من راحتهن ورعاية اطفالهن وبيوتهن وأنفسهن وليست الغالبية من الطبيبات على هذا الاستعداد .
ومنذ جربنا أن تمر الطبيبة فى فترة التدريب بعد التخرج على طائفة من التخصص تقضي بكل منها فترة اتضح لنا ان أغلبية الطبيبات لايخترن التخصص بعد ذلك لا فى الجراحة ولا فى أمراض النساء والولادة ولكن فيما هو أقل مشقة وأخف وطأة فى سائر التخصصات .
ويقول قائل من بعد فلا تقحموا الطبيب المختص ولا تستدعوه إلا إن تأزم الموقف وتفاقمت الحالة وأوشكت أن تؤدي بالمريضة إلى الهلاك فهي آنذاك الضرورة الواضحة التى تسمح بها الشريعة ويقرها الدين .
وهو فى الواقع قول احسبه يصادف هوي فى نفس الطبيب المختص ... فالطبيب الكبير يجب ان يدعي إلى الأمر الكبير وإلا اهدر وقته فى الغث دون السمين من القضايا .
ولكن كيف تأتي لهذا الطبيب الكبير مقامه ذاك وما توفر له من خبرة ومران ودرايه يسوس بها المواقف الصعبة إلا مرورا بما دونها وتدرجا من السهل إلى الصعب ثم إلي الأصعب وهل يبلغ القمة إلا من مر بالسفح فما فوقه فما فوقه؟.(1/6)
إن عملية إعداد الطبيب الكبير المرجع لغيره من الأطباء تستدعي ان يبدأ في بدء حياته بممارسة الأمور السهلة والعادية ثم يرتقي رويدا فى حصيلته وحنكته وخبرته ومهارته حتي يتسنم الذروة التى تريد ولو لم نهيىء ذلك لقضينا على أنفسنا ونسائنا ان نظل عالة على الأجانب عن ديننا فى العلاج ، الذين ليس ضمن مفاهيمهم مفهوم العورة والتقوي والحلال والحرام أو هي عندهم تخالف ما نؤمن به وندين .
ونعود فنقول إنه إن كان إعداد الطبيب المتخصص المتفوق فى مجتمعاتنا فرض كفاية وواجبا فإن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب .
وقبل ان نختتم لابد ان نشير لبعض من السيدات اللآتي يجدن حرجا في أن يعاينهن رجل فالواجب يقضي بالحرص على قدر المستطاع على أن تفحصهن طبيبة لابداعي الحل والحرمة ولكن بداعي الرفق الذي هو من حق المريض على الطبيب وبداعي مراعاة المشاعر واحترامها وبداعي اننا أمرنا ان نخاطب الناس على قدر عقولهم فإن لم يتسير إجابة رغبتها فى الحال ضربنا لها موعدا يتسير فيه وإن كان الأمر لايحتمل التأجيل بينا لها وجه الضرورة وطمأناها إلى أنها غير عاصية إن عالجها طبيب .
وبعد ... فهذه كلمات توسمنا مقدار الحاجة إلى الإفضاء بها من واقع أحاديث مع شبابنا وطلابنا وبعض إخواننا المسلمين وفقهم الله .
اردنا بها أن نعرف برأي الإسلام في هذا الموضوع وأن نضع عنهم وزرا لا يضعه الإسلام على ظهورهم وإصرا لم يحمله الله عليهم وأن نحفظ عليهم رقعة الحلال فلا تنكمش وان نطمئنهم إلي مباح تبقي العمدة فيه على النية الحسنة ومراقبة الله وخشيته وبين الأطباء من آتاهم الله ذلك وزيادة والحمد لله ... فضلا من الله ونعمة والله عليكم حكيم .(1/7)