المجلد الأول(/)
الشهادتان
1 ـ شهادة أن لا إله إلا الله هي مفتاح دين الإسلام، وأصله الأصيل؛ فهل من نطق بها فقط؛ دخل في دائرة المسلمين؛ دون عمل يذكر ؟ وهل الأديان السماوية - غير دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - جاءت بنفس هذا الأصل الأصيل ؟
* من نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ حكم بإسلامه بادي ذي بدء، وحقن دمه :
فإن عمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا؛ فهذا مسلم حقًا، له البشرى في الحياة الدنيا والآخرة .
وإن عمل بمقتضاها ظاهرًا فقط؛ حكم بإسلامه في الظاهر، وعومل معاملة المسلمين، وفي الباطن هو منافق، يتولى الله حسابه .
وأما إذا لم يعمل بمقتضى لا إله إلا الله، واكتفى بمجرد النطق بها، أو عمل بخلافها؛ فإنه يحكم بردته، ويعامل معاملة المرتدين .
وإن عمل بمقتضاها في شيء دون شيء؛ فإنه يُنظَر : فإن كان هذا الذي تركه يقتضي تركه الردة؛ فإنه يحكم بردته، كمن ترك الصلاة متعمدًا، أو صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله . وإن كان هذا الذي تركه لا يقتضي الردة؛ فإنه يُعتبر مؤمنًا ناقص الإيمان بحسب ما تركه؛ كأصحاب الذنوب التي هي دون الشرك .
وهذا الحكم التفصيلي جاءت به جميع الشرائع السماوية .
2 ـ تأتي شهادة أن محمدًا رسول الله ملازمة في الغالب لشهادة أن لا إله إلا الله : ما المقصود بشهادة أن محمدًا رسول الله ؟ وما حكمة تلازمهما ؟
* نعم؛ شهادة أن محمدًا رسول الله لا بد منها مع شهادة أن لا إله إلا الله : إما نطقًا بها مع شهادة أن لا إله إلا الله، وأما تضمنًا؛ فإذا ذكرت شهادة أن لا إله إلا الله وحدها؛ فهي متضمنة لشهادة أن محمدًا رسول الله .
ولا تصح شهادة أن لا إله إلا الله بدون شهادة أن محمدًا رسول الله، ولا تقبل، ولا يحكم بإسلام من جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .(1/1)
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله : الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، والاعتراف كذلك بعموم رسالته إلى جميع الثقلين، وأنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، إلى أن تقوم الساعة .
3 ـ هل يفهم من تلك الشهادتين أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقوقًا توازي حق الله سبحانه وتعالى كما يتوهم بعض من يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا لم يفهم ذلك؛ فما هي الحقوق الخاصة بالله سبحانه وتعالى ؟ وما هي الحقوق الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهي هناك حقوق مشتركة ؟
لا شك أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقوقًا خاصة به، لكنها لا ترقى إلى مرتبة حقوق الله؛ لأن حقوق الله تعالى لا يشاركه فيها أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الأولياء، أو صالح من الصالحين .
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :
لله حق لا يكون لعبده ** ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقًا واحدًا ** من غير تمييز ولا برهان (1)
فحق الله تعالى عبادته وحده لا شريك له بما شرعه، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم محبته وطاعته وتوقيره واتباعه وتقديم أمره وطاعته على طاعة غيره من المخلوقين .
وليس هناك حق مشترك بين الله وبين رسوله، وقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله الذي أرسله؛ كما أن مبايعة الرسول مبايعة لله؛ قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ؛ فأصل الطاعة لله عز وجل، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لطاعة الله عز وجل .
4 ـ رتب الرسول صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان في عدة أحاديث - خاصة حديث جبريل - بأنها : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ فهل هنا حكمة معلومة من هذا الترتيب ؟(1/2)
* هناك حكمة - والله أعلم - في ترتيب أركان الإيمان في الآيات والأحاديث، وإن كانت الواو لا تقتضي ترتيبًا :
فقد بدئت هذه الأركان بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وما سواه من الأركان تابع له .
ثم ذكر الإيمان بالملائكة والرسل؛ لأنهم الواسطة بين الله وخلقه في تبليغ رسالاته؛ فالملائكة تنزل بالوحي على الرسل، والرسل يبلغون ذلك للناس؛ قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ النحل : 2 ] .
ثم ذكر الإيمان بالكتب؛ لأنها الحُجّة والمرجع الذي جاءت به الرُّسل من الملائكة والنبيِّين من عند الله للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ قال تعالى : { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [ البقرة : 213 ] .
ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه ميعاد الجزاء على الأعمال التي هي نتيجة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله أو التكذيب بذلك؛ فكان مقتضى العدالة الإلهية إقامة هذا اليوم للفصل بين الظالم والمظلوم، وإقامة العدل بين الناس .(1/3)
ثم ذكر الإيمان بالقضاء والقدر لأهميته في دفع المؤمن إلى العمل الصالح، واتخاذ الأسباب النافعة، مع الاعتماد على الله سبحانه، وبيان أنه لا تناقض بين شرع الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه وبين قضائه وقدره؛ خلافًا لمن زعم ذلك من المبتدعة والمشركين الذين قالوا : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [ النحل : 35 ] ؛ سوغوا ما هم عليه من الكفر بأن الله قدّره عليهم، وإذا قدّره عليهم؛ فقد رضيه منهم - بزعمهم -، فردّ الله عليهم بأنه لو رضيه منهم؛ ما بعث رسله بإنكاره، فقال : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] .(1/4)
الأسماء والصفات
5 ـ هل معرفة أسماء الله وصفاته جزء من العقيدة ؟ وهل يجب علينا وجوبًا أن ننبه الناس على ما في بعض التفاسير من التأويل والتحريف والتعطيل ؟
* نعم؛ أسماء الله وصفاته والإيمان بذلك نوع من أنواع التوحيد، لأن التوحيد ثلاثة أنواع : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات :
توحيد الربوبية : المراد به إفراد الله تعالى بأفعاله؛ كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الخلق .
وتوحيد الألوهية : إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي يتقربون بها إليه، إذا كانت على وفق ما جاءت به الشريعة؛ تخلص لله، ولا يكون فيها شرك . هذا توحيد الألوهية .
وتوحيد الأسماء والصفات : أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، نثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، أو ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
أما قضية ذكر ما في بعض التفاسير من بعض التأويلات؛ فهذا يبيَّن لطلبة العلم، أما أن يبيَّن لعموم الناس الذين لا يستفيدون من هذا؛ فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا يكون من التشويش ومن إشغال الناس بما لا يعرفون، وفي الأثر : ( حَدِّثوا النّاسَ بِمَا يَعرِفونَ، أتريدونَ أن يُكَذَّبَ الله ورسولُهُ ؟ (2).
فالعوام لهم طريقة، وطلبة العلم لهم طريقة :(2/1)
العوامُّ يبلغون مجملات العقيدة ومجملات الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والموعظة، ويعلمون أصول الدين وأركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان، يُدَرَّسُون هذه الأصول، ويُحَفَّظُون إياها؛ كما كان في هذه البلاد إلى عهد قريب، كانوا يُحَفَّظُون في المساجد الدين؛ يُحَفَّظُون أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ومعنى الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، يُحَفَّظُون أركان الصلاة وشروط الصلاة وواجباتها، ويُحَفَّظُون ما يحتاجون إليه من أمور دينهم .
أما طلبة العلم؛ فعند الشرح لهم والتوضيح يُبَيَّن لهم التأويل، لكن من غير أن يتعرض للمؤلف، ويقال : المؤلف مبتدع وضال . بل يقال : هذا التفسير خطأ، والصواب كذا، فيه تأويل الآية الفلانية، فيه تأويل الصفة الفلانية؛ من غير أن يتعرض للعلماء، فيبَدَّعون، ويتناول أشخاصهم، هذا لا يستفيد الناس منه، بل هذا يسبب نفرة طلبة العلم من العلماء، ويسبب سوء الظن بالعلماء، والغرض هو بيان الصواب في هذا الخطأ فقط، وليس تناول الأشخاص بالتبديع أو بالتجهيل أو بالتضليل؛ فهذا لا يفيد شيئًا، بل يفيد أمورًا عكسية، ويفيد سوء الظن بالعلماء، ويفيد بلبلة الأفكار، والخوض في أعراض العلماء الميتين والأحياء، هذا لا يأتي بخير .
يُبَيَّنُ الحق لمن يتحمل هذا الشيء من طلبة العلم الذين يفهمون هذا الشيء، أما العوامُّ، فلا يتحملون هذا الشيء، ولا وصلوا إليه، وإنما يُبيَّن لهم ما هم بحاجة إليه من أمور دينهم وأمور عبادتهم وأمور صلاتهم وأمور زكاتهم وأمور صيامهم، وأهم شيء توضيح العقيدة لهم بمعنى مختصر؛ يستفيدون منه، ولا يكون فيه تطويل يثقلهم ويملهم، بل يكون بطريقة مختصرة .
6 ـ هل ثبت في الشرع المطهر تحديد أسماء الله الحسنى ؟ وهل يمكن ذكرها ؟ وما هو اسم الله الأعظم ؟(2/2)
* قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، وقال تعالى : { لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ طه : 8 ] .
وأسماء الله الحسنى لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى، وليس في القرآن والسنة وحصر لها، ويمكن حصر ما ورد في الكتاب والسنة منها .
وقد جمع كثيرًا منها بعض العلماء في رسائل، ونظمها بعضهم؛ كابن القيم في " النونية " ، والشيخ حسين بن علي آل الشيخ في منظومته " القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى " ، وهي مطبوعة ومتداولة .
وأما اسم الله الأعظم؛ فقد ورد أنه في هاتين الآيتين : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله تعالى : { الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران : 1-2 ] ، وورد أنه أيضًا في أيةٍ ثالثةٍ هي قوله تعالى في سورة طه : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [ طه : 111 ] ، وذكر ذلك ابن كثير في " تفسيره " (3).
7 ـ هل صفات الله عز وجل من قبيل المتشابه أو من قبيل المحكم ؟
* صفات الله سبحانه وتعالى من قبيل المحكم الذي يعلم معناه العلماء ويفسرونه، أما كيفيتها؛ فهي من قبيل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .
وهذا كما قال الإمام مالك رحمه الله وقال غيره من الأئمة : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (4) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة؛ لا أحمد بن حنبل ولا غيره؛ أنه جعل ذلك من المتشابه " (5) .
ومعنى ذلك أن علماء أهل السنة وأئمتها أجمعوا على أن نصوص الصفات ليست من المتشابه، وإنما ذلك قول المبتدعة والفرق المنحرفة عن منهج السلف . والله أعلم .
8 ـ ما القول في قوم ينكرون توحيد الأسماء والصفات، ويعتبرون ذلك مما أحدثه المتأخرون ؟(2/3)
* توحيد الأسماء والصفات هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
فالذي ينكر توحيد الأسماء والصفات منكر لنوع من أنواع التوحيد، والذين ينكرون هذا التوحيد لا يخلون من أحد حالين :
الحال الأولى : أن ينكروا ذلك بعدما عرفوا أنه حق، فأنكروه عنادًا، ودعوا إلى إنكاره؛ فهؤلاء كفار؛ لأنهم أنكروا ما أثبته الله لنفسه - وهم يعلمونه - من غير تأويل .
والحال الثانية : أن يكونوا مقلدين لغيرهم؛ لثقتهم بهم، وظنهم أنهم على حق، أو فعلوا ذلك لتأويل ظنوه صحيحًا، ولم يفعلوا ذلك عن عناد، بل فعلوه من أجل تنزيه الرب بزعمهم؛ فهؤلاء ضُلاّل مُخطئون، لا يُكَفَّرون؛ لأنهم مقلدون أو متأولون .
والدليل على كفر الأولين قوله تعالى عن المشركين : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في " تيسير العزيز الحميد " : " لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرًا، فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر، فمن جحد شيئًا من أسمائه وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم؛ فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة " (6).
وقال أيضًا : " بل نقول : من لم يؤمن بذلك؛ فليس من المؤمنين، ومن وجد في قلبه حرجًا من ذلك؛ فهو من المنافقين " (7).
وتوحيد الأسماء والصفات ليس مما أحدثه المتأخرون؛ فقد سمعت حكم الله فيمن أنكر اسمه الرحمن، والإيمان بهذا النوع موجود في كلام الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من السلف :
قال الإمام مالك لما سئل عن استواء الله على عرشه : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (8).
وقال عبد الله بن المبارك : " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماوات، على العرش مستو، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية " (9) .(2/4)
وقال الإمام الأوزاعي : " كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى ذِكْرُهُ فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السّنّة " (10) .
وقال الإمام أبو حنيفة : " ومن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، عرشه فوق سبع سماواته " (11).
وذكرنا قول الإمام مالك .
وإذا أردت الاستزادة من كلام السلف في هذا الموضوع؛ فراجع كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " للإمام ابن القيم .
لكن بعض العلماء يدخل توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، ويقول : التوحيد نوعان : توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الألوهية، ولما وجد من ينكر الأسماء والصفات؛ جعل هذا النوع مستقلاً من أجل التنبيه على إثباته والرد على من أنكره .
وأنواع التوحيد الثلاثة موجودة في القرآن الكريم وبالأخص في أول سورة، وعليك أن تراجع أول كتاب " مدارج السالكين " لابن القيم (12).
9 ـ ما المقصود بالإلحاد في أسماء الله؛ كما جاء في قوله تعالى : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } [ الأعراف : 180 ] ؟
* الإلحاد في اللغة : الميل والعدول عن الشيء، والإلحاد في أسماء الله وآياته : معناه : العدول والميل بها عن حقائقها ومعانيها الصحيحة إلى معان باطلة لا تدل عليها؛ كما فعلته الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، وقالوا : إنها ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات ولا معاني؛ فالسميع لا يدل على سمع، والبصير لا يدل على بصر، ونحو ذلك .(2/5)
وقد توعد الله الذين يلحدون في آياته وفي أسمائه، فقال : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 180 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } [ فصلت : 40 ] ، وكقول الأشاعرة : المراد باليد النعمة، والمراد بالوجه الذات، وما أشبه ذلك من التأويلات الباطلة التي هي في حقيقتها إلحاد في أسماء الله وصفاته، والواجب أن تثبت كما جاءت، ويعتقد ما دلت عليه من المعاني الحقيقية .
10 ـ هل يجوز الحلف بالقرآن الكريم ؟ فقد حلفت بالقرآن على أن لا يكون أمر ما، ولكنه حصل على الرغم مني؛ فهل علي كفارة عن هذا اليمين ؟
يجوز الحلف بالقرآن الكريم لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وكلامه صفة من صفاته، واليمين المشروع هو الحلف بالله أو بصفة من صفاته .
فإذا حلفت بالقرآن الكريم على أمر مستقبل؛ انعقدت يمينك، وكانت صحيحة؛ فإذا خالفتها مختارًا ذاكرًا؛ وجبت عليك الكفارة، وهي : عتق رقبة إذا تمكنت من ذلك، أو تطعم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام البلد وقوت البلد، أو تكسو عشرة مساكين، أنت مخير بين أحد هذه الخصال الثلاثة : العتق، أو الإطعام، أو الكسوة؛ فإذا لم تجد ولم تقدر على واحدة منها؛ فإنك تصوم ثلاثة أيام؛ لقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } [ المائدة : 89 ] .
11 ـ ما الحكمة في أن السؤال بوجه الله لا يكون إلا للجنة ؟ وهل من سأل بوجه الله غير الجنة في أمور الدنيا يعتبر عاصيًا مذنبًا ؟(2/6)
* روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يُسْألُ بِوَجْهِ الله إلا الجَنَّة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/131 ) من حديث جابر رضي الله عنه ] .
والحديث فيه مقال، وهو نهي أو نفي عن سؤال شيء بوجه الله إلا الجنة؛ تعظيمًا لوجه الله، واحترامًا أن تسأل به الأشياء الحقيرة من مطالب الدنيا .
قال بعض العلماء : لا يسأل بوجه الله إلا الجنة التي هي غاية المطالب، أو ما هو وسيلة إلى الجنة؛ كما في الحديث الصحيح : ( اللَّهمَّ ! إنِّي أسْأَلُكَ الجَنَّةَ وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ أو عَمَلٍ ) [ رواه الحاكم في " المستدرك " ( 1/521، 522 ) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو جزء من الحديث ] .
ولا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل بوجه الله حوائج الدنيا؛ إعظامًا لوجه الله وإجلالاً له؛ فمن سأل بوجه الله أمرًا من أمور الدنيا؛ كان عاصيًا مخالفًا لهذا النهي، وهذا يدل على نقصان توحيده وعدم تعظيمه لوجه الله تعالى .
12 ـ هل يوصف الله تعالى بالقِدَم؛ كأن يقول القائل : يا قديم ! ارحمني ! أو ما أشبه ذلك ؟ وهل الفرد من أسماء الله تعالى ؟ أفتوني مأجورين .
* ليس من أسماء الله تعالى القديم، وإنما من أسمائه الأول، وكذلك ليس من أسمائه الفرد، وإنما من أسمائه الواحد الأحد؛ فلا يجوز أن يقال : يا قديم ! أو : يا فرد ! ارحمني ! وإنما يقال : يا من هو الأول والآخر والظاهر والباطن ! يا واحد أحد فرد صمد ! ارحمني واهدني . . . إلى غير ذلك؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لا يجوز لأحد أن يثبت شيئًا منها إلا بدليل . والله أعلم .
13 ـ هل يجوز التسمية بإضافة ( عبد ) إلى اسم من غير أسماء الله الثابتة؛ مثل : ( عب الناصر ) ، أو ( عبد المتعال ) ، أو ( عبد الستار ) ؟ وهل يلزم تغيير من كان اسمه من أحد هذه الأسماء ؟ والله يحفظكم .(2/7)
* لا أعلم ما يمنع من التسمي بهذه الأسماء، والله أعلم، وإن كان الأحسن والأحوط التعبيد لله بأسمائه الثابتة، فيقال مثلاً : عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وعبد الرحيم . . . إلى غير ذلك .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أحَبُّ الأسماءِ إلى الله : عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 3/1682 ) من حديث ابن عمر بلفظ : " إن أحب أسمائكم إلى . . . " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/289 ) من حديث ابن عمر، ورواه النسائي في " سننه " ( 6/218 ) من حديث أبي وهب الجشمي . ] .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن .
وندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى التسمي بأسماء الأنبياء؛ كما جاء في " سنن أبي داود " والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( تَسَمَّوا بأسماءِ الأنبياء ) [ انظر : " سنن أبي داود " ( 4/289 ) من حديث أبي وهب الجشمي، وانظر " سنن النسائي " ( 6/218 ) من حديث أبي وهب الجشمي . ] .
وقد خالف كثير من الناس اليوم الهدي النبوي، فصاروا يسمون أولادهم بأسماء أجنبية غريبة، وبأسماء بعيدة عن أسرهم ومجتمعهم، وهذا من مظاهر النقص، وحب التقليد الأعمى، والولع بالاستيراد من الخارج، حتى في الأسماء .
14 ـ في المسجد الذي نصلي فيه بعد قراءة الجزء - وهو راتب يومي - يقرؤون أسماء الله الحسنى، وبعدها يرددون جميعًا اسم ( يا لطيف ) مئة وتسعًا وعشرين مرة؛ فهل هذا مشروع أم بدعة ؟
* هذا من البدع؛ قراءة أسماء الله الحسنى بعد الصلوات، واعتياد ذلك، وترديد كلمة ( يا لطيف ) بعدد معين وبصفة معينة؛ كل هذا من البدع المحدثة في الإسلام، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .(2/8)
فهذه الأذكار المحدثة - كقراءة أسماء الله الحسنى أدبار الصوات، وترديد كلمة ( يا لطيف ) بصوت مرتفع، وما أشبه ذلك من الأوراد، التي ليس لها دليل من الكتاب والسنة ولا من هدي السلف الصالح - هي بدع يجب تركها والابتعاد عنها والتحذير منها .
أما أسماء الله الحسنى؛ فالله يقول : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 . ] ؛ فدعاء الله بأسمائه وصفاته والتوسل إليه بذلك؛ هذا شيء مشروع، لكن لا يجعل هذا في وقت معين أو بعد فريضة؛ إلا بدليل يدل على ذلك، ولا دليل يدل على التخصيص . والله تعالى أعلم .(2/9)
التوكل على الله
15 ـ ما المقصود بالتوكل ؟ وما حقيقته ؟ وهل التوكل على الله يكون في الشدائد فقط ؟ أم هو في كل الأمور ؟ وما ردكم على من يفهم التوكل بمعنى التواكل وعدم بذل الأسباب ؟
* التوكل لغة هو الاعتماد والتفويض؛ فالتوكل على الله سبحانه هو الاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه .
وهو فريضة يجب إخلاصه لله : قال الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 . ] ، وقال تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 . ] ؛ فجعل التوكل شرطًا للإيمان والإسلام، مما يدل على أهميته؛ فهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة .
والتوكل على الله سبحانه يكون في جميع الأمور لا في بعض الأحوال .
وليس معنى التوكل على الله إهمال الأسباب؛ فإن الله أمر بالتوكل وأمر باتخاذ الأسباب، فقال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 . ] ، وقال تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [ النساء : 71 . ] ، لكن لا يعتمد على الأسباب في حصول النتائج .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، وكان يحمل السلاح، ويلبس الدروع، ويضع المِغْفَرَ على رأسه صلى الله عليه وسلم (13).
ولما كان أناس يحجون، ولا يأخذون معهم الزاد، ويصبحون عالة على غيرهم، ويسمون أنفسهم بالمتوكلين؛ أنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197(14) ] .
ولهذا قيل : الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في الشريعة، لا تجعلوا توكلكم عجزًا، ولا عجزكم توكلاً، بل إن الجنة لا تحصل إلا بسبب، وهو العمل الصالح . والله أعلم .
16 ـ كيف يكون الإنسان متوكلاً على الله ؟(3/1)
يكون الإنسان متوكلاً على الله؛ بأن يصدق الاعتماد على ربه عز وجل؛ حيث يعلم أنه سبحانه وتعالى بيده الخير، وهو الذي يدبر الأمور، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس : ( يا غُلام ! إني أُعلّمُكَ كلماتٍ، احفظِ الله؛ يحفظك، احفظ الله؛ تجِدهُ تُجَاهكَ، إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنتَ؛ فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/293 ) من حديث عبد الله بن عباس، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/203 ) من حديث عبد الله بن عباس . (15)] .
بهذه العقيدة يكون الإنسان معتمدًا على الله جل وعلا، لا يلتفت إلى من سواه .
ولكن حقيقة التوكل لا تنافي فعل الأسباب التي جعلها الله تبارك وتعالى سببًا، بل إن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا - سواء كانت شرعية أم حسية - هي من تمام التوكل، ومن تمام الإيمان بحكمة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المتوكلين - كان يلبس الدروع في الحرب، ويتوقى البرد، ويأكل ويشرب؛ لإبقاء حياته ونمو جسمه، وفي أُحد لبس درعين (16).
فهؤلاء الذين يزعمون حقيقة التوكل تكون بترك الأسباب والاعتماد على الله عز وجل هم في الواقع خاطئون؛ فإن الذي أمر بالتوكل عليه له الحكمة البالغة في تقديره وفي شرعه، قد جعل للأمور سببًا تحصل به .
ولهذا؛ لو قال قائل : أنا سأتوكل على الله تعالى في حصول الرزق، وسأبقى في بيتي، لا أبحث عن الرزق ! قلنا : عن هذا ليس بصحيح، وليس توكلاً حقيقيًا؛ فإن الذي أمرك بالتوكل عليه هو الذي قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ الملك : 15 ] .(3/2)
ولو قال قائل : أنا سأتوكل على الله في حصول الولد أو في حصول الزوجة، ولم يسع في طلب الزوجة وخطبتها ! لعده الناس سفيهًا، ولكان فعله هذا منافيًا لما تقتضيه حكمة الله عز وجل .
ولو أن أحدًا أكل السم، وقال : إني أتوكل على الله تعالى في ألا يضرني هذا السم ! لكان هذا غير متوكل على الله حقيقة؛ لأن الذي أمرنا بالتوكل عليه سبحانه وتعالى هو الذي قال لنا : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [ النساء : 29 ] .
والمهم أن فعل الأسباب، التي جعلها الله أسبابًا، لا ينفي كمال التوكل، بل هو من كماله، وأن التعرض للمهلكات لا يعد هذا من توكل الإنسان على الله، بل هو خلاف ما أمر الله عز وجل به، بل مما نهى الله عنه .
17 ـ ما هي الأسباب المُعِينَةُ على تعليق القلب بالله عز وجل ؟
الأسباب المعينة على تعليق القلب بالله هي الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، وتذكر نعم الله سبحانه، والخوف من عقاب الله، والطمع في ثوابه، والإكثار من ذكر الله؛ قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] .
وكذلك من الأسباب التي تعين على تعلق القلب بالله النظر في آياته الكونية، والتفكر فيها؛ قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 190، 191 ] .
18 ـ هل شراء الأطعمة ووضعها في البيت في هذه الأيام ينافي التوكل على الله عز وجل ؟(3/3)
شراء الأطعمة ووضعها في البيت من أجل الاستهلاك لا بأس به، ولا ينافي التوكل؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه؛ إلا إذا ترتب على ذلك إضرار بالآخرين؛ بأن تكون السلع قليلة، وفي شرائها وتخزينها تضييق على الناس، أو إغلاء للسعر .(3/4)
الدعاء وبعض الألفاظ المنهية
19 ـ إذا كانت هناك أوقات تكون إجابة الدعاء فيها أحرى من غيرها فما هي ؟ وماذا يشترط لإجابة الدعاء ؟
نعم هناك أوقات وأحوال يستجاب فيها الدعاء كما دلت على ذلك الأدلة :
فمن الأوقات :
الدعاء في جوف الليل إذا قام الإنسان إلى صلاة الليل وصلى ودعا الله سبحانه وتعالى .
وفي وقت السحر أيضًا .
الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة؛ فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله وهو قائم يصلي إلى استجيب له؛ كما جاء في الحديث [ انظر : " صحيح الإمام البخاري " ( 1/224 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وكذلك أوقات كثيرة يستجاب فيها الدعاء؛ مثل ليلة القدر، وفي الأزمنة الفاضلة؛ كشهر رمضان، ويوم عرفة، وغير ذلك من الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء .
ومن الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء :
في السجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وأمّا السُّجُودُ؛ فأكثِرُوا فيه مِن الدُّعاءِ؛ فقَمِنٌ أن يُستجابَ لكم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/348 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أقرَبُ ما يكونُ العبدُ من ربِّهِ وهو ساجِدٌ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/350 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] . ففي حالة السجود خضوع بين يدي الله عز وجل، وقرب من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول لنبيه : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ العلق : 19 ] ؛ فالسجود فيه قرب من الله سبحانه وتعالى، والخضوع له، والانكسار بين يديه .
وكذلك يستجاب الدعاء في حالة الضرورة والشدة؛ قال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل : 62 ] .
ولإجابة الدعاء شروط كثيرة وعظيمة :(4/1)
من أعظمها : الإخلاص لله تعالى في الدعاء؛ بأن لا يشرك مع الله أحدًا؛ قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 14 ] ؛ فالإخلاص في الدعاء بأن يدعو العبد ربه وحده لا شريك له، ولا يدعو معه غيره . هذا رأس الشروط .
ومن ذلك أكل الحلال؛ بأن يكون الإنسان مأكله من الحلال وملبسه من الحلال وما يستعمله حلال، أما إذا كان يستعمل الحرام أكلاً ولبسًا وركوبًا وغير ذلك؛ فهذا لا يستجاب له الدعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المسافر : ( أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء : يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام؛ فأنّى يُستجاب لذلك ؟ ! ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/703 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ فمن أسباب قبول الدعاء أكل الحلال واستعمال الحلال، ومن موانعه أكل الحرام .
ومن أسباب قبول الدعاء أيضًا أن لا يدعو بإثم أو بقطيعة رحم، وإنما يدعو بأمور نافعة؛ قال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } إلى قوله تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 55، 56 ] .
ومن أسباب قبول الدعاء أو شروط قبول الدعاء إقبال القلب على الله سبحانه وتعالى؛ بأن يدعو وهو موقن بالإجابة، ولا يدعو وهو في حالة غفلة وفي حالة إعراض، يتكلم بما لا يحضره قلبه ويوقن به إيمانه، ولهذا ورد في الحديث : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الدعاء لا يُستجاب من قلب غافل لاه ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 9/156 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه . ] .(4/2)
هذا؛ والدعاء أمره عظيم، ولهذا يقول سبحانه وتعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
20 ـ هل يجوز الدعاء بالهداية للمشركين من عُبّاد القبور ونحوهم أم لا ؟
نعم، يجوز طلب الهداية للمشركين والكفار بأن يهديهم الله عز وجل، بمعنى يوفقهم الله لقبول الحق؛ لأن الهداية أنواع كثيرة : تطلق الهداية ويراد بها البيان والإرشاد، وهذا شيء حاصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرشد كل الناس للحق وبينه لهم، وهداية بمعنى التوفيق لقبول الحق والعمل به؛ فيجوز أن ندعو للكفار بأن يهديهم الله لقبول الحق والدخول في الإسلام .
إنما الممنوع أن ندعو لهم بالمغفرة؛ لقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ] ؛ فالمشرك والكافر لا يجوز الاستغفار له والترحم عليه .(4/3)
21 ـ وجدت حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اثنتي عشرة ركعة تُصلين من ليل أو نهار، وتتشهّد بين كل ركعتين؛ فإذا تشهدت في آخر صلاتك؛ فأثن على الله عز وجل، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل : لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وهو على كل شيء قدير؛ عشر مرات، ثم قل : اللهم ! إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة [ للفائدة انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 1/344، 345 ) . ] ، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالاً " . قال : " ولا تُعلّموها السفهاء؛ فإن يدعوا بها؛ يُستجابُ لهم ) أو ما معناه، رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال أحمد بن حرب : قد جربته فوجدته صحيحًا : وقال إبراهيم بن علي : قد جربته فوجدته حقًا . وقال الحاكم : قال لنا زكريا : قد جربته فوجدته [ لم أجده . ] حقًا . أفيدونا جزاكم الله خيرًا، هل هذه الصلاة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حقًا بهذه الصفة، وماذا تسمى ؟ وما المقصود بالسفهاء الذين نهينا أن نعلمهم هذه الصلاة ؟ بينما هناك حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عليًا عن تلاوة القرآن وهو راكع أو ساجد، أخرجه ابن جرير [ لم أجده . ] ؛ فأيهما الصحيح ؟ وإن كانا صحيحين؛ فكيف الجمع بينهما ؟(4/4)
هذا الحديث فيه من الغرابة كما ذكر السائل من أنه شرع قراءة الفاتحة في غير القيام في الركوع أو في السجود، وتكرار ذلك، وأيضًا في السؤال بمعاقد العز من العرش وغير ذلك، وكلها أمور غريبة، فالذي ينبغي للسائل أن لا يعمل بهذا الحديث، وفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا إشكال فيها، وفيها من نوافل العبادات والصلوات والطاعات، ما فيه الخير والكفاية إن شاء الله .
وأما ما ذكر من أن فلانًا جربه فوجده صحيحًا، وفلانًا جربه فوجده صحيحًا؛ هذا كله لا يدل على صحة الحديث، فكون الإنسان يُجرِّب الشيء ويحصل له مقصوده لا يدل على صحة ما قيل فيه أو ما ورد فيه؛ لأنه قد يصادف حصول هذا الشيء قضاءً وقدرًا، أو يصادف ابتلاءً وامتحانًا للفاعل، فحصول الشيء لا يدل على صحة ما ورد به .
22 ـ هناك أناس يدعون بدعاء يعتقدون أنه يشفي من مرض السُّكر، وهو كما يلي : الصلاة والسلام عليكم وعلى آلك يا سيدي يا رسول الله ! أنت وسيلتي، خذ بيدي، قلَّت حيلتي، فأدركني . ويقول هذا القول : يا رسول الله ! اشفع لي . وبمعنى آخر : ادع الله يا رسول الله لي بالشفاء . فهل يجوز أن يردد هذا الدعاء ؟ وهل فيه فائدة كما يزعمون ؟ أرشدونا بارك الله فيكم .
هذا الدعاء من الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب لكشف الضرر والمرض من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى؛ فطلبه من غير الله شرك أكبر، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، هذا من الشرك الأكبر؛ لأن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأولياء، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فالله سبحانه وتعالى عاب ذلك عليهم، ونهاهُم عن ذلك !(4/5)
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ يونس : 18 . (17) ] ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 . (18)] .
وكل هذا من الشرك الأكبر والذنب الذي لا يُغفر إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، والتزام التوحيد وعقيدة الإسلام؛ فهو دعاء شركيّ، لا يجوز للمسلم أن يتلفَّظ به، ولا أن يدعو به، ولا أن يستعمله، ويجب على المسلم أن ينهى عنه، وأن يُحَذِّر منه .
والأدعية الشرعية التي يُدعى بها للمريض ويُرقى بها المريض أدعية ثابتة ومعلومة، يُرجع إليها في مظانِّها من دواوين الإسلام الصحيحة؛ كـ " صحيح البخاري " (19) "، و " صحيح مسلم " (20).
وكذلك قراءة القرآن الكريم على المريض مرض السُّكَّر أو غير مرض السُّكَّر، قراءة القرآن الكريم - وبالذات قراءة سورة الفاتحة - على المريض فيها شفاء وأجر وخير كثير .
والله سبحانه وتعالى أغنانا بذلك عن الأمور الشركية، والمسلم لا يجوز له أن يتعاطى شيئًا من الشركيَّات، ولا أن يقدم على عمل من الأعمال أو على دعاء من الأدعية؛ إلا إذا ثبت لديه وتحقَّق أنه من شريعة الله وشريعة رسوله ( ، وذلك بسؤال أهل العلم، وبالرجوع إلى أصول الإسلام الصحيحة .
فالذي أنصحك به ترك هذا الدعاء، والابتعاد عنه، والنهي عنه، والتحذير منه .
23 ـ هل يجوز أن يدعو الدّاعي فيقول : سبحان من لا يصفه الواصفون، ولا تدركه العقول . . . وما أشبه ذلك ؟ لأننا نسمع بعض الأئمة يدعون بهذا الدُّعاء؛ فهل يصح ذلك ؟
يُشرع الدعاء بما ورد من أسماء الله وصفاته؛ قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 . ] .
أما ما ذُكر في السؤال؛ فلم يرد في كلام الله وكلام رسوله فيما أعلم؛ فلا ينبغي الدُّعاء به .(4/6)
وأيضًا؛ في كلمة : لا يصفه الواصفون ! نظرٌ ظاهرٌ؛ لأن الله سبحانه يوصف بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا اللفظ منقولاً عن نفاة الصِّفات .
24 ـ هل يجوز أن نقول في الدعاء : " اللهم بجاه نبيك " ؟
لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بجاه غيره؛ لأن هذا بدعة، لا دليل عليه، وهو الشرك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق؛ فإنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه؛ فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له " انتهى (21) ".
والله سبحانه أمرنا أن ندعوه مباشرة، ولم يأمرنا أن ندعوه بجاه أحد؛ قال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } [ الأعراف : 55 . ] ، { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 . ] ، { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ غافر : 14 . ] ؛ كما أمرنا أن ندعوه بأسمائه سبحانه، فقال : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
وما يُروى : " إذا سألتُم الله؛ فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم " ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إنه حديث كذب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث " انتهى (22).
25 ـ يقول بعض الناس لبعض : أنت لا ترحم، ولا تترك رحمة الله تنزل . فهل في هذا القول محذور شرعي ؟
قول بعض الناس : أنت لا ترحم ! لا بأس به، وهو من باب الإنكار على الجبابرة العُتاة .(4/7)
ولكن قولهم : ولا تترك رحمة الله تنزل ! قول خطأ وضلال، ولا يجوز النطق به؛ لأنه لا أحد يمنع رحمة الله النازلة؛ قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبًا ربه عز وجل : ( لا مانعَ لِما أعطيتَ، ولا معطيَ لِما منعتَ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/205 ) من حديث المغيرة بن شعبة، وهو جزء من الحديث . ] .
وإن كان قصد القائل أنَّ المخاطب يكره نزول رحمة الله على عباده؛ فهذا هو الحسد المذموم الذي يُنكَرُ على صاحبه؛ فالمعنى صحيح، ولكنَّ اللفظ خطأ، والصَّواب أن يُقال : وتكرهُ أن تنزل رحمة الله على عبده .
26 ـ هل يُعتبر التحسُّر والتأسُّف على ما مضى مما لم يُدرك أمرًا مذمومًا ؟ وما حكمة منع استعمال كلمة ( لو ) ؟
لا يجوز التحسُّر والتأسُّفُ على ما لم يدرك الإنسان إذا كان عمل السبب لحصوله ولم يحصل؛ فإنه لا يدري؛ لعل عدم حصوله خير له، ولأن هذا يدل على التسخُّط على قضاء الله وقدره؛ قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22-23 . ] .
أما قوله : لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا ! فقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ففي " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( احرص على ما ينفعُك، واستعن بالله، ولا تَعجِزَن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل : لو أني فعلتُ؛ لكان كذا وكذا، ولكن قُل : قدَّرَ الله، وما شاء فعل . فإنَّ ( لو ) تفتحُ عمل الشيطان ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(4/8)
فكلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان لما فيها من التأسُّف على ما فات والتحسُّر ولوم القدر، وذلك ينافي الصَّبر والرِّضى بالقضاء والقدر .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ؛ ما سُقت الهديَ ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/879 ) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو جزء من الحديث . ] ؛ فهو إخبار عن مستقبل، وليس فيه اعتراض على قدر؛ فهو إخبار عمَّا سيفعل في المستقبل لو حصل .
27 ـ أرى بعض الناس يكتب في رسائله لأخيه أو لوالده فيقول : والدي العزيز، أو : أخي الكريم، أو : أختي الكريمة . . . وغير ذلك من أسماء الله الحسنى؛ هل هذا فيه شيء ؟
هذا ليس فيه شيء، بل هو جائز؛ قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 . ] ، وقال تعالى : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 23 . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 4/161 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ هذا دليل على أن مثل هذه الأوصاف تصح لله ولغيره، ولكن اتصاف الله بها لا يماثِلُه شيء من اتصاف المخلوق بها؛ فإن صفات الخالق تليق به وصفات المخلوق تليق به، وقول القائل لأبيه أو أمه أو صديقه : العزيز . لأنه عزيز عليه، غالٍ عنده، ولا يقصد بها أبدًا الصفة التي تكون لله عز وجل .
28 ـ ما حكم قول بعضهم : ما صدَّقت على الله يحصُل كذا . . . ؟ وإذا كان لا يجوز؛ فما العبارة الجائزة البديلة للمتكلِّم ؟(4/9)
هذه الكلمة ( ما صدَّقتُ على الله . . . ) إلخ : لا أعلم لها أصلاً، ولا معنى لها؛ فالأولى تركها، وأن يقتصر المتكلم على كلمة ( ما صدَّقتُ أنه يحصُلُ كذا ) . . . وما أشبه ذلك من الألفاظ المعروفة؛ كأن يقول : أستبعد أنه يحصُلُ كذا، أو : أستغرب، أو ما أشبه ذلك .(4/10)
الحلف
29 ـ ما القول في قوم اعتادوا على الحلف بالله، واتخذوه مؤكّدًا لكل قول يقولونه، سواء كان مهمًا أو غير مهم ؟
لا يجوز الإكثار من الحلف؛ لأن ذلك يدل على الاستهانة به وعدم احترامه، وقد قال تعالى : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 . ] .
وفي الحديث الصحيح : أن من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجلاً جعل الله بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه (23).
وقد ورد في تفسير قوله تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 . ] ؛ يريد : لا تحلفوا؛ فهو نهي عن الحلف إلا عند الحاجة وفي حالة البر والصدق .
30 ـ اعتاد بعض الناس عندنا في مصر الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملاتهم، وأصبح الأمر عاديًا؛ فعندما نصحت أحد هؤلاء الذين يحلفون بالنبي؛ أجابني بأن هذا تعظيم للرسول، وهذا ليس فيه شيء؛ ما الحكم في ذلك ؟
الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من المخلوقين أو بصفة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من المخلوقين محرم، بل هو نوع من الشرك؛ فإذا أقسم أحد بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال : والنبي، أو قال : والرسول، أو : أقسم بالكعبة، أو : بجبريل، أو : بإسرافيل، أو : أقسم بغير هؤلاء؛ فقد عصى الله ورسوله ووقع في الشرك .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفًا؛ فليحلف بالله أو ليصمت ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/125 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/253 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه غيرهم بدون ذكر : " كفر " . ] .(5/1)
وقول الحالف بالنبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ! جوابه أن نقول : هذا النوع من التعظيم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أنه نوع من الشرك؛ فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن هذا الحلف؛ لأن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، بل في امتثال أمره واجتناب نهيه، وهذا الامتثال يدل على محبته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى في قوم ادعوا محبة الله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 . ] ؛ فإذا أردت أن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي يستحقه عليه الصلاة والسلام؛ فامتثل أمره، واجتنب نهيه، في كل ما تقول وتفعل، وبذلك تكون معظمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فنصيحتي لإخواني الذين يكثرون من الحلف بغير الله، بل الذين يحلفون بغير الله، نصيحتي لهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يحلفوا بأحد سوى الله سبحانه وتعالى؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول : ( مَن كان حالِفًا، فليحلف بالله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] ، واتقاء للوقوع في الشرك الذي دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن حلفَ بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
31 ـ حينما يريد بعض الناس أن يؤكد كلامًا كذبًا قاله لشخص؛ يحلف له بغير الله؛ معتقدًا بأن الحلف بالله سبحانه لا يليق معه الكذب، فيحلف بغيره؛ فهل لهذا العمل وجه في الشرع المطهر ؟
هذا الذي كذب وحلف ليسوغ الكذب؛ جمع بين سيئتين : سيئة الكذب، وسيئة الحلف بغير الله .(5/2)
لأن الحلف بغير الله لا يجوز بحال من الأحوال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/125 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/253 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه غيرهم بدون ذكر : " كفر " . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفً؛ فليحلف بالله أو ليصمت ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
والكذب أخف إثمًا من الحلف بغير الله؛ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا " (24) "؛ لأن سيئة الكذب أخف من سيئة الشرك؛ فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بالنبي، ولا بالأمانة، ولا غيرهما، ومن كان معتادًا أن يحلف بغير الله؛ فإنه يجب عليه أن يتوب من ذلك ويتركه؛ فلا يجوز الحلف بغير الله، ولو كان كاذبًا في حلفه .
32 ـ ما الفرق بين هذه الأقسام، وهل هي جائزة : أقسم بآيات الله، أقسم بكلمات الله، أقسم بالقرآن، أقسم برب القرآن ؟
كلها جائزة إلا الأخير ( برب القرآن ) ، لا يقال : رب القرآن، بل يقال : منزل القرآن .
أما الإقسام بآيات الله، الإقسام بالقرآن . . . هذا كله جائز؛ لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى؛ فهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، والقسم إنما يكون بالله جل وعلا أو بصفة من صفاته، وكلامه من صفاته، ولكن الإقسام بالآيات إذا كان المقصود بها الآيات الكونية؛ الشمس والقمر والسماء والأرض؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف بالمخلوق .(5/3)
القضاء والقدر
33 ـ ما حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر مع ذكر الدليل ؟
الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36، 37، 38 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو جزء من الحديث . ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، ولا تعجزنَّ، فإن أصابك شيء؛ فلا تقل : لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل . فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو جزء من حديث طرفه : " المؤمن القوي خيرٌ . . . " . ] .
والله جل وعلا يقول : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 . ] .
فالإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه يكون قد ترك أحد أركان الإيمان الستة؛ فلا بد من الإيمان بالقضاء والقدر .
وليس معنى هذا أننا نقول : العبد مجبر ! ونلغي الأعمال والأسباب كما تقول الجبريَّةُ، لكننا نؤمن بالقدر، ونعمل بالأسباب؛ لأن الله أمرنا باتخاذ الأسباب وبالعمل وبتجنُّب الأشياء المضرَّة؛ فالذي أخبرنا أن كل شيء بقضائه وقدره؛ أمرنا بالأعمال، وأمرنا بفعل الأسباب، والأعمال والأسباب من قضاء الله وقدره؛ فالقضاء والقدر يعالَجُ بالقضاء والقدر، ولهذا لمَّا سافر عمر بن الخطاب إلى الشام، وبلغه وقوع الوباء فيه، وعزم على الرجوع؛ قال له بعض أصحابه : أتفرُّ من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ ! قال : نعم؛ نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله [ انظر : " صحيح البخاري " ( 7/20-21 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] .(6/1)
والمؤمن لا يزال في قدر الله عز وجل؛ فهل يعمل ويكتسب ويتسبَّب، وكل هذا من قدر الله عز وجل، أمَّا أن نقول : إن العبد مجبَرٌ، وإن كان مقدَّرٌ له شيء سوف يحصل، وإلا لم يحصل له ! ونترك الأسباب ! هذا هو قول الجبريّة الضَّالّة .
34 ـ أرجو إفادتي هل الإنسان مخيَّرٌ في دنياه أو مسيّرٌ؛ ففي الآية الكريمة التالية لقوله تعالى : { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 . ] ؛ تفيد أن الإنسان مخيَّر، وفي الآية الكريمة الأخرى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ التكوير : 29 . ] ؛ تفيد أن الإنسان مسير؛ فما معنى الآيتين ؟ وهل بينهما تعارض كما يظهر أم لا ؟
الإنسان مسيَّر ومخيَّر، يجتمع فيه الأمران :
فهو مسير من حيث جريان أقدار الله وقضائه عليه، وخضوعه لذلك كونًا وقدرًا، وأنه لا يمكنه التخلُّص من قضاء الله وقدره الذي قدَّره عليه؛ فهو من هذه الناحية مسيَّرٌ .
أما من ناحية أفعاله هو وحركاته وتصرُّفاته؛ فهو مخيَّرٌ؛ لأنه يأتي ويذرُ من الأعمال بإرادته وقصده واختياره؛ فهو مخيَّرٌ .
فالعبد له مشيئة، وله اختيار، ولكنه تابع لمشيئة الله سبحانه وتعالى وقضائه وقدره، ولذلك يُثاب على الطَّاعة ويعاقب على المعصية التي يفعلها باختياره وإرادته، أما الإنسان الذي ليس له اختيار ولا إرادة - كالمكره والناسي والعاجز عن فعل الطاعة -؛ فهذا لا يعاقب؛ لأنه مسلوب الإرادة والاختيار : إما بالعجز، أو بفقدان العقل؛ كالمجنون والمعتوه؛ فهو في هذه الأحوال لا يعاقب على تصرُّفاته؛ لأنه فاقد للاختيار، فاقد للإرادة .(6/2)
أما ما أشرت إليه من الآيتين الكريمتين : قوله تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ التكوير : 29 . ] ، وقوله : { وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 . ] ؛ فهذا يؤيد ما ذكرنا؛ لأن الله أثبت للعبد مشيئة واختيارًا، وأثبت لنفسه سبحانه وتعالى مشيئة، وجعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، فدلت الآية الكريمة على إثبات المشيئتين : إثبات المشيئة للعبد، وإثبات المشيئة لله، وأنَّ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل .
وأما قوله تعالى : { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ؛ فهذا ليس معناه التَّخيير، بل هذا معناه الزَّجر والتهديد والتوبيخ؛ قال تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ؛ هذا معناه التهديد والتوبيخ، وأنَّ الإنسان إذا عصى الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله؛ فإنَّ الله يعاقبه؛ لأنه فعل الكفر باختياره، وفعل الكفر بإرادته ومشيئته؛ فهو يستحقُّ عقاب الله ودخول النار : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ؛ فهو سبحانه أعدَّ لهم هذه النار لظلمهم .
35 ـ ما المقصود بقوله تعالى في سورة هود : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 . ] .
يقول نوح عليه السلام لقومه : عن كان الله سبحانه وتعالى أراد إضلالكم ودماركم بسبب كفركم وإعراضكم؛ فلا رادَّ لقضائه .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في " تفسيره " : " أي : إنَّ إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يُغويكم لردِّكم الحق؛ فلو حرصت غاية مجهودي ونصحت لكم أتمَّ النُّصح - وهو قد فعل عليه السلام -؛ فليس ذلك بنافع لكم شيئًا " (25) انتهى .(6/3)
وكأنه عليه السلام لما رأى عنادهم وإصرارهم على الكفر؛ عرف أن الله سبحانه سيعاقبهم؛ كما هي سنَّةُ الله في خلقه؛ أنَّ من أعرض عن قبول الحقِّ بعد وضوحه ودعوته إليه؛ فإنَّ ذلك علامة على نزول العقوبة به .
ونوح عليه السلام قال ذلك لقومه لما طلبوا منه إيقاع العقوبة التي كان يخوِّفهم منها، فطلبوا منه إيقاعها بهم من باب التحدِّي له، فبيَّن عليه السلام لهم أنَّ ذلك ليس بيده، وإنَّما هو بيد الله، وأنه سبحانه إذا أراد عقوبتهم؛ فلا رادَّ لما أراده .(6/4)
فيما يخص المصطفى صلى الله عليه وسلم
36 ـ ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : ( من رآني في منامه؛ فقد رآني حقًا؛ فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي ) يدَّعي بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام، وأعطاه وِردًا يكرِّره كذا مرة ( أي : يتعبَّدُ به ويخبر به الناس ) ، وهذا ينافي الآية الكريمة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 . ] ؛ فهل يُصدَّق مثل هذا أم يُكذَّبُ ؟
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد تحصل، والحديث الوارد فيها صحيح (26) .لكن هذا في حق من يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف صفاته صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ الشيطان لا يتشبَّه به في صفاته وشخصه عليه الصلاة والسلام، فمن كان يعرفُهُ حقَّ المعرفة، ويُميِّزُهُ حقَّ التَّمييز عن غيره؛ فهذا قد يراه في المنام، أما الذي لا يعرف صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يُميِّزُ شخصيَّته الكريمة عليه الصَّلاة والسلام؛ فهذا قد يأتيه الشيطان، ويدَّعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يُضَلِّلُهُ في دينه؛ فليس الأمر على إطلاقه .
أما الناحية الثانية، وهي أنَّ الرسول علَّمه وِردًا في رُؤياه؛ فهذا - كما تفضل السائل - أمر باطل؛ لأنَّ التشريع قد انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 . ] ، ولا يُرِدُ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تشريع شيء وزيادة شيء على ما كان قبل وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لا وِردٌ ولا غيره؛ فليُتَنبَّه لهذا .
37 ـ ما الذي تضمَّنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من بيان الحق في أصول الدين وفروعه على وجه الإجمال ؟(7/1)
تتضمَّن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجه البشر إلى أن تقوم الساعة في بيان أصول الدين وقواعده؛ من علاقة العبد برِّبه، وكيف يعبُدُهُ العبادة الصحيحة المقرِّبة إليه، ومن علاقة العبد مع نفسه وأقاربه وأهله وجيرانه ومواطنيه، وما عليه لهؤلاء من الحقوق والواجبات، وتوجيه الإنسان؛ كيف يتعامل مع الحياة ؟ وكيف يكسِبُ المال، ويُنَمِّيه، وينفِقُه ؟ ومن يخلفه فيه بعد وفاته . . .
وهكذا جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة وكاملة ومستوعبة لجميع جوانب الحياة؛ كما أنَّ فيها الحلَّ الناجح لكل ما يتعرَّضُ له الإنسان من مشكلات : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 . ] ، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجه العباد في أمر دينهم بيانًا كاملاً وكافيًا؛ قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 . ] .
38 ـ هل كان الإسراء والمعراج بالجسم ؟ فإن كان بالجسم؛ فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه تبارك وتعالى بالعين ؟ وله يكفرُ من ينكر الإسراء والمعراج بالجسم، ويدَّعي عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لله تبارك وتعالى بالعين المجرَّدة ؟(7/2)
الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معًا، هذا قول الجمهور من أهل العلم، وذلك لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 . ] ، والعبد اسم للروح والجسم، وليس اسمًا للرُّوح فقط، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الإسراء والمعراج (27)؛ أنه جاءه جبريل بدابَّة اسمها البُراق، وأركبه عليها، وذهب إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء هنا . . . كل هذا يعطي أنه بالجسم والرُّوح معًا، وهذا قول الجماهير من أهل العلم، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة يسيرة .
وأما هل رأى ربَّه ليلة المعراج بعينه؛ فالجمهور على أنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه رآه بعينه، ولكن الصحيح الأول، وأنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه، ولما سُئِل صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ قيل : هل رأيت ربَّك ؟ قال : ( نورٌ أنّى أراهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/161 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] .
وأما من أنكر الإسراء بالجسم؛ فهو لا يكفر؛ لأنه قال به بعض السَّلف؛ قالوا : إنَّ الإسراء بالرُّوح فقط، يقظة لا منامًا . وإن كان هذا القول مرجوحًا وضعيفًا، لكن من أخذ به؛ فإنه يكون مُخطئًا، ولا يكفر بذلك .
وكذلك من أنكر رؤية النبي لربِّه لا يكفر من باب أولى؛ لأن الصحيح - كما ذكرنا - أنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه .
وأما رؤية الله جل وعلا بالأبصار؛ فهي ثابتة للمؤمنين في الدَّار الآخرة، متواترة فيها النُّصوص في القرآن والسّنَّة، وإجماع أهل السُّنَّة على أنّ المؤمنين يرون ربَّهم يوم القيامة رؤية حقيقة، أما في الدنيا؛ فلم يثبت أن أحدًا رآه جل وعلا .
39 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ أن تذكروا لنا معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ؟(7/3)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم - هي الآيات الدّالة على رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقًا - كثيرة جدًّا :
ـ فأعظم الآيات التي جاء بها هذا القرآن الكريم؛ كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 50، 51 . ] ؛ فالقرآن العظيم أعظم آية جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفع آية لمن تدبَّرها واقتدى بها؛ لأنها باقية إلى يوم القيامة .
ـ أما الآيات الأخرى الحسِّيَّة التي مضت وانقضت أو لا تزال تحدث؛ فهي كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله جملة صالحة منها في آخر كتابه " الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح " ، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه؛ لأنه بيَّن فيه شطح النصارى الذين بدَّلوا دين المسيح عليه الصلاة والسلام وخطأهم وضلالهم، وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرَّفوه وبدَّلوه وغيَّروه، والكتاب مطبوع، وبإمكان كل إنسان الحصول عليه، وفيه فوائد عظيمة، منها ما أشرت إليه؛ بيانُ الشيء الكثير من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن كثير رحمه الله في " البداية والنهاية " ذكر كثيرًا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن أحبَّ؛ فليرجع إليه (28).
40 ـ من هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المقصودون بقوله جل وعلا : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 . ] ؟ وما المقصود بقوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الأحزاب : 33 . ] .(7/4)
المقصود بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } بالدرجة الأولى زوجاته عليهن رضوان الله؛ لأن الآية نزلت بسببهن والخطاب لهنَّ كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 . ] ؛ فسياق الآيات كله في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أول الآيات يقول : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 30-33 . ] ؛ فأهل بيته صلى الله عليه وسلم في هذه الآية في الدرجة الأولى أزواجه، وتشمل ذلك قرابته عليه الصلاة والسلام، ولكن نساؤه في هذه الآية داخلات من باب أولى لأنهن سبب النزول .(7/5)
وأما قوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 . ] . فالعلماء ذكروا في معنى { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ثلاثة تفاسير :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشًا إلى الإسلام وعارضوه وعاندوه وآذوه؛ خاطبهم بقوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؛ يعني : لا أسألكم على هذه الدعوة وعلى هذا التبليغ مالاً من أموالكم وطمعًا دنيويًا { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؛ أي : أن تُراعوني في قرابتي منكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له قرابة مع قريش، ما من بيت من بيوت قريش إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم قرابة فيه؛ فالرسول أمره الله جل وعلا أن يناشدهم بهذه القرابة أن يراعوها في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذوه .
والقول الثاني : أن المراد بالمودة في القربى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ أي : إلا التحبب إلى الله عز وجل بالتقرب بالطاعة؛ فأنا لا أريد منكم مالاً، وإنما أريد منكم أن تعبدوا الله عز وجل وتتحببوا إليه بالطاعة .
والقول الثالث : أن المراد بالقربى أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن يحبوا أهل بيته وأن يوقروهم، وهذا حق؛ فإن أهل بيت النبوة الصالحين منهم والمستقيمين على دين الله لهم حق تجب مراعاته بمودتهم واحترامهم وتوقيرهم بمقتضى الشريعة الإسلامية .
41 ـ هل يعني انتقادُنا اليهوديَّة أو النصرانيّة الآن أننا ننال من موسى وعيسى عليهم السلام ؟ وما موقف المسلم تُجاه أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام ؟(7/6)
لا يعني انتقادُنا اليهود والنصارى انتقاد موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل لكفرهم بموسى وعيسى؛ حيث أمرا باتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم عند بعثته؛ لأنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجب عليهم اتِّباعُه؛ لأنهم من أمة الدعوة المحمَّديَّة، وقال الله تعالى لنبيه : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 . ] ؛ فكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كفر بموسى وعيسى عليهما السلام، فلم يبقوا من أتباعهما ولا من أتباع أحد من الرُّسل، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150، 151 . ] .
وهؤلاء كفروا بأفضل الرُّسل وخاتمهم، الذي نسخت شريعته جميع ما سبقها من الشَّرائع - وبالأخص شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام -، والبقاء على الدِّين المنسوخ بقاء على غير دين، وبناء على ذلك أصبحوا من غير أتباع موسى وعيسى، فذمُّهم ليس ذمًّا لدين موسى وعيسى، وإنما هو ذمٌّ لهم هم .
وموقف المسلم تجاه الأنبياء عليهم السلام أن يؤمن بهم جميعًا، من أولهم إلى آخرهم، لا يفرِّق بين أحد منهم؛ قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] .(7/7)
42 ـ قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . . } الآية [ آل عمران : 144 . ] ؛ متى نزلت هذه الآية ؟ ولماذا ذكر لفظ { قُتِلَ } ؛ رغم علمِ الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يقتل ؟
نزلت هذه الآية عندما أصيب المسلمون في وقعة أحد، وأشاع الشَّيطان في الناس أن محمدًا قتل، يريد تخذيل المسلمين .
ومعنى الآية أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كغيره من الرسل، يجري عليه ما يجري على البشر من الموت أو القتل، وطاعته واتباع ما جاء به واجبان في حال حياته وحال موته، فليس بقاؤه شرطًا في امتثال ما جاء به من عند الله عز وجل، بل الواجب على الأمة عبادة الله دائمًا، ولهذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن كان يعبدُ محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيٌّ لا يموتُ ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 4/193، 194 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
وجاء في الآية لفظ : { أَوْ قُتِلَ } : من أجل الإشاعة التي حصلت أنَّ محمدًا قتل؛ أي : لو صحَّ أنه قتل؛ فإنَّ ذلك لا يمنع المسلمين ولا يُضعِف موقفهم من جهاد عدوِّهم والثَّبات على إيمانهم .
43 ـ لا نختلف في منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في مكانته العظيمة التي تفوق كل النبيين والمرسلين والخلق أجمعين، ولكن تراني أتوقف عند قوله تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] ؛ فما هو تفسير هذه الآية ؟ وما المقصود منها ؟(7/8)
يجب الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم، ويجب محبتهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم؛ لأنهم أفضل الخلق، ولأنهم جاؤوا بالرسالة من عند الله سبحانه وتعالى لهداية الخلق، وأنقذ الله بهم من شاء من عباده من النار وهداهم إلى الصراط المستقيم؛ فالإيمان بالرسل جميعًا ومحبتهم وتوقيرهم واحترامهم واجب، وهو ركن من أركان الإيمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36، 37، 38 ) من حديث عمر بن الخطاب، وهو جزء من الحديث . ] .
وأما التفريق بين الرسل فهو يعني الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم كما فعلت اليهود وكما فعلت النصارى :
فاليهود موقفهم من الرسل أنهم آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، حيث كفروا بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، والبعض الآخر من الرسل قتلوه؛ كما قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 . ] .
فاليهود هذا موقفهم من الرسل؛ فرَّقوا بينهم فكفروا ببعضهم وقتلوا بعضهم، وحتى الذين آمنوا به منهم لم يؤمنوا به إيمانًا صحيحًا؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بما يوافق أهواءهم مما جاء به، وما خالف أهواءهم كفروا به وتركوه .
والنصارى أيضًا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم فرّقوا بين الرسل .
أما أهل الإيمان الصحيح؛ فإنهم آمنوا بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] .(7/9)
فالذي كفر ببعض وآمن ببعض يكون كافرًا بالجميع؛ لأن الذي كفرَ به معه من الدليل ومن الحجة والبرهان على نبوته مثل ما مع الرسل الذين آمن بهم، فكفره به يكون كفرًا ببقيتهم .
وكذلك التفريق بين الرسل يعني تفضيل بعضهم على بعض من باب المفاخرة والتنقيص من حق بقية الأنبياء؛ فهذا لا يجوز أيضًا، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( لا تُفاضلوا بين الأنبياء ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1843، 1844 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " لا تفضِّلوا بين أنبياء الله " . ] ؛ بمعنى : لا تفاضلوا بينهم على وجه الافتخار وتنقيص المفضول .
وأما ذكر أن بعضهم أفضل من بعض من غير فخر ومن غير تنقيص للآخرين من الأنبياء؛ فلا بأس بذلك؛ قال الله سبحانه وتعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ البقرة : 253 . ] ؛ فلا شك أن الرسل يتفاضلون وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى .
فالتفريق بين الرسل يعني أمرين :
الأول : الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم كما فعل اليهود والنصارى .
والثاني : تفضيل بعضهم على بعض من باب المفاخرة والتنقيص للمفضول .
والله أعلم .(7/10)
نواقض الإسلام
44 ـ من أقرَّ من الناس بوجود الله، وأنّه الخالق الرازق، ولكنَّه يجعل بينه وبين الله في العبادة وسيطًا؛ كنبيٍّ أو وليٍّ أو غير ذلك؛ فهل يُخرَجُ هذا من دائرة الإسلام والإيمان ؟
من آمن بأن الله هو الخالق الرازق، ولكنَّه يجعل بينه وبين الله وسائط في العبادة؛ فقد ابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله؛ لأن الله سبحانه أمر بعبادته بدون اتِّخاذ وسائط .
ثم إن كان هذا يتقرَّب إلى الوسائط بشيء من العبادة كالذبح للأولياء والصَّالحين والنذَّر لهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويستغيث بهم؛ فهذا شرك أكبر يخرج من الملة .
وإن كان يتوسَّل بالوسائط لحقهم أو جاههم دون أن يصرف لهم شيئًا من العبادة؛ فهذا يعتبر بدعة محرَّمة ووسيلة من وسائل الشرك .(8/1)
وعلى كل حال؛ لا يجوز اتخاذ الوسائط بين الله وبين العبد في العبادة والدُّعاء؛ لأن الله أمر بعبادته ودعائه؛ دون اتخاذ وسائط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) معلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) ؛ من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، والله تعالى يقول : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 . ] ؛ فسمَّاهم باتِّخاذ الوسائط مشركين، ويقول تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 . ] ، فسماهم باتخاذ الوسائط كفارًا وكاذبين . والله أعلم .
45 ـ إذا كان هناك شخص يعتقد أو يقرُّ التوسُّل بالصَّالحين؛ فهل تصحّ الصلاة خلفه ؟
يُشترط في الإمام أن يكون مسلمًا عدلاً في دينه وأخلاقه واستقامته، وأن يكون مثالاً طيِّبًا في التمسُّكِ بالسُّنَّة والابتعاد عن البدعة وترك الشِّرك ووسائله؛ فالذي يتَّخذ التوسُّل بالصَّالحين أو الأولياء أو الأموات على ما اعتاده عبَّاد القبور اليوم، ويستعمل هذا، أو يدَّعي أنَّ هذا أمر جائز؛ فهذا لا تصحُّ الصلاة خلفه؛ لأنه مختلُّ العقيدة، وإذا كان يتوسَّل بالصَّالحين؛ بمعنى أنه يطلُبُ منهم الحوائج وتفريج الكربات وينادي بأسمائهم ويستغيث بهم؛ فهذا مشركٌ الشِّرك الأكبر المخرج من الملَّة؛ فليس بمسلم، فضلاً عن أن يتَّخذ إمامًا لمسجد .(8/2)
فالواجب على المسلمين أن ينتبهوا لهذا، وأن لا يقدِّموا لدينهم وصلاتهم إلا سالم العقيدة، مستقيم السُّلوك، على الكتاب والسنة، ومتجنِّبًا للبدع والفسق .
حتى المسلم الفاسق لا تصحُّ إمامته عند كثير من أهل العلم، الذي فسقُه فسقٌ عمليٌّ ! فكيف بالفسق أو المبتدع الذي عنده خللٌ في عقيدته ؟ ! هذا أشدُّ، ولا سيَّما إذا كان كما ذكرنا ممَّن يتوسَّلون بالأموات ويطلُبون منهم الحوائج؛ فهذا مشركٌ الشِّرك الأكبر، لا تصحُّ صلاته، ولا صلاة من خلفه، حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويرجع إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل .
نسأل الله عز وجل أن يوقِظَ المسلمين لمعرفة دينهم، والتمسُّكِ بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وترك ما خالف ذلك من البدع والخرافات والمحدَثات التي ظنُّوها من الدِّين واعتقدوها من الدِّين، وهي بعيدة كل البعد عن الدِّين .
46 ـ إذا كانت أفعال شخص كلُّها تناقض ( لا إله إلا الله ) ؛ فهل يجوز لنا تكفيرُهُ مع أنه ينطقُ الشَّهادتين ؟
من أتى بناقض من نواقض الإسلام؛ كترك الصلاة متعمِّدًا، أو الذَّبح لغير الله، والنَّذر لغير الله؛ كما يُفعلُ عند الأضرحة، أو دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو سبّ الله أو رسوله، أو سبِّ الدين، أو الاستهزاء بالقرآن أو بالسُّنَّة؛ فهذا مرتدٌّ عن دين الإسلام، يُحكم بكفره، ولو كان يقول : لا إله إلا الله؛ لأن هذه الكلمة العظيمة ليست مجرَّد قول يقال باللسان، وإنما لها معنى ومقتضىً تجبُ معرفتهما والعمل بهما .
قال صلى الله عليه وسلم : ( من قال : لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَدُ من دون الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/53 ) من حديث أبي مالك عن أبيه . ] ؛ فلم يجعل النُّطق بـ ( لا إله إلا الله ) كافيًا في عِصمته الدَّم والمال، حتى يضيف إليه الكفر بما يُعبَدُ من دون الله .(8/3)
وقال تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } [ البقرة : 256 . ] ؛ فقدَّم الكفر بالطَّاغوت على الإيمان بالله .
إلى غير ذلك من الأدلة .
47 ـ سائل يقول : إنه شاب مسلم يحمل مؤهلاً جامعيًّا في الهندسة، وقد سافر إلى إحدى الدول العربية للبحث عن عمل، ولكنه لم يفلح في ذلك، بينما وجد أن غير المسلمين لهم قبول أكثر، وفي مثل تخصصه ذلك ويُفَضَّلونَ على غيرهم من المسلمين، أي أن عدم حصوله على عمل راجع إلى كونه يدين بالإسلام، فقرر أن يعود إلى بلده في محاولة لتغيير مُسمى الديانة في جواز سفره، وفعلاً سافر إلى إحدى البلاد الإفريقية، وحصل على جواز سفر منها بديانة غير الإسلام، ثم سافر مرة أخرى إلى إحدى البلاد العربية، فوجد القبول والحصول على وظيفة، ولكنه متألم لتغيير اسم الديانة في جواز سفره، وإن كان هو في داخله يدين بالإسلام ويفخر به دينًا، لذلك هو يسأل : ما حكم عمله هذا ؟ وما حكم كسبه المال بهذه الطريقة ؟
أولاً : يجب على المسلم أن يتمسك بدينه وأن لا يتنازل عنه لأي ظرفٍ من الظروف؛ لأن الدين هو رأس الماس، وهو الذي تترتب عليه النجاة من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهو الذي خُلِقَ الإنسان من أجله، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 . ] ؛ فيجب على المسلم أن يتمسك بدينه مهما كلفه الثمن .(8/4)
وما فعلته فيما ذكرت في السؤال من أنك ذهبت وغيره من مسمى الديانة إلى ديانة غير الإسلام لتحصل على عمل؛ فهذا شيء خطير، ويعتبر ردة عن دين الإسلام؛ لأنك فعلت هذا، وتظاهرت بغير دين الإسلام، وانتسبت إلى غير دين الإسلام، والمسلم لا يجوز له ذلك، ويجب عليه أن يتمسك بدينه، وأن يعتزَّ بدينه، وأن لا يتنازل عنه لطمعٍ من أطماع الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لم يستثن في أن يتلفظ الإنسان بشيء من ألفاظ الكفر؛ إلا في حالة الإكراه المُلجئ؛ كما في قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } [ النحل : 106-107 . ] .
فأنت تظاهرت بغير دين الإسلام وانتسبت لغير دين الإسلام لأجل الدنيا وطمع الدنيا، لم تصل إلى حد الإكراه الذي تُعذَرُ به؛ فالواجب عليك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والمبادرة إلى تغيير هذا الانتساب، والمبادرة إلى كتابة الديانة الإسلامية في ورقة عملك، مع التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما فات، والعزم على أن لا تعود لمثل هذا الشيء؛ لعلَّ الله أن يتوب علينا وعليك .(8/5)
ثم على الجهات المسؤولة من المسلمين وحكومات المسلمين أن لا يُحرجُوا المسلمين إلى هذا الحد؛ بحيث إنهم يُقدِّمون أهل الديانات الكافرة على المسلمين في توظيفهم في الأعمال وتوليتهم الأعمال؛ لأن هذا ربما يكون دسيسة من أعداء المسلمين؛ ليصرفوا الناس عن دينهم؛ كما حصل لهذا السائل؛ فالواجب على الجهات المسلمة والحكومات الإسلامية أن تنتبه لهذا، وأن لا تُحرِج المسلمين إلى مثل هذه الحالة التي وقع فيها هذا الإنسان، وأن تتابع الموظفين الذين يفرضون على المسلمين هذه الفرضيات الخبيثة . وفق الله الجميع .
48 ـ كثيرًا ما يطلب والدي من أهلي خدمته في وقت شربه الخمر؛ من إحضاره له وتغسيل آنيته ونحو ذلك، وكذلك يسخر منهم إذا رآهم يصلون؛ فما الحكم في ذلك، وأنا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة أشخاص [ رواه الترمذي في " سننه " ( ج4 ص296 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج2 ص1122 ) ؛ كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . ] ؛ فماذا يجب علينا نحو والدنا ؟
هذا الوالد مستهتر، وإذا بلغ من استهتاره أنه يستهزئ بالصلاة وبالمصلين؛ فهذا ردة عن دين الإسلام، فيجب عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن يرجع إلى دينه من جديد، وأنت لا يجوز لك إعانته على المعصية كما ذكرنا في أول الجواب؛ فلا تُحضروا له ما يستعين به على معصية الله، والواجب إنكار هذا المنكر والتغليظ عليه في ذلك ومضايقته في ذلك لعله يتوب إلى الله سبحانه وتعالى .
49 ـ أفيدكم أني أبلُغُ من العمر الخمسة والأربعين، وقد مضى عليَّ أربع سنين من عمري دون أن أصلي ودون أن أصوم رمضان، ولكنّي في العام الماضي أدَّيت فريضة الحجِّ؛ فهل تكفّر عمَّا فاتني من صوم وصلاة ؟ وإن كانت لا تكفِّر؛ فماذا عليَّ أن أفعله الآن ؟ أرشدونا وفَّقكم الله .(8/6)
ترك الصلاة متعمِّدًا خطير جدًّ؛ لأن الصلاة هي الرُّكن الثاني من أركان الإسلام، وإذا تركها المسلم متعمِّدًا؛ فإنّ ذلك كفر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بينَ العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها؛ فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231-232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ؛ كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه . ] ، والله تعالى يقول في الكفار : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 . ] ، ويقول عن أهل النار : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [ المدثر : 42-44 . ] . . . إلى غير ذلك من النصوص التي تدلُّ على كفر تارك الصلاة، وإن لم يجحد وجوبها، وهو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله .
فما ذكرت من أنك تركتها متعمِّدًا مدَّة أربع سنوات؛ هذا يقتضي الكفر، ولكن إذا تُبت إلى الله عز وجل توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة في مستقبل حياتك؛ فإن الله يمحو ما كان من ذي قبلُ، والتوبة الصادقة تَجُبُّ ما قبلها .
أما الحجُّ؛ فلا يكفِّرُ ترك الصلاة ولا ترك الصيام؛ لأن هذه كبائر موبقة لا يكفِّرها الحجُّ .
وكذلك الحجُّ إذا كنت أدَّيته وأنت لا تُصلِّي؛ فإنه لا يصحُّ؛ لأن الذي لا يصلي ليس له دين، وليس له إسلام؛ ولا يصحُّ منه عمل إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا تُبت إلى الله توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة؛ فإنَّ هذا يكفِّر ما سبق، ولكن عليك بالصِّدق والاستمرار على التَّوبة والاهتمام بالصلاة .(8/7)
وإذا كانت أدَّيت الحجَّ في حالة تركك للصلاة؛ فإنَّ الأحوط لك أن تعيده، أمَّا إذا كنت أدَّيته بعدما تُبت؛ فهو حجٌّ صحيح إن شاء الله .
وما مضى من المعصية وترك الصلاة والصيام تكفِّره التَّوبة الصَّادقة .
50 ـ لدي أخ لا يواظب على الصلاة، ولا يحرص على صلة الرَّحم، ويرافق جلساء السُّوء؛ فهل يجب عليَّ أن أهجره ولا أحادثه، خاصة وأنني نصحته عدة ومراتٍ، ولم يمتثل ؟
من يترك الصلاة ويقطع الرحم؛ فإنه تجب مناصحته، فإن لم يقبل؛ وجب هجره حتى يتوب إلى الله؛ لأن ترك الصلاة كفر، وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 . ] .
51 ـ ما حكم زيارة تارك الصلاة في مرضه، أو محاولة علاجه والسعي لذلك، أو تشييع جنازته إذا مات ؟
أما مسألة زيارته والسعي في علاجه؛ فإذا كان هذا سببًا لهدايته ودعوته إلى التَّوبة والرُّجوع عمَّا هو علي؛ فهذا شيء طيِّبٌ؛ فأنتم تزورونه، وتنصحونه، وتدعونه للتَّوبة، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يمُنَّ عليه بها، وتكونون سببًا في ذلك، ويُختَم له بخير إن مات أو إن شفاه الله من مرضه .
وكذلك السَّعي في علاجه إذا كان هذا يترتَّبُ عليه أو يُرجى منه أو يؤثِّر ذلك على سلوكه وتوبته ورجوعه عمّا هو فيه؛ فهذا شيء طيِّبٌ .(8/8)
أمَّا اتِّباع جنازته إذا مات، وأنتم تعلمون أنَّه لا يصلِّي أبدًا ويترك الصلاة ونهائيًّا متعمِّدًا؛ فهذا لا يجوز لكم اتِّباع جنازته؛ لأنه بذلك يكون كافرًا، ويكون مات على الكفر، والكافر لا يتَّبِعُ جنازته المسلم ولا يصلِّي عليه، بل ولا يُدفن في مقابر المسلمين، إذا ثبت أنه لا يصلِّي أبدًا، وأنه ترك الصلاة متعمِّدًا، ومات على ذلك؛ فإنَّه مات ميتة الكافر والعياذُ بالله؛ فلا يجوز اتِّباع جنازته .
هذا هو الراجح، ومن العلماء من يفصِّل بين من تركها جَحدًا لوجوبها؛ فإنه يكون كافرًا، وبين من يتركها كسلاً مع اعترافه بوجوبها؛ فلا يكفر .
52 ـ في هذا الوقت مع الأسف الشديد نرى كثيرًا من الناس يقولون كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ولكنهم لا يحافظون على الصلوات إلا في يوم الجمعة أو في رمضان، والبعض منهم لا يصلي مطلقًا إلا مرة واحدة في العام كله، وهي صلاة عيد الفطر المبارك لكي يراه الناس، مع أن هذه الصلاة فرض كفاية أو سنة مؤكدة، والبعض لا يصلي أبدًا ولا يعرف القبلة أي هي؛ إلا أننا نراهم في ليلة السابع والعشرين من رمضان يذهبون إلى مكة لأداء العمرة، أو في الحج يذهبون مع الناس إلى الحج؛ فما حكم هؤلاء ؟ وقد يموت أحدهم ويأتي أهلهم بجنائزهم فيصَلِّي عليهم المسلمون لأنهم يُحسنون الظن بهم، أليس في هذا غش للمسلمين يجعلهم يصلون عليه ويُدفَنَ في مقابرهم ؟ وهل الصلاة عليه مقبولة أم مردودة ؟ وهل أهل الميت آثمون بعملهم هذا أم لا ؟
هذا وضع خطير وشر كبير يجب التنبه له، وقول السائل وفقه الله : إن هناك أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ولكنهم لا يصلون إلا في أوقات معينة؛ كرمضان أو الجمعة أو العيد، هذا فيه تفصيل :(8/9)
إن كان المراد أنهم لا يصلون مع الجماعة ويصلون في بيوتهم ولا يتركون الفرائض؛ فهؤلاء قد ارتكبوا أمرًا كبيرًا؛ لأن ترك صلاة الجماعة ترك لواجب عظيم يأثمون عليه، ويجب الأخذ على أيديهم وإلزامهم بصلاة الجماعة مع المسلمين، ولكن صلاتهم صحيحة، ولا يخرجون من الإسلام بهذا العمل الذي هو ترك صلاة الجماعة؛ لأن ترك صلاة الجماعة ترك لواجب لا يقتضي الردة .
أما إذا كان قصده من ذلك أنم لا يصلون أبدًا، بل يتركون الصلاة تركًا نهائيًا، فإن هذا ردة عن دين الإسلام، فإن كانوا تركوا الصلاة لأنهم لا يرَون وجوبها؛ فهذا ردة عن الإسلام بإجماع أهل العلم، وإن تركوها مع اعترافهم بوجوبها، ولكنهم تركوها تكاسلاً، وداوموا على تركها متعمدين لذلك؛ فهذا أيضًا ردة على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، والأدلة على كفر تاركها بدون تفصيل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة .
وعلى كل حال؛ من ترك الصلاة فأمره خطير، وهذا إذا مات على هذه الحالة؛ فإنه لا تجوز الصلاة عليه؛ لأنه مات على غير الإسلام، ومثل هذا يُدفَنُ بدون صلاة وبدون إجراءات جنائز المسلمين؛ لأنه يعتبر مرتدًا عن دين المسلمين، بل لا يُدفَنُ مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه ليس منهم .(8/10)
وهذا أمر خطير، والصلاة لا تجب في رمضان فقط أو يوم العيد فقط أو يوم الجمعة فقط، بل الصلاة جعلها الله عز وجل خمس صلوات في اليوم والليلة، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( خمسُ صلواتٍ فَرَضَهُنَّ الله في اليوم والليلة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( ج2 ص63 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( ج1 ص230 ) ؛ كلاهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه . ] ، وكما في قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ النساء : 103 . ] ، فالصلوات تجب المحافظة عليها في مواقيتها في اليوم والليلة في جماعات المسلمين في المساجد، هذا هو دين الإسلام، وما ذكره السائل من التغرير .
53 ـ أنا شابٌّ، وأهلي لا أشاهدهم يصلُّون، وكلَّما نصحت لهم وقلت لهم : صلُّوا؛ لا يستمعون إليَّ، وهم لا يصلُّون؛ هل عليَّ إثم أم لا ؟
الصلاة ركن من أركان الإسلام، بل هي آكدُ أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وهي الفارقة بين المؤمن والكافر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( بين العبد وبينَ الكُفرِ والشِّركِ : تركُ الصلاة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) ؛ بلفظ : " بين الرجل . . . " . من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] .
والمرأة التي لا تصلِّي : إن كانت لا ترى وجوب الصلاة عليها؛ فهي كافرة بإجماع أهل العلم، وإن كانت ترى وجوبها وتركتها تكاسُلاً؛ فإنها تكفر على الصحيح من قولي العلماء .
فعلى هذا لا يصحُّ للمسلم أن يتزوَّجها، وإذا كان قد تزوَّجها؛ فلا يجوز له إمساكها؛ لقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الممتحنة : 10 . ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 . ] ؛ فإن تابت توبة صحيحة، وحافظة على الصلاة؛ فإنه يجدِّد العقد عليها . والله أعلم .(8/11)
54 ـ كثيرًا ما أترك صلاة الفجر - والعياذ بالله - فلا أصليها في المسجد، والسبب هو ثِقَلُ النَّوم، وخاصَّة إذا تغيَّر الوقت من الصَّيف إلى الشِّتاء ؟
تجب المحافظة على الصلاة في الجماعة في الفجر وغيرها، والنوم ليس بعذر دائمًا؛ فالذي يعتاد النَّوم ويترك الصلاة ليس بمعذور، والواجب عليه أن يعمل الأسباب التي توقظُهُ؛ من النوم مبكِّرًا، والعزم على القيام للصلاة، وإيصاء من يوقظه من أهله أو جيرانه، أو اتِّخاذ ساعة تنبِّهُهُ للصَّلاة، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } [ الطلاق : 2 . ] ؛ فالأمر راجع إلى اهتمام العبد وعدم إهماله .
وقد همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلِّفين عن صلاة الفجر (1). والله أعلم .
55 ـ هل إذا ذهب المرء إلى المسجد، ووجد أناسًا عند المسجد، ودخل المسجد، ولم يقل لهم : صلُّوا؛ هل عليه إثم أم لا ؟
يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب استطاعته : إمَّا باليد، وإمَّا باللسان، وإمَّا بالقلب، ولا يجوز للمسلم ترك إنكار المنكر، فإذا رأى أناسًا لا يصلون؛ فإنه يأمرهم بالصلاة؛ فإن امتثلوا، وإلا؛ فإن كان له سلطة عليهم؛ ألزمهم وأدَّبهم، وإن لم يكن له سلطة؛ فإنه يبلِّغ أهل السلطة عن وضعهم، ولا يجوز له السُّكوت على المنكر وإقراره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا، فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] .
56 ـ هل يصحُّ للمرأة أن تصلّي عند صورة في كتاب أو صحيفة، وإذا وضع شيء على الصُّورة أو أغلق الكتاب؛ فهل تصحَّ الصلاة ؟(8/12)
يُكره للمسلم أن يصلِّي مستقبل الصورة، ويُكره أن يصلي في مكان قد عُلِّقت ونُصبت فيه الصُّور، أما الصور الممتهنة والمُلقاة على الأرض؛ فلا تأثير لها، ولا يجوز الاحتفاظ بالصُّور للذِّكريات أو الهواية؛ لأنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمس الصُّور (2).
57 ـ هل تجوز الصلاة على الملائكة لفضلهم ورفعة قدرهم ؟ وإذا كانت تجوز؛ هل يجوز أن أُلحق الصلاة بهم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهُّد في الصلاة أولا ؟
السلام على الملائكة مشروع؛ بأن تقول : عليهم السلام؛ لأنهم عباد مكرمون، وهم خلق من خلق الله، فضَّلهم الله سبحانه وتعالى على غيرهم؛ كما قال تعالى في حقِّهم : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 . ] ، وقال تعالى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 15-16 . ] . . . إلى غير ذلك؛ فهم لهم قَدرُهم وفضلُهم وشرفُهم، ويُشرع الصلاة والسلام عليهم .
58 ـ هل يجوز أن أُلحق الصلاة عليهم بالصّلاة على الرسول في التّشهُّد ؟
لا؛ الصّلاة التي في التشهُّد يقتصر فيها على الوارد، ولكن في قولنا : السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين : ما يشمَلُ كلَّ عبد صالح في السماء أو في الأرض، وتدخل فيه الملائكة من باب أولى .
59 ـ هل يجوز للمسلمين أن يؤدُّوا صلاة الجنازة على مسلم مات منتحرًا ؟
تجب الصلاة على جنازة كل مسلم، ولو كان قاتلاً لنفسه؛ لأنَّ قتله لنفسه كبيرة لا تخرجه عن الإسلام؛ فالقاتل لنفسه عاص، له ما للمسلمين من الصلاة عليه والاستغفار له وتغسيله وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين .(8/13)
الردة والجاهلية
60 ـ يُلاحظ على بعض طلبة العلم التَّساهل في إطلاق لفظ ( الرِّدَّة ) على المسلم، بل قد يطالبون المسلمون بانتداب من يرون لإقامة حدِّ الرِّدَّة في المحكوم بردَّته عندهم إذا لم يقم بها السُّلطان ؟
إقامة الحدود من صلاحيَّات سلطان المسلمين، وليس لكل أحد أن يقيم الحدَّ؛ لأنَّ هذا يلزم منه الفوضى والفساد، ويلزم منه تفكُّكُ المجتمع، وحدوث الثارات، وحدوث الفتن؛ فالحدود من صلاحيَّات السُّلطان المسلم .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعافَوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنَ الله الشّافعَ والمشفِع ) [ انظر الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 6/259 ) من حديث الزبير، وانظر : " المستدرك " للحاكم ( 4/383 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر : " سنن أبي داود " ( 4/131 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وانظر : " سنن النسائي " ( 8/70 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص . ] .
ومن وظائف السلطان في الإسلام ومن صلاحياته إقامة الحدود بعدما تثبت شرعًا لدى المحاكم الشرعيَّة على من وقع في جريمة رتَّب الشارعُ عليها حدًّا؛ كحدِّ الرِّدَّة، وحدّ السرقة . . . إلخ .
فالحاصل أن إقامة الحدود من صلاحيات السلطان، وإذا لم يكن هناك في المسلمين سلطان؛ فإنه يُكتفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوى إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يجوز للأفراد أن تقيم الحدود؛ لأن هذا - كما ذكرنا - يلزم منه الفوضى ويلزم منه حدوث الثَّارات والفتن، وفيه مفسدة أعظم مما فيه من المصلحة، ومن القواعد الشرعيّة المسلَّم بها أنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح .
61 ـ من هو المرتدُّ فضيلة الشيخ ؟ نرجو تحديده بشكل واضح؛ فقد يُحكم بردَّة شخص لديه شبهة .(9/1)
الحكم بالرِّدَّة والخروج من الدِّين من صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، وهم القضاة في المحاكم الشرعيَّة؛ كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد، أو من حقِّ أنصاف المتعلِّمين، أو المنتسبين إلى العلم، والذين ينقصُهم الفقه في الدِّين، ليس من صلاحيَّاتهم أن يحكُموا بالرِّدَّة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالرِّدَّة، وهو ليس كذلك، وتفكيرُ المسلم الذي لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه : يا كافر ! أو : يا فاسق ! وهو ليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله؛ فالذين يحكمون بالرِّدَّة هم القضاة الشرعيُّون، والذين ينفِّذون هذا الحكم هم ولاة أمور المسلمين، وما عدا هذا؛ فهو فوضى وشرٌّ .
62 ـ هناك من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات المسلمة؛ لما فيها من فساد، ويرتِّب على هذا اللفظ ما تعرفون؛ فهل هذا الاتجاه صحيح ؟
الجاهلية العامة انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ببعثته صلى الله عليه وسلم انتهت الجاهلية العامة ولله الحمد، وجاء الإسلام، وجاء العلم، وجاء النُّور، وسيبقى ويستمرُّ إلى يوم القيامة؛ فليس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم جاهليَّةٌ عامَّةٌ، لكن تكون هناك بقايا من الجاهليَّة، لكنها جاهلية جزئيَّة، وجاهلية بمن قامت به، أمَّا الجاهليَّة العامَّة؛ فقد انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن تعود إلى قيام السَّاعة .
أما وجود الجاهليَّة في بعض الأفراد أو الجماعات أو بعض المجتمعات؛ فهذا أمر واقع، لكنَّه جاهليَّةٌ خاصَّةٌ بمن وُجِدت فيه، وليس عامَّة؛ فلا يجوز إطلاق الجاهليَّة على وجه العموم؛ كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصِّراط المستقيم " (3) .
63 ـ يُلاحظ على من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات الإسلامية أنه يريد به تكفير تلك المجتمعات، وبالتالي الخروج ؟(9/2)
ليس من حقِّ كلِّ أحد أن يُطلق التكفير أو أن يتكلَّم بالتفكير على الجماعات أو على الأفراد، التَّكفير له ضوابط، فمن يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام؛ فإنه يُحكم بكُفره، ونواقض الإسلام معروفة، أعظمها الشِّرك بالله عز وجل، وادِّعاء علم الغيب، والحكم بغير ما أنزل الله؛ قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 . ] .
فالتكفير خطير، ولا يجوز لكل أحد أن يتفوَّه به في حقِّ غيره، إنما هذا من صلاحيَّات المحاكم الشرعيَّة، ومن صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، الذين يعرفون الإسلام، ويعرفون نواقض الإسلام، ويعرفون الأحوال، ويدرسُون واقع الناس والمجتمعات؛ فهم أهل الحكم بالتفكير وغيره .
أمَّا الجهَّال وأفراد الناس وأنصاف المتعلِّمين؛ فهؤلاء ليس من حقِّهم إطلاق التَّكفير على الأشخاص أو على الجماعات أو على الدُّول؛ لأنهم غير مؤهَّلين لهذا الحكم .(9/3)
السحر والكهانة والعرافة والشعوذة والتنجيم
64 ـ نرجو إيضاح حقيقة السحر، وهل يُباح شيء منه ؟ وهل يُعتبر عمل السِّحر مخرجًا عن دين الإسلام ؟
السِّحر في اللغة عبارة عمَّا لَطُفَ وخَفِيَ سببُه .
وحقيقة السحر كما بيَّنها الموفَقُ في " الكافي "(4) عبارة عن عزائم ورُقىً وعُقدٍ يؤثِّرُ في القلوب والأبدان، فيُمرِضُ ويَقتُلُ ويفرِّق بين المرء وزوجه .
والسحر كله حرام، لا يُباح شيء منه؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 102 . ] ؛ أي : ليس له نصيب، وقال الحسن : " ليس له دين " (5)، وهذا يدلّ على تحريم السحر، وكفر متعاطيه، وقد عدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من السَّبع الموبقات (6).
ويجب قتل السَّاحر؛ قال الإمام أحمد رحمه الله : " قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " (7) ؛ أي : صحَّ قتل السَّاحر عن ثلاثة من الصَّحابة، وهم : عمر، وحفصةُ، وجُندَب رضي الله عنهم .
فعمل السحر تعلُّمًا وتعليمًا واحترافًا : كفر بالله، يُخرِج من المِلَّة، ويجب قتل الساحر لإراحة الناس من شرِّه إذا ثبت أنه ساحر؛ لأنه كافر، ولأنَّ شرَّه يتعدَّى إلى المجتمع .
65 ـ هل صحيح ما يقال : إنَّ السَّحرة والكهنة والعرَّافين والمنجِّمين يعرفون كثيرًا من علم الغيب ؟ وكيف نردُّ على إخبارهم ببعض الحوادث المستقبليَّة ووقوعها بعد ذلك ؟
هؤلاء قد يخبرون الناس بأشياء يتلقَّونها من الشَّياطين مما يسترقونه من السَّمع، أو عن أشياء غائبة عن الناس ويطَّلع عليها الشَّياطين فيُخبرون عُملاءهم من شياطين الإنس، وهذا بالنسبة للشياطين ليس غيبًا؛ لأنهم سمعوه أو اطَّلعوا عليه .(10/1)
لكن الشياطين يكذبون مع الكلمة الواحدة التي يسمعونها مئة كذبة، ويصدِّقُهُم الناس في كل ما يقولون بسبب هذه الكلمة التي سمعوها من السماء؛ قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221-223 . ] .
أمَّا علم الغيب؛ فهو من خصائص الله سبحانه، لا يعلمه إلا هو؛ قال تعالى : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [ النمل : 65 . ] ، وقال تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 . ] .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله : " والمقصود من هذا معرفة أنَّ من يدَّعي علم شيء من المغيَّبات؛ فهو إمَّا داخل في اسم الكاهن، وإمَّا مشارك له في المعنى، فيُلحق به، وذلك أنَّ إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان : يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشّياطين، ويكون بالفأل، والزَّجر، والطَّرق، والضَّرب بالحصى، والخطِّ في الأرض، والتنجيم، والكِهانة، والسِّحر . . . ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلي : كل من ليس من أتباع الرسل؛ كالفلاسفة والكهَّان والمنجِّمين وجاهليَّة العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرُّسل عليهم السلام، وكل هذه الأمور يسمَّى صاحبها كهَّانًا وعرَّافًا أو ما في معناهما، فمن أتاهم فصدَّقهم بما يقولون؛ لحقه الوعيد " (8) انتهى .
66 ـ الاستعانة بالسَّحرة لقضاء بعض الحوائج من غير مضرَّةِ الآخرين؛ هل هو جائز ؟(10/2)
السحر محرَّمٌ وكفرٌ؛ تعلُّمه وتعليمُه؛ قال تعالى : { مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ . . . } إلى قوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 . ] .
ولا يجوز استعمال السحر لقضاء بعض الحوائج؛ لأنه محرَّم وكفر، والمحرَّم والكفر لا يجوز للمسلم أن يستعمله، بل يجب إنكاره والقضاء عليه، ويجب قتل السَّاحر وإراحة المسلمين من شرِّه .
67 ـ هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ ؟ وإذا ثبت ذلك؛ فكيف كان تعامُلُه عليه الصلاة والسلام مع السّحر ومع من سَحَرَهُ ؟
نعم؛ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ؛ فعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حتى ليُخيَّلُ إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يومٍ : ( أتاني ملَكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال : ما وَجَعُ الرجل ؟ قال : مطبوبٌ . قال : ومن طبَّه ؟ قال : لبيدُ بن الأعصم، في مُشطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طلعةِ ذَكَرٍ في بئر ذروانَ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/30 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
قال الإمام ابن القيِّم : " وقد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا : لا يجوز هذا عليه، وظنُّوهُ نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يُؤثِّرُ فيه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرضٌ من الأمراض، وإصابتُه به كإصابته بالسُّمِّ، لا فرقَ بينهما " (9).(10/3)
وذكر رحمه الله عن القاضي عياض أنه قال : " ولا يَقدَحُ في نبوَّتِه، وأما كونه يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعلهُ؛ فليس في هذا ما يُدخِلُ عليه داخِلةً في شيء من صدقه؛ لقيام الدَّليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوزُ طُرُوُّهُ عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث لسببها ولا فضِّلَ من أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البشر؛ فغيُ بعيد أن يُخيَّلَ إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان " (10) انتهى .
ولما علم صلى الله عليه وسلم أنه قد سُحِرَ؛ سأل الله تعالى، فدلَّه على مكان السحر، فاستخرجه وأبطله، فذهب ما به، حتى كأنما نُشِطَ من عقال، ولم يعاقب صلى الله عليه وسلم من سحره، بل لما قالوا له : يا رسول الله ! أفلا نأخذ الخبيث نقتُلُه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( أمَّا أنا؛ فقد شفاني الله، وأكرَهُ أن يُثيرَ على الناس شرًّا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/30 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
68 ـ من الطُّرُق الشرعيَّة التي يُنصح بها للوقاية من السحر ؟ وما علاجُ من ابتُلِيَ بشيء من ذلك ؟
الطُّرق الشرعية للعلاج من السحر ما ذكره العلامة ابن القيِّم رحمه الله؛ قال :
" وقد رُوِي عنه ( يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم ) فيه نوعان :
أحدهما : وهو أبلغُهما : استخراج السِّحر وإبطالُه؛ كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربَّه سبحانه في ذلك، فدلَّه عليه، فاستخرجه من بئر، فلما استخرجه؛ ذهب ما به، حتى كأنما نُشِطَ من عقالٍ " (11) .
إلى أن قال : " ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهيَّة، وذلك بالأذكار والآيات والدَّعوات . . . " (12) انتهى .
وهذا النوع الثاني لعلاج السِّحر، وذلك بالدَّعوات الشرعيَّة، وقراءة القرآن على المسحور؛ بأن يقرأ القارئ الفاتحة، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، والمعوِّذتين، وغير ذلك من القرآن، ويَنفُثَ على المصاب، فيُشفى بإذن الله .(10/4)
69 ـ السِّحر والكِهانة والتنجيم والعرافة؛ هل بينها اختلاف في المعنى ؟ وهل هي سواء في الحكم ؟
السِّحر عبارة عن عزائم ورُقى وعُقد يعملها السَّحرة بقصد التأثير على الناس بالقتل أو الأمراض أو التفريق بين الزَّوجين، وهو كفر وعمل خبيث ومرض اجتماعي شنيع يجب استئصاله وإزالته؛ إراحة للمسلمين من شرِّه .
والكِهانة : ادِّعاء علم الغيب بواسطة استخدام الجنِّ .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في " فتح المجيد " : " وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجنُّ أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنُّه الجاهل كشفًا وكرامة، وقد اغترَّ بذلك كثير من الناس، يظنُّون المخبر بذلك عن الجنِّ وليًّا لله، وهو من أولياء الشيطان " (13). انتهى .
ولا يجوز الذَّهاب إلى الكهَّان :
روى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقولُ؛ لم تُقبل صلاته أربعين يومًا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/1751 ) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر : " فصدقه بما يقول " . ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقول؛ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/1751 ) ، لكن ليس عن أبي هريرة، وإنما عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . ] .(10/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( مَن أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقولُ؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ عند أبي داود ( 4/14 ) بلفظ : " فقد برئ " ؛ بدل : " كفر " ، وأحمد في " مسنده " ( 2/408 ) بلفظ : " فقد برئ " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275-276 ) ، وكذلك البخاري في " التاريخ الكبير " ( 3/16-17 ) ، وكلهم من حديث أبي هريرة . ] ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
وروى الأربعة والحاكم، وقال : ( صحيح على شرطهما ) : ( من أتى عرَّافًا أو كاهنًا، فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/429 ) من حديث أبي هريرة، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/8 ) من حديث أبي هريرة . ] .
قال البغويُّ : " والعرَّافُ هو الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدِّمات يستدلُّ بها على المسروق ومكان الضّالَّة، وقيل : هو الكاهن " (14).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " العرَّاف اسمٌ للكاهن والمنجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممَّن يتكلَّم في معرفة الأمور بهذه الطُّرق " (15) انتهى .
والتَّنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكيَّة على الحوادث الأرضيَّة، وهو من أعمال الجاهليَّة، وهو شرك أكبر، إذا اعتقد أن النُّجوم تتصرَّفُ في الكون .
70 ـ مثلُ الخطِّ في الرَّمل أو قراءة الفنجان أو قراءة الكفِّ؛ كما يحدث عن بعض لمخرِّفين اليوم، والإثم لا يقتصر على مرتكب هذه الأعمال نفسه، بل يَلحَقُ حتى من ذهب إليهم أو صدَّقهم ؟
لا شكَّ أنَّ هذه الخرافات والأوهام الجاهليَّة والأعمال الشركيَّة كلَّها من أعمال الشيطان، وكلها من طرق الشرك وأعمال الشرك، لا يجوز للمسلم الذي يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يذهب إلى هؤلاء، ولا أن يصدِّقهم .(10/6)
قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهِنًا أو عرَّافًا، فصدَّقهُ بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/429 ) من حديث أبي هريرة والحسن رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/8 ) من حديث أبي هريرة، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/135 ) من حديث أبي هريرة . ] ؛ فلا يجوز الذَّهاب إليهم؛ ولا سؤالهم، ولا تصديقهم .
وعلى المؤمن أن يعتمد على الله، وأن يتوكَّل على الله، وأن يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وأن يحذر ممَّا يُفسد دينه، أو يخلخِلُ عقيدته، أو يضلُّه عن الصِّراط المستقيم .
71 ـ ما مدى صحة الحديثين عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( كَذبَ المنجِّمون ولو صدقوا ) (16) قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . "، وحديث آخر، وهو : ( كان نبي من الأنبياء يخُطُّ؛ فمن وافق خطَّهُ؛ فذاك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1749 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] ؟ وما حكم الشرع في ضرب الرمل والتنجيم ؟ وهل هناك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحرِّم هذه الأعمال ؟
أما قضية التنجيم؛ فالتنجيم إذا أُريد به الاستدلال بالنُّجوم على الحوادث المستقبليَّة، وأن النُّجوم لها تأثير في الكائنات، وفي نزول الأمطار، أو نزول المرض، أو غير ذلك؛ فهذا شرك أكبر، وهو من اعتقاد الجاهلية، والتنجيم على هذا النَّحو محرَّم أشدَّ التَّحريم .(10/7)
وأما الحديث الذي سألت عنه : ( كذبَ المنجِّمون ولو صدقوا ) (17)؛ فلا أعرفُ له أصلاً من ناحية السَّند، ولم أقف عليه .
وأما معناهُ؛ فهو صحيح؛ فإنَّ المنجمين يتخرَّصون ويكذبون على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا علاقة للنُّجوم بتدبير الكون، إنما المدبِّرُ هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي خلق النُّجوم وخلق غيرها، والنُّجوم خلقها الله لثلاث : زينةً للسَّماء، ورجومًا للشَّياطين، وعلامات يُهتدى بها، هذا ما دلَّ عليه القرآن الكريم، فمن طلب منها غير ذلك؛ فقد أخطأ وأضاع نصيبه .
هذا في ما يتعلَّق بالتَّنجيم .(10/8)
وكذلك بقيَّة الأمور التي هي من الخرافات والشَّعوذة ( الخط في الرَّمل، وغير ذلك من الأمور التي تستعمل لادِّعاء علم الغيب، والإخبار عمَّا يحدث، أو لشفاء الأمراض، أو غير ذلك ) كلُّ هذا يدخل في حكم التنجيم، ويدخل في الكهانة، ويدخل في الأمور الشِّركيَّة؛ لأنَّ القلوب يجب أن تتعلَّق بالله خالقها ومدبِّرها، الذي يملك الضرر والنفع والخير والشَّرَّ، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، أما هذه الكائنات وهذه المخلوقات؛ فإنها مدبَّرة، ليس لها من الأمر شيء، { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 . ] ، { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 . ] ؛ فكلُّها كائنات مخلوقة مدبَّرة، لها مصالح ربطها الله سبحانه وتعالى بها، وهي تؤدِّي وظائفها طاعة لله وتسخيرًا من الله سبحانه وتعالى، أمَّا أنَّها يُتعَلَّق بها ويُطلَبُ منها رفعً الضَّرر أو جلب الخير؛ فهذا شركٌ أكبر واعتقادٌ جاهليٌّ .
أما حديث ( كان نبي من الأنبياء يخطُّ، فمن وافق خطَّه؛ فذاك ) : هذا حديث صحيح، رواه الإمام مسلم [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1749 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] وأحمد [ ورواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/447 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] وغيرهما .(10/9)
قال العلماء : ومعناه أن هذا من اختصاص ذلك النبيِّ ومن معجزاته، وأن واحدًا لا يمكن أن يوافقه؛ لأنَّ هذا من خصائصه ومن معجزاته؛ فالمراد بهذا نفي أن يكون الخطُّ في الرَّمل يتعلَّق به أمرٌ من الأمور؛ لأنَّ هذا من خصائص ذلك النبيّ، وخصائص الأنبياء ومعجزاتهم لا يشاركهم فيها غيرهم عليهم الصلاة والسلام؛ فالمراد بهذا نفي أن يكون للخطَّاطين أو للرَّمَّالين شيء من الحقائق التي يدَّعونها، وإنما هي أكاذيب؛ لأنّه لا يمكن أن يوافق ذلك النبي في خطِّهِ أحدٌ . والله تعالى أعلم .
72 ـ يحدُث في بعض البلاد أن يقوم شخص في جمعٍ من الناس يعمل استعراضات مثيرة؛ كأن يُدخل سيفًا أو سكينًا في بطنه دون أن يتأثر، وغير ذلك من الحركات التي لا تُصدَّق في حياة الناس العاديَّة؛ فما حكم الشَّرع في مثل هذه الأعمال ؟
هذا مُشعوذ وكذَّاب، وعمله هذا من السِّحر التخييلي؛ فهو من جنس ما ذكره الله عن سحرة فرعون في قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 . ] ، وفي قوله تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 . ] .
وهؤلاء يستعملون ما يسمَّى بالقمرَةِ، وهي التخييل للناس خلاف الحقيقة، أو يعملون شيئًا من الحيل الخفيَّة التي تظهر للناس كأنها حقيقة، وهي كذب؛ بأن يُظهِرَ للناس أنه يطعنُ نفسه، أو أنه يقتلُ شخصًا، ثم يردُّهُ كما كان، وفي واقع الأمر لم يحصل شيء من ذلك، أو يُظهر للناس أنه يدخل النار، ولا تضرُّهُ، وهو لم يدخُلها، وإنما عمل حيلةً خفيَّةً ظنَّها الناس حقيقة .
ولا يجوز السَّماح لهؤلاء بمزاولة هذا الباطل والتَّدجيل على المسلمين بحيلهم الباطلة؛ لأن هذا يؤثِّر على العوامِّ .(10/10)
وكان عند بعض الأمراء من بني أمية رجل يلعب بمثل هذا، فذبح إنسانًا، وأبان رأسه، ثم ردَّه كما كان، فعجب الحاضرون، فجاء جُندَبُ الخير الأزديُّ رضي الله عنه، فقتله، وقال : ( إن كان صادقًا؛ فليُحي نفسه ) (18).
ولا يجوز للمسلم أن يحضر هذا الدَّجل والشَّعوذة، أو يصدِّق بها، بل يجب إنكار ذلك، ويجب على ولاة المسلمين منعه والتنكيل بمن يفعَلُه، ولو سمِّي لعبًا وفنًا ! ! فالأسماء لا تغيِّرُ الحقائق، ولا تُبيحُ الحرام، ومثله الذي يُظهر للناس أنه يجذُبُ السيَّارة بشعره، أو ينام تحت كفرات السيارة وهي تمشي، أو غير ذلك من أنواع التديل والتَّخييل والسِّحر .
73 ـ إمام يكتب حُجُبًا فيها المحبَّة وسيطرة الزوجة على الزَّوج والتفريق بينهما؛ فهل هذا هو السِّحر ؟ أفيدونا مأجورين .
الذي يكتب هذا النَّوع من الكتاب يكتب كتابة ليحبِّب بها الزَّوجين بعضهما ببعض أو يفرِّق بين الزَّوجين المتحابَّين، هذا ساحرٌّ؛ كما قال الله تعالى في السّحرة الذين يعلمون السحر وفي الذين يتعلمون منهم؛ قال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 102 . ] ، وهذا ما يسمى بالصرف والعطف؛ فهذا سحر .(10/11)
والسحر كفر بالله عز وجل، والساحر كافر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أن السحر كفر في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 102 . ] ؛ فالأدلة دلّت على أن السحر كفر، وأن تعلُّمه كفر، وأن الساحر كافر؛ في مواضع من هذه الآية الكريمة .
وجاء في الحديث أن حدَّ الساحر ضربة بالسيف؛ أي : أنه يُقتل مرتدًّا عن دين الإسلام على الصحيح .
فمثل هذا لا يصلح أن يكون إمامًا في الصلاة؛ لأنه ليس على دين المسلمين، ولا يجوز الاقتداء بكافر، ولا تصحُّ الصلاة خلفه .
ويجب على ولاة أمور المسلمين الأخذ على يد هذا الساحر، وإجراء الحكم اللازم عليه؛ لئلاً يضرَّ بهم وبمجتمعهم؛ لأن السحر إذا فشا بمجتمع؛ فإن هذا المجتمع ينهار، وتدخلُهُ الذِّلَّةُ، وتسيطر عليه الخرافة، ويسيطر عليه هؤلاء الخرافيُّون، والعياذُ بالله .
74 ـ بعض الناس يذهبون إلى بعض الأئمَّة والدَّراويش، ويقولون : إن بأيديهم نزع السِّحر ! ما مدى صحة هذا القول ؟ !(10/12)
لا يجوز الذَّهاب إلى السَّحرة، ولا تصديقُهُم، وحتى لو أن المسلم أصابه شيء من السحر؛ فإنه لا يَحُلّهُ بسحر مثله، ولكن على المسلم إذا ابتُلي بشيء من هذا أن يلجأ إلى الله عز وجل، وأن يستعيذ به، وأن يستعمل الأدعية الشرعيَّة ويستعمل قراءة القرآن الكريم؛ تشافيًا به، وطلبًا للشفاء من الله عز وجل بآياته وكلماته التامَّة، هذا الذي ينبغي للمسلم، ومن توكَّل على الله كفاه، ومن لجأ إليه حماه .
أمَّا أنّ المسلم يذهب إلى المخرِّفين والسحرة والدَّجَّالين والمُشعوذين؛ فهذا مما يزيده مرضًا نفسيًا ومرضًا جسميًّا، ويسيطر عليه شياطين الإنس والجن، ويكدِّرون عليه حياته، ويفسدون عليه عقيدته؛ فلا ملجأ للمؤمن من الله إلا إليه .
فالواجب على المسلم أن يعتصم بالله، وأن يلجأ إليه، ويتوكّل عليه، وأن يتلُوَ آياته، ولا سيَّما قراءة آية الكرسي والمعوِّذتين؛ فإنَّ في كتاب الله عز وجل الشِّفاء والكفاية للمسلمين .
وهؤلاء الأئمة الدَّراويش أغلبهم أئمَّة ضلال ومخرِّفون، لا يُوثَقُ بعقيدتهم، ولا يجوزُ الذَّهاب إليهم .
75 ـ ما تفسير قوله تعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 . ] .(10/13)
تفسير الآية الكريمة أن اليهود لما نبذوا التّوراة التي فيها إثبات نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ اعتاضوا عنها بكتب السِّحر الذي كانت الشياطين تعمله على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وتنسبُهُ إلى سليمان كذبًا وافتراء، مع أن سليمان عليه السلام بريءٌ منه كلَّ البراءة؛ لأنّ السحر كفر وضلال، وسليمان نبيٌّ من أنبياء الله، لا يتعاطى ما فيه كفر وضلال، وإنما هذا عمل الشياطين والكفرة من بني آدم، يقصدون به الإفساد والتَّفريق بين الزَّوجين وتشتيت الأسر وإلقاء العداوة بين الناس . وأنَّ الملكين اللذين يعلِّمان السِّحر في أرض بابل من العراق إنما يفعلان ذلك من باب الابتلاء والامتحان للناس، مع أنَّهما ينصحان من أراد أن يتعلَّم منهما بترك التعلُّم؛ لأنه كفر، وأنهما إنما يعلّمانه للابتلاء والامتحان به، لا إقرارًا له، ثم مع هذه النَّصيحة من الملكين؛ فإن الذين يتعلمون السحر منهما يستعملون السحر بما يضرُّ الناس، فارتكبوا مخالفتين : أولاً : تعلُّمَه وهو كفر لا يجوز . وثانيًا : استعماله للإضرار بالناس . ثم أخبر سبحانه أن الأمر بيده سبحانه، وأنه لا يكون نفع ولا ضرر إلا بإذنه القدريَّة؛ فعلى المؤمن أن يتوكَّل على الله، ويعتمد عليه في دفع شرِّ السَّحرة والمفسدين . ثم أخبر سبحانه أن اليهود يعلمون أنَّ تعلُّمَ السحر كفرٌ يوجب الحرمان من الجنة في الآخرة، ومع هذا أقدموا عليه كفرًا وعِنادًا .(10/14)
الجن والصرع وعلاجه
76 ـ في عصرنا الحاضر كثُرَ حديث الناس عن تلبُّس الجنِّ بالإنس، ودخولهم فيهم، ومن الناس من ينكر ذلك، بل إنّ البعض ينكر الجنَّ إطلاقًا؛ فهل لهذا تأثير على عقيدة المسلم ؟ وهل ورد ما يلزم بالإيمان بالجنِّ ؟ ثم ما الفرق بينهم وبين الملائكة ؟
إنكار وجود الجنِّ كفر وردَّةٌ عن الإسلام؛ لأنه إنكارٌ لما تواتر في الكتاب والسنة من الأخبار عن وجودهم؛ فالإيمان بوجودهم من الإيمان بالغيب؛ لأننا لا نراهم، وإنما نعتمد في إثبات وجودهم على الخبر الصَّادق؛ قال تعالى في إبليس وجنوده : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 . ] .
أمَّا إنكار دخولهم في الإنس؛ فلا يقتضي الكفر، لكنه خطأ، وتكذيب لما ثبت في الأدلَّة الشرعيَّة والواقع المتكرِّر وجوده، لكن لِخفاء هذه المسألة لا يُكفَّر المخالف فيها، ولكن يخطَّأ؛ لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل، وإنما يعتمد على عقله وإدراكه، والعقل لا يُتَّخذ مقياسًا في الأمور الغيبيَّة، وكذلك لا يكون العقل مقدَّمًا على أدلَّة الشرع؛ إلا عند أهل الضلال .
والفرق بين الجنِّ والملائكة من وجوه :
الوجه الأول : من وجه أصل الخِلقة؛ فالجنُّ خُلِقوا من نار السَّموم، والملائكة خُلِقوا من نور .(11/1)
الوجه الثاني : أن الملائكة عبادٌ مطيعون لله، مقرَّبون، مكرَمون؛ كما قال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26، 27 . ] ، وقال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 . ] . أما الجنُّ؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر؛ كما قال تعالى إخبارًا عنهم : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } [ الجن : 14 . ] ، ومنهم المطيع ومنهم العاصي؛ قال تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الجن : 11 . ] إلى غير ذلك من الآيات .
77 ـ نسمع في هذه الأيام عن أناس يعالجون بالقرآن مرضى الصَّرع والمَسِّ والعين وغير ذلك، وقد وجد بعض الناس نتيجة مُرضية عند هؤلاء؛ فهل في عمل هؤلاء محذور شرعيٌّ ؟ وهل يأثم من ذهب إليهم ؟ وما الشُّروط التي ترون أنها ينبغي أن تكون موجودة فيمن يعالج بالقرآن ؟ وهل أُثِرَ عن بعض السَّلف علاج المسحورين والمصروعين وغيره بالقرآن ؟
لا بأس بعلاج مرضى الصَّرع والعين والسِّحر بالقرآن، وذلك ما يسمَّى بالرُّقية؛ بأن يقرأ القارئ وينفُثَ على المصاب؛ فإنَّ الرُّقيةَ بالقرآن وبالأدعية جائزة، وإنما الممنوع الرُّقيةُ الشِّركيَّةُ، وهي التي فيها دعاء لغير الله، واستعانة بالجنِّ والشياطين؛ كعمل المشعوذين والدَّجَّالين، أو بأسماءٍ مجهولةٍ، أمَّا الرُّقيةُ بالقرآن والأدعية الواردة؛ فهي مشروعة .
وقد جعل الله القرآن شفاء للأمراض الحسيَّة والمعنويَّة من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، لكن بشرط إخلاص النّيَّة من الرَّاقي والمَرقي، وأن يعتقد كل منهما أنَّ الشِّفاء من عند الله، وأنَّ الرُّقيةَ بكلام الله سببٌ من الأسباب النَّافعة .(11/2)
ولا بأس بالذَّهاب إلى الذين يعالجون بالقرآن إذا عُرفوا بالاستقامة وسلامة العقيدة، وعُرف عنهم أنَّهم لا يعملون الرُّقى الشِّركيَّة، ولا يستعينون بالجنِّ والشَّياطين، وإنما يعالجون بالرُّقية الشَّرعيَّة .
والعلاج بالرُّقية القرآنية من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل السَّلَفِ؛ فقد كانوا يعالجون بها المصاب بالعين والصَّرع والسِّحر وسائر الأمراض، ويعتقدون أنّها من الأسباب النَّافعة المباحة، وأن الشَّافي هو الله وحده .
ولا بدَّ من التَّنبيه على أن بعض المشعوذين والسَّحرة قد يذكرون شيئًا من القرآن أو الأدعية، لكنَّهم يخلُطون ذلك بالشِّرك والاستعانة بالجنِّ والشَّياطين، فيسمعُهُم بعض الجهَّال، ويظنُّ أنهم يعالجون بالقرآن، وهذا من الخداع الذي يجب التنبُّه له والحذر منه .
78 ـ يسأل عن كتاب " آكام المرجان في غرائب وأحكام الجانّ " ؟
" آكام المَرجان في غرائب وأحكام الجانّ " : هذا كتابٌ معروف، يبحث في موضوع الجنِّ؛ من حيث أحكامُهم، وأشكالهم، وتصرُّفاتهم، ويعطي فكرة موسَّعة عنهم، وفيه فائدة للقارئ، وفيه أحكام شرعيَّة؛ فهو كتاب جيِّد في الجملة .
79 ـ ما علاج الحسد وكيفيَّة الوقاية منه شرعًا ؟
الحسد داء خطير، ونقص عظيم، وهو تمنِّي زوال نعمة الله عمَّن أنعم عليه من خلقه، وهو اعتراض على الله، وهو من صفات اليهود والكفار :
قال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 . ] .
وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [ البقرة : 109 . ] .(11/3)
وقال تعالى عن اليهود الذين حسدوا محمدًا صلى الله عليه وسلم : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 . ] .
وعلاج الحسد ليذهب عن الإنسان أن يستعيذ بالله منه، ويسأله أن يعافيه منه، ويكثر من ذكر الله عندما يرى ما يُعجبه .
وأمَّا علاجه بالنسبة للمحسود؛ فهو أن يستعيذ بالله من شرّ الحاسد، ويقرأ المعوِّذتين، ويدعو الله سبحانه وتعالى، ويتوكَّل عليه .(11/4)
الغيبة والرّياء
80 ـ ما هو مدى صحة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته؛ تقول : اللهم اغفر لنا وله ؟ وما هو معنى الغيبة (1) انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " ؟
أمَّا الحديث؛ فلا يحضُرُني الآن حوله شيء، ولا أدري عنه .
وأمَّا الغيبة في حدّ ذاتها؛ فهي محرَّمة وكبيرة من كبائر الذُّنوب، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن فعلها؛ قال تعالى : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل المؤمنِ على المؤمنِ حرامٌ؛ دمُه، ومالُه، وعِرضُهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1986 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ بلفظ : " كل المسلم على المسلم " . ] ؛ فالغيبة محرَّمة وكبيرة من كبائر الذُّنوب وشنيعةٌ .(12/1)
وأمَّا ما هي الغيبة ؟ فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم معناها لمَّا سُئِلَ عنها، فقال : ( الغيبةُ : ذِكرُكَ أخاكَ بما يَكرَهُ ) . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول؛ فقد اغتبتَهُ، وإن لم يكن فيه ما تقولُ؛ فقد بَهَتَّهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2001 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
والغيبة هي الكلام في عرض الغائب كما بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أنها ذكرك أخاك بما يكره؛ فإذا كان أخوك غائبًا، وأنت وقعت في عرضه ووصفته بما يكره؛ فقد اغتبتَهُ، وأثمت في ذلك إثمًا عظيمًا، وإذا ندمت وتُبتَ إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن باب التوبة مفتوح، ولكن هذا حقُّ مخلوق، ومن شروط التوبة فيه أن تستبيح صاحبه؛ فعليك أن تتَّصل بأخيك، وأن تذكُرَ له ذلك، وتطلُب منه المسامحة؛ إلا إذا خشيت من إخباره أن يترتَّب على ذلك مفسدة أعظم؛ فإنَّه يكفي أن تستغفر له، وأن تُثني عليه وتمدحه بما فيه، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يغفر لك .
81 ـ لي صديق كبير في السن، لا يحلو له المجلس إلا بالتَّحدُّث عن الآخرين بكلام بذيء، ويجعل الغيبة والنميمة هي حديثه؛ فكيف أعمل مع هذا الصَّديق حتى يترك هذه العادة السَّيِّئة ؟
الغيبة والنميمة معصيتان كبيرتان، وفيهما مفاسد عظيمة، وعليك أن تنصح هذا الشخص عنهما، وتبيِّن له خطورتهما، والآثام المترتِّبة عليهما، وتقرأ عليه النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسّنة (2)، فإن لم يمتثل؛ فلا تصاحبه ولا تجالسه إلى أن يتوب .
82 ـ لي ولد كثيرًا ما يُعلِّق على الناس، وقد حرجته على أن لا يتكلم عن أحد وأن لا يُضحِك إخوانه بتعليق أو غيبة أو تقليد، وأنا حللته بقلبي، وكان قصدي أن أخوفه ويتوب عن ذلك؛ فما حكم التحليل في هذه المسألة وهو الحرج ؟ جزاكم الله عنا خير الجزاء .(12/2)
لا جوز للإنسان أن يسخر من الناس وأن يغتابهم وأن يهمزهم أو يلمزهم ويتنقصهم ليُضحِك الناس؛ لأنهم لا يرضون بذلك، وهذا من الغيبة، بل هو من أشد الغيبة .
قال الله سبحانه وتعالى : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 . ] ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بأنها ذِكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ في غيبتِهِ، قالوا : يا رسول الله ! إذا كان فيه ما تقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقولُ؛ فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول؛ فقد بهتَّهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2001 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالناس، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 . ] ؛ يعني لا يلمز بعضكم بعضًا ويتنقص بعضكم بعضًا .
وتمثيل الأشخاص بحركاتهم وكلامهم إذا كانوا غائبين أو حاضرين ويكرهون ذلك؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه أذية للمسلمين، والله جل وعلا يقول : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 . ] ؛ فهذا الذي يفعله هذا الشخص أمر مُحرَّم، وعليه أن يتوب إلى الله .
وما فعلتيه من الإنكار عليه والتغليظ عليه شيء واجب عليك تؤجرين عليه إن شاء الله؛ لأنه من إنكار المنكر، ولا يلزمك شيء في هذا، بل هذا من إنكار المنكر الذي تثابين عليه إن شاء الله تعالى .
83 ـ هل للرياء علامات يعرف بها المرائي ؟ وما حكم الإسلام فيمن يترك بعض أعمال الإسلام - سواء كانت واجبات أو مستحبَّات - خوف الرِّياء ؟ ومن ابتُلي بالرِّياء؛ فبم تنصحونه ؟(12/3)
الرّياء هو أن يعمل الإنسان العمل الصالح لأجل أن يراه الناس فيمدحوه، وهو محبط للعمل، وموجب للعقاب، وهو شيء في القلب، وقد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الشِّرك الخفيَّ (3)
ومن علاماته أن يَنشَط الإنسان في العمل إذا كان يراه الناس، وإذا كانوا لا يرونه؛ ترك العمل .
والذي يُبتَلى بالرِّياء يُنصحُ بالخوف من الله، ويُذّكَّرُ باطّلاع الله على ما في قلبه، وشدَّة عقوبته للمُرائين، وبأنَّ عمله سيكون تعبًا بلا فائدة، وبأنَّ الناس الذين عمل من أجل مدحهم سيذمُّونه ويمقتونه ولا ينفعونه بشيء .
84 ـ قرأت في بعض الكتب أن من علامات الرياء أن يقوى إيمان الشخص إذا كان عند أشخاص أو جماعة، ويضعف إذا كان لوحده، وأنا في الحقيقة أحيانًا أصلي وأحيانًا لا أصلي، وأنا لا أقصد بذلك الرياء، ولكن وجودي مع إخواني يجعلني أنشط عندما أراهم يصلون . أرجو أن توضحوا هذا الأمر وجزاكم الله خير .
هذا ليس من الرياء، هذا من الاقتداء بأهل الخير، ولا شك أن المسلم إذا كان مع أهل الخير؛ فإنه يقتدي بهم ويؤثرون عليه لرغبته في الخير والنشاط في العبادة، وإذا انفرد؛ فإنه يكسل ويفتر عن العبادة؛ نظرًا لأن نفس الإنسان تميل إلى الكسل وإلى الراحة .
الحاصل أن نشاطك إذا كنت مع أهل الخير وفتورك إذا كنت وحدك؛ هذا لا يدل على الرياء، وإنما هذا يدل على طبيعة النفس البشرية، ويدل على استحباب مخالطة أهل الخير؛ لأنهم ينشطون على فعل الخير .
وأما الرياء؛ فإنه من أعمال القلوب ومقاصد القلوب التي لا يعلمها إلا الله؛ فإذا كان قصدك بذلك أن يُثنوا عليك ويمدحوك؛ هذا هو الرياء، وأما إذا كان قصدك لوجه الله عز وجل، وإنما تنشط إذا كنت مع المصلين ومع الذاكرين لله ومع المتعبدين؛ فهذا شيء طيب، وهذا من القدوة الحسنة .(12/4)
معنى كل من : القنوط، عزم الأمور
85 ـ ما هو القنوط من رحمة الله ؟ وما معنى قوله تعالى في سورة يوسف : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ؟ فما هو اليأس من روح الله ؟ وهل الذي ييأس من رَوحِ الله كافر ؟ وهل هناك فرق بين اليأس والقُنوط ؟
الله سبحانه وتعالى ذو رحمة واسعة، ذو رحمة خاصة بالمؤمنين، وعلى العباد أن يتَّقوه وأن يعبدون؛ راجين رحمته، خائفين من عقابه .
فالمؤمنُ يكون بين الخوف والرَّجاء؛ لا يُغَلِّبُ جانب الخوف حتى يَقنَطَ من رحمة الله أو ييأس من رَوحِ الله، ولا يُغلِّبُ جانب الرَّجاء حتى يأمن مِن مكر الله عز وجل؛ فإنَّ طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يدعون ربَّهُم رَغَبًا ورَهَبًا؛ كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم .
وقال أيضًا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [ الإسراء : 57 . ] .
فإذا أخذ الإنسان جانب الخوف فقط، وبالغ في ذلك، حتى يقنَطَ من رحمة الله؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد حكم عليه بالضَّلال، قال تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ الحجر : 56 . ] ، وكذلك إذا أيسَ من رحمة الله؛ كما في قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ، وهذه طريقة الوعيديَّة من الخوارج وغيرهم، الذين غلَّبوا جانب الوعيد، وشدَّدوا في ذلك، حتى ضَلُّوا والعياذُ بالله .(13/1)
وأما قولُك : هل هناك فرق بين القُنوط من رحمة الله واليأس من رَوحِ الله؛ فالظَّاهر أنه لا فرق بينهما، والضَّلالُ والكفرُ يجتمعان، ويقال : هو ضالٌّ، ويقال : هو كافر؛ فهما وصفان مترادفان؛ فالكفر يسمَّى ضلالاً؛ كما قال تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 . ] .
ومن العلماء من فرَّق بينهما، واعتبر أنَّ اليأس أشدَّ من القنوط؛ استنباطًا من الآيتين الكريمتين؛ حيث إنَّ الله سبحانه قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ الحجر : 56 . ] ؛ فوصف القانطين بالضلال، وقال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ؛ فوصف اليائسين من الرحمة بالكفر .
86 ـ قال الله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ لقمان : 17 . ] ، وقال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ الشورى : 43 . ] ؛ فما هو عزم الأمور ؟ وما مفهوم هذه العزيمة وأهمِّيَّتُها ؟
عزم الأمور : الأمور التي يُعزَمُ عليها ويُنافَسُ فيها ولا يُوفَّقُ لها إلا أهل العزائم والهمم العالية .(13/2)
العين والحسد والوسوسة
87 ـ عين الحاسد إذا أصابت شيئًا لأحد وأتلفته أو أضرت به؛ فهل عليه شيء، وإن لم يكن ذلك عن قصد منه أو حسد فعلاً، ولكن ذلك خارج عن إرادته ؟ وهل هناك دواء شرعي لذلك للحاسد والمحسود يخفف من أثرِها أو يقطع أثرها بالكلية ؟
العين حق كما في الحديث، وهذا من عجيب صنع الله سبحانه وتعالى أن يجعل في نظر بعض الأشخاص إصابة تضر بما تقع عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( العينُ حقٌّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج4 ص1719 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وهناك علاج شرعي للعائن وللمصاب، أما العائن فإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين؛ فليدفع شرها بقوله : اللهم ! بارك عليه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لمَّا عان سهل بن حنيف : ( ألا برَّكتَ ؟ ) أي : قُلتَ : اللهم ! بارِك عليه [ رواه الإمام مالك في " موطئه " ( ج2 ص938، 939 ) ، ورواه الإمام أحمد في " مسنده " ( ج3 ص486، 487 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج2 ص1160 ) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وانظر الذهبي في " سير أعلام النبلاء " ( ج2 ص326 ) . ] .
فإذا خشي العائن أن يضر المنظور؛ فإنه يقول : اللهم ! بارك عليه . وكذلك يُستحَبُّ له أن يقول : ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله؛ لأنه رُويَ عن هشام بن عروة عن أبيه؛ أنه كان إذا رأى شيئًا يُعجِبُهُ، أو دَخلَ حائطًا من حِيطانِهِ؛ قال : ما شاء الله لا قُوَّةَ إلا بالله (4).
فإذا لازم العائن هذا الذكر؛ فإنه يدفع ضرره بإذن الله .
أمَّا إذا تعمد إصابة الشخص؛ فإنه يأثم بذلك؛ لأنه يكون معتديًا بهذا، حتى إن الفقهاء رحمهم الله قالوا : إذا تعمد قتل شخص بعينه، وأقر بذلك؛ فإنه يُقتَصُّ منه؛ لأن هذا يُعتبرُ من قتل العمد .(14/1)
وأما نفس المصاب؛ فإنه يستعمل الرقية التي رقى بها جبريل النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أن يقول : ( بسم الله أرقيك، من كل شيء يُؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ الله يشفيك، بسم الله أرقيك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج4 ص1718، 1719 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] . يقول هذا الدعاء بنفسه أو يقوله أحد من إخوانه وينفث عليه، هذا مما تُدفَعُ به العين بإذن الله . والله أعلم .
وكذلك تُعالج إصابة العين بالاستغسال؛ بأن يغتسل العائن بماء ويغسل داخلة سراويله، ثم تُصَبُّ الغسالة على المصاب بالعين؛ كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك (5) .
88 ـ ما الحكم في وسواس النفس ؟ وإذا كانت النفس توسوس بأشياء خبيثة، والشخص يتألم ويتأثر تأثيرًا شديدًا خوفًا من هذا الوسواس، علمًا أنه ربما لا يعتقده ولا يعمل به، بل هو أمر خارج عن إرادته تحدثه به نفسه؛ هل يؤاخذ على ذلك ؟
الوسواس لا يضر الإنسان ولا يؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل؛ كما في الحديث : ( عُفِيَ لأمَّتي ما حدَّثت به أنفُسَها ما لم تتكلَّم أو تعمل ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/169 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] ؛ فالوسواس الذي يدخل على الإنسان هو من الشيطان، يريد به أن يُحزنَ هذا المسلم وأن يشغله عن طاعة الله سبحانه وتعالى؛ فعلى المسلم أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن لا يلتفت لهذا الوسواس ولا يعتبره شيئًا ويرفضه رفضًا باتًّا ولا يضره بإذن الله .
89 ـ أنا شاب يوسوس لي الشيطان أحيانًا؛ ماذا أعمل لردِّ وسوسته ؟
وسوسة الشَّيطان تُرَدُّ بالاستعاذة بالله من الشَّيطان، وعدم الالتفات إلى وسوسته، والوسوسة لا تضرُّ ما لم يتكلَّم الإنسان؛ فعلى المسلم أن يرفُضَها ويترُكها ولا يلتفت إليها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرَّجيم .(14/2)
تعليق التمائم
90 ـ ما حكمُ التمائم التي تُعلَّقُ في أعناق الصبيان وغيرهم، والتي تكون من الآيات القرآنيَّة والأدعية النبويَّة، وأشباهِ ذلك من الدَّعواتِ المشروعةِ ؟
الصَّحيحُ من قولي العلماءِ أنه لا يجوزُ تعليقُ مثل هذه التمائم لعدَّة أمور :
1ـ أنه ليس هناك دليلٌ على جواز ذلك، والأصلُ المنعُ؛ لعموم النهي عن تعليق التمائم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تَعَلَّقَ تميمةً؛ فلا أتمَّ الله له ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/154 ) من حديث عقبة بن نافع، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/216 ) من حديث عقبة بن نافع . ] ، ونحوه .
2ـ أن السماحَ بتعليق هذه التمائم يكون وسيلة لتعليق التمائم المشتملة على الشرك والألفاظ المحرَّمة .
3ـ أن السماح بتعليق التمائم وسيلة لامتهان القرآن وتعريضه للدُّخول في المواطن غير المناسبة، وقد يعلَّق على أطفال لا يحترزون من النّجاسة .
. . . إلى غير ذلك من المحاذير .
وفي رُقية المريض مباشرةً وقراءة القرآن على المصاب غُنيَةٌ عن تعليق التَّمائمِ، والحمد لله .
91 ـ نرى بعض القلائد التي تكتبُ عليها بعض الآيات القرآنيَّة؛ فهل يجوز بيعها وشراؤها ولُبسُها وهي على هذه الحالة ؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا .
لا يجوز بيعُ ولا لبسُ القلائد التي يُكتَبُ فيها شيء من القرآن، ولا تجوزُ هذه الكتابة؛ لأن في ذلك امتهانًا للقرآن، ولأنَّ هذا قد يتَّخذُ حُجُبًا وتمائم يُعتقَدُ فيها الشِّفاء من الأمراض، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التَّمائم (6)، وهذا النهيُ يعمُّ المعلَّقَ من القرآن وغيره على الصحيح . والله أعلم .
92 ـ نُلاحظ أن بعض الناس يعلِّقون في رقابهم أو أيديهم أساورَ مطليَّةً ببعض الأصباغ المعيَّنة، أو خيوطًا مصنوعة من شعر بعض الحيوانات أو غيرها، ويزعم هؤلاء أنها سبب في دفع ضررٍ قد يأتي من الجانِّ أو غيرهم؛ فهل هذا عمل جائز ؟ وما نصيحتُكم لهؤلاء ؟(15/1)
تعليق الأساور أو لُبسُها، وربط الخيوط من الشعر أو غيره؛ من يفعل ذلك، يعتقدُ أنَّ هذه الأشياء تمنع الضرر أو ترفع بذاتها عمَّن لبسها؛ فهذا شرك أكبر، يُخرِجُ من الملَّة؛ لأنه اعتقد في هذه الأشياء أنَّها تنفع وتدفع الضَّرر، وهذا لا يقدرُ عليه أحدٌ إلا الله سبحانه .
وإن كان يعتقد أنَّ الله هو النَّافعُ، وهو الذي يدفعُ الضَّرر، إنما هذه الأشياء أسباب فقط؛ فهذا محرَّمٌ وشركٌ أصغر يجرُّ إلى الشرك الأكبر؛ لأنه اعتقد السببيَّة فيما لم يجعلهُ الله سببًا للشِّفاء؛ لأنَّ هذه الأشياء ليست أسبابًا، والله جعل أسباب الشِّفاء في الأدوية النافعة المباحة والرُّقى الشرعيَّة، وهذه ليست منها .
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بابًا في " كتاب التوحيد " في هذا الموضوع، فقال : " باب : مِن الشِّرك لُبسُ الحَلقةِ والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعهِ " ، أورد فيه أدلةً؛ منها :
حديث عمران بن حصين رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً، في يده حلقةٌ من صُفر، فقال : ( ما هذه ؟ ) . قال : من الواهنةِ . قال : ( انزعها؛ فإنها لا تزيدُكَ إلا وَهنًا؛ فإنك لو متَّ وهي عليكَ؛ ما أفلحتَ أبدًا ) .
رواه أحمد بسند لا بأس به [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/445 ) من حديث عمران بن حصين . ] ، وصحَّحه ابن حِبَّان والحاكم [ انظر : " مستدرك الحاكم " ( 4/216 ) . ] ، وأقرَّه الذهبي .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة؛ أنه رأى رجلاً في يده خيطٌ من الحمَّى ( أي : لدفع الحمَّى ) ، فقطعه (7)، وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 . ] .(15/2)
وإن كان يعتقدُ أنَّ هذا يدفعُ شرَّ الجنِّ؛ فالجنُّ لا يدفعُ شرَّهم إلا الله سبحانه؛ قال تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الأعراف : 200 . ] .
93 ـ عندما يُرزق أحدُنا بمولود يُكتَبُ له دعاء وما تيسَّر من القرآن الكريم ويُعلَّق في كتف أو رقبة الطفل، وفعلاً يكون الطفل في راحة نفسية ظاهرة، فهل يجوز ذلك ؟
تعليق التعاويذ والكتابات على الكبار أو الأطفال لا يجوز؛ لأنه تعليق للتمائم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التمائم (8) :
فإذا كانت هذه التمائم من الخزعبلات أو من الطلاسم أو يُكتَبُ فيها بكلامٍ لا يُعرَفُ معناه أو أسماء شياطين أو أسماء جن أو أسماء مجهولة أو غير ذلك؛ فهذا حرام؛ لأنه يُخِلُّ بالعقيدة ويجر إلى الشرك قطعًا بإجماع المسلمين .
وإن كانت هذه التمائم من القرآن أو من الأدعية الشرعية؛ فالصحيح من قولي العلماء أنه لا يجوز تعليقها أيضًا؛ لأن تعليقها وسيلة إلى تعليق ما لا يجوز من التمائم؛ فإذا فُتِحَ البابُ؛ توسّعَ الناس في هذا الشيء، وعلَّقوا ما لا يجوز . هذا من ناحية، والناحية الثانية؛ أنه يكون في تعليق القرآن على الطفل إهانة للقرآن؛ لأن الطفل لا يتحرز من دخول الخلاء ومن النجاسة وغير ذلك؛ ففي تعليق كلام الله عليه إهانة للقرآن الكريم فلا يجوز تعليق هذه الأشياء .(15/3)
وكونه يحصل راحة نفسية بذلك أو يحصل شفاء من مرض؛ هذا لا يدل على جواز هذا الشيء؛ لأن حصول الراحة أو شفاء المريض بعد تعليق هذه الأشياء : قد يكون وافق قضاءً وقدرًا وهم يظنون أنه بسبب هذا التعليق، وقد يكون هذا من باب الاستدراج لهم ومن باب العقوبة لهم حتى يقعوا فيما هو شر من ذلك؛ فحصول المقصود للإنسان الذي يعمل هذه الأشياء غير المشروعة لا يدل على جوازها؛ لأنه إما أن يكون هذا من باب الاستدراج والعقوبة والإملاء، وإما أن يكون هذا وافق قضاء وقدرًا لا علاقة له بتعليق هذا الشيء، فيظن الناس أنه بسبب تعليق هذا الشيء، فيُفتَتنونَ فيه .(15/4)
البدع وما يتصل بالأموات والقبور
94 ـ ما حكم تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ؟ وهل يصِحُّ لمن رأى هذا التقسيم أن يحتجَّ بقول الرسول : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً في الإسلام . . . ) الحديث، وبقول عمرَ : ( نعمتِ البدعةُ هذه . . . ) ؟ نرجو في ذلك الإفادة، جزاكم الله خيرًا .
ليس مع من قسَّم البدعة إلى بدعةٍ حسنة وبدعةٍ سيئةٍ دليلٌ؛ لأن البدع كلَّها سيئةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 3/188-189 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) بدون ذكر : " وكل ضلالة في النار " من حديث جابر بن عبد الله . (1)] .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/704-705 ) من حديث جرير بن عبد الله . ] ؛ فالمرادُ به : من أحيا سنَّةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بمناسبة ما فعلَهُ أحد الصَّحابة من مجيئه بالصَّدقة في أزمةٍ من الأزمات، حتى اقتدى به الناس وتتابعوا في تقديم الصَّدقات .
وأما قول عمر رضي الله عنه : " نعمتِ البدعةُ هذه " (2)؛ فالمراد بذلك البدعة اللغويَّة لا البدعة الشرعيَّةُ؛ لأنَّ عمر قال ذلك بمناسبة جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التَّراويح، وصلاة التَّراويح جماعة قد شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلاها بأصحابه ليالي، ثم تخلَّفَ عنهم خشية أن تُفرضَ عليهم (3)، وبقي الناس يصلُّونها فرادى وجماعات متفرِّقة، فجمعهم عمر على إمام واحد كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي التي صلاها بهم، فأحيى عمر تلك السُّنَّة، فيكون قد أعاد شيئًا قد انقطع، فيُعتبَرُ فعله هذا بدعة لغويَّة لا شرعيَّةً؛ لأنَّ البدعة الشرعية محرَّمة، لا يمكن لعمر ولا لغيره أن يفعلها، وهم يعلمون تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البدع (4).(16/1)
95 ـ التساهل في النهي عن البدع والأخطار أمر شائع عند الكثير من المثقفين الإسلاميين، حتى إن أحدهم يمر والناس يطوفون بالأضرحة وبالقباب دون أو يوجه كلمة؛ لأنه مشغول ومتوجه إلى قبة البرلمان كما يقول ! ما تعليقكم ؟ ! وما هو رأيكم في مشاركة بعض النيابيين في برلمانات الحكومة التي لا تطبق الشريعة ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا؛ فليُغيِّرهُ بيدِه، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج1 ص69-70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
والطواف على القبور ودعاء أصحابها هو أعظم المنكر، ولا بدَّ لكل مسلم من إنكاره حسب استطاعته؛ فإن لم ينكره ولا بقلبه؛ فهذا دليل على عدم إيمانه .
وأما مشاركة المسلم في البرلمانات الكافرة؛ فهذه قضية تجب دراستها والإجابة عن حكمها لدى المجامع العلمية وجهات الفتوى .
96 ـ أخذ الناس يبتدعون أشياء ويستحسنونها، وذلك أخذًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً في الإسلام؛ فله أجرها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة . . . ) إلى آخر الحديث؛ فهل هم مُحقُّون فيما يقولون ؟ فإن لم يكونوا على حق؛ فما مدلول الحديث السابق ذكره ؟ وهل يجوز الابتداع بأشياء مستحسنة ؟ أجيبونا عن ذلك أثابكم الله ؟
البدعة هي ما لم يكن له دليل من الكتاب والسنة من الأشياء التي يُتَقرَّب بها إلى الله .
قال عليه الصلاة والسلام : ( مَن أحدثَ في أمرُنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج3 ص167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج3 ص1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .(16/2)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالة ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 4/126، 127 ) ورواه أبو داود في سننه ( 4/200 ) ورواه الترمذي في سننه ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية . ] .
والأحاديث في النهي عن البدع والمحدثات أحاديث كثيرة ومشهورة، وكلام أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من المحققين كلام معلوم ومشهور وليس هناك بدعة حسنة أبدًا، بل البدع كلها ضلالة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ) .
فالذي يزعم أن هناك بدعة حسنة يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فإن كلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، وهذا يقول : هناك بدعة ليست ضلالة ! ولا شك أن هذا محادٌّ لله ولرسوله .(16/3)
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً؛ فلهُ أجرُها وأجرُ مَن عمِلَ بها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/704-705 ) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه . ] ؛ فهذا لا يدل على ما يقوله هؤلاء؛ لأن الرسول لم يقل من ابتدع بدعة حسنة، وإنما قال : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً ) ، والسنة غير البدعة، السنة هي ما كان موافقًا للكتاب والسنة، موافقًا للدليل، هذا هو السنة؛ فمن عمل بالسنة التي دل عليها الكتاب والسنة؛ يكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ يعني : من أحيى هذه السنة وعلمها للناس وبينها للناس وعملوا بها اقتداءً به؛ فإنه يكون له من الأجر مثل أجورهم، وسبب الحديث معروف، وهو أنه لما جاء أناس محتاجون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من العرب، عند ذلك رقَّ لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصابه شيء من الكآبة من حالتهم، فأمر بالصدقة وحث عليها، فقام رجل من الصحابة وتصدق بمال كثير، ثم تتابع الناس وتصدقوا اقتداءً به؛ لأنه بدأ لهم الطريق، عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً؛ فلهُ أجرُها وأجرُ من عمِلَ بها ) ؛ فهذا الرجل عمل بسنة، وهي الصدقة ومساعدة المحتاجين، والصدقة ليست بدعة؛ لأنها مأمور بها بالكتاب والسنة؛ فهي سنة حسنة، من أحياها وعمل بها وبيّنها للناس حتى عملوا بها واقتدوا به فيها؛ كان له من الأجر مثل أجورهم .
97 ـ ذكرتم فضيلتكم أنَّ كلَّ بدعة ضلالة، وأنه ليس هناك بدعة حسنة، والبعض قسَّم البدعة إلى خمسة أقسام : بدعة واجبة، وبدعة مندوبة، وبدعة محرَّمة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة؛ فما هو الرَّدُّ على هؤلاء ؟(16/4)
الرَّدُّ أنَّ هذه فلسفة وجدل مخالفان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لك بدعة ضلالة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو جزء من حديث طرفه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب . . . " . ] ، وهم يقولون : ما كلُّ بدعة محرَّمة ! فهذه فلسفة في مقابل كلام الرَّسول صلى الله عليه وسلم وتعقيب على كلامه .
أمَّا ما ذكروه من بعض الأمثلة، وأنها بدعة حسنة؛ مثل جمع القرآن ونسخ القرآن؛ فهذه ليست بدعة، هذه كلُّها تابعة لكتابة القرآن، والقرآن كان يُكتَبُ ويُجمَعُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه متمِّمات للمشروع الذي بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهي داخلة فيما شرعَهُ .
كذلك ما قالوه من بناء المدارس، هذا كلُّه في تعليم العلم، والله أمر بتعليم العلم، وإعداد العُدَّة له، والرَّسول أمر بذلك؛ فهذا من توابع ما أمر الله به .
لكنَّ البدعة هي التي تحدُثُ في الدِّين، وهي ليست منه؛ كأن يُؤتى بعبادة من العبادات ليس لها دليل من الشرع، هذه هي البدعة .
98 ـ إذا كان التَّنبيهُ على البدعة المتأصِّلة سيُحدِثُ فتنةً؛ فهل السكوتُ عليها أولى ؟ أم يجب التّنبيه ويحدث ما يحدُثُ ؟(16/5)
حسبَ الظُّروف، إذا كان يترتَّبُ مضرَّةٌ أكثر من المصلحة؛ فهنا ارتكاب أخفِّ الضَّررين لدفع أعلاهما هو الأنسب، لكن لا تسكت عن البيان والدَّعوة إلى الله بالموعظة الحسنة وتعليم الناس شيئًا فشيئًا؛ فالله يقول جلَّ وعلا : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 . ] ؛ فإذا كان مثلاً إظهارُ الإنكار يُحدِثُ مفسدة أكبر؛ فنحن لا نُظهِر الإنكار أوَّل مرة، ولكن نعلِّمُ الناس، ونخبرُ ونبيِّنُ، ونبصِّرُ الناس حتى يترُكوا هذا الشيء من أنفسهم، والله جلَّ وعلا يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ؛ فالجاهل يُبدأ معه بالحكمة واللين، وإذا رأينا منه بعض النُّفور؛ يوعَظُ ويُخوَّفُ بالله عز وجل، وإذا رأينا منه أنَّه لا يقبل الحقَّ ويريد أن يدافع الحقَّ بالقوَّة؛ فإنَّه يقابل بالقوَّة عند ذلك .
فالحاصل أنَّ القاعدة الشرعيَّة أنَّه يجوز ارتكاب أخفّ الضَّررين لتفادي أعلاهما، كذلك درءُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح .
ولكن هذا شيء مؤقَّتٌ؛ فنحن نتعامل مع هؤلاء الذين اعتادوا على هذا الشيء وأصرُّوا عليه، نتعامل معهم بالرِّفق واللِّين، ونبيِّن لهم أنَّ هذا خطأ لا يجوز، ومع كثرة التَّذكير والتَّكرار؛ فإن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء؛ فربَّما يتأثَّرون بالموعظة والتَّذكير، ويتركون هذا الشيء من أنفسهم؛ فنحن نتَّبِعُ الطُّرق الكفيلة لإنجاح المهمَّة، ونستعمل الحكمة في موضعها، والموعظة في موضعها، ونستعمل الشِّدَّة في موضعها، وهكذا يكون الدّاعية إلى الله عز وجل؛ فلكلِّ مقام مقال .
99 ـ نطلب من فضيلة الشيخ توضيح موقف السَّلف من المبتدعة، وجزاكم الله خيرًا .(16/6)
السَّلفُ لا يبدِّعون كل أحد، ولا يسرفون في إطلاق كلمة البدعة على كل أحد خالف بعض المخالفات، إنما يصفون بالبدعة من فعل فعلاً لا دليل عليه يتقرَّبُ به إلى الله؛ من عبادة لم يشرَعها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخذًا مِن قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن أحدثَ في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواها الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
فالبدعة هي إحداث شيء جديد في الدِّين، لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي البدعة .
وإذا ثبت أنَّ شخصًا ابتدع بدعةً في الدين، وأبى أن يرجع؛ فإنَّ منهج السَّلف أنَّهم يهجرونه ويبتعدون عنه، ولم يكونوا يجالسونه .
هذا منهجهم، لكن كما ذكرت، بعد أن يثبُت أنَّه مبتدع، وبعد أن يُناصح ولا يرجع عن بدعته؛ فحينئذٍ يُهجَرُ؛ لئلاً يتعدَّى ضرره إلى من جالسه وإلى من اتَّصل به، ومِن أجلِ أن يحذر الناس من المبتدعة ومن البدع .
أمَّا المغالاة في إطلاق البدعة على كلِّ من خالف أحدًا في الرأي، فيقال : هذا مبتدعٌ ! كل واحد يسمِّي الآخر مبتدعًا، وهو لم يحدث في الدِّين شيئًا؛ إلا أنه تخالف هو وشخص، أو تخالف هو وجماعة من الجماعات، هذا لا يكون مبتدعًا .
ومن فعل محرَّمًا أو معصية؛ يسمَّى عاصيًا، وما كلُّ عاصٍ مبتدع، وما كلُّ مخطئ مبتدع، لأنَّ المبتدع من أحدث في الدِّين ما ليس منه، هذا هو المبتدع، أمَّا المغالاة في اسم البدعة بإطلاقها على كلِّ من خالف شخصًا؛ فليس هذا بصحيح؛ فقد يكون الصَّواب مع المخالف، وهذا ليس من منهج السَّلف .(16/7)
100 ـ ما الحكم في الموالد التي ابتدعت في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يدعي من يقوم بها ويحييها من الناس أنك إذا أنكرت ذلك أو لم تشاركهم فيه؛ فلست بمحبٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأن في المولد الصلاة على النبي والمدائح؛ فأنت بفعلك هذا معارض للصلاة وكاره للنبي ؟
الموالد هي من البدع المُحدَثة في الدين، والبدع مرفوضة ومردودة على أصحابها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهوَ رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته إحياء الموالد لا في مولده صلى الله عليه وسلم ولا في مولد غيره، ولم يكن الصحابة يعملون هذه الموالد ولا التابعون لهم بإحسان ولم يكن في القرون المفضَّلة شيء من هذا، وإنما حدث هذا على أيدي الفاطميين الذين جلبوا هذه البدع والخرافات ودسوها على المسلمين، وتابعهم على ذلك بعض الملوك عن جهل وتقليد، حتى فشت في الناس وكثُرت، وظن الجُهَّال أنها من الدين وأنها عبادة، وهي في الحقيقة بدعة مضلّلة وتؤثِم أصحابها إثمًا كبيرًا، هذا إذا كانت مقتصرة على الاحتفال والذكر كما يقولون، أما إذا شملت على شيء من الشرك ونداء الرسول ( والاستغاثة به كما هو الواقع في كثير منها؛ فإنها تتجاوز كونها بدعة إلى كونها تجر إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، وكذلك ما يخالطها من فعل المحرَّمات كالرقص والغناء، وقد يكون فيها شيء من الآلات المُطرِبَة، وقد يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء . . . إلى غير ذلك من المفاسد؛ فهي بدعة ومحفوفة بمفاسد ومنكرات .
وهذا الذي يريده أعداء الدين؛ يريدون أن يُفسدوا على المسلمين دينهم بهذه البدع وما يصاحبها من هذه المنكرات، حتى ينشغلوا بها عن السنة وعن الواجبات .(16/8)
فهذه الموالد لا أصل لها في دين الإسلام، وهي مُحدَثَة وضلالة، وهي مباءة أيضًا لأعمال شركية وأعمال محرمة كما هو الواقع .
وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمحبته عليه الصّلاة والسَّلام فرض على كل مسلم أن يحبه أحب مما يحب نفسه وأحب من ولده ووالديه والناس أجمعين عليه الصلاة والسلام .
ولكن ليس دليل محبته إحداث الموالد والبدع التي نهى عنها عليه الصلاة والسلام، بل دليل محبته اتباعه عليه الصلاة والسلام والعمل بما جاء به؛ كما قال الله سبحانه وتعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 . ] ؛ فدليل المحبة هو الاتباع والاقتداء وتطبيق سنته عليه الصلاة والسلام وترك ما نهى عنه وحذّر منه، وقد حذّر من البدع والخرافات، وحذّر من الشرك وحذّر من وسائل الشرك؛ فالذي يعمل هذه الأشياء لا يكون محبًّا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ادعى ذلك؛ لأنه لو كان محبًّا له؛ لتبعه؛ فهذه مخالفات وليست اتباعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، والمحب يطيع محبوبه ويتبع محبوبه ولا يخالفه .
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي من الناس أن يتَّبعوه، وأن يقدِّموا سنته على كل شيء، وأن يعملوا بسنته، وأن يُنهى عن كل ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم . هذه هي المحبة الصحيحة، وهذا هو دليلها .
أما الذي يدَّعي محبته عليه الصلاة والسلام، ويخالف أمره؛ فيعصي ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه، ويحدث البدع من الموالد وغيرها، ويقول : هذه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ! هذا كاذب في دعواه ومُضلِّل يريد أن يُضلِّل الناس والعوام بهذه الدعوة .(16/9)
ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا بعد اتباعه الصلاةُ والسلام عليه؛ فهي مشروعة، وتجب في بعض الأحيان وفي بعض الأحوال؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 56 . ] ، فنصلي عليه في الأحوال التي شرع الله ورسوله الصلاة عليه فيها .
وأما البدع والمنكرات؛ فهذه ليست محلاً للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ! كيف يصلي عليه؛ وهو يخالف أمره، ويعصي نهيه، ويرتكب ما حرَّمه الله ورسوله ؟ ! كيف يصلي عليه؛ وهو يحدث الموالد والبدع، ويترك السنة، بل ويُضَيِّع الفرائض ؟ !
101 ـ سائل يقول : نقيم بين حين وآخر مأدبة عشاء، وننحر الذبائح لوجه الله تعالى، ونجتمع على بركة الله، ونقيم ليلة نذكر فيها الله سبحانه وتعالى وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإلقاء القصائد في مدح الرسول وآله وأصحابه الأطهار، ويرافقها ضرب الدفوف؛ فهل هذا العمل جائز أم لا ؟
هذا من البدع والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تُباعد عن الله عز وجل، وتُوجِب سخطه وعذابه؛ لأن هذه الاحتفالات وما يجري فيها من ذبح الذبائح وإنشاد المدائح كما تقول، وربما تكون مدائح شركية؛ كما في " البُردة " وغيرها من الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وإطرائه الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا تطرُوني كما أطرَت النَّصارى ابنَ مريم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/142 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ] ، وهذا الذكر التي تقول : إنه يُعمَلُ في هذه الليلة ! هذا من البدع؛ لأن الذكر لابد أن يكون على الوجه الشرعي، ولابد أن تتبع فيه الأدلة الشرعية؛ بدون أن تحدث له صفة خاصة أو في وقتٍ خاص أو في ليلة خاصة إلا بدليل من الكتاب والسنة .(16/10)
ذكر الله لا شك أنه مشروع، ولكن ذكر الله حسب ما ورد في الأدلة في الحالات وفي الصفات وفي الأزمنة التي شرع الله ذكره فيها، أما أن نبتدع ونخصِّص وقتًا أو ليلة لذكر الله عز وجل بدون دليل؛ فهذا من البدع المُحرَّمة .
وكذلك ما ذكرت من ضرب الدفوف وغير ذلك؛ هذا من المحرَّمِ؛ لأن الدفوف من اللهو من آلات اللهو، وآلات اللهو مُحرَّمة؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يكونُ في أمتي أقوامٌ يستحِلُّونَ الحِرَّ والحريرَ والخَمْرَ والمعازِفَ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج6 ص243 ) من حديث أبو عامر أو أبو مالك الأشعري بلفظ ( ليكونن من أمتي . . . ) وللحديث بقية . . ] ، والمعازف هي آلات اللهو باختلاف ألوانها، ومنها الدفوف؛ لأنها آلة لهو؛ فهذا أيضًا من المنكرات .
فهذه الليلة التي تقولها لا يجوز إحياؤها وعملها؛ لأنها تشتمل على بدع وتشتمل على منكرات ومخالفات .
102 ـ يوجد لدينا رجل في العمل يقرُّ الاحتفال بالمَولد ( أي : مولد النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ويدافع عنه، ويصرُّ على ذلك؛ هل أهجُرُه في الله أم لا ؟ ماذا أفعل ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الاحتفال بالمولد النبويِّ بدعة، والذي يصوِّبه ويرغِّبُ فيه مبتدع، إذا أصرَّ على ذلك، ولم يقبل النَّصيحة، واستمرَّ على الدَّعوة إلى المولد والتَّرغيب فيه؛ فإنَّه يجب هجره؛ لأنَّه مبتدع، المبتدع لا تجوز مصاحبته .
103 ـ يوجد في بلدنا جبل، وفي هذا الجبل كهف صغير، ويعتقد بعض الناس أنه الكهف المذكور في القرآن، ولذلك تراهم دائمًا مجتمعين عنده، ويُقرِّبون عنده القرابين، ويذبحون عنده، ويضعون فيه العشرات من الأكفان وهذا الاعتقاد موجود منذ أكثر من مئتي سنة؛ فما هي نصيحتكم لهؤلاء الناس ؟ وما هي قصة الكهف الحقيقي ؟ وأين هو ؟ وفي أي زمان كانت قصة أصحاب الكهف ؟(16/11)
الكهف الذي ذكر الله في القرآن قصة أصحابه لم يبين الله سبحانه وتعالى في أي زمان هو ولا في أي مكانٍ هو؛ لأنه ليس لنا مصلحة في ذلك، وإنما العبرة فيما حصل لهم من النوم الطويل على حالتهم التي ذكرها الله، ثم إن الله سبحانه وتعالى بعثهم ليكون بذلك عبرة للعباد، ويستدلوا بذلك على البعث من القبور؛ لأن الذي أنام هؤلاء الفتية زمنًا طويلاً ثم بعثهم بعد مدة مع بقاء أجسادهم وشعورهم لم يضع منها شيء؛ هذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وعلى أنه يبعث من القبور .
هذا موطن العبرة من هذه القصة، أما معرفة مكان الكهف، أو زمان حصول هذه القصة؛ فهذا ما لم يبينه الله جل وعلا؛ لأنه لا حاجة لنا بذلك .
وهذا الكهف الذي تذكر لا دليل على أنه الكهف المذكور في القرآن، والكهوف كثيرة في الأرض؛ فما الذي يُميز هذا عن غيره من الكهوف، ويجعله هو الكهف المعني في القرآن ؟ !(16/12)
وحتى لو ثبت أن هذا هو الكهف المذكور في القرآن؛ فإنه لا يجوز لنا أن نعمل حوله شيئًا من العبادات والطاعات؛ لأن العبادات توقيفية، لا يجوز الإقدام على شيء منها في زمان أو مكان أو نوعية العبادة إلا بتوقيف وأمر من الشارع، أما من أحدث شيئًا لم يأمر به الشارع من العبادات أو مكانها أو زمانها أو صفتها؛ فهي بدعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي؛ تمسَّكُوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعَةٍ ضلالةٌ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدّ ) [ رواها الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) مُعلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343، 1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
بل إن هذه الأعمال التي ذكرتها تتجاوز البدعة إلى الشرك؛ لأن التقرب إلى الأمكنة أو التقرب إلى الأموات أو التقرب إلى أي مخلوقٍ بنوع من العبادة يُعتبر شركًا أكبر مُخرِجًا من المِلَّة .(16/13)
فالواجب عليكم أن تنصحوا وتبينوا لهم عقيدة التوحيد، وأن المؤمن يجب عليه إخلاص العقيدة وإخلاص التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، كما يجب عليه أن يتجنب البدع والمُحدَثَات، ولا يعتمد على حكايات العوام وأخبار العوام، ولا يقتدي بأفعال العوام والجُهّال ولا العلماء المُضلِّلين، وإنما يعتمد على ما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان لا يستطيع معرفة ذلك من الكتاب والسنة؛ فعليه أن يسأل المحقِّقين من أهل العلم والراسخين في العلم والناصحين لعباد الله المُتَمَسِّكين بالعقيدة الصحيحة الذين يُمَيِّزون بين الحق والباطل وبين الهُدى والضلال، حتى يكون على بصيرة من أمره، ولا سيما أمر العقيدة؛ فإنَّ العقيدة هي ضمانة النجاح في الدنيا والآخرة والخلاص من عذاب الله؛ فمن فسدت عقيدته؛ فإنه يكون خاسرًا في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، ومن صلُحت عقيدته؛ يكون هو السعيد في الدنيا والآخرة .
إذن؛ فالأمر ليس أمرًا سهلاً، وإنما أمرٌ تترتب عليه النجاة أو الهلاك .
فعلى المسلم أن يهتم بعقيدته، وأن يحافظ عليها، وأن يسأل عما أشكلَ عليه أهل العلم المخلصين الذين هم القدوة وبهم الأسوة، يقول الله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 . ] . وبالله التوفيق .
104 ـ سائلة تقول : أنا من عائلة ديِّنة، وأقيم الفرائض والحمد لله على هدايته، وقد كان أجدادي في حياتهم محافظين على المبادئ الدينية الصحيحة، وتيمنًا بهم فإننا نقوم بزيارة لقبورهم أنا وأولادي بين فترةٍ وأخرى، وننذر لوجه الله تعالى ولروح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والآل الكرام، ونفي لهم بالنذور بإطعام المساكين أو توزيع الطعام لوجه الله ولروح النبي صلى الله عليه وسلم ولأرواحهم؛ فهل يجوز لنا ذلك ؟(16/14)
أمَّا ما ذكرت السائلة من صلاح آبائها وصلاحها؛ فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك صحيحًا، وأن يتقبل منا ومنهم .
وأما ما ذكرت من التيمن بزيارة قبورهم؛ فهذا لا يجوز؛ لأن التيمن بزيارة القبور يعتبر من البدع أو من وسائل الشرك، وإذا كان القصد التبرك بزيارة قبورهم والاستغاثة بهم؛ فهذا شرك أكبر .
وإنما تُزَارُ القبورُ لأحد أمرين :
إما للدعاء للأموات والاستغفار لهم والترحم عليهم .
وإما للاعتبار بحالهم وتذكر الآخرة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زُورُوا القُبورَ؛ فإنّها تُذَكِّرُ بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) من حديث بريدة بلفظ : ( . . . فزوروها . . . ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . فزوروها؛ فإن في زيارتها تذكرة ) . ] .
وأما أن تُزَارَ للتيمن بها؛ فهذا لا يجوز ولا يُقرّه الإسلام .
وأما ما ذكرت من فعل النذور لروح النبي صلى الله عليه وسلم ولأرواح الموتى؛ فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأنه لم يكن من هدي السلف الصالح والقرون المُفَضَّلة أنهم ينذرون لروح النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا شركًا أكبر إذا كان النذر لروح النبي من باب التقرب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النذر عبادة، وصرفها لغير الله من الشرك الأكبر، وإن كان القصد أنهم ينذرون لله عز وجل ويهدون ثوابه لروح النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من البدع؛ لأنه شيء لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولم يفعله السلف الصالح، وإنما الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم علينا محبته واتباعه والاقتداء به والصلاة والسلام عليه وسؤال الله الوسيلة له بعد الأذان .
وكذلك النذر لأرواح الموتى؛ إما أنه من وسائل الشرك، أو من الشرك .(16/15)
إذا كان النذر يُقصَدُ به التقرب إلى الموتى فإنه يكون شركًا أكبر يُخرِجُ من المِلَّة، وإن كان النذر لله سبحانه وتعالى ويُهدى ثوابُهُ للموتى؛ فهذا أيضًا لم يَرِد به دليلٌ؛ فهو بدعة ووسيلة للشرك .
وإنما الذي ينبغي أن يُتصَدَّق عن الميت على المحتاجين؛ فالمشروع هو الصدقة عن الميت والدعاء للميت والاستغفار له، هذا هو المشروع لأموات المسلمين، وكذلك زيارة قبورهم على ما ذكرنا بالدعاء لهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والاعتبار بحالهم، وهذا خاص بالرجال، أما المرأة؛ فلا يجوز لها أن تزور القبور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زوَّاراتِ القبورِ ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/337 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . " ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " . ] ، وفي رواية : ( لَعَنَ الله زائراتِ القُبُورِ ) [ رواها الإمام أحمد في " المسند " ( 1/229 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/4 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " . ] .
واللعن يقتضي أن هذا كبيرة من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز للمرأة أن تزور القبور، وإنما هذا خاص بالرجال .(16/16)
105 ـ في مجتمعنا عادة بالنسبة للمقابر؛ فكل أسرة من الأسر تخصص لها مكانًا من أرضها مقبرة لا يُقبَرُ فيها إلا من كان من تلك الأسرة، وأحيانًا تكون الأرض المخصصة للمقبرة صغيرة، فيدفنون في القبر الواحد أكثر من ميت، إلى أن يصير أحيانًا أربع طبقات أو خمس، إضافة إلى نوع آخر من القبور تسمية " الفاسقية " ، وهذه لا يكون فيها من الموتى عدد كبير؛ فهل يجوز هذا العمل أم لا ؟
من حيث المبدأ؛ لا مانع أن تُخصِّص الأسرة أرضًا تكون مقبرة لأفرادها، ما دام أن هذه البقعة صالحة للدفن وواسعة تسع أمواتًا كثيرين؛ فإذا انتهت وضاقت ولم يبق فيها محل للقبور المستقبلة؛ فإن الموتى يُدفنون في مكان آخر ولا يُدفنون في القبور التي سبقوا إليها؛ لأنه لا يجوز أن يُدفن في القبر المتقدم ميت جديد إلا بعد أن يتحلل جسم الأول ويفنى ولا يبقى له بقية، أما ما دام الجسم الأول له بقية وله رفات؛ فإنه لا يجوز أن يُدفَن معه ميت آخر؛ لأن الأول سبق إلى هذا وصار مًختصًا به .
وكذلك لا يجوز أن يُدفَن في الأرض المملوكة لأشخاص أو الموقوفة لأموات أسرة معينة أن يُدفن معهم غيرهم .
وإذا كان القتلى كثيرين، وليس هناك من يستطيع دفن كل ميت على حدة؛ فعند الحاجة لا بأس أن يُدفنَ في القبر الواحد أكثر من ميت؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أُحد رضي الله عنهم (5).
106 ـ آبائي وأجدادي كانوا يقيمون الفرائض الدينية، ولنا مقبرة خاصة كانوا قد دُفِنُوا فيها، ودُفِنَ معهم من أبناء منطقتنا وأبناء العشائر الأخرى، وشُيدت لبعض المتمسِّكين منهم بالدين كثيرًا بعضُ القبور المتميزة؛ فهل يجوز لنا أن نسكن بالقرب منهم على المقبرة، وإن كان بعض منا قد سكن منذ مدة؛ فماذا يفعل ؟(16/17)
إن كان القصد أنه بُني على بعض هذه القبور قباب وبُني عليها بنايات تعظيمًا لها؛ فهذا لا يجوز، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون القبور مساجد (6)، ونهى عن البناء على القبور (7)؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهياج : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن لا تَدَعَ قبرًا مُشرِفًا إلا سوَّيتَه ولا صورةً إلا طمستها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/666 ) من حديث أبي الهياج الأسدي رضي الله عنه . ] ، والقبر المُشرف هو المرفوع بالبناء وغيره؛ لأن هذا يلفت النظر إليه، وربما يكون وسيلة للشرك به مع تطاول الزمن وفشوّ الجهل بين الناس كما هو الواقع .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، ونهى عن تجصيصها (8)، ونهى عن الكتابة (9) عليها، ونهى عن إسراجها بالسرج والقناديل؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زوَّارات القبورِ والمُتَّخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/337 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ) . ] .
أما إذا كان القصد أنها بُني عليها مساكن، وجُعل طابقٌ فوق القبور؛ فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للقبور، أما السكن في المساكن القريبة؛ فلا مانع منه، إذا لم يحصل منه أذية للقبور وامتهان لها .
107 ـ يضع بعض الناس علامة حجر كبير من الرُّخام أو وسمًا معينًا لمعرفة قبر الميِّت حتى تتمَّ زيارته بدون التبرُّك وخلافه ؟(16/18)
لا بأس بوضع الحجر على القبر؛ ليكون علامة يُعرَفُ بها عند زيارته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا في قبر عثمان (10)، أمَّا الكتابة على القبر؛ فإنَّها لا تجوز؛ لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك (11)، ولأنَّ هذا وسيلة إلى الشِّرك والغلوِّ فيها .
108 ـ هل يجوز كتاب اسم الميت على حجر عند القبر أو كتابة آية من القرآن في ذلك ؟
لا يجوز كتاب اسم الميت على حجر عند القبر أو على القبر؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك (12)، حتى ولو آية من القرآن، ولو كلمة واحدة، ولو حرف واحد؛ لا يجوز .
أمَّا إذا علَّم القبر بعلامة غير الكتاب؛ لكي يُعرف للزِّيارة والسَّلام عليه، كأن يخطَّ خطًّا، أو يضع حجرًا على القبر ليس فيه كتابة، من أجل أن يزور القبر ويسلِّم عليه؛ لا بأس بذلك .
أمَّا الكتابةُ؛ فلا يجوز؛ لأنَّ الكتابة وسيلة من وسائل الشِّرك؛ فقد يأتي جيلٌ من الناس فيما بعد، ويقول : إنَّ هذا القبر ما كُتِبَ عليه إلا لأنَّ صاحبه فيه خيرٌ ونفعٌ للناس، وبهذا حدثت عبادة القبور .(16/19)
109 ـ يوجد لدينا في بعض المناطق، وخصوصًا عشيرتي التي أنتمي إليها، ما يلي في موضوع العزاء والوفياتِ : يقومون بالتَّوافُدِ لدى أقرباء الميت في أعداد كبيرة، وقد يقومون بنصب الخيام في بعض الأحيان لكثرة الزِّحام، ويستقبلون الوفود من العشائر الأخرى، وكل عشيرة معهم شخص يقومُ بالتحدُّث، ويسرد جمعًا من الآيات في الموت والصَّبر، قبل أن يتناول القهوة، ويقول من العبارات كثيرًا؛ مثل : " بلغنا مَن تقدَّست روحُه إلى الجنَّةِ . . . " وأشباهِها ممَّا هو كثير لا يتَّسع المقام لذكره؛ نأمل منكم إخبارنا عن حكم ذلك ؟ وإيضاح الصَّحيح في أمر التَّعزية من جهة المدَّة والمكان والأدعية التي يقولُها من يقدم على مثل هذه الجموع، نُريدُ ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، كما أنّني آمُلُ وأرجو من الله أولاً ثمَّ من أصحاب الفضيلة العلماء وفَّقهم الله الاطلاع على هذه المخالفات في التَّعازي عند كثير من العشائر، وكتابة رسائل في ذلك إذا أمكن ذلك؛ ليعِيَ الناسُ الأحكام الشرعيَّة .
التَّعزية عند الوفاة مشروعة؛ لأنَّها من باب المواساة، وفيها دعاء للميِّت، وذلك بأن يقول المعزِّي لمَن أُصيب بوفاة قريبٍ : أحسنَ الله عزاءَك، وجَبَر مصيبَتَكَ، وغفرَ لميِّتِك .
ولا ينبغي أن يكون هناك مبالغات في العزاء؛ من نَصبِ الخيام، والاجتماع الكبير، والتوسُّع في صنعة الطَّعام والولائم؛ قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : ( كُنَّا نَعُدُّ صنعة الطَّعام والاجتماع إلى أهل الميِّت مِن النِّياحة ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/204 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/514 ) ؛ من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه . ] .(16/20)
وإنَّما السُّنَّة أن يُصنَعَ طعامٌ من أحد أقارب المُصابين أو جيرانهم، يُقَدَّمُ إليهم بقدر حاجتهم، من باب المواساة لهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لأهله لمَّا بلَغَهُ استشهادُ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : ( اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا؛ فإنَّه جاءَهم ما يشغَلُهم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/205 ) من حديث عبد الله بن جعفر، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/379 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/191 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/514 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه . ] .
ثم إنه لا ينبغي الجلوس للعزاء في مكان مخصَّص والإعلان عن ذلك، وإنما يعزَّى المصاب إذا التقي به في أيِّ مكان، ويكون في الوقت القريب من حصول الوفاة . والله أعلم .
110 ـ في مدينتنا عادةٌ غريبٌ، وذلك أنهم إذا دفنوا الميِّتَ، وانتهوا من دفنه؛ وقف رجل على القبر، وقال : يا فلان ابن فلان ! إذا سُئِلتَ : مَن ربُّك ؟ فقل : ربِّي الله . وإذا سُئِلتَ : ما دينُك ؟ فقل : ديني الإسلام . وإذا سُئلتَ : من نبيُّك ؟ فقل : محمد صلى الله عليه وسلم فهل لهذه العادة أصل في دين الله عز وجل من قريب أو بعيد ؟ أفتونا مأجورين .
هذا ما يسمَّى بالتَّلقين، ويُروى فيه حديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجوز فعله، ويجب إنكاره؛ لأنه بدعة .
والثَّابتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه إذا فُرِغَ من دفن الميِّتِ؛ وقف على قبره وهو وأصحابه، وقال : ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التَّثبيت؛ فإنه الآن يُسأل ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/213 ) من حديث هانئ مولى عثمان بن عفان، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/370 ) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه . ] ، وذلك بأن يُقال : اللهم ! اغفر له، واللهم ! ثبِّتهُ . ولا يُنادى الميِّت ويلقَّنُ كما يفعل هؤلاء الجهَّالُ . والله أعلم .(16/21)
111 ـ أسمعُ من بعض الناس أنَّ هناك صلاة تسمَّى صلاة الفدية أو الهديَّة، تنفعُ الميِّتَ في قبره؛ فما صحَّةُ تلك الأقاويل ؟
ليس هناك صلاة تسمَّى صلاة الفدية أو الهدية تنفع الميِّتَ، وهذه الصلاة مُبتدعَةٌ مكذوبة، والذي ينفعُ الميِّت أن يُعملَ له ما شرعَهُ الله من الصَّدقة والدُّعاء والاستغفار له والحج والعمرة له، وما لم يثبُت بدليل صحيح؛ فهو بدعة يضرُّ ولا ينفع؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدٌّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
112 ـ ما حكم بناء القبور في المساجد ؟ وخاصَّة أنَّ شخصًا قال لي : إنَّ قبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم موجود في المسجد النبوي ؟
نهى النبيُّ عن البناء على القبور، وأمر بتسويتها (13)؛ لأنَّ البناء على القبور وسيلة إلى عبادتها من دون الله؛ كما حصل للأمم السابقة، وكما حصل في الإسلام، لمَّا بنى الجهَّال والضُّلاَّل على القبور؛ حصل من الشرك بسبب ذلك ما هو معلوم .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُبْنَ على قبره، وإنَّما دُفن في بيته صلى الله عليه وسلم خوفًا من أن يُتَّخَذَ مسجدًا لو دُفِنَ بارزًا مع أصحابه؛ كما قالت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها : لما نُزلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم ( يعني : نزل به الموتُ ) ؛ جعل يطرحُ خميصةً لهُ على وجهه، فإذا اغتمَّ بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك : ( لعنةُ الله على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ ) ؛ يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك؛ لأبرزَ قبره؛ غير أنَّه خُشِيَ أن يُتَّخذ مسجدًا . رواه الشَّيخان (14)
وبه يُعلَمُ أنه لم يُبنَ على قبر النبي صلى الله عليه وسلم قصدًا، وإنما دُفن في بيته؛ حفاظًا عليه من الغلوِّ فيه وافتتان العوامِّ به . والله أعلم .(16/22)
113 ـ يرى البعض من الناس أنَّ لقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزيَّةً خاصَّة على غيره، تُبرِّرُ الطَّواف به والدُّعاء والصلاة إليه، إلى أيِّ حدٍّ يصحُّ هذا القول ؟ وهل لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أدبٌ خاصٌّ ؟
قبر النبي صلى الله عليه وسلم تُشرعُ زيارته لمن زار مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز السَّفر لقصد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يُشرع السَّفر من أجل زيارة مسجده الشَّريف والصلاة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجدَ : المسجدِ الحرامِ، ومسجدي هذا، والمسجدِ الأقصى ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، وفي رواية : ( لا تَشُدُّوا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/976 ) من حديث أبي سعيد الخدري . ] ؛ بالنَّهي .
فلا يجوز السَّفر لزيارة القبور؛ لا قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره من الأنبياء والصَّالحين، ولا يجوز السَّفر من أجل الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، ومن باب أولى منع السَّفر للمساجد المبنيَّة على القبور؛ لأنها مشاهد بُنِيَت للشِّرك وعبادة غير الله .
وآداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنَّ مَن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يسلِّمُ عليه، فيقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته . ثم يسلِّم على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (15)، ثم لِينصرف .
ولا يجوز الطَّواف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا بقبر غيره من الأولياء والصَّالحين؛ لأنَّ الطَّواف من خصائص الكعبة المشرَّفة، وهو عبادة لله سبحانه، لم يَشرَعها في غير الكعبة .(16/23)
ولا يجوز الدُّعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره، وإنَّما يكون الدُّعاء في المساجد والمشاعر المقدَّسة في عرفات ومزدلفة ومنى وفي الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة، هذه هي الأماكن المخصَّصة للدُّعاء، وما سواها لا مزيَّة له؛ فلا يجوز تخصيصه إلا بدليل، والدُّعاء عند القبور وسيلةٌ إلى الشِّرك؛ فالدُّعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم وعند قبر غيره بدعة ووسيلة من وسائل الشِّرك .
والأدب الذي ينبغي عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو الهدوء وعدم رفع الصَّوت، ويجب تجنُّبُ البدع التي يفعلها بعض الجهَّال عند قبره صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه، وهذا شركٌ أكبر .
وكذلك يُكره تكرار زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كلَّما دخل المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال : ( لا تتَّخذوا قبري عيدًا ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/367 ) من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود في " سننه " ( 2/225 ) من حديث أبي هريرة . ] ، ولم يكن الصَّحابة رضي الله عنهم يزورون قبره كلَّما دخلوا المسجد، وإنما كان بعضُهم يفعل ذلك إذا قدم من سفر؛ كابن عمر رضي الله عنه (16)، والله أعلم .
114 ـ كان يوجد في قريتنا رجل صالح، فلمَّا مات؛ قام أهلُه بدفنه بالمسجد الصَّغير الذي نؤدِّي به الصلاة، والذي بناه هذا الرجل في حياته، ورفعوا القبر عن الأرض ما يقارب المتر، وربَّما أكثر، وبعد عدَّة سنوات قام ابنُه الكبير بهدم المسجد الصَّغير، وإعادة بنائه على شكل مسجد جامع أكبر من الأوَّل، وجعل هذا القبر في غرفة منعزلة داخل المسجد؛ فما حكم هذا العمل والصلاة في المسجد ؟(16/24)
بناء المساجد على القبور أو دفن الأموات في المساجد؛ هذا أمر يحرِّمه الله ورسوله وإجماع المسلمين، وهذا من رواسب الجاهليَّة، وقد كان النَّصارى يبنون على أنبيائهم وصالحيهم المساجد؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا ذكرت له أمُّ سلمة كنيسةً رأتها بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير؛ قال عليه الصلاة والسلام : ( أولئكَ إذا ماتَ فيهمُ العبدُ الصَّالحُ ( أو : الرَّجُلُ الصَّالحُ ) ؛ بَنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك التَّصاوير، أولئك شِرارُ الخلق عند الله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/112 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/377، 378 ) من حديث جندب رضي الله عنه . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي حذَّر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلُكَ هذه الأمة ما سلكت النَّصارى والمشركون قبلهم من البناء على القبور؛ لأنَّ هذا يُفضي إلى جعلها آلهة تُعبَدُ من دون الله عز وجل؛ كما هو الواقع المشاهد اليوم؛ فإنَّ هذه القبور والأضرحة أصبحت أوثانًا عادت فيها الوثنيَّة على أشدِّها؛ فلا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم .
والواجب على المسلمين أن يحذَروا من ذلك، وأن يبتعدوا عن هذا العمل الشَّنيع، وأن يزيلوا هذه البنايات الشِّركيَّة، وأن يجعلوا المقابر مبتعدة عن المساجد، المساجد للعبادة والإخلاص والتوحيد، { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [ النور : 36 . ] ، والمقابر تكون لأموات المسلمين، وتكون متَّحدة؛ كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرون المفضَّلة .(16/25)
أمَّا أن يُدفنَ الميِّتُ في المسجد، أو يُقام المسجد على القبر بعد دفنه؛ فهذا مخالف لدين الإسلام، مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو وسيلة للشِّرك الأكبر الذي تفشَّى ووقع في هذه الأمة بسبب ذلك .
والحاصل أنَّه يجب عليكم أيُّها السائل، وكلَّ من يسمعُ من المسلمين، يجب عليهم إزالة هذا المنكر الشنيع .
فهذا الميِّتُ الذي دُفِنَ في المسجد بعد بناء المسجد واستعماله مسجدًا، ثم دُفِنَ فيه هذا الميت، الواجب أن يُنبشَ هذا الميت، ويُنقلَ، ويُدفَنَ في المقابر، ويُخلَّى المسجد من هذا القبر، ويُفرَّغَ للصلاة وللتَّوحيد وللعبادة، هذا هو الواجب عليكم .
115 ـ في قريتنا مسجد، وبداخله قبر شيخ يُدعى البُستانيَّ؛ فهل يجوز إزالة هذا القبر المبنيّ بداخل المسجد، ويُدخَلَ مكانه في ساحة المسجد ؟ فهناك أناس يقولون : إنَّ هذا خطأ . وأناس يقولون : الشيخ لا يضرُّ ولا ينفعُ؛ فلا داعي لإزالته . علمًا بأنَّ فيه حجرة تُذبح فيها الذَّبائح من نذور وغيره؛ فماذا علينا أن نفعل به ؟ أرشدونا وفَّقكم الله .(16/26)
لقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بناء المساجد على القبور واتِّخاذها معابد : قال صلى الله عليه وسلم : ( اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا مقابر أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 1/172 ) من حديث عطاء بن يسار، ورواه عبد الرزاق الصنعاني في " مصنفه " ( 1/406 ) من حديث زيد بن أسلم بدون ذكر ( وصالحيهم ) . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ مَن كان قبلَكُم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا؛ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد؛ فإنِّي أنهاكُم عن ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/377-378 ) من حديث جندب . ] . . . وغير ذلك من الأحاديث الواردة في منع هذا العمل القبيح الذي يؤول بالقبور إلى أن تكون أوثانًا تُعبَدُ من دون الله، وتُذبحُ لها القرابين، وتُقرَّبُ لها النُّذور؛ كما ذكر السّائل؛ فإنّ هذا من أفعال الجاهليَّة، ومن فعل اليهود والنَّصارى مع أنبيائهم والصَّالحين منهم، وهذا هو الذي أوقع الشِّرك في قوم نوح عليه السَّلام لمَّا غلَوا في الصَّالحين والأموات، وعبدوهم من دون الله، فنسأل الله العافية والسَّلامة .
وقد وقع ما حذَّر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فاتُّخذت القبور مساجد في كثير من الأمصار، وبُنِيَت عليها القباب، وصُرِفَت لها كثيرٌ من أنواع العبادات، وطُلِبَت منها الحوائج من دون الله عز وجل؛ فلا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم .(16/27)
أمَّا ما سأل عنه من أنه : هل يُخرجُ القبر من المسجد أو لا ؟ فالواجب على المسلمين أن ينظروا في هذا الأمر : فإن كان القبر سابقًا على المسجد، وبُني المسجد عليه بعد ذلك؛ فالواجب هدمُ المسجد وإبقاءُ القبر على ما هو عليه؛ لأن الأحقِّيَّة للقبر، والمسجد هذا مسجد أسِّسَ على الشِّرك وعلى معصية الله ورسوله، ويجب هدمُهُ . أمَّا إذا كان العكس، وهو أنَّ المسجد بُنِيَ من الأوَّل على أساس شرعيٍّ وعقيدة سليمة، ثمَّ دفن فيه بعد ذلك؛ فالواجب نبشُ القبر، وإخراجه من المسجد، ودفنه في المقابر، وعود المسجد إلى شرعيَّته، والتخلُّص من هذا الجرم العظيم .
هذا هو ما يجب على المسلمين، وفَّق الله الجميع لما يحبُّه ويرضاه، ووفَّق هذه الأمة إلى أن تطبِّقَ أحكام دينها وما وصَّى به رسولها صلى الله عليه وسلم .
116 ـ لو فُرِضَ أن المسجد هو السابق قبل القبر؛ فما حكم الصلاة فيه قبل أن يُنبشَ القبر ؟
ما دام المسجد فيه القبر، ويُقصَدُ للعبادة وذبح النُّذور؛ فلا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه أصبح أثرًا شركيًّا ومعبدًا جاهليًّا لا تجوز الصلاة فيه .
117 ـ وجدت في كتاب " الرَّوض المُربِع " للإمام أحمد بن حنبل أنَّ سبعة أماكن لا تجوز فيها الصلاة، ومن هذه الأماكن المقبرة، وعندنا في بلدنا يصلُّون على الميِّت في المقبرة قبل الدَّفن؛ فما حكم ذلك ؟
السائل يقول : وجدتُ في " الرَّوض المُربِع " للإمام أحمد بن حنبل، والكتاب المذكور ليس للإمام أحمد بن حنبل، لكنَّه لأحد مشايخ مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو منصور بن يونُسَ البَهوتيُّ، شرح فيه " زاد المُستنقع " للشيخ موسى بن سالم الحجاويِّ، والكتاب المذكور وأصله كلاهما على المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل عند المتأخِّرين من أصحابه .
ومن المواضع التي ذُكر أنَّ الصلاة لا تصحُّ فيها : المقبرة، وهي مَدفَنُ الموتى .(16/28)
وقد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الترمذيُّ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الأرضُ كلُّها مسجدٌ؛ إلا المقبرة والحمَّام ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 1/431-432 ) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
وروى مسلم عن أبي مرثدٍ الغنويِّ رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/668 ) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه . ] .
وعلى هذا؛ فإن الصلاة في المقبرة لا تجوز، والصلاة إلى القبور لا تجوز؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ أنَّ المقبرة ليست محلاً للصَّلاة، ونهى عن الصَّلاة إلى القبر، والحكمة من ذلك أنَّ الصلاة في المقبرة أو إلى القبر ذريعة إلى الشِّرك، وما كان ذريعة إلى الشِّرك؛ كان محرَّمًا؛ لأنَّ الشارع قد سدَّ كلَّ طريق تؤدِّي إلى الشِّرك، والشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم، فيبدأ أولاً في الذَّرائع والوسائل، ثم يبلغ به الغايات .
فلو أنَّ أحدًا من الناس صلَّى صلاة فريضة أو صلاة تطوُّع في مقبرة أو إلى قبر؛ فصلاته غير صحيحة .
أما الصلاة على جنازة؛ فلا بأس بها؛ فقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر في قصَّة المرأة أو الرجل الذي كان يقمُّ المسجد، فمات ليلاً، فلم يخبر الصَّحابة النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فلمَّا أصبح؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( دُلُّوني على قبره _أو : قبرها_ ) . فدلُّوه، فصلَّى عليه صلوات الله وسلامُه عليه [ انظر : " صحيح البخاري " ( 2/92 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(16/29)
فيُستثنى من الصلاة الصلاة على القبر، وكذلك الصلاة على جنازة قبل دفنها؛ لأن هذه صلاة خاصَّة تتعلَّق بالميِّت؛ فكما جازت الصلاة بعد الدَّفن على الميت؛ فإنها تجوز الصلاة عليها قبل الدَّفن .
118 ـ
في بلدتي عادات جاهلية، وخاصة عندما يموت أحد الناس، تقوم النساء بالحضور عند أهل الميت، ويقمن بالنياحة الشديدة والبكاء المتواصل، وعندما تسير الجنازة بعد غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه؛ يتبعها النساء باللطم والنياحة ووضع التراب على رؤوسهن، دون أن ينكر عليهن أو ينهاهن أحد خشية من أن يقمن بالدعاء عليه، وتبقى النساء كذلك حتى الانتهاء من دفنه، ثم تقوم أم الميت أو أخته بوضع نوع من الطعام أو الفاكهة على قبره، مدعيات أن الميت يأكلها في الليل؛ حيث إنهم إذا وضعوها لا يجدون منها في الصباح إلا القليل، ولكن الحقيقة أن الحيوانات البرية المطلقة هي التي تأكل ذلك دون علم أهل الميت، وبعد أربعين يومًا من وفاته يقوم أهله أو أقرباؤه بعمل عشاء كبير، يحضره لفيف من الأهل والأقرباء والغرباء أحيانًا، وبعد الأكل تُشربُ القهوة والشاي، وما تبقى يُسكَبُ على الأرض حُزنًا على الميت، وبعدها تنتهي التعزية، ويذهب الناس، ويفعلون ذلك بكل إنسان يموت .
والسؤال : ما هو حكم هذه الأفعال ؟ وما حكم من يفعلها ؟ وما هي نصيحتكم لهؤلاء الناس ؟
هذا السؤال يتكون من ذكر عدة أمور، وكلها منكرات يفعلونها :(16/30)
الأمر الأول : النياحة على الميت، والنياحة مُحرَّمة وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( النائحَةُ إذا لم تَتُب قبل موتها؛ تُقام يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرع من جَرَبٍ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج2 ص644 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه . ] ، ولعن صلى الله عليه وسلم الحالقة والصالقة والشاقة (17)، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النياحة من أمر الجاهليَّة (18)؛ فالواجب التوبة من ذلك وترك النياحة على الميت؛ لأن هذا من التسخط على قدر الله وقضائه، والواجب عند ذلك إظهار الصبر والتحمل والاحتساب؛ يقول الله سبحانه وتعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155-157 . ] ، ويقول سبحانه وتعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 . ] ؛ قال بعض السلف : { يُؤْمِن بِاللَّهِ } : يعلمُ أن المصيبة من عند الله فيرضى ويُسلِّم (19).(16/31)
الأمر الثاني : اتباع النساء الجنازة ودخولهن المقبرة، والنساء ممنوعات من اتباع الجنائز ومن دخول المقابر وزيارتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زائراتِ القُبُورِ والمتَّخذينَ عليه المساجد والسُّرج ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 1/229 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . ] .
فاتباع الجنائز وزيارة القبور من خصائص الرجال، أما النساء؛ فهي ممنوعة من ذلك؛ لأنهن ضعيفات، ولا يتحملن، ويظهرن من الجزع والتسخط ما لا يجوز، ولأنهن يفتن الأحياء ويُؤذينَ الأموات .
الأمر الثالث : وضع الطعام على القبر، واعتقاد أن الميت يأكل منه، وهذا خرافة من أمور الجاهليَّة وإضاعة للمال؛ فإنه لا يجوز عمل مثل هذا ووضع الطعام على القبر؛ لأن هذا فيه اعتقاد جاهلي، وفيه إضاعة للمال، بل فيه إهانة للميت أيضًا؛ لأن هذا الطعام سوف يجتمع عليه الحشرات والكلاب والحيوانات والمؤذيات؛ فهذا من السخرية ومن الأمور المضحكة المبكية في الواقع؛ لأنه لا يجوز أن يصدر من المسلمين مثل هذا الذي يضحكُ منه العقلاء؛ فماذا يستفيد الميت من وضع الطعام على قبره ؟ ! واعتقاد أنه يأكل منه؛ هذا اعتقاد باطل؛ لأن الميت قد انتهى من الدنيا، وانتهى من الأكل والشرب، وانتقل إلى الدار الآخرة، ولا يأكل ولا يشرب كما يشرب الأحياء ويأكل الأحياء، وإنما هو في قبره إما في روضةٍ من رياض الجنة وإما في حفرة من حفر النار، وماذا يستفيد من وضع الطعام على قبره ؟ ! ولكن هذا من تلاعب الشيطان بالجُهَّال والأغرار .(16/32)
الأمر الرابع : عمل وليمة بعد الأربعين بقصد العزاء، وهذا بدعة مُحرَّمة وإضاعة للمال، وفيه إقامة للمآتم التي تشتمل على المُحرَّمات والسخط والجزع من قضاء الله وقدره، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يتأذى بذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الميِّتَ يُعذَّبُ بما نِيحَ عليه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/81، 82 ) من حديث المغيرة رضي الله عنه بلفظ : ( من نيح عليه يعذب بما نيح عليه . . . ) ، وفي لفظ : ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) من حديث عمر بن الخطاب " . ] .
فهذه الاجتماعات وهذا العزاء كما يسمونه وعمل هذه الوليمة؛ كل هذا من الأمور المُبتدعة التي ليست من هَدي النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنَّما سنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أيام المصيبة أن يُعملَ طعامٌ يُبعَثُ به إلى أهل الميت مساعدةً لهم ومواساةً لهم؛ لأنهم مشغولون بالمصيبة عن عمل الطعام لهم، فيُشرَع لإخوانهم المسلمين أن يعملوا طعامًا يكفيهم ويُرسلون به إليهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( اصنَعُوا لآلِ جَعفَر طعامًا؛ فإنهم قد جاءهُم ما يشغَلُهم ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( ج3 ص379 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( ج3 ص191 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج1 ص514 ) ، ورواه البيهقي في " سننه الكبرى " ( ج4 ص61 ) ، ورواه الإمام أحمد في " المسند " ( ج1 ص205 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما . ] .
هذا الذي شرعه صلى الله عليه وسلم، وهو في أيام المصيبة، أما عمل الوليمة بعد الأربعين؛ فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وهو من البدع، وإذا انضاف إلى هذا كثرة الاجتماع وتضخيم الولائم؛ فهذا كله من أمور الجاهليَّة .(16/33)
119 ـ في بلدنا عادات في المآتم، وهي إقامة أسبوع للميت وعلى رأس الأربعين والحول وفي كل مناسبة من هذه تُذبحُ الذبائح ويحضر الرجال والنساء وتقوم النساء بلطم الخدود والبكاء وشق الثياب وترديد محاسِن الميت وذر الرماد على الرؤوس؛ فما الحكم في إحياء هذه المناسبات والحكم فيما يُفعل فيها مما ذكرت ؟
هذه المناسبات وهذه المآتم من الآصار والأغلال والمنكرات التي يجب على المسلمين تركها والحذر منها والمنع من الإقدام عليها؛ لأنها من المنكرات الظاهرة؛ لما فيها من المنكرات، وهي :
أولاً : إقامة هذه الحفلات والإسراف في هذا الإنفاق إنفاق للمال بالباطل، فهو حرام ومنكر، ولأنه إنفاق لإقامة بدع ومنكرات .
ثانيًا : إقامة هذه الحفلات في الأربعين وفي كذا وفي كذا؛ كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان .
ثالثًا : ما يحصل في هذه البدع من المنكرات الأخرى؛ من لطم الخدود وشق الجيوب وذر الرماد على الرؤوس، كل هذا من النياحة التي حرَّمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عنها أشد النهي، وقال : ( ليس مِنَّا من ضَربَ الخُدُودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليَّة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج2 ص82 ) من حديث عمر بن الخطاب، بدون ذكر ( إن ) . ] ، وأخبر : ( أن النائحة إذا لم تَتُب قبل موتها؛ تُقامُ يوم القيامة وعليها سِربَالٌ من قَطرانٍ ودِرعٌ من جَرَبٍ ) [ انظر : " صحيح الإمام مسلم " ( ج2 ص644 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي تُحرِّمُ النياحة، سواءٌ عند وفاة الميت مباشرة أو بعد ذلك بمدة .(16/34)
والواجب على المسلم أن يصبر ويحتسب؛ كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155-157 . ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 . ] .
قال بعض السلف في معنى { يَهْدِ قَلْبَهُ } : " إنه المسلم تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم " [ يروى عن الإمام الحافظ أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك، وانظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( ج4 ص375 ) . ] .
وهذا هو الواجب على المسلمين عند نزول المصائب .
أما إقامة هذه المآتم وهذه الحفلات وهذه المنكرات بمناسبة موت الأموات؛ فهذا من البدع والمنكرات والمحرمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي بالتالي من الآصار والأغلال التي تُحمِّلُ كاهِلَ أهل الميت بالنفقات، وربما يكون هذا من تركة الميت ويكون له ورثة قصّار، فتؤخذ ظلمًا وعدوانًا من حقهم .
وبعض الجُهَّال يجعل نفقة هذه المآتم المبتدعة المُحرَّمة من الحقوق المتعلقة بتركة الميت مثل تغسيله وتكفينه ودفنه، وهذا خطأ واضح؛ لأن هذه المآتم غير مشروعة، فلا تجوز إقامتها أصلاً ولا تمويلها من تركة الميت ولا من غيرها؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 . ] ؛ فالواجب منعها والقضاء عليها وبيان هذا للناس حتى يتركوها .(16/35)
120 ـ تنفق بعض الجماعات والدُّول أموالاً كثيرة لبناء غُرفٍ وقباب ذات تربة خاصّة على قبور زعمائهم وقادتهم، ويخصُّون ذلك القبر بزيارات منتظمة في كلِّ عامٍ؛ فما حكم الشَّرع في مثل ذلك العمل ؟
بناء القباب على قبور الصَّالحين والزُّعماء والقادة ليس من دين الإسلام، وإنما هو دين اليهود والنصارى والمشركين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه لمَّا ذَكَرَت كنيسة بالحبشة فيها من التَّصاوير : ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرار الخلق عند الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/375-376 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .(16/36)
قال الإمام الشَّوكاني رحمه الله : " اعلم أنه قد اتفق الناس؛ سابقُهم ولاحقُهم، وأوَّلُهم وآخرهم، مِن لَدُن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت : أنَّ رفع القبور والبناء عليها من البدع، التي ثبت النهي عنها، واشتدَّ وعيدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها؛ كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين . . . " وذكر الأدلَّة من السُّنَّة، إلى أن قال : " وفي " صحيح مسلم " وغيره من أبي الهيَّاج الأسدي؛ قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثكَ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا أدعَ تمثالاً إلا طمستُه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتُهُ . وفي " صحيح مسلم " أيضًا عن ثُمامة بن شفيٍّ نحو ذلك [ انظر : " صحيح مسلم " ( 2/666 ) . ] . وفي هذا أعظم دلالة على أنَّ تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متعمِّمة؛ فمن إشراف القبور أن يُرفع سَمْكُها، أو يجعل عليها القِباب أو المساجدُ؛ فإنَّ ذلك من المنهيِّ عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين، ثم إنَّ أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهيَّاج الأسديَّ في أيَّام خلافته " انتهى كلام الشوكاني رحمه الله (20).
والبناء على القبور وسيلة إلى الشرك؛ لأن الناس إذا رأوا هذا البناء وهذه الزَّخارف على القبور؛ اعتقدوا أنها تنفع وتضرُّ، وأنها يُتَبَرَّكُ بها، فزاروها من أجل ذلك، وقدَّموا لها القرابين والنُّذور، وطافوا بها وتمسَّحوا بجُدرانها؛ كما هو الواقع اليوم، وهذا هو الشِّركُ الصَّريح والمنكرُ القبيحُ، وسببُه البناء على القبور وزخرفتها .
121 ـ يعلِّلُ بعض الناس طوافهم بالقبر أو المزار أو الشجر ونحوه بأنه لمجرَّد التقرُّب بذلك العمل لله سبحانه لخصائص معيَّنة في صاحب ذلك القبر أو المزار أو تلك الشجرة؛ فعملهم لله وليس لذلك الشيء؛ فما حكمُ ذلك ؟(16/37)
قول بعض الناس : إنَّ طوافهم بالقبر أو المزار أو الشجر ونحوه؛ إنه لمجرد التقرُّب إلى الله بذلك العمل؛ لأن صاحب القبر له خصائص وفضائل، ونحن نسأل الله به، وعملُنا لله، وليس ذلك المخلوق؛ هذا القول هو بعينه قول المشركين الأوَّلين .
كما حكى الله ذلك عنهم بقوله سبحانه : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } إلى قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 . ] ، فسمَّى عملهم هذا شركًا وعبادة لغير الله، مع أنهم يقولون : فنحن لا نعبد هؤلاء، وإنما نتَّخذُهم وسائط بيننا وبين الله في قضاء حوائجنا .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 . ] ؛ سمَّاهم كَذَبَةً، وحكم عليهم بالكفر، مع أنهم يقولون : نحن لا نعبد هؤلاء المخلوقين، وإنما نريد منهم أن يقرِّبونا إلى الله؛ بأن يتوسَّطوا لنا عنده، ويشفعوا لنا لديه .
وهذه هي مقالة القبوريين اليوم تمامًا، وقد حكم عليهم الله بالكفر والكذب والشرك، ونزَّهَ نفسه عن فعلهم وعملهم، مع ما في فعلهم هذا من الابتداع في الدِّين، وذلك لأنَّ الله لم يشرع ولا رسولُه الطَّواف بشيء أو زيارة شيء من الأمكنة من أجل العبادة فيها أو الطَّواف بها غير الكعبة المشرَّفة والمساجد الثَّلاثة .
فمن زعم أنَّ زيارة هذه القبور أو المزارات والطَّواف بها أمر مشروع؛ فهو مبتدع في دين الله .
122 ـ يقول بعض الناس : إن السُّجود على تربة قبر الوليِّ قربة وطاعة؛ لاعتقادهم بقدسيَّة ذلك التُّراب وطهارته؛ فهل لهذا أصل في الشَّرع المطهَّر ؟(16/38)
السُّجود على التُّربة المسمَّاة تربة الوليِّ : إن كان المقصود منه التّبرُّك بهذه التربة والتقرُّب إلى الوليِّ؛ فهذا شرك أكبر . وإن كان المقصود التقرُّب إلى الله، مع اعتقاد فضيلة هذه التُّربة، وأن في السُّجود عليها فضيلة كالفضيلة التي جعلها الله في الأرض المقدَّسة في المسجد الحرام والمسجد النبويِّ والمسجد الأقصى؛ فهذا ابتداع في الدين، وقولٌ على الله بلا علم، وشرع دين لم يأذن به الله، ووسيلة من وسائل الشِّرك؛ لأن الله لم يجعل لبقعة من البقاع خاصَّةً على غيرها؛ غير المشاعر المقدَّسة والمساجد الثلاثة، وحتى هذه المشاعر وهذه المساجد لم يُشرَع لنا أخذ تربة منها لنسجد عليها، وإنما لنا حج بيته العتيق والصلاة في هذه المساجد الثلاثة، وما عداها من بقاع الأرض؛ فليس له قدسيَّةٌ ولا خاصيَّةٌ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/86 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] ، ولم يخصص بقعة دون بقعة، ولا تربة دون تربة، وإنما هذا من افتراء الذين لا يعلمون، وتضليل الدَّجَّالين والمبطلين، الذين يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، وليس لهذا العمل أصل في الشَّرع؛ فهو مردود على أصحابه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) معلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
123 ـ قال الله تعالى في القرآن الكريم : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [ يونس : 92 . ] ؛ فلماذا بقي فرعون ببدنه من بين الطَّواغيت والجبَّارين ؟ وأين محلُّ غرقه ؟ وأين يوجد هذا الجسد الآن ؟ وهل يُستَحَبُّ النَّظرُ إليه ؟(16/39)
قال ابن عبَّاس وغيره من السَّلف : إنَّ بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يُلقيه بجسده سويًّا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوةٍ من الأرض ( وهو المكان المرتفع ) ليتحقَّقوا من موته وهلاكه . انتهى (21) .
ومعنى قوله تعالى : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } ؛ أي : لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصيةُ كل دابَّة بيده، لا يقدر أحد على التخلُّص من عقوبته، ولو كان ذا سُلطة ومكانة بين الناس .
ولا يلزم من هذا أن تبقى جثَّةُ فرعون إلى هذا الزَّمان كما يظنُّهُ الجُهَّالُ؛ لأن الغرض من إظهار بدنه من البحر معرفةُ هلاكه وتحقُّقُ ذلك لمن شكَّ فيه من بني إسرائيل، وهذا الغرض قد انتهى، وجسم فرعون كغيره من الأجسام، يأتي عليه الفناء، ولا يبقى منه إلا ما يبقى من غيره، وهو عجب الذَّنَبِ، الذي منه يُرَكَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة؛ كما في الحديث (22)؛ فليس لجسم فرعون ميزةٌ على غيره من الأجسام . والله أعلم .
124 ـ هل صحيح أن شهر رجب يُفرَدُ بعبادةٍ معينة أو بخصوصية ؟ أرجو إفادتنا؛ حيث إن هذا الأمر مُلتبسٌ علينا، وهل يُفرَدُ أيضًا زيارة للمسجد النبوي فيه ؟(16/40)
شهر رجب كغيره من الشهور، لا يُخصَّص بعبادة دون غيره من الشهور؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه لا بصلاة ولا صيام ولا بعمرة ولا بذبيحة ولا غير ذلك، وإنما كانت هذه الأمور تُفعل في الجاهلية فأبطلها الإسلام؛ فشهر رجب كغيره من الشهور، لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه بشيء من العبادات؛ فمن أحدث فيه عبادة من العبادات وخصه بها؛ فإنه يكون مبتدعًا؛ لأنه أحدث في الدين ما ليس منه، والعبادة توقيفية؛ لا يقدم على شيء منها؛ إلا إذا كان له دليل من الكتاب والسنة، ولم يرد في شهر رجب بخصوصيته دليل يُعتمد عليه، وكل ما ورد فيه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة ينهون عن ذلك ويُحذِّرون من صيام شيء من رجب خاصة .
أما الإنسان الذي له صلاة مستمر عليها، وله صيام مستمر عليه؛ فهذا لا مانع من استمراره في رجب كغيره، ويدخل تبعًا .
125 ـ من الملاحظ اليوم بروز ظاهرة الغُلُوِّ، واتِّجاه العامَّة للتَّجاوب مع هذا الغُلُوِّ؛ ما السُّبُلُ للحدِّ من هذه الظَّاهرة ؟ ومَن المسؤولُ ؟
النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر أمَّته من الغلوِّ؛ قال عليه الصلاة والسلام : ( إيَّاكُم والغُلُوَّ؛ فإنما أهلَكَ مَن كان قبلَكُمُ الغُلُوُّ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/347 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 5/268 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1008 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/466 ) ؛ كلهم من حديث ابن عباس . ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( هلكَ المتنطِّعونَ، هلكَ المتنطِّعونَ، هلكَ المتنطِّعونَ ) ؛ قالها ثلاثًا [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2055 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ] ، والمتنطِّعون هم المتشدِّدون الغالون في دينهم .(16/41)
وقال سبحانه وتعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [ النساء : 171 . ] ، والواجب هو الاستقامة، وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } [ المائدة : 77 . ] ؛ من غير غُلُوٍّ ومن غير تساهل، وقال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ولأتباعه : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ } [ هود : 112 . ] ؛ يعني : لا تزيدوا ولا تتشدَّدوا .
فالمطلوب من المسلمين الاستقامة، وهي الاعتدال بين التَّساهُلِ وبين التَّشدُّد، هذا هو منهج الإسلام، وهو منهج الأنبياء جميعًا، وهو الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، من غير تشدُّدٍ وتنطُّع وغلوٍّ، ومن غير تساهل وتفسُّخٍ .
126 ـ تحدثتم فضيلتكم عن الغلو؛ فأرجو تعريف هذه الكلمة ؟ أثابكم الله .
الغلو : الزيادة في الدين أو في التدين والخروج عن الحد المشروع؛ لأن الدين وسط بين الغلو والتساهل، وسط بين الجفاء وبين الزيادة، هذا هو الغلو .
ومن مظاهر الغلو اليوم بين الشباب ما يظهر بين بعضهم في الصلاة من تفريق رجليه إذا وقف في الصلاة حتى يضايق من بجانبيه، وحني رأسه في حال القيام في الصلاة إلى قريب من الركوع، ومد ظهره في السجود حتى يكون كالمنبطح على الأرض .(16/42)
ومن مظاهر الغلو عندهم المبالغة في الصلاة إلى السترة حتى إن بعضهم إذا دخل المسجد قبل الإقامة؛ فإنه يترك الصف ويذهب إلى عمود أو جدار ليصلي إليه صلاة النافلة، مع أن السترة سنة ليست بواجبة، إن تيسرت، وإلا؛ فلا يتكلفها ويترك فضيلة القيام في الصف، خصوصًا الصف الأول وحصول مكانه فيه وقربه من الإمام، كل هذه فضائل لا ينبغي إهدارها، بل إن بعضهم يدافع الناس عن المرور أمامه إذا قام يصلي في المسجد الحرام في وقت الزحام، مع أن المرور أمام المصلي في المسجد الحرام والمواطن شديدة الزحام لا بأس به دفعًا للحرج ولله الحمد، وديننا دين اليسر، والمشقة تجلب التيسير .
ومن مظاهر الغلو تقصير الثياب إلى قريب من الركبتين، مما يُخشى معه انكشاف العورة، والمشروع تقصيرها إلى نصف الساق أو إلى الكعبين .
127 ـ بعض الأخيار يجلب التلفاز إلى بيته، ويقول بأنه لا يحب أن يُتَّهم بالغلو؛ فما توجيه فضيلتكم ؟
ترك التلفاز ليس غلوًّا، وإنما هو احتياط للدين وللأسرة وللأولاد؛ فهو تجنب للأسباب الضارة؛ لأنه يترتب على وجوده مضارّ على الأولاد والنساء، مضار حتى على صاحب البيت .
من الذي يأمن على نفسه من الفتنة ؟ !
فكلما سلم الإنسان من أسباب الفتنة؛ كان ذلك أحسن له حالاً ومآلاً، وليس ترك التلفاز من الغلو، وإنما هو من الوقاية .
128 ـ ما حكم الإسلام في زيارة المرأة للقبور؛ حيث إنَّ الشَّيخ ابن باز قال بعدم الجواز، بينما الشَّيخُ الألبانيُّ في كتابه " أحكام الجنائز " أجاز زيارتها؛ لعدَّة أحاديث أوردها .(16/43)
المسألة خلافيَّةٌ، ولكنَّ القول الصَّحيح أنَّ المرأة لا يجوز لها زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن زوَّارات القبور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/337 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) ؛ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، وفي رواية : ( لعن زائرات القبور ) [ رواها الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/229 ) ، ورواها أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) ، ورواها الترمذي في " سننه " ( 2/4 ) ، ورواها النسائي في " سننه " ( 4/94-95 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] ، واللعن لا يكون إلا على أمر محرَّم وكبير في التَّحريم، بل هو على كبيرة من كبائر الذُّنوب؛ لأنَّ ضوابط الكبيرة أن يُرَتَّب عليها لعنةٌ أو غضب أو نار أو وعيد أو حدٌّ في الدُّنيا؛ فكون النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور دلَّ على أنَّ زيارة المرأة للقبور كبيرة من كبائر الذُّنوب .
فعلى هذا يكون الحديث مخصِّصًا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( زوروا القبورَ؛ فإنَّها تذكِّرُكُم بالآخرة ) [ عند مسلم ( 2/671 ) بلفظ : " . . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت " ، من حديث أبي هريرة، وانظر : " سنن الترمذي " ( 4/9 ) من حديث بريدة رضي الله عنه . ] ، فيكون هذا الحديث خاصًّا بالرِّجال؛ بدليل حديث لعن الله زائرات القبور .
هذا هو القول الصَّحيح الذي يجب أن تسير عليه المرأة المسلمة .
ولأنَّ المرأة ضعيفة، ويُخشى منها أن تُظهِرَ الجزع والنِّياحة عند القبور إذا رأت قبر زوجها أو أخيها أو قريبها أن لا تصبر وأن تظهِرَ النِّياحة والجزع .
ولأنَّ المرأة عورة، ويُخشى عليها إذا ذهبت إلى المقبرة، وأنتم تعلمون أنه حتى المسجد الذي هو موطن العبادة، الأفضل للمرأة أن لا تذهب إليه وتصلِّيَ في بيتها؛ فكيف إلى المقبرة والخوفُ عليها أشدُّ ؟ !(16/44)
فالحاصل أنَّ الحقَّ مع من قال : إنَّ المرأة يحرُمُ عليها زيارة القبور .
129 ـ ما حكم سِباب وشتم الميت ؟ وهل ذلك يؤذيه أو له تأثير عليه ؟
ورد النهي عن سب الأموات (23) لأنهم أفضَوا إلى ما عملوا؛ فلا يجوز سب الأموات؛ إلا إذا ترتب على ذكرهم مصلحة شرعية؛ كأن يكون هذا الميت من علماء الضلال أو الرواة الكذابين أو له آثار سيئة؛ فإنه يجب تنبيه المسلمين عن آثاره وضلاله؛ ليحذروا من ذلك، أما ذكره مجرد غيبة ومجرد سباب لا مصلحة من ورائه؛ فإنه لا يجوز .
130 ـ حضرت درسًا لأحد طلبة العلم في أحد المساجد؛ حيث قال : الأذانُ الأوَّل في صلاة الفجر والجمعة بدعة، وكذلك الرَّكعتين بعد الأذان؛ فما رأيُكم في ذلك ؟
الأذان الأوَّل لصلاة الفجر ليس بدعة؛ لوجوده في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ بلالاً يؤذِّنُ بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مكتومٍ ) ، وكان رجلاً أعمى لا يؤذِّنُ حتى يقال له : أصبحت أصبحت [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/153 ) . ] ، ولأجل أنَّ الناس بحاجة إلى الأذان الأوَّل قبل الفجر من أجل أن يستيقظ النَّائم ويرجع التَّالي .
وكذلك الأذان الأوَّلُ يوم الجمعة، الذي أمر به أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ثالثُ الخلفاء الرَّاشدين (24) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاءِ الرِّاشدينَ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319-320 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/15/16 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/97 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/57 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
131 ـ لديَّ عادة أداومُ على فعلها، وهي أنني أصلي ركعتين قبل النَّوم، أقرأ فيهما الفاتحة وبعض السُّور القصيرة؛ فهل ذلك جائز أم بدعة ؟(16/45)
الوارد قبل النوم عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآداب التي يُستحبُّ فعلها : أن يتوضَّأ الإنسان، وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويقرأ بآية الكرسي وبالآيتين من آخر سورة البقرة، وبالمعوِّذتين، وأن يدعو بالدُّعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أدعية كثيرة وجوامع (25) ، أما الصلاة قبل النوم، والتزام هذا؛ فأنا لا أعلم له أصلاً من السنة النبويَّة .
لكن إذا فعله على أنه سنَّةُ الوضوء؛ فلا بأس؛ لثبوت الدليل بذلك .
132 ـ أخبركم أني بعدما أنتهي من صلاتي أدعو بالدُّعاء الآتي، فأقول : " اللهم ! تقبَّل صلاتنا، وطهِّر قلوبنا، وارحم والدينا، واغفر لأمواتنا، وفرِّج همَّنا، ورازقنا بالخيرات، واغفر للمؤمنين والمؤمنات " ؛ أدعو بهذا بعدما أنتهي من الصلاة، وبصفة دائمة؛ هل هذا الدُّعاء يجوز أم لا ؟ أفيدونا أفادكُمُ الله .
الدُّعاء بعد الصلاة مشروع في الجملة بما تيسَّر بعد الذِّكر المشروع، أما مُلازمة هذا الدُّعاء، والمُداومة عليه؛ فهي غير مشروعة؛ لأنَّ هذا لم يرد - فيما أعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن، أمَّا إذا دعوت به بعض المرَّات، أو بغيره، ولم تلتزمهُ دائمًا؛ فلا حرج في ذلك إن شاء الله، ويكون بدون رفع صوت .
133 ـ بعض الناس يقرؤون الفاتحة بعد الصلاة على أساس أنها دعاء؛ فهل هذا من السُّنَّة في شيء ؟ ثم قراءتها مرَّة أخرى لأرواح الموتى؛ فما هو الحكم في ذلك ؟
أمَّا قراءتها أدبار الصَّلوات؛ فلا أعلم له دليلاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي ورد هو قراءة آية الكرسي (26)، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } (27)؛ وردت الأحاديث بقراءة هذه السُّور بعد الصَّلوات الخمس، وأمَّا الفاتحة؛ فلا أعلم دليلاً على مشروعيَّة قراءتها بعد الصَّلاة .(16/46)
والسُّورُ التي ذكرناها لا تُقرأ على صفة جماعيَّةٍ وبصوتٍ مرتفعٍ، وإنما يقرؤها كلُّ مسلم لنفسه فيما بينه وبين نفسه .
وأمَّا قراءة الفاتحة لأرواح الأموات؛ فهذا من البدع، وأرواح الأموات لا تُقرأ لها الفاتحة؛ لأنَّ هذا لم يَرِد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل سلف هذه الأمة، وإنما هو شيء مبتدع؛ لا في المسجد، ولا في المقبرة، ولا في البيت، ولا في غيره، وإنما المشروع للأموات الدُّعاء لهم إذا كانوا مسلمين بالمغفرة والرحمة، والتصدُّقُ عنهم، والحجُّ عنهم، هذا هو الذي وردت به الأدلَّةُ، أمَّا قراءة القرآن الكريم لأرواح الأموات، أو قراءة الفاتحة لأرواح الأموات؛ فهذا شيء مُحدَثٌ وبدعة .(16/47)
الولاء والبراء
134 ـ ما هو السّبيل لموالاة إخواننا المسلمين في فلسطين والصُّومال والبوسنة والهيرسك ؟
المسلمون في أيِّ مكان تجبُ محبَّتُهم في القلوب، والدُّعاء لهم بالنصر والهداية والتَّوفيق، وكذلك مساعدتهم بالمال عبر الوسائل المعدَّة لذلك من هيئات الإغاثة، هيئات الإغاثة الآن موجودة، وله حسابات في المصارف؛ فمن أراد الإحسان إلى هؤلاء؛ فليدفع مالاً، ويكتب أنَّه للجهة الفلانيَّة؛ لإخواننا في كذا وكذا، يكتب عليها، أو يُبلغُ أنَّ هذا المال لإخواننا في فلسطين، في البوسنة، في الصومال، في أيِّ مكان، باب الخير مفتوح ولله الحمد، مع الدُّعاء لهم بالنَّصر والتَّوفيق، مع محبَّتِهم في القلوب .
135 ـ معلوم أنَّ المصرَّ على الكبيرة لا يُخلَّدُ في النار كما هو اعتقادُ أهل السُّنَّة والجماعة، لكن كيف يمكن الجمع بين ذلك وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مدمنُ خمر كعابد وثنٍ ) [ رواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1120 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري في " التاريخ الكبير " ( 1/129 ) من حديث أبي هريرة . ] ، ومعلوم أنَّ عابد الوثن مشرك، والمشرك مخلَّد في النار ؟
قوله صلى الله عليه وسلم : ( مدمنُ الخمرِ كعابدِ وثنٍ ) : هو من أحاديث الوعيد التي تُمَرُّ كما جاءت، ومعناه الزَّجرُ عن شُرب الخمر، والتَّغليظ في شأنه، وليس المراد منه أنَّ المداوم على شُرب الخمر يُخَلَّدُ في النَّار كما يُخلَّدُ المشرك والكافر؛ لأنه مؤمن ناقص الإيمان، وليس كافر كما تقوله الخوارج .
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 . ] ، وشُرب الخمر داخل فيما دون الشِّرك، فيشمله هذا الوعيد من الله تعالى بالمغفرة .
والحديث فيه تشبيه مدمن الخمر بعابد الوثن، وهو لا يقتضي التشبيه من كلِّ الوجوه؛ إلا إذا استحلَّ الخمر؛ فإنه يكون كافرًا .(17/1)
وعلى كلِّ حالٍ؛ فالخمر أمُّ الخبائث، وقد قَرَنَها الله بالمَيسر والأنصاب والأزلام، وأخبر أنها رجسٌ من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها (1)، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة (2)؛ ممَّا يدلُّ على شناعتها وشدَّة خطورتها وما تسبِّبه من أضرار بالغة، وقد رتَّب الشَّارع الحدَّ على شاربها، والخمر هي المادَّة المُسكرة؛ من أيِّ شيء كانت، وبأيِّ اسم سمِّيت .
136 ـ هل يُحكم بالنار على من عُرف من خلال سيرته بأنه ظالم للعباد، ومستهتر بشرع الله، ومات على ذلك، ولم يُعرف عنه توبة ؟ وما حكم لعن الشَّخص المعيَّن من الكفَّار ؟
العاصي من المسلمين يُخافُ عليه من النار، أما الحكم عليه بالنار؛ فهذا إلى الله سبحانه : إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، هذا إذا لم تكن معصيتُه كفرًا أو شركًا .
أمَّا الكافر والمشرك إذا ماتا على ذلك؛ فهما خالدان مخلَّدان في النَّار .
أمَّا اللعنُ؛ فالصحيح أنه يجوز لعنُ الجنس، فيُقال : لعنةُ الله على الظَّلمين، لعنة الله على الكاذبين . . .
وأما جواز لعن المعيَّنِ؛ ففيه خلافٌ بين العلماء .
137 ـ هل المجاهر بالمعصية إذا تاب تُقبَلُ توبتُه ؟
لا شكَّ أنَّ الله يقبل التَّوبة من جميع الذُّنوب؛ من المجاهرين وغيرهم، حتى الكفار، { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( التَّوبةُ تجبُّ ما قبلها ) [ ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " ( 3/126 ) . ] ، والله تعالى يقول : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 . ] ؛ فالتوبة الصادقة تكفِّرُ الذُّنوب جميعًا؛ الشِّرك، والكفر، والنِّفاق، وكل المعاصي، من تاب؛ تاب الله عليه .(17/2)
138 ـ إنَّ أصحابي ليس منهم رجل صالح أبدًا؛ ماذا عليَّ أن أفعل؛ وعلى ما قالوا : زيارة الأصحاب تكون فيها سعةُ الصَّدر والفرحُ ؟
لا يجوز للمسلم أن يصاحب العصاة؛ إلا إذا كان يناصحهم وينكر عليهم ويطمع في هدايتهم، وإلا؛ فإنَّه يجب عليه أن يبتعد عنهم، ولا يصاحبهم، ولا يزورهم؛ إلا إذا تابوا .
قال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 . ] ، ومفهوم الآية أنهم إذا لم يتوبوا؛ فليسوا إخواننا في الدين؛ فلا نصاحبُهم ولا نزورُهم؛ إلا من أجل دعوتهم وطلب هدايتهم .
139 ـ مجاهرة البعض بالمعاصي وارتكاب الآثام؛ ما حكمُها ؟
لا يجوز ارتكاب المعاصي لا سرًّا ولا جهرًا؛ قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 . ] ، والمجاهرة بالمعاصي فيها زيادة إثمٍ على المعاصي الخفيَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ أمَّتي معافىً إلا المجاهرينَ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/89 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ لأن المجاهرة تدلُّ على عدم المبالاة، وتسبِّب الاقتداء بالمعاصي .
البراء من أصحاب المعاصي
140 ـ هل يجوز لعن أصحاب المعاصي أو الظَّلمة، كأن يظلمني شخص بالقول أو الفعل، فألعنه؛ فهل ذلك جائز أم لا ؟
لا يليق بالمسلم أن يكون لعّانًا ولا فاحشًا ولا متفحشًا؛ فينبغي له حفظ لسانه من السب والشتم، حتى ولو سابه أحد أو شاتمه أحد؛ فينبغي له أن لا يرد عليه بالمثل؛ لقوله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ فصلت : 34 . ] ، وربما يكون الذي لعنته لا يستحق اللعنة، فيرجع إثمها عليك .
141 ـ إذا نوى شخص أن يعمل سوءًا، ولم يفعله؛ فهل تُكتَبُ عليه سيئة أو لا ؟(17/3)
ورد في الحديث : ( أن المسلم إذا همَّ بالسّيِّئة ولم يعملها؛ فإنها تُكتَبُ له حسنة ) [ انظر : " صحيح البخاري " ( 7/187 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو معنى جزء من حديث قدسي . ] ، وهذا إذا ترك العمل بها خوفًا من الله سبحانه وتعالى .
أمَّا إذا ترك العمل بها لأنَّه لم يتمكَّن من فعلها، وهو ينوي أنه لو تمكن أن يفعلها؛ فهذا يكون عليه الإثم بسبب نيَّته؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث، ومنها : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار ) . قيل : يا رسول الله ! هذا شأن القاتل؛ فما بالُ المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 7/125 ) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1311 ) من حديث أبي موصى رضي الله عنه . ] .
142 ـ قال تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 . ] ، وذكر الفسوق والفاسقون مرَّات عديدة في القرآن والسُّنَّة؛ فما هو الفسوق ؟ وما تعريفه ؟ وكيف يحذر المسلم أن يكون من القوم الفاسقين ؟
قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنواع المعاصي الثلاثة : المعاصي التي تُخرِجُ من الملَّة؛ كالكفر والشِّرك بالله عز وجل، والمعاصي الكبائر التي هي دون الشِّرك والكفر؛ فلا تخرج من الملَّة، ولكنها تُنقِصُ الإيمان نقصًا ظاهرًا؛ كالزِّنى والسَّرقة وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، وسُمِّيت فسوقًا، وصاحبُها فاسقًا، لأنَّ الفسق معناه الخروج عن طاعة الله عز وجل، وذكر المعاصي التي هي دون الكبائر، ولا تقتضي الفِسقَ، وهي صغائرُ الذُّنوب .
فأخبر سبحانه أنه كرَّهَ هذه الأنواع الثلاثة إلى أهل الإيمان، وحبَّبَ إليهم أنواع الطاعات والقُرُبات .
143 ـ ما الموقف الصَّحيح تُجاه العصاة من المسلمين ؟(17/4)
الموقف الصَّحيح للعصاة من المسلمين نصيحتهم، ننصحهم في ترك المعاصي والتَّوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون ذلك بحكمة وطريقة لَبِقَةٍ، من غير تنفير ومن غير تشديد، وإنما يكون بالتَّرغيب بالتَّوبة والتَّرهيب من المعصية، هكذا النَّصيحة .
وتكون النصيحة سرًّا بين النَّاصح والمنصوح، من أجل أن يكون ذلك أدعى على قبوله، أمَّا إذا أشهرت به عند الناس، أو تكلَّمت في عِرضِه وهو غائب، وقلت : فلانٌ يعمل كذا، وفلانٌ ما فيه خير، وفلان . . . هذا يزيد الشَّرَّ شرًّا، وليس هذا من النَّصيحة، هذا من الفضيحة .
فتعامُلُنا مع العُصاة هي النَّصيحة، وتكون النَّصيحة بحكمة وموعظة حسنة، وبرفق ولين، وتبشيره بالخير إذا تاب، وكذلك تحذيره من العقوبة .
النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : ( بشِّروا ولا تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/101 ) من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ : يسرا ولا تعسرا . ] ، والله تعالى يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ولما جيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشاربٍ للخمر، فأمر بجلده - لأنَّ شارب الخمر يُجلَدُ، فقال بعض الحاضرين : لَعَنَهُ الله، ما أكثر ما يُؤتى به ! قال النبيُّ : ( لا تقل، أما علمت أنه يحبُّ الله ورسوله ؟ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/14 ) بنحوه . ] ، وفي رواية أخرى : ( لا تعينوا عليه الشيطان ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/14 ) . ] .
فالعاصي يُنصَحُ ويُرَغَّب ويُحَذَّر من العقوبة، توصل إليه النَّصيحة بطريقة يقبلها لا بطريقة ينفِرُ منها، هذا هو الصَّحيحُ .(17/5)
144 ـ هل للكفر أنواع ودرجات بعضها أعظم من بعض أم أنه درجة واحدة ؟ إذا كان له درجات؛ فمن أيها يكون سبُّ الدين أو الرّبِّ أو الرَّسولِ والعياذ بالله من ذلك ؟
نعم؛ الكفر - والعياذ بالله - درجات، بعضها أشد من بعض، منه كفر يُخرِجُ من الملَّة، ومنه كفر دون ذلك، وسبُّ الدين أو سب الله أو رسوله من الكفر الأكبر المُخرِج من الملَّةِ والعياذ بالله، وأمَّا الكفر الأصغر مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( سِبابُ المُسلِم فُسُوقٌ وقِتالُهُ كُفرٌ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/91 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجِعُوا بعدي كُفَّارً يضرِبُ بعضُكُم رِقَابَ بعضٍ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/91 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ] ؛ فهذا من الكفر الأصغر الذي لا يُخرِجُ من الملَّة .(17/6)
معاملة الكفار والسفر إلى بلادهم ودخولهم بلاد الإسلام
145 ـ يجاورنا بعض الأسر من هذا البلد ( كركوف في بولندا ) ، وهم يُحسنُون جوارنا ويعاملونا معاملة طيبة، ونحن كذلك؛ فهل يجوز لنا الاختلاط بهم عائليًّا ومجالستهم ومؤاكلتهم؛ رغم أنهم يحترمون ديننا، فلا يفعلون شيئًا من المنكرات بحضورنا، فهل يجوز لنا ذلك ؟
لا ينبغي مخالطة الكفار والأنس بهم والاطمئنان إليهم، ولو كانوا من الجيران، ولكن الجار يُحسَنُ إليه ولا يُساءُ إليه، ولو كان كافرًا؛ لأنَّ الجيران ثلاثة :
1ـ جار له ثلاثة حقوق : وهو الجار المسلم القريب؛ له حق الإسلام وحق الجوار وحق القرابة .
2ـ وجارٌ له حقان : وهو الجار المسلم غير القريب - يعني في النسب -؛ فله حقان؛ حق الإسلام وحق الجوار .
3ـ وجارٌ له حقٌّ واحد : وهو الجار الكافر؛ له حق الجوار، الجوار فقط؛ بأن تحسن إليه، ولا يصدر منك أذى في حقه أو سوء جوار، أما الانبساط معهم والاطمئنان إليهم ومحبتهم؛ فلا يجوز للمسلم أن يود الكافر أو أن ينبسط معه أو أن يأمنه أو أن يختلط به؛ لأنهم قد يؤثِّرون - ولو على المدى البعيد - عليكم أو على ذُرِّيَّتِكُم .
146 ـ ما هو الأسلوب الذي نقابل به الكفَّار الذين قَدِموا إلينا؛ هل نعاديهم ؟ أم نُقابِلُهم بالخُلُقِ وندعوهم إلى الله ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .(18/1)
إذا استقدمناهم وأعطيناهم الأمان؛ لا يجوز أن نعتدي عليهم أو نضرَّهُم، بل يجبُ العدل حتى يذهبوا ويُنهوا عقدهم ويذهبوا إلى بلادهم؛ لأنهم دخلوا بأمان، ونحن استقدمناهُم؛ فيجب أن نتعامل معهم بالعدل، ولا نظلمهم، ونعطيهم حقوقهم، أمَّا محبَّتُهم؛ فنحن لا نُحبُّهم، لكن كوننا نبغضُهم في الله لا يقتضي أننا نظلمُهم أو نبخس شيئًا من حقهم أو نعتدي عليهم؛ لأنّ الله تعالى يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 . ] ، لكن في المستقبل يجب أن نُنهِيَ استقدامهم، ونستبدلهم بإخواننا المسلمين من العمَّال في البلاد الأخرى .
147 ـ يكثر بيننا الكفار والمشركون، ويكثر التعامل معهم في بيع وشراء؛ فما حكم ذلك ؟ وما حكم أرباح تجارتنا إذا كان بعضها من أموالهم نتيجة تعاملنا معهم؛ هل هي حلال أم حرام ؟
التعامل مع الكفار من المشركين والكتابيين وغيرهم إذا كان من التعامل المُباح الذي ليس فيه ربًا وليس فيه ميسر وليس فيه شيء من المكاسِب المحرَّمة : لا بأس به؛ فلا بأس أن نبيع ونشتري مع الكفار في حدود ما أباحته الشريعة الإسلامية .
أما التعامل مع الكفار فيما حرَّم الله من الربا والمكاسب المحرَّمة كالقمار والميسر والمكاسب المحرمة؛ فهذا لا يجوز للمسلم أن يتعامل به لا مع الكفار ولا مع المسلمين، وما ينتج عن ذلك من كسبٍ يكون حرامًا؛ لا يجوز للمسلم أن يأكله أو أن يستعمله أو أن ينتفع به .
148 ـ ما رأيُ فضيلتكم فيمن يتقرَّب إلى الكفَّار ويواليهم بحجَّة أنهم يفهمون في أمور المادَّة أكثر منَّا ؟ وكيف يكون التعامل معه ؟(18/2)
التودُّدُ إلى الكفار لا يجوز، لا تجوز محبَّتُهم في القلوب؛ لأنهم أعداءُ الله ورسوله، تجبُ عداوتهم؛ قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 . ] ؛ فلا يجوز للمسلم أن يحبَّ الكافر .
أما التعامل معه في الأمور المباحة؛ فلا بأس إذا كان الكافر عنده تجارة تبيع معه وتشتري، لا بأس بالبيع والشِّراء معه، هذا من المعاملات المباحة، النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود، اشترى منهم، استدان منهم عليه السلام، كذلك إذا كان عندهم خبرات في بعض الأمور، ولا يوجد عند المسلمين من يقوم بها؛ فلا بأس أن نستفيد من خبراتهم، لكن لا نحبُّهُم، ولا نواليهم، وإنما نؤاجِرُهم أجرةً، يؤدُّون لنا عملاً بالأجرة، مع بغضهم ومع عداوتهم .
149 ـ ما حكم من خاف من اعتداء الكفار والمشركين وجاملهم في بعض أفعالهم المنكرات؛ خوفًا منهم، وليس إقرارًا أو رضاء بما يفعلون ؟
لا يجوز للمسلم أن يجامل الكفار على حساب دينه، أو أن يوافقهم في أفعالهم؛ لأن أفعالهم ربما تكون كفرًا وشركًا وكبائر من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز للمسلم أن يوافقهم على ذلك، أو أن يشاركهم في ذلك باختياره، بل الواجب عليه أن يُظهِرَ دينه .
ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .(18/3)
وحالة الإكراه لها حكم خاص؛ قال سبحانه وتعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 . ] ، والمسموح به في هذه الحالة إنما هو القول باللسان دون موافقة القلب .
150 ـ ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟
زيارة الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام لا بأس بها؛ فقد زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب وهو يحتضرُ، ودعاه إلى الإسلام (3)، وزار اليهوديَّ، ودعاه إلى الإسلام (4)، أما زيارة الكافر للانبساط له والأنس به؛ فإنها لا تجوزُ؛ لأنَّ الواجب بغضهم وهجرهم .
ويجوز قبول هداياهم؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل هدايا بعض الكفَّار؛ مثل هديَّة المقوقس ملك مصر (5).
ولا تجوز تهنئتُهم بمناسبة أعيادهم؛ لأنَّ ذلك موالاة لهم وإقرارًا لباطلهم .
151 ـ ما حكم الاعتداء على الكافر في بلاد المسلمين بالضرب أو القتل وإن كان ذلك بسبب ما يقوم به من إفساد أو فسق ؟
لا يجوز الاعتداء على الكافر إذا دخل بلاد المسلمين بالأمان والعهد؛ لأنه في ذمة المسلمين، ولا يجوز غدر ذمة المسلمين؛ فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالوفاء بالعهود؛ قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } [ التوبة : 6 . ] ، وأما إذا ارتكب شيئًا يقتضي العقوبة؛ فإن الذي يتولى ذلك هو ولي الأمر، ولا يجوز لأفراد الناس أن يعاقبوه؛ لأن هذا يحصل منه الفوضى والاعتداء، ولكن من حصل منه شيء يُخلُّ بدين المسلمين أو يضر بأحد من المسلمين؛ فإنه يُرفَعُ إلى ولي الأمر ليتولَّى هو مجازاة هذا المُعتدي .(18/4)
152 ـ هل يجوز للمسلم أن يسكن مع مسيحي في غرفة واحدة لظروف العمل أو الأكل معًا ؟ أفيدونا في ذلك .
الأفضل أن لا يسكن مع كافر ولا يخالطه؛ فإن كان هناك ضرورة؛ فلا مانع من ذلك؛ أن يسكن المسلم مع مسيحي في غرفة واحدة، وأن يأكل معه أيضًا؛ بشرط أن يحافظ المسلم على دينه .
153 ـ هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى ؟
لا يُعتبَرُ موالاة، لكن يعتبر تشبُّهًا بهم .
والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا، ولم يستعملوه، بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ، وضعوا التاريخ الهجريَّ، ولم يستعملوا التاريخ الميلادي، مع أنه كان موجودًا في عهدهم، هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار، لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم؛ لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة، وهذه بدعة ابتدعها النصارى؛ فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء، وإذا أرَّخنا بتاريخهم؛ فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم، وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ، الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار، هذا يغنينا .
154 ـ ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها ؟
الأصل أنَّ السفر إلى بلاد الكفَّار لا يجوز لمن لا يقدر على إظهار دينه، ولا يجوز إلا لضرورة؛ كالعلاج وما أشبه ذلك؛ مع القدرة على إظهار الدِّين، والقيام بما أوجب الله سبحانه وتعالى، وأن لا يداهن ولا يُماري في دينه، ولا يتكاسل عن أداء ما أوجب الله عليه .(18/5)
أمَّا السُّكنى؛ فهي أشدُّ، السُّكنى بين أظهر المشركين لا تجوز للمسلم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلم أن يقيم بين أظهر المشركين (6)؛ إلا إذا كان في إقامته مصلحة شرعيَّة؛ كأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون لوجوده بين أظهر الكفَّار تأثير بالدَّعوة إلى الله وإظهار دينه ونشر الإسلام؛ فهذا شيء طيبٌ لهذا الغرض، وهو الدَّعوة على الله سبحانه وتعالى، ونشر دينه، وتقويةُ المسلمين الموجودين هناك، أمَّا إذا كان لمجرَّد الإقامة والبقاء معهم من غير أن يكون هناك مصلحة شرعيَّة؛ فإنه لا يجوز له الإقامة في بلاد المشركين .
ومن الأغراض المُبيحة للسَّفر إلى بلاد الكفَّار تعلُّمُ العلوم التي يحتاج إليها المسلمون؛ كالطِّبِّ، والصناعة؛ مما لا يمكن تعلُّمه في بلاد المسلمين .
155 ـ معنى هذا أنه لو كان مثلاً لغرض التجارة فقط؛ فيجوزُ له ذلك ؟
يجوز السَّفر لبلاد المشركين بشرطين : بشرط أن يكون هذا السَّفر لحاجة، وأن يكون يقدر على إظهار دينه؛ بأن يدعو إلى الله، ويؤدِّي الواجبات، ولا يترُكَ أيَّ شيء ممَّا أوجب الله تعالى عليه، ولا يُخالط الكفَّار في محلاَّت فسقهم ومجونهم، ولا يغشى المجامع الفاسدة التي توجد في بلاد الكفَّار .
بهذه الشُّروط لا بأس أن يسافر، أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ منها؛ فلا يجوز له .
156 ـ زوجي يصرُّ عليَّ أن أسافر معه إلى خارج المملكة لدولة أوروبّيَّة لقضاء الإجازة هناك، وأنا لا أرغب بالذَّهاب إلى بلاد الكفَّار، ولا أريد أن يذهب لوحده؛ فما العمل الذي يمكن أن أقوم به ؟ وهل يلحقُني إثم لمعصيتي زوجي عند ذهابي معه ؟
لا يجوز السَّفر إلى بلاد الكفَّار من أجل النُّزهة؛ لما في ذلك من الخطر على العقيدة والأخلاق، ولا يجوزُ للمرأة أن تطيع زوجها في السَّفر في هذه الحالة؛ لأنه معصية، ولا طاعة للمخلوق في معصية الخالق .(18/6)
157 ـ والدي فوق السّتِّين عامًا من عُمُره، ويسافر كثيرًا إلى بلاد الكفر للفسق والسفور، وقد نصحته كثيرًا، وهو يوبِّخُني بأنه يريدُ أن يمتع نفسه؛ فهل عليَّ أن أطلب الحجر عليه ومنعه من السفر ؟ أم أتركُهُ وشأنه مرضاة لقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 . ] ؟
يجب عليك مناصحة والدك عن السفر إلى بلاد الكفر، وحثُّه على التَّوبة، وإذا كان بإمكانك منعه من ذلك؛ وجب عليك منعه؛ لأنَّ ذلك من أجل مصلحته، ومن التعاون معه على البرِّ والتَّقوى، ومن إنكار المنكر، أما إذا كنت لا تستطيع منعه؛ فيكفيك مناصحتُه والإنكار عليه .
وعلى كل حال؛ مناصحتك له ومنعه إن أمكن هو من أعظم الإحسان إليه؛ فهو داخل في قوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } .
158 ـ ماذا ترون فيمن يُصادق الرَّافضة، وعند تنبيهه بخطرهم؛ فإنه يصفُهم بحسن الأخلاق وحسن الصُّحبة ؟ وجزاكم الله خيرًا .
يجب أن يُبَيَّنَ له حقيقة هؤلاء، فيجب أن يُبَيَّنَ له ما هم عليه، ومذهبهم، وعداوتهم لأهل السُّنَّة، يجب أن يُبَيَّنَ له؛ لأني أعتقد أنه لو عرف ما هم عليه، وفي قلبه إيمان؛ أنه لن يستمرَّ على هذا الشيء؛ فيجب أن يُبَيَّنَ له، لكن البيان يكون بطريقة صحيحة :
أولاً : يكون البيان مدعَّمًا بالأدلة المقنعة .
وثانيًا : يكون هذا البيان سرّيًّا : إمَّا أن يؤدَّى إليه بالمشافهة، وإمَّا بالكتابة سرًّا إليه . فهذا هو الطَّريقُ الصَّحيح .
159 ـ هل هو صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى قبل وفاته ألا يجتمع في أرض الجزيرة دينان ؟(18/7)
نعم؛ أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وقال : ( لا يبقى في جزيرة العرب دينان ) [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 2/892-893 ) بنحوه، وانظر : " صحيح مسلم " ( 3/1258 )(7)] ، وقد نفَّذ هذا الأمر الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه (8)، وذلك لأنَّ الجزيرة هي مصدر الدِّين الحقّ، الذي هو دين الإسلام؛ فلا يليق أن يبقى فيها ويصدر منها دينٌ غيره .
160 ـ هل يجوز دخول الخادمات والسَّائقين غير المسلمين الجزيرة العربيَّة ؟
هذا لا يجوز، دخول الكفَّار إلى الجزيرة العربيَّة؛ بمعنى أنَّنا نستقدمُهم ونولِّيهم أمورنا وسرائرنا، ونُطلِعُهُم على أحوالنا؛ هذا لا يجوزُ؛ لأنهم أعداءٌ؛ فاستقدام الأيدي العاملة من الكفرة هذا أمر لا يجوز، وذلك لأمور :
الأمر الأول : أن هذا إعانة للكفَّار على المسلمين، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } ؛ يعني : من غيركم؛ يعني : من الكفَّار، { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 . ] ؛ ففي إعطائنا أموالنا لهم تقوية لهم على كفرهم وإعانة لهم .
وثانيًا : أن في استقدامهم إلى بلاد المسلمين أثرًا سيِّئًا على المسلمين وعلى أولاد المسلمين، وهو مما يمكِّنُ الكفَّار من بثِّ شرورهم وسمومهم بين المسلمين .
والأمر الثالثُ : أننا نحرُمُ إخواننا المؤمنين من الأيدي العاملة التي هي بحاجة إلى هذه الأموال .
فالواجب على من يريد استقدام عمَّالٍ أن يستقدم من المسلمين؛ لِمَا في ذلك من المصالح العظيمة؛ إعانةً لإخواننا المسلمين؛ وأمنًا لشرِّ أعدائنا .(18/8)
هذا من مقتضى الموالاة في الله أننا نستقدم من إخواننا المؤمنين، هذا من الموالاة في الله، ومن مقتضى المعاداة في الله ألا نستقدم الكفار .(18/9)
بر الوالدين والطاعة
161 ـ معلوم أن الزوجة مجبرة على طاعة زوجها كما في الحديث، ومأمورة أيضًا بطاعة والديها في غير معصية الله؛ فما الحكم إذا تعارضت الطَّاعتان ؟ فأيَّهما تقدِّمُ ؟
لا شك أنَّ المرأة مأمورة بطاعة الله سبحانه وتعالى، ومأمورة بطاعة زوجها، وبطاعة والديها ضمن طاعة الله عز وجل .
أمَّا إذا كان في طاعة المخلوق من والد أو زوج معصية للخالق؛ فهذا لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الطاعة في المعروف ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/106 ) من حديث علي رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/66 ) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري بلفظ قريب من هذا، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 3/123 ) من حديث علي بن أبي طالب بنحوه، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 10/44 ) من حديث النواس بن سمعان . ] ؛ فلا شكَّ أنَّ حقَّ الوالدين مقدَّمٌ، وهو يأتي بعد حقِّ الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ النساء : 36 . ] ؛ فحقُّ الوالدين متأكّدٌ .
فإذا كان الزّوج سيحملها على معصية والديها وعلى عقوق والديها؛ فهي لا تُطيعُه في هذا؛ لأنَّ حقَّ الوالدين أسبق من حقِّ الزَّوج؛ فإذا طلب منها أن تَعُقَّ والديها؛ فإنها لا تُطيعُه في ذلك؛ لأنَّ العقوق معصية، ومن أكبر الكبائر بعد الشِّركِ .
162 ـ إذا أرضى إنسان رجلاً ذا قوَّة وجاه بمشاركته في معصية لله تعالى، ولم يكن ذلك الإرضاء إلا لقصد الحصول على متعة خاصَّة، أو دفع مضرَّة دنيويَّة؛ فهل يُعتَبَرُ ذلك من اتِّخاذ الأنداد من دون الله ؟(19/1)
الواجب على الإنسان أن يُطيعَ الله سبحانه، ويلتمس رضاه، ولو سخط عليه الناس؛ فإن الله سبحانه سيرضى عنه ويرضي عنه الناس؛ كما في الحديث : ( من التمسَ رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمسَ رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/132-133 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، والله تعالى يقول : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [ التوبة : 13 . ] .
فالواجب على المؤمن أن يُطيع الله، ويجتنب معصيته، ويصبر على ما ينالُهُ من الأذى، وإلا؛ كان من الذين قال الله فيهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 . ] .
قال العلامة ابن القيِّم : " أخبر عن حال الدَّاخل في الإيمان بلا بصيرة؛ أنه إذا أوذي في الله؛ جعل فتنة الناس له - وهي أذاهم، ونيلُهم منه بالمكروه، وهو الألم الذي لابدَّ أن ينال الرُّسل وأتباعهم ممَّن خالفهم -؛ جعل ذلك في فراره منه وتركه السَّبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان؛ فالمؤمنون - لكما بصيرتهم - فرُّوا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحمَّلوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا - لضعف بصيرته - فرَّ من ألم أعداء الرُّسل إلى موافقتهم، ففرَّ من ألم عذابهم إلى عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبِنَ كُلَّ الغَبْنِ إذ استجار من الرَّمضاء بالنَّار، وفرَّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد " انتهى .
وهذا أيضًا بكونه قدَّم خشية الناس على خشية الله قد اتّخذهم أندادًا من دون الله بقدر ما قام بقلبه من ذلك، والله المستعان .(19/2)
163 ـ رئيسي في العمل يُجبرني على القيام بأعمال فيها إخلال بالنظام والأمانة . . . فإذا أطعته؛ ففيه إخلال بهما، وهذا لا يجوز، وإن عصيتُه عن القيام بذلك؛ أوقع عليَّ جزاء؛ فما الذي أعمله ؟
لا يجوز لرئيس العمل أن يعمل ما يُخِلُّ بالنِّظام والأمانة، ولا يجوز له أن يُجبر من تحت يده على ذلك، ولا يجوز للموظِّف أن يطيع رئيسه في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على الموظِّف في مثل هذه الحالة أن ينتقل إلى العمل في مجال آخر، ويبتعد عن هذا الرئيس السيئ، والأعمال والحمد لله كثيرة، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 . ] .
164 ـ
إذا كان والد شخص ما مريضًا، وذهب به إلى أحد المستشفيات، وقرَّروا إجراء عمليَّة له، ولكنَّ الوالد رفض إجراء هذه العمليَّة خوفًا على حياته، ورغبةً من ابنه في شفاء والده من هذا المرض؛ أجبر والده على الموافقة، أو احتال عليه حتى أُجريت له العمليَّة دون علمه ودون موافقته؛ فهل يُعتبر هذا عقوقًا لوالده يأثم عليه؛ علمًا أنَّ الدَّافع له محبَّتُه لوالده وطمعه في شفائه ممَّا يُعاني من مرض ؟
ولو فَرَضنا وحصلت الوفاة نتيجة هذه العملية التي تسبَّب فيها ابنه؛ فهل يَلحَقُهُ إثمٌ بذلك أم لا ؟
تَذْكُر أيُّها السائل أنَّ والدك أصيب بمرض، وهو يحتاج إلى عمليَّة جراحيَّة، ولكنه لا يرغب في ذلك، وأنَّك ألححت عليه أو احتلت عليه حتى أُجرِيَت له العملية؛ فهل عليك في ذلك إثمٌ ؟(19/3)
لا حرج عليك في ذلك إن شاء الله؛ لأنكَ تريد له الخير، وتريد له المصلحة، ولم تُرِد به الضَّرر؛ فأنت محسن، ويُرجى له الأجر إن شاء الله، وحتى لو تُوُفِّي من أثر هذه العمليَّة، ما دامت أنَّها عمليَّة جارية مجراها الطبّيَّ، ولم يحصل فيها تفريط، والطَّبيب من أهل الخبرة، وتوافرت الشُّروط؛ فلا حرج عليك في ذلك؛ لأنك محسن، والله تعالى يقول : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 . ] . والله تعالى أعلم .(19/4)
الهجر وقطيعة الرحم
165 ـ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجُرَ أخاهُ فوق ثلاث ليالٍ؛ يلتقيان، فيُعرِضُ هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/90، 91 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ : ( لا يحل لمسلم . . . ) . ] ، أو كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا الشخص الذي خاصمته لا يصلي ولا يصوم ويفعل المنكرات؛ فهل يعتبر خصامي له حرامًا ؟ أم ما هو المقصود من هذا الحديث ؟
الهجر هو ترك مكالمة الشخص وترك مجالسته والسلام عليه .
هجر المؤمن لا يجوز فوق ثلاثة أيام إذا كان على أمر من أمور الدنيا، بل عليه أن يصالح أخاه وأن يُسلِّم عليه إذا لقيه، ومع أنه لا ينبغي ابتداءًا أن يهجر على أمر من أمور الدنيا، ولكن لو حصل شيء من الهجر؛ فإنه لا يتجاوز ثلاثة أيام، وهذا هو المراد بالحديث : ( لا يَحِلُّ لمؤمن أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاث ) ؛ يعني إذا كان الهجر على أمر من أمور الدنيا .
أما إذا كان الهجر لأجل معصية ارتكبها ذلك المهجور، وكانت هذه المعصية من كبائر الذنوب، ولم يتركها؛ فإنه يجب مناصحته وتخويفه بالله عز وجل، وإذا لم يمتنع عن فعل المعصية ولم يتب؛ فإنه يُهجَر؛ لأن في الهجر تعزيرًا له وردعًا له لعله يتوب؛ إلا إذا كان في هجره محذورًا؛ بأن يُخشى أن يزيدَ في المعصية وأن يترتب على الهجر مفسدة أكبر؛ فإنه لا يجوز هجره في هذه الحالة؛ فهجر العاصي إنما يجوز إذا كان من ورائه مصلحة ولا يترتب عليه مضرة أكبر، وبالله التوفيق .
166 ـ
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاهُ المسلمَ فوق ثلاث؛ يلتقيان، فيُعرِضُ هذا، ويُعرِض هذا، وخيرُهُما الذي يبدأُ بالسَّلام ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/91 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه . ] ، أو كما ورد في الحديث .(20/1)
في هذا العصر كَثُرَت القطيعة بين الناس، وخاصة بين القرابة؛ فعندنا أبناء عمومة متقاطعون من زمن بعيد منذ سن الصبا، وهم يحملون لبعضهم الكره والحقد، وقد سعى بينهم أهل الخير والإصلاح بقصد إصلاح ما فسد؛ إلا أنهم يصرون على الكره لبعضهم، وأحدهم متزوج أخت الآخر، ويقول أحدهم : لا أستطيع السيطرة على قلبي تجاه ابن عمي؛ فقلبي يكرهه ولا أستطيع مجالسته ولا مقابلته ولا حتى رد السلام عليه، رغم أنهم متدينون؛ إلا أن الموعظة لم تؤثر فيهم، ويقول أحدهم : إذا كان لا يدخلني الجنة إلا رضاء فلان؛ فلا أرجو هذا . فما ترون فضيلتكم ؟ وكيف السبيل إلى إصلاحهم مع بعضهم ؟ وهل أعمالهم مقبولة وهم بهذه الحالة رغم تقاربهم في النسب والجوار ؟
إن الله سبحانه وتعالى أوجب صلة الأرحام وحرَّم قطيعتها؛ قال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [ النساء : 36 . ] ، وقال تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [ الروم : 38 . ] ، وقال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء : 1 . ] .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، توجب صلة الأرحام، وتُحرِّم قطيعتها . وقد لعن الله قاطع الرحم؛ قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 22-23 . ] .
فقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب بلا شكٍّ، وعظيمة وتُوجِب تأخير المغفرة للقاطع؛ كما جاء في المتشاحنين، وأن الله سبحانه وتعالى يقول : ( أنظِروا هذين حتى يصطَلِحا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1987 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(20/2)
وهذا فيه خطورة عظيمة على المسلم، وفيه ضرر عاجل وآجل .
أما ما ذكر السائل من أن أقارب جرى بينهم من القطيعة ما وصفه، حتى إن بعضهم لا يُكلِّم بعضًا، ويقول إذا نصح : أنا لا أقدر على السيطرة على قلبي، وربما يبالغ فيقول : إن كان دخول الجنة لا يحصل إلا عن طريق فلان؛ فأنا لا أريدها . هذا كله من الكلام الفظيع، وكله من مجاراة الشيطان والهوى .
فيجب التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وصلة ما بينهم، وأن لا يتمادوا مع عدوهم الشيطان، لا سيما إذا كان بينهم رابطة عائلية؛ كما في السؤال أن أحدهم معه أخت الآخر، فهذا أيضًا يؤثِّر على زوجاتهم ويؤثِّر على ذرياتهم، فينشأ الجميع متقاطعين متعادين فيما بينهم، والخطر في هذا عظيم، والواجب التوبة إلى الله سبحانه وتعالى .
وكما في الحديث الذي ذكره السائل : ( لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاث ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1984 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه . ] ؛ فالهجر - وهو ترك الكلام مع الشخص أو ترك زيارته أو الاتصال به - لا يحل فوق ثلاث، وأما إن كان لأجل دينه من أنه عاص لله ورسوله، ونُصِح، ولم يمتثل؛ فالهجر في حقه إذا كان يزجره عن المعصية ويؤثر فيه فإنه يكون واجبًا، ولو زاد على ثلاثة أيام، حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من حقوق الإسلام : أن يُهجَرَ العصاة الذين أبوا أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى حتى يتوبوا .
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفُوا خمسين يومًا، حتى نزلت توبة الله عليهم (9).
أما الهجر من أجل أمر من أمور الدنيا أو لأجل ضغينة في النفوس؛ فإنه حرام إذا زاد عن ثلاثة أيام؛ كما في الحديث .(20/3)
فعلى كل حال؛ الواجب على هؤلاء أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يصلوا ما بينهم؛ قال سبحانه وتعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 . ] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فساد ذات البين هو الحالِقَةُ، وبيَّن أنه يحلق الدين (10)؛ بمعنى أنه يجني على الدين ويقضي على الحسنات؛ فالخطر هنا عظيم .
والواجب على المسلم أن يصل رحمه وإن قطعت به؛ فإنه كما في الحديث : ( ليس الواصِلَ بالمُكافِئِ، ولكن الواصِلَ الذي إذا قُطِعَت رحِمَهُ وصَلهَا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/73 ) من حديث عبد الله بن عمر . ] ؛ فالواجب مواصلة الرحم وإن أساء إليك وإن أخطأ في حقك؛ فإنك تواصله، ويكون هذا سببًا في تأليفه وفي ندمه على ما حصل منه .
قال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34، 35 . ] .
وهذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى حمل على النفس، وإلى ابتعاد عن الهوى ونزغات الشيطان، ويحتاج إلى تذكر الوعيد والعقوبة العاجلة والآجلة وسوء العاقبة لمن قطع رحمه؛ فإذا تذكر الإنسان هذه الأمور واستشعرها؛ حمله ذلك على التوبة وعلى صلة الرحم؛ لأن في صلة الرحم أجرًا عظيمًا، وفي قطيعتها إثم كبير وأضرار عاجلة وآجلة، والله الموفق .(20/4)
التوبة
167 ـ أنا شاب قد عصيت الله جل وعلا، وشتمت والديَّ، ولكنّي ندمت كثيرًا، وحاولت معهما أن يسامحاني، ولكن للأسف الشَّديد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ فهل أدخُلُ النَّار ؟ وفَّقكم الله .
ما دام أنَّك تبت إلى الله توبة صحيحة؛ فإنَّ الله يتوب عليك، ولكن يجب عليك أن تستسمح والديك؛ لأنَّ هذا حقٌّ لمخلوق، ومن شروط التَّوبة إذا كانت من حقِّ المخلوق أن يسمح له ذلك المخلوق عن حقِّه؛ فعليك ببرِّ والديك والإحسان إليهما حتى يرضيا عنك، عليك ببرِّهما والإحسان إليهما والعطف عليهما لعلَّهما يرضيان عنك إن شاء الله تعالى؛ فلا بدَّ من هذا .
أمَّا لعن الوالدين؛ فإنه كبيرة عظيمة؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله مَن لَعنَ والديه ) . قالوا : وكيف يلعن الرجلُ والديه ؟ قال : ( يلعنُ أبا الرَّجل فيلعنُ أباهُ، ويلعنُ أمَّهُ فيلعنُ أمَّه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/92 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] ؛ هذا إذا لعن أبوي الآخرين؛ فإنَّ هذا سبب يجعل الآخرين يلعنون أبويه؛ فكيف إذا باشر اللعن على والديه ؟ ! الأمر خطير .(21/1)
ولكنَّ التوبة تَجُبُّ كلَّ الذُّنوب، التوبة لا يبقى معها ذنب؛ قال الله سبحانه وتعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 . ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 . ] ، والله تعالى يفغر الشِّرك ويغفر الكفر إذا تاب منه؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، وقال في النَّصارى الذين يقولون : إنَّ الله ثالثُ ثلاثة ! ويقولون : إنَّ الله هو المسيح ابن مريمَ ! قال تعالى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 . ] .
فلا تيأس، ولا تقنط، وتُب إلى الله، وأحسن إلى والديك، وسيعطِّفُ الله قلوبهما عليك، ويسمحان عنك إن شاء الله .
168 ـ أنا شابٌّ أريد أن أتوب إلى الله؛ فماذا أفعل لأتجنَّب المعاصي ؟
التوبة إلى الله واجبة، والمبادرة بها واجبة، لا يجوز تأخير التَّوبة إلى وقت آخر؛ لأنَّ الإنسان لا يدري متى يأخُذُهُ الموت .
قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 17 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أتبِعِ السَّيِّئة الحسنة تَمحُها ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 6/204 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] ، والإتباعُ معناه المبادرة؛ فمن آداب التَّوبة المبادرة بها وعدم تأخيرها .(21/2)
كذلك عليك إذا تبت إلى الله أن تجتنب الأسباب التي أوقعتك في الجريمة؛ تجتنب قرناء السُّوء، تبتعد عن جلساء السوء؛ لأنَّهم هم السببُ في إيقاعك في هذه الجريمة، وتذهب إلى الأخيار، تجالس الأخيار، تلازم الدُّروس وحِلَقَ الذِّكرِ، تبكِّرُ إلى المسجد، تكثر من تلاوة القرآن ومِن ذكر الله سبحانه وتعالى، هذا هو الذي ينبغي للتائب إلى الله : أن يبتعد عن كلِّ أسباب المعصية، وأن يقترب من الخير وأسباب الطَّاعة .
169 ـ رجل كان يتعاطى شرب الخمر وكثيرًا من المعاصي، وقد صدرت بحقه عدة أحكام، ولكنه تاب إلى الله وأصبح مواظبًا على الصلاة مع الجماعة وحريصًا على فعل الخير، ومن ذلك أنه يرغب في الأذان؛ بأن يكون مؤذنًا في المسجد وإمامًا أحيانًا في غياب الإمام الرسمي، ولكن بعض جماعة المسجد يرفضون ذلك منه، وأصَرُّوا على عدم فعله ذلك، وعلى شكواه إن فعل، وربما الاعتداء عليه؛ فهل هم على حق في ذلك أم يجب عليهم تشجيعه والأخذ بيده مادام جاء تائبًا إلى الله، وحكمه حكم المؤلفة قلوبهم ؟
المسلم إذا تاب إلى الله توبة صحيحة مما صدر منه من المعاصي؛ فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، بل حتى الكافر إذا تاب إلى الله توبة صحيحة؛ فإن توبته تَجُبُّ ما قبلها من الكفر؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، والله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات؛ فإذا تاب المذنب توبة صحيحة وأصلح العمل بعد التوبة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه ويمحو ما كان من قبل .(21/3)
والسائل يذكر أن هذا الرجل تاب إلى الله توبة صحيحة، وأنه أحسن العمل، ولم يُعرَف عنه شيءٌ بعد التوبة من المعاصي؛ فما دام كذلك؛ فإنه لا مانع من إمامته ومن توليه الأذان؛ فالذي يعترض عليه يكون مخطئًا؛ إلا إذا كان يَعرِف من حاله أشياءٌ تتنافى مع مقام الأذان أو مع مقام الإمامة؛ فإذا كان المخالف أو المعارض يعلم من حال هذا الشخص أشياءً لا تتناسب مع مقام الإمامة أو مقام الأذان؛ فله الحق في الاعتراض، أما إذا كان لا يعرف شيئًا، وإنما يبني على الأمور التي كانت من قبل التوبة؛ فهذا خطأ، والواجب أن يُمكَّن من الأذان إذا كان يصلح للأذان، ويُمكَّن من الإمامة إذا كان تتوفر فيه شروط الإمامة .
170 ـ أذنبت ذنبًا ثم استغفرت الله وعزمت على التوبة، وذلك بأني أقسمت بالله بأن لا أرجع إليه مرة أخرى، ولكن غلبني الشيطان، ثم كررت التوبة وكفَّرت عن اليمين بصيام ثلاثة أيام، ودائمًا أُكثِر بفضل الله من أعمال الطاعات، وتكرر معي هذا الذنب، فكنت أكرر التوبة وصيام الكفارة ثلاثة أيام، ولكني عملت مؤخرًا أن كفارة اليمين تبدأ بإطعام عشرة مساكين؛ فمن لم يجد؛ فصيام ثلاثة أيام؛ فهل تجب علي إعادة الكفارة ( أي : كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين ) عن كل مرة، أم يكفي ما صمتُه قبل ذلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء .
يجب على المسلم أن يتوب ويبادر بالتوبة، وأن يحافظ على دينه، وأن يبتعد عن المعاصي؛ لأن المعاصي تضره في دينه وفي دنياه، فيجب عليه أن يتوب توبة نصوحًا صادقة عازمة لا تنقص، وأن لا يكون عند المسلم ضعفٌ وخَوَرٌ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان ومن هوى النفس ويتغلب على نفسه .
أما الذي يتوب ثم يعود على الذنب؛ فهذا يدل على ضعف إيمانه وعلى ضعف عزيمته .
وعلى كل حال؛ فالذي حصل منك نرجو الله أن يغفر لك وأن يعينك على الاستمرار في التوبة الصحيحة .(21/4)
أما بالنسبة لكفارة اليمين؛ فكما تبين لك أنها على الترتيب، وأن الصيام هو آخر مرحلة؛ فكفارة اليمين فيها تخيير وفيها ترتيب، فيها تخيير بين العِتقِ ( عِتق الرقبة ) أو إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين، فأي خصلة من هذه الخصال الثلاث فعلتها؛ فإنها تكفي؛ فإذا لم تقدر على واحدة من هذه الخصال الثلاث؛ فإنك تنتقل إلى الصيام، فتصوم ثلاثة أيام .
وما حصل أنك صمت ثلاثة الأيام ابتداء وأنت تقدر على الإطعام أو على كسوة المساكين أو على العتق؛ فإن الصيام لا يجزيك في هذه الحالة؛ فلا بد أن تكفِّر بإحدى الخصال الثلاث التي ذكرنا لك ما دمت تقدر عليها .(21/5)
العلم وتعلمه
171 ـ يُلاحظ على الشَّباب في هذه الآونة الأخيرة إهمالهم وزهدهم في تعلُّم العقيدة ومدارستها والاهتمام بها، وانشغالهم بأمور أخرى؛ فما هو توجيه فضيلتكم لمثل هؤلاء الشَّباب ؟
أنصح للشَّباب ولغيرهم من المسلمين أن يهتمُّوا بالعقيدة أوّلاً وقبل كلِّ شيء؛ لأنَّ العقيدة هي الأصل الذي تُبنى عليه جميع الأعمال قبولاً وردًّا، فإذا كانت العقيدة صحيحة موافقة لما جاء به الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام، خصوصًا خاتم الرُّسل نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ سائر الأعمال تقبل، إذا كانت هذه الأعمال خالصةً لوجه الله تعالى، وموافقة لما شرع الله ورسوله، وإذا كانت العقيدة فاسدة، أو كانت ضالَّةً مبنيَّةً على العوائد وتقليد الآباء والأجداد، أو كانت عقيدة شركيَّة؛ فإنَّ الأعمال مردودةٌ، لا يُقبل منها شيء، ولو كان صاحبها مخلصًا وقاصدًا بها وجه الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كانت خالصةً لوجهه الكريم، وصوابًا على سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فمن كان يريد النَّجاة لنفسه، ويريد قبول أعماله، ويريد أن يكون مسلمًا حقًّا؛ فعليه أن يعتني بالعقيدة؛ بأن يعرف العقيدة الصَّحيحة وما يضادُّها وما يناقضها وما يُنقِصُها، حتى يبني أعمالَه عليها، وذلك لا يكون إلا بتعلُّمِها من أهل العلم وأهل البصيرة الذي تلقَّوها عن سلف هذه الأمَّةِ .
قال الله سبحانه وتعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] .
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله ترجمةً قال فيها : " بابٌ : العلمُ قبل القول والعمل " ، وساق هذه الآية الكريمة : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } ؛ حيث بدأ الله سبحانه وتعالى بالعلم قبل القول والعمل .(22/1)
وقال الله سبحانه وتعالى : { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1-3 . ] ؛ فرتَّب السَّلامة من الخسارة على مسائل أربع :
المسألة الأولى : الإيمان، ويعني : الاعتقاد الصَّحيح .
المسألة الثانية : العمل الصالح والأقوال الصَّالحة، وعَطفُ الأقوال الصَّالحة والأعمال الصَّالحة على الإيمان من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ الأعمال داخلة في الإيمان، وإنَّما عطفها عليه اهتمامًا بها .
والمسألة الثالثة : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } ؛ يعني : دعوا إلى الله، وأمروا بالمعروف، ونَهَوا عن المنكر، لمَّا اعتَنَوا بأنفسهم أوّلاً، وعرفوا الطَّريق؛ دعوا غيرهم إلى ذلك؛ لأنَّ المسلم مكلَّفٌ بدعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر .
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ، وهذه المسألة الرَّابعةُ : الصَّبرُ على ما يُلاقونَه في سبيل ذلك من التَّعب والمشقَّةِ .
فلا سعادة لمسلم إلا إذا حقَّقَ هذه المسائل الأربع .
أمَّا الاهتمام الثقافات العامَّة، والأمور الصَّحفيَّةِ، وأقوال الناس، وما يدور في العالم؛ فهذه إنَّما يطَّلع الإنسان عليه بعدما يحقِّق التَّوحيد، ويحقِّقُ العقيدة، ويطَّلِعُ على هذه الأمور؛ من أجل أن يعرف الخير من الشَّرِّ، ومن أجل أن يحذر من ما يدور في السّاحة من شرور ودعايات مضلِّلة، لكن هذا بعدما يتسلَّحُ بالعلم ويتسلَّحُ بالإيمان بالله ورسوله، أمَّا أن يدخل في مجالات الثَّقافة والأمور الصَّحفيَّة وأمور السِّياسة وهو على غير علم بعقيدته وعلى غير علم بأمور دينه؛ فإنّ هذا لا ينفعُه شيئًا، بل هذا يشتغلُ بما لا فائدة له منه، ولا يستطيع أن يميِّزَ الحقَّ من الباطل .(22/2)
كثير ممَّن جَهِلوا العقيدة واعتَنَوا بمثل هذه الأمور ضلُّوا وأضلُّوا ولبَّسوا على الناس؛ بسبب أنَّهم ليس عندهم بصيرة وليس عندهم علمٌ يميِّزون به بين الضَّار والنَّافع، وما يُؤخذ وما يترك، وكيف تعالج الأمور؛ فبذلك حصل الخلل، وحصل اللَّبْسُ عند كثير من الناس؛ لأنَّهم دخلوا في مجالات الثَّقافة ومجالات السِّياسة؛ من غير أن يكون عندهم علمٌ بعقيدتهم وبصيرة من دينهم، فحسبوا الحقَّ باطلاً، والباطل حقًّا .
172 ـ لقد أعرض كثير من الشَّباب عن قراءة كتب السَّلف الصَّالح وتصحيح العقيدة عليها؛ ككتاب " السُّنَّة " لابن أبي عاصم وغيره، التي توضِّحُ منهج أهل السُّنَّة والجماعة وموقفهم من السُّنَّة وأهلها والبدع وأهلها، وانشغلوا بالقراءة لمن يُسَمَّون بالمفكِّرين والدُّعاة، الذي يوجد في كلامهم ما يناقض كتب السَّلف، ويُقَرِّرون خلافها؛ فبماذا توجِّهون هؤلاء الشَّباب ؟ وما هي الكتب السَّلفيَّةُ التي تنصحونهم بقراءتها وبناء العقيدة وتصحيحها عليها ؟
هذا سؤال متفرع عن السُّؤال السَّابق، وهول : لمَّا عرفنا أنه يجب العناية بالعقيدة وتعلُّمُها وتعلُّم ما يجب على الإنسان نحوها؛ فإنه يأتي السؤالُ : ما هي المصادر التي تؤخذُ منها هذه العقيدة ؟ ومن هم الذين نتلقَّى عنهم هذه العقيدة ؟(22/3)
المصادر التي تؤخذ عقيدة التَّوحيد وعقيدة الإيمان منها هي الكتاب والسُّنَّةُ ومنهجُ السَّلف الصَّالح؛ فإن القرآن قد بيَّن العقيدة بيانًا شافيًا، وبيَّن ما يُخالِفُها وما يضادُّها وما يخلُّ بها، وشخَّصَ كلّ الأمراض التي تُخِلُّ بها، وكذلك سنَّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ودعوته وأحاديثه صلى الله عليه وسلم، وكذلك السَّلف الصَّالح والتَّابعون وأتباع التَّابعين من القرون المفضَّلة قد اعتنوا بتفسير القرآن وتفسير السُّنَّة وبيان العقيدة الصَّحيحة منهما وتبيينها للنَّاس، فيُرجَعُ بعد كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كلام السَّلف الصَّالح، وهو مدوَّن ومحفوظ في كتب التفسير وشروح الحديث، ومدوَّن أيضًا بشكل خاصٍّ في كتب العقائد .
وأمَّا من يُتَلَقَّى عنه العقيدة؛ فهم أهل التَّوحيد وعلماء التَّوحيد الذين درسوا هذه العقيدة دراسة وافية وتفقَّهوا فيها، وهم متوفِّرون ولله الحمد، خصوصًا في هذه البلاد؛ بلاد التَّوحيد؛ فإنَّ علماء هذه البلاد على وجه الخصوص وعلماء المسلمين المستقيمين على وجه العموم لهم عناية بعقيدة التَّوحيد؛ يدرُسونها، ويفهَمونها، ويوضِّحونها للناس، ويدعون إليها؛ فالرُّجوع إلى أهل التَّوحيد وإلى علماء التَّوحيد الذين سَلِمَت عقيدتهم وصَفَتْ؛ فهؤلاء هم الذين تؤخذ عنهم عقيدة التَّوحيد .
أما الانصراف عن العقيدة إلى كتب الثَّقافات العامَّة والأفكار المستوردة من هنا وهناك؛ فهذه لا تُغني شيئًا، وهي كما يقول القائل : لحمُ جملٍ غثٌّ فوق جبل صعب وعر ! هذه كتبٌ لا يضرُّ الجهل بها، ولا ينفع العلم بها .(22/4)
ولكن من تضلَّع بعلوم التَّوحيد وعلوم العقيدة الشرعية، وأراد أن يطَّلِع عليها من باب معرفة نعمة الله سبحانه وتعالى عليه؛ بأن هداه للعقيدة الصَّحيحة، وحرمَ هؤلاء الذين انشغلوا بالقيل والقال، وملؤوا الكتب والصُّحف بالكلام الذي لا طائل تحته، وشرُّه أكثر من خيره؛ فهذا لا بأس به، على ألا ينشغل عن قراءة ما يُفيد .
فلا يجوز لطالب العلم والمبتدئ بالخصوص أن يشتغل بهذه الكتب؛ لأنها لا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع، وإنما تأخذ الوقت، وتشتِّتُ الفكر، وتضيِّعُ الزَّمانَ على الإنسان .
فالواجب على الإنسان أن يختار الكتب النافعة، والكتب المفيدة، والكتب التي تعتني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتشرحُ فهمَ السَّلف الصَّالح لها؛ فالعلم ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن القيِّم رحمه الله :
العلمُ قال الله قال رسولُهُ ** قال الصحابة هم أُولو العرفان
ما العلمُ نصْبَكَ للخلاف سفاهة ** بين النُّصوص وبين رأي فلان (1)
173 ـ كثير من الشباب زهدوا في متابعة الدُّروس العلميَّة المسجَّلة ولزوم دروس أهل العلم الموثوقين، واعتبروها غير هامَّة، أو قليلة النَّفع، واتَّجَهوا إلى المحاضرات العصريَّة التي تتحدَّث عن السياسة وأوضاع العالم؛ لاعتقادهم أنَّها أهمُّ؛ لأنَّها تعتني بالواقع؛ فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟
هذا كما سبق؛ الاشتغال بالمحاضرات العامَّة والصَّحافة وبما يدور بالعالم دون علم بالعقيدة ودون علم بأمور الشَّرع تضليل وضياع، ويصبح صاحبها مشوَّش الفكر؛ لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .(22/5)
والله سبحانه وتعالى أمرنا بتعلُّم العلم النافع أولاً؛ قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ محمد : 19 . ] ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [ الزمر : 9 . ] ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 . ] ، { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 . ] . . . إلى غير ذلك من الآيات التي تحثُّ على طلب العلم المنزَّل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ هذا هو العلم النافع المفيد في الدُّنيا والآخرة، وهذا هو النُّورُ الذي يبصِرُ الإنسان به الطَّريق إلى الجنة وإلى السَّعادة والطَّريق إلى العيشة الطَّيّبة النزيهة في الدُّنيا .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 174-175 . ] .
ونحن نقرأ سورة الفاتحة، وفيها الدُّعاء العظيم : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6-آخرها . ] .
والذي أنعم الله عليهم هُم الذين جمعوا بين العلم النَّافع والعمل الصالح { مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 . ] .
و { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } [ الفاتحة : 7 . ] : هُم الذين أخذوا العِلم وتركوا العمل .
{ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 . ] : هم الذين أخذوا العمل وتركوا العلم .(22/6)
فالصنف الأوّل مغضوب عليه؛ لأنه عصى الله على بصيرة، والصِّنف الثاني ضالٌّ؛ لأنه عمل بدون علم، لا ينجو إلا الذين أنعم الله عليهم، وهم أهل العلم النَّافع والعمل الصَّالح؛ فيجب أن يكون هذا لنا على بالٍِ .
وأما الاشتغال بواقع العصر كما يقولون، أو فقه الواقع؛ فهذا إنما يكون بعد الفقه الشرعيِّ؛ إذ الإنسان بالفقه الشرعيِّ ينظر إلى واقع الناس وما يدور في العالم وما يأتي من أفكار ومن آراء، ويعرضها على العلم الشرعيِّ الصَّحيح؛ ليميز خيرها من شرِّها، وبدون العلم الشرعيِّ؛ فإنه لا يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والهُدى والضَّلال؛ فالذي يشتغل بادئ ذي بدء بالأمور الثقافية والأمور الصَّحافيّة والأمور السياسيّة، وليس عنده بصيرة من دينه؛ فإنّه يَضِلُّ بهذه الأمور؛ لأنَّ أكثر ما يدور فيها ضلالة ودعية للباطل وزُخرُفٌ من القول وغرور، نسأل الله العافية والسَّلامة .
174 ـ الأخذ بمناهج دعويَّة مستوردة وافدة؛ هل لذلك أثر على العقيدة، إذا علمنا ضعف عقيدة المتبوعين، أو ضعف عقيدة الولاء والبراء، أو عدم التَّفريق بين الفرق الضَّالَّة بمناهجهم عند أولئك ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الفيصل في هذا هو اتِّباع منهج الرُّسل، خصوصًا خاتَمَ الرُّسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وخاتم الرُّسل كان أوَّل ما يأمر التَّوحيدُ، ويوصي دعاته أن يدعوا أوَّل شيء إلى التَّوحيد، ثم يأمرُ بعد ذلك بأوامر الدِّين من صلاة وزكاة وصيامٍ وحجٍّ .
قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( فليَكُن أوَّلَ ما تدعوهُم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هُم أطاعوكَ لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات . . . ) إلى آخر الحديث [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/108 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه . ] .(22/7)
ثم أيضًا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة مأخوذ من سيرته ومن كتابه الله؛ لأن الله تعالى يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ويقول تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يوسف : 108 . ] .
{ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } : فيجب على الدَّاعية أن يكون مخلصًا في نيَّته، بأن يكون قصده الدَّعوة إلى الله، ليس قصده الدَّعوة إلى نفسه أو الدَّعوة إلى شخص معيَّن أو منهج معيَّن أو طائفة معيَّنة، وإنما يقصد الدَّعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظُّلُمات إلى النُّور، ونفع الناس، هذا قصدُ الدَّاعية المخلص .
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى على هذه الآية : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } ؛ قال : " فيه وجوبُ الإخلاصِ في الدَّعوةِ؛ لأنَّ بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله " (2).
فالذي يدعو إلى نفسه، أو يدعو إلى طائفة، أو يدعو إلى منهج، أو يدعو إلى متبوع؛ لا يدعو إلى الله، وإنما يدعو إلى ما دعا إليه من غير الله .
فالواجب على الدَّاعية أن يكون قصدُه الإخلاص لله عز وجل، ويكون قصده نَفْعَ الناس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، لا التحزُّب ولا التّجمُّع مع الطَّوائف الأخرى، ولا المنازعات ولا الخصومات، ولا الانتصار لفلان أو علاّن، وإنما ينتصر للحقِّ، ويتَّبعُ منهج الحقِّ، هذا هو الذي يدعو إلى الله على المنهج الصَّحيح .
الدَّعوة إلى الله بالإخلاص، الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسنُ .(22/8)
هذا منهج الدَّعوة الملخَّصُ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على هذا المنهج؛ فهو الدَّاعية إلى الله حقًّا، ومن خالف هذا المنهج؛ فإنه ليس داعيةً إلى الله، وإنما هو داعية لما أراد من الأمور الأخرى؛ فلا بدَّ من هذا المنهج .
والمنهج في الإسلام واحد، لا مناهج في الإسلام؛ قال تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 . ] ؛ هذا منهج الإسلام، وهذه المناهج الأخرى، وقال سبحانه : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] .
ليس في الإسلام إلا منهج واحد؛ منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي سار عليه السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين ومن جاء بعدهم من الدُّعاة والمجدِّدين لدين الله، منهج واحدٌ، لا انقسام فيه ولا اختلاف .
وعلامة هذا المنهج أنَّ الذين عليه لا يختلفون، بل يكونون جماعة واحدة، لا يختلفون فيها، بل يكونون مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وعلامة المناهج المنحرفة وجود الاختلافات بين أهلها، والعداوة بين أهلها، والنِّزاع بين أهلها؛ فهذا هو الفارق .
الواجب أن نكون على منهج واحد، منهج الكتاب والسُّنَّة وسلف هذه الأمة، وهو المنهج الصَّحيح الذي يجب أن نسير عليه في دعوتنا إلى الله، وفي عملنا، وفي علمنا، وفي جميع أمورنا، لو أخذنا بهذا؛ لم يحصل اختلافٌ، ولم يحصل عداوات، ولم يحصل تفرُّقٌ، إنما يحصل التَّفرُّقُ من مخالفة هذا المنهج، والتماس مناهج أخرى، هذا هو الذي يوجب التفرق واختلاف .(22/9)
175 ـ لماذا يهتمُّ كثيرٌ من المسلمين بعلم العقيدة، وما المقصود بالعقيدة والإيمان والتوحيد ؟ وهل هناك فرق بين هذه المصطلحات ؟ وما رأيكم فيمن يقول : إنَّ بعض أمور العقيدة وموضوعاتها قد انتهى ومضى زمنها، وبالتَّالي لا جدوى من تعميم دراستها ؟
يهتمُّ الموفَّقون من المسلمين بعلم العقيدة اقتداء بالرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ حيث كانوا يبدؤون دعوتهم بتصحيح العقيدة؛ لأنها هي الأساس الذي يُبنى عليه سائر الأعمال؛ فإذا صحَّتِ العقيدةُ؛ صحَّتِ الأعمال الشرعيَّةُ، وما لم تصحَّ العقيدةُ؛ لم تصحَّ الأعمال .
قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 . ] .
وقال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 . ] .
والمقصود بالعقيدة والإيمان والتَّوحيد شيء واحد؛ من حيث إنَّها عمل قلبيٌّ، ويزيد الإيمان باقترانه مع ذلك - أي : كونه اعتقادًا بالقلب - أنه أيضًا قولٌ باللسان وعمل بالجوارح .
وجميع أمور العقيدة وموضوعاتها لابدَّ من معرفتها والعناية بها في كل زمان ومكان، ولا ينتهي العمل بها إلى أن تقوم السَّاعة .
والذي يرى أنَّ بعض أمور العقيدة ومواضيعها قد انتهى وقتُها؛ لا يخلو :
إمَّا أن يكون جاهلاً لا يعرف مواضيع العقيدة وأهمِّيَّتها .
وإمَّا أن يكون عنده خلل في عقيدته، ويريد التستُّر على هذا الخلل؛ لئلا ينكشف .
كالذين يقولون : اتركوا الكلام في موضوع توحيد الألوهيَّةِ؛ لأنَّ هذا يفرِّقُ بين المسلمين، واكتفوا بالكلام في توحيد الرُّبوبيَّة، وإثبات وجود الله، والرَّدِّ على الملاحدة والشُّوعيِّيين، ولا تتعرَّضوا لعبَّاد القبور والأضرحة !(22/10)
وكالذي يقول : اتركوا الكلام في موضوع إثبات الأسماء والصِّفات والرَّدِّ على ما من يتعرَّض لها بنفي أو تأويل . . . إلى غير ذلك .
وكلُّ هذا كلام باطل لابدَّ من كشف زيفِهِ وبيان مغزاه وتعرية مضمونه الباطل وما ينطوي عليه من سوء معتقد ! والرَّسول صلى الله عليه وسلم جاء ببيان العقيدة للناس، وبيان ما يفسدها قبل كل شيء، وكثير من آيات القرآن وسوره في توضيح هذا الأمر ووجوب بيانه للناس؛ فهل يريد هؤلاء منَّا أن نترُك القرآن وما فيه من بيان العقيدة ؟ ! !
176 ـ هناك من يزهد في دروس العقيدة، ويقول : نحن مسلمون ولسنا بكفرة أو مشركين حتى نتعلم العقيدة أو ندرسها في المساجد . فما توجيه فضيلتكم حيال هذا ؟
ليس معنى تدريس العقيدة وتعليم العقيدة أننا نحكم على الناس أنهم كفَّار، نحن ندرسها للمسلمين والموحدين من أجل أن يعرفوها تمامًا ويعرفوا ما يناقضا ويعرفوا ما يضادها .
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه صحابي جليل يقول : ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن أقع فيه ) [ رواه الإمام البخاري في صحيحه ( 4/178 ) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه . ] .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
فنحن إذا درسنا العقيدة ليس معناه أننا نحكم على الناس بالكفر، لا بل معناه أننا نريد أن نعرف العقيدة الصحيحة حتى نتمسك بها ونعرف ما يضادها حتى نتجنبها .(22/11)
الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] ؛ فلا بد أن الإنسان يتعلم ولا يكتفي أنه يقول : إنني أنا مسلم ! أنت مسلم والحمد لله؛ لكن لو سألناك : ما هو الإسلام ؟ أو قلنا لك : عرِّف لنا الإسلام ؟ فالكثيرون لا يستطيعون أن يُعرِّفوا الإسلام تعريفًا صحيحًا . ولو قلت : بين لي نواقض الإسلام ؟ فالكثيرون لا يعرفون نواقض الإسلام، وإذا جهلها؛ يوشك أن يقع فيها وهو لا يدري . ولو قلت : بيِّن لي أركان الإسلام، أو : بيِّن لي أركان الإيمان التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم واشرحها لي . لوجدنا الكثيرين لا يعرفون ذلك .
كيف تقول : إنك مسلم وأنت لا تعرف هذه الأمور ؟
بل إن الكثير من الدعاة لا يعرفون شروط الصلاة، ولا يعرفون أحكام الوضوء، ولا يعرفون نواقض الوضوء، ولا يعرفون أركان الصلاة، وواجبات الصلاة، ولا يعرفون مبطلات الصلاة، أين هؤلاء من الإسلام ؟ !
الإسلام ليس دعوى فقط، الإسلام حقيقة ومعرفة . . . لا بد من المعرفة والعلم والبصيرة؛ لأن الذي لا يعلم يقع في الخطر وهو لا يدري، مثل الجاهل الذي يسير في طريق لا يعرفه، وهذا الطريق فيه حفر وفيه أعداء وسباع؛ يقع في الخطر وهو لا يدري .
فلا بد من تعلُّم التوحيد؛ لأن التوحيد هو الأساس، ولا يزهد في تعلم التوحيد إلا أحد رجلين : إما جاهل، والجاهل لا عبرة به، وإما مغرض مُضِل يريد أن يصرف الناس عن عقيدة التوحيد، ويريد أن يسدل الغطاء على عقائد المنحرفين الذين ينتسبون إلى الإسلام وعقائدهم فاسدة، يريد أن يرُخي الستار عليها، ولا ينكر عليها، ويدخلوا مع الناس، ويتزعموا الناس، وهم أصحاب عقائد منحرفة . هذا يمكن يريده كثير من هؤلاء .(22/12)
والله تعالى يقول : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 . ] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن يُرِد الله به خيرًا؛ يُفَقِّههُ في الدِّين ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/25، 26 ) من حديث معاوية رضي الله عنه . ] ؛ فمفهوم الحديث أن الذين لا يريد الله به خيرًا لا يفقهه في الدين؛ فهذا الذي يقول : لا تتعلموا العقيدة ! يقول : لا تتفقهوا في الدين ! وهذا إما جهل وإما تضليل .
177 ـ كيف تنعكس العقيدة على حياة المسلم وتصرُّفاته ؟
كما أشرنا؛ إذا صحَّت العقيدة؛ صحَّت أعمال المسلم؛ لأنَّ العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصَّالحة، وتوجِّهه إلى الخير والأفعال الحميدة، وإنه إذا شهد أن لا إله إلا الله شهادة مبنيَّة على علم ويقين ومعرفة لمدلولها؛ توجه إلى الأعمال الصَّالحة؛ لأنَّ شهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرَّد لفظ يقال باللسان، بل هي إعلان للاعتقاد والعمل، ولا تصحُّ هذه الشَّهادة، ولا تنفع؛ إلا إذا قام بمُقتضاها من الأعمال الصَّالحة، فأدَّى أركان الإسلام وأركان الإيمان وما زاد على ذلك من أوامر الدِّين وشرائعه وسننه ومكمِّلاته .
178 ـ إضافةً لحالة التردِّي تعيش الأمة الإسلاميَّة حالة اضطراب فكري، خصوصًا فيما يتعلَّق بالدِّين؛ فقد كثُرت الجماعات والفرق الإسلاميَّة التي تدَّعي أنَّ نهجها هو المنهج الإسلاميُّ الصَّحيح الواجب الاتِّباع، حتى أصبح المسلم في حيرة من أمره؛ أيَّها يتَّبعُ ؟ وأيها على الحق ؟
التّفرُّق ليس من الدين، لأن الدِّين أمرنا بالاجتماع، وأن نكون جماعة واحدة وأمَّة واحدة على عقيدة التَّوحيد وعلى متابعة الرَّسول صلى الله عليه وسلم .(22/13)
يقول تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 . ] ، ويقول تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 . ] ، وهذا وعيد شديد في التفرُّق والاختلاف؛ قال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 . ] .
الإسلام دين الجماعة ودين الإلفة والاجتماع، والتفرُّق ليس من الدِّين؛ فتعدُّد الجماعات هذا ليس من الدِّين؛ لأنَّ الدِّين يأمرنا أن نكون جماعةً واحدةً، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : ( المسلم للمسلم كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/80 ) بلفظ : ( المؤمن للمؤمن ) ؛ من حديث أبي موسى . ] ، ويقول : ( مَثَلُ المؤمنين في توادِّهِم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1999-2000 ) من حديث أبي موسى . ] .
إنّ البنيان وإنَّ الجسد شيء واحد متماسك، ليس فيه تفرُّقٌ؛ لأنّ البنيان إذا تفرَّق؛ سقط، كذلك الجسم إذا تفرَّق؛ فقد الحياة . ولا بدَّ من الاجتماع، وأن نكون جماعة واحدةً، أساسُها التَّوحيدُ، ومنهجُها دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ومسارُها على دين الإسلام؛ قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] .(22/14)
فهذه الجماعات وهذا التفرُّقُ الحاصل على السَّاحة اليوم لا يُقِرُّهُ دين الإسلام، بل ينهى عنه أشدَّ النَّهي، ويأمر بالاجتماع على عقيدة التَّوحيد، وعلى منهج الإسلام؛ جماعة واحدة، وأمة واحدة؛ كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك .
والتفرُّقُ وتعدُّدُ الجماعات وإنما هو من كيد شياطين الجنِّ والإنس لهذه الأمة؛ فما زال الكفَّارُ والمنافقون من قديم الزَّمان يدسُّونَ الدَّسائس لتفريق الأمَّة؛ قال اليهود من قبل : { آمِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 . ] ؛ أي : يرجع المسلمون عن دينهم إذا رأوكم رجعتم عنه، وقال المنافقون : { لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا } [ المنافقون : 7 . ] ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 107 . ] .
179 ـ هناك من يتساهل في أهمِّيَّة العقيدة، ويرى أن الإيمان يكفي؛ هل لكم في بيان أهمِّيَّة العقيدة للمسلم، وكيف تنعكس عليه في حياته وفي علاقاته مع نفسه ومجتمعه ومع غيره المسلمين ؟
إنَّ تصحيح العقيدة هو الأصل؛ لأنَّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هي أوَّل أركان الإسلام، والرُّسل أول ما تدعوا الأمم إلى تصحيح العقيدة؛ لأجل أن تنبني عليها سائر الأعمال من العبادات والتّصرُّفات، ودون تصحيح العقيدة لا فائدة من الأعمال .
قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 . ] ؛ أي : لبطلت أعمالُهم .
وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ المائدة : 72 . ] .(22/15)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 . ] .
من هذه النُّصوص وغيرها يتبيَّنُ ما لتصحيح العقيدة من أهميَّة، وهي أول أوَّليات الدَّعوة، وأوَّل ما تقوم الدَّعوة على تصحيح العقيدة؛ فقد مكث النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بعثته ثلاث عشرة سنة؛ يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة، وإلى التَّوحيد، ولم تُنزَل عليه الفرائض إلا في المدينة، نعم؛ فُرِضَت الصلاة عليه في مكة قبل الهجرة، وبقيَّة الشَّرائع إنما فُرِضَت عليه بعد الهجرة، ممَّا يدلُّ على أنه لا يطالَبُ بالأعمال إلا بعد تصحيح العقيدة .
وهذا الذي يقول : إنه يكفي الإيمان دون الاهتمام بالعقيدة ! هذا تناقض؛ لأنَّ الإيمان لا يكون إيمانًا إلا إذا صحَّتِ العقيدة، أمَّا إذا لم تكن العقيدة صحيحةً؛ فليس هناك إيمانٌ ولا دينٌ .
180 ـ ما الواجب على المسلم أن يعرفه من دينه عقيدة وشريعة ؟
يجب على المسلم أن يعرف جميع أمور دينه عقيدة وشريعة؛ بأن يتعلَّم أمور العقيدة، وما يجب لها، وما يضادُّها، وما يكمِّلُها، وما يُنقِصُها، حتى تكون عقيدته عقيدة صحيحة سليمة، ويجب عليه كذلك أن يتعلَّم أحكام دينه العمليَّة، حتى يؤدِّي ما أوجبه الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه على بصيرة .
قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] ؛ فبدأ بالعلم قبل القول والعمل .
فلا بدَّ من العلم والعمل؛ فالعلم بدون عمل لا يكفي، وإنما يكون مغضوبًا على صاحبه، ويكون حجَّةً على الإنسان، والعمل بدون علم لا يصحُّ؛ لأنه ضلال، وقد أمرنا الله أن نستعيذ من طريق المغضوب عليهم والضَّالين في آخر سورة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ من صلاتنا .(22/16)
181 ـ نلاحظ عزوف عدد كبير من الناس عن مجالس العلم المقامة في هذا البلد، وعدم التَّشجيع على هذا المجال من بعض الأهالي، بل قد يكون هناك تثبيط بدلاً من التَّشجيع؛ رغم قلّة هؤلاء؛ إلا أنهم يكثرون من التّشدُّق بالقول، مع الاستهانة بأعراض طلبة العلم، ومحاولة صدِّهم وتشويه دورهم ودَورِ أهل الخير؛ فما توجيهُكم ؟
نقول : الله يهديهم ويدلُّهم على الخير، وهذا الأمر لا يجوز؛ فلا يجوز للإنسان أن يتساهل في حضور مجالس العلم والسَّعي إليها؛ لأنَّه قد يستفيد فائدة تكون سببًا لدخوله الجنَّة، قد يسمع كلمة واحدة تكون سببًا لدخوله الجنَّة ونجاته من النار .
والإعراض عن حضور مجالس العلم فيه خطورة عظيمة، وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ الإعراض عن دين الله لا يعلِّمُه ولا يتعلَّمُه ردَّةٌ عن الإسلام؛ كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ الأحقاف : 3 . ] ، وإن كان إن شاء الله هؤلاء لم يهجروا ويُعرِضوا، وإنما لم يحرصوا على حضور مجالس العلم عن كسل وتهاون لا عن عدم رغبة فيها، وهؤلاء قد حرموا أنفسهم من خير كثير .
أمَّا إذا كان عدم الحضور لأنهم لا يرون العلم ولا يرون تعلُّمَه؛ فهذا خطر عظيم، أو يسخرون من العلم، ويسخرون من العلماء؛ فهذا يكون ردَّةً عن الإسلام .
182 ـ ما هي أفضل الكتب وأسهلها والتي أُلِّفَت في العقيدة ؟(22/17)
الكتب التي أُلِّفَت في بيان العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة كتب كثيرة والحمد لله، منها المختصر ومنها المطوَّلُ، ومن أخصرها وأسهلها : رسالة " ثلاثة الأصول " ، ورسالة " كشف الشُّبهات " ، وكتاب " التَّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد " ، وكلُّها لشيخ الإسلام الإمام المجدِّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشروح كتاب " التوحيد " ؛ مثلُ " فتح المجيد " ، و " قرة عيون الموحِّدين " ؛ كلاهما للشَّيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، وغيرهما، ومن الكتب السهلة المختصرة في العقيدة : " العقيدة الواسطيَّة " لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وكتاب " شرح الطَّحاوية " للعزِّ بن أبي العزِّ الحنفي، وكذا قسم العقيدة من " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة " ، ومجموعُ فتاوى ورسائل علماء نجد المسمَّى بـ " الدُّرر السّنّيَّة " جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وكتاب " إغاثة اللَّهفان " للإمام ابن القيِّم، و " المنظومة النُّونيَّةُ " له، وكتاب " الصواعق المرسلة على الجهميَّة والمعطِّلة " له أيضًا .(22/18)
الدعوة والدعاة
183 ـ نحن شباب لدينا بعض العلم، وقد طُلِبَ منا الذهابُ إلى الجمهورية السوفييتية المسلمة؛ حيث يعاني المسلمون هناك من الجهل ودخول بعض الفرق المنحرفة لتضليلهم؛ فهل يجوز لنا الذهاب هناك والدعوة إلى توحيد الله والعقيدة الصحيحة؛ علمًا بأن الذهاب يكون شهرًا واحدًا في الإجازة الصيفية ؟ أفيدونا وفقكم الله .
لا شك أن هذا أمر مهم، والذهاب إلى هؤلاء لدعوتهم للإسلام وإلى تصحيح العقيدة مهم جدًا، وهو من الجهاد في سبيل الله، وفيه أجر عظيم، ولكن هذا لمن يكون عنده الاستطاعة العلمية؛ بأن يكون عنده علم يستطيع أن يبين للناس العقيدة الصحيحة ويبين للناس ما يضاد العقيدة أو يُنقِص العقيدة من الشركيات والبدع؛ فإذا كان عنده استعداد علمي؛ فهذا من أفضل الأعمال؛ فليذهب ويدعُ إلى الله ويُعلِّم ويُرشِد، وهو مُثابٌ إذا صَلُحَت نيَّتُه :
قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن دعا إلى هُدىً؛ كان له مِنَ الأجر مثلَ أجورِ مَن تَبِعَهُ، لا ينقص ذلك من أُجُورِهِم شيئًا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2060 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 . ] .
الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال، لكن بشرط أن يكون الداعية مؤهلاً بالعلم النافع .
184 ـ وما رأي فضيلتكم في ذلك التراشق المكتوب والمسموع الذي حدث بين بعض العلماء ؟ وألا ترون أن جلوسهم للحوار كان أجدى ؟ وأن ذلك ربما أفسد مشاريعهم الإسلامية ؟(23/1)
العلماء المعتبرون لم يحصل بينهم شيء مما ذُكِر في السؤال، وإنما الذي يمكن حدوثه من ذلك هو بين بعض المتعلمين والشباب المتحمسين، ونسأل الله لهم الهداية والتوفيق، وندعوهم إلى ترك هذا العمل المشين، والتآخي فيما بينهم على البر والتقوى، والرجوع إلى أهل العلم فيما أُشكِلَ عليهم، وعليهم بدراسة منهج أهل السنة والجماعة على أيدي العلماء، حتى يتضح لهم الحق، ويستبين لهم طريقُ الصواب، وألا يتأثروا بالأفكار الوافدة التي تريد تفريق جماعتهم وفصلهم عن مشائخهم ومنهج سلفهم الصال؛ فإن الفتنة إنما حدثت وتحدث بين شباب المسلمين بسبب الإصغاء إلى الأفكار الوافدة المشبوهة والإعراض عن المنهج الصحيح .
185 ـ ما هي أوصاف العلماء الذين يُقتَدَى بهم ؟
أوصاف العلماء الذين يُقتَدَى بهم هم أهل العلم بالله سبحانه وتعالى، الذين تفقَّهوا في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحَلَّوا بالعلم النَّافع والعمل الصَّالح؛ فلا يُقتدى بعالم لا يعمل بعلمه، ولا يُقتدى بجاهل ليس عنده علم، ولا يُقتدى إلا بمن جمع بين الأمرين : العلم النافع، والعمل الصَّالح .(23/2)
وبالنسبة للذين يُقتدى بهم في بلادنا ومن تؤخذ أشرطتهم، وهم كثيرون ولله الحمد، معروفون عند الناس، لا يجهلُهُم أحد، لا البادية ولا الحاضرة، ولا الكبار ولا الصِّغارُ، هم القائمون على أعمال هذه الأمة من الفتوى والقضاء والتَّدريس وغير ذلك، الذين عُرِفَ عنهم العلم والتُّقى والورع، وعلى رأس علمائنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله؛ فإنه رجل مَنَّ الله عليه بالعلم الغزير والعمل الصَّالح والدَّعوة إلى الله والإخلاص والصِّدق وما لا يخفى على كلِّ أحد، وهو ولله الحمد صدر عنه خير كثير من الكتابات من والمؤلَّفات ومن الأشرطة ومن الدُّروس، وكذلك العلماء الذين يُفتون في برنامج ( نور على الدَّرب ) ، هؤلاء أيضًا ولله الحمد عُرفت عنهم الفتاوى الصَّائبة والأقوال النَّافعة في الغالب، وكذلك إخوانهم من أصحاب الفضيلة كبار القُضاة؛ لأنه لا يشتغل بالقضاء ويثق الناس به في دمائهم وأموالهم وفروجهم إلا من كان موثوقًا بعلمه .
إنَّ هؤلاء لهم جهود في الدَّعوة والإخلاص والرَّدِّ على من يريدون الانحراف بالدَّعوة عن طريقها الصَّحيح، سواء عن قصد أو عن غير قصد، هؤلاء لهم تجارب ولهم خبرة وسبرٌ للأقوال ومعرفة الصَّحيح من السَّقيم، فيجب أن تُروَّج أشرطتهم ودروسهم، وأن يُنتَفَع بها؛ فإنَّ فيها فائدة كبيرة للمسلمين، وكلُّ عالم لم يُجَرَّب عليه خطأ ولم يُجرَّب عليه انحراف في سيرة أو فكر؛ فإنه يؤخذ عنه .
186 ـ لقد كثر المنتسبون إلى الدَّعوة هذه الأيام، مما يتطلَّب معرفة أهل العلم المعتبرين، الذين يقومون بتوجيه الأمَّة وشبابها إلى منهج الحقِّ والصَّواب؛ فمن هم العلماء الذين تنصح الشّباب بالاستفادة منهم ومتابعة دروسهم وأشرطتهم المسجَّلة وأخذ العلم عنهم والرُّجوع إليهم في المهمَّات والنَّوازل وأوقات الفتن ؟(23/3)
الدَّعوة إلى الله أمر لابدّ منه، والدِّين إنَّما قام على الدّعوة والجهاد بعد العلم النَّافع؛ { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ العصر : 3 . ] ؛ فالإيمان يعني العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وعبادته، والعمل الصَّالح يكون فرعًا من العلم النَّافع؛ لأنَّ العمل لا بدَّ أن يؤسَّس على علم .
والدَّعوة إلى الله والأمر بالمعروف والتَّناصح بين المسلمين؛ هذا أمر مطلوب، ولكن ما كلُّ أحد يُحسنُ أن يقوم بهذه الوظائف، هذه الأمور لا يقوم بها إلا أهل العلم وأهل الرَّأي النَّاضج؛ لأنها أمور ثقيلة مهمَّةٌ، لا يقوم بها إلا من هو مؤهَّلٌ للقيام بها، ومن المصيبة اليوم أنَّ باب الدّعوة صار بابًا واسعًا، كلٌّ يدخل منه، ويتسمَّى بالدَّعوة، وقد يكون جاهلاً لا يُحسِنُ الدَّعوة، فيفسد أكثر ممَّا يصلح، وقد يكون متحمِّسًا يأخذ الأمور بالعجلة والطَّيش، فيتولَّدُ عن فعله من الشُّرور أكثر ممّا عالج وما قصد إصلاحه، بل ربّما يكون ممّن ينتسبون للدّعوة، ولهم أغراض وأهواء يدعون إليها ويريدون تحقيقها على حساب الدّعوة وتشويش أفكار الشباب باسم الدعوة والغيرة على الدّين، وربّما يقصد خلاف ذلك؛ كالانحراف بالشّباب وتنفيرهم عن مجتمعهم وعن ولاة أمورهم وعن علمائهم، فيأتيهم بطريق النّصيحة وبطريق الدّعوة في الظّاهر؛ كحال المنافقين في هذه الأمة، الذين يريدون للناس الشَّرَّ في صورة الخير .(23/4)
أضرب لذلك مثلاً في أصحاب مسجد الضِّرار؛ بنوا مسجدًا، في الصُّورة والظَّاهر أنه عمل صالح، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلِّيَ فيه من أجل أن يرغِّبَ الناس به ويقرَّهُ، ولكنَّ الله علم من نيَّات أصحابه أنهم يريدون بذلك الإضرار بالمسلمين، الإضرار بمسجد قُباء، أول مسجد أُسِّسَ على التَّقوى، ويُريدون أن يفرِّقوا جماعة المسلمين، فبيَّن الله لرسوله مكيدة هؤلاء، وأنزل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ التوبة : 107-108 . ] .
يتبيَّن لنا من هذه القصة العظيمة أن ما كلُّ من تظاهر بالخير والعمل الصالح يكون صادقًا فيما يفعل، فربما يقصد من وراء ذلك أمورًا بعكس ما يُظهِرُ .
فالذين ينتسبون إلى الدَّعوة اليوم فيهم مضلِّلون يريدون الانحراف بالشَّباب وصرف الناس عن الدِّين الحقِّ وتفريق جماعة المسلمين والإيقاع في الفتنة، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من هؤلاء : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ التوبة : 47 . ] ؛ فليس العبرة بالانتساب أو فيما يظهر، بل العبرة بالحقائق وبعواقب الأمور .(23/5)
والأشخاص الذين ينتسبون إلى الدَّعوة يجب أن يُنظر فيهم : أين دَرَسوا ؟ ومِن أين أخذوا العلم ؟ وأين نشؤوا ؟ وما هي عقيدتهم ؟ وتُنظرُ أعمالُهم وآثارهُم في الناس، وماذا أنتجوا من الخير ؟ وماذا ترتَّب على أعمالهم من الإصلاح ؟ يجب أن تُدرس أحوالهم قبل أن يُغتَرَّ بأقوالهم ومظاهرهم، هذا أمر لا بدَّ منه، خصوصًا في هذا الزَّمان، الذي كثر فيه دعاة الفتنة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعاة الفتنة بأنهم قومٌ من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا (1)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الفتن؛ قال : ( دُعاةٌ على أبواب جهنَّمَ، من أطاعَهُم؛ قذفوه فيها ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/92-93 ) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه . ] ، سمَّاهم دُعاةً !
فعلينا أن ننتبه لهذا، ولا نحشُدَ في الدَّعوة كلَّ من هبَّ ودبَّ، وكل من قال : أنا أدعو إلى الله، وهذه جماعة تدعو إلى الله ! لا بدَّ من النَّظر في واقع الأمر، ولا بدَّ من النَّظر في واقع الأفراد والجماعات؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قيَّد الدَّعوة إلى الله بالدَّعوة إلى سبيل الله؛ قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ . . . } [ يوسف : 108 . ] ؛ دلَّ على أنَّ هناك أناسًا يدعون لغير الله، والله تعالى أخبر أنَّ الكفَّار يدعون إلى النار، فقال : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 221 . ] ؛ فالدُّعاة يجب أن يُنظَرَ في أمرهم .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهَّاب رحمه الله عن هذه الآية { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } : " فيه الإخلاصُ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس إنَّما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله عز وجل " (2).(23/6)
187 ـ هل أساليب الدَّعوة محدَّدة بضوابط معيَّنة ؟
الله سبحانه في القرآن يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ؛ لأن الذي يقع في المنكر : إما أن يكون جاهلاً؛ فهذا يكفي فيه الدَّعوة بالحكمة؛ كأن يبيَّنَ له الخطأ، فإذا تبيَّن له الخطأ؛ رجع إلى الصَّواب .
ومِنَ الناس من إذا بُيِّنَ له الخطأ؛ لا يرجع، ويكون عنده تكاسل؛ لأنَّ هواه ينازعه، ونفسه تنازعه؛ فهذا يحتاج إلى موعظة؛ بأن يخوَّف بالله عز وجل، ويبيَّنَ له عقوبة من استمرَّ على المعصية بعد معرفتها .
وهناك صنف ثالث : إذا عرف الحكم؛ فإنَّه يجادل عن الباطل، ويجادل عمَّا هو عليه من المنكر، ويريد تسويغ ما هو عليه من خطأ؛ فهذا يحتاج إلى الجدال، لكن يكون الجدال بالتي هي أحسن، لا يكون بعنف، ولا يكون بتعيير، ولا بتشهير، وإنما يكون بالتالي هي أحسن، وبقرع الحُجَّة بالحُجَّة، حتى يتَّضح الحقُّ، ويزول الباطل .
وهذه الدَّرجات ذكرها الله سبحانه وتعالى في الآية : { بِالْحِكْمَةِ } الدرجة الأولى، وبـ { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الدرجة الثانية، والجِدالُ بالتي هي أحسنُ الدّرجة الثالثة، وهي درجات تختلف باختلاف المدعوِّين .
188 ـ ما رأي فضيلتكم فيمن يهتمُّ بأمور المسلمين المهمَّة؛ كالدَّعوة إلى الله وتربية الشَّباب على التمسُّكِ بالقرآن والسُّنَّة المطّهَّرة، ولا يجد الوقت لحفظ القرآن الكريم؛ فما نصيحتكم لمثل هؤلاء ؟
يجب على الدَّاعية أولاً أن يتأهَّل قبل أن يباشر الدَّعوة؛ بأن يدرس القرآن الكريم ومعانيه وتفسيره، ويدرس السُّنَّة النبويَّة ما تيسَّر منها، ويقرأ في شروحها، ويتعلَّم الأحكام الشرعيَّة .
فيجب على الداعية إلى الله أن يكون مؤهلاً؛ فلا يصلُحُ للدَّعوة إلا مَن كان معه علم .(23/7)
قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 . ] : البصيرة هي العلم والحكمة .
وقال تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 . ] ؛ فالجاهل لا يصلُحُ للدَّعوة؛ لأنه ربَّما يسيء للدَّعوة، كأن يحلِّل حرامًا، أو يحرِّم حلالاً، أو يشدِّد في موضوع لا يتحمَّلُ التّشدُّد، أو غير ذلك .
فلا بدَّ من شروط للدَّاعية، الشرط الأساسيُّ منها أن يكون متعلِّمًا العلم الذي يستطيع به أن يدعو الناس إلى دين الله عز وجل، وأيضًا؛ ربَّما يُعرَضُ على الدَّاعية شُبهات تحتاج إلى جواب عنها، فإذا كان جاهلاً؛ فكيف يجيب على هذه الشُّبُهات ؟ ! كيف يجيب على اعتراضات المعترضين ؟ ! أو كيف يقاوم الملاحدة والفسَّاق والمشبهين، فإذا لم يكن عنده علم؛ فسوف ينهزم أمامهم؛ فلا بدَّ للدَّاعية من العلم بالقرآن وبالسُّنَّة النّبويَّة وبالحديث وبالفقه وبالعقيدة وغيرها من العلوم .
189 ـ الدَّعوة فرض كفاية؛ فهل هذا يوافق ما نحن فيه من الجهل والضَّلال ؟ أم أصبحت الدَّعوة واجبة على الجميع في هذه الأيام بسبب الجهل وانتشار الفساد ؟ الرَّجاء التَّوضيح .
ما كلٌّ يستطيع الدّعوة؛ بمعنى أنّه يعلِّمُ الناس أمور الدِّين وأمور العقيدة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر .
ما كلٌّ يستطيع هذا : إمَّا لضعفٍ في جسمه وشخصيَّته، وإمَّا لضعف في علمه، وأنه ليس عنده من العلم ما يعرف به الحلال والحرام، والواجب والمندوب، والمكروه والمستحبَّ، وإنما تجب الدَّعوة على من يستطيع القيام بها وعند مؤهِّلاتٌ لها .
لكن علي كلِّ مسل مسؤوليَّةٌ بحسب استطاعته؛ فمثلاً صاحبُ البيت - وإن كان عامّيًّا - عليه الدَّعوة لأهل بيته؛ بأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهُم عن المنكر، وينقِّيَ البيت من المُنكرات، ويهيِّئَهُ للأعمال الصَّالحة :(23/8)
لأنَّ الله جلَّ وعلا يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ التحريم : 6 . ] ؛ فالإنسان مكلَّفٌ بالدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ على أهل بيته ومَن تحت يده .
والرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( مُروا أولادكم بالصّلاة لسبعٍ، واضرِبوهُم عليها لعشرٍ ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عمرو بن شيب عن أبيه عن جده ] ؛ فالخطاب هذا موجَّه لعموم الآباء .
فليس هناك أحدٌ من المسلمين ليس عليه مسؤوليَّةٌ : إمَّا عامَّةٌ، وإمَّا خاصَّة، وعلى أهل العلم بالذّات المسؤوليَّة أكبر، والواجب عليهم أعظم .
190 ـ يلاحظ على كثير من الدُّعاة أنَّهم يهتمُّون بجانب واحد من جوانب الدَّعوة، وهو فضائل الأعمال، ولا يتعرَّضون لواقع المسلمين؛ فلم هذا الإعراض ؟ ما رأي فضيلتكم جزاكم الله خيرًا .
الواجب الجمع بين الاثنين، وهو التَّرغيب في فضائل الأعمال، والتَّنبيه على الأخطاء، ولا سيَّما الأخطاء في العقائد .
الواجب أن يبدأ الدَّاعية في أمر العقيدة؛ لأنها الأساس، والفضائل إنّما تأتي بعد صلاح العقيدة، والدَّاعية يبدأ بالأهم فالأهمِّ، والرَّسول صلى الله عليه وسلم أوّل ما بدأ بالعقيدة، فقام بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى العقيدة (3)، وإنّما فُرِضَت عليه شرائع الإسلام بعد الهجرة .
والحاصل من هذا أنَّ الدَّاعية يكون حكيمًا في دعوته، يضع الأمور في مواضعها، ويعالج كلَّ مرض بحسبه، فمن كان عنده انحراف في العقيدة؛ ننبِّهُه على الانحراف، وندلُّه ونبصِّرُه بالطريق الصَّحيح، ومن كان عنده صلاحٌ في العقيدة ولكنه عنده تفريط في الأعمال الصَّالحة أو وقوع في بعض الأعمال المحرَّمة؛ فهذا نستعمل معه الموعظة والتَّذكير والتَّخويف .(23/9)
فالدَّاعية يتعامل مع كلِّ مجتمع بما فيه من المرض، ويعالجُه بما يناسبه، أمَّا الاقتصار على فضائل الأعمال أو الاقتصار على إصلاح الحكم وترك الشِّرك؛ فهذا ضلالٌ وجهل مبين، والدَّعوة التي من هذين النَّوعين لا تُجدي شيئًا ولا تنتجُ نتيجةً صالحةً .
191 ـ ماذا تقول لمن يخرجون إلى خارج المملكة للدَّعوة وهم لم يطلبوا العلم أبدًا؛ يَحُثُّون على ذلك، ويردِّدون شعارات غريبة، ويدَّعون أن من يخرُجُ في سبيل الله للدَّعوة سيُلهِمُهُ الله، ويدَّعون أنَّ العلم ليس شرطًا أساسيًّا، وأنت تعلم أنّ الخارج إلى خارج المملكة سيجد مذاهب وديانات وأسئلة توجَّه إلى الدَّاعي؛ ألا ترى يا فضيلة الشيخ أنَّ الخارج في سبيل الله لا بدَّ أن يكون معه سلاحٌ لكي يواجه النّاس، وخاصة في شرق آسيا، يحاربون مجدِّد الدَّعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب ؟ أرجو الإجابة على سؤالي كي تَعُمَّ الفائدة .
الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو، أمَّا ما يسمُّونه الآن بالخروج؛ فهذا بدعة، لم يَرِد عن السَّلف .
وخروج الإنسان يدعو إلى الله غير متقيِّد في أيام معيَّنة، بل يدعو إلى الله حسب إمكانيَّته ومقدرته؛ بدون أن يتقيَّد بجماعة أو يتقيَّد بأربعين يومًا أو أقلَّ أو أكثر .
وكذلك ممَّا يجب على الدَّاعية أن يكون ذا علم، لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل؛ قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [ يوسف : 108 . ] ؛ أي : على علم؛ لأنَّ الدّاعية لا بدَّ أن يعرف ما يدعو إليه من واجب ومستحبّ ومحرَّم ومكروه، ويعرف ما هو الشِّرك والمعصية والكفر والفسوق والعصيان؛ يعرف درجات الإنكار وكيفيَّته .(23/10)
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم عمل باطل؛ لأن طلب العلم فريضة، وهو لا يحصل إلا بالتعلُّم، لا يحصُلُ بالإلهام، هذا من خرافات الصُّوفيَّة الضَّالَّة؛ لأنّ العمل بدون علم ضلال، والطَّمع بحصول العلم بدون تعلُّم وهمٌ خاطئٌ .
192 ـ ممّا يُلاحظ على الثّقافة الإسلاميّة المعاصرة اليوم أنه يشوبُها شيء من فكر بعض الفرق الضّالّة؛ مثل الخوارج والمعتزلة؛ فتجد في بعضها تكفير المجتمعات والأفراد، وتسويغ العُنف ضدّ العُصاة والفُسّاق من المسلمين؛ فما توجيهُكُم في ذلك ؟
هذا منهج خاطئ؛ لأنه الإسلام ينهى عن العنف في الدعوة؛ يقول تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ويقول لنبيه موسى وهارون عليهما السلام تُجاه فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 . ] .
والعنف يقابل بالعنف، ولا يفيد إلا عكس المطلوب، وتكون آثاره على المسلمين سيئة .
فالمطلوب الدّعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن وباستعمال الرّفق مع المدعوّين، أما استعمال العنف مع المدعوين، والتشدُّدُ، والمهاترات؛ فهذا ليس من دين الإسلام؛ فالواجب على المسلمين أن يسيروا في الدّعوة على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى حسب توجيهات القرآن الكريم .
والتكفير له ضوابط شرعيّة؛ فمن ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام التي ذكرها علماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ حكم بكفره بعد إقامة الحجّة عليه، ومن لم يرتكب شيئًا من هذه النّواقض؛ فليس بكافر .
193 ـ هل العلماء المسلمون كعلماء الطِّبِّ والعلوم والأحياء وغير ذلك من العلوم مما تدلُّهم على زيادة الإيمان بالله وقدرته؛ فهل هؤلاء يدخلون تحت الآية : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 . ] . أم لا ؟(23/11)
عالمُ الطّبِّ وعالم الكيمياء وعالم الاختراع . . . إذا كان معه علم من الشريعة؛ فإن هذا يزيده خيرًا بلا شكٍّ، وهذا جمع بين المصلحتين : العلم الشرعيِّ، والعلم الذي ينفع به مجتمعَهُ .
أما إذا كان عنده العلوم الدُّنيويَّة فقط؛ فهذا لا يستفيد منها إلا المادّة، ولا تفيده خشية الله عز وجل، بل ربما تفيده غفلة عن الله؛ فالعلم الدّنيويُّ لا بدَّ أن يوجَّه بالعلم الشّرعيّ؛ ليُستفاد منه، وإلا أصبح ضررًا .
194 ـ ما رأي فضيلتكم فيمن يتعلَّمُ من المسلمين الطِّبَّ والمخترعات الحديثة بقصد إغناء المسلمين عن الحاجة إلى الكفّار والمشركين ؟
لا بأس في ذلك، ويؤجَرُ عليه، لكن بشرط أن يكون قد تعلّم من دينه ما يحتاج إليه؛ فلا بدّ أن يتعلّم أولاً أمور الدين الضّروريَّة، التي لا يُعذَرُ أحدٌ بتركها، ثم يتعلّم بعد ذلك أمور الطبّ وغيرها من العلوم، أما أن يُقبِلَ على أمور الطّبّ والعلوم الأخرى وهو يجهل أمر دينه؛ فهذا لا يجوز .
195 ـ كثيرًا ما يتفق رأي من يُوصَفُون بالعلمانية، مع رأي السّلفيين في بعض الأمور ؟ مثل الموقف من بعض الجماعات التي اتخذت العنف وسيلةً للإصلاح، والموقف من غلبة المصالح الشخصية في اشتعال الحروب، والموقف من تكلف بعض الشباب ؟ فما تعليقكم ؟
الواجب أن نتمسك بالمنهج الحق المُستمد من الكتاب والسنة والذي كان عليه سلفنا الصالح؛ قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 100 . ] ، وإذا وافقنا على بعض ذلك أحد من العلمانيين أو غيرهم؛ فذلك لا يصرفنا عنه، ولا نتركه من أجلهم، وإنما يعتبر هذا شهادة من أعدائنا على صحة ما نحن عليه، وقد قيل : الحق ما شهدت به الأعداء .(23/12)
والأعداء من قديم الزمان يعترفون بالحق في قرارة نفوسهم ويتركونه تعصبًا منهم لآرائهم ومقاصدهم؛ قال الله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 . ] ، وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 . ] .(23/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
196 ـ ما هو منهجُنا في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ؟
هذا كما أسلفنا؛ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان في بلد مسلم؛ فإن الأمور منضبطة ولله الحمد؛ بأن يقوم الإنسان بالمناصحة والتّذكير والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى تبليغ السُّلطة من أجل الأخذ على يد العاصي؛ فإنه يرجع إلى السُّلطة ويبلِّغُها، وإذا لم يحتج إلى الرَّفع إلى السُّلطة؛ فإن المطلوب السَّترُ على أصحاب المعاصي إذا رأى منهم تجاوُبًا نحو الإنكار وقبولاً للدعوة وتركًا لما هم عليه من الخطأ؛ فهؤلاء يستُرُ عليهم ويكتفي بأن يغيِّروا هم من أنفسهم من الفساد إلى الصّلاح ما أمكن، وإذا وجد أن هذا العاصي لا يستجيب ولا يقبل النصيحة؛ يرفع الأمر لوليّ الأمر، فإذا بلغ هذا إلى ولي أمر المسلمين؛ برئت ذمَّةُ النَّاصح؛ لأنه أنهى الأمر إلى مُنتهاهُ، أما إذا كانوا في غير مجتمع مسلم؛ فعليهم الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ودرءُ الفتنة الكبيرة التي قد تعود على المسلمين بالضّرر؛ فلا يكون هناك عنفٌ، ولا يكون هناك مجابهةٌ تؤدِّي لأن تُقابل بأشدَّ منها، وإنما هو نشر للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمناصحة لمن يقبل ذلك، ومن لا يقبل؛ فإن أمره إلى الله سبحانه وتعالى .
197 ـ هل الأمر بالمعروف والنَّهيُ عن المنكر واجبٌ على كل مسلم ؟ وكيف يكون ذلك ؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان على كل مسلم بحسب استطاعته؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم منكرًا؛ فليُغيِّرهُ بيده؛ فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] ؛ فلا يجوز لمسلم أن يقرَّ المنكر ويرضى به، ومن أنكر بحسب استطاعته؛ فقد برئ .(24/1)
198 ـ يلاحظ على بعض المشتغلين في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أنهم يخرجون عن القاعدة القرآنية التي تقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الآية [ النحل : 125 . ] ما تعليقُ فضيلتكم على ذلك ؟
الذين يشتغلون في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خيرة رجال الأمة، وقد أُسنِدَ إليهم هذا الأمر عن اقتناع المسؤولين بصلاحيَّتهم، وما يُقال عنهم من تجاوزات ليس بصحيح في الغالب، وإنما يُقصدُ به التّشويه وإلقاء العراقيل في طريقهم؛ فلا يجوز أن نُصغي إليه ونصدِّقه، وإن صحَّ منه شيء بحكم أنهم بشرٌ؛ فلا يجوز أن نتّخذه سبيلاً لانتقاصهم؛ فهم كما يقول الشاعر :
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كُلُّها ** كفر المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
أو كما قال الآخر :
أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم ** من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
فالواجب علينا أن نتعاون معهم، وأن نشجِّعهم ونناصرهم؛ عملاً بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ المائدة : 2 . ] ؛ فهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض .
لماذا نتغاضى عن المفسدين ونلتمس عيوب المصلحين ؟ !
199 ـ إنكار المنكر . . . كيف نحققه بما يخدم المصلحة العامة ؟(24/2)
يمكن تحقيق إنكار المنكر للمصلحة إذا كان متمشيًا على ما توجبه الشريعة الإسلامية؛ بأن يكون الإنكار عن علم ويكون بحكمة ورفق وصبر على الأذى، وأن يكون على المنهج الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) ؛ فمن بيده سلطة يزيل بيده، ومن عنده علم وليس عنده سلطة ينكره بلسانه، ومن ليس عنده علم ولا سلطة ينكره بقلبه، ومن لم ينكر على هذا الترتيب الوارد في الحديث؛ فليس في قلبه إيمان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( وليسَ وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردلٍ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69، 70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
200 ـ ما أهمية تغيير المنكر في الإسلام ؟ وما الرد على الذين يُقصِّرون في ذلك ؟
تغيير المنكر واجب عظيم في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية، فقد عاب الله على اليهود وعلى النصارى، ولعنهم لما تركوا هذا الواجب :
فقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78، 79 . ] .
وقال تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 63 . ] .
وقال تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } [ هود : 116 . ] .(24/3)
وقال الله تعالى لهذه الأمة : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 . ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره حسب الاستطاعة واجب مهم في الإسلام، والذين يقصرون في ذلك قد عرَّضُوا أنفسهم وعرَّضوا مجتمعهم للعقوبة والهلاك؛ فإن الله سبحانه إنما أهلك الأمم السابقة بسبب تركها لتغيير المنكر؛ قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165 . ] .
201 ـ ما هو المنكر الذي ينبغي تغييره ؟
المنكر الذي يجب تغييره هو كل ما نهى الله عنه من المعاصي القولية والفعلية، وأعظم ذلك الشرك بالله عز وجل؛ قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 . ] ، ثم الزّنى واللواط وشرب المسكرات وتعاطي المخدرات وأكل الربا والتبرج والسفور وترك الصلاة والتكاسل عنها واستماع الأغاني الماجنة والنظر في الأفلام الخليعة والصور الفاتنة . . . إلى غير ذلك من المنكرات التي كَثُرت في بلاد المسلمين، فلا بد من المبادرة بالعمل على تغييرها وإزالتها من بلاد المسلمين .
202 ـ ما مراتب تغيير المنكر ودرجاته ؟(24/4)
مراتب تغيير المنكر قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَن رأى منكم مُنكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] ، هذه مراتب تغيير المنكر ودرجاته، وكل مسلم يجب أن يقوم بما يستطيعه منها، ولا يجوز له أن لا ينكر المنكر، ولا يجوز له أن ينتقل إلى مرتبة وهو يستطيع القيام بالمرتبة التي قبلها؛ فلا يجوز لمن يقدر على تغيير المنكر باليد أن يقتصر على إنكاره باللسان، ولا يجوز لمن يستطيع الإنكار باللسان أن يقتصر على إنكاره بالقلب .
203 ـ من المسؤول عن تغيير المنكر ؟ وكيف يمكن ضبط هذه المسؤولية ؟
إنكار المنكر بالقلب مسؤول عنه كل مسلم، ومن لم ينكر المنكر بقلبه؛ فليس بمسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فَمَن لم يستطع؛ فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69، 70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] ، أما إنكاره باليد أو باللسان؛ فإنما يجب على من يقدر على ذلك من الولاة والعلماء وغيرهم من المسلمين إذا لم يترتب على ذلك حصول منكر أشد، أمّا الإنكار بالقلب؛ فلا يعجز عنه أحد ولا يُعذرُ فيه أحد .(24/5)
ويمكن ضبط هذه المسؤولية العظيمة بأن يوكل القيام بها لمن فيه الكفاءة من أهل العلم والدين والغيرة؛ بأن يُكوَّن في الدولة جهاز خاص من العلماء وأهل القوة والغيرة، ويعطون الصلاحيات الكافية والإمكانيات المناسبة؛ كما هو موجود في هذه المملكة من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي نرجو من الله أن يعينها على القيام بواجبها، وأن يوفق ولاة الأمور لمساعدتها ومساندتها، وإنها لميزة عظيمة لحكومتنا الرشيدة وفقها الله؛ حيث كوَّنت هذا الجهاز الهام، ومنحته الإمكانيات اللازمة حتى يقوم بواجبه؛ فإن هذا من أعظم أسباب النصر والتمكين في الأرض وحصول الأمن والاستقرار .
قال الله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } [ الحج : 40، 41 . ] .
كما حصر الله الفلاح على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 . ] ؛ فإذا قامت جهة خاصة بهذا الأمر كما ينبغي؛ انضبط خير انضباط وحصل المقصود .
204 ـ ما الممارسات الخاطئة في تغيير المنكر ؟ وكيف يمكن علاجها ؟
الممارسات الخاطئة في تغيير المنكر تتلخص فيما يلي :(24/6)
1ـ أن يقوم بتغيير المنكر من لا علم عنده بما يحل ويحرم وما هو منكر وما ليس بمنكر؛ فإن هذا يفسد أكثر مما يصلح، وقد يُحرِّم حلالاً ويُحِلُّ حرامًا . ولا يستطيع دفع الشبهات التي توجه إليه؛ فلا بد أن يكون القائم بذلك عالمًا بما يأمر عالمًا بما ينهى عنه، يستطيع المجادلة بالتي هي أحسن ودفع الشبهات التي توجه إليه من أصحاب الشهوات والمغالطات .
2ـ أو يقوم بتغيير المنكر من ليس عنده حكمة ووضع للأمور في مواضعها وترتيب للأولويات؛ فقد يقوم بإنكار منكر صغير وهناك ما هو أكبر منه وأولى بالبداءة بتغييره، أو يقوم بإنكار منكر يخلفه منكر أعظم منه؛ فلا بد من الحكمة في ذلك .
3ـ أو يقوم بتغيير المنكر بطريق العنف والشدة، ثم تقابل بمثل ذلك أو أشد؛ فلا يحصل المقصود، فلا بد أن يكون الآمر الناهي رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى عنه .
4ـ أو يقوم بإنكار المنكر وتغييره من ليس عنده صبر وتحمل فينقطع في أول الطريق ويترك التغيير لأنه أُصيبَ باليأس، ولا بد في الآمر الناهي من الصبر والتحمل، قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 3 . ] ، وقال تعالى عن لقمان : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ لقمان : 17 . ] .
5ـ أو يقوم بذلك من لا يتقيد بدرجات الإنكار التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم فربما ينزل إلى درجة وهو يستطيع التي قبلها، أو يصعد إلى درجة وهو ليس من أهلها .(24/7)
6ـ قد يكون من بعض الآمرين بالمعروف تسرُّع في بعض الأمور المهمة؛ بأن تكون له مبادرات لا يرجع فيها إلى أهل العلم والرأي والمشهورة الذين يقومون بدراسة الأمور ويعلمون تجاه كل شيء ما يناسبه، إن ارتكاب هذه الأخطاء أو بعضها تعوق مسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تُحدِث أمورًا عكسية، وقد يحصل منها نتائج غير كافية، فمثلاً الذي يقوم بإنكار المنكر الخفيف ويترك المنكر الذي هو أعظم منه لا يُنتِج عملُهُ كبير فائدة؛ فالذي يترك إنكار الشرك والبدع وينكر أكل الربا والسفور وغير ذلك من الأمور التي يوجد ما هو أعظم منها يكون قد بدأ من آخر الطريق وعالج جسمًا مقطوع الرأس وخالف منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد كانوا يبدؤون بإنكار الأهم فالمهم، كانوا يبدؤون بإنكار الشرك وعبادة غير الله، فإذا صححوا العقيدة أولاً؛ التفتوا إلى إنكار المعاصي الأخرى .
خذ هذا مثلاً في منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بقي في مكة ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة قبل أن ينكر الربا والزنى وشرب الخمر ويأمر بالصلاة والزكاة .
قد يقول قائل : هذا كان في مجتمع المشركين؛ أما نحن؛ ففي مجتمع مسلم عنده بعض المخالفات . فنقول : إن ما كان موجودًا عند المشركين في الجاهلية يوجد اليوم في غالب بلاد المسلمين ما هو مثله أو أعظم منه من الشرك بالله المتمثل في عبادة الأضرحة والطرق الصوفية والبدع في الدين؛ فالواجب على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في تلك البلاد أن يهتموا بذلك وأن يبدؤوا بإنكاره بجد وعزيمة حتى تطهر البلاد منه ثم يواصلوا مسيرتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بقية المخالفات .(24/8)
السلفية
205 ـ هناك من يرى أن من يسير على مذهب السَّلف لديه سطحيَّة في فهم أمور العقيدة، معلِّلين ذلك بأن مذهب السَّلف لا يَسبُرُ غَوْرَ النُّصوص، ولا يتفاعل معها، ويرون أن طريقة غيرهم أكثر فهمًا للنصوص في مسائل العقائد؛ فما رأيكم في مثل هذا الكلام ؟
القول بأن مذهب السلف فيه سطحيَّة لأنه - في نظر القائل - لا يَسبُرُ غَوْرَ النُّصوص، وأن مذهب الخلف أكثر فهمًا للنصوص في مسائل العقيدة وأوسع ! هذا القول يقولُه علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم؛ حيث قالوا : طريقة السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم وأحكم ! وهذا القول مبنيٌّ على فهم فاسد لمذهب السلف ومذهب الخلف؛ حيث ظنُّوا أن مذهب السلف لا فهم فيه، وإنما هو تفويض نصوص الصفات دون فهم لمعانيها، وأن الخلفَ فهموا وعرفوا أن هذه النصوص على غير ظاهرها، فأوَّلوها إلى معان أخرى؛ كتفسير الوجه بالذَّات، واليد بالقدرة، والاستواء على العرش بالاستيلاء . . . وغير ذلك .
وهذا الفهم لمذهب السلف مذهب باطل، وفيه تجهيل للصحابة والتابعين والقرون المفضَّلة، واتِّهامٌ لهم بأنهم لا يفهمون هذه النصوص، وهذا خلاف الواقع؛ فإن السلف لم يكن مذهبهم التفويض، وإنما مذهبهم الإيمان بهذه النصوص كما جاءت، وإثبات معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي، مع نفي التَّشبيه عنها؛ كما قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 . ] ؛ فطريقتهم أعلم وأسلم وأحكمُ؛ لأنَّ الأسلم لا بدَّ أن يكون أعلم وأحكم .
فقول الخلف : طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم ! قول متناقضٌ؛ إذ كيف تكون السّلامة بدون العلم والحكمة ؟ !(25/1)
ثم أيضًا؛ كيف يكون المتأخرون أعلم من السابقين الأوَّلين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباع التابعين، الذين شَهِدَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، فقال : ( خيركم قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/151 ) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه . ] ؟ !
206 ـ يتردَّد على ألسنة بعض الناس أن فلانًا هذا سلفي، وفلانًا غير سلفي؛ فما المقصود بالمذهب السلفي ؟ ومن أبرز من دعا إليه من علماء المسلمين ؟ وهل يمكن تسميتهم بأهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية ؟ ثم ألا يُعتبَرُ هذا من باب التّزكية للنفس ؟
المقصود بالمذهب السّلفي هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين من الاعتقاد الصّحيح والمنهج السّليم والإيمان الصّادق والتمسُّك بالإسلام عقيدة وشريعة وأدبًا وسلوكًا؛ خلاف ما عليه المبتدعة والمنحرفون والمخرِّفون .
ومن أبرز من دعا إلى مذهب السّلف الأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وتلاميذه، والشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، وتلاميذه، وغيرهم من كلّ مصلح ومجدِّد، حيث لا يخلو زمان من قائم لله بحجَّةٍ .
ولا بأس من تسميتهم بأهل السنة والجماعة؛ فرقًا بينهم وبين أصحاب المذاهب المنحرفة .
وليس هذا تزكية للنفس، وإنما هو من التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل .
207 ـ ما هي الضّوابط الشرعية التي يحافظ بها المسلم على التزامه وتمسُّكه بمنهج السّلف الصّالح وعدم الانحراف عنه والتّأثُّر بالمناهج الدّخيلة المنحرفة ؟
الضّوابط الشّرعيّة تُفهم من مجموع ما سبق الكلام فيه، وذلك بأن :
1ـ يرجع الإنسان إلى أهل العلم وأهل البصيرة يتعلّمُ منهم ويستشيرُهم في ما يجول في فكره من أمور؛ ليستصدر رأيهم في ذلك .(25/2)
2ـ التروِّي في الأمور، وعدم العجلة، وعدم التسرُّع في الحكم على الناس، بل عليه أن يتثبَّت؛ قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 . ] ، وقال سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء : 94 . ] ؛ تبيَّنوا؛ أي : تثبَّتوا مما بلغكم .
3ـ ثم إذا ثبت؛ فعليكم بمعالجته بالطُّرق الكفيلة بالإصلاح؛ لا بالطرق المعنِّفة أو بالطّرق المشوشة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بشِّروا ولا تُنفِّروا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/25 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . ] ، وقال : ( إنما بُعِثتُم مُبَشِّرين لا مُنفِّرين ) ، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض فضلاء أصحابه : ( إن منكم لَمُنفِّرين؛ فمن أمَّ الناس، فليُخفِّف؛ فإنَّ وراءه الضَّعيفَ وذا الحاجة ) [ رواه الإمام البخاري ( 1/31 ) بلفظ : ( إنكم منفرون، فمن صلى بالناس . . . ) من حديث أبي مسعود الأنصاري . ] .
وعلى كل حال؛ فالأمور تعالج بحكمة ورويَّة، ولا يصلح لكل أحد أن يتدخَّل في مجال لا يُحسِنُ التّصرُّف فيه .(25/3)
4ـ وكذلك من الضَّوابط أن يتزوَّد الإنسان من العلم النّافع بمجالسة أهل العلم والاستماع لآرائهم، وكذلك بقراءة كتب السّلف الصالح وسير المصلحين من سلف هذه الأمة وعلمائها، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وكيف كانوا يَعِظونَ الناس، وكيف كانوا يأمرون بالمعروف وينهونَ عن المنكر، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وهذا مدوَّن في سيرهم وفي تراجمهم وفي أخبارهم وفي قصص الماضين من أهل الخير وأهل الصّلاح وأهل الصِّدق؛ { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 . ] ؛ فالإنسان فردٌ من هذه الأمة، والأمة هي مجموع المسلمين من أول ظهور الإسلام إلى قيام السّاعة، هذا هو مجموع الأمة، والمسلم يراجع سير السَّلف الصَّالح، وأخبارهم، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وهديهم في ذلك، حتى يسير على نهجهم، ولا ينظر إلى أقوال المتسرِّعين وأخبار الجهلة الذين يحمِّسون الناس على غير بصيرة .
كثير من الكتيبات اليوم أو المحاضرات أو المقالات تصدر عن جهلاء بأمور الشّرع؛ يحمّسون الناس، ويأمرون الناس بما لم يأمرهم الله به ولا رسوله، ولو كان هذا صادرًا عن حسن قصد وحسن نيَّةٍ؛ فالعبرة ليست بالقصد والنية، العبرة بالصّواب، والحق هو ما وافق الكتاب والسنة بفهم السّلف، أما الناس - ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم يخطئون ويصيبون، فيُقبَلُ الصواب، ويُترَكُ الخطأ .
208 ـ يزعم بعض الناس أنَّ منهج أهل السّنة والجماعة لم يعد مناسبًا لهذا العصر، مستدلّين بأنّ الضّوابط الشرعيّة التي يراها أهل السنة والجماعة لا يمكن أن تتحقَّق اليوم .
الذي يرى أن منهج السلف الصالح لم يعد صالحًا لهذا الزَّمان؛ هذا يعتبر ضالاً مضلاً؛ لأن منهج السلف الصالح هو المنهج الذي أمرنا الله باتباعه حتى تقوم الساعة :(25/4)
يقول صلى الله عليه وسلم : ( فإنه مَن يعش منكم؛ فسوف يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن ساري رضي الله عنه . ] ، وهذا خطاب للأمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يدلّ على أنه لا بدّ من السّير على منهج السّلف، وأن منهج السّلف صالحٌ لكلّ زمان ومكان .
والله سبحانه وتعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 . ] : { اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } : يشملُ الأمة إلى أن تقوم الساعة؛ فالواجب عليها أن تتابع منهج السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والإمام مالك بن أنس يقول : " لا يُصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها " .
فالذي يريد أن يعزل الأمة عن ما فيها، ويعزل الأمة عن السّلف الصّالح؛ يريد الشّرّ بالمسلمين، ويريد تغيير هذا الإسلام، ويريد إحداث البدع والمخالفات؛ هذا يجب رفضُهُ ويجب قطع حجَّتِه والتّحذير من شرّه؛ لأنه لا بدّ من التمسُّك بمنهج السّلف والاقتداء بالسّلف، ولا بدّ من السّير على منهج السّلف، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا .
فالذي يريد قطع خلف الأمة عن سلفها مفسد في الأرض، يجب أن يُرفَضَ قوله، وأن يردّ قوله، وأن يحذر منه، والذين عرف عنهم هذا القول السيئ هم الشيعة ومَن وافقهم من المضلِّلين؛ فلا عبرة بهم .(25/5)
الجماعات
209 ـ يزعم بعض الناس أنّ السّلفيّة تعتبر جماعة من الجماعات العاملة على السّاحة، وحكمها حكم باقي الجماعات؛ فما هو تفنيدُكم لهذا الزّعم ؟
ذكرنا أن الجماعة السلفية هي الجماعة الأصيلة، التي على الحقِّ، وهي التي يجب الانتماء إليها والعمل معها والانتساب إليها، وما عداها من الجماعات يجب ألا تُعتبرَ من جماعات الدَّعوة؛ لأنها مخالفة، وكيف نتَّبِعُ فرقة مخالفة لجماعة أهل السُّنَّة وهدي السّلف الصّالح ؟ !
فالقول : إن الجماعة السلفية واحدة من الجماعات الإسلامية ! هذا غلط، فالجماعة السلفية هي الجماعة الوحيدة التي يجب اتباعها والسير على منهجها والانضمام إليها والجهاد معها، وما عداها؛ فإنه لا يجوز للمسلم الانضمام إليه؛ لأنه من الفرق الضالة، وهل يرضى الإنسان أن ينضمَّ إلى الفرق الضالة ؟ ! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن ساري رضي الله عنه . ] ، وسُئلَ الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية ؟ فقال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) [ رواه الترمذي في سننه ( 7/296، 297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . وابن ماجه ( 2/1322 ) بنحوه من حديث عوق بن مالك وأنس بن مالك .
وانظر مسند الإمام أحمد ( 2/332 ) وسنن أبي داود ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ذكر ( كلها في النار إلا واحدة، قيل . . . ) . ] ؛ هل يريد الإنسان النَّجاة ويسلُكُ غير طريقها ؟
ترجو النَّجاة ولم تسلُك مسالكها ** إن السّفينة لا تجري على اليبس (1)(26/1)
210 ـ ما وجه صحّة نسبة الجماعات الموجودة اليوم إلى الإسلام، أو وصفهم بالإسلامية، وصحة إطلاقة لفظ الجماعات عليهم، وإنما جماعة المسلمين واحدة؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه ؟
الجماعات فرق توجد في كل زمان، وليس هذا بغريب؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة؛ كلهم في النار؛ إلا واحدة ) (2)؛ فوجود الجماعات ووجود الفرق هذا أمر معروف، وأخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : ( مَن يَعِش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ، كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
ولكن الجماعة التي يجب السّير معها والاقتداء بها والانضمام إليها هي جماعة أهل السّنّة والجماعة؛ الفرقة الناجية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين هذه الفرق؛ قال : ( كلها في النار؛ إلا واحدة ) . قالوا : مَن هي ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) (3).
هذا هو الضّابطُ؛ فالجماعات إنما يجب الاعتبار بمن كان منها على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من السّلف الصالح، والله تعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 100 . ] .(26/2)
هؤلاء هم الجماعة؛ جماعة واحدة، ليس فيها تعدُّدٌ ولا انقسام، مِن أوّل الأمة إلى آخرها، هم جماعة واحدة، { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 . ] .
هذه هي الجماعة الممتدَّةُ من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام السّاعة وهم أهل السنة والجماعة، وأما ما خالفهم من الجماعات؛ فإنها لا اعتبار بها، وإن تسمّت بالإسلاميّة، وإن تسمّت جماعة الدّعوة أو غير ذلك؛ فكل ما خالف الجماعة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنها من الفرق المخالفة المتفرّقة التي لا يجوز لنا أن ننتمي إليها أو ننتسب إليها؛ فليس عندنا انتماء إلا لأهل السنة والتوحيد، { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } [ الفاتحة : 6، 7 . ] ، والذين أنعم الله عليهم بيَّنَهُم في قوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 . ] .(26/3)
فالجماعة التي اتخذت منهجها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملت بقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 310 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ؛ هؤلاء هم الجماعة المعتبرة، وما عداها من الجماعات؛ فإنه لا اعتبار بها، بل هي جماعة مخالفة، وتختلف في بعدها عن الحق وقربها من الحق، ولكن كلها تحت الوعيد، كلها في النار؛ إلا واحدة، نسأل الله العافية .
211 ـ يدّعي البعض أنّ قيام هذه الجماعات لازم للقيام بالدّعوة إلى الله، خصوصًا في المجتمعات التي لا تكون شوكةُ الدّين فيها ظاهرة ؟
الدّعوة إلى الله مطلوبة وواجبة؛ قال سبحانه وتعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 . ] ، ولكن ليس من منهج الدّعوة أن يتفرَّق المسلمون وأن تكون كل طائفة منهم تزعم لنفسها أنها على حق وأنّ غيرها ليس على حقٍّ؛ كما هو الواقع في هذه الجماعات اليوم .(26/4)
فالواجب على المسلم الذي عنده علم وقدرة أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتعاون مع الآخرين، من غير أن تكون كل جماعة لها منهج مختصٌّ بها يخالف الجماعة الأخرى، بل الواجب أن يكون المنهج واحدًا عند المسلمين، وأن يتعاونوا جميعًا، وأن يتشاوروا فيما بينهم، ولا حاجة إلى إيجاد جماعات ومناهج متفرِّقة ومتشتّتة؛ لأن هذا يقضي على وحدة المسلمين وعلى كلمة المسلمين، ويسبِّبُ النّزاع والخصام بين الناس؛ كما هو الواقع اليوم بين تلك الجماعات على الساحة في البلاد الإسلاميّة وغيرها؛ فليس من ضروريّات الدّعوة تكوين جماعة، إنما من ضروريّات الدّعوة أنّ من عنده علم وعنده حكمة وعنده معرفة أن يدعو إلى الله عز وجل، ولو كان واحدًا .
212 ـ ما حكم من ينتمي إلى تلك الجماعات، خصوصًا تلك التي تقوم على السّرّية والبيعة ؟
النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بحصول التّفرُّق، وأمرنا عند ذلك بالاجتماع، وأن نكون على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قال صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النّصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة ) . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/297 ) من حديث عبد الله بن عمرو، وقد رواه غير الترمذي بألفاظ قريبة من هذا، وفي بعضها نقص، كابن ماجه وغيره . ] .(26/5)
وقال صلى الله عليه وسلم لمّا طلب منه أصحابه الوصيّة؛ قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد؛ فإنه مَن يَعِش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126-127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319-320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
وهذا منهج يجب أن يسير عليه المسلمون إلى يوم القيامة، وهو أنه عند وجود الاختلاف؛ فإنهم يرجعون إلى ما كان عليه سلفُ هذه الأمة في المنهج والدّين والبيعة وغير ذلك .
213 ـ مما يتساهل به الناس قضيّة البيعة؛ فهناك من يرى جواز أخذ البيعة لجماعة من الجماعات مع وجود بيعة أخرى، وقد لا يكون المُبايع في هذه الجماعات معروفًا بدواعي السّرّيّة؛ ما حكمُ هذا ؟ ثم هل يختلف الحكم في بلاد الكفّار أو تلك التي لا تحكم بما أنزل الله ؟
البيعة لا تكون إلا لوليّ أمر المسلمين، وهذه البيعات المتعدِّدة مبتدعة، وهي من إفرازات الاختلاف، والواجب على المسلمين الذين هم في بلد واحد وفي مملكة واحدة أن تكون بيعتهم واحدة لإمام واحد، ولا يجوز المبايعات المتعدّدة، وإنما هذا من إفرازات تجوّزُ المبايعات من اختلافات هذا العصر، ومن الجهل بالدّين .(26/6)
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفرُّق في البيعة وتعدُّد البيعة، وقال : ( مَن جاءكم وأمركم جميعٌ على واحد منكم، يريد تفريق جماعتكم؛ فاضربوا عُنُقه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1480 ) من حديث عرفجة رضي الله عنه . ] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وإذا وجد من ينازع وليّ الأمر الطّاعة، ويريد شقّ العصا وتفريق الجماعة؛ فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وليَّ الأمر وأمر المسلمين معه بقتال هذا الباغي؛ قال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 . ] .
وقد قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعه أكابر الصَّحابة؛ قاتلوا الخوارج البُغاة حتى قضوا عليهم، وأخمدوا شوكَتَهُم، وأراحوا المسلمين من شرِّهم، وهذه سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أمر بقتال البُغاة وبقتال الخوارج الذين يريدون شقَّ عصا الطّاعة، وذلك من أجل الحفاظ على جماعة المسلمين وعلى كيان المسلمين من التّفرُّق والاختلاف .
214 ـ وهل يرى فضيلتكم أن كتابات سيد قطب هي المعوّل الحقيقي لفكر الجماعات ولظهور الفكر التكفيري ؟ وهل العدالة مع الرجل أن يُستفادَ من بعض الجيد من رؤاه وكتاباته أم يُنبذ بكلّيَّته ؟
كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقبل أن نأخذ عن شخص ما يجب أن ننظر في علمه وفقهه وصدقه؛ لأن هدفنا الحق لا تجريح الرجال، والرجوع يجب أن يكون إلى المصادر الصحيحة من كتاب وسنة رسوله وكتب أهل العلم المبنية على الكتاب والسنة، ولا يكون همنا : أصاب فلان، وأخطأ فلان، ولكن ليكن همنا طلب الحق في مظانه وأخذه من مصادره الأصلية .(26/7)
215 ـ ما قولكم لمن يقول : إن الاستنتاجات الدالة على فساد فكر البعض ( البنا وقطب وسرور ) مجرد تحميل ووهم وإن ما ذُكِرَ يضيع وسط خبرهم الكثير ؟
الواجب على من نسب إلى شخص خطأ في قول أو اعتقاد أن يُبَيِّن المصدر الذي فيه هذا الخطأ من كتب الشخص نفسه، فإذا بيَّنَ ذلك فقد برئ من العهدة وانتفت عنه التهمة .
وأما أن هذا الخطأ إذا صح صدوره من الشخص يضيع وسط خيره الكثير؛ فهذا فيه تفصيل : إن كان هذا الخطأ في الاعتقاد بأن يكون شركًا أكبر؛ فهذا يضيع معه كل خير ولا يبقى معه عمل صالح، وإن كان الخطأ دون ذلك من مسائل الاعتقاد ولا يصل إلى حد الكفر والشرك؛ فهذا نرجو أن يغفره الله لصاحبه وأن يرجح به حسناته، وإن كان الخطأ في مسائل الاجتهاد -؛ والشخص من أهل الاجتهاد -؛ فهذا خطأ مغفور ولصاحبه الأجر على اجتهاده .
216 ـ بعض المنتمين لـ " الإخوان " مثلاً يقولون : إن غايتنا الإسلام لا الكرسي وإننا الصوت المتعقل في الوسط ؟ وإننا ننادي بطلب العلم وتطبيق السنن كما غيرنا من السلف ؟
النظر إنما يكون إلى الحقائق لا الدعاوى؛ فكل يدَّعي أنه مصلح، ولكن { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 . ] ، ونحن ننظر إلى الأفعال لا إلى الأقوال، وننظر إلى الأسس التي يقوم عليها البناء لا إلى ظاهر البناء، { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 . ] ، ونحو نودُّ وندعو الله أن يُصلح كل من ينتمي إلى الإسلام وينتسب إلى الدعوة إليه، وأن يصلح الغايات والمقاصد، وأن تكون كل الجماعات جماعة واحدة على كتاب الله وسنة رسوله ومنهج السلف الصالح؛ فنحن ما ضرنا إلا التفرق واتباع الأهواء والتعصب للآراء والأفكار والأشخاص .(26/8)
217 ـ من الأمور غير المتضحة عند الشباب مسألة الانضواء تحت الجماعات . . . فما وجه الحقيقة في هذا الأمر؛ خاصة وأن البعض يقول : إن الخلاف في منهج الدعوة فقط؛ أما الأسس؛ فنحن متفقون عليها ؟
الإسلام يأمرنا أن نكون جماعة واحدة، وينهانا عن تعدد الجماعات؛ قال الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 . ] ، ومنهج الدعوة يجب أن يكون منهجًا واحدًا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا اتحد المصدر، وهو كتاب الله وسنة رسوله؛ فلن يكون هناك نزاع واختلاف وإنما يكون النزاع والاختلاف إذا اختلفت مصادر الجماعات؛ بأن تكون كل جماعة تستوحي منهجها من أفكار فلان وتخطيط فلان؛ دون رجوع إلى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة .
218 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ بكلمة توجيهية حول هذه الجماعات الموجودة على الساحة . . . ؟(26/9)
نحن ولله الحمد على طريق واضح، عاشت عليه أجيال في هذه البلاد وماتت عليه، وجُرِّبَ صلاحُهُ ونفعه؛ فلنتمسك به ولنترك ما خالفه، ولا حاجة أن نُسمي الجماعة الفلانية أو الجماعة الأخرى، لسنا بحاجة إلى هذا، نحن نقول : نسير على هذا الخط الذي نسير عليه وسار عليه علماؤنا وأجدادنا وآباؤنا وصَلُح عليه أمرهم واستقام عليه دينهم وحُقِنَت به دماؤهم وسَلِمَت أموالهم وعاشوا عليه آمنين مطمئنين؛ فلنسر على هذا المنهج، وهذه الجماعة؛ جماعة التوحيد؛ جماعة الدعوة إلى دين الله؛ المتمثلة في علماء هذه البلاد، ونترك ما عداها من الجماعات، سموها ما شئتم؛ سموها تبليغية سموها إخوانية سموها ما شئتم، أنا ما علي من الأسماء، أنا أقول : نحن نسير على هذا الخط الذي سرنا عليه وجربناه، ونترك ما عداه مهما سُمِّي ومهما حُسّن ومهما زوِّق، نقول : ما فيه من خير؛ فهو موجود عندنا، وما كان فيه من شر؛ فنحن لا نريد الشر، نحن نريد الخير، ما التبس أمر هذه الجماعات إلا على إنسان مضطرب الفكر، أما الإنسان البصير؛ فلا يضطرب عليه أمر هذه الجماعات؛ يعرف أن كل ما خالف الحق فهو ضلال؛ { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 . ] ، فما كان من خير؛ فنحن نقبل الخير؛ وهذا الخير ولله الحمد موجود عندنا، علينا أن نقوم به وأن ننشره وأن ندعو إليه وأن نوضحه للناس، أما ما كان في تلك المناهج والجماعات من شر؛ فنستعيذ بالله منها ولا نريدها ولا نسمح لها أن تدخل بلادنا وتغير أفكارنا وناشئتنا وشبابنا .
219 ـ فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى : نطلب منكم كلمة توجيهية ختامية لطلبة العلم بخصوص الأحزاب والجماعات المغرضة التي بدأت تظهر الدعوة إليها بين صفوف الشباب وجزاكم الله خيرًا .(26/10)
هذه البلاد ولله الحمد كانت جماعة واحدة وأمة واحدة على الحق؛ لا يعرف فيهم انقسام، ولم توجد فيهم أحزاب وأفكار متفرقة، وإنما فكرهم واحد واتجاههم واحد وعقيدتهم التوحيد وأخلاقهم على الإسلام ولله الحمد واتباع لمنهج السلف الصالح؛ حاكمهم ومحكومهم، غنيهم ونفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكروهم وإناثهم؛ كلهم جماعة واحدة من أقصى البلاد إلى أقصاها .
فهذه البلاد لا تسمح بقبول مناهج وافدة أو مذاهب وافدة أو أفكار وافدة؛ لأنها ولله الحمد غنية بما عندها من الحق ومن الاجتماع على الكتاب والسنة مما لا يوجد له نظير في دول العالم اليوم، هذه البلاد ولله الحمد هي أمثل دول العالم في الأمن والاستقرار في العقيدة؛ في الأخلاق والسلوك، في جميع الأمور، وذلك ببركة اتباع الكتاب والسنة، ثم ببركة دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله ومناصريها من حكام هذه البلاد وفقهم الله .(26/11)
فلا يجوز لهذه البلاد أن تقبل أي فكر وافد أو أي مذهب وافد أو أي منهج وافد؛ لأن عندها ولله الحمد ما يغني عن ذلك، ليس هذا من باب عدم قبول أو رفض الحق، لا؛ لأن الحق موجود ولله الحمد؛ فماذا يأتي به الوافد، إلينا إن كان يريد الحق؛ فهو موجود عندنا ولله الحمد، وإن كان يريد التفرقة ويريد الهدم؛ فنحن نقول : لا، نحن لا نسمح لأي مذهب أو لأي حزب أن يدخل بيننا؛ لأن ذلك يُفرِّق جماعتنا ويزيل نعمتنا ويردنا إلى ما كانت عليه هذه البلاد قبل هذه الدعوة من أمور الجاهلية والتفرق؛ والله تعالى نهى عن التفرق، قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ . . . } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 . ] ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 . ] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسُنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها وعضُّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومُحدثات الأمور فإن كل مُحدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة ) (4) ، والله تعالى يقول : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] ؛ ماذا يريد هؤلاء ؟ يريدون صلاح العقيدة، هذا موجود ولله الحمد، يريدون الحكم بما أنزل الله، هذا موجود عندنا ولله الحمد، يريدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا موجود عندنا ولله الحمد، يريدون إقامة الحدود، هذا موجود عندنا ولله الحمد، أنا لا أقول : إننا كاملون من كل وجه، أقول : عندنا نقص، ولكن هذا النقص يمكننا إصلاحه بإذن الله(26/12)
إذا أخلصنا لله عز وجل وتناصحنا فيما بيننا بالطريقة الشرعية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدِّينُ النَّصيحةُ، الدِّينُ النَّصيحةُ، الدِّينُ النَّصيحةُ ) . قلنا : لمن ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] ، فبإمكاننا أن نصلح ما عندنا من الخلل والنقص، وإن كان شيئًا يسيرًا ولله الحمد، وربما يكون كثيرًا، لكنه لا يُخِلُّ بالعقيدة ولا يُخِلُّ بالمنهج السليم، نعم وُجِدَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من يزني ووُجِدَ من يسرق ووُجِد من يقتل النفوس بغير حق، لكن كان تقام عليهم الحدود ويؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، كذلك في بلدنا هذا تُقام الحدود ولله الحمد، ويُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، وإن كان النقص موجودًا .
أمّا أن يُقال : لا بد من تأسيس جديد ومن إقامة أمة جديدة؛ فهذا من الباطل الذي يُرادُ به إزالة هذه النعمة الموجودة في هذه البلاد، وهو مما يحسدنا عليه الأعداء ويريدون إزالته عنا .
220 ـ ما هي جماعة التّبليغ ؟ وما هو منهجُها الذي تسير عليه ؟ وهل يجوز الانضمام إليها والخروج مع أفرادها - كما يقولون - للدّعوة، ولو كانوا متعلّمين وأهل عقيدة صحيحة كأبناء هذه البلاد مثلاً ؟
القاعدة التي يجب اتِّباعُها : أنَّ الجماعة التي يجب الانضمام إليها والسَّيرُ معها والعملُ معها هي الجماعة التي تسير على ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، أمَّا ما خالفها؛ فإنه يجب أن نتبرَّأ منه .(26/13)
نعم؛ يجب علينا أن ندعُوَهم إلى الله، وأن نبيِّنَ أخطاؤهم، وأن ندعُوَهُم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السّلف الصَّالحُ؛ لأنَّ هذا واجبٌ علينا، أمّا أن ننضمَّ إليهم، ونخرج معهم، ونمشي على تخطيطهم، ونحن نعلم بأنهم على تخطيط غير صحيح؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه ولاء لغير الجماعة المتمسِّكة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
221 ـ ما حكم وجود مثل هذه الفرق - التَّبليغ والإخوان وغيرها - في بلاد المسلمين عامَّة ؟
هذه الجماعات الوافدة يجب ألا نتقبَّلها؛ لأنها تريد أن تنحرف بنا وتفرِّقنا؛ تجعل هذا تبليغيًّا وهذا إخوانيًّا وهذا كذا ! لم هذا التّفرُّق ؟ هذا كفر بنعمة الله سبحانه وتعالى، نحن على جماعة وعلى وحدة وعلى بيِّنةٍ من أمرنا، لماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ لماذا نتنازل عمّا أكرمنا الله سبحانه وتعالى به من الاجتماع والإلفة والطّريق الصحيح وننتمي إلى جماعات تفرِّقُنا وتشتِّتُ شملنا وتزرعُ العداوة بيننا ؟ هذا لا يجوز أبدًا .
222 ـ في الختام نشكر لفضيلتكم التّكرُّم بالإجابة على الأسئلة، ونودُّ التّكرُّم بتوجيهٍ للذين اغترُّوا بمثل هذه الجماعات وانضمُوا إليها أو دَعوا بدعوتها .(26/14)
ندعو جميع شباب المسلمين إلى الرجوع عن الخطأ، وأن ينضمُّوا إلى الفرقة الناجية المتمثِّلة في زماننا هذا - ولله الحمد - فيما كان عليه علماء هذه البلاد الحقيقيُّون وشعبُها وكلُّ من سار على هذا المنهج من المسلمين في سائر بقاع الأرض؛ فكلُّهم نشئوا على التَّوحيد، وساروا على الجادَّة الصَّحيحة؛ فنحن على بيِّنة من أمرنا، فننصح شبابنا أن يسيروا مع هذه الدّعوة ومع هذه الجماعة ومع هذه الأمة التي تسير على المنهج الصّحيح، وألا تلتفت إلى الفرق وإلى الجماعات وإلى الحزبيّات وإلى المخالفات؛ لأنّ هذا يسلب هذه النعمة عنهم، ويشتِّتُ جماعتنا، ويفرِّقُ بين قلوبنا، وهذا التّعادي الذي يحصُلُ بين الشّباب الآن هو بسبب النَّظر إلى مثل هذه الجماعات، والاغترار بها، وترويج أفكارها .(26/15)
وأدعوهم إلى التّمسُّك بالعقيدة الصَّحيحة، وبالمنهج الصَّحيح، الذي يدعو إلى الكتاب والسّنّة بفهم السَّلف الصَّالح، والذي يمثِّلُ منهج الفرقة الناجية، والتي تبنَّتها بلادنا منذ أكثر من مئتي سنة، والمتمثِّل بدعوة المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب، الذي هو امتداد لدعوة السَّلف الصَّالح، والتي جدَّدها شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلامذته من بعده؛ فإنَّ بلادنا قائمة على التَّوحيد، وناجحةٌ، وحتى الأعداء دوَّنوا اعترافاتهم بأننا نعيش في أرقى أنواع الأمن في العالم والاستقرار والسَّلامة؛ فلماذا نستبدل هذه النِّعمة بأفكار الآخرين التي ما نفعت في بلادها؛ فهذه الدَّعوات وهذه الجماعات ما نفعت في بلادها، ولا كوَّنت في بلادها جماعة إصلاحيَّةً، ولم تنتج في بلادها خيرًا، لم تحوِّلها من علمانيّةٍ أو وثنيّةٍ أو قبوريّةٍ إلى جماعة إسلامية صحيحة، بل هذه الجماعات ليس لديها أيُّ اهتمام في العقيدة؛ فهذا دليل على عدم صلاحها؛ فلماذا نحن نعجب بها ونروِّج لها وندعو لها ؟ { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 . ] .(26/16)
ولي أمر المسلمين
223 ـ يفهم كثير من الشّباب اليومَ معنى قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 . ] ؛ أنهم الذين يذكرون أخطاء الحكّام على المنابر وأمام الملأ وفي الأشرطة المسجّلة، ويحصرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك أيضًا؛ نرجو توجيه هؤلاء هداهم الله إلى السُّلوك الصَّحيح، وتوضيح المعنى الصحيح لهذه الآية، وبيان حكم أولئك الذين يتكلَّمون في الحكّام علنًا .
يقول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 . ] ؛ هذه الآية في كل من قال كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ طاعة لله تعالى، ولم يترك النّصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من أجل الناس أو من خشية الناس؛ فإنّ هذا هو الملومُ .
ولكنّ قضية النّصيحة والدّعوة إلى الله؛ كما قال الله تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، والله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون لمّا أرسلهم إلى فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 . ] ، وقال تعالى في حق نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 . ] .(27/1)
فالنّصيحة للحكّام تكون بالطُّرق الكفيلة بوصولها إليهم من غير أن يُصاحبها تشهير أو يصاحبها استنفار لعقول النّاس السّذّج والدَّهماء من الناس، والنّصيحة تكون سرًّا بين النَّاصح وبين وليِّ الأمر : إمّا بالمشافهة، وإمّا بالكتابة له، وإمّا أن يتّصل به ويبيّن له هذه الأمور، ويكون ذلك بالرِّفق، ويكون ذلك بالأدب المطلوب .
أمّا النّصيحة لولاة الأمور على المنابر وفي المحاضرات العامَّة؛ فهذه ليست بالنَّصيحة، هذا تشهير، وهذا زرع للفتنة والعداوة بين الحكّام وشعوبها، وهذا يترتّب عليه أضرار كبيرة، قد يتسلَّط الولاة على أهل العلم على الدُّعاة بسبب هذه الأفعال؛ فهذه تفرِزُ من الشُّرور ومن المحاذير أكثر ممّا يُظَنُّ فيها من الخير .
فلو رأيت على شخص عاديٍّ ملاحظة، أو وقع في مخالفة، ثم ذهب إلى الملأ، وقلت : فلان عمل كذا وكذا ! لاعتُبِرَ هذا من الفضيحة وليس من النّصيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن سترَ مسلمًا؛ ستره الله في الدّنيا والآخرة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/98 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه . ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينبِّهَ على شيء؛ لا يخصُّ قومًا بأعيانهم، بل يقول : ( ما بالُ أقوامٍ يفعلونَ كذا وكذا ) (1)؛ لأنّ التّصريح بالأسماء يفسد أكثر ممّا يصلح، بل ربّما لا يكون فيه صلاحٌ، بل فيه مضاعفة سيّئةٍ على الفرد وعلى الجماعة .
طريق النّصيحة معروف، وأهل النّصيحة الذين يقومون بها لا بدَّ أن يكونوا على مستوىً من العلم والمعرفة والإدراك والمقارنة بين المضارِّ والمصالح والنظر في العواقب .(27/2)
ربّما يكون إنكار المنكر منكرًا؛ كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (2)، وذلك إذا أنكر المنكر بطريقة غير شرعيَّةٍ؛ فإنّ الإنكار نفسه يكون منكرًا؛ لما يولِّدُ من الفساد، وكذلك النَّصيحة ربَّما نسمِّيها فضيحة ولا نسمِّيها نصيحة، نسمِّيها تشهيرًا، نسمِّيها إثارة، ونسمِّيها زيادة شرٍّ وفتنة، إذا جاءت بغير الطّريق الشرعيِّ المأمور به .
224 ـ نقطة أخيرة أريد أن أستوضحها في هذه المسألة، وهي تتعلَّق بالمفتئت ( المتعدِّي ) على حق السُّلطان؛ ما حكم من نفَّذ حدًّا على أحد من الناس؛ فهناك من يدَّعي بأن ليس للسُّلطان أكثر من السّجن ؟
لا يجوز الافتئاتُ على السُّلطان والتّعدِّي على صلاحيَّات سلطان المسلمين، ومن قتل أحدًا بغير حكم شرعيٍّ، وإنما قتله بموجب رأيه هو؛ فهذا يقام عليه القِصاصُ إذا طالب وليُّ المقتول؛ إلا إذا ثبت شرعًا أنَّ المقتول مرتدٌّ عن الإسلام؛ فلا قصاص عليه، لكن للسُّلطان أن يؤدِّبَه لتعدِّيه على صلاحيَّاته بما يراه رادعًا .
225 ـ ماذا عن الحدِّ تعزيرًا ؟
أحيانًا يصلُ التّعزير إلى القتل، إذا رأى وليُّ أمر المسلمين أنّ هذا المفسد لا يندفع شرُّه إلا بالقتل؛ فإنه يقتُلُه .
226 ـ الدّين النّصيحة، والنّصيحة أصلٌ من أصول الإسلام، ومع هذا نجد بعض الإشكال فيما يتعلَّق بمعنى النّصيحة لولاة الأمر، وحدودها، وكيف تُبذلُ ؟ وكيف يُتدرَّجُ ؟ ومن أبرز الإشكالات تلك المتعلِّقة بالتَّغيير باليد؛ هل لكم في إيضاح هذه المسألة ؟
النبي صلى الله عليه وسلم وضَّح هذا وقال : ( الدِّينُ النَّصيحةُ ) . قُلنا : لِمَن ؟ قال : ( لله، ولكتابه،ولرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] .(27/3)
النّصيحة لأئمّة المسلمين تكون بطاعتهم بالمعروف، وتكون بالدُّعاء لهم، وبيان الطّريق الصّحيح لهم، وبيان الأخطاء التي قد تقع منهم من أجل تجنُّبها، وتكون النَّصيحة لهم سرّيّة بينهم وبين النّاصح، وتكون أيضًا بالقيام بالأعمال التي يكلونها إلى موظّفيهم وإلى من تحت أيديهم بأن يؤدُّوا أعمالهم بأمانة وإخلاص . هذا من النّصيحة لوليّ أمر المسلمين .
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم منكرًا؛ فليغيّرهُ بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
ومعنى ذلك أنّ المسلمين على ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : من عنده العلم والسُّلطة؛ فهذا يغيِّرُ المنكر بيده، وذلك مثل ولاة الأمور ومثل رجال الهيئات والحسبة الذين نصّبهم وليّ الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، هؤلاء يغيّرون بأيديهم بالطّريقة الحكيمة المشروعة .
وهناك من عنده علم، وليس عنده سلطة؛ فهذا يغيّر بلسانه؛ بأن يبيّن للناس حكم الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، ويأمر وينهى، ويرشد ويعظ وينصح، هذا من الإنكار باللسان .
وهناك من ليس عنده علم، وليس عنده سلطة، ولكنّه مسلم؛ فهذا عليه أن يُنكر المنكر بقلبه؛ بأن يكره المنكر وأهل المنكر، ويبعد نفسه عن الاجتماع بأهل المنكر؛ لئلا يؤثِّروا عليه، هذه هي درجات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
227 ـ هناك من يسوّغُ للشّباب الخروج على الحكومات دون الضّوابط الشّرعيّة؛ ما هو منهجنا في التّعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم ؟(27/4)
منهجنا في التّعامل مع الحاكم المسلم السَّمعُ والطّاعة؛ يقول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 . ] . والنبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ في الحديث يقول : ( أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطّاعة، وإن تأمّر عبدٌ؛ فإنّه مَن يَعِش منكم؛ فسوف يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ) (3)؛ هذا الحديث يوافق الآية تمامًا . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( مَن أطاع الأميرَ؛ فقد أطاعني، ومَن عصى الأمير؛ فقد عصاني ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 4/7-8 ) . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في الحثِّ على السّمع والطّاعة، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( اسمع وأطِع، وإن أُخِذ مالُك، وضُرِبَ ظهرُك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1476 ) من حديث حذيفة رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] .
فوليُّ أمر المسلمين يجب طاعته في طاعة الله، فإن أمر بمعصيةٍ؛ فلا يطاع في هذا الأمر ( يعني : في أمر المعصية ) ، لكنّه يُطاع في غير ذلك من أمور الطّاعة .(27/5)
وأمّا التعامل مع الحاكم الكافر؛ فهذا يختلف باختلاف الأحوال : فإن كان في المسلمين قوَّةٌ، وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم؛ فإنه يجب عليهم ذلك، وهذا من الجهاد في سبيل الله . أمّا إذا كانوا لا يستطيعون إزالته؛ فلا يجوز لهم أن يَتَحَرَّشوا بالظَّلمة الكفرة؛ لأنَّ هذا يعود على المسلمين بالضَّرر والإبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة ثلاثة عشرة سنة بعد البعثة، والولاية للكفَّار، ومع من أسلم من أصحابه، ولم يُنازلوا الكفَّار، بل كانوا منهيِّين عن قتال الكفَّار في هذه الحقبة، ولم يُؤمَر بالقتال إلا بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم وصار له دولةٌ وجماعةٌ يستطيع بهم أن يُقاتل الكفَّار .
هذا هو منهج الإسلام : إذا كان المسلمون تحت ولايةٍ كافرةٍ ولا يستطيعون إزالتها؛ فإنّهم يتمسَّكون بإسلامهم وبعقيدتهم، ويدعون إلى الله، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابهة الكفّار؛ لأنّ ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدّعوة، أمّا إذا كان لهم قوّةٌ يستطيعون بها الجهاد؛ فإنّهم يجاهدون في سبيل الله على الضّوابط المعروفة .
228 ـ هل المقصود بالقوّة هنا القوّة اليقينيّة أم الظّنّيّةُ ؟
القوّة معروفة؛ فإذا تحقّقت فعلاً، وصار المسلمون يستطيعون القيام بالجهاد في سبيل الله، عند ذلك يُشرعُ جهاد الكفّار، أما إذا كانت القوّة مظنونةً أو غير متيقّنةٍ؛ فإنه لا تجوز المخاطرة بالمسلمين والزَّجُّ بهم في مخاطرات قد تؤدّي بهم إلى النّهاية، وسيرةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكّة والمدينة خير شاهد على هذا .
229 ـ بعض الناس يعيب على خطباء الجوامع الدعاء لولاة الأمر على المنبر؛ فما توجيه فضيلتكم حيال ذلك ؟(27/6)
من قال ذلك؛ فالعيب فيه هو وليس في الخطباء . الخطباء إذا دعوا لولاة الأمور؛ فهم على السنة ولله الحمد؛ لأن الدعاء لولاة الأمور من النصيحة لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدِّينُ النَّصيحةُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] ، ومن النّصيحة وأعظم النصيحة الدعاء للمسلمين ولولاة أمورهم، هذا من أعظم النصيحة .
والإمام أحمد رحمه الله كان يُعذِّبُ من قبل الوالي، فيُضرَبُ ويُجَرُّ، ومع هذا كان يقول : لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، وذلك لأن السلطان إذا صلح؛ أصلح الله به البلاد والعباد، فالدعاء لولاة الأمور أمر مستحب موافق للسنة وعمل المسلمين، وما زال المسلمون يدعون لولاة الأمور على المنابر، يدعون لهم بالصلاح والهداية، ولا ينكر هذا إلا جاهل أو مغرض يريد الفتنة بين المسلمين، وإذا كان الكافر يُدعى له بالهداية؛ فكيف لا يُدعى للمسلم بالهداية والصلاح .
230 ـ العلاقة بولي الأمر حددها الإسلام دون شك؛ فهل نستطيع القول : إن له حقوقًا ملزمة لا يجوز للمسلم تجاوزها، كما أن للوالد حقًا لا يجوز تجاوزه ؟
لولي أمر المسلمين حق الطاعة بالمعروف؛ لقوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السَّمع والطَّاعةُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1469 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فعليكم بتقوى الله والسَّمع والطّاعة وإن تأمَّر عليكم عبد ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ، ومَن لم يُطِع ولي الأمر فقد عصى الله ورسوله .(27/7)
ومن حقوق ولي الأمر النّصيحة له بالمشورة الصالحة وإرشاده إلى الصواب والقيام بالعمل الذي يعهد به إلى أحد المسلمين من الأمراء والموظفين؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( الدِّين النَّصيحة ) . قلنا : لِمَن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسولِهِ ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] .
231 ـ وهل ترون أن التقصير في مناصحة ولاة الأمر أيًّا كانوا تفريط بحق الإسلام والمسلمين ونزعة هوى تؤذن بالشر ؟ وكيف ؟ ولكن البعض يظن أنه لا يجد أذنًا سامعة أو سيجد إجابات دبلوماسية ؟
التقصير في نصيحة ولي الأمر تُعتبرُ خيانة له وعدم قيام بحقه . ولكن لابد أن تكون النصيحة بالطرق الشرعيّة فيما بينهم وبين النّاصح، لا بالتّشهير على المنابر وفي المجامع أو في الأشرطة والمنشورات التي تُحدِثُ البلبلة ويستغلها المغرضون؛ فإنّ هذه الطريقة ليست نصيحة، وإنما هي إثارة وفضيحة وتفريق للكلمة، ومن قام بالنّصيحة بالطريقة الشرعيّة؛ فالغالب أنه يحصل بها المقصود أو بعضه؛ فإن لم يحصل لها تأثير؛ فقد برئت ذمّة النّاصح وحصل على الثّواب من الله .(27/8)
الشباب
232 ـ القدوة نِبراسٌ يضيء الطّريق للآخرين؛ فكيف يختار الشّباب المسلم قُدرته ؟ وما هو السّبيل إلى السّعادة والطّمأنينة في نفوس الشّباب ؟
تكون القدوة الصّالحة للشّباب في الآباء الصّالحين، والمدرّسين المستقيمين، والدُّعاة المصلحين، والمجتمع الإسلامي النَّظيف، والبيئة الصَّالحة التي يعيش فيها شباب المسلمين، وذلك ممَّا يؤكِّدُ على المسلمين العناية بتربية أولادهم وشبابهم على ضوء الإسلام وحمايتهم من التّيّارات المؤثّرة الضّارّة، والله الموفّق .
ويشعر الإنسان بالسّعادة إذا تمسّك بالإسلام دينًا وتخلّق بأخلاقه وآدابه؛ قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ يونس : 62-64 . ] ، وقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 . ] ، وقال تعالى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } [ طه : 123 . ] . . . إلى غير ذلك من الأدلة، وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 . ] .
233 ـ فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياك في الجنة وجميع إخواننا المسلمين وبعد : يا فضيلة الشيخ : نرجو منك توجيه نصيحة للشباب في هذه المدينة، والسبب أن بينهم فجوة كبيرة؛ فكلٌّ يقول : إنه على الحق، والله يعلم من معه الحق؛ فنرجو أن توجهوا نصيحة في طلب العلم وكيف ينهجون خاصة في بداية تعلمهم وفي بداية طلبهم للعلم ؟(28/1)
بسم الله الرحمن الرحيم . لا شك أن الشيطان لعنه الله يريد أن يُفَرِّق بين المسلمين، وكذلك أعوان الشيطان من بني الإنسان يريدون أن يفرقوا بين المسلمين؛ شبابهم وشيبهم، هذا أمر معروف منذ تعهد الشيطان بذلك حين قال ما ذكره الله عنه : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 62-65 . ] ؛ يعني آدم عليه السلام . هذا مهنة الشيطان، ولا يقاوم الشيطان وأعوان الشيطان إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك، مع الرجوع لأهل العلم والبصيرة بالتعلم منهم ومشاورتهم، ثم الحذر من الدسائس التي تتخلل المجتمع من هنا وهناك على أيدي دعاة السوء الذين يريدون أن يُفرِّقوا هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع في هذه البلاد ولله الحمد ما زال بخير، يمتاز به على سائر الناس في البلدان الأخرى . . . يحكم فيه شرعُ الله سبحانه وتعالى، والولاية فيه ولله الحمد ولاية مسلمة مؤمنة؛ لا نقول : إن عندها الكمال في كل شيء، وما عندنا من النقص يمكن إصلاحه بالمناصحة الشرعية، كذلك هذه البلاد على عقيدة التوحيد، ليس فيها قباب أو أضرحة تُعبَدُ من دون الله، ليس فيها مزارات شركية كما في البلاد الأخرى، وهي بلاد الحرمين الشريفين، ترفل بالأمن والاستقرار، نأمن على أنفسنا وأموالنا وعلى أولادنا، بينما البلاد الأخرى على تخوف .(28/2)
فكروا يا عباد الله بهذه النعمة، والنعمة تستوجب الشكر؛ فإن لم تُشكر؛ فإنها تزول { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 . ] ؛ فعلى شباب المسلمين أن يتذكَّرُوا هذه النعمة، وأن يسعوا في بقائها وإصلاح ما يحصل فيها من خلل بالطرق الصحيحة، وعليهم أن يحذروا كل الحذر من المفسدين الذين يتسمون باسم الدعوة وباسم الإسلام، وهم ينشرون العداوة والأحقاد بين المسلمين، ويتصيدون في الماء العكر، ويتلمسون الزلات البسيطة ليكبروها، حتى يجعلوها كأنها جرائم ليس لها علاج وليس لها إصلاح، وأنها كفر، وأنها، وأنها .
علينا أن نحذر من هذا النوع من الناس، وإن تلبسوا باسم الإسلام وباسم الدعاة؛ لأن الدّاعية من صفاته الإخلاص والسعي بالإصلاح والسعي بإزالة الفرقة بين المسلمين .
أما هذه الدعوة التي تُفرِّقُ بين الناس وتشتتهم؛ فهذه دعوة إلى الفتنة؛ فالذي يُشَهِّر بالأخطاء والذي ينشر المخازي والذي يُقَنِّط الناس من الإصلاح؛ فهذا داعية سوء، علينا أن نحذر من أمثال هؤلاء، وأن نعود إلى رشدنا، وأن نشكر نعمة الله علينا، وأن نُقبِل على تعلم العلم النافع، وأن نُزِيل ما بيننا من الاختلاف بالرّجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 . ] .
234 ـ الرَّجاء منكم إعطاؤنا كلمة تؤلِّفُ بين الشّباب، وتُبعِدُهُم عن الفرقة والاختلاف؛ لأنّ الفرقة والاختلاف شرٌّ؛ كما لا يخفى عن فضيلتكم .(28/3)
نعم؛ نحن والله لا نودُّ لإخواننا وأبنائنا وجميع المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها، لا نودُّ لهم إلا الخير، ولا نودُّ لهم إلا الاجتماع على الخير، ولا نُبغِضُ أحدًا من أجل شخصه، وإنّما نُبغِضُ من أبغضَهُ الله ورسولهُ، نُبغِضُ أعداء الدِّين وأهل الضلال، هؤلاء نُبغضُهم؛ لأنّ الله يُبغِضُهم، لا نُبغِضُ الأشخاص من أجل أشخاصهم، وإنما نبغض المناهج المنحرفة والمناهج الضّالّة، ونُبغِضُ من تمسَّكَ بها وأبى أن يرجِعَ عنها، هذا نُبغِضُهُ، هذا من الموالاة في الله والمعاداة في الله، مع رجائنا أنّ المخالف يرجع إلى الصّواب؛ لأنه أخونا، نريدُ له الخير .
فنحن نوصي الشّباب أن يتركوا الفُرقة والاختلاف، وأن يَعرِضوا ما حصل بينهم على أهل العلم، هُم لا يمكنهم أن يرجعوا إلى الكتاب والسّنّة؛ لأنهم قد لا يتمكّنون من هذا؛ لقصور علمهم، ولكن يرجعون إلى أهل العلم، ويقول أحدهم : أنا أقول كذا، وفلان يقول كذا، أيُّنا على الصّواب ؟ ويصدُرون عن أهل العلم لبيان الحقِّ .
هذا الذي نريد لهم؛ أن يرجعوا إلى أهل العلم : إمّا بالمشافهة إذا حضروا عندهم، وإمّا بالكتابة؛ يكتبون إلى العلماء، ويشرحون لهم القضيّة؛ يقولون : أيُّنا على الصَّواب ؟ نحن نقول كذا، وفلانٌ يقول كذا، دليل فلان كذا، ودليل فلان كذا، أيُّنا على الصَّواب ؟ ثم يأخذون الإجابة الصّحيحة إن شاء الله .
ويكتبون إلى أهل العلم الموثوقين والمعروفين بعلمهم، ويصدُّرون عن إرشادهم وتوجيههم، هذا هو الذي أوصيكم به .
235 ـ أمسى الشباب الذين كانوا موضع الفرح بصحوتهم محل استهجان البعض؛ لعدم انضباط الشباب بالضابط الشرعي الرزين؛ فما هو تعليقكم ؟(28/4)
الشباب الذي مَنَّ الله عليه بالهداية والرغبة بالتمسك بالدين يجب تشجيعه وتوجيهه إلى طريق الصواب وتعليمه أحكام الدين الصحيح وحمايته من التيارات والأفكار المشبوهة والمناهج المنحرفة التي تتسمى بالإسلام وهي تريد الكيد له والصّدّ عنه؛ فإن المنافقين من قديم الزمان وما زالوا يتسمَّون بالإسلام ظاهرًا ويحاربونه باطنًا، { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 . ] ، { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [ البقرة : 9 . ] .
236 ـ ما هي توجيهات فضيلتكم لبعض شباب الصّحوة الذين يستعجلون في ممارسة الدّعوة وإصدار الفتاوى بغير علم ؟
لا شك أنّ الدّعوة إلى الله تعالى واجبة على من عنده الاستطاعة للقيام بها عمليًّا وبدنيًّا وعقليًّا، ومن لا يستطيع القيام بالدّعوة؛ فإنه يدعو للمسلمين بالتّوفيق والنّصر، وإن كان ذا مالٍ؛ فإنّه يساعد على الدّعوة بماله؛ من طبع الكتب، وتوزيعها، وإعانة الدُّعاة إلى الله .
وأمّا الفتوى؛ فإنّها منصبٌ خطيرٌ، لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا ممّن هو مؤهّلٌ بالعلم الذي تلقّاهُ عن ثقات العلماء، ولا يفتي إلا عند الضّرورة، إذا لم يوجد من هو أعلم منه .
237 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ أن تُبيِّنوا لنا علاقة الشباب بالعلماء وما الذي ينبغي أن يكونوا عليه؛ لأنه يوجد من ينتقص من علمائنا الكبار ويختار دعاة الشباب ؟(28/5)
هذا خطر عظيم، إذا حصل انفصال بين العلماء وبين الشباب، حصل الخطر العظيم؛ لأن الشباب إذا انفصلوا عن علمائهم؛ تولاهم دعاة السوء وحَرفُوهم عن الحق، كالذئب يحاول فصل الغنم عن الراعي من أجل أن يعبث بها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنّما يأكُلُ الذّئبُ مِنَ الغنم القاصية ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/196 ) ورواه أبو داود في سننه ( 1/147 ) ورواه النسائي في سننه ( 106، 107 ) كلهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . بدون ذكر ( من الغنم ) . ] ؛ فالتي تخرج عن جماعتنا وعن منهجنا هذه يأكلها الذئب، والذئب هنا من دعاة السوء .
فعلى شباب المسلمين أن يرتبطوا بعلمائهم، وعلماء هذه البلاد - ولا نزكي على الله أحدًا - الذي نعلم من حالهم أنهم من خيرة الناس وأنهم من أصلح الناس ولله الحمد؛ لأنهم نشئوا على عقيدة سليمة، وتعلموا من مشايخهم علمًا صحيحًا، تفقهوا في دين الله على يد علمائهم، وعلماؤهم تفقهوا على من قبلهم، وهكذا . . . الخط ماش ولله الحمد، فلا تزهدوا في علماء هذه البلاد .
وجربتم الفرق بين علماء هذه البلاد وبين غيرها، أنا لا أنتقص العلماء الآخرين، ولكن أقول : علماؤنا معروفون لدينا، نثق بهم ونعرف من أين تعلموا ومن أين أخذوا العلم وأين نشئوا، فهم معروفون لدين، أما غيرهم من العلماء الآخرين؛ فلا نطعن فيهم، ولكن نقول : نحن لا نعرف من أين أخذوا العلم، ولا نعرف من أين تعلموا، لا نعرف مستواهم العلمي، لا نعرف مقاصدهم ونياتهم؛ فنحن نتوقف في أمرهم وفي شأنهم، لا نطعن فيهم ولا نسارع في الثقة بهم من غير معرفة .
أنتم تعرفون منهج رواة الحديث : إذا كان الراوي مجهولاً لا تُعرَفُ حالَتُه؛ توقفوا عن الرواية عنه؛ لأنهم لا يريدوا أن يغامروا ويمنحوا الثقة لكل أحد؛ من يعرفون ومن لا يعرفون .(28/6)
هذا دين، والدين لابد أن يؤخذ عن توثق وعن يقين وعن معرفة وعن بصيرة، وعلماء هذه البلاد حسب علمنا بهم أنهم ولله الحمد من خيرة العلماء، ما قصَّروا في تعليمنا وفي توجيهنا وفي إرشادنا؛ فلماذا يرخصون علينا، ونزهد فيهم، ونلتمس العلم عن غيرهم، ونلتمس التوجيه من غيرهم ؟ هذا خطأ عظيم .
238 ـ لقد انتشر بين الشّباب فكر جديد ورأي جديد، وهو أنّهم يقولون : لا نُبَدِّعُ من أظهر بدعة حتى نقيم عليه الحُجَّة، ولا نبدِّعُهُ حتى يقتنع ببدعته؛ دون الرُّجوع إلى أهل العلم والفتوى؛ فما هو منهج السّلف في هذه القضيّة الهامّة ؟
البدعة هي ما أُحدِثَ في الدّين من زيادة أو نقصان أو تغيير، من غير دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( وإيّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 3/188، 189 ) من حديث جابر بن عبد الله، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " بدون ذكر " وكل ضلالة في النار " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه(4). ] ، وقال تعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 . ] .(28/7)
فالبدعة إذًا إحداث شيء في الدين، ولا تُعرَفُ بآراء هؤلاء ولا بأهوائهم، وليس الأمر راجعًا إليهم، وإنما الأمر راجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فليست السّنّة ما تعارفه الناس والبدعة ما لم يتعارفوه، أو السنة ما رضي به زيد أو فلان . . . فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلنا إلى عقولنا أو آراء الناس، بل أغنانا بالوحي المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالسّنّة ما جاء بها الرّسول صلى الله عليه وسلم، والبدعة ما لم يأت بها الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ من الأقوال والأفعال .
ليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو أنه سنّة حتى يعرضَهُ على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمّا إن فعله عن جهل، وظنّ أنّه حقٌّ، ولم يُبيّن له؛ فهذا معذورٌ بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعًا، ويكون عمله هذا بدعة، ونحن نعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أنّ عمله هذا بدعة .
وننصح الشّباب الذين يسلُكون هذا المنهج، ويحكمون على الأشياء حسب أهوائهم : أن يتَّقوا الله سبحانه وتعالى، وأن لا يتكلَّموا في الدّين إلا عن علم ومعرفة .
لا يجوز للجاهل أن يتكلّم عن الحلال والحرام، والسّنّة والبدعة، والضّلالة والهُدى، بدون علم؛ فإنّ هذا قرين الشّرك؛ قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 . ] ؛ فجعل القول على الله بلا علم مع الشّرك؛ ممّا يدلّ على خطورته .(28/8)
فأمور الدّين وأمور العلم لا يجوز الكلام فيها إلا على بصيرة وبيّنة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس الكذب على الله كالكذب على غيره، وليس الكذبُ على الرّسول صلى الله عليه وسلم كالكذب على غيره؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن كذبَ عليّ مُتعمّدًا؛ فليتبوّأ مقعده من النّار ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/35-36 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، (5) ] ، وقال سبحانه وتعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 32 . ] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتكلّم في أمور الدّين والحكم على الناس إلا بالعلم والدّليل والبيّنة من كتاب الله وسنّة رسوله .
239 ـ لقد تفشَّى بين الشّباب ورعٌ كاذبٌ، وهو أنهم إذا سمعوا النّاصحين من طلبة العلم أو العلماء يحذّرون من البدع وأهلها ومناهجها، ويذكرون حقيقة ما هم عليه، ويردُّون عليهم، وقد يوردون أسماء بعضهم، ولو كان ميِّتًا؛ لافتتان الناس به، وذلك دفاعًا عن هذا الدّين، وكشفًا للمتلبّسين والمندسّين بين صفوف الأمّة؛ لبثِّ الفرقة والنّزاع فيها، فيدَّعون أنّ ذلك من الغيبة المحرَّمة؛ فما هو قولُكم في هذه المسألة ؟
القاعدة في هذا التّنبيه على الخطأ والانحراف، وتشخيصُه للناس، وإذا اقتضى الأمر أن يصرَّحَ باسم الأشخاص، حتى لا يُغتَرَّ بهم، وخصوصًا الأشخاص الذين عندهم انحراف في الفكر أو انحراف في السّير والمنهج، وهم مشهورون عند الناس، ويُحسِنون بهم الظّنّ؛ فلا بأس أن يُذكَروا بأسمائهم، وأن يُحذَّرَ منهم .
والعلماء بحثوا في علم الجرح والتّعديل، فذكروا الرُّواة وما يُقالُ فيهم من القوادح، لا من أجل أشخاصهم، وإنما من أجل نصيحة الأمة أن تتلقّى عنهم أشياء فيها تجنٍّ على الدِّين أو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(28/9)
فالقاعدة أولاً أن يُنَبَّهَ على الخطأ، ولا يُذكرَ صاحبُه، إذا كان يترتَّب على ذكره مضرَّةٌ، أو ليس لذكره فائدة، أمّا إذا اقتضى الأمر أن يصرَّحَ باسمه لتحذير الناس منه؛ فهذا من النّصيحة لله وكتاب ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، خصوصًا إذا كان له نشاط بين الناس، ويحسنون الظّنّ به، ويقتنون أشرطته وكتبه، لا بدّ من بيان وتحذير الناس منه؛ لأنّ في السُّكوت ضررًا على الناس؛ فلا بدّ من كشفه، لا من أجل التّجريح أو التّشفّي، وإنما من أجل النّصيحة لله وكتابه ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم .
240 ـ من الأشياء المؤسفة اليوم ما نجده من حرص البعض على تصنيف الناس والاستمتاع بهذا ؟
لا يجوز للمسلم أن يشغل نفسه بالكلام في الناس وتفريق كلمة المسلمين والحكم على الناس بغير علم؛ لأنّ هذا من الفساد؛ قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 . ] .
والواجب على المسلم أن يسعى بالإصلاح وجمع الكلمة والسّعي في توحيد الصّفّ على الحقّ، لا أن يفرّق المسلمين ويصنّفهم إلى جماعات أو إلى فرق أو إلى غير ذلك، بل المطلوب منه إذا رأى شيئًا من الخلل في المسلمين أن يسعى إلى إصلاحه، فإذا رأى فرقة؛ يسعى إلى جمع كلمة المسلمين .
هذا هو المطلوب من المسلم؛ أن يدعو إلى جمع الكلمة، وإزالة أسباب الفرقة؛ لأنّ هذا من أعظم النّصيحة لأئمّة المسلمين وعامّتهم .
241 ـ ما هي المسائل التي يجوز الاختلاف فيها ؟ وتلك التي ينبغي التّوقُّفُ عن الخلاف فيها ؟ وما واجب المسلمين تُجاه دينهم ؟
الاختلاف على قسمين :
القسم الأول : الاختلاف في مسائل العقيدة، وهذا لا يجوز؛ لأنّ الواجب على المسلمين اعتقاد ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وعدم التّدخُّل في ذلك بعقولهم واجتهاداتهم؛ لأنّ العقيدة توقيفيّة، ولا مجال للاجتهاد والاختلاف فيها .(28/10)
القسم الثاني : اختلاف في المسائل الفقهيَّة المستنبطة من النُّصوص، وهذا لابدّ منه؛ لأنّ مدارك الناس تختلف، ولكن يجب الأخذ بما ترجّح بالدّليل من أقوالهم، وهذا هو سبيل الخروج من هذا الخلاف .
ويجب على المسلم أن يهتمَّ بأمور دينه، ويحافظ على أداء ما أوجب الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه، وأن يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة مع إخوانه، وأن يصدُقَ في معاملته، ويحفظ أمانته، ويكون قدوةً صالحةً لغيره .
ويجب أن يتربَّوا على التّمسّك بالدّين والأخلاق الفاضلة، وأن يبتعدوا عن الأخلاق الرّذيلة وقرناء السُّوء، وأن يهتمُّوا بما ينفعهم في دينهم ودُنياه، وأن يكونوا قوَّة للإسلام والمسلمين .
242 ـ الصّحوة الإسلاميّة تعبير شائع هذه الأيام لما نُطلِقُ عليه المدّ الإسلامي والعودة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ماذا تقولون عنه ؟ وبماذا تنصحون الشّباب ؟
كلمة الصحوة التي شاعت على ألسنة الناس في هذه الأيام كلمة تحتاج إلى تأمّل؛ خصوصًا في هذه البلاد التي ما زالت ولن تزال بإذن الله متمسّكة بالإسلام، ولم تكن غافلةً عنه أو نائمة ثمّ استيقظت وصحت؛ فهذا التّعبير إن صحّ في بعض المجتمعات؛ فإنه لا يصحُّ في المجتمع السُّعوديِّ الذي يحكِّمُ كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فهو شعب صالح ومستيقظ . والحمد لله .(28/11)
أمّا ما ننصح به الشّباب؛ فهو تعلُّمُ العلم النّافع على أيدي العلماء، وعدم التّسرّع في الأحكام، وعدم تقبُّلِ الأفكار بدون تمحيص ونظر فيها وفيما تنطوي عليه، بل عليهم أن يتثبَّتوا، وأن يسألوا العلماء، وأن لا يتسرَّعوا، وأن يبتعدوا عن الانفعالات والحماس الذي يوقِعُهُم في الخطأ؛ كما أنصحهم بالبُعد عن الانتماءات التي تُبعِدهم عن منهج الكتاب والسُّنَّة ومذهب أهل السّنّة والجماعة؛ كما قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 . ] ؛ فالاجتماع على الحقِّ رحمةٌ، والفُرقة عذاب .(28/12)
الأمة
243 ـ فضيلة الشيخ : المتابع لوضع الأمة العام لا يجد أن حمل الإسلام ونصرته همًّا عامًّا على مستوى الحكومات، بل العكس قد يتدارى من نازعته العاطفة الإسلامية لخدمة الإسلام . . . لماذا ؟
هذا التعميم لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزالُ طائفة من أُمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرُّهُم مَن خذلَهُم ولا مَن خالفَهُم، حتى يأتي أمرُ الله تبارك وتعالى وهُم على ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
وإننا والحمد لله نرى من حكومة هذه البلاد قيامًا بالواجب نحو الإسلام وتحكيمًا لشريعته - ولو وُجِدَ بعضُ النقص في ذلك، ونرجو الله أن يصلحه .
وأيضًا مهما أصاب المسلمين من المصائب فإن اليأس لا يجوز { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ، وهذا لدين باق بحفظ الله له، وإذا تركه قوم استبدلهم الله بآخرين؛ كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 . ] .
244 ـ هل نستطيع القول : إن جذوة العزة بالإسلام قد انطفأت في الصدور ؟
الإسلام سيبقى بإذن الله مهما اشتدت الخطوب إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة المسيح الدجال كما جاء في الأحاديث (6).
ولا تنطفئ جذوة الإيمان في جميع الناس، بل لا بد أن يبقى لهذا الدين من يحمله ويدافع عنه بإذن الله؛ كما في الحديث الذي سبق ذكره : ( لا تزالُ طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
245 ـ نسمع من يقول بتجديد الإسلام؛ فهل هو محق في قوله ؟(29/1)
إن كان المراد بتجديد الإسلام هو الدعوة إليه وإزالة ما علق به عند بعض المسلمين من الشركيات والبدع والخرافات وبيان الإسلام الصحيح الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه السلف الصالح؛ فهذا تجديد واجب وحق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كلّ مئة سنة من يُجدّد لها دينها (7).
وإن كان المراد بتجديد الإسلام استبدال أحكامه بما يوافق رغبات الناس وأهواءهم من الاجتهادات الخاطئة والآراء المخالفة لهدي الإسلام؛ فهذا تجديد باطل مرفوض، وهذا هو ما ينادي به بعض الجهلة وأصحاب الأفكار الملوثة .
246 ـ ما سبيلنا لإحياء معاني الانتماء للإسلام وسط هذه الغربة والمؤاخذة العالمية للدول المتعاطفة مع الإسلام ؟
سبيلنا هو التمسك بالدين بعد تعلمه ومعرفته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه؛ كما قال تعالى : { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1-3 . ] ؛ فهي أربع درجات : العلم ثم العمل ثم الدعوة إليه ثم الصبر على الأذى فيه .
247 ـ أصبح الإسلام رديفًا لمعاني الإرهاب والوحشية، ألا ترى أن أخطاء بعض المسلمين هي المورِّث الحقيقي لهذه الصورة المنكرة ؟ وما طريق الخلاص ؟(29/2)
الكفار من قديم يحاربون الإسلام ويصفونه بأقبح الصفات تنفيرًا منه { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32 . ] ، ومن ذلك وصفهم له بالإرهاب والوحشية، وينسون أن الإرهاب والوحشية وقتل الشعوب والتسلط على الخلق بغير الحق وكل صفات الذم إنما هي في دين الكفر ومن صفات الكفار، وكون بعض المنتسبين إلى الإسلام تصدر منهم بعض التصرفات الخاطئة - إما عن جهل أو عن قصد سيئ - فإن ذلك لا ينسب إلى الإسلام؛ لأن الإسلام ينهى عن ذلك . وطريق الخلاص من هذا الاتهام السيئ للإسلام أن يُبَيَّن أن فعل هؤلاء الأشخاص ليس من الإسلام وإنما هو تصرف شخصي، وأن كل مسلم فهو عرضة للخطأ وليس هناك معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
248 ـ ما هي أبرزُ القضايا التي تحتاج إلى وقفة المسلمين في هذا العصر ؟
أبرز القضايا التي تحتاج إلى وقفة المسلمين في هذا العصر : قضية الجهل بعقيدة التّوحيد عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والانتماءات إلى المذاهب المخالفة للإسلام، والغزو الفكريُّ الوافد من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام؛ كلُّ هذه القضايا تحتاج إلى وقفة صحيحة ومدافعةٍ قويَّةٍ، وذلك ببيان الإسلام الصحيح بعقيدته وتشريعاته الحكيمة، والتحذير من كلِّ ما خالَفَه من خلال المناهج الدّراسيّة والوسائل الإعلاميّة ونشر الكتب النافعة .
249 ـ الأخطار تُحدق بالأمّة الإسلاميّة من كلّ جانب؛ فما هو أشدُّها خطرًا على الأمّة ؟ وكيف السّبيلُ إلى صدّ هذا الخطر ؟
أشدُّ خطر يواجه الأمة الإسلاميّة هو بعدها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستبدالهما بالقوانين الوضعيّة والمذاهب المنحرفة .(29/3)
وكذلك أشدُّ خطر يواجه الأمّة الإسلاميّة هو الضّلال والانحراف في العقيدة، وتسرُّبُ الأفكار الكفريَّة والشِّركيَّة والبدعيَّة من قبوريَّة وصوفيَّة وبدع وخرافات .
كما أنَّ مِن أشدِّ الأخطار على الأمّة الإسلاميّة تفرُّقَها فيما بينها وعداوة بعضها لبعض .
وعلاج ذلك بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة تعلُّمًا وتعليمًا وحكمًا بين النّاس وتخلُّقًا بأخلاقهما .
250 ـ ماذا تقولون في الغياب عن قضايا العصر ؟ واختلاف العلماء ؟ وصوم الصِّغار ؟ هل تضعوا النُّقط على الحروف حول هذه المسائل ؟
ليس هذا الإطلاق صحيحًا، فليس العالم الإسلاميُّ كلُّه غائبًا عن قضايا العصر، بل هناك والحمد لله من المسلمين من هو على يقظةٍ وتفهُّم لقضايا العصر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزالُ طائفة من أُمَّتي، على الحقّ ظاهرين، لا يضرُّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهُم على ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
علماء هذه البلاد المعتبرون ليس بينهم تباين واختلاف ولله الحمد كما هو موجود عند الفرق الأخرى، وإن قُدِّرَ وجود اختلاف؛ فإنَّما هو في المسائل الاجتهاديّة التي للاجتهاد فيها مسرح، ومع ذلك؛ فهم جماعة واحدة، وأخوة متحابُّون، ولله الحمد .
الصِّغار المميِّزون الذين هم دون البلوغ يؤمرون بالصلاة والصّيام ليتدرّبوا عليهما؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مُروا أولادكم بالصّلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/74 ) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده . ] ، وكان السّلف يصوِّمون صبيانهم، فإذا طلبوا الأكل والشَّراب؛ شغلوهُم ببعض الألعاب (8).(29/4)
251 ـ يقول البعض : إن ذهاب ثمرة الجهاد الأفغاني هو نتيجة طبيعية لعدم اعتماد المنهج الصحيح، ما ردكم ؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن قاتل لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/206 ) من حديث أبي موسى رضي الله عنه . ] ، فما خرج عن هذا الضابط من أنواع القتال فهو ليس في سبيل الله، وبالتالي تكون نتيجته الفشل، وما يحصل عند الأفغانيين الآن لابد أنه نتيجة خلل حاصل، والواجب عليهم مراجعة أنفسهم والرجوع إلى الحق والاحتكام إلى الكتاب والسّنّة؛ قال الله تعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 . ] .
252 ـ إن أعداء الدين يسيرون بخطة مرسومة ونظريات حتى إن طاغوتًا من كبار طواغيتهم قال : إنّه في سنة 2000م ستصبح إفريقيّة كلّها مسيحيّة؛ فلماذا المسلمون لا يتّخذون خططًا مكافئةً لها ؟
الله جل وعلا يقول : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 123 . ] ؛ فإذا قال أهل الكتاب : سيحصل كذا ! وسيتنصَّرُ من الناس كذا ! فهذا لا يضيرُنا، ولا يبعث في نفوسنا القنوط ولا الكسل، وإنّما يبعثنا ويحثُّنا على العمل والجدِّ والاجتهاد في الدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 . ] .(29/5)
هم قالوا أعظم من هذا؛ قالوا : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 . ] ، حتى الجنة احتجزوها؛ فهل هذا منطق عاقل أو إنسان، والله جلّ وعلا ردَّ عليهم بقوله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 . ] ، وقال تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 123 . ] .
وهم قالوا أعظم من هذا، قالوا لموسى : { أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 . ] ، وقالوا، وقالوا . . . وعندهم أقاويل والعياذ بالله تروِّعُ، ولكنها كلَّها ترتدُّ في نحورهم، ولا تضرُّ أهل الإيمان أبدًا إذا استقام أهل الإيمان وأعدُّوا عُدَّتَهُم ولم يتخاذلوا .
الآن نرى النَّصارى يُنفقون الأموال ويبنون المباني والمدارس والإرساليَّات، ويتعبون، ويتنصَّرُ قليل من الناس، ثم يترُكونَ النّصرانيّة عمّا قليل، ونرى كثيرًا من الناس يُسلِمون بدون دعوة من أحد من النّاس، وبدون شيء، إنما يسلمون إذا رأوا تعاليم الإسلام، وسَمِعوا القرآن مجرَّد سماع، وإذا قرؤوا مجرَّد قراءة عن الإسلام؛ فإنهم يسلمون، هذا مع كسل المسلمين، هكذا تأثير الإسلام عليهم؛ فكيف لو أنّ المسلمين جدُّوا ودَعَوا إلى الله وأظهروا محاسن الإسلام وطبَّقوه في أنفسهم أولاً حتى يكونوا قدوة لغيرهم وحتى يمثِّلوا الإسلام تمثيلاً صحيحًا ؟ !
يقول بعضُ النَّصارى : نحن أنفقنا كذا مليونًا وتنصَّر واحد فقط في مقابل هذه الملايين، بينما المسلمون يُسلِمُ الآلاف بدون أن يبذُلَ المسلمون درهمًا واحدًا .(29/6)
فالحقُّ واضح والحمد لله، ولكن الحقَّ يحتاج إلى من يحملُه؛ فالحقُّ مثلُ السّيف، إذا حمله إنسان شجاع حملاً صحيحًا؛ لن يقف في وجهه عدوٌّ، ولكنّ السّلاح إذا وُجِدَ بدون يدٍ تحمِلُه؛ فإنّه لا يفيد .(29/7)
الجامع في مسائل العقيدة
253 ـ ما الحكمة في أنّ القرآن العظيم محفوظ من التّبديل والتّحريف، في حين إنّ الكتب الأخرى كالتّوراة والإنجيل ليست كذلك ؟ وهل يعني الإيمان بالكتب الإيمان بما فيها على ما هي عليه الآن، خاصّة وأنّ بعضها دَخَلَهُ التَّحريفُ ؟
القرآن الكريم تكفَّل الله تعالى بحفظه؛ لأنّه الكتابُ الباقي إلى قيام السّاعة، النّاسخ لما سبقه، ولا يتطرّق إليه نسخ، أمّا الكتب السّابقة؛ فاستُحفِظ عليها الرّبانيّون والأحبار؛ ابتلاءً وامتحانًا لهم، ولأنّها - والله أعلم - مؤقّتةٌ، ويتطرَّق إليها النسخ بشرائع أخرى تأتي بعدها، وهي أيضًا خاصّةٌ بمن أُنزِلَت عليهم في وقتهم، والقرآن عامٌّ لجميع الثّقلين الجنّ والإنس إلى يوم القيامة .
والإيمانُ بالكتب الإلهيّة من أركان الإيمان .
والإيمان بالكتب السّابقة إيمان مجمل، والإيمان بالقرآن إيمان مفصَّلٌ بكلِّ ما فيه، من أنكر منه حرفًا أو آية أو أقلَّ أو أكثر؛ فهو مرتدٌّ عن دين الإسلام، وكذلك من أنكر حكمًا من أحكامه؛ كقطع يد السَّارق، والاقتصاص من الجاني، أو أنكر صلاحيته للحكم بين النّاس في هذا الزمان، أو في أيّ زمان؛ فهو كافر، أمّا الإيمان بالكتب السّابقة؛ فهو إيمانٌ مجمل، يتناول أصولها وما فيها من حقٍّ، دون ما فيها من تحريف وتبديل؛ لأنّ الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أنّ أهلها قد حرَّفوها وغيَّروا فيها؛ فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل؛ فهذا مردود على أصحابه .
قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [ البقرة : 79 . ] .(30/1)
وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 78 . ] .
254 ـ أنا فتاة مؤمنة بالله تعالى، أحاول جاهدة أن التزم بتعاليم الإسلام، ولكن كثيرًا ما تُراودني أفكار عن المصير والحساب يوم القيامة، والسؤال : هل يتمُّ الحساب يوم القيامة في يوم واحد لكافّة الخلائق ؟ أم ماذا ؟ أم لا يجوز لنا أن نفكِّرَ في هذا ؟
هذا السؤال المقدَّمُ من هذه المرأة فيه إشكال يحتاج إلى الجواب كما قالت .
وفيه أنّ المرأة أثنت على نفسها خيرًا؛ بكونها مؤمنة بالله تعالى، وتحاول تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا الثّناء على النّفس : إن أراد به الإنسان التّحدُّث بنعمة الله عز وجل، أو أن يتأسَّى به غيره من أقرانه ونظرائه؛ فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه، وإدلاله بعمله على ربّه عز وجل؛ فإنّ هذا فيه شيء من المنّة، وقد قال الله تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 . ] . وأما إذا كان المراد به مجرَّد الخبر؛ فلا بأس به، لكنّ الأولى تركُه .
فالأحوال في ثناء المرء على نفسه أربع :
1ـ أن يريد بذلك التّحدُّث بنعمة الله عليه بما حباه به من الإيمان والثّبات .
2ـ أن يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه .
وهاتان الحالان محمودتان؛ لما يشتملان عليه من النّيّة الطّيّبة .
3ـ أن يريد بذلك الفخر والتّباهي والإدلال على الله عزّ وجلّ بما هو عليه من الإيمان والثّبات، وهذا غير جائز؛ لما ذكرنا من الآية .(30/2)
4ـ أن يريد بذلك مجرد الخبر عن نفسه بما هو عليه من الإيمان والثّبات؛ فهذا جائز، والأولى تركُه .
أمّا المشكلة الثانية التي ذكرتها في السؤال، وهي : هل يومُ الحساب يومٌ واحدٌ أو أكثر ؟
فالجواب أنّ يوم الحساب يوم واحد، ولكنّه يوم مقداره خمسون ألف سنة؛ كما قال الله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 1-4 . ] ؛ أي أنّ هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وفي " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها؛ إلا كان يوم القيامة؛ صُفِّحت له صفائح من نار، وأُحمي عليها في نار جهنّم، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلّما بردت؛ أُعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/680 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولهذا الحديث بقية . ] .
وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين؛ كما قال تعالى : { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 . ] ، وقال تعالى : { عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 . ] ، ومفهوم هاتين الآيتين هو أنَّ هذا اليوم يسيرٌ على المؤمنين .(30/3)
وهذا اليوم فيه من الأمور العظيمة ما يجعل الولدان شيبًا؛ قال تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا، يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُم إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ عَشْرًا، نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُم طَرِيقَةً إن لَّبِثْتُُمْ إلاَّ يَوْمًا، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا، يَومَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتٍ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْسًا، يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً } [ طه : 102-109 . ] .
والتفكير والتعمُّقُ في مثل هذه الأمور الغيبيّة هو من التّنطّع الذي قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه : ( هلكَ المُتنطِّعُونَ، هلكَ المُتنطِّعُونَ ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/2055 ) من حديث عبد الله رضي الله عنه . ( قالها ثلاثًا ) . ] .
وواجب الإنسان في هذه الأمور الغيبيّة التسليم وأخذُ الأمور على ظاهر معناها دون أن يتعمّق أو يحاول المقايسة بينها وبين الأمور في الدُّنيا؛ فإنّ أمور الآخرة ليست كأمور الدُّنيا، وإن كانت تشبِهُها في أصل المعنى، لكن بينهما فرق عظيم .(30/4)
وأضرب لك مثلاً فيما ذكره الله تعالى في الجنّة من النَّخل والرُّمان والفاكهة ولحم الطّير والعسل والماء واللبن وما أشبه ذلك، مع قوله عز وجل : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 . ] ، وقوله في الحديث القدسيِّ : ( أعددتُ لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/21 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ فهذه الأسماء التي لها مسمَّياتٌ في هذه الدُّنيا لا تعني أنَّ المسمَّى كالمسمَّى به، وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى؛ فكلُّ الأمور الغيبيَّة التي تشارك ما يشاهد في الدُّنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلةً له في الحقيقة .
فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة، وأن يأخذ أمور الغيب بالتَّسليم، وما يقتضيه ظاهرها من المعنى، وأن لا يحاول شيئًا وراء ذلك .
ولمّا سُئِلَ الإمام مالك رحمه الله عن قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 . ] ؛ كيف استوى ؟ أطرقَ رحمه الله برأسه، حتى علاه الرُّحَضاءُ؛ أي : العرقُ، وصار يتصبَّبُ عرقًا، وذلك لعظم السؤال في نفسه، ثم رفع رأسه، وقال قولَتَه الشهيرة التي كانت ميزانًا لجميع ما وصف الله به نفسه؛ قال رحمه الله : ( الاستواءً غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بدعةٌ ) (9).
فالسؤال المتعمِّقُ في مثل هذه الأمور بدعةٌ؛ لأنّ الصّحابة رضوان الله عليهم - وهم أشدُّ الناس حرصًا على العلم وعلى الخير - لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسئلة، وكفى بهم قدوة .(30/5)
وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجري بالنسبة لصفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك؛ فإنّ مسمّيات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ لا يماثلُها شيء ممّا يشاركُها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان؛ فكلُّ صفةٍ تابعةٌ لموصوفها؛ فكما أنّ الله لا مثيل له في ذاته؛ فلا مثيل له في صفاته .
وخلاصة الجواب : أنّ اليوم الآخر يومٌ واحد، وأنه عسير على الكافرين، ويسير على المؤمنين، وأنّ ما ورد فيه من أنواع الثّواب والعقاب أمر لا يُدرك كنههُ في هذه الحياة الدُّنيا، وإن كان أصل المعنى فيه معلومًا لنا في هذه الحياة الدُّنيا .
255 ـ بعض الناس في بعض القرى البعيدة عن التعليم والدعوة إلى الإسلام يجهلون الكثير من أحكام الدين ومن فرائضه، ومن ذلك الصلاة، فهم لا يعرفون عدد ركعات الفروض، ومنهم من يصلي الفجر ثلاث ركعات أو أربع، يجمعون السنة والفريضة بسلام واحد، وهكذا في بقية الفروض جهلاً منهم؛ فما الحكم فيما مضى من صلواتهم وفيمن مات منهم وهو على تلك الحالة ؟(30/6)
إذا كان فعلهم هذا بسبب التساهل بأن لم يسألوا أو لم يبحثوا وبإمكانهم أن يجدوا من يرشدهم ويفيدهم، ولكنهم أهملوا ذلك ولم يبالوا؛ فإن صلاتهم لا تصحّ؛ لأنهم غير معذورين في هذه الحالة لأنه مطلوب من المسلم أن يعرف أحكام العبادة قبل أن يؤدِّيها . وأمّا إن كانوا غير قادرين على معرفة أحكام الصلاة لبعدهم عمن يرشدهم وتعذر الوصول إليه؛ فإنّهم يصلون على حسب حالهم، وصلاتهم صحيحة؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 . ] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإذا أمرتُكُم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2/975 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو جزء من حديث أوله : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيها الناس . . . ) الحديث . ] .
256 ـ ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ للشَّهيد ستَّ كراماتٍ، وهي أنه : لا يجد ألم الموت إلا كقرصة بعوضة، يُغفَرُ له عند أول قطرة من دمه، لا يصل الفتَّانُ إليه في قبره، يكسى تاجَ الوقار، يُنزَل في منازل النّبيِّين، ويشفع في سبعين من أهل بيته؛ هل هذا الحديث صحيح ؟ وما معنى الفتَّانُ ؟
ما ذُكر في هذا السؤال من الكرامات التي ينالُها الشَّهيدُ في سبيل الله، كلُّها جاءت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا قول السَّائل : يُنزَلُ منازل النبيّين؛ فإنه لم يرد بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ : ( لا يفضُلُهُ النبيُّون إلا بفضل درجة النّبوّة ) [ انظر : " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/291 ) من حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه . ] . والله أعلم .
257 ـ هل يجوز للفرد الذي يدخل الإسلام أن يقوم بتغيير اسمه ؟(30/7)
إذا دخل الكافر في الإسلام؛ فإنه لا يلزمه تغيير اسمه؛ إلا إذا كان اسمًا مكروهًا؛ مثل : حَزن، أو كان معبدًا لغير الله؛ مثل : عبد المسيح، أو عبد الكعبة، أو غير ذلك من الأسماء المحرَّمة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم غيّر أسماء أشخاص من هذين النّوعين (10).
258 ـ إذا أسلم كافر وتاب إلى الله عز وجل وفي ذمته بعض الحقوق للناس، فهل الإسلام يمحو ذنب تلك المظالم دون أن يردها إلى أهلها أم لابد من ذلك ؟
حقوق الآدميين لا تسقط إلا إذا سمحوا هم عنها وتنازلوا عنها، أما ما لم يتنازلوا عنها؛ فإنها لا تسقط عن المتحمل لها، ولو أسلم وتاب إلى الله؛ فإن ذلك لا يسقط عنه بالتوبة، وإنما تسقط عنه حقوق الله التي تركها قبل التوبة؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] .
259 ـ كفيل يظلِمُني، ويهضم حقوق المادّيّة والمعنويّة، ولا أملك له شيئًا سوى الدُّعاء عليه وبغضه، علمًا بأنه يصلّي وملتزم، لكنّه يقسو على مكفوليه في المعاملة المادّيّة، ونشعر بالظُّلم الشَّديد؛ فهل إن أبغضته أكون ناقص الإيمان ؟
الحقيقة أنّ هذه المسألة يشكو منها كثير من العمَّال، وهي ظلم، ولا يجوز ظلم العمَّال، ولو كانوا غير مسلمين .
الظُّلم لا يجوز بحال من الأحوال، والله تعالى يقول : ( إني حرّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالَموا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1994 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم لمّا بعثَ معاذًا إلى اليمن؛ قال له : ( واتّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبينَ الله حجابٌ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/99 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه . ] .
فلا يجوز الظُّلم بحال من الأحوال، لا مع المسلمين، ولا مع الكفّار .(30/8)
والأجير له حقٌّ؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( أعطوا الأجير أجرته قبل أن يَجِفَّ عَرَقُه ) [ رواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/817 ) من حديث عبد الله بن عمر، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 6/121 ) من حديث أبي هريرة، وانظر : " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " للهيثمي ( 4/98 ) . ] ، وجاء في الحديث : ( ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة . . . ) وذكرَ منهم من استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يؤدِّ له حقَّه [ رواه البخاري في " صحيحه " ( ج3، ص41 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . ولم يعطه أجره ) . ] .
فلا يجوز الظّلم، فلا يجوز للكفيل أن يستغلّ ضعف هؤلاء العمَّال المساكين، يستغلَّ ضعفَهُم، ويتسلَّط عليهم، ويتجبَّر عليهم، ويهضم حقوقهم، هذا ظلمٌ، هذا والله ظلمٌ لا يجوز، والواجب العدل، والواجب إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والواجب تقوى الله سبحانه وتعالى .
والظُّلم يوجب العقوبة؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المظلوم يرفعُها الله فوقَ الغَمامِ، ويقول الله : وعزَّتي وجلالي؛ لأنتصرنَّ لكِ، ولو بعد حين ) [ رواه ابن حبان في " صحيحه " كما في " الإحسان " ( ج3 ص158 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، والله تعالى يقول : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 . ] ؛ فالظَّالم نادم، ويقول سبحانه : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 . ] ؛ الظُّلم لا يجوز لا مع العمَّال ولا مع غيرهم .(30/9)
260 ـ يقول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 . ] ؛ هل يدخُلُ في ذلك حبُّ الأندية الرّياضيّة التي تجعل الشّخص يؤخّرُ الصّلاة مثلاً، نسأل الله السّلامة ؟ وهل يدخُلُ في ذلك حبُّ النّساء والمال والولد والمنزل وغير ذلك من أمور الدُّنيا ؟
الأنداد يُرادُ بهم الشُركاءُ؛ كالأصنام والأضرحة التي تُعبدُ من دون الله، هؤلاء هم الأنداد، النِّدُّ هو العديل والشَّبيهُ والنَّظيرُ، فجعلوا هذه المعبودات مساوية لله ومعادلة له :
كما قال الله تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يقولون : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 98 . ] ؛ يقول المشركون لأصنامهم يوم القيامة ومعبوديهم إذا دخلوا في النار : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ؛ يعني : في الدُّنيا، { إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
ويقول تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 . ] ؛ يعني : يعدلون به غيره من الأشباه والأنداد والشُّركاء، والله جلَّ وعلا واحدٌ أحد، فرد صمدٌ، لا ندَّ له، ولا شبيه له، ولا شريك له، سبحانه وتعالى .(30/10)
هؤلاء هم الأنداد، أمّا الأندية الرّياضيّة؛ فليست من الأنداد، ولكن؛ إذا كان فيها شُغلٌ عن ذكر الله؛ فإنها يحرُمُ الاشتغال بها وترك ذكر الله عز وجل؛ كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ } [ المنافقون : 9 . ] ؛ إذا كانت الأموال والأولاد لا يجوز الاشتغال بها عن ذكر الله؛ فكيف بالأندية ؟ ! مع أنّ الأموال والأولاد فيهم نفع، فيهم خير، ولكن إذا شغلوا عن ذكر الله؛ فيجب على الإنسان أن لا يستمرَّ على الاشتغال بهم عن ذكر الله، بل يترك البيع والشراء ويُقبل على الصلاة وقت الصلاة، فإذا فرغت الصلاة؛ يرجِعُ إلى البيع والشّراء، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فالأندية الرّياضيّة إذا كانت متابعتُها مشغلةً عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فهذا محرَّمٌ؛ كالاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله، أما إذا كان هذا لا يشغل عن ذكر الله، ولا يشغل عن الصلاة؛ فهذا قد يكون من المباحات، ولكن لو اشتغل بغيرها يكون أولى وأحسن، لو اشتغل بشيء نافع؛ طالع كتابًا، أو قرأ قرآنًا، أو باع واشترى وشغل الوقت بما هو مفيد له في دينه ودُنياه، هذا أحسن من كونه يشتغل بمتابعة الأندية الرّياضيّة .
261 ـ ما حكم تعليق بعض الأذكار التي تُلصَقُ على الأبواب أو السّيّارة وغيرها، وذلك للتذكير بهذه الأدعية، فيوضع دعاء الرّكوب في السيارة، ودعاء دخول الحمّام على باب الحمام . . . وهكذا ؟ أفتوني جزاكم الله خيرًا .(30/11)
تعليق الأدعية على الأبواب وغيرها ليس معروفًا عن السّلف، ثم إننا مأمورون بالذّكر والدّعاء بألسنتنا وقلوبنا لا بالكتاب والتعليق، وإنما هذه عادة جرت، مع ما قد يترتّب على هذا العمل من ابتذال تلك الأدعية وتعريضها للإهانة وفيها أسماء الله تعالى أو آيات من القرآن أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة؛ فينبغي ترك هذا العمل وتجنُّبُه .
262 ـ عندما أريد أن أدخُلَ دورة المياه - أكرمكم الله - آخذ معي كتابًا أو جريدة حتى أقضي حاجتي؛ فهل يجوز ذلك ؟
لا يجوز دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل من كتاب أو جريدة أو غير ذلك؛ لما في ذلك من الامتهان لذكر الله عز وجل .(30/12)
المجلد الثاني(/)
1 ـ الإيمان
1 ـ يقول الله تعالى في محكم التنزيل : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ سورة الحجرات : آية14 ] . ما معنى هذه الآية ؟ وهل هناك فرق بين الإيمان والإسلام ؟ وما هو ؟
الدين ثلاث مراتب . .
المرتبة الأولى : الإسلام . . وأعلى منها : الإيمان، وأعلى من الإيمان الإحسان . كما جاء ذلك في حديث جبريل - عليه الصلاة والسلام - حين سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه المراتب، وأجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل مرتبة . . وفي النهاية قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم ) .
وقد ذكرها مرتبة مبتدئًا بالأدنى ثم ما هو أعلى منه ثم ما هو أعلى منه . . . فالأعراب لما جاءوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول دخولهم في الإسلام ادعوا لأنفسهم مرتبة لم يبلغوها . . . جاءوا مسلمين، وادعوا الإيمان وهي مرتبة لم يبلغوها بعد . . ولهذا رد الله عليهم بقوله : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36-38 ) . من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهو جزء من حديث جبريل الطويل ] .
فهم في أول إسلامهم لم يتمكن الإيمان في قلوبهم وإن كان عندهم إيمان ولكن إيمانهم ضعيف أو إيمان قليل . . ويستفاد من قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أنه سيدخل في المستقبل، وليسوا كفارًا أو منافقين ولكنهم مسلمون ومعهم شيء من الإيمان لكنه قليل لم يستحقوا أن يسموا مؤمنين . لكنهم سيتمكن الإيمان في قلوبهم فيما بعد في قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ سورة الحجرات : آية 14 ] .(31/1)
والإسلام والإيمان إذا ذكر معًا افترقا . فصار للإسلام معنى خاص وللإيمان معنى خاص . . كما في حديث جبريل فإنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإسلام فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) .
وسأله عن الإيمان فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36-38 ) . من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهو جزء من حديث جبريل الطويل ] .
فعلى هذا يكون الإسلام هو الانقياد الظاهري، والإيمان هو الانقياد الباطني هذا إذا ذكرا جميعًا . .
أما إذا ذكر الإسلام وحده أو الإيمان وحده فإنه يدخل أحدهما في الآخر، إذا ذكر الإسلام وحده أو الإيمان وحده فإن أحدهما داخل في الآخر . إذا ذكر الإسلام فقط دخل فيه الإيمان . . وإذا ذكر الإيمان فقط دخل فيه الإسلام .
لهذا يقول أهل العلم : إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا . . فالإيمان عند أهل السنة والجماعة : هو عمل بالأركان وقول باللسان وتصديق بالجنان . . ويدخل فيه الإسلام، يكون قولاً باللسان وعملاً بالأركان وتصديقًا بالجنان . . إذا ذكر وحده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . . . .
2 ـ فضيلة الشيخ صالح الفوزان وفقه الله لما يحبه ويرضاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد . .
فقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة بين طلبة العلم حول مسألة مهمة تتعلق بأصل الدين، وسأذكر بعض الأقوال التي أرجو من الشيخ أن يبين هل هي موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة، أم أن فيها شيئًا من الخلل :(31/2)
1ـ قول بعض الناس : ( إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن العمل شرط في كمال الإيمان وليس شرطًا في صحة الإيمان ) ، مع أن من المعلوم أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وأنه لا إيمان إلا بعمل كما صرح بذلك بعض أئمة السلف .
2ـ قول بعض الناس : ( إن الكفر المخرج من الملة هو الكفر الاعتقادي فقط، أما العمل فلا يخرج من الملة إلا إذا كان يدل على اعتقاد كالسجود لصنم مثلاً، فإنه يعتبر كفرًا لأنه يدل على عقيدة في الباطن لا لمجرد السجود فقط، ومثله سب الله أو الاستهزاء بالدين أو نحو ذلك . . فلا يكفر الإنسان بعمل مهما كان ) .
أرجو من الشيخ - وفقه الله - أن يتفضل ببيان ما في هاتين المقالتين من الحق أو الباطل ؟ سائلاً الله تعالى أن يوفقه للصواب، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
1ـ القول الأول : هو قول مرجئة أهل السنة وهو خطأ، والصواب أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان فهو اعتقاد وقول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا قول جمهور أهل السنة لأن الله سمى الأعمال إيمانًا كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ سورة الأنفال : آية2 ] الآيتين . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ) الحديث [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/63 ) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ] .
2ـ هذا في الغالب وهناك أعمال تخرج من الملة كترك الصلاة تكاسلاً وكالسحر تعلمه وتعليمه، ومن نطق بكلمة الكفر مختارًا، وكل عمل لابد أن يصاحبه قصد، فلا يعتد بعمل الناسي والنائم والصغير والمجنون والمكره لعدم القصد . هذا وأنصح لهؤلاء أن يتعلموا قبل أن يتكلموا لأن الكلام في مثل هذه المسائل خطير، ويحتاج إلى علم .(31/3)
3 ـ ما صحة حديث البطاقة المشهور لدى العلماء وهل فيه استدلال على عدم تكفير تارك الصلاة حيث إنه من غير المعقول أن شخصًا يصلي وليس له حسنات فالصلاة وقبلها الوضوء والمشي إلى المسجد كلها حسنات، والرجل لم يعمل حسنة قط وله 99 سجلاً كلها سيئات ومعاصي فما رأي فضيلتكم ؟
حديث البطاقة حديث صحيح . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . وقال الذهبي في " التلخيص " : صحيح - وهو حديث عبد الله بن عمرو : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسع وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر . ثم يقال : أتنكر من هذا شيئًا ؟ فيقول : لا يا رب . فيقال : ألك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ويقول : لا . فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة . وإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة - وهي الورقة الصغيرة - فيها : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . فيقول : يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/529 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ] فهذا الحديث الشريف فيه أن التوحيد يكفر الله به الخطايا التي لا تقتضي الردّة والخروج من الإسلام، أما الأعمال التي تقتضي الردة فإنها تناقض كلمة التوحيد وتصبح لفظًا مجردًا لا معنى له، قيل للحسن البصري رحمه الله : إن ناسًا يقولون : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة . فقال : من قال : لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة (1).
فكلمة لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، والسبب لا ينفع إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه، فالمنافقون يقولون : لا إله إلا الله فلا تنفعهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، لأنهم يقولونها بألسنتهم فقط من غير اعتقاد لمعناها وعمل بمقتضاها .(31/4)
4 ـ ما قولكم لمن إذا قيل له : اتق الله في نفسك من بعض المعاصي مثل حلق اللحية وشرب الدخان وإسبال الثياب، يقول : الإيمان في القلب، وليس الإيمان في تربية اللحية وترك الدخان ولا في إسبال الثياب، ويقول : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم يقصد ( اللحية والدخان وإسبال الثياب ) ولكن ينظر إلى قلوبكم ؟
أرجو من فضيلتكم الإجابة ليعلم من يقول : إن الإيمان في القلب ؟
هذه الكلمة كثيرًا ما يقولها بعض الجهال أو المغالطين، وهي كلمة حق يراد بها باطل . لأن قائلها يريد تبرير ما هو عليه من المعاصي؛ لأنه يزعم أنه يكفي الإيمان الذي في القلب عن عمل الطاعات وترك المحرمات، وهذه مغالطة مكشوفة، فإن الإيمان ليس في القلب فقط، بل الإيمان كما عرفه أهل السنة والجماعة : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .
قال الإمام الحسن البصري رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال .(31/5)
وعمل المعاصي وترك الطاعات دليل على أنه ليس في القلب إيمان أو فيه إيمان ناقص . والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا } [ سورة آل عمران : آية130 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } [ سورة المائدة : آية35 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ سورة المائدة : آية95 ] ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ سورة البقرة : آية 277 ] ، { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } [ سورة البقرة : آية 62 ] ، فالإيمان لا يسمى إيمانًا كاملاً إلا مع العمل الصالح وترك المعاصي . ويقول تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر : الآيات 1-3 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [ سورة النساء : آية 59 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 24 ] فلا يكفي العمل الظاهر بدون إيمان بالقلب؛ لأن هذه صفة المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار .
ولا يكفي الإيمان بالقلب دون نطق باللسان وعمل بالجوارح؛ لأن هذا مذهب المرجئة من الجهمية وغيرهم، وهو مذهب باطل بل لابد من الإيمان بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح، وفعل المعاصي دليل على ضعف الإيمان الذي في القلب ونقصه، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .(31/6)
2 ـ التوحيد والشرك
5 ـ لعدم معرفتي لأنواع التوحيد وحقيقته ورغبة مني في التجرد من الشرك لذا أرجو إجابتي على الأسئلة التالية :
ما هي أنواع التوحيد مع إيضاح كل نوع منها ؟
زادك الله رغبة في الخير، والحقيقة أن هذا يدل منك على الاهتمام بعقيدتك، ويجب على كل مسلم أن يهتم بعقيدته؛ لأنها الأساس الذي ينبني عليه عمله، فالعمل إنما يصح ويثاب عليه بشرطين :
الأول : أن يكون مبنيًّا على عقيدة سليمة .
والشرط الثاني : أن يكون موافقًا لما شرعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاهتمامك بعقيدتك وحرصك على معرفة أنواع التوحيد يدل على خير وعلى أنك - والحمد لله - تريد الحق وتريد العقيدة الصحيحة، وهذا واجب كل مسلم .
أما بالنسبة لأنواع التوحيد فالتوحيد ثلاثة أنواع :
الأول : توحيد الربوبية ومعناه : إفراد الله تعالى بأفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والضر والنفع وغير ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى فيعتقد المسلم أن الله لا شريك له في ربوبيته .(32/1)
والنوع الثاني : توحيد الألوهية : وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة التي شرعها من الصلاة والصيام والحج والزكاة والدعاء والنذر والنحر والرغبة والرجاء والخوف والخشية إلى آخر أنواع العبادة، فإفراد الله تعالى بها يسمى بتوحيد الألوهية، وهذا النوع هو المطلوب من الخلق . أما النوع الأول وهو توحيد الربوبية فالخلق مقرون به حتى المشركون الذين بعث إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقرون بتوحيد الربوبية كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ سورة الزخرف : آية 87 ] { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ سورة المؤمنون : آية 86، 87 ] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية، ولكن المطلوب منهم هو إفراد الله بالعبادة إذا أقروا له بتوحيد الربوبية وجب عليهم أن يقروا له بتوحيد العبادة، والرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ سورة النحل : آية 36 ] فكل رسول يدعو إلى توحيد العبادة . أما توحيد الربوبية فهذا موجود في الفطر ولكنه لا يكفي .
والنوع الثاني : توحيد الأسماء والصفات : وذلك بأن يثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عز وجل - من الأسماء والصفات، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النقائص والعيوب، هذه أنواع التوحيد الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها والاعتناء بها والعمل بها .
6 ـ ما أنواع الشرك القولية والفعلية ؟(32/2)
الشرك : هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى كالذبح لغير الله والنذر لغير الله والدعاء لغير الله والاستغاثة بغير الله كما يفعل عُبَّاد القبور اليوم عند الأضرحة من مناداة الأموات، وطلب قضاء الحاجات، وتفريج الكربات من الموتى، والطواف بأضرحتهم، وذبح القرابين عندها تقربًا إليهم، والنذور لهم وما أشبه ذلك، هذا هو الشرك الأكبر لأنه صرف للعبادة لغير الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ سورة الكهف : آية 110 ] ويقول : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [ سورة النساء : آية 36 ] ويقول جل وعلا : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ سورة البينة : آية 5 ] والآيات في هذا الموضوع كثيرة، والشرك أنواع :
النوع الأول : الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة وهو الذي ذكرنا أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله كأن يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله أو يدعو غير الله أو يستغيث بغير الله فهذا شرك أكبر يخرج من الملة، وفاعله خالد مخلد في نار جهنم إذا مات عليه ولم يتب إلى الله، كما قال الله تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [ سورة المائدة : آية 72 ] وهذا لا يغفره الله عز وجل إلا بالتوبة، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ سورة النساء : آية 48 ] .(32/3)
والنوع الثاني : شرك أصغر لا يخرج من الملة لكن خطره عظيم، وهو أيضًا على الصحيح لا يغفر إلا بالتوبة لقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ سورة النساء : آية 48 ] وذلك يشمل الأكبر والأصغر، والشرك الأصغر مثل الحلف بغير الله، ومثل قوله : ما شاء الله وشئت، بأن تعطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق بالواو، لأن ( الواو ) تقتضي التشريك .
والصواب أن تقول : ما شاء الله ثم شئت؛ لأن ( ثم ) تقتضي الترتيب، وكذا لولا الله وأنت، وما أشبه ذلك كله من الشرك في الألفاظ، وكذلك الرياء أيضًا وهو شرك خفي؛ لأنه من أعمال القلوب ولا ينطق به ولا يظهر على عمل الجوارح، ولا يظهر على اللسان إنما هو شيء في القلوب لا يعلمه إلا الله .
إذًا فالشرك على ثلاثة أنواع : شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي وهو الرياء وما في القلوب من القصود - النيات - لغير الله سبحانه وتعالى .
والرياء معناه : أن يعمل عملاً ظاهره أنه لله لكنه يقصد به غير الله سبحانه وتعالى كأن يقصد أن يمدحه الناس وأن يثني عيه الناس أو يقصد به طمعًا من مطامع الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة هود الآية : 15، 16 ] .
فالذي يحج أو يطلب العلم أو يعمل أعمالاً هي من أعمال العبادة لكنه يقصد بها طمعًا من مطامع الدنيا، فهذا إنما يريد بعمله الدنيا، وهذا محبط للعمل .(32/4)
فالرياء محبط للعمل، وقصد الدنيا بالعمل يحبط العمل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) فسئل عنه فقال : ( الرياء ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/428 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 14/323، 324 ) ، ورواه الطبراني في " الكبير " ( 4/253 ) حديث رقم ( 4301 ) ، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 1/102 ) و " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار " ( 3/291 ) ، كلهم من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه ] وقال عليه الصلاة والسلام : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل وكفارته أن يقول : اللهم إنني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/303 ) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بنحوه، ورواه البخاري في " الأدب المفرد " ( ص242 ) ، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه بنحوه، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 10/223، 224 ) ] فالواجب على المسلم أن يخلص لله في أفعاله وأقواله ونياته، لله جميع ما يصدر منه من قول أو عمل أو نية ليكون عمله صالحًا مقبولاً عند الله عز وجل .
7 ـ يوجد رجل في القرية التي نحن فيها يقرأ القرآن بدون ترتيل ولا تجويد، ويعتقد في القبور والموتى، وينذر لهم بنذور، ويعتقد أنهم ينفعون ويضرون هل تجوز الصلاة خلف هذا الإمام ؟ وهل يجوز أن يصلى على الميت إذا مات وهو في هذا العمل ؟(32/5)
من كان يعتقد في الأموات أنهم ينفعون أو يضرون وينذر لهم ويتقرب إليهم فهذا مشرك الشرك الأكبر، والعياذ بالله، لأن هذا يعبد غير الله فلا تجوز الصلاة خلفه، ولا تصح لأنه ليس بمسلم مادام على هذه الحالة . ولكن الواجب عليكم أن تناصحوه، وأن تبينوا له أن هذا شرك أكبر، وأنه يجب عليه التوبة إلى الله عز وجل، والعمل بالتوحيد الخالص، وترك عبادة الأموات، فإن تاب ورجع إلى الله جازت الصلاة خلفه، أما مادام على هذه الحالة فهو ليس بمسلم ولا تصح منه صلاة ولا تجوز الصلاة خلفه، وإذا مات فإنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابل المسلمين ولا يتولاه المسلمون وإنما يتولاه الكفار .
8 ـ يعتقد بعض الناس عندنا إذا سمعوا نباح كلب - أعزكم الله - أو شاهدوا طائر البوم يحلق فوق مكان أو يطلق صوتًا أن ذلك يعني وفاة أحد من أهل ذلك المكان، فهل هذا صحيح ؟ وهل مثل هذا الاعتقاد يؤثر على عقيدة المسلم ؟
هذا من التطير والتشاؤم الذي ينهى الله سبحانه وتعالى عنه، وهو من فعل الكفرة كما تطير قوم فرعون بموسى ومن معه، وكما تطير قوم صالح عليه الصلاة والسلام به ومن معه، وكما تطير المشركون بمحمد صلى الله عليه وسلم .(32/6)
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيّن أن الطيرة شرك قال عليه الصلاة والسلام : ( الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/389، 438، 440 ) ، ورواه البخاري في " الأدب المفرد " ( ص304 ) حديث رقم ( 912 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/17، 18 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/139 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/16 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/36 ) ، ورواه الطحاوي في " مشكل الآثار " ( 1/358 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 12/177، 178 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] فإذا اعتقد الإنسان أن هذا الطائر يدل على حدوث شر فإن هذا هو الطيرة المذمومة التي جاء النهي عنها، فإن هذه المخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى لِحكم ومصالح وليس عندها نفع ولا ضر، إنما هذا بتدبير الله سبحانه وتعالى وتقديره .
والواجب على المسلم إذا وجد شيئًا من ذلك أن يدفعه بالإيمان واليقين وأن يقول : ( اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/220 ) ، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/105 ) ، وانظر " فتح الباري " ( 10/213 ) ] ويقول : ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/17، 18 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/139 ) كلاهما من حديث عروة بن عامر، ورواه عبد الرزاق الصنعاني في " المصنف " ( 10/406 ) . عن الأعمش ] .
والفرق بين الطيرة والفأل : أن الطيرة تأميل للشر، والتفاؤل تأميل للخير، والتفاؤل شيء طيب، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجبه الفأل، والفأل أمل للخير خلاف الطيرة فإنها أمل للشر وسوء الظن بالله سبحانه وتعالى، أما الفأل من حسن الظن بالله سبحانه وتعالى وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه الفأل (1).(32/7)
9 ـ هل يجوز للمسلم أن يعلق آية الكرسي أو غيرها من الآيات أو الأدعية على رقبته أو في بيته أو سيارته أو مكتبه تبركًا بها واعتقادًا بأنها سبب في طرد الشياطين ؟
لا يجوز للمسلم أن يعلق آية الكرسي أو غيرها من آيات القرآن أو الأدعية الشرعية على رقبته لدفع شر الشياطين أو للاستشفاء بها من المرض، هذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تعليق التمائم وهذا منه .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب " التوحيد " :
التمائم : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) . رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/381 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1166، 1167 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/217 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 9/350 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 12/156، 157 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] . فتعليق الآيات على الرقبة أو غيرها من البدن لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء لعموم النهي عن تعليق التمائم وهذا منه، ولأجل سد الذريعة التي تفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن تعريضًا لامتهانه وعدم احترامه .
وأما تعليق الآيات على غير جسم الإنسان من سيارة أو جدار بيت أو مكتب للتبرك وطرد الشياطين فهذا لا أعلم من قال بجوازه؛ لأنه من اتخاذ التمائم المنهي عنه، وفيه امتهان للقرآن . ولم يكن من عمل السلف، فما كانوا يعلقون الآيات على الجدران تبركًا بها ودفعًا للضرر بتعليقها . وإنما كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، ويكتبونه في مصاحفهم، ويعملون به، ويتعلمون أحكامه، ويتدبرون معانيه كما أمر الله بذلك .(32/8)
10 ـ ما حكم الشرع في كتابة آيات القرآن وحملها بقصد الحماية من المشاكل أو كسب مودة إنسان ؟
لا يجوز على أصح قولي العلماء أن يكتب القرآن على شكل كتب وحروز وتعلق على الأشخاص؛ لأن القرآن لم ينزل لهذا، وإنما الذي ورد أن القرآن يقرأ على المصاب وعلى المريض، أما أنه يكتب على شكل حروز وعلى شكل حجب، وتعلق على الشخص المريض، فهذا لا يجوز في أصح قولي العلماء؛ لأن هذا لا دليل عليه؛ ولأنه وسيلة إلى امتهان القرآن، ووسيلة إلى أن يكتب غير القرآن من التعاويذ الشركية والألفاظ المجهولة، فإذا فتح هذا الباب فإنه لا يقتصر على كتابة القرآن، وإنما تكتب الأمور المحظورة والشركية . كما هو الواقع عند الجهال والمخربين . . فلا يفتح هذا الباب وينبغي إقفاله . ومن باب أولى تحريم تعليق القرآن وحمله بقصد الحماية مما لم يقع أو لكسب المودة فهذا لا يجوز من غير خلاف فيما أعلم .(32/9)
3 ـ الأسماء والصفات
11 ـ ما معنى قوله تعالى في سورة النور : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة النور : آية 35 ] ؟
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ذكر العلماء رحمهم الله أن الله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض الحسي والمعنوي وذلك بأنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه وما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش والكرسي والشمس والقمر، وبه استنارت الجنة . وكذلك هو نور السماوات والأرض النور المعنوي فنور السماوات والأرض المعنوي يرجع إلى الله تعالى فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان به والمعرفة به في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات، ولهذا كل محل يفقد نوره فَثَمَّ الظلمة والحسرة، قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه المشهور : ( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ) [ انظر " البداية والنهاية " لابن كثير ( 3/136 ) ، و " الكامل في التاريخ " لابن الأثير ( 2/64 ) وأوله : ( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي . . . ) وذلك عند رجوعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف ] .(33/1)
{ مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين { كَمِشْكَاةٍ } : أي : كوَّة فيها مصباح، لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق، ذلك المصباح في زجاجة، الزجاجة من صفائها وبهائها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : كوكب مضيء إضاءة الدر { يُوقَدُ } ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية، { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ } أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون { لا شَرْقِيَّةٍ } فقط فلا تصيبها الشمس آخر النهار { وَلا غَرْبِيَّةٍ } فقط فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران كانت متوسطة من الأرض كزيتون الشام تصيبه الشمس أول النهار وآخره فيحسن ويطيب، ويكون أصفى لزيتها، ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } أي : من صفائه يضيء { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فإذا مسته النار أضاء إضاءة بليغة { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } أي : نور النار ونور الزيت .(33/2)
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله وتطبيقه على حالة المؤمن ونور الله في قلبه أن فطرته التي فطر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية مستعدة للتعاليم الإلهية والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان اشتعل ذلك النور في قلبه بمنزلة إشعال النار فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد ومن سوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان أضاء إضاءة عظيمة لصفائه من الكدرات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية فيتجمع له نور الفطرة ونور الإيمان ونور العلم وصفاء المعرفة { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك قال : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } [ سورة النور : آية 35 ] ممن يعلم زكاؤه وفطرته وطهارته، وأنه يزكو معه وينمو هداه { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه، ويفهموا لطفًا منه سبحانه وتعالى { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة النور : آية 35 ] والله أعلم .
12 ـ يقول الله عز وجل في سورة الأنفال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ سورة الأنفال : آية 30 ] ما معنى { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ؟
هذه الآية في سياق ما ذكر الله سبحانه وتعالى من مكيدة المشركين ومكرهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما تآمروا على قتله وترصدوا له ينتظرون خروجه - عليه الصلاة والسلام - فأخرجه الله من بينهم ولم يشعروا به، وذهب هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه واختبيا في الغار ( في غار ثور ) قبيل الهجرة إلى المدينة ثم إن الله سبحانه وتعالى صرف أنظارهم حينما وصلوا إلى الغار، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مختبئ فيه هو وصاحبه، ووقفوا عليه ولم يروه .(33/3)
حتى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/189، 190 ) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ] فأنزل الله جل وعلا : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ سورة التوبة : آية 40 ] .
هذا هو المكر الذي مكره الله جل وعلا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أخرجه من بين أعدائه ولم يشعروا به مع حرصهم على قتله وإبادته ثم إنهم خرجوا في طلبه، ووقفوا على المكان الذي هو فيه، ولم يروه لأن الله صرفهم عنه كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ سورة الأنفال : آية 30 ] .
وهذا المكر المضاف إلى الله جل وعلا والمسند إليه ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه وتعالى فإنه محمود، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله جل وعلا فإنه محمود؛ لأنه إيصال للعقوبة لمن يستحقها فهو عدل ورحمة .(33/4)
13 ـ دار نقاش بيني وبين زميل لي في المكتب حول وجود الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا الشخص ينفي وجود الله سبحانه وتعالى في السماء وأنا أثبته بدليل قوله تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ . . . } [ سورة الملك : آية 16 ] الآية، ولحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجارية قال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 2/777 ) ، ورواه الشافعي في " الرسالة " ( ص75 ) " فقرة 242 " تحقيق أحمد محمد شاكر، وانظر " صحيح مسلم " ( 1/381، 382 ) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، ورواه الإمام ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ( 1/278-289 ) ، وانظر " مختصر العلو للعلي الغفار " ( ص81 ) ] . المطلوب من فضيلتكم توضيح الصواب وجزاكم الله خير الجزاء وبارك فيكم ؟(33/5)
لا شك أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا يعتقده المسلمون وأتباع الرسل قديمًا وحديثًا، فهو محل إجماع لرسالات الله سبحانه وتعالى وعباده المؤمنين أن الله جل وعلا في السماء، وقد تضافرت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة بما يزيد على ألف دليل على علو الله سبحانه وتعالى، وأنه في السماء وأنه استوى على عرشه سبحانه وتعالى كما أخبر الله جل وعلا بذلك، ومن ذلك ما ذكره السائل من قوله تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } [ سورة الملك : الآيتين 16، 17 ] وحديث الجارية الذي في " الصحيح " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/381، 382 ) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه ] ، ومعنى كونه في السماء إذا أريد بالسماء العلو فـ ( في ) للظرفية وهو أن الله جل وعلا في العلو بائن من خلقه سبحانه وتعالى عالٍ على مخلوقاته بائن من خلقه . وأما إذا أريد بالسماء السماء المبنية وهي السبع الطباق فمعنى ( في ) هنا : بمعنى على يعني : على السماء كما في قوله تعالى : { سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } [ سورة الأنعام : آية 11 ] يعني : على الأرض، وكما في قوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ سورة طه : آية 71 ] يعني : على جذوع النخل .(33/6)
وعلى كل حال فالآيات المتضافرة والأحاديث المتواترة وإجماع المسلمين وأتباع الرسل على أن الله جل وعلا في السماء أما من نفى ذلك من الجهمية وأفراخهم وتلاميذهم فإن هذا المذهب باطل وإلحاد في أسماء الله، والله جل وعلا يقول : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة الأعراف : آية 180 ] فالإلحاد في أسماء الله وصفاته جريمة عظيمة، وهذا الذي ينفي كون الله في السماء يكذب القرآن ويكذب السنة ويكذب إجماع المسلمين، فإن كان عالمًا بذلك فإنه يكفر بذلك، أما إذا كان جاهلاً فإنه يبين له فإن أصر بعد البيان فإنه يكون كافرًا، والعياذ بالله .
14 ـ قال الله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة : آية 34 ] فهل إبليس من الملائكة ؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم قيل : إنه من الملائكة لظاهر الاستثناء في قوله تعالى : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ } [ سورة ص : الآيتين : 73، 74 ] ثم إنه بعد ذلك لما حصل منه ما حصل من استكبار عن طاعة الله، فإن الله سبحانه وتعالى عاقبه وأحل به لعنته، وهذا قول ضعيف .
والصحيح : أنه ليس من الملائكة لقوله تعالى : { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ سورة الكهف : آية 50 ] فالصحيح : أنه ليس من الملائكة، لأن الملائكة خلقت من نور كما في الحديث (1) والشيطان خلق من نار كما قال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ سورة الأعراف : آية 12 ] .(33/7)
4 ـ القرآن الكريم
1 ـ آداب التلاوة .
2 ـ حفظه ونسيانه .
3 ـ فضائل السور .
4 ـ قصص القرآن .
5 ـ مسائل في علوم القرآن .
1 ـ آداب التلاوة
15 ـ هل يجب استقبال القبلة عند التلاوة ؟
ينبغي استقبال القبلة، لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادة يستحب فيها استقبال القبلة فإذا تيسر هذا فهو من المكملات، وإذا لم يستقبل القبلة فلا حرج في ذلك .
16 ـ هل القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب ؟ نرجو الإفادة ؟
أما من جهة قراءة القرآن في غير الصلاة فالقراءة من المصحف أولى، لأنه أقرب إلى الضبط وإلى الحفظ إلا إذا كانت قراءته عن ظهر قلب أحفظ لقلبه وأخشع له فليقرأ عن ظهر قلب .
وأما في الصلاة فالأفضل أن يقرأ عن ظهر قلب وذلك لأنه إذا قرأ من المصحف فإنه يحصل له عمل متكرر في حمل المصحف وإلقائه وفي تقليب الورق وفي النظر إلى حروفه، وكذلك يفوته وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في حال القيام، وربما يفوته التجافي في الركوع والسجود إذا جعل المصحف في إبطه، ومن ثَمَّ رجحنا قراءة المصلي عن ظهر قلب على قراءته من المصحف .
هذا وبعض المأمومين نشاهدهم خلف الإمام يحملون المصحف يتابعون قراءة الإمام وهذا أمر لا ينبغي لما فيه من الأمور التي ذكرناها، ولأنه لا حاجة بهم إلا أن يتابعوا الإمام . نعم لو فرض أن الإمام ليس بجيد الحفظ وقال لأحد المأمومين : صلِّ ورائي وتابعني في المصحف إذا أخطأت، فرد عليه فإن هذا لا بأس به .
17 ـ سؤال حول قراءة القرآن الكريم يقول : أحاول قضاء وقتي في قراءة القرآن الكريم، ولكنني أتلعثم كثيرًا في قراءته، وعندي كثير من الأخطاء في القراءة فهل عليَّ إثم في ذلك ؟ وأيضًا أثناء قراءتي القرآن الكريم والأحاديث والأدلة، تخرج تلك الأجهزة المعلقة في جسمي لقضاء حاجتي عن طريقها تخرج عن مكانها فأضطر لإعادتها بيدي وبعد ذلك أحاول رفع المصحف الشريف، أو تطبيقه فهل أنا آثم بذلك ؟(34/1)
أما قراءة القرآن الكريم فإنك تقرأ القرآن الكريم على حسب حالك، ولكن إذا كان عندك خطأ في القراءة فإنه يجب عليك أن تعدلها وأن تطلب ممن هو أحفظ منك للقراءة وأتقن أن يعدل لك القراءة وتتعلم عليه ما يلزم إذا أمكن ذلك، وإذا لم يمكن ذلك فإنك تقرأ على حسب استطاعتك، ولو مع المشقة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] . فلا تترك القراءة، لكن مهما أمكنك أن تصلح أخطاءك، فإنه يجب عليك ذلك .
أما من ناحية مس المصحف، فلا يجوز لك إلا من وراء حائل وأنت على هذه الحالة التي تذكر، أن الحدث يخرج باستمرار، ومن غير شعور منك، لأن المصحف لا يجوز أن يمسه إلا الطاهر، ولكن عليك أن تتلقى القراءة من غيرك، وأن تستمع إلى من يقرأ، أو تتخذ من الأشرطة المسجلة من القرآن الكريم والمصحف المرتل ما تسمع منه القرآن الكريم وتستفيد منه، هذا الذي أراه لك .
أما مس المصحف فلا يجوز لك وأنت على هذه الحالة، ولكن لا بأس أن تقرأ ما تحفظه من السور، ولا بأس أن تذكر الله عز وجل، بأنواع الأذكار الواردة، ولا بأس أيضًا، أن تقرأ الأحاديث النبوية، إنما الذي يُمنع هو مسُّ المصحف بدون طهارة، وإذا مسست المصحف من وراء حائل فلا بأس بذلك .
18 ـ هل تصح قراءة القرآن وأنا مضطجع على السرير وإذا كانت لا تصح فما تفسير الآية الكريمة :
بسم الله الرحمن الرحيم : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : آية 191 ] ؟(34/2)
قراءة القرآن من المضطجع لا بأس بها سواء كان مضطجعًا على السرير أو على الأرض . لا بأس بذلك فيتلو الإنسان القرآن على أي حال كان . قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا . وسواء كان متوضئًا أو محدثًا حدثًا أصغر . إذا كانت القراءة عن ظهر قلب . أما إذا كانت القراءة من المصحف فإن المحدث لا يجوز له مس المصحف حتى يتوضأ .
والحاصل أنه لا مانع من قراءة القرآن على أي حال ما لم يكن الإنسان على جنابة فإذا كان الإنسان جنبًا فإنه تحرم عليه تلاوة القرآن حتى يغتسل . وكذلك الحيض والنفاس يمنعان المرأة من قراءة القرآن إلا في حال الضرورة كخوف نسيانه .
19 ـ سمعت أن من يقرأ القرآن وهو لا يجيد قراءته أنه يأثم بذلك فهل هذا صحيح ؟ وهل معنى هذا أن عدم قراءته له أفضل من قراءته مكسرًا ؟
هذا له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون قادرًا على إصلاح أخطائه في القراءة بأن يكون عنده من يتمكن من تعديل القراءة عليه ويعلمه القراءة الصحيحة فهذا لا يجوز له أن يبقى على القراءة المكسرة بل يجب عليه أن يعدل قراءته وأن يصححها، لأنه متمكن من ذلك .
والحالة الثانية : يكون لا يقدر على تعديل القراءة فهذا يقرأ حسب استطاعته ومقدرته ولا يترك قراءة القرآن، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] فهذا له أجر القراءة وأجر المشقة .
20 ـ إني أحاول أن أقرأ القرآن الكريم، وأحب كتاب الله كثيرًا، ولكن صدري يضيق عليَّ، فلا أستطيع أن أكمل التلاوة؛ فما هو الحل ؟(34/3)
الحل فيما أرشد الله سبحانه وتعالى إليه في قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ سورة النحل : الآيات 98-100 ] .
أرشدنا الله سبحانه وتعالى قبل أن نتلو القرآن أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم من أجل أن يطرد الله عنا هذا العدو وأن يبعده عنا .
وعليك بالتدبر؛ فإنك إذا تدبرته؛ فإن هذا مما يجلب لك الخشوع، ويرغبك بالقرآن الكريم، ولا يكون كل همك إكمال السورة أو ختم الجزء أو ما أشبه ذلك، بل يكون مقصودك هو التدبر والتفكر فيما تقرأ من آيات الله سبحانه وتعالى .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطيل القراءة في صلاة الليل، ولا يمر على آية رحمة؛ إلا وقف وسأل الله، ولا يمر بآية فيها ذكر العذاب؛ إلا وقف واستعاذ بالله، مما يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ بتدبر وحضور قلب (1) .
21 ـ والدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها والحمد لله تصوم وتصلي إلا أنها في قراءتها في الصلاة تقرأ آيات من القرآن الكريم مع شيء من التغيير بسبب جهلها فهل يعد هذا تحريفًا في القرآن الكريم تأثم عليه أم لا تؤاخذ على ذلك ؟ وقد حاولت تعليمها القراءة الصحيحة فلم أستطع معها ؟(34/4)
والدتك لا تؤاخذ على ذلك إن شاء الله، لأن هذا هو منتهى مقدرتها، وقد جاء في الحديث أن ( الذي يقرأ القرآن الكريم ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] فما دمت أنك علمتها وحاولت إقامة لسانها في القراءة فقد فعلت حسنًا . وهي حاولت أيضًا ولكنها لم تستطع فلا حرج عليها في ذلك إن شاء الله ولكن عليها أن تحاول تعديل القراءة، إما عن طريق التعليم وإما إسماعها السور التي تحفظها من أشرطة تسجيلات القرآن الكريم أو من مقرئ تحضر عنده - لعلها تستفيد - والإنسان إذا حاول أعانه الله .
2 ـ حفظه ونسيانه
22 ـ أنا شاب عاقل والحمد لله، ولكن عندي مشكلة وهي : أنني أحفظ آياتٍ من كتاب الله أو أجزاء ثم لا ألبث إلا أن أنساها فهل عليَّ إثم في حفظي لآيات الله ثم نسيانها ؟
ينبغي لمن حفظ شيئًا من كتاب الله أن يتعاهده بالتلاوة لئلا ينساه كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا نسيه فإن كان ذلك بسبب آفة أصابته فأضعفت ذاكرته فلا إثم عليه، وإن كان نسيانه نتيجة تفريط فلا يبعد القول بتأثيمه، لأنه لم يعمل بوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإرشاده، ولأن هذا يدل على عدم الرغبة والعناية بكتاب الله عز وجل .
23 ـ حفظت من القرآن الكريم جزءين، وكلما حفظت سورة نسيت بعض الآيات من السورة التي حفظتها قبلاً فأفيدوني بشيء فيه دواء وشفاء عن هذا الداء الذي هو النسيان جزاكم الله خيرًا ؟
أولاً : عليك بحسن النية في تعلمك القرآن الكريم .
وثانيًا : عليك بالإكثار من تلاوة القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم كما يبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتاج إلى تعاهد وكثرة قراءة، لأنه اشد تفلتًا من الإبل في عقلها (1) فيحتاج منك إلى تعاهد وكثرة تلاوة، فإذا حفظت سورة فأكثر من تلاوتها وترديدها إلى أن تثبت، ولا تنتقل عنها إلا إذا أتقنت حفظها .
فالحاصل :(34/5)
أولاً : يجب عليك إحسان النية والعمل بما علمك الله، والله تعالى يقول : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [ سورة البقرة : آية 282 ] .
ثانيًا : عليك بكثرة التلاوة .
ثالثًا : عليك بإتقان الحفظ بحيث لا تنتقل من آية إلى أخرى، ومن سورة إلى أخرى إلا بعد إتقانها وثباتها في ذاكرتك .
24 ـ من حفظ شيئًا من القرآن الكريم ثم نسيه هل عليه إثم في نسيانه هذا ؟
من حفظ القرآن الكريم فإنه ينبغي له العناية بتلاوته واستذكاره واستحضاره، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حث على تعاهد القرآن، وأخبر أنه أشد تفلتًا من الإبل في عقلها، فلا يجوز لمن حفظ القرآن أن يتساهل في شأنه حتى ينساه، لأن ذلك يدل على عدم رغبته في الخير، وعدم اهتمامه بكتاب الله، فمن حفظ القرآن أو حفظ شيئًا منه فقد أوتي نعمة عظيمة وخيرًا كثيرًا، فلا ينبغي له أن يفرط بهذه النعمة وبهذا الخير العظيم، بل يتعاهده بالإكثار من تلاوته حتى يبقى في حفظه وينتفع به، مع ما في التلاوة من الأجر العظيم، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول : ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 8/115 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وأيضًا في تلاوة القرآن تأثير على القلب بالخشوع والخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى .
وفيه زيادة في الفقه والعلم وبصيرة لمن تدبره، فتلاوة القرآن فيها مصالح عظيمة فلا ينبغي للمسلم أني فرط في هذا الخير العظيم والنعمة الكبرى التي مَنّ الله تعالى بها عليه .
أما إذا نسيه لآفة أصابته في حفظ لا لتفريط وقع منه فهو معذور شرعًا .(34/6)
25 ـ ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( عرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر أعظم من رجلٍ حفظ آيةً ثم نسيها ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/123 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/118 ) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فما معنى هذا الحديث ؟
أنا لا أعرف هذا الحديث، ولم أطلع عليه، ولكن النسيان على قسمين :
الأول : إذا كان ذهولاً أو بسبب مرضٍ أصاب الإنسان؛ فهذا لا يؤاخذ عليه .
والثاني : إذا كان بسبب الإعراض عن تلاوة كتاب الله؛ فهذا يؤاخذ عليه؛ لأنه نسيه بسبب الأهمال .
26 ـ رجل يقول : إنه يحاول حفظ القرآن لكنه لا يتمكن من قراءة التفسير لظروف عمله هل يستمر بالحفظ فقط ؟
لا بأس بذلك، فليس من لوازم الحفظ أن تقرأ التفسير، بل إذا أمكن أن تحفظ وأن تقرأ التفسير فهذا شيء طيب وإذا لم يتيسر فإنك تحفظ القرآن أولاً وإذا تيسر الأمر وسنحت الفرصة فإنه تقرأ التفسير بعد الحفظ، فالجمع بين الحفظ والتفسير أكمل إذا تيسر .
أما إذا لم يمكن قراءة التفسير ولم تتمكن إلا من الحفظ فإنك تقتصر على الحفظ وتحفظ القرآن، ثم بعد ذلك تقرأ التفسير، وفي كلا الحالتين لابد من العمل بالقرآن، فإنه لا يكفي الحفظ ومطالعة التفسير بدون عمل .
27 ـ ما نصيحتكم للشباب في أسهل طريقة لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى ؟
القرآن ميسر وسهل الحفظ؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ سورة القمر : آية 17 ] ، والشأن هو عزيمة الإنسان، وصدق نيته، فإذا كان لديه عزيمة صادقة، وإقبال على القرآن؛ فإن الله ييسر له حفظه ويسهله عليه .(34/7)
وهناك أمور تساعد على حفظه؛ كتخصيص وقت مناسب في كل يوم، تحضر مع مدرس القرآن في المسجد، والحمد لله المدرسون اليوم كثيرون، ولا تجد حيًا من الأحياء إلا وفيه من يدرس القرآن، وهذه فرصة عظيمة، ما كانت موجودة في الزمان السابق؛ فعلى الأخ أن يختار أي حلقة من الحلقات، أو أي مدرس من المدرسين، ويلازم الحضور معه يوميًّا، إلى أن يكمل القرآن .
وأيضًا؛ عليك أن تكثر من استعادة ما قرأت مرة ثانية وثالثة وحتى يثبت في قلبك وذاكرتك، وعليك بالعمل بكتاب الله؛ فإنه أعظم وسيلة لتعلمه، قال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة البقرة : آية 282 ] .
3 ـ فضائل السور
28 ـ يقول تعالى في سورة الحجر : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ سورة الحجر : آية 87 ] ما هي السبع المثاني ؟ ولماذا سميت كذلك ؟
السبع المثاني قيل : إنها الفاتحة؛ لأنها سبع آيات، وهذا هو المشهور، وقيل : إن المراد بالسبع المثاني السبع الطوال التي هي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، لأن الأنفال والتوبة سورة واحدة، والقرآن العظيم هذا معطوف على السبع المثاني من عطف العام على الخاص، والمثاني هي التي تكرر فيها المواعظ والعبر .
29 ـ سمعت أن من قرأ سورة الواقعة لا يصيبه الفقر، فهل هذا صحيح ؟ وهل هناك مزايا لبعض سور القرآن عن غيرها وما هي ؟(34/8)
نعم : ورد في ذلك ما رواه أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في " الشعب " عن ابن مسعود سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا ) [ وانظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( 4/383 ) ] ، وكذا أخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( سورة الواقعة سورة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم ) [ انظر " فتح القدير " ( 5/146 ) ] .
وأيضًا ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى ) [ انظر " فتح القدير " ( 5/146 ) ] ، وهذه الأحاديث تدل على فضل سورة الواقعة وفضل قراءتها، والله أعلم .
30 ـ هل هناك سورة تفضل على غيرها من السور ؟ وهل هناك شيء مخصوص بذاته ؟
نعم لا شك أن القرآن يتفاضل بعضه أفضل من بعض، فهناك سور مفضلة، وهناك آيات مفضلة، فمن السور المفضلة سورة البقرة، وسورة آل عمران، كما جاء في الحديث ( أنهما يأتيان يوم القيامة يقدمان القرآن كأنهما غمامتان أو غيايتان ) ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) ، وقال : ( إنها لا تطيقها البطلة ) ، وأخبر أنها سنام القرآن، وكذلك ورد فضل سورة الفاتحة ( فاتحة الكتاب ) ، وأنها أم القرآن، وورد أيضًا فضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن، وورد فضل قراءة المعوذتين، ولا شك أن القرآن يتفاضل وهو كله كلام الله عز وجل، وكله فاضل، وكله عظيم، لكن الله فضّل بعضه على بعض .
31 ـ سمعت أن من قرأ سورة الحشر في كل ليلة فمات من ليلته كان شهيدًا وما صحة هذا ؟(34/9)
لم أقف على هذا الحديث، وسورة الحشر سورة عظيمة تشتمل على أحكام عظيمة، وعلى تنزيه الله سبحانه وتعالى في أولها، وعلى أسمائه في ختامها، فهي سورة عظيمة تشتمل كذلك على بيان صفة المهاجرين والأنصار وما قدموه من أعمال جليلة في خدمة الإسلام ونصرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتشتمل كذلك على التحذير من صفات المنافقين وبيان شرهم ومكائدهم، فهي سورة عظيمة بلا شك، وفيها فضل عظيمة كغيرها من سور القرآن العظيم .
32 ـ قرأت حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيه : ( إن من قرأ ثلاث آيات من سورة الحشر وكّل الله به سبعين ملكًا يصلون عليه، وإن مات من يومه فهو شهيد، وإن أمسى مثل ذلك ) [ انظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( 4/344 ) ، وانظر " سنن الترمذي " ( 8/122 ) من حديث معقل بن يسار ] هل هذا الحديث صحيح ؟ وهل الشهداء مراتب، فالذي يستشهد في سبيل الله كالذي يستشهد دون ماله ؟
هذا الحديث ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " في تفسير آخر سورة الحشر، وعزاه إلى الترمذي، وقال عنه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (1)، وعزاه الشوكاني في " فتح القدير " إلى أحمد والدارمي والترمذي، وقال : حسنه، وإلى الطبراني والبيهقي في " الشعب " ، وذكر له شواهد (2) .
ولا شك أن الشهداء يتفاوتون في الفضل، فشهيد المعركة أفضل من غيره من الشهداء، وكذلك فهو يختص بأحكام ليست لغيره من الشهداء .
33 ـ هل صحيح أن قراءة سورة تبارك تمنع من عذاب القبر ؟
نعم ذكر الحافظ ابن كثير (3) وغيره في مقدمته لتفسير هذه السورة جملة أحاديث تدل على فضلها، فيرجى لمن تعلمها وقرأها بنية صالحة أن يحل على خير كثير مما دلت عليه هذه الأحاديث الواردة في فضلها . . والله أعلم .
34 ـ ما هي الفضائل التي وردت في سورة الملك ؟(34/10)
سورة الملك سورة عظيمة ورد في فضلها أحاديث منها ما رواه أصحاب السنن الأربعة أن رجلاً قرأ سورة من ثلاثين آية شفعت له، وورد أن سورة الملك أيضًا قراءتها تقي من عذاب القبر أو ما هذا معناه، وفيها فضل وثواب عظيم لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة، فهي سورة عظيمة .
35 ـ ما مدى صحة هذا الحديث : ( من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } في ليلة ألف مرة فقد شرى نفسه من الله ) ؟ وما معنى وكيف يشري نفسه من الله ؟
أما سورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فهي سورة عظيمة أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث صحيحة أنها تعادل ثلث القرآن (4) ، وذلك لما تتضمنه من أوصاف الله سبحانه وتعالى ونعوت جلاله، فهي سورة خالصة في التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأها مع المعوذتين عند النوم (5) ، وكان يحث على قراءتها (6) لما فيها من الفضل العظيم، وأنها تعدل ثلث القرآن .
أما ما ذكره من الحديث أن من قرأها ألف مرة شرى نفسه من الله فهذا لم أقف له على أصل له، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في " تفسيره " من الأحاديث الواردة في فضلها، وأطال في ذلك (7) واستقصى ولم يذكر هذا الحديث من بينها، فلا أعرف حاله، ولكن في الأحاديث الثابتة في فضل هذه السورة وعظمتها كفاية ولله الحمد، وكذلك في فضل تلاوتها وقراءتها والإكثار من ذلك لما تضمنته من الخير العظيم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ بها وبـ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } في ركعتي الطواف (8) وفي سنة الفجر (9) لما تضمنته هاتان السورتان من توحيد الله عز وجل، وتوحيد العبادة، ففي : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } توحيد العبادة، وفي : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
36 ـ هل من قرأ سورة الإخلاص في كل ليلة يعتبر أنه ختم المصحف الشريف بكامله لأنها تعدل ثلث القرآن ؟(34/11)
سورة الإخلاص فيها فضل عظيم، وقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إنها تعدل ثلث القرآن ) [ انظر " صحيح الإمام البخاري " ( 6/105 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وذلك لما تشتمل عليه من صفة الرب سبحانه وتعالى، ففيها فضل عظيم وفي قراءتها فضل عظيم لكن ليس من قرأها واقتصر عليها وكررها يكون كقارئ القرآن كله، بل إذا قرأ القرآن كله فقد حصل على أجره وثوابه، ويكون أيضًا قارئًا لسورة الإخلاص فيكون حائزًا على ثواب هذه السورة وعلى ثواب تلاوة القرآن كله . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول : ألم حرف، ولكن أقول : ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 8/115 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] .
فالاقتصار على قراءة سورة الإخلاص لا يكفي عن قراءة القرآن، ولكن فيه أجر تلاوتها وقراءتها الخاص بها .
4 ـ قصص القرآن الكريم
37 ـ أرجو تفسير هذه الآيات من سورة البقرة : يقول الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ سورة البقرة : الآيات 94-96 ] .(34/12)
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء اليهود الذين يزعمون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا أو نصرانيًا وأن دخول الجنة محصور عليهم لا يدخلها غيرهم يقول الله جل وعلا لنبيه قل لهؤلاء الكاذبين : إن كانت لكم الدار الآخرة - وهي الجنة - عند الله خالصة من دون الناس لا يدخلها إلا أنتم فتمنوا الموت .
وفي هذا قولان لأهل العلم :
القول الأول : أن هذا من باب المباهلة، وأن الله أمر نبيه أن يباهلهم بأن يقول : تعالوا ندعو بالموت على الكاذب منا أو منكم، فإنهم لن يقدموا على ذلك لعلمهم أنهم هم الكاذبون .
القول الثاني : أنكم مادمتم ضامنين أن لكم الجنة عند الله فلماذا لا تتمنوا الموت لتنتقلوا إلى الجنة بزعمكم ؟ ! لأن من كان ضامنًا أن له الجنة وأن له السعادة عند الله وأنهم هم أبناء الله وأحباؤه، فإن المحب يفرح بلقاء حبيبه . . إذاً تمنوا الموت لكي تخرجوا من سجن الدنيا إلى نعيم الآخرة وإلى لقاء الله الذي تزعمون أنكم أحباؤه .
وقد أيد الحافظ ابن كثير في " تفسيره " الرأي الأول، وأن هذا من باب المباهلة والتحدي لهم، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، فلهذا لا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى النار وإلى العذاب وهم يؤثرون البقاء في الدنيا، لأن الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن، فهم يكرهون الموت، لأنهم يعلمون ما وراءه من سوء مصيرهم عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } [ سورة البقرة : آية 95 ] .(34/13)
ثم بين عز وجل أنهم يحبون الحياة ويكرهون الموت فقال تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : أنهم أشد حبًا للحياة حتى من الكفار الذي لا كتاب لهم من المشركين الذين لا كتاب لهم وليس لهم دين سماوي فهم يحبون الحياة أكثر من هؤلاء لعلمهم بمصيرهم عند الله سبحانه وتعالى وما يلحقهم من الخزي والعار فهم يريدون أن يتأخروا في هذه الدنيا عن العقوبة اللاحقة لهم في الآخرة، قال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : يود أحد اليهود لو يعمر ألف سنة، لأنه يحب الحياة الدنيا ويكره الآخرة . ويقول تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : ليس حياته في الدنيا وإن طالت، فإنها لا تغنيه من عذاب الله من شيء وهم واقعون فيما قد فروا منه ولا محالة حتى وإن طالت أعمارهم وامتدت آجالهم { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : أن النجاة عند الله سبحانه وتعالى والفوز عنده ليس بطول العمر وإنما بالعمل الصالح واتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا هو السعيد عند الله عز وجل الذي يفرح بلقاء الله . والله جل وعلا يحب لقاءه ويجد الكرامة عند الله .
38 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] وهل هؤلاء الراسخون في العلم هم في زمن نزول القرآن أم هم موجودون إلى قيام الساعة أم أن علم التأويل مقتصر على الله وحده، وقوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] بداية كلام جديد ؟(34/14)
هذا محل خلاف بين أهل العلم في موضع الوقوف هل هو على لفظ الجلالة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] .
{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] جملة مستأنفة، أو أن الراسخين في العلم معطوفون على لفظ الجلالة ولا يتعين الوقف على لفظ الجلالة وهذا يرجع إلى معنى التأويل والمراد به، فإن كان المراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى فإنه يصح العطف على لفظ الجلالة فتقرأ الآية : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] بمعنى أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابه ويفسرونه بأن يحملوه على المحكم ويردوه إلى المحكم . وإن أريد بالتأويل هنا مآل الشي وكيفيته وما يؤول إليه الشيء من الأمور التي أخبر الله عنها من المغيبات فهذا لا يعلمه إلا الله ويتعين الوقف على لفظ الجلالة فتقرأ الآية : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] ويوقف على لفظ الجلالة يعني أن الحقيقة التي يؤول إليها والكيفية التي هو عليها مما أخبر الله عنه في كتابه من الأمور المغيبة كذاته سبحانه وتعالى وكيفية صفاته وما في الدار الآخرة من النعيم والعذاب وغير ذلك فهذا لا يعلمه إلا الله .
ومن هذا قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ سورة الأعراف : آية 53 ] فالمراد بتأويله هنا حقيقته التي يؤول إليها وكيفيته لا تفسيره ومعناه .
39 ـ نرجو من فضيلتكم تبيين الحكمة في نزول سورة التوبة بدون البسملة ؟
نعم كل سورة من القرآن تأتي في بدايتها " بسم الله الرحمن الرحيم " إلا سورة التوبة، وقد أجابوا عن هذا بجوابين :(34/15)
الأول : أن سورة التوبة مكملة لسورة الأنفال فلذلك لم تأت في بدايتها " بسم الله الرحمن الرحيم " ، لأنها مكملة لسورة الأنفال .
والقول الثاني : أن سورة التوبة لم تأت قبلها البسملة لأنها سورة ذكر فيها الجهاد وقتال الكفار وذُكر فيها وعيد المنافقين وبيان فضائحهم ومخازيهم، و " بسم الله الرحمن الرحيم " يؤتى بها للرحمة وهذا الموطن فيه ذكر الجهاد وذكر صفات المنافقين، وهذا ليس من مواطن الرحمة بل هو من مواطن الوعيد والتخويف . فلذلك لم تذكر " بسم الله الرحمن الرحيم " في بدايتها .
40 ـ ما المقصود بقوله تعالى في سورة هود : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ سورة هود : آية 34 ] ؟
يقول نوح عليه السلام لقومه : إن كان الله سبحانه وتعالى أراد إضلالكم ودماركم بسبب كفركم وإعراضكم فلا راد لقضائه .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في " تفسيره " : أي إن إرادة الله غالبة . فإنه إذا أراد أن يغويكم لردكم الحق فلو حرصت غاية مجهودي ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئًا انتهى (1) .
وكأنه عليه السلام لما رأى عنادهم وإصرارهم على الكفر عرف أن الله سبحانه سيعاقبهم . كما هي سنة الله في خلقه أن من أعرض عن قبول الحق بعد وضوحه ودعوته إليه فإن ذلك علامة على نزول العقوبة به، ونوح عليه السلام قال ذلك لقومه لما طلبوا منه إيقاع العقوبة التي كان يخوفهم منها، فطلبوا منه إيقاعها بهم من باب التحدي له فبين عليه السلام لهم أن ذلك ليس بيده وإنما هو بيد الله . وأنه سبحانه إذا أراد عقوبتهم فلا راد لما أراده .(34/16)
41 ـ ما معنى هذه الآية التي تبين ما أصاب قوم شعيب عليه السلام من العذاب وما هي قصتهم وأعمالهم التي استحقوا عليها ذلك العذاب، يقول الله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ سورة هود : آية 94 ] وما معنى قوله تعالى في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ سورة الشعراء : آية 189 ] وهل هذه في قوم شعيب أيضًا أم في غيرهم ومن هم ؟
قوم شعيب أمة كافرة تسكن في أرض الأردن وتسمى مدين، بعث الله إليها نبيه شعيبًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة ما سواه وكانوا مع شركهم يبخسون الناس أشياءهم ينقصون المكيال والميزان .
فهم يسيئون في حق الله سبحانه وتعالى ويسيئون في حق الناس، كما قال سبحانه : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ سورة هود : آية 84 ] الآية فهم جمعوا بين هاتين الجريمتين، ولمّا حذرهم نبي الله شعيب عليه السلام من نقمة الله وبطشه استهزءوا وقالوا : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } [ سورة هود : آية 87 ] فانتهى أمرهم إلى أن عاقبهم الله عقابًا مستأصلاً فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم .(34/17)
ويوم الظلة ذكر المفسرون أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم حرًا شديدًا يصلاهم في بيوتهم ومساكنهم، فلما اشتد عليهم الحر في بيوتهم خرجوا إلى الصحارى وهي ملتهبة بسبب الرمضاء وأشعة الشمس المحرقة، ثم إن الله سبحانه ساق سحابة لها ظل ففرحوا بها واجتمعوا تحتها ووجدوا فيها بردًا، فلما تكاملوا تحتها أمطرتهم نارًا تلظّى فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بذلك . هذه قصة إهلاكهم .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : وقد ذكر الله صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ سورة الأعراف : آية 78 ] وذلك لأنهم قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ سورة الأعراف : آية 88 ] فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه فاخذتهم الرجفة، وفي سورة هود قال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [ سورة هود : آية 67 ] وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ سورة هود : آية 87 ] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [ سورة هود : آية 67 ] الآية، وهاهنا - يعني في سورة الشعراء - قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ } [ سورة الشعراء : آية 187 ] على وجه التعنت والعناد فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه ( فأخذهم عذاب يوم الظلة . . . ) إنه كان عذاب يوم عظيم .(34/18)
قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إن الله سلّط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها وأصاب تحتها بردًا وراحة، فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعًا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارًا نعوذ بالله من ذلك (2) .
42 ـ يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الإسراء : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } [ سورة الإسراء : الآيات 4-6 ] فما معنى هذه الآيات ؟ وما المقصود بالإفساد في الأرض مرتين ؟ وهل قد مضت المرتان ؟ وما معنى قوله : { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } ؟ وماذا يفهم من هذه الآيات ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أخبرناهم وبيّنا لهم أنهم سيحصل منهم إفساد في الأرض بالكفر والمعاصي وقتل الأنبياء مرتين .(34/19)
ولما حصل منهم الإفساد في المرة الأولى بعث الله عليهم عدوًا من الكفار، من كفار المجوس أو من غيرهم فقتلوهم شر قتلة واستباحوا بلادهم وديارهم عقوبة لهم، ثم إن الله سبحانه وتعالى أعاد الكرّة لبني إسرائيل فنموا وكثروا وأعاد لهم قوتهم أي بعدما عاقبهم الله سبحانه وتعالى على الإفساد الأول منّ عليهم بأن أعاد لهم قوتهم وعزتهم وكثرة الغنى والأولاد، ثم إنهم لم يقيدوا نعمة الله بالشكر وعادوا إلى إفسادهم مرة ثانية فأفسدوا في الأرض مرة ثانية عند ذلك بعث الله عليهم عدوًا آخر أيضًا استباح بلادهم وأهلك الحرث والنسل ودخلوا المسجد الذي هو بيت المقدس وخربوه كما دخله العدو الأول، قال تعالى : { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 7 ] أي يدمر هذا العدو ويفسد ما حصل لكم في هذه الفترة من النشاط ومن العمران وكثرة الأموال والأولاد عقوبة لكم فالله جل وعلا أخبر في هذه الآيات عن بني إسرائيل أنهم حصل منهم إفساد في الأرض مرتين وهذا في الزمن الماضي حصلت الإفسادتان والعقوبتان .
ثم توعدهم أنه إذا كرروا هذا فسيعيد لهم العقوبة إلى يوم القيامة فقال تعالى : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 8 ] هذا وعيد من الله أنه كما أنه عاقبهم على المرتين الأوليين فهو كذلك سيعاقبهم كلما أفسدوا في الأرض إلى آخر الدنيا وهذا واقع ومشاهد أن اليهود مازالوا يسلط عليهم الجبابرة ويسلط عليهم عدوهم كلما حصل منهم علو في الأرض وإفساد في الأرض، وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى لهذا الشعب الذي لازال يفسد في الأرض وينشر الفساد فيها ويتكبر على العباد .(34/20)
وآخر عقوباتهم في الدنيا حين ينزل المسيح ابن مريم عليه السلام ويقتل الدجال وينتصر المسلمون معه على اليهود ويقتلونهم في أرض فلسطين كما دلت على ذلك الأدلة المتواترة من الكتاب والسنة .
43 ـ يقول الله تعالى في سورة الإسراء : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } [ سورة الإسراء : آية 101 ] يقول السائل المعروف أن الآيتين اللتين نعرفهما هما العصا واليد فما هن السبع الأخر ؟
السبع الأخر هي المذكورة في سورة الأعراف وهي : الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم مع اليد والعصا والأخذ بالسنين ونقص الثمرات فهذه تسع آيات .
44 ـ يقول الله تعالى في سورة مريم : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } [ سورة مريم : الآيتين 24، 25 ] يقول : من هو المنادي ؟ ومن هو المقصود بقوله : { سَرِيًّا } ؟
المنادي قيل : إنه جبريل عليه السلام نادى مريم من تحتها وسمعت صوته، وقيل : إن المنادي هو عيسى عليه السلام ولكن الراجح الأول أنه جبريل عليه السلام، وأما عيسى فإنه لم يتكلم إلا لما حملته إلى قومها وكما ذكر الله سبحانه وتعالى لما أشارت إليه { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ سورة مريم : آية 27 ] وقالوا لها ما قالوا من الاستنكار فأشارت إليه فتكلم بإذن الله عز وجل، أما قبل ذلك فلم يرو أنه تكلم عليه الصلاة والسلام، فالراجح أن الذي ناداها من تحتها هو جبريل .
والسري : هو النهر الذي تشرب منه ولهذا قال : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } [ سورة مريم : آية 26 ] .(34/21)
45 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ؟ [ سورة طه : آية 124 ] ما معنى تفسير هذه الآية ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ سورة طه : الآيتين 123، 124 ] في الآيتين الكريمتين أن من اتبع القرآن وعمل به فإن الله سبحانه وتعالى تكفل له بأن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وفي الآية الثانية أن من أعرض عن القرآن ولم يعمل به فإن الله جل وعلا يعاقبه بعقوبتين :
الأولى : أنه يكون في معيشة ضنكًا وقد فسر ذلك بعذاب القبر، وأن يعذب في قبره وقد يراد به المعيشة في الحياة الدنيا وفي القبر أيضًا فالآية عامة .
والحاصل أن الله توعده بأن يعيش عيشة سيئة مليئة بالمخاطر والمكاره والمشاق جزاء له على إعراضه عن كتاب الله جل وعلا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال ووقع في الحرج .
والعقوبة الثانية : أن الله جل وعلا يحشره يوم القيامة أعمى، لأنه عمي عن كتاب الله في الدنيا فعاقبه الله بالعمى في الآخرة، قال : { رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ سورة طه : الآيتين : 125، 126 ] ، فإذا عمي عن كتاب الله في الدنيا بأن لم يلتفت إليه ولم ينظر فيه ولم يعمل به، فإنه يحشر يوم القيامة على هذه الصورة البشعة والعياذ بالله .(34/22)
وهذا كقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [ سورة الزخرف : الآيات 36-40 ] فالحاصل أن الله جل وعلا توعد من أعرض عن كتابه ولم يعمل به في الحياة الدنيا بأن يعاقبه عقوبة عاجلة في حياته في الدنيا وعقوبة آجلة في القبر والعياذ بالله وفي الحشر، والله تعالى أعلم .
46 ـ ما معنى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ سورة الزخرف : الآيات 36-40 ] ومتى حصل هذا الفتق في السماوات والأرض ؟
ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن معنى الآية أن السماء كانت لا تمطر والأرض كانت لا تنبت، ففتقهما الله عز وجل بأن جعل السماء تمطر وجعل الأرض تنبت وهذا أصح الأقوال، لأنه قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ سورة الأنبياء : آية 30 ] .
القول الثاني : أن معنى كون السماوات والأرض كانتا رتقًا أن الأرض أول ما وجدت كانت كتلة واحدة ثم إن الله سبحانه وتعالى فتقها وجعلها سبع طباق، كذلك السماوات كانت شيئًا واحدًا ففتقها الله جل وعلا وجعلها سبع سماوات .
والقول الثالث : أن السماء والأرض كانتا شيئًا واحدًا مجتمعتين ثم إن الله سبحانه وتعالى فتق السماء من الأرض ورفع السماء وأقرَّ الأرض في مكانها .
هذا حاصل الأقوال في هذه الآية الكريمة والأول هو أصحها، وأما وقت ذلك فالله أعلم به .(34/23)
47 ـ قال الله تعالى : { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [ سورة الحج : آية 5 ] ما معنى هذه الآية ؟
معنى هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خلق الإنسان وتطوره وقدرته سبحانه وتعالى على تنشئته وتنقله من طور إلى طور قال جل وعلا : { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى } [ سورة الحج : آية 5 ] يعني : في وقت مبكر من حياته ومنكم من يمدد في حياته ويزاد في عمره حتى يستكمله، ويرد إلى أرذل العمر بأن يبلغ منتهاه حتى ينتهي إلى حالة ضعف وحالة زوال الإدراك : { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [ سورة الحج : آية 5 ] لأنه كان في إبان قوته ومراحل عمره المتوسطة بين الطفولة والهرم ذا علم وذا فطنة بعد مرحلة الطفولة وذا إدراك ثم يتضاعف هذا الشيء مع امتداد العمر حتى يفقد بالكلية ويعود إلى الحالة الأولى التي كان عليها أول الطفولة .
فهذا فيه تذكير للإنسان بقدرة الله كما قال تعالى في آية أخرى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ سورة الروم : آية 54 ] .(34/24)
48 ـ قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ . . . } [ سورة فاطر : آية 32 ] الآية، وقال أيضًا : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ سورة النساء : آية 110 ] ، وقال تعالى في سورة يوسف على لسان امرأة العزيز : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ سورة يوسف : آية 53 ] ، وقال أيضًا : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ سورة النساء : آية 79 ] فالآيتان الأوليان تدلان على أن الإنسان هو الظالم لنفسه لكونه خالف أوامر ربه تعالى، وفي الآيتين الأخريين فيهما البيان أن النفس هي الظالمة للإنسان لكونها تأمره وتحثه على فعل السوء، فكيف الجمع بينهما مع إيماني الشديد بأن القرآن لا تعارض فيه، ولكن أريد التوفيق بين تلك الآيات الكريمات جزاكم الله خيرًا ؟
لا تعارض بين هذه الآيات الكريمة التي ذكرها السائل، وذلك لأن الآيات الأولى فيها أن الإنسان يظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله سبحانه وتعالى، وفي الآيات الثانية أن النفس أمارة بالسوء نزاعة للشر محبة للشهوات المحرمة فالإنسان يظلمها إذا تركها . . . مع هواها وأفسح لها المجال في تناول ما تشتهيه من المحرمات، لأن الله استرعاه عليها وأمره بحفظها والأخذ بزمامها وعدم تركها مع ما تشتهيه مما يضرها، قال تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ سورة الشمس : الآيات 7-10 ] فالإنسان يظلم نفسه إذا تركها تتناول ما تشتهي من المحرمات، فلا تعارض والحمد لله .(34/25)
49 ـ ما معنى هذه الآية من سورة ( ص~ ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } [ سورة ص : الآيتين 32، 33 ] ؟
هذه الآية وردت في سياق قصة سليمان عليه السلام : قال { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وتفسير هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام كان يستعرض الخيل " لأن المراد بالخير الخيل " ، وكان يستعرضها بعد العصر حتى غربت الشمس فقوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني : حتى غربت الشمس ونسي أن يصلي العصر؛ لأن رؤية الخيل شغلته عن ذلك، فعند ذلك ندم لما تنبه عليه الصلاة والسلام على ما فعل وقال : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } يلوم نفسه بهذا : { عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني : حتى غربت الشمس : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } .
القول الصحيح في تفسير ذلك : أنه أمر بذبحها وذلك بضرب سوقها وأعناقها بالسيف، لأنها شغلته عن طاعة الله عز وجل فأراد أن يكفر ما حصل بذبح هذه الخيل والتّصدّق بلحمها؛ لأن الخيل على الصحيح يؤكل لحمها، هذا هو الذي رجحه ابن كثير ورجحه أيضًا الشوكاني وغيرهما من المفسرين .
وهذا قد يعترض عليه بأنه لماذا يذبح الخيل ويعقرها وهي لا ذنب لها وهذا فيه إتلاف مال ؟ والجواب عن هذا في أحد أمرين : إما لأن هذا جائز في شرع من قبلنا، وإما أن هذا من العقوبة بإتلاف المال، والعقوبة بإتلاف المال جائزة على الصحيح حتى في شرعنا، مع أن ذبح الخيل والتصدق بلحمها على الفقراء والمحتاجين مباح وقربة إلى الله سبحانه وتعالى، فليس في هذا غرابة .(34/26)
50 ـ ما معنى قوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } [ سورة الرحمن : الآيتين 19، 20 ] وما هما البحران المقصود بهما في الآية ؟
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } يعني يتجاوران أي : يتجاور البحران العذب والمالح وقيل : المراد بذلك بحر فارس وبحر الروم حيث يلتقيان في المحيط، فالبحران إما المراد بهما البحر العذب والمالح بينهما برزخ لا يبغيان - أي أن هذا لا يختلط بهذا مع التقائهما، والبرزخ قيل : إنه العازل بينهما وقيل : إن البرزخ المقصود به شيء من الأرض فالبرزخ هو إما عازل بينهما أو حاجز من الأرض - نعم هذا بقدرة الله سبحانه أن هذه البحار تتجاور ويلتقي بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض لا المالح ينقلب إلى عذب ولا العذب ينقلب إلى مالح بل كل منهما يبقى على خصوصياته .
ومعنى { مَرَجَ } الظاهر والله أعلم معنى " مرج " هنا : التقى أو خلط بينهما أي جعل بينهما التلاقي .
51 ـ يسأل عن كلمة " عبس " الموجودة في سورة عبس وما معنى العبس الوارد في القرآن ؟
العبس معناه : عبس الإنسان إذا قطب جبينه وظهرت عليه الكراهة يعني : يتضايق الإنسان من شيء فيظهر على وجه الكراهة والعبوس وعدم الانبساط هذا هو الأصل .(34/27)
و { عَبَسَ وَتَوَلَّى } في القرآن . معناها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصل منه بعض الكراهية والتضايق بسبب أن عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ـ رضي الله تعالى عنه ـ جاءه يسأله عن أمور من أمور دينه، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحضرته ناس من أكابر قريش، وكان عليه الصلاة والسلام يطمع في إسلامهم وترغيبهم والتحدث معهم لعل الله أن يهديهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، فلما جاء عبد الله ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ يسأله وهو مشغول مع هؤلاء كأنه كره مجيء عبد الله ابن أم مكتوم في هذه الساعة وكره سؤاله، لأنه يشغله عن التحدث مع هؤلاء فعاتبه الله ـ عز وجل ـ على ذلك وقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [ سورة عبس : الآيات 1-10 ] .
والمعنى أن الله ينكر على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدم استقباله لعبد الله ابن أم مكتوم الذي جاءه راغبًا في الخير ومقبلاً على الخير، وانشغاله مع قوم لا رغبة بهم في الخير ولا محبة لهم في دين الإسلام بل هم في زعمهم أنهم في غنى عنه ليسوا راغبين ولا مقبلين على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، من هنا جاء العتاب لنبي الله صلى الله عليه وسلم .
52 ـ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } [ سورة البروج : آية 4 ] من هم أصحاب الأخدود ؟
أصحاب الأخدود هم جماعة من الكفار كادوا المسلمين في وقتهم لما حاولوا معهم أن يصرفوهم عن دينهم، فثبت هؤلاء المسلمون على دينهم، وصبروا على التعذيب .(34/28)
قال الله جل وعلا : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } [ سورة البروج : آية 4 ] أي : لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد، وهي الحفر التي في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم فحفروا لهم في الأرض أخدودًا وأججوا فيه نارًا، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فلم يقبلوا فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } [ سورة البروج : الآيات 4-7 ] أي : مشاهدون لما يُفعل بأولئك المؤمنين .
قال الله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ سورة البروج : آية 8 ] أي : وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع، الحميد بجميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، والله تعالى أعلم .
53 ـ ما معنى قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيات 6-8 ] وما المقصود بـ { إِرَمَ } ؟(34/29)
هذه القبيلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي من الأمم الكافرة والعاتية التي اغترت بقوتها وجبروتها؛ لأن الله أعطاها من القوة البدنية وقوة الحضارة والملك ما اغترت به، وطغت بسببه، قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ } [ سورة فصلت : الآيتين 15، 16 ] لأنهم لما جاءهم نبي الله هود عليه السلام، ودعاهم إلى توحيد الله وعبادته تكبروا وتجبروا واغتروا بقوتهم، قد ذكر الله قصتهم في مواضع كثيرة من كتابه، ومن ذلك هذا الموضع من سورة الفجر : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيتين 6، 7 ] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبر فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وهؤلاء عاد الأولى وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قال ابن إسحاق : وهم الذي بعث الله فيهم رسوله هودًا عليه السلام فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [ سورة الحاقة : الآيات 6-8 ] .(34/30)
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : آية 7 ] عطف بيان وزيادة تعريف بهم .
قوله تعالى : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشًا؛ ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ سورة الأعراف : آية 69 ] ) انتهى كلامه رحمه الله (3) وبه يتبين المراد بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيتين : 6، 7 ] والله أعلم .
54 ـ ما تفسير قوله تعالى : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } [ سورة العاديات : الآيتين : 1، 2 ] وما المراد بالعاديات هنا ؟(34/31)
يقسم الله سبحانه وتعالى بالعاديات، وهي الخيل التي تعدو بركابها عند الحاجة كما في حالة القتال في سبيل الله والغارات، ومعنى { ضَبْحًا } أي : ارتفعت أصواتها عندما تعدو { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } أي : أنها تقدح بحوافرها الحجارة عندما تغير، { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } هي الخيل أيضًا، وكل هذا أوصاف للخيل وحالاتها عند الغارة في سبيل الله عز وجل، في هذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله وركوب الخيل للجهاد في سبيل الله، والله تعالى يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 60 ] وكل هذه أوصاف للخيل { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } كل هذه أوصاف للخيل حالة غارتها للجهاد في سبيل الله عز وجل .
55 ـ ما معنى قوله تعالى : { الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ . . . } [ سورة القارعة : الآيات 1-3 ] إلى آخر السورة ؟
القارعة : يوم القيامة سمي بالقارعة؛ لأنه يقرع الأسماع بأهواله وهذا أحد أسمائه، وقد سمي بأسماء كثيرة : القارعة، والصاخة، والطامة الكبرى، والساعة، والحاقة، وغير ذلك من أسمائه؛ لأنه يوم عظيم ويوم فيه أهوال عظيمة .
قوله تعالى : { الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ } هذا التكرار من أجل تعظيم هذا اليوم، وشد الانتباه لما يجري فيه من الأهوال حتى يكون المسلم على استعداد لملاقاته .(34/32)
ثم إن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } [ سورة القارعة : الآيتين 4، 5 ] بيّن ما يكون في هذا اليوم من الحشر وجمع الخلائق، ومن تغير هذه الكائنات حتى إن الجبال الرواسي تذوب، وتكون كالعهن، وهو الصوف المنفوش من الينها وذوبانها بعد أن كانت جامدة قوية صلبة، ثم بيّن سبحانه وتعالى انقسام الناس إلى قسمين : سعداء وأشقياء، أما السعداء فهم الذين ثقلت موازين حسناتهم، فرجحت بسيئاتهم ففازوا برضاء الله سبحانه وتعالى ونعيم الجنة خالدين مخلدين فيه . والأشقياء هم الذي خفت موازينهم بمعنى أن سيئاتهم رجحت على حسناتهم والعياذ بالله، فهؤلاء خابوا وخسروا، وانقلبوا إلى أسوء عاقبة وهي أن النار مقرهم ومصيرهم أبد الآباد .
56 ـ ما معنى قول الله تعالى في سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ سورة الماعون : الآيات 4-7 ] ؟(34/33)
( ويل ) كلمة عذاب وتهديد ووعيد شديد، وقيل : إنه واد في جهنم، { لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } أي : الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها يعني : يصلي الفجر بعدما تطلع الشمس، ويصلي الظهر في وقت العصر، والعصر في وقت المغرب وهكذا، فالذي يخرج الصلاة عن وقتها هذا يعتبر ساهيًا عنها ومضيعًا لها كما في الآية الأخرى { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ سورة مريم : آية 59 ] فإضاعة الصلاة والسهو عنها الذي ورد الوعيد عليه في هاتين الآيتين هو إخراجها عن وقتها من غير عذر شرعي؛ لأن الله تعالى يقول : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ سورة النساء : آية 103 ] أي : مفروضة في أوقاتها لا يجوز إخراجها عنها من غير عذرٍ شرعي .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ سورة الماعون : آية 6 ] يعني : يراءون الناس في أعمالهم يريدون مدحهم، ويؤدون الأعمال الصالحة لا يريدون بها وجه الله، وإنما يريدون أن يمدحهم الناس كالذي يتصدق لأجل أن يمدحه الناس أو يصلي أو يطلب العلم أو يؤدي أي عبادة من العبادات لا رغبة في الطاعة والثواب، وإنما يريد بذلك أن يمدحه الناس ويثنوا عليه، فهذا هو الرياء .(34/34)
وهذا يحبط العمل كما قال سبحانه وتعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ سورة الكهف : آية 110 ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) . فسئل عنه فقال : ( الرياء ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/63 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] فالرياء محبط للعمل وهو شرك . شرك أصغر، وهو خطر شديد، وهو من صفات المنافقين، لأنهم كما قال الله تعالى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ سورة النساء : آية 142 ] . فالرياء داء خطر ومرض وبيل . والواجب على المسلم أن يخلص عمله لله عز وجل ولا يقصد من ورائه رياء ولا سمعة .
وأما الذين يمنعون الماعون : المراد بالماعون هنا العاريّة، لأن بذل العاريّة للمحتاج من الطاعة والإحسان يثاب عليها الإنسان، فالذي يمنع العاريّة عن المحتاج، وهو لا ضرر عليه في بذلها عليه هذا الوعيد العظيم . قد فسر الماعون بما يشمل القدر، والفأس، والحبل، والدلو، وكل ما يحتاج الناس لأمورهم التي يضطرون إليها، فبذل العاريّة للمحتاجين إذا لم يترتب على ذلك ضرر بالمعير وهو في غنى عنها فإن بذلها من الطاعة ومنعها من المتوعد عليه في هذه الآية الكريمة .
5 ـ مسائل في علوم القرآن
57 ـ ما الحكمة في أن القرآن العظيم محفوظ من التبديل والتحريف في حين أن الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل ليست كذلك ؟ وهل يعني الإيمان بالكتب الإيمان بما فيها على ما هي عليه الآن خاصة أن بعضها دخل التحريف ؟(34/35)
القرآن الكريم تكفل الله تعالى بحفظه؛ لأنه الكتاب الباقي إلى قيام الساعة، الناسخ لما سبقه، ولا يتطرق إليه نسخ، أما الكتب السابقة فاستحفظ عليها الربانيون والأحبار ابتلاء وامتحانًا لهم؛ ولأنها - والله أعلم - مؤقتة ويتطرق إليها النسخ بشرائع أخرى تأتي بعدها، وهي أيضًا خاصة بمن أنزلت عليهم في وقتهم، والقرآن عام لجميع الثقلين الجن والإنس إلى يوم القيامة والإيمان بالكتب الإلهية من أركان الإيمان، والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل، والإيمان بالقرآن إيمان مفصل بكل ما فيه، من أنكر منه حرفًا أو آية أو أقل أو أكثر فهو مرتد عن دين الإسلام، وكذلك من أنكر حكمًا من أحكامه كقطع يد السارق والاقتصاص من الجاني، أو أنكر صلاحيته للحكم بين الناس في هذا الزمان أو في أي زمان فهو كافر .
أما الإيمان بالكتب السابقة فهو إيمان مجمل يتناول أصولها وما فيها من حق دون ما أدخل فيها من تحريف وتبديل؛ لأن الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أن أهلها قد حرفوها وغيروا فيها، فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل فهذا مردود على أصحابه، قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [ سورة البقرة : آية 79 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ سورة آل عمران : آية 78 ] .
58 ـ هل يجوز قراءة المعوذتين بدون لفظ كلمة الأمر في أول السورة { قُلْ } ؟(34/36)
لا يجوز هذا لأن { قُلْ } من القرآن والذي يعتقد أنه ليس قرآنًا فإنه يكون جاحدًا لبعض القرآن فيكون كافرًا، والعياذ بالله؛ لأن من جحد شيئًا من القرآن ولو حرفًا أو كلمة يكون كافرًا بالله عز وجل فكلمة { قُلْ } في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص : آية 1 ] ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [ سورة الفلق : آية 1 ] ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [ سورة الناس : آية 1 ] ، وفي غير هذه السور هي كلمة من القرآن والقرآن كله يجب الإيمان به واعتقاد أنه كلام الله سبحانه وتعالى حروفه ومعانيه يجب الإيمان بكل حرف وبكل كلمة وبكل آية منه وبكل سورة، ومن جحد شيئًا من ذلك فهو كافر بالله .
59 ـ هل من الصواب أن يقول المسلم : " صدق الله العظيم " بعد قراءة القرآن وهل هي واردة ؟
لم يرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحدًا من صحابته أو السلف الصالح كانوا يلتزمون بهذه الكلمة بعد الانتهاء من تلاوة القرآن . فالتزامها دائمًا واعتبارها كأنها من أحكام التلاوة ومن لوازم تلاوة القرآن يعتبر بدعة ما أنزل به من سلطان .
أما أن يقولها الإنسان في بعض الأحيان إذا تليت عليه آية أو تفكر في آية ووجد لها أثرًا واضحًا في نفسه وفي غيره فلا بأس أن يقول : صدق الله لقد حصل كذا وكذا . . قال تعالى : { قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ سورة آل عمران : آية 95 ] .
يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [ سورة النساء : آية 87 ] .
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إن أصدق الحديث كتاب الله ) فقول : " صدق الله " في بعض المناسبات إذا ظهر له مبرر كما لو رأيت شيئًا وقع، وقد نبه الله عليه سبحانه وتعالى في القرآن لا بأس بذلك .(34/37)
أما أن نتخذ " صدق الله " كأنها من أحكام التلاوة فهذا شيء لم يرد به دليل، والتزامه بدعة، إنما الذي ورد من الأذكار في تلاوة القرآن أن نستعيد بالله في بداية التلاوة : قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ سورة النحل : آية 98 ] .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ بالله من الشيطان في بداية التلاوة ويقول : بسم الله الرحمن الرحيم إذا كان في أول سورة سوى براءة أما بد نهاية التلاوة فلم يرد التزام ذكر مخصوص لا صدق الله ولا غير ذلك .
60 ـ أختم القرآن - ولله الحمد والمنة - ويراودني في نفسي شيء ألا وهو أن أجمع أهل بيتي عند الختمة وأدعو الله بما تيسر من الدعاء، فهل هذا العمل جائز ؟
يجوز جمع الأهل والإخوان عند دعاء ختم القرآن لأن ذلك مظنة الإجابة، وقد كان بعض الصحابة يفعله . فالدعاء بعد ختم القرآن مأثور من السلف في الصلاة وخارج الصلاة وهو مظنة الإجابة (1).
61 ـ أحيانًا أقرأ القرآن الكريم وأنا مكشوفة الرأس فإذا صادفتني سجدة فهل أسجد بدون غطاء أم أغطي رأسي ثم أسجد بعد ذلك ؟
لا بأس أن تقرئي القرآن الكريم وأنت مكشوفة الرأس إذا لم يكن عندك رجال غير محارم وينبغي أن تغطي رأسك عند سجود التلاوة نظرًا لأن بعض أهل العلم يرى أنه صلاة، وأنه يأخذ أحكام الصلاة، فتغطية الرأس أحوط في هذا وأحسن . والله تعالى أعلم .
62 ـ هل يجوز حرق أوراق من المصحف الشريف إذا خيف عليها الامتهان ؟(34/38)
نعم إذا درس المصحف وتمزق وخشي عليه من الامتهان أصبح في حالة لا يمكن الانتفاع به والقراءة فيه فلا بأس أن يحرق أو يدفن في أرض طاهرة؛ لأن كلا من الأمرين فعله الصحابة رضي الله عنهم فقد دفنوا المصاحف، وكذلك حرقوا المصاحف لما جمعوا الناس على مصحف واحد، وهو مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ وحرقوا ما عداه من بقية المصاحف، فالمصحف إذا كان في حالة لا يمكن الانتفاع به لتمزقه فإنه إما أن يدفن في مكان طاهر وإما أن يحرق .
63 ـ هي يجوز تعليق لوحات تجميلية في المنازل وقد كتب عليها آيات قرآنية ؟
الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن هدى ونورًا وشفاء لما في الصدور، وأنزله ليتلى ويتدبر ويعمل به ويستنار بهديه ويتخذ إمامًا وقائدًا إلى الله جل وعلا وإلى جنته، فهو حجة الله على خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والقرآن حجة لك أو عليك ) [ انظر " صحيح مسلم " ( 1/203 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه ] إن تمسكت به وعملت به صار حجة لك، وهو دليل لك إلى الجنة، وإن أعرضت عنه صار حجة عليك، يدفعك إلى النار لمخالفته وعدم العمل به، فهذا هو الواجب نحو القرآن .
الواجب نحو القرآن أن نتلوه حق تلاوته، وأن نهتدي بهديه، ونستنير بنوره، وأن نعظمه ونجله ونحترمه ونصونه عن العبث والامتهان؛ لأنه كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن نعمل به وأن نحكمه فيما اختلفنا فيه كما قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ سورة النساء : آية 59 ] .(34/39)
أما كتابته حجبًا أو رقاعًا أو على لوحات، ويعلق على الجدران، فهذا لا ينبغي ويحرم كتابته حجبًا وحروزًا يعلق على الصبيان أو على الرقاب أو على النساء أو الرجال هذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن فيه امتهانًا للقرآن وتعريضًا لإهانته، وربما يكون سببًا للاعتقاد في الشفاء من غير الله عز وجل ويكون فتحًا لباب تعليق ما لا يجوز تعليقه من العوذ الشيطانية والألفاظ الشركية .
فالصحيح من قولي العلماء أنه لا يجوز اتخاذ القرآن حروزًا وتعاويذ تكتب وتعلق على الرقاب أو على الأجسام، وكذلك كتابته على لوحات وتعليقه على الجدران هذا لا يجوز، لأنه ربما يهان القرآن، ربما أن المكان الذي علقت فيه هذه اللوحة التي فيها آية من كتاب الله، أنه يكون فيه شيء من المعاصي، ويكون فيه شيء من الفسوق، ويكون في هذا إهانة للقرآن العظيم، وربما تسقط هذه اللوحة وتداس وتمتهن أو تؤول هذه اللوحة إلى سكان لا يعبئون بالقرآن، وينزلون هذا المنزل فيهينون هذا القرآن المعلق، ففي تعليقه على الجدران تعريض له للامتهان، ولم يكن هذا من هدي السلف الصالح، لم يعلم أنهم كانوا يكتبون القرآن على لوحات أو براويز ويعلقونه على الجدران وإنما كان القرآن يكتب في القلوب، ويعمل به ظاهرًا وباطنًا، ويحفظ ويتلى ويدرس، أما كتابته في لوحات وبراويز وما أشبه ذلك فهذا لم يكن معروفًا عن السلف، ولا فائدة من وراء ذلك، وإنما يخشى من المضرة والإهانة للقرآن الكريم .
64 ـ ما حكمُ تعليقِ الآيات القرآنية على الجدران ؟
يجبُ تعظيمُ القرآنِ الكريمِ وتلاوته وتدبُّره والعمل به، أما تعليقه على الجدران؛ فهو من العبث، وقد يؤدي ذلك إلى امتهانه، وأيضًا قد يتَّخذُ ذلك من باب تجميل الجدران بالديكورات والرسومات والكتابات، فيُجعل القرآن ضمن ذلك، وقد يُكتب على شكل نقوش يُقصد منها المناظرُ فقط .(34/40)
وعلى كل حال؛ فالقرآن يجب أن يُصان عن هذا العبث، وما كان السَّلف يعملون هذا، والقرآن لم ينزل ليُكتب على الجدران، وإنما أنزل ليُكتب في القلوب، ويظهر أثره على الأعمال والتصرُّفات .
65 ـ هل يجوز تعليق آيات قرآنية أو أدعية نبوية على جدران المنزل ؟
تعليق الآيات المكتوبة أو الأحاديث والأدعية كل هذا لم يكن من عمل السلف . ما كانوا يكتبون الآيات والأدعية والأحاديث ويعلقونها على الجدران، إنما كانوا يحفظونها ويعملون بها، ويحترمونها غاية الاحترام، ويكتبونها في الكتب .
أما تعليق الآيات والأحاديث والأدعية فهذا لا يجوز خصوصًا الآيات القرآنية، فإن في تعليقها تعريضًا لها للامتهان . قد تسقط هذه المعلقات أو الملصقات وتداس وتمتهن . وقد ينالها ما ينالها من الأذى والامتهان، فهذا من العبث . وغالبًا ما يفعل من أجل الزينة والمناظر التي تعلق، وربما تكتب الآيات على شكل لا يجوز حتى إن بعضهم يكتبها على شكل حيوان أو طائر، أو يكتبها على صورة مصباح كهربائي أو قنديل، فهذا كله عبث لا يجوز .
كما تكتب أحيانًا على شكل غير مقروء وعلى شكل نقوش مما يدل على أن القصد من ذلك النقوش وإبراز جمال الخطوط والزينة، وهذا كله من العبث الذي يصان عنه كتاب الله عز وجل .
66 ـ هل يجوز تعليق آيات من كتاب الله في المجالس، مع أن الآية القرآنية قد زينت ووضع عليها برواز للتجميل ؟(34/41)
الذي أراه أن هذا العمل لا يجوز لما فيه من تعريض القرآن للإهانة خصوصًا وأن بعض الناس يعلقه للزينة والمناظر الجميلة، وربما يعلقه إلى جانب صورة محرمة . وربما تكتب الآيات أو الآية على شكل نقوش وفنون كأن تكتب على صورة مصباح أو على صورة كأس أو ما هو أشد من ذلك كأن تكتب على شكل حيوان من طائر أو فراشة أو غير ذلك، وكل هذا من العبث بكتاب الله، وأيضًا فإن القرآن لم ينزل ليعلق على الجدران، وإنما أنزل ليتلى ويعمل به ويرسخ في القلوب . وأيضًا لم يكن هذا من عمل السلف، فالواجب صيانة كتاب الله واحترامه .
67 ـ نسمع كثيرًا من الإخوان يستخدمون الآيات القرآنية لضرب أمثلة كقوله تعالى : { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ } [ سورة الغاشية : آية 7 ] ، وقوله : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ سورة طه : آية 55 ] فهل هذا جائز أم لا ؟ وإذا كان جائزًا ففي أي الحالات يمكن ذكرها وترديدها . جزاكم الله خيرًا ؟
لا بأس بالتمثل بالقرآن الكريم إذا كان لغرض صحيح كأن يقول : هذا الشي لا يسمن ولا يغني من جوع أو يقول : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ سورة طه : آية 55 ] إذا أراد التذكير بحالة الإنسان مع الأرض، وأنه خلق منها، ويعود إليها بعد الموت ثم يبعثه الله منها، فالتمثل بالقرآن الكريم إذا لم يكن على وجه السخرية والاستهزاء لا بأس به، أما إذا كان على وجه السخرية والاستهزاء فهذا يعتبر ردة عن الإسلام، لأن من استهزأ بالقرآن الكريم أو بشيء من ذكر الله عز وجل وهزل بشيء من ذلك فإنه يرتد عن دين الإسلام، كما قال تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ سورة التوبة : آية 65، 66 ] . فيجب تعظيم القرآن واحترامه .
68 ـ ما الفرق بين الحديث القدسي وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؟(34/42)
الحديث القدسي هو الذي يرويه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الله عز وجل بلفظه ومعناه، والحديث غير القدسي هو الذي يكون معناه وحيًا من الله، ولفظه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [ سورة النجم : آية 3، 4 ] .
69 ـ إذن فما الفرق بين القرآن والحديث القدسي ؟
هناك عدة فروق :
أولاً : القرآن معجز . والحديث القدسي ليس من المعجز بلفظه .
ثانيًا : القرآن متعبد بتلاوته . والحديث القدسي ليس متعبدًا بتلاوته .
ثالثًا : القرآن متواتر . والحديث القدسي لا يلزم أن يكون متواترًا .
رابعًا : القرآن لا يمسه إلا طاهر، والحديث القدسي لا بأس بمسه من غير طهارة .
70 ـ ما رأيكم في " تفسير الجلالين " ؟
" تفسير الجلالين " تفسير مختصر ألفه الحافظان : الحافظ المحلي والمحافظ السيوطي، وكل منهما يلقب بجلال الدين، لذلك سمي بالجلالين، أي : تفسير جلال الدين المحلي وتفسير جلال الدين السيوطي؛ لأن جلال الدين المحلي توفي قبل إكماله فأكمله السيوطي .
وهو تفسير مختصر جدًا يسهل على طالب العلم أو المبتدئ قراءته أو حفظه، لكن من المعلوم أن كلا المُفسّرين على عقيدة الأشاعرة وهما يؤولان آيات الصفات كما هو مذهب الأشاعرة، ومن هذه الناحية يجب الحذر في الاعتماد على تفسيرهما في آيات الصفات .
71 ـ التَّفاسير كثيرة؛ فما هو التَّفسير الذي تنصح بقراءته ؟ وجزاك الله خيرًا .
لا شك أن التفاسير كثيرة والحمد لله، وهذا من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى، والتفاسير متفاوتة، منها المطوَّلُ، ومنها المختصر، ومنها التفسير السَّالم من الأخطاء، ومنها التفسير الذي فيه أخطاء، ولا سيما في العقيدة .(34/43)
والذي أنصحُ به إخواني هو " تفسير ابن كثير " ؛ فإنه من أعظم التّفاسير وأحسنها طريقة ومنهجًا، لأنه يفسّر القرآن بالقرآن أولاً، ثم بالسنة النبوية، ثم بأقوال السلف، ثم بمقتضى اللغة العربية التي نزل بها؛ فهو تفسير متقن وموثوق .
وأيضًا هناك " تفسير البغوي " وهو تفسير مختصر جيد على منهج السلف، وتفسير الحافظ ابن جرير الطبري؛ فهو تفسير واسع وشامل؛ فهذه التفاسير موثوق بها، وكذلك تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ فهو تفسير جيد وسهل العبارة غزير العلم .
أما بقية التفاسير، فهي تجيد في بعض النواحي، ولكنها فيها أخطاء، ولا سيما في العقيدة، ولا يصلح أن يقرأ فيها إلا الإنسان المتمكن، بحيث يأخذ منها ما فيها من الخير، ويتجنب ما فيها من الخطأ، لكن المبتدئ لا يستطيع هذا؛ فعليه أن يأخذ التفسير الذي ليس فيه مزالق وليس فيه أخطاء؛ مثل " تفسير ابن كثير " و " تفسير البغوي " و " تفسير الحافظ ابن جرير " ، وكلها تفاسير - والحمد لله - قيمة وجيدة .(34/44)
5 ـ الرسل والرسالات
72 ـ ما معنى قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ سورة الأنعام : الآيات 76-78 ] ؟
هذا إبطال لعبادة الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب فهو أراد أن يبين لهم بطلان عبادتهم للكواكب، وتدرج من الكوكب إلى القمر إلى الشمس، وهذه من أبرز الكواكب، فدل على أنها مدبرة ومسيرة، وأنها مخلوقات لا تصلح للعبادة، فهو - عليه الصلاة والسلام - أراد أن يقيم عليهم الحجة ببطلان عبادة هذه الكواكب؛ لأنها بكونها تتغير وتغيب فهذا دليل على أنها مخلوقة ومدبرة ليس لها من الأمر شيء، وأن إبراهيم ساقها في سياق لمناظرة لقومه لإقامة الحجة عليهم .
73 ـ يقول الله تعالى في سورة التحريم : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [ سورة التحريم : آية 10 ] ، يقول : في أي شيء كانت خيانتهما ؟
أولاً : هذه الآية الكريمة مثلاً ضربه الله لمخالطة الكافر بالمسلم، وأن الكافر لا ينفعه مخالطة المسلم، ما دام أنه لم يدخل في الإسلام فإنه في يوم القيامة يكون في النار، ولا تنفعه معاشرته للمسلم ومخالطته للمسلم وإن توثقت الصلة والعلاقة؛ لأنه ليس بمسلم .(35/1)
أما الخيانة التي حصلت من امرأة نوح وامرأة لوط فهي خيانة الملة، لأن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين فخانتاهما في الدين، حيث لم تدخلا في دين زوجيهما، وذلك ليس خيانة عرض، لأن فرش الأنبياء معصومة من خيانة العرض، ولا يمكن أن يتزوج نبي بامرأة خائنة، في عرضها، فالمراد هاهنا بالخيانة خيانة الدين .
وقيل : إن خيانتهما أن امرأة نوح كانت تخبر الكفار بأسرار نوح عليه الصلاة والسلام . . وتصفه بأنه مجنون . . وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على أضياف لوط، ليفعلوا بهم الفاحشة . . فهما خائنتان للأمانة التي بينهما وبين زوجيهما من ناحية حفظ السر، وعدم الدلالة على ما عندهما من الأسرار ومن الأضياف .
74 ـ هل صحيح أن بعض الأنبياء ليس من أولي العزم ؟ ولماذا إن كان ذلك صحيحًا ؟ وما معنى هذه الكلمة ؟ ومن هم أولو العزم ؟ ولماذا وصفوا بهذا الوصف ؟
العزم معناه : القوة والثبات والعزم في الأمر، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ سورة الأحقاف : آية 35 ] ، لما اشتد أذى الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله بالصبر والتحمل وانتظار الفرج اقتداء بإخوانه من أولي العزم من الرسل، أما من هم أولو العزم :(35/2)
فالمشهور أنهم خمسة هم : نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وصلى الله عليهم أجمعين، وهم المذكورون في قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا } [ الأحزاب : آية 7 ] ، وفي قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } [ سورة الشورى : آية 13 ] ، هؤلاء الخمسة المذكورون في هاتين الآيتين الكريمتين قال كثير من المفسرين : إنهم هم أولو العزم، ومن المفسرين من يرى أن الرسل كلهم أولو عزم، وأن ( مِن ) في قوله تعالى : { مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : آية 35 ] بيانية وليست تبعيضية، ومنهم من يرى أن أولي العزم أكثر من هؤلاء الخمسة، وليس كل الرسل من أولي العزم، ولكنهم أكثر من هؤلاء الخمسة .
والأقوال مذكورة في كتب التفسير، والله تعالى أعلم .(35/3)
75 ـ قال الله تعالى في سورة يس : { يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ سورة يس : الآيات 1-9 ] ، ما معنى هذه الآيات ؟ ومن هم هؤلاء القوم الذين لم ينذروا مع أن الله يقول : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ سورة النحل : آية 36 ] ؟
قوله تعالى : { يس } [ سورة يس : آية 1 ] الصحيح أن هذا من الحروف المقطعة في أوائل السور، والله جل وعلا أعلم بمراده بها، ومن ظن أن { يس } اسم من أسماء الرسول ( ، فقد غلط فليس من أسمائه { يس } ولا { طه } ، وإنما هي حروف مقطعة، مثل { الم } و { طس } وغيرها .
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ سورة يس : آية 2 ] هذا قسم من الله سبحانه وتعالى بالقرآن الذي هو كلامه وآياته التي نزلها، وهو يدل على عظمة هذا القرآن، لأن الله أقسم به، و { الْحَكِيمِ } [ سورة يس : آية 2 ] يعني : المحكم الذي لا يعتريه نقص ولا يعتريه تناقض ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ سورة يس : آية 3 ] هذا هو المقسم عليه، وهو أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المرسلين، ففي هذا إثبات الرسالة لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الله عز وجل ورد على المشركين الذين أنكروا رسالته .(35/4)
{ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ سورة يس : آية 4 ] أي : أنك أيها الرسول على طريق واضح وطريق صحيح هو صراط الله سبحانه وتعالى .
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ سورة يس : آية 5 ] أي : أن هذه الرسالة وهذا القرآن من الله عز وجل فهو الذي أرسل هذا الرسول وهو الذي أنزل هذا الكتاب، { الْعَزِيزِ } [ سورة يس : آية 5 ] يعني : القوي الذي لا يغالب، { الرَّحِيمِ } [ سورة يس : آية 5 ] بعباده المؤمنين حيث أرسل إليهم هذا الرسول، وأنزل عليهم هذا الكتاب .
{ لِتُنذِرَ قَوْمًا } [ سورة يس : آية 6 ] يعني : لتبين لهم ولتخوفهم بالله عز وجل، وتنبههم على طريق الصواب وطريق الهدى، وتحذرهم وتنذرهم من طريق الشرك وطريق النار، والمراد بهؤلاء القوم : العرب؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث فيهم أصالة وغيرهم تبعًا، وإلا فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث لجميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ سورة الأعراف : آية 185 ] .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ سورة الأنبياء : آية 107 ] .
وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ سورة الفرقان : آية 1 ] .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [ سورة سبأ : آية 28 ] .
فرسالته عامة، وإن كان بُعث في العرب، وبدأ بإنذار العرب وهذا من التدرج في الإبلاغ، فهو يبلغ العرب ويبلغ غيرهم، ولهذا كتب ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك إلى كسرى وقيصر يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنه رسول إليهم .(35/5)
{ مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } [ سورة يس : آية 6 ] ، لا منافاة بين هذا وبين الآيات الأخرى التي فيها أن الله قد بعث في كل أمة رسولاً، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ سورة النحل : آية 36 ] ، لأن العرب لم يبعث فيهم بعد إسماعيل - عليه السلام - رسول منهم، إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث في العرب رسول بعد إسماعيل إلا ابنه محمد صلى الله عليه وسلم . . وإن كانوا قد بلغتهم دعوة إبراهيم عليه السلام ودعوات الأنبياء، وأيضًا الذي بعث فيهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا في زمن فترة من الرسل .
ولم يبعث منهم رسول إلا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا مأمورين باتباع الأنبياء السابقين إلى أن بعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمروا باتباعه .
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } [ سورة يس : آية 7 ] يعني : وجب عليهم العذاب بكفرهم وعنادهم لهذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم استجابتهم لدعوته، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ سورة يس : آية 7 ] .(35/6)
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } [ سورة يس : الآيات 8-11 ] ، هذه الآيات كلها إلى قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ } كلها في حق المعاندين الذين عرفوا الحق وبلغتهم الرسالة فاستكبروا وعاندوا واستمروا على عبادة الأصنام ودين الآباء والأجداد، وزهدوا بالحق الذي جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا ختم على قلوبهم عقوبة لهم، وحق عليهم العذاب فلا مناص لهم من ذلك، وعميت بصائرهم، فمثلهم مثل الذي غلَّت يداه إلى عنقه، وارتفع رأسه ونظره بسبب الغل الذي طوق عنقه، فلا يستطيع النظر إلى مواقع قدميه، وصار يمشي بين سدين إن تقدم تعثر بالسد الذي أمامه، وإن تأخر تعثر بالسد الذي خلفه، فاجتمع عليه عدة أمور :
أولاً : أنه مقمح بمعنى أنه مرتفع الرأس بسبب الغل الذي في عنقه، فلا ينظر إلى ما تحته .
وثانيًا : أن أمامه سد، ومن خلفه سد، وأن الله أغشى بصره فلا يبصر ما حوله، وهذا بسبب أنهم أعرضوا عن آيات الله ولم تصل إلى شغاف قلوبهم، ولم يصل نورها إلى أفئدتهم، فهم صاروا في ظلمات وفي تردد وفي زيغ والعياذ بالله، وهذا يحصل لكل من خلف هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، واستكبر عن دعوته بعد أن عرفها إلى يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة .(35/7)
76 ـ يقول تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ سورة التوبة : آية 33 ] ما المراد بالهدى ودين الحق في الآية الكريمة ؟ وما المقصود بالدين كله ؟ وهل يفهم من هذا أن هناك اختلافًا في الأصول التي دعا إليها الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبين ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ؟
المراد بالهدى ودين الحق في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ سورة التوبة : آية 33 ] أن الهدى هو : العلم النافع، ودين الحق هو : العمل الصالح، والمراد بقوله تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ سورة التوبة : آية 33 ] أن دين الإسلام الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسخ لجميع الأديان، وأنه سينتشر في الأرض ويبسط سلطانه على البشرية ويكثر أتباعه، ومن لم يدخل فيه من اليهود والنصارى فسيخضع له ويدفع الجزية لأهله، وقد تحقق وعد الله، فبلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، وضرب الجزية على أهل الكتابين فأعطوها للمسلمين وهم صاغرون، كما أن هذا الدين ظاهر بالحجة والبرهان على سائر الأديان، وأصول دعوة الرسل عليهم السلام واحدة، فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأما شرائعهم فهي مختلفة بحسب ما تقتضيه حاجة كل أمة وما يناسبها .
77 ـ ما معنى الآية : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 60 ] ؟(35/8)
معنى الآية : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ } [ سورة الإسراء : آية 60 ] الرؤيا المراد بها : رؤيا العين التي رأى النبي ( ليلة الإسراء، كما ذكر ذلك في أول سورة النجم : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ سورة النجم : آية 18 ] ، فالمراد بالرؤيا هنا رؤية العين، وليس المراد رؤيا المنام، وهي كما ذكر المفسرون كابن كثير وغيره أنها الآيات التي رآها ليلة عرج به ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماء .
وأما الشجرة الملعونة فالمراد بها شجرة الزقوم؛ وذلك لأن المشركين افتتنوا بهاتين المسألتين :
أولاً : لما أخبرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُسري به وعرج به إلى السماء في ليلة واحدة، فاستغربوا هذا، وفرح المشركون بذلك، وجعلوا يتندرون به ويضحكون منه، وكذلك ضعاف الإيمان من المسلمين منهم من ارتد عن الإيمان بسبب ذلك، أما أهل الثبات وأهل الإيمان فإنه ما زادهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا وتصديقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
فهذا وجه الحكمة في هذه الرؤيا أن من الناس من فتن بها وارتد عن دينه، ومنهم من فرح وجعل يتندر بها كالكفار وأعداء الإسلام، ومنهم من زادتهم إيمانًا ويقينًا .
وأما شجرة الزقوم فكذلك، جعلوا يتندرون بها ويقولون : إن النار محرقة فكيف ينبت فيها شجر ؟ فالله جل وعلا بيَّن أنه يقدر على أن ينبت الشجر في النار كما قال تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ سورة الصافات : الآيات 62-65 ] .(35/9)
وقال تعالى في آية أخرى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ سورة الدخان : الآيات 43-46 ] .
فالله جل وعلا قادر على أن ينبت الشجر في النار، وأن يكون هذا الشجر شجرًا حقيقيًا يبقى فيها .(35/10)
6 ـ الفتن وأشراط الساعة
78 ـ ما المراد بالفتن ؟ وما موقف المسلم منها مع بيان الفتن التي يجب عدم الخوض فيها والفتن التي تجب مواجهتها ؟
الفتن : جمع فتنة، والمراد بالفتنة : الابتلاء والامتحان، كفتنة المال والولد، والفتن على نوعين : فتن شبهات، وفتن شهوات، ففتن الشبهات، هي : العقائد الفاسدة والبدع والشكوك والأوهام، وفتن الشهوات : كفتنة المال والولد، وفتنة الزنا، والسرقة، وشرب المسكر - إلى غير ذلك - وموقف المسلم من الفتن جميعها أن يستعيذ بالله من شرها، وأن ينكر على مروجيها ويجاهدهم، ويسعى في إبعادها عن نفسه وعن إخوانه المسلمين، ويبطل شبهات الدعاة إلى الفتن .
79 ـ نسمع عن المسيح الدجال وعن فتنته التي استعاذ منها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرنا بالاستعاذة منها، فمن هو المسيح الدجال ؟ وما صفته ؟ وما هي فتنته ؟ ومتى يظهر ؟ وماذا يجب فعله كي نأمن من خطره ؟
المسيح الدجال رجل يخرج آخر الزمان، ويتبعه اليهود، وخروجه عن علامات الساعة، وهو يخرج معه بفتن عظيمة تؤثر على ضعاف الإيمان، وقد يهلك بسببه خلق كثير من الناس، إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، أما أوصافه فإنه رجل كافر، وأعور، وفاتن، يفتن الناس، ويريد تحويلهم عن دينهم بشتى الوسائل، ففتنته عظيمة، وخطره عظيم، وهو يخرج قرب قيام الساعة، وفتنته خاصة بالأحياء، ويجب علينا أن نستعيذ بالله من فتنته كما أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1).
80 ـ هل هناك أماكن لا يصل إليها المسيح الدجال ؟
لا يصل مكة ولا المدينة النبوية، ويسير في الأرض بسرعة إلا مكة والمدينة، فإنه يمنع من دخولهما، ولكن المدينة ترجف وتُخرج منها كل منافق .
81 ـ ما مدى صحة الحديث الذي معناه : ( إن الدين يأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها ) ؟ وما هو لفظ الحديث كاملاً ؟ وما معناه ؟
أما درجة الحديث فقد أخرجه الترمذي رحمه الله، وقال عنه : حديث حسن .(36/1)
أما لفظه فهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إن الدين يأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من الجبل، إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء : وهم الذي يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/288 ) من حديث عمرو بن عوف بن زيد بن ملحمة عن أبيه عن جده ] .
ومعناه : أن الإيمان والدين في آخر الزمان يجتمع في الحجاز، وأنه يعتصم به كما يعتصم الصيد برأس الجبل، وأن الإسلام يعودُ غريبًا كما بدأ غريبًا أول ما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من تمسك به فإن له الجنة، فقد ورد في معنى هذا الحديث حديثٌ آخر رواه مسلم : ( إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/131 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] ، والله أعلم .
82 ـ ما مدى صحة هذا الحديث وما معناه : ( لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق عند الله ) ؟
الحديث صحيح رواه الإمام الحاكم في " مستدركه " ، وقال : صحيح الإسناد [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/494 ) ، من حديث أبي الأحوص عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ بلفظ : ( على شرار الخلق ) فقط .
ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2268 ) من حديث أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه ] . ومعناه واضح أنه في آخر الزمان عند قيام الساعة تقبض أرواح المؤمنين - كما ورد في الحديث - ولا يبقى إلا الكفار، وعليهم تقوم الساعة .
83 ـ الحديث الآخر : ( لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض : الله الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/131 ) من حديث أنس رضي الله عنه ] ؟
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق وعلى الكفار، أما المؤمنون فإنهم تقبض أرواحهم قبل ذلك .(36/2)
7 ـ القضاء والقدر
84 ـ ما المراد بحديث : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) ؟ وما المقصود منه ؟
حديث : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) أخرجه الحاكم وغيره [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/493 ) . من حديث ثوبان رضي الله عنه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 6/313 ) من حديث سلمان رضي الله عنه بلفظ : " لا يرد القضاء . . " ] ، ومعناه : أن الدعاء سبب في حصول الخير، وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة بأسباب، فإذا تحقق السبب وقع المقدر، وإذا لم يتحقق السبب لم يقع، فإذا دعا المسلم ربه حصل له الخير، وإذا لم يدعُ وقع به الشر، كما جعل الله صلة الرحمن سببًا لطول العمر، وقطيعة الرحم سببًا لضده، والله أعلم .
85 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السجدة : آية 13 ] ؟
هذا بعد قوله تعالى عن المشركين : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ سورة السجدة : آية 12 ] ( يعني : يوم القيامة ) إذا رأوا العذاب ووقفوا على الحقيقة : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ سورة السجدة : آية 12 ] .
قال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ سورة السجدة : آية 13 ] .(37/1)
وكما في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ سورة الأنعام : آية 27 ] يقولون ذلك حينما يعاينون العذاب والحقيقة التي كفروا بها من قبل وجحدوها، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم من حالهم أنهم لا يصلحون للهداية، وأنهم لا يصدقون في مقالتهم هذه، ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ سورة الأنعام : آية 28 ] .
فالله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه قسم الخلق إلى شقي وسعيد وابتلاهم وامتحنهم ليظهر المطيع المنقاد من العاصي المتمرد، وجعل لهم دارين : دار الجنة للمتقين المؤمنين، ودار العذاب - وهي جهنم - للكفار والمنافقين، ولهذا قال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ } أي : من الجن، { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السجدة : آية 13 ] أي : من الإنس الذين كفروا بالله عز وجل وجحدوا بآياته وعاندوا بعد المعرفة، وعصوا بعد قيام الحجة، فهم لا يصلحون لهداية، ولا يقبلون الخير والنور والهدى تكبرًا وعنادًا، ولذلك كانت عاقبتهم النار .
86 ـ نعلم حكمة ما يصيب الإنسان المسلم من مصائب، فقد تكون امتحانًا وابتلاء، وقد تكون عقوبة لما حصل منه من أخطاء، هنا يأتي سؤال : ما الحكمة من المصائب التي تقع على الإنسان الكافر ؟ وما الحكمة من وقوع المصائب والأوجاع على الأطفال الصغار ؟ حيث تقع على بعض الأطفال دون البعض الآخر ؟ وماذا يُقال عن المصائب ( من مرض أو كسر أو جرح ) التي تقع على بعض الحيوانات والطيور ؟(37/2)
حكمة الله تعالى في خلقه لا يمكن الإحاطة بها، فمنها ما ندركه، ومنها ما لا ندركه، لكننا نقطع ونؤمن أن الله سبحانه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة بالغة، لأنه سبحانه منزه عن العبث، وما يصيب الكافر من المصائب فإنه عقوبة على كفره ومعاصيه، قال تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ سورة السجدة : آية 21 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ } [ سورة الطور : آية 47 ] ، وأما ما يصيب الصغار، فإنه قد يكون عقوبة لآبائهم أو ابتلاء لآبائهم، ليظهر صبرهم واحتسابهم إلى غير ذلك، وكذا ما يصيب البهائم فإنه عقوبة لملاكها أو ابتلاء لهم، قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ سورة البقرة : الآيتين 155، 156 ] .
87 ـ إن الله تعالى خلق الإنسان ويعلم في علم الغيب عنده إن كان شقيًا أم سعيدًا صالحًا أم كافرًا، فلماذا إذن يعذبه حينما يعصيه ويدخله النار علمًا بأن الله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل ؟(37/3)
لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، وقدر كل شيء قال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ سورة القمر : آية 49 ] ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما العباد عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبدًا، ولكنه سبحانه وتعالى لا يعذب العباد بمقتضى العلم والقدر، فلا يعذبهم لأنه يعلم أنهم يعملون كذا أو لأنه قدر عليهم كذا وكذا، ولكنه يعذبهم بأعمالهم التي اكتسبوها باختيارهم وقدرتهم كما قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ سورة البقرة : آية 286 ] . وقال تعالى : { وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ سورة يس : آية 54 ] .
والله سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على خلقه بإرسال الرسل قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ سورة الإسراء : آية 15 ] ، وبإنزال الكتب، وببيان طريق الخير من طريق الشر، وبإعطاء العباد قدرة واختيارًا بها يعملون ويختارون، فهو يعذبهم بمقتضى ذلك، ولا يعذبهم بمجرد علمه أنهم يعملون هذه الأعمال، وإنما يعذبهم إذا عملوها ووقعت منهم فعلاً فظهرت منهم واكتسبوها، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم أحدًا، وإنما يجازي العبد بأفعاله وأعماله ونياته ومقاصده التي قدمها لنفسه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ سورة فصلت : آية 46 ] .(37/4)
فإذا علمت أن الله قد بيّن لك طريق الخير وطريق الشر، وأعطاك القدرة والاختيار والاستطاعة، وأمرك أن تطيعه، ونهاك أن تعصيه ثم خالفت ذلك وأقدمت على المعصية باختيارك وطوعك وقدرتك، فإنك تستحق العقوبة بموجب العقل والشرع، ولو أن أحدًا من الناس اعتدى عليك وضربك وأخذ مالك فإنك لا تسكت وتقول : الله يعلم أنّ هذا الشخص يعمل بي كذا وكذا أو قدر ذلك ؟ ولكن تغضب وتطلب الانتقام منه والقصاص منه والعدل فيه؛ لأنك ترى أن هذه جريمة، وأن هذا عدوان عليك يستحق به العقاب، فكيف ترى العدوان في حق غيرك ولا ترى العدوان في حق نفسك ؟ ! وهذا أمر واضح لمن تدبره وعقله .(37/5)
8 ـ فرع في عمل الإنسان
88 ـ ما معنى الآيتين الكريمتين في قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : آية 39 ] وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ سورة الطور : آية 22 ] وهل بينهما نسخ أو تعارض وماذا نستفيد منهما ؟
ليس بين الآيتين إشكال ذلك أن الآية الأولى فيها أن الإنسان لا يملك إلا سعيه، ولا يملك سعي غيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فملكيته محصورة في سعيه لا ينفعه إلا سعيه، بينما الآية الأخرى فيها أن الذرية إذا آمنت فإنها تلحق بآبائها في الجنة، وتكون معهم في درجتهم وإن لم تكن عملت عملهم، فالذرية إذن استفادت من عمل غيرها .
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ سورة الطور : آية 22 ] الآية الكريمة تدل على أن الذرية يلحقون بآبائهم في درجاتهم، ويرفعون في درجاتهم، وإن لم يكن عملهم كعمل آبائهم .
فظاهر الآية أنهم انتفعوا بعمل غيرهم وسعي غيرهم بينما الآية الأخرى تفيد أن الإنسان لا ينفعه إلا سعيه، وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بعدة أجوبة الجواب الأول : أن الآية الأولى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } مطلقة والآية الثانية : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد كما هو مقرر في علم الأصول .
والقول الثاني : أن الآية الأولى : تخبر أن الإنسان لا يملك إلا سعيه ولا ينفعه إلا سعيه ولكنها لم تنف أن الإنسان ينتفع بعمل غيره من غير تملك له، فالآية الأولى في الملكية، والآية الثانية في الانتفاع .(38/1)
إن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره وإن لم يكن ملكه، ولهذا ينفعه إذا تصدق عنه وينفعه إذا استغفر له ودعا له، فالإنسان يستفيد من دعاء غيره ومن عمل غيره وهو ميت، والانتفاع غير الملكية، فالآية الأولى في نوع، والآية الثانية في نوع آخر، ولا تعارض بينهما .
وهذا الجواب أحسن من الأول .
وهناك جواب ثالث هو أن الآية الأولى منسوخة، لأنها في شرع من قبلنا لأن الله تعالى يقول : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : الآيات 36-39 ] فهذه تحكي ما كان في صحف موسى وصحف إبراهيم عليهما السلام . لكن جاءت شريعتنا بأن الإنسان ينتفع بعمل غيره فيكون ذلك نسخًا، وهذا الجواب ضعيف، والجواب الذي قبله أرجح في نظري .
89 ـ هل من شروط صحة العمل الصالح المداومة عليه ؟
العمل الصالح إذا كان من الواجبات فلا بد من المداومة عليه، ولا يجوز تركه . قال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ سورة البقرة : آية 238 ] وكذلك بقية الواجبات المتكررة، وأما العمل الصالح المستحب فلا يشترط المداومة عليه، بل له أجر ما فعل ولو لم يداوم عليه، ولكن تستحب المداومة عليه لتكثير الأجر والثواب . وإن كان ينوي فعله ولم يتمكن منه لعذر حال بينه وبينه كتب الله له أجر ذلك العمل الذي نواه كما في الأحاديث الصحيحة (1) .
90 ـ كيف يكون ترك العمل خوفًا من الرياء رياء ؟(38/2)
لا يجوز ترك العمل الصالح من أجل الخوف من الرياء، لأن هذا من تثبيط الشيطان، ولكن على المسلم أن يعمل العمل الصالح، ويخلص فيه نيته لله، ويحرص على إخفاء عمله عن الناس إلا ما يشرع إظهاره كصلاة الجماعة وإظهار الصدقة على المحتاجين حتى يعرفهم الناس فيقتدون به ويتصدقون عليهم؛ لأن هذا من السنة الحسنة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/704، 705 ) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ] .
91 ـ هل عمل الإنسان في حياته يتحكم في طريقة موته ؟
المسلم إذا كان ملازمًا لطاعة الله مستقيمًا على طاعته فإنه حريّ أن يختم له بالخير، وأن يموت على ما عاش عليه من الطاعة والعقيدة والتوحيد؛ والذي يضيّع نفسه في المعاصي وأوقاته في المخالفات فإنه يخشى عليه من سوء الخاتمة، وأن يموت على خاتمة سيئة .
فعلى المسلم أن يحفظ عمره في طاعة الله سبحانه وتعالى، وأن لا يدركه الموت وهو على حالة سيئة . فالعمل الصالح والطاعة من الأسباب التي يرجى لصاحبهما أن يختم له بالخير . وأما المعصية والمخالفات وإضاعة الواجبات فهي من الأسباب التي يخاف أن يختم لصاحبها بشرٍّ .
فحسن الخاتمة وسوء الخاتمة لا شك أنهما متعلقان بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى . وقد جاء في الحديث ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) هذا من ناحية القضاء والقدر .
لكن من ناحية عمل الإنسان واهتمام الإنسان، فإن عليه أن يحرص على طاعة الله، ويجتنب معصيته ويتمسك بذلك، وهذا من الأسباب التي يوفقه الله بها لحسن الخاتمة، والموت على الإسلام .(38/3)
والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو يحب التوابين، ويحب المتطهرين والمحسنين، ورحمته قريب منهم، وما على الإنسان إلا أن يبذل الأسباب التي تجلب له حسن الخاتمة، ويترك الأسباب التي تجلب له الشر، وكل ميسر لما خلق له . والله الموفق .(38/4)
9 ـ من نواقض الإسلام
92 ـ ما هي نواقض الإسلام وما هي الكتب التي شرحتها بالتفصيل حتى نحذر من الوقوع فيها ؟
نواقض الإسلام كثيرة وخطيرة جدًا - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها - وقد يكون بعضها خفيًا يحتاج إلى عناية وتنبيه، وقد ذكر الشيخ محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - عشرة من نواقض الإسلام، وهي رسالة مستقلة مطبوعة ضمن " مجموعة التوحيد " ، وكذلك من أراد التوسع في معرفة هذا الباب المهم فليرجع إلى باب الردة في " كشاف القناع " في الفقه الحنبلي أو في غيره من كتب الفقه في المذاهب الأخرى، فإن باب الردة يتضمن بيان الأسباب التي يرتد بها الشخص بعد إسلامه . وهذه النواقض العشرة التي ذكرها الشيخ رحمه الله :
الأول منها : الشرك في عبادة الله عز وجل، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القبر .
والثاني : من نواقض الإسلام : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم .
والثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم .
والرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه صلى الله عليه وسلم .
والخامس : من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يرتد ولو عمل به .
والسادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ثوابه أو عقابه، والدليل قوله تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ سورة التوبة : الآيتين 65، 66 ] .
السابع : السحر تعلمه وتعليمه فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ سورة البقرة : آية 102 ] .(39/1)
والثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ سورة المائدة : آية 51 ] .
والتاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهذا كافر .
والعاشر : الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } [ سورة السجدة : آية 22 ] قال الشيخ رحمه الله تعالى : ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه .
93 ـ ما مدى صحة الحديث القائل : ( من بدل دينه فاقتلوه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/50 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] وما معناه وكيف نجمع بينه وبين قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وبين قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ سورة يونس : آية 99 ] وبين الحديث القائل : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) وهل يفهم أن اعتناق الدين بالاختيار لا بالإكراه ؟(39/2)
أولاً الحديث ( من بدل دينه فاقتلوه ) حديث صحيح رواه البخاري وغيره من أهل السنة بهذا اللفظ : ( من بدل دينه فاقتلوه ) . وأما الجمع بينه وبين ما ذكر من الأدلة فلا تعارض بين الأدلة ولله الحمد . لأن قوله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/50 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] في المرتد الذي يكفر بعد إسلامه فيجب قتله بعد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } [ سورة يونس : آية 99 ] فلا تعارض بين هذه الأدلة؛ لأن الدخول في الإسلام لا يمكن الإكراه عليه؛ لأنه شيء في القلب واقتناع في القلب، ولا يمكن أن نتصرف في القلوب، وأن نجعلها مؤمنة، هذا بيد الله عز وجل هو مقلب القلوب، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء .
لكن واجبنا الدعوة إلى الله عز وجل والبيان والجهاد في سبيل الله لمن عاند بعد أن عرف الحق، وعاند بعد معرفته، فهذا يجب علينا أن نجاهده، وأما أننا نكرهه على الدخول في الإسلام، ونجعل الإيمان في قلبه هذا ليس لنا، وإنما هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى لكن نحن، أولاً : ندعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ونبيّن للناس هذا الدين .
وثانيًا : نجاهد أهل العناد وأهل الكفر والجحود حتى يكون الدين لله وحده، عز وجل، حتى لا تكون فتنة .(39/3)
أما المرتد فهذا يقتل، لأنه كفر بعد إسلامه، وترك الحق بعد معرفته، فهو عضو فاسد يجب بتره، وإراحة المجتمع منه؛ لأنه فاسد العقيدة ويخشى أن يفسد عقائد الباقين، لأنه ترك الحق لا عن جهل، وإنما عن عناد بعد معرفة الحق، فلذلك صار لا يصلح للبقاء فيجب قتله، فلا تعارض بين قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وبين قتل المرتد، لأن الإكراه في الدين هنا عند الدخول في الإسلام، وأما قتل المرتد فهو عند الخروج من الإسلام بعد معرفته وبعد الدخول فيه .
على أن الآية قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 5 ] فيها أقوال للمفسرين منهم من يقول : إنها خاصة بأهل الكتاب، وأن أهل الكتاب لا يكرهون، وإنما يطلب منهم الإيمان أو دفع الجزية فيقرون على دينهم إذا دفعوا الجزية، وخضعوا لحكم الإسلام، وليست عامة في كل كافر، ومن العلماء من يرى أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] فهي منسوخة بهذه الآية .
ولكن الصحيح أنها ليست منسوخة، وأنها ليست خاصة بأهل الكتاب، وإنما معناها أن هذا الدين بيِّن واضح تقبله الفطر والعقول، وأن أحدًا لا يدخله عن كراهية، وإنما يدخله عن اقتناع وعن محبة ورغبة . هذا هو الصحيح .
94 ـ ما رأي الدين في الذين يستنجدون بالرسل أو الأنبياء أو الأولياء عندما تحل بهم كارثة كأن يقول الشخص الذي حلت به المصيبة : يا رسول الله أو بالمهدي أو نحو ذلك ؟(39/4)
الذين يستنجدون بالأموات من الرسل والأولياء والصالحين أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات مشركون شركًا أكبر؛ لأنه لا يطلب مثل هذه الأمور إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الاستغاثة والدعاء من أنواع العبادة، والعبادة كلها مستحقة لله، وصرفها لغيره شرك، وهؤلاء الأموات لا يقدرون على مساندة من ناداهم ولا نجدة من دعاهم لأنهم أموات انتقلوا إلى الدار الآخرة فالاستنجاد والاستغاثة بالأموات والغائبين لطلب النجدة ولطلب الإغاثة ولطلب تفريج الكرب وكشف الغم وغير ذلك كل هذا من الوثنية ومن شركيات الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ سورة يونس : آية 18 ] وقال سبحانه وتعالى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ سورة الزمر : آية 2، 3 ] .(39/5)
وهذا الذي ذكره السائل من أنواع الشرك الأكبر، وعلى من فعله أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة، وأن يرجع إلى رشده، وأن يترك هذا الشرك الذي إذا مات عليه فهو خالد مخلد في النار - نسأل الله العافية والسلامة - قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ سورة المائدة : آية 72 ] ، مع أن يحبط عمله في الدنيا قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [ سورة الزمر : آية 65، 66 ] فالشرك محبط للعمل ومخلد في النار إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا، فإن الله يتوب عليه ومن تاب تاب الله عليه . والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، فعلى من وقع في مثل هذه الأمور أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة، وأن يخلص العبادة بجميع أنواعها لله، وأن ينقذ نفسه من النار قبل أن يحضره الأجل، وهو على عقيدة الشرك، نسأل الله العافية والسلامة .
95 ـ هناك من يقع في التوسل بغير الله، ويطل بالمدد من الأولياء والصالحين رغم أنه يوحد الله بالقول ويصلي ويصوم، وإذا نهيناه عن ذلك كابر وجادل وحاول أن يحرِّف في معاني القرآن ويقول : إنني لا أطلب الرزق مباشرة أو دفع الضر، ولكني أطلب من الله ببركتهم وصلاحهم وتقواهم فهل في هذا فرق بين من يطلبهم مباشرة أو يطلب الله بواسطتهم وهل هذا القائل على حق أم لا ؟(39/6)
التوسل بالأموات والغائبين أمر محرم ولا يجوز، لأن الميت والغائب لا يقدر أن يعمل شيئًا مما طلب منه ثم هذا يختلف حكمه باختلاف نوع التوسل، فإن كان توسلاً بالغائب والميت، ويتقرب إليه بشيء من أنواع العبادة كالذبح له والنذر له ودعائه فهذا شرك أكبر ينقل من الملة ـ والعياذ بالله ـ لأنه صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، أما إذا كان التوسل بالغائب والميت بمعنى أنه يدعو الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذا واسطة فيقول : أسألك بحق فلان فهذا بدعة لا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لكنه بدعة محرمة، وهو وسيلة إلى الشرك، وباب إلى الشرك، فلا يجوز التوسل بالأموات والغائبين بهذا المعنى، فإن كان يطلب منهم الحاجة، ويذبح لهم فهذا شرك أكبر، قال الله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ سورة يونس : آية 18 ] .
96 ـ نرجو من فضيلتكم إيضاح أمر الاستعانة والاستغاثة بغير الله المباحة والمحرمة ؟(39/7)
الاستعانة والاستغاثة بغير الله فيهما تفصيل : فإن كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الشر، أو الاستغاثة بالموتى، فهي شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله تعالى، فالاستعانة والاستغاثة اللتان من هذا النوع من أعظم أنواع العبادة . . قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ سورة الفاتحة : آية 5 ] . وقال تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 9 ] ، أما إذا كانت الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من دفع عدو أو إعانة على حمل شيء فلا بأس بها . قال تعالى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ سورة القصص : آية 15 ] قال الشيخ عبد الرحمن ابن حسن - رحمه الله - في " فتح المجيد " نقلاً عن الشيخ صنع الله الحلبي : والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسيّة في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه كقولهم : يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، ولا تجوز الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فهي من خصائص الله لا يطلب فيها غيره (1) . . انتهى .
97 ـ بعض الناس حينما يصاب لهم قريب أو عزيز يذهبون به إلى شخص يسمونه " الطبيب الشعبي " وحينما يؤتى بالمريض إلى هذا الطبيب يسرد لولي المريض جملة من الأمراض، ويؤكد بأن هذا المريض لن يشفى إلا إذا ذبح له حيوان معيّن لا يذكر اسم الله عليه، ويدفن بعد ذلك في مكان يحدده .
هل إذا فعل الإنسان ذلك طلبًا للشفاء غير قاصد الشرك يكون آثمًا، وهل يعتبر ذلك من الشرك الأكبر ثم ما تأثير الذبح لغير الله عمومًا على عقيدة المسلم ؟(39/8)
الذبح لغير الله من أجل شفاء المريض أو لغير ذلك من الأغراض شرك أكبر، لأن الذبح عبادة قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ سورة الأنعام : الآيتين 162، 163 ] فأمر سبحانه بأن يكون الذبح لله وحده، وقرنه مع الصلاة، كما أمر سبحانه بالأكل مما يذكر اسم الله عليه من الذبائح، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ سورة الأنعام : آية 118 ] إلى قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ سورة الأنعام : آية 121 ] .
فالذبح لغير الله شرك أكبر لأي غرض من الأغراض سواء كان لأجل شفاء المريض كما يزعمون أو لغير ذلك من الأغراض، وهذا الذي يأمر أقارب المريض بأن يذبحوا ذبيحة لا يذكرون اسم الله عليها مُشعوذ يأمر بالشرك، فيجب إبلاغ ولاة الأمور عنه ليأخذوا على يديه، ويريحوا المسلمين من شره .
والله سبحانه وتعالى جعل لنا أدوية مباحة يعالج بها المرضى، وذلك بأن نذهب إلى الأطباء والمستشفيات، ونعالج بالعلاج النافع المباح . وكذلك شرع الله سبحانه لنا الرقية بكتابه بأن نقرأ على المريض من كتاب الله، وندعو الله له بالشفاء بالأدعية الواردة . . وفي هذا كفاية للمؤمن { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [ سورة الطلاق : آية 3 ] أما هؤلاء المشعوذون فإنهم كذّابون دجّالون يريدون إفساد عقائد المسلمين، وأكل أموال الناس بالباطل، فلا يجوز تركهم يعبثون بالناس، ويضلونهم بل يجب ردعهم، وكف شرهم . .(39/9)
أما تركهم فإنه من أعظم المنكر والفساد في الأرض . . ويجب على المسلم المحافظة على عقيدته، فلا يعالج جسمه بما يفسد دينه وعقيدته، ولا يذهب إلى هؤلاء المشبوهين والدجّالين . وإذا كانوا يخبرون الناس عن الأشياء الغائبة فهم كُهّان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/408، 476 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/14 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7/198 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275، 276 ) ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وانظر " تحفة الأشرف " ( 10/123، 124 ) ] .
98 ـ هل تجوز الصلاة خلف إمام يعتقد بالأولياء والصالحين ؟
الاعتقاد بالأولياء والصالحين بأنهم ينفعون ويضرون أو يشفون المرضى أو يفرجون الكربات كما يعتقده القبوريون اليوم بأصحاب الأضرحة هذا شرك أكبر - والعياذ بالله - صاحبه خارج عن الملة؛ لأنه يعبد غير الله عز وجل؛ لأنه لا يملك الضر والنفع، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات إلا الله، لا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، والاعتقاد بالأموات والمقبورين أنهم ينفعون أو يضرون أو حتى بالأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى من شفاء المرضى وجلب الرزق ودفع الضر هذا شرك أكبر؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه وتعالى، وتوكل على غير الله بل وصرف أعظم أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فهذا الإمام إذا كان كما ذكرت فإنه ليس من أهل الإسلام مادام على هذا الاعتقاد ولا تصح إمامته، لأنه مشرك بالله عز وجل .(39/10)
99 ـ الأصناف الثمانية الذين تدفع إليه الزكاة أوضحهم القرآن الكريم في قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . . . } إلى آخر الآية [ سورة التوبة : آية 60 ] ولكن هناك أي ما يسمون أنفسهم شيوخًا ولا يتصفون بصفة من صفات أهل الزكاة المستحقين لها بل هم أغنياء ولكن هم يأخذون الزكاة من الناس بسبب اعتقاد البعض من العوام أنهم أصحاب أنساب رفيعة ومكانة عالية، ويجب أن ينالوا رضاهم وإلا أصيبوا بمصائب وعواقب وخيمة حتى إنهم يحلفون بهم ويستثنون مشيئتهم مع مشيئة الله فما حكم مثل هذا العمل ؟
هذا العمل حرام من وجهين :
أولاً : أنه إعطاء للزكاة لغير مستحقيها والله يقول : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . . . } [ سورة التوبة : آية 60 ] إلخ فحصرها في ثمانية أصناف، وهؤلاء ليسوا من هؤلاء الأصناف فهم أخذوها بغير حق فلا تبرأ ذمة الدافع، ولا تباح للمدفوعة له فهي سحت وحرام .
أما الأمر الثاني : فهو ما اقترن بذلك من أن هؤلاء يتعظمون على الخلق ويترفعون عليهم، ويزعمون أنهم يصيبونهم بالأذى والأمراض إذا لم يدفعوا لهم، هذا من اتخاذهم أربابًا من دون الله عز وجل، فاعتقاد أن مخلوقًا ينفع أو يضر من دون الله عز وجل هو الشرك الأكبر، والعياذ بالله .(39/11)
والواجب أن يفقه هؤلاء أن لا أحد من المخلوقين مهما ارتفع نسبه وشرف أصله لا يصلح أنه يعتقد فيه أنه ينفع أو يضر من دون الله أو أن له تأثيرًا في الكون أو جلبًا للرزق أو دفعًا للشر، فهذا كله لله عز وجل الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، أما هؤلاء فهم مخلوقون محتاجون إلى الله، وهم ضعاف ليس لهم تأثير . فالله سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ سورة الحجرات : آية 13 ] جعل التقوى هي سبب الكرامة أما النسب فإنه لا تأثير له عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ سورة المؤمنون : آية 101 ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى ) [ رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 3/100 ) من حديث جابر رضي الله عنه ورواه غيره ] ، فهؤلاء مثل غيرهم ليس لهم كرامة إلا بالتقوى، أما نسبهم أو أصلهم فلا دخل له ولا ينفعون ولا يضرون، بل هم من أحقر الناس إذا لم يتقوا الله سبحانه وتعالى، أما إذا اتقوه فيكونون من أشرف الناس، ومن أرفع الناس عند الله سبحانه وتعالى، ولكن ليس لهم من الأمر شيء .
100 ـ لي زوجة ولي منها أولاد ولكنها للأسف لا تؤدي الصلاة، وقد طلبت منها ذلك مرارًا ونصحتها ولكنها لا تُطيع وتصرُّ على ترك الصلاة فهل أستمر في حياتي معها أم أفارقها ؟ أفيدونا وفقكم الله .(39/12)
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الفارقة بين المسلم والكافر، قال صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231، 232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ، كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه ] ، وقال : ( بين العبد وبين الكفر - أو الشرك - ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه ] والأحاديث في هذا كثيرة، والصلاة هي عمود الإسلام، فمن تركها متعمدًا فإنه كفر بذلك سواء تركها جاحدًا لوجوبها أو تركها تكاسلاً على الصحيح من قول العلماء، فالذي يترك الصلاة جاحدًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، وهذه المرأة التي يسأل عنها السائل تركت الصلاة، وقد نصحها مرارًا، واستمرت على ترك الصلاة هذه تعتبر كافرة لا يجوز بقاء المسلم زوجًا لها قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ سورة البقرة : آية 221 ] وقال تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ سورة الممتحنة : آية 10 ] ، وهذه كافرة يتعين عليك تركها، ويعوضك الله خيرًا منها من المسلمات الصالحات إن شاء الله تعالى . وإن تابت، وحافظت على الصلاة، فجدد العقد عليها إن كنت تريدها .
101 ـ لي بعض أقارب لا يصلون تهاونًا وكسلاً، وقد نصحتهم كثيرًا ولكن دون جدوى فهل أستمر في مواصلتهم والإحسان إليهم على أمل التأثير عليهم أم أقاطعهم وأعاملهم على أنهم كفار، وما الحكم فيمن يصوم رمضان وهو لا يصلي وهل الأفضل أن يصوم وهو لا يصلي أو يترك الصيام مادام لا يصلي ؟(39/13)
لا شك أن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وأمرها في الإسلام أمر مهم ومكانتها عظيمة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى في شأنها في آيات كثيرة في كتابه الكريم، أمر بإقامتها، وأثنى على الذين يقيمونها، ويحافظون عليها، ووعدهم بجزيل الثواب، وتوعد الذين يتساهلون في شأنها، أو يتركونها ولا يقيمونها بأشد الوعيد مما يؤكد على المسلم أن يهتم بشأن الصلاة، وأن يحافظ عليها، ويداوم عليها، وأن ينكر على من يتخلف عنها أو يتساهل فيها أشد النكير، وأن يكون اهتمام المسلمين بوجه عام بالصلاة اهتمامًا بالغًا . يتواصون بإقامتها، ويتناصحون في شأنها ويأخذون على يد من يتهاون بها أو يتخلف عنها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام والسلف الأول من صدر هذه الأمة .(39/14)
أما من يترك الصلاة متعمدًا فإنه إن كان مع تركه لها جاحدًا لوجوبها ويرى أنها غير واجبة، وأنها ليست بشيء فهذا كافر بإجماع المسلمين، ليس له في الإسلام نصيب، وإن كان يقر بوجوبها ويعترف بركنيتها ومكانتها في الإسلام، ولكنه تركها تهاونًا وتكاسلاً، فإنه يكون كافرًا أيضًا على أصح قولي العلماء، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في الكفار : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] ويقول في الآية الأخرى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 9 ] والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231، 232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ، كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بنحوه ] ، والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .(39/15)
وما ذكرت أيها السائل من أن لك أقارب يتركون الصلاة، وأنك تناصحهم، فهل تستمر على ذلك وتواصلهم رجاء التأثير عليهم ؟ نعم يجب عليك أن تناصحهم وأن تنكر عليهم، وأن تواصل ذلك معهم لعل الله أن يهديهم على يدك، وأن تكون سببًا في إنقاذهم من الكفر ومن النار . أما إذا كانوا لا تجدي فيهم النصيحة، ولا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، فإنه يجب عليك أن ترفع بشأنهم لولاة الأمور وأهل الحسبة ليأخذوا على أيديهم، ولا يجوز تركهم على حالهم أبدًا إذا كان المسلم يستطيع أن ينكر عليهم، وأن يقوم عليهم ويناصحهم ويرفع بشأنهم لولاة الأمر . فإن لم يكن هناك من يلزمهم بالصلاة فاعتزلهم وابتعد عنهم وأبغضهم في الله .
أما الصيام مع ترك الصلاة فإنه لا يجدي ولا ينفع ولا يصح مع ترك الصلاة، ولو عمل الإنسان مهما عمل من الأعمال الأخرى من الطاعات فإنه لا يجديه ذلك مادام أنه لا يصلي لأن الذي لا يصلي كافر، والكافر لا يقبل منه عمل، فلا فائدة من الصيام مع ترك الصلاة .
والواجب عليهم أن يقيموا الصلاة ويقيموا أركان الإسلام كلها، لأن الإسلام بني على خمسة أركان لابد من إقامتها، ومن آكدها بعد الشهادتين الصلاة وهي عمود الإسلام فمن ترك الصلاة فإنه لا يصح منه عمل من الأعمال الأخرى، والله أعلم .
102 ـ أنا أبلغ من العمر 36 عامًا ولكن أكثر أعمالي خلال هذا العمر غير مرضية فقد ارتكبت كثيرًا من المخالفات، ولم أكن أصوم رمضان سوى من عامين فقط، وكذلك الصلوات فماذا يجب عليّ نحو الصلاة والصيام، فإني قد عقدت العزم على التوبة الصادقة إلى الله ؟ كذلك حلفت أيمانًا كثيرة وقد حنثت في الكثير منها ولكني أجهل عددها فهل عليّ كفارة وكيف تؤدى وأنا أجهل عدد الأيمان التي حنثت فيها ؟(39/16)
أما القضية الأولى وهي تركك للصلوات سنين، وتركك للصيام فهذه الفترة التي كنت فيها على هذه الحالة لست فيها على الإسلام، لأن من ترك الصلاة متعمدًا فهو كافر سواءً كان جاحدًا لوجوبها أو يقر بوجوبها وتركها كسلاً على الصحيح، فكل هذه الفترة وأنت لست على دين لكن لما منَّ الله عليك بالتوبة، وتبت إلى الله، وحافظت على الصيام والصلاة، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها ولا يلزمك قضاء ما فات قبل التوبة .
وأما من ناحية الأيمان التي حلفتها وخالفتها وأنت لا تصلي ولا تصوم حينذاك فليس عليك فيها كفارة، لأن الكفارة إنما تجب على المسلم، وتارك الصلاة متعمدًا ليس بمسلم .
103 ـ ما هو السحر وكيف يعمل المسلم لتلافي الوقوع فيه ؟ وإن وقع عليه سحر فكيف يعالجه بالطرق المشروعة ؟
السحر عمل شيطاني - وهو عبارة عن رقى شيطانية وعقد وأبخرة - والسحر يؤثر في جسم المسحور فيقتل أو يمرض، وفي قلبه فيفرق بين المرء وزوجه وبين الأحبة، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، أي : بقضائه وقدره وهو يوجب على المسلم اللجوء إلى الله والاستعاذة به من شر السحرة كما أمر الله نبيه وعباده المؤمنين أن يستعيذوا برب الفلق من النفاثات في العقد . ومن السحر ما هو تخييلي وليس له حقيقة وهو ما يسمى بالسحر التخييلي وبالقمرة بحيث يظهر الأشياء أمام الناظر على غير حقيقتها كما قال تعالى : { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } [ سورة الأعراف : آية 116 ] ، وكما في قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ سورة طه : آية 66 ] ، وهذا النوع هو الذي يستعمله المشعوذون من الصوفية ومن الذين يسمون بالبهلوانيين .(39/17)
104 ـ ما مدى صحة الحديث القائل : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/399 ) ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " ، ورواه أبو يعلى في " المسند " من حديث أبي موسى رضي الله عنه ] ، وكيف يكون التصديق بالسحر ؟ أهو بقدرة الساحر أو بالتصديق بما يراه المسحور قد تغير عما كان قبل أن يسحر أرجو توضيح هذه المسألة جزاكم الله كل خير ؟
أما الحديث الذي أشار إليه السائل ( ثلاثة لا يدخلون الجنة ) فقد رواه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " وصححه الحاكم وأقره الذهبي - رحم الله الجميع - وأما معناه فهو الوعيد الشديد لمن يصدق بالسحر مطلقًا ومنه التنجيم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتبس شعب من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/15 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
والتصديق بالسحر ذنب عظيم وجرم كبير، لأن الواجب تكذيب السحرة والمنجمين ومنعهم، والأخذ على أيديهم من تعاطي هذه الأعمال الذميمة، لأنهم بذلك يضلون الخلق ويروجون على الناس ويفسدون العقائد، والسحر كفر كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة، والواجب قتل السحرة فإذا صدقهم فمعناه أنه وافقهم، وأنه أقرهم على مهنتهم الخبيثة، والواجب تكذيبهم ومحاربتهم ومنعهم من مزاولة ذلك .
أما تأثير السحر وما يترتب عليه من إصابات فذلك شيء واقع ويؤثر ويقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجته ويفسد بين الناس فتأثيره شيء واقع، أما تصديق الساحر أو المنجم في أمور الغيب المستقبلة فهذا فيه وعيد عظيم وفيه إثم كبير .(39/18)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/408، 476 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/14 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275، 276 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7/198 ) ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر " تحفة الأشراف " ( 10/123، 124 ) ] .
105 ـ هل تجوز الصلاة خلف الساحر أو المصدق بالسحر، وهل يجوز فك السحر بالسحر إذا لم توجد وسيلة أخرى ؟
السحر من أعظم كبائر الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ( الشرك بالله والسحر وقتل النفس ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/195، 7/29 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] إلى آخر الحديث .(39/19)
فعدَّ السحر من الموبقات وجاء بعد الشرك بالله عز وجل والسحر كفر، لأنّ الله سبحانه وتعالى ذكر عن اليهود أنهم استبدلوا كتاب الله بالسحر كما قال تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [ سورة البقرة : الآيتين 101، 102 ] ، السحر من فعل الشياطين، وهو كفر وفي الآية يقول سبحانه وتعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، فدل على أن تعلم السحر كفر، وفي ختام الآية قال : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، يعني : من نصيب، فدل على أن الساحر إذا لم يتب إلى الله أنه ليس له نصيب في الآخرة وهذا هو الكافر، فالسحر كفر وعلى هذا لا تصح الصلاة خلف الساحر، وكذلك من يصدق بالسحر، ويعتقد أنه شيء حق، وأنه يجوز عمله فهذا مثل الساحر يأخذ حكمه .(39/20)
أما قضية حل السحر بسحر مثله فقد نص كثير من العلماء على أن ذلك لا يجوز، لأن التداوي إنما يكون بالحلال والمباح، ولم يجعل الله شفاء المسلمين فيما حرم عليهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تداووا ولا تداووا بحرام ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/7 ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وهو جزء من حديث أوله ( إن الله أنزل الداء والدواء . . . ) ] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/247، 248 ) معلقًا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ] ، ومن أعظم المحرمات السحر فلا يجوز التداوي به ولا حل السحر به، وإنما السحر يحل بالأدوية المباحة وبالآيات القرآنية والأدعية المأثورة هذا الذي يجوز حل السحر به .
وأما حله بسحر مثله فهذا هو النشرة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها من عمل الشيطان ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/294 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/5، 6 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 9/351 ) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/102 ) ] ، وقال الحسن : ( لا يحل السحر إلا ساحر ) [ ذكره ابن مفلح في " الآداب الشرعية " عن ابن الجوزي في " جامع المسانيد " ( 3/ 77 ) بلفظ : ( لا يطلق ) ] ، ومنع منها كثير من العلماء .
106 ـ هناك من يعمل بالسحر التخييلي من الطعن والنار والضرب بالمطارق ويظهرون في وسائل الإعلام على أنهم يأتون بمعجزات فكيف ينهى عن هذا وكيف يواجه هذا الأمر ؟
الواجب إنكار هذا ومنعه من وسائل الإعلام التي لنا عليها سلطة ولنا عليها قدرة . أما وسائل الإعلام التي ليس لنا عليها قدرة ولا سلطة فنمنعها من بلادنا . وإذا حصل شيء من ذلك فإنه يطلب من المسئولين إزالته والقضاء عليه حماية للمسلمين من شره وخطره .
107 ـ ما نصيحتكم لمن يقول : إن عصا موسى سحرية ؟(39/21)
هذا كفر بالله - والعياذ بالله - إذا كان يعتقد أن موسى ساحر وأن عصاه أداة سحر، وما كانت عصا موسى سحرية، وإنما هي معجزة من آيات الله سبحانه وتعالى . فالذي يقول هذا الكلام يتوب إلى الله، لأن هذا كلام شنيع . وإن كان لا يقصد أن موسى ساحر وإنما قالها تقليدًا لغيره ومجاراة لكلام الناس فقد أخطأ في ذلك خطأ كبيرًا فيجب الابتعاد عن هذا التعبير .
108 ـ بعض الناس عندهم جهل بالقراءة ويستعينون بالجان ويقولون : هذا جني مسلم ويسألونه عن مكان السحر . هل من كلمة بهذا الموضوع ؟
لا يستعان بالجان وإن كان يقول : إنه مسلم فإنه يقول : إنه مسلم وهو كذاب من أجل أن يتدجّل على الإنس فيغلق هذا الباب من أصله .
ولا يجوز الاستعانة بالجن، لأن هذا يفتح باب الشر، والاستعانة بالغائب لا تجوز سواء كان جنيًّا أو غير جني سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، فالاستعانة بالغائب لا تجوز إنما يستعان بالجن الحاضر الذي يقدر على الإعانة كما قال الله تعالى عن موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ سورة القصص : آية 15 ] هذا حاضر ويقدر على الإغاثة فلا مانع من هذا في الأمور العادية .
109 ـ ما حكم تحضير الأرواح وهل هو نوع من أنواع السحر ؟
لا شك أن تحضير الأرواح نوع من أنواع السحر أو من الكهانة وهذه الأرواح ليست أرواح الموتى، كما يقولون، وإنما هي شياطين تتمثل بالموتى وتقول : إن روح فلان أو أنا فلان وهو من الشياطين فلا يجوز هذا .
وأرواح الموتى لا يمكن تحضيرها، لأنها في قبضة الله سبحانه وتعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ سورة الزمر : آية 42 ] .(39/22)
فالأرواح ليست كما يزعمون أنها تذهب وتجيء إلا بتدبير الله عز وجل فتحضير الأرواح باطل، وهو نوع من السحر والكهانة .
110 ـ بعض الناس إذا أراد أن يبني بيتًا ذبح في هذا البيت خروفًا أو شاة وقال : هذا من أجل أن يثبت البنيان والأصل ؟
هذا شرك بالله عز وجل وهو ذبح للجن، لأنهم يذبحون على عتبة البيت أو إذا وضعوا مشروع شركة أو مصنع يذبحون أول ما تدار الحركات ويقولون : هذا فيه مصلحة للمصنع وهو شرك بالله، لأن هذا ذبح للجن واعتقاد بالجن، وهم الذين أمروهم بهذا وأوحوا إليهم أن هذا الذبح ينفعهم . ومن ذبح لغير الله فقد أشرك .
وفي الحديث ( لعن الله من ذبح لغير الله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1567 ) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ] ، قال الله سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة الأنعام : آية 162 ] ، فالنسكُ : هي الذبح . قرنها مع الصلاة . فكما أن الإنسان لا يصلي لغير الله فكذلك لا يذبح لغير الله قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] ، فالنحر عبادة لا تجوز إلا لله .
111 ـ هل تعتبر من التنجيم معرفة أمور حساب السنين والشهور والأيام ومعرفة توقيت المطر والزرع ونحو ذلك ؟
ليس هذا من التنجيم وإنما هو من العلم المباح، وقد خلق الله الشمس والقمر لمعرفة الحساب، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [ سورة يونس : آية 5 ] وهذا ما يُسمّى بعلم التسيير .
قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نُهِيَ عنه . . والله أعلم .(39/23)
وكذلك الاستدلال بالنجوم على معرفة الجهات لا بأس به، قال تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ سورة النحل : آية 16 ] ، قال ابن رجب : وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطُرق جائز عند الجمهور وما زاد عليه لا حاجة إليه لشغله عما هو أهم منه .
قال البخاري في " صحيحه " : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوّل فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلّف ما لا عِلم له به .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله : هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ } [ سورة الملك : آية 5 ] ، وقوله تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ سورة النحل : آية 16 ] ، وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي دلالات على الجهات والبلدان (2).
وأما معرفة توقيت المطر فهذا لا يمكن، لأن معرفة وقت نزول المطر من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وربط نزول المطر بأحوال النجوم هذا هو الاستسقاء بالأنواء وهو من أمور الجاهلية .
وأما معرفة وقت بذار الزروع فهذا يرجع إلى معرفة الفصول، وهو علم يدرك بالحساب . والله أعلم .
112 ـ هل الاستدلال بالنجوم على المواقع الأرضية سحر ؟
النجوم تدل على الطريق والاتجاه للمسافر، فإذا رأى النجم عرف الاتجاه، ويعرف الطريق هذا هو المقصود { لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ سورة الأنعام : آية 97 ] ، فإن كان قصد السائل بالمواقع الأرضية معرفة الاتجاه والطريق فهذا صحيح .
113 ـ فضيلة الشيخ : ما رأيكم في قراءة الفنجان وقراءة الكف وما يسمى بالأبراج التي تنشر في الجرائد ؟(39/24)
كل هذه من الكهانة والشعوذة قراءة الفنجان والكف والأبراج التي تنشر في الجرائد كلها من ادعاء علم الغيب، فهي كهانة، والكهانة نوع من السحر، كلها أعمال باطلة : الكهانة والسحر والعيافة وطرق الحصى وضرب الودع ونثر الودع كلها من أنواع الباطل وادعاء علم الغيب والتدجيل على الناس لإفساد عقائدهم .
114 ـ نسمع من يقول : عُرف كذا أو حدث كذا، قبل مائة مليون سنة، أو مائة وخمسين مليون سنة . . هل يجوز لهم أو يمكنهم أن يقدروا حدوث بعض الأشياء ؟ ثم هل يُعد ما بيننا وبين آدم عليه السلام، هل يعد بملايين السنين ؟
قول بعضهم : حدث كذا منذ مليون سنة، أو أقل أو أكثر، هو من التخرص الذي لا دليل عليه، والغيوب الماضية لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل صحيح من كتاب الله أو سنّة رسوله أو إخبار الثقات، ولا يعلم القرون الماضية إلا الله قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ سورة الإسراء : آية 17 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة إبراهيم : آية 9 ] ، فما يقال في بعض وسائل الإعلام أو بعض الكتب عن بعض الآثار من تحديد ملايين السنين للأشياء هو تخرص وافتراء وقول بلا علم .(39/25)
10 ـ الرقى
115 ـ هل ورد في الشرع المطهر ما يمنع من رقية المريض بالقرآن الكريم ؟ وهل يجوز للراقي أن يأخذ أجرًا على عمله أو هدية ؟
رقية المريض بالقرآن الكريم إذا كانت على الطريقة الواردة بأن يقرأ وينفث على المريض أو على موضع الألم أو في ماء يشربه المريض فهذا العمل جائز ومشروع؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقى ورُقي وأمر بالرقية وأجازها (1).
قال السيوطي : وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته . وباللسان العربي وما يعرف معناه .
وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى (2).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : والرقى هي التي تسمى بالعزائم وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العين والحمة (3) - يعني : سم العقرب إذا لسعت الإنسان، وكذا لدغ الحية . فإن الرقية من ذلك تنفع بإذن الله .
ولا بأس أن يأخذ الراقي أجرة أو هدية على عمله؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقر الصحابة الذين أخذوا الأجرة على رقية اللديغ وقال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/23 ) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
116 ـ أنا أكتب المحو للمرضى فهل يجوز أن أكتب لهم آيات من القرآن الكريم فيشربه المريض أم لا ؟(40/1)
الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرقية على المريض بأن يقرأ عليه مباشرة وينفث على جسمه، هذه هي الرقية الواردة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4) . وكذلك يعوذه بما عوذ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يقول : ( أعيذك بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق، باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن شرِّ كل نفس وعين حاسد الله يشفيك، ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا جرمنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك ) (5) ، ونحو ذلك من الأدعية الشرعية الواردة التي يرقى بها المريض .
أما كتاب القرآن الكريم بأوراق أو بصحون أو أواني ثم تغسل ويشرب المريض محوها، فهذا أجازه بعض أهل العلم ويعتبرونه داخلاً في الرقية .
لكن الأولى ما ذكرنا، وهو أن يرقى المريض مباشرة إما بأن يقرأ عليه، أو بأن يقرأ في ماء ويشربه المريض . كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم . هذا هو الأولى اقتصارًا على ما ورد به الدليل . والله أعلم .
117 ـ ما رأيكم فيمن يأخذ من أحد الرجال الصالحين بعض الكتابات القرآنية للشفاء من مرض حيث يقوم هذا الرجل بكتابة الآيات على ورقة ويقول : اجعلها في ماء حتى تذوب الكتابة ثم يشرب المريض ثلاث مرات، والباقي يمسح به الجزء المراد شفاؤه كأن يكون المرض في صدره أو ظهره أو أحد أعضائه فما حكم ذلك ؟(40/2)
الأولى أن يقرأ المسلم على أخيه بأن ينفث على جسمه بعد ما يقرأ الآيات أو على موضع الألم منه وهذه هي الرقية الشرعية (6) وإن قرأ له في ماء وشربه فكذلك أيضًا، لأن هذا ورد به الحديث (7) ، أما كتابة الآيات في ورقة ثم تمحى هذه الورقة في ماء ويشربها المريض فهذا رخص فيه كثير من العلماء (8) قياسًا على ما ورد، وأخذًا لعموم الاستشفاء بالقرآن الكريم، لأن الله أخبر أنه شفاء فلا بأس به - إن شاء الله - ولكن الأولى هو ما ذكرناه وهو الوارد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو القراءة على المريض مباشرة أو القراءة في ماء ويشربه .
118 ـ قبل أن أهتدي وأداوم على الصلوات في أوقاتها وقراءة القرآن الكريم ذهبت إلى إحدى الساحرات وطلبت مني أن أخنق دجاجة لكي تعمل لي حجابًا تربطني بزوجي، لأنه كان يوجد دائمًا مشكلات بيني وبينه، وقد خنقت الدجاجة فعلاً بيدي فهل عليّ في فعل هذا إثم، وماذا أفعل حتى أخلص من هذا الخوف الذي يراودني والقلق ؟
أولاً : الذهاب إلى الساحرات حرام شديد التحريم، لأن السحر كفر وإضرار بعباد الله عز وجل، فالذهاب إليهم جريمة كبيرة وما ذكرت أنك خنقت الدجاجة جريمة أخرى، لأن هذا فيه تعذيب للحيوان وقتل للحيوان بغير حق، وتقرب إلى غير الله بهذا العمل فيكون شركًا، ولكن مادمت قد تبت إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة فما سبق منك يغفره الله سبحانه وتعالى ولا تعودي إليه في المستقبل، والله تعالى يغفر لمن تاب .
ولا يجوز للمسلمين أن يتركوا السحرة يزاولون سحرهم بين المسلمين بل يجب الإنكار عليهم ويجب على ولاة أمور المسلمين قتلهم وإراحة المسلمين من شرهم .
119 ـ ما حكم الشرع في كتابة آيات من القرآن أو اسم من أسماء الله الحسنى ومحوها بالماء وشربها بقصد الشفاء من مرض أو جلب منفعة ؟(40/3)
ينبغي للذي يعالج المرضى بالقرآن أن يقرآ على المريض مباشرة بأن يرقيه بالقراءة بأن يقرأ القرآن، وينفث على المريض مباشرة، هذا أنفع وأحسن وأكمل، وهذا الذي كان يفعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ (9) وكان السلف يفعلونه، ويجوز أن يقرأ في ماء ويسقى للمريض أيضًا، وبذلك ورد بعض الأحاديث ويجوز، أمّا أن يكتب القرآن على شيء طاهر كصحن أو ورق بشيء طاهر ويغسل المكتوب ويسقى للمريض فقد رخص فيه بعض السلف مثل الإمام أحمد بن حنبل (10) وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموعة الفتاوى " (11) وأنه شيء معروف عن بعض السلف، وتركه أحسن للاقتصار على ما ورد . والله أعلم .
120 ـ هل يجوز التداوي من مرض بكتابة آيات من القرآن على لوح خشبي ثم تمحى بماء يسقى به المريض ؟ وهل يجوز أخذ الأجرة عن هذا العمل ؟
يرى بعض العلماء أنه لا بأس بكتابة القرآن على شيء طاهر، ويغسل هذا المكتوب، ويشربه المريض للاستشفاء بمثل هذا، لأنه داخل في الرقية كما ذكر هذا عنهم العلماء في كتبهم وفتاويهم كشيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (12) وغيرهم من أهل العلم، ولكن الأولى أن تكون الرقية بالقراءة على المريض مباشرة بأن يقرأ القرآن وينفث على المريض أو على محل الإصابة هذا هو الأفضل والأكمل .
وأما أخذ الأجرة على كتابة العزائم من القرآن على الصفة المذكورة فلا بأس بذلك أيضًا . لأن أخذ الأجرة على الرقية جائز؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقر الصحابة الذين أخذوا الجعل على الرقية . . كما جاء ذلك في الحديث الصحيح في قصة اللديغ (13).
121 ـ نحن في الصعيد إذا مرض لنا طفل أو بهيمة نذهب إلى الشيخ ويكتب لنا ورقة نحرقها ثم نتبخر بها أو نقوم بشربها أو نعلقها على رقبة المريض أو البهيمة ما حكم هذا العمل بارك الله فيكم ؟(40/4)
هذه الورقة لا ندري ماذا كتب فيها ربما يكون قد كتب فيها الشرك والكفر بالله عز وجل من هؤلاء المشعوذين، فعلى كل حال يجب عليكم تجنب مثل هذا الشيء، وعليكم بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ سورة يونس : آية 107 ] وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ سورة الأنعام : آية 17 ] .
قال الخليل عليه السلام : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ سورة الشعراء : آية 80 ] فيجب على المسلم أن يعتمد على الله في طلب الشفاء بالدعاء والعبادة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى فهو الذي يملك الشفاء والعافية، أما الذهاب إلى المشائخ - كما ذكرت - وأخذ الأوراق منهم وإحراقها واستنشاقها وما أشبه ذلك، فهذا يجب تركه ولا يجوز تعليق هذه الأوراق على البهائم؛ لأن هذا من تعليق التمائم، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عليق التمائم، وأخبر أن ذلك من الشرك (14) ، وعليكم بالأخذ بما أباح الله من الأدوية، فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه، وجهله من جهله، فعليكم بتعاطي الأدوية المباحة .
122 ـ حصل وأن اشتغلت عاملاً في إحدى الكنائس بأجرٍ يومي فما حكم هذا الأجر الذي أخذته أهو حلال أم حرام ؟
لا يجوز للمسلم أن يعمل في أماكن الشرك وعبادة غير الله عز وجل من الكنائس والأضرحة وغير ذلك، لأنه بذلك يكون مقرًّا للباطل، ومعينًا لأصحابه عليه، وعمله محرم، فلا يجوز له أن يتولى هذا العمل، وما أخذته من الأجر مقابل لهذا العمل كسبٌ محرم، فعليك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولو تصدقت بهذا المبلغ الذي حصلت عليه لكان أبوأ لذنبك، ويكون دليلاً على صحة ندمك وتوبتك .(40/5)
فالحاصل أن المسلم لا يجوز له أن يكون معينًا لأهل الباطل، ولا يكون أجيرًا في أماكن الشرك، ومواطن الوثنية كالكنائس والأضرحة وغير ذلك من أعمال الكفار والمشركين، لأنه بذلك يكون معينًا لهم على الباطل ومقرًّا لهم على المنكر، ويكون كسبه حرامًا، والعياذ بالله .
123 ـ أنا رجل متزوج وقد حصل ذات مرة سوء تفاهم بيني وبين زوجتي فضربتها ضربًا شديدًا، ومن شدة غضبها قد مزقت ثيابها التي كانت عليها، وقد سمعت أن من يشق ثوبه فإنه يخرج من الدين، ويجب عليه أن يذهب إلى شيخ ليقرأ عليه آيات من القرآن وأحاديث نبوية وهو يردد خلفه وبذلك يكون أعاده الشيخ إلى دينه، فهل هذا صحيح وهل عليَّ إثم في ضرب لها ضربًا شديدًا أم لا ؟
أولاً : أنت أخطأت في تصرفك في ضربها؛ لأنه لا يجوز للزوج أن يضرب زوجته إلا بمبرر شرعي، وبالحد الذي أذن فيه الشرع كما إذا نشزت وامتنعت من طاعته، فإن الله جل وعلا يقول : { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } [ سورة النساء : آية 24 ] .
أما بالنسبة لما فعلته هي من شق ثيابها فهذا خطأ منها، لأن المسلم لا يجوز له أن يشق ثيابه عند الجزع، وهذا من أفعال الجاهلية، والواجب على المسلم الصبر والاحتساب، فما عملته هذه المرأة لا يجوز، لأنه ينبئ عن الجزع، ولكن لا تخرج بذلك من الدين، ولكن هذا أمر لا يجوز وحرام عليها، وأما الذهاب إلى شيخ ليعمل كذا وكذا فهذا خطأ كبير، وهذا ليس من دين الإسلام فالمذنب إذا حصل منه ذنب فإنه يتوب إلى الله عز وجل بدون أن يذهب إلى شيخ، وإنما هذا من فعل النصارى فهم الذين يذهبون إلى رهبانهم وكنائسهم ليخلصوهم من المعصية كما يزعمون، أما المسلم فإن الله أمره بالتوبة بينه وبينه، والله جل وعلا يقبل التوبة ممن تاب ولا يحتاج أن يذهب إلى شيخ، والله أعلم .
124 ـ ما رأيكم بفتح عيادات متخصصة للقراءة ؟(40/6)
هذا لا يجوز أن يفعل؛ لأنه يفتح باب فتنة، ويفتح باب احتيال للمحتالين، وما كان هذا من عمل السلف أنهم يفتحون دورًا أو يفتحون محلات للقراءة . والتوسع في هذا يحدث شرًّا، ويدخل فيه فساد، ويدخل فيه من لا يحسن، لأن الناس يجرون وراء الطمع، ويريدون أن يجلبوا الناس إليهم ولو بعمل أشياء محرمة، ولا يقال : هذا رجل صالح؛ لأن الإنسان يفتن والعياذ بالله، ولو كان صالحًا ففتح هذا الباب لا يجوز .
125 ـ سائل يقول : زوجتي تعاني من أمراض مختلفة وعرضت على أطباء فأفادوا بعدم وجود أي أمراض عضوية، وهي تشك أن بها سحرًا، وكثيرًا ما تطلب مني عرضها على بعض الأشخاص الذين يكشفون السحر، وأنا أرفض لما في ذلك من التحريم وأنا لا أحس بالراحة والحياة الزوجية معها . فما رأي فضيلتكم وما هو الحل . ؟
أولاً ما كل من أصيب بمرض يكون مسحورًا، فالأمراض كثيرة، فما كل مرض يكون سحرًا، فهذا من باب الظن، والواجب ترك هذا الظن وهذا الوسواس، والإلحاح على الله بالدعاء، وعمل الرقية الجائزة الشرعية بقراءة القرآن على هذه المريضة، والإكثار من ذلك، وتعويذها بالتعويذات الشرعية . وأيضًا لا بأس بالذهاب إلى الأطباء النفسانيين ربما يعرفون نوع مرضها وعندهم علاج لهذا الشيء .
وحتى لو ثبت أنه سحر، فالسر لا يحل بسحر مثله، وإنما يحل بالعلاج الشرعي، الذي هو قراءة القرآن، وإذا كان هناك أدوية مباحة معروفة لحل السحر فإنها تستعمل .(40/7)
ولا يذهب إلى السحرة لأجل حل السحر؛ لأن هذا لا يجوز قال الحسن : لا يحل السحر إلا ساحر (15). ولما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النشرة قال : ( هي من عمل الشيطان ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/294 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/5، 6 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 9/351 ) ، كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما . وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/102 ) ] . والنشرة هي حل السحر عن المسحور بسحر بمثله .
126 ـ هل يجوز الذهاب بالمرأة المسحورة إلى أحد المشائخ للقراءة عليها ؟
إذا كان هذا الشيخ معروفًا بالصلاح والدين وصلاح العقيدة، ويقرأ عليها من القرآن مع التستر والاحتجاب وعدم الخلوة بها، والشيخ يكون عنده تحفظ من الفتنة فلا بأس بذلك، لعدم المحذور .
أما إذا كان هذا الشخص غير معروف لا بسلامة العقيدة فلا يذهب إليه أو كان من المتساهلين في أمور النساء ولمس النساء والنظر إلى النساء فلا يذهب إليه لوجود الفتنة في هذا .
127 ـ هناك عائلة تشكو من كثرة المشاكل بشكل ملحوظ جدًّا، وهنا خلافات بين هذه العائلة وقد كان لهم احتكاك ببعض الجنسيات التي يسهل عندهم عمل السحر وسبب شكهم في ذلك أنهم وجدوا في أحد حقائب الخادمات بعضًا من الأظافر والشعر، وسؤالهم كيف العلاج وهم لا يدرون مكان السحر وكيف يعالجون هذا . ؟
يأخذون هذا الذي وجدوه ويتلفونه ويبادرون بتسفير هذه الخادمة وإبعادها عن البلاد ولا يتركونها لا عندهم ولا عند غيرهم .
128 ـ ما حكم استعمال الحجب ؟ وهل الذي يعمل هذه الحجب يكون من الكهان والسحرة ؟
الحجب إذا كانت بغير كلام عربي أو كانت حروفًا مقطعة فإنها لا يجوز تعليقها واستعمالها بإجماع أهل العلم .(40/8)
أما إن كانت هذه الحجب مكتوبة من القرآن أو من الأحاديث والأدعية الشرعية فهذه فيها خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنها لا تجوز أيضًا؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تعليق التمائم . والتمائم هي ما يعلق من التعويذات سواء كانت من القرآن أو من غيره .
129 ـ ما رأي فضيلتكم في امرأة تضع المصحف بجانب طفلها الصغير بقصد حمايته من الجن . عند انشغالها وتركه وحده ؟
هذا لا يجوز لأن فيه إهانة للمصحف الشريف ولأنه عمل غير مشروع .(40/9)
11 ـ أحكام الجنائز والقبور وبدعها
130 ـ أمرنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستغفر لصاحبنا عند القبر، وأن نسأل له التثبيت (1)رواه أبو داود في سننه ( 3/213 ) من حديث هاني مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما " ، ولم يحدد لنا كيفية ذلك أو يخصص الأمر بما يفيد الترجيح لأي كيفية في الدعاء سرًّا وجهرًا، فهل دعاؤنا للميت عند القبر عبادة أم من الفضائل . . ؟ وهل يستوي الدعاء سرًّا وجهرًا . . ؟ أم أن الدعاء سرًّا من السنة والدعاء جهرًا من البدعة كما يراه بعض الأخوة . . ؟ علمًا بأن الأمر بالدعاء خطاب مطلق يحتمل السر والجهر، وترجيح إحدى الكيفيتين يقتضي الدليل الترجيحي، فهل من دليل على الدعاء سرًّا والدعاء جهرًا، من الكتاب أو السنة أو الإجماع القولي أو الإجماع الفعلي من الصحابة رضي الله عنهم . . ؟
أمرنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاستغفار للميت المسلم وسؤال التثبيت له بعد دفنه مباشرة، وعَلَّلَ ذلك بأن هذا الوقت وقت سؤال الملكين له، فهو بحاجة للدعاء له بالتثبيت وطلب المغفرة (2) ، ولم يرد في الحديث أنهم جهروا بالدعاء والاستغفار .
ومعلوم أن الإسرار بالدعاء والاستغفار أفضل من الجهر لأنه أقرب إلى الإخلاص، ولأن الله سبحانه يسمع الدعاء سرًّا كان أو جهرًا، فلا يشرع الجهر إلا بدليل، علاوة على أن الجهر يحصل به تشويش على الآخرين، ولم يعرف - فيما أعلم - أن السلف كانوا يجهرون بالدعاء عند القبر بعد دفنه أو يدعون بصوت جماعي، وقد روى أبو داود النهي عن اتباع الميت بصوت أو نار (3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 24/294 ) قال قيس بن عبَّاد - وهو من كبار التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه - : كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال، وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة انتهى .(41/1)
وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرفعون الأصوات بالدعاء للميت لا مع الجنازة ولا بعد الدفن عند القبر وهم أعلم الناس بالسنة، فيكون رفع الصوت بذلك بدعة . . والله أعلم .
131 ـ من العادات المعروفة والمشهورة عندنا تلقين الميت بعد وضعه في قبره وبعد أن يوارى عليه التراب، ونرى أن معظم العلماء على هذا وبعضهم لا يلقي له بالاً - أعني : علماء بلدنا - ويستشهدون على ذلك بأنه قد ثبت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما توفي ابنه إبراهيم أنه وقف عليه الصلاة والسلام عند قبره ولقنه فقال أحد الصحابة : يا رسول الله أنت خير الخلق وبعد وفاتك من يلقننا ؟ فقال لهم : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ . . . } [ سورة إبراهيم : آية 27 ] الآية .
والسؤال : ما مدى صحة هذا الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا كان التلقين مشروعًا ما هي صيغته وكيفيته ؟ ونرجو أن تقرنوا الإجابة بالأدلة المقنعة ما أمكن ذلك . وجزاكم الله خيرًا ؟
التلقين المشروع هو تلقين المحتضر عند خروج روحه بأن يلقن : لا إله إلا الله، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/631 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] يعني عند الاحتضار لتكون هذه الكلمة العظيمة آخر كلامه من الدنيا حتى يلقى الله تعالى بها، ويختم له بها، فيلقن هذه الكلمة وهو في الاحتضار برفق ولين، وإذا تلفظ بها فإنها لا تعاد عليه مرة أخرى إلا إذا تكلم بكلام آخر، فإن تكلم بكلام آخر فإنها تعاد عليه برفق ولين ليتلفظ بها، وتكون آخر كلامه، هذا هو التلقين المشروع .(41/2)
أما بعد خروج الروح فإن الميت لا يلقن لا قبل الدفن ولا بعد الدفن، ولم يرد بذلك سنة صحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما نعلم، وإنما استحب تلقين الميت بعد دفنه جماعة من العلماء، وليس لهم دليل ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الحديث الوارد في ذلك مطعون في سنده، فعلى هذا يكون التلقين بعد الدفن لا أصل له من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قال به بعض العلماء اعتمادًا على حديث غير ثابت .
فالتلقين بعد الدفن لا أصل له في السنة، وإنما التلقين المشروع هو عند الاحتضار، لأنه هو الذي ينفع المحتضر ويعقله المحتضر لأنه مازال على قيد الحياة ويستطيع النطق بهذه الكلمة وهو لا يزال في دار العمل، أما بعد الموت فقد انتهى العمل .
132 ـ بعد دفن الميت في قبره أليس من المشروع أو من المطلوب الدعاء له وسؤال التثبيت له كما أمر بذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض الأحاديث ؟
نعم الثابت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنسبة للميت بعد دفنه أنه كان يقف على قبره ويدعو له ويستغفر له ويقول لأصحابه : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/213 ) من حديث هاني مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما ] .
فالذي يشرع للمسلمين إذا دفنوا الميت وانتهوا من دفنه أن يقفوا على قبره، وأن يستغفروا له، وأن يسألوا الله له التثبيت؛ لأنه وقت سؤال الملكين في القبر فيقولون : اللهم اغفر له، اللهم ثبته، ويكررون هذا الدعاء المبارك، فإن الله ينفعه بذلك؛ لأن دعاء المسلمين للأموات يرجى وصوله إليهم وانتفاعهم به .(41/3)
وأما ما يفعله الجهال والقبوريون من أنهم يطلبون من الميت أن يدعو لهم، وأن يستغفر لهم وأن يشفع لهم، فهذا عكس ما شرعه الله ورسوله، وهذا من المحادة لله ورسوله، إنما المشروع العكس أن الحي هو الذي يدعو للميت ويستغفر له، والله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة محمد : آية 19 ] وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مرَّ بالقبور استقبلهم بوجهه عليه الصلاة والسلام، وقال : ( السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن في الأثر، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ) [ ورد بألفاظ . . انظر مثلاً " صحيح الإمام مسلم " ( 2/671 ) ، من حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما، وانظر " سنن النسائي " ( 4/94 ) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما ] .
أما ما يفعل مع الجنائز من هذه البدع المحدثة ومن الأمور التي اعتادها الناس وهي ليس لها أصل في شريعة الإسلام، فالواجب الحذر منها والمنع منها والتحذير منها .
133 ـ هل ذبح الذبائح ليلة دخول الميت القبر جائز من الناحية الشرعية وهي ما يسميه الناس ( عشاء الميت ) حيث يدعى لها الناس ليأكلوا من هذه الذبائح ويعتبرون ذلك صدقة عن روح الميت ؟
ذبح الذبائح ليلة وفاة الميت وإطعام الناس من هذه الذبائح وهذه الوليمة هذا من البدع المحرمة؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على هذا العمل وعلى تخصيص وقت معين بالصدقة عن الميت .(41/4)
ومن ناحية ثانية هذا إجحاف بالورثة ( ورثة الميت ) إذا كانت هذه الذبائح وهذا الطعام من تركة الميت، وربما يكون فيهم صغار وفقراء، فيكون هذا إجحافًا بهم علاوة على ما ذكرنا من أن هذه بدعة في الشرع لا يجوز عمله والاستمرار عليه، ومن أراد أن يتصدق عن الميت بطعام أو لحم أو غير ذلك فإنه يتصدق عنه من ماله الخاص وفي أوقات الحاجة دون تقيد بليلة معينة أو وقت معين . والعوائد المخالفة للشرع لا يجوز العمل بها .
134 ـ ما هي الطريقة الشرعية لعمل المآتم أو المعازي ؟ وما هي الطريقة الشرعية للقيام بالعزاء والمواساة ؟
ليس من الشرع إقامة المآتم، بل هذا مما نهى الله عنه؛ لأنه من الجزع والنياحة والابتداع الذي ليس له أصل في الشريعة .
وأما المشروع في العزاء فهو إذا لقيت المصاب أن تدعو له وتدعو للميت، فتقول : أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر الله لميتك، إذا كان الميت مسلمًا . هذا هو العزاء المشروع وفيه دعاء للحي المصاب ودعاء للميت المسلم . ولا بأس - بل يستحب - أيضًا أن يصنع طعام ويهدي لأهل الميت إذا كانوا قد اشتغلوا عن الطعام وعن إصلاح الطعام بالمصيبة فينبغي لجيرانهم ومن يعلم حالهم أن يصنع لهم طعامًا ويهديه إليهم .
أما إقامة المآتم وإقامة السرادقات وجمع الناس والقراء وطبخ الطعام فهذا لا أصل له في دين الإسلام .
135 ـ كيف يكون العزاء في الميت ؟ وهل هو بالاجتماع في منزل المتوفى طوال الثلاثة أيام مع ما يحصل من لهو وغيبة ويقولون : إنها تسلية لأهل الميت ؟ وكذلك الذبح للقادمين للعزاء ولأهل الميت وكذلك الذبح للمتوفى بقولهم : إنها صدقة عنه وتوزيعها على الجماعة ؟ ولأن سؤالي هذا ذو أهمية أود منكم إصدار نشرة أو كتيب . ؟(41/5)
تعزية أهل الميت بميتهم مشروعة لأنها من باب المواساة، ولكن تكون في حدود ما ذكره أهل العلم من الدعاء للمصاب والدعاء للميت وتكون في أيام المصيبة، ومن التعزية لأهل الميت صنعة الطعام لهم وتقديمه إليهم إذا شغلتهم المصيبة عن صنعة الطعام لأنفسهم كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يصنع لآل جعفر طعامًا لأنه جاءهم ما يشغلهم [ (4) ] . ويكون هذا الطعام بقدر حاجة أهل الميت .
أما التوسع في العزاء بالاجتماعات الكبيرة وعمل الولائم واستئجار المقرئين فكل هذه الأمور آصار وأغلال أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان يجب على المسلمين تركها والتحذير منها .
وقد كتبت في هذا الموضوع رسالة في أحكام الجنائز وفي آخرها تكلمت عن هذه المسألة، وقد طبعت الرسالة ضمن مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأيضًا يعاد طبعها الآن في إحدى دور النشر ونرجو أن تحصل عليها .
136 ـ إعلانات التعازي في الصحف والشكر على التعزية والإعلان عن وفاة شخص . . ما رأي الشريعة في ذلك . ؟(41/6)
الإعلان في الصحف عن وفاة شخص إذا كان لغرض صحيح وهو أن يعلم الناس بوفاته فيحضروا للصلاة عليه وتشييعه والدعاء له، وليعلم من كان له على الميت دين أو حق حتى يطالب به أو يسامحه، فالإعلان لأجل هذه الأغراض لا بأس به، ولكن لا يبالغ في كيفية نشر الإعلان من احتجاز صفحة كاملة من الصحيفة، لأن ذلك يستنفذ مالاً كثيرًا لا داعي إليه . ولا تجوز كتابة هذه الآية التي اعتاد كثير من الناس كتابتها في الإعلان عن الوفاة وهي قوله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [ سورة الفجر : الآيات 27-30 ] لأن هذا فيه تزكية للميت وحكم بأنه من أهل الجنة، وهذا لا يجوز، لأنه تقوُّل على الله سبحانه وشبه ادعاء لعلم الغيب، إذ لا يحكم لأحد معين بالجنة إلا بدليل من الكتاب والسنة، وإنما يرجى للمؤمن الخير ولا يجزم له بذلك . . والله الموفق .
137 ـ عندنا عادة : عندما يموت شخص فإنهم قبل دفنه يذهبون إلى قبرة على قبر ولي كما يزعمون ويقولون : إن الحضرة النبوية توجد عند هذه القبة، والغرض من ذلك كما يعتقدون هو أن لا يعذب في قبره بل ولا يحاسب، فما حكم هذا العمل ؟
هذا من الباطل وأعمال الجاهلية، والبناء على القبور مما نهى عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد النهي، قد نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبنى على القبر (5) وأن يجصص (6)، أو يكتب عليه (7) ، أو يسرج بالمصابيح (8) ، فالبناء على القبور من أفعال الجاهلية ومن وسائل الشرك .
وكذلك الذهاب بالجنازة إلى قبر الولي لا يجوز، وإذا كان يعتقد لذلك أن الولي ينفع الميت وأنه تغفر للميت ذنوبه فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن هذا معناه الاستغاثة بالميت صاحب القبر وطلب البركة منه والشفاعة منه، وهذا من الشرك الأكبر .(41/7)
وأما قولهم : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر عند هذا الضريح فهذا من الخرافات والأباطيل التي يروجها شياطين الإنس والجن ليغرروا بالجاهلين والعوام ويعلقوهم بالقبور والأضرحة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن البناء على القبور، ونهى عن طلب الحوائج منها أو الاستشفاع بها، فكيف يحضر عليه الصلاة والسلام عندها وهو قد حرمها ونهى عنها ؟ !
138 ـ إذا مات أحد عندنا نأتي بالخطيب يقرأ القرآن لمدة خمسة أيام، وبعدها نذبح ذبيحة ونفرقها على الناس، وهذه عادة وجدناها وسرنا عليها، ما حكم هذا العمل يا فضيلة الشيخ بارك الله فيكم ؟
هذا العمل بدعة محرمة، فاستئجار المقرئ خمسة أيام يقرأ بعد وفاة المريض، لا أصل له في دين الإسلام ولا ينفع الحي ولا الميت، وديننا الحنيف وشرعنا المطهر بيَّن لنا ما يُعمل بالميت، وأنه يجهز بالتغسيل، والتكفين، ويصلى عليه، ويدفن، ويدعى له ويحج عنه ويعتمر، ويتصدق عنه، ويضحى عنه في وقت الأضحية؛ هذا ما يشرع في حق الميت .
أما أن نستأجر من يقرأ القرآن أيامًا معينة ونذبح ذبيحة في ختامها كل هذا من الآصار والأغلال ومن البدع والخرافات، وهذه لا تنفع الحي ولا الميت، وإنما هي من الأعمال الضارة والأعمال البدعية، وأي أجر يأتي من قراءة مستأجرة؛ لأن هذا القارئ لا يقرأ طمعًا في ثواب القراءة وإنما يقرأ طمعًا في الأجر الذي يدفع له، والعبادات لا يؤخذ عليها أجور .
139 ـ ما هي الأشياء التي ينتفع بها الميت من قبل الأحياء ؟ وهل هناك فرق بين العبادات البدنية وغير البدنية، نرجو أن توضحوا لنا هذه المسألة وتضعوا لنا فيها قاعدة نرجع إليها كلما أشكل علينا مثل هذه المسائل أفتونا بارك الله فيكم ؟(41/8)
ينتفع الميت من عمل الحي بما دل عليه الدليل من الدعاء له والاستغفار له والتصدق عنه والحج عنه والعمرة عنه وقضاء الديون التي عليه وتنفيذ وصاياه الشرعية كل ذلك قد دلت الأدلة على مشروعيته . وقد ألحق بها بعض العلماء كل قربة فعلها مسلم وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت . والصحيح الاقتصار على ما ورد به الدليل ويكون ذلك مخصصًا لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : آية 39 ] والله أعلم .
140 ـ ما حكم الشرع في نظركم فيمن جمع قومًا ليتلوا كتاب الله بقصد أن تعود فائدة الذكر لصاحب الدعوة أو لشخص متوفى ؟
إن تلاوة القرآن من أفضل القربات، والله جل وعلا أمرنا بتلاوة كتابه وبتدبره وتأمل معانيه، أما أن يتخذ للتلاوة شكلاً خاصًا أو نظامًا خاصًا هذا يحتاج إلى دليل .
ومثل ما ذكره السائل من جمع الناس ليقرءوا القرآن لتحصل له الفائدة أو يهدى ثوابه للأموات هذا لا دليل عليه على هذه الصفة، وإنما هو بدعة من البدع، وكل بدعة ضلالة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن هؤلاء المقرئين إذا كانوا يقرءون بالإيجار كما هو الواقع من كثير منهم، فهذه القراءة لا ثواب فيها؛ لأنهم لم يقرءوا القرآن تعبدًا لله عز وجل، وإنما قراءة من أجل الأجرة، والعبادات إذا فعلت من أجل الأجرة، فإنها لا ثواب فيها وإرادة الإنسان بعمله الدنيا . هذا مما يبطل العمل .
وإنما تنفع قراءة القرآن إذا كان القصد منها التقرب إلى الله من القارئ ومن المستمع، وأن تكون على الصفة المشروعة لا الصفة المحدثة والرسوم التي أحدثها الجهال وابتدعوها فمثل هذه القراءة على هذا الشكل وإهداء ثوابها للأموات أو الأحياء من البدع المحدثة ولا ثواب فيها .(41/9)
فالواجب على المسلم أن يترك مثل هذا العمل، وإذا أراد أن ينفع الأموات فإنه ينفعهم بما وردت به الأدلة من الترحم عليهم والاستغفار لهم والدعاء لهم والتصدق عنهم والحج أو العمرة عن الميت، هذه هي الأمور التي وردت الأدلة بأنها تنفع المسلمين أحياء وأمواتًا، أما فعل شيء لم يقم عليه دليل من الشرع فهذا يعتبر من البدع المخالفة .
141 ـ ما هي الأعمال التي تنفع وتفيد الوالدين أحياءً وأمواتًا ؟
الأعمال هي برهما في حياتهما، والإحسان إليهما بالقول والعمل، والقيام بما يحتاجانه من النفقة والسكن وغير ذلك والأنس بهما، والكلام الطيب معهما وخدمتهما، لقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ سورة الإسراء : آية 23 ] خصوصًا في كبرهما .
أما بعد الممات فإنه يبقى من برهما أيضًا الدعاء والصدقة لهما والحج والعمرة عنهما وقضاء الديون التي في ذمتهما، وصلة الرحمن المتعلقة بهما وكذلك برُّ صديقهما وتنفيذ وصاياهما المشروعة .
142 ـ زوجي استشهد منذ سنتين وكنت أصلي قبل أن يستشهد لنفسي، وبعد أن استشهد بدأت أصلي لي وله منذ سنتين، وأنا على هذه الحالة فهل يجوز لي ذلك أم لا ؟
لا يصلي أحد عن أحد، ولكن عليك بالدعاء لزوجك والإكثار من الدعاء والاستغفار له والتصدق عنه .
أما الصلاة فإنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يُصلى عن الميت ولا عن الحي؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة لأنها عمل بدني، وقد شرع الله الدعاء للأموات والاستغفار لهم والصدقة عنهم إذا كانوا مسلمين، وفي ذلك كفاية إذا تقبله الله .
143 ـ إذا توفي شخص وهو لا يصلي في حياته بتاتًا أو كان يصلي حينًا ويتركها أحيانًا ؟ فهل يجوز أن تؤدى عنه الصلاة بعد وفاته ؟ وإذا لم يكن ذلك جائز فهل ينفع أن يتصدق عنه أو يقرأ القرآن له ؟ وما هي الأشياء التي ينتفع بها الميت بعد وفاته مما خلفه ؟(41/10)
أولاً : الصلاة لا تفعل عن أحد، لا يصلي أحد عن أحد؛ لأن الصلاة عملٌ بدنيٌّ لا تدخله النيابة لا عن الحي ولا الميت .
ثانيًا : من ترك الصلاة متعمدًا واستمر على ذلك حتى مات فإنه كافر - والعياذ بالله - لا يجوز للمسلم أن يترحم عليه ولا يدعو له ولا يتصدق عنه، لأنه مات على الكفر .
أما بالنسبة لما يلحق الميت بعد وفاته من الأعمال فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1255 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فهذه الأمور تلحق الميت إذا أوقف وقفًا ينتفع به في سبيل الخير، واستمر هذا الوقف يفعل بعد وفاته فإنه يلحقه الأجر ما بقي هذا الوقف، كذلك إذا علَّم علمًا ينتفع به من العلوم الشرعية النافعة فإن هؤلاء المتعلمين الذين صاروا ينفعون الناس من بعده يعود إليه الأجر وهو ميت؛ لأنه علَّم الخير، وكذلك إذا ألَّف مؤلفات ينتفع المسلمون بها، فإن هذا علمٌ ينتفع به ويعود أجره له ما انتفع بهذه المؤلفات وما بقيت .
وكذلك إذا طبع كتبًا نافعة وأوقفها على المسلمين ينتفعون بها أو مصاحف من القرآن الكريم، كل هذا من العلم الذي ينتفع به بعد موته، ويلحق من بذل فيه، الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى .
وكذلك الذرية الصالحة الذين يدعون له من ذكور وإناث فإن هذا يلحقه الأجر إذا تقبل الله دعواتهم .
كذلك الصدقة عن الميت، لأنه ورد أن الميت يتصدق عنه، وأن ذلك ينفعه، وعمم بعض من أهل العلم أنه أي طاعة فعلها مسلم وجعل ثوابها لأي مسلم حي أم ميت أن ذلك ينفعه .
كذلك الحج ورد في الدليل أنه ينفع الميت وأنه يبرئ ذمته إذا كان واجبًا عليه وينفعه إذا كان تطوعًا، فالحج والصدقة والدعاء والوقف كل هذا مما يلحق الميت بعد وفاته .(41/11)
144 ـ إذا نذر الإنسان نذرًا وقال على سبيل المثال : ( إن شفى الله مريضي لأذبحن ذبيحة لله عند قبر فلان تقربًا لله ) ، فهل يجوز مثل هذا العمل ؟ وهل هناك أماكن نهي عن الذبح فيها لله تعالى ؟
إذا نذر أن يذبح لله عند قبر من القبور، فهذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به، والذبح عند القبور إن كان القصد منه التقرب إلى صاحب القبر فهو شرك أكبر يُخرج من الملة ولو ذكر اسم الله على الذبيحة .
وإن كان القصد منه التقرب إلى الله فهو معصية كبيرة ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأنه لا يجوز التّعبُّد عند القبور، فلا يجوز لنا أن نصلي عند القبور ولا أن ندعو عند القبور، ولا أن نذبح عند القبور، وإن كنا لا نقصد إلا الله؛ لأن هذا مشابهة للمشركين وهو وسيلة إلى الشرك .
روى أبو داود بسنده عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال : نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد ؟ ) قالوا : لا، قال : ( فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ) ، قالوا : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/235 ) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ] ، وإسناده على شرط الشيخين .
قال في " فتح المجيد " : قلت : وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك (9) . انتهى .
وبهذا يتبين أنه لا يجوز الذبح لله تعالى عند القبور، ولا في الأماكن التي كان فيها أوثان للمشركين ولو كانت قد أزيلت، ولا في المواطن التي يتخذها المشركون مكانًا لأعيادهم وشعائرهم .(41/12)
145 ـ كيف تكون زيارة القبور ؟ وهل يجوز الدعاء للأموات عند القبر ؟ وهل يكون الواقف أمام القبر مستقبلاً القبلة أم مستدبرها ؟ وما أفضل الأيام لزيارة القبور إذا كان هناك فضيلة ؟ وهل يجوز وضع حجر محفور عليه حرف كرمز يدل على القبر لكي يستدل عليه الزائر ؟
زيارة القبور بقصد الدعاء للأموات المسلمين والترحم عليهم وبقصد الاعتبار والتذكر زيارة مستحبة، قال صلى الله عليه وسلم : ( زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة ) [ انظر " فتح المجيد " ( 1/284 ) بتحقيق الدكتور الوليد بن عبد الرحمن آل الفريان ] ، وإنما تكون مشروعة في حق الرجال، أما النساء فيحرم عليهن زيارة القبور لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، وهذا يدل على شدة تحريم زيارة النساء للقبور، لما فيهن من الفتنة؛ ولأن المرأة ضعيفة قد يحصل منها ما لا يجوز من الأفعال والأقوال كالجزع والنياحة .
وكذلك إذا كان القصد من زيارة القبور التبرك بها وطلب الحوائج من الأموات والاستغاثة بهم والطواف بقبورهم، كما يُفعل اليوم عند الأضرحة، فهذه زيارة شركية لا تجوز لا للرجال ولا للنساء .(41/13)
وكذا إن كان القصد من زيارة القبور الصلاة عندها والدعاء عندها بحيث يظن أن في ذلك فضيلة، فهذه زيارة بدعية، وهي وسيلة من وسائل الشرك، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد وأماكن للعبادة والدعاء، وقد لعن ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اتخذ القبور مساجد (10) ، ونهى وشدد عن البناء عليها (11)، وعن إسراجها (12) والكتابة عليها (13) ، وعن تجصيصها (14) ، لأن هذه الأفعال من وسائل الشرك .
وإذا زار القبر الزيارة الشرعية فإنه يقف أمام وجهه ويستقبله ويستدبر القبلة ويسلم عليه، وليس للزيارة وقت محدد ولا يوم معين، ويجوز وضع حجر على القبر ليعرفه إذا زاره (15) ، ولا يجوز أن يكتب عليه شيئًا (16) ، لأن هذه وسيلة إلى تعظيمها ووقع الشرك عندها، وسواء كانت الكتابة حرفًا أو أكثر كل ذلك محرم وممنوع لما يؤول إليه من الشرك وتعظيم القبور والغلو بها .
146 ـ هل صحيح ما يقال : إن الله لعن زائرات القبور ؟ وقد سمعت بعض الناس يقولون : إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا ضاقت الصدور عليكم بزيارة القبور ) ، وأنا أزور قبر زوجي كل يوم خميس وأقرأ الفاتحة على روحه وأترحم على جثمانه دون بكاء أو عويل، ثم أعود، هل عليَّ شيء في ذلك ؟
أما ما ذكرت من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن زائرات القبور، فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسند صحيح أنه قال : ( لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها السرج ) لا يجوز للمرأة أن تزور القبور لا قبر زوجها ولا غيره؛ لأنها لو فعلت ذلك استحقت اللعنة، وما فعلتيه على قبر زوجك من زيارة وقراءة الفاتحة عليه كل هذا لا يجوز، فزيارتك القبر محرمة، وقراءة الفاتحة عند القبور بدعة، فعليك أن تتوبي إلى الله سبحانه وتعالى، وألا تستمري في زيارة قبره، وإذا كان عندك حرص على نفعه فعليك بالدعاء له والاستغفار والتصدق عنه، فإن ذلك ينفعه إن شاء الله .(41/14)
أما ما ذكرت من أنه ورد : ( إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور ) ، فهذا باطل وموضوع، ولا أصل له من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشريع زيارة القبور للرجال خاصة دون النساء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور فإنها تذكر بالموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، فزيارة القبور مشروعة في حق الرجال دون النساء بقصد الدعاء للأموات والاستغفار لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين، ونقصد الاتعاظ والاعتبار وتليين القلوب بمشاهدة القبور وأحوال الموتى، لا بقصد التبرك بها والتمسح بترابها تبركًا بها، وطلب الحاجات منها، كما يفعله المشركون الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، والله تعالى أعلم .
وهذا لابد أن تكون زيارة الرجال للقبور بدون سفر؛ لأن السفر لزيارة القبور بقصد العبادة فيها محرمة إلا السفر لزيارة المساجد الثلاثة، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .(41/15)
147 ـ ورد في الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه دخل مقابر المدينة فنادى : السلام عليكم يا أهل القبور : أتخبرونا بأخباركم أم نخبركم بأخبارنا ؟ فسمع صوتًا يقول : عليك السلام ورحمة الله وبركاته، أخبرنا بما كان بعدنا، فقال علي : أما أزواجكم فقد تزوجت، وأما أموالكم فقد قسمت، وأما أولادكم فقد حشروا في زمرة اليتامى، وأما البناء الذي شيدتم فقد سكنه أعداؤكم، فهذه أخبار ما عندنا فما أخبار ما عندكم ؟ فسمع صوتًا يقول : قد تمزقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلود، ما قدمناه وجدناه، وما كسبناه خسرناه، ونحن مرتهنون بالأعمال .
فهل هذا الأثر صحيح ؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون الجمع بينه وبين قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } [ سورة النمل : آية 80 ] ، فإن ظاهر هذه الآية أن الموتى لا يسمعون الكلام من الأحياء، أم أن للآية تفسيرًا آخر غير المتبادر إلى الذهن ؟
الذي وقفت عليه من كلام علي رضي الله عنه كما ذكرته كتب الوعظ أنه لم يخاطب الموتى ولم يخاطبوه، وإنما تكلم يعظ أصحابه الذين معه، ثم قال موجهًا الكلام للموتى : هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ ثم قال لأصحابه : أما إنهم لا يتكلمون ولو تكلموا لقالوا كذا وكذا (17)، فأجاب على لسان الموتى .
ومن واقع أحوال الموتى وما يقولونه لو تكلموا ولو نطقوا فهذا من باب الافتراض من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الميت لو تكلم لقال كذا نظرًا لحالته وما لاقى، وهذا يقصد به علي رضي الله عنه موعظة الأحياء وتذكير الناس بأحوال الموتى، وليس في القصة أن أحدًا من الموتى كلمه بهذا الكلام، وإنما هو الذي قاله على لسان الأموات تذكيرًا للأحياء .(41/16)
وأما قضية سماع أهل القبور لمن يخاطبهم فلا شك أن أحوال أهل القبور من أمور الغيب ومن أمور الآخرة، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها إلا بموجب الأدلة الصحيحة، وقد ورد : ( أن الميت إذا وضع في قبره وانتهى من دفنه وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ) هذا الذي ورد أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا أدبروا عنه، فما أثبته الدليل أثبتناه، وما لم يرد دليل فإننا نتوقف عنه .
148 ـ في بلدتنا مسجد يصلي به الناس ولكن يوجد أمامه من جهة اليسار قليلاً وعلى بعد مترين غرفة بها قبر، وكذلك أمامه من ناحية القبلة مباشرة وعلى بعد عشرة أمتار توجد مقابر، فهل يصح الصلاة في هذا المسجد ما دامت المقابر خارجًا وليست منه ؟ أم لا تصح بأي حال مادامت محيطة به ؟
إذا كانت المقابر مفصولة عن المسجد بشارع أو بسور ولم يبن هذا المسجد من أجل المقابر فلا بأس أن يكون المسجد قريبًا من المقبرة إذا لم يوجد مكان بعيد عنها، أما إذا كان وضع المسجد عند القبور مقصودًا ظنًّا أن في ذلك بركة، أو أن ذلك أفضل، فهذا لا يجوز، لأنه من وسائل الشرك .
149 ـ يوجد في قريتنا مسجد قديم تقام فيه صلاة الجمعة والجماعة علمًا بأن هذا المسجد يوجد في قبلته مقبرة قديمة وحديثة، كما أن هناك عدة قبور ملتصقة في قبلة هذا المسجد، وكما هو معلوم أن هذه المقبرة يمر في وسطها طريق للرجال والنساء، وأيضًا طريق للسيارات فما هو الحكم في هذا ؟
إذا كانت القبور مفصولة عن المسجد ولم يبن المسجد من أجلها، وإنما بني للصلاة فيه، والمقبرة في مكان منعزل عنه لم يقصد وضع المقبرة عند المسجد، ولم يقصد وضع المسجد عند المقبرة، وإنما كل منهما وضع في مكانه من غير قصد ارتباط بعضهما ببعض، وبينهما فاصل فلا مانع من الصلاة في المسجد؛ لأن هذا المسجد لم يقم على قبور .(41/17)
أما قضية مرور الطريق في وسط المقبرة، فالواجب منع ذلك، وتسوير المقبرة وتجنيب الطريق عنها .
150 ـ في بعض بلاد المسلمين قبور لعدد من الصحابة والصالحين وغيرهم، هذه القبور يزورها بعض الناس بصفة منتظمة ويطوفون بها ويصلون عندها ويعتقدون أنها تجلب البركة، فإلى أي حد يؤثر هذا العمل على عقيدة المسلم ؟
زيارة القبور من أجل التذكر والاعتبار والدعاء لأموات المسلمين مستحبة قد أمر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ( زوروا القبور فإنها تُذكر بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مر بقبور المسلمين سلّم عليهم ودعا لهم، فقال : ( السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ) (18) .
هذه هي الزيارة الشرعية التي فيها نفع للزائر بحصول الأجر والتذكر والاعتبار ونفع للميت المزور بالسلام عليه والدعاء له .
أما زيارة القبور من أجل التبرك بتربتها والتمسح بجدرانها وسؤال الموتى قضاء الحاجات وتفريج الكربات وتقديم النذور لهم والذبح لهم والطواف بقبورهم والصلاة عندها أو إليها، فهذه زيارة بدعية شركية قد حرَّمها الله ورسوله .(41/18)
قال الله تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ سورة الجن : آية 18 ] ، وقال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ سورة يونس : آية 18 ] ، سمى عملهم هذا شركًا نزه نفسه عنه مع أنهم يزعمون أن هؤلاء الموتى مجرد شفعاء لهم عند الله يسألونه بحقهم وجاههم وهذا ما عليه القبوريون اليوم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) (19) ، ومعنى يتخذونها مساجد : يصلون عندها رجاء بركاتها وقبول دعائهم بواسطتها .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يبنون المساجد على القبور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/405 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض أزواجه لما ذكرن له ما رأينه بأرض الحبشة من كنائس النصارى وما فيها من التصاوير : ( أولئك شرار الخلق عند الله ) .
وهذا بعينه هو ما يفعله القبوريون اليوم : يبنون المشاهد الشركية على القبور، ويسمونها مساجد، ويغرون العامة والسُّذَّج بزيارتها وصرف الذبائح والنذور لها واعتبروها موارد مالية يستغلونها للكسب من هؤلاء الطعام وأشباه الأنعام، وهذا شرك أكبر يبطل العقيدة ويخرج من الملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(41/19)
والواجب على ولاة أمور المسلمين وعلى علمائهم إنكار هذا الشرك القبيح وإزالة هذه المساجد، بل المشاهد المبنية على القبور، وتحكيم شرع الله في هؤلاء الذين أضلوا الناس، وزينوا لهم هذه الأعمال الشركية القبيحة، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويّته ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/666 ) من حديث أبي الهياج الأسدي ] ، وهذا أمر لجميع الأمة .(41/20)
12 ـ الجامع في البدع
151 ـ بعض المؤذنين عندنا قبل أذان الفجر يدعون بأدعية بصوت مرتفع كأن يقولون : يا أرحم الراحمين، وسبحان من خلق السماوات بغير عمد، ولجاه المصطفى ارحمنا، وغير ذلك من الأدعية فما حكم هذا العمل ؟
حكم هذا العمل أنه بدعة، لأنه ليس مما شرعه لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الأذان، وإنما يقول بعد الأذان : ( اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/152 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ] ، وهذا هو الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوله بلا رفع صوت .
152 ـ في بلادنا قبل صلاة الجمعة يردد المصلون الصلاة الإبراهيمية بأصوات عالية وجماعية حتى يصلي الإمام ويخطب، وكذلك إذا قال الإمام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قبل الخطبة يرد عليه المصلون بأصوات عالية وجماعية أيضًا بقولهم : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فما الحكم في ذلك ؟ وما هي نصيحتكم لهذه الجماعة ؟
ترديد الصلاة الإبراهيمية قبل دخول الإمام لا أصل له في الشريعة، فهو بدعة، إنما المشروع الصلاة حتى يدخل الإمام، أو الاشتغال بذكر الله وتلاوة القرآن والتسبيح والتهليل بصفة انفرادية لا صفة جماعية .
وأما ردهم السلام على الإمام إذا دخل وسلم على المنبر بصوت جماعي هذا أيضًا بدعة لم يكن من عمل المسلمين، وإنما المشروع رد السلام سرًّا وبصفة انفرادية .
153 ـ عندنا بعد صعود الإمام إلى المنبر يوم الجمعة يقوم المؤذن فيؤذن، وبعد أن يؤذن يأتي بحديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصوت مرتفع يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا صعد الخطيب المنبر فلا أحد يتكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له ) ، اسمعوا وأنصتوا يرحمني ويرحمكم الله، والسؤال : ما حكم هذا العمل ؟(42/1)
التزام هذا الشيء قبل الخطبة من البدع، لأنه عمل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الكلام وقت الخطبة، وأخبر أنه لغو بمعنى أنه يبطل ثواب الجمعة، فهذا نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) .
154 ـ قرأت في كتاب " المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة " حديثًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى ليلة الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وسورة الزلزلة خمس عشرة مرة، فإذا فرغ من صلاته يقول : يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام مائة مرة آمنه الله من عذاب القبر وظلمته، ومن أهوال يوم القيامة ) ، فما مدى صحة هذا الحديث نصًّا ومعنى ؟
أولاً : نوجه بأن الحديث لا يؤخذ من مثل هذا الكتاب، وإنما يرجع إلى كتب الحديث الموثوقة كـ : " صحيح البخاري " ، و " صحيح مسلم " ، و " السنن " ، وغيرها من الكتب المعروفة الموثوقة .
وبالنسبة لهذا الحديث الذي ذكرت لم أجد له أصلاً فيما اطلعت عليه، ويظهر عليه أنه لا أصل له؛ لأن فضائل الجمعة التي ذكرها أهل العلم لم يكن لها الحديث من بينها ذكر، فالذي يشرع في ليلة الجمعة الإكثار من الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وفي فجر ليلة الجمعة (2) ، يستحب أن يقرأ في صلاة الفجر في الركعة الأولى : الم السجدة، وفي الثانية : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } [ سورة الإنسان : آية 1، وانظر " صحيح الإمام البخاري " ( 1/214، 215 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
هذا الذي يشرع في ليلة الجمعة، وأما أن تُخصَّ بصلاة دون غيرها من الليالي فهذا لم يثبت فيه حديث، وهي كغيرها من الليالي، على المسلم أن يصلي ما تيسر من تهجد ويختم ذلك بالوتر .(42/2)
وعليك كما ذكرنا إذا أردت أن تعمل بحديث أن تراجع كتب السُّنّة المعروفة الموثوقة، أما أن تأخذ كتابًا غريبًا أو مجهولاً وتعتمد عليه وتنقل منه الحديث فهذا يوقعك في الخطأ، والأحاديث فيها الموضوع المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها الضعيف، ويبين هذا كتب أهل الفن المتخصصين في الحديث .
155 ـ اعتدنا أنا وبعض زملائي في هذه المدينة " لاهو " أن نصلي أسبوعيًا قيام ليل وهي عبارة عن أربع ركعات، وأربع ركعات شفعات، وثلاثة ركعات وترًا، نصليها جماعة في كل أسبوع، وفي كل أسبوع يؤم أحدنا .
حتى قبل أسبوع دعوت إمام مسجدنا - وبالطبع هو باكستاني - أن يحضر تلك المرة معنا ويقوم الليل معنا - وبالطبع يكون هو الإمام - فأجابني بقول : إن هذا عمل منكر وهذه بدعة وهي مكروهة كراهة تحريم؛ لأنها نافلة والأصل فيها الانفراد وليس الجماعة، فلم أستطع الرد عليه، لكنني قلت له : ربما هذه في مذهبك - أي المذهب الحنفي - وقد يكون هناك خلاف بين الثلاث مذاهب الأخرى ؟ فقال لي : لا؛ المذاهب الأربعة كلها متفقة على أن الأصل فيها الانفراد ولا تصلى جماعة .
فنرجو منكم أن تفتونا : هل يجب أن نصليها جماعة إطلاقًا مهما كان العذر ؟ أو أنه ليس هناك شيء في الأمر إذا صليناها جماعة بنية التربية والتدريب والتعود على أن نصرف ذلك الوقت في طاعة الله، وهل هي بدعة منكرة كما قال الشيخ الباكستاني ؟ نرجو منكم تفصيل ذلك ؟ وما تلك التي قرأناها عن بعض الصحابة كابن عباس عندما كان يأتي ويصلي خلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الليل ؟
ما قال هذا الإمام هو الصحيح وهو الصواب، وأن ما فعلتموه بدعة؛ لأن التزام عدد معين من صلاة الليل بدعة؛ لأنه لم يرد تحديد في هذا، بل يصلي المسلم ما تيسر له بدون تقيد بعدد محدد .(42/3)
وأيضًا التزام الجماعة لها بدعة أخرى؛ لأن التزام الجماعة للنافلة لم يرد به دليل ، وإنما تشرع الجماعة في النافلة في أشياء مخصوصة مثل صلاة الكسوف، ومثل صلاة التراويح، وأما ما عدا ذلك فإن النافلة لا تصلى جماعة، بصفة مستمرة، وإنما تصلى فرادى كلٌّ يصلي لنفسه، وصلاتها في البيت أفضل .
أما صلاتها جماعة بغير صفة مستمرة فلا مانع من ذلك وهو الذي يحمل عليه حديث ابن عباس الذي ذكرته حينما قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي من الليل، فقام ابن عباس وصلى معه، وأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك (3) ، وحينما صلى حذيفة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من آخر الليل (4) ، فصلاتها جماعة بدون التزام وبدون اعتياد ذلك لا حرج فيه .
أما ما ذكرت من أنك أنت وزملاؤك التزمتم أن تصلوا في ليالي معينة عددًا من الركعات جماعة، فهذا كله من البدع التي ليس لها أصل في الشرع، وما ذكره لكم هذا الإمام هو عين الصواب فعليكم أن تتركوا هذا الاعتياد، وأن يصلي كل منكم من الليل ما تيسر ويختم ذلك بالوتر .
وكون ذلك في البيوت أفضل منه في المساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن خير صلاة المرء في بيته إلا صلاة المكتوبة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/539، 540 ) من حديث زيد من ثابت رضي الله عنه، وللحديث قصة ] .
156 ـ هل ورد نص قرآني أو حديث نبوي يفيد قيام ليلة النصف من شعبان وصيام نهاره ؟ وإذا كان ذلك واردًا هل هناك كيفية معينة لقيام ليلة النصف من شعبان ؟(42/4)
إنه لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخصوص ليلة النصف من شعبان ولا صيام اليوم الخامس عشر من شعبان، لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليل يعتمد عليه، فليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي، من كان له عادة القيام والتهجد من الليل فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها، من غير أن يكون لها ميزة، لأن تخصيص وقت بعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح، فإذا لم يكن هناك دليل صحيح، فتخصيص بعض الأوقات بنوع من العبادة يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة .
وكذلك لم يرد في صيام اليوم الخامس عشر من شعبان أو يوم النصف من شعبان، لم يثبت دليل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتضي مشروعية صيام ذلك اليوم، ومادام أنه لم يثبت فيه شيء بخصوصه، فتخصيصه بالصيام بدعة؛ لأن البدعة هي ما لم يكن له دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يزعم فاعله أنه يتقرب فيه إلى الله عز وجل، لأن العبادات توقيفية، لابد فيها من دليل من الشارع .
أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع فكلها ضعيفة، كما نص على ذلك أهل العلم، فلا يثبت بها تأسيس عبادة، لا بقيام تلك الليلة، ولا بصيام ذلك اليوم، لكن من كان من عادته أنه يصوم الأيام البيض، فإنه يصومها في شعبان كما يصومها في غيره، أو من كان من عادته أنه يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وصادف ذلك النصف من شعبان فإنه لا حرج عليه أن يصوم على عادته، لا على أنه خاص بهذا اليوم، وكذلك من كان يصوم من شعبان صيامًا كثيرًا كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم ويكثر الصيام من هذا الشهر (5)، لكنه لم يخص هذا اليوم، الذي هو الخامس عشر، لم يخصه بصيام فإنما يدخل تبعًا .(42/5)
الحاصل أنه لم يثبت بخصوص ليلة النصف من شعبان دليل يقتضي إحياءها بالقيام، ولم يثبت كذلك في يوم الخامس عشر من شعبان دليل يقتضي تخصيصه بالصيام، فما يفعله بعض الناس خصوصًا العوام في هذه الليلة أو في هذا اليوم هذا كله بدعة يجب النهي عنه، والتحذير منه، وفي العبادات الثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصلوات والصيام، ما يغني عن هذا المحدثات، والله تعالى أعلم .
157 ـ بعض الناس عند بداية الصلاة يقول : نويت أن أصلي كذا وكذا فرضًا عليَّ لله العظيم . . ما حكم هذا القول بارك الله فيكم ؟
ما سأل عنه السائل من أن بعض المصلين يتلفظ بالنية قبل الصلاة ويقول : نويت أن أصلي كذا وأصلي كذا، فهذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فلم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن أصحابه وخلفائه الراشدين ولا عن القرون المفضلة ولا عن الأئمة المعتبرين أنهم كانوا يقولون في بداية الصلاة أو غيرها من العبادات : نويت كذا وكذا، وإنما ينوون في قلوبهم، والنية محلها القلب، وليس محلها اللسان، والله جل وعلا يقول : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة الحجرات : آية 16 ] .
فهذا من البدع التي لا يجوز عملها والاستمرار عليها، بل على المسلم أن ينوي بقلبه ويقصد بقلبه أداء العبادة التي شرعها الله بدون أن يتلفظ بذلك؛ لأن التلفظ بالنية من البدع المحدثة وما نسب إلى الشافعي رحمه الله أنه يرى هذا، فهذا لم يثبت عنه، وإنما الذي ثبت عنه أنه قال : ( إن الصلاة لابد من النطق في أولها ) ، ويريد بذلك تكبيرة الإحرام وليس معناه أنها تبدأ بالتلفظ بالنية .
ذكر معنى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (6).
158 ـ مسجد تقام فيه بدعة في كل أسبوع، هل تجوز الصلاة فيه ؟ وإذا أوقفت هذه البدعة هل تجوز الصلاة فيه ؟(42/6)
أنت لم تذكر نوع هذه البدعة، ولكن على أي حال : البدع محرمة، ولا سيما عملها في المساجد التي هي بيوت الله سبحانه وتعالى، ومواطن العبادة لا يجوز أن تقام فيها البدع؛ لأن البدع ضد الشريعة وضد العبادة وهي من عمل الشياطين وأتباع الشياطين، فلا يجوز أن تعمل البدعة من المسلمين مطلقًا في أي مكان، ولا سيما في المساجد .
وهذا المسجد الذي تقام فيه بدع إذا كان بإمكانك أن تزيلها إذا حضرت وأن تمنعها فإنه يجب عليك ذلك، أن تذهب إلى هذا المسجد وتمنع البدع وتصلي فيه تقيم الصلاة فيه وتعمره بطاعة الله سبحانه وتعالى وبإحياء السنة وإماتة البدعة .
أمّا إذا كانت لا تقدر على إزالة هذه البدع والمنكرات من المسجد فعليك أن تلتمس مسجدًا آخر ليس فيه شيء من البدع وتصلي فيه .
159 ـ ما حكم الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعة جهرًا دبر كل صلاة ؟
الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشروعة لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ سورة الأحزاب : آية 56 ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( . . وحيثما كنتم فصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/367 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 2/225 ) بنحوه، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرًا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/306 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فالصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أفضل الأعمال وهي مشروعة، وفيها أجر عظيم، ولكن تخصيصها بوقت من الأوقات أو بكيفية من الكيفيات لا يجوز إلا بدليل، فالصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعة بعد الفريضة بصوت جماعي كما يقول السائل هذا من البدع والمحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان .(42/7)
أما أن يصلي المسلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه بدون ارتباط بالآخرين وبدون صوت جماعي فهذا من أفضل الأعمال، ولكن لا يلتزم هذا بعد كل صلاة؛ لأنه لم يرد، وإنما ورد الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التشهد الأخير أما أن يلتزم دائمًا بعد السلام فهذا لا يجوز، لكن لو صلى عليه بعض الأحيان بدون ارتباط بجماعة وبدون كيفية خاصة كما ورد في السؤال فهذا لا بأس به .
160 ـ تعودت عائلتي بين فترة وأخرى وفي كل مناسبة أن تقيم احتفالاً في البيت لمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ويتضمن دعوة شخص مؤمن لديه كتاب اسمه " أشرف الأنام " ويتضمن الكتاب مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته بعد النبوة وقبلها وأبيات شعر في مدحه صلى الله عليه وسلم، وكذلك نقوم بذبح ذبيحة، ونعمل وجبة ندعو لها جيراننا وأقرباءنا متوخين من كل هذا أن يستمع المدعوون إلى السيرة النبوية وخصال النبي الكريم وفضائله ومعجزاته ليزداد إيمانهم بالواحد الأحد، وكذلك نرجو الأجر والثواب من جراء إطعامنا لهؤلاء الناس الذين من بينهم الفقير واليتيم وغيرهم، فهل هذا العمل صحيح أم لا ؟ علمًا أن هذا الشخص الذي يقرأ المولد يتقاضى أجرًا نقديًا منا، هل يجوز ذلك أم لا ؟
أولاً : عمل المولد النبوي بدعة لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين وصحابته الكرام، ولا عن القرون المفضلة أنهم كانوا يقيمون هذا المولد وهم أكثر الناس محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرص الأمة على فعل الخير، ولكنهم كانوا لا يفعلون شيئًا من الطاعات إلا ما شرعه الله ورسوله عملاً بقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ سورة الحشر : آية 7 ] ، فلما لم يفعلوا إقامة هذا المولد عُلِم أن ذلك بدعة .(42/8)
وإنما حدثت إقامة المولد والاحتفال به بعد مضي القرون المفضلة وبعد القرن السادس من الهجرة وهو من تقليد النصارى؛ لأن النصارى يحتفلون بمولد المسيح عليه السلام، فقلدهم جهلة المسلمين ويقال : إن أول من أحدث ذلك الفاطميون يريدون من ذلك إفساد دين المسلمين واستبداله بالبدع والخرافات .
الحاصل أن إقامة المولد النبوي من البدع المحرمة التي لم يرد بها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 3/188، 189 ) ، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) ، كلاهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في الحديث : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) ] ، وفي رواية : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) [ رواها الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، فهذا من الإحداث في الدين ما ليس منه فهو بدعة وضلالة، وأما قراءة السيرة النبوية للاستفادة منها فهذا يمكن في جميع أيام السنة كلها لا بأس أن نقرأ سيرة الرسول وأن نقررها في مداسنا ونتدارسها وأن نحفظها لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ سورة الأحزاب : آية 21 ] ، ولكن ليس في يوم المولد خاصة وإنما نقرأها في أي يوم من أيام السنة كلها حسب ما يتيسر لنا، ولا نتقيد بيوم معين، وكذلك إطعام المساكين والأيتام، فالإطعام أصله مشروع، ولكن تقييده بهذا اليوم بدعة، فنحن نطعم المساكين ونتصدق على المحتاجين في أي يوم وفي أي فرصة سنحت، وأما الذي يقرأ المولد ويأخذ أجرة، فأخذه للأجرة محرم؛ لأن عمله الذي قام به محرم، فأخذه الأجرة عليه محرم أضف إلى ذلك أن هذه القصائد، وهذه المدائح لا تخلو من الشرك ومن أمور محرمة مثل قول صاحب البردة :(42/9)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلوك الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ** وإلا يا زلت القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
وأشباه هذه القصيدة الشركية مما يقرأ في الموالد .
161 ـ ما حكم الشرع في نظركم بالاحتفال بعيد الأم وأعياد الميلاد وهل هي بدعة حسنة أم بدعة سيئة ؟
الاحتفال بالمواليد سواء مواليد الأنبياء أو مواليد العلماء أو مواليد الملوك والرؤساء كل هذا من البدع التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان وأعظم مولود هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن صحابته ولا عن التابعين لهم ولا عن القرون المفضلة أنهم أقاموا احتفالاً بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من البدع المحدثة التي حدثت بعد القرون المفضلة على يد بعض الجهال، الذين قلدوا النصارى باحتفالهم بمولد المسيح عليه السلام، والنصارى قد ابتدعوا هذا المولد وغيره في دينهم، فالمسيح عليه السلام لم يشرع لهم الاحتفال بمولده وإنما هم ابتدعوه فقلدهم بعض السلمين بعد مضي القرون المفضلة .
فاحتفلوا بمولد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يحتفل النصارى بمولد المسيح، وكلا الفريقين مبتدع وضال في هذا؛ لأن الأنبياء لم يشرعوا لأممهم الاحتفال بموالدهم، وإنما شرعوا لهم الاقتداء بهم وطاعتهم واتباعهم فيما شرع الله سبحانه وتعالى، هذا هو المشروع .
أما هذه الاحتفالات بالمواليد فهذه كلها من إضاعة الوقت، ومن إضاعة المال، ومن إحياء البدع، وصرف الناس عن السنن، والله المستعان .
162 ـ في حالة تأخر نزول الأمطار يقوم بعض الناس بذبح الذبائح للاستسقاء فما حكم هذا العمل ؟ وهل يجوز الأكل من هذه الذبائح أم لا ؟(42/10)
لا يجوز هذا العمل خصوصًا إذا كان ذبح هذه الذبائح للأموات أو للجن أو ما أشبه ذلك فإنها ذبائح شركية؛ لأنها لغير الله عز وجل، والله تعالى يقول : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] إلى قوله تعالى : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] والذبح لغير الله شرك، لأنه عبادة والعبادة يجب إفراد الله تعالى بها، قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة الأنعام : آية 162 ] ، والنسك هو الذبح، والاستسقاء الذي ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو صلاة الاستسقاء والخطبة والدعاء بعدها على المنبر، وكذلك الدعاء في خطبة الجمعة يدعو الإمام في خطبة الجمعة بأن يغيث الله المسلمين، وكذلك يدعو أحيانًا من غير صلاة ولا خطبة، فالاستسقاء ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صفات متعددة، أما الذبح للاستسقاء فليس له أصل في الشريعة .(42/11)
13 ـ التصوير
163 ـ من المعلوم أن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز، فما رأي الإسلام في تصوير الأشياء التي بغير روح كالأشجار والأحجار ؟
لا بأس بتصوير ما لا روح فيه من الأشجار والمباني والبحار والأنهار وغير ذلك كما نص على ذلك كثير من أهل العلم، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/67 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] ، فدلّ على أن النهي عن التصوير مختص بذوات الأرواح، وقد ذهب بعض العلماء إلى تحريم التصوير مطلقًا ما فيه روح وما ليس فيه روح لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فليخلقوا حبة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/65 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والراجح الرأي الأول، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/40، 41 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو جزء من حديث أوله عن سعيد بن أبي الحسن قال : كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ أتاه رجل فقال : يا ابن عباس ] .
164 ـ ما حكم الصلاة في بيت فيه صور ومجلات ؟ أفيدونا بارك الله فيكم ؟
معلوم من دين الإسلام تحريم الصور، وتحريم التصوير، وتحريم اقتناء الصور، لما جاء في ذلك من النهي الشديد في أحاديث متعددة صحيحة (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما في ذلك من الوعيد الشديد الذي يدل على أن التصوير من كبائر الذنوب، وأنه محرم شديد التحريم لما يجر إليه من محاذير خطيرة منها ما يلي :
أولاً : فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل، وادعاء المشاركة لله في خلقه الذي اختص به، فإنه هو الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى .(43/1)
ثانيًا : أن التصوير وسيلة من وسائل الشرك، فأول ما حدث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير، لما صور قوم نوح رجالاً صالحين ماتوا في عام واحد، فتأسفوا عليهم، فجاء الشيطان إليهم وألقى إليهم أن يصوروا تصاويرهم وينصبوها على مجالسهم حتى يتذكروا بها العبادة، ففعلوا ذلك، ولما مات هذا الجيل جاء الشيطان إلى من بعدهم، وقال : إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليسقوا بها المطر وليعبدوها، فعبدوها من دون الله عز وجل (2) ، ومن ثم حدث الشرك في الأرض بسبب التصوير .
وكذلك قوم إبراهيم كانوا يعبدون التماثيل، كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم أنه قال لقومه : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [ سورة الأنبياء : الآيتين 52، 53 ] .
وكذلك اليهود عبدوا صورة العجل الذي صنعه لهم السامري : { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [ سورة طه : آية 88 ] .
وكذلك كان المشركون من العرب يستعملون الصور في دينهم، حتى إن الصور وضعت في الكعبة المشرفة إلى أن جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأزالها .
ففتنة التصوير وفتنة التماثيل فتنة قديمة، وهي فتنة خطيرة .(43/2)
ثالثًا : ومن محاذير التصوير أنه ربما يكون سببًا في فساد الأخلاق، وذلك إذا صورت الفتيات الجميلات والنساء العاريات في المجلات والصحف، أو صورت للذكريات أو ما أشبه ذلك، فإن هذا يجر إلى الافتتان بتلك الصور، وبالتالي يوقع في القلب المرض والشهوة، ولهذا اتخذ المفسدون التصوير مطية ووسيلة لإفساد الأخلاق بتصوير النساء الجميلات الفاتنات على المجلات وعلى غيرها وفي الأفلام وغيرها من أنواع الصور التي تعرض للفتنة، فلا يجوز للمسلم أن يقتني الصور في بيته، وألا يحتفظ إلا بالصور الضرورية التي يحتاجها الإنسان، كصورة حفيظة النفوس، وجواز السفر، وإثبات الشخصية، فهذه أصبحت ضرورية وهي لا تتخذ من باب محبة التصوير، وإنما تتخذ للضرورة والحاجة، أما ما عدا ذلك من الصور فلا يجوز الاحتفاظ به لا للذكريات ولا للاطلاع عليها وما أشبه ذلك، فيجب على الإنسان أن يتلف الصور، وأن يخلي بيته منها مهما أمكنه ذلك، وإذا كان في منزل صور معلقة على الحيطان أو منصوبة سواء كانت تماثيل أو كانت رسومًا على أوراق من صور ذوات الأرواح كالبهائم والطيور والآدميين، وكذلك كل ما فيه روح فإنه يجب إزالته، فقد غضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما رأى سترًا وضعته عائشة رضي الله عنها على الجدار وفيه تصاوير، فغضب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبى أن يدخل البيت التي هي فيه حتى هُتكت وحُولت (3)، فدل هذا على أن التصاوير لا يجوز الاحتفاظ بها ونصبها أو إلصاقها على الجدران، أو وضعها في براويز، أو الاحتفاظ بها في صناديق للذكريات، كل هذا من الفتنة ومن المحرمات .(43/3)
14 ـ من الألفاظ المنهي عنها
165 ـ بعض الناس يتشدد كثيرًا في مسائل العقيدة ويدقق في عبارات المتحدثين والكتاب بحجة الخوف من الوقوع فيما ينافي التوحيد أو كماله، فإلى أي مدى يصح هذا الموقف ؟
لا شك أن المحافظة على العقيدة وتجنب الألفاظ التي تخل بها أمر واجب ولا يعتبر ذلك تشددًا، بل يعتبر أمرًا محمودًا؛ لأنه قد ورد النهي عن ألفاظ معينة كالحلف بغير الله، وعن قول : ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، واستبدال ذلك بالحلف بالله وحده، وبقول : ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله، ثم شئت، ولولا الله، ثم أنت، أما المنع من الألفاظ التي لم يرد النهي عنها فهذا تشدد لا يجوز، ومن منع منها فهو جاهل لا يعتد بقوله .
والمرجع في ذلك إلى الكتاب والسنة وسؤال أهل العلم وتعلم أحكام العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يخل بها، وهذا فرض عين على كل مسلم؛ لأن العقيدة هي الأساس، قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة محمد : آية 19 ] ، فأمر بتعلم معنى : لا إله إلا الله قبل القول والعمل .
166 ـ استلمت فتاة جائزة لحفظها جزء عم، وذهبت إلى مجموعة من الزميلات فقالت إحداهن لها : أأسلمت ؟ فقالت لهن الفتاة : أسلمت رياء وسأرتد، فما حكم مثل هذا القول ؟ وماذا يكون عليها بالرغم من أنها قالت هذا الكلام مازحة ؟ علمًا أنها طالبة في المرحلة الثانوية ؟(44/1)
هذا كلام خطير لا يجوز التلفظ به، ولو كان الإنسان مازحًا، لأن هذا لا يجوز المزح به، وعلى من قالت أن تتوب إلى الله، وتستغفره، ولا تعود لمثل هذا الكلام القبيح، فقد جاء في الحديث : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2290 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والله سبحانه لم يعذر المنافقين لما تكلموا بكلام اللغو وقالوا : { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ سورة التوبة : آية 65 ] .
167 ـ هل يجوز للمسلم أن ينسب الخير إلى نفسه دون أن ينسبه إلى الله أولاً مثل أن يقول : حصلت على هذا المال بجهدي وتعبي، ونلت هذا المقام بذكائي وقدرتي . . إلخ ؟
لا يجوز للمسلم أن ينسب حصوله على شيء من الخير إلى نفسه؛ لأن ذلك جحود نعمة الله عليه وكفر بها، واغترار بحوله وقوته، وهذا مما يسبب إمساكه عن الإنفاق في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين من الفقراء والمساكين .
فقد قال قارون مثل هذه المقالة، فخسف الله به وبداره الأرض لما قال : { أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } الآية [ سورة القصص : آية 78 ] ، قيل معناه : حصلت عليه بمعرفتي بوجوه المكاسب، وقيل : على علم من الله أنني أستحقه، وقال الله تعالى منكرًا على من نسب حصول مطلوب إلى حوله وقوته أو منزلته عند لله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [ سورة فصلت : آية 50 ] .
قال مجاهد : يقول : بعملي وأنا محقوق به (1)، والواجب على المسلم أن يشكر الله على نعمه، والشكر له ثلاثة أركان :
الأول : التحدث بالنعم ظاهرًا .
الثاني : الاعتراف بها باطنًا .
الثالث : صرفها في طاعة مسديها وموليها، والله أعلم .
168 ـ بعض الناس يقولون : اللهم لا تفتنا إلا في طاعتك، فهل هذا قول صواب ؟ أو قول : اللهم لا تبتلنا إلا في طاعتك ؟(44/2)
الواجب تجنب هذا اللفظ، لأن الفتنة والابتداء لا يكونان في الطاعة، وإنما يكونان في الأمور التي قد تشغل عن الطاعة كالأموال والأولاد والمصائب والنعم، قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ سورة الأنبياء : آية 35 ] ، والمراد بالخير هنا النعم، وقال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } [ سورة التغابن : آية 15 ] ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } [ سورة البقرة : آية 155 ] ، أما الطاعة فإنها ليست فتنة، وإنما هي خير محض، فالمشروع أن يدعو الله بالسلامة من شر الفتن وشر الابتلاء والامتحان، ويسأله الصبر عند البلاء، والشكر عند الرضاء والتوفيق للطاعة، والعمل الصالح . . والله أعلم .
169 ـ ما حكم قول الشخص لشخص آخر : ( في ذمتي ) ليكون تصديقًا له، وهل يعتبر حلفًا بغير الله . . وقد يكون مقصد القائل أي : على ذمتي إذا كان هذا كذبًا ؟
حروف القسم ثلاثة وهي : الواو، والباء، والتاء، وأما ( في ) ، فليست من حروف القسم، ولكن إذا قال : ( في ذمتي ) فهذا يشبه القسم لأنه قد يكون القائل عاميًّا لا يعرف حروف القسم، والعبرة بالمقاصد، فترك هذا اللفظ أحوط .
170 ـ سمعنا البعض يقول : إنه لا يجوز قول : الله أعلم، أو الله العالم، ولكن يجب أن يقول : الله عالم، فما صحة ذلك ؟
هذا القول الذي ذكرت أيها السائل لا أصل له، بل هو باطل .
والصواب أن يقال : الله أعلم، والله العالم، والله عالم، كلها جمل صحيحة يوصف بها الرب سبحانه .
فهو سبحانه العالم بكل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو عالم بأحوال الخلائق كلها، وهو أعلم من خلقه بكل شيء، كما قال سبحنه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ سورة الأنعام : آية 53 ] .(44/3)
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة العنكبوت : آية 62 ] ، وقال سبحانه : { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [ سورة الأنعام : آية 73 ] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
171 ـ ما الحكم في قوله : ما عندي ولا شعرة الله ؟ وما الحكم في وضع الشعر وجمعه فوق الرأس على هيئة ( كعكع ) ؟ فقد استمعنا أنه يكره وضعه في الصلاة ؟
هذا اللفظ لا ينبغي التلفظ به، وإن كان المقصود به إضافة المخلوق إلى خالقه، لأن المخلوق يضاف إلى خالقه على وجه التشريف والتكريم لذلك المخلوق المضاف مثل : ناقة الله، وبيت الله، وعبد الله، وليس ما ذكر في السؤال من ذلك، وإن كانت الشعرة من خلق الله تعالى .
ولا يجوز جمع شعر رأس المرأة فوق رأسها حتى يكون له جرم بارز كأنه رأس آخر؛ لأنه يخشى أن يكون ذلك داخلاً في وصف النساء اللاتي أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهن من أهل النار، ووصفهن بأن رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (2) ، والبخت : جمع بخاتي وهي الإبل لها سنامان، ولا يجوز فعل هذا في شعر المرأة في الصلاة وغيرها .
172 ـ ما حكم القول للشيء : ليته لم يحصل ؟ أو ليته حصل كذا وكذا ؟
قول : ليته حصل كذا أو لم يحصل، إن كان القصد منه الندم على فوات فعل الخير، فلا بأس به، لأنه يحمل على الاستدراك لفعل الخير في المستقبل، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأصحابه : ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا ) (3) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام .(44/4)
أما إن كان القصد من الندم على الفائت الجزع من القدر وعدم الرضا عما قدر الله، فهو لا يجوز، وقد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فعل الأسباب النافعة، ونهى عن الإهمال والكسل، ثم بعد فعل الأسباب إذا فات المقصود، فقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قول : ( لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ) ، وأمر المسلم أني يقول : ( قدر الله وما شاء فعل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .(44/5)
15 ـ في المنهج والدعوة
1 ـ فضل العلم وطلبه .
2 ـ الدعوة إلى الله .
3 ـ الجماعات .
4 ـ الأمة .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
6 ـ معاملة :
الكفار - المبتدعة - العصاة .
1 ـ فضل العلم وطلبه
173 ـ قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] من هم هؤلاء العلماء ؟ وما هي الشروط ليكون الإنسان عالمًا ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] ، أخبر الله سبحانه وتعالى خبرًا مؤكدًا ومحصورًا أن هؤلاء أهل خشية الله سبحانه وتعالى، فالذين يخشون الله على الحقيقة ويخافون هم أهل العلم، وذلك لمعرفتهم بالله تعالى، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف .
والمراد بالعلماء هنا علماء الشريعة الذين هم ورثة الأنبياء، فإن هؤلاء هم العلماء الذين يعرفون شرع الله سبحانه وتعالى، ويعرفون عظمة الله سبحانه وتعالى بما أعطاهم الله من العلم الذي جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبلغًا عن الله .
وليس المراد بالعلماء ما يفهمه بعض الناس أنهم أهل الاختراع وأهل الصناعات والاطلاع على أسرار الكون، هؤلاء وإن كانوا علماء في مهنتهم، لكن عملهم إضافي يخصص بتخصصاتهم، فيقال : عالم طبيعة، عالم كيميائي، عالم هندسة .
أما إذا أطلق لفظ العلماء فإنه ينصرف إلى علماء الشريعة الذين هم ورثة الأنبياء؛ وعلماء الاختراع والصناعات الغالب أنهم جهال بعلم الشرع الذي يبين عظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله، ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه الشرعية .(45/1)
وإن كان في الاطلاع على آيات الله دلالة على عظمة الله لكنها لا توصل إلى أحكام الله وتشريعاته سبحانه وتعالى التي يعرف بها العبد كيف يعبد ربه ويتقي ربه عز وجل ويعرف الحلال والحرام، هذا من اختصاص علماء الشريعة، وهذا العلم هو الذي يولد الخشية من الله؛ لأنه جمع بين علم اللسان وعلم القلب؛ لأن العلم على نوعين : علم اللسان، وهذا حجة على الإنسان فقط، وعلم القلب وهذا الذي يورث خشية الله تعالى، وهو العلم الشرعي الذي عمل به صاحبه وأخلص عمله لله عز وجل، والعلم الشرعي يزيد صاحبه تواضعًا وذلاً لله عز وجل .
وأما علم الاختراع والصناعة فالغالب أنه يزيد صاحبه تكبرًا وعزًّا وإعجابًا كما عليه الدول الصناعية اليوم كالشيوعية وغيرها .
174 ـ ما معنى قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] ؟ وهل معنى هذا أن غير العلماء لا يخشون الله ؟ وأي العلماء المقصودون في الآية ؟
يقول الله سبحانه وتعالى لما ذكر آياته الكونية في المخلوقات وتنوع ألوانها قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] .
والمراد بالعلماء هنا أهل العلم الشرعي الموروث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يُعرِّف بالله سبحانه وتعالى وبآياته وقدرته ونعمته على عباده، فأهل العلم بالله هم الذين يخشونه حق خشيته، وهذه من جملة الآيات التي فيها مدح العلماء والثناء عليهم؛ لأنهم هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى حق خشيته إذا كانوا يعلمون بعلمهم ويؤدون حقه عليهم بخلاف علماء الضلال فإنهم ليسوا كذلك، كعلماء اليهود المنحرفين، ومن نحا نحوهم من علماء الضلال .(45/2)
إنما المراد هنا العلماء العاملون بعلمهم، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أنهم أهل خشيته، كما أنه ذكر شهادتهم مع شهادته لقوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } [ سورة آل عمران : آية 18 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ سورة الزمر : آية 19 ] ، والنصوص في هذا كثيرة، هذه الآية من جملتها .
وأما غير أهل العلم الشرعي فمنهم من يخشى الله على قدر معرفته بالله سبحانه وتعالى .
لكن أكثر الناس خشية الله وأعظمهم خشية لله هم أهل العلم الشرعي النبوي .
175 ـ بعدما ذكرت أهمية طلب العلم والتفرغ له فهل معنى ذلك أن طالب العلم ينقطع عن الناس وعن مجالات الخير الأخرى، أرجو بيان ذلك لأهمية ذلك الإشكال ؟
يجب أن يعطى العلم ما يكفيه من الوقت والجهد . بحيث يعطيه وقتًا كافيًا، وما زاد عن ذلك يصرفه في الأمور الأخرى كالالتقاء بالناس للمصلحة، ودعوة الناس إلى الخير وأموره وأعماله الأخرى، لكن بالدرجة الأولى يجعل القسم الأكبر من وقته لطلب العلم .
176 ـ هل العلماء المسلمون كعلماء الطب والعلوم والأحياء وغير ذلك من العلوم مما تدلهم على زيادة الإيمان بالله وقدرته، فهل هؤلاء يدخلون تحت الآية : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] أم لا ؟
عالم الطب وعالم الكيمياء وعالم الاختراع . . إذا كان معه علم من الشريعة فإن هذا يزيده خيرًا بلا شك، وهذا جمع بين المصلحتين : العلم الشرعي، والعلم الذي ينفع به مجتمعه .
أما إذا كان عنده العلوم الدنيوية فقط فهذا لا يستفيد منها إلا المادة، ولا تفيده خشية الله عز وجل، بل ربما تفيده غفلة عن الله، فالعلم الدنيوي لابد أن يوجه بالعلم الشرعي ليستفاد منه، وإلا أصبح ضررًا .(45/3)
177 ـ ما هي أهم الدروس التي يبدأ بها طالب العلم ؟ وبماذا تنصحه ؟ وماذا تقول لمن يتعلل بالدراسة حينما نريد أن نصحبه إلى حضور الدروس والمحاضرات ؟
أولاً : طالب العلم في هذه البلاد يجب عليه أن ينضم إلى أحد المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فإن فيها المقررات الطيبة المرتبة على حسب درجات طلبة العلم شيئًا فشيئًا، السنة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة .
وهكذا، وكل سنة فيها مقررات تختلف عن مقررات السنة السابقة بالتدرج، وهي مقررات اختارها علماؤنا وأساتذتنا الذين أحسنوا في تأسيس هذه المعاهد واختيار المناهج المقررة لها .
فأوصي طالب العلم أن ينضم إلى أحد هذه المعاهد مهما أمكن ذلك، ثم يلتحق بعدها بالكليات الجامعية مثل كلية الشريعة، وكلية أصول الدين، وكلية الحديث وعلومه، وكلية اللغة العربية وهكذا، وبإمكان طالب العلم الذي لم يلتحق بهذه المعاهد وهذه الكليات أن يجد مجالاً له في دروس العلماء الذين يُدرِّسون في المساجد، وهي والحمد لله كثيرة، وهذه الدروس شاملة لجميع العلوم الشرعية .
وأوصي طالب العلم بأن يلازم هذه الدروس سواء في الكليات أو في الدروس التي تلقى في المساجد، فلا يكفي منه أن يحضر في أسبوع ويتغيب في أسابيع أو يحضر شهرًا ويتغيب شهورًا، فإن هذا لا يستفيد شيئًا؛ لأنه إذا فاته شيء من العلم يبقى فراغًا في ذاكرته ومعلوماته ويفوته خير كثير، فالشأن في الملازمة والإقبال والحرص .
178 ـ ما الأفضل لطالب العلم : التفرغ له تفرغًا كاملاً، ثم بعد ذلك يتفرغ لنشره بين الناس ويدعو من حوله من جيرانه وأهل حيه ؟ أو يطلب العلم في شهر، ثم ينقطع عن العلم بحجة الدعوة إلى الله ويفوته من العلم بقدر ما تركه ؟(45/4)
الأفضل مواصلة طلب العلم حتى تتكون عنده حصيلة علمية وأصول يبني عليه، أما ابتداء طلب العلم، ثم الانقطاع عنه فهذا يخل بالتحصيل ويشوش الفكر، ولا يجوز له أن يدعو إلى الله إلا بعد التأهيل العلمي، وكذلك لا يشتغل بالتدريس إلا بعد أن يتم تحصيله ويتكامل علمه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه . . وفي الحكمة المشهورة : ( من ضيع الأصول حرم الوصول ) .
179 ـ ما الأفضل لطالب العلم : البدء بتفسير القرآن الكريم أو حفظ المتون من الحديث والفقه وأصولهما ؟
الطريقة الصحيحة لطالب العلم المبتدئ : حفظ المتون وقراءتها على العلماء لتلقي شرحها وتوضيحها منهم، وأن يتدرج في طلب العلم شيئًا فشيئًا بحيث يبدأ بالمختصرات، ثم المتوسطات، ثم المطولات من الكتب، مع ملازمة الجلوس إلى العلماء في حلقات التدريس أو في فصول الدراسة، فالعلم يؤخذ بالتلقي وليس بالمطالعة وحدها . . والله أعلم .
180 ـ نلاحظ حاليًا انتشار الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية وغيرها، ومع انتشارها هذا إلا أنها لم تستطع تخريج علماء مثل أولئك الذين كانوا يتخرجون في السابق من حلقات العلم في المساجد سواء كانت هذه القدرة من ناحية العلم أو الفقه . . أو القدرة على الحوار والمناقشة . . فما هي الأسباب في ذلك ؟
لا شك أن مستوى العلم في الوقت الحاضر يقل عن مستواه في الوقت السابق، ونحن لا نعمم هذا على جميع الناس بأن مستواهم العلمي ضعيف؛ لأنه يوجد ـ والحمد لله ـ أناس ممتازون في علمهم وعملهم .
أما شغف الدراسة في الوقت الحاضر فأرى أن هذا لا يرجع إلى الدراسة حيث إن الدراسة حاليًا هي على نمط الدراسة في الوقت الماضي غالبًا، فالمقررات هي نفس المقررات، لكن في نظري أن الدراسة ليست هي كل شيء، فالدراسة ما هي إلا مفتاح ومدخل إلى العلم، والعلماء فيما سبق حياتهم كلها دراسة لا يقتصرون على ما أخذوه في الحلقات، بل كانوا يواصلون المطالعة والمذاكرة .(45/5)
والمعروف أن العلم ينمو مع المذاكرة والدراسة، عكس ما هو قائم حاليًا، فكثير من الدارسين نالوا مراتب عليا وتقديرات مرتفعة، لكنهم في الغالب انتهت علاقتهم بالكتاب والعلم بنهاية الدراسة .
فبهذا الأسلوب تموت المعلومات، لأن العلم كالغرس إذا تعهدته نما وأثمر، وإن تركته فمصيره الموت والفناء، أما من ناحية العمل : فالعلماء السابقون كانوا في الغالب العلماء العاملين والمخلصين لله تعالى يخشونه عز وجل، وهذه الصفة ربما تكون قد قلَّت في وقتنا هذا، فقليل من المتعلمين ـ وإن كنا لا نسيء الظن بكل الناس ـ غير عاملين بعلمهم ولا يزكي العلم إلا العمل، والله تعالى يقول : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] ، فالعلماء هم أهل خشية الله، وقال بعض السلف : إن العلم قسمان : علم على اللسان وهذا حجة الله على عباده، وعلم على القلب وهذا هو العلم الصحيح، العلم الذي ينمي خشية الله عز وجل، وقد استدلوا بهذه الآية : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ سورة فاطر : آية 28 ] .
181 ـ لقد ظهر بين طلاب العلم اختلاف في تعريف المبتدع . . فقال بعضهم : هو من قال أو فعل البدعة، ولو لم تقع عليه الحجة، ومنهم من قال لابد من إقامة الحجة عليه، ومنهم من فرَّق بين العالم المجتهد وغيره من الذين أصلوا أصولهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وظهر من بعض هذه الأقوال تبديع ابن حجر والنووي، وعدم الترحم عليهم . . نطلب من فضيلتكم تجلية هذه المسألة التي كثر الخوض فيها . . جزاكم الله خيرًا ؟
أولاً : لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق؛ لأن ذلك أمر خطير وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضًا هذا يحدث العداوة والبغضاء بينهم، فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم وكف ألسنتهم عما لا فائدة فيه، بل فيه مضرة عليهم وعلى غيرهم .(45/6)
ثانيًا : البدعة : ما أحدث في الدين مما ليس منه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، وإذا فعل الشيء المخالف جاهلاً فإنه يعذر بجهله ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن ما عمله يعتبر بدعة .
ثالثًا : من كان عنده أخطاء اجتهادية تأوَّل فيها غيره كابن حجر والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات لا يحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يُقال : هذا الذي حصل منهما خطأ ويرجى لهما المغفرة بما قدماه من خدمة عظيمة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما إمامان جليلان موثوقان عند أهل العلم .
182 ـ أنا متخرج من كلية الشريعة، وأعمل موظفًا، ولكني أرغب في مواصلة طلب العلم وأخاف من الانقطاع عن الكتب والمذاكرة، فما هي الكتب التي ترون أن أواظب على مطالعتها في الأمور المهمة ؟
عليك بمطالعة الكتب التي تنمي معلوماتك التي درستها في كلية الشريعة مثل : كتب التفسير، وكتب العقيدة، وشروح الحديث، وكتب الفقه والأصول، وكتب النحو واللغة العربية، والكتب الثقافية العامة المفيدة .
تطالع من تلك الكتب ما تيسر لك وعلى الأخص " تفسير ابن كثير " ، وكتاب " التوحيد " للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروحه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتاب " سبل السلام شرح بلوغ المرام " ، و " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار " ، و " جامع العلوم والحكم شرح الأربعين حديثًا " ، و " شرح الزاد " ، و " كشاف القناع " في الفقه، وتكون القراءة بتفهم وعناية، والله الموفق .(45/7)
وتحرص على العناية بحفظ المختصرات ومطالعة شروحها ثم الانتقال إلى المطولات بعد ذلك، واقرأ أيضًا في مجاميع الفتاوى مثل " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ، و " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " ، و " مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم " ، و " مجموع فتاوى الشيخ عبد الرحمن السعدي " ، و " مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز " .
183 ـ هل يجوز لي أن أتعلم الفقه عند من مذهبه شافعي ويقول : إنه افضل المذاهب ؟ وهل لابد من الالتزام بمذهب معين ؟
أما تعلم الفقه على من مذهبه الشافعي أو مذهبه حنبلي أو مالكي أو حنفي فلا مانع من ذلك، على أنك لست ملتزمًا أن تأخذ كل ما في المذهب من غير معرفة لدليله وسنده، فالتعلم لا بأس أن تتعلم المذهب وأحكامه، ولكنك في العمل والتطبيق تأخذ ما قام عليه الدليل إذا كنت تحسن معرفة الاستدلال، ولا يجوز لك أن تعمل بمسألة إلا إذا عرفت دليلها .
أما شق السؤال الثاني وهو هل يجوز الالتزام بمذهب معين ؟ فهذا فيه تفصيل، فبالنسبة للعامي والمبتدئ لابد أن يلتزم مذهبًا معينًا من مذاهب أهل السنة والجماعة؛ لأنه إن لم يفعل ذلك ضاع وضل، لأنه عامي لا يحسن أو متعلم مبتدئ لا يحسن، فهذا لابد له من التزام مذهب من المذاهب الأربعة التي هي من مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة أو هي الباقية من مذاهب أهل السنة والجماعة، فإذا بلغ من العلم مرتبة تؤهله للتمييز بين الراجح والمرجوح والصحيح والضعيف من الأقوال فإنه يتعين عليه أن يأخذ من المسائل والأقوال في المذاهب وإقامة الدليل عليه أو ما ترجح بالدليل .
184 ـ ما تفضلتم بذكره حول الشخص القادر على التمييز بين القول المدعوم بدليل وغير المدعوم، معنى هذا أنه يجوز له أن يخلط بين المذاهب ما دام هناك دليل ؟(45/8)
هو يتبع الدليل حتى ولو كانت هذه المسألة التي اختار القول بها لاستنادها لدليل لو كانت في مذهب آخر، نعم يجوز أن يأخذ مسألة من مذهب غير مذهبه إذا رأى أنها أصح دليلاً، بل يجب عليه، لأنه بذلك لا يتعصب لمذهب، وإنما يتبع الدليل سواء كان في مذهبه أو في مذهب آخر .
لا يجوز له اتباع الأسهل وما تمليه عليه النفس ترخصًا أو تشهيًا بسهولته هذا لا يجوز، لكن يجوز أن ينتقل من مذهب إلى مذهب في بعض المسائل لصحة الدليل وقيام الدليل، فهو مأمور باتباع الدليل لا باتباع المذهب، وإذا تبين له ذلك وكان ممن بلغ هذه المرتبة : مرتبة الاختيار والترجيح .
185 ـ ما هي الكتب الصحيحة بعد القرآن الكريم ؟
الكتب الصحيحة بعد القرآن الكريم - والحمد لله - كثيرة من أهملها وفي مقدمتها : " صحيح الإمام البخاري " رحمه الله، و " صحيح الإمام مسلم " ، وكذلك السنن الأربع " سنن أبي داود " ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، فإن هذه الكتب الأربعة فيها الصحيح وفيها الضعيف وهو قليل، وقد بُيِّنت درجاتها، والحمد لله .
وهناك من كتب الحديث المتعلقة بالأحكام كتاب " المنتقى " للإمام المجد ابن تيمية، وقد جمع فيه من الأحاديث ما يتعلق بالأحكام الشرعية وبلغ مجلدين ضخمين، وهو يبين درجة الحديث ويوضحها للقارئ، حيث يكون على بصيرة من أمره، وكذلك الإمام ابن حجر رحمه الله ألّف كتابًا في أحاديث الأحكام اسمه " بلوغ المرام في أدلة الأحكام " ، وهو جزء لطيف، كذلك " العمدة " لضياء الدين المقدسي الحنبلي رحمه الله ألف كتاب الأحاديث المتفق عليها فيما يتعلق بالأحكام وسماه " عمدة الأحكام " .(45/9)
وهناك كتب جمعها الأئمة فيها أحاديث جوامع في العبادات والأعمال والأخلاق مثل : " رياض الصالحين " للإمام النووي، و " مشكاة المصابيح " للإمام البغوي، وغير ذلك من الجوامع المفيدة في علوم الحديث، وهناك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وغير ذلك من الكتب النافعة من مؤلفات أئمة الإسلام .
186 ـ أرجو أن تدلوني عن بعض الكتب المفيدة في الفقه والتوحيد ؟
الكتب المفيدة ـ ولله الحمد ـ كثيرة، ودين الإسلام ثري بالكتب النافعة من الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح على المذاهب الأربعة، فمن الكتب المختصرة في الفقه الحنبلي بالنسبة للمبتدئ مثلاً كتاب " آداب المشي للصلاة " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإن ذلك يبين لك أحكام الصلاة وأحكام الزكاة وأحكام الصيام هذه ضروريات من دينك، وقبل ذلك رسائل مختصر في أحكام الطهارة وأحكام المياه تجدها في " مجموع الرسائل والمسائل " لعلماء نجد أو غيرهم من علماء المسلمين الموثوقين المحققين، وإذا تجاوزت هذا المقدار فهناك " عمدة الأحكام " لموفق الدين ابن قدامة، وهناك " متن الدليل " لمرعي بن يوسف الكري الحنبلي وهو مختصر مفيد وسهل، وهناك " متن زاد المستقنع " ، أيضًا كل هذه مختصرات في الفقه .
أما في العقيدة فهناك " الأصول الثلاثة " للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله، و " العقيدة الواسطية " لشيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، وكتاب " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " للشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله، وهناك " العقيدة الطحاوية وشرحها " ، فكل هذه كتب مفيدة في العقيدة، وهناك كتب الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في العقيدة والفقه .(45/10)
والمسلم يعمل بما يقوم عليه الدليل دون نظر إلى كونه للحنابلة أو الشافعية أو المالكية أو الحنفية إن كان يحسن معرفة الدليل، أما إذا كان مبتدئًا فهذا عليه أن يسأل أهل العلم ويأخذ بما يفتونه به، قال تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، ومذهب العامة مذهب من يفتيه ومن يقلده من أهل العلم .
2 ـ الدعوة إلى الله تعالى
187 ـ الدعوة فرض كفاية فهل هذا يوافق ما نحن من الجهل والضلال ؟ أم أصبحت الدعوة واجبة على الجميع في هذه الأيام بسبب الجهل وانتشار الفساد ؟ الرجاء التوضيح .
ما كلّ يستطيع الدعوة بمعنى أنه يعلم الناس أمور الدين وأمور العقيدة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما كلٌّ يستطيع هذا، إما لضعف في جسمه وشخصيته، وإما لضعف في علمه وأنه ليس عنده من العلم ما يعرف به الحلال والحرام، والواجب والمندوب والمكروه والمستحب، وإنما تجب الدعوة على من يستطيع القيام بها وعنده مؤهلات لها، لكن على كل مسلم مسئولية بحسب استطاعته، فمثلاً صاحب البيت وإن كان عاميًّا عليه الدعوة لأهل بيته بأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وينقي البيت من المنكرات، ويهيئه للأعمال الصالحة، لأن الله جل وعلا يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة التحريم : آية 6 ] .(45/11)
فالإنسان مكلف بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهل بيته ومن تحت يده، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر . . ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ] ، فالخطاب هذا موجه لعموم الآباء، فليس هناك أحد من المسلمين ليس عليه مسئولية إما عامة وإما خاصة، وعلى أهل العلم بالذات المسئولية أكبر والواجب عليهم أعظم .
188 ـ ما رأيكم في أساليب الدعوة الحالية هل إدخال أساليب جديدة تناسب العصر أمر مناسب ؟
لا شك أن الدعوة إلى الله من أعظم الواجبات في كل زمان ومكان، وذلك منذ بدء إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام من وقت آدم عليه السلام وحتى نهاية الخليقة، والمؤمنون مكلفون بهذه المهمة، قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ سورة آل عمران : آية 110 ] ، وقال تعالى : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ سورة آل عمران : آية 104 ] ، فمسئولية الأمة المحمدية في مجال الدعوة أكبر مسئولية، ذلك بما حباها الله من هذا الدين وهذا الكتاب العظيم، وهذا الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من قدرة على البيان وحرص على هداية الخلق .(45/12)
وأساليب الدعوة إلى الله لا شك أنها تستمد من الكتاب والسُّنَّة، فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بالدعوة منذ أن بعثه الله إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، وقد اتخذ عليه الصلاة والسلام أسلوبًا متكاملاً في الدعوة وقد استوعبها وفهمها وطبقها هو ومن حوله من صحابته، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ سورة الأحزاب : آية 21 ] ، فهو قدوة الدعاة والعاملين والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
ولا مانع في الأساليب أن نستعين بالخبرات والوسائل المتعددة المفيدة والمتجددة مع الأخذ في الاعتبار ألا نحيد عن منهج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حيث المنهج والأسلوب المتبع، وكذلك لا يكون التجديد في أساليب الدعوة تجديدًا مخالفًا لهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يكون التجديد في نطاق منهج الرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلينا أن ندرك أن حالة كل مجتمع تختلف عن الآخر، ولهذا يجب أن نختار الأسلوب المناسب لكل مجتمع ندعو فيه إلى الله، كذلك علينا أن نعي بأن الدعوة عالمية وليست دعوة محلية أو قبلية، قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ سورة الفرقان : آية 1 ] ، ولأن الدعوة عالمية وشاملة لابد أن نلم بأحوال العالم كله واختلاف طبيعة كل مجتمع، وأن نُعد لكل حالة ما يناسبها .
189 ـ يقع بعض المسلمين في أعمال شركية أو يتلفظون بألفاظ شركية جهلاً منهم بأنها مخالفة لمنهج الإسلام، فهل هم معذورون بالجهل ؟ وماذا يجب على طلبة العلم والعلماء تجاه الناس في أمور العقيدة وغيرها ؟
من وقع منه أعمال شركية أو ألفاظ شركية وهو في مجتمع مسلم ويمكنه سؤال العلماء ويقرأ القرآن الكريم والأحاديث النبوية ويسمع كلام أهل العلم فهو غير معذور فيما وقع منه، لأنه قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة .(45/13)
أما من كان بعيدًا عن بلاد الإسلام ويعيش في بلاد جاهلية أو في مجتمع لا يعرف عن الإسلام شيئًا فهذا يعذر بجهله، لأنه لم تقم عليه الحجة، لكن إذا بلغته الدعوة وعرف خطأه وجب عليه التوبة إلى الله تعالى .
واليوم مع تطور وسائل الإعلام وتقارب البلدان بسبب وسائل النقل السريعة لم يبق أحد لم تبلغه الدعوة إلا نادرًا؛ لأنه انتشر الوعي في أقطار المعمورة بالقدر الذي تقوم به الحجة، ولكن المشكلة أن غالب الذين يقع منهم الشرك الأكبر يعيشون في قلب البلاد الإسلامية، وفيهم علماء، ولا يقبلون الدعوة إلى التوحيد، بل ينفرون منها وينفرون غيرهم وينبذون الدعاة إلى التوحيد بأسوأ الألقاب، وهذه هي المصيبة العظمى .
فالواجب على العلماء القيام بالدعوة إلى التوحيد الذي دعا إليه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، والتحذير مما يضاده من الشرك، وبيان ما وقع فيه بعض المجتمعات من الشرك الأكبر، وشرح أسباب ذلك حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
أما إذا سكت العلماء واستسلموا للأمر الواقع، أو صرفوا عنايتهم بالدعوة إلى أمور جانبية وتركوا الأساس كما تفعله بعض الجماعات التي تنتمي إلى الدعوة اليوم، فإن هذا لا يجدي شيئًا ولا يعتبر دعوة إلى الإسلام .
190 ـ إنني أجيد التحدث بخمس لغات أجنبية ولكنني لا أعلم أنني مطالب بالدعوة بإحداها إلى الله، ولم أستخدمها إلا في الترجمة أو علم خاص، فهل سأسأل عن هذا العلم ؟
الدعوة إلى الله تعالى واجبة على من عنده الأهلية إذا احتيج إليه، وتتوفر فيه شروط الداعية، فإذا ترك الدعوة في هذه الحالة فهو آثم؛ لأنه تارك لواجب تعين عليه، أما إذا لم يحتج إليه بأن قام بالدعوة غيره ممن تحصل بهم الكفاية فإن الدعوة لا تجب عليه في هذه الحالة، وإنما تستحب فقط .
وأما من لم تتوفر فيه شروط الدعوة - وأهمها العلم - بما يدعو إليه فلا يجوز له القيام بالدعوة وهو جاهل؛ لأن ما يفسد أكثر مما يصلح .(45/14)
وقد صار اسم الدعوة في هذا الزمان مظلة يدخل تحتها كل جاهل لا يحسن ما يقول، وكل مغرض يدعو إلى اتجاه باطل أو اتجاه مشبوه، وكل منافق يدعو إلى إثارة فتنة بين المسلمين وتفريق الكلمة، فيجب التحفظ في هذا الموضوع ووضع الضوابط اللازمة، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن هناك على أبواب جهنم دعاة من أطاعهم قذفوه فيها (1) ، فلنكن على حذر منهم .
191 ـ ما هي الواجبات التي يراها فضيلتكم التي يمكن لمجلة " الدعوة " أن تضطلع بها كمجلة إسلامية ؟
المجلة يجب أن ترتقي إلى مجال أوسع وأرحب لمخاطبة القارئ في كل مكان، وأن تبحث عن المادة الخصبة التي تشد انتباه المسلمين وعقولهم مهما أمكن ذلك، وهذا لا يكون إلا من حَسَن إلى أحسن .
والمجلة بوضعها الحالي - والحمد لله - فيها الخير الكثير، ولكن لا يكفي هذا مادام في الإمكان تقديم الأفضل وتطويرها إلى الأحسن وما هو أشمل .
وأحب أن أبشركم فالناس الآن مسرورون من المجلة ويتطلعون إليها خاصة الشباب والفتيات، والمجلة في حاجة إلى جهود ومجهودات الجميع .
192 ـ وما هي الأمور التي ينبغي أن تطرحها المجلة ؟
أي شيء نافع للإسلام والمسلمين، فالعقيدة والفتاوى والمقالات هذه متطلبات الدعوة، كما يجب عليها أن تحرص على عرض الآراء والمناقشات التي ينتفع بها المسلمون .
193 ـ ما حكم ( التمثيل ) ؟ وما حكم كتابة القصص الخيالية ؟
التمثيل من وسائل اللهو المستوردة إلى بلاد المسلمين، فلا يجوز فعله والاشتغال به، وفيه كذب ومخالفة للواقع، وفيه تنقص للشخصيات المحترمة الممثلة، وفيه تشبه بالشخصيات الكافرة الممثلة أيضًا، وفيه محاذير كثيرة .(45/15)
وقد كتب فيه بعض المشايخ ـ جزاهم الله خيرًا ـ كتابات قيمة شخصت مضاره وحذرت منه، مثل ما كتبه فضيلة الدكتور الشيخ بكر أبو زيد، وما كتبه فضيلة الشيخ عبد السلام بن برجس العبد الكريم، وما كتبه الشيخ حمود التويجري، فلتراجع، وما يقال فيه من المنافع فإن المضار الحاصلة بسببه أضعافها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
194 ـ تتنازع بعض الجماعات الإسلامية في الأساسيات التي يبدأ بها في دعوة الناس، فمنهم من يرى أن الدعوة إلى التوحيد وتصحيح العقائد أولى وأهم، ومنهم من يرى أن يبدأ بشرح محاسن الدين وتبصير الناس بواقع حياتهم العامة المخالفة للإسلام، وتربيتهم على فضائل الأخلاق ومكارمها .
فأي الرأيين أصوب من واقع الهدي النبوي، ثم ألا يمكن الجمع بين الأمرين ؟
الرأي الأصوب هو الرأي القائل : إن الدعوة إلى التوحيد هي أول ما يبدأ بها في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن هذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ سورة النحل : آية 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [ سورة الأنبياء : آية 25 ] .(45/16)
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : ( إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/125 ) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بألفاظ متقاربة في مواضع من كتاب الزكاة ] الحديث، هذا منهج الرسل في الدعوة إلى الله تعالى ما كانوا يبدءون بشيء قبل إصلاح العقيدة، وفي سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدعوة خير شاهد على ذلك، حيث مكث في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه .
فأي جماعة من الجماعات التي تنتسب للدعوة تخالف منهج الرسل وتبدأ بغير ما بدءوا به فدعوتها دعوة فاشلة، كيف والمجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام يوجد في غالبها الشرك الأكبر المتمثل بعبادة الأضرحة ودعاء الموتى من دون الله، كيف يتركون على ما هم عليه، ويدعون إلى محاسن الدين فقط وفضائل الأخلاق مع ما عليه غالبهم من الشرك الأكبر ؟ !
نعم إذا كان مجتمع من المجتمعات خاليًا من الشرك، وعنده قصور في الجوانب الأخرى من الدين، فإنه يدعى إلى إصلاح ما عنده من الخلل، مع العناية بتدريس العقيدة وشرح مسائلها لئلا يتطرق إليه الخلل من حيث لا يشعرون، ولئلا تنسى قواعدها وأحكامها .
195 ـ نرجو من فضيلتكم أن تحثوا أئمة المساجد ومن له مسئولية في هذا الأمر بأن يجتهدوا وينصحوا إخوانهم، كما قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ سورة الذاريات : آية 55 ] ، لأننا نلاحظ في بعضهم نوعًا من التقصير حتى في الصلاة وغير ذلك، وجزاكم الله خيرًا .
لا شك أن أئمة المساجد عليهم مسئولية يجب عليهم القيام بها؛ لأن الإمام مؤتمن، فيجب عليه :(45/17)
أولاً : أن يحافظ على الصلاة بالجماعة، ولا يتخلف عن جماعته، ولا يتأخر عنهم ويشق عليهم، وإذا رأى أنه لا يمكن من الحضور فإنه ينوب عنه من يقوم بالواجب .
ثانيًا : يجب عليه أن يتخولهم بالموعظة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتخول أصحابه بالموعظة من حين لآخر، وخصوصًا عندما تحصل مناسبة أو تنبيه على خطأ .
ثالثًا : على الإمام أيضًا أن يتفقد المتخلفين عن الصلاة ويعظهم ويذكرهم، وإذا استدعى الأمر أن يبلغ عنهم ولاة الأمور للأخذ على أيديهم، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتفقد أصحابه وحضورهم للصلاة، وكان ينهى عن التأخر ويقول : ( تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من خلفكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/325 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجالاً معهم حزم من حطب، ثم أخالف على قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/158 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، فهذا دليل على أنه واجب على الإمام أن يتفقد المصلين معه، وأن يعاتب المتأخرين، وأن يقوم بالواجب نحوهم من باب النصيحة، أما أنه يترك المتخلفين ويترك الناس، فهذا يكون نقصًا في المسئولية .
196 ـ فضيلة الشيخ ! لكم باع في عالم الخطابة وخاصة وأنكم خطيب جامع، فما رأيكم فيما يشاع حاليًا أن خطبة الجمعة أصبحت كالمُسَكِّنِ ينتهي مفعولها بمجرد الخروج من المسجد، ولماذا لم تعد خطبة الجمعة تتعايش مع أحوال المسلمين ومشاكلهم الحياتية ؟
أرى أن التقصير لا يرجع إلى خطبة الجمعة في حد ذاتها وإنما يرجع إلى المتلقين أنفسهم . . فأكثرهم لا يلتزم بما يسمع وبما يقال له، إنما هو سائر في طريقه ولو كان غير صحيح .(45/18)
أما الخطبة نفسها فالغالب أنها من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخاصة في هذه البلاد والحمد لله . . وأعتقد أن غالبية خطبائها من أهل العلم ومن طلابه المتمكنين، وإذا كانوا من الذين لا يعدون الخطبة فإنهم يستعينون بخطب معدة من قبل علماء لهم مكانتهم في العلم والفقه . ولذلك فالخطب في المملكة هي خطب في المستوى المطلوب .
وإذا كان هناك من تقصير أو عدم تأثير فمرده إلى الناس أنفسهم، لأن كثيرًا من الناس لا يعدلون من سلوكهم مهما قيل لهم . إنما يفرحون إذا سمعوا أن الخطيب يتكلم في حق غيرهم أو يتناول أخطاء غيرهم، فهم يصغون له بشدة . . أما إذا تناول أخطاءهم فإنهم يصدون عنه ويعرضون في الغالب، ويخرجون بدون فائدة .
3 ـ الجماعات
197 ـ ما رأيكم في أن تعدد هذه الجماعات اختلاف تنوع وليس اختلاف تفرقة ؟
هذا اختلاف ليس محمودًا، لأنه اختلاف تفرق، والله تعالى نهانا عن التفرق والاختلاف، وأوجب علينا أن نكون أمة واحدة، كما قال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ سورة الأنبياء : آية 92 ] ، نحن أمة واحدة - كما ذكر الله - لا تعرف التفرق أو التحزب، وإذا كان عندنا اختلاف في الرأي فعلينا أن نجتمع ونرده إلى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ سورة النساء، آية 59 ] ، ويقول تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [ سورة الشورى : آية 10 ] .
198 ـ يوجد في المسلمين هذه الأيام جماعات كثيرة تريد أن تدعو الناس إلى الله بطريقتها الخاصة فينفتح من ذلك اختلاف كثير فما رأي فضيلتكم ؟(45/19)
نعم ما ذكره السائل موجود وواقع للأسف، فالدعاة اليوم منقسمون إلى جمعيات وجماعات، وكل جماعة تطلق لنفسها اسمًا خاصًا وتختط لنفسها منهجًا خاصًا، وتخطئ الجماعة الأخرى، وهذا مما يضر بالمسلمين ويفرح الأعداء .
فالواجب على المسلمين أن يتشاوروا وأن يجتمعوا وأن يوحدوا كلمتهم حتى ولو كانوا في أقطار متباعدة، يجب عليهم التراجع، وأن يجتمعوا ولو مرة في العام للتدارس في هذا الموضوع، وخط الخطط التي يسيرون عليها، وأن يكونوا جماعة واحدة كما قال الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ سورة آل عمران : آي 103 ] ، فالفرقة لا ينتج عنها إلا الشر، فتفرق الدعاة إلى جماعات لا يبشر بخير، وإنما هذا يفتح على المسلمين باب شر .
فكل فرقة تخطئ الأخرى وتنال منها، مما يعطل العمل الإسلامي، وهذا من التخاذل، فالواجب على الدعاة أن يجتمعوا ويتدارسوا، والإنسان منهم لا تحمله العصبية على أن يستمر على الخطأ، فالواجب على الإنسان أن يرجع إلى الصواب إذا بُيِّنَ له .
أما أن يقول : أعتزل هؤلاء لأنهم يرون كذا وأنا أرى كذا، فهذا خطأ فالله جل وعلا يقول : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ سورة النساء آية : 59 ] .
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته، وإلى سنته بعد وفاته .
وبهذا ينحسم النزاع وتتألف الكلمة، فيجتمع الدعاة على الخير . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
199 ـ ما رأي الدين في قيام الأحزاب ذات التوجه الإسلامي ؟ وما موقف المسلم الذي يختار الحياد طريقًا له ؟(45/20)
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [ سورة التوبة : آية 119 ] ، ويقول تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ سورة المائدة : آية 2 ] ، ويقول تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ سورة النحل : آية 125 ] الآية .
فالمطلوب من المسلم أن يستقيم في نفسه، وأن يقوم بما يستطيع من الدعوة إلى الله سواء كان منفردًا أو مع إخوانه المسلمين، ولا شك أن الاجتماع على البر والتقوى ولزوم جماعة المسلمين أمر مطلوب من المسلم، فالواجب عليك أن تكون مع الجماعة المسلمة المستقيمة على أمر الله التي ليس لها أهداف دنيوية ولا أغراض دنيئة، والتي تسير على المنهج النبوي وعلى هدي الكتاب والسنة .
أما الجماعات المشبوهة والجماعات المبتدعة والمخالفة لهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القول والعمل، فابتعد عنها والزم الجماعة التي تدعو إلى إصلاح العقيدة وتحقيق توحيد الله تعالى، وتنهى عن الشرك؛ لأنها هي الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه ] ، وهي الفرقة الناجية : أهل السنة والجماعة ( وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/296، 297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه بن ماجه في " سننه " ( 2/1322 ) بنحوه من حديث وف بن مالك وأنس بن مالك، وانظر " مسند الإمام أحمد " ( 2/332 ) ، و " سنن أبي داود " ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .(45/21)
200 ـ هل يعتقد فضيلتكم أن كثرة الجماعات الإسلامية وتعددها في صالح الدعوة الإسلامية والعمل الإسلامي والمسلمين بوجه عام ؟
الواجب أن يكون المسلمون جماعة واحدة، أما الجماعات المتفرقة فقد نهى الله عنها بقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 46 ] ، وكما في قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ } [ سورة آل عمران : آية 105 ] ، وقوله : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ سورة آل عمران : آية 103 ] .
فالتفرق والتجزؤ إلى جماعات أو إلى جمعيات هو مما نهى عنه ديننا، وما يطلبه ديننا منا ألا نختلف أو تتضارب أفكارنا، وبالتالي يضيع مجهود الدعوة .
فالواجب علينا أن نكون جماعة واحدة على منهج الإسلام وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا واجب المسلمين، أما منطق الجماعات فهذا ليس لصالح الدعوة الإسلامية، بل هو على حساب الدعوة .
201 ـ ما هي المذاهب والطرائق المنحرفة عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هناك طرائق صوفية على الطريقة الإسلامية الصحيحة ؟
الطرائق المنحرفة كثيرة لا يمكن حصرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/296، 297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1322 ) بنحوه من حديث عوف بن مالك وأنس بن مالك، وانظر " مسند الإمام أحمد " ( 2/332 ) ، و " سنن أبي داود " ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وهذا عدد كثير، والموجود الآن من تشعب الفرق كثير، ولكن الثلاث والسبعين فرقة أصولها كما قال أهل العلم .(45/22)
وليس هناك فرقة ناجية إلا فرقة واحدة وهي ما كانت على مثل ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وهم الذي أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنهم بقوله : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه ] ، ففرقة واحدة هي الناجية وهم أهل السنة والجماعة الذين بقوا وثبتوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبدلوا ولم يغيروا، هؤلاء هم الفرقة الناجية وما عداهم فهم ضالون، وكما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلها في النار .
والطرق الصوفية طرق ضالة ومنحرفة خصوصًا في وقتنا الحاضر، لأنها مخالفة لما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فهي داخلة في الفرق الضالة، بل ربما يصل ضلالهم إلى الكفر، فمنهم أهل وحدة الوجود، وهم أكفر أهل الأرض وهم من فروع الصوفية، أو من أكابرهم، وكذلك منهم الحلولية، ومنهم الآن : السادة الذين يعبدون من دون الله ويتقرب إليهم مريدوهم بأنواع القربات من دون الله عز وجل إذا كانوا أمواتًا إلى أضرحتهم وقبورهم يريدون منهم المدد والشفاعة وغير ذلك، وإن كانوا أحياءً فإنهم ينقادون لأوامرهم لتحريم الحلال وتحليل الحرام وغير ذلك .
ولا نعلم الآن أن هناك فرقة صوفية معتدلة بل كل الفرق الصوفية منحرفة، وانحرافها يتفاوت : منه ما هو كفر، ومنه ما هو دون ذلك .
وعلى كل حال الصوفية وغيرهم كل من خالف هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخالف سنته فإنه ضال ومنحرف وواقع تحت هذا الوعيد الشديد .(45/23)
202 ـ تنتشر عندنا كثير من الطرق الصوفية لدرجة أن يعتقد الكثير منا أنه لابد أن يسلك منهجًا من هذه المناهج وأن يتبع طريقة من هذه الطرق ويقلد شيخها وقد انتشرت بعض الكتب في ذلك منها كتاب " السؤال والجواب لاختصار أحكام الطريقة الفضلى التيجانية الأحمدية " فما رأيكم في هذه الطرق وفي مثل هذه الكتب هل هي صحيحة ونعتقد ما فيها ونؤمن به أو أنها غير ذلك ويجب علينا أن نبتعد عنها ونحاربها ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [ سورة الأعراف : آية 3 ] ، ويقول جل وعلا : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [ سورة النساء : آية 59 ] ، ويقول سبحانه وتعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [ سورة النساء : آية 80 ] .
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في خطبه وأحاديثه : ( إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ] ويقول عليه الصلاة والسلام : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) ] ، " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
والنصوص من الكتاب والسنة في هذا كثيرة تلزم المسلم بأن يعمل بما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يلتفت إلى ما أحدث من البدع والخرافات، ومن ذلك الطرق الصوفية فإنها طرق مبتدعة محدثة ليست من دين الإسلام، بل هي من دس أعداء الإسلام، وتلقفها كثير من الجهال أو من الضلال الذين يريدون أن يحتالوا بها على الناس ويتزعموا بها على الناس بالباطل .(45/24)
فالطرق الصوفية طرق محدثة وطرق فاسدة وطرق ضالة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لما سئل عن الفرقة الناجية التي هي أهل السنة والجماعة قال عليه الصلاة والسلام : ( هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/296، 297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1322 ) بنحوه من حديث عوف بن مالك وأنس بن مالك، وانظر " مسند الإمام أحمد " ( 2/232 ) . و " سنن أبي داود " ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] . وليست الطرق الصوفية مما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه والقرون المفضلة .
ومن ذلك الطريقة التيجانية فإنها من أضل الطرق الصوفية وأفسدها ولها عقائد كفرية، وقد أنقذ الله منها بعض معتنقيها فردوا عليها وكتبوا في بيان كفرها وضلالها الكتابات الطيبة المفيدة، وهي مطبوعة ومتداولة، ولله الحمد .
ومن عقائدهم الباطلة : ما قالوه في " جواهر المعاني " وفي كتبهم في الورد الذي اختاروه قالوا : إن هذا الورد ادخره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعلمه لأحد من أصحابه إلى أن قال : لعلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتأخير وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه .
وقال في " جواهر المعاني " : إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح - وهي صلاة اخترعوها يزعمون أنهم يصلون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا : إن المرة الواحدة من هذه الصلاة - تعدل كل تسبيح وقع في الكون وكل ذكر وكل دعاء كبير وصغير، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة .
فهل بعد هذا الكفر كفر ؟ ! وله بعد هذا الضلال ضلال ؟ !
ومن عقائدهم : ما قالوه في كتاب " الإفادة " : من لم يعتقد أنها ( أي : صلاة الفاتح ) من القرآن لم يصب الثواب فيها .
وأي ضلال أعظم من هذا أن يجعل من القرآن ما ليس منه ؟(45/25)
ومن عقائدهم الفاسدة : قولهم في " الإفادة الأحمدية " ( ص74 ) : إن رئيسهم يقول بوضع منبر من نور يوم القيامة، وينادي منادي حتى يسمعه كل من في الموقف : يا أهل الموقف ! هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه من غير شعوركم، وذكره أيضًا في كتابهم " بغية المستفيد " .
وعقائدهم من هذا النوع كثيرة، وإنما ذكرت نموذجًا منها ليعرف المسلمون أي فرقة هذه الفرقة، وأي طريقة هذه الطريقة حتى يكونوا على حذر منها، والله الموفق للصواب
4 ـ الأمة
203 ـ ما هو تفسير الآية القرآنية { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سورة البقرة : آية 143 ] ؟
معنى قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ سورة البقرة : آية 143 ] ، أي : إنما أمرناكم باستقبال الكعبة في الصلاة التي هي قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، اخترنا لكم هذه القبلة لتشريفكم بذلك، ولنجعلكم خير الأمم، ولتكونوا عدولاً خيارًا تشهدون على الأمم يوم القيامة بأن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، وأقامت عليهم الحجة، فالوسط هو الخيار والأجود .
ولما جعل الله هذه الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع وأحسن المناهج، قال تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا } [ سورة الحج : آية 78 ] .
204 ـ هل المسلمون الآن متخلفون ؟ ولماذا ؟ وكيف يمكن النهوض بهم ؟(45/26)
لا شك أن وضع المسلمين حاليًا لا يرضى عنه أي مؤمن، فهم قد تخلفوا كثيرًا بسبب تقصيرهم في مسئوليتهم التي أوجبها الله عليهم، قصروا من ناحية تبليغ الدين إلى العالم والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قصروا في إعداد القوة التي أمرهم الله بها، كما في قوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 60 ] ، وقصروا في الحذر من عدوهم، والله تعالى يقول : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [ سورة النساء : آية 102 ] ، ويقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } [ سورة آل عمران : آية 118 ] ، وكما يقول أيضًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [ سورة المائدة : آية 51 ] .(45/27)
فهذه الأمور التي قصروا فيها سَبَّبَت لهم ما وقعوا فيه من هذا التأخر الذي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يزيله عنهم برجوعهم إلى المسار الصحيح الذي وضعهم عليه رسول الأمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( في المقدمة ) ( 1/16 ) ، كلاهما من حديث العرباض بن سارية، وهو جزء من حديث أوله : وعظنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ موعظة بليغة . . . ، وللحديث رواية أخرى ] ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ) [ رواه الحاكم في " المستدرك " ( 1/93 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 2/899 ) بنحوه بلاغًا ] ، فسبب تأخر المسلمين هو أنهم لم يعملوا بما أوصاهم الله تعالى به، وما أوصاهم به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التمسك بدينهم والتمسك بكتاب ربهم وسنة نبيهم، كذلك لم يأخذوا الحذر ليأمنوا مكر عدوهم .
ولكن مع هذا لا نقول : إن الخير معدوم، وإن الفرصة قد انتهت، فالخير في هذه الأمة لا يزال مهما بلغت من ضعف، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/296، 297 ) ، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1322 ) بنحوه من حديث عوف بن مالك وأنس بن مالك، وانظر " مسند الإمام أحمد " ( 2/332 ) ، و " سنن أبي داود " ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فمهما بلغت الأمة من ضعف إلا أن الخير لا ينعدم فيها، ولابد أن يكون فيها من يقوم بدين الله سبحانه وتعالى ولو في محيط ضيق، وسيبقى الخير بهذه الأمة متى رجع إليها أبناؤها .(45/28)
205 ـ هناك أمور تفرض على الإنسان التجاوز بعض الشيء حيث يواجه ببعض المشاكل المطروحة على الساحة بقضايا العصر، هذه تشغل حيزًا كبيرًا من أبناء الجيل الحالي، والتي يقع فيها الناس حاليًا، وتغشاهم الحيرة بين أحكام الشريعة من جهة ومقتضيات العصر من جهة أخرى، مثلاً : التليفزيون، الاختلاط، قضية السياحة، والفوائد الربوية وغيرها من القضايا التي تعن لجيل اليوم، فكيف يتعامل مع هذه القضايا الشائكة ؟
لا شك أن دين الإسلام دين متكامل بمعنى أنه ما ترك شيئًا من مشاكل الحياة إلى قيام الساعة إلا وقد وضع له حلاً مناسبًا، ومما لا شك فيه أن الله أكمل هذا الدين { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ سورة المائدة : آية 3 ] ، ولا شك أن علماءنا قد استنبطوا من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفقه العظيم والكثير الذي يلقي الضوء على مشاكل العالم ويقدم لها الحلول الشاملة، وهذه الحلول كلها في الكتاب والسنة، ولا نستطيع أن ننكر الآن أن العالم يموج حاليًا بمتغيرات ومشاكل لا حصر لها، ولكن على المسلم الحق أن يرجع في حل هذه المشاكل والمتغيرات إلى الكتاب والسنة، وكما نعلم أن هذين المصدرين لا يرفضان الشيء النافع للمسلم، بل يرفضان الشيء الضار للفرد والجماعة .(45/29)
أما عن كيفية استثمار الإنسان المسلم لأمواله فلقد وضع الإسلام الحلول والأساليب لهذا الاستثمار، فهناك البيع والشراء سواء ممارسة الإنسان المسلم بنفسه، أو أن يضارب مع الآخرين المضاربة الشرعية بأن يدفعها إلى من يبيع ويشتري بها بجزء من الربح غير محدد بمبلغ معين، وإما بأن يسهم في الشركات النزيهة والشركات الإنتاجية كشركات التصنيع والكهرباء والنقل الجماعي، وهي الشركات التي تستثمر الأموال استثمارًا نظيفًا، فالسبل كثيرة للاستثمار كالعقارات والمزارع وغيرها، وإقامة المشاريع المنتجة النزيهة .
206 ـ هل نقبل على حضارة الغرب بعقل مستنير لتحقيق نهضة إسلامية كبرى ؟
الدول الغربية الآن عندها الكثير من المستجدات التي يفتقدها المسلمون وعندهم شرور كثيرة، لهذا أرى أنه لا يجوز للمسلمين أخذ كل ما لدى الغرب أو رفضه كله، بل الواجب عليهم التمحيص وأخذ ما ينفع منه وما يوافق دينه وما أرشد إليه كتابنا، وترك ما حذر منه الدين ونهانا عنه .
207 ـ كثير من القضايا الفقهية التي تطرح على الساحة والتي تمس واقع الناس يختلف حولها الكثير، وبالتالي تختلف الفتوى ووجهات النظر، فما تعليقكم على هذا ؟
الاختلاف في آراء المفتين والعلماء أمر لابد منه؛ لأن الناس ليسوا على مستوى واحد في العلم والمدارك، وكذلك الأدلة تختلف؛ فالاختلاف في استيعابها واقع، واختلاف في الحكم عليها بالصحة أو بعدم الصحة واقع أيضًا والاختلاف في فهمها واقع .
فهذا الاختلاف ليس بغريب ولا مذموم، إنما المحرم والذي لا يجوز إذا كان الاختلاف دافعه الهوى والشهوة النفسية؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يأخذ ما وافق هواه ورغبته، وهذا هو الاختلاف المذموم .(45/30)
وفي هذا الصدد يقول الله تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ سورة الفرقان : آية 43 ] ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ) [ رواه الخطيب التبريزي في " مشكاة المصابيح " ( 1/59 ) ، ورواه النووي في " الأربعين " ، انظر " جامع العلوم والحكم " ( ص364 ) ، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ] ، أما إذا كان الاختلاف نتيجة لاختلاف المفاهيم والمدارك فهذا شيء لا يذم ولا يعاب ما دام الدافع إليه هو الوصول إلى الحقيقة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/157 ) من حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ ] لماذا ؟ لأنه يقصد الحق فكونه لم يصل إليه ليس بتقصير منه في طلبه، بل لأنه لم يوفق في ذلك، فهذا العالم بذل السبب، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى .
أما قضية التشديد والتسهيل فلا ينظر إليها وإنما ينظر إلى المستوى العلمي للشخص، فإن كان عنده ما يؤهله من العلم وحكم بموجب ما توصل إليه علمه فإنه لا يلام في ذلك، أما إذا كان دون ذلك، وليس عنده ما يؤهله لبلوغه المرحلة التي يحكم فيها على الأمور، ويجيب فيها على الفتاوى فهذا لا نَصِفُهُ بأنه ميسر، بل نصفه بأنه مقصر، لأن المدار ليس على السهولة أو على الشدة، إنما المدار هنا على ما يقوم عليه الدليل من أقوال العلماء .(45/31)
208 ـ هناك بعض التهم يدفع بها إلينا بعض العلمانيين فيقولون : إن المسلمين حاليًا مشغولون بتوافه الأمور، ومظاهرها كاللحية والالتزام بالسنة في الثياب وغيرها، وأن ذلك أهم من القضايا التي يتعرض لها المسلمون كالتنكيل بالأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية، وكذلك الجوع والعرب في أفريقيا وآسيا وانتهاك بعض الأراضي الإسلامية بأقدام يهودية وغيرها من القضايا المهمة، فما هو تعليقكم على ذلك وهل هذا الاتهام صحيح ؟
كثيرًا ما نسمع هذه المقولة لكنها غير سليمة؛ لأن المسلم مطلوب منه أن يعمل بالإسلام كله، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [ سورة البقرة : آية 208 ] ، يعني : خذوا الإسلام كله، لا تأخذوا بعضه وتتركوا بعضه .
أما القول بأننا يجب أن نشتغل بالرد على أعداء الإسلام والملحدين ولا نهتم بآداب الإسلام وأحكامه فهذا ليس صحيحًا، بل لابد أن نعتني بالأمرين معًا : نصلح أحوالنا أولاً، ونستقيم على أمور ديننا ونلتزم بالسنن التي يأمرنا بها ديننا، وبهذا نستطيع أن نقف في وجه أعدائنا، هل نقف في وجه عدونا ونحن مجروحون، وقد ضيعنا قسطًا من ديننا وتساهلنا فيه، وقلنا هذه فروع وهذه توافه ؟ !
وأنا أقول : لابد من الالتزام بجميع قضايانا الإسلامية كبيرها وصغيرها؛ لأن ديننا دين التكامل فلا يحق لنا أن نأخذ شيئًا ونترك غيره، فالدين يسر لكن هذا لا يعني أن نترك بعض الأوامر، ونرتكب ما نهينا عنه في بعض الجوانب ونقول : إن هذه أمور سهلة؛ لأن التساهل بالمعصية قد يجر إلى معصية أكبر منها، والتساهل بالصغيرة يصيرها كثيرة، كما قال أهل العلم .
والواجب أن نعظم حرمات الله سبحانه وتعالى، ومن يعظم حرمات الله فإنه من تقوى القلوب، فنحن نأخذ ديننا كله بما فيه من التزام السنن والعمل بالواجبات .
209 ـ ما هو واجب الناس تجاه علمائهم وواجب العلماء تجاههم ؟(45/32)
واجب الناس تجاه علمائهم أن يحترموهم وأن يستفيدوا منهم، كما يجب على العلماء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، ويكونوا قدوة حسنة وصالحة، وعلى العلماء أن ينشروا العلم ويدعوا إلى الله عز وجل ويرشدوا الرعاة والرعية . كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه ] .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
210 ـ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 105 ] ، نريد الجمع بين هذه الآية وبين قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث الأمر بالمعروف : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده . . . ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] ؟(45/33)
السائل يطلب الجواب عن الجمع بين الآية والحديث فنقول : ليس بين الآية والحديث تعارض؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نأخذ بأنفسنا إلى طريق الحق وأن نلتزمه، وألا ننظر إلى فعل الآخرين وانحراف الآخرين، ولا نكون مع الناس إن أساءوا أسأنا وإن أحسنوا أحسنا، بل نلزم طريق الإحسان دائمًا وأبدًا، مع أننا نقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب استطاعتنا كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] ، وهذا تشير إليه الآية الكريمة حيث قال : { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 105 ] ، قيد سبحانه انتفاء الضرر بالاهتداء، ومن الاهتداء أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حسب استطاعتنا بعد إصلاح أنفسنا بأن نكون أول من يتمثل الخير ويتجنب الشر .
وصدِّيق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها، أبو بكر الصديق رضي الله عنه تنبه لهذا وقال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 105 ] ، وإني سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/11 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وهو جزء من حديث أوله : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل . . ) وللحديث رواية أخرى ] ، فهو يبين بهذا أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وأن من ظن أن معنى الآية ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أخطأ في فهمه للآية . والله تعالى أعلم .(45/34)
211 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ] فهذا الحديث يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب استطاعة الإنسان لكون الناس فيهم من يغيره بيده نظرًا لقوته الجسمية والنفسية، ومنهم من لا يستطيع أن يغيره إلا بلسانه، ومنهم الضعيف جدًّا ولا يستطيع أن يغير المنكر إلا بالقلب، وهذا يكون يكره المنكر وأهله، فإذًا هذا الضعيف لا شك يخشى على نفسه من بطش الناس لضعفه .
وهناك حديث آخر روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول له : ما منعك إذا رأيت المنكر فلم تغيره ؟ فيقول : خشيت الناس، فيقول الله تعالى : ( أنا أحق أن تخشاني ) ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/47، 48 ) وفي مواضع أخرى، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1328 ) ، كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] ، وفي هذا الحديث، يشير على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد منه مهما كانت استطاعة المرء وقوته سواء أكان ضعيفًا أو قويًا، فأرجو من فضيلتكم التكرم بالجمع بين الحديثين السابقين في حالة صحة الحديث الثاني ؟(45/35)
لا تعارض بين الحديثين؛ لأن الحديث الأول يدل على أن إنكار المنكر لابد منه، ولكنه على مراتب : فالمرتبة الأولى : أن يغيره بيده وذلك إذا كان من أهل السلطة وأهل الحسبة الذين يأخذون على يد العصاة بالأدب والعقوبة، وليس هو كما ذكر السائل القوي في بدنه والقوي في نفسه، لا بل المراد به صاحب السلطة الذي يتمكن من إزال المنكر بالقوة لكونه سلطانًا أو مأمورًا من قبل السلطان، أو لكونه صاحب البيت ؟ لأن صاحب البيت له السلطة على من فيه من أولاده وأهله فيغير عليهم المنكر بيده؛ لأن الله أعطاه السلطة عليهم، فإذا لم يكن بيده سلطة عامة ولا خاصة فإنه يغير بلسانه بأن يبين المنكر وينهى عنه ويحذر منه إن استطاع ذلك، فإن لم يستطع أن يبين بلسانه لكونه يخشى مفسدة أشد فإنه ينكره بقلبه، ويبغض المنكر وأهل المنكر ولا يطمئن إلى العصاة ولا يأنس بهم، وإنما يخالفهم ويتباعد عنهم، ولا يكون كبني إسرائيل الذين كانوا ينهون عن المنكر في أول الأمر ثم لا يمنعهم بعد ذلك أن يجالسوا العصاة وأن يأنسوا بهم، هذا ما يدل عليه الحديث الأول .
أما الحديث الثاني وهو أن الله سبحانه يسأل العبد يوم القيامة : لماذا لم ينكر المنكر ؟ فيقول : إني خشيت الناس، فيقول الله : أن أحق أن تخشاني الحديث أيضًا ظاهر في أن هذا في شخص كان يستطيع أن ينكر بيده ولكنه لم ينكر، أو يستطيع أن ينكر بلسانه ولكنه لم ينكر، بل ادخر وسعه وترك ما يقدر عليه من إنكار المنكر مداراة للناس ومجاملة لهم، فهذا هو الذي يكون ملومًا، أما الذي يترك إنكار المنكر بيده أو بلسانه لكونه لا يستطيع ذلك، أو يخشى من مفسدة أشد، فهذا يكون معذورًا في هذه الحالة على أن ينكر ذلك بقلبه ويبتعد عنه وعن أهله، فلا تعارض بين الحديثين، ولله الحمد .
212 ـ كيف ننكر المنكر ؟ وكيف نتجنب البدع بصفة عامة وخصوصًا في التعزية ؟(45/36)
كيفية إنكار المنكر بيَّنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ( من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ] ، وفي رواية : ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69، 70 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وكل مسلم يعلم ما يستطيعه من تلك المراتب فيجب عليه أن يقوم به .
وكيفية تجنب البدع تكون بالنهي عنها، وبيانها للناس والتحذير منها، وعدم الحضور في الأمكنة التي تقام فيها ومقاطعتها وهجر أهلها حتى يتوبوا منها ويتركوها .
ويكون أيضًا - وهذا شيء مهم - بتوعية المسلمين في إحياء السُّنن وإماتة البدع، وذلك عن طريق خطب الجمعة والمحاضرات والندوات، وعن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، حتى يكون المسلمون على بصيرة من أمر دينهم .
فأمر البدع أمر خطير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لأنها تقضي على السُّنن وتفسد الدين وتغضب الرب سبحانه، لأنها من شريعة الشيطان، والمبتدع أحب إلى الشيطان من العاصي، لأن العاصي يتوب، والمبتدع يبعد أن يتوب .
وأما التعزية بالميت فهي مشروعة بأن يقول للمصاب : أحسن الله عزاءك وجبر مصيبتك وغفر لميتك - إن كان الميّت مسلمًا - ولا يكون للتعزية مكان خاص، ولا تقام لها سرادقات ولا تكاليف مالية واستعدادات باهظة، فهذا من المنكر، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : ( كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/204 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/514 ) ] . والله أعلم .(45/37)
213 ـ لي أقارب وأرحام ومنهم خال لي، ووالداي في بعض الأيام يسهران عندهم ويريداني أن أذهب معهم لزيارتهم، ولكني أرفض لأن مجلسهم لا يخلو من المنكرات، ويقولون لي : الله غفور رحيم، وأنَّ علي أن أصل رحمي، فهل أذهب معهم وأتحمل الصبر على منكراتهم كي أصل الرحم أم أقطعهم ؟
أما إذا كان في ذهابك إليهم رجاء أن تؤثر عليهم وأن توعظهم إلى ترك المنكر، وتقوم بواجب إنكار المنكر، فإنه يجب عليك الذهاب إليهم من ناحيتين :
الناحية الأولى : صلة الرحم .
الناحية الثانية : إنكار المنكر الذي تقوم به إذا ذهبت، أما إذا لم يحصل منك إنكار المنكر أو كان الإنكار لا يجدي وهم يستمرون على منكرهم على الرغم مما تنكر عليهم فإنك لا تذهب إليهم؛ لأنك إذا ذهبت إليهم فإنك تجلس في مجلس يكون فيه منكر وأنت لا تغيره أو لا تقدر على تغييره، فعليك أن تبتعد عنهم لعل الله سبحانه وتعالى يهديهم .
214 ـ هل إذا ذهب المرء إلى المسجد ووجد أناسًا عند المسجد ودخل المسجد ولم يقل لهم : صلوا، هل عليه إثم أم لا ؟
يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب استطاعته إما باليد وإما باللسان وإما بالقلب .
ولا يجوز للمسلم ترك إنكار المنكر، فإذا رأى أناسًا لا يصلون فإنه يأمرهم بالصلاة، فإن امتثلوا وإلا فإن كان له سلطة ألزمهم وأدبهم، وإن لم يكن له سلطة فإنه يبلغ أهل السلطة عن وضعهم، ولا يجوز له السكوت على المنكر وإقراره لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ] .
215 ـ هل يجوز لي أن أجالس وأشارك في المأكل والمشرب تارك الصلاة المصر على تركها ؟(45/38)
لا يجوز لك أن تجالسه وتشاركه في المأكل والمشرب إلا إذا كنت تقوم بنصيحته والإنكار عليه، وترجو أن يهديه الله على يديك، فإذا كنت تقوم بهذا معه وجب عليك أن تقوم به معه؛ لأن هذا من إنكار المنكر والدعوة إلى الله تعالى لعل الله أن يهديه على يديك .
أما إذا كنت تشاركه وتجالسه وتأكل وتشرب معه من غير إنكار، وهو مقيم على ترك الصلاة أو مقيم على شيء من الكبائر، فإنه لا يجوز لك أن تخالطه، وقد لعن الله بني إسرائيل على مثل هذا، قال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [ سورة المائدة : الآيتين 78، 79 ] ، وجاء في تفسير الآية أن أحدهم كان يرى الآخر على المعصية فينهاه عن ذلك، ثم يلقاه في اليوم الآخر وهو مقيم على معصية فلا ينهاه، ويخالطه، ويكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما رأى الله منهم ذلك ضرب قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان أنبيائهم .
وحذرنا نبي الله ( من أن نفعل مثل هذا الفعل لئلا يصيبنا ما أصابهم من العقوبة . والله أعلم .
216 ـ متى يكون المسلم معذورًا في إنكار المنكر ؟ وما حدود الاستطاعة القولية الواردة في حديث : ( من رأى منكم منكرًا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ] ؟
إنكار المنكر لا يسقط عن المسلم بحال ولا يعذر في تركه، لكنه يكون واجبًا عليه بحسب استطاعته لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .(45/39)
فالذي بيده سلطة يغير المنكر بيده، والذي ليس معه سلطة يغيره بلسانه، والذي لا يقدر بلسانه ينكره بقلبه فيبتعد عن المنكر وعن أهله؛ لأن الذي لا ينكر المنكر ليس بمؤمن كما في الحديث : ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) .
ومن أصحاب السلطة الذين ينكرون باليد : صاحب البيت فإن له سلطة على من في بيته لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة التحريم : آية 6 ] ، وقال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [ سورة طه : آية 132 ] .
217 ـ هل يجوز للإنسان أن ينصب نفسه حكمًا على غيره في كل المواقف ؟ ومتى يسوغ شرعًا للشخص أن يقول : هذا خبيث، وهذا غير ذلك ؟(45/40)
لا يصلح للإنسان أن ينصب نفسه حكمًا على الناس وينسى نفسه . . بل على الإنسان أن ينظر إلى عيوب نفسه أولاً قبل أن ينظر إلى عيوب غيره . . لكن إن نصب المسلم نفسه ناصحًا لإخوانه آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر فهذا شيء طيب ولا يقال : إنه نصب نفسه حكمًا على الناس، يقول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ سورة الحجرات : آية 10 ] ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) ، ويقول الله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ سورة المائدة : آية 2 ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/9 ) من حديث أنس رضي الله عنه ] .
وعلى الإنسان أن يصلح نفسه أولاً ثم يحاول إصلاح الآخرين من باب محبة الخير لهم والنصيحة إليهم، وليس من باب تنقيص الآخرين أو التماس عيوبهم، فإن هذا هو ما نهى عنه الإسلام، وإنما في حب الخير لهم .
وبالنسبة لقول الإنسان : هذا خبيث وهذا غير ذلك . . فالإنسان المسلم لا يسوغ له شرعًا أن يقول ذلك في حق أخيه المسلم إلا إذا كان معروفًا بالانحراف ومعروفًا بالمقاصد السيئة، من يعرف حاله يجب عليه أن يقول ما يعلم عن خبثه وانحرافه إذا كان ذلك يترتب عليه مصلحة دينية بأن يحذر الناس منه حتى يمكنهم مقاومة خطره، أما إذا قال ذلك لمجرد النيل منه أو لمجرد الذم فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يصبح تعرضًا شخصيًّا لا مصلحة فيه .(45/41)
ولا شك أن الحكم على الناس يحتاج إلى روية وتثبت . . فالإنسان لا يعتمد على ظنه، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } [ سورة الحجرات : آية 12 ] .
كذلك يجب على الإنسان ألا يعتمد في هذا الموضوع على خبر فاسق . . فالله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ سورة الحجرات : آية 6 ] ، ولهذا على المرء أن يتجنب الظنون السيئة ولا يحكم لمجرد ظنونه . وعليه ألا يقبل الأخبار ممن جاء بها بدون تمحيص وبدون تثبت، ولا يحكم على الناس إلا بموجب العلم الشرعي، فإذا كان عنده علم شرعي فإنه يحكم بموجب ما ثبت لديه، أما إذا كان جاهلاً بالأحكام الشرعية فلا يجوز له الحكم على تصرفات الناس .
وعلى المرء ألا يخوض في هذه المجالات التي ليس له بها علم { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ سورة الإسراء : آية 36 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة الأعراف : آية 33 ] .(45/42)
فالذي ليس عنده علم لا يصدر الأحكام بمجرد ظنه أو مجرد رأيه أو ما تمليه عليه نفسه، بل عليه أن يتوقف لأن الأمر خطير جدًّا، ومن رمى مؤمنًا بما ليس فيه أو وصفه بصفة لا تنطبق عليه فإن ذلك يرجع وباله عليه، كما جاء في الحديث أن الإنسان إذا لعن من لا يستحق اللعنة فإن اللعنة ترجع على من قالها، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه : يا فاسق، أو يا كافر، أو يا خبيث أو ما شابه ذلك من الألقاب السيئة، يقول الله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ } [ سورة الحجرات : آية 11 ] .
فالمسلم يجب عليه أن يتحفظ من هذه المجالات وأن يكون عنده علم وبصيرة يستطيع الحكم بها على نفسه أولاً، وعلى الناس ثانيًا، كما أنه يجب أن تكون عنده تؤدة وتثبت وبُعد نظر وعدم تسرع في الأمور .
6 ـ معاملة : الكفار - والمبتدعة
218 ـ ما هي حدود موالاة أعداء الله والمحادين التي إذا وصلها المسلم أو تجاوزها خرج عن الملة ؟ وما هي الحدود التي يجب أن يلتزم بها المسلم في تعامله مع غير المسلمين ؟
الموالاة التي حرمها الله ورسوله : موالاة الكفار هي محبتهم في القلوب، لأنه لا يحبهم إلا إذا كان يرى صحة ما هم عليه، أما لو كان يرى بطلان ما هم عليه فإنه يعاديهم في الله عز وجل .
ومن الموالاة المحرمة : مناصرتهم على المسلمين ومظاهرتهم أو الدفاع عنهم بالقول بتبرير ما هم عليه والاعتزاز بما هم عليه، كل هذا من أنواع الموالاة المحرمة والتي تصل إلى الردة عن الإسلام، والعياذ بالله، قال الله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ سورة المائدة : آية 51 ] .(45/43)
أما ما يجوز لنا من التعامل مع الكفار فهو التعامل المباح نتعامل معهم بالتجارة، ونستورد منهم البضائع، ونتبادل منهم المنافع، ونستفيد من خبراتهم، نستقدم منهم من نستأجره على أداء عمل كهندسة أو غير ذلك من الخبرات المباحة، هذا حدود ما يجوز لنا معهم ولابد من أخذ الحذر، وأن لا يكون له سلطة في بلاد المسلمين إلا في حدود عمله، ولا يكون له سلطة على المسلمين، أو على أحد من المسلمين، وإنما تكون السلطة للمسلمين عليهم .
219 ـ نحن في بعض الأحيان نسب أو نلعن بعض المشركين أو الكفار أو نتكلم عليهم بتشبيههم بالحيوانات وهم أصحاب شرك، والعياذ بالله، ويدعون من دون الله، وبعضهم أصحاب شعوذة أيضًا ومنهم الحي ومنهم الميت، وبعضهم يؤم المسلمين في المساجد وخطباء على المنابر، فهل يجوز لنا هذا أم لا ؟
أما بالنسبة للعن الكافر والمشرك والفاسق بفعل كبيرة من الكبائر فلعن هؤلاء على وجه العموم لا بأس به أن يقال : لعنة الله على الظالمين، لعنه الله على الكافرين، لعنة الله على الفاسقين، لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه .
أما لعن معين وسب معين فهذا محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أن لا يجوز لأنك لا تدري ماذا ختم له إن كان ميتًا، وما يختم له به إن كان حيًا .
220 ـ ما هو النفاق ؟ وما الفرق بينه وبين الكفر ؟ وهل هو أشد خطرًا أم الكفر ؟
النفاق هو إخفاء الشر وإظهار الخير وهو على نوعين : نفاق اعتقادي ونفاق عملي :(45/44)
النفاق الاعتقادي : والعياذ بالله هو إخفاء الكفر وإظهار الإيمان، كحال المنافقين الذين نزل فيهم القرآن وفضحهم الله سبحانه وتعالى، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار تحت عبدة الأوثان، هؤلاء كفار وكفرهم أشد من كفر من لم يتظاهر بالإسلام؛ لأن الكفار على قسمين : كافر متظاهر بكفره وعداوته للمسلمين، وكافر في الباطن ولكنه في الظاهر يخادع المسلمين ويظهر أنه منهم، وهذا هو المنافق وهذا نفاق اعتقادي صاحبه كافر مخلد في النار، وعذابه أشد من عذاب عبدة الأصنام - والعياذ بالله .
والنوع الثاني : نفاق عملي : وهذا يصدر من بعض المؤمنين بأن يفعل فعلاً من صفات المنافقين، كالكذب في الحديث كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/14 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فهذه صفات من صفات المنافقين يصدر بعضها من ضعاف الإيمان، لكن صاحبها لا يخرج عن الملة، فهو مؤمن لكن فيه خصلة من خصال المنافقين تنقص إيمانه وعليه وعيد شديد في ارتكاب هذا الشيء لكنه لا يخرج بهذا من دائرة الإيمان، هذا ما يسمى بالنفاق العملي .
221 ـ سئل فضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عن حكم السفر إلى البلاد التي لا تدين بالإسلام سواء كانت نصرانية أو لا دينية ؟ وهل هناك فرق بين السفر للسياحة والسفر للعلاج والدراسة ونحو ذلك ؟(45/45)
السفر إلى بلاد الكفر لا يجوز؛ لأن فيه مخاطر على العقيدة والأخلاق ومخالطة للكفار وإقامة بين أظهرهم لكن إذا دعت حاجة ضرورية وغرض صحيح للسفر لبلادهم كالسفر لعلاج مرض لا يتوفر إلا ببلادهم، أو السفر لدراسة لا يمكن الحصول عليها في بلاد المسلمين، أو السفر لتجارة، فهذه أغراض صحيحة يجوز السفر من أجلها لبلاد الكفار بشرط المحافظة على شعائر الإسلام، والتمكن من إقامة الدين في بلادهم، وأن يكون ذلك بقدر الحاجة فقط ثم يعود إلى بلاد المسلمين .
أما السفر للسياحة فإنه لا يجوز؛ لأن المسلم ليس بحاجة إلى ذلك، ولا يعود عليه منه مصلحة تعادل أو ترجح على ما فيه من مضرة وخطر على الدين والعقيدة .
222 ـ ما حكم السفر إلى البلاد الإسلامية التي تكثر فيها المنكرات والكبائر كالزنا والخمر ونحوهما ؟
المراد بالبلاد الإسلامية هي التي تتولاها حكومة تحكم بالشريعة الإسلامية . . لا البلاد التي فيها مسلمون وتتولاها حكومة تحكم بغير الشريعة فهذه ليست إسلامية، والبلاد الإسلامية بالمعنى الأول إذا كان فيها فساد ومنكرات لا ينبغي السفر إليها خشية من التأثر بما فيها من فساد . . أما البلاد التي هي بالمعنى الثاني - أي غير الإسلامية - فقد بينا حكم السفر إليها في الجواب الأول .
223 ـ ما هي نصيحتكم للآباء الذين يرسلون أبناءهم للخارج في الصيف بحجة دراسة اللغة الإنجليزية أو السياحة ؟ وما هي نصيحتكم لمن يسافرون للخارج ؟
نصيحتي لهؤلاء الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم، فإنهم أمانة في أعناقهم يُسألون عنها يوم القيامة، فلا يجوز لهم المغامرة بهؤلاء الأبناء بإرسالهم إلى بلاد الكفر والفساد خشية عليهم من الانحراف، وتعلم اللغة الإنجليزية إن كانوا بحاجة إليها أمكنهم تعليمهم إياها في بلادهم بدون سفر إلى بلاد الكفار، وأعظم من هذا خطر إرسالهم للسياحة . والسفر لهذا الغرض محرم كما سبق في الجواب الأول .(45/46)
ونصيحتي لمن يسافرون للخارج ممن يجوز لم السفر شرعًا أن يتقوا الله ويحافظوا على دينهم ويظهروه ويعتزوا به ويدعوا إليه ويبلغوه للناس، وأن يكونوا قدوة صالحة يمثلون المسلمين تمثيلاً صحيحًا، وأن لا يبقوا في بلاد الكفار أكثر من الحاجة الضرورية . . والله أعلم .
224 ـ يوجد لدي خادمة غير مسلمة وزودتها بالكتب والأشرطة الإسلامية حسب لغة بلادها لعل الله يهديها للإسلام، ولكنها امتنعت عن ذلك، هل برئت ذمتي في ذلك خاصة وأنها جيدة في عملها وأمينة ؟
لا يجوز استقدام الخادمة غير المسلمة لما في ذلك من الخطر على عقائد الأسرة وأخلاقهم، فالواجب عليك أن لا تعيد استقدامها مرة أخرى، بل إن استقدام النساء بدون محارمهن لا يجوز ولو كن مسلمات لما في ذلك من المحاذير الظاهرة، فإذا كنت مضطرًّا لاستقدام خادمة فلتكن مسلمة ومع محرمها .
225 ـ أعمل في شركة تضم موظفين غير مسلمين، وفي كل صباح يحيي بعضنا بعضًا لكني سمعت أن تحية غير المسلمين لا تجوز فهل هذا صحيح ؟ وهل هنا فرق بين السلام والتحية المعتادة كصباح الخير أو نحوها ؟
لا يجوز للمسلم أن يبدأ الكافر بالسلام، ولكن إذا بدأه الكافر به فإنه يرد عليه بأن يقول : ( وعليكم ) كما أرشد إلى ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) . وذلك لأن السلام ينبئ عن المودة والمحبة في القلب، ولا يجوز للمسلم أن يحب الكافر؛ لأن الله لا يحب الكافرين، ونهى المؤمنين عن محبتهم فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ } [ سورة الممتحنة : آية 1 ] وكل ألفاظ التحية سواء في التحريم مثل صباح الخير ونحوها لعموم الأدلة، ولأن ذلك يدل على المحبة .(45/47)
226 ـ لقد هداني الله وأدخلني دين الحق والإسلام على أيدي بعض الشيوخ السودانيين، وتبع ذلك تغيير اسمي من عبد الصليب إلى عبد الله، ولكن ذلك لم يرضِ والدي الذي أمرني ألا أعتدي على اسمه واسم العائلة، وقد احتد بيني وبينه الخلاف مما جعلني أغادر مكان إقامة والدي وأهاجر إلى هذه الديار الكريمة؛ إلا أنني مازلت في حيرة من أمري هل الإسلام يطالبني بإرضاء والدي والعمل على طاعته ولو كان مسيحيًّا ؟ أم يطالبني بأن أتجاهل ما قاله لي الوالد علمًا بأن والدي مسيحي ومازال يتعصب للمسيحية، واسمي السابق كان عبد الصليب ؟
أولاً : نشكر الله سبحانه وتعالى على ما وفقك من معرفة الحق والدخول في دين الإسلام الذي هو الدين الحق، والذي كلف الله به جميع أهل الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم أن يتركوا ما هم عليه، وأن يدخلوا في هذا الدين الحق، الذي هو دين الله سبحانه وتعالى الذي ارتضاه لنفسه، فنشكر الله أن وفقك لهذا الخير العظيم، ونسأل الله أن يثبتك على دين الإسلام .
وأما من ناحية تغيير الاسم من عبد الصليب إلى عبد الله فهذا هو الواجب عليك؛ لأنه لا يجوز أن يُعَبَّدَ أحد لغير الله عز وجل فلا يقال : عبد الصليب، ولا عبد المسيح، ولا عبد الرسول، ولا عبد الحسين، قال الإمام ابن حزم : ( أجمعوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب ) (2).(45/48)
وأما المسألة الثانية : وهو علاقتك بوالدك فالله سبحانه وتعالى أوجب بر الوالدين بالمعروف والإحسان ولو كانا كافرين، وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ سورة لقمان : الآيتين 14، 15 ] فيجب عليك أن تحسن إلى والديك الإحسان الدنيوي .
وأما في الدين فأنت تتبع الدين الحق ولو خالف دين آبائك، مع الإحسان للوالدين من باب المكافأة فأنت تحسن إليهما وتكافئهما على معروفهما ولو كانا كافرين، فلا مانع أن تواصل والدك وأن تبر به وأن تكافئه؛ ولكن لا تطيعه في معصية الله عز وجل .
227 ـ هل تجوز الصلاة على صاحب جنازة نعرف أنه يعتقد في الأولياء أنهم ينفعون أو يضرون ويستغيث بهم، ويفعل أفعالاً كلها في حكم الإسلام شرك، فهل تجوز الصلاة على من مات على هذه الحالة ؟ أو كان لا يصلي إلا في المناسبات العامة كالأعياد ونحوها ؟
من مات على هذه الحالة التي ذكرتها من الشرك الأكبر والاستغاثة بالأموات والاعتقاد فيهم أنهم ينفعون أو يضرون، أو كان تاركًا للصلاة متعمدًا لتركها ومات على هذه الحالة فهذا كافر لا يُصلى عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين، قال الله سبحانه وتعالى في المنافقين : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ سورة التوبة : آية 84 ] ، فمن مات على الكفر والشرك بالله فإنه لا يُصلى عليه ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين .(45/49)
فإذا كنت متأكدًا أنه مات على هذه الحالة ولم يتب فإنك لا تُصلي عليه؛ لأنه مستمر على الشرك الأكبر الذي ذكرته، أو أنه مصر على ترك الصلاة متعمدًا، ومات على ذلك فهذا لا يُصلى عليه كما ذكرنا - والعياذ بالله - لأنه مات على الكفر والشرك .
228 ـ يوجد في قريتنا جامع ليس له إمام بل يؤم الجماعة كل من تتوفر فيه شروط الإمامة والجماعة، الذين يصلون في هذا الجامع أكثرهم من أهل البدع والضلالات - والعياذ بالله - ويميلون إلى الدروشة والصوفية، وعندما نقدم لهم النصيحة ونناقشهم بالكتاب والسنة النبوية لا يقبلون بذلك بل كل واحد منهم على مذهب، وعندما يسألوني : أنت على أي مذهب ؟ أقول لهم : إني على كتاب الله وسنة رسوله وما صح من الأحاديث فهو مذهبي، وآتي لهم بالأدلة من الكتاب والسنة فلا يقبلون، ويقولون : إنك لابد لك أن تتبع مذهبًا معينًا، والذي ليس على مذهب معين فإن عمله باطل غير صحيح، وإذا طال النقاش معهم تكثر الخلافات والمشاكل بدون فائدة، فهل يجوز السكوت عن ذلك وتركهم في أهوائهم وفي غيِّهم ؟ وهل يجوز ترك الصلاة معهم في المسجد مع العلم أني أسمع الأذان ولا أصبر على ذلك ؟ وإذا ذهبت إلى الجامع يقدموني للإمامة، وإذا صليت بهم يشركوني في بدعهم، فماذا أعمل كي أتخلص من ذلك ؟ أفتوني جزاكم الله خيرًا .
هذا السؤال يتكون من عدة نقاط : -(45/50)
النقطة الأولى : سؤال عن إمامة المبتدع ؟ المبتدع بدعة يكفر بها أو يفسق بها لا تصح إمامته، إذا كانت بدعته مكفرة أو مفسقة لا تصح إمامته، فإذا كان هؤلاء يزاولون بدعًا في الدين تؤول بهم إلى الكفر كالاعتقاد في الأولياء والصالحين أنهم ينفعون أو يضرون أو ما عليه غالب الصوفية المتطرفة من الاعتقاد في مشايخهم وأصحاب الطرق الذين يشرعون لهم من الأذكار والدين ما لم يأذن به الله، ويأتون بأذكار قد تشتمل على الشرك ودعاء الأموات ودعاء المخلوقين من دون الله، فمثل هؤلاء لا تصح إمامتهم ولا تجوز الصلاة خلفهم .
أما ما ذكرت من أنك تناصحهم وأنهم لا يقبلون، فالواجب عليك بذل النصيحة والبيان، وأما القبول والهداية فهذا بيد الله سبحانه وتعالى، أما أنت فما عليك إلا البيان والنصيحة والتكرار على هذا، لأن هذا من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ومن إنكار المنكر .
وأما ما ذكرت من التمذهب بمذهب معين فهذا فيه تفصيل : إذا كان الإنسان عنده المقدرة على معرفة الحق ومعرفة الحكم بدليله فهذا لا يتمذهب بمذهب معين، إنما يرجع إلى الكتاب والسنة ولكن هذا في الحقيقة منصب المجتهدين، والغالب على أهل هذا الزمن أنهم لا يبلغون هذه المرتبة أما من كان دون ذلك بأن كان لا يستطيع معرفة الحكم بدليله من الكتاب والسنة، فإنه يقلد أحد المذاهب الأربعة السنية، ويأخذ به ما لم يظهر له من بعض أقوالهم مخالفة الدليل، فإذا ظهر له قول مخالف للدليل فإنه يتركه ويأخذ بالقول الموافق للدليل من المذهب أو من غيره، والتمذهب بمذهب من المذاهب الأربعة ليس ممنوعًا مطلقًا، وليس جائزًا مطلقًا، إنما يجوز عند الحاجة بشرط ألا يأخذ بالأقوال المخالفة للدليل من ذلك المذهب وإنما يأخذ ما لا يخالف الدليل .(45/51)
وأما النقطة الأخيرة وهي أنهم إذا ذهبت إليهم يقدمونك للصلاة هذا شيء طيب، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب عليك أن تذهب لتصلي بهم على السنة وعلى الطريقة الصحيحة، إذا كانوا يقدمونك للصلاة، فإنه يجب عليك أن تذهب وأن تصلي بهم، وأن تدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا تشاركهم في البدع ولا تطع أقوالهم وهم لا يلزمونك في هذا، فعليك أن تذهب وأن تصلي بهم على وفق السنة وأن تناصحهم، وأن تدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا تدخل معهم في بدعهم بل أنكر عليهم وامتنع من مشاركتهم .
229 ـ ذكر الفسوق والفاسقون مرات عديدة في القرآن والسنة فمن ذلك قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ سورة الحجرات : آية 7 ] فما الفسوق ؟ وكيف يحذر المسلم من أن يكون مع القوم الفاسقين ؟
قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ سورة الحجرات : آية 7 ] ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنواع المعاصي الثلاثة، المعاصي التي تخرج من الملة كالكفر . والمعاصي التي لا تخرج من الملة ولكنها تنقص الإيمان نقصًا ظاهرًا كالزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، وسميت فسوقًا وصاحبها فاسق؛ لأن الفسق معناه الخروج عن طاعة الله عز وجل .
وذكر المعاصي التي هي دون الكبائر ولا تقتضي الفسق وهي صغائر الذنوب . . فأخبر سبحانه وتعالى أنه كرَّه هذه الأنواع الثلاثة إلى أهل الإيمان وحبَّب إليهم أنواع الطاعات والقربات .
230 ـ إذا هَمَّ المسلم بارتكاب معصية ثم لم يتمكن من فعلها وحيل بينها وبينه، فهل تكتب عليه معصية ؟
إذا هَمَّ الإنسان بمعصية ثم لم يفعلها خوفًا من الله تعالى، فإنها تكتب له عند الله حسنة كاملة، وإن لم يفعلها، لأنه لم يتمكن من فعلها ولو تمكن لفعلها، فإنها تكتب له عند الله سيئة بناء على نيته الخبيثة، وإن لم يفعلها لأنه نسيها فهذا لا له ولا عليه .(45/52)
دليل الحالة الأول قوله صلى الله عليه وسلم : ( من هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له عند الله حسنة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/187 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( وهو حديث قدسي ) ] .
ودليل الحالة الثانية قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قالوا : يا رسول الله هذا شأن القاتل فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 7/125 ) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1311 ) من حديث أبي موسى رضي الله عنه ] .
وتعليل الحالة الثالثة : أنه لم ينو خيرًا ولم يفعل شرًّا .
231 ـ أنا شاب - والحمد لله - محافظ على الصلاة وباستمرار، ولكن هناك زملاء وأقارب وجيران لا يصلون في المسجد أبدًا مع جماعة المسلمين، وأنا أجالسهم وأزاورهم مع أنني أكره فعلهم ذلك، ولكني أحببت نصيحتكم لي في هذا الشأن وحكم زيارتهم مع أنني نصحتهم مرارًا ولم ينتصحوا بذلك ؟
أما كونك محافظًا على الصلاة فالحمد لله على ذلك ونسأله سبحانه أن يثبتنا وإياك على دينه، وأن يجعلنا وإياك من المحافظين على صلواتهم .
وأما ما ذكرت من أن لك أقارب لا يحافظون على الصلوات، وأنك تجالسهم وتخالطهم فهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل :
أولاً : إذا كانت مخالطتك لهم مع بذلك للنصيحة وإنكار للمنكر ورجاء أن يتوبوا وأن تؤثر عليهم، فإن الواجب عليك أن تخالطهم، وأن تزورهم وأن تناصحهم، وأن تدعوهم إلى الله عز وجل حتى لو لم يكونوا أقارب . فالأمر آكد .(45/53)
أما إذا كان نصحك لا يجدي فيهم ولا يتأثرون ففارقهم خصوصًا إذا كانت مفارقتك لهم واعتزالك لهم فيه مصلحة بأن يدركوا خطأهم ويتأثرون من هجرك لهم، فإنه يجب عليك أن تهجرهم وألا تزورهم، وإن كانت مفارقتك لهم تزيدهم شرًّا وفي مخالطتك لهم تخفيف من شرهم، فخالطهم وناصحهم، وعلى كل حال لا تيأس من مناصحتهم وبذل الدعوة لهم لعل الله سبحانه أن يهديهم .
232 ـ أنا شاب عمري اثنتا عشرة سنة، أصوم وأصلي وأقرأ القرآن الكريم، والحمد لله، ولي أخذ أكبر مني بخمس سنوات ولكنه للأسف لا يصلي ولا يصوم ولا يقرأ القرآن الكريم، ومع ذلك فهو مداوم على لعب القمار، وصار له على هذه الحالة عمر طويل، وحينما أنصحه وأُبيّن له أنه على خطأ، وأن فعله هذا حرام ولا يجوز، يقول لي : أنت على حق وليتني أكون مثلك، ولكنني لا أقدر على ترك لعب القمار . فماذا أفعل له؛ هل أطرده من البيت علمًا أن ذلك قد يجلب المشكلات ؟ وبم تنصحونه جزاكم الله خيرًا ؟
ما ذكرت من أن أخاك يلعب القمار وما هو أشد منه وهو أنه لا يصلي ولا يصوم، فترك الصلاة وترك الصيام أشد من لعب القمار، وإن كان لعب القمار كبيرة من كبائر الذنوب، ومحرم شديد التحريم ولكن ترك الصلاة أشد من هذا؛ لأن ترك الصلاة إن كان ممن يجحد بوجوبها فهو كفر بإجماع المسلمين، وإن كان ترك الصلاة ممن يعترف بوجوبها، ولكنه تركها تكاسلاً وتهاونًا فهو كافر على الصحيح من قولي العلماء . وكذلك تركه لصيام رمضان قد ترك ركنًا من أركان الإسلام وهذا أشد من لعب القمار .(45/54)
فالحاصل أن ما ذكرت من حال أخيك أمر فظيع ولا يجوز إقرارك له في البيت إذا كان لك سلطة على البيت إذا لم تُجْدِ فيه النصيحة ولم يرتدع عما هو عليه ويؤدي الصلاة والصيام كما أوجب الله، وتجنب ما حرم الله، فإذا كان لك سلطة في البيت فإنه يتعين عليك أن تتخذ معه الإجراء الذي تسلم به من شره وإثمه، وما ذكرت من أن هذا يحدث مشكلات، فالمشكلات موجودة ببقائه في البيت وهو لا يصوم ولا يصلي ويلعب القمار، هذه مشكلات أعظم من المشكلة التي تحصل بطرده من البيت .
فالحاصل أنه إذا كان بإمكانك معالجته بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا له تأثير عليه في إصلاحه وتوبته فلا تبخل عليه بذلك ولا تيأس من هدايته، وأما إذا كان ذلك لا يجدي، فحينئذ فراقه هو المتعين .
233 ـ هناك مجتمعات قائمة على الاختلاط . . فهل على المسلم أن ينأى بنفسه عن هذا المجتمع في حين أنه لا يملك التغيير . . كذلك هل يتعامل مع كل وسائل اللهو أم يمنع نفسه . . أم ماذا يفعل ؟
لا شك أن غالب المجتمعات البشرية في العالم الآن تموج بأنواع من الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف المسلم من هذه الفتن وتلك المستجدات يجب أن يكون موقف المسلم الصحيح . . فإذا كان يترتب على اختلاطه بهذه المجتمعات أن يتمكن من أن يغير شيئًا منها وأن يدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الصواب، فهذا أمر مطلوب وهو من مقاصد الدعوة .(45/55)
أما إذا كان ليس باستطاعته التأثير عليهم بل في اختلاطه هذا خطر عليه وعلى ذويه . . فعليه أن يهاجر بأن ينتقل إلى بلاد أخرى يمكن فيها ذلك . فالله عز وجل وسَّع المجالات وعَدَّد الفرص، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ سورة الطلاق : الآيتين 2، 3 ] فعلى الإنسان ألا يبدي العجز . . فالله قد تكفل بالأرزاق وجعل مع العسر يسرًا ومع الكرب فرجًا، ولهذا فالإنسان عليه أن يحسن الظن بالله ويتوكل عليه ويخشاه . . فالله قد وعد باليسر للمسلم وهو لا يخلف وعده .
والسفر إلى بلاد الكفار فيه مخاطر على دين الإنسان، فإذا كان ليس مضطرًا إليه فلا يسافر، وإن كانت هناك ضرورة له فعليه أن يتقي الله حسب استطاعته { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] فالإنسان الذي يلقي نفسه في الخطر ولا يأخذ بالأسباب الواقية، فهذا هو الذي يضيع نفسه، أما الذي يواجه الخطر بالأسباب الواقية بتقوى الله والتزام طاعته، والابتعاد عن الشر مهما أمكن فهذا حري أن يوفق ويحفظ .
234 ـ لي أقارب يشربون الدخان، وربما حضروا لمنزلنا أو ذهبنا إليهم فنجالسهم وهم يشربون الدخان، فما حكم مجالستنا لهم ؟
شرب الدخان محرم ومنكر؛ لأنه خبيث مضر، والواجب نصيحة من يشربه والإنكار عليه، وإذا كان في عدم مجالسته ردع له وحافز له على تركه فإنه لا يجالس حتى يتركه .
ومهما ابتعد الإنسان عن مجالسة العصاة فإنه أحسن له إلا إذا كان يجالسهم لنصيحتهم ووعظهم وتذكيرهم، فهذا مأمور به لما فيه من المصلحة للطرفين .(45/56)
235 ـ أنا امرأة متزوجة من خمسة أعوام ولي بنت واحدة، وأحمد الله كثيرًا أنني من المسلمين وفي بلد مسلم يطبق أحكام دينه ولا يخاف في الله لومة لائم، فأنا حريصة على ديني فقد كنت في السابق وقبل زواجي أستمع لمزمار الشيطان ( الأغاني والموسيقى ) ولكن بعد معرفتي أنها حرام ولا يجوز لنا الاستماع إليها وأنه لا يجتمع إيمان وسماع الأغاني في قلب مؤمن، تركتها واتجهت إلى خالقي بالتوبة النصوح الخالصة من كل نفاق أو رياء .
ولكن لي إخوة خمسة أصغرهم عمره 12 سنة وأكبرهم 30 سنة وكذلك أبي - هداهم الله - لا يصلون ولا يصومون، وأبي كل أمواله ربًا في ربًا، والله لم يبارك فيها فكلها تذهب في الأشياء التي لا فائدة منها مثل الأفلام الخليعة والتلفزيونات فلكل غرفة تلفزيون، وعلى الرغم من أنه يملك الملايين لم نر منه إلا نكد العيش والفقر الشديد، وكل أمواله تذهب في شراب الخمر، وكل إجازة سعيدة يقلبها إلى أحزان وهَمٍّ بشربه لهذا المسكر، وتكون الأسرة مشتتة لبضعة أيام فهو يقوم بضرب أفراد الأسرة حين شربه للمسكرات .
والسؤال : ماذا أفعل أنا معهم ؟ فأنا خائفة عليهم من دخول النار لأنهم أبي وإخواني وأهلي ودائمًا أطلب لهم الهداية والاستقامة في كل صلاة ؟
وإني أتمنى أن يكون هناك اهتمام من مراكز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا الشأن وترسل أناسًا للمساجد لتقصي أحوال الناس الذين يتخلفون عن الجماعة ويذهبون إليهم ويهدونهم لعل الله يكتب على أيديهم الهداية لهم . . وجزاكم الله خيرًا .(45/57)
الواجب على المسلم أن يبادر بالتوبة إلى الله من المعاصي ولا يتمادى في فعلها لئلا ينزل به الموت وهو مقيم عليها، فتسبب له دخول النار، وترك الصلاة كفر وشرب الخمر فسق . والواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما في حق الأقارب . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة التحريم : آية 6 ] وقال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [ سورة الشعراء : آية 214 ] ، وقال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [ سورة طه : آية 132 ] .
فالواجب على السائلة تجاه والدها وإخوانها مواصلة النصيحة لهم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا تيأس من هدايتهم وتستعين بغيرها من أقاربهم وجيرانهم في نصيحتهم، وإذا أمكن إبلاغ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلد عن حالهم من أجل إلزامهم بطاعة الله ورسوله وترك المعاصي فهذا أمر واجب . . والله أعلم .
236 ـ ما الحكم في التلفظ بكلمة فيها لعن لشخص آخر ؟(45/58)
لا يجوز التلفظ باللعن والسب والشتم والتنقص للناس قال تعالى : { وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } [ سورة الحجرات : آية 11 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن المؤمن كقتله ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " عن ثابت بن الضحاك ( 7/223 ) وأوله : ( من حلف بغير ملّة الإسلام . . . ) ] وقال : ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 6/199 ) من حديث عبد الله رضي الله عنه ] فالمؤمن من يصوم لسانه من التفوه بالسباب والشتم، وأشد ذلك اللعن، فإن اللعنة إذا صدرت منه إلى غير مستحق فإنها تعود عليه كما أخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (3) فإن اللعنة ترجع على من قالها إذا كان من أصدرت إليه لا يستحقها، فلا يجوز للمؤمن أن يستعمل اللعن لا في حق الآدميين ولا في حق البهائم ولا في حق المساكين ولا غير ذلك فإن هذه الكلمة شنيعة وقبيحة لا تليق بالمسلم .(45/59)
16 ـ المصطلحات العقيدية
237 ـ ماذا يعني الأمن من مكر الله ؟ وهل المؤمن العامل منهي عن الأمن من مكر الله، والله وعده بالخير العظيم والأجر الكريم ؟ وكيف نجمع بين النهي عن أمن مكر الله وبين إحسان الظن بالله ؟
يجب على المؤمن أن يكون خائفًا راجيًا، لا يطغى عليه جانب الرجاء حتى يأمن مكر الله، لأن الله تعالى يقول : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ سورة الأعراف : آية 99 ] ، فالأمن من مكر الله يحمل على فعل المعاصي وعدم الخوف من الله تعالى، وكذلك لا يطغى عليه جانب الخوف حتى ييأس من رحمة الله، فإن اليأس من رحمة الله كفر، قال تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ سورة الحجر : آية 56 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ سورة يوسف : آية 87 ] .
وإحسان الظن بالله لابد معه من تجنب المعاصي وإلا كان أمنًا من مكر الله، فحسن الظن بالله مع فعل الأسباب الجالبة للخير وترك الأسباب الجالبة للشر هو الرجاء المحمود .
وأما حسن الظن بالله مع ترك الواجبات وفعل المحرمات، فهو الرجاء المذموم وهو الأمن من مكر الله .
238 ـ قال سبحانه مخاطبًا الكفار وهم في النار : { الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [ سورة الجاثية : آية 34 ] ، وقال سبحانه في آية أخرى : { فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى } [ سورة طه : آية 52 ] ، فكيف نجمع بين الآيتين ؟
معنى النسيان المذكور في الآيتين مختلف، فالنسيان الذي نفاه الله عن نفسه هو النسيان الذي هو بمعنى الغفلة والذهول، والله سبحانه منزه عن ذلك، لأنه نقص وعيب .(46/1)
أما النسيان المثبت لله في قوله تعالى : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ سورة التوبة : آية 67 ] ، فمعناه : تركهم في الضلال وإعراضه سبحانه عنهم، وذلك من باب المقابلة والمجازاة، فإنهم لما تركوا أوامره وأعرضوا عن دينه تركهم الله وأعرض عنهم، وكلمة النسيان لفظ مشترك يفسر في كل مقام بحسبه وعلى مقتضاه اللغوي، وهذا مثل مكره سبحانه بالماكرين، وسخريته من الساخرين، واستهزائه بالمستهزئين كله من باب المجازاة والمقابلة وهو عدل وكمال منه سبحانه .
239 ـ هل هناك فرق بين الحمد والثناء على الله وتمجيد الله ؟ وأيهما أبلغ ؟
الحمد والثناء على الله لا فرق بينهما، فالحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، والله سبحانه يحمد لذاته ولصفاته ولأفعاله الدائرة بين العدل والفضل، فما بالعباد من نعمة إلا منه سبحانه وتعالى .
240 ـ قرأت حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : قلت : يا رسول الله إني أكثر الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال : ( ما شئت ) ، قال : فقلت : الربع، قال : ( ما شئت وإن زدت فهو خير لك ) ، قال : فقلت : الثلث، قال : ( ما شئت فإن زدت فهو خير لك ) ، قال : فقلت : النصف، قال : ( ما شئت وإن زدت فهو خير لك ) ، قال : أجعل لك صلاتي كلها، قال : ( إذن يكفى همك ويغفر ذنبك ) ، فهل هذا الحديث صحيح بهذا اللفظ ؟ وما معناه ؟ وما المقصود بجعل الصلاة للرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذا الحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح (1) .(46/2)
والمراد بالصلاة هنا الدعاء، فأُبي بن كعب رضي الله عنه كان يكثر من الدعاء، ومعنى الحديث أنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل يجعل ربع دعائه أو نصفه أو كل دعائه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني : يستبدل الدعاء الذي كان يدعو به بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه إذا جعل دعاءه كله صلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يكفى همه ويغفر ذنبه؛ لأن من صلى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، ومن صلى الله عليه فقد كفاه همه وغفر له ذنبه، فهذا الحديث فيه فضيلة الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
241 ـ يطلق على بعض الناس صفة أولياء الله، فما هي صفتهم الحقيقية ؟ وكيف وصلوا إلى هذه المرتبة ؟ وهل لهم زمن محدد أم أنهم يوجدون في كل زمان ؟
صفة أولياء الله كما حددها الله تعالى بقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ سورة يونس : الآيتين 62، 63 ] ، فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون هذه صفتهم، فمن اتصف بالإيمان والتقوى هو من أولياء الله عز وجل، وهذه حاصلة لكل مسلم بحسب إيمانه وبحسب تقواه لله عز وجل، فالمسلمون أولياء الله عز وجل وهم يتفاوتون في هذه الولاية بحسب قوة إيمانهم وضعفه وبحسب أعمالهم الصالحة، وكلما قوي إيمانهم وكثرة أعمالهم الصالحة وتقواهم لله عظمت ولايتهم لله عز وجل .(46/3)
وهم - والحمد لله - يوجدون في كل زمان ما وجد المسلمون على وجه الأرض، فما دام أن المسلمين موجودون على وجه الأرض فإنهم أولياء الله عز وجل، فأولياء الله هذه صفتهم، ولكن ليس معنى هذا أننا نعتقد فيهم كما يعتقد الخرافيون من أن أولياء الله يتصرفون في الكون، أو أن لهم شيئًا من الأمر والتدبير مع الله سبحانه وتعالى، وأنهم يجيبون مَنْ دعاهم، ويفكون حاجة من استغاث بهم، وهم أموات، فيلجئون إلى قبورهم وأضرحتهم يتبركون بها وينادون أصحابها، وهم أموات، ويطلبون منهم قضاء الحوائج، فإن هذا شرك أكبر، وأولياء الله على حقيقة لا يرضون بهذا، ولا يرضى به مؤمن، فإن هذا هو الشرك الأكبر .
ولكننا نحب أولياء الله ونقتدي بهم في أعمالهم الصالحة، ونترحم عليهم، ونستغفر لهم، أما أننا نتخذهم أربابًا من دون الله عز وجل فهذا هو الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة .
242 ـ ما معنى السيادة ؟ وكيف تتحقق ؟ وبم تتم ؟ ومن هو السيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
السيد يطلق ويراد به المالك، ويطلق ويراد به زعيم القوم ورئيسهم كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم ) : يعني سعد بن معاذ [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/28 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] .(46/4)
وإطلاق لفظ السيد على الشخص فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من منع، ومنهم من أجاز، والذي منعوا احتجوا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قال له بعض الناس : أنت سيدنا وابن سيدنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما السيد الله ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/24، 25 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/255 ) ، ورواه البخاري في " الأدب المفرد " ( ص85 ) ( حديث رقم 211 ) ، كلهم من حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنهم ] ، فأنكر عليهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، قالوا : فهذا يدل على أنه لا يجوز إطلاق السيد على المخلوق؛ لأنه وصف للخالق، وقوم أجازوه واحتجوا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/28 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] لما أقبل وكان يحمل على دابة، لأنه كان جريحًا، فهذا يدل على جواز إطلاق السيد على بعض الناس .
والقول الصحيح - إن شاء الله - أنه يجوز أن يُقال لبعض الناس : سيد إذا كان زعيمًا أو رئيسًا في قبيلته، فيقال : سيد بني فلان، أو سيد القبيلة الفلانية بمعنى أنه زعيمها ورئيسها، ولا يكون هذا للإطراء والغلو، وإنما يكون من باب الوصف والتميز، يقال : فلان سيد بني فلان، لكن لا يواجه به الشخص أو في حضوره؛ لأنه يحمله على الكبر والعجب، بل يقال في غير حضوره جمعًا بين الأحاديث .
أما ما يتعارف عليه بعض المنحرفين اليوم من إطلاق السيد على بعض المضللين من زعمائهم، ويعتقدون منهم البركة، وأنهم يمنحون شيئًا من المقاصد التي تطلب منهم فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا يجوز، وهؤلاء في الحقيقة ليسوا سادة، وإنما هم مضللون يجب الحذر منهم .
243 ـ بعض الشخصيات الإسلامية عُرفت باسم الإمام، كالإمام علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وابن تيمية، والغزالي وغيرهم، لماذا خص هؤلاء بهذا اللقب ؟(46/5)
الإمام من معانيه : القدوة - كالإمام في الصلاة، والإمام في العلم - وتلقيب بعض الشخصيات العلمية بالإمام من أجل علمه وصلاحه لا بأس به، قال تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ سورة البقرة : آية 124 ] وقال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ سورة السجدة : آية 24 ] ، وقال تعالى عن عباد الرحمن أنهم يقولون في دعائهم : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ سورة الفرقان : آية 74 ] أي : اجعلنا قدوة في الخير .
أما من لم يتصف بالعلم والعمل، فإنه لا يلقب بهذا اللقب إذا أريد به الإمامة في الدين .
244 ـ يقول المولى تبارك وتعالى في محكم التنزيل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ سورة الحجرات : آية 12 ] .
فهل يعني قوله : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ سورة الحجرات : آية 12 ] يعني أن الإنسان يظن بأخيه المسلم ظنًّا وهو لا يعلم هل صدر منه ذلك الأمر أم لا، فيقول : إن الله لم ينه عن الظن كله مثلما نهى عن الزنى حيث قال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى } [ سورة الإسراء : آية 32 ] لم يقل : بعض الزنى، فهل هذا يعني أن الظن إلزام على كل الناس ؟(46/6)
الظن المنهي عنه هنا هو مجرد التهمة التي لا دليل عليها كمن يتهم غيره بالفواحش، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، ونهيه سبحانه عن كثير من الظن من أجل أن يتثبت الإنسان ولا يندفع مع الظنون من غير تثبت لئلا يقع في الظن الذي فيه الإثم، ولم ينه عن كل الظن؛ لأن من الظن ما يجب اتباعه والأخذ به، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن كدلالة القياس ودلالة العموم، والظن المنهي عنه كأن يظن بأهل الخير سوءًا، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم شرًّا حسبما يظهر منهم، والله أعلم .
245 ـ سوء الظن من أمراض القلوب فما حقيقته وأسبابه وطرق علاجه ؟
سوء الظن فيه تفصيل على النحو التالي :
1ـ سوء الظن بالله تعالى كفر، قال تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } [ سورة آل عمران : آية 154 ] ، وقال تعالى في المنافقين : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ سورة الفتح : آية 6 ] .
2ـ سوء الظن بالمؤمنين والأبرياء وهذا لا يجوز، لأنه ظلم للمؤمن والمطلوب من المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، وسوء الظن بالمسلم يسبب البغضاء بين المسلمين .
3ـ سوء الظن بأهل الشر والفساد وهذا مطلوب؛ لأنه يسبب الابتعاد عنهم وبغضهم .
246 ـ ما هو الحسد ؟ وكيف يتلافى المسلم أن يكون حسودًا ؟ وكيف يدرؤه المسلم عن نفسه وعن أهله ؟ وهل القول الشائع : لا يحسد المال إلا صاحبه - أي إن الشخص يمكن أن يحسد نفسه أو أحدًا من أهله - صحيح ؟ وكيف ذلك ؟
الحسد : هو تمني زوال النعمة عن المحسود، وهو صفة ذميمة؛ لأنه من صفات إبليس ومن صفات اليهود، ومن صفات شرار الخلق قديمًا وحديثًا، ولأنه اعتراض على الله في قدره، وعدم رضى بقسمته .(46/7)
ويدفع المسلم عن نفسه الاتصاف بالحسد بأن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يحب لأخيه المسلم من الخير ما يحبه لنفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/9 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، ويدفع الاتصاف بالحسد عن نفسه أيضًا بالسعي في الأسباب التي تجلب له الخير وتدفع عنه الشر، وبحسن الظن بالله ورجاء ما عنده .
ويدفع عن نفسه وعن أهله شر حسد الحاسدين بالاستعاذة بالله من شرهم، فقد أمر الله نبيه في سورة الفلق بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد، وكذلك يدفع شر الحاسدين بالصدقة والبر والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، خصوصًا عندما يحصل على مال، وعنده من ينظر إليه من المحتاجين فإنه يتصدق عليهم، ويدفع تطلعهم ونظرهم إلى ما بيده، والله أعلم .
247 ـ ما معنى هذا الحديث عن سفيان بن أسيد - أو ابن أسد - رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/295 ) من حديث سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه ] ؟
نعم معناه واضح في تحريم الكذب في الحديث؛ لأن هذا فيه تغرير بالمسلمين، وفيه استعمال كبيرة الكذب، لأن الكذب من الكبائر، والله تعالى يقول : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ سورة النحل : آية 105 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : { فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ سورة آل عمران : آية 61 ] .(46/8)
والكذب من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/14 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، فالكذب لا يجوز للمسلم أن يستعمله في حق أخيه المسلم ليغرر به وليخدعه، والله أعلم .
248 ـ نرجو إيضاح حقيقة الصبر ؟ وكيف يرد على من يضعف ويجبن في مواجهة الضلال ويقول : إن ذلك من الصبر؛ لأن الله تكفل بإظهار الحق وإعزازه ؟
الصبر في اللغة : الحبس والكف، وشرعًا : حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما .
وهو ثلاثة أقسام : صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة .
والجبن عن مواجهة الضلال وعدم مقاومته ضد الصبر؛ لأن الصبر هو تحمل المشقة في مواجهة الشدائد ومقاومتها، والله إنما تكفل بإظهار الحق وإعزازه إذا قام به أهله ودافعوا عنه، قال تعالى : { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ سورة محمد : آية 7 ] ، وقال تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ سورة الحج : آية 40 ] ، ونصر الله هو نصر دينه وكتابه ورسوله وأوليائه .
249 ـ ما معنى الطاغوت ؟ وهل كل طاغوت كافر ؟
الطاغوت في اللغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحق إلى الباطل، ومجاوزة الإيمان إلى الكفر وما أشبه ذلك، والطواغيت كثيرون، وكل طاغوت فهو كافر بلا شك .
والطواغيت كثيرون ولكن رءوسهم خمسة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم وغيره .
الأول : إبليس - لعنة الله - فإنه رأس الطواغيت، وهو الذي يدعو إلى الضلال والكفر والإلحاد ويدعو إلى النار فهو رأس الطواغيت .(46/9)
والثاني : من عبد من دون الله وهو راضٍ بذلك، فإن من رضي أن يعبده الناس من دون الله فإنه يكون طاغوتًا، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ سورة المائدة : آية 60 ] ، فالذي يعبد من دون الله وهو راضٍ بذلك طاغوت، أما إذا لم يرض بذلك فليس كذلك .
والثالث : من ادعى شيئًا من علم الغيب، فمن ادعى أنه يعلم الغيب فهو طاغوت؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [ سورة النمل : آية 65 ] ، والذي يدعي أنه يعلم الغيب يجعل نفسه شريكًا لله عز وجل في علم الغيب فهو طاغوت .
والرابع : من دعا الناس إلى عبادة نفسه، وهذا كما يفعل بعض أصحاب الطرق الصوفية والمخرفين الذين يسيطرون على عباد الله، ويجعلون لأنفسهم مقام الألوهية في أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم إلى آخره، ويستغل العباد ويترأس عليهم بالباطل .
والخامس : من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [ سورة النساء : آية 60 ] ، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله فهو يرى أن حكمه بغير ما أنزل الله أصلح للناس وأنفع للناس، أو أنه مساوٍ لما أنزل الله، وأنه مخير بين أن يحكم بما أنزل الله أو يحكم بغيره، أو أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهذا يعتبر طاغوتًا وهو كافر بالله عز وجل .
هذه رءوس الطواغيت، والله تعالى أعلم .(46/10)
250 ـ هل يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 5/137 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] التحذير من المبالغة في أساليب الكلام والتقعر في الكلمات واختيار الألفاظ ؟
قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 5/137 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] ، فهم منه بعض العلماء أنه من باب الذم لبعض الفصاحة، وذهب أكثر العلماء إلى أنه من باب المدح .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في " شرح كتاب التوحيد " : قلت : والأول أصح وأنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله، وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه حتى يتوهم السامع أنه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ونحو ذلك، فسماه سحرًا، لأنه يستميل القلوب كالسحر، ولهذا لما جاءه رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 5/137 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] ، كما رواه مالك والبخاري وغيرهما .
وأما جنس البيان فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكمًا، ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب أو تصوير الباطل في صورة الحق، فإذا خرج إلى هذا الحد فمذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها ) رواه أحمد وأبو داود [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/165 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/303 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/67 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ] . انتهى (2) .(46/11)
وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يتكلم بالكلام المتوسط المعتاد، والذي يفهمه السامع، ويحصل به المقصود، ويكره التقعر في الكلام، وفي الحديث الذي رواه مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2055 ) من حديث عبد الله رضي الله عنه ] . قالها ثلاثًا .
قال أبو السعادات : هم المتعمقون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم (3) .
وقال النووي : فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام (4) .
251 ـ ما معنى قوله تعالى في سورة الإسراء : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً، إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [ سورة الإسراء : الآيات 85-87 ] ؟
كانت اليهود قد قالت لمشركي قريش : اسألوا هذا الرجل - يعنون محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ - عن ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : عن أصحاب أهل الكهف .
المسألة الثانية : عن ذي القرنين .
المسألة الثالثة : عن الروح .
فإن أجابكم عنها فإنه نبي، نعم، الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله الإجابة عن هذه الأسئلة عن أصحاب الكهف، وذي القرنين .(46/12)
وأما الروح : فإن الله سبحانه وتعالى قال : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ سورة الإسراء : آية 85 ] ، فلم يجبهم إلى سؤالهم، بل بيَّن أنها من خصوصياته سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي خلقها، وهو الذي يعلمها ولا يعلمها أحد من الخلق، فهي سرٌّ من الأسرار، ولا تزال سرًّا، وهذا من معجزات القرآن، فإنه مع تقدم الطب والمهارة فيه ومع حرص الناس على البحث في هذا الشأن لم يعرفوا شيئًا عن حقيقة الروح : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ سورة الإسراء : آية 86 ] على أن المراد بالروح ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح، وإذا فارقه مفارقة تامة يكون ميتًا، وإذا فارقه بعض المفارقة يكون نائمًا، فالروح لها اتصالات بالبدن، اتصال بالبدن وهو في بطن أمه، واتصال في البدن بعدما يولد في الحياة الدنيا وهو متيقظ، واتصال بالبدن وهو نائم، واتصال بالبدن وهو في القبر، واتصال بالبدن في الدار الآخرة، وهذا الاتصال الأخير لا مفارقة بعده .(46/13)
فهذه الروح من العجائب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وقيل : المراد بالروح : جبريل عليه السلام، وقيل : المراد بالروح : ملك من الملائكة، أو جماعة من الملائكة، فعلى كل حال فالروح سرٌّ من أسرار الله لم يطلع عليها عباده سبحانه : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ سورة الإسراء : آية 85 ] ، فالبشر مهما أوتوا من العلم والمعارف فإن علمهم قليل أو لا شيء بالنسبة لعلم الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ سورة الإسراء : آية 86 ] يعني : القرآن؛ لأن الله جلَّ وعلا أنزل هذا القرآن نعمةً ومنةً على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى أمته، فهو من أكبر النعم : { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } [ سورة النساء : آية 113 ] ، فهو من أفضل النعم التي أنعم الله بها على هذا النبي الكريم وعلى أمته إلى يوم القيامة، لأن به سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، والله قادر على أن يرفع هذا القرآن، وأن يزيل هذه النعمة كما أنزلها، كما أنه هو الذي أنزلها قادرٌ على رفعها وذلك مما يوجب على العباد أن يشكروا الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة ليستفيدوا منها وينتفعوا بها .
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً، إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [ سورة الإسراء : الآيتين 86، 87 ] .
فهذا القرآن نزل بفضل الله وبرحمته، وإحسانه إلى خلقه، فهو قادرٌ على أن يرفعه وأن يزيله وأن يحرمهم من الانتفاع به، ولكنه سبحانه وتعالى تفضلاً منه على خلقه فإنه أنزله وجعله ميسرًا للفهم والتدبر .(46/14)
252 ـ ما معنى قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ سورة الزمر : آية 42 ] ؟ وقوله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } [ سورة الدخان : الآيات 10-13 ] ؟(46/15)
أما قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ سورة الزمر : آية 42 ] ، فهذا من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى الدالة على وحدانيته، وعلى أنه المتصرف في ملكه بما يشاء، وأولى الأقوال في تفسير هذه الآية أنه ذكر سبحانه أنه { يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ سورة الزمر : آية 43 ] يعني : عند انقضاء آجالها بأن يتوفاها بالموت، { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ سورة الزمر : آية 43 ] أي : ويقبض الأنفس التي لم تحن آجالها يقبضها ويتوفاها بالنوم، فذكر سبحانه وتعالى الوفاتين الكبرى وهي الموت، والوفاة الصغرى وهي النوم؛ لأن النوم وفاة كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } الآية [ سورة الأنعام : آية 60 ] ، والله ذكر في هذه الآية أنه يتوفى الأنفس بالموت ويتوفاها بالنوم، فالتي انتهت آجالها يتوفاها بالموت والانتقال من هذه الدنيا إلى دار الآخرة، والتي لم تتم آجالها ولها بقية من الحياة في الدنيا يتوفاها بالنوم، ثم يردها إلى أجسادها، ولهذا قال تعالى : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } [ سورة الزمر : آية 43 ] أي : التي توفيت بالنوم يرسلها إلى أجسادها فيستيقظ الإنسان ويقوم من نومه .
وقد جاء في تفسير الآية ما يوضح هذا، وهو أن الله سبحانه وتعالى يجمع أرواح الموتى وأرواح النائمين وتتلاقى وتتعارف وتختلط، ثم يمسك الله الأرواح التي قضى عليها بالموت في مكانها ويسمح للأخرى - أرواح النائمين - بالذهاب إلى أجسادها فيستيقظ صاحبها .
الثانية : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ سورة الدخان : آية 10 ] :(46/16)
لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى عن الكفار أنهم في شك يلعبون وأنهم لا تجدي فيهم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى قال الله متوعدًا لهم : { فَارْتَقِبْ } يعني : فانتظر، { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ سورة الدخان : الآيتين 10، 11 ] فهذه عقوبة لهؤلاء الكفرة الذين أعرضوا عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، واستمروا في كفرهم، وقد اختلف المفسرون في هذا، فقيل : إن ذلك ما أصاب كفار قريش من المجاعة لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : ( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/19 ) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وللحديث قصة، وورد عن مسلم ( 1/467 ) بلفظ : ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، فأرسل الله عليهم المجاعة والقحط حتى صار الرجل ينظر إلى السماء فيرى كأن دونها دخان من شدة الجوع والجهد، إلى أن فرَّج الله عنهم، وهذا ما رجحه الإمام الشوكاني في " تفسيره " (5) .
وقيل : إن المراد بالدخان هنا هو دخان يكون في آخر الزمان، صح به الحديث أيضًا (6) ، وهو من علامات الساعة يملأ الأرض، ويمكث أربعين يومًا وهو من أشراط الساعة، فهو المراد في هذه الآية، وهذا ما رجحه ابن كثير (7) .
والظاهر - والله أعلم - أنه لا تعارض بين القولين أن هذا حصل، وهذا سيحصل، وكلا الدخانين من آيات الله، وكلاهما عقوبة .
253 ـ ما هي أنواع النفوس ؟ وما طريق تزكيتها ومداراتها كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ سورة الشمس : آية 9 ] ؟
أنواع النفس المذكورة في القرآن الكريم ثلاثة : النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة .
فالأمارة بالسوء : هي التي تأمر صاحبها بما تهواه من الشهوات المحرمة واتباع الباطل .(46/17)
وأما اللوامة : فهي التي تلوم صاحبها على ما فات من الخير وتندم عليه .
وأما المطمئنة : فهي التي سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه .
قال العلامة ابن القيم : فكونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه (8) .
وطريق تزكية النفس إلزامها بطاعة الله تعالى، ومنعها من معصيته، ومنعها من شهواتها المحرمة .
254 ـ ما هي مصائد الشيطان وحباله ؟
مصائد الشيطان : كل المعاصي والشهوات المحرمة والوساوس وضعف الإيمان ومصاحبة الأشرار، وكل الوسائل والذرائع المفضية إلى المحرمات، كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من النساء والصور الخليعة والأفلام الماجنة، والاستماع إلى ما لا يجوز الاستماع إليه من الأغاني والمزامير، والغيبة والنميمة، والشتم، وقول الزور .
وبالجملة فكل المنكرات فهي مصائد للشيطان يصطاد بها بني آدم ليوقعهم معه في النار .
255 ـ باب سد الذرائع وحماية جناب التوحيد باب واسع يستعمله البعض لمنع بعض الأمور المباحة والتضييق على الناس في الأقوال والأعمال، فما وجاهة ذلك ؟
سد الذرائع التي تفضي إلى الحرام أمر واجب، قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " : فإذا حرَّم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن نقرب حماه . ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراءً للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء بل سياسة زعماء الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطُرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لَعُدَّ متناقضًا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده انتهى (9).(46/18)
فالذرائع إنما تحرم إذا كانت تفضي إلى محرم، أما التي لا تفضي إلى محرم فإنها لا تحرم، ويُعدُّ تحريمها تضييقًا على الناس، والمرجع في ذلك إلى الأدلة وأقوال العلماء لا إلى أقوال الجهال .
ومثال الذرائع التي حرَّمها الشارع لأنها تفضي إلى مُحَرَّم : الصلاة عند القبور، والدعاء عندها، والذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، والصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها - أعني : صلاة النافلة - ومثل البناء على القبور كل هذه الأمور تحرم، لأنها تفضي إلى الشِّرك .
256 ـ من هم أهل الفترة ؟ وهل في زماننا أهل فترة وما الحكم فيهم ؟
أهل الفترة هم الذين يعيشون في وقت لم تبلغهم فيه دعوة رسول ولم يأتهم كتاب كالفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } [ سورة المائدة : آية 19 ] ، ويلحق بأهل الفترة من كان يعيش منعزلاً أو بعيدًا عن الإسلام والمسلمين، وأما حكمهم فإلى الله سبحانه وتعالى .
257 ـ ما تفسير هاتين الآيتين وما أوجه الاختلاف والتشابه بينهما ؟
الآية الأولى : قال الله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ سورة الزمر : آية 53 ] .
الآية الثانية : يقول تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [ سورة النساء : آية 48 ] أفيدوني بارك الله فيكم ؟(46/19)
لا اختلاف بين الآيتين؛ لأن الآية الأولى فيمن تاب إلى الله عز وجل من الذنوب، فإن الله يتوب عليه مهما كانت ذنوبه : الكفر والشرك وقتل النفس وسائر الذنوب إذا تاب منها العبد تاب الله عليه، قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ سورة الأنفال : آية 38 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] ، وفي الآية الأخرى { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 11 ] ، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها ويُكَفِّرُ الله بها الذنوب مهما بلغت من الكفر والشرك وغير ذلك، هذا مدلول قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ سورة الزمر : آية 53 ] ، أي بالذنوب والمعاصي مهما بلغت { لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ سورة الزمر : آية 53 ] ، يعني : إذا تبتم إليه فإنه يغفر لكم ذنوبكم جميعًا، ولا يحملكم القنوط على أن تتركوا التوبة بل توبوا إلى الله مهما كانت ذنوبكم، فإن الله جل وعلا يغفر لكم كما في قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ سورة المائدة : آية 74 ] .(46/20)
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ سورة النساء : آية 48 ] ، فالمراد بهذه الآية الذنوب مع عدم التوبة، فمع عدم التوبة الشرك لا يغفر أبدًا لما مات عليه ولم يتب، ويكون خالدًا مخلدًا في النار، كما قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ سورة المائدة : آية 72 ] ، وفي هذه الآية { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ سورة النساء : آية 48 ] ، فمن مات على الشرك ولم يتب منه قبل وفاته، فإنه يكون خالدًا مخلدًا في النار .
أما من مات على غير الشرك من المعاصي ( الكبائر ) التي هي دون الشرك كالزنا والسرقة وشرب الخمر إذا لم يتب منها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يخرجه من النار بعد ذلك؛ لأنه لا يخلد في النار من كان في قلبه شيء من الإيمان ولو قلَّ بأن كان من أهل التوحيد وسلم من الشرك، فإنه لا يخلد في النار ولو كان عنده شيء من الكبائر فإنه تحت المشيئة إن شاء الله غفرها له، وإن شاء عذبه كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } [ سورة النساء : آية 48 ] يعني ما دون الشرك { لِمَن يَشَاء } [ سورة النساء : آية 48 ] .
فالحاصل أن التوبة تمحو جميع الذنوب : الشرك وغيره، أما إذا لم يتب المذنب، فإن كان ذنبه شركًا بالله عز وجل فهذا لا يغفر له ولا مطمع له في دخول الجنة، أما إذا كان ذنبه دون الشرك فهذا قابل للمغفرة إذا شاء الله سبحانه وتعالى، وهذا مدلول الآية الأخرى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ سورة النساء : آية 48 ] .(46/21)
258 ـ يقول الله تعالى في سورة آل عمران : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } [ سورة آل عمران : آية 90 ] ، ويقول تعالى في آية أخرى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ سورة الزمر : آية 53 ] ، فما معنى هاتين الآيتين وكيف نوفق بينهما ؟ وهل معنى الأولى أن هناك ذنوبًا لا تقبل التوبة من فاعلها مهما حاول أم أن إحداهما ناسخة للأخرى أم كيف ذلك ؟
لا تعارض بين الآيتين الكريمتين، لأن الآية الأولى محمولة على المرتد الذي لم يتب، ومات على ردته، فهؤلاء لا تقبل توبتهم لو تابوا عند الموت لقوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ } [ سورة النساء : آية 18 ] ، ولقوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ سورة البقرة : آية 217 ] .
الحاصل أن الآية الأولى هي فيمن ارتد عن الدين، واستمر على ردته ولم يتب إلا عند الموت وعند الغرغرة كما في الحديث ( إن التوبة تقبل ما لم يغرغر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/132 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 9/192 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1420 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/257 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلا ابن ماجه فهو من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ( كذا في المطبوع ) ] ، وبعض العلماء يحملها على من تكررت ردته فإنه لا تقبل توبته بل يقام عليه حد الردة بكل حال .(46/22)
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } [ سورة الزمر : آية 53 ] فهذه في الذي يتوب قبل حضور الموت فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وبهذا يتضح أنه لا تعارض بين الآيتين الكريمتين .
259 ـ سمعت حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا أتذكر لفظه بالضبط ولكن معناه : إن المسلمين إن لم يذنبوا ويستغفروا لجاء الله بأناس آخرين يذنبون ويستغفرون، فإذا كان هذا الحديث صحيحًا واردًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما لفظه كاملاً ؟ وما معناه ؟ وإلى ماذا يشير ويرشد ؟
الحديث ذكره السيوطي في " الجامع الصغير " عن ابن عباس بلفظ ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2106 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وفي رواية : ( ثم يستغفرون فيغفر لهم ) وعزا روايته إلى الإمام أحمد في " المسند " ورمز له بالحسن .
قال شارحه المناوي : قال الهيثمي : فيه يحيى بن عمرو بن مالك البكري وهو ضعيف وقد وثِّق : وبقية رجاله ثقات، انتهى كلام الهيثمي، قال المناوي : وقد خرجه الإمام مسلم في التوبة من حديث أبي أيوب بلفظ : ( لولا أنكم تذنبون خلق الله خلقًا يذنبون فيَغفر لهم ) [ انظر " صحيح الإمام مسلم " ( 4/2105 ) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، وانظر " فيض القدير شرح الجامع الصغير " ( 5/331 ) ] ، وذكر له ألفاظًا أخرى .(46/23)
والحديث معناه ظاهر أن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يستغفروه وأن يغفر لهم ليظهر بذلك فضله سبحانه وتعالى وآثار صفته الغفار والغفور، وهذا كما في قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ سورة الزمر : الآيتين 53، 54 ] ، الحديث يدل على مسألتين عظيمتين :
1ـ المسألة الأولى : أن الله سبحانه وتعالى عفو يحب العفو، غفور يحب المغفرة .
2ـ والمسألة الثانية : فيه بشارة للتائبين بقبول توبتهم ومغفرة ذنوبهم وألا يقنطوا من رحمة الله ويبقوا على معاصيهم ويصروا عليها، بل عليهم أن يتوبوا ويستغفروا الله سبحانه وتعالى، لأن الله فتح لهم باب الاستغفار وباب التوبة، هذا معنى الحديث .(46/24)
ثم أيضًا فيه - في الحديث أيضًا - كسر العجب من الإنسان، وأن الإنسان لا يعجب بنفسه وبعمله؛ لأنه محل للخطأ ومحل للزلل ومحل للنقص، فعليه أن يبادر بالتوبة والاستغفار من تقصيره ومن خطئه ومن زَلَله، ولا يظن أنه استكمل العبادة أو أنه ليس بحاجة إلى الاستغفار، فهذا فيه الحث على الاستغفار، وأن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يستغفروه ويتوبوا إليه وفي الحديث ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/198 ) بنحوه وللحديث بقية، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/191 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1402 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/392، 393 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/244 ) ، كلهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، وليس معناه أن الله يحب من عباده أن يذنبوا أو يحب الماصي، فالله سبحانه وتعالى لا يحب الكفر ولا يرضاه ولا يحب المعاصي، ولكنه يحب من عباده إذا أذنبوا وعصوا أن يتوبوا إليه سبحانه وتعالى وأن يستغفروه، هذا معنى الحديث .
260 ـ إذا عزمت التوبة إلى الله تراجعت عنها وقلت في نفسي : إنه يوجد لدى أهلي منكرات مثل الاستماع إلى الغناء والغيبة والتلفظ باللعان، وإذا تبت سوف يقع عليَّ الإثم بسبب أهلي، وأتراجع عنها، أفيدوني جزاكم الله خيرًا ؟(46/25)
يجب على المسلم أن يتوب من الذنوب ويبادر بذلك امتثالاً لأمر الله سبحانه ومن أجل إنقاذ نفسه من عذاب الله وغضبه، ولا يجوز له أن يستمر على المعصية أو يؤخر التوبة بسبب طاعة النفس والشيطان، ولا ينظر إلى لوم الناس بل يجب عليه أن يخشى الله ولا يخشى الناس، ولو كانوا يفعلون المعاصي فلا يجوز له أن يقتدي بهم، ويجب عليه أن يلزم أهله بالتوبة لقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة التحريم : آية 6 ] ، ولا يداريهم فيما يسخط الله عز وجل .
261 ـ ارتكبت بعض المعاصي كشرب الدخان والتهاون في أداء الصلاة جماعة وأرغب في الحج . . ماذا أعمل ؟ وكيف تتم التوبة عن هذا العمل ؟
الواجب عليك : التوبة إلى الله، والمحافظة على الصلاة، وترك الدخان ولو لم ترد الحج، ولكن يتأكد على من يريد الحج أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب ليستقبل الحج بحالة طيبة مستقيمة حتى يكون حجه مبرورًا، ولو حج من غير توبة عن شرب الدخان والتكاسل عن صلاة الجماعة فحجه يكون صحيحًا لكنه يكون ناقصًا ثوابه، والله الموفق .
262 ـ إنني امرأة مسلمة - والحمد لله - وقد كنت قبل وقت لا أصلي ولا أعرف أي شيء عن أمور الدين، وأما الآن - والحمد لله - فقد هداني الله وبدأت بالصلاة والصوم وقراءة القرآن الكريم والتسبيح وقد ختمت القرآن الكريم للمرة العاشرة، فهل يغفر الله لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت في حياتي، وما أفعل أكثر من هذا حتى يغفر الله لي ؟(46/26)
التوبة تَجُبُّ ما قبلها، فما دمت أنك - والحمد لله - قد تبت توبة صحيحة، وأديت ما أوجب الله عليك وتجنبت ما حرم الله عليك فالتوبة يغفر الله بها ما سبق قال الله سبحانه وتعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ سورة الزمر : آي 53 ] حتى الشرك لمن تاب منه تاب الله عليه، كما قال الله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ سورة الأنفال : آية 38 ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/204 ) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ] .
والتوبة تجب ما قبلها، فإذا كنت تبت توبة صحيحة وأديت ما أوجب الله عليك وتجنبت ما حرم الله عليك فإن ذلك يكفي إن شاء الله لمغفرة ما سبق، ولكن عليك بإحسان العمل في المستقبل وملازمة التوبة والقيام بما أوجب الله عليك من أمور الإسلام .
263 ـ أنا شاب عزمت التوبة إلى الله في أول رمضان وتذكرت من شروط التوبة : الندم على المعاصي، ولكن أحسست أنني لم أشعر بالندم ثم ذهبت إلى صلاة العشاء في المسجد وفي الصلاة أشعر بأن أبي وجماعة من المصلين يمدحونني رغم أني عند التوبة لم أستغفر الله إلا قليلاً وشعرت بأن توبتي باطلة وكأني منافق، هل توبتي صحيحة أم باطلة ؟ وإن كانت باطلة فكيف التوبة الصحيحة وجزاكم الله خيرًا وبارك في عملكم ؟(46/27)
شروط التوبة الصحيحة : هي ترك الذنوب، والعزم ألا يعود إليها، والندم على فعلها فيما سبق، ورد المظالم إلى أصحابها من مال أو عرض وطلب المسامحة منهم، فإذا توافرت هذه الشروط فالتوبة صحيحة، ولا تضر الوساوس التي تعتري الإنسان فإنها من الشيطان يريد أن يحول بين العبد وبين التوبة فلا يلتفت إليه بل يستمر في التوبة والعمل الصالح؛ والله يتوب على من تاب .
264 ـ كنت أنقطع عن الصلاة شهورًا طويلة ولكني تبت توبة نصوحًا، أؤدي الصلوات جميعها وأحافظ عليها محافظة تامة في أوقاتها والحمد لله كما أني لم أكن أصوم رمضان من قبل، وكنت أدخن كثيرًا فتبت عن جميع تلك المعاصي والحمد لله، هل يلزمني قضاء الصلاة التي تركتها من قبل ؟
أولاً : أهنئ هذا الأخ الذي منَّ الله عليه بالتوبة والقيام بما أوجب الله عليه من فرض الصلاة والصيام، وأسأل الله سبحانه وتعالى له الثبات على ذلك، وأن يزيده من خيره وفضله، وأن يتوفانا وإياه على الإيمان، ويحشرنا في زمرة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم إني أقول له : إن توبتك من الذنوب تجبُّ ما قبلها، وتوبتك من ترك الصلاة والصيام تجبُّ ما قبلها ويعفو الله سبحانه وتعالى عنك بهذه التوبة لقول الله تبارك وتعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ سورة الزمر : آية 53 ] .(46/28)
ولقوله تعالى في وصف المتقين : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ سورة آل عمران : الآيتين 135، 136 ] .
وبناء على ذلك لا يلزمه قضاء ما تركه من الصلاة والصيام فيما مضى، ولكن يكثر من العمل الصالح والاستغفار والتوبة ويتوب الله على من تاب .(46/29)
17 ـ جامع في مسائل العقيدة
265 ـ يوجد لدى بعض من الناس أنهم يقومون بترويج الإشاعات الباطلة عني، ويصفونني بأوصاف قبيحة وأنني إنسان أعرف أنني بريء مما يقولون، وقد قمت بمقاطعتهم وذلك حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وعلى أثر ذلك ارتاحت نفسي، فهل أنا على حق في مقاطعتهم ؟ وهل في صبري عليهم أنال حسنات منهم أرجو نصحي بما فيه الكفاية ؟
يجب عليك أن تصلح فيما بينك وبين الله، وأن تصلح ما عندك من الأخطاء، وبعد ذلك لا يضرك ما يقال من الناس إذا كانوا غير واعين في قولهم، وإنما يكون الإثم عليهم مع أن الذي ينبغي لك أن تتجنب مصاحبتهم مادام أنهم يصفونك بهذه الأوصاف ويؤذونك ويضايقونك فلا تصاحبهم؛ لأن مصاحبتهم والحال هذه ربما يترتب عليها مفاسد، وربما يحصل بينك وبينهم شيء من الاعتداء أو من سوء العشرة أو غير ذلك فابتعد عنهم إلا إذا كان في مصاحبتهم إزالة لما علق في نفوسهم نحوك من سوء ظن فإن هذا شيء حسن .
266 ـ ما حكم الأكل والشرب على الصحف اليومية وفيمن اتخذها سفرة لطعامه مع ما فيها من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ؟
إذا رأيت في الجريدة شيئًا من الآيات أو من أسماء الله سبحانه وتعالى فانزع هذا منها واحرقه أو ادفنه أو ارفعه في مكان طاهر ثم استعمل الصحيفة، وإذا كانت الصحيفة خالية من الآيات والأحاديث ومن ذكر الله عز وجل فلا مانع من استعمالها وامتهانها والأكل عليها .
267 ـ عندما أجد ورقة عليها لفظ الجلالة أو أي اسم من أسماء الله أطمس الاسم ثم ألقيها في القمامة، فهل هذا جائز أم لابد من حرقها ؟(47/1)
إذا أزلت اسم الجلالة أو أي اسم من أسماء الله الموجود في الورقة بطمس أو قطع أو أي شيء من ذلك، فلا بأس بإلقاء الورقة بعد ذك في القمامة لزوال المحذور من إلقائها؛ لأنها أصبحت غير محترمة، وهذا مما يوجب العناية والاهتمام بهذا الجانب فيحذر من امتهان شيء فيه ذكر الله، أو شيء من القرآن أو الأحاديث أو ذكر أي شيء من الأحكام الشرعية، وقد صار كثير من الناس يتساهلون في ذلك فيمتهنون أوراقًا يجب احترامها لما فيها من ذكر الله تعالى، فيجعلونها أكياسًا أو أغلفة أو لفافات لأغراضهم أو يلقونها في القمامات أو في سلات المهملات وفيها ذكر الله فيجب التنبه لذلك والتنبيه عليه، والله الموفق .
268 ـ يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منع الصحابة من كتابة الأحاديث في البداية منعًا لاختلاطها بالقرآن، فما الحكمة في أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبين لهم أن يكتبوا القرآن والسنة ( لأنهما كلاهما وحي ) ولكن يضعوهما منفصلين عن بعضهما ؟ ثم لماذا منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة من كتابة الأحاديث، أفليس في الكتابة حفظ للدين ؟ ولماذا لم تكتب الأحاديث وتجمع كلها إلا في وقت متأخر ؟ ثم هل أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أحاديثه باقية إلى قيام الساعة، وأن منها ما ستكون روايته ضعيفة ومنها صحيحة ؟
منع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كتاب الأحاديث في حياته خوفًا من اختلاطها بالقرآن الكريم، لأن بعض الناس قد لا يميز بينهما، ففي ذلك سد الذريعة .(47/2)
ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع من ذلك مطلقًا في حق كل الناس، بل رخص لبعض الصحابة في الكتابة لعدم المحذور في حقه، وعمر رضي الله عنه لم يمنع من كتابة الأحاديث، ولكنه أراد التحري والتحقيق فيما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دونت السنة بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لانتفاء المحذور وتحقيقًا لوعد الله سبحانه بحفظ هذا الدين في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ سورة الحجر : آية 9 ] ، وتولى ذلك الحفاظ المتقنون .
269 ـ هناك بعض الطرائف المضحكة التي يتبادلها الناس في المجالس وفي بعضها ليس فيه ذلك نرجو بيان حكم ذلك ؟
لا يجوز استعمال القرآن في شيء من الطرائف المضحكة لأن هذا امتهان للقرآن الكريم، أما الطرائف الخالية من القرآن فلا بأس بذكرها على وجه لا يشغل الناس ويشرط أن تكون خالية من الكلام المحرم أو ذكر شيء من المحرمات القولية أو الفعلية بل تكون الطرائف مسوقة بكلام نزيه .
270 ـ كنت ضالاً ضلالاً بعيدًا ثم هداني الله لنوره والحمد لله، وأحببت الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن والداي دائمًا يعاتباني ويغضبان لما يريان مني من التمسك بالسنة بحجة أننا في زمن متطور، وأن هناك الكثير من العلماء يتساهلون في كثير من السنن بحجة أني لن أصبح مثل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا تمسكت بسنته، فهل أترك الالتزام بالسنة طاعة لهما كما أمرنا الله بطاعتهما في غير معصيته ؟(47/3)
يجب عليك الالتزام بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمحافظة عليها وألا تلتف إلى عذل من يعذلك أو يلومك في هذا، أما أن الوالدين يلومانك في تمسكك بالسنة ويريدان منك التساهل في ذلك فلا تطعهما في هذا الأمر، خصوصًا إذا كانت هذه السنن من الواجبات التي يجب التمسك بها، لا في المستحبات وإذا لم يصل الأمر إلى د التشدد، أما إذا كان الأمر بلغ بك إلى حد التشدد فلا ينبغي لك ولكن ينبغي الاعتدال والتوسط في تطبيق السنن والعمل بها من غير غلو وتشدد ومن غير تساهل ولا تفريط هذا هو الذي ينبغي عليك؛ وعلى كل حال أنت مثاب إن شاء الله وعليك بالتمسك بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإقناع من يلومك في هذا، خصوصًا الوالدين، عليك أن تتبعهما وأن ترغبهما في السنن وتبين لهما ما في ذلك من الثواب والخير فلعله أن يزول عنهما هذا الاعتراض أو هذا الاستغراب، ولعله أيضًا أن يكون هذا العمل سببًا في التزامهما أيضًا بالسنن والاقتداء وتكون أنت داعية إلى الله عز وجل، ولا شك أن الإنسان الذي يدعو إلى الله يجب أول ما يدعو أقاربه وأقرب الناس إليه، والوالدان من أقرب الناس إليك .
فعلى كل حال إذا كان تمسكك بالسنن لا ينتهي إلى حد الإفراط والغلو فهو أمر محمود وعليك أن تستمر عليه وأن تدعو إليه والديك وغيرهما، والله أعلم .
271 ـ لي جارة كبيرة في السن ومريضة ولها ابن خارج الرياض، وقد أدخلت المستشفى ولم يزرها إلا مرة واحدة وهي تقيم في المستشفى بسبب المرض، لكنه لم يلتفت إليها البتة ؟(47/4)
بر الوالدين والإحسان إليهما واجب وقد جعل الله سبحانه حقهما بعد حقه فقال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ سورة النساء : آية 36 ] . وفي برهما أجر عظيم وهو سبب لدخول الجنة . وعقوقهما كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو من الموبقات، ومن علم عن شخص أنه يعق والديه أو أحدهما وجبت عليه مناصحته، لأن هذا من إنكار المنكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) ، من حديث تميم الداري رضي الله عنه ] . والله الموفق .
272 ـ تراودني فكرة غريبة عن أمر المأثورات والأدعية فكثيرًا ما تطالعنا الكتب المختصة بالأدعية بأن ( من قرأ حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم صباحًا ومساءً كل يوم سبع مرات كفاه الله عز وجل ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة ) ، وفي الحديث الشريف : ( اللهم إني عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك - إلى قوله - أسألك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/150 ) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه ] . أو ( من قرأ سورة يس تزوج إن كان أعزب ) [ لم أجده ] ، وأدعية كثيرة أخرى منها نصوص قرآنية كريمة ومنها أحاديث نبوية شريفة .
وسؤالي هو أنني أردد تلك الأدعية باستمرار ودائمًا ومواظب على الصلوات الخمس في أوقاتها ولكني لا ألمس تأثيرًا لاستجابة تلك الأدعية، فما المعنى الحقيقي ولماذا لا أحس باستجابة لها ؟(47/5)
أولاً : الكتب التي تشتمل على الأدعية ينبغي النظر فيها؛ لأنه ما كل الكتب يوثق بمؤلفيها وما وضع فيها من الأدعية، فلابد أن تكون تلك الكتب صادرة عن أئمة موثوقين يعتنون بالسنة والرواية، ويهتمون بالعقيدة ولا يضعون في تلك الكتب إلا ما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ما وافق الكتاب والسنة مثل كتاب " الأذكار " للإمام الحافظ النووي فهو كتاب طيب في الجملة وإن كان فيه بعض الأحاديث الضعيفة، ومثل " الوابل الصيب " للإمام ابن القيم، ومثل " الكلم الطيب " لشيخ الإسلام ابن تيمية، فأمثال هذه الكتب كتب موثوقة في جملتها وقد لا تخلو من بعض الأحاديث التي هي محل نظر من ناحية أسانيدها، والأدعية المذكورة فيها متحرى فيها لثبوتها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فينبغي أن يرجع لأصل هذه الكتب هذا من ناحية نوعية كتب الأدعية .
ثانيًا : كون الإنسان يدعو بتلك الأدعية الصحيحة الثابتة من الكتاب والسنة ولا يستجاب له فهذا يرجع إلى أمرين :
أولهما : أن يكون عند الشخص مانع من قبول الدعاء؛ لأن الدعاء سبب من الأسباب لا يؤثر إلا إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه، فلا بد أن يكون عندك شيء من الموانع ففكر في نفسك واعلم أن السبب من قِبَلك وإلا لو تمت الشروط وانتفت الموانع فإن الله سبحانه وتعالى قريب مجيب، يقول جل وعلا : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ سورة البقرة : آية 186 ] ، ومن الموانع : أكل الحرام وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها الاستعجال من الداعي في طلب الإجابة .(47/6)
الأمر الثاني : قد تكون الموانع منتفية والشروط موجودة ولكن تتأخر الإجابة لحكمة إلهية في صالحك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يدخر لك ما هو أحسن مما طلبت، أو قد يدفع عنك من البلاء ما لا تعلمه، فتأخر الإجابة ليس دليلاً على عدم القبول، وإنما قد يكون في ذلك حكمة إلهية وهي في صالحك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول : دعوت فلم يستجب لي ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/153 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فلا تيأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، واستمر على الدعاء وأصلح من أحوالك وتب إلى الله سبحانه وتعالى، وفكر في نفسك وأعمالك، والدعاء عبادة من أعظم أنواع العبادة، قال الله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ سورة غافر : آية 60 ] ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( الدعاء هو العبادة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/77 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/163 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1258 ) . كلهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ] وفي رواية : ( الدعاء مُخُّ العبادة ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 9/92 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، فالدعاء أمر عظيم ومكانته في الإسلام عظيمة، فلا يهن أمره عليك، ولا تيأس إذا رأيت الإجابة قد تأخرت، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يصلح العباد وما يحتاجون إليه . والله تعالى أعلم .
273 ـ إنني أتطوع بتأدية بعض الصلوات بعيدًا عن الأوقات المنهي عنها، وكذلك أذكر الله بتسبيحات وتهليلات شتى، وكذا التطوع بالصيام في أيام مختلفة . كل هذا أعمله دون التقيد بشيء منها براتب ثابت خوفًا من المواظبة عليها لئلا أقع في البدعة فما الحكم في ذلك ؟(47/7)
زادك الله حرصًا على الخير، الإكثار من النوافل من صلاة النافلة، ومن ذكر الله سبحانه وتعالى بالتهليل والتسبيح والتكبير أمر مطلوب ومشروع، وصلاة النافلة منها ما هو مرتب في أوقات معينة كالراتبة مع الفريضة القبلية أو البعدية، وكذلك الوتر في الليل بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، وكذلك التهجد في الليل هذا ينبغي المداومة عليه، وكذلك صلاة الضحى سنة ثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) فهذه عبادات موظفة ومؤقتة في مواقيتها الشرعية، وإذا داوم الإنسان عليها فذلك شيء مطلوب، وأحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل، وكذلك المداومة على ذكر الله عز وجل بالتهليل والتسبيح .
274 ـ علم تأويل الأحاديث والمسمى بتفسير الأحلام، يهبه الله لمن يشاء من عباده، وقد وهبه لنبيه يوسف عليه السلام، وفي هذا العلم مؤلفات كثيرة، نرجو الإفادة عن أفضل هذه المؤلفات وأكثرها صدقًا ؟
لا شك أن الرؤيا منها ما هو حق وهي من عجائب آيات الله سبحانه، وتأويل الرؤيا يعتمد على الفراسة والذكاء والنظر في حال الرائي، وهو موهبة يجعلها الله فيمن يشاء، ولا أعرف مؤلفًا خاصًّا يعتمد عليه في ذلك، لكن لابن القيم رحمه الله كلام جيد في هذا الموضوع في الجزء الأول من " إعلام الموقعين " (2).
275 ـ ذكرت بعض كتب التاريخ ولا سيما - كتاب ألف ليلة وليلة - بأن خليفة المسلمين هارون الرشيد لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمر فهل هذا صحيح ؟
هذا كذب وافتراء ودس في تاريخ الإسلام، وكتاب ألف ليلة وليلة كتاب ساقط لا يعتمد عليه ولا ينبغي للمسلم أن يضيع وقته في مطالعته .(47/8)
وهارون الرشيد معروف بالصلاح والاستقامة والجد وحسن السياسة في رعيته وأنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا، وهذه الفرية التي ألصقت به في هذا الكتاب لا يلتفت إليها، ولا ينبغي للمسلم أن يقرأ من الكتب إلا ما فيه الفائدة ككتب التاريخ الموثوقة وكتب التفسير والحديث والفقه وكتب العقيدة التي يعرف بها المسلم أمر دينه، أما الكتب الساقطة فلا ينبغي للمسلم ولاسيما طالب العلم أن يضيع وقته فيها .
276 ـ أجد خلطًا بين ابن عربي وابن العربي، أرجو أن تبينوا لنا الفرق بينهما وأشهر مؤلفاتهما ؟
الفرق بينهما واضح، فابن عربي بدون أل وهو الملحد المشهور الذي يقول بوحدة الوجود، وهو من غلاة الصوفية الذين آل بهم الأمر إلى الإلحاد والقول بوحدة الوجود، ومن أخبث مؤلفاته : " الفتوحات المكية " ، و " فصوص الحِكم " ، وهذه كلها كتب إلحاد منادية بوحدة الوجود وأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن الوجود في عقيدته كله هو الله، تعالى الله عما يقول .
وأما ابن العربي بأل المعرفة فهو الإمام الجليل المشهور : أبو بكر بن العربي المالكي، له مؤلفات جليلة في الحديث والتفسير، وله الكتاب الجليل في الذب عن الصحابة الذي سماه : " العواصم من القواصم " ، يدافع فيه عن الإسلام وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب جليل، وله كتاب " تفسير آيات الأحكام " في مجلدين ضخمين . وله شرح سنن الترمذي واسمه : " عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي " ، وهذه كتب كلها مطبوعة وموجودة والحمد لله .
فبين الرجلين فرق واضح، هذا كافر وضال وهو ابن عربي الحاتمي الطائي، وهذا ابن العربي إمام جليل مشهور بالاستقامة والعلم والتقى رحمه الله .
277 ـ هل يجوز قراءة بعض الكتب التي تُعرف بعض الأديان الأخرى غير الإسلام لمجرد الإحاطة علمًا بها والاطلاع عليها، أو قراءة بعض الكتب عن بعض الأنظمة الشيوعية ونحوها لا إعجابًا بها ولا للعمل بها وإنما لنفس الغرض السابق ؟(47/9)
على الإنسان أولاً أن يعرف الحق ويعرف الدين الصحيح ويتضلع بالعلم النافع، ثم بعد ذلك يطلع على الأشياء المخالفة ليحذر منها وليرد عليها .
أما إنسان جاهل وثقافته ضعيفة وحصيلته في العلوم الشرعية قليلة فهذا لا يجوز له أن يقرأ الكتب الباطلة لأنه ربما تنطلي عليه وتؤثر على عقيدته وهو لا يدري؛ لأنه لا يعرف العلم الذي يميز به بين الحق والباطل، فلا بد أن يكون عنده أولاً حصيلة من العلم النافع الذي يعلم به الحق من الباطل، حينذاك لا بأس أن يطلع .
278 ـ ما هي أفضل الكتب التي تبحث في التوحيد والعقائد الصحيحة ؟
الكتب التي تبحث في التوحيد والعقائد الصحيحة كثيرة ولله الحمد وميسورة، أذكر لك على سبيل المثال كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو كتاب مطبوع متداول وكثير والحمد لله، كذلك " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " للإمام العلامة ابن القيم خصوصًا الجزء الثاني منه، وكذلك " كتاب التوحيد " وشرحه للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشرحه " فتح المجيد " للشيخ عبد الرحمن بن حسن أو " تيسير العزيز الحمد " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وكذلك " ثلاثة الأصول " للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك " كشف الشبهات " للشيخ محمد بن عبد الوهاب .
وأذكر لك أيضًا " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " للشيخ الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني، كذلك " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " للشيخ الإمام محمد بن علي الشوكاني، وأذكر لك أيضًا كتابًا شاملاً لأبواب العقيدة وهو عقيدة الإمام الطحاوي وشرحها لابن أبي العز الحنفي، فـ " العقيدة الطحاوية " وشرحها من أوسع الكتب في العقائد وأشملها وأحسنها .(47/10)
المجلد الثالث(/)
كتاب الطهارة
أحكام المياه
1 ـ يوجد في منطقتنا مسجد، وعلى جانبه حوض كبير به ماء متغير اللون؛ فهو يبدو أخضر اللون، وله رائحة غير مستحبة، ولكن أكثر الناس يتوضئون منه ويصلون؛ فهل صلاتهم صحيحة ؟ أما أنا؛ فإني أحضر ماءً معي طهورًا، ولكنني أتعرض للنقد والسخرية منهم، ووصفي بالتشدد والتزمت في الدين؛ فهل أنا على حق من فعلي أم على باطل ؟ أفيدونا أثابكم الله .
لست مصيبًا في ترك هذا الماء؛ لأن الماء طهور ما لم يتغير بنجاسة، فإذا تغير بنجاسة؛ فهو نجس بإجماع أهل العلم، أما إذا كان تغيره بغير نجاسة؛ فهو طهور، خصوصًا إذا كان تغيره بسبب مكثه، أو بسبب نابت فيه، أو بسبب ما تلقيه الريح فيه من أوراق الأشجار ونحو ذلك، المهم؛ إذا كان تغيره بشيء طاهر؛ فهو طهور على الصحيح من قولي العلماء، خصوصًا إذا كان تغيره بشيء يشق صون الماء منه، أو لم يوضع فيه قصدًا؛ فلا بأس بالتطهر بماء الجابية والبركة، ولو تغير، ما لم يتغير بنجاسة؛ فلا داعي لإتيانك بماء غيره، والذين أنكروا عليك معهم في هذا صواب؛ لأن هذا من التشدد الذي لا وجه له .
أحكام الآنية
2 ـ القليل من الذهب يكون في القلم أو النظارة، والقليل من الحرير يكون في العباءة؛ هل هو حرام ؟
يحرم على الرجل التحلي بالذهب؛ إلا ما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه ورباط أسنان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/392، 393 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 8/161 ) ] .
ورخص صلى الله عليه وسلم لعرفجة باتخاذ أنف من ذهب لما قطع أنفه وتشوه وجهه (1) ، وربط بعض السلف أسنانهم بالذهب لما احتاجوا إلى ذلك (2) ؛ لأن من خاصية الذهب أنه لا ينتن ولا يصدأ .(48/1)
ويباح للرجل القليل من الحرير يكون طرازًا في العباءة إذا كان بقدر أربعة أصابع فما دون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير؛ إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة (3).
3 ـ هناك أنواع الأقلام التي تحتوي على ريشة خفيفة من الذهب؛ فما حكم استعمالها ؟
لا يجوز استعمال القلم إذا كان فيه شيء من الذهب؛ لا للرجال ولا للنساء؛ مثل الأواني من الذهب أو الأواني التي فيها شيء من الذهب؛ لا يجوز استعمالها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة (4) أو في الآنية التي فيها شيء من ذلك، والقلم مثلها .
4 ـ ما حكم الأكل أو الشرب في آنية تأكل وتشرب فيها الكلاب بدون علم، وماذا يلزمنا لاستعمال آنية الكلاب ؟
أولاً : في الأواني النظيفة والأواني الطاهرة غنى عن استعمال الأواني التي تأكل منها الكلاب أو تشرب منها الكلاب؛ فعليكم أن تعدلوا إلى الأواني الطيبة النزيهة النظيفة، أما لو دعت الحاجة إلى استعمال إناء ولغ فيه الكلب أو أكل فيه الكلب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا ولغ الكلب في الإناء أن نغسله سبع مرات إحداهن بالتراب (5)، فيجب عليكم إذا أردتم أن تستعملوا إناءً من الأواني التي تأكل أو تشرب منها الكلاب؛ عليكم أن تغسلوها سبع مرات، وأن تعفروها بالتراب، ثم بعد ذلك تستعملونه .
أحكام الفطرة
5 ـ هل ختان البنت أمر مندوب إليه أم مباح ؟
ختان البنت مستحب إذا كان على الصفة الشرعية، ويسمى بالخفاض، وفائدته تقليل شهوة الأنثى .
قال صلى الله عليه وسلم : ( أشمي ولا تنهكي؛ فإنه أبهى للوجه، وأحظى عند الزوج ) ، رواه الحاكم والطبراني وغيرهما [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/370 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 3/525 ) ] .
ويكون ذلك في حال صغرها، ويتولاه من يعرف الحكم الشرعي ويتقن تطبيقه .
أحكام الوضوء
6 ـ ما هو مفهوم الحدث الأكبر، وأيضًا مفهوم الحدث الأصغر ؟(48/2)
الحدث الأكبر : هو ما يوجب الغسل؛ كالحيض، والجنابة، والنفاس . هذا هو الحدث الأكبر .
أما الحدث الأصغر؛ فهو ما يوجب الوضوء؛ كالبول، والغائط، وسائر نواقض الوضوء؛ فما أوجب وضوءًا فقط؛ فهو حدث أصغر، وما أوجب الغسل؛ فهو حدث أكبر .
وبينهما فرق من ناحية ما يترتب عليهما من أحكام محلها كتب الفقه، والله أعلم .
7 ـ هل يجوز للمسلم إذا توضأ فغسل وجهه أن يقول : اللهم بيِّض وجهي كما بيضت وجوهًا وكما سوَّدت وجوهًا، اللهم اجعلني أشرب من ماء الجنة . . . إلخ ؟
لا يُقال هذا الدعاء عند غسل الوجه؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) ] ، ويقول : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) ] ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند غسل وجهه، إنما كان يقول عند بداية الوضوء : ( بسم الله ) ، وعند نهايته : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) (6)، والحكمة في ذلك – والله أعلم – أنه يجمع بين الطهورين : الطهور بالماء من الحدث الأصغر والأكبر، وهي الطهارة من الحديث الحسيّ، وذلك بالماء، ويأتي بالشهادتين للطهارة من الشرك، فيجمع إذًا بين الطهارتين : الطهارة من الحدث والطهارة من الشرك، هذا هي الحكمة، والله أعلم، أما ما عدا ذلك؛ فلا يقال أدعية أثناء الوضوء؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .(48/3)
8 ـ أيضًا يسأل عن الوضوء؛ يقول : من ناحية الوضوء للصلاة؛ كيف يكون وضوئي لها ؟ وأنا – كما أسلفت – الجزء الأكثر مني مشلول، وإذا أردت الاغتسال يكون شاقًّا عليَّ، وأكثر الأوقات ليس عندي من يحضر الماء أو يقوم بغسلي أو توضئتي، وأنا الآن أصلي كما أسلفت بدون وضوء؛ فأفتوني جزاكم الله كل خير؛ هل صلاتي صحيحة أم لا ؟ وإلى ماذا ترشدوني ؟
يجب عليك أن تتوضأ، ولو أن تستعين بمن يحضر لك الماء ويصبه عليك، أما إذا كنت لا تستطيع هذا؛ فيكفي أن تتيمم بالتراب؛ بأن يحضر عندك تراب طهور، فإذا حان الوقت، وأردت أن تصلي، وليس عندك من يعينك على الوضوء؛ فإنك تتيمم بهذا التراب وتصلي على حسب حالك . والله أعلم .
9 ـ إذا أصابت الإنسان نجاسة وهو متوضئ؛ فعندما يزيل النجاسة من الثوب؛ فهل عليه أن يتوضأ من جديد .
إذا أصاب الإنسان نجاسة في بدنه أو ثوبه وهو على وضوء؛ فإن وضوءه لا يتأثر بذلك؛ لأنه لم يحصل شيء من نواقض الوضوء، ولكن غاية ما عليه أن يغسل هذه النجاسة عن بدنه أو ثوبه، ويصلي بوضوئه، ولا حرج عليه في ذلك .
10 ـ هل يجوز الحركة من مكان لآخر وهو يتوضأ، وكم المسافة التي يستطيع أن يتحرك بها قبل أن يجف العضو عن العضو الآخر ؟
لا بأس بالانتقال من محل إلى محل في أثناء الوضوء، ولا سيما إذا كان هذا الانتقال لحاجة؛ كأن ينتقل لأجل توفر الماء في موضع آخر إذا انقطع عنه الماء في المكان الذي بدأ الوضوء فيه؛ إذا لم يكن هناك فاصل طويل؛ أي : لا يفوِّت وقتًا طويلاً بحيث تنشف أعضاؤه؛ فإنه لا حرج في أن يكمل وضوءه ويبني على ما مضى منه؛ ما دامت نيته باقية .
أما إذا قطع النية؛ بأن بدأ الوضوء، ثم انتقل وقطع النية؛ فإنه لابد أن يستأنف الوضوء من جديد؛ لأن ما غسله بالنية الأولى قد انقطع حكمه .
11 ـ إذا كان يستطيع غسل بعض الأعضاء دون بعض؛ فهل يلزمه غسلها مع التيمم ؟
نعم؛ يغسل ما يستطيع، ويتيمم عن الباقي .(48/4)
12 ـ أحيانًا أجد بعض فضلات الطعام على أسناني؛ فهل يجب إزالة هذه الفضلات قبل الوضوء ؟
لا يجب إزالتها قبل الوضوء، لكن تنقية الأسنان منها لا شك أنه أكمل وأطهر وأبعد عن مرض الأسنان واللثة .
فالذي ينبغي للإنسان إذا فرغ من طعامه : أن يخلل أسنانه حتى يزول ما علق بها من أثر الطعام، وأن يتسوَّك أيضًا؛ لأن الطعام يغير الفم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في السواك : إنه ( مطهرة للفم مرضاة للرب ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/234 ) ] وهذا يدل على أنه كلما احتاج الفم إلى تطهير؛ فإنه يطهر بالسواك .
أحكام نواقض الوضوء
13 ـ أعاني من خروج ريح بشكل مستمر؛ فلا أستطيع أن أصلي، وأعيد الوضوء أكثر من مرة؛ فهل يكون حكمي حكم سلسل البول؛ فلا أعيد الوضوء وأتم صلاتي من غير إعادة الوضوء ؟ وهل أعيد الصلاة السابقة التي فسد فيها الوضوء رغم أني صليتها ؟
إذا خرج الريح من الإنسان بصفة مستمرة، ولا يستطيع حبسه؛ فإن حكمه حكم من به سلسل البول؛ يتوضأ عندما يريد الصلاة، ثم يصلي في الحال، وصلاته صحيحة، ولو خرج منه شيء في أثناء الصلاة؛ لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ سورة البقرة آية : 286 ] ، وهذا لا يستطيع أكثر من ذلك .
وأما إذا كان خروج الريح منه ليس بصفة مستمرة؛ فهذا عليه أن يعيد الوضوء إذا خرج منه شيء، ويعيد الصلاة التي صلاها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 1/81 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/16 ) ، وغيرهما ] .
14 ـ هل خروج الريح أعزكم الله يفسد الاستنجاء ؟ وهل من ضرورة لإعادة الاستنجاء مرة ثانية قبل الوضوء ؟(48/5)
خروج الريح من الدبر ناقض للوضوء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/43 ) ] ، لكنه لا يوجب الاستنجاء أي : لا يوجب غسل الدبر؛ لأنه لم يخرج شيء يستلزم الغسل .
وعلى هذا؛ إذا خرج ريح؛ انتقض الوضوء، وكفى الإنسان أن يتوضأ؛ أي : أن يغسل وجهه مع المضمضة والاستنشاق ويديه إلى المرفقين ويسمح رأسه ويمسح أذنيه ويغسل قدميه إلى الكعبين .
وهنا أنبِّه على مسألة تخفى على كثير من الناس، وهي أن بعض الناس يبول أو يتغوط قبل حضور وقت الصلاة، ثم يستنجي، فإذا جاء وقت الصلاة وأراد الوضوء؛ يظن أنه لابد من إعادة الاستنجاء وغسل الفرج مرة ثانية، وهذا ليس بصحيح؛ فإن الإنسان إذا غسل فرجه بعد خروج الخارج؛ فقد طهر المحل، وإذا طهر؛ فلا حاجة إلى إعادة غسله؛ لأن المقصود من الاستنجاء أو الاستجمار تطهير المحل، فإذا ظهر؛ فلا يعود إلى النجاسة؛ إلا إذا تجدد الخارج مرة ثانية .
15 ـ هل الغفلة تبطل الوضوء ؟ وهل يجب في هذه الحالة أن يتوضأ المسلم وضوءًا كاملاً ؟
لا أدري ماذا يريد بالغفلة ؟ هل يريد بها النوم ؟ فإن كان يريد النوم؛ فإن النوم ناقض للوضوء؛ بشرط أن يكون عميقًا، وعلامة العميق أن يكون النائم لا يحس بنفسه لو أحدث، فإذا نام الإنسان هذه النومة؛ فإن عليه أن يتوضأ؛ لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه؛ قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا : أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن؛ إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 1/106، 107 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/83 ) . ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/161 ) ] ، ولحديث : ( العين وكاء السَّه، فإذا نامت العينان؛ استطلق الوكاء ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/51 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/161 ) ، ورواه الدارقطني في " سننه " ( 1/161 ) ] .(48/6)
فإن كان السائل يريد بالغفلة النوم؛ فهذا جوابه، لكن إذا كان النوم خفيفًا يحس بنفسه الإنسان لو أحدث؛ فإنه لا ينقض الوضوء، إذا كان الإنسان جالسًا؛ لأن الأساس كله على العقل؛ عقل الشيء وفهمه .
أما إذا كان يريد بالغفلة : الغفلة عن ذكر الله؛ فإن هذا لا ينقض الوضوء، ولكن الذي ينبغي للإنسان أن يديم ذكر الله سبحانه وتعالى كل وقت .
قال تعالى : { إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ سورة آل عمران : آية 190، 191 ] ، وذوو الألباب هم ذوو العقول .
16 ـ أنا شاب لم أتجاوز الثلاثين من العمر، وأقيم الصلاة في أوقاتها، وبعد أن أتوضأ وأتوجه للمسجد أشعر بأن قطرات بول تنزل مني وأنا متوجه إلى المسجد، وأحيانًا أثناء الصلاة، وبعد التأكد من الأمر؛ صرت في قلق دائم؛ فهل أعيد الوضوء إذا عرفت بالأمر قبل الدخول في الصلاة؛ علمًا بأن العملية قد تتكرر، وقد لا أستطيع أن أصلي جماعة ؟ أم هل أستمر في الصلاة إذا أحسست بان هنالك قطرات نزلت منِّي أثناء الصلاة ؟ أم أغير ثيابي الداخلية بعد كل صلاة، مع العلم أن في هذا مشقة كبيرة عليَّ ؟
هذا الذي ذكره السائل قد يكون من الوهم والوسواس، فلا يلتفت إليه؛ لأن الطهارة متيقنة وخروج البول مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، ولما ذكر بعض الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يشك في خروج الريح وهو في الصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/43 ) ] .(48/7)
وأما إذا تيقن الإنسان خروج القطرات من البول : فإن كان ذلك بصفة مستمرة من غير انقطاع؛ فهذا مصاب بسلس البول، وهذا دائم، وحكمه أنه يتوضأ عندما يريد الصلاة ويصلي فورًا، ولا شيء عليه إن خرج منه شيء؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، و { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ سورة البقرة : آية 286 ] .
وإن كان خروج القطرات في بعض الأحيان وليس بصفة دائمة؛ فإنه يجب عليه غسل ما أصابه البول من ثوبٍ أو جسدٍ، والاستنجاء، ثم إعادة الوضوء . . . والله أعلم .
17 ـ نرجو من فضيلة الشيخ حفظه الله أن يبين ويوضح لنا الحكم في الرجل إذا قبَّل امرأته بشهوة، أو بدون شهوة، أو إذا لمسها مباشرة، أو لامست البشرة البشرة؛ هل هذا ينقض الوضوء ؟ نرجو من فضيلتكم بيان الحكم في ذلك .
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وأن المراد بقوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } [ سورة النساء : آية 43 ] : هو الجماع لا مجرد اللمس . وعلى هذا القول لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا .
القول الثاني : أن لمس المرأة ينقض الوضوء مطلقًا إذا لمسها من غير حائل، وهذا مذهب الشافعية؛ مفسرين { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } [ سورة النساء : آية 43 ] باللمس باليد مثلاً .
القول الثالث : وهو قول الحنابلة : أن لمس المرأة بشهوة ينقض الوضوء، أما لمسها بدون شهوة؛ فإنه لا ينقض الوضوء .
هذه مذاهب أهل العلم فيما أعلم حول هذه المسألة .
ولعل الاحتياط هو القول الثالث : أنه إذا كان بشهوة؛ فإنه ينقض الوضوء؛ لأنه مظنة خروج الشيء منه، والمظنة في كثير من الأمور تنزل منزلة الحقيقة، وإن كان بدون شهوة؛ فإنه لا ينقض الوضوء؛ لأنه ليس هناك مظنة لخروج شيء .(48/8)
18 ـ عندما يقرأ الإنسان القرآن؛ هل يتوضأ وضوءه للصلاة، أم يجوز له أن يمس المصحف ويتلو القرآن وهو غير متوضئ؛ لأنه جاء في القرآن الكريم : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } [ سورة الواقعة آية : 79 ] ؟ وهل يتطهر الإنسان إذا أراد أن يمس القرآن، أم المراد بالتطهر إذا كان جنبًا فقط ؟ وهل يجوز للإنسان عندما يقرأ شيئًا من القرآن ولو كان يسيرًا؛ يجوز أن يهدي ثواب ما يقرأ من القرآن، إلى أكثر من ميت واحد ؟ وهل يفيد ذلك الميت ؟
أما قضية مس المصحف؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يمس المصحف إلا على طهارة من الحدثين الأصغر والأكبر؛ لقوله تعالى : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } [ سورة الواقعة آية : 79 ] ؛ إذا فسر الكتاب المكنون بالمصحف، ولقوله عليه الصلاة والسلام – كما في حديث عمرو بن حزم - : ( لا يمس المصحف إلا طاهر ) [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/397 ) ، ورواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 1/119 ) ] فيشترط لمس المصحف الشريف أن يكون الإنسان على طهارة من الحدث الأصغر والأكبر، ولا يجوز له أن يمسه وهو على غير طهارة؛ إلا من وراء حائل؛ كأن يحمله في كيسه، أو في غلافه، أما أن يمسه مباشرة؛ فهذا لا يجوز .
وأمَّا القضية الثانية : وهو إهداء ثواب القراءة إلى الأموات؛ فهذا لم يرد به دليل فيما أعلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يرد أنه يقرأ القرآن ويهدى ثوابه إلى الأموات، وإن أجاز هذا بعض أهل العلم، ولكن الصحيح أن ذلك ليس بمشروع؛ لعدم الدليل على ذلك، وإنما الذي ورد هو الدعاء للأموات والتّصدُّق عنهم والحج أو العمرة عن الميت، هذا الذي وردت به الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعليك بدل أن تهدي ثواب القراءة أن تعمل شيئًا من هذه الأعمال : إما الدعاء والاستغفار للميت، أو الصدقة عنه، أو الحج والعمرة عنه؛ إذا أمكن .(48/9)
19 ـ ما الحكم فيمن مس المصحف وعليه حدث أصغر ؟ نرجو التفصيل في المسألة أحسن الله إليكم .
لا يجوز مس المصحف إلا على طهارة من الحدثين الأكبر والأصغر لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يمس المصحف إلا طاهر ) [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/397 ) والإمام مالك في " الموطأ " ( 1/199 ) ] ، لكن من مسه وهو محدث جاهلاً أو ناسيًا؛ فلا إثم عليه، وكذا من مسه من وراء حائل أو بواسطة مسطرة أو عود؛ لا بأس عليه؛ لأن الممنوع مسه مباشرة من المحدث .
20 ـ ما حكم الإفرازات المهبلية التي تخرج من المرأة؛ هل تعتبر نجسة تفسد الوضوء ؟ وهل ينجس ما تلوثه من ملابس ؟ وما حكم من لا تنقطع عنها هذه الإفرازات في حالة العبادات التي تستغرق بعضًا من الزمن؛ كالعمرة، والطواف، والبقاء في المسجد ؟ وما حكم الإفرازات المهبلية التي تفرز من المرأة عند الإثارة الجنسية ( القبلة ) دون أن يكون هناك جماع ؟ وهل تستوجب الغسل كغسل الجنابة ؟
حكم الإفرازات التي تخرج من قبل المرأة أنها نجسة، وتنقض الوضوء، وتنجس ما أصابته من البدن أو الثياب؛ فيجب على المرأة أن تستنجي منها وتتوضأ إذا أرادت الصلاة، وتغسل المكان الذي أصابته من ثوبها أو بدنها، وكذلك يجب الوضوء من كل خارج من السبيلين عندما يريد المسلم الصلاة .
والمرأة التي يستمر معها خروج الإفرازات تستنجي وتنظف فرجها وتضع عليه حفاظًا يمنع أن يخرج منه شيئًا، وتتوضأ لكل صلاة وعندما تريد الطواف، ولا بأس بلبثها في المسجد؛ لأن هذا ليس حيضًا، والذي يمنع اللبث في المسجد هو الحيض والنفاس والجنابة .
وخروج الإفرازات نتيجة القبلة أو الملاعبة من الزوج لا توجب الغسل؛ إلا إذا كانت منيًّا خرج بدفع ولذة .
أحكام الغسل
21 ـ ما هي الطريقة الأفضل للاغتسال من الجنابة ؟(48/10)
الطريقة الأفضل للاغتسال من الجنابة هي ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله : أنه يستنجي أولاً، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثو الماء على رأسه ثلاثة حثيات، مع تخليل شعر رأسه بإصبعه عليه الصلاة والسلام، ثم يفيض الماء على جسده ثلاث مرات . هذا هو الأفضل والأكمل، هذه الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم (7).
22 ـ هل الحمام يجزئ عن الوضوء ؟
إذا تحمم الشخص – أي : اغتسل – بقصد التبرد أو التنظف؛ فهذا الاغتسال من المباحات، لا يدخل في العبادة، ولا يكفي عن الوضوء؛ لأن هذا الاغتسال ليس بقصد العبادة، وإنما بقصد التبرد والتنظف .
أما إذا اغتسل بنية العبادة؛ كأن يكون اغتسل عن الجنابة لإزالة الحدث، أو اغتسل غسلاً مستحبًّا كغسل يوم الجمعة، ونوى معه الوضوء؛ فإن الوضوء يدخل في الاغتسال؛ لأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى إذا نواها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/2 ) ] .
أما إذا لم ينو دخول الوضوء في الاغتسال عن الجنابة أو عن غسل يوم الجمعة مثلاً؛ فإنه لابد أن يتوضأ؛ لأنه لم ينو الوضوء، وإنما نوى الاغتسال فقط .
والأكمل والأفضل أن يستنجي، ثم يتوضأ وضوءًا كاملاً ما عدا غسل الرجلين، ثم يغتسل، وإذا فرغ؛ يغسل رجليه، وإن غسل رجليه مع الوضوء قبل الاغتسال؛ فلا بأس، بل هذا هو الأفضل والأكمل .
23 ـ إذا احتلم الرجل بالليل وهو نائم، وذلك في أيام البرد الشديد، ولم يقدر أن يغتسل، ويخشى المضرة؛ فهل يتوضأ ويصلي أم ماذا يفعل ؟(48/11)
إذا بلغ الأمر إلى هذه الحالة التي ذكرها السائل؛ بأن كان جنبًا، وكان عنده ماء بارد، ولا يستطيع الاغتسال به، ولا يجد ما يسخنه به من آلات التسخين والتدفئة؛ فهذا يعذر في ترك الاغتسال والعدول إلى التيمم؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [ سورة النساء : آية 29 ] .
ولما احتلم عمرو بن العاص رضي الله عنه في السفر، ولم يكن عنده إلا ماء بارد، فخشي على نفسه؛ تيمم وصلى بأصحابه، ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكر ذلك له، فأقره على ذلك (8).
الحاصل أنه إذا بلغ الأمر للخطورة، وليس عنده ما يسخن به الماء، ولا ما يستدفئ به، ويخشى على نفسه لو اغتسل بالماء البارد أن يصاب بالمرض؛ فإنه يعدل إلى التيمم؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ سورة النساء : آية 29 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ سورة الحج : آية 78 ] ، والله أعلم .
24 ـ ماذا يقول الإنسان عند الغسل من الجنابة في أول الغسل وآخره ؟
يقول الإنسان في أول الغسل : " بسم الله " ، وفي نهايته يقول : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التّوّابين واجعلني من المتطهّرين ) (9)
فما يُقال ويُفعل عند الاغتسال هو ما يُقال ويُفعل عند الوضوء، وذلك بأن يسمي، ثم ينوي، ثم يغسل كفيه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة؛ إلا غسل الرجلين؛ فإنه يؤخره إن شاء بعد الاغتسال، فيغتسل اغتسالاً كاملاً، ثم بعد ذلك يغسل رجليه .
أما في أثناء الاغتسال؛ فلا يشرع أي دعاء، ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أي دعاء في ذلك، والأذكار التي يقولها بعض الناس لا دليل عليها؛ فتكون من البدع المحدثة .(48/12)
25 ـ ما معنى الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/212 ) ] .
غسل يوم الجمعة مشروع ومتأكد، وذلك لأن الناس يجتمعون في مسجد واحد، ولذلك يتفقد كل منهم نفسه، ويزيل ما عليه من روائح كريهة وأوساخ؛ ليحضر هذا اللقاء العظيم، وحتى لا يؤذي إخوانه برائحته إذا كان فيه رائحة من العرق أو غيره . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " واجب " . أي : متأكد وليس معناه أنه فرض، والمحتلم هو البالغ .
26 ـ ما الفرق بين المني والمذي الذي أعرف به كل واحد منهما؛ لأنني قد أقوم من النوم وأجد الماء، مع أني لم أر في نومي سببًا لخروج الماء ؟ وما الحكم الشرعي إذا خرج المذي ؟
إذا قمت من النوم ووجدت البلل في ثوبك؛ فإنه يجب عليك الاغتسال؛ لأن هذا البلل من الاحتلام؛ فقد تكون احتلمت وأنت لا تدري، أو لم تشعر به؛ إلا إذا سبق نومك تفكير، أو ملاعبة للمرأة؛ فإن هذا البلل يعتبر مذيًّا لا يوجب غسلاً .
أما في اليقظة؛ فالمذي إذا خرج؛ يكفي أن يستنجي الإنسان ويتوضأ ويغسل المذي من بدنه أو ثوبه .
أحكام التيمم
27 ـ هنالك أشخاص يصلون كل أوقاتهم بالتيمم، ولقد نصحتهم عدة مرات ولم تُجْدِ نصيحتي لهم؛ هل تجوز صلاتهم بهذه الطريقة ؟(48/13)
التيمم إنما هو بدل الطهارة بالماء، ولا يجوز إلا لعذر شرعي؛ كأن يكون عادمًا للماء، أو يكون معه قليل لا يكفي لحاجته ولوضوئه، فيبقى الماء لحاجته ويتيمَّم، والحالة الثانية : إذا كان عاجزًا عن استعمال الماء مع وجوده لمرض يمنعه من استعمال الماء، أو يشق عليه استعمال الماء في حالة المرض؛ فإنه يتيمم في هذه الحالة، وذلك لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } [ سورة المائدة : آية 6 ] .
فدلت الآية الكريمة على أن التيمم لا يجوز إلا في حالتين :
الحالة الأولى : إذا كان الإنسان مريضًا لا يستطيع استعمال الماء أو يشق عليه .
الحالة الثانية : إذا كان ليس عنده ماء يتوضأ به أو يغتسل به من الجنابة، أو كان عنده ماء قليل لا يتسع لحاجته أو لطهوره .
أما إذا تيمم من غير عذر شرعي؛ بأن كان الماء موجودًا وهو قادر على استعماله؛ فإن تيممه لا يصح ولا تصح صلاته؛ لأنه صلى بغير طهور؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 1/81 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/16 ) . ورواه غيرهما ] ولأن الله شرط في هذه الآية تقديم الطهارة بالماء للصلاة بالصفة التي ذكرها في هذه الآية الكريمة على التيمم .(48/14)
فهؤلاء الذين ذكرت أنهم يصلون بالتيمم دائمًا، مادام أنهم يفعلون هذا من غير عذر؛ فإن صلاتهم غير صحيحة طيلة هذه المدة، وعلى المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يؤدي ما أوجب الله عليه على الوجه المشروع .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء؛ فليمسَّه بشرته؛ فإن ذلك خير ) ، رواه أحمد والترمذي وصححه (10) .
28 ـ إذا تيمم المصلي لفقد الماء، ثم أدى الصلاة؛ فهل يجب عليه قضاؤها حينما يجد الماء أو يزول ذلك العذر أم لا ؟
إذا تيمم المسلم لعذر شرعي لفقد الماء، أو العجز عن استعماله لمرض ونحوه، أو خوف ضرر باستعماله للعطش، وغير ذلك من الأعذار الشرعية؛ إذا تيمم لعذر من هذه الأعذار الشرعية، وصلى؛ فصلاته صحيحة، وطهوره صحيح؛ لأن الله جعل التراب بدل الماء، وجعله طهورًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/86 ) ] .
والتيمم يقوم مقام الوضوء إذا احتاج إليه، والصلاة التي تصلى فيه صلاة صحيحة كالصلاة التي تصلى بوضوء، وإذا وجد الماء؛ فإنه يتوضأ به ويتطهر به للمستقبل فقط، أما ما مضى؛ فهو صحيح مثاب عليه إن شاء الله .
29 ـ إذا صلى الرجل صلاة الفجر متيممًا لعدم وجود الماء، وحصل على الماء بعد طلوع الشمس؛ فهل عليه إعادة الصلاة ؟
إذا تيمم في الوقت وصلى لأنه لم يكن عنده ماء؛ فصلاته صحيحة، وإذا وجد الماء بعد ذلك، ولو قبل خروج الوقت؛ فإنه لا يعيد الصلاة؛ لأن صلاته التي تمت بطهارة شرعية قد أمره الله تعالى بها؛ فلا يعيدها، قال الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم } [ سورة النساء : آية 43 ] ، أما لو حضر الماء قبل انقضاء الصلاة؛ فإنها تبطل، ويلزمه التطهر بالماء والصلاة بوضوء .(48/15)
30 ـ هل يجوز الصلاة بالبسطار أكرمكم الله ؟ وما هي كيفية الوضوء فيه ؟ وهل له مدة معينة ؟ أرجو الإجابة وجزاكم الله خيرًا وأريد شرحًا عن ذلك ؟
تجوز الصلاة بالبسطار – أي : الخف – إذا كان طاهرًا وليس عليه نجاسة، ويجوز المسح عليه في الوضوء إذا كان ساترًا سترًا كاملاً للرجل؛ بأن يكون صافيًا على الكعبين وما تحتهما، وثابتًا على الرجل، وقد لبسه على طهارة؛ بأن يلبسه وهو على وضوء .
وصفة المسح أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أطراف أصابع رجله، ثم يمررهما إلى ساقيه .
ومدة المسح يوم وليلة بالنسبة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وهو رخصة ثابتة بالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكره إلا المبتدعة (11) ، وابتداء المدة على الصحيح من أول مسح بعد اللبس، والله أعلم .
31 ـ ما حكم المسح على الجورب الشفاف أو المشقق ؟
يشترط في الجورب الذي يمسح عليه في الوضوء أن يكون ساترًا لما تحته، فلا يجوز المسح على الجورب الشفاف والمخرق والمشقق؛ لأنه لا يستر ما تحته؛ لأن ما ظهر من الرجل فرضه الغسل، ولا يكفي عنه المسح؛ إلا إذا استتر تمامًا، فيكفي مسح الحائل عن غسل ما تحته، ومع انكشاف شيء من الرجل؛ فإنه لا يكون ثمة حائل .
32 ـ يقول بعض الناس : إنه لابد لمن يمسح على الخفين من المقيمين أن يتم اليوم والليلة لابسًا لخفيه؛ أرجو بيان الحق في ذلك .
لا يلزم من يمسح على الخفين أن يستمر لابسًا لهما إلى تمام المدة، بل إن شاء استمر، وإن شاء خلعهما . لكن إذا خلعهما بعد مسحه عليهما؛ بطل وضوءه، ويلزمه أن يعيد الوضوء ويغسل رجليه حينئذ إذا أراد الصلاة أو غيرها مما تشرع له الطهارة .
أحكام إزالة النجاسة
33 ـ أنا أصلي في منزلي الذي يتكون من غرفة، وفي بعض الأحيان لا تكون أرضية الغرفة طاهرة؛ فهل يجوز أن أفترش سجادة الصلاة وأصلي فقط؛ علمًا بأن فرش الغرفة ملصوق، ولا يمكن تغييره ؟ فما الحكم ؟(48/16)
من شروط صحة الصلاة طهارة البقعة التي يصلي عليها، أو طهارة الفراش الذي يصلي عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الأعرابي الذي بال في المسجد (12) .
وإذا كانت الأرض متنجسة، وفرش عليها فراشًا طاهرًا؛ صحت الصلاة عليه؛ لأنه جعل بينه وبين النجاسة حائلاً طاهرًا؛ فالغرفة التي تنجست أرضيتها لا تصح الصلاة فيها إلا بعد غسل النجاسة التي فيها، أو فرشها بفراش طاهر .
مع العلم أن الرجل لا يجوز له أن يصلي في بيته صلاة الفريضة ويترك الصلاة في المسجد مع الجماعة؛ إلا لعذر شرعي، أو إذا كانت الصلاة نافلة، أو قضاء فريضة فاتته . . . والله أعلم .
34 ـ هل صحيح يا فضيلة الشيخ أن العطور التي بها كحول محرمة استعمالها ؟ وأنها لا تجوز للصلاة بها إذا كانت في الثوب أو البدن ؟ وما هو الراجح في الخمر؛ هل هي طاهرة أم نجسة ؟ أفيدوني أثابكم الله .
نعم العطور المسكرة يحرم استعمالها، ولا تجوز الصلاة في الثوب الذي أصابه شيء منها حتى يغسل ما أصابه منها؛ كسائر النجاسات، وكذا البدن يجب غسل ما أصابه منها؛ لأنها نجسة؛ لأنها خمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 3/1588 ) ] .
والراجح أن الخمر نجسة؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [ سورة المائدة : آية 90 ] ، فأخبر أن الخمر رجس، والرجس معناه النجس، وأمر باجتنابه، وهذا يدل على نجاسته . والله أعلم .
35 ـ إذا تنجست الملابس الداخلية بقطرات من البول أعزكم الله، وحان وقت الصلاة؛ فهل يجوز لي فرك المنطقة المتنجسة بالماء بتحقيق الطهارة من البول، أم يجب تبديل الملابس المتنجسة ؟(48/17)
إذا أصاب البول الثياب، وأردت أن تصلي فيها؛ فإنه يجب عليك أن تغسلها بالماء؛ بأن تغسل محل النجاسة بالماء؛ أي : ما أصابه البول، حتى تتيقن زوال النجاسة، وتصلي فيها، ولا يلزمك أن تستبدلها بغيرها، بل متى غسلت محل النجاسة غسلاً كافيًا تُيُقِّن معه زوال النجاسة؛ فإن صلاتك فيها صحيحة إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أصاب دم الحيض ثوبها أن تغسله وتصلي فيه (13). والله أعلم .
36 ـ هل الملابس التي تبللت بالبول ثم جفت تظل نجسة ؟ وهل يجب أن يغسل موضع البلل ؟ وإذا لمسها الإنسان؛ هل يغسل موضع اللمس ؟
النجاسة لا تزول عن الملابس إلا بالغسل بالماء الطهور، ولا يكفي جفاف النجاسة عنها، قال صلى الله عليه وسلم في دم الحيض يصيب ثوب المرأة : ( تَحُتّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي به ) متفق عليه [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/79، 80 ) ، ورواه مسلم في " صحيحه " ( 1/240 ) ] ؛ فيجب غسل النجاسة عن الثوب قبل الصلاة فيه .
وإذا لمس الإنسان نجاسة رطبة؛ فإنه يغسل ما لمسها به من جسمه؛ لانتقال النجاسة إليه، أما النجاسة اليابسة؛ فإنه لا يغسل ما لمسها به؛ لعدم انتقالها إليه . والله أعلم .
37 ـ أعمل في مختبر للتحاليل الطبية، وتعلمون يا فضيلة الشيخ بأن العمل في المختبر يشتمل على البول أعزكم الله، ويحدث أن يسقط شيء من البول على البنطلون الذي ألبسه؛ هل يجب خلع البنطلون واستبداله بعد كل عمل خوفًا من النجاسة، وإذا حدث وصليت به سهوًا؛ فهل تصح صلاتي ؟(48/18)
إذا كان الثوب الذي تعمل فيه يصيبه شيء من النجاسة التي تباشرها لأجل تحليل البول أو الغائط؛ فإنه يجب عليك أحد أمرين إذا أردت الصلاة : إما تغسل هذه النجاسة وتصلي في ثوبك الذي تعمل فيه، وإما أن تخلعه وتصلي بثوب طاهر؛ لأن طهارة الثوب من شروط صحة الصلاة؛ لقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ سورة المدثر : آية 3 ] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض التي يصيب الدم ثوبها أن تغسله؛ بأن تحك الدم، وتقرصه بالماء، ثم تنضحه (14)؛ فهذا دليل على أنه يشترط طهارة الثوب الذي يصلي فيه، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي، فخلع نعليه في أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم؛ سألهم : ( لماذا خلعتم نعالكم ؟ ) . قالوا : رأيناك يا رسول الله خلعت نعليك . قال صلى الله عليه وسلم : ( إن جبريل أخبرني أن بهما خبثًا ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/20 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/172 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/370 ) ] .
فدلت هذه النصوص على أنه يشترط طهارة الملبوس في الصلاة .
أما المسألة الثانية، وهي : إذا صليت في الثوب الذي أصابته النجاسة ناسيًا ولم تفطن إلا بعد الفراغ من الصلاة؛ فالصحيح في قولي العلماء صحة الصلاة؛ لأنك معذور لهذا النسيان، ولكن عليك التحفظ في هذا وبذل المجهود .
أما إذا ذكرت النجاسة في أثناء الصلاة : فإن أمكن أن تتخلص من الثوب النجس لأن عليك ثوبًا آخر، فتخلع النجس ويبقى عليك الثوب الآخر؛ فصلاتك صحيحة، وأما إذا لم تتمكن من ذلك؛ فإنك تخرج من الصلاة .
أحكام الحيض
38 ـ هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن غيبًا وهي حائض، وإذا كان هذا غير جائز؛ فهل عليها إثم؛ إذا درست أبناءها القرآن، خاصة إذا كانوا في المدارس أثناء الحيض ؟(48/19)
لا يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن؛ لا من المصحف، ولا عن ظهر قلب؛ لأن عليها حدثًا أكبر، ومن عليه حدث أكبر – كالحيض والجنابة – لا يجوز له أن يقرأ القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتنع من قراءة القرآن إذا كان عليه جنابة (15) ، والحيض حدث أكبر مثل الجنابة يمنع قراءة القرآن .
ولكن في حالة خوف النسيان؛ إذا كانت الحائض تحفظ سورًا من القرآن، أو تحفظ القرآن، وتخشى إذا تركت التلاوة أن تنسى؛ لأن مدة الحيض تطول فتنسى ما حفظته من القرآن؛ فلا بأس أن تقرأ في هذه الحالة؛ لأن هذا من الضرورات؛ لأنها لو تركت قراءة القرآن؛ نسته .
وكذلك الطالبة؛ إذا جاء وقت الامتحان في مادة القرآن وهي حائض، ويمتد حيضها، ولا يمكن أن تؤدي الامتحان بعد نهاية الحيض؛ فلا بأس أن تقرأه للامتحان؛ لأنها لو تركته؛ لفات عليها الامتحان، وحصل عليها رسوب في القرآن، وهذا يضرها؛ ففي هذه الحالة أيضًا يجوز للطالبة أن تقرأ القرآن لأداء الامتحان عن ظهر قلب ومن المصحف، لكن بشرط أن لا تمسه إلا من وراء حائل .
أما قراءة الحائض القرآن لأجل التعليم؛ فإنها لا تجوز؛ لأن هذا ليس ضرورة . والله أعلم .
39 ـ متى يُباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع ؟ وما هي مفسدات الصوم عمومًا ؟ وهل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب المانعة للعادة الشهرية حتى تتمكن من صيام رمضان بدون انقطاع ؟
يجوز الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما من أضرار الصيام؛ لأنه يمكن أن الصيام يضعف الغذاء الذي يتغذى به المولود في بطن أمه؛ فإذا كان الأمر كذلك؛ فلها أن تفطر وأن تقضي من أيام أخر وتطعم مع القضاء، وإن خافت على نفسها من الصيام؛ لأنها لا تستطيع الصيام وهي حامل أو لا تستطيع الصيام وهي مرضع؛ فهذه تفطر وتقضي من أيام أخر وليس عليها إطعام . هذا ما يتعلق بالحامل والمرضع .(48/20)
ويجوز للمرأة تناول الحبوب التي تمنع عنها الحيض من أجل أن تصوم إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحتها .(48/21)
كتاب الصلاة
وجوب الصلاة
40 ـ ما حكم من ترك الصلاة عمدًا وذلك لمشاهدة مباراة أو مسلسل في التلفاز ؟
لا يجوز ترك الصلاة؛ بمعنى : أنه يتأخر عن أدائها مع الجماعة، أو يؤخرها عن وقتها؛ هذه كلها محرمات ومنكرات وتضييع للصلاة، والله تعالى يقول : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ سورة مريم : آية 59 ] ، ويقول جلَّ وعلا : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } [ سورة الماعون : آية 4، 5 ] .
فليس الشأن أن الإنسان يصلي فقط في أي وقت وفي أي حالة، لا؛ الشأن أن الإنسان يصلي؛ كما أمره الله، في وقتها، في المسجد، مع جماعة المسلمين؛ كما أمر الله سبحانه وتعالى والله تعالى يقول : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ سورة البقرة : آية 43 ] ، ومعنى إقامتها : أن يؤتى بها قائمة كما أمر الله سبحانه وتعالى، أما إذا صليت على غير الصفة التي شرعها الله؛ فإنها صلاة غير قائمة، بل هي صلاة مضيعة، وقد توعد الله من يضيع الصلاة والعياذ بالله بأشد الوعيد .
ولو أن الإنسان جلس يقرأ القرآن كلام الله عز وجل وترك صلاة الجماعة، أو جلس يقرأ القرآن حتى خرج الوقت؛ لكان فعله ذلك منكرًا، مع أنه يقرأ القرآن؛ فكيف إذا جلس ينظر إلى شيء أقل ما يقال فيه : إنه مباح، وإلا؛ الغالب فيه ألا يكون خاليًا من المحرمات ؟ !
41 ـ أفيدكم أني أبلغ من العمر الخامسة والأربعين، وقد مضى علي أربع سنين من عمر دون أن أصلي ودون أن أصوم رمضان، ولكني في العام الماضي أديت فريضة الحج؛ فهل تكفر عما فاتني من صوم وصلاة ؟ وإن كانت لا تكفر؛ فماذا عليَّ أن أفعله الآن ؟ أرشدونا وفقكم الله .
ترك الصلاة متعمدًا خطير جدًّا؛ لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وإذا تركها المسلم متعمدًا؛ فإن ذلك كفر :(49/1)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) بنحوه، ورواه أبو داود ( 4/219 ) ، ورواه غيرهما ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد ( 5/355 ) بنحوه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/343 ) ] .
والله تعالى يقول في الكفار : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] .
ويقول عن أهل النار : { مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [ سورة المدثر : آية 42-44 ] .
. . . إلى غير ذلك من النصوص التي تدلك على كفر تارك الصلاة، وإن لم يجحد وجوبها، وهو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله .
فما ذكرت من أنك تركتها متعمدًا مدة أربع سنوات، هذا يقتضي الكفر، ولكن إذا تبت إلى الله عزّ وجلّ توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة في مستقبل حياتك؛ فإن الله يمحو ما كان من ذي قبل، والتوبة الصادقة تجبُّ ما قبلها .
أما الحج؛ فلا يكفر ترك الصلاة ولا ترك الصيام؛ لأن هذه كبائر موبقة لا يكفرها الحج، وكذلك الحج إذا كنت أديته وأنت لا تصلي؛ فإنه لا يصح؛ لأن الذي لا يصلي ليس له دين، وليس له إسلام، ولا يصحّ منه عمل؛ إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى .
فإذا تبت إلى الله توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة؛ فإن هذا يكفر ما سبق، ولكن؛ عليك بالصدق، والاستمرار على التوبة، والاهتمام بالصلاة، وإذا كنت أديت الحج في حالة ترك للصلاة؛ فعليك أن تعيده، أما إذا كنت أديته بعدما تبت؛ فهو حج صحيح إن شاء الله، وما مضى من المعصية وترك الصلاة والصيام تكفره التوبة الصادقة .(49/2)
42 ـ أنا لا أصلي، ولكني عاقد العزم على الصلاة، لكن كلما آتي للصلاة؛ أشعر أنه جبل، وأمر من أصعب الأمور؛ ماذا أفعل ؟ ! مع أنني أحس بالذنب والقلق لترك الصلاة .
هذا من الشيطان، والواجب عليك أن تعالجه بالإقبال على الله سبحانه وتعالى، وبالعزيمة الصادقة والرغبة في الصلاة، والله يعينك .
وقد جاء في الحديث الصحيح : ( إن الرجل إذا نام؛ عقد الشيطان على ناصيته ثلاث عقد، وقال : ارقد؛ فإن عليك ليلاً طويلاً، فإذا قام المؤمن وذكر الله؛ انحلت عقدة، فإذا توضأ؛ انحلت العقدة الثانية، فإذا صلى؛ انحلت العقدة الثالثة، وأصبح طيب النفس، منشرح الصدر، وإذا لم يقم، ولم يذكر الله عز وجل، ولم يصلِّ؛ فإنها تبقى عليه هذه العقد، ويصبح خبيث النفس كسلان ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/46 ) ] .
فهذا من الشيطان؛ فإنه يثبط عن الطاعة، ويثقلها على العبد، ولا سيما الصلاة .
قال الله سبحانه وتعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ سورة البقرة : آية 45 ] .
فأخبر أن الصلاة كبيرة؛ إلا على الذين يخشون الله سبحانه ويخشعون له؛ فإن الله يسهلها عليهم، وتصبح نعيم قلوبهم وقرة عيونهم؛ كما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستريح في الصلاة؛ لأنه يتلذَّذ بها، وهي خفيفة عليه، طيِّبة بها نفسه، وهكذا كل مؤمن يناله من هذا الوصف، بحسب إيمانه وتقواه، وإنما تثقل الصلاة على المنافقين .
قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ سورة النساء : آية 142 ] .(49/3)
قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ سورة التوبة آية : 54 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/160 ) ] .
فعليك أيها السائل بالاستعانة بالله عز وجل، والحرص على أداء الصلاة، والإقبال عليها، وعند ذلك؛ يتولى عنك الشيطان، وتسهل عليك الصلاة، وتألفها نفسك، وتقر بها عينك إن شاء الله، ويذهب الله عنك هذا الثقل وهذا التعب الذي تذكره عند الوضوء وعند الصلاة .
43 ـ ما هي الحالات التي يعفى الإنسان فيها من أداء الصلاة بالكلية ؟
لا يعفى أحد من أداء الصلاة بالكلية مادام عقله ثابتًا؛ إلا أنه يصلي على حسب حاله؛ يصلي قائمًا، فإن لم يستطيع؛ فقاعدًا، فإن لم يستطع؛ فعلى جنب، ولا يُعفى أحد من الصلاة إذا بلغ وكان عاقلاً .
أما إذا كان صغيرًا دون البلوغ، أو كان مجنونًا، أو زائل العقل بالكلية؛ فهذا يرتفع عنه التكليف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة : الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/137-139 ) ] .
فالحاصل أن الصلاة لا تسقط عن المسلم البالغ العاقل مادام عقله ثابتًا، ولكنه يصلي على حسب حاله .(49/4)
44 ـ شابة عربية مسلمة تزوجت من رجل لا تعرفه من قبل، كان يعمل بألمانيا الغربية، وطلب من أبيها أن تعيش معه، ووافقت هي على ذلك، وبعد أن تم الزواج؛ ذهبت معه إلى ألمانيا، وخلال حياتها معه اكتشفت أنه لا يصلي ولا يصوم، بل كان يرغمها على طبخ طعام له في نهار رمضان؛ إضافة إلى ارتكاب بعض المنكرات الأخرى، وقد حاولت إصلاح شأنه، لكن دون فائدة؛ مما جعلها تطلب منه الطلاق، وفعلاً حصل لها ذلك، فتقول : هل هي على حق في طلبها الطلاق من هذا الزوج لذلك السبب ؟ ثم إنها تقول : إنها رجعت على بلجيكا مع بعض جيرانها سابقًا، وهي تعمل هناك للإنفاق على نفسها وعلى والدها الفقير الحال، وهي تعيش بمفردها مع عائلة هناك، ولكنها تعيش معهم في المنزل فقط، أما أكلها ونومها فمنفردة، وهم منحوها الحرية في ممارسة ما يأمرها به الدين من صلاة وصيام وغيره، ولكنها تسأل عن بقائها بمفردها مع هذه العائلة؛ هل فيه مخالفة للدين ؟ وكذلك الصلوات تقول : إنها لا تصلي إلا بعد عودتها من العمل، تصلي جميع الصلوات؛ لكون مكان العمل غير صالح لأداء الصلاة فيه لعدة اعتبارات؛ فما الحكم في هذا ؟
أولاً : نشكرك أيها السائلة على تمسكك بالدين وحرصك على التزام شعائره .
وأما ما سألت من فراقك للزوج لمّا رأيت منه عدم تمسكه بالدين وأنه لا يصلي ولا يصوم؛ فهذا هو الواجب عليك، ولا يجوز لك البقاء معه على هذه الحالة؛ لأن من ترك الصلاة متعمدًا؛ فإنه كافر، لا تبقى معه مسلمة في عصمته، فأحسنت كل الإحسان في مفارقتك لهذا الزوج السيئ، وفرارك بدينك عنه .(49/5)
وأما ما سألت عنه من ذهابك إلى بلجيكا بمفردك وعملك عند عائلة أجنبية هناك؛ فالذي ننصحك به أن تعودي إلى بلدك، أو أن تصطحبي الوالد معك إذا أردت السفر إلى بلجيكا أو غيرها، أما أن تسافري وحدك وتسكني وحدك وتعملي عند عائلة أجنبية منك؛ فهذا لا يقره الإسلام، ولا يرضى به الله سبحانه وتعالى؛ لأن المرأة عورة، ولا يجوز لها أن تسافر بدون محرم؛ لأن ذلك يعرضها للفتنة، ويعرض غيرها للافتتان بها .
وأما الصلوات؛ فلا بد أن تؤدى في أوقاتها، ولا يجوز لك جمعها في وقت واحد، وبإمكانك أن تحاولي العثور على مكان للصلاة في مقر العمل، وتفرشي سجادة أو ثوبًا، وتصلي عليه في وقت الصلاة .
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ سورة الطلاق : آية 2، 3 ] .
45 ـ والدتي توفيت وهي لا تصلي؛ فهل يجوز أن أصلي لها وأهديها ؟
إذا كانت والدتها مختلة العقل، أو لم يهيأ لها من يعلمها، وقد تركت ما تركته عن خلل في عقلها، أو عن عدم وجود من يبصرها ويعلمها؛ فهذه أمرها إلى الله، ولا يدعا لها، وإذا كانت عاقلة، ولديها من يعلمها ويدلها ويرشدها، ومع ذلك تركت الصلاة وشرائع الإسلام؛ فإن هذه ماتت على غير الإسلام، ولا يفيدها الصلاة عنها؛ لأنه لا يصلي أحد عن أحد . والله أعلم .
46 ـ أنا شاب أحافظ على بعض الصلوات في المسجد، وأحيانًا أؤخرها عن وقتها بغير عذر؛ كما أنني إذا كنت مرهقًا من العمل أنام عن صلاتي العصر والمغرب، وكانت نيتي أن لا أقوم من النوم إلا بعدهما أو أحدهما على الأقل؛ فهل صلاتي صحيحة إن صليتها بعد الاستيقاظ من النوم ؟ كما أنني أحيانًا قد لا أكون مرهقًا من العمل، ولكن أفوت صلاة العصر أو المغرب أو العشاء، أو أفوت صلاتين متتاليتين؛ فما حكم فعلي هذا ؟ أفيدونا مأجورين جزاكم الله خيرًا .(49/6)
قال الله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ سورة النساء : آية 103 ] . أي : مفروضة في أوقات معينة، لا يجوز إخراجها عنها، فمن أخرجها عنها من غير عذر شرعي؛ كان مضيعًا للصلاة .
قد قال تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ سورة مريم : آية 59 ] ، والمراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها، لا تركها بالكلية؛ كما ذكر ذلك أئمة المفسرين .
وفي الأثر : ( إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، ولله عمل بالنهار لا يقبله في الليل ) [ هذا يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . (1).
وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( من فاته صلاة العصر؛ فقد حبط عمله ) ، وفي رواية : ( فكأنما وتر أهله وماله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/138 ) ] ، والمراد فوات وقتها .
فالواجب على المسلم أداء كل صلاة في وقتها مع الجماعة في المسجد، ولو كان مرهقًا من العمل، بل الواجب أن يفرغ وقت الصلاة من العمل لأداء الصلاة .
أحكام الآذان
47 ـ هل يشرع تأخير الأذان بتأخير الصلاة ؟ وهل يصح الاحتجاج بحديث ( أبردوا . . . ) ؟ أثابكم الله .
نعم؛ يشرع تأخير أذان الظهر في شدة الحر في الصيف، حتى يحصل الإبراد الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت؛ رفقًا بالناس؛ لأنه لو قدم الأذان؛ لحضر الناس إلى المسجد، وخرجوا في شدة الحر، فلم يحصل المقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اشتد الحر؛ فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/135 ) ] ، وهذا من الرفق بالأمة، ومن يسر هذه الشريعة السمحاء؛ فلله الحمد والمنة .(49/7)
48 ـ إن إمام المسجد لا يؤذن الأذان الأول للجمعة، ولكن يكتفي بقراءة القرآن الكريم بمكبر للصوت التابع للمسجد من وقت الأذان الأول إلى موعد الأذان الثاني؛ فما الحكم في هذا ؟
هذا الإمام ترك السنة وأتى ببدعة؛ لأن الأذان الأول سنة الخلفاء الراشدين؛ فقد أمر به عثمان رضي الله تعالى عنه في خلافته لما كثر الناس وتباعدت أماكنهم، فصاروا بحاجة إلى من ينبههم لقرب صلاة الجمعة، فأمر رضي الله عنه بالأذان الأول؛ ليستحث الناس للحضور لصلاة الجمعة، فصار سنة إلى يومنا هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/15-17 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/57 ) ] ، وعثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد فعل هذا وأقره الموجودون في خلافته من المهاجرين والأنصار، فصار سنة ثابتة .
فهذا الذي ترك هذا الأذان الذي أمر به الخليفة الراشد، واستبدله بقراءة القرآن بمكبر الصوت؛ قد أتى ببدعة؛ لأن تلاوة القرآن في هذا الموطن وبهذه الصفة تكون بدعة، ليس من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل أصحابه، ولا من عمل القرون المفضلة .
فالواجب على المسلمين أن يقتصروا على المشروع، وأن لا يحدثوا شيئًا من عند أنفسهم، وقراءة القرآن من المكبر لا تكفي عن الأذان الأول يوم الجمعة . . . وعن غيره من الأذان المشروع .
49 ـ ما حكم الترديد خلف المؤذن ؟ وهل يُشرع ذكرٌ بعد الإقامة أم لا ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .(49/8)
المشروع متابعة المؤذن؛ بأن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن من التكبير والتهليل وغيره من ألفاظ الأذان إلا في الحيعلتين فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وكذا تشرع متابعة ألفاظ الإقامة؛ لأنها أذان، أما الدعاء بعدها؛ فلم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
50 ـ سمعت أنه لا تجوز صلاة بدون أذان؛ حيث إنني أعمل لوحدي بالبر، وأصلي والحمد لله، لكن بدون أذان؛ فهل صلاتي جائزة أم لا ؟ وإذا كانت جائزة؛ فماذا ينبغي عليَّ أن أفعل في الصلوات السابقة ؟
الصلاة تجوز بدون أذان وتصح، ولكن الأذان عبادة مستقلة، وهو إعلام بدخول الوقت، وشعار للإسلام، وفيه فضل عظيم؛ فينبغي المحافظة عليه، والأذان لكل وقت عند دخوله، ولو كان الإنسان وحده؛ فإنه يستحب له أن يؤذن ويصلي، وفي ذلك فضل عظيم وثواب كبير، أما لو صلى الإنسان، أو صلى الجماعة؛ من غير أذان؛ فصلاتهم صحيحة، لكن يفوت عليهم أجر الأذان وثوابه .
51 ـ ما هو الوقت الذي يفصل بين أذان الجمعة الأول والثاني ؟
الوقت الذي يفصل بين أذان الجمعة الأول والثاني هو الوقت الكافي للناس في أن يتهيئوا لصلاة الجمعة ويذهبوا إليها .
فالأذان الأول لتنبيه الناس على قرب وقت صلاة الجمعة، حتى يتهيئوا ويذهبوا، وقد أمر به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في خلافته لما كثر الناس في المدينة، أمر من ينادي على مكان يقال له ( الزوراء ) (2) في المدينة حتى ينتبه الناس وينتهوا من بيعهم وشرائهم وأعمالهم الدنيوية ويتجهوا إلى صلاة الجمعة .
وأما الأذان الثاني؛ فهذا إنما يكون إعلامًا بدخول وقت الصلاة، وهو عند دخول الإمام وجلوسه على المنبر؛ كما كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم .(49/9)
فعرفنا الغرض من الأذانين : أن الأذان الأول لتنبيه الناس للذهاب لصلاة الجمعة، ويكون في وقت متقدم ومبكر؛ بحيث يستطيع الناس أن يتهيئوا ويذهبوا مبكرين لصلاة الجمعة . وأما الغرض من الأذان الثاني؛ فهو الإعلام بدخول الوقت، ويكون إذا حضر الخطيب وجلس على المنبر؛ كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
ولابد أن يكون بين الأذانين وقت حتى يكون للأذان الأول فائدة، أما أن يقرن الأذان الأول مع الثاني ولا يكون بينهما إلا وقت يسير؛ كما يعمل هذا في بعض البلاد؛ فهذا يلغي الفائدة من الأذان الأول، ولم يكن هذا هو الذي قصده عثمان رضي الله عنه حينما أمر به، ولا يكون له فائدة .
52 ـ اعترض أحد المصلين على المؤذن بقوله : حي على الصلاة؛ بالتاء، وقال : إنه يجب أن يقول : حي على الصلاه؛ بالهاء، ولكن المؤذن قال : الجميع جائز، سواء بالتاء أو بالهاء؛ فهل هذا صحيح ؟
الأولى عند الوقف أن يقول : حي على الصلاه؛ بالهاء؛ كما في مقتضى اللغة على المشهور، وإذا قالها بالتاء؛ فلا بأس بذلك؛ فلا ينبغي التشديد في ذلك؛ لأنه لا يترتب عليه محذور شرعي، ولا إخلال بالمعنى . والله أعلم .
قال ابن مالك في " الألفية " :
في الوقفِ تا تأنيث الاسم ها جُعِلْ ** إنْ لم يكن بساكنٍ صَحَّ وُصِلْ
قال الشارح : " إذا وقف على ما فيه تاء التأنيث، فإن كان فعلاً؛ وقف عليه بالتاء؛ نحو، هندٌ قامت، وإن كان اسمًا : فإن كان مفردًا؛ فلا يخلو إما أن يكون ما قبلها ساكنًا صحيحًا أو لا، فإن كان ما قبلها ساكنًا صحيحًا؛ وقف عليه بالتاء؛ نحو : بنت وأخت، وإن كان غير ذلك؛ وقف عليها بالهاء؛ نحو؛ فاطمه وحمزه وفتاه " (3).
صفة الصلاة
53 ـ أرجو الإفادة عن التكبيرة في الصلاة : هل فيها فرق بين الرجال والنساء ؟ وأيضًا القراءة السرية والجهرية ؟(49/10)
التكبير في الصلاة لا فرق فيه بين الرجال والنساء : تكبيرة الإحرام ركن في حق الرجل والمرأة، وبقية التكبيرات واجبة في حق الرجل والمرأة؛ لا فرق في ذلك، لكن المرأة لا ترفع صوتها بالتكبير إذا كانت بحضرة رجال غير محارم .
وأما القراءة السرية والجهرية؛ فهي كذلك، لا فرق بين الرجل والمرأة، صلاة الليل جهرية، وصلاة النهار سرية؛ إلا أن المرأة إذا كان عندها من يسمع صوتها من الرجال؛ فإنها تُسرُّ به ولا ترفعه خشية الافتتان بصوتها، أما إذا كانت ليست بحضرة رجال؛ فلا بأس أن تجهر في صلاة الليل .
54 ـ هل يشرع للإمام السكوت بعد قراءة الفاتحة ليتمكن المصلي من قراءة الفاتحة أم لا ؟ أفتوني مأجورين .
الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم سكتتان (4):
إحداهما : بعد تكبيرة الإحرام، حتى يأتي بدعاء الاستفتاح والتعوذ سرًّا قبل قراءة الفاتحة .
والثانية : بعد فراغه من القراءة، وقبل الركوع، حتى يرجع إليه نفسه .
أمّا السكوت بعد قراءة الفاتحة من الإمام ليتمكن المأموم من قراءة الفاتحة؛ فهذا لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استحسنه بعض العلماء، لكن لا ينكر على من فعله ولا من تركه؛ لأن المأموم مشروع في حقه قراءة الفاتحة، ومشروع له الاستماع لقراءة إمامه، فمن أجل الجمع بين المصلحتين؛ استحسن بعض العلماء هذه السكتة . والله أعلم .
55 ـ هل تصح صلاة المنفرد وحده خلف الصف ؟
لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته، رواه الخمسة إلا النسائي، وجاءت بمعناه أحاديث [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/228 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/302-306 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/179 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/320، 321 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/333، 334 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 3/104، 105 ) ورواه غيرهم ] .(49/11)
والواجب على من جاء وقد أقيمت الصلاة أن يدخل في الصف إن وجد له مكانًا فيه، أو يدخل عن يمين الإمام إذا أمكن، أو ينتظر حتى يأتي من يصف معه، ولا يصلي وحده خلف الصف؛ للنهي عن ذلك .
56 ـ هناك من يقول : إنه لا تجوز الصلاة للمنفرد خلف الصف؛ ما صحة هذا القول ؟
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( لا صلاة لفذ خلف الصف ) ، أو : ( لفرد خلف الصف ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/23 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/320 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 3/105 ) ] .
وعليه كثير من أهل العلم : أنه لا يجوز للإنسان أن يصلي خلف الصف ركعة كاملة، أما لو أحرم الإنسان وحده خلف الصف، وقبل أن يركع جاء معه آخر؛ صحت صلاته .
أما لو صلى مع الإمام ركعة فأكثر وحده؛ فإن هذا لا يصح؛ للحديث : ( لا صلاة لفرد خلف الصف ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/23 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/320 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 3/105 ) ] .
وبعض العلماء يجيز صلاة الفذ خلف الصف للضرورة؛ بحيث إما أن يصلي فذًّا، وإما أن يُصلي وحده غير مقتد بالإمام؛ فإنه في مثل هذه الحالة يرى بعض أهل العلم أن صلاة هذا الفذ صحيحة للضرورة، والصحيح الأول . والله أعلم .
57 ـ ما حد ارتفاع السترة أمام المصلي في صلاته ؟ وهل يكفي الخط باليد ؟
اتخاذ السترة أمام المصلي سنة في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم؛ فسترته سترة إمامه؛ من جدار، أو عمود، أو عصا؛ يغرزه في الأرض وينصبه أمامه، أو يعرضه أمامه، أو أي شيء شاخص من شجرة أو حجر، والأفضل أن تكون السترة مرتفعة قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئًا شاخصًا؛ خط خطًّا .
58 ـ ما حكم الحائل الموجود أحيانًا بين الجبهة وموضع السجود ؟ وسواء كان شعرًا، أو كان قلنسوة، أو ما أشبه ذلك ؟ وهل يدخل في ذلك النساء ؟ أفتونا غفر الله لكم .(49/12)
الأفضل أن يباشر المصلي بأعضاء السجود، وإذا سجد على حائل طاهر؛ فلا بأس؛ ما لم يكن هذا الحائل مما يشبه شعار الرافضة؛ من تخصيص الجبهة بشيء دون سائر البدن؛ فإن الفقهاء كرهوا ذلك، أما إذا كان هذا الحائل لحاجة؛ كوجود الحرارة أو الشوك في الموضع الذي يصلي فيه؛ فلا بأس أن يتوقى ذلك بحائل؛ كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يسجدون على أطراف ثيابهم توقيًا لحرارة الأرض (5).
59 ـ ماذا يقول المصلي إذا سجد للسهو، للتلاوة ؟
يقول المصلي في السجود للسهو ما يقوله في السجود للصلاة : " سبحان ربي الأعلى " ؛ مرة أو أكثر، ويدعو كما في غيره من أنواع السجود .
60 ـ سافرت عدة مرات بالقطار والطائرة، ولا يسمح للركاب بالحركة، وأريد أن أصلي الفروض التي وجبت؛ فكيف أصلي ؟ وما حكم الدين ؟
إذا كانت الرحلة بالقطار أو الطائرة تبدأ بعد دخول وقت الظهر أو المغرب؛ فإن المسافر يجمع بين الصلاتين جمع تقديم قبل الركوب، وإن كانت الرحلة تبدأ قبل دخول وقت الصلاة الأولى من الصلوات المذكورة؛ فإن المسافر ينوي جمع التأخير ويصلي الصلاتين إذا نزل، ولو كان نزوله في آخر وقت الثانية، وإن كانت الرحلة تستمر إلى ما بعد خروج وقت الثانية؛ فإن المسافر يصلي في القطار أو الطائرة، في المكان المناسب، على حسب حاله، وكذا صلاة الفجر إذا كانت الرحلة تستمر إلى ما بعد طلوع الشمس؛ فإن المسافر يصليها في القطار أو الطائرة على حسب حاله، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] .
ويجب على المصلي أن يتجه إلى جهة القبلة أينما كان اتجاه الرحلة؛ لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ سورة البقرة : آية 144 ] .(49/13)
61 ـ هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قول : " سبحان الله العظيم " ؛ بدل قول : " سبحان ربي العظيم " ؛ في الركوع؛ لأني أسمع بعض الناس يقولونها، وإن كانت لم ترد، وقالها بعض الناس؛ فما حكم صلاتهم ؟
الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/536، 537 ) ] ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/353 ) ] ، وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/350 ) ] ، وإذا قال المصلي : " سبحان الله العظيم " ؛ بدل : " ربي " ؛ فصلاته صحيحة، ولكن الأولى أن يأتي باللفظ الوارد، ويتقيد به .
62 ـ هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمة واحدة في الصلاة؛ يعني : أن يقول المصلي : السلام عليكم؛ إلى الجهة اليمنى، ويقول : ورحمة الله؛ إلى جهة اليسار ؟ أم تختلف باختلاف المذاهب ؟
الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث، وحفظه جماعة كثيرون من أصحابه : أنه عليه الصلاة والسلام كان يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره، ويقول عن يمينه : ( السلام عليكم ورحمة الله ) ، ويقول عن يساره : ( السلام عليكم ورحمة الله ) ، هذا الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (6) ، وحفظه عنه جماعة كثيرة من أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/155 ) ] ؛ فيجب التقيد بذلك، والله الموفق .
وأما الصورة التي ذكرها السائل للسلام من الصلاة؛ فلا أعرف لها أصلاً . والله أعلم .
63 ـ متى يكون تحريك الإصبع في الصلاة وفق السنة المطهرة ؟(49/14)
تحريك أصبعه السبابة من اليد اليمنى في التشهد عند ذكر الجلالة إشارة إلى التوحيد، ويتكرر ذلك كلما تكرر ذكر الجلالة . والله أعلم .
64 ـ لي زملاء في العمل، ولنا رئيس يرأسنا في الشركة، وفي يوم ذهب الجميع لأداء فريضة الجمعة، وقد عينني رئيس الشركة في محل العمل وقت الصلاة، وكنت متشوقًا لأداء الصلاة جماعة، ولكن فعلاً العمل محتاج لفرد يبقى في محل العمل، وعندما سمعت الصلاة مقامة؛ وضعت الراديو أمامي، وصليت مع الجماعة عن طريق الراديو صلاة الجمعة، ولكنني بعد ذلك صليت الظهر خوفًا من عدم صحة صلاة الجمعة هذه؛ ما الحكم في ذلك ؟
مما لا شك فيه أن على المسلم العناية بحضور صلاة الجمعة وصلاة الجماعة؛ لأن هذا من واجبات دينه، وما ذكره السائل من أنه يهتم بهذا الأمر شيء يشكر عليه ويرجى له المزيد منه .
وأما قضية إذا كان العمل يتطلب من يبقى حارسًا على معدات أو أشياء مالية يخاف عليها لو ذهب الجميع للصلاة؛ فإنه لا بأس أن يبقى من تنسد به الحاجة لأجل حراسة هذه الأموال، ويكون معذورًا عن حضور الجمعة والجماعة .
أما إذا لم يتطلب الأمر ذلك؛ فإنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن صلاة الجمعة والجماعة بحجة العمل أو بحجة أن رئيس الشركة لا يسمح له . . . وما أشبه ذلك؛ لأن الصلاة مقدمة على كل شيء، ووقتها مستثنى من وقت العمل، ولا سلطان لمخلوق على وقت الصلاة بأن يمنع المسلمين من الذهاب إلى الصلاة في المساجد؛ إلا في حالة العذر الشرعي؛ كما ذكر السائل من أن العمل في الشركة يتطلب وجود من يحرس معدات الشركة .(49/15)
وأما ما ذكره من أنه صلى خلف الراديو؛ فإن هذا عمل لا يصح، ولا يجوز الاقتداء بالإمام الذي تنقل صلاته بالراديو؛ لأن هذا الإمام بعيد عنه، وبينه وبينه مسافات، وربما يكون في غير اتجاهه أيضًا للقبلة؛ فلا يجوز الاقتداء بالإمام من الراديو، وهذا من الخطأ الواضح، وما فعله السائل خطأ، لكن مادام أنه صلى الظهر؛ فهذا هو الذي يجب عليه، أما ما ذكره من صلاته خلف المذياع؛ فالصلاة لا تصح .
65 ـ هل يجوز أن ألحق الصلاة على الملائكة بالصلاة على الرسول في التشهد ؟
الصلاة في التشهد يقتصر فيها على الوارد، ولكن في قولنا : ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) (7): ما يشمل كل عبد صالح في السماء أو في الأرض، وتدخل فيه الملائكة من باب أولى .
66 ـ أنا معلم من القطر العربي السوري، معار في القطر اليمني الشقيق للتدريس، وعينت في منطقة يعم فيها مذهب مخالف لمذهبي الذي هو الشافعي، وفي هذه المنطقة التي أنا فيها يصلون العشاء بعد أذان المغرب بنصف ساعة فقط، وأنا في نفسي غير مقتنع بذلك، ولكني ناقشتهم في هذا الأمر، وقال لي أحدهم : بأن هناك حديث يقول : بأن صلاة العشاء بعد غياب الشفق الأحمر، ويقدر الزمن بنصف ساعة فقط بعد أذان المغرب، فأصلي العشاء معهم جماعة، فهل يجوز هذا التصرف مني ؟ أم عليَّ أن أذهب إلى البيت وأصلي العشاء بعد دخول وقتها الحقيقي ؟ وإذا كان لا يجوز أن أصلي معهم؛ فما حكم في صلواتي السابقة ؟ أفيدوني بارك الله فيكم .
وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الشفق الأحمر؛ كما جاء ذلك في الحديث، أما ما ذكرت من أنه بين المغرب والعشاء نصف ساعة؛ فهذا لا أتصوره؛ إلا إذا كانوا يؤخرون صلاة المغرب عما بعد غروب الشمس، حتى لا يبقى قبل مغيب الشفق الأحمر إلا نصف ساعة؛ فإنها تصح الصلاة .(49/16)
المهم أنه إذا غاب الشفق الأحمر؛ فإنه يحل وقت صلاة العشاء، فإذا صليتها بعد مغيب الشفق الأحمر؛ فهي في وقتها، أما صلاة المغرب؛ فيدخل وقتها بمغيب الشمس، ولا أتصور أن لا يكون بين غروب الشمس ومغيب الشفق الأحمر إلا نصف ساعة، فيكونون قد أخطؤوا حيث أخروا صلاة المغرب عن أول وقتها، مع أن الأفضل أن تُصلى في أول وقتها؛ إلا إذا كان ما عندهم من التوقيت يختلف عن غيرهم حسب التوقيت الفلكي . والله أعلم .
67 ـ أحيانًا في الصلاة أستعجل في الركوع والسجود، وأعلم أن أول ما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة الصلاة؛ فهل يجوز لي أن أصلي صلاة احتياطية تعوض ما حصل من نقص في الأولى ؟
الصلاة الاحتياطية غير مشروعة، ولكن عليك أن تجتهد في إحضار قلبك في الخشوع في صلاتك، وأن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في مبدأ الصلاة بعد الاستفتاح الذي تقوله بعد تكبيرة الإحرام؛ تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتحاول إحضار قلبك وفكرك في الصلاة، وأن تتعقل الصلاة، هذا هو الواجب عليك، وإن حصل منك بعض الهواجس أو بعض الأفكار ثم طرحتها عنك وعاودت استحضار الصلاة والحضور فيها؛ فإن هذا لا يضرك إن شاء الله، أما أن تصلي صلاة احتياطية؛ فهذا غير مشروع .
68 ـ ما هي مواضع رفع اليدين في الصلاة ؟
رفع اليدين عند التكبير في الصلاة إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أربعة مواطن (8) :
1ـ عند تكبيرة الإحرام .
2ـ عند التكبير للركوع .
3ـ عند الرفع من الركوع .
4ـ عند القيام من التشهد الأول، وهذا فيه خلاف، وأما المواطن الثلاثة الأولى؛ فالجمهور من أهل العلم على مشروعية رفع اليدين فيها .
69 ـ هل يجوز قراءة سورتين بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين ؟ وهل يجوز قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعات الثالثة والرابعة ؟(49/17)
أما في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية؛ كالظهر والعصر والعشاء، كذلك الأوليين من المغرب؛ فيشرع أن يقرأ بعد الفاتحة ما تيسر من القرآن، أما أن يقرأ سورة كاملة أو بعض سورة، ولو اقتصر على آية؛ فلا بأس، لكن كلما كانت القراءة أطول؛ كان أفضل في الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب؛ فينبغي أن تخفف القراءة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، وإذا قرأ فيهما قراءة طويلة بعض الأحيان؛ فهذا سنة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ ( المرسلات ) ، وقرأ بـ ( الطور ) وبـ ( الأعراف ) [ رواه البخاري في »صحيحه« ( 1/185،186 ) ] قسمها بين الركعتين، ولكن الغالب أنه يقرأ في صلاة المغرب في الأوليين بقصار السور .
أما في الركعتين الأخيرتين؛ فلا يشرع أن يقرأ بعد الفاتحة بشيء من القرآن، بل يقتصر على قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين؛ هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي قتادة وغيره : أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ في الركعتين الأخيرتين من الرباعية والثالثة من المغرب شيئًا من القرآن بعد الفاتحة، وإنما كان يقتصر على الفاتحة (9) .
70 ـ في أثناء الصلاة المفروضة؛ هل يدعو الإنسان وهو يصلي مثلاً بعد الانتهاء من سورة الفاتحة والسورة التي بعدها ؟ هل يجوز الدعاء بعدهما، وقبل الركوع، وأثناء الركوع، وفي السجود، وبعد الرفع من السجود ؟
أما الدعاء في القيام في الصلاة؛ فهذا لا يشرع إلا في النافلة : إذا مر القارئ بآية فيها رحمة؛ فإنه يسأل الله، وإذا مر بآية فيها ذكر العذاب؛ فإنه يستعيذ بالله من العذاب؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في قيام الليل (10) .
أما أنه إذا فرغ من القراءة يقف ويدعو قبل الركوع؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه غير مشروع، وفعله يكون بدعة .(49/18)
أما الدعاء في الركوع والدعاء في السجود والدعاء في التشهد الأخير؛ فهذا مشروع ومطلوب من المسلم، ولا سيما في السجود؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الدعاء في السجود؛ قال : ( وأما السجود؛ فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/348 ) ] ، وقال : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/350 ) ] ؛ فالدعاء في السجود له أهمية كبرى؛ فينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء فيه .
وكذلك؛ فالدعاء في التشهد الأخير بعدما يفرغ من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يدعو قبل السلام، ولا سيما الاستعاذة بالله من الأربع التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منها : ( أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيى والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/412، 413 ) ، وانظر : " صحيح البخاري " ( 1/202 ) ] ؛ هذا الدعاء يتأكد للمسلم أن يدعو به، وأن يستعيذ من هذه الأربع قبل السلام، وما زاد على ذلك من الدعاء النافع؛ فهو مشروع في هذا الموطن . والله أعلم .
71 ـ ما حكم التحليق بالأصبع في قراءة التشهد ؟ وهل يعد من الحركات الكثيرة أو لا؛ علمًا بأني شاهدت أناسًا كثيرين يفعلون هذه الطريقة؛ فما الحكم في ذلك ؟
المصلي في جلوسه للتشهد في الصلاة يضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مضمومة الأصابع ممدودة، ويضع كفه اليمنى على فخذه الأيمن، ويقبض الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة رفعًا يسيرًا إشارة إلى التوحيد، ويحركها تحريكًا يسيرًا عند الدعاء وعند ذكر الله سبحانه وتعالى؛ إشارة إلى التوحيد، ولا يحركها دائمًا .
72 ـ هل يقرأ المصلي الصلوات الإبراهيمية في التشهد الأول ؟(49/19)
الجمهور على أن المصلي لا يقرأ الصلاة الإبراهيمية بعد التشهد الأول، وإنما يقتصر على التشهد، فإذا بلغ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ فإنه ينتهي ويقوم للركعة الثالثة، ولا يقرأ الصلاة الإبراهيمية؛ إلا في التشهد الأخير، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم .
والصلاة الإبراهيمية هي : ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/305، 306 ) ] .
73 ـ قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا سجد أحدكم؛ فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه ) ؛ نرجو شرح الحديث .
نعم؛ هذا الحديث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/381 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/220 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 2/206، 207 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/347 ) ] ، وفيه النهي عن مشابهة البعير في الانحطاط للسجود؛ بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المصلي إلى أن يكون أول ما يضع على الأرض ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، فيكون مرتبًا هكذا :
أولاً : يضع ركبتيه على الأرض .
ثانيًا : يضع بعد ذلك يديه .
ثالثًا : بعد ذلك يضع جبهته وأنفه .
ولا يكون مشابهًا للبعير في بروكه؛ فإن البعير أول ما يهبط على الأرض يداه، ثم ركبتاه؛ فالمسلم المصلي يكون مخالفًا لبروك البعير في صلاته؛ فالبعير أول ما ينزل إلى الأرض أعلاه، وأما المصلي؛ فأول ما ينزل إلى الأرض أسفله شيئًا فشيئًا .
هكذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المصلي أن ينزل بالتدريج، وأما عند النهوض من السجود؛ فعلى العكس، أول ما يرتفع من الإنسان أعلاه، فيرتفع رأسه، ثم يداه، ثم ركبتاه .(49/20)
وهذا الحديث من جملة أحاديث نُهينا فيها عن التشبه بالحيوانات، نُهينا عن الالتفات في الصلاة كالتفات الثعلب، وعن نقر كنقر الغراب، وعن إقعاء كإقعاء الكلب، وافتراش كافتراش السبع، ورفع الأيدي عند السلام كالخيل الشمس، ومن ذلك هذا الحديث الذي نُهينا فيه عن التشبه بالبعير في صلاتنا، فنضع أيدينا على الأرض قبل الركبتين .
وأما ورود الحديث باللفظ الذي ذكره السائل : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ؛ فهو وهم من بعض الرواة؛ كما نبه على ذلك العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " (11) ؛ لأن هذا اللفظ يخالف أول الحديث، وهو النهي عن بروك كبروك البعير؛ فإذا وضع يديه قبل ركبتيه؛ فقد برك كما يبرك البعير؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولاً، ولعل أصل الحديث : ( وليضع ركبتيه قبل يديه ) ، فانقلب على بعض الرواة، فقال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
74 ـ ما حكم مرور الصبي أمام سجادة الصلاة ؟
إذا كان أمام المصلي سترة، كأن يكون أمامه شيء مرتفع؛ كجدار أو حجر أو عصا ونحوه؛ فإنه لا بأس أن يمر من ورائها الصبي وغير الصبي .
أما إذا كان ليس أمام المصلي سترة؛ فإنه يحرم المرور بين يديه؛ لأنه ورد وعيد شديد في حق المار بين يدي المصلي، وهو الذي يمر بينه وبين سترته، أو يمر قريبًا منه، إذا لم يكن هناك سترة . لكن الصبي غير مكلف فلا إثم عليه .
75 ـ عندما بدأت في الصلاة؛ رأيت ثعبانًا تحت قدمي؛ ماذا يجب عليَّ في هذه الحالة ؟ هل أسلم أم أستمر في صلاتي ؟(49/21)
إذا رأيت في الصلاة ثعبانًا أو عقربًا وأنت تصلي؛ فإن المشروع أن تقتله وأن تستمر في صلاتك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اقتلوا الأسودين في الصلاة : الحية والعقرب ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/240 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/58 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 3/10 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/56 ) ] ؛ فإذا عرض لك الثعبان؛ فاقتله بما يحضرك من العصا أو الحجارة أو غير ذلك، واستمر في صلاتك، ولا تقطعها .
76 ـ إذا غفل الإنسان، أو بدأ يفكر في صلاته ولم يخشع، وعندما سئل ماذا قرأ الإمام في الصلاة؛ لم يجب؛ هل صلاته صحيحة في مثل هذه الحالة ؟
صلاته صحيحة في مثل هذه الحالة؛ بحيث إنه لا يؤمر بإعادتها؛ لأنه قد أتى بالصلاة في الظاهر، لكنه لا يثاب عليها ولا يؤجر إلا بقدر ما عقل منها وحضر قلبه فيها؛ فهي غير صحيحة من ناحية الثواب والأجر، وهي صحيحة من ناحية الظاهر؛ بحيث لا يؤمر بالإعادة .
قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ سورة المؤمنون : آية 1، 2 ] .
وللصلاة الصحيحة تأثير في سلوك العبد وأعماله الأخرى .
قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ سورة العنكبوت : آية 45 ] .
فالذي يصلي بحضور قلبه وخشوع واستحضار لعظمة الله؛ هذا يخرج بصلاة مفيدة نافعة، تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ويحصل بها على الفلاح، أما الذي يصلي صلاة صورية؛ من غير حضور قلب ومن غير خشوع، قلبه في واد وجسمه في واد آخر؛ فهذا لا يحصل من صلاته على طائل .
77 ـ ما حكم تغطية الرأس في الصلاة ؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يغطي رأسه ؟ وهل يستحب للإمام أو المأموم أن يغطي رأسه ؟(49/22)
لا يلزم المصلي إذا كان رجلاً أن يغطي رأسه، بل يجوز للمصلي أن يصلي وهو مكشوف الرأس؛ لأن رأس الرجل ليس عورة يجب سترها، ولكن تغطية الرأس من تجميل الهيئة المستحبة في الصلاة؛ لقوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ سورة الأعراف : آية 31 ] ؛ فالتجميل للصلاة أمر مطلوب، وهو تزين بالثياب، وأقل حد في ذلك هو ستر العورة، وهذا لابد منه، وما زاد على ذلك؛ فإنه مستحب ومكمل للهيئة، ومن ذلك تغطية الرأس .
78 ـ قرأت حديثًا يقول : ( إذا صلى أحدكم؛ فليصل إلى سترة؛ لا يقطع الشيطان صلاته ) ؛ فما صحة هذا الحديث ؟ وما معناه ؟ أفتونا مأجورين .
نعم، وردت أحاديث صحيحة بأمر المصلي باتخاذ السترة أمامه (12) ، وهي شيء قائم بقدر قائمة الرحل، ونهى صلى الله عليه وسلم عن المرور بين يدي المصلي، وذكر فيه وعيدًا شديدًا (13)، وأمر المصلي بمنع المار بين يديه ومدافعته إذا احتاج إلى ذلك؛ لأن معه القرين، هو الشيطان (14).
فاتِّخاذ السترة مستحب في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم؛ فإن سترة الإمام تعتبر سترة له؛ فلا يحتاج إلى اتخاذ سترة خاصة، وكذا المصلي في المسجد الحرام، لا يمنع المارة بين يديه؛ للاضطرار إلى ذلك؛ بسبب شدة الزحام . والله أعلم .
79 ـ هل يجوز للمرأة أو غيرها أن تركع قبل الإمام، أو تسجد قبله، أو تسلِّم قبله ؟
لا يجوز للمأموم رجلاً كان أم امرأة أن يركع أو يسجد قبل الإمام، بل يجب أن تكون أفعال المأموم بعد أفعال الإمام :
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به : فإذا كبر؛ فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع؛ فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/168، 169 ) ] .
وقد جاء الوعيد في حق الذي يسابق الإمام بأنه يخشى أن يحول الله رأسه رأس حمار (15) .(49/23)
ولذلك يجب على المأموم ألا يسلِّم من الصلاة إلا بعد سلام إمامه، فإن فعل متعمدًا من غير عذر يجيز له مفارقة الإمام؛ بطلت صلاته . والله أعلم .
80 ـ هل يجوز للمرأة وهي تصلي أن تجهر بصلاتها، ويكون الجهر بصوت مسموع، وليس ذلك في الصلاة الجهرية، بل في السنن والرواتب والصلاة السرية، والغرض من ذلك أن ترتل؛ ليكون جالبًا للخشوع، ومبعدًا عن السهو، ولا يوجد عندها رجال ولا نساء ؟
أما في صلاة الليل؛ فإنه يستحب لها أن تجهر في قراءة الصلاة، سواء كانت فريضة أو نافلة؛ ما لم يسمعها رجل أجنبي يخشى أن يفتتن بصوتها، فإذا كانت في مكان لا يسمعها رجل أجنبي، وفي صلاة الليل؛ فإنها تجهر بالقراءة؛ إلا إذا ترتب على ذلك التشويش على غيرها؛ فإنها تسر .
أما في صلاة النهار؛ فإنها تسر بالقراءة؛ لأن صلاة النهار سرية، وإنما تجهر فيها بقدر ما تسمع نفسها فقط، حيث لا يستحب الجهر في صلاة النهار؛ لمخالفة ذلك للسنة .
81 ـ هل إذا عطس الشخص وهو في الصلاة عليه أن يحمد الله أم لا ؟
لا بأس أن يحمد الله سرًّا بينه وبين نفسه .
82 ـ يعني : لا يحرك لسانه بالحمد ؟
لو حركه يسيرًا، لا بأس بذلك، لكن لا يرفع صوته بالحمد لله .
83 ـ هل يشترط في صفوف النساء تسويتها وانتظامها ؟ وهل يكون حكم الصف الأول وغيره سواء؛ خاصة إذا كان مصلى النساء معزولاً تمامًا عن الرجال ؟
يشرع في صفوف النساء ما يشرع في صفوف الرجال؛ من حيث تسويتها، وانتظامها، وإكمال الصف الأول فالأول منها، وسد الفرج فيها، وإذا لم يكن بينهن وبين الرجال ساتر؛ فخير صفوفهن آخرها؛ من أجل البعد عن الرجال، وكما جاء في الحديث، وإن كان بينهن وبين الرجال فاصل وساتر؛ فالذي يظهر أن خير صفوفهن أولها؛ لزوال المحذور، ولأجل مصلحة القرب من الإمام . والله أعلم .(49/24)
84 ـ من الملاحظ أن النساء في رمضان يفضلن الصفوف الأخيرة في المسجد، ولكن الصفوف الأولى يبتعدون عنها، مما سبب فراغًا فيها، بينما تزدحم الصفوف الأخيرة، ويسد الطريق، أمام النساء الذاهبات إلى الصفوف الأولى، وهن يعلمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم بما معناه : ( أفضل صفوف النساء آخرها ) . نرجو الإفادة .
هذا فيه تفصيل :
إذا كان النساء يصلين من غير ستارة بينهن وبين الرجال؛ فإنهن كما جاء في الحديث : ( خير صفوف النساء آخرها ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/326 ) ] ؛ لأن الصفوف المتأخرة تكون بعيدة عن الرجال، وأما الصفوف المتقدمة؛ فتكون قريبة من الرجال .
أما إذا كن يصلين خلف ستارة بينهن وبين الرجال؛ فإن الأفضل الصفوف المتقدمة؛ لزوال المحذور، وتكون أفضل صفوف النساء أولها؛ كصفوف الرجال؛ لزوال المحذور، وهو خوف الفتنة، مادامت الستارة موجودة بينهن وبين الرجال، ويجب أن تترتب صفوفهن كترتيب صفوف الرجال، يكملن الصف الأول فالثاني وهكذا، وينتظمن كانتظام صفوف الرجال سواء ما دمن وراء الستارة .
أحكام قصر الصلاة وجمعها وأحكام المسافرين
85 ـ هل صلاة القصر والجمع تصح للمريض كما هي رخصة للمسافر ؟
القصر لا يجوز للمريض، ويجوز فقط للمسافر، قال تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ } [ سورة النساء : آية 101 ] ، والضرب في الأرض معناه السفر، أما الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما؛ كجمع الظهر مع العصر، وجمع المغرب مع العشاء تقديمًا أو تأخيرًا؛ فإنه يجوز للمريض إذا احتاج إليه؛ بأن كان الجمع أرفق به؛ فإنه يباح له الجمع في هذه الحالة، أما القصر؛ فلا يجوز للمريض؛ لأنه مقيم، والمقيم لا يجوز له القصر؛ لأنه رخصة للمسافر فقط .(49/25)
86 ـ في بعض المساجد عندنا يجمعون الصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء بدون عذر مبيح للجمع؛ فهل أصلي معهم، أو أصلي منفردًا في المسجد، أم في بيتي ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
الجمع بين الصلوات لا يجوز إلا لعذر شرعي كالسفر مثلاً والمرض الذي يحتاج المريض معه إلى الجمع، وكالمطر بالنسبة للمغرب والعشاء الآخرة، هذه الأعذار التي تبيح الجمع .
أما الجمع من غير عذر؛ فإنه لا يجوز .
أما ما ذكرت من أنهم إذا فعلوا هذا هل تصلي معهم أو لا؛ فكما أشرنا إلى أن هذا الجمع غير صحيح؛ فأنت لا تجمع معهم، ولكن صل الصلاة الأولى، وإذا قاموا للثانية؛ فلا تصل معهم، مع أنه يجب عليك أن تبين لهم أن هذا عمل لا يجوز، فإذا لم يستجيبوا؛ فصل معهم الصلاة الأولى، ولا تصل معهم الصلاة الثانية .
87 ـ أنا من ضمن مجموعة كلفنا بمهمة رسمية، وكانت هذه المهمة مؤقتة، واقتضت ظروف العمل الجمع والقصر أحيانًا كثيرة، وقد مضى الآن علينا في هذه المهمة ما يقارب شهرًا ونصف شهر، ونحن مستمرون على حالتنا هذه، مع العلم بأننا لا نعلم المدة التي سوف نمكثها في هذه المهمة، وأيضًا لم نتمكن من أداء صلاة الجمعة طيلة هذه المدة، مع العلم أن العدد الذي يجب أن تقام به صلاة الجمعة كاف، أفيدونا : هل نعتبر في هذه المدة مسافرين وينطبق علينا حكم المسافر أم لا ؟ وإذا بقينا مدة طويلة؛ هل يجوز بقاؤنا على حالتنا هذه ؟ أفيدونا في ذلك جزاكم الله عنا خير الجزاء .
إذا كان قضاء هذه المهمة التي أشرت إليها خارج بلدكم مسافة تبلغ ثمانين كيلو فأكثر، وأنتم لا تعلمون متى تنتهي، ولم تنووا الإقامة أكثر من أربعة أيام؛ فلا بأس أن تقصروا الصلاة الرباعية إلى ركعتين .
أما الجمع بين الصلاتين؛ فلا ينبغي لكم؛ لأنكم لستم في حالة سير، بل أنتم في حالة إقامة؛ فلا ينبغي الجمع إلا لمن جدَّ به السير، أما المسافر النازل؛ فإنه يصلي كل صلاة في وقتها؛ قصرًا بلا جمع، هذه هي السنة .(49/26)
أما صلاة الجمعة؛ فلا تجب عليكم في هذه الحالة التي ذكرت، إذا كنتم لا تدرون متى تنتهي مهمتكم ولم تنووا إقامة أكثر من أربعة أيام؛ فإنها لا تلزمكم صلاة الجمعة؛ لأنكم مسافرون، لكن إذا أقيمت قريبًا من محل عملكم في البلد؛ فالأفضل أن تصلوا مع المسلمين، ولا تنعزلوا، ولتحصلوا على الثواب .
وإذا نويتم إقامة أكثر من أربعة أيام، أو تعلمون أن المهمة لا تنتهي قبل أربعة أيام؛ فإنه يجب عليكم في هذه الحالة إتمام الصلاة أربعًا، ولا يجوز لكم القصر؛ لأن الأصل في الإقامة إتمام الصلاة، وأنتم مقيمون؛ فيجب عليكم ما يجب على المقيمين، والله تعالى أعلم .
88 ـ إذا نزل مسافر للقصر في الطريق، وبقي من موطن إقامته كيلو أو أكثر؛ فهل يقصر أم لا ؟ ومتى يعتبر أن المسافر في حكم المقيم ؟ ومسافة القصر ؟
إذا بقي في سفره مسافة قليلة، وحضرت الصلاة، ويغلب على ظنه أنه يصل إلى البلد قبل خروج الوقت؛ فإن الأولى به أن يؤخر الصلاة حتى يصل ويصليها صلاة تامة؛ لأنه إذا وصل؛ انتهت أحكام السفر، ولو صلى في طريقه وقصر الصلاة في هذه الحالة؛ فصلاته صحيحة إن شاء الله؛ لأنه لا يزال مسافرًا إلى أن يدخل البلد، فإذا صلى في طريقه، وقصر الصلاة؛ صحت، ولو كان قريبًا من البلد؛ إلا أن الأولى والأحسن له أن يؤخرها إلى أن يصل ويصليها تمامًا .
أما المسافة التي يقصر فيها المسافر؛ فهي كما في الحديث : مسيرة يومين للراحلة بمشي الأقدام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا مع ذي محرم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/35، 36 ) ] .(49/27)
ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر مسيرة اليومين سفرًا يحتاج معه إلى المحرم، فدل على أن ما دون ذلك لا يعتبر سفرًا، ومسيرة اليومين قد حررت بالكيلومترات المعروفة الآن بـ ( 80 ) كيلو مترًا؛ فإذا كانت مسافرة السفر ثمانين كيلو مترًا وأكثر؛ جاز فيها القصر والإفطار في رمضان، وإن كانت دون ذلك؛ فلا . . . ! .
أما الإقامة العارضة التي يقيمها الإنسان في أثناء السفر في بر أو في بلد : إذا كانت هذه الإقامة ليس لها حد منوي، ولم يعزم على إقامة معينة، وإنما أقام لحاجة، ولا يدري متى تنتهي، وإذا انتهت يسافر؛ فإنه يقصر الصلاة في هذه الحالة؛ لأنه لا يزال متلبسًا بأحكام السفر، ولم ينو إقامة محددة، حتى ولو طالت، مادام أنه لم ينو إقامة محددة، وإنما إقامته مربوطة بحصول غرضه، أو زوال المانع الذي منعه، متى ما زال أو حصل على مقصوده؛ سافر؛ فهذا يقصر ولو طالت مدته .
وكذلك إذا نوى إقامة أقل من أربعة أيام؛ فإنه يقصر الصلاة أيضًا؛ لأن هذه الإقامة لا تخرجه عن حكم المسافر، ولأنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع أربعة أيام قبل الحج يقصر الصلاة (16).
أما إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام؛ فهذا يجب عليه إتمام الصلاة؛ لأنه صار مقيمًا، ويأخذ أحكام المقيمين، والأصل في المقيم أن يتم الصلاة، وهذا صار عازمًا على الإقامة المحددة، فيأخذ أحكام المقيمين بناء على الأصل .
89 ـ هل قصر الصلاة في السفر واجب، أم هو سنة مؤكدة ؟ وما حكم من ترك القصر في السفر وأتم صلاته ؟ هل في ذلك مخالفة للسنة ؟ أفتونا مأجورين .
قصر الصلاة في السفر الذي يبلغ ثمانين كيلو فأكثر سنة مؤكدة، وليس واجبًا، فلو أتم الصلاة؛ جاز ذلك، وصحت صلاته؛ لأنه تارك لرخصة، ولم يترك واجبًا، ولا إثم عليه في ذلك .(49/28)
90 ـ المسافة من منزلي إلى مقر عملي تقدر بحوالي مئتي كيلو متر، ولي في العمل مدة ثمان سنوات، حيث أبقى في العمل سبعة أيام وفي المنزل ثلاثة أيام؛ فهل أصلي الصلوات بحكم المسافر سواء في المنزل أو العمل ؟ أم لا ؟
إذا ذهبت إلى ذلك العمل الذي يبعد عن بلدك هذه المسافة المذكورة؛ فإنه يشرع لك قصر الصلاة الرباعية إذا كنت في الطريق ذهابًا وإيابًا، أما مدة إقامتك في منطقة العمل، وهي سبعة أيام كما ذكرت؛ فإنه يجب عليك فيها إتمام الصلاة؛ لأنك تكون فيها ناويًا للإقامة أكثر من أربعة أيام، ولو كانت تلك المدة متوزعة بين العمل والمنزل؛ ما داما متقاربين في بلد واحد . والله أعلم .
91 ـ إنني أسافر في كل أسبوع تقريبًا ما يقارب ثلاث مئة وخمسين كيلو متراً، ويكون وقت السفر عند الظهيرة، ولا نوقف السيارة على الطريق لأداء الصلاة؛ فهل يجوز أن أجمع صلاة العصر وصلاة الظهر جمع تقديم في بيتي ؟
إذا دخل وقت الظهر وأنت لم تبدأ السفر؛ فإنه يجب عليك أن تصلي صلاة الظهر تمامًا من غير قصر .
وأما صلاة العصر؛ فإن كان سفرك ينتهي وقت العصر؛ فإنك تصلي العصر تامة في وقتها إذا وصلت، أما إذا كان السفر يستمر من الظهر إلى بعد غروب الشمس؛ بحيث يخرج وقت العصر وأنت في السفر، ولا يمكنك النزول؛ لما ذكرت من أن صاحب السيارة لا يوافق على التوقف؛ فلا مانع من الجمع في هذه الحالة؛ لأن هذه حالة عذر تبيح الجمع، ولكن مع الإتمام .
إذا صليت العصر مع الظهر جمع تقديم وأنت في بيتك، وتريد السفر بعدها؛ فإنك تصلي الظهر والعصر تمامًا كل واحدة أربع ركعات، ولا بأس بالجمع؛ لأن الجمع يباح في هذه الحالة، أما القصر؛ فإنه لم يبدأ وقته؛ لأن القصر إنما يجوز بعد مفارقة البنيان الذي هو موطن إقامتك .
92 ـ متى يبدأ المسافر بقصر الصلاة ؟ هل بمجرد بدئه السفر ؟ وأيضًا؛ لو كان في بلده خلال سفره؛ كمن سافر من جدة من شمالها، ولحقته صلاة العصر في جنوبها؛ فهل يقصر أم لا ؟(49/29)
أحكام السفر تبدأ بالخروج من البلد، إذا خرج الإنسان من بلد إقامته؛ بأن فارق عامر البلد؛ أي : فارق البنيان؛ فإنها تبدأ أحكام السفر في حقه؛ من قصر الصلاة والفطر في رمضان وغير ذلك من أحكام السفر، أما ما كان داخل البنيان؛ فإنه لا تبدأ في حقه أحكام السفر .
وإذا وجبت عليه الصلاة وهو في داخل البنيان؛ فإنه يصليها تمامًا وفي وقتها؛ كالحاضرين؛ لأنه لم يبدأ السفر في حقه، حتى ولو انتقل من حارة إلى حارة في طريقه إلى السفر؛ فإن هذا لا يعتبر مسافرًا، حتى يخرج من جميع البنيان ومن عامر البلد . والله أعلم .
93 ـ هل يجوز سفر المرأة بدون محرم ؟ مثلاً : اتصل زوجها وهو في مدينة ما على زوجته، وأخبرها بأنه حدث له عارض؛ أي : مرض، فقال لها : احجزي على أقرب طائرة واحضري لي؛ فما حكم سفرها لوحدها ؟
لا يجوز سفر المرأة مسافة ثمانين كيلو مترًا فأكثر؛ إلا مع ذي محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا مع ذي محرم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/35، 36 ) ، وانظر كذلك : ( 2/58 ) من الصحيح ] ، والمراد مسيرة يومين مشيًا على الأقدام، وهو ما يساوي ثمانين كيلو مترًا تقريبًا؛ لأن في سفر المرأة بدون محرم خطرًا عليها من ناحية تعرضها للفتنة وطمع الرجال الفاسدين بها، والمحرم يصونها ويحفظها، ولا فرق في ذلك بين السفر على الطائرة أو السيارة أو الدابة أو غير ذلك؛ لعموم النهي الوارد في الأحاديث؛ ولأن العلة موجودة، وهي الخوف عليها .
94 ـ ما رأيكم فيمن يسمح لزوجته بالسفر بالطائرة مع طفلها الصغير ولا يسافر معها هو بحجة أنه مشغول ولا يسمح له عمله بذلك ؟(49/30)
لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لا في الطائرة ولا في غيرها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تسافر مسيرة يوم وليلة - وفي رواية أخرى : مسيرة يومين - ؛ إلا مع ذي محرم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/35، 36 ) ، وانظر كذلك : ( 2/58 ) من الصحيح ] .
( المحرم ) : هو الرجل البالغ الذي يحرم عليه نكاحها على التأبيد بنسب أو سبب مباح، وغير البالغ والطفل لا يكفي محرمًا .
ولما أراد رجل أن يخرج في الجهاد، وكانت امرأته تريد الحج؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحجَّ مع امرأته، ولم يرخص له بالخروج في الغزو (17).
فكيف يتعلل بعض الناس بأن عمله لا يسمح له بالسفر مع امرأته وعمل الجهاد لم يعتبر عذرًا ؟ !
والخطر على المرأة في الطائرة أعظم من الخطر في غيرها؛ لأن الطائرة قد يتغير مسارها واتجاهها إلى مطار آخر لسبب من الأسباب؛ فمن يستقبل المرأة ؟ ! وأين تذهب إذا هبطت في غير المطار الذي اتجهت إليه ؟ !
ما يكره في الصلاة
95 ـ في أثناء الصلاة يصيبني دوار في الرأس، وأقوم بحركات في الصلاة بسبب هذا الدوار؛ فهل صلاتي صحيحة ؟ وماذا أفعل إذا لم تكن صحيحة ؟
إذا كان هذا الدوار لا يزيل الشعور وأنت تعلم ما تقول معه؛ فصلاتك صحيحة، والحركات اليسيرة لا تضر في الصلاة، لا سيما في مثل هذه الحالة، وإذا كانت لحاجة، فأما الحركات التي هي من باب العبث؛ فإنها تكره، وإذا توالت؛ فإنها تبطل الصلاة، والله أعلم؛ لأن ذلك يدل على عدم الخشوع في الصلاة .
وقد رأى عمر رضي الله عنه رجلاً يعبث في صلاته، فقال : " لو خشع قلب هذا؛ لسكنت جوارحه " (18) ، ويروى مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(49/31)
96 ـ ما حكم تغميض العيون في الصلاة ؟ فالبعض يرى أنه لا بأس بذلك إن كان مجلبًا للخشوع، وخصوصًا إذا كان المصلي يصلي على سجاد منقوش، أو أمامه ما يلفت انتباهه ويسرق خشوعه، والبعض يرى منعه، فما القول الصحيح ؟ وهل إذا عطس المصلي في الصلاة يحمد الله على العطاس بصوت أم في نفسه ؟
تغميض البصر في الصلاة : إن كان لغير حاجة؛ فهو مكروه؛ لأن فيه تشبهًا باليهود، ولأنه مدعاة إلى النوم، وإن كان لحاجة، كأن يكون أمامه أما يشغله؛ فلا بأس به؛ لأنه أدعى للخشوع في الصلاة، بل قد يكون مستحبًا في هذه الحالة .
وإذا عطس الإنسان في الصلاة؛ فإنه يحمد الله في نفسه .
97 ـ هل يجوز إغماض العينين في الصلاة وذلك إذا كان التغميض يدعو إلى الطمأنينة ؟
يكره تغميض العينين في الصلاة إذا كان من غير حاجة، لكن إذا دعت حاجة إلى التغميض؛ كأن يكون أجمع لفكره، أو أمامه شيء يشغله، فيغمض حتى يزول هذا الشيء، أو يخفض بصره عنه؛ فلا بأس بذلك عند الحاجة، أما من غير حاجة؛ فهذا يكره في الصلاة، ومطلوب من المسلم أن لا يمد بصره وهو يصلي، بل يستحب له أن يكون نظره إلى موضع سجوده؛ لأن هذا أجمع لخشوعه، وأبعد عن الانشغال بالمرئيات التي أمامه عن الصلاة .
98 ـ هل يجوز لرجل أن يصلي حاملاً سلاحه، وإذا كان حاملاً رتبة عسكرية؛ فهل يجب عليه خلعها أم لا ؟(49/32)
قضية حمل السلاح : إذا كان في حال خوف؛ فلا بأس بذلك، بل قد أمر الله تعالى به في قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } [ سورة النساء : آية 102 ] ؛ فإذا كانت الحالة حالة خوف من هجوم العدو على المسلمين؛ فإنهم يحملون سلاحهم في الصلاة، أما في غير حالة الخوف؛ فإذا كان هذا السلاح خفيفًا، وليس فيه نجاسة؛ فلا بأس بحمله، أما إذا لم يكن خفيفًا، أو كان فيه نجاسة؛ فإنه لا يجوز حمله؛ لأنه يشغل عن الصلاة إن كان غير خفيف، وإذا كان فيه نجاسة؛ فلا يجوز للمصلي أن يصحب ما فيه نجاسة .
أما الرتبة العسكرية : إن كانت صورًا وتماثيل؛ فلا يجوز حملها؛ لا في الصلاة ولا في غيرها، وفي الصلاة أشد، أما إذا كانت خالية من الصور أو التماثيل؛ فلا بأس بذلك . والله أعلم .
99 ـ هل يجوز للمرأة أو الرجل أن يتابع القراءة مع الإمام في المصحف وهو يصلي التراويح، سواء رفع المتابع صوته أم لم يرفعه ؟
لا يجوز للمأموم رجلاً كان أو امرأة أن يتابع قراءة الإمام نظرًا في المصحف؛ لأن هذا يشغله عن الصلاة؛ من غير حاجة إلى ذلك، وهذه ظاهرة يفعلها بعض الشباب الآن، ولم يكن هذا من عمل السلف فيما نعلم؛ فالواجب تركه والنهي عنه .
وقد اختلف العلماء في حكم قراءة الإمام من المصحف عند الحاجة، فكيف بالمأموم ؟ !
مبطلات الصلاة(49/33)
100 ـ أنا إنسان ابتلاه الله بمرض الشلل منذ أربعة أعوام والحمد لله، وهذا الشلل في النصف الأسفل من الجسم؛ من بداية البطن إلى أسفل القدمين، ولذلك يخرج الخارج من السبيلين بلا علم مني ولا إرادة، وسؤالي هنا في الصلاة : كيف أصلي ؟ فأنا إذا صليت؛ قد يخرج مني ذلك وأنا لا أعلم به، خصوصًا وهناك أجهزة معلقة بمجاري خارجية أقضي حاجتي عن طريقها، وهي معلقة في جسمي، وقد يخرج منها من دون إحساس أو شعور مني بذلك، وأنا الآن أصلي؛ فهل صلاتي بهذه الحالة التي ذكرتها صحيحة أم لا ؟
نسأل الله لك الشفاء والعافية مما أصابك .
وأما ما سألت عنه عن حكم صلاتك مع خروج الخارج من السبيلين وأنت لا تشعر به ولا تستطيع حبسه؛ فصلاتك صحيحة؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، ولقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ سورة البقرة : آية 286 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم ) [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2/975 ) ] ؛ فهذا منتهى استطاعتك، ولكن عليك ألا تتوضأ؛ إلا عند الصلاة .
101 ـ إذا كان شخص يصلي في الصفوف الأولى في المسجد، وقد انتقض وضوؤه أثناء الصلاة، ولكنه لم يستطع الخروج؛ نظرًا لكثرة الصفوف الموجودة في المسجد؛ فهل يكمل الصلاة بدون قراءة، بل يركع ويسجد ويقف صامتًا ؟ أم يجلس حتى تنتهي الصلاة ولو كان في وسط الصف ؟(49/34)
المشروع في حق من انتقض وضوؤه أثناء الصلاة أن ينصرف؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 1/43 ) ] دل على أن من انتقض وضوئه يقينًا؛ أنه ينصرف ولا يبقى، وإذا لم ينصرف لما ذكرت من ضيق أو من كثرة الصفوف؛ فإنه لا يجوز له أن يستمر في الصلاة، فإن قدر أن ينصرف؛ فإنه ينصرف، وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل، وإن كان لا يقدر أن ينصرف؛ فإنه يجلس إلى أن تحين له الفرصة للخروج، والله تعالى أعلم .
102 ـ صليت بالناس صلاة الجمعة وأنا لم أتوضأ ناسيًا ذلك، ولم أدرك ذلك إلا بعد ذهاب المأمومين؛ ما الحكم الشرعي في هذا ؟
ما دمت أنك لم تكن تعلم أنك لست على وضوء إلا بعد نهاية الصلاة؛ فإن صلاة المأمومين صحيحة، وعليك أنت أن تعيد صلاة الجمعة ظهرًا؛ بأن تصليها أربع ركعات بنية الظهر قضاء لتلك الصلاة التي لم تصح بسبب ترك الوضوء . والله أعلم .
103 ـ إذا بدأ الإمام الصلاة، ثم تذكر أنه لم يتوضأ؛ فكيف يتصرف، مع الأخذ في الاعتبار الإحراج الذي سيتعرض له إذا خرج من الصلاة ؟ !
إذا بدأ الإمام الصلاة، ثم تذكر أنه لم يتوضأ؛ فإنه ينصرف ويتوضأ، ثم يعود ويصلي بالناس، ولا يجوز له الاستمرار في الصلاة وهو على غير طهارة .
عن أبي بكرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة، فكبر، ثم أومأ إليهم أن مكانكم، ثم دخل، ثم خرج ورأسه يقطر، فصلى بهم، فلما قضى الصلاة؛ قال : ( إنما أنا بشر مثلكم، وإني كنت جنبًا ) ، رواه أحمد وأبو داود (1).
وإن استخلف الإمام من يصلي بالناس في هذه الحالة فلا بأس، ويبدأ الصلاة من جديد .
قال الإمام أحمد : " إن استخلف الإمام؛ فقد استخلف عمر وعلي، وإن صلوا وحدانًا؛ فقد طعن معاوية وصلى الناس وحدانًا من حيث طعن أتموا صلاتهم " (2).(49/35)
104 ـ صليت إمامًا بجماعة صلاة العشاء، ولما توسطت في الصلاة؛ تذكرت أنني لم أتوضأ، ولكنني خجلت أن أنسحب من الإمامة، وأكملت الصلاة بهم؛ فما الحكم في ذلك ؟ هل أعيد الصلاة لوحدي وصلاة الجماعة صحيحة، أما ما الحكم الشرعي في هذا ؟
الحكم أنك أخطأت في هذا خطأ كبيرًا في استمرارك في الصلاة وأنت على غير طهارة، وكان الواجب عليك أن تنصرف وأن تتوضأ ثم تأتي وتصلي بالجماعة، أو إذا كنت تخشى أن تتأخر؛ فإنك تأمر من يصلي بهم بدلك، أما والحال أنك قد استمررت في الصلاة وأنت على غير طهارة، وانصرف الجميع، ولم تخبر الجماعة بهذا في الحال حتى يستدركوا؛ فالواجب عليك أن تعيد الصلاة، وأن تخبر الجماعة أيضًا بإعادة الصلاة؛ تعيد أنت وإياهم هذه الصلاة التي صليتها بهم على غير طهارة، وإنما تصح صلاتهم لو لم تعلم بعدم الوضوء إلا بعد نهاية الصلاة .
105 ـ دخلت المسجد وصليت، وقبل أن أسلم تذكرت أني لست بطاهر، فأتممت الصلاة؛ فما حكم الشرع في هذه الصلاة ؟ وهل عليَّ أن أعيد الصلاة ؟
إذا دخلت في الصلاة، ثم تذكرت أنك على غير طهارة؛ وجب عليك أن تنصرف وأن تتوضأ وتستأنف الصلاة من جديد، ولا يجوز أن تستمر في الصلاة .
وإن تذكرت بعد إتمام الصلاة أنك لست على طهارة؛ وجب عليك أن تتوضأ وأن تعيد الصلاة التي صليتها .
وعلى كل حال : الصلاة غير صحيحة، سواء تذكرت في أثناءها أو تذكرت بعد فراغها؛ فعليك أن تتطهر وأن تعيد الصلاة؛ لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة . والله أعلم .
106 ـ هل الضحك في الصلاة يفسد الوضوء ؟
الضحك تبطل به الصلاة؛ لأنه – كالكلام – يدل على عدم الخشوع، وقد أجمع العلماء أنه إذا قهقه في الصلاة؛ بطلت، أمَّا التبسم؛ فلا يبطل الصلاة؛ لأنه ليس كلامًا، أما الوضوء؛ فلا يبطل بالقهقهة على الصحيح من قولي العلماء، والحديث الوارد في ذلك ضعيف، ولكن إن قهقه في الصلاة؛ بطلت، واستحب له الوضوء؛ لأنه أذنب ذنبًا، فيستحب له الوضوء .(49/36)
107 ـ ما حكم من صلى وبعض من عورته مكشوف، ولم يدر حتى انتهاء الصلاة؛ حيث نبهه أحد المصلين على ذلك؛ فهل صلاته صحيحة أم عليه القضاء ؟
لا شك أن سترة العورة من شروط الصلاة مع الأركان .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عريانًا وهو يقدر على اللباس " ، أو كما قال .
فستر العورة من شروط صحة الصلاة، إذا أمكن، وما ورد في السؤال من أن هذا المصلي انكشف بعض عورته فلم يعلم بذلك حتى فرغ من الصلاة ونبهه الحاضرون؛ هذا فيه تفصيل :
إن كان هذا الذي انكشف شيئًا كثيرًا؛ فإنه يعيد الصلاة .
أما إذا كان شيئًا قليلاً ولم يتعمده؛ فصلاته صحيحة إن شاء الله؛ بدليل أن عمرو بن سلمة رضي الله عنه كان يصلي بأصحابه وهو صغير السن، وكان إذا سجد؛ انكشف شيء من عورته، فيراه النساء من وراء الصف، ولم يعد الصلاة وكان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (3) فدل على أنه إذا انكشف شيء من العورة وهو يسير، ولم يتعمده؛ فإن صلاته صحيحة .
أما إذا تعمد وتركه ولم يستره مع القدرة؛ فصلاته باطلة، ولو كان يسيرًا . والله أعلم .
الذكر بعد الصلاة
108 ـ ما قولك في الجهر بالدعاء والذكر مطلقًا، وبعد الصلاة خاصة ؟ وهل يكون الدعاء والذكر جهرًا أم سرًّا أم بينهما ؟
أما الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم والمشروع؛ فالإنسان مخير بين أن يجهر به وأن يسرّ، قال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ سورة الأعراف : آية 55 ] ، والله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، فيجوز أن تدعو جهرًا وأن تدعوا سرًّا؛ إلا إذا كان الجهر يترتب عليه إضرار بمن حولك من النائمين أو المصلين أو الذين يقرؤون القرآن الكريم؛ فإنك تُسرُّ، أو إذا خفت على نفسك من الرياء والسمعة؛ فإنك تسر في الدعاء؛ لأن هذا أدعى للإخلاص .(49/37)
والجهر يلاحظ أنه ليس بصوت جماعي كما يفعل بعض الناس، إنما كل إنسان يدعو لنفسه سرًّا وجهرًا، أما الدعاء الجماعي؛ فهو من البدع .
وأما الذكر بعد الصلاة؛ فإنه من السنة الجهر به، حسبما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الصحابة كانوا يجهرون بالذكر بعد الصلاة؛ بالتهليل والاستغفار بعد السلام ( الاستغفار ثلاثًا ) ، ثم : ( اللهم إنك أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ، ( لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد ) . . . إلى آخر هذه الأذكار الواردة؛ يجهر بها (4) ، لكن على صفة فردية، لا على صفة جماعية كما ذكرنا أولاً؛ فإن الذكر الجماعي هذا من المبتدعات، وإنما كلٌّ يذكر لنفسه، ويجهر بذلك بعد الصلاة .
109 ـ لنا مسجد نصلي فيه، وعندما ينتهي الجماعة من الصلاة؛ يقولون بصوت جماعي : أستغفر الله العظيم وأتوب إليه . . . هل هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أما الاستغفار؛ فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه إذا سلم؛ استغفر ثلاثًا قبل أن ينصرف إلى أصحابه [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 1/414 ) ] .
وأما الهيئة التي ذكرها السائل بأن يؤدى الاستغفار بأصوات جماعية؛ فهذا بدعة، لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل يستغفر لنفسه؛ غير مرتبط بالآخرين، ومن غير صوت جماعي، والصحابة كانوا يستغفرون فرادى بغير صوت جماعي، وكذا من بعدهم من القرون المفضلة .
فالاستغفار في حد ذاته سنة بعد السلام، لكن الإتيان به بصوت جماعي؛ هذا هو البدعة؛ فيجب تركه والابتعاد عنه .
صلاة التطوع
110 ـ لدي عادة أداوم على فعلها، وهي أنني أصلي ركعتين قبل النوم؛ أقرأ فيهما الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ فهل ذلك جائز أم بدعة ؟(49/38)
الوارد قبل النوم عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآداب التي يستحب فعلها : أن يتوضأ الإنسان وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويقرأ بآية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، وبالمعوذتين، وأن يدعو بالدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أدعية كثيرة وجوامع، أما الصلاة قبل النوم والتزام هذا؛ فأنا لا أعلم له أصلاً من السنة النبوية، لكن إذا فعله على أنه سنة الوضوء؛ فلا بأس؛ لثبوت الدليل بذلك (5) .
111 ـ أصلي جميع النوافل في جميع الصلوات؛ فأيهما أفضل : أن أصلي النوافل، أم أصلي الصلاة التي في ذمتي من السنين الماضية؛ علمًا بأني أصلي في بعض الأيام ليوم كامل قضاء مما في ذمتي؛ هل هذا يجوز ؟
إذا كنت في السنين الماضية تركت الصلاة متعمدًا وتبت إلى الله توبة صحيحة؛ فإنه لا يجب عليك قضاء الصلوات التي تركتها متعمدًا؛ لأنك حين تركك لها لم تكن على دين الإسلام؛ لأن من ترك الصلاة متعمدًا؛ فإنه يخرج من دين الإسلام على الصحيح إذا كان تركه لها تكاسلاً .
أما إذا كان تركه لها جحودًا لوجوبها، ولا يرى أنها واجبة، وأنها عادات وتقاليد؛ كما يقول بعض الأشقياء؛ فهذا كافر بإجماع المسلمين، ولكنه إذا تاب وحافظ على الصلوات في المستقبل؛ فإن ذلك يكفيه عند الجميع .(49/39)
وكذلك على الصحيح من ترك الصلاة متكاسلاً مع إقراراه بوجوبها متعمدًا ذلك من أجل الكسل؛ فالصحيح أنه كافر لتركه الصلاة متعمدًا بأدلة كثير من الكتاب والسنة تدل على ذلك، وبناء عليه؛ فإنه لا يقضي الصلوات التي تركها، وإنما يحافظ على الصلاة في المستقبل بعد أن تاب الله عليه، ويحافظ كذلك على السنن الرواتب التي من الفرائض، وهي : ركعتان قبل الظهر أو أربع ركعات، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، هذه هي السنن الرواتب، وكذلك المحافظة على الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وما تيسر من التهجد والنوافل المطلقة؛ فإن المجال مفتوح أمام المسلم لأن يتقرب إلى ربه عزَّ وجلَّ من الطاعات والقربات المشروعة .
{ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سورة البقرة : آية 110 ] .
112 ـ كنت أصلي الليل وأطبق السنن، وأخذت في التهاون تدريجيًّا، حتى أصبحت السنن لا أصليها، وصرت أعمل المعاصي الصغائر، وهممت أن أتردد على المعاصي؛ فماذا عليَّ أن أفعل ؟
لا شك أن الشيطان يحاول صرف المسلم عن طاعة ربه، ويريد أن يشغله بالمعاصي، فعليك بالتوبة إلى الله، ومعاودة فعل الخير، والاستعاذة بالله من الشيطان؛ لأن ترك الوتر وترك السنن الرواتب يسقط العدالة، وترد به الشهادة، فعليك بالمحافظة على الطاعة، وما اعتدته من قيام الليل، ولا تطاوع نفسك والشيطان .
113 ـ مسلم يؤدي الفروض، لكنه يترك السنن الراتبة؛ ما حكم الشرع في نظركم ؟
ترك السنن الراتبة لا ينبغي للمسلم، بل ينبغي أن يحافظ عليها؛ كما كان النبي يحافظ عليها؛ إلا في حالة السفر الذي تقصر فيه الصلاة؛ فإن السنن الرواتب لا تفعل فيه؛ أي أنه لا يصلي الراتبة مع القصر؛ إلا راتبة الفجر تصلى قبلها حضرًا أو سفرًا، وكذلك الوتر يصلى حضرًا وسفرًا .(49/40)
أما في غير حالة السفر؛ فلا ينبغي للمسلم أن يترك الرواتب، وكذلك لا يترك الوتر، بل إنه إذا داوم على ترك الرواتب وترك الوتر؛ تسقط عدالته، ولا تُقبل شهادته؛ لأن هذا يدل على تساهله في دينه، وإذا تساهل في دينه؛ كان متساهلاً في الشهادة من باب أولى .
114 ـ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ما معنى الحديث : ( من صلى لله في يومه اثنتي عشرة ركعة؛ بنى الله له بيتًا في الجنة ) ؛ فهل يجب ترتيبها كالآتي : اثنتين قبل الظهر وواحدة بعدها، وواحدة بعد صلاة المغرب، وواحدة بعد صلاة العشاء، وواحدة بعد صلاة الفجر، أم المهم أن يصلي الإنسان اثنتي عشرة ركعة في يومه، ولو بدون ترتيب ؟
هذه الركعات جاءت مفصلة في حديث ابن عمر : ركعتان أو أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر (6)، وتسمى بالرواتب التي ينبغي المحافظة عليها؛ إلا في حالة القصر في السفر؛ فإنه يقتصر على الركعتين اللتين قبل الفجر؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم .
115 ـ امرأة تقول : إنني أصلي والحمد لله صلاة الوتر قبل أذان الفجر بساعة، وأصلي خمس ركعات، الخامسة هي الوتر، وأنتهي من هذه الصلاة قبل أذان الفجر بعشر دقائق أو خمس؛ هل وتري صحيح أم لا ؟ وما نصيحتكم في ذلك ؟
المسلم يصلي ما تيسر له من قيام الليل؛ قلَّ أو كثر، ويجعل آخر صلاته من الليل وترًا؛ فما تفعلينه من أنك تصلين ما تيسر من الليل وتجعلين آخره وترًا، هذا هو المطلوب .
إلا أنه ينبغي التنبه أنه إذا طلع الفجر؛ فإنها تنتهي صلاة الليل، ولا يجوز الاستمرار في صلاة التهجد بعد طلوع الفجر؛ فعليك أن تنتبهي لذلك، وأن تنهي صلاتك قبل طلوع الفجر، وتجعلي آخرها وترًا .(49/41)
وقولك في السؤال : إنك تصلين خمس ركعات، الخامسة هي الوتر؛ هذا فيه تفصيل : فإن كان قصدك أن الخمس كلها وتر؛ فإنك تسردينها ولا تجلسين إلا في آخرها؛ لأنها كلها وتر، وليست الركعة الخامسة فقط، وإن كان قصدك أنك تصلين ركعتين ركعتين من باب التهجد؛ بأن تسلمي من كل ركعتين؛ فإنه لا ينبغي الاقتصار في الوتر على ركعة واحدة، وإن كانت مجزئة، بل الأفضل أن توتري بثلاث؛ إلا إذا خشيت طلوع الفجر؛ فأوتري بواحدة . والله أعلم .
116 ـ ما حكم صلاة التراويح وصلاة التهجد ؟ وما هو وقت صلاة التهجد ؟ وما عدد ركعاتها ؟ وهل يجوز لمن صلى الوتر بعد الانتهاء من التراويح أن يصلي التهجد أم لا ؟ وهل لابد من اتصال صلاة التراويح بصلاة العشاء بأن تكون بعدها مباشرة، أم أنه يجوز لو اتفق الجماعة على تأخيرها بعد صلاة العشاء ثم تفرقوا وتجمعوا مرة أخرى لصلاة التراويح ؟ أم أن ذلك لا يجوز ؟
أما صلاة التراويح؛ فإنه سنة مؤكدة، وفعلها بعد صلاة العشاء وراتبتها مباشرة، هذا هو الذي عليه عمل المسلمين .
أما تأخيرها كما يقول السائل إلى وقت آخر، ثم يأتون إلى المسجد ويصلون التراويح؛ فهذا خلاف ما كان عليه العمل، والفقهاء يذكرون أنها تُفعل بعد صلاة العشاء وراتبتها، فلو أنهم أخروها؛ لا نقول أن هذا محرم، ولكنه خلاف ما كان عليه العمل، وهي تفعل أول الليل، هذا هو الذي عليه العمل .
أما التهجد؛ فإنه سنة أيضًا، وفيه فضل عظيم، وهو قيام الليل بعد النوم، خصوصًا في ثلث الليل الآخر، أو في ثلث الليل بعد نصفه في جوف الليل؛ فهذا فيه فضل عظيم، وثواب كثير، ومن أفضل صلاة التطوع التهجد في الليل، قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ سورة المزمل : آية 6 ] ، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .(49/42)
ولو أن الإنسان صلى التراويح، وأوتر مع الإمام، ثم قام من الليل وتهجد؛ فلا مانع من ذلك، ولا يعيد الوتر، بل يكفيه الوتر الذي أوتره مع الإمام، ويتهجد من الليل ما يسر الله له، وإن أخر الوتر إلى آخر صلاة الليل؛ فلا بأس، لكن تفوته متابعة الإمام، والأفضل أن يتابع الإمام وأن يوتر معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من قام مع الإمام حتى ينصرف؛ كتب له قيام ليلة ) [ رواه أبو داود في سننه ( 2/51 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 3/147، 148 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 3/83، 84 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 1/420، 421 ) ] ، فيتابع الإمام، ويوتر معه، ولا يمنع هذا من أن يقوم آخر الليل ويتهجد ما تيسر له .
117 ـ هل تجوز صلاة الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة أم لا ؟
لا بأس بذلك أن يصلي الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة؛ يسردها ثلاثًا بدون جلوس؛ إلا في آخرها، ولكن الأفضل والأكمل أن يصلي ركعتين مستقلتين يسلم منهما، ثم يقوم ويأتي بالثالثة، هذا هو الأفضل، أما لو جمع الثلاث بتشهد واحد؛ فلا بأس بذلك .
أحكام صلاة الجماعة
118 ـ نحن أربعة إخوة، توفي والدنا، وبعد وفاته؛ قمنا بحصر الإرث من بعده، وأثناء ذلك؛ وجدنا بمحفظة له ورقة مكتوب بها ( وصية إلى أولادي ) وهي : »بسم الله الرحمن الرحيم، أولادي الأعزاء ! أوصيكم أولاً بتقوى الله عزَّ وجلَّ، والصبر على طاعته، وأن تؤدوا الصلاة مع الجماعة«، ونحن الآن في حيرة من أمرنا؛ لأننا لسنا من المحافظين بالكلية على الصلاة، وخاصة صلاة الفجر والعصر، والتي عد الله ورسوله من تخلف عنها من المنافقين، فما هو نصحكم لنا؛ لأننا لم نقم بتلبية والدنا لهذه الوصية ؟ وهل نحن خُنَّا الأمانة ؟(49/43)
يجب عليكم المحافظة على صلاة الجماعة، والتوبة من التأخر عنها، حتى لو لم يوص بذلك والدكم؛ لأن الله سبحانه قد وصاكم بذلك في قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ سورة البقرة : آية 238 ] ، ومن المحافظة عليها أداؤها في المسجد مع الجماعة المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالمحافظة على صلاة الجماعة في قوله : ( من سمع النداء، فلم يجب؛ فلا صلاة له؛ إلا من عذر ) [ رواه ابن ماجه في سننه ( 1/260 ) ] ، وقال للأعمى الذي طلب منه رخصة في أن يصلي في بيته : ( هل تسمع النداء ؟ ) . قال : نعم . قال : ( فأجب؛ فإني لا أجد لك رخصة ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 1/452 ) ] . . . إلى غير ذك من الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة، والوعيد الشديد على المتخلفين عنها .
ووالدكم رحمه الله أوصاكم بما أوصاكم به الله ورسوله؛ حرصًا عليكم، ونصحًا لكم؛ فجزاه الله خيرًا، وهكذا يجب على كل والد أن يأمر أولاده بالمحافظة على صلاة الجماعة، ويوصيهم بذلك، ويجب عليكم صلاة الجماعة، ولو لم يوص والدكم بذلك؛ طاعة لله ولرسوله .
119 ـ يصلى في مدرسة صلاة الظهر على دفعتين، يصلي المدير ومعه مجموعة من المدرسين؛ ليتفرغوا لمراقبة الطلاب، ثم يصلي بقية المدرسين والطلاب؛ فما رأيكم في هذا العمل؛ علمًا بأن الطلاب لو تركوا بدون مراقبة؛ لأحدثوا لعبًا في الصلاة ؟
إذا كان في انقسام منسوبي المدرسة إلى جماعتين في الصلاة مصلحة شرعية؛ من ضبط الطلاب ومراقبتهم؛ فلا بأس به من أجل المصلحة الشرعية .(49/44)
120 ـ شخص كان مريضًا، واشتد به المرض، إلى أن أدخل أحد المستشفيات، وقرر الأطباء بتر ساقيه من فوق الركبة، وفعلاً قطعت ساقاه، وهو الآن بصحة جيدة، ولكن يسأل بالنسبة للصلاة؛ فهو لا يصلي إلا في البيت دائمًا، وحتى صلاة الجمعة لا يصليها في المسجد، بل في البيت؛ فهل عليه إثم في ذلك أو أنه معذور شرعًا ؟
من المعلوم وجوب صلاة الجماعة والجمعة على المسلم القادر الذي لا يمنعه عذر شرعي من حضورهما، أما بالنسبة للمعذور شرعًا فإن الله سبحانه وتعالى رخص له بأن يصلي في بيته، والسائل يذكر أنه بترت رجلاه وصار مقعدًا لا يستطيع المشي؛ فهذا معذور، له أن يصلي في بيته، ويعذر في ترك الجماعة والجمعة، وإن أمكن أن يحمل ويحضر ما لا يشق عليه من الصلوات في المسجد؛ فذلك شيء واجب، ويستفيد زيادة أجر وخير، أما إذا كان لا يتمكن من الحضور، ولا هناك وسيلة يستطيع بها أن ينقل إلى المسجد؛ فهذا معذور، وعذره واضح .
121 ـ هل يجوز للمرأة أن تصلي في مجموعة من النساء بصفة إمام في البيت ؟
لا حرج في ذلك، أن تصلي النساء جماعة وتؤمهن واحدة منهن، ولكنها تقف في صفهن، ولا تكون أمام النساء، ولكن تقف في صفهن، وهذا أحسن .
وصلاة النساء جماعة جائزة، أما الوجوب؛ فإن النساء لا تجب عليهن صلاة الجماعة؛ لأن وجوب صلاة الجماعة من خصائص الرجال، ويجوز للنساء أن يصلين جماعة، وأن يصلين فرادى . والله أعلم .
122 ـ إذا كان هناك جماعة من النساء في منزل واحد؛ فهل يجب أن تؤمهن إحداهن في جميع الصلوات المفروضة ؟
نعم؛ يجوز للنساء أن يصلين جماعة، وأن تصلي بهن إحداهن، ولكن لا تقف أمامهن، بل تكون في صفهن ( إمامة النساء تكون في صفهن، ولا مانع من ذلك ) .
123 ـ في منتصف الصف ؟
نعم؛ في وسط الصف .
124 ـ لكن هي تقول : هل يجب؛ بمعنى أنه : هل يلزمهن أن يصلين جماعة في كل فريضة ؟(49/45)
لا يجب على النساء جماعة، الجماعة إنما تجب على الرجال، أما النساء؛ فلا تجب عليهن جماعة، لكن يجوز لهن أو يستحب لهن أن يصلين جماعة وأن تؤمهن إحداهن، وكما ذكرنا يكون موقفها في صف النساء .
قضاء الفائت من الصلاة
125 ـ ما حكم جمع الصلوات الخمس إذا كان الإنسان قد أجرى عملية جراحية ألزمته الفراش ليوم كامل؛ حيث لم يستيقظ إلا في اليوم التالي؛ فماذا يفعل في مثل هذه الحالة ؟
الواجب على المسلم أن يصلي كل صلاة في وقتها حسب استطاعته؛ قائمًا أو قاعدًا أو على جنب؛ كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (7) ، ولا يجوز له أن يُخرِج الصلاة عن وقتها؛ إلا من يريد الجمع، وهو ممن يجوز له الجمع بين الصلاتين؛ كالظهر والعصر، والمغرب والعشاء .
أما من نام، أو أغمي عليه، أو نوِّم بالبنج من أجل عملية جراحية يومًا كاملاً، ولم يستيقظ إلا في اليوم التالي؛ فإنه يجب عليه أن يصلي الصلوات الفائتة قضاء في وقت واحد، مع الترتيب، وإذا كان لا يستطيع قضاءها كلها في آن واحد؛ فإنه يصلي ما يقدر عليه، ثم يكمل البقية في فترة أخرى إذا قوي ونشط، والله أعلم .
126 ـ هل يجوز تأخير صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، مع أنه قد نوى القيام للصلاة، ولكنه لم يبذل الأسباب ؟ وجزاكم الله خيرًا .
لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها؛ لما يترتب على ذلك من الأضرار :
أولاً : أنه يترتب عليه ترك الجماعة؛ فصلاة الجماعة واجبة .(49/46)
ثانيًا : أنه أخرها عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها حرام، وربما لا تقبل منه، وهذا تضييع للصلاة؛ قال تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ سورة مريم : آية 59 ] ، ومعنى أضاعوا الصلاة : أخروها عن وقتها، وليس معناه أنهم تركوها بالكلية؛ بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } [ سورة الماعون : آية 4، 5 ] ، فسماهم مصلين وتوعدهم لأنهم ساهون عن صلاتهم؛ بمعنى أنهم يؤخرونها عن مواقيتها .
فالواجب على المسلم أن يقوم، وأن يحضر صلاة الفجر؛ ليصلي مع الجماعة، ثم يذهب إلى نومه أو إلى أعماله .
127 ـ إذا فاتتني السنة الراتبة؛ فهل أقضيها بعد الصلاة ؟
الذي ورد أنه يقضى من الرواتب سنة الفجر : إذا فاتت الإنسان؛ فإنه يصليها ولا يتركها : إما بعد ارتفاع الشمس؛ فهذا أحسن، وإن صلاها بعد صلاة الفجر؛ فلا بأس في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد صلاة الفجر، فسأله، فقال : إنه يصلي راتبة الفجر، ولم يتمكن من فعلها قبل الصلاة، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك (8) .
وكذلك الرواتب الأخرى إذا قضاها؛ مثل راتبة الظهر التي قبلها، إذا قضاها بعد الظهر؛ فهذا حسن .
128 ـ سبق لزوجتي أن حملت، ولكن إرادة الله شاءت بأن لا يتم هذا الحمل، فأسقطت، وكان عمر الجنين شهرًا ونصف شهر وأجريت لها عملية تنظيف، واستمر الدم ينزل عليها أحد عشر يومًا بعد العملية، ولم تؤد الصلاة في هذه الأيام؛ ظنًا منها أن الدم يمنع الصلاة، ولكني قرأت فتوى لأحد المشايخ أن الدم الذي يخرج وعمر الجنين أقل من 90 يومًا لا يمنع الصلاة، والآن؛ هل تقضي الصلاة التي فاتتها ؟ إذا كانت الإجابة بنعم؛ فكيف يتم قضاؤها ؟(49/47)
نعم يجب على زوجتك قضاء كل الصلوات التي تركتها؛ لأن الدم الذي كان ينزل منها دم نزيف لأنه إذا كان عمر الحمل الذي سقط ينقص عن واحد وثمانين يومًا؛ فإن الدم الذي ينزل بعده دم نزيف، لا تترك الصلاة من أجله، أما إذا كان عمر الحمل واحدًا وثمانين يومًا فأكثر؛ فإن الدم الذي ينزل بعد سقوطه يعتبر دم نفاس؛ تترك الصلاة من أجله إلى أن ينقطع، أو تبلغ أربعين يومًا، ثم تغتسل وتصلي إذا تمت الأربعون ولم ينقطع .
129 ـ إذا سلَّم الإمام وعليه نقص في الصلاة، وهناك مأموم قام ليقضي ما فاته من الصلاة، وعلم الإمام بالنقص، وقام ليكمل ما نقص من الصلاة، والمأموم صلى ركعة وبقي عليه ركعة؛ فهل ينضم المأموم مع الإمام مرة أخرى أم يستمر ويقضي ما فاته من الصلاة ؟ وهل عليه سجود سهو أم لا ؟
إذا سلَّم الإمام وقام المسبوق ليأتي بما فاته، ثم إن الإمام تذكر أن عليه نقصًا في الصلاة فقام ليكمله؛ فالمأموم مُخيَّر حينئذ بين أمرين : إما أن يمضي على انفراد عن الإمام ويكمِّل الصلاة، وإما أن يدخل مع الإمام ويتابعه فيما بقي؛ فهو مخير بين الأمرين . والله تعالى أعلم .
130 ـ ذهبت إلى إحدى الدول الأوربية وكان الوقت آنذاك في شدة البرودة، ولأنني لم أحصل على تأشيرة دخول لتلك الدولة؛ حجرت في المطار لمدة ستة أيام من قبل سلطات تلك الدولة، وخلال تلك الأيام الستة لم أكن أصلي؛ نظرًا لبرودة الجو، وبالتالي برودة الماء الشديدة، وعدم توافر الصعيد الطاهر للتيمم منه، وبقيت حتى رجعت إلى البلد، ثم قمت بقضاء جميع ما فاتني من صلوات خلال تلك الأيام؛ فهل عليَّ إثمٌ في فعلي هذا ؟ وماذا كان يجب عليَّ أن أفعل ؟ أفيدوني وفقكم الله ؟(49/48)
أخطأت في تركك للصلوات في هذه الفترة التي ذكرتها؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يترك الصلاة، ولكن يصلي على حسب حاله : فإذا قدرت أن تتوضأ بالماء؛ وجب عليك ذلك، وإذا كنت لا تقدر على الوضوء بالماء لما ذكرت من شدة البرودة غير المحتملة وليس عندك ما تسخن به الماء؛ فإنه يجب عليك أن تتيمم بالتراب وتصلي، وإذا لم يكن عندك تراب؛ فإنك تصلي على حسب حالك، ولو بدون ماء وبدون تراب؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، ولقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ سورة البقرة : آية 286 ] .
فالمسلم إذا دخل عليه وقت الصلاة؛ فإنه يُصلي على حسب حاله : إذا كان يستطيع الوضوء؛ توضأ، وإن كان لا يستطيع الوضوء؛ عدل إلى التيمم بالتراب، إذا لم يكن عنده ماء ولا تراب وخشي خروج الوقت؛ صلى على حاله بدون ماء وبدون تراب .
على أن الصعيد لا يختص بالتراب، فلو كان عندك جدار عليه غبار طاهر، أو حصير عليه غبار طاهر، أو بلاط وعليه غبار طاهر، وضربت عليه وتيممت؛ كفاك هذا، ولا يتعين التراب للتيمم، وإنما المطلوب وجود الغبار الطاهر؛ سواء كان على تراب، أو على حجر، أو على جدار، أو على حصير، أو غير ذلك، والله أعلم .
وما دمت قضيت الصلوات التي تركتها؛ فنرجو أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنك ويتقبل منك، لكن في المستقبل أنصح لك وللمسلمين أن تحرصوا على الصلوات الخمس، وأن تؤدوها في أوقاتها على حسب أحوالكم، والله تعالى أعلم .
أحكام الإمامة
131 ـ أنا موظف بمديرية الأوقاف بوظيفة مقيم شعائر دينية؛ بمعنى : أنني أقوم بالإمامة وآخذ على ذلك مرتبًا؛ فهل هذا يجوز ؟ مع العلم أنه ليس لي مصدر رزق آخر .
لا بأس أن تقوم بالإمامة وأن تأخذ ما خصص للإمام من بيت المال من الإعانة؛ لأن هذا يعينك على طاعة الله .(49/49)
هذا إذا لم يكن قصدك طمع الدنيا، وإنما قصدك ما عند الله سبحانه وتعالى، وتقوم بهذه الإمامة رغبة في الخير، وتأخذ هذه الإعانة لأجل سد حاجتك للتفرغ للإمامة؛ فهذا لا حرج فيه، بل هو من الإعانة على طاعة لله عز وجلَّ، والعبرة بالمقاصد .
أما إذا كان قصد الإنسان طمع الدنيا، واتخاذ العبادة وأعمال الطاعة وسيلة لتحصيل الدنيا؛ فهذا لا يجوز، وهو عمل باطل .
قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة هود : آية 15، 16 ] .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 3/223 ) ] .
فلا يكون المؤمن في عمله وعبادته يقصد طمع الدنيا، وإنما يقصد وجه الله سبحانه وتعالى، ويأخذ ما تيسر من الدنيا للاستعانة بذلك على طاعة الله .
132 ـ هل يجوز أخذ أجر على قراءة القرآن وعلى الأذان والصلاة كإمام أو لا يجوز ذلك ؟
الإمام يشغل منصبًا دينيًّا عظيمًا، وإذا كان منصبه دينيًّا؛ فإنه لا يحل له أخذ الأجرة عليه؛ لأن أمور الدين لا تجوز المؤاجرة عليها .
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل قال لقوم : لا أصلي بكم القيام في رمضان؛ إلا بكذا وكذا ! فقال رحمه الله : " نعوذ بالله، ومن يصلي خلف هذا ؟ ! " (9) .
وأما أخذ الرزق من بيت المال على الإمامة؛ فإن هذا لا بأس به؛ لأن بيت المال يصرف في مصالح المسلمين، ومن مصالح المسلمين إمامتهم في مساجدهم، فإذا أعطي شيئًا من بيت المال؛ فلا حرج عليه في قبوله، وليس هذا بأجرة .(49/50)
وكذلك لو قدر أن المسجد بناه أحد المحسنين، وتكفل بجعل شيء من ماله لهذا الإمام؛ فإنه لا بأس بأخذه؛ لأن هذا ليس من باب المؤاجرة، ولكنه من باب المكافأة، هذا إذا لم يكن بين الإمام وصاحب هذا المسجد اتفاق وعقد على شيء معلوم من المال، وإنما هذا الرجل يتبرع كل شيء بكذا لهذا الإمام، وهذا ليس من باب المؤاجرة في شيء، وقراءة القرآن والأذان كالإمامة .
133 ـ ما حكم الإسلام في خطيب يبعد مسكنه من المسجد الذي يخطب فيه يوم الجمعة حوالي عشرة كيلو مترات ؟
أولاً : لا يجوز أن يقال : ما حكم الإسلام، أو : ما حكم الشرع، أو : ما حكم الله في كذا وكذا ؟ لأن المفتي لا يعلم حكم الله يقينًا في المسألة، ولكنه يجتهد في الجواب، فإن أصاب حكم الله؛ فله أجران، وإن أخطأ؛ فله أجر واحد على اجتهاده، والخطأ مغفور به .
ثانيًا : لا بأس أن يكون منزل خطيب المسجد بعيدًا عن المسجد حوالي عشرة كيلو مترات أو أقل إذا التزم بما يجب عليه من المحافظة على الصلاة في مواقيتها ولم يتأخر في الحضور فيشق على المأمومين بانتظاره . والله أعلم .
134 ـ ما حكم الصلاة وراء الإمام الذي لا يتقن الفاتحة ؟ وهل يتساوى الأمر إذا كانت الصلاة سرية أم جهرية ؟ وإذا كان الإمام يتقن الفاتحة ولكنه يخطئ كثيرًا فيما سواها؛ فما الحكم في ذلك ؟
إذا كان إخلاله بالفاتحة يخل بالمعنى؛ فهذا لا تجوز الصلاة خلفه إلا لمن هو مثله؛ لأن قراءة الفاتحة على الوجه الصحيح ركن من أركان الصلاة؛ فلا تصح الصلاة خلف من يلحن فيها لحنًا يخل بالمعنى؛ كما لو كان يقرأ { أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } : ( أنعمتُ ) ؛ بالضم، أو : { الْعَالَمِينَ } : ( العالِمين ) ؛ بكسر اللام؛ هذا يخل بالمعنى؛ فلا يجوز الصلاة خلف من هذه حاله .
أما إذا كان اللحن لا يحيل المعنى؛ فهذا أيضًا لا يجعل إمامًا وهناك من هو أحسن منه قراءة .(49/51)
وأما اللحن في غيرها من السور؛ فتصح معه الصلاة . لكن لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في قراءة القرآن، بل يجب عليه قراءة القرآن بالإتقان ما أمكن ذلك على الوجه الصحيح، ولكن صلاته صحيحة، وصلاة من خلفه صحيحة إذا لحن في غير الفاتحة . لكن إذا كان هناك من هو أحسن منه؛ فلا ينبغي أن يُتَّخذ إمامًا، بل يختار للصلاة الأجود قراءة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 1/465 ) ] .
فتجويد القراءة وإتقانها أمر مطلوب، ولا فرق في هذا بين الصلاة السرية والجهرية . . . الكل سواء في الحكم .
135 ـ إذا دخل أحد المسجد والإمام راكع؛ هل على الإمام الانتظار ليدرك هذا الداخل الركعة أم لا ؟ وما حكم من يتنحنح أو يحدث صوتًا أو يقول : إن الله مع الصابرين ؟
نعم يستحبُّ للإمام أن يمدد الركوع إذا أحس بداخل في المسجد من أجل أن يدرك الركوع؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يشق ذلك على المأمومين .
وعلى الداخل في المسجد والصلاة قد أقيمت أو قد ركع الإمام أن يمشي بسكينة ووقار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة؛ فامشوا وعليكم السكينة؛ فما أدركتم؛ فصلوا، وما فاتكم؛ فأتموا ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 1/218 ) ] .
ولا يجوز للداخل أن يتنحنح أو أن يقول : إن الله مع الصابرين؛ لأن هذا لم يرد، ولأنه يشوش صلاتهم، ويتنافى مع السكينة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم عند الدخول إلى المسجد، وفي المشي إلى الصلاة . والله أعلم .
136 ـ هل يجوز للنساء أن يتخذن لهن إمامة منهن تصلي بهن في رمضان وغيره ؟
يجوز للنساء أن يصلين جماعة في التراويح وغيرها من الصلوات الخمس، وتكون إمامتهن واحدة منهن، ويكون ذلك في بيت إحداهن أو في مكان مستور عن الرجال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأم ورقة أن تصلي بأهل دارها إمامة لهم (10) .(49/52)
137 ـ إمام الجماعة عندنا في الصلاة الجهرية يطول القراءة في الركعة الثانية، ويقصرها في الركعة الأولى؛ فهل فعله هذا موافق للسنة أو مخالف لها ؟
هذا خلاف الأولى؛ فالأولى والأفضل أن تكون الركعة الأولى من الظهر والعصر أطول من الثانية؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم (11).
138 ـ سمعت حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أمَّ قومًا ولم يدع لهم؛ فقد خانهم ) ؛ ما هو هذا الدعاء ؟ وهل يجزئ أن يقول الإمام : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ؟ وهل هذا الدعاء صحيح ؟
هذا الكلام محله في القنوت في الوتر، وذلك بأن الإمام إذا كان يقنت بالمصلين في الوتر في صلاة التراويح، أو حيث شرع القنوت في الفريضة إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فإن الإمام يأتي بضمير الجميع، والمأمومون يؤمِّنون على دعائه، فيقول : " اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت . . . " ، وهكذا في كل دعاء في القنوت بجماعة يكون بضمير الجمع؛ لأنه له وللمأمومين، ولأن المأمومين يؤمنون على دعائه له ولهم وللمسلمين، أما إذا كان يقنت منفردًا؛ فإنه يقول : ( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني . . . ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/199 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 2/64 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 2/109 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 3/248، 249 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 1/372، 373 ) ، ورواه الدارمي في سننه ( 1/451، 452 ) ] إلخ؛ لأنه يدعو لنفسه .
أما الحديث؛ فلم أقف عليه، لكن معناه في دعاء القنوت إذا كانوا يصلون جماعة . والله أعلم .
139 ـ هل تجوز الصلاة خلف متصوف يذهب إلى أضرحة الأولياء بغرض دعاء الله لهم ويخصهم دون غيرهم من الأموات ؟(49/53)
الذي يجب على المسلم أن يتمسك بالكتاب والسنة، وأن يعبد الله على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما كان السلف الصالح يعبدون ربهم على سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
أما طريق المتصوفة؛ فإنه طريق مبتدع وطريق ضال، وربما يؤول إلى الشرك والكفر عند غلاتهم؛ فعلى المسلم أن لا ينتسب إلى الصوفية، بل عليه أن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) ، وفي رواية : ( وكل ضلالة في النار ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 7/319، 320 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 1/15-17 ) ، ورواه الدارمي في سننه ( 1/57 ) ] .
هذا الذي يجب على المسلم : أن يبتعد عن البدع والمحدثات من الصوفية وغيرها .
وهذا الإمام الذي تقول : إنه متصوف؛ لا نرضى له أن يكون متصوفًا، بل نرضى له أن يكون سنيًّا مستقيمًا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما زيارته لأضرحة الأولياء خاصة؛ فهذا فيه ما فيه؛ لأن تخصيص الأولياء دون غيرهم من القبور يدل على أنه يعتقد فيهم؛ فزيارة القبور مشروعة – قبور الأولياء وغيرهم – إذا كان القصد منها الدعاء للأموات المسلمين والترحم عليهم والاستغفار لهم والاعتبار بأحوال الموتى وتذكر الموت؛ فإن هذه زيارة شرعية فيها أجر، وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم . أما إذا كان القصد منها خلاف ذلك؛ كما يقصده القبوريون في عالمنا اليوم؛ فإنهم يزورون القبور – وخاصة قبور الأولياء – للتقرب إلى الموتى؛ لطلب الحاجات منهم، وتفريج الكربات، والتبرك بتربتهم، وهذه زيارة بدعية شركية يجب على المسلم أن يبتعد عنها .(49/54)
وقولك : إن هذا الإمام يزور قبور الأولياء للدعاء لهم، هذا شيء طيب أنه يدعو لهم ويستغفر لهم ولا يطلب منهم الحاجات وتفريج الكربات، ولكن تخصيصه للأولياء هو الذي فيه نظر؛ فإنه ينبغي أن يزور عموم القبور هذه الزيارة الشرعية، ولا يخص بها قبور الأولياء فقط .
أحكام صلاة الجمعة
140 ـ ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني : هل ينتظر إلى أن يقضي المؤذن أذانه ثم يصلي تحية المسجد ؟ أم يصلي وهو يؤذن حتى يدرك بداية الخطبة ؟ نرجو التفصيل في المسألة وبيان الراجح فيها، أفتونا غفر الله لكم .
من دخل المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الذي بعد دخول الإمام؛ فإنه ينبغي له أن يصلي تحية المسجد؛ حتى يتفرغ لسماع الخطبة، ولا بالتكبيرات الزوائد بعد تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وبعد تكبيرة القيام من السجود في الركعة الثانية، ويجهر فيها بالقراءة، ويصليها منفردًا أو مع جماعة .
141 ـ ذهبت من بلدي إلى بلد آخر لطلب العلم؛ فهل صلاة الجمعة واجبة عليَّ أم لا ؟ مع العلم بأن المسجد يبعد عن المنزل الذي أسكن فيه حوالي 2 كيلو ونصف، مع العلم بأني أذهب إلى بلدي بعد شهرين أو ثلاث شهور تقريبًا .
المسافر الذي نوى إقامة تزيد على أربعة أيام في بلد تقام فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة؛ فإنه يأخذ أحكام المقيم؛ فيلزمه أن يصلي الجمعة، وأن يصلي الجماعة مع المسلمين، وأن يتمّ الصلاة؛ لأنه أصبح مقيمًا، يأخذ حكم المقيم .
فيلزم السائل إذا أقام في البلد التي قصدها إقامة تزيد على أربعة أيام للدراسة أو لغيرها؛ تلزمه أحكام المقيمين؛ من الصيام في رمضان، وصلاة الجمعة، وصلاة الجماعة؛ كما تلزم أهل البلد؛ لأنه أصبح مقيمًا، وله حكمهم . والله أعلم .
142 ـ أرى بعض الأخوة ينام قبل دخول الخطيب ليوم الجمعة، وبعضهم لا يحضر إلا بعد الإقامة؛ فما حكم صلاة هؤلاء ؟(49/55)
يشرع التبكير لحضور صلاة الجمعة، والجلوس في المسجد لانتظارها بعد أداء تحية المسجد، وهي صلاة ركعتين، وإن زاد على ذلك وصلى حتى يحضر الإمام، أو جلس يتلو القرآن أو يذكر الله؛ ففي ذلك أجر عظيم، ثم يستمع إلى الخطبة، وينصت، ويصلي الجمعة مع المسلمين .
وصلاة الجمعة واجبة على الأعيان، لا يجوز التأخر عن حضورها إلا لعذر شرعي، وأما التأخر إلى إقامة الصلاة؛ فهذا فيه نقص عظيم، وتقويت لاستماع الخطبة، وتفويض التبكير، وأجر انتظار الصلاة في المسجد؛ ففيه تفويت لخيرات كثيرة المسلم بحاجة إليها؛ فيجب على هؤلاء الذين اعتادوا التأخير التوبة إلى الله عز وجل وترك التأخر، وأما صلاتهم؛ فهي صحيحة، لكن فوتوا على أنفسهم خيرات كثيرة .
وأما النوم من الجالس؛ فإنه لا يؤثر على وضوئه، لكن ينبغي طرد النوم، والانتباه للخطبة، والاشتغال بالعبادة قبل الخطبة؛ كما ذكرنا . والله أعلم .
أحكام صلاة العيدين
143 ـ إذا فات المأموم ركعة من صلاة العيد أو الاستسقاء؛ هل يجب عليه التكبير عدة مرات مثل الإمام قبل قراءة الفاتحة أم لا ؟
من فاتته صلاة العيد أو الاستسقاء؛ فإنه يستحب له أن يقضيها على صفتها، فإذا فاتته كلها؛ فإنه يقضيها على صفتها، ومن ذلك التكبيرات الزوائد، وكذلك إذا فاته بعضها؛ بأن فاته ركعة منها؛ فإنه يدخل مع الإمام فيما بقي، وإذا سلَّم الإمام؛ يقوم ويأتي بما فاته على صفته بالتكبيرات؛ لأن القضاء مثل الأداء . والله أعلم .
144 ـ ما حكم من فاتته صلاة العيد؛ الفطر أو الأضحى ؟ هل يقضيها على هيئتها أم يصليها ركعتين فقط ؟ أم ماذا يفعل ؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا .
من فاتته صلاة العيد فلا بأس أن يقضيها، بأن يصلي ركعتين بالتكبيرات الزوائد بعد تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وبعد تكبيرة القيام من السجود في الركعة الثانية، ويجهر فيها بالقراءة، ويصليها منفردًا أو مع جماعة .
أحكام صلاة الكسوف(49/56)
145 ـ إذا فات المأموم الركوع الأول من الركعة الأولى من صلاة الكسوف، ولم يتمكن إلا من الركوع الثاني والسجدات الأربع؛ فهل يجب عليه قضاء ؟ وما صفة ذلك ؟
الركوع الثاني في صلاة الكسوف سنة، ولا تدرك به الركعة؛ فإذا جئت، والإمام يصلي صلاة الكسوف، وهو في الركوع الثاني من الركعة الأولى، أو من الركعة الثانية؛ فالركوع الثاني هذا لا يُعتدُّ به، ولا تُدرك به الركعة، ولكن تدخل مع الإمام فيه؛ لتحصل على الفضلية، فإذا سلَّم الإمام تقوم وتأتي بما فاتك على صفته، تأتي بركعة كاملة؛ بركوعين وسجدتين؛ لأن القضاء يحكي الأداء . والله أعلم .
أحكام صلاة الجنائز
146 ـ ما هي الصفة الصحيحة التي وردت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في غسل الميت ؟
الصفة المشروعة في غسل الميت هو أن الإنسان يغسل فرج الميت، مع ستره ثم يشرع في تغسيله، فيبدأ في أعضاء الوضوء، ويوضئه؛ إلا أنه لا يدخل الماء فمه ولا أنفه، وإنما يبل خرقة وينظف أنفه وفمه بها، ثم يغسل بقية الجسد، ويكون ذلك بسدر، والسدر هو المعروف، يدق ثم يوضع بالماء، ثم يضرب باليد حتى يكون له رغوة، فتؤخذ الرغوة ويغسل بها الرأس واللحية، ويغسل بقية البدن بفضل السدر؛ لأن ذلك ينظفه كثيرًا، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافورًا، والكافور طيب معروف، قال العلماء : من فوائده أنه يصلب الجسد ويطرد عنه الهوام .
147 ـ ما كيفية الصلاة على الميت ؟(49/57)
كيفية الصلاة على الميت : أن يكبر تكبيرة الإحرام، ويتعوذ بعد التكبير مباشرة ولا يستفتح، ثم يسمي ويقرأ الفاتحة . ثم يكبر، ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ مثل الصلاة عليه في التشهد الأخير من صلاة الفريضة . ثم يكبر، ويدعو للميت بما ورد، ومنه : ( اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبلده دارًا خيرًا من داره، وزوجًا خيرًا من زوج، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار، وافسح له في قبره، ونور له فيه ) [ انظر : صحيح مسلم ( 2/662، 663 ) ] ، وإن كان المصلى عليه أنثى؛ قال : ( اللهم اغفر لها . . . " ؛ بتأنيث الضمير في الدعاء كله، وإن كان المصلى عليه صغيرًا؛ قال : ( اللهم اجعله لوالديه فرطًا وأجرًا وشفيعًا مجابًا ) [ انظر : صحيح البخاري ( 2/91 ) ] ، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم« . ثم يكبر ويقف بعد التبكير قليلاً، ثم يسلم عن يمينه تسليمة واحدة .
148 ـ من فاتته بعض التكبيرات من صلاة الجنازة؛ ماذا يفعل ؟
من فاتته بعض التكبيرات من صلاة الجنازة؛ فإنه يأتي بها على صفتها مع الذكر الذي بعدها ما دامت لم ترفع، فإن خشي رفعها قبل إكمال الصلاة عليها؛ فإنه يتابع التكبيرات، ثم يسلم قبل رفعها .
149 ـ ما حكم الصلاة على الغائب ؟ وهل يصح الاحتجاج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على النجاشي ؟ أفتوني مأجورين .(49/58)
الصحيح أن الصلاة على الغائب تشرع إذا لم يصل عليه في الموضع الذي مات فيه؛ كما في قصة النجاشي (12) ، وكذلك من كان له شأن في الإسلام؛ كالعلماء والقادة الصالحين الذين قدموا للإسلام خدمة عظيمة، أما المسلم العادي الذي قد صلي عليه في موضع موته؛ فلا داعي أن تصلى عليه صلاة الغائب، لكن يدعى لأموات المسلمين، ويُترحم عليهم، ويُستغفر لهم، ولو لم تُصلَّ عليه صلاة الغائب .
150 ـ هل تجوز صلاة الجنازة على الشهيد الذي مات في معركة مع الكفار ؟
الشهيد الذي قتل في المعركة مع الكفار من أجل إعلاء كلمة الله لا يغسل ولا يكفن بغير ثيابه التي قتل فيها، وإنما يكفن بثيابه التي قتل فيها؛ بعد نزع الحديد والجلود عنه، ولا يغسل؛ لأن الدم الذي عليه من أثر الشهادة والقتل في سبيل الله ينبغي أنه يبقى عليه ولا يزال بالغسل؛ لأنه يجيء يوم القيامة يثعب دمًا، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، ولما كان هذا الدم ناشئًا عن طاعة الله سبحانه وتعالى؛ فينبغي أن يبقى للشهيد ولا يغسل؛ لأنه كرامة من الله سبحانه وتعالى، وأثر طاعة، وهو محبوب عند الله عز وجل، ولا يصلّى عليه أيضًا؛ لأن الله أكرمه بالشهادة ورفعه بها، وهكذا وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم (13) ، فيكفن بثيابه وبدمائه، ويدفن من غير أن يصلى عليه، ولأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون :
فقال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ سورة آل عمران : آية 169 ] .
وقال سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [ سورة البقرة : آية 154 ] .(49/59)
فالشهيد له خاصية دون غيره من الأموات، ومن خاصيته؛ أنه لا يصلى عليه، ولا يغسل، ويكفن في ثيابه التي قتل فيها .
151 ـ تنشر على مساحات كبيرة في بعض الصحف تعازي لبعض الناس في وفاة أقربائهم، وأحيانًا تكون الكتابة بلون أبيض على صفحات سوداء، وأحيانًا بعض العبارات فقط؛ فما حكم هذا العمل ؟
التعزية لأهل الميت بالدعاء لهم ولميتهم مشروعة إذا كانت في حدود الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بأن يقول لأخيه المصاب إذا لقيه : ( أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر لميتك ) (14) ، وإذا كان بعيدًا عنه، وكتب له خطابًا ضمنه هذه التعزية؛ فلا بأس بذلك، وأما الإعلان في الصحف عن وفاة الميت؛ فلا داعي له؛ إلا إذا كان القصد منه الإعلام بوفاته من أجل أن يقوم من له عليه حقوق لاستيفائها، أو من أجل بيان مكانة الصلاة على جنازته من أجل الحضور لذلك، أما إذا كان من أجل الإشادة به والمدح؛ فهذا لا ينبغي؛ لأنه قد يفضي إلى المبالغة والإطراء، وأيضًا هنا العمل يستدعي تكاليف مالية تدفع للجريدة في مقابل الإعلان، وهو عمل لا يترتب عليه فائدة، وكذا لا يشرع الإعلان عن مكان العزاء، ولا إقامة حفلات وولائم .
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة ) (15) .
أحكام المساجد
152 ـ ما حكم أخذ المرأة أطفالها إلى المسجد ؟
أخذ الأطفال للمسجد فيه تفصيل : فإن كانوا يبلغون سن السابعة؛ فإنهم يذهب بهم إلى المسجد من أجل تمرينهم على الصلاة وتربيتهم عليها وتصح منهم نافلة، وإن كانوا دون السابعة؛ فإنهم لا يذهب بهم إلى المسجد؛ إلا إذا أمن من أذاهم للمصلين، وإساءتهم إلى المسجد، أو تنجيسه بأن أمكن ضبطهم، وكان هناك حاجة إلى الذهاب بهم؛ كأن يخاف عليهم إذا بقوا في البيت .
153 ـ هل يجوز للمرأة أن تحضر أكلاً أو شربًا أو بخورًا في المسجد وتهدي ثواب ذلك لميتها ؟(49/60)
يجوز للمسلم رجلاً كان أو امرأة إحضار طعام أو إحضار ماء شراب في المسجد للمحتاجين؛ بشرط عدم تلويث المسجد بذلك، وكذلك إحضار البخور لتطييب الرجال المصلين لا تطييب النساء؛ فإن ذلك لا يجوز؛ كل ذلك مستحب وطاعة ويرجى فيه حصول الثواب، سواء قصد الثواب لنفسه أو لميته، رجلاً كان أو امرأة؛ لأن هذه الأشياء من القرب المشروعة .
لكن كما ذكرنا؛ لابد من مراعاة عدم تلويث المسجد، والتحفظ من سقوط فضلات الطعام فيه، أو تسرُّب الماء على وجه يلوثه .
154 ـ تتعمد بعض النساء حين يحضرن إلى المسجد الحديث مع بعضهن في أمور خارج العبادة، وأحيانًا لا ينهين حديثهن إلا عند ركوع الإمام؛ فما الحكم في ذلك ؟
من حضر في المسجد من الرجال والنساء؛ فإنه يراعي حرمة المسجد وحرمة العبادة؛ فلا يخوض في حديث الدنيا؛ لأن ذلك يسيء إلى المسجد، ويشغل عن العبادة، ويفوت الفرصة على المسلم في هذا المكان الطاهر .
ومن باب أولى لا يجوز الانشغال بالحديث عن الدخول في الصلاة مع الإمام من أولها؛ لأن هذا يفوِّت فضل تكبيرة الإحرام، ويعرِّض الركعة للفوات، ويشوش على الإمام وعلى المصلين .
155 ـ ما حكم من يتكلم في المساجد بغير ذكر الله ؟
لا ينبغي أن يتكلم المصلي في المساجد بغير ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن، وعليه أن يغتنم الفرصة، ويعمر المسجد بذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وبالصلاة .
قال سبحانه وتعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [ سورة النور : آية 36، 37 ] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل ) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم [ رواه مسلم في صحيحه ( 1/237 ) ] .(49/61)
وإذا احتاج إلى أن يتحدث في أمر مباح من أمور الدنيا؛ فلا حرج في ذلك، يباح أن يتحدث الإنسان في أمر من أمور الدنيا عند الحاجة إلى ذلك، أما أن يشغل وقته في غير حاجة بالكلام الكثير، كأنه في شارع، أو كأنه في سوق، أو كأنه في مقهى؛ فهذا لا يتناسب مع المساجد، وإذا أراد الحديث في مثل هذه الأمور؛ فليخرج إلى الشارع أو إلى الأماكن المناسبة لمثل هذا .
أما إذا كان الكلام محرمًا؛ كالغيبة، والنميمة، وغير ذلك؛ فالأمر أشدُّ، وهذا حرام في المسجد وغيره، ولكنه في المسجد أشدُّ حرمة .
فعلى المسلمين أن يتنبهوا لذلك، وأن يغتنموا وجودهم في بيوت الله، فيعمروها بذكر الله، وأن يشغلوا وقتهم فيما فيه خيرهم ونفعهم .
الجامع لأحكام الصلاة
156 ـ توفي والدي رحمه الله بعد أن مرض مرضًا نفسيًّا طالت مدته، وكان في فترة المرض لا يصوم ولا يصلي، كما كان أيضًا قبل مرضه يتكاسل أحيانًا كثيرة عن الصلاة، ولكن؛ هل يجوز أن أصلي عنه، أو أصوم عنه؛ قضاء عما تركه في حياته من صوم أو صلاة ؟
الصلاة لا تقضى عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد؛ فالواجب على المسلم أن يحافظ على صلاته، وأن يحافظ على بقية دينه، ولا يتساهل فيه؛ خشية أن يدركه الموت وهو مفرط في دينه ومضيع للصلاة .
ووالدك إن كان مختل الشعور حال تركه للصلاة؛ فلا شيء عليه؛ لأنه معذور .
157 ـ كثير من الشباب يصلون، ولكنهم في نفس الوقت يقومون بأعمال لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ولما تسألهم يقولون؛ بأن الصلاة تأخذ مكانًا وتلك الأعمال تأخذ لها مكانًا؛ فما هو الحكم ؟
الصلاة لابد منها، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وتركها كفر، من تركها متعمدًا؛ فقد كفر؛ كما صحت بذلك الأدلة من الكتاب والسنة؛ فهي عمود الإسلام، وهي – كما قال الله جل وعلا – تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلابد من الصلاة .
وكذلك لابد للمسلم من أن يتجنب المحرمات وما نهى الله عنه ورسوله، لابد من الأمرين .(49/62)
أما أن يصلي؛ فهذا قد أحسن وأدى ما عليه من واجب دينه، وأما كونه يغشى شيئًا من المحرمات؛ فهذا لا يجوز له، والصلاة لا تكفر الذنوب الكبائر، فإذا كانت هذه الأمور التي يغشاها من الكبائر؛ فإن الصلاة لا تكفرها، ولا يجوز للإنسان أن يفعل ما شاء من المحرمات بحجة أنه يصلي؛ فإن المسلم مطلوب منه أداء الواجبات، وفي مقدمتها الصلاة بعد الشهادتين، ومنهي عن فعل المحرمات؛ فلابد أن يؤدي المأمورات، ويتجنب المحرمات ويكون قائمًا بدينه كله؛ فلا يبني من جانب ويهدم من جانب آخر؛ فهذا واجب المسلم، وهو أن يقيم دينه كله، ولا يقيم بعضه ويهدم البعض الآخر؛ فالذي يصلي لا تكفر الصلاة عنه الكبائر التي يفعلها، وإنما الصلاة تكون جانبًا من جوانب الدين، وهي من أهم الجوانب، لكن تبقى عليه الجوانب الأخرى، وهي ترك المحرمات، والابتعاد عن المناهي، هذا مطلوب من المسلم، هذا ما يجب على المسلم في دينه، فعل الأوامر وترك ما نهى الله عنه ورسوله، حتى يكون دينه سليمًا، والله جل وعلا كما أنه أمر بالطاعة؛ نهى كذلك عن المعصية؛ فلا بد للعبد من تحقيق الأمرين : فعل الأوامر، وترك المنهيات، وإلا كان دينه ناقصًا .
158 ـ هل يجوز للشخص أن يدعو لوالديه في الصلاة قبل نفسه؛ كأن يقول : اللهم اغفر لوالدي، واغفر لي؛ اعترافًا بالجميل منه ؟
المشروع أن يبدأ الإنسان بنفسه في الدعاء، ثم يدعو لوالديه ولمن شاء من المسلمين، والله جل وعلا ذكر من أدعية الأنبياء في القرآن أنهم يبدؤون بأنفسهم :
فهذا نوح عليه السلام يقول : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة نوح : آية 28 ] ، فبدأ بنفسه ثم دعا للمؤمنين والمؤمنات .(49/63)
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ سورة إبراهيم : آية 41 ] ، فبدأ بنفسه أولاً، ويقول : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [ سورة إبراهيم : آية 35 ] ؛ دعا الله أن يجنبه عبادة الأصنام قبل أن يدعو لبنيه .
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة محمد : آية 19 ] ؛ فأمره أن يستغفر لذنبه أولاً، ثم بأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات .
فهذا يدل على أن الداعي يبدأ بنفسه أولاً .
أما إذا قدم والديه أو غيرهما على نفسه؛ فهذا دليل على فتور رغبته في طلب المغفرة له، أو على أنه يزكي نفسه، وأن غيره أولى منه بذلك .
159 ـ أقضي كل واجباتي الدينية، لكن أثناء الصلاة يكون قلبي مشغولاً ببعض الأشياء؛ ما صحة صلاتي هذه ؟
يجب على المسلم أن يستحضر قلبه في صلاته، وأن يكون خاشعًا لله عز وجل في صلاته؛ بحضور قلبه، وإقباله على صلاته، وقطع الوساوس والهموم وأشغال الدنيا؛ لأنه في عبادة عظيمة، وفي موقف عظيم بين يدي ربه عز وجل .
أما إذا شغلته الوساوس، وصار يصلي بجسمه دون قلبه؛ فصلاته لا تعتبر صلاة مفيدة له عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن العبد لا يكتب له من صلاته إلا ما عقل منها؛ فقد يفرغ الإنسان من الصلاة ولا يكتب له منها شيء، وقد يكتب له نصفها، أو ربعها، أو عشرها، أو أقل من ذلك أو أكثر؛ حسب حضور قلبه في صلاته .
فعلى المسلم أن يطرد عنه الوساوس في الصلاة، وأن يقطع عنه أعمال الدنيا، ويقبل على الله سبحانه وتعالى في صلاته، حتى تكون صلاة صحيحة ظاهرًا وباطنًا .(49/64)
أما الذي يصلي ولا يحضر قلبه في الصلاة وينشغل بأعمال الدنيا وبالوساوس والأفكار؛ فهذا يعتبر قد صلى ظاهرًا؛ بحيث لا يؤمر بالإعادة، ولكنه لا يعد مصليًا في الباطن فيما بينه وبين الله .
160 ـ سائل يقول بأنه شاب في السابعة عشرة من عمره، محافظٌ على الصلوات الخمس، وملتزمٌ بالدين؛ إلا أنه يعاني من كثرة الوساوس في الوضوء وأثناء الصلاة؛ فهل يخل هذا في عقيدته ؟ وبماذا تنصحونه ؟
الوساوس من الشيطان؛ فهو الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، ويحصل التخلص منه بالاستعاذة بالله منه، وكذلك بالإكثار من ذكر الله؛ فإن ذكر الله يطرد الشيطان، والغفلة عن ذكر الله تسبب تسلطه ووسوسته .
وكذلك يجب عدم التأثر بوسوسته، وعدم الالتفات إليه، وأن يبني الإنسان على اليقين، ولا يلتفت إلى وسوسته؛ كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما يوسوس الشيطان إلى الإنسان في انتقاض وضوئه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 1/43 ) ] .(49/65)
كتاب الزكاة
أحكام زكاة الحلي ( النقدين )
161 ـ اشتريت كمية من الذهب بمبلغ خمس مئة دينار مثلاً، ومضى على الذهب مدة سنة؛ فهل أدفع هذه الزكاة عن مقدار الخمسمائة دينار ؟ أم أدفع الزكاة عن ثمن الذهب الذي يستحقه في تاريخ دفع الزكاة؛ أي : بعد مرور سنة؛ لأن الذهب ينخفض سعره ويزيد كما تعلمون ؟
إن من ملك نصابًا من الذهب لأجل القنية والتملك؛ فإنه يخرج زكاته منه، وهي ربع العشر، مع غض النظر عن القيمة؛ لأن المراد إخراج زكاة الذهب منه، فإن كان يريد أن يخرج من نقد آخر؛ فحينئذ يعرف كم قيمة ربع عشر الذهب الذي عنده بالعملات الأخرى ويخرجها، فإن أخرج الجزء المطلوب من الذهب؛ أخرجه بوقته، مع غض النظر عن قيمته زائدة أو ناقصة؛ لأنه أخرج زكاة الذهب ذهبًا .
أما إن كان قد اشترى الذهب لأجل الاتجار به وطلب الربح عند غلاء ثمنه؛ فهذا يجب عليه أن يقومه ويعرف مقدار قيمته وقت إخراج الزكاة، ويخرج ربع عشر قيمته؛ بالغة ما بلغت .
162 ـ هل على الحلي الذي يلبس سواء كان ذهبًا أو فضة زكاة خاصة وما مقدارها ؟
إن الله سبحانه وتعالى أوجب الزكاة في الذهب والفضة وفي غيرهما من الأموال النامية؛ كبهيمة الأنعام، وعروض التجارة، والخارج من الأرض، وإذا بلغ الذهب أو الفضة نصابًا فأكثر؛ فإنه تجب فيهما الزكاة كسائر الأموال الأخرى .
ونصاب الذهب عشرون مثقالاً، وهي بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيه، ومقدارها بالغرامات اثنان وتسعون غرامًا .
ونصاب الفضة مئة وأربعون مثقالاً، ومقدارها بالريال الفضي السعودي المعروف ستة وخمسون ريالاً .
فإذا بلغ الذهب أو الفضة هذا المقدار فأكثر؛ فإنه تجب فيه الزكاة ربع العشر، ومثل ذلك النقود الورقية؛ لأنها تقوم مقام الذهب والفضة؛ فإذا بلغت النقود الورقية قيمة نصاب الفضة – يعني : بلغ صرفها صرف ستة وخمسين ريالاً من الفضة فأكثر -؛ فإنها تجب فيها الزكاة .(50/1)
وأما الحلي المعد للباس والزينة؛ فهذا محل خلاف بين أهل العلم والجمهور، على أنه لا زكاة فيه؛ مادام أنه معد للاستعمال، أو العارية، ولم يعد للتجارة أو للقنية؛ فهو كسائر المستعملات؛ لأنه تحول من كونه مالاً ناميًا إلى كونه مالاً مستعملاً؛ كالملابس، والمساكن، والمراكب، وغير ذلك . هذا قول جمهور العلماء أهل العلم سلفًا وخلفًا .
وذهب بعض العلماء إلى وجوب الزكاة في الحلي، ولو كان معدًّا للاستعمال؛ لأدلة رأوها وأخذوا بها، مع العمومات التي توجب الزكاة في الذهب والفضة، ولم ينظروا إلى ما عرض للحلي من تحويله من كونه مالاً ناميًا إلى كونه مالاً ملبوسًا مستعملاً، فرأوا بقاء وجوب الزكاة فيه .
وعلى كل حال؛ فإذا زكاه الإنسان؛ فهذا أحوط وأبرأ لذمته وخروج من الخلاف . والله أعلم .
163 ـ هل يجوز للمرأة أن تزكي على الذهب والمجوهرات التي تستخدمها للاستعمال الشخصي ؟
ما تستعمله المرأة من المجوهرات غير الذهب والفضة في التحلي لا تجب عليه الزكاة فيه من غير خلاف؛ لأنه معد للبس لا للتجارة؛ كالثياب الملبوسة، وأما ما تتحلى به من الذهب والفضة؛ ففي وجوب الزكاة فيه خلاف بين أهل العلم، الأكثر منهم على عدم وجوب الزكاة فيه؛ لأنه تحول من كونه مالاً ناميًا إلى كونه مستعملاً، والزكاة إنما تجب على الأموال النامية، وذهب بعض العلماء إلى وجوب الزكاة فيه؛ فمن زكاه من باب الاحتياط والخروج من الخلاف؛ فهو أحسن .
164 ـ هل على الذهب المستعمل زكاة ؟
اختلف العلماء في وجوب الزكاة في الذهب الذي تلبسه المرأة للتزين والتحلي به على قولين :
القول الأول، وهو قول الجمهور : أنه لا زكاة فيه؛ لأنه لم يعد للنماء، وإنما أعد للاستعمال؛ فهو كالثياب والدواب المستعملة . وهذا قول جماعة من الصحابة .
والقول الثاني : أن فيه الزكاة؛ أخذًا بالعمومات الواردة في وجوب الزكاة في الذهب، ولأدلة خاصة وردت في ذلك، رأى أهل هذا القول صحتها .(50/2)
والمسألة مبسوطة في كتب الفقه، ومن أراد الاحتياط ودفع الزكاة عن الحلي المستعمل؛ فهذا أحسن .
165 ـ ما حكم الإسلام في زكاة حلي النساء؛ هل تجب ؟ أم أن إخراجها فقط هو الأحوط ؟ جزاكم الله خيرًا ونفع بكم الإسلام والمسلمين .
هذه المسألة كما لا يخفاكم خلافية؛ فالأئمة الثلاثة أحمد والشافعي ومالك، بل كثير من أهل العلم؛ مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، كثير من أهل العلم يقولون : إنه لا زكاة في حلي المرأة المعد للاستعمال؛ لأنه صار من جملة اللباس ومن جملة الحاجيات المستعملة؛ فلا زكاة فيه .
وذهب طائفة من أهل العلم، وهو مذهب الحنفية وجماعة من أهل العلم : أنه تجب فيه الزكاة بأدلة استدلوا بها في هذه المسألة .
وعلى كل حال؛ من أراد الاحتياط، وأراد أن يزكي؛ فهذا شيء طيب، والذين قالوا : لا زكاة في حلي المرأة؛ أجابوا على الأحاديث التي استدل بها الموجبون بأنها أحاديث فيها مقال .
166 ـ كيف تقدر المرأة حليها التي تريد دفع زكاته ؟ هل بقيمته أو بوزنه ؟ وهل تزكيه ذهبًا من جنسه أم تخرج نقدًا عنه ؟ وما مقدار النصاب وزكاته ؟
الحلي إذا كان معدًّا للتجارة أو معدًّا لغير الاستعمال تجب فيه الزكاة قولاً واحدًا من غير خلاف بين أهل العلم .
وزكاته تكون بقيمته إذا كان معدًّا للتجارة ( معروضًا للبيع ) تكون بقيمته، فيقوَّم ويخرج منه ربع عشر قيمته .
أما إذا كان مرصدًا لغير اللبس ولغير التجارة، وإنما للاحتفاظ به؛ فهذا تعتبر الزكاة في وزنه، فإذا بلغ وزنه عشرين مثقالاً، وهي أحد عشر جنيهًا سعوديًّا ونصف جنيه تقريبًا؛ فإنه تجب الزكاة فيه على حسب وزنه ربع العشر، وله أنه يخرجها منه، وله أن يخرجها نقودًا من غيره من الأوراق النقدية أو من الفضة .(50/3)
أما الحلي المعد للاستعمال؛ فهذا فيه خلاف بين أهل العلم : هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب ؟ والصحيح الذي يظهر لي أنه لا زكاة فيه؛ لأن الحلي مثل الثياب والدواب وبهيمة الأنعام التي تتخذ للعمل عليها أو لتأجيرها أو ما أشبه ذلك وكذلك التي تتخذ للركوب، هذه لا زكاة فيها، مع أنها من الأموال الزكوية إذا كانت لغير الاستعمال بل كانت للنماء والزيادة، أما إذا كانت لغير النماء، وإنما هي للاستعمال؛ فهي لا تزكى، بهيمة الأنعام والملابس وسائر الأمور التي لا تتخذ للنماء والزيادة وإنما تتخذ للاستعمال، ومنها الحلي . هذا وجه هذا القول .
ومن العلماء من ذهب إلى أنه تجب فيه الزكاة، ولو كان معدًّا للاستعمال أو العارية؛ أخذًا بالعمومات التي توجب الزكاة في الذهب والفضة، ولأدلة خاصة وردت في ذلك؛ فالمسألة خلافية، وإذا زكي الحلي المعد للاستعمال من باب الاحتياط؛ فحسن . وتكون زكاته على وزنه كما سبق .
167 ـ عندي مبلغ من المال جمعته لبناء منزل؛ حيث إننا نسكن في منزل بالإيجار السنوي، وليس لنا من يعولنا؛ فهل يجب عليَّ الزكاة من هذا المبلغ ؟ وكيف يتم إخراجها إن وجبت ؟
نعم؛ إذا تجمع لديك دراهم، وبلغت النصاب فأكثر، وحال عليها الحول؛ وجبت فيها الزكاة، حتى ولو كنت تنوي أن تبني بها مسكنًا، أو تشتري بها حاجة من الحوائج؛ مادام أنها دراهم بلغت النصاب فأكثر، وحال عليها الحول، وهي في ملكك؛ فإنها تجب فيها الزكاة؛ بأن تخرج منها ربع العشر .
168 ـ المال المدخر للحج في أحد المصارف الإسلامية؛ هل تجب فيه الزكاة أو لا ؟
المال إذا بلغ النصاب بنفسه، أو بضمه إلى غيره، وحال عليه الحول؛ فإنه تجب فيه الزكاة، ولو كان مدخرًا للحج أو للنفقة أو لغير ذلك؛ فإن المال إذا حال عليه الحول وهو في ملك صاحبه من نقود أو عروض تجارة أو سائمة الأنعام؛ فإنه تجب فيه الزكاة عند كل حول .
أحكام عروض التجارة(50/4)
169 ـ السؤال عن زكاة الحلي : الذهب المختزن ولم يُعد للزينة، بل للاحتفاظ بقيمته، وهو حلي ؟
نعم؛ فالحلي إذا كان مُعدًّا للتجارة والاحتفاظ بقيمته يعتبر من الرصيد، إذا احتاجه الإنسان؛ باعه، أو إذا ارتفع ثمنه؛ باعه؛ فهذا تجب فيه زكاة، وتجب الزكاة في قيمته لا على وزنه، فيثمن عند تمام الحول بما يساوي، ثم يُخرج ربع العشر من قيمته المقدرة .
أما إذا كان محتفظًا به للقنية فقط، لا يراد به التجارة؛ فهذا تجب فيه الزكاة أيضًا، ولكن تجب الزكاة على وزنه إذا بلغ نصابًا، ( بلغ 11 . 5 جنيه سعودي تقريبًا ) ؛ فإنه تجب فيه الزكاة، والزكاة هنا على وزنه إذا كان معدًا للقنية؛ لا للتجارة، ولا للبس، وإنما محتفظ به للقنية .
وإذا كان معدًّا للبيع والشراء؛ فإن الزكاة تجب على قيمته لا على وزنه، قد يكون أنقص من النصاب ومع هذا تجب الزكاة على قيمته؛ لأنه معد للتجارة .
170 ـ هناك شخص لديه ثلاث قطع من الأرض : قطعة منحت له، وقطعة أخرى اشتراها لكن سوف يتم بيعها ولا يدري كما مقدار ثمن بيعها، والثالثة قد عمل على بنائها؛ فهل يجب عليه دفع الزكاة عن هذه القطع الثلاث ؟
أما القطع التي ينويها للتملك والعقار؛ فهذه لا زكاة فيها، أما الأرض التي اشتراها بنية البيع؛ فإنها تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول؛ بأن يقوِّمها بما تساوي حينذاك، ويخرج ربع العشر من قيمتها المقدرة؛ لأنها من عروض التجارة . والله أعلم .
171 ـ لي قطعة أرض، وكنت قد اشتريتها منذ تسع سنوات، والقصد منها التجارة، وقمت ببيعها كالآتي : بعث ثلثي هذه الأرض، واستلمت ثمنها على دفعتين، والثلث الآخر بالقسط على ثمانية وعشرين شهرًا؛ فهل يجب عليَّ الزكاة عنها للأعوام السابقة حتى العام الحالي أم لا ؟(50/5)
الزكاة تجب في عروض التجارة؛ فإذا اشتريت أرضًا للبيع؛ فإنها تصبح عرضًا من عروض التجارة، والسائل يسأل عن قطعة أرض اشتراها بنية التجارة، وبقيت عنده مدة تسع سنين، ثم باعها بثمن مقسط ( على أقساط ) ؛ فماذا يجب فيها ؟
نقول : يجب عليك أن تزكيها لكل السنين التي بقيت قبل البيع؛ ما دمت أنك عرضتها للبيع كل هذه السنين؛ فإنها في كل سنة تمر عليها تجب فيها الزكاة، وذلك بأن تقوِّمها بما تساوي وقت تمام الحول، ثم تخرج ربع العشر من قيمتها التي قومتها بها حسبما تساوي من يومها وفي وقتها، فيجب عليك أن تزكيها بعدد السنين التي بقيت في ملكك، وكذلك يجب عليك أن تزكي قيمتها التي بعتها بها؛ فما قبضته منها؛ فإنك تزكيه إذا حال عليه الحول، وما بقي بذمة المشتري؛ فإنك تزكيه أيضًا عن كل سنة إذا كان المشتري مليًّا وقادرًا على السداد، أما إذا كان المشتري مفلسًا أو معسرًا، ولا تدري هل يتمكن من الوفاء أو لا يتمكن؛ فإنك تزكي ما في ذمته إذا قبضته، تزكيه لسنة واحدة إذا قبضته .
172 ـ تم الاتفاق بيني وبين شخص ما على أن أمنحه قطعة أرض زراعية يقوم بزراعتها مقابل أن يمنحني ( 10% ) من الإنتاج، وبعد الحصاد استلمت النسبة الخاصة بي من الإنتاج؛ فهل أقوم بإخراج الزكاة منها، أم يجب أن يستخرج هو الزكاة كاملة من الإنتاج الذي هو من نصيبه ؟
إذا بلغ نصيبك نصاب الحبوب؛ فيجب عليك أن تزكيه، وإذا زكى الجميع هو قبل أن يعطيك نصيبك؛ فهذا يكفي، أما إذا دفع إليك نصيبك، ثم زكى هو نصيبه فقط؛ فإنه عليك أن تزكي نصيبك إذا بلغ نصاب الحبوب؛ لأنك تملكه وقت وجوب الزكاة، وهو اشتداد الحب؛ إلا أنه مشاع مع نصيب المزارع .
ونصاب الحبوب هو ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي . والله أعلم .
173 ـ لدي مبلغ من المال قدره سبعة آلاف جنيه مصري، وقد وضعتها في مشروع تجاري استثماري؛ فهل عليه زكاة ؟ وما مقدارها ؟ ولمن أعطيها ؟ وهل أزكي أصل المال فقط أم الأصل والربح ؟(50/6)
المال المستثمر في التجارة تجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب فأكثر، وتجب في ربحه أيضًا، ويكون ربحه تبعًا له؛ يزكى مع الأصل؛ فعليك أن تدفع الزكاة من هذا المال إذا حال الحول، وتضيف إليه الريح، ثم تخرج الزكاة من الجميع ربع العشر .
أما لمن تدفع الزكاة؛ فأنت تدفعها للذين عيَّنهم الله تعالى في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } إلى آخر الآية [ سورة التوبة : آية 60 ] ، تدفع الزكاة إلى أحد هذه الأصناف الثمانية؛ تعطيها للفقراء والمساكين، وهم كثي، وتجدهم متوافرين، وهم بحاجة إلى ذلك، فتدفع الزكاة إليهم .
أحكام زكاة الفطر
174 ـ ما حكم دفع قيمة صدقة الفطر وقيمة الأضحية والعقيقة ليشترى بها طعام يدفع وشاة تذبح في بلاد أخرى للفقراء هناك ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
فقد قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ سورة الحشر : آية 7 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ) ، أخرجه البخاري [ رواه البخاري في صحيحه ( 3/24 ) ] .(50/7)
وإن بعض الناس في هذا الزمان يحاولون تغيير العبادات عن وضعها الشرعي، ولذلك أمثلة كثيرة؛ فمثلاً صدقة الفطر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجها من الطعام في البلد الذي يوجد فيه المسلم عند نهاية شهر رمضان؛ بأن يخرجها في مساكين ذلك البلد (1)، وقد وجد من يفتي بإخراج القيمة بدلاً من الطعام، ومن يفتي بدفع دراهم يشتري بها طعام في بلد آخر بعيد عن بلد الصائم وتوزع هناك، وهذا تغيير للعبادة عن وضعها الشرعي؛ فصدقة الفطر لها وقت تخرج فيه، وهو ليلة العيد أو قبله بيومين فقط عند العلماء، ولها مكان تخرج فيه، وهو البلد الذي يوافي تمام الشهر والمسلم فيه، ولها أهل تصرف فيهم، وهم مساكين ذلك البلد، ولها نوع تخرج منه، وهو الطعام؛ فلا بد من التقيد بهذه الاعتبارات الشرعية، وإلا فإنها لا تكون عبادة صحيحة، ولا مبرئة للذمة .
وقد اتفق الأئمة الأربعة على وجوب إخراج صدقة الفطر في البلد الذي فيه الصائم مادام فيه مستحقون لها، وصدر بذلك قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة؛ فالواجب التقيُّد بذلك، وعدم الالتفات إلى من ينادون بخلافه؛ لأن المسلم يحرص على براءة ذمته، والاحتياط لدينه، وهكذا كل العبادات لابد من أدائها على مقتضى الاعتبارات نوعًا ووقتًا ومصرفًا؛ فلا يغير نوع العبادة الذي شرعه الله إلى نوع آخر .(50/8)
فمثلاً : فِديَةُ الصيام بالنسبة للكبير الهرم والمريض المزمن اللذين لا يستطيعان الصيام قد أوجب الله عليهما الإطعام عن كل يوم بدلاً من الصيام، قال الله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، وكذلك الإطعام في الكفارات كفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة اليمين، وكذلك إخراج الطعام في صدقة الفطر؛ كل هذه العبادات لابد من إخراج الطعام فيها، ولا يجزئ عنه إخراج القيمة من النقود؛ لأنه تغيير للعبادة عن نوعها الذي وجبت فيه؛ لأن الله نص فيها على الإطعام؛ فلا بد من التقيُّد به، ومن لم يتقيَّد به؛ فقد غيَّر العبادة عن نوعها الذي أوجبه الله .
وكذلك الهدي والأضاحي والعقيقة عن المولود؛ لابد في هذه العبادات أن يذبح فيها من بهيمة الأنعام النوع الذي يجزئ منها، ولا يجزئ عنها إخراج القيم أو التصدق بثمنها :
لأن الذبح عبادة : قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] ، وقال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة الأنعام : آية 162 ] .
والأكل من هذه الذبائح والتصدق من لحومها عبادة : قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ سورة الحج : آية 28 ] .
فلا يجوز ولا يجزئ إخراج القيمة أو التصدق بالدراهم بدلاً من الذبح؛ لأن هذا تغيير للعبادة عن نوعها الذي شرعه الله فيه، ولابدّ أيضًا أن تذبح هذه الذبائح في المكان الذي شرع الله ذبحها فيه :
فالهدي يذبح في الحرم : قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ سورة الحج : آية 33 ] ، وقال الله تعالى في المحرمين الذين ساقوا معهم الهدي : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ سورة البقرة : آية 196 ] .(50/9)
والأضحية والعقيقة يذبحهما المسلم في بلده وفي بيته، ويأكل ويتصدق منهما، ولا يبعث بقيمتهما ليشتري بها ذبيحة وتوزع في بلد آخر؛ كما ينادي به اليوم بعض الطلبة المبتدئين أو بعض العوام؛ بحجة أن بعض البلاد فيها فقراء محتاجون .
ونحن نقول : إن مساعدة المحتاجين من المسلمين مطلوبة في أي مكان، لكن العبادة التي شر الله فعلها في مكان معين لا يجوز نقلها منه إلى مكان آخر؛ لأن هذا تصرف وتغيير للعبادة عن الصيغة التي شرعها الله لها، وهؤلاء شوَّشوا على الناس، حتى كثر تساؤلهم عن هذه المسألة .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها وهو مقيم بالمدينة (2) ويذبح الأضحية والعقيقة في بيته بالمدينة ولا يبعث بهما إلى مكة، مع أنها أفضل من المدينة، وفيها فقراء قد يكونون أكثر حاجة من فقراء المدينة، ومع هذا تقيد بالمكان الذي شرع الله أداء العبادة فيه، فلم يذبح الهدي بالمدينة، ولم يبعث بالأضحية والعقيقة إلى مكة، بل ذبح كل نوع في مكانه المشروع ذبحه فيه، ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) .
نعم؛ لا مانع من إرسال اللحوم الفائضة من هدي التمتع وهدي التطوع خاصة دون هدي الجبران ومن الأضاحي إلى البلاد المحتاجة، لكن الذبح لابد أن يكون في المكان المخصص له شرعًا .
ومن أراد نفع المحتاجين من إخواننا المسلمين في البلاد الأخرى؛ فليساعدهم بالأموال والملابس والأطعمة وكل ما فيه نفع لهم، أما العبادات فإنها لا تغير عن وقتها ومكانها بدعوى مساعدة المحتاجين في مكن آخر، والعاطفة لا تكون على حساب الدين وتغيير العبادة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
أحكام أهل الزكاة
175 ـ شخص عليه دين لا يستطيع سداده إلا بالتقسيط؛ فهل يجوز دفع الزكاة إليه ؟(50/10)
إذا كان على الشخص دين حالٌّ، وهو مطالب به، ولا يستطيع تسديده؛ فإنه يجوز دفع الزكاة إليه لتسديد دينه، هذا إذا كان الحالّ عليه الدين كله، وإن كان الحالّ عليه قسط منه؛ فإنه يعطى ما يستطيع به أن يسدد هذا القسط الحالّ الذي هو مطالب به؛ لأنه غارم لنفسه، يدخل في قوله تعالى : { وَالْغَارِمِينَ } [ سورة التوبة : آية 60 ] . والله أعلم .
176 ـ هل تجوز دفع الزكاة للإخوة والأخوات؛ حيث إنهم صغار السن، ووالدهم متوفى، وليس هناك أي دخل يعيشون منه ؟
الإخوة والأخوات الفقراء تجب نفقتهم على قريبهم الغني؛ ينفق عليهم من ماله لا من زكاته، ولا يجوز دفع الزكاة إليهم من الناس إذا كان قريبهم قد قام بكفايتهم .
177 ـ هناك شخص يعرف أنه موسر؛ إلا أن موزع الزكاة يخشى من أذاه إذا لم يعطه؛ فهل يعطيه من الزكاة خوفًا من أذاه ؟
الزكاة تصرف في مصارفها التي عينها الله سبحانه وتعالى، ولا تصرف في غيرها؛ فالغني لا يجوز أن يعطى منها، وهذا الشخص الذي ذكرت غني؛ فلا يعطي من الزكاة؛ لأنه لا يستحقها، أما إذا أردت أن تكف لسانه وشره؛ فأعطه من غير الزكاة . والله أعلم .
178 ـ أنا رجل أعمل في التجارة، وكل سنة في شهر رمضان المبارك أزكي ما عندي من مال، وعندي عمال يعملون معي براتب شهري؛ فهل يجوز لي أن أعطيهم زكاة مالي الذي أخرجه في كل سنة ؟ أم أسلمه إلى جباة الزكاة التابعين للحكومة، وهم بدورهم يصرفونه في وجوهه؛ علمًا بأن هؤلاء العلماء من الناس المتدينين حسبما يتضح لي منهم، ومن المحتاجين إلى الزكاة؛ فهل يجوز أن أدفعها إليهم ؟ أو ولو بعثتها بواسطة شيك على أحد المصارف في بلادهم إلى أهلهم؛ هل يصح ذلك ؟ أم لابد من إخراجها نقدًا ؟
الزكاة أمرها عظيم، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، والله تعالى بيَّن مصارفها بنفسه وحددها، وذلك مما يدل على أهميتها ومكانتها في الإسلام .(50/11)
أما ما سألت عنه بحكم دفعها إلى العمال الذين يعملون لديك، وهم أهل طاعة كما ذكرت وأهل استقامة وهم فقراء أيضًا .
فالجواب : أن الزكاة لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب؛ فما دام أن هؤلاء العمال عندهم قدرة على الاكتساب وتحصيلهم ما يكفيهم باكتسابهم يسد حاجتهم إلى الزكاة؛ فلا حظ في الزكاة لغني لا لقوي مكتسب، أما إذا كان اكتسابهم لا يكفيهم، بل تلحقهم حاجة؛ فلا بأس بدفع الزكاة إليهم .
وأما ما أشرت إليه من قطع شيك بمبلغ الزكاة إلى أحد المصارف ليسلمها للمستحق؛ فلا مانع من ذلك .
ولكن لا يجوز أن تجعل ما تعطيهم من الزكاة في مقابل حق يجب لهم عليك أو في مقابل عمل يؤدونه لك .
179 ـ توفي شخص وعليه دين، ولم يخلف ما يسدد هذا الدين؛ فهل يجوز قضاء دينه من الزكاة ؟
لا شك أن قضاء الدين عن الميت أمر مشروع، وفيه إحسان إلى الميت، وفك لرهانه، وإبراء لذمته .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام إذا أتي بالميت ليصلي عليه؛ سأل : هل عليه دين ؟ فإن أخبر أن عليه دينًا؛ تأخر عن الصلاة، وقال : ( صلوا على صاحبكم ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 6/ 195 ) ] ، وفي بعض المرات تحمل الدين عن الميت بعض الصحابة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وحث هذا الصحابي على أداء الدين الذي التزم بأدائه إلى أن أداه، ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم على عمله هذا، وقال : ( الآن بردت عليه جلدته ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 3/ 330 ) ] ؛ يعني : الميت .
فلما وسع الله على رسوله؛ صار يحمل الدين عن الميت الذي ليس له وفاء، ويصلي عليه، فدل هذا على مشروعية قضاء الدين عن الميت .
أما قضاؤه من الزكاة؛ فمحل خلاف بين أهل العلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بيَّن مصارف الزكاة في الأصناف الثمانية، فيقتصر على ما بيَّنه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز الزيادة عليها، وقضاء الدين عن الميت لا يدخل فيها فيما يظهر، وهذا أحد القولين لأهل العلم .(50/12)
والقول الثاني، وهو رواية عن أحمد، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية : أنه يجوز قضاء الدين عن الميت من الزكاة، ولكن مهما أمكن أن يقضى الدين عن الميت من غير الزكاة؛ فإنه أحوط وأحسن . والله أعلم .
180 ـ لدي أخ شقيق فقير لا يملك شيئًا من المال، وفي الوقت نفسه مريض، وأنا الذي أقوم بكفالته ورعايته؛ فهل يجوز لي إعطاؤه زكاة مالي ؟ وهل يجوز لي أن أصرف عليه للعلاج من مال الزكاة ؟ وهل يجوز إعطاء الزكاة للجد أو الجدة من الأب أو الأم؛ علمًا بأنني الذي أعولهم ؟
هذا يسأل عن أخيه الفقير وعن جده وجدته الفقيرين، وهو يقوم بالإنفاق عليهم؛ لفقرهم وعجزهم ؟ فنقول : هذا شيء أوجبه الله عليك؛ لأن نفقة القريب المحتاج تجب على قريبه الغني، ولا يجوز لك أن تعطيهم من الزكاة؛ لأن نفقتهم واجبة عليك في مالك، والزكاة لا تدفع وقاية عن النفقة؛ فهؤلاء الذين تنفق عليهم من أقاربك، أنت الآن تؤدي واجبًا شرعيًّا أوجبه الله عليك؛ لأن هؤلاء فقراء وأنت تستطيع الإنفاق عليهم؛ فدفع الزكاة إليهم لا يجوز؛ لأنه يكون وقاية لمالك .
181 ـ أنا أعول قُصَّرًا توفي عنهم والدهم من مدة لا تقل عن ثلاث عشرة سنة، وليس لهم من يعولهم ويرعى مصالحهم سواي بعد الله؛ علمًا بأن والدهم لم يترك لهم أي شيء من المال، ولكن تجمع لهم عندي مبلغ خمسة عشر ألف ريال من أهل الخير، ولم أصرف منه شيئًا، وقد مضى عليهم عندي خمس سنوات، وكنت على رأس كل حول أخرج زكاته من مالي الخاص، وأريد أن أشغل هذا المال في التجارة لعله ينمو أو يزيد بالحلال إن شاء الله، ولكن ليس عندي وصية بذلك من والدهم المتوفى، وليس عندي وكالة منهم بالتصرف في مالهم، وحينما طلبت منهم ذلك؛ رفضوا إعطائي؛ فهل يجوز لي أن أتصرف في مالهم لمصلحتهم دون رضاهم ؟ وهل إخراجي الزكاة من مالي الخاص جائز، أم أنه ليس عليهم إخراج الزكاة من ذلك المال المتجمع من تبرعات أهل الخير ؟ أفيدوني بارك الله فيكم .(50/13)
أولاً تشكر على عنايتك بإخوتك ورعاية مصالحهم .
أما ما ذكرت من أنه تجمع لديك لهم مال من أهل الإحسان، وأنك تخرج زكاته من مالك، وأنك طلبت منهم التوكيل فرفضوا؛ فالذي يحل هذا الإشكال أن تراجع القاضي الذي بطرفكم، وتشرح له هذه القضية، ثم هو يصدر الوكالة الشرعية لك على إخوتك ورعاية مصالحهم؛ فهذا مرجعه إلى القاضي .
أما مالهم الذي ذكرت؛ فإنه تجب فيه الزكاة بلا شك؛ لأن الزكاة تجب في المال، ولو كان صاحبه صغيرًا أو قاصرًا، ويخرجها ولي ذلك الصغير أو القاصر؛ فأنت تخرج الزكاة نيابة عنهم بعد أن تحصل على الوكالة من القاضي؛ فالواجب أن تخرج الزكاة من مالهم، وإذا رأيت أن تخرج نيابة عنهم من مالك وتبرعًا منك؛ فهو شيء طيب وتشكر عليه .
الجامع لأحكام الزكاة
182 ـ المال المكون من وجوه الخير أو المحسنين وقد يكون بعضه أيضًا من الزكوات؛ هل يزكى عنه أيضًا ؟
نعم؛ إذا تجمع نصاب فأكثر لكل واحد، فتخرج الزكاة عنه؛ دون نظر إلى مصدره؛ هل هو صدقات أو من تبرعات أو من غير ذلك . ولكن يجب أن يلاحظ أنه إذا كان لهم مال يكفيهم؛ فإن الزكاة لا تحلُّ لهم .
183 ـ كيف تتم الزكاة على المال المتزايد كل شهر من رواتب الموظف؛ فقد يحول الحول وتحت يدي من المال ما تجب فيه الزكاة، ولكن بعضه لم يحل عليه الحول؛ فماذا أفعل به ؟
إذا خصصت شهرًا من السنة تخرج فيه الزكاة عن المال المتحصل لديك والمتجمع لديك، شهر رمضان مثلاً؛ فهذا شيء طيب، تخرج الزكاة عما تحصل لديك : ما كان تم حوله فتكون الزكاة قد أخرجت في وقتها، وما لم يتم حوله تكون قد عجلت زكاته، وتعجيل الزكاة جائز إذا كان لغرض شرعي، وهذا هو الذي لا يسع الناس – خصوصًا الموظفين – إلا العمل به .(50/14)
184 ـ أنا رجل أعمل بالتجارة منذ سبع سنوات، وفي نهاية كل سنة كنت أقوم بجرد محتويات المتجر، ثم أقوم بإخراج الزكاة، والآن عزمت على ترك هذا العمل، وبقي لي ديون عند بعض الناس؛ فهل يجوز أن أتركها عندهم باعتبارها زكاة أم لا ؟ أفيدوني أفادكم الله .
ترك الديون لا يجزئ عن زكاة المال الذي بيدك؛ فالمال الذي بيدك لابد أن تزكيه وتخرج زكاته منه أو من غيره مما تحصل عليه، أما الديون؛ فإن زكاتها فيها، فإذا كنت هذه الديون على أناس موسرين وباذلين؛ فإنه يجب عليك أن تزكيها كل عام؛ سواء قبضتها أو لم تقبضها، أما إذا كانت على معسرين، وتخشى أن لا تأتي ولا تحصل عليها؛ فإنه لا يجب عليك زكاتها؛ إلا إذا قبضتها، وتزكيها لعام واحد إذا قبضتها .(50/15)
كتاب الصيام
وجوب شهر رمضان ووقته
185 ـ عندما يحل شهر رمضان نسمع كثيرًا من الناس يباركون على بعضهم بقدومه بقولهم : " مبروك عليك شهر رمضان " ؛ فهل لذلك أصل في الشرع ؟ أفتونا مأجورين .
التهنئة بدخول شهر رمضان لا بأس بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويحثهم على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة، وقد قال الله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ سورة يونس : آية 58 ] ؛ فالتهنئة بهذا الشهر والفرح بقدومه يدلان على الرغبة في الخير، وقد كان السلف يبشر بعضهم بعضًا بقدوم شهر رمضان؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء ذلك في حديث سلمان الطويل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيها الناس ! قد أظلكم شهر عظيم مبارك . . . ) إلى آخر الحديث (1) .
186 ـ إذا كان أول رمضان مثلاً يوم السبت بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وبالنسبة للجزائر كان أول الشهر يوم الأحد؛ فمن كان يقطن في الجزائر وصام مع المملكة؛ هل يجوز له هذا أم لا ؟ ومع من يفطر ؟ لأنه إذا أفطر مع السعودية كان ذلك اليوم صيامًا في بلده، وإذا صام هذا اليوم كان يوم عيد في البلد التي صام معها ؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/ 229 ) ] ، فعلّق صلى الله عليه وسلم وجوب الصيام برؤية الهلال، وذلك يختلف باختلاف المطالع على الصحيح من قولي العلماء، ولا شك أن المطلع في الجزائر قد يختلف عن المطلع في المملكة؛ فكل إنسان يوم مع أهل الإقليم وأهل البلد الذي هو فيه إذا رأوا الهلال ويفطر معهم؛ فأنت حكمك حكم المسلمين الذين تسكن معهم في أي إقليم كان ؛ سواء في الجزائر أو في غيرها؛ تصوم معهم وتفطر معهم .(51/1)
187 ـ إذا ثبت دخول رمضان في إحدى الدول الإسلامية؛ كالمملكة مثلاً، وفي بلاد أخرى لم يعلن دخوله؛ فما الحكم ؟ هل تصوم مع المملكة ؟ وما الأمر إذا اختلف الأمر في الدولتين ؟
كل مسلم يصوم ويفطر مع المسلمين الموجودين في بلده، وعلى المسلمين أن يهتموا برؤية الهلال في قطرهم الذي هم فيه، ولا يصوموا برؤية قطر آخر يبعد عن قطرهم؛ لأن المطالع تختلف، وإذا قدر أن بعض المسلمين في دولة غير إسلامية، وليس حولهم من المسلمين من يهتم برؤية الهلال؛ فلا بأس أن يصوموا مع المملكة العربية السعودية .
188 ـ في بعض بلاد المسلمين يعمد الناس إلى الصيام دون اعتماد على رؤية الهلال، وإنما يكتفون بالتقاويم؛ فما حكم ذلك ؟
لا يجوز ابتداء صيام شهر رمضان إلا برؤية هلاله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم؛ فاقدروا له ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/229 ) ] ، ولا يجوز الاعتماد على الحساب؛ لأنه خلاف المشروع، ولأن الحساب يخطئ كثيرًا .
لكن؛ من كان في بلاد غير إسلامية، وليس فيها جماعة من المسلمين يعتنون برؤية الهلال؛ فإنه يتبع أقرب البلاد الإسلامية إليه وأوثقها في تحري الهلال، فإن لم يصل إليه خبر يعتمده في ذلك؛ فلا بأس أن يعتمد على التقويم؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] .
واليوم وسائل الاتصال والحمد لله متوفرة، وسفارات البلاد الإسلامية منتشرة في العالم، وكذلك المراكز الإسلامية توجد في أغلب بلاد العالم؛ فعلى المسلمين أن يتعارفوا في ذلك وفي غيره من شؤون دينهم .
189 ـ ما حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر ؟(51/2)
من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر؛ فإنه يجب عليه الإمساك بقية يومه، ويقضي هذا اليوم؛ لأنه لم يصمه كاملاً، حيث إنه لم ينو الصيام قبل طلوع الفجر، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا صيام لمن لم يجمع الصوم من الليل ) ، أو كما جاء [ رواه الإمام مالك في الموطأ ( 1/288 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 2/341، 342 ) ورواه الترمذي في سننه ( 3/80، 81 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 4/196-198 ) ، ورواه الدارمي في سننه ( 2/12 ) ] .
190 ـ إذا كان الجو غائمًا، وأذن المؤذن، وأفطر بعض الناس بناء على الأذان، واتضح بعد الإفطار أن الشمس لم تغب؛ فما حكم الصيام في هذه الحالة ؟
الذي عليه جمهور أهل العلم فيما أعلم : أنه إذا تبيَّن للصائم أنه أفطر قبل غروب الشمس، فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأنه لم يتمه، والله تعالى يقول : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ سورة البقرة : آية 187 ] .
بل إن بعضهم قال : إذا أفطر شاكًّا في غروب الشمس، ولم يتبيَّن له الحال؛ وجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بيقين .
وبعض العلماء يرى أنهم إذا كان الجو غائمًا واجتهدوا في التحري وأفطروا، ثم تبيَّن بقاء النهار؛ أنه يصح صومهم؛ لأنه حصل من الصحابة رضي الله عنهم شيء من ذلك، ولم يؤمروا بالقضاء، والقول الأول أحوط .
191 ـ ما الحكم إذا شك الإنسان الذي يريد الصيام في طلوع الفجر ؟ هل له أن يأكل ويشرب حتى يستيقن من طلوع الفجر، أم أنه يعمل بالشك؛ فلا يأكل ولا يشرب ؟
على الإنسان أن يحتاط في مثل هذا الأمر؛ فإذا شك في طلوع الفجر؛ فعليه أن يتأكد وينظر في العلامات؛ فإذا رأى أن العلامات تدل على طلوع الفجر؛ فإنه لا يأكل؛ مثل أن يسمع المؤذنين، أو ينظر التقويم والتوقيت ويعرف موعد الفجر قد حان في التقويم؛ فلا يأكل .(51/3)
والذي يجب عليه في مثل هذا الأمر التثبت؛ لأنه على بداية الصيام، ويخشى أن يكون قد طلع الفجر؛ فإذا غلب على ظنه أن الفجر لم يظهر؛ فإنه يأكل ويشرب، وإذا غلب على ظنه العكس أن الفجر قد ظهر؛ فإنه يمتنع؛ فغلبة الظن تنزل منزلة اليقين، وإذا شك؛ فإن الأحسن أن لا يأكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) [ رواه الترمذي في سننه ( 7/205 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 8/327، 328 ) ورواه أيضًا الإمام أحمد في مسنده ( 3/112 ) ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 1/19 ) ] .
192 ـ ما الحكم الشرعي للصيام فيمن سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب ؟
يجب الإمساك إذا تحقق طلوع الفجر؛ لقوله تعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [ سورة البقرة : آية 187 ] .
وإذا كان المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر؛ فإنه لا يجوز الأكل والشرب إذا أذن؛ لأن أذانه علامة على طلوع الفجر، أما إن كان المؤذن يتقدم على طلوع الفجر؛ فلا بأس بالأكل والشرب بعد أذانه، فلا يعتبر الأذان للإمساك، وإنما المعتبر طلوع الفجر أو ما يدل عليه من الأذان الذي يكون عند طلوعه، أو النظر في التوقيت اليومي .
مفسدات الصوم وما يؤثر فيه
193 ـ ما هي مفسدات الصوم عمومًا ؟
مفسدات الصوم :
ـ منها الأكل والشرب متعمدًا .
ـ ومنها الجماع .
ـ ومنها الإنزال .
ـ ومنها أيضًا أن يدخل إلى جوفه شيئًا؛ كالقطرة في العين أو في الأذن أو في الأنف إذا وصلت إلى حلقه؛ فهذا يفطر؛ لأنه أدخل إلى جوفه سائلاً متعمدًا .
ـ وكذلك أخذ الإبر المغذية؛ لأن هذه الإبر تقوم مقام الغذاء، فيفطر بها .(51/4)
ـ وكذلك من المفطرات للصائم الحجامة والفصد على الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 3/465 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 3/118 ) وما بعدها، وانظر : صحيح البخاري ( 2/236، 237 ) ] .
ـ وكذلك الحيض والنفاس، والحائض والنفساء يحرم عليهما الصيام حال حيضها وحال نفاسها .
ـ كذلك الاستقاءة، إذا تعمد الإنسان الاستفراغ حتى حصل له القيء؛ فإنه يفطر، أما لو قاء من دون تعمد؛ بأن غلبه القيء؛ فإنه لا يفطر بذلك (2)، كذلك لو أكل أو شرب ناسيًا؛ فإنه لا يُفطر بذلك (3) .
194 ـ ما حكم الكحل والعطر ومساحيق المكياج للصائمة ؟
أما الكحل والقطرة وما يوضع في العين للصائم؛ فهذا قد يتسرب إلى حلقه، فيؤثر على صيامه، وقد قال الكثير من أهل العلم بمنع الكحل للصائم، أو أن يضع شيئًا بعينه؛ كالقطرة وغير ذلك؛ لأن العين منفذ، ويتسرب منها الشيء إلى الحلق؛ دون أن يستطيع الإنسان منع ذلك .
أما قضية المساحيق التي توضع على الوجه والأصباغ والطيب الذي يتطيب به الإنسان من العطور السائلة؛ فهذا لا بأس به؛ إلا أنه ينبغي أن يعلم أن المرأة ممنوعة من التزين والتعطر عند الخروج من البيت، بل يجب عليها أن تخرج متسترة متجنبة للطيب، ويحرم عليها التطيب عند الخروج، قال تعالى : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [ سورة الأحزاب آية : 33 ] ، وحتى في خروجها للعبادة إلى المسجد؛ فهي مأمورة بترك الزينة وبترك الطيب .
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تَفِلات ) [ رواه أبو داود في سننه ( 1/152 ) ] يعني : في غير زينة، وفي غير طيب؛ لأن الزينة والطيب مما يجلب الأنظار، ويسبب الفتنة .
وقد ابتليت بعض نساء المسلمين بالتبرج والتزين عند الخروج، وعمل الأصباغ والمكياج؛ فكأنهن إنما يستعملن الزينة للخروج من البيت، وهذا حرام عليها .(51/5)
195 ـ خروج الدم من الإنسان على الرغم عنه، نتيجة حادث مثلاً أو جرح؛ هل يفسد عليه صومه أم لا ؟
لا يفسد عليه صومه إذا خرج منه دم بغير اختياره، فمثلاً لو انجرح وخرج منه دم أو خرج رعاف؛ فهذا لا يُفطر بذلك، إنما الذي يفطر هو المحتجم؛ لأنه تعمد إخراج الدم، فيفطر بذلك؛ لورود الحديث في المحتجم (4).
196 ـ هل التبرع بالدم في نهار رمضان يفطر ؟
نعم؛ إذا كان الدم كثيرًا تبرع به وسحب منه؛ فإنه يفطر بذلك؛ لأنه مثل الحجامة .
197 ـ يوجد في الصيدليات معطر خاص بالفم، وهو عبارة عن بخاخ؛ فهل يجوز استعماله خلال نهار رمضان لإزالة الرائحة من الفم ؟
يكفي عن استعمال البخاخ للفم في حالة الصيام استعمال السواك الذي حث عليه صلى الله عليه وسلم، وإذا استعمل البخاخ ولم يصل شيء إلى حلقه؛ فلا بأس به، مع أن رائحة فم الصائم الناتجة عن الصيام ينبغي أن لا تكره؛ لأنها أثر طاعة ومحبوبة لله عز وجل، وفي الحديث : ( خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/226 ) ] .
198 ـ ما حكم استعمال العطر في نهار رمضان ؟
لا بأس باستعمال العطر للصائم في بدينه وثيابه؛ إلا إذا كان الطيب بخورًا أو مسحوقًا؛ فإنه لا يتعمد شمهما؛ لأنه يدخل إلى أنفه شيء من أجزائها، ويصل إلى دماغه، فيؤثر ذلك على صيامه، كما نصل على ذلك أهل العلم . أما الطيب السائل الذي يضعه على بدنه أو ثيابه؛ فلا بأس به؛ لأنه لا يدخل منه شيء إلى أنه وجوفه؛ إلا مجرد الرائحة، وذلك لا يضر .
199 ـ رجل تعب تعبًا شديدًا من جراء التمارين الرياضية في الصباح، في يوم من أيام رمضان، فشرب ماء، ثم أتم الصيام؛ هل يجوز صيامه أم لا ؟(51/6)
لا يجوز الإفطار من أجل إجراء التمارين، بل الواجب ترك التمارين التي تجهد الصائم، وما حصل من السائل من شربه الماء وهو صائم من أجل دفع التعب الذي حصل عليه بسبب إجراء التمارين الرياضية يعتبر خطأ منه، يجب عليه التوبة والاستغفار وعدم العودة إلى مثل هذا العمل، ويجب عليه مع ذلك قضاء ذلك اليوم الذي شرب فيه، وإن كان من رمضان سابق قبل رمضان الموالي؛ فعليه مع القضاء إطعام مسكين نصف صاع من الطعام عن تأخير القضاء، وإن كان من رمضان الموالي؛ فليس عليه إلا القضاء .
200 ـ ما حكم امرأة يأتها دم الطمث بعد نيتها للصوم ؟
المرأة إذا صامت، ثم نزل عليها دم العادة الشهرية؛ يفسد صومها، ويلزمها الإفطار في أيام الدورة؛ فإذا انقطع عنها الدم عند تمام العادة؛ فإنها تصوم بقية الشهر، ثم تقضي ما أفطرته أيام عادتها .
201 ـ إذا كانت المرأة حائضًا في رمضان أو في آخر فترة نفاس، وطهرت من ذلك بعد الفجر من أحد أيام رمضان؛ فهل عليها أن تكمل صيام ذلك اليوم أم لا ؟ وماذا عليها أن تفعل لو اغتسلت وبدأت في الصيام ثم ظهر شيء من ذلك بعد انتهاء المدة المعتادة لكل من الحيض والنفاس؛ هل تقطع صيامها، أم لا يؤثر ذلك عليها ؟
أما بالنسبة للنقطة الأولى من السؤال، وهي ما إذا طهرت الحائض في أثناء النهار أو النفساء طهرت في أثناء النهار؛ فإنها تغتسل وتصلي وتصوم بقية يومها، ثم تقضي هذا اليوم في فترة أخرى . هذا الذي يلزمها .
وأما النقطة الثانية، وهي إذا انقطع دمها من الحيض ثم اغتسلت ثم رأت بعد ذلك شيئًا؛ فإنها لا تلفت إليه؛ لقول أم عطية رضي الله عنها : ( كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا ) [ رواه أبو داود في سننه ( 1/81 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 1/186، 187 ) بدون ذكر : بعد الطهر ] ؛ فلا تلتفت إلى ذلك .
أما بالنسبة للنفساء :(51/7)
فإذا كانت انقطع دمها قبل الأربعين، ثم اغتسلت، ثم عاد إليها شيء؛ فإنها تعتبر نفساء، وهذا الذي عاد يعتبر من النفاس، لا يصح معه صوم ولا صلاة مادام موجودًا؛ لأنه عاد في فترة النفاس .
أما إذا كانت تكاملت الأربعين، واغتسلت، ثم عاد إليها شيء بعد الأربعين؛ فإنها لا تلتفت إليه؛ إلا إذا صادف أيام عادتها قبل النفاس؛ فإنه يكون حيضًا .
الحاصل أن هذا لابد فيه من تفصيل : إذا أكملت عادة الحائض، واغتسلت، ثم رأت شيئًا بعد ذلك؛ لا تلتفت إليه . وإذا كانت عادتها لم تكمل، ورأت طهرًا في أثناء العادة، واغتسلت، ثم عاد إليها الدم؛ فإنها تعتبره حيضًا؛ لأنه جاءها في أثناء العادة . وكذلك النفساء إذا كان عاد إليها في فترة الأربعين؛ فإنه يعتبر نفاسًا، وإن كان عاد إليها بعد تمام الأربعين؛ فإنها لا تعتبره شيئًا؛ إلا إذا صادف أيام حيضها قبل النفاس وقبل الحمل .
أحكام قضاء الصوم
202 ـ إذا طهرت النفساء خلال أسبوع، ثم صامت مع المسلمين في رمضان أيامًا معدودة، ثم عاد إليها الدم؛ هل تفطر في هذه الحالة ؟ وهل يلزمها قضاء الأيام التي صامتها والتي أفطرتها ؟
مما لا شك فيه أن النفساء لا تصوم إلا كانت ترى الدم خلال أربعين يومًا، فإن انقطع عنها الدم قبل الأربعين؛ اغتسلت وصامت، فإن عاد إليها نزول الدم قبل إتمام الأربعين؛ تركت الصيام مدة نزول الدم إلى الأربعين، وما صامته أيام انقطاع الدم عنها صوم صحيح؛ لأنها صامته في حالة طهر . هذا أصح قولي العلماء في هذه المسألة، والله أعلم .
203 ـ كنت في الرابعة عشر من العمر، وأتتني الدورة الشهرية، ولم أصم رمضان تلك السنة؛ علمًا بأن هذا العمل ناتج عن جهلي وجهل أهلي؛ حيث إننا كنا منعزلين عن أهل العلم، ولا علم لنا بذلك، وقد صمت في الخامسة عشر، وكذلك سمعت من بعض المفتين أن المرأة إذا أتتها الدورة الشهرية؛ فإنه يلزم عليها الصيام، ولو كانت أقل من سن البلوغ، نرجو الإفادة .(51/8)
هذه السائلة التي ذكرت عن نفسها أنها أتاها الحيض في الرابعة عشرة من عمرها، ولم تعلم أن البلوغ يحصل بذلك؛ ليس عليها إثم حين تركت الصيام في تلك السنة؛ لأنها جاهلة، والجاهل لا إثم عليه، لكن حين علمت أن الصيام واجب عليها؛ فإنه يجب عليها أن تبادر بقضاء صيام الشهر الذي أتاها بعد أن حاضت؛ لأن المرأة إذا بلغت؛ وجب عليها الصوم .
وبلوغ المرأة يحصل بواحد من أمور أربعة :
1 ـ أن تتم خمس عشرة سنة .
2 ـ أن تنبت عانتها .
3 ـ أن تنزل .
4 ـ أن تحيض .
فإذا حصل واحد من هذه الأربعة؛ فقد بلغت وكُلِّفت ووجبت عليها العبادات كما تجب على الكبيرة .
204 ـ امرأة أفطرت عشرة أيام من رمضان، ونسيت فلم تقضي العشرة إلا بعد 10 سنوات؛ فهل يجوز أن تصوم ما عليها ؟
نعم؛ يجب على من ترك أيامًا من رمضان أن يقضيها متى ما تمكن من ذلك، حتى ولو في آخر عمره، يجب عليه أن يقضي، فلا يسقط القضاء عنه ولا تبرأ ذمته حتى يقضي؛ لأنه حقٌّ لله عز وجل مطلوب قضاءه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقضوا الله؛ فالله أحقُّ بالقضاء ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 7/233، 234 ) ] ، ويجب مع القضاء أن تطعم مع كل يوم مسكينًا عن التأخير الذي حصل؛ يعني : تطعم عن كل يوم مسكينًا، تقضي عدد الأيام التي عليها؛ فالإطعام عن التأخير، والقضاء من أجل إبراء الذمة عن ركن من أركان الإسلام، وهو صيام رمضان .
205 ـ لم أصم شهر رمضان في الماضي، أما السنة الماضية؛ فصمته كاملاً، حتى وأنا مسافر سفرًا طويلاً؛ كيف أقضي الأشهر التي لم أصمها من السنين السابقة ؟ هل أصوم كل شهر أو أطعم ستين مسكينًا ؟ وأريد أن أصوم هذه السنة، حتى ولو ثلاثة أشهر؛ فهل هذا صحيح ؟ وهل يكون الصوم متتابعًا أو منقطعًا ؟
هذا فيه تفصيل؛ فإذا كنت في حال تركك للصيام تاركًا للصلاة؛ فإنه ليس عليك صيام فيما مضى؛ لأنك لم تكن على الإسلام بتركك للصلاة، ولو صمت؛ لم يصح صومك وأنت لا تصلي .(51/9)
أما بعد التوبة إلى الله عز وجل : إذا حافظت على الصلاة؛ كنت مسلمًا، ويجب عليك الصيام وسائر الشرائع الإسلامية الواجبة، فما تركته من الصوم بعد التوبة وبعد المحافظة على الصلاة؛ فإن الواجب عليك أن تقضيه، وإذا تأخر عن رمضان الذي بعده؛ فإنه يجب عليك مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم إذا كان تأخيره بغير عذر، أما التأخير بعذر حتى جاء رمضان آخر؛ فإن الواجب عليك القضاء بعده فقط .
206 ـ رجل عليه قضاء يومين من رمضان، ولم يقض صيامه إلى الآن؛ علمًا أنه فاته رمضان الأول والآخر ولم يقضه؛ فماذا يجب عليه ؟
قضاء اليوم الذي يفطر فيه المسلم من رمضان يثبت في ذمته، لابد من صومه، ولو كان إفطاره متقدمًا بزمن طويل، لا تبرأ ذمته إلا بذلك، وعليه مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع من الطعام بعدد الأيام التي يقضيها .
وهنا ننبه أنه يجب على المسلم المبادرة بقضاء ما أفطره من رمضان :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 183-184 ] .
وقال تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] .
207 ـ من صام يوم قضاء؛ فهل يجوز قطعه، وكذلك صوم يوم النفل ؟
لا يجوز للإنسان إذا نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه؛ لأنه إذا نواه وبدأه؛ وجب عليه إكماله؛ لأن الفرض الموسع إذا دخل فيه الإنسان؛ فإنه يجب عليه إكماله، ولا يجوز له قطعه، وإنما التوسعة قبل أن يدخل فيه، فإذا دخل فيه؛ فلا يجوز قطعه .(51/10)
أما إذا صام النفل؛ فإنه يجوز له أن يقطعه؛ لأن صيام النفل لا يلزمه إتمامه، ولكن الأفضل له إتمامه، وله أن يفطر، ولا حرج عليه في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته وهو صائم صيام نفل، ولما وجد فيه طعامًا أهدي إليهم؛ أكل منه صلى الله عليه وسلم، وقطع صومه (5) ، فدل على أن صوم النافلة لا يلزم إتمامه .
كفارة الإفطار في رمضان
208 ـ رجل أتى أهله في يوم رمضان لمدة ثلاث أيام متتالية؛ ماذا يجب عليه أثابكم الله ؟
إذا حصل من الصائم جماع في أثناء الصيام؛ فقد ارتكب معصية عظيمة، يجب عليه التوبة إلى الله منها، وقضاء اليوم الذي جامع فيه، ويجب عليه مع ذلك الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد؛ صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ أطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين نصف صاع من الطعام، وتتكرر الكفارة بعدد الأيام التي جامع فيها عن كل يوم جامع فيه كفارة مستقلة . والله أعلم .
209 ـ كنا نعيش في البادية، ولي أخت كانت تقوم برعي الأغنام، وبلغت، ومرت عليها رمضانات عديدة ولم تصمها، وعددها ثلاث رمضانات، ولمشقة رعي الأغنام؛ لم يأمرها والداي بالصيام؛ رحمة لها، والآن قد تزوجت وانتقلت إلى حياة المدينة والراحة؛ فهل تقضي هذه الأشهر التي أفطرتها ؟ وهل عليها مع القضاء إطعام مساكين ؟ أفيدوني جزاكم الله كل خير .(51/11)
لا يجوز لولي أمر الأولاد إذا بلغوا أن يتركهم يستمرون على ترك الصلاة والصيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) [ رواه أبو داود في سننه ( 1/130 ) ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 8/104 ) ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة التحريم : آية 6 ] ، وقال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } [ سورة طه : آية 132 ] .
فيجب على والدي الصغير إذا بلغ أن يأمروه ويلزموه بالصلاة والصيام وغير ذلك من الواجبات؛ كما يجب عليهم أن ينهوه ويمنعوه من المحرمات، ويرغبوه في الأعمال الصالحة، وما ذكره السائل من شأن هذه الفتاة التي بلغت ولم تصم رمضان ثلاث سنوات شيء يحزن ويخيف؛ إذ كيف يليق بأولياء أمورها وهم مسلمون أن يتركوها تترك الصيام، وكونها ترعى الأغنام لا يبرر لها ترك الصيام؛ فالواجب عليها الآن التوبة والاستغفار والندم على ما فعلت، ثم تبادر بقضاء أشهر رمضان التي تركتها، ومع الصيام تطعم عن كل يوم مسكينًا نصف صاع من الطعام، عن كل يوم؛ بعدد الأيام، كفارة عن تأخيرها القضاء . والله الموفق .
210 ـ كنت في إحدى الدول العربية، وجئت إلى هنا من أجل العمل، وجاء شهر رمضان وليس معي شيء من المال، وفي هذه الحالة اضطررت إلى الإفطار والعمل؛ فهل عليَّ شيء في هذا ؟
العمل لا يبيح الإفطار في رمضان؛ لأن الإفطار يجوز للمريض وللمسافر وللحائض والحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، أما العمل؛ فإنه لا يبيح الإفطار، فالعامل يعمل ويصوم، وإذا كان لا يقوى على العمل مع الصيام؛ فإنه يترك العمل، ويطلب عملاً آخر يتفق مع الصيام، والأعمال كثيرة .(51/12)
الحاصل أن العامل لا يجوز له أن يفطر؛ لأنه حاضر غير مسافر، ولأنه صحيح غير مريض، ولأنه ليس له عذر شرعي من الأعذار التي رخص للصائم أن يفطر من أجلها؛ فعليه أن يعمل ويصوم، وعليه أن يطلب من الأعمال ما لا يتعارض مع صيامه، والأعمال كثيرة، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
وما زال المسلمون منذ فرض الله الصيام يعملون ويشتغلون ويصومون، ولا يتركون الصيام من أجل العمل، مع العلم أنهم يعملون أعمالاً شاقة ومتعبة، ومع هذا؛ لم يرد في تاريخ الإسلام أو عن السلف الصالح أنهم يفطرون من أجل العمل وهم مقيمون أصحاء، والله تعالى أعلم .
وعليك أيها السائل التوبة إلى الله مما حصل منك من الإفطار في نهار رمضان، وعليك قضاء ما أفطرته .
211 ـ رجل مسلم لم يكن يصوم في فترة سابقة من عمره؛ أي : يفطر دون عذر، وهو نادم الآن وتائب، وهو لا يعرف عدد الأيام التي أفطرها؛ فماذا يلزمه الآن ؟
صيام شهر رمضان هو الركن الثالث من أركان الإسلام، لا يجوز للمسلم أن يتركه أو يتهاون فيه، ومن أفطر في رمضان من غير عذر؛ فقد ارتكب محرمًا وترك واجبًا عظيمًا؛ فعليه التوبة إلى الله، وقضاء ما أفطر، ويكفر عن كل يوم بإطعام مسكين نصف صاع من الطعام عن التأخير، وإن كان حصل منه جماع في نهار رمضان؛ فعليه الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد؛ صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ أطعم ستين مسكينًا، وتتعدد الكفارة بتعدد الأيام التي جامع فيها في نهار رمضان؛ لأن الأمر خطير .
وإن كان لا يعرف عدد الأيام التي أفطرها؛ فإنه يجتهد في تقديرها، ويحتاط مهما أمكنه ذلك، فإن لم يستطع معرفة عدد الأيام ولم يستطع تقديرها؛ فعليه التوبة والمحافظة على الصيام في بقية عمره، والإكثار من الطاعات؛ لعل الله أن يتوب عليه .(51/13)
212 ـ أمي في الستين من عمرها، لم تقضِ أيام الحيض من أشهر رمضان فاتتها منذ أن تزوجت والدين حيث كان يقول لها والدي بأن تكفر عن كل يوم بدلاً من قضائه، وذلك لأنها أم ولها أولاد، والمدة التي فاتتها تقدر بعشرين عامًا؛ بواقع سبع أيام من كل رمضان؛ ماذا عليها ؟ هل تصوم ما فاتها أم تتصدق ؟ وما مقدار الصدقة ؟
الواجب على والدتك قضاء الأيام التي تركت صيامها من رمضان في فترة الحيض، ولو تكرر ذلك منها عدة رمضانات، فتحصي الأيام التي تركتها، وتقضيها، وتطعم مع القضاء مسكينًا عن كل يوم، بمقدار نصف صاع عن كل يوم؛ كفارة عن تأخير القضاء، ويجوز أن تقضيها متتابعة أو متفرقة حسب ظروفها .
المهم أنه لا يجوز لها تركها، ووالدك قد أخطأ خطأ كبيرًا في إفتائها بغير علم .
213 ـ شخص أصابه مرض مزمن ونصحه الأطباء بعدم الصيام، ولما شفي من هذا المرض؛ كان قد فاته أربع سنوات؛ فماذا يفعل بعد أن شفاه الله ؟ هل يقضيها أم لا ؟
من أفطر لأجل مرض، ثم زال مرضه، واستطاع الصيام؛ فإنه يجب عليه قضاء ما أفطر؛ لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] .
وهذا الذي أفطر أربعة رمضانات وشفي الآن؛ يجب عليه القضاء لتلك الأشهر أولاً بأول، لكن له أن يفرق القضاء حسب استطاعته، إلى أن ينتهي ما في ذمته، ولا يجب عليه القضاء دفعة واحدة؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، ولأن وقت القضاء موسع .
أحكام أهل الأعذار ( من أفطر لكبر أو مرض )
214 ـ مريض بالسكر وبمرض في المعدة وبمرض نفسي أيضًا شفاه الله، ولم يستطع الصيام، ولكنه يدفع نقودًا كفارة عنه؛ فهل يكفي هذا ؟ أم عليه شيء آخر ؟(51/14)
تذكر أيها السائل أنك مصاب بالأمراض التي لا يستطيع معها الصيام، وأنك تدفع كفارة من النقود . نقول : شفاك الله مما أصابك وأعانك على أداء ما افترض الله عليك .
أما إفطارك من أجل المرض؛ فهذا شيء صحيح لا حرج فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى رخص للمريض أن يفطر إذا كان الصيام يشق عليه أو يضاعف المرض، وأمره أن يقضي الأيام التي أفطرها في فترة أخرى { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، هذا إذا كان المرض يرجى زواله أو خفته في بعض الأحيان؛ بحيث يستطيع أن يقضي في فترة أخرى، أما إذا كان المرض مستمرًا ومزمنًا لا يرجى برؤه؛ فإنه يتعيَّن عليه الإطعام؛ لقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، ومنهم المريض الذي مرضه مزمن .
والإطعام لا يكون بالنقود كما ذكرت، وإنما يكون الإطعام بدفع الطعام الذي هو قوت البلد؛ بأن تدفع عن كل يوم نصف الصاع من قوت البلد المعتاد، ونصف الصاع يبلغ الكيلو والنصف تقريبًا؛ فعليك أن تدفع طعامًا من قوت البلد بهذا المقدار الذي ذكرنا على كل يوم، ولا تدفع النقود؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ؛ نصَّ على الطعام .
215 ـ والدتي يرحمها الله مرضت قبل وفاتها شديدًا إثر سقوطها على رأسها سقوطًا شديدًا أدى إلى إصابتها باختلال عقلي لمدة سنة كاملة، ولذا لم تستطع أداء فريضتي الصيام والصلاة؛ فأرجو إفادتي : هل يجب عليّ أن أقوم بالقضاء عنها، أو الكفارة، أو أي عمل آخر ترشدونني إليه، حفظكم الله وسدد خطاكم ؟(51/15)
إذا كانت بالصفة التي ذكرت بأنها مختلة العقل والشعور بسبب الإصابة؛ فهذه لا صيام عليها ولا تكليف عليها؛ لأنها زائلة العقل، والعبادة إنما تجب على العاقل البالغ؛ فلا صيام على هذه المصابة التي ماتت بإصابتها وهي مختلة العقل وزائلة الشعور .
أما إذا كان معها عقلها ومعها شعورها، ولكنها أتت عليها الإصابة حتى ماتت؛ فإن الصيام لا يسقط عنها؛ فإذا كان لها تركة؛ فإنه يخرج من تركتها كفارة إطعام مسكين عن كل يوم من الأيام التي تركتها، وإن تبرع أحد من أقاربها وأطعم عنها أو صام عنها؛ فإنه يرجى أن ينفعها ذلك .
216 ـ عليَّ صيام شهرين ونصف من رمضان، ولا أستطيع أن أصوم؛ لأنني مصابة بمرض المعدة، وقد استشرت طبيبًا أخصائيًّا؛ فقال لي : لا ينبغي لك الصوم؛ فماذا عليَّ مع هذه الحالة ؟ أفيدوني شكر الله لكم .
إذا كنت لا تستطيعين الصيام لا أداء ولا قضاء بسبب مرض مزمن قال الأطباء : إنه يتعذر معه الصوم أو يشق معه الصوم مشقة غير محتملة أو يُضاعف المرض ويزيد فيه؛ فإنك يجب عليك أن تطعمي عن كل يوم مسكينًا، ويكفي هذا عن الصيام؛ لقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] .
217 ـ هل يقاس على الحامل إذا خافت على ولدها؛ هل يقاس عليها من أفطر مثلاً لإنقاذ غيره؛ يعني : بأن يقضي وعليه إطعام ؟
نعم؛ يفطر لإنقاذ غيره من مهلكة إذا استدعى الأمر أن يفطر، ولا يتمكن من إنقاذ غيره من المهلكة إلا بالإفطار؛ فله أن يفطر ويقضي .
218 ـ سائل يقول : إنه مصاب بمرض السكر منذ ثلاثة أعوام، وكان يصوم شهر رمضان ولكن بمشقة؛ فهل يجوز له الإفطار في هذه السنة ؟ وماذا عليه لو أفطر، ومع ذلك المرض دائمًا يحس بالجوع والعطش، حتى لو كان الجو معتدلاً ؟(51/16)
صيام شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إلى قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ سورة البقرة : آية 183-185 ] .
فالمسلم يجب عليه أن يصوم؛ إلا إذا كان معذورًا؛ فإنه يُفطر من أجل العذر الشرعي، ويقضي من أيام أخر .
والذي يُعذر في ترك الصيام في رمضان هو المسافر أو المريض، قال تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] .
فالمريض يفطر ويقضي الأيام التي أفطرها من أيام أخر؛ فلك أن تفطر إذا كان الصيام يشق عليك، أو كان الصيام يزيد في المرض ويضاعف المرض؛ فإنك تفطر عملاً برخصة الله سبحانه وتعالى .
ثم إذا قدرت على القضاء في المستقبل؛ فإنه يجب عليك أن تقضي الأيام التي أفطرتها؛ لقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] .
وإذا كنت لا تقدر على القضاء؛ لكون المرض مزمنًا ومرضًا لا يرجى شفاؤه؛ فإنه يتعين عليك أن تطعم عن كل يوم مسكينًا، وذلك بمقدار كيلو ونصف الكيلو من الطعام تقريبًا، تخرج عن كل يوم كيلو ونصف من الطعام، هذا إذا كنت لا تقدر على القضاء؛ لأن المرض مستمر معك؛ فالمريض مرضًا مزمنًا والشيخ الكبير الهرم يفطران ويطعمان وليس عليهما قضاء .
أما إذا كان بمقدورك أو بانتظارك أن يزول هذا المرض أو يخف؛ بأن يكون له وقت في السنة مثلاً يخفف عنك وتستطيع الصيام؛ فإنك تؤجل القضاء إلى ذلك الوقت .
أما إذا لم يكن شيء من ذلك؛ فإنك تطعم عن كل يوم مسكينًا، ويكفيك هذا؛ لقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، ومنهم المريض الذي لا يُرجى شفاء مرضه . والله أعلم .(51/17)
219 ـ كنت أعمل في إحدى البلاد العربية، وقد جئت إليها وشهر رمضان ما قبل الماضي في بدايته، وقد صمت الأيام، ولكني عملت عملاً شاقًا، فأفطرت ما تبقى من أيام رمضان لشدة حاجتي للعمل، وقد زاولت أعمالاً أخرى بعد ذلك، ولكنها شاقة، ولم أستطع قضاء الأيام الأولى أيضًا، وأفطرت الباقي، وإلى الآن أزاول أعمالاً شاقة؛ فهل عليَّ قضاء والكفارة، أم القضاء فقط ؟ أفيدونا أفادكم الله ؟
يجب على المسلم أن يهتم بدينه، ولا سيما أركان الإسلام الخمسة كصيام شهر رمضان، وأن لا يتساهل في ذلك أو يلتمس المعاذير للتخلص من الصيام والإفطار في نهار رمضان؛ فالله تعالى إنما أباح الإفطار للمريض وللمسافر وللمرأة الحائض والنفساء، هؤلاء هم الذين أباح الله لهم الإفطار مع القضاء من أيام أخر، كذلك الإفطار للمريض المرض المزمن والكبير الهرم، هؤلاء أباح الله لهم الإفطار في نهار رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا بدل الصيام .
أما العمل الشاق؛ فهذا لا يبيح الإفطار، وعلى المسلم أن يكيف عمله حسبما يستطيع مع الصيام، فيجعل العمل خاضعًا يستطيع معه الصيام، ولا يكلف نفسه العمل الذي لا يستطيع أن يصوم معه، والعمل الشاق يتركه لغير رمضان .
أما ما وقع منك من أنك تركت الصيام من أجل العمل الشاق كما ذكرت لسنتين؛ فهو يعتبر خطأ منك، كان الواجب عليك أن تسأل قبل أن تقع في المحذور .
أما وقد وقع هذا الشيء؛ فيجب عليك قضاء ما أفطرت، والتوبة والندم على ما فعلت، ويجب عليك مع القضاء عن أيام رمضان الأولى أن تطعم عن كل يوم مسكينًا، تقضي عدد الأيام وتطعم عن كل يوم مسكينًا نصف صاع عن كل يوم من الطعام، أما رمضان الثاني؛ فهذا يجب عليك قضاء الأيام التي أفطرتها منه فقط بدون إطعام . والله أعلم .(51/18)
220 ـ لي عمة توفيت منذ عام، كانت تصوم وتصلي؛ إلا أنها أصيب بمرض في القلب والعظام جعلها غير قادرة على الصيام بعد أن حاولت مرة وأكثر، وكذلك بالنسبة لصلاتها تركتها هي الأخرى، وذلك لعدم تمكنها من التحرك نهائيًّا بسبب مرضها في العظام، قبل وفاتها أوصت بمال من تركتها لعمل رخصة لها، والرخصة متبعة في بلدنا، وهي التصدق بمقدار من المال لقاء صلاتها وصومها الفائت، وبما أنكم على علم بأن الوصية أمانة؛ فما حكم الشرع في نظركم بهذه الوصية ؟ هل يجوز أم لا ؟ وإذا كان تجوز؛ فماذا تعمل في هذه الحالة ؟ علمًا بأن المرض لم يزل عنها حتى وافاها الأجل؛ هل يمكننا تنفيذ هذه الوصية، وإخراج مال من تركتها، وإعطاؤه كفدية لما فاتها من الصيام؛ علمًا بأنها لم يزل عنها المرض حتى الوفاة ؟
بالنسبة للصيام؛ فإن المريض يفطر عند المرض، ويقضي إذا شفاه الله وقوي على القضاء، فإن لم يستطع القضاء، واستمر معه المرض، وصار مرضًا مزمنًا؛ فإنه يطعم عنه كل يوم مسكينًا، ويكفيه الإطعام عن القضاء .
وهذه المرأة التي ماتت وعليها صيام من رمضان، وكانت تركته لمرض مزمن؛ يجب أن يطعم عنها عن كل يوم مسكينًا بعدد الأيام التي أفطرتها .
أما الصلاة؛ فإنها لا تسقط عن المريض مادام عقله باقيًا؛ فإنه يصلي على حسب حاله، فإن استطاع أن يصلي قائمًا؛ صلى قائمًا، وإن استطاع أن يصلي قاعدًا؛ صلى قاعدًا، أو يصلي على جنبه ويومئ برأسه بالركوع والسجود متوجهًا إلى القبلة، فإن لم يستطع الإيماء؛ فإنه يصلي بقلبه، ويستحضر الصلاة بقلبه؛ من قيام وقراءة وركوع وسجود، وسائر أفعال الصلاة وأقوالها يستحضرها بقلبه ويرتبها بقلبه، ويكفيه هذا؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] .(51/19)
وإذا كان يستطيع أن يتوضأ؛ وجب عليه أن يتوضأ، وإذا كان لا يستطيع الوضوء؛ فإنه يتيمم؛ بأن يمسح على وجهه وكفيه بالتراب الطاهر ناويًا به الطهارة ويصلي؛ فالصلاة لا تسقط بحال .
وهذا الذي حصل من والدتكم من تركها للصلاة وهي تعقل وتدري عن مواقيت الصلاة؛ هذا جهل منها وتفريط منكم حيث لم تنبهوها !
فالمريض يصلي على حسب حاله، ولو بقلبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/975 ) ] .
فما دامت أنها تركت الصلاة وماتت على هذه الحالة، نرجو الله أن يغفر لها؛ لأنها لم تتركها متعمدة، وإنما تركتها عن خطأ وعن ظن منها أنها لا تجب عليها، نرجو الله أن يعفو عنها .
وإذا تصدقتم بما أوصت به من باب القربى إلى الله، وكان هذا الموصى به في حدود الثلث فأقل من تركتها؛ فهذا شيء طيب، ولعل الله جلَّ وعلا أن يتقبَّل منها .
أما إذا كانت الوصية أكثر من الثلث؛ فإنه يُتصدق بقدر الثلث، وما زاد عليه لابد فيه من رضى الورثة وسماحهم به، وإن كان عليها دين؛ فإنه يجب وفاء الدين قبل الوصية والإرث . والله الموفق .
221 ـ إذا توافق الامتحان الدراسي مع رمضان؛ فهل يجوز للطالب أن يفطر في رمضان حتى يستطيع أن يركز؛ علمًا أن عمر الطالب لا يتجاوز السادسة عشرة ؟
لا يجوز للطالب الذي قد بلغ الحلم أن يفطر في رمضان من أجل الامتحان؛ لأن الإفطار إنما رخص فيه للمريض والمسافر فقط، وهذا صحيح مقيم؛ فيجب عليه الصيام؛ بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] ، فلم يرخص سبحانه بالإفطار للمقيم إلا في حالة المرض ومن في حكم المريض من الكبير الهرم والحامل والمرضع إذا أضر بهما أو بولديهما الصوم .(51/20)
كما أنه لا يجوز لأصحاب الأشغال الشاقة أن يفطروا في رمضان؛ إلا إذا خشوا على أنفسهم من التلف؛ فإنهم يجوز لهم أن يتناولوا ما يبقي عليهم حياتهم في هذه الحالة، ثم يواصلوا الإمساك، ويقضوا هذا اليوم، ولا يجوز لهم أن يفطروا ابتداء من أجل العمل .
أما الطالب الذي هو دون البلوغ؛ فلا بأس أن يفطر؛ لأنه لم يجب عليه الصيام بعد، ومن تم له خمس عشرة سنة؛ فقد بلغ سن التكليف، ووجب عليه الصيام .
222 ـ هل يجوز الصيام عن الميت إذا كان لا يصوم أيام حياته في رمضان لعذر شرعي، مع أنه أخرج كفارة قبل موته ؟
من أفطر لمرض أو سفر، ثم زال عذره؛ فإنه يجب عليه القضاء من أيام أُخر؛ إذا أمكنه القضاء، فإن مات ولم يقض بعد رمضان آخر من غير عذر؛ وجب أن يُخرَج عنه من تركته إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع من الطعام، أما إذا استمر معه العذر حتى مات، ولم يتمكن من القضاء؛ فلا شيء عليه .
وإذا كان الميت المسؤول عنه قد أصيب بمرض مزمن لا يستطيع معه الصيام أداء ولا قضاء، وقد أطعم عن كل يوم أفطره؛ فقد أدى ما عليه؛ فلا حاجة إلى أن يصام عنه .
223 ـ متى يُباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع ؟ وما هي مفسدات الصوم عمومًا ؟ وهل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب المانعة للعادة الشهرية حتى تتمكن من صيام رمضان بدون انقطاع ؟
يجوز الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما من أضرار الصيام؛ لأنه يمكن أن الصيام يضعف الغذاء الذي يتغذى به المولود في بطن أمه؛ فإذا كان الأمر كذلك؛ فلها أن تفطر وأن تقضي من أيام أخر وتطعم مع القضاء، وإن خافت على نفسها من الصيام؛ لأنها لا تستطيع الصيام وهي حامل أو لا تستطيع الصيام وهي مرضع؛ فهذه تفطر وتقضي من أيام أخر وليس عليها إطعام . هذا ما يتعلق بالحامل والمرضع .
ويجوز للمرأة تناول الحبوب التي تمنع عنها الحيض من أجل أن تصوم إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحتها .
أحكام الصوم في السفر(51/21)
224 ـ إذا سافر الصائم مسافة أربعة مئة كيلو متر؛ هل يحق له الإفطار ؟ وكم هي المدة المقررة للصائم أو المسافر أن يفطر فيها ؟
نعم؛ من سافر سفرًا مباحًا مسافة تبلغ أربعة مئة كيلو متر؛ فإنه يجوز له الإفطار؛ لأن هذا أكثر من المسافة المقدرة للإفطار؛ لأن المسافة هي ثمانون كيلو مترًا، فإذا سافر ثمانين كيلو مترًا فأكثر سفرًا مباحًا؛ فإن يجوز له الترخيص للإفطار وقصر الصلاة .
أما المدة التي يجوز للمسافر فيها أن يقصر الصلاة؛ فلا تحديد لها؛ فإنه يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة طيلة سفره؛ إلا إذا نوى إقامة تزيد على أربعة أيام فإنه يأخذ أحكام المقيمين .
أما إذا نوى إقامة دون ذلك، أو لم ينو إقامة محددة؛ فإنه لا يزال يجوز له الإفطار وقصر الصلاة إلى أن يرجع إلى بلده، والله أعلم .
225 ـ إذا نوى حاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه؛ فهل له أن يفطر في ذلك اليوم ؟
إذا نوى الإنسان الصيام وصام، ثم عرض له السفر أثناء النهار؛ فإن له أن يفطر إذا خرج من البلد مسافرًا السفر الذي يبلغ ثمانين كيلو مترًا فأكثر، وإن أكمل اليوم الذي صام أوله؛ فهو أحسن وأحوط؛ نظرًا لأن بعض العلماء يرى وجوب إكمال اليوم الذي سافر فيه وعدم الإفطار فيه .
226 ـ نعيش الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة، ويمكن للصائم أن يسافر لمسافات طويلة دون أن يحس بتعب؛ فما الأفضل للإنسان المسافر أن يصوم أو يفطر ؟
رخص السفر من قصر الصلاة والإفطار في رمضان رخص عامة في جميع حالات السفر ولو اختلفت وسائله، وتوفر الراحة أحيانًا بسبب ما استجد من وسائل السفر لا تغير هذا الحكم؛ لأن هذه الوسائل المريحة لا تدوم، ولأن الراحة لا تحصل لكل المسافرين؛ فقد يعرض لهذه الوسائل من الخلل والعطل أو تغير الاتجاه ما يتعب المسافرين أكثر مما لو كانوا على الوسائل القديمة .(51/22)
وعلى كل حال؛ فمسألة الترخص للمسافر تتبع الأرفق به، فإن كان الأرفق به الإفطار؛ أفطر، وإن كان الأرفق به الصيام؛ صام، كلا الأمرين جائز بالنسبة إليه، والأفضل في كل حال الأخذ بالرخصة؛ لأن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه .
أحكام صيام التطوع
227 ـ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على صيام الأيام البيض، وصيام من كل شهر ثلاث أيام؛ فكيف نجمع بينهما ؟ هل نصوم ستة أيام أم ثلاثة ؟ وجزاكم الله خيرًا .
نعم؛ قد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وحث على صيام أيام البيض (6)، وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، وسميت أيام البيض؛ لبياض لياليها بالقمر .
وقد اختلف العلماء في الجمع بين الحديثين الواردين في فضل صيام هذه الأيام : فقيل : المراد أن الأفضل أن يجعل هذه الثلاثة في أيام البيض، وإن صامها في غيرها من الشهر؛ فلا بأس . وقيل : إن المراد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم أيام البيض أيضًا، فيكون المجموع ستة أيام من الشهر . والأول أرجح، والله أعلم؛ لأن من صام أيام البيض؛ فقد صام ثلاثة أيام من كل شهر .
228 ـ وجدت في كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام البيض، وهي : الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، يصومها في السفر وفي الحضر، وفي مكان آخر وجدت أن أيام التشريق يحرم صومها؛ علمًا بأن آخرها هو الثالث عشر؛ فكيف نجمع بين هذين القولين ؟
النبي صلى الله عليه وسلم حث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر (7) ، سواء من أوله، أو من وسطه، أو من آخره؛ إلا أن الأفضل أن تكون هذه الثلاثة أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، هذا هو الأفضل، ولو صامها في غير هذه الأيام من أيام الشهر، فلا بأس بذلك، ويكون قد أدى المشروع، ويحصل على الأجر إن شاء الله .(51/23)
أما أيام التشريق؛ فقد ورد النهي عن صيامها؛ لأنها أيام العيد وأيام أكل وشرب وذكر لله عزَّ وجلَّ؛ فيحرم صيامها؛ إلا لمن لم يقدر على دم المتعة والقران من الحجاج؛ فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، ولو صادف ذلك أيام التشريق؛ لحديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى أن تصام أيام التشريق؛ إلا عن دم متعة أو قران ) ؛ فهذا شيء خاصّ يخص به عموم النهي عن صيامها (8).
لكن لا يصوم شيئًا منها ضمن أيام البيض .
229 ـ هل يجوز الصيام إذا وافق صيام أيام البيض أيام التشريق ؟
الذي يصادف أيام التشريق من أياد البيض هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأن أيام البيض تبدأ من اليوم الثالث عشر من الشهر وتنتهي باليوم الخامس عشر؛ فلا يجوز صوم اليوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأنه من أيام التشريق، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها من غير دم متعة أو قران (9).
والمستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يتعين أن تكون أيام البيض، وإنما جعلها في أيام البيض أفضل إذا لم يصادف نهيًا؛ كهذه الحالة .
230 ـ بالنسبة لأيام البيض؛ هل صحيح أن الرسول لم يترك صيامها سفرًا ولا حضرًا ؟ أما أنه أمر مستحب ؟
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم تطوعًا ويكثر الصيام، كان يصوم حتى يقال : إنه لا يفطر، وكان يفطر حتى يقال (10) : إنه لا يصوم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صيام التطوع حضرًا وسفرًا، أما كونه يلازم أيام البيض؛ فهذا لا أدري ولا يحضرني الآن شيء فيه .
231 ـ هل يشرع قيام النصف من شعبان وصيام الخامس عشر منه ؟
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقيام ليلة النصف من شعبان بخصوصها ولا بصيام اليوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه؛ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه .(51/24)
فاليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي : إن كان له عادة القيام في الليل؛ فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها؛ دون أن يكون لها ميزة؛ لأن تخصيص وقت لعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح؛ فإذا لم يكن هناك دليل صحيح؛ فإن ذلك يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة .
وكذلك لم يرد في صيام يوم الخامس عشر من شعبان، أو النصف من شعبان بخصوصه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي مشروعية صيام ذلك اليوم .
أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع؛ فكلها ضعيفة؛ كما نص على ذلك أهل العلم، ولكن مَن كان من عادته أن يصوم الأيام البيض؛ فإنه يصومها في شعبان كما يصومها في غيره، لا على أنه خاص بهذا اليوم؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويكثر الصيام في هذا الشهر (11)، لكنه لم يخص هذا اليوم، وإنما يدخل تبعًا .
232 ـ إنسان يصوم الثلاثة الأيام البيض من كل شهر؛ فهل لو صام في هذا الشهر الأيام البيض، ثم صام عليها ثلاثة أيام أخرى؛ هل تكفي عن صيام الست من شوال ؟
صيام الست من شوال سنة مستقلة عن صيام أيام البيض، ولا تداخل بينها، وإنما يستحب للمسلم أن يصوم الست من شوال على حدة، ويصوم أيام البيض على حدة؛ ليعظم له الأجر، أما إذا صام ستة أيام من شوال ونواها عن الست وعن البيض؛ فالذي يظهر لي أنها لا تكون إلا عن الست فقط، فيحصل له أجرها إن شاء الله، ويستحب له أن يصوم أيام البيض بنية مستقلة والله أعلم .
أحكام صيام النذر
233 ـ إذا نذرت صيام شهرين متتابعين، وبعد مضي خمسة وأربعين يومًا من الصيام؛ أفطرت لعذر شرعي، وبعد أن أردت أن أتم بقية الشهرين بعد انقضاء العذر؛ وقعت في خلاف بين الناس : فمنهم من قال : يجب عليك إعادة الصيام . ومنهم من قال : أتمم صومك . والآن وقد مضى وقت طويل بين الخمسة والأربعين يومًا وبقية الشهرين؛ ماذا علي أن أفعل ؟
إذا كان الإفطار بعذر شرعي؛ كالحيض والنفاس وغيرهما؛ فإنه لا يقطع التتابع .(51/25)
لكن؛ بما أنه قد مضى وقت طويل بعد انقطاع العذر حسبما ذكرت، ولم تصم خلاله؛ فإن التتابع قد انقطع، وعليك باستئناف صيام الشهرين المتتابعين من جديد؛ لأن التتابع مشروط في النذر كما ذكرت؛ فلا بد منه . والله أعلم .
الجامع لأحكام الصيام
234 ـ أرجو الإفادة عن فضائل العشر الأواخر من رمضان ؟
فضائل العشر الأواخر عظيمة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها أكثر من اجتهاده في أول الشهر :
فكان عليه الصلاة والسلام يجتهد في التهجد في هذه الليالي أكثر من تهجده في أول الشهر (12) .
وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأواخر من رمضان (13) بمعنى : أنه يمكث في المسجد لذكر الله وللعبادة، ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان طيلة العشر الأواخر؛ مما يدل على مزيتها وفضيلتها .
كذلك فإن أكثر ما يرجى مصادفة ليلة القدر في هذه العشر الأواخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها ترجى في العشر الأواخر خاصة (14)، فكان صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر طلبًا لليلة القدر .
235 ـ ما هي منزلة الصدقة في رمضان ؟
الصدقة في رمضان أفضل من الصدقة في غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شهر المواساة .
وكان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة (15) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من فطر فيه صائمًا؛ كان كفارة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له من الأجل مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجره شيئًا ) [ انظر : سنن الترمذي ( 3/149 ) ، و سنن ابن ماجه ( 1/555 ) ، و سنن الدارمي ( 2/14 ) . ولم أجد قوله . كان كفارة لذنوبه وعتق رقبته من النار . . ] .(51/26)
فهذا دليل على فضل الصدقة في شهر رمضان، لا سيما وأنه شهر الصيام، ويحصل للمحتاجين فيه جوع وعطش، مع قلة ما بأيديهم؛ فإذا جاد عليهم المحسنون في هذا الشهر؛ كان في ذلك إعانة لهم على طاعة الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر .
إضافة إلى أن الطاعات عمومًا تضاعف في الزمان الفاضل والمكان الفاضل، فتضاعف الأعمال لشرف الزمان؛ كما أن الأعمال تضاعف لشرف المكان؛ كما في مسجدي مكة والمدينة؛ فإن الصلاة في مسجد مكة عن مئة ألف صلاة فيما سواه، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عن ألف صلاة فيما سواه (16)، وذلك لشرف المكان، وكذلك شرف الزمان؛ تضاعف فيه الحسنات، وأعظم ذلك شهر رمضان الذي جعله الله موسمًا للخيرات وفعل الطاعات ورفعة الدرجات .
236 ـ يرجى بيان فضل ليلة القدر، وما ورد فيها من الآيات الكريمات ؟
نوَّه الله تعالى بشأنها، وسماها ليلة القدر : قيل : لأنها تقدَّر فيها الآجال والأرزاق وما يكون في السنة من التدابير الإلهية؛ كما قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ سورة الدخان : آية 4 ] ، فسماها الله ليلة القدر من أجل ذلك . وقيل : سميت ليلة القدر لأنها ذات قدر وقيمة ومنزلة عند الله سبحانه وتعالى .
وسماها ليلة مباركة؛ كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ سورة الدخان : آية 3 ] .
ونوه الله بشأنها بقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ سورة القدر : آية 2، 3 ] ؛ أي : العمل في هذه الليلة المباركة يعدل ثواب العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وألف شهر ثلاثة وثمانون عامًا وزيادة؛ فهذا مما يدل على فضل هذه الليلة العظيمة .(51/27)
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحراها ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/253 ) . ( بدون ذكر . . . وما تأخر ) ] .
وأخبر سبحانه وتعالى أنها تنزل فيها الملائكة والروح، وهذا يدل على عظم شأنها وأهميتها؛ لأن نزول الملائكة لا يكون إلا لأمر عظيم .
ثم وصفها بقوله : { سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [ سورة القدر : آية 5 ] ، فوصفها بأنها سلام، وهذا يدل على شرفها وخيرها وبركتها، وأن من حرم خيرها؛ فقد حرم الخير الكثير .
فهذه فضائل عظيمة لهذه الليلة المباركة .
ولكن الله بحكمته أخفاها في شهر رمضان؛ لأجل أن يجتهد المسلم في كل ليالي رمضان؛ طلبًا لهذه الليلة، فيكثر عمله، ويجمع بين كثرة العمل في سائر ليالي رمضان مع مصادفة ليلة القدر بفضائلها وكرائمها وثوابها، فيكون جمع بين الحسنيين، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى على عباده .
وبالجملة؛ فهي ليلة عظيمة مباركة، ونعمة من الله سبحانه وتعالى، تمر بالمسلم في شهر رمضان، فإذا وفق باستغلالها واستثمارها في الخير؛ حصل على أجور عظيمة وخيرات كثيرة هو بأمس الحاجة إليها .
237 ـ ما هي الأعمال الخيرية المرغوب فيها في شهر رمضان المبارك ؟
الأعمال الخيرية المرغوب فيها في رمضان كثيرة، أهمها : المحافظة على أداء ما فرضه الله في رمضان وغيره من الصلاة والصيام، ثم الإكثار بعد ذلك من النوافل؛ من تلاوة القرآن، وصلاة التراويح، والتهجد، والصدقة، والاعتكاف، والإكثار من الذكر والتسبيح والتهليل والتبكير، والجلوس في المساجد للعبادة فيها، وحفظ الصوم عما يبطله أو يخل به من الأقوال والأعمال المحرمة والمكروهة .
238 ـ ما هو الاعتكاف ؟ وما حكمه ؟ وهل يجوز الاعتكاف في بيتي ؟
الاعتكاف عبادة عظيمة، نص الله جلَّ وعلا عليه في كتابه الكريم، وفي آيات من كتابه :(51/28)
منها قوله تعالى لخليله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ سورة الحج : آية 26 ] .
ومنها قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } [ سورة البقرة : آية 187 ] .
وهو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشرة الأوسط من رمضان طلبًا لليلة القدر، ثم في آخر حياته صلى الله عليه وسلم صار يعتكف في العشر الأواخر من رمضان (17) ؛ لما تبين له أن ليلة القدر ترجى في العشر الأواخر، واعتكف معه نساؤه عليه الصلاة والسلام .
فالاعتكاف عبادة عظيمة، وهو المكث في مسجد من المساجد لأجل عبادة الله وحده لا شريك له؛ بالصلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله عز وجل، والتفرغ لذلك من أعمال الدنيا، والاشتغال بالله سبحانه وتعالى . هذا هو الاعتكاف، وهو مشروع كل وقت .
ولكنه لا يشرع إلا في مسجد تصلّى فيه صلاة الجماعة؛ لقوله تعالى : { وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } [ سورة البقرة : آية 187 ] ، أما أن يعتكف الإنسان في بيته، أو في مسجد مهجور؛ لانتقال أهله من حوله، ولا يصلي فيه؛ فهذا لا يجوز للمسلم؛ لأنه منقطع بذلك عن صلاة الجماعة؛ فلا يشرع الاعتكاف إلا في مسجد تصلى فيه صلاة الجماعة . وبالله التوفيق .
239 ـ يسأل عن استعمال السواك في رمضان ؟
لا شك أن السواك سنة نبوية مرغوب فيها، وفيها فضل عظيم، وهي ثابتة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله؛ فينبغي المحافظة على هذه السنة، واستعمال السواك، لا سيما عند الحاجة إليه، أو في المواطن التي يشرع فيها؛ كالسواك قبل الوضوء، والسواك عند الصلاة، وعند تلاوة القرآن، وعند تغير رائحة الفم، وعند القيام من النوم؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ هذه أمور يتأكد فيها السواك .(51/29)
وهو مسنون في كل وقت، والصائم يستحب له السواك كغيره، والصحيح أنه يستاك في كل اليوم، يستحب له أن يستاك في أول النهار وفي آخره، وما ورد أنه لا يستاك في آخر النهار؛ فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه ما قاله بعض أصحابه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/234 ) ، وانظر : زاد المعاد ( 2/61 ) ، وانظر : هامش رقم ( 1 ) من نفس الصفحة ] .
240 ـ هل يجوز للصائم أن يستعمل معجون الأسنان وهو صائم في نهار رمضان ؟
يجوز للصائم أن يستعمل معجون الأسنان مع التّحفُّظ من ذهاب شيء إلى حلقه من محلوله، ويستحب له أن ينظف فمه بالسواك وبغيره مما لا يصل إلى حلقه، كما أنه يتمضمض بالماء للوضوء ولا يبالغ .
241 ـ بعض الناس وللأسف الشديد تراهم في رمضان يواظبون على الصلوات الخمس وعلى التراويح والتهجد وقراءة القرآن الكريم . . . فإذا ما انتهى رمضان؛ تركوا ذلك أو أكثره ! فما الحكم فيهم ؟ وهل تقبل أعمالهم الصالحة تلك في رمضان ؟ وما هي نصيحتكم لمثل هؤلاء ؟
أما الاجتهاد في رمضان بالأعمال الصالحة؛ فهذا شيء طيب، ورمضان له خصوصية وموسم عظيم .
ولكن المسلم مطلوب منه أن يجتهد في أعمال الخير في كل عمره، وفي كل حياته، وفي كل الشهور؛ لأن عمره فرصة ثمينة، وهو قادم على دار تحتاج إلى عمل؛ فإن الجزاء في الدار الآخرة إنما يكون على العمل؛ فالمسلم مطلوب منه أن يستغل حياته في الدنيا بالأعمال الصالحة، وأن يخص أيام الفضل ومواسم الخير كشهر رمضان؛ يخصها بمزيد اجتهاد .
أما هؤلاء القوم المفرطون المضيعون للفرائض والصلوات؛ فإذا جاء رمضان؛ اجتهدوا وحافظوا على الصلوات، فإذا خرج رمضان؛ فإنهم يتركون الفرائض ويضيعون، هؤلاء لا يقبل منهم اجتهادهم في رمضان .
وقيل لبعض السلف : إن قومًا يجتهدون في رمضان؛ فإذا خرج؛ تركوا العمل ؟ فقال : بئس القوم، لا يعرفون الله إلا في رمضان ؟ !(51/30)
فهؤلاء لا يقبل منهم إذا تركوا الفرائض وتركوا الصلوات الخمس، أما إذا كانوا تركوا شيئًا من السنن ومن النوافل؛ فهؤلاء لا حرج عليهم، ويرجى لهم القبول فيما أسلفوا في رمضان . والله أعلم .
242 ـ ما حكم من صام رمضان المبارك دون أن يؤدي فرائض الصلاة نهائيًا دون عذر؛ علمًا بأننا نصحناه كثيرًا ولم يستمع لذلك ؟
الذي يضيع الصلاة لا يصح منه صيام ولا غيره؛ لأن ترك الصلاة كفر، والكافر لا يصح منه عمل، والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والصيام الركن الرابع؛ فالصلاة مقدمة على الصيام، وهي عمود الإسلام .
فالذي لا يصلي لا يصح منه صيام ولا غيره، وعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويحافظ على الصلوات الخمس، ثم يحافظ على بقية أمور دينه من صيام وغيره .
أما مادام أنه لا يصلي؛ فإنه ليس بمسلم، ولا يصح منه عمل، والصلاة هي عمود الإسلام، وهل يقوم بناء بلا عمود ؟ ! هذا مستحيل .
243 ـ ما حكم من نام نهار رمضان كله ولا يستيقظ إلا عند الإفطار ؟
من نام نهار رمضان كله؛ فصيامه صحيح إذا كان نوى الصيام قبل طلوع الفجر، ولكن يحرم عليه ترك أداء الصلوات في مواقيتها وترك صلاة الجماعة إن كان ممَّن تجب عليه صلاة الجماعة، فيكون قد ترك واجبين يأثم عليهما أشدّ الإثم؛ إلا إذا كان ذلك ليس من عادته، وإنما حصل منه نادرًا، مع نيته القيام للصلاة .
وبالمناسبة؛ فإنه من المؤسف جدًّا أن كثيرًا من الناس اعتادوا السهر في رمضان، فإذا أقبل الفجر؛ تسحروا وناموا جميع النهار أو معظمه، وتركوا الصلوات، مع أن الصلوات آكد من الصيام وألزم، بل لا يصح الصيام ممن لا يصلي، والأمر خطير جدًّا، والسهر الذي يسبب النوم عن أداء الصلاة سهر محرم، وإذا كان سهرًا على لهو ولعب أو فعل محرمات؛ فإن الأمر أخطر، والمعاصي يعظم إثمها ويشتدُّ خطرها في رمضان وفي الأزمنة والأمكنة الفاضلة أشدّ من غيرها .(51/31)
244 ـ نحن جنود في الموسيقى العسكرية، ونقوم بعزف الموسيقى في نهار وليل شهر رمضان؛ فما حكم هذا العمل، وهل صيامنا مقبول ؟
عزف الموسيقى لا يجوز لا في رمضان ولا في غيره، لكنه في رمضان أشدُّ إثمًا، وذلك لحرمة الشهر، أما الصيام؛ فإنه صحيح إن شاء الله .
والدليل على تحريم عزف الموسيقى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في وصف قوم في آخر الزمان يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وأن الله يخسف بهم الأرض (18) ، في أدلة كثيرة وردت في هذا الموضوع، من أراد الاطلاع عليها؛ فليراجع كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم رحمه الله (19) ، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - الجزء الحادي عشر (20) ، والله أعلم .
245 ـ هناك ظاهرة منتشرة بين بعض الناس، وهي أنه في صلاة التراويح ينتقلون إلى مساجد بعيدة عن بيوتهم، وذلك طلبًا للأئمة أصحاب الأصوات الحسنة؛ فما رأيكم بهذه الظاهرة ؟
ينبغي للإمام أن يحسن صوته بتلاوة القرآن، ويعتني بإجادة القراءة على الوجه المطلوب؛ محتسبًا الأجر عند الله، لا من أجل الرياء والسمعة، وأن يتلو القرآن بخشوع وحضور قلب؛ لينتفع بقراءته، وينتفع به من يسمعه .
والذي ينبغي لجماعة كل مسجد أن يعمروا مسجدهم بطاعة الله والصلاة فيه، ولا ينبغي التنقل بين المساجد وإضاعة الوقت في التذوق لأصوات الأئمة، لا سيما النساء؛ فإن في تجوالها وذهابها بعيدًا عن بيوتها مخاطرة شديدة؛ لأنه مطلوب من المرأة أن تصلي في بيوتها، وإن أرادت الخروج للمسجد؛ فإنها تخرج لأقرب مسجد؛ تقليلاً للخطر .
وهذه الظاهرة من تجمهر الناس في بعض المساجد هي ظاهرة غير مرغوب فيها؛ لأن فيها تعطيلاً للمساجد الأخرى، وهي مدعاة للرياء، وفيها تكلفات غير مشروعة ومبالغات .
246 ـ إذا احتلم الصائم في نهار رمضان؛ هل يبطل صومه أم لا ؟ وهل تجب عليه المبادرة بالغسل ؟(51/32)
إذا احتلم الصائم في نهار رمضان؛ فإن صيامه صحيح، لا يتأثر بالاحتلام؛ لأنه بغير اختياره، ويجب عليه الاغتسال من الجنابة من أجل الصلاة، والمبادرة بالاغتسال أحسن، وليست واجبة، والله أعلم .
247 ـ هل تستطيع المرأة تقبيل زوجها في نهار رمضان ؟ ولماذا ؟
تقبيل الرجل لزوجته وهو صائم يجوز إذا كانت لا تتحرك شهوته، أما إذا كانت تتحرك شهوته بذلك؛ فإن هذا التقبيل لا يجوز؛ سدًّا للذريعة، وما ورد من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل زوجاته وهو صائم [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/233 ) ] ؛ فلأنه صلى الله عليه وسلم كان مالكًا لإربه، ومن هنا رخص العلماء في التقبيل حالة الصيام للكبير دون الشاب؛ لأن الشاب مظنه ثوران الشهوة .
248 ـ ما حكم مخاطبة الشباب للفتيات عبر الهاتف أثناء الصوم ؟ وبالذات إذا كانوا مخطوبين لبعض ؟
مخاطبة الشباب للفتيات عبر الهاتف لا تجوز؛ لما في ذلك من الفتنة؛ إلا إذا كانت الفتاة مخطوبة لمن يكلمها، وكان الكلام مجرد مفاهمة ولمصلحة الخطبة، مع أن الأولى والأحوط أن يخاطب وليها بذلك، أما المخاطبة بين الشباب والفتيات في غير حالة الخطبة؛ فإنها لا تجوز؛ لما في ذلك من الفتنة الشديدة، وخشية الوقوع في المحذور، وإذا كان ذلك في حال الصيام؛ فإنه يؤثر على الصيام بالنقص؛ لأنه مطلوب من الصائم المحافظة على صيامه مما يخل به وينقصه، وكم سبب الاتصال بين الشباب والفتيات بواسطة التلفونات من مصائب خلقية وجرائم اجتماعية؛ فالواجب على أولياء الفتيات منعهن ومراقبتهن من هذا الخطر .(51/33)
249 ـ متزوجة تأتيني الدورة الشهرية مرتين في الشهر، وفي كل مرة تأخذ فترة أكثر من 15 يومًا، وفي شهر رمضان أتت قبل موعدها بأسبوع، ولم تنزل خارج الفرج، بل تكون في باطن الجسم وتستمر في الباطن أسبوعًا قبل أن تنزل إلى الخارج، مع العلم أنها لم تكن كذلك؛ إلا من مدة أربع أعوام، وكانت قبل هذه المدة تأتي في موعدها، ولا تستمر أكثر من خمسة أيام؛ ما أعمل في الصوم ؟ هل أصوم وأصلي في الفترة التي تكون في باطن الجسم أو لا أصوم ولا أصلي ؟
المرأة لا تترك الصوم والصلاة حتى يخرج منها دم الحيض، ولمدة لا تزيد عن خمسة عشر يومًا، فإن استمر معها خروج الدم أكثر من خمسة عشر يومًا؛ فإنه لا يعتبر الزيادة عن عادتها، بل تغتسل لتمامها، وتصوم، وتصلي، وأما إحساسها بوجود دم الحيض في جسمها؛ فهذا لا يترتب عليه شيء حتى يخرج، وقبل خروجه تصوم وتصلي وتعتبر طاهرًا .(51/34)
كتاب الحج
250 ـ ماذا ينبغي على من ينوي الحج والعمرة، وما يجب عليه ؟
لا شك أن الحج والعمرة من أفضل العبادات، والحج والعمرة ركن من أركان الإسلام مرة واحدة في العمر في حق المستطيع، وما زاد على ذلك؛ فهو تطوع من أفضل أنواع التطوع .
وينبغي لمن عزم على الحج والعمرة : أن يستقبل ذلك بتوبة صادقة مما سبق من ذنوبه وسيئاته ليؤدي هذا النسك وهو على أحسن حال، ون كان واجبًا على المسلم في الحقيقة أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى في كل أموره وفي كل حالاته، ولكنه يتأكد عليه ذلك في استقبال المواسم العظيمة؛ كموسم الحج، وشهر رمضان، وغير ذلك من مواسم العبادة .
وعلى من يريد الحج والعمرة أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في أداء حجه وعمرته؛ لقوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ سورة البقرة : آية 196 ] ؛ هذا أمر بإكمال مناسكهما على الوجه المشروع، خالصين لوجه الله، لا يكون فيهما رياء ولا سمعة ولا قصد من مقاصد الدنيا، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 1/2 ) ] .
ثم عليه أن يختار النفقة الطيبة لحجه وعمرته؛ لأن المسلم مطلوب منه أن يتجنب المحرمات من الأطعمة والأشربة والمكاسب الخبيثة :
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ سورة البقرة : آية 172 ] .(52/1)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ سورة المؤمنون : آية 51 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ سورة البقرة : آية 172 ] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء : يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ؟ ! ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/703 ) ] .
وهذا في كل سفر، لا سيما سفر الحج والعمرة؛ فهو أحرى بأن يكون خاليًا من النفقة من الكسب الحرام والمأكل الحرام، وهو إذ أدى حجه وعمرته بمكسب حرام لا يستجاب له دعاء، ولا يصح منه حج ولا عمرة .
ولهذا يقول الشاعر :
إذا حججت بمال أصله سُحتٌ ** فما حججت ولكن حجّت العير
ما يقبل الله إلا كل صالحة ** ما كل من حج بيت الله مبرور
فعلى المسلم أن يعرف ذلك، وعليه أن يؤمن للحقوق المطلوبة منه ما يكفيها :
إذا كان عليه ديون؛ فلابد أن يكون قد وفر لهذه الديون سدادًا؛ فلا يجوز أن يحج وعليه ديون ليس عنده وفاء لها؛ فقضاء الديون أوجب عليه من أداء الحج والعمرة، بل لا يجب عليه حج ولا عمرة في حالة كونه مدينًا بالديون التي ليس عنه مال لأدائها؛ فلابد أن يكون لديه مال لأداء هذه الديون، وتكون نفقة حجه وعمرته فاضلة عن هذه الديون .
وعليه أن يؤمن نفقة من تلزمه نفقتهم، وهذه النفقة أيضًا مقدمة على الحج؛ لأن نفقتهم أقدم، ولا يجب عليه حج ولا عمرة إذا كان لا يملك ما يكفل من تلزمه مؤونتهم حتى يرجع من حجه .
وعليه أن يختار الرفقة الصالحة المحافظة على الطاعة؛ حتى ينتفع بهم ويتأسى بهم، ويتجنب الرفقة السيئة الذين يؤثرون عليه في سفره .(52/2)
وعليه أن يتفقه في مناسك حجه وعمرته؛ حتى يؤديهما على الوجه المشروع، وذلك بأن يقرأ ما كتب من المناسك المفيدة قبل أن يباشر الحج والعمرة، حتى يكون على تصور تام من مناسكهما، حتى يؤديهما على الوجه المشروع .
وإذا كان لا يحسن القراءة فعليه أن يسأل أهل العلم عن كل ما خفي عليه؛ ليكون على بصيرة، والله الموفق .
251 ـ أنا لا أستطيع دفع نفقات أداء فريضة الحج، ولكنني أستطيع دفع نفقات العمرة، ولكن يجب أن يصاحبني محرم، وأنا أرملة توفي زوجي منذ عشرين سنة، ولا أجد من يذهب معي كمحرم لأداء العمرة؛ فماذا أفعل ؟
من المعلوم أنه يشترط لوجوب الحج على المرأة وجود المحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين؛ إلا مع محرم - أو : إلا ومعها ذو محرم - ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/35، 36 ) . وانظر كذلك ( 2/58 ) من الصحيح ] ؛ فلا يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا يبلغ هذه المسافة وهي مسيرة يومين؛ إلا ومعها محرم لا للحج ولا لغيره .
فإذا كان عند المرأة استطاعة مالية وبدنية للحج، ولكن ليس عندها محرم؛ فعليها أن تنتظر، لعل الله ييسر لها المحرم بعد ذلك، فإذا أيست من المحرم؛ فإنها توكل من يحج عنها، وتدفع له تكاليف الحج؛ لأنها أصبحت غير مستطيعة لمباشرة الحج بنفسها مع قدرتها عليه بمالها، هذا الذي يجب عليها .
أما قولها : إن عندها تكاليف العمرة دون تكاليف الحج ! هذا غير واضح؛ لأن تكاليف العمرة هي تكاليف الحج، مادام أنه سيسافر من البلد، ويذهب إلى مكة، ويرجع، وتعطيه تكاليف للعمرة؛ فهذه تكاليف الحج؛ لأن التكاليف واحدة، لا تختلف عن تكاليف العمرة اختلافًا كثيرًا، والله أعلم .
252 ـ هل يجوز لي أن أبعث خادمتي لتؤدي فريضة الحجة مع مجموعة من النساء عن طريق مؤسسات متخصصة في نقل الحجاج ؟(52/3)
لا يجوز للمرأة أن تسافر لحج ولا لغيره إلا مع ذي محرم؛ سواء كانت خادمة أو غير خادمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين؛ إلا مع ذي محرم ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/35، 36 ) . وانظر كذلك ( 2/58 ) من الصحيح ] ، ومجموعة النساء لا تكفي عن المحرم، وكذا المؤسسات الخاصة لا تكفي عن وجوب المحرم للمرأة في سفرها، ولا يخرجها ذلك عن النهي الوارد في الأحاديث .
253 ـ والدتي حجَّت مع غير محرم لها وعمرها يتجاوز الستين سنة؛ فهل حجها هذا صحيح أم أحج لها؛ علمًا بأنها قد توفيت يرحمها الله ؟
إذا حجت المرأة مع غير محرم؛ فهي عاصية تأثم بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (1) .
254 ـ حتى ولو كانت في هذا السن الذي ذكر ( ستين سنة ) ؟
ولو كانت؛ لأن الحديث عام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، هذا عام للكبيرة وللصغيرة وللحج ولغيره؛ فهي تعتبر في هذا مخطئة وعاصية، تأثم على ذلك، فأما الحج في حدِّ ذاته؛ فهو صحيح إذا أدته على وجهه المطلوب بأركانه وواجباته وما يشرع له .
255 ـ هل يجوز للمرأة أن تؤدي فريضة الحج مع زوج شقيقتها وأختها ؟
جواب هذا السؤال كجواب السؤال الذي قبله، وزوج أخت المرأة لا يكون محرمًا لها؛ لأنه أجنبي عنها .
256 ـ أنا أقيم الآن ن زوجتي في اليمن، وإلى هذا الوقت لا نملك السكن في بلدنا؛ علمًا بأنني أملك مبلغًا من المال، وإلى الآن لم نحج حج الفريضة؛ فهل يجب علينا الحج الآن فورًا مادمنا قادرين ماديًّا ولو كنا لا نملك بيتًا ؟ أم نشتري أولاً مسكنًا نسكن فيه ثم بعد ذلك إن كنا قادرين على الحج حججنا، وإلا أجلناه إلى القدرة ؟(52/4)
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أوجب الحج على المستطيع، قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ سورة آل عمران : آية 97 ] ، وذلك بأن يملك الزاد والراحلة، ويكون هذا الزاد وهذا المركوب فاضلاً عن كفايته من مسكنه ومصروفه ومصروف أولاده إلى أن يرجع .
فإن كان المبلغ الذي بأيديكم لا يغطي حاجاتكم الضرورية، ومنها المسكن؛ فالمسكن ضروري؛ فإنه لا يجب عليكم الحج حتى توفروا حوائجكم الضرورية، فإذا زاد بأيديكم شيء؛ فحجوا منه، لكن لو حججتم وأديتم الحج قبل ذلك؛ فلا حرج، إنما اللزوم لا يلزمكم، ولا يجب عليكم، حتى يتوفر لديكم المال الزائد عن كفايتكم سكنًا ونفقة لكم ولأولادكم ومن تجب عليكم نفقته .
257 ـ هل يجوز للفقير أن يأخذ دينًا من أجل أن يؤدي فريضة الحج ؟
الفقير ليس عليه حج إذا كان لا يستطيع نفقة الحج؛ لقوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ سورة آل عمران : آية 97 ] ، ولا يجوز له أن يستدين من أجل أن يحج؛ لأن هذا تكلف لم يأمر الله به، ولأنه يشغل ذمته بالدين من غير داع إلى ذلك؛ فعليه أن ينتظر حتى يغنيه الله من فضله، ويستطيع الحج، ثم يحج .
258 ـ لقد حضرت في الحجة الماضية، وحججت باسم والدي، وفي هذه السنة سوف أحج لنفسي، وهنا بعض الإخوة يقولون : لا يجوز أن تحج لوالدك قبل أن تحج لنفسك، أرجو أن تفيدوني في ذلك، وهل حجي لوالدي صحيح أم لا ؟(52/5)
إنه إذا كان حج عن والده قبل أن يحج عن نفسه حجة الإسلام؛ فهذا لا يجوز؛ لأن الإنسان عليه أن يحج عن نفسه أولاً قبل أن يحج عن غيره؛ كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لما سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة . قال : ومن شبرمة ؟ . قال : أخ لي . قال : هل حججت عن نفسك ؟ . قال : لا . قال : حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ) [ رواه أبو داود في سننه ( 2/167 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 2/969 ) ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( 4/336، 337 ) ] .
فعلى الإنسان أن يؤدي فرضه أولاً، وأن يحج عن نفسه أولاً، ثم يحج عن غيره، وإذا كان الأمر كذلك؛ أي : أنه لم يحج عن نفسه؛ فإن حجته عن والده وقعت عن نفسه، ويحج بعد ذلك عن والده، فيكون ما فعله لنفسه هو، ويكون ما يفعله مستقبلاً لوالده .
259 ـ إذا كان هناك شخص اشترى عقدًا للعمل بغير اسمه، واستخرج جواز سفر بهذا الاسم المستعار، ويريد الحج به؛ فهل يصح هذا الحج أم لا ؟ وما الحكم الشرعي في هذا العمل الذي هو احتيال على أنظمة الدولة ومخالفة لها ؟ وما حكم الكسب الذي يكسبه بهذا الأسلوب ؟
المفروض في المسلم الصدق في المعاملة، والتزام الأمانة، ولا يكون مخادعًا، لاسيما على الأنظمة التي فيها مصالح للناس وتنظيم أمور الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يحتال عليها، وأن يلبس على المسؤولين، وأن يخالف الأنظمة، وأن يكذب، وفي هذا عدة محاذير، والاكتساب الذي يحصل من هذا الطريق اكتساب غير شريف، والمسلم يصدق ويتعامل بالصدق ويتحرى الصدق دائمًا وأبدًا، والله سبحانه وتعالى يرزقه ويعينه : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ سورة الطلاق : آية2، 3 ] .
والحج لا يجوز بمثل هذه الطريقة؛ لأنه يعرف نفسه للمسؤولية، وقد يمنع من أداء المناسك بسبب مخالفته للأنظمة؛ فلا نرى أنه يحج بهذه الطريقة . والله أعلم .
مواقيت الحج(52/6)
260 ـ إذا كان الشخص قد سافر إلى السعودية من أجل العمل، وجمع المال من أجل المعيشة له ولأولاده، وليس في نيته قبل سفره من مصر أن يؤدي فريضة الحج، لكنه بعد سنة أدَّى فريضة الحج؛ هل حجه صحيح ؟
نعم؛ إذا قدم الإنسان إلى السعودية من أجل العمل، ولم يكن في نيته أن يحج، ثم بدا له بعد وصوله أو بعد إقامته في المملكة بمدة؛ بدا له أن يحج؛ فإنه يحرم من الميقات الذي يمر به، أو من المكان الذي نوى الحج منه، ولو كان دون الميقات، ويكون حجه صحيحًا إن شاء الله، ولو لم ينوه عند قدومه للمملكة، فإذا نوى الحج، فإن كان خارج الميقات؛ فإنه يحرم من الميقات الذي يمر به في طريقه إلى مكة، وإن كان نوى الحج وهو دون الميقات إلى مكة، أو في مكة؛ فإنه يحرم للحج من مكانه الذي نوى منه الحج، ويجزئه هذا عن حجة الإسلام، وإن أراد العمرة وهو في مكة؛ فلابد أن يخرج إلى الحل ويحرم بها منه ولا يحرم بها من مكة .
الإحرام وما يتعلق به
261 ـ ما هي الأشياء التي ينبغي فعلها قبل الإحرام ؟
هناك أشياء ينبغي أن يفعلها الإنسان قبل الإحرام تهيؤًا للإحرام؛ لأن الإحرام عبادة عظيمة يستقبل بالتهيؤ والاستعداد له، ومن هذه الأشياء :
1ـ أن من أراد الإحرام؛ فإنه ينبغي له أن يغتسل بجميع جسمه؛ ليزول ما علق به من الأوساخ والروائح الكريهة والغبار، وليكون نظيفًا في استقبال العبادة .
2ـ يزيل ما أمر بإزالته شرعًا؛ كقص الأظافر، وقص الشارب، وأخذ ما في الآباط، وكذلك أخذ ما في العانة من الأمور التي يتأذى بها ويشرع أخذها؛ لأن في ذلك تجملاً ونظافة، ولأنه لا يجوز له أخذها بعد الإحرام، فيأخذها قبل الإحرام حتى يستريح منها .(52/7)
3ـ يستحب له بعد ذلك أن يطيب بدنه ورأسه بأي نوع من أنواع الطيب، والرجل والمرأة في هذه الأمور سواء، الاغتسال وأخذ ما يشرع أخذه والتطيب يستوي في ذلك المرأة والرجل، لكن مع ملاحظة التستر عند الاغتسال، والابتعاد عن الأنظار، وليعلم أن هذا الاغتسال ليس واجبًا، فإذا تيسر مع توفر الستر والتحفظ وستر النساء عن الرجال؛ فإنه مطلوب، وإذا لم يتيسر؛ فإنه لا حرج في تركه، أو كان وقته لا يسمح له بالاغتسال وما ذكر معه؛ فإنها ليست بلازمة، بل يُحرِم ولو لم يعملها .
4ـ يخلع الرجل ما عليه من المخيطات والمنسوجات على بدنه أو أحد أعضائه؛ بأن يستر عورته أولاً، ثم يخلع ما عليه من المخيطات، ويتجرد منها، سواء كانت ثيابًا أو فنائل أو سراويل أو قفازات يدين أو غير ذلك من المخيطات أو المنسوجات على الجسم أو على قدر العضو، ثم يضع بدلها إزارًا على أسفل جسمه ورداء على أعلاه على كتفيه وظهره وصدره، ويخلع ما على رأسه من الأغطية الملاصقة؛ كالعمامة والطاقية والغترة وغير ذلك، ويجعل رأسه مكشوفًا ليس عليه أي غطاء ملاصق، ويبقى مكشوفًا طيلة إحرامه .
أما المرأة؛ فإنها تبقى على ثيابها، ليس بلازم أن تغير ثيابها إلى ثياب أخرى، فإذا كانت ثيابها نظيفة وليس فيها زينة، وليست ضيقة؛ فلا حرج أن تحرم بها، وإذا غيرتها بغيرها مما هو من عادة النساء لبسه؛ فلا حرج في ذلك؛ إلا أنه يحرم عليها شيئان :
1ـ يحرم عليها من اللباس البرقع والنقاب على الوجه، فترفع البرقع، وتجعل مكانه غطاء كالخمار أو الشيلة أو غيرهما مما ليس بمخيط على قدر الوجه كالبرقع .
2ـ ويحرم عليها لبس القفازين على اليدين، وهما الشراريب التي تلبس على الكفين .
262 ـ ما رأيكم في استخدام الغترة أو الطاقية أو الشمسية في الحج خوفًا من حرارة الشمس ؟(52/8)
يجب على المسلم المحرم الذكر كشف رأسه حال الإحرام؛ فلا يغطيه بملاصق، ويجوز له أن يستظل من الشمس بالخيمة والشجرة والشمسية وسقف السيارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له خيمة وهو محرم وظل عليه بالثوب وهو محرم (2) ، وإنما الممنوع تغطية الرأس بالملاصقة من طاقية أو غترة أو عمامة أو أي غطاء ملاصق؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته ومات وهو محرم : ( ولا تخمروا رأسه ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/76 ) ] ؛ أي : لا تغطوه .
263 ـ هل يجوز عقد الزواج في أشهر الحج بالنسبة للحاج وغيره أم لا ؟
يجوز عقد الزواج في كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، ما عدا حالة الإحرام؛ فالمحرم لا يجوز له أن يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/1030، 1031 ) ] . والله أعلم .
264 ـ هناك من يقول إن كشف الوجه ليس حرامًا، وبذلك لا يجب تغطيته عند ذلك في سائر الأوقات، وفي الحج بصفة خاصة، فأرجو إفادتي جزاكم الله خيرًا .
الصحيح الذي تدل عليه الأدلة أن وجه المرأة من العورة التي يجب سترها، بل هو أشدُّ المواضع الفاتنة في جسمها؛ لأن الأبصار أكثر ما توجه إلى الوجه؛ لأنه مركز الجمال، ومحل مدح الشعراء أكثره في محاسن الوجه؛ فالوجه أعظم عورة في المرأة، مع ورود الأدلة الشرعية على وجوب ستر الوجه :
من ذلك قوله تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [ سورة النور : آية 31 ] ؛ فضرب الخمار على الجيوب يلزم منه تغطية الوجه .(52/9)
ولما سُئِلَ ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ } [ سورة الأحزاب : آية 59 ] ؛ غطى وجهه، وأبدى عينًا واحدة؛ فهذا يدلّ على أن المراد بالآية تغطية الوجه، وهذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لهذه الآية؛ كما رواه عنه عبيدة السلماني لما سأله عن ذلك (3).
ومن السنة أحاديث كثيرة منها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة أن تتنقب (4) رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] " رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] " رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] " رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] " رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] "، وأن تلبس البرقع ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/146 ) ] ، فدل على أنها قبل الإحرام كانت تغطي وجهها .
وليس معنى هذا أنها إذا أزالت البرقع والنقاب حال الإحرام أنها تُبقِي وجهها مكشوفًا، بل تستره بغير النقاب وبغير البرقع؛ بدليل حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمات، فكنا إذا مرَّ بنا الرجال؛ سدلت إحدانا خمارها من على رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا؛ كشفناه ) [ رواه أبي داود في سننه ( 2/173 ) ، ورواه أيضًا ابن ماجه في سننه ( 2/979 ) ] ، فالمحرمة وغير المحرمة يجب عليها ستر وجهها عن الرجال الأجانب؛ لأن الوجه هو مركز الجمال، وهو محل النظر من الرجال؛ فلا حجة صحيحة مع من يرى أن الوجه ليس بعورة، وإنما الحجة الصحيحة مع من يرى أنه عورة . والله تعالى أعلم .
265 ـ هل يجوز للمرأة أن تحج وهي كاشفة وجهها ؟(52/10)
لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند الرجال الذين ليسوا من محارمها؛ لا في الحج، ولا في غيره؛ لأن الله أمر المرأة بالحجاب أمرًا عامًّا في جميع الأحوال، وفي الحج خاصة؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة المحرمة أن تنتقب [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/215 ) ] ؛ أي : أن تغطي وجهها بالنقاب؛ مما يدل على أنه معروف تغطية النساء وجوههن، ونهين عن هذا النوع من الأغطية خاصة؛ كما نهي الرجال عن لبس المخيط في حالة الإحرام، ولم تنه عن تغطية وجهها بغير النقاب؛ فقد جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أنها هي والنساء كنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا مر بهن الرجال؛ سدلت إحداهن خمارها من على رأسها على وجهها، فإذا جاوزهن الرجال؛ كشفت وجوههن [ رواه أبو داود في سننه ( 2/173 ) ، ورواه أيضًا ابن ماجه في سننه ( 2/979 ) ] ؛ فهذا دليل صريح في وجوب تغطية المرأة وجهها في الحج وغيره، مع أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ليس هذا موضع بسطها، بل إن المرأة في الحج أحرى أن تلتزم الحجاب وغيره من الواجبات؛ لأنها في عبادة عظيمة وفي موطن عظيم .
266 ـ هل من الضروري أن تلبس المرأة ثيابًا ذات ألوان محددة عند أداء مناسك الحج ؟
ليس للمرأة ثياب مخصصة تلبسها في الحج، وإنما تلبس ما جرت عادتها بلبسه مما يستر بدنها وليس فيه زينة ولا تشبه بالرجال، وإنما نهيت المرأة المحرمة عن لبس البرقع والنقاب مما خيط أو نسج للوجه خاصة، وعن لبس القفازين مما خيط أو نسج للكفين خاصة، ويجب أن تغطي وجهها بغير البرقع والنقاب، وتغطي كفيها بغير القفازين؛ لأنهما عورة يجب سترها، وهي لم تنه عن تغطيتهما مطلقًا حال الإحرام، وإنما نهيت عن تغطيتهما بالبرقع والنقاب والقفازين فقط .
267 ـ ما حكم صلاة المرأة وحجها وهي لابسة القفازين ؟(52/11)
صلاة المرأة وهي لابسة للقفازين لا بأس بها؛ لأنه مطلوب منها ستر كفيها في الصلاة على الصحيح الراجح؛ سواء سترتها بالقفازين أو بغيرهما .
أما في حال الإحرام؛ فلا يجوز لها لبس القفازين؛ لأنها منهية عن ذلك، وذلك من محظورات الإحرام، ويجب عليها أن تغطي كفيها عن الرجال غير المحارم بغير القفازين من ثوبها أو عباءتها، وفي غير حالة الإحرام يجوز للمرأة الحاجة لبس القفازين؛ لأنها إنما منعت من لبسهما في حال الإحرام فقط .
أعمال يوم التروية ويوم عرفة والمزدلفة
268 ـ ماذا يفعل الحاج يوم التروية ؟
إذا كان الحاج متمتعًا؛ فإنه في يوم التروية يحرم بالحج؛ لأنه يتحلل من الإحرام بالعمرة بعد فراغه من مناسكها عند قدومه، فإذا جاء يوم الثامن؛ يحرم بالحج، والمستحب أن يحرم به صباحًا قبل الزوال، ويخرج إلى منى، ويفعل عند إحرامه بالحج كما يفعل عند إحرامه بالعمرة؛ من الاغتسال والتنظيف والتطيب والتجرد للرجال من المخيطات، والاقتصار على إزار ورداء، ويلبس من النعال في الرجلين ما شاء من أنواع النعال، ويجوز لبس الخفين القصيرين أسفل الكعبين، والأفضل أن يحرم في نعلين، هذا ما يفعله المتمتع يوم التروية، أما القارن والمفرد؛ فهما باقيان على إحرامهما من الميقات .
269 ـ ماذا يفعل في الوقوف بعرفة ؟
الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، بل هو الركن الأعظم، فمن فاته الوقوف بعرفة؛ فاته الحج هذا العام الذي فاته فيه .
والوقوف بعرفة له وقت زماني، ووقت مكاني .
فالوقت الزماني : يبدأ على الصحيح من زوال الشمس يوم التاسع إلى طلوع فجر اليوم العاشر .(52/12)
أما الميقات المكاني : فهو أن يكون داخل حدود عرفة، ويجب على الحاج أن يقف داخل حدود عرفة، ولا يتعداها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين وقف عند الجبل وعند الصخرات الكبار قال : ( وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/893 ) ] ، وارفعوا عن بطن عرنة ) [ رواه الإمام مالك في الموطأ ( 1/388 ) ] ، وقد وُضعت عليه علامات تحدده، هذا هو الميقات المكاني، فإن وقف خارج عرفة، ولم يدخل فيها في الوقت ما بين زوال يوم التاسع إلى طلوع فجر اليوم العاشر، ولو لحظة؛ فإنه لا يصح حجه، ويكون قد فاته الحج هذا العام الذي فاته فيه .
ومعنى الوقوف بعرفة : أن يكون موجودًا فيها في وقت الوقوف وهو محرم بالحج؛ فإذا فعل ذلك؛ فإنه قد أتى بالواجب؛ إلا إذا وقف نهارًا؛ فإن عليه أن يستمر واقفًا إلى الغروب، ولا يجوز له الانصراف حتى تغرب الشمس، وإن جاء إلى عرفة بعد غروب الشمس؛ فإنه يكفيه أدنى وقوف فيها، ولو مجرد المرور، ويتحقق الوقوف سواء كان واقفًا، أو جالسًا، أو على سيارته، أو على دابته، أو على أي شكل كان .
وعليه في عرفة أن يكثر من الدعاء والابتهال إلى الله، وذلك أنه إذا زالت الشمس في عرفة في اليوم التاسع؛ فإنه يصلي الظهر والعصر جماعة بأذان واحد وإقامتين، مع قصر كل منها إلى ركعتين، ثم يستمر في الدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس، ولا داعي لذهابه للجبل أو صعوده عليه أو مشاهدته أو استقباله حال الدعاء، وإنما يستقبل الكعبة المشرفة .
270 ـ نرجو الإفادة عن المبيت في المزدلفة ؟(52/13)
إذا أفاض الحاج من عرفة إلى المزدلفة بعد غروب الشمس؛ فإنه يبقى في المزدلفة يصلي المغرب والعشاء جمعًا، المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين، ثم يحط رحله وينزل فيها ويبيت فيها إلى طلوع الفجر، فيصلي في أول وقته، ثم يتفرغ للدعاء، وقبل طلوع الشمس يفيض إلى منى، ولا يجوز له الانصراف من مزدلفة قبل منتصف الليل، والأكمل والأحوط أن يبقى إلى ما بعد طلوع الفجر، وبعد أداء صلاته ينصرف قبل طلوع الشمس .
أما أصحاب الأعذار والمرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون الاستمرار إلى الفجر؛ فيجوز لهم الانصراف من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم (5)] .
وكذلك يرخص لمن يحتاجون إليه من الأقوياء لخدمتهم أو دلالتهم على الطريق؛ لأن حكمهم يكون حكم المعذورين (6).
وصاحب السيارة الذي ينصرف بهم يكون حكمه حكمهم؛ لحاجتهم إليه .
271 ـ إذا حجت المرأة، وعند قدومها إلى مزدلفة؛ جاءها العذر الشرعي؛ فما الحكم في ذلك ؟
إذا أصاب المرأة الحيض وهي محرمة؛ فإنها تفعل ما يفعل الحاج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ورمي الحجار والتقصير من رأسها؛ إلا أنها تؤخر الطواف بالبيت للإفاضة، حتى تطهر من حيضها وتغتسل، ثم تطوف للإفاضة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حاضت وهي محرمة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها صلى الله عليه وسلم : ( افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/171 ) ] .
أحكام الحج التي تفعل في أيام التشريق، وطواف الوداع
272 ـ ما أفعال الحج التي تفعل يوم العيد ؟
أعمال الحج يوم العيد أربعة أشياء :
1ـ رمي جمرة العقبة، ووقته في حق المعذور من منتصف الليل، وفي حق القوي غير المعذور الأولى أن يبدأ من بعد طلوع الشمس، ويستمر إلى غروب الشمس . هذا وقت رمي الجمرة الكبرى، جمرة العقبة، يوم العيد .
2ـ ذبح هديه إذا كان قارنًا أو متمتعًا .(52/14)
3ـ حلق رأسه أو تقصيره .
4ـ طواف الإفاضة والسعي بعده إذا كان عليه سعي؛ بأن كان متمتعًا أو كان قارنًا أو مفردًا ولم يكن سعى بعد طواف القدوم .
هذه أفعال الحج التي تفعل يوم العيد .
ولو قدم بعضها على بعض، أو أخر طواف الإفاضة عن يوم العيد؛ فلا بأس بذلك، كذلك لو حق قبل أن يرمي، أو طاف طواف الإفاضة قبل أن يرمي؛ فلا حرج بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم؛ إلا قال : ( افعل ولا حرج ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/190 ) ] ، لكن ترتيبها على الشكل الذي ذكرنا أفضل .
273 ـ أرجو أن تحدثونا عن أيام التشريق، وما يفعل فيها ؟
أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم العيد لمن تأخر ويومان بعده لمن تعجل، وهي : اليوم الحادي عشر والثاني عشر هذا في حق من تعجل، والثالث عشر في حق من تأخر، هذه أيام التشريق .
والذي يفعل فيها هو البقاء في منى، والمبيت فيها ليالي أيام التشريق، وهو واجب من واجبات الحج، وكذلك رمي الجمار بعد الزوال يومي الحادي عشر والثاني عشر لمن تعجل، واليوم الثالث عشر لمن تأخر، ورمي الجمار الثلاث يكون برمي الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى على الترتيب، كل جمرة بسبع حصيات متعاقبات، واحدة تلو الأخرى، ويكبر مع كل حصاة .
كذلك يذبح فيها الهدي لمن كان عليه هدي، أو أراد أن يتطوع بذبح هدي، فيذبح في أيام التشريق الثلاثة . هذا ما يفعل أيام التشريق .(52/15)
274 ـ أديت فريضة الحج لعام مضى، ورميت جمرة العقبة على خير ما يرام، ولكن في اليوم الثاني كان الزحام شديدًا، وكنت أشعر ببعض المرض، ومن شدة الزحام لم أتبين بالتحديد أيهما رميت أولاً هل الصغرى أم الكبرى أم جمرة العقبة، الله أعلم ؟ ورميت مرتين، ودفعني الزحام إلى الخارج، فوجدت نفسي خارج منطقة رمي الجمرات، ولم أستطع العودة مرة أخرى، أو تحديد أي جمرة، لم أرمها، وعدت إلى مكة، ومعي الجمرات عني وعن أولادي، أتذكر أني قد رميت جمرتين ولم أستطيع تحديد أيهما لم أرمه؛ فماذا عليَّ، وإن كان عليَّ فدية؛ فما مقدارها عني وعن زوجتي وثلاثة أطفال دون الرابعة عشر ؟
رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق واجب من واجبات الحج، ووقت الرمي يبدأ بدخول وقت الظهر، ويجب ترتيب الجمرات؛ بأن يبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، كل جمرة يرميها بسبع حصيات متعاقبات، تقع كل حصاة في الحوض؛ فإذا أخل بهذا الترتيب، أو لم يقع الحصى في الحوض، أو ترك رمي بعض الجمرات؛ فإنه يجب عليه فدية؛ بأن يذبح شاة في مكة ويوزعها على فقراء الحرم ولا يأكل منها شيئًا، وكذلك بالنسبة لزوجته وأطفاله الذي أخلُّوا برمي الجمرات على نحو ما ذكره السائل، يجب على كل واحد منهم فدية كما ذكرنا، ومن لم يقدر ماديًّا على ذبح الفدية؛ صام عشرة أيام . والله أعلم .
275 ـ إذا أدى الحاج العمرة، وخرج بعد ذلك لقضاء حوائج له خارج الحرم؛ هل يلزمه طواف الوداع ؟ وهل عليه شيء من ذلك ؟
طواف الوداع يجب على الحاج؛ فإذا فرغ من أعمال الحج كلها وأراد السفر من مكة، وهو يسقط عن المرأة الحائض والنفساء، أما العمرة؛ فليس لها طواف وداع على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به الحجاج (7) ، ولم يأمر به المعتمرين، فدل على أنه خاص بالحج .
276 ـ من اعتمر وأخر الحلق أو التقصير حتى عاد إلى بلدته التي تبعد عن مكة ( 90 ) كيلو مترًا؛ هل عليه من حرج ؟(52/16)
المعتمر ينبغي له أن يبادر بالحلق، أو التقصير فور ما يفرغ من السعي؛ لأن الحلق أو التقصير نسك من مناسك العمرة، لا تتم إلا به على الصحيح، ولكن إذا نسي أو جهل، فتركه وتحلل من إحرامه، ثم ذكر أو علم بعد ذلك؛ فإن الواجب عليه أن يعيد ملابس الإحرام، ثم يحلق أو يقصر، في أي مكان، ولو في بلده؛ لأن الحلق أو التقصير يجزئ في أي مكان، ولا يختصان بالحرم، وإن كان قد جامع؛ فإنه يجب عليه ذبح شاة في مكة، ويوزعها على مساكين الحرم، وإن كان لا يستطيع ذبح الشاة؛ صام عشرة أيام في أي مكان .
الجامع لأحكام الحج والعمرة
277 ـ إنني ذهبت إلى الحج متمتعًا، فأحرمت، وعندما وصلت إلى مكة؛ طفت بالبيت الحرام، ثم سعيت بين الصفا والمروة، ثم تحللت من ملابس الإحرام إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، ثم ذهبت إلى منى وعرفة والمزدلفة، ورميت الجمرات، ثم قمت بجميع هذه المناسك على الوجه الأكمل، وعندما رجعت إلى مكة؛ طفت بالبيت الحرام طواف الإفاضة، ولكنني لم أسع بين الصفا والمروة؛ جهلاً مني، وكنت أظن أن طواف الإفاضة هو آخر ركن في الحج، وليس بعده سعي، ولذلك لم أسع، وطفت طواف الوداع، ورجعت إلى القاهرة، ولم أعرف بهذا؛ إلا بعد أن تذكرت بمصر؛ فما الحكم في حجي ؟
حجك صحيح، لكنه لم يكمل إلى الآن؛ لأنك تركت السعي، والسعي ركن من أركان الحج؛ لأنك فيما وصفت من أفعالك متمتع، والمتمتع عليه طوافان وسعيان : طواف وسعي للعمرة، وهذا قد أديته، وطواف وسعي للحج، وقد أديت الطواف وبقي عليك السعي، وعليك أن تقدم لمكة، وأن تسعى للحج سبعة أشواط بين الصفا والمروة بنية سعي الحج .
وإذا كنت قد جامعت زوجتك في هذه الفترة؛ فيجب عليك ذبح شاة في مكة، تذبحها وتوزعها على فقراء الحرم، ولا تأكل منها شيئًا .(52/17)
وكذلك عليك شاة أخرى عن الوداع؛ لأن وداعك الأول ليس في محله؛ لأنك طفت للوداع قبل كمال أركان الحج، وبإمكانك أن تقدم إلى مكة وتحرم بعمرة وتأتي بأعمالها، وإذا فرغت منها تسعى للحج؛ وإن دخلت إلى مكة ولم تحرم للعمرة، وسعيت للحج مباشرة؛ فلا حرج في ذلك، ولكن الصفة الأولى أحسن .
278 ـ هل يلزم الفرد أن يحج كل عام مع وجود الزحمة الشديدة والخطر ؟
الحج يجب على المسلم مرة واحدة في العمر إذا كان مستطيعًا، وما زاد على المرة الواحدة؛ فهو تطوع، وإذا لزم على هذا التطوع حصول حرج عليه أو على غيره؛ فالأفضل تركه، فحج التطوع مع الزحام الشديد والخطر على الإنسان الأفضل تركه، وهناك من أبواب الطاعات الشيء الكثير ولله الحمد، فبإمكان المسلم أن يتطوع بالصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك مما شرعه الله، وفي ذلك ما يعوض عن حج التطوع الذي فيه مشقّة شديدة وخطر، خصوصًا النساء والضعفة .
279 ـ حالتي المادية ولله الحمد ميسورة، ولذلك فقد جهزت في العام الماضي ثلاثة رجال ليحجوا عني وعن والدي ووالدتي، علمًا بأنني سبق وأن حججت، ولكن أعتزم الاستمرار في هذا العمل مادمت حيًّا، وهو تجهيز ثلاثة رجال للحج عني وعن والدتي؛ فهل في ذلك مانع ديني ؟
جزاك الله خيرًا، هذا من الحرص على الخير، ومادمت قد أديت فرضك، وتريد النفع لك ولوالديك؛ فلو صرفت هذه المبالغ للمحتاجين من الفقراء؛ لكان أحسن .
280 ـ بفضل الله وتوفيقه أديت عمرة أحرمت لها من يلملم وأنا قادم من جنوب المملكة، وبعد قضاء أسبوع في مكة المكرمة، شددت الرحال لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعند رجوعي أحرمت من آبار علي في طريقي إلى مكة، وأديت عمرة أخرى؛ فهل تصح هذه العمرة الثانية؛ علمًا بأن المدة بين العمرتين لا تزيد على عشرة أيام ؟ أفيدوني أفادكم الله وسدد خطاكم .(52/18)
لا بأس بما فعلت من تكرار العمرة، ولو كان في وقت متقارب؛ لأنك لما جئت من المدينة قادمًا إلى مكة ومررت بالميقات؛ فإنه قد سنحت لك فرصة لأداء العمرة، وخروجًا من الخلاف بين أهل العلم؛ لأن منهم من يوجب على من مرّ بالميقات وهو يريد مكة أن لا يتجاوزه إلا بإحرام؛ فأنت أخذت بالجانب الأحوط، وأيضًا استفدت من هذه الفرصة الثمينة، فأحرمت بعمرة، وهذا زيادة خير تؤجر عليه إن شاء الله، وتكرار العمرة في مثل هذه الحالة لا حرج فيه؛ لأنه جاء لمبرر .
281 ـ هل هناك موعد محدد للعمرة؛ بمنى : هل يمكن تأديتها أكثر من مرة واحدة في العام، وهل تجوز كلما نويت الذهاب للحرم الشريف ؟
العمرة ليس لها وقت محدد من السنة، هي تفعل على مدار السنة، في أي شهر وفي أي يوم، وليس لها وقت محدد، إنما الوقت المحدد للحج، أما العمرة؛ فإنها تفعل في سائر السنة .
ولو كان يذهب إلى مكة، ويتكرر منه هذا دائمًا؛ فإنه لا ينبغي أن يكرر العمرة في وقت متقارب .
وأما من يأتيها في فترة بعد أخرى؛ فهذا ينبغي أن ينتهز الفرصة، وأن يؤدي العمرة في حال دخوله إلى مكة؛ لأن هذه فرصة وعمل صالح .
أما من كان يتردد مع الطريق كالمكاري الذي يحمل من مكة يذهب منها ويرجع إليها، وعمله كله في طريق مكة؛ فهذا لا يشرع له في حقه تكرار العمرة في وقت متقارب، ربما أنه يدخل ويخرج في اليوم واليومين المتقاربين، إنما هذا فيمن ينتاب مكة في فترات متباعدة وفترات متقطعة؛ فهذا ينبغي أن ينتهز الفرصة، وأن يأخذ العمرة في دخوله، وأن يحرم من الميقات الذي يمر به؛ لأنها فرصة له ينبغي أن ينتهزها .
282 ـ هل يجوز للمرأة أن تزاحم الرجال أثناء الطواف حول الكعبة ؟(52/19)
يحرم على المرأة مزاحمة الرجال مطلقًا في أي مكان، ولا سيما في الطواف؛ لما في ذلك من الفتنة، والمزاحمة في الطواف أشدُّ تحريمًا، فيجب عليها تجنب المزاحمة في الطواف؛ بأن تتحين الفرص التي ليس فيها زحمة، أو تكون في جانب المطاف، ولو بعدت عن الكعبة؛ لأن ذلك أحفظ لها، وأبعد لها عن الخطر والفتنة .
283 ـ يعتمد بعض من الناس المزاحمة عند أداء بعض مشاعر الحج؛ فهل يجوز حجه ؟
لا يجوز للمسلم – خصوصًا القوي – أن يزاحم الناس في الحج عند أداء بعض المناسك؛ لأن المزاحمة فيها خطر عليه وعلى غيره، وفيها أذى للمسلمين، وفيها فتنة تحصل بين الرجال والنساء، وفيها عدم التمكن من أداء النسك على الوجه المشروع؛ فعلى المسلم أن يتحين الفرص التي ليس فيه زحام أو يقل فيها الزحام لأداء نسكه، وهذا ممكن ومتيسر بإذن الله، ولكن بعض الناس لا يصبر، وقد جعل الله أوقات أداء النسك موسعة؛ ليتيح للمسلمين أداءها بيسر وسهولة، ولكن هذا يحتاج إلى فقه وصبر .
وأداء الحج مع المزاحمة صحيح إن شاء الله، ولكنه يأثم إذا تعمد المزاحمة أو فعلها وهو له مندوحة عنها، ولا سيما إذا ترتب عليه فتنة أو إضرار بأحد .
284 ـ ما حكم من عاشر زوجته وقت الحج ؟
المحرم لا يجوز له الاستمتاع بزوجته بمباشرة أو جماع أو بكلام يتضمن ذكر الجماع؛ لقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الْحَجِّ } [ سورة البقرة : آية 197 ] ، والرفث هو الجماع ودواعيه؛ من الكلام، والمباشرة، والنظر، وغير ذلك، ومعنى : { فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } [ سورة البقرة : آية 197 ] ؛ أي : أحرم بالحج .(52/20)
أما إذا تحلل من إحرامه بأداء المناسك؛ بأن رمى الجمرة الكبرى – وهي جمرة العقبة – يوم العيد، وحلق أو قصر من رأسه، وطاف للإفاضة، وسعى بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة إذا كان عليه سعي، إذا فعل هذه الثلاثة؛ حل له الاستمتاع بزوجته وطأ ومباشرة مما أباح الله له .
285 ـ ما حكم قصر الصلاة للحاج خلال إقامته أكثر من أربعة أيام في مكة ؟
إذا نوى المسافر سواء كان حاجًا أو غيره إقامة تزيد على أربعة أيام؛ وجب عليه إتمام الصلاة، ووجب عليه الصيام في رمضان؛ لأن أحكام السفر قد انقطعت بنية الإقامة التي تزيد على أربعة أيام، حيث أصبح مقيمًا، والأصل في المقيم أن يتم الصلاة ويصوم رمضان، هذا هو قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح الذي تبرأ به الذمة .
286 ـ يلاحظ أن الناس يتزاحمون على تقبيل الحجر الأسود؛ فهل هو ضروري لإتمام العمرة أو الحج ؟
لا يجوز التزاحم من أجل تقبيل الحجر؛ لأن تقبيله سنة من حق من تمكن من ذلك بدون ضرر، والمزاحمة قد يترتب عليها فعل محرم؛ من إضرار بالناس الضعفاء، وافتتان بالنساء بالملاصقة؛ فكيف يرتكب محرمًا أو محرمات من أجل فعل سنة ؟ !
والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أن نشير إلى الحجر إذا حاذيناه ولم نتمكن من الوصول إليه إلا بمزاحمة أو إحراج (8)، وهذا من يسر هذه الشريعة السمحة، والحمد لله، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ سورة الحج : آية 78 ] .
287 ـ يلجأ بعض الناس إلى التحدث في أمور الدنيا والتعرض للآخرين وقت الحج، مما يجعلهم ينصرفون عن أداء العبادات بالشكل المطلوب؛ فما الحكم الشرعي في ذلك ؟(52/21)
المطلوب من المسلم حال الإحرام أن يشتغل بالتلبية وذكر الله ودعائه، ولا بأس بالتحدث المباح والتحدث للحاجة، أما التحدث الذي لا حاجة إليه؛ فلا ينبغي الإكثار منه؛ لأنه يشغل عن ذكر الله، وأما الكلام المحرم من الشتم والسباب والغزل والتشبيب بالنساء؛ فهو محرم، ويجرح الإحرام، وينقص الثواب، ويأثم به صاحبه، وكذلك الجدال والمخاصمة لا يجوزان؛ لقوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ في الْحَجِّ } [ سورة البقرة : آية 197 ] ؛ إلا الجدال الذي فيه الرد على مبطل، أو بيان حق؛ فإنه مطلوب، قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الآية [ سورة النحل : آية 125 ] .
288 ـ هل يؤثر الكلام أثناء الطواف بالبيت بغير الأدعية المشروعة؛ كأن يكون في أمور الدنيا ؟
الكلام في حال الطواف جائز، لكن الأولى للمسلم الذي يطوف ببيت الله أن لا يشتغل بالكلام؛ لأن اشتغاله بالكلام خلاف الأولى، لكنه لا يؤثر على صحة الطواف، والأولى أن يشغل بذكر الله عزّ وجلّ وبدعائه .
289 ـ لكن كونه أحرم من آبار علي مع العلم أنه أصلاً قادم من جنوب المملكة لا يؤثر هذا ؟
هو لما رجع من المدينة إلى مكة؛ فعليه أن يحرم من ميقات أهل المدينة؛ لأنه يأخذ حكم المدينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما حدد هذه المواقيت؛ قال : ( هن لهن ولمن مرّ عليهن أو أتى عليهن من غير أهلهن ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 2/143 ) ] ؛ فهو يأخذ حكم أهل الجهة التي جاء منها .
290 ـ هل المسابقات التي جوائزها الحج والعمرة حلال أم حرام ؟
إذا كان أصل المسابقة جائزًا، بأن تكون من المسابقات التي رخص فيها الشارع، وهي : المسابقة بالرماية وركوب الخيل وركوب الإبل، أو المسابقة في المسائل الشرعية؛ فلا بأس أن يكون السبق فيها ( أي : الجائزة ) حجًّا أو عمرة؛ أي : بأن يحج بالفائز أو يعتمر به .(52/22)
أما إذا كان أصل المسابقة محرمًا؛ بأن كان في غير المسائل المرخص فيها شرعًا؛ فإن الجائزة فيها محرمة؛ لأنها من الميسر المقرن مع الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، وعلق الفلاح على ذلك .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ سورة المائدة : آية 90 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) [ رواه أبو داود في سننه ( 3/29 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 6/23 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 6/226، 227 ) ] .
291 ـ هل يجوز للإنسان أن يؤدي فريضة الحج عن شخص مقتدر ماديًّا وجسديًّا مقابل مبلغ من المال ؟
الذي يقدر على أداء فريضة الحج بنفسه لا يجوز له أن يُنِيب من يحج عنه، ولا يجزيه ذلك لو فعله .
أما العاجز عن مباشرة الحج بنفسه عجزًا لا يرجى زواله؛ فإنه يجوز له أن يُنيب من يحج عنه .
ولا بأس أن يأخذ المال إذا كان قصده أن يستعين به على الحج، ولم يكن قصده الطمع في المال، وهنا قاعدة يذكرها بعض العلماء مستوحاة من النصوص، وهي : ( من حج ليأخذ؛ فلا يحج، ومن أخذ ليحج؛ فليحج ) (9) ، ومعنى ذلك أن من جعل المال وسيلة للحج؛ فلا بأس، ومن جعل الحج وسيلة للمال؛ فلا يجوز .
292 ـ ما رأيكم فيما يعتقد البعض أن زيارة المسجد النبوي ضرورة شرعية حتى يكتمل حجه ؟
زيارة المسجد النبوي الشريف عبادة مستقلة لا علاقة لها بالحج ولا بوقت الحج؛ فهي مستحبة على مدار العام كله، لا تخص بوقت، ولا علاقة لها بالحج؛ فالحج يتم بدونها، ومن زار المسجد النبوي؛ لا يلزمه أن يحج، ومن حج؛ لا يلزمه أن يزور المسجد النبوي .(52/23)
وزيارة المسجد النبوي مستحبة من أجل الصلاة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام ) [ رواهما البخاري في صحيحه ( 2/56، 57 ) ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) [ رواهما البخاري في صحيحه ( 2/56، 57 ) ] .
293 ـ ما حكم الدعاء من الكتيبات المخصصة للدعاء أثناء الطواف بالبيت العتيق ؟
الالتزام بهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد للطواف دعاء مخصوصًا، وإنما كان يقول صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 3/411 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 2/186 ) ، ورواه الحاكم في مستدركه ( 1/455 ) ، ورواه عبد الرزاق في مصنفه ( 5/51 ) ] . هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم .
أما في بقية الشوط؛ فإن المسلم يدعو ما تيسر له من أدعية، أو يذكر الله بالتسبيح والتهليل، وكل يطيق ذلك، أو يقرأ ما تيسر من القرآن، وهو أفضل الذكر .
أما أن يلتزم الناس بأدعية مخصصة لكل شوط؛ فهذا ليس له أصل في الشرع، وينبغي منع مثل هذا، لا سيما وأن الناس اتّخذوه وكأنه من فرائض الطواف .
وأيضًا يجتمع جماعة خلف قارئ واحد يقرأ بصوت مرتفع، ثم يرفعون أصواتهم خلفه، وقد لا يعقلون هذا الدعاء، ولا يعرفون معناه، ويشوشون على غيرهم .
والدعاء إذا كان من غير حضور قلب ولا معرفة لمعناه لا ينفع صاحبه؛ فينبغي للمسلم أن يدعو لنفسه بما تيسر بدعاء يحضره قلبه ويفهم معناه؛ لينفعه الله به .
294 ـ هل يجوز للوالدة عند وفاة ولدها أن تحج عنه وهي قد أدت فريضة الحج بنفسها ؟
إذا كانت قد أدت فريضة الحج عن نفسها قبل ذلك؛ فلا بأس أن تحج عن ولدها الميت، لا سيما إذا كان لم يحج .(52/24)
295 ـ رجل طاف هو وامرأته، وفي نهاية الطواف؛ قالت له : إننا لم نطف سوى ست أشواط، ولكنه لم يأخذ برأيها، بل بنى على اعتقاده بأنهما طافا سبعة أشواط، وبعد الانتهاء من العمرة والعودة إلى بلده يسأل : ما الحكم ؟ وماذا عليه ؟
إذا غلب على ظنه أنه طاف سبعة أشواط أو تيقن ذلك؛ فإن طوافه صحيح، ولو قال له أحد : إنك لم تطف إلا ستة أشواط؛ لأن قوله يفيد الشك، وهو متيقن خلافه، واليقين لا يزول بالشك؛ فطواف المذكور صحيح إن شاء الله .
وأما امرأته التي قالت : إنها لم تطف إلا ستة أشواط؛ فإن الواجب عليها أن تبني على اليقين، وهو الأقل، وتأتي بالشوط السابع؛ إلا إذا غلب على ظنها صحة ما قال زوجها، وبنت على ذلك؛ فطوافها صحيح إن شاء الله .
أحكام الأضحية والعقيقة
296 ـ ما حكم تسريح الشعر وتقليم الأظافر وحلق الشعر، في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ؟
حلق الشعر وتقليم الأظافر لا يجوزان في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، أو أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظافره في عشر ذي الحجة، حتى يذبح أضحيته؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك (10) ؛ كما في حديث أسماء رضي الله عنها، أما مجرد تسريح الشعر الذي لا يحصل معه زوال شيء من الشعر؛ فلا بأس به .
297 ـ سألني شخص يوم الثلاثين من ذي القعدة بعد المغرب : هل يأخذ من شعره وأظافره أم لا ؟ فقلت له : لا؛ لأنه بداية يوم الأول من ذي الحجة؛ فهل كلامي له صحيح أم لا ؟
إذا دخل شهر ذي الحجة؛ فإن من يريد أن يضحي عن نفسه لا يأخذ شيئًا من شعره وأظافره؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم (11) ، ويبدأ وقت النهي بثبوت دخول الشهر، وليلة الثلاثين من شهر ذي القعدة فيها احتمال؛ فترك الأخذ من باب الاحتياط طيب، لكن المنع إنما يتحقق بثبوت دخول الشهر برؤية الهلال .(52/25)
298 ـ والدتي توفيت، وأريد أن أعمل لها عقيقة، وعند الاستفسار من أحد الأئمة في أحد المساجد ببغداد؛ قال : إن العقيقة تعمل للحي وليس للميت؛ ما حكم الشرع في هذا ؟
العقيقة لا تشرع للميت، وإنما تشرع عند الولادة في اليوم السابع من ولادة الإنسان، يشرع لأبيه أن يعق عن هذا الولد، سواء كان ذكرًا أم أنثى، لكن الذكر له عقيقتان، وللأنثى عقيقة واحدة، تذبح في اليوم السابع، ويؤكل منها، ويتصدق، ويهدى، ولا حرج على الإنسان إذا ذبح في اليوم السابع أن يدعو إليها أقاربه وجيرانه، وأن يتصدق بالباقي، فيجمع بين هذا وهذا .
وإذا كان الإنسان غير غني، وعق عن الذكر بواحدة؛ أجزأه ذلك .
قال العلماء : وإذا لم يمكن في اليوم السابع؛ ففي اليوم الرابع عشر، فإن لم يمكن؛ ففي اليوم الواحد والعشرين، فإن لم يمكن؛ ففي أي يوم شاء . هذه هي العقيقة .
299 ـ رزقني الله بأبناء وبنات، ولم أذبح التميمة لهم جميعًا؛ فهل علي إثم ؟
ذبح العقيقة التي يسمها العوام التميمة سنة مستحبة، وليست واجبة، عن الذكر شاتين، وعن الأنثى شاة واحدة، فمن لم يذبح؛ فلا إثم عليه، ووقت الذبح ليس له حد، ولكن الأفضل أن تذبح في اليوم السابع من ولادته إن أمكن أو بعد ذلك متى تيسر .
قال الإمام أحمد رحمه الله : " العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد عق عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه، وعن سمرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل غلام مرتهن بعقيقته ) [ رواه أبو داود في سننه ( 3/104، 105 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 5/237-239 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 7/166 ) ] ؛ فلا ينبغي للأب ترك العقيقة عن مولوه " . والله أعلم .
300 ـ ما حكم العقيقة عمّن لم يعقَّ عنه والديه في الصغر ؟(52/26)
حكم العقيقة سنة، وهي ذبح شاتين عن المولود الذكر، وشاة عن المولودة الأنثى، في اليوم السابع من ولادته، أو فيما بعده من الأيام، وهي سنة في حق والد الطفل؛ شكرًا لله تعالى وتقربًا إليه ورجاء سلامة المولود وحلول البركة عليه، يأكل منها ويهدي ويتصدق؛ كالأضحية؛ ولا يجزئ فيها إلا ما يجزئ في الأضحية سنًّا ونوعًا وسلامة من العيوب، وإذا لم يفعلها الوالد؛ فقد ترك سنة، ولا يشرع للإنسان أن يعق عن نفسه إذا لم يعق عنه والده؛ لأنه سنة في حق الوالد لا في حق الولد . والله أعلم .
301 ـ يوجد عندنا عادة تكاد أن تكون عند كثير من الناس، ألا وهي ما يسمونه بـ ( هدية المولود ) ، وذلك إذا رُزق أحد الناس بمولود أو مولودة؛ فإن بعض الناس إذا زاروهم؛ جلبوا لذلك المولود أو المولودة هدية، وقد تعارف الناس على ذلك، وكذلك يحصل لكل من نزل بيتًا جديدًا أو تزوج؛ فهل لذلك أصل في شرع الله عزّ وجلّ ؟ وهل في فعلها بهذه الصورة محذور شرعي ؟ أفتونا بارك الله فيكم ؟
لا بأس بالهدية للمولود الجديد ولأهل البيت الجديد أو لمن تزوج؛ إلا أنه لا يبالغ في ذلك، ولا يفرض على الفقراء ما لا يستطيعون، وإنما تكون المسألة اختيارية، لا إحراج فيها؛ لأن ذلك من مكارم الأخلاق، ومن العادات الطيبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تهادوا وتحابوا ) [ رواه الإمام مالك في الموطأ ( 2/908 ) ] ، ولأن في ذلك إعانة للمتزوج المحتاج، أو تأثيث البيت الجديد بالنسبة للفقير . والله أعلم .(52/27)
كتاب البيوع
302 ـ نحن نملك عددًا من الأغنام، وما ينتج من فضلات وروث أجلكم الله نجمعه ونكدسه، ولأننا لا نملك مزارع لنستفيد منه؛ فإننا نسأل : هل يجوز بيعها ويحل أكل ثمنه أم لا يجوز ؟
لا بأس ببيع السماد الطاهر؛ مثل سماد الأغنام والإبل والبقر . . . فروث ما يؤكل لحمه طاهر، وبيعه لا بأس به، وثمنه مباح لا حرج فيه، إنما الذي فيه الاشتباه والإشكال هو السماد النجس أو المتنجس، هذا هو الذي فيه الإشكال والخلاف، أما السماد الطاهر؛ فلا بأس باستعماله، ولا بأس ببيعه وأكل ثمنه .
303 ـ أنا رجل قدر الله عليّ بمرض في رجلي اليمنى، إلى أن قرر الأطباء بترها، مما جعلني عاجزًا عن العمل، وأنا أعول أسرة كبيرة، ولي إخوة ثلاثة، ولكن أبي قد باع مزارعه على إخوتي الثلاثة، ولعجزي عن شراء شيء منها؛ فلم أحصل على شيء؛ فهل فعل والدي هذا صحيح؛ أم أنه يحق لي المطالبة بحقي بدون شراء ولا بيع ؟
تقول أيها السائل : إن أباك باع بعض مزارعه على إخوتك، وإنك رجل مصاب، ولا تقدير على الكسب؛ فهل لك حق الاعتراض ؟
الجواب : إنه إذا كان قد باع هذه المزارع على إخوتك بيعًا صحيحًا، ليس فيه احتيال ولا تلجئة، وإنما باعها عليهم كما يبيعها على غيرهم بثمن كامل، ولم يترك لهم شيئًا منه، بل استوفى الثمن منهم؛ فلا حرج عليه في ذلك، وليس لك حق الاعتراض؛ لأن هذا ليس فيه محاباة، وليس فيه تخصيص لهم بشيء من المال دونك .
أما إذا كان خلاف ذلك؛ بأن كان بيع حيلة، قد تسامح معهم فيه، وحاباهم به؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه جور، ويجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في الهبة والعطية، ولا يجوز له أن يخص بعضهم دون الآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 3/134 ) ] ؛ فواجب على الوالد أن يسوي بين أولاده فيما يمنحه لهم، ولا يجوز له أن يفضل بعضهم على بعض .
304 ـ ما حكم شراء وبيع السيارات بالتقسيط ؟(53/1)
لا بأس بذلك إذا كانت السيارات بحوزة البائع قبل العقد وفي ملكه، ثم باعها على شخص أو على أشخاص بالتقسيط بثمن مؤجل مقسط على دفعات؛ فلا حرج في ذلك .
وإنما الممنوع ما تزاوله بعض المؤسسات أو الأفراد من التعاقد مع أشخاص لبيعهم سيارات، ويتفقون على الثمن وعلى الأجل، ثم بعد ذلك يذهبون ويشترون لهم السيارات ويسلمونها لهم؛ فهذا باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في سننه ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 7/288، 289 ) ] .
ولا ينطبق على هذا حكم السلم؛ لأنه لم يسلم الثمن في المجلس؛ إذ لابد من تسليمه أحد العوضين في المجلس، وإذا كان المبيع موصوفًا في الذمة؛ فلابد أيضًا من تسليم الثمن في المجلس، حتى لا يكون بيع دين بدين . والحاصل أن بيع السيارات بالثمن المقسط لا بأس به؛ بشرط أن تكون السيارات مملوكة بالكامل للبائع قبل العقد .
305 ـ فضيلة الشيخ ما رأي فضيلتكم في بيع التقسيط ؟ وإذا اشتريت بضاعة وهي في مكانها ثم بعتها على شخص ثم باعها على صاحب الدكان وهي في مكانها؛ فما الحكم ؟
البيع بالتقسيط إذا كان الإنسان عنده سلع ويبيعها بيعًا غائبًا بثمن مؤجل؛ فلا بأس به، سواء كان الثمن المؤجل على دفعة واحدة أو على دفعات، وهو ما يسمى بالأقساط، المهم أن تكون السلعة موجودة في ملك البائع قبل العقد، أما إذا لم يكن عنده سلع، ولا عنده أعيان، ويتعاقد مع المشتري، وبعدما يتم العقد يروح يشتري له من المعارض أو من الشركات ويسلم له؛ فلا يجوز؛ لأن هذا بيع قبل الملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في سننه ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 7/288، 289 ) ] .(53/2)
يشترط لصحة العقد أن يكون المبيع مملوكًا للبائع وقت العقد؛ فالبيع بالتقسيط لا بأس به إذا كان البائع عنده السلع موجودة قبل العقد .
وأما أنه يبيعها على الذي اشتريت منه في الأول؛ فهذا إن كان فيه مواطأة، قال التاجر للدائن : أنا أبيعها عليك على شرط أن المستدين يبيعها علي؛ لأن المستدين سيبيعها علي، إذا كان في هذا مواطأة واتفاق؛ فهذا لا يجوز؛ لأن هذه حيلة .
أما إذا كان البائع الأول استلم القيمة وسلم السلعة، والمشتري باعها على المستدين، والمستدين عرضها للبيع فيمن يزيد، وجاء البائع الأول الذي استلم قيمتها فاشتراها؛ فهذا لا بأس فيه؛ لأنه لا مواطأة فيه .
306 ـ معلوم لديكم حفظكم الله أن عملية التقسيط التي أصبحت اليوم منتشرة، واختصت بها شركات، تقوم على أن الشخص يشتري أي سلعة سواء من هذه الشركة أو من مكان آخر بمبلغ أكثر من المبلغ الأساسي، في مقابل دفع هذا المبلغ على أقساط شهرية، والسؤال : ما حكم عملية التقسيط، وكيف ترون دورها في المجتمع ؟
البيع بالثمن المؤجل الذي هو أكثر من الثمن الحال جائز لا بأس به، سواء كان الأجل واحدًا يسلم عند حلول الثمن جميعًا، أو كان على عدة آجال يسلم عند حلول كل واحد منها قسط من الثمن معلوم، وهو ما يسمى بالتقسيط، سواء كان البائع شخصًا واحدًا أو كان شركة، لكن يشترط أن تكون السلعة المبيعة في ملك البائع حين العقد، وأن يكون الأجل معلومًا .
والدليل على صحة البيع بالثمن المؤجل أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام اشتراه لأهله (1) ، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقر السلم، وهو تعجيل الثمن وتأجيل المثمن؛ فقد وجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فأقرهم على ذلك، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 3/46 ) ] ، ولأن حاجة الناس تدعو إلى ذلك .(53/3)
307 ـ بعض شركات التقسيط تطلب من العمل اختيار البضاعة أو السيارة التي يريد شراءها، ثم تقوم الشركة بشرائها بعد الاتفاق مع العميل على السعر، وبعد أن تتسلم شركة التقسيط البضاعة أو السيارة؛ تقوم بتسليمها للعميل الذي سبق وأن استلمت منه الدفعة الأولى من ثمن هذه البضاعة؛ فهل يدخل هذا البيع في حكم بيع ما لا يملكه البائع ؟ وإن كان كذلك؛ فهل هو ربا، أم طريقة بيع غير شرعية ولكنها لا تدخل في الربا ؟ وهل يختلف الحكم لو كانت شركة التقسيط قد اتفقت من قبل مع صاحب البضاعة الأصلية على أنها مستعدة لشراء أي بضاعة من بضائعه إذا طلبها أحد العملاء بالتقسيط ؟ جزاكم الله خيرًا، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لابد في بيع التقسيط أن تكون السلعة في ملك البائع قبل العقد؛ فلا يجوز للشركة أن تتفق مع المشتري؛ إلا أن تكون السلعة في ملكها .
فما ذكر في السؤال من أن الشركة تتفق مع المشتري وتستلم منه القسط الأول، ثم تمضي وتشتري السلعة المتفق عليها وتسلمها له؛ هذا عمل غير صحيح، وعقد باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه البخاري في صحيحه ( ص198 ) ] .
وهذه العملية المذكورة هي من بيع ما لا تملكه الشركة؛ فهي عملية باطلة؛ لأنها من بيع المدين بالدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
ولا يقال : إن هذا بيع موصوف في الذمة ينضبط بالوصف؛ لأنه يشترط في صحة ذلك تسليم كل الثمن في مجلس العقد، وهنا الثمن مؤجل، لم يسلم منه إلا بعضه؛ فهو بيع دين بدين؛ لأن ما لم يسلم في مجلس العقد من الموصوف في الذمة يعتبر دينًا، ولو كان حالاً .(53/4)
ولا يختلف الحكم في ذلك إذا كانت الشركة قد اتفقت مع أصحاب البضائع أن تشتري منهم إذا تقدم لها مستدين؛ فإن هذا الاتفاق لا يجعل البضائع ملكًا للدائن يبيح له بيعها، وإنما هي ملك لأصحابها؛ فلابد أن يشتريها منهم بالفعل، ويقبضها قبضًا تامًّا، ثم بعد ذلك يبيعها على المستدينين بالتقسيط .
فالذي نوصي به هؤلاء : أن يتقوا الله، وأن يتقيدوا بالضوابط الشرعية، فإذا أرادوا أن يبيعوا على المحتاجين بالتقسيط؛ فلتكن السلع موجودة لديهم في محلاتهم قبل العقد . والله الموفق .
308 ـ أنا صاحب محل تجاري، وأخاف أن أقع في الربا أو الكسب الحرام؛ فبماذا تنصحوني كي يكون كسبي حلالاً إن شاء الله، وخصوصًا وأن من الناس الذين أبيع لهم من يشرب الخمر، ومنهم من يلعب القمار؛ فهل يجوز لي أن أبيع عليهم ؟
أولاً : الطريقة التي تحصل بها على الحلال ميسورة، ولله الحمد، وهي أنك لا تبيع إلا المواد المباحة، ولا تبع المواد المحرمة؛ كالدخان، والخمر، والصور . . . وغير ذلك من المحرمات وآلات اللهو، كل هذه لا يجوز لك أن تبيعها؛ لأنها محرمة، وإذا حرم شيء؛ حرم ثمنه؛ فلا تبع إلا سلعًا مباحة، أيضًا لا تغش، ولا تخدع المتعاملين معك، ولا تكذب عليهم، ولا ترفع الثمن بغير حق رفعًا باهظًا وتغرر بالجهلة بقيم السلع، كل هذا من التعامل المحرم، وعليك بالصدق، وعليك بالنصح والإخلاص، وعليك بتحري الخير في معاملاتك، وعدم الكذب، وعدم الحلف؛ كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الباعة إلى التزامه .
وأما أنك تبيع على أناس عصاة؛ فأنت إذا بعثت عليهم مواد مباحة؛ فلا بأس بذلك، يجوز أن تبيع عليهم؛ إلا إذا كانوا يستعينون بهذه السلع التي يشترونها منك على فعل الحرام، وعلمت ذلك؛ فلا يجوز أن تبيع عليهم ما يعينهم على فعل الحرام، أما إذا لم تعلم شيئًا، وهي سلع مباحة تبيعها عليهم كغيرهم؛ فلا مانع من ذلك .(53/5)
والنبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود (2)، مع أن اليهود في معاملاتهم شيء من الحرام، ولكن نحن لسنا مكلفين بأن نتتبع أحوال الناس، والأصل الإباحة؛ إلا ما علمنا أنه حرام، فنتركه . والله أعلم .
309 ـ لقد تسلمت عقودات عمل أحد رجال الأعمال، والذي كلفني بأن أحضر له عمالاً، وفعلاً تسلمت التأشيرات الخاصة بهم، وعندما سافرت؛ قمت ببيع هذه العقودات إلى العاملين، الذين يرغبون في العمل مع هذا الشخص؛ فهل يجوز لي مثل هذا التصرف ؟ وهل المال الذي كسبته من هذه الطريق حلالٌ أم حرام ؟
هذا التصرف خطأ، والمال الذي أخذته به حرام؛ لأن الواجب عليك أن تنفذ ما وكلك عليه موكلك من استقدام هؤلاء العمال حسب الاتفاق بينك وبينه، وما أخذته من هذا المال حرام عليك؛ فعليك أن ترده للعمال الذين أخذته منهم ظلمًا .
310 ـ قد باع والدي البيت الذي كنا نسكنه وبستانه بثمن بخس دون أن يخبرني بهذا، وأنا إلى جانبه، وفي طاعته مازلت والحمد لله على ذلك، ولم يبق له ملك آخر، وأنا محتاج إليه، وقادر على استرجاعه من المشتري بالثمن الذي وقع عليه التعاقد، ولكن للأسف الشديد، لم يقبل والدي بذلك، وليس له حجة شرعية؛ إلا أنه يزعم أنه رباني وعلمني على نفقته، ولم يبق لي حق عليه آخر، على الرغم من حاجتي الماسة لهذه الدار؛ فأنا أسألكم : هل هذا العقد صحيح أم باطل ؟ وأليس لي الحق على الغير في شراء بيتي الذي فيه مولدي ومنشئي ؟ وهل لي الحق في الشفعة؛ علمًا بأنه مضى الآن ما يزيد على عشرة أشهر من تاريخ البيع؛ فهل للمدة تأثير على جواز الاسترجاع من عدمه ؟ أفيدونا بارك الله فيكم .
ما ذكرت أيها السائل من برك بوالدك وجودك معه ووقوفك إلى جانبه؛ فهذا شيء واجب عليك، وتشكر عليه، ولك فيه الثواب إن شاء الله عند ربك .
وأما ما ذكرت من أنه باع بيته وبستانه بثمن قليل، ولم يشعرك بذلك؛ فهل لك حق الاعتراض والأخذ بالشفعة أو لا ؟(53/6)
الجواب عن ذلك أنه مادام والدك رشيدًا في تصرفاته وعقله؛ فليس لك الاعتراض عليه، ويعتبر بيعه صحيحًا ولازمًا، وليس لك أيضًا حق الشفعة؛ لأنك لست شريكًا له في هذا البيت أو في البستان، والشفعة إنما تثبت للشريك، وأنت لست شريكًا له في ذلك، فإن كان غير سليم التصرف من ناحية عقله؛ فهذا مرجعه إلى القاضي، هو الذي ينظر في القضية، وله أن يبطل العقد إذا ظهر له أنه لم يستوف الشروط الشرعية .
الربا وحكمه
311 ـ اقترضت مبلغًا من المال من البنك، على أن أسدد هذا المبلغ بعد ثمانية عشر شهرًا، على أن أدفع نسبة ( 14% ) من المبلغ عليه، ولم أكن أعلم أن هذا المبلغ ربًا؛ فما هو حكم الشرع بالنسبة لي ؟
الزيادة المشترطة في القرض ربًا صريح، لا يجوز للمسلم أن يتعامل بها، والواجب على المقرض أن يقتصر على أخذ رأس ماله .
قال تعالى : { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ سورة البقرة : آية 279 ] ، ومن لم يتب من أخذ الزيادة؛ فقد قال الله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ سورة البقرة : آية 279 ] .
ولا يجوز للمسلمين أن يقترضوا من البنوك بالفائدة؛ ( فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 3/1219 ) ] ومن فعل شيئًا من ذلك فيما سبق؛ فعليه أن يتوب إلى الله ولا يعود .
312 ـ يشتغل بعض الأخوة الملتزمين بالإسلام في دائرة من الدوائر المعنية في الشؤون الإسلامية، وقد سمعوا أن ما يصرف لهم من الأجر يكون من الفوائد الربوية؛ ما حكم الإسلام فيها ؟(53/7)
مجرد السماع بأن يقال : هذه من الربا؛ لا يكفي في المنع، والأصل الإباحة، والأجير يأخذ أجرته ما لم يعلم ويتيقن أنها من كسب حرام، أما إذا لم يعلم إلا مجرد إشاعات؛ فإنه لا يحرم عليه أن يتقاضى راتبه أو أجرته من مؤجره أو الجهة التي يعمل فيها، خصوصًا إذا كانت تلك الجهة أو هذا الشخص يتعامل معاملات كثيرة، منها شيء محرم ومنها شيء غير محرم؛ فإنه لا يحرم على المتعامل معه إلا ما علم أنه من الكسب الحرام، أما ما لم يعلم؛ فالأصل الإباحة .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعالم مع اليهود، ويستدين أحيانًا من اليهود (3) ، وهم يتعاملون بالربا، لكن ليس كل أموالهم ربا، بل هناك شيء من الحلال وشيء من الحرام؛ فما لم يعلم الإنسان أنه من الحرام؛ فإنه يأخذه ولا حرج عليه من هذا؛ فمجرد الشائعات لا تكفي .
313 ـ أحد البنوك الربوية يعلن عن برنامج لاستثمار الأموال عن طريق المتاجرة في بيع وشراء العملات؛ فهل يجوز لي المشاركة في هذا الاستثمار، علمًا بأنه ينوب عني في البيع والشراء، ولا تتم في هذا البيع المقابضة ؟ أفيدونا أثابكم الله .
البنك الربوي لا يؤمن على التعامل، ولو قال : إنه يتعامل في بعض النواحي على الوجه الشرعي؛ نظرًا لأنه في الأصل مؤسسة ربوية، غالب تعاملاته في الربا؛ فلا يؤمن، وأيضًا بيع وشراء العملات لابد أن يقوم على التقابض في المجلس إذا اختلف جنس العملات، وإذا اتحد جنس العملات؛ فلابد مع التقابض في المجلس من التساوي في المقدار، وهذا أمر دقيق، يبعد تحقيقه في معاملة البنوك؛ لأن مصارفتها في المعاملات لا تقوم على التقابض في المجلس؛ فقد اشتهر عنها أنها كذلك، وعليه؛ فإنه يجب على المسلم أن يبتعد عنها، ولا يثق بإعلاناتها . والله الموفق .
314 ـ ما حكم إجابة دعوة المرابي الذي لا يُشك في تعامله بهذه المعاملة ؟ أفتوني غفر الله لكم .(53/8)
إذا كنت تعلم أن طعام الداعي كله من الحرام؛ كالربا أو غيره؛ فإنه لا يجوز لك إجابة دعوته، ولا الأكل من طعامه، أما إذا كان طعامه مختلطًا من الحرام وغيره، ولا تعلم أنه من الحرام؛ فلا بأس بالأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من طعام بعض اليهود (4) ، وهم يتعاملون بالربا . والله أعلم .
أحكام القرض
315 ـ أخذت قرضًا من البنك لأبني به مسكنًا لي؛ فهل يعد هذا القرض ربًا ؟
القرض بالفائدة ربا بإجماع أهل العلم، سواء من البنك أو من غيره، وبناء المسكن لا يسوغ التعامل بالربا؛ لأن الله حرم الربا مطلقًا، وشدد الوعيد فيه؛ فعليك أن تتوب إلى الله مما صنعت، وكان الواجب عليك أن تسأل أهل العلم قبل أن تقدم على هذه المعاملة، وبإمكانك أن تشتغل وتكتسب ما أباح الله، ثم إذا تحصلت على كسب مباح؛ بنيت لك مسكنًا منه .
أحكام المساقاة
316 ـ يوجد بستان نخل، وصاحب البستان اتفق مع مزارع يسقي النخيل، واتفق صاحب البستان والمزارع عندما يثمر النخل أن يعطيه ثلث التمر مقابل سقيه، ومنذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا لم يسق هذا البستان بالماء؛ فهل يستحق المزارع أخذ الثلث من التمر ؟
هذا عقد مساقاة، وهل على ما تعاقد عليه الطرفان : صاحب الشجر وصاحب العمر؛ فصاحب العمل يستحق من الغلة بموجب ما يؤدي من العمل المشروط عليه، ومادام أنه مضت فترة لم يقم بالعمل المشروط عليه، ولم يسق هذه النخيل؛ فإنه لا يستحق من غلتها شيئًا؛ لأنه لم يؤد ما شرط عليه من سقيها، والمسلمون على شروطهم؛ فلا يحل له أن يأخذ من غلتها شيئًا؛ إلا إذا كان يقوم بسقيها ويوفي بشرط العقد الذي تواطأ عليها مع المالك، وإن كان يسقي بعض الشيء ويترك البعض الآخر؛ فإنه يستحق بقدر ما يقوم به من العمل . والله تعالى أعلم .
وعلى كل حال؛ فالمرجع في فصل النزاع في ذلك وفي غيره هو المحكمة الشرعية .
أحكام الإجارة(53/9)
317 ـ استأجر والدي قطعة أرض لزراعتها، وبعد مضي عشرين عامًا طلب أصحابها من المستأجر شراء الأرض، فلم يستطع شراءها، فقام المالكون ببيعها لغيره بمبلغ يعادل نصف ثمنها حينذاك؛ لأنها مؤجرة؛ فهل يجوز للمستأجر أن يأخذ نصف بدل باقي مدته ؟ أو يأخذ خلو رجل ويتركها ؟ أفيدونا أفادكم الله .
المستأجر ليس له استحقاق في هذه الأرض؛ إلا باقي مدة الإجارة؛ فله حق فيها : إن شاء استمر في استنفادها والانتفاع بالأرض إلى أن تنتهي مدة الإجارة، وإن شاء تنازل عنها على عوض يصطلح عليه مع الطرف الآخر؛ فالصلح جائز بين المسلمين . والله أعلم .
أحكام السبق
318 ـ اعتادت بعض الصحف والمجلات نشر المسابقات الثقافية وغيرها من مسابقات، ويعدون مالاً للفائزين؛ فهل هذا المال حلال أم حرام ؟
المال الذي يؤخذ بسبب الفوز في المسابقات في المسائل العلمية الشرعية أو المسابقات التي فيها تدريب على الجهاد وفي سبيل الله؛ كالرماية وركوب الخيل وركوب الإبل في السباق؛ كل هذه الأنواع من المسابقات لا بأس بأخذ المال فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) ، رواه الخمسة عن أبي هريرة [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/474 ) ، ورواه أبو داود في مسنده ( 3/29 ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 6/23 ) ، ورواه النسائي في سننه ( 6/226، 227 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 2/960 ) ، وكلها لم يذكر الفصل ] . والله أعلم .
أحكام الوديعة والأمانات
319 ـ عندي مبلغ من المال لأحد المساجد، أمانة عندي، للصرف منه على المسجد، وقد احتجت منه مبلغًا من المال، وأخذت كسلفة، على أن أرده في أي وقت قريب؛ ما حكم الشرع في عملي هذا ؟(53/10)
من كان عنده مال لمسجد ينفقه على حاجة المسجد؛ فإن هذا العمل يعتبر أمانة بيده، يجب عليه حفظها ومراعاتها، ولا يجوز له أن يقترض منها شيئًا؛ لأنه إذا اقترض منها شيئًا؛ لم يكن حافظًا لأمانته، وربما يعتريه ما يعتريه، فيضيع مال الأمانة؛ فإذا احتاج إلى اقتراض؛ فليقترض من غير الأمانة، يقترض من أصحابه أو من إخوانه، أو يعمل ما تيسر له من وسائل الحصول على المال، أما الأمانة التي هو مستحفظ عليها ومسترعى عليها، لا سيما إذا كانت لجهة من الجهات الخيرية؛ فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئًا لنفسه، أو أن يقترض منها .
فأنت أخطأ أيها السائل في اقتراضك من أمانة المسجد التي عندك، وعليك أن لا تعود لمثل هذا . والله أعلم .
320 ـ وضع مبلغ من المال عند والدي أمانة، وكان من ضمن المبلغ عدد من العملة السابقة ( الريال العربي ) ، وكذلك مبلغ من الريالات، وقد طلبها أصحابها؛ إلا أن وقت طلبها لم توجد عنده؛ نظرًا لظروفه آنذاك، وقد توفي أصحاب الأمانة منذ ما يقارب من عشرين عامًا، وهي باقية عند والدي، وقد توفي والدي منذ ما يقارب ثلاث سنوات، وهي باقية عنده؛ أرجو إفادتي : ماذا أعلم لإبراء ذمة والدي أثابكم الله ؟
الواجب عليك رد الأمانات التي توفي والدك وهي عنده إلى أصحابها؛ إبراء لذمة والدك، وإذا كان أصحابها قد توفوا؛ فإنك تردها إلى ورثتهم، لا تبرأ ذمة والدك إلا بذلك؛ فاجتهد بارك الله فيك في ردها إلى أهلها أو إلى ورثتهم، وإن كنت لا تعرف أهلها؛ فالواجب أن تعلن في الصحف أن من كان له حق عند والدك؛ فليتقدم بطلبه إليك، فإذا تعذر إيصالها إلى أهلها أو ورثتهم؛ فعليك أن تتصدق بها على نية أن الأجر لأصحابها . والله أعلم .(53/11)
321 ـ أنا موظف في شركة لتصنيع اللحوم، وأتناول طعامي من الشركة دون علم صاحب الشركة بذلك؛ فهل تصح صلاتي وصومي؛ علمًا بأني أتقاضى راتبًا شهريًّا ضعيفًا نسبيًّا مقارنة بعملي، وهناك قانون عمل يعطي العامل الحق في نسبة من أرباح الشركة، لكن لا أتقاضى شيئًا من هذه الأرباح، وقد طالبت بزيادة الراتب، فرفض ؟ نرجو الإجابة .
الذي تستحقه على صاحب العمل هو الأجر والمرتب الذي تعاقدت معه عليه، أما الأكل؛ فهذا يتبع الشرط : إذا كنت شرطت عليه أن تأكل من ماله؛ فلا حرج في ذلك، أو هو يراك تأكل وسمح بذلك، أو علم أنك تأكل وسمح بذلك؛ فلا بأس . أما إذا لم يسمح؛ فلا يجوز لك أن تأكل إلا بإذنه ورضاه، ولا تستحق عليه إلا المرتب .
والذي أراه أن تطلب منه المسامحة، وأن تصارحه بالواقع، وأن تقول : أنا آكل من هذه اللحوم، وأرجو أن تسمح لي، فإن سمح؛ فلا حرج، وإن منع؛ فلا تأكل منها .
وأما صومك وصلاتك؛ فهما صحيحان إن شاء الله، ولكنك تأثم بالأكل من مال الغير بغير إذنه .
322 ـ رجال مسنون يعطون أبي مالاً ليحفظه عنده، فإذا حال عليه الحول؛ أخبرهم أبي بذلك حتى يدفعوا زكاته، لكنهم يأخذون المال عندهم؛ خشية أن يأخذ أبي زكاته بدون علمهم، ويقولون : إننا سنزكيه، لكن أبي متأكد أنهم لن يدفعوا زكاته؛ فهل يأخذ أبي الزكاة من مالهم بدون رضاهم ؟ وهل يأثم في حفظ أموالهم إذا لم يزكوها ؟
الأموال النقدية تجب فيها الزكاة إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، والزكاة إنما تجب على مالكها، فيدفعها بنفسه بنية الزكاة، أو يوكل من يدفعها عنه .
وإذا أودع المال عند أحد؛ فإن المطالب بإخراج زكاته هو مالكه، وليس على المودَع عنده مسؤولية؛ إلا من باب التذكير والنصيحة لصاحبه إذا أحس منه تساهلاً في ذلك، ومادام أن صاحب المال يقول : إنه أخرج زكاته؛ فلا حرج على المسلم أن يقبله وديعة عنده، والسرائر لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .(53/12)
لكن؛ لو قدر أن المودع عنده يتيقن تمامًا أن صاحب المال لا يزكيه؛ فإنه لا يجوز له قبول إيداعه عنده؛ لأن هذا فيه إعانة على الإثم وإقرار للمنكر . والله أعلم .
وأما أخذ الزكاة بغير رضى صاحب المال في هذه الحالة؛ فإنما يجوز لولي الأمر خاصة .
أحكام اللقطة
323 ـ وجدت مبلغًا من المال بجوار بقالة، وذهبت لعامل البقالة، وقلت له : إذا حضر إليك أحد يسأل عن مال ضائع؛ أرسله لي، ومن ذلك اليوم إلى الآن لم يصلني أحد، وقد سافر صاحب البقالة، ومضى الآن على ذلك أكثر من سنة؛ هل إذا أخذت هذا المبلغ حلال علي ؟
كان الواجب عليك أن لا تكتفي بإخبار صاحب البقالة، بل كان الواجب عليك أن تنادي أنت عن هذه اللقطة في المكان الذي وجدتها فيه، وفي الأمكنة المجاورة له، وأن توصي كذلك من يعرف عن هذا الضائع، ولا تكتفي بجانب واحد، وهو جانب صاحب البقالة؛ لأن المسؤولية في ذمتك أنت وليست المسؤولية على صاحب البقالة، ربما يتساهل، أو ربما يغفل، أو ربما لا يهتم بهذا الأمر .
فالواجب عليك أنت بنفسك أن تنادي وأن تعرّف لمدة سنة حسب الإمكان، وفي كل مناسبة يرجى العثور على صاحب اللقطة؛ مثلاً في الأسبوع، أو في أيام الجمع حول المساجد، أو في الشهر مرة؛ حسب الظروف التي تكون أرجى للعثور على صاحب اللقطة؛ هذا هو المشروع، أما أنك أوصيت صاحب البقالة واكتفيت به؛ فهذا لا يكفي في موضوع اللقطة؛ فالواجب عليك أن تحرص على معرفة صاحبها وأن تبحث عنه وتواصل البحث، فإذا لم تجده؛ فإن تصدقت بها على نية أن أجرها لصاحبها، ولو جاءك فيما بعد أن تغرمها له؛ فلك أن تفعل هذا، وإن استنفقتها؛ فلك ذلك؛ لأنك بحثت عن صاحبها لمدة سنة ولم تجده .(53/13)
324 ـ ما هو الحكم الشرعي في اللقطة التي يلتقطها الإنسان في مكان خالٍ من السكان، سواء كانت ثمينة أو متواضعة، وهل هناك أماكن يحرم التقاط أي شيء منها كثر أو قل ؟ لأنني أثناء سيري بالسيارة بين مكة وجدة وجدت في الطريق عددًا من المطارح الإسفنجية، فأخذتها إلى منزلي؛ فهل عليّ شيء في ذلك أم لا ؟
اللقطة لها أحكام في الشريعة الإسلامية، وقد بينها الفقهاء رحمهم الله؛ أخذًا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة فيها (5).
ومن أحكام اللقطة أنها إذا كانت شيئًا تافهًا لا تتبعه همة أوساط الناس؛ فإنه يأخذها الإنسان ويمتلكها، أما إذا كانت شيئًا ذا قيمة يلتفت إليها؛ فهذه للإنسان أن يأخذها بشرط أن يعرف صفتها المميزة وينادي عليها في مجامع الناس لمدة حول كامل، حتى يعلم صاحبها بها، ثم يأتي لتسلمها بعد ذكر علاماتها المميزة .
وإذا كانت اللقطة في الحرم، وهو ما كان داخل الأميال؛ فهذه لا يجوز للإنسان أن يلتقطها؛ إلا إذا التزم بالتعريف بها إلى أن يأتي صاحبها، أما إذا كانت خارج الحرم؛ فإنه كما سبق؛ إذا أخذها وعرف صفتها المميزة ونادى عليها مدة سنة في مجامع الناس ولم يأت لها أحد؛ فإنه يمتلكها، أما لقطة الحرم؛ فإنه لا يأخذها إلا بشرط أن يعرفها دائمًا، ولا يتملكها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة : ( ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 3/94 ) ] .(53/14)
أما ما ذكرت من أنك وجدت مطارح إسفنجية على الطريق بين مكة وجدة؛ فالحكم فيها كما ذكرنا : إن كانت خارج حدود الحرم، وخارج الأعلام؛ فإنك تنادي عليها مدة سنة، ثم بعد ذلك تتملكها، وأما إذا كانت داخل الحرم؛ فلا يجوز لك أن تتملكها، بل تنادي عليها إلى أن يأتي صاحبها، وإلا؛ فدعها في مكانها؛ لأنها مسؤولية، وأنت في عافية منها، فإذا كنت تعرف من نفسك الأمانة والقيام بحقها الشرعي؛ خذها، أما إذا كنت لا تثق من نفسك، أو لا تلتزم بأحكامها؛ فدعها، وأنت في عافية منها . والله تعالى أعلم .
أحكام الوقف
325 ـ هناك شخص أراد أن يوقف قطعة من الأرض، وأشار عليه بعض أصدقائه بأن يبقي هذه الأرض لورثته يستفيدون منها بعد وفاته، ثم عدل عن نيته إلى عدم وقف الأرض؛ فهل عليه أو على ورثته إثم في ذلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .
مادام أنه لم يصدر منه وقف للأرض، وإنما عنده تفكير فقط بأن يوقفها، وهو متردد في هذا، ثم عدل عن فكرة الوقف إلى فكرة أخرى؛ فلا مانع من ذلك، فيجوز له أن يعدل عن ذلك إلى فكرة أخرى حسب المصلحة، وكونه يتركها لورثته المحتاجين أحسن له من وقفيتها . والله أعلم .
326 ـ اشترى والدي ثلثًا من مال شخص غريب عنا متوفى، وذلك مقابل التصدق عن المتوفى صاحب الثلث برأسين من الشياه أو عجل من البقر في أول شهر رجب من كل عام مدى الحياة، وقد استمر والدي على هذا مدة طويلة، وبعد ذلك رفض بعض الإخوان الاستمرار في أدائها، مع العلم أن الشرط هو استمرارها مدى الحياة؛ فهل يجوز لهم هذا ويكفي ما قدموه من صدقات فيما مضى، أم يجب عليهم تنفيذ الشرط والاستمرار ؟ وهل يصح اشتراط مثل هذا الشرط كقيمة لهذا الثلث من المال ؟
هذا السؤال ذو شقين :(53/15)
الشق الأول : تعيين شهر رجب لتقديم شيء من هذه الوصية فيه، وهذا لا يجوز؛ لأنه بدعة؛ لأن رجل لا يختص بشيء، ولم يثبت له فضيلة على غيره من الشهور، لا في أوله ولا في آخره؛ فتخصيصه بنوع من الصدقات أو عبادة من العبادات تخصيص لا دليل عليه من الشرع، ولا يجوز الاستمرار على ما ذكره السائل؛ من أنهم يذبحون من وصية الميت في أول رجب؛ يعتقدون أن ذلك له فضيلة؛ فإن هذا بدعة يأثمون بفعلها .
أما الشق الثاني : وهو التصرف في هذا الوقف أو هذه الوصية؛ فهذا يحتاج إلى الرجوع إلى القاضي للنظر في شروط الموصي وإثبات هذه الوصية : إما بوثيقة مكتوبة، أو بشهود عدول يشهدون عليها عند القاضي، ثم هو يوجه بما يراه حول هذه الوصية؛ فلابد من الرجوع إلى القاضي في هذا .
وهذا البيع فيه نظر؛ لأنه بثمن مجهول المقدار، والله أعلم، ولأن بيع الوقف لا يجوز .
أحكام الصرف
327 ـ أعطيت أحد تجار العملة مبلغ من الريالات هنا داخل المملكة على أن آخذ منه مقابل ذلك بعملة بلدي وفق سعر متفق عليه سلفًا؛ بأن يدخل هو المقابل في حسابي في البنك في بلدي، أو يسلمها نقدًا لأحد أقاربي هناك، أفعل ذلك لقضاء مصالحي في بلدي، وهي تتعطل إذا لم أفعل ذلك، ويتم ذلك التعامل من غير سند مكتوب للثقة المتبادلة؛ هل يدخل ذلك في باب التعامل بالربا؛ مع العلم بأن السلطات في بلدي تحظر بشدة التعامل في العملات واستبدالها خارج البنوك، وذلك طلبًا للمصلحة العامة للبلاد والعباد، في حين أنها تحدد سعرًا متدنيًا للعملات في البنوك لا يتناسب مع الارتفاع الباهظ في أسعار السلع في الأسواق، وفي حين إن سعر العملات خارج البنوك في السوق السوداء أضعاف أضعاف ما تحدده السلطات في البنوك ؟ ما رأي الشرع في ذلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .(53/16)
لا يجوز أن تدفع العملة لأحد التجار في بلد الرياض مثلاً ثم تستلم أو يستلم وكيلك عملة أخرى بدلها في بلد آخر؛ لأن هذا صرف، والصرف يشترط فيه التقابض في المجلس، ولكن خذ العملة البديلة في مجلس العقد، ثم حوِّلها إلى البلد الذي تريد .
328 ـ ما هو حكم الدين في تجارة العملة، وهو ما يسمى بالسوق السوداء ؟
الاتجار ببيع العملات بعضها مع بعض يسمى بالمصارفة، سواء كان في البنوك أو في السوق الحرة .
وإذا اتحد جنس العملات؛ كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والريال السعودي مثلاً بالريال السعودي، والمصري بالمصري؛ وجب شيئان : التساوي في المقدار، والتقابض في مجلس العقد . فإن اختلَّ الشرطان أو أحدهما؛ كان ربا .
وإن اختلف جنس العملات؛ كأن باع ذهبًا بفضة، أو ريالاً سعوديًا بجنيه مصري مثلاً؛ وجب شيء واحد، وهو التقابض في مجلس العقد، وجاز التفاضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس؛ فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد . . . ) الحديث [ رواه مسلم في صحيحه ( 3/1211 ) ] .
فالاتجار بالعملات، يحتاج إلى بصيرة بالحكم الشرعي، وتحفظ شديد من الوقوع في الربا .
329 ـ إذا كان لي صديق مثلاً في بلد خارج البلدة التي أقيم فيها، واحتجت منه إلى مال؛ فهل يجوز أن آخذ منه بعملة بلدي الذي أنا فيه وأقضيه بعملة بلده هو ؟ وهل فارق العملة يؤثر في دفع الزكاة؛ كأن يكون رصيدي من المال بالدولار مثلاً، وأريد أن أزكيه بعملة أقل قيمة من الدولار، ولو في البلد نفسه؛ فهل يجوز هذا أم لا ؟(53/17)
أما قضية القرض : أن تقترض من شخص مبلغًا من المال بعملة، ثم تقضيه إياها بعملة أخرى، إذا كان هذا من باب المصارفة؛ فلا بأس به، فيجوز أن تصرف الدين الذي في ذمتك وتدفع لغريمك ودائنك أو مقرضك من عملة أخرى مصارفة، هذا لا بأس به؛ ما لم يشترط المقرض عند القرض أن يقضيه من عملة أخرى؛ فإن هذا لا يجوز .
330 ـ تنتشر المصارف الإسلامية في كثير من الدول العربية، في حين لم نسمع عنه في المملكة العربية السعودية؛ ما هو موقف العلماء هناك في هذه القضية ؟ جزاكم الله خيرًا .
المصارف الإسلامية كل مسلم يفرح بها ويرحب بها؛ لأنها تنقذ المسلمين من ورطة الربا ومن أغلال البنوك الأجنبية؛ فموقف العلماء منها هو موقف الترحيب والسرور بهذه البنوك الإسلامية إذا تحققت، ولعل الله جل وعلا يحققها ويعين القائمين عليها، وأن يسدد خطاهم، وأن ينجح تجربتهم .
الجامع لأحكام المعاملات
331 ـ ما حكم الشرع في أخذ الرشوة ؟
أخذ الرشوة من السحت، ومن أشد الحرام، ومن أخبث المكاسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي ولعن الرائش [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/279 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 3/ص299 ) بدون ذكر : ( الرائش ) ، ورواه الترمذي في سننه ( 5/15 ) بدون ذكر ( الرائش ) ، ورواه ابن ماجه ( 2/775 ) ، بدون ذكر : ( الرائش ) ، ورواه غيرهم ] – وهو الساعي بينهما -، واللعن يقتضي أن الرشوة كبيرة من أعظم كبائر الذنوب، وهي من السحت .
والله جل وعلا قال في اليهود : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [ سورة المائدة : آية 42 ] .
قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة : آية 188 ] ، وهذه الآية على أحد التفسيرين تعنى في الرشوة وتحذر منها .(53/18)
فالرشوة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أكل منها؛ فقد أكل سحتاً، واستعمل حرامًا يؤثر على أخلاقه وعلى دينه وعلى سلوكه .
وقد جاء في الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا ربي ! يا ربي ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنّى يستجاب له ؟ ! ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/703 ) ] .
وهذا حديث صحيح، بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن أكل الحرام من الرشوة وغيرها؛ أنه يمنع قبول الدعاء، وأن آكل الرشوة أو غيرها من الحرام لا يستجاب له دعاء، وهذا خطر عظيم؛ لأن أحدًا لا يستغني عن الله عزّ وجلّ طرفة عين، فإذا قطع الصلة بينه وبين الله؛ ورد دعاؤه؛ فما قيمة حياته ؟ !
وأيضًا؛ الرشوة ما فشت في مجتمع؛ إلا وفشا فيه الفساد، وفشا فيه الخلل، وتشتت القلوب، والإخلال بالأمن، وضياع الحقوق، وإهانة أهل الحق، وتقديم أهل الباطل، وهذا يحدث في المجتمع ضررًا بيّنًا؛ فالرشوة من أخبث المكاسب، وأثرها على الفرد والمجتمع من أسوأ الآثار .
فعلى المسلم أن يتوب إلى الله إذا كان يتعاطى شيئًا من ذلك، وعلى من عافاه الله منها أن يسأل الله عز وجل الثبات على الحق، وأن يديم عليه العافية؛ فإنها جريمة كبيرة، ومعصية ظاهرة، وهي غش لولاة الأمور، وغش للنفس، وغش للمجتمع، ويجب على ولاة الأمور أن ينكلوا ويردعوا المرتشين والراشين؛ كما لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
332 ـ لدينا قصر أفراح، وفيه طباخون، وبعض الطباخين يطلب إكرامية بالإضافة إلى راتبه؛ فهل يجوز إعطاء العامل مبلغًا من المال إكرامية؛ حيث إنه تعود أخذه من الناس ؟
إذا كان هناك عامل من العمال له راتب وله أجر مقطوع من صاحب العمل؛ فلا يجوز لأحد أن يعطيه؛ لأن هذا يفسده على الآخرين؛ لأن بعض الناس فقراء لا يستطيعون إعطاءهم؛ فهذا العمل سنة سيئة .(53/19)
333 ـ امرأة تقول هناك رجل مسلم قد استدان من رجل من أهل الكتاب مبلغًا من المال، وقد توفي هذا الرجل المسلم منذ ثلاث سنوات ولم يسدد دينه، وأهله لا يعلمون به، وقد أردت إبلاغ أهله عنه ليقوموا بسداده نيابة عنه، فرفض الدائن إبلاغهم دون أن يسامحه، وأنا أعلم ضرورة الوفاء بدين الميت؛ فروحه مرهونة بدينه؛ فما رأيكم في هذه المسألة بارك الله فيكم ؟
عليك أيتها السائلة أن تبلغي أولياء الميت بالدين الذين عليه لهذا الكتابي الذي ذكرتِ أن له عليه حقًّا يجب تبليغ أولياء الميت عن ذلك، أما كونهم يسددون عنه أو لا يسددون؛ فهذا إذا ثبت يجب عليهم حتمًا أن يسددوه من تركته، وإن لم يكن به وثيقة إلا الشهادة التي تدلين بها؛ فهذا لا يثبت الحق، ولكن يعتبر قرينة، والأحوط والأحسن لهم أن يبرئوا ذمة ميتهم من دينه .
أموال محرمة
334 ـ أمتلك مبلغًا من المال قد اكتسبته من تجارة الممنوعات، وأنا أريد أن أتزوج به؛ فهل الزواج به حلال أم حرام ؟ علمًأ أنه ليس لدي ما يعينني على الزواج؛ لأني وحيد في هذه الدنيا ؟
المال الحرام لا يجوز للمسلم أن يستعمله :
قال صلى الله عليه وسلم في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر : ( يمد يديه إلى السماء؛ يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام؛ فأنّى يستجاب لذلك ؟ ! ) [ رواه مسلم في صحيحه ( 2/703 ) ] .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ سورة البقرة : آية 172 ] .
فالواجب على المسلم الذي اكتسب مالاً من وجه حرام أن يتوب إلى الله، وإن كان أخذ المال من صاحبه بغير حق؛ فإنه يرده إليه، وإن لم يعرف صاحبه؛ فإنه يتصدق به، ولا يستعمله، ولا يتزوج منه، ولكن عليه أن يكتسب مالاً حلالاً، ويتزوج منه .
قال تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ سورة النور : آية 33 ] .(53/20)
وقال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ سورة الطلاق : آية2، 3 ] .
335 ـ لي أخ مهاجر في فرنسا، ويبيع الخمر؛ فهل يجوز أن أذهب إليه وآكل من أمواله، وهل إذا أهدى إليَّ شيئًا أقبله ؟ أرجو الإفادة ؟
أما تسميته مهاجرًا؛ فهذا خطأ؛ لأن المهاجر شرعًا هو الذي يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فرارًا بدينه، هذا هو المهاجر، وبلفظ أعم : المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والذي يذهب من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر؛ هذا لا يسمى مهاجرًا .
وأما أنه يجمع مالاً من بيع الخمر؛ فالله حرّم الخمر، وحرم ثمنها، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن بائعها وآكل ثمنها؛ في عشرة ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؛ كلهم ملعونون (6).
فثمن الخمر حرام، وإذا كان كسب أخيك كله من هذا المورد؛ فإنه لا يجوز لك أن تأكل منه، ولا أن تنتفع منه بشيء . فالله يغنيك عنه .
لكن عليك مع أخيك المناصحة والتذكير بالله عزّ وجلّ، وأن تعظه في الله؛ لعل الله أن يتوب عليه، وأن يترك هذا الكسب الخبيث، فإن أصرَّ؛ فلا تذهب إليه، واهجره، وإذا علمت أن هديته من ثمن الخمر؛ فلا تقبلها .
خلو الرجل
336 ـ ما رأي الدين في المبالغ التي تدفع كخلو لإيجار الأماكن والمحلات، سواء من المؤجر للمستأجر أو من المستأجر للمؤجر ؟
إذا استأجر الإنسان محلاً مدة معلومة؛ فله أن يسكنه تلك المدة، وأن يؤجره لغيره ممن هو مثله في الاستعمال أو أقل منه؛ أي أن له أن يستغل منفعة المحل بنفسه وبوكيله، أما إذا تمت مدته؛ فإنه يجب عليه إخلاء المحل لصاحبه الذي أجره إياه، ولا حق له في البقاء؛ إلا بإذن صاحبه، وليس له الحق في أن يمتنع عن إخلاء المحل إلا بأن يدفع له ما يسمى بنقل القدم أو الخلو؛ إلا إذا كان له مدة باقية فيه .
الخدمات المجانية(53/21)
337 ـ ما رأي فضيلتكم في صاحب محطة وقود وضع ميزة خاصة لمن اشترى كمية معينة من الوقود؛ مجتمعة أو متفرقة على عدة مرات، وتلك الميزة تتلخص في أداء خدمة مجانًا؛ كغسيل للعربة، أو إصلاح بنشر . . . ونحو ذلك ؟ وما رأيكم في من يُفتي في مثل هذه الأمور الجديدة بدون دليل ؟
أرى أن هذا العمل لا يجوز لأمور :
أولها : أن هذه الخدمة لا مقابل لها، وصاحبها لم يبذلها من باب التبرع والإعانة، وإنما بذلها من باب المعاوضة؛ فأين عوضها .
ثانيًا : أن هذا يضر بأصحاب المحطات الآخرين؛ لأنهم سيضطرون إلى بذل مثل تلك الخدمة أو غيرها، وإلا؛ فسينصرف الناس عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا ضرر ولا ضرار ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/327 ) ، ورواه الإمام مالك في الموطأ ( 2/745 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 2/784 ) ، ورواه الدارقطني في سننه ( 4/227 ) ، ورواه الحاكم في مستدركه ( 2/57، 58 ) ، ورواه غيرهم ] .
ثالثًا : أن هذا العمل سيفتح باب تسابق أصحاب المحطات إلى بذل أنواع المغريات التي ليست عند الآخرين، وذلك يسبب لهم الإحراج والمشقة فيتعين سد هذا الباب من أصل(53/22)
كتاب المواريث
338 ـ امرأة تقول توفي أخي وترك عندي مبلغًا من المال قدره ثمانون ألف ريال أمانة عندي، وله ابن وبنت، فأتى إلي أحد الأولاد وطلب ذلك المبلغ، فأنكرته بحجة أنه وهبه لي، وكان أخي يعرف ذلك، ثم جاءت البنت، وقالت : ما تركه والدي أمانة عندك ! وبعد مدة خفت من أن ينتقم الله مني بسبب الأمانة التي حملتها، فوزعت المبلغ المذكور بينهما بالتساوي، فأعطيت الابن مثل ما أعطيت البنت، أربعون ألف ريال ( 40 . 000 ) لكل منهما، فسألت أحد العلماء، فقال : أنت آثمة في قسمتك هذه، وحرام عليك، فهل ما قاله هذا العالم صحيح أم لا ؟ وماذا عليّ أن أفعله الآن ؟
أولاً : مماطلتك في حق الورثة شيء لا يجوز لك، بل الواجب أداء الأمانة لأهلها .
ثانيًا : قسمتك المال بين الذكر والأنثى سواء، وهما ليسا في حكم الله سواء؛ لقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [ سورة النساء : آية11 ] ؛ فالأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا؛ فللذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يجوز تسوية الذكر بالأنثى .
فالذي عليك الآن استدراك هذا الشيء، ويلزمك أن تسحبي من البنت الزيادة عن نصيبها، وتدفعيها لأخيها، وإن لم تستطيعي سحب الزائد من البنت؛ فإنك تغرمين للابن ما يكمل نصيبه . والله تعالى أعلم .
339 ـ توفي والدي وترك لنا مالاً؛ إلا أن جدتي التي هي والدته قد تركت لوالدنا عددًا من الماشية عبارة عن جزء من الثلث ليفعل به ما يشاء؛ فماذا نعلم بهذه الماشية ؟ هل نضمها إلى تركة والدنا، أو نتصدق بها، أما ماذا نفعل بها ؟ أرشدونا بارك الله فيكم .(54/1)
إذا كانت هذه الماشية التي تركتها جدتكم وصية من بعد موتها في طرق البر، وكان والدكم يتولاها وينفذ وصيتها؛ فإن الواجب أن تستمر هذه الوصية، وأن تنفذ على ما أوصت به الميتة، ولابد أن يكون هناك ورقة مكتوبة في هذا الموضوع، أو يكون هناك من الناس من يدري فتسألونه، وأرى أن ترجعوا إلى القاضي لديكم ليتولى النظر في ذلك . والله أعلم .
340 ـ نحن سبعة أشقاء، أربع إناث وثلاثة ذكور، من أبوين رحيمين، وقد تزوج الجميع، وأنا صغيرهم، تزوجت منذ عشرين عامًا، وقد عشنا نأكل مع والدينا في وعاء واحد نحن الذكور، وكانت حالتنا المادية متواضعة للغاية، وقد منَّ الله علينا بشراء قطعة أرض زراعية، فجمعنا كل ما نملك، حتى أخذنا حلي نسائنا ودفعناها ثمنًا لها، ومن حرصنا على رضى والدنا سجلنا باسمه نصف هذه المساحة، وقد توفي، ولم نعط أخواتنا البنات شيئًا منها، وهن لم يطلبن شيئًا؛ لعلمهن بظرف شرائها والظروف المعيشية، وأبناؤنا بالجامعات، ولم نعط نساءنا شيئًا أيضًا، وذلك عن طيب نفس منهن؛ فما رأيكم في أخواتي أولاً ؟ وكذلك في نسائنا هل لهن حق على ذلك أم لا ؟
أما بالنسبة للأخوات، فإن كان تسجيلكم نصف الأرض لوالدكم بمعنى أنكم أعطيتموه هذا النصف؛ فإنه حينئذ يكون تركة له تورث عنه لأولاده الذكور والإناث ولمن ترك من الورثة على فرائض الميراث التي شرعها الله، فتكون تركة تقسم على ورثته، ومن ورثته أخواتكم، فلهن نصيب في هذه الأرض على حسب الميراث من نصيب والدهن .
أما بالنسبة لزوجاتكم؛ فإذا كن أيضًا قد اشتركن معكم في شرائها، ودفعن الحلي على أنه اشتراك معكم في شرائها؛ فيكون لهن نصيب في هذه الأرض، أما إذا كن دفعن هذا الحلي من باب الهبة لكم، وإعانة لكم على شرائها؛ فهي من اختصاصكم .(54/2)
341 ـ توفي والدي وترك بنتًا عمرها ثلاث سنين وابنًا عمره أربع سنين، وقد تزوجت أمهما وتركت لي مسؤولية تربيتهما، وقد أخذت ما يخصهما من الإرث بعد والدي، والآن تزوج الولد والبنت، وأصبحا يطالبانني فيما اكتسبته بعد وفاة والدي؛ علمًا بأنني الوحيد الذي شاركته الاكتساب في حياته؛ فهل لهم الحق في المطالبة فيما اكتسبته بعد وفاته، أم أنه يخصني وحدي فقط ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .
أما ما كان لوالدك؛ فهذا يعتبر لأخواتك الصغار نصيب فيه؛ لأنه من تركة ميتهم، فكان الواجب عليك أن تحصره، وأن تحصيه، وأن تحفظه لهما حتى يكبرا، وتنفق عليما منه، وإذا بقي شيء بعد النفقة عليهما؛ تدفعه إليهما إذا كبرا .
أما ما كسبته بعد وفاة والدك؛ فهذا إن كان رأس المال هو الذي كان مع والدك قبل وفاته؛ فلهم نصيب أيضًا من ربحه؛ لأنه يعتبر كالمضاربة، وإن كان من مالك الخاص، وتصرفت في مالك الخاص بعد وفاة والدك؛ فإنه لا علاقة لهم به؛ لأنه يعتبر كسبك ومالك .
وعلى كل حال؛ القضية فيها طرفان، وإذا رجعتما إلى المحكمة الشرعية؛ فهي إن شاء الله ستدرس ملابسات القضية، وتبين لكل ذي حق حقه . والله أعلم .
342 ـ نحن أسرة مكونة من سبع بنات، وقد توفيت أختي الكبيرة من أبي، ولديها ثمانية أبناء؛ فهل لأبنائها الموجودين على قيد الحياة الحق في الإرث من مال والدي؛ لأن والدي مازال موجودًا على قيد الحياة، وهي ماتت قبله؛ فهناك عدة مشكلات تحدث مع أولادها بشأن هذا الإرث ؟
أولاد البنت ليس لهم من الإرث شيء؛ لأنهم من ذوي الأرحام؛ فما دام يوجد أصحاب فروض أو عصبات؛ فإنه لا حق لذوي الأرحام في الإرث؛ فمال أبيكم لبناته منه الثلثان، والباقي للعاصب، فإن لم يكن هناك عاصب؛ فإنه يرد على البنات .
343 ـ هل يجوز لي أن أرث مالاً أو بيتًا عن والدي المتوفى ؟ علمًا بأنه كان لا يصلي ولا يصوم، أرجو الإفادة .(54/3)
الذي لا يصلي ولا يصوم؛ إذا كان جاحدًا لوجوب الصوم والصلاة، ومات على ذلك؛ فهذا مرتد بإجماع المسلمين، ولا يورث، ويوضع ماله في بيت مال المسلمين؛ كالأموال التي ليس لها مالك .
وكذلك إذا كان يترك الصلاة متعمدًا على الصحيح من قولي العلماء، ومات على ذلك؛ فإنه مرتد عن دين الإسلام، وماله لا يورث عنه، وإنما يرد لبيت مال المسلمين .
ومن هذا تعرف خطورة ترك الصلاة، وإن كان تساهل به كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
344 ـ أنا وكيل عن أيتام توفي والدهم وترك لهم تركة، واجتمعت بهم جميعهم، وقلت لهم : هل فيكم أحد يريد من تركة والده ؟ فقال جميعهم : لا، فتصرفت في التركة، حيث اشتريت لهم أرضًا، وقمت ببنائها باسم أمهم، حيث إن أمهم لم تتزوج حتى الآن؛ فهل علي شيء في هذا التصرف ؟ أفيدونا حفظكم الله .
نشكر السائل على عنايته بإخوته الأيتام، وحرصه على مصلحتهم، ويذكر أنه جمع استحقاقهم من إرث أبيهم، واشترى به أرضًا لهم، وعمرها سكنًا؛ إلا أنه كتبها باسم أمهم .
نقول : لابد من أن تبين أن هذه الأرض لهؤلاء الأيتام، ولا تبقيها مكتوبة باسم الأم؛ لئلا تؤخذ الأرض بموجب هذه الكتابة، وتكون ملكًا للأم، ولا تدري ماذا سيحصل فيما بعد من الخلاف أو الموت، فتكون سببًا في ضياع حقهم، فيجب عليك أن تستأنف هذا الأمر، وأن تستدركه، وأن تبيِّن الواقع، وأن هذه الأرض وهذا البناء هو ملك لهؤلاء الأيتام .
حكم المفقود
345 ـ هل يحق لزوجة المفقود أن تتزوج بعد مدة أربع سنوات؛ علمًا بأنه لم يرد من عنده أي رسالة أو خبر ؟
قضية المفقود لا نستطيع الكلام فيها؛ لأنها تحتاج إلى إجراءات قضائية من عند المحكمة الشرعية؛ فراجع في هذا القاضي الشرعي؛ لأن الأمر يتطلب إجراءات ومعرفة الملابسات والتحري والاجتهاد في مدة الانتظار، هذا لا يكون إلا من عند القاضي في المحكمة الشرعية . والله أعلم .(54/4)
كتاب النكاح
346 ـ إذا أراد الإنسان الزواج من فتاة قريبة له أو بعيدة عن أسرته، ولكن لها إخوة ليسوا بحالة جيدة من ناحية الذكاء والفطنة، ويخشى على أطفاله من هذا مستقبلاً؛ فهل يصح العدول عنها إلى غيرها لهذا السبب فقط ؟ وما مدى صحة الحديث : ( تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ) ؟
نعم؛ ينبغي للإنسان أن يختار الزوجة الملائمة والخالية من الأعراض الضارة لها ولأولادها، وأن يختار من الأسر الطيبة والأسر العريقة؛ لأن هذا يؤثر على الذرية بإذن الله .
وأما صحة الحديث : ( اختاروا لنطفكم فالعرق دساس ) ؛ فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه صحيح في الجملة؛ لأن الإنسان ينبغي له أن يتحرى الزوجة المناسبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فاظفر بذات لدين تربت يداك ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 5/123 ) ] ، فيختار الزوجة الصالحة في دينها، والصالحة أيضًا في نسبها وجسمها من الآفات؛ لأن هذا له تأثير على العشرة وتأثير على الذرية بإذن الله .
347 ـ فتاة تشتكي من تصرف والدها الذي يساوم على مهر بنته ويأخذ راتبها بالقوة من المدرسة ؟
لا شك أن الوالد له حق، والبر به واجب، وله أن يأخذ من مال ولده وراتبه ومهر ابنته وراتبها ما لا يضر بهما ولا يحتاجانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أنت ومالك لأبيك ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/204 ) ، ورواه أبو داود في سننه ( 3/287 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 2/769 ) ] .
وليس للوالد أن يضر ولده؛ بأن لا يترك معه شيئًا من المال لحاجته، وإنما يأخذ ما زاد على ذلك إذا احتاج إليه .
ويحرم على الوالد أن يعضل ابنته عن الزواج من أجل أن يحصل على مهر كثير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه ) [ رواه الترمذي في سننه ( 4/41، 42 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 1/632، 633 ) ] .(55/1)
348 ـ ما حكم من يَكرَه ويُكرِّه الناس من الزواج بأربع زوجات ؟ وما الأصل في السنة من حيث الزواج؛ هل هو الزواج بأربع أم بواحدة ؟
لا يجوز للمسلم أن يكره ما شرعه الله وينفر الناس منه، وهذا يعتبر ردة عن دين الإسلام؛ لقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ سورة محمد : آية 9 ] ؛ فالأمر خطير، وسببه التأثر بدعايات الكفار الذين ينفرون من الإسلام، ويلقون الشبه، التي تروج على السذج من المسلمين، الذي تخفى عليهم حكم التشريع الإسلامي، التي من أعظمها تشريع تعدد الزوجات؛ لما فيه من مصلحة النساء قبل الرجال .
وأما هل الأصل التعدد أو عدمه؛ فلم أر في كلام المفسرين الذين اطلعت على كلامهم شيئًا من ذلك، والآية الكريمة تدل على أن الذي عنده الاستعداد للقيام بحقوق النساء على التمام؛ فله أن يعدد الزوجات إلى أربع، والذي ليس عنده الاستعداد يقتصر على واحدة، أو على ملك اليمين، والله أعلم .
والعدل هاهنا هو العدل المستطاع، وهو القسم والنفقة والسكن، وأما العدل غير المستطاع؛ فهو المحبة القلبية، وهذا لا دخل له في منع التعدد .
349 ـ مكالمة الخطيب لخطيبته عبر الهاتف؛ هل هي جائزة شرعًا أم لا ؟
مكالمة الخطيب لخطيبته عبر الهاتف لا بأس به؛ إذا كان بعد الاستجابة له، وكان الكلام من أجل المفاهمة، وبقدر الحاجة، وليس فيه فتنة، وكون ذلك عن طريق وليها أتم وأبعد عن الريبة .
أما المكالمات التي تجري بين الرجال والنساء وبين الشباب والشابات، وهم لم تجر بينهم خطبة، وإنما من أجل التعارف؛ كما يسمونه؛ فهذا منكر ومحرم ومدعاة إلى الفتنة والوقوع في الفاحشة .
يقول الله تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } [ سورة الأحزاب : آية 32 ] ؛ فالمرأة لا تكلم الرجل الأجنبي إلا لحاجة، وبكلام معروف لا فتنة فيه ولا ريبة .(55/2)
وقد نص العلماء على أن المرأة المحرمة تلبي ولا ترفع صوتها .
وفي الحديث : ( إذا أنابكم شيء في صلاتكم؛ فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء ) [ ورد بعدة ألفاظ . . . انظر : صحيح البخاري ( 1/167 ) ، و صحيح مسلم ( 1/316، 317 ) ، و " موطأ مالك " ( 1/162، 163 ) ، و سنن أبي داود ( 1/245، 246 ) ، و سنن النسائي ( 2/82، 83 ) ] .
مما يدل على أن المرأة لا تسمع صوتها الرجال إلا في الأحوال التي تحتاج فيها إلى مخاطبتهم مع الحياء والحشمة . والله أعلم .
350 ـ هل يرى فضيلتكم أن تعدد الزوجات هو الحل الأمثل للقضاء على ظاهرة العنوسة التي تفشت في مجتمعنا ؟
نعم؛ إن من أسباب القضاء على العنوسة تعدد الزوجات؛ فكون المرأة تتزوج من رجل يقوم بكفالتها ويصونها وتأتيها منه ذرية صالحة، ولو كانت رابعة أربع، أحسن من كونها تبقى أيمًا محرومة من مصالح الزواج ومعرضة للفتنة، وهذا من أعظم الحكم في مشروعية تعدد الزوجات، وهو في صالح المرأة أكثر منه في صالح الرجل، وكون المرأة قد تجد مشقة في معايشة الضرة، يقابله ما تحصل عليه من المصالح الراجحة في الزواج، والعاقل يقارن بين المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، ويعتبر الراجح منها، ومصالح الزواج أرجح من المضار المترتبة على التعدد إن وجدت . والله أعلم .
351 ـ ما موقف الإسلام من امرأة مسلمة تزوجت من رجل غير مسلم؛ حيث إنها كانت في حاجة إلى ذلك؛ أي : مجبرة لهذا الزواج ؟
لا يجوز زواج المسلمة بالكافر، ولا يصح النكاح .
قال تعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ } [ سورة البقرة : آية 221 ] .
وقال تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ سورة الممتحنة : آية 10 ] .
وإجبارها على ذلك لا يسوِّغ لها الخضوع والاستسلام لهذا التزويج .(55/3)
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/131 ) ، ورواه الحاكم في مستدركه ( 3/123 ) كلاهما بنحوه، ورواه غيرهما ] .
ويعتبر هذا النكاح باطلاً، والوطء به زنى .
352 ـ تزوجت بطريقة الشغار؛ بأن أخذت أخت رجل وأعطيته أختي عن جهل مني بحكم هذا الزواج، وبعد معرفتي ندمت لما فعلت؛ علمًا بأن أختي راضية عن هذا الزواج، وكذلك زوجتي؛ فما الحكم ؟ هل نستمر في حياتنا الزوجية أم علينا أن نفارق زوجتينا ؟ ماذا ترون ؟ أفيدونا بارك الله فيكم .
نكاح الشغار : هو أن تزوج موليتك لشخص على أن يزوجك موليته، ولا مهر بينكما؛ فإذا كان الواقع مثل هذا؛ بمعنى : أنك زوجت أختك لشخص وهو زوجك أخته بدون مهر؛ فهذا هو الشغار، وهذا حكمه أنه لا يجوز في الإسلام، وهو نكاح باطل .
وطريق استدراك هذا الأمر : أن تعقدا عقدًا جديدًا، وأن يدفع لكل واحدة مهر مثلها، ويصحح هذا ويستدرك كما ذكرنا بأن تعقدا عقدًا جديدًا على كل واحدة، ويدفع لها مهر مثلها .
353 ـ أرجو الإفادة عمن وقع في نكاح الشغار كيف يتخلَّص من ذلك؛ علمًا بأن كلاً من الزوجين قد رزقا بأطفال ؟ نرجو التوضيح .
هذه القضية من شأنها أن تعرض على قاضي المحكمة الشرعية لينظر فيها، أو بأن يكتب لرئاسة الإفتاء والبحوث العلمية والدعوة والإرشاد في الرياض : إما عن طريق الشخص السائل، وإما عن طريق القاضي؛ بأن يأتي إليه، والقاضي يكتب إلى الإفتاء إذا لم ينته القاضي فيها إلى حكم .
أما الشغار من حيث العموم؛ فلا يجوز الإقدام عليه، والشغار معناه : أن تجعل المرأة بدل امرأة، فيزوج شخص موليته لشخص آخر؛ بشرط أن يزوجه الآخر موليته، وهذا إذا كان بدون مهر، بأن جعلت المرأة مقابل المرأة بلا مهر؛ فهذا شغار بإجماع أهل العلم، والنكاح فيه باطل، لا يجوز البقاء عليه، ويجب التفريق بينهما .(55/4)
أما إذا كان فيه مهر؛ بأن يجعل لكل امرأة مهر؛ فهذا محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه أيضًا باطل؛ لأن المدار على مضرة المرأة؛ لأنه إذا شرط في التزويج أن يزوج كل منهما الآخر؛ فهذا يضر بالنساء، وتصبح الرغبة فيه للأولياء دون النساء، حتى لو سمي فيه مهر؛ فهذا لا يزيل الضرر الذي يحصل على النساء؛ لأنه قد يزوجها بمن لا يصلح لها من أجل رغبته هو وفائدته هو . هذا حكم الشغار من حيث العموم .
أما حكم الشغار في هذه الواقعة المسؤول عنها؛ فالواجب على صاحبها أن يتقدم للجهات المختصة التي هي قاضي المحكمة الشرعية القريب منه، أو إلى رئاسة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالرياض؛ للنظر فيها .
354 ـ أرادت فتاة الزواج من ابن عمها، وأعمامها هم الموكلون على تزويجها؛ غير أنهم رفضوا تزويجها من ابن عمها هذا الذي تريده هي ويريدها هو؛ بحجة أن بينهم سوء تفاهم وخصام، ولم تجد من يتولى تزويجها، وقد ذهبوا إلى القاضي، وحين سألها عن وليها؛ قالت : إن هذا أخي؛ تعني : عمها، فرفض القاضي العقد بينهما، فرجعت البنت وكلت ابن عمتها، فتولى أمر تزويجها، فوافق القاضي على ولايته، وتم الزواج؛ فهل يعتبر النكاح صحيحًا ؟ وإن لم يكن؛ فماذا عليهم أن يفعلوا الآن ؟
أولاً : ننصح أعمامهما أن لا يكون ما بينهم وبين الخاطب من سوء التفاهم سببً في التأثير على البنت ومصيرها وتزويجها بمن يصلح لها وتصلح له، فيجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن لا يمنعوا هذه البنت من الكفء الذي يريد التزوج بها بدافع أن بينهم وبينه سوء تفاهم وأغراض شخصية؛ فما ذنبها أن تحرم من مصلحتها وكفئها ؟ ! فعليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، ويؤدوا الأمانة التي حملها الله إياها .(55/5)
أما من ناحية ما حصل وتم من أنها وكلت ابن عمتها؛ فالتوكيل ليس لها، وإنما الذي يملك التوكيل هو وليها؛ فلابد أن تكون الوكالة صادرة من القاضي لا من البنت، فإذا كان الأمر كما ذكرت؛ أنها وكلت ابن عمتها، وعقد لها؛ فهذا العقد غير صحيح، وعليهم إعادته؛ بأن تذهب مع وليها إلى القاضي، وينظر في الموضوع . والله أعلم .
355 ـ أنا شاب أريد أن أتزوج وقد خطبت فتاة من خارج أسرتنا، فأخبرت والدي وأمي بذلك، فرفضا هذا الزواج، وأنا مصر على الزواج من هذه الفتاة، ولكن والدتي قالت لي : إن تزوجت هذه الفتاة؛ لن أسامحك لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تواصلنا أبدًا ! وكذلك بقية إخوتي ووالدي كذلك رفضوا، وأنا لا أدري لماذا رفضوا زواجي منها ؟ فلم يظهر لي منها ما يمنع، وأنا على إصرار شديد؛ فهل عليَّ إثم إن تزوجتها، أو يعتبر هذا عقوقًا وعصيانًا لوالدتي ؟ أفيدوني ماذا أفعل ؟ أتزوجها أم أتركها ؟
مادام أنه قد أجمع والداك وإخوتك على منع التزوج من هذه الفتاة، وهم من أنصح الناس لك، وأرفق الناس بك، فلولا أنهم يعلمون منها شيئًا لا يناسب؛ لما منعوك من زواجها، خصوصًا الوالدين وشفقة الوالدين وحرصهما على ولدهما؛ فلا ينبغي لك أن تتزوج هذه المرأة، وقد حذروك منها ونصحوك بالامتناع من الزواج بها، والنساء كثيرات، ومن ترك شيئًا لله؛ عوَّضه الله خيرًا منه؛ فإطاعة والديك وإخوتك خيرٌ لك .
يقول الله تعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة : آية 216 ] .(55/6)
356 ـ أنا رجل متزوج، وأريد الزوج من امرأة مطلقة، وكلانا موافق على الآخر، ولكن أهلنا يرفضون هذا الزواج؛ بسبب خلافات شخصية بينهم؛ فهل يجوز لنا أن نتزوج سرًّا؛ بأن نضع القرآن الكريم بيننا ويشهد عليه كل واحد منا برضاه بالآخر، أو أن العقد بهذا الشكل لا يصح ؟ أفيدونا بارك الله فيكم ؟
العقد بهذا الشكل لا يصح، والعقد الصحيح هو أن يكون هناك ولي مع الزوجة، وأن يحصل الإيجاب من الولي والقبول من الزوج، وأن يكون هناك شاهدان فأكثر، وأن يكون هذا عن رضي من الطرفين، ولابد أن تتوافر شروط العقد .
أما أن يحصل الاتفاق بينك وبين المرأة على المصحف ! ! هذا من الخرافات، ومن البدع، وليس هذا عقدًا شرعيًّا، وليس للمرأة أن تزوج نفسها، ولا أن تعقد لنفسها، وإنما يعقد لها وليها .
ومادام أن الأمر كما ذكرت : أن فيه مشاحة بين الطرفين بين أقاربك وأقاربها؛ فالأولى الابتعاد عن مثل هذا، والنساء كثيرات، وهي ييسر لها من الأزواج ما يناسبها، وأنت ييسر لك من الزوجات ما يناسبك؛ بدون نزاع وبدون دخول في مشكلات .
357 ـ إذا كان أحد يريد الزواج وليس عنه مال يكفي مؤنة الزواج؛ فهل يجوز أن يعطى من الزكاة يستعين بها على الزواج ؟
نعم؛ إذا كان الإنسان لا يستطيع الزواج لعسره وفقره؛ فإنه يجوز أن يعان من الزكاة بما يستطيع به الزواج؛ لأن هذا من الحوائج الضرورية، ومن اعفاف المسلم؛ فلا مانع من تزويج الفقير بالزكاة، أو إتمام تزويجه من الزكاة؛ لأنه من الفقراء الذين نص الله على إعطائهم من الزكاة .
358 ـ عندنا رجل تزوج بزوجة فوضعت له ولدًا ثم توفيت، وتزوج الرجل بزوجة أخرى ولها بنت من زوجها الأول فوضعت الزوجة الأخيرة ولدين، فتزوج الولد الذي ماتت أمه بالبنت التي صارت أختًا لإخوانه؛ فهل هذا يجوز أم لا ؟ أفيدونا أفادكم الله .(55/7)
يجوز للإنسان أن يتزوج بنت زوجة أبيه إذا كانت هذه البنت من رجل آخر كما ورد في السؤال؛ لأنها لا قرابة بينه وبينها؛ إلا إذا كان هناك رضاع؛ بأن كان رضع من أمها، أو هي رضعت من أمه؛ فحينئذ تحرم للرضاع، أما ما لم يحصل رضاع؛ فإنه لا علاقة بينهما، ويجوز له أن يتزوجها . والله أعلم .
359 ـ امرأة متزوجة سافر زوجها إلى إحدى البلاد، وانتظرته مدة طويلة، ولم يرجع، وشهد بعض الناس أن زوجها توفي، فتزوجها أخوه بعد ذلك . . . وبعد مضي فترة، رجع زوجها الأول، ولم يكن متوفى كما شهد بذلك بعض الناس، وهي الآن مع الزوج الثاني، أفتونا بالحكم الشرعي في هذا الأمر .
هذه المسألة مسألة خطيرة، وتحتاج إلى نظر وتحقيق؛ فالواجب الرجوع فيها إلى المحكمة الشرعية للنظر فيها، وزوجة الغائب الذي خفي خبره فلا يدرى أحيٌّ هو أم ميت لا تخرج من عصمته إلا بحكم الحاكم الشرعي بعد النظر والتحقيق . والله أعلم .
360 ـ هل يجوز للبكر الزواج دون إذن والدها ؟ وما حكم الشرع في المكالمات الهاتفية والرسائل في حدود الصداقة بين الشاب والشابة ؟
لا يجوز للمرأة أن تتزوج دون إذن والدها؛ لأنه وليها، وهو أحسن نظرًا منها، ولكن لا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته من الكفء الصالح .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته؛ فزوجوه، إلا تفعلوه؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) [ رواه الترمذي في سننه ( 4/41-43 ) ، ورواه ابن ماجه في سننه ( 1/632، 633 ) ، ورواه الحاكم في مستدركه ( 2/164، 165 ) ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( 7/82 ) كلهم بنحوه ] .
ولا ينبغي للبنت أن تصرَّ على الزواج من شخص لا يرتضيه والدها؛ لأن الوالد أبعد نظرًا منها، ولأنها لا تدري؛ لعل الخيرة في عدم التزوج منه، والله تعالى يقول : { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [ سورة البقرة : آية 216 ] ، وعليها أن تسأل الله أن يختار لها الصالح .(55/8)
ولا يجوز للفتاة أن يكون بينها وبين أحد من الشباب مكالمات ورسائل؛ لأن هذا قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، ويطمع فيها هؤلاء الشباب، ولأن هذا يذهب الحياء من الفتاة، وفيه من المحاذير الشيء الكثير .
361 ـ أنا فتاة أبلغ من العمر 16 سنة، وقد تقدم لخطبتي شاب ملتزم، وهو مؤذن بأحد المساجد، ولكنني لا أرغب في الزواج منه؛ لأني لا أحبه، بل وأكرهه من قبل أن يخطبني؛ فهل أنا آثمة في ردي له ورفضه، وهو يدخل في ضمن من يرضى دينه ؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا .
إذا كنت لا ترغبين الزواج من شخص؛ فلا إثم عليك، ولو كان صالحًا؛ لأن الزواج مبناه على اختيار الزوج الصالح مع الارتياح النفسي إليه؛ إلا إذا كنت تكرهينه من أجل دينه؛ فإنك تأثمين في ذلك من ناحية كراهة المؤمن، والمؤمن تجب محبته لله، ومن ناحية كراهة تمسكه بدينه، ولكن لا يلزمك مع محبتك له دينًا أن تتزوجي منه مادمت لا تميلين إليه نفسيًا . والله أعلم .
362 ـ لي أخ تزوج من امرأة في السر، وبدون إعلان للزواج، فقط أبوها وإخوانها يعلمون عن هذا الزواج، ووافقوا على ذلك، وهو لا يريد أن يعلن عن الزواج؛ نظرًا للفرق الكبير في المستوى الاجتماعي بينهما؛ فهل هذا الزواج حلال أم لا ؟ أفيدونا .
إذا توافرت شروط عقد النكاح؛ من وجود الولي، ووجود الشاهدين العدلين، وحصول التراضي من الزوجين؛ فالنكاح صحيح، مع الخلو من الموانع الشرعية، ولو لم يحصل الإعلان الكثير؛ لأن حضور الشهود وحضور الولي هذا يعتبر إعلانًا للنكاح، وهو الحد الأدنى للإعلان، والنكاح صحيح إن شاء الله إذا توافرت فيه هذه الشروط المذكورة، وكلما كثر الإعلان؛ فهو أفضل .
363 ـ تزوج رجل من امرأة لديها بنت من زوج آخر، وتوفيت هذه المرأة، وأراد أن يتزوج ابنتها؛ علمًا بأن ابنتها لم يربها هو، وقد كانت تسكن في بيت غير بيته؛ فهل زواجه من ابنة زوجته المتوفية حلال أم حرام، أو إذا طلق أمها أيضًا؛ فهل يجوز الزواج من هذه البنت ؟(55/9)