ههه
الحمد للّه الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يَدْعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويُبَصِّرون بنور اللّه تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه، وكم من ضال تائه قد هدَوه، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم . ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه تعالى، وفي الله تعالى، وفي كتاب اللّه تعالى بغير علم. يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين. (1)، أما بعد :
فإن الله تعالى أكمل لنا الدين ببعثة محمد ^ ، فجاء بالهدى ودين الحق ، وبيَّنه وبلَّغه البلاغ المبين ، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه ؛ وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بُعث به فقط . ثم سار على ذلك أصحابه –رضوان الله عليهم – فقد فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان ، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان ، وألقوا إلى التابعين ما تلقَّوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا ، فحازوا قصبات السباق ، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق ، و لكن لا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة ، فالحمد لله على نعمائه وآلائه يوم أن حفظ علينا ديننا ، وجعل لنبيه ورثة أخذوا من بحظ وافر ، فبلغوه الأمة جيلاً بعد جيل ، والمبرز من اتبع صراطهم المستقيم ، واقتفى منهاجهم القويم ، والمتخلِّف من عَدَل عن طريقهم ، فذلك المنقطع التائه الهالك في بيداء المهالك والضلال .
أهمية الموضوع :
__________
(1) الرد على الجهمية للإمام أحمد( ص 13 - 14 ) ، والبدع لابن وضاح - (ج 1 / ص 4) و انظرها منسوبة في اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ج 1 / ص 58)(1/1)
ومع تعاقب الدهور ، وكَرِّ الأيام والشهور ؛ فإن ثمت نابتة خبيثة ، وخبيئة تدعي لنفسها علماً وهي منه براء ، وتتبوأ من الجهل دركات لتبوء بوبيل من الطوام ، حين تزل أقدامهم والأفهام ، فتضل من تعديهم العوام والطغام .
فكم رأينا نِزالاً في حلائب العلم، من رائمٍ للبروز قبل أن ينضج، فرَاشَ قبل أن يَبْري ، وتزبَّب قبل أن يتحصرم، وقد قيل: البداية مزلة، وقيل: من البلية تشيخ الصحيفة، ويؤثر عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قوله: العلم نقطة كثرها الجاهلون . وبمعناها قولهم:( لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف )(1) وما يراد بها هنا إلا المتعالمون الذين ناموا عن العلم فما استيقظوا، وبالغوا قبل أن يبلغوا، فركبوا مطايا الخير للشر، والذين عناهم الإمام الشافعى - رحمه الله تعالى بقوله: ( وقد تكلم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله )(2) . وشكى حالهم الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى – فقال(3):
هذا وإنى بعد ممتحن بأر* بعة وكلهم ذوو أضغان
فظ، غليظ، جاهل متمعلم *ضخم العمامة واسع الأردان
متفيهق، متضلع بالجهل، ذو ضلع*، وذو جلح من العرفان
مزجى البضاعة فى العلوم وإنه *زاج من الإيهام والهذيان
من جاهل متطبِّب يفتي الورى *ويحيل ذاك على قضا الرحمن
ما عنده علم سوى التكفير والتبـ*ديع والتضليل والبهتان
وحفيده بالتلمذة , الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى يقول: ( إذا تكلم المرء في غير فنه, أتى بهذه العجائب)(4) .
ولما قيل لسفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى, فيمن حدث قبل أن يتأهل, قال:
__________
(1) 1 ) ساقها ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله (2 / 207 ) .
( 2) الرسالة - ( ص 41 )
(3) القصيدة النونية - (ج 2 / ص 100)
(4) - فتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 446)(1/2)
( إذا كثر الملاحون غرقت السفينة) .(1) وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى في ذلك:(اللهم نشكوا إليك هذا الغثاء )(2) .
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى:(لا آفة على العلوم وأهلها, أضر من الدخلاء فيها, وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون, ويظنون أنهم يعلمون, ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون)(3)
وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى:( قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين, إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد, غلطاً, أو مغالطة )(4) .
أسباب دواعي البحث فيه :
لما كان حمى الدين بالإفتاء جهلاً قد استبيح ، وتزايدت أعداد هؤلاء الأغرار حتى سامَوْ باعة البقول عدداً ، وجاهروا بسُوْئهم حتى بدت سَوْآتهم ؛ كان لزاماً أن نُقَارضَ مجاهرتهم هذه بالمجاهرة, لكن بالحق لكبت باطلهم, وإسقاط تَنَمُّرِهِمْ, والعمل على هدايتهم, واستصلاحهم .
قال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد – حفظه الله تعالى - : ( فهؤلاء المنازلون في ساحة العلم, وليس لهم من عدة فيه سوى "القلم والدواة"ـــ هم: الصحفية المتعالمون, من كل من يدعي العلم وليس بعالم, شخصيةٌ مؤذيةٌ, تتابعت الشكوى منهم على مدى العصور, وتوالي النذر, سلفاً وخلفاً . ولبعض الأندلسيين:
نعوذ بالله من أناسٍ تَشَيَّخوا قبل أن يَشِيْخوا
__________
(1) - المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي - (ج 2 / ص 302).
(2) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر - (ج 1 / ص 7) .
(3) - الأخلاق والسير - (ص 4).
(4) - الموافقات - (ج 2 / ص 218)(1/3)
فهذا القطيع حقاً هم غُوْلٌ العِلم, بل دودة لزجةٌ, متلبدَة أسْرَاُبها في سماء العلم. قاصرةً من سمو أهله, وامتداد ظله, معثرةً دواليب حركته, حتى ينطوي الحق, ويمتد ظل الباطل, وضلاله, فما هو إلا فجر كاذب, وسهْم كابٍ حَسِيْر: إنه: عتبة الدخول الفاجرة إلى خطة السوء الجائزة: (الفتوى بغير علم) مظلة صانعي الخيام الهادئة الممتد رواقها, والتي يقيمها, ويحمي حماها من بين أيدينا, ومن خلفنا ذُبَاباتُ((الطوائف)) التي تداعت علينا أرسالها, منابذةً الحياة الصافية.لكن هذا الضرب الخائب من العباد, ما يلبث أن يلحقه الإدبار, فتحيط به خطيئته, فتنقله إلى((السقوط المبكر)):
كل من يدَّعي بما ليس فيه فضحَته شواهد الامتحان
ولذا قال قتادة رحمه الله تعالى:(من حدث قبل حِينه, افْتضح في حِينه ).
ولذا كان لزاماً على كل غيور على دينه وعلمائه أن يكشف الأجلة عن حقيقة كل مفتٍ بغير علم , وهتك باطله وما ينطوي عليه من خسف, وإفك, ومسلك مُرْدٍ, فجٍ :
تبْياناً لِنزْع الثقة منه, والتحذير من الاغترار به .
وأخذاً بحجزهم عن النار, وتبصيراً لهم بمواضع الأقدام .
دفعاً لسيل تعالمهم الجرار, كفاحاً عن بيضة الشرع,وصرحه الممرد من كل مُتَمرد .
وصيانة لِذَويْه عن التذبذب والانفصام, والتبدد والانقسام, بسيرورة إدعاء الإفتاء بين العباد .
وغيرةً على هذا ((الكتاب)) الناصح, المهان من كثير من الخلق, وما الغيرة عليه إلا من المكارم, بل هي أخت الغيرة على المحارم.
واعلاناً بأن (الحجر لاستصلاح الأديان, أولى من الحجر لاستصلاح الأموال, والأبدان). والحجر واجب على كل ( مفلس ) لصالح الجماعة ؛ فالمتعالم أو العالم الماجن يُحجَر عليه من الفتيا لصالح الأديان ، والطبيب المتعالم يحجر عليه لصالح الأبدان ، والمهندس المتعالم يحجر عليه لصالح البلدان .(1/4)
والمراد من هذا التقييد إنما هو في شأن الذين وضعوا رحالهم مفتين في العلوم الشرعية ذاتها ) (1).
وحين أبَنْتُ وبيَّنْتُ بجلاء أهمية ودواعي ما أنا بصدده ، فليُعلم أن هذه الجادة لبسبيل مقيم من الناصحين للمتعالمين والقاسطين- وأعوذ بالله ولي المتقين أن يجتمع علينا حشفٌ وسوء كيله- بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم, حزناً وأسفاً ؛ لا نفتاح قُفْل الفتنة, والتغرير بعدة المستقبل بَلَة العوام.
وهذه الست الآنفة الذكر هي الدواعي والبواعث لإفاضتي بهذا البحث التي طرحته وزارة التربية والتعليم ممثلة بالتوعية الإسلامية – شكر الله سعيهم ووعيهم - . وأزيد على الست أربعاً ، وتلك عشرة كاملة ، فأقول :
وللحاجة الماسَّة للكتابة في مثل هذا الموضوع المعاصر والحي على ساحة اليوم ، والذين يمتُّ لصميم دين كل مسلم بِصِلةٍ أوثقَ ما تكون الصلات في كل الأحكام والعبادات ، ليعبد الله على بصيرة ، وليدله على العلم الداعي إلى الهدى بدليله ، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
والعلم معرفة الهدى بدليله*** ما ذاك والتقليد مستويان(2)
قلة الكتابة الخاصة فيه في واقعنا المعاصر، لاسيما رسائل الماجستير والدكتوراه ؛ بل إنني لم أعثر بعد على من كتب فيه على وجه الاستقلال رسالة(ماجستير أو دكتوراه ) إلى وقت تحرير هذه السطور .
وبالمقابل فإنك واجدٌ وفرة المادة العلمية وغزارتها فيه، فلا تكاد تجد سورة من القرآن إلا وتتحدث عن الكذب والجهل والافتراء ، ولا سِفْراً من أسفار السنة إلاّ وفيه باب أو فصل عن ذلك، مما يحفز الهمم لجمع شتاته، ولمِّ شعثه، والكتابة فيه .
__________
(1) باختصار وتصرف من التعالم وأثره على الفكر والكتاب( ص 9 – 11 )
(2) القصيدة النونية - (ج 1 / ص 65)(1/5)
غفلة أو تغافل كثير من الناس لهذا الموضوع المهم والحساس والخطير، وتراخي موقفهم من الجناة الذين يفتوى بغير علم ، ومايجب عليهم تجاههم ، كيف وقد تهافتوا على منصب الإفتاء تهافت الفراش على النار ؟!.
*******
وبعد ؛ ففي هذا البحث شآبيبُ من القول, بعضها آخذ برقاب بعض, بقوالب متعاضدة. أشكالها محيطة بمعانيها, عسى أن تكون ردماً عن زحف التهافت المهول على الفتوى بغير علم, أقيدها نصيحة لمن يخضع للحق, وإقامة للحجة في مقام المحجة بين الخلق. أما من استولى عليه الاغتلام في الجهالة, وصار على قلبه قفلٌ ضُلَّ مفتاحه, ولم يشامِّ العلم , فهذا لا ينفعه إلا يوم أن تشهد عليه أعضاؤه في يوم معاده.
فيا مَفتونون فمُفتون بجهلكم : انتهوا خيراً لكم ، وإلا فيا ويلكم يوم تبلى السرائر ، وحينها يعلم كل متشبِّع بما لم يُعْطَ إلى أي انحطاط هو صائر ، ويداك أوكتا أو فوك نفخ ، وعلى نفسها تجنى براقش(1) !! .
منهجي في البحث:
1. اخترت في هذا البحث اتباع المنهج الوصفي الذي يقوم على التحليل، حيث قمت باستعراض ما دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، واتفقت عليها كلمة علماء الأمة. وقمت بتصنيفها حسب شروط وآداب الإفتاء بلا علم ، ومباحثه ومحاذيره وأسبابه وأضراره ، مبوباً ومستدلاً لها.
2. رجعت في استقاء هذه المباحث إلى كثير من كتب الأصول، ومصادره الأصلية باعتبار أحكام الفتوى ومتعلقاتها مبحثاً من مباحث الأصول ابتداءاً .
3. الْتزمْت الاستدلال بالقرآن الكريم، والأدلة الصحيحة من السنة، مع تخريجها وذكر من صححها لما كان في غير صحيحي البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى - . كما قمت بتحقيق ونسبة الآراء والأقوال إلى قائليها ، مع التعليق عليها أن أمكن .
__________
(1) هذان مثلان يضربان لمن يجني على نفسه ، فيعمل عملاً يرجع ضرره إليه. انظر: مجمع الأمثال ج 1 / ص 202 و376 ).(1/6)
حرصت أن أفرد فصلاً لمستجدات ونوازل عصرية ، أحسب الواضعين لهذا البحث بالوزارة - إنما قصدوه بالأصالة ابتداءاً حين أعلنوا عن هذه المسابقة – فجزاهم الله خيراً - . وهذه النوازل هي التي أحدثت القلاقل ، فجرت الويلات تلو الويلات ، ومن جرائها صار الكلام بالشرع كلأً مباحاً يقتاته كل محلِّل ومحرم بغير علم ؛ بل كم استبيحت بسببهم دماء وأموال ، وكم ساءت من أحوال – والله المستعان - . وقد جعلتها على نوعين:
أ- تأملات في أحداث التفجيرات و التكفيرات .
ب - وقفة مع الفتاوى في الإنترنت والفضائيات .
في توثيق الهوامش السفلية اقتصرت على ذكر اسم الكتاب مختصرا مع ذكر اسم مؤلفه . أما في فهرس المراجع فكنت أذكر المؤلف باسم شهرته مثل ابن الجوزي مع اذكر اسمه الكامل واسم مؤلَّفه.
قمت بإعداد فهارس تحليلية في نهاية البحث للشواهد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار، والمصادر، والمراجع .
أما ما سِرْتُ عليه في خطة البحث فكما يلي :
الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَثَرُهَا عَلَى الْمُجْتَمَعِ
وتشتمل على مقدمة وأربعة أبواب.
المقدمة: وقد مضت وتضمنت : أهمية الموضوع والمؤلفات فيه ، والأمور المعينة والمعيقة عن إتمام البحث ، والمنهج الذي سلكته من خلال خطة البحث.
الباب الأول: وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول : وتحته مبحثان :
1- فضل العلم والعلماء .
2- حفظ منزلة العلماء .
الفصل الثاني : وتحته مبحثان :
حكم اختلاف العلماء .
أسباب اختلاف العلماء .
الفصل الثالث : وتحته أربعة مباحث :
1-تعريف الفتوى .
2- الفرق بين الإفتاء والاجتهاد .
3- الفرق بين الإفتاء والقضاء .
4- حكم الإفتاء .
الفصل الرابع : وتحته مبحثان :
1-منصب الإفتاء ومكانته الشرعية عبر التاريخ .
2- المُفْتُون عبر القرون .
الباب الثاني : وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : شروط وأدوات الإفتاء .
الفصل الثاني : أقسام ودرجات المُفْتِين .
الفصل الثالث : وتحته مبحثان :(1/7)
1- آداب وصفات المفتين الواجبة .
2- آداب وصفات المفتين المستحبة .
الباب الثالث : وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : حكم وأدلة الفتوى بغير علم .
الفصل الثاني : حال السلف والصحابة والعلماء في الحذر والتحذير من الفتوى بغير علم .
الفصل الثالث : مظاهر ونماذج للفتوى بغير علم .
الباب الرابع : وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : أسباب الجرأة على الفتوى بغير علم .
الفصل الثاني : أضرار وأخطار الجرأة على الفتوى بغير علم .
الفصل الثالث : وتحته توطئة ومبحثان :
1-وقفة مع التفجيرات و التكفيرات .
2- وقفة مع الفتاوى في الإنترنت والفضائيات .
الخاتمة: وأذكر فيها أهم نتائج البحث والتوصيات .
المعينات والمعيقات في البحث:
فأما المعينات فأولها :
رغبتي السابقة الجامحة ، مع ما كان عندي لها من جمع مُسبَق ، وتهيؤ الفرصة السانحة في خاطري للتنقيب عن مداخل ومخارج هذه الهوة السحيقة ( الفتوى بغير علم ) إعذاراً وإنذاراً لنفسي ولمن أراه من إخواني ، ولأساهم في مداواة هذا الجرح الغائر الذي ينكأ فيه من لا خلاق له .
كثرة المباحث التي تطرق هذا الباب تحذيراً وإنذاراً ، لا على الاستقلال ؛ وإنما هي مبثوثة في كتب والعقائد والفقه وأصوله . زد عليه ؛ فإني وجدت مادة ثرية وكنزاً ثميناً قد جهد في جمعه إمام قدير وعالم كبير ، ألا وهو ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتابه الرصين : إعلام الموقعين عن رب العالمين .(1/8)
وأما الصعوبات والمعوقات التي واجهتني إبّان كتابتي وبحثي فيه فهي واحدة ؛ ألا وهي : تشعبه وكثرة مباحثه وتعدد فصوله وأبوابه وغزارتها، فموضوع الفتوى بغير علم لكثرة علائقه وطرائقه كان جمع شتاته عسيراً، ولمِّ شعثه عويصاً ، كما كان الوقت المفترض قصيراً ، فالوقوف على أحوال هذا النازلة بالتمام والكمال صعب ، إلا أن العقلاء اتفقوا على أن ما لا يدرك كله لا يترك كله . وهذا أوان الشروع في المقصود ، ولكني قبل أن أفيض إلى ما أنا بصدده لأحمد الله وأشكره أن وفقني للكشف عن مكنونات هذا البحث الخليق بالبحث ، ثم أشكر الكرام الكاتبين لهذه المسابقة في هذه البحوث ذات العناوين الطيبة النافعة .
وقد بذلت جهدي في تكميله بقدر البضاعة المزجاة من كاتبه ، والله المسؤول أن يجعل ما كتبته لوجهه خالصا وينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة ، وأن يجعله أبعد الناس مما حذر منه ؛ إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
حرره / راشد بن عبدالرحمن بن رِدْن البِداح
معلم بمدرسة الإمام محمد بن سعود الثانوية بمحافظة الزلفي
وخطيب جامع ابن عثيمين -رحمه الله تعالى –
عصر الخميس 4/2/1428هـ
الباب الأول:
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول : وتحته مبحثان :
1- فضل العلم والعلماء .
2- حفظ منزلة العلماء .
الفصل الثاني : وتحته مبحثان :
حكم اختلاف العلماء .
أسباب اختلاف العلماء .
الفصل الثالث : وتحته أربعة مباحث :
1-تعريف الفتوى .
2- الفرق بين الإفتاء والاجتهاد .
3- الفرق بين الإفتاء والقضاء .
4- حكم الإفتاء .
الفصل الرابع : وتحته مبحثان :
1-منصب الإفتاء ومكانته الشرعية عبر التاريخ .
2- المُفْتُون عبر القرون .
الباب الأول: وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: وتحته مبحثان:
1- فضل العلم والعلماء :(1/9)
تضافرت وتكاثرت الأدلة الشرعية والدلائل المرعية في بيان فضل هذا الباب العظيم وأهله ، وأسهب العلماء في بيان فضيلة ما مَنَّ الله عليهم به من الفقه في الدين ، وألفوا في ذلك مؤلفات مفردة وملحقة قديماً وحديثاً ، ومن أوعاها وأوعبها ذلك السفر الجليل ( مفتاح دار السعادة ) للإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى- ؛ فقد أفاض بذكر فضائل العلم حتى أصلها إلى مائة وثلاث وخمسين فضيلة(1) ، وها أنا أختار وأختصر منها ماراق وشاق ، وما به على غيره فاق ، فإلى ما قال – رحمه الله تعالى - :
1- أن الله سبحانه استشهد بأولي العلم على أجلِّ مشهود عليه ، وهوتوحيده ؛ فقال [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] والله لا يستشهد من خلقه إلا العدول..فهم بمنزلة آدلته وآياته وبراهينه الدالة على توحيده..وكل من ناله الهدى بسبب شهادتهم ، فلهم من الأجر مثل أجره ، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله .
__________
(1) قد مَنَّ الله على الباحث فقرأ هذا الكتاب كله ، وأعاد قراءة المبحث المتعلق بالعلم ، وهو يقع في أكثر من 300 صفحة ، وقد استخلصت منها ما وجدته أحسن وقعاً ، وأبلغ دلالة . ولطوله فليعلم أني لم أراعِ ترقيم مؤلفه .(1/10)
2- أنه سبحانه أخبر عن رفعة درجات اهل العلم والايمان خاصة فقال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] وقد أخبر سبحانه في كتابه برفع الدرجات في أربعة مواضع أحدها هذا وفي ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لأهل الايمان الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والرابع الرفعة بالجهاد فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين .
3- أن في قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم بيان فضل العلم من وجوه ؛ أحدها : أنه سبحانه أظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم فقال [يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] أقروا له بالفضل..فدل على أن العلم أشرف ما في الانسان .. ونظير هذا ما فعله بنبيه يوسف عليه السلام لما أراد اظهار فضله وشرفه على أهل زمانه كلهم أظهر للملك وأهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماء التعبير .. فدل على أن صورة العلم عند بني آدم أبهى وأحسن من الصورة الحسية ولو كانت أجمل صورة .
4- أن الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها ، وأباح صيد الكلب المعلَّم.. ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء .
5- أن الله سبحانه أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوارة بيده ، وكلَّمه : أنه رحل إلى رجل عالم .. حتى لقى النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل .(1/11)
6- أنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطاناً .قال ابن عباس - رضى الله عنهما - : ( كل سلطان في القرآن فهو حجة )(1) . وهذا كقوله تعالى [إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ] ؛ بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد ، ولهذا ينقاد الناس للحجة مالا ينقادون لليد .
7- ما جاء في حديث معاوية - رضى الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) (2) . وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يُرِدْ به خيراً ، كما أن من أراد به خيراً فقَّهَه في دينه ، ومن فقَّهه في دينه فقد أراد به خيراً .
8- أن الطريق التي يسلكها إلى الجنة جزاءً على سلوكه في الدنيا : طريق العلم الموصلة إلى رضا ربه ، ووضع الملائكة أجنحتها له ، تواضعاً له وتوقيراً ، وإكراماً لما يحمله من ميراث النبوة ؛ لأنه طالب لما به حياة العالَم ونجاته ، ففيه شبه من الملائكة ، وبينه وبينهم تناسب ؛ فان الملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم ، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى .. فإذا طلب العبدُ العلمَ فقد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله .. وإذا كانت الملائكة تستغفر للمؤمنين ؛ فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم ؟
__________
(1) تفسير الطبري - (ج 19 / ص 444) .
(2) أخرجه البخاري في " صحيحه " كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابٌ : مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا . رقم 71، ومسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : الزَّكَاةُ . بَابٌ : النَّهْيُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ . رقم 1037-1(1/12)
9- ما رواه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) (1) . وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله لأن قوام الدين بالعلم والجهاد ؛ ولهذا كان الجهاد نوعين : جهاد باليد والسنان ، وهذا المشارك فيه كثير . والثاني : الجهاد بالحجة والبيان ، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل ، وهو أفضل الجهادين ؛ لعظم منفعته ، وشدة مؤنته وكثرة أعدائه.
10- أن أفضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة.. وبعدهم خلفاء الرسل حقاً ، وورثتهم دون الناس ، وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علماً وعملاً ، وهداية وإرشاداً وصبراً وجهاداً ، وهؤلاء هم الصديقون .. قال الله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ] فذكر مراتب السعداء وهي أربعة ، وهم أهل الجنة - جعلنا الله منهم بمنه وكرمه - .
11- أن حاجة العباد إلى العلم ضرورية ، فوق حاجة الجسم إلى الغذاء ؛ لأن الجسم يحتاج إلى الغذاء في اليوم مرة أو مرتين ، وحاجة الإنسان إلى العلم بعدد الأنفاس ؛ لأن كل نفَس من أنفاسه فهو محتاج فيه ..وقد ذكر الإمام أحمد هذا المعنى بعينه ؛ فقال : الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين ، والعلم يُحتاج إليه كل وقت . وبالجملة ؛ فالعلم للقلب مثل الماء للسمك ، إذا فقده مات .
__________
(1) أخرجه الترمذي في "سننه" أَبْوَابٌ : الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابٌ : فَضْلُ طَلَبِ الْعِلْمِ رقم 2647 قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .(1/13)
12- أن صاحب العلم أقل تعباً وعملاً ، وأكثر أجراً..واعتبر هذا بحال الصديق فإنه أفضل الأمة ، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملاً وحجاً وصوماً وصلاةً وقراءةً منه .
ويحكى عن بعض العلماء : أنه ركب مع تجار في مركب ، فانكسرت بهم السفينة ، فأصبحوا بعد عزِّ الغنى في ذل الفقر ، ووصل العالم إلى البلد فأُكرِم ، وقُصد بأنواع التحَف والكرامات ، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم ؛ قالوا له : هل لك إلى قومك كتاب أو حاجة ؟ فقال : نعم ؛تقولون لهم : إذا اتخدتم مالاً لايغرق إذا انكسرت السفينة، فاتخذوا العلم تجارة .
13- أن كثيراً من الأئمة صرحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم ؛ فقال الشافعي : ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم .. وقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : ( لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها : لولا أن أحمِل ، أو أجهِّز جيشاً في سبيل الله ، ولولا مكابدة هذا الليل ، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام ، كما ينتقى أطايب التمر ؛ لما أحببت البقاء ) . فالأول الجهاد ، والثاني قيام الليل ، والثالث مذاكرة العلم . قال شيخنا(1) : وهذه الأمور الثلاثة اجتمعت في الصحابة بكمالهم ، وتفرقت فيمن بعدهم .
__________
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - .(1/14)
14- في حديث الثلاثة الذين انتهوا إلى رسول الله ^ وهو جالس في حلقة ، فأعرض أحدهم واستحى الآخر ، فجلس خلفهم ، وجلس الثالث في فرجة في الحلقة ، فقال النبي ^ : ( أما أحدهم فأوى إلى الله ، فآواه الله ، وأما الآخر فاستيحا ، فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض ، فأعرض الله عنه )(1) . فلولم يكن لطالب العلم إلا أن الله يؤويه إليه، ولا يعرض عنه ، لكفى به فضلاً .
15- ما روي عن النبي ^ من وجوه متعددة أنه قال : ( يحمل هذا العلم من كل خلَفٍ عُدُوله ، يَنْفُون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )(2) . وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه وسلم لحمله العلم الذي بعث به وهو المشار اليه في قوله هذا العلم فكل من حمل العلم المشار اليه لا بد وان يكون عدلا .
__________
(1) أخرجه البخاري " كِتَابٌ : الصَّلَاةُ . بَابُ الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ . رقم 474كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ . رقم 66ومسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : السَّلَامُ . بَابٌ : مَنْ أَتَى مَجْلِسًا فَوَجَدَ فُرْجَةً فَجَلَسَ فِيهَا رقم 2176-1
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى(10 / 209)وابن بطة في الإبانة الكبرى (ص 37) والطحاوي في مشكل الآثار (8 / 373) . وقال في فتح المغيث (1 / 266) : صحح الحديث الإمام أحمد ، وكذا نقل العسكري في الأمثال عن أبي موسى عيسى بن صبيح تصحيحه ، وكذا ابن عبد البر و ابن الجوزي . وصحّحه العلائي في ( بغية المُلتمس ) 34 ـ 35. وحسنه ابن القيم كما هو مثبَت . وقال الألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 83: ( لكن الحديث قد رُوي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة ) .(1/15)
16- أن كثيراً من الأخلاق التي لا تُحمد في الشخص ، بل يُذم عليها ؛ تحمد في طلب العلم ، كالملَق ، وترك الاستحياء ، والذل ، والتردد إلى أبواب العلماء ، ونحوها .. وإنما حُمدت هذه الأخلاق في طلب العلم ؛ لأنها طريق إلى تحصيله ، فكانت من كمال الرجل، ومفضية إلى كماله .
17- أن سليمان - عليه السلام - لما توعَّد الهدهد بأن يعذبه عذاباً شديداً ، أو يذبحه ؛ إنما نجا منه بالعلم ، وأقدم عليه في خطابه له بقوله : [أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ] . وهذا الخطاب إنما جرَّأه عليه العلم ، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان ، مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم . (1) أ هـ .
المبحث الثاني : حفظ منزلة العلماء :
ولما كان العلم بهذه المثابة فقد رفع الله بالعلم العلماء ، ووضع بالجهل الجهلاء . والجهل يكفي في بيان ذمه أن الجاهل يتبرأ منه، ويكفي في فضل العلم أن يلتمسه حتى أهل الجهالة (2) . قال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى - : من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع(3) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1 / 86 – 393 )
(2) العلماء والميثاق للطريفي - ( ص 1)
(3) صيد الخاطر (ص 51)(1/16)
والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل ، فكانوا كلما هلك نبي خلَفه نبي . وهم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف ، وهم صمام أمان الأمة وبقاؤهم نجاة الأمة ، وهلَكتهم هلَكتها ، ولذا فقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله ^ يقول : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ، ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ) (1) .
ولقد جعلهم الله غرساً يتنامى ، ويبقى نفعهم ولو ماتوا ، فعن أبي عنبة الخولاني - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ^ : ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته )(2)
__________
(1) أخرجه البخاري في " صحيحه " كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابٌ : كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ ؟ رقم 100ومسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : الْعِلْمُ بَابٌ : رَفْعُ الْعِلْمِ رقم 2673-4
(2) أخرجه ابن ماجه في "سننه" المقدمة بَابٌ : اتِّبَاعُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ رقم 8 . وقد صححه ابن حبان والبوصيري ، وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (ج 5 / ص 441)(1/17)
. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - :( وغرس الله هم أهل العلم والعمل ، فلا يزالون يغرسون العلم في قلوب مَن أهَّلَهم الله لذلك ، وارتضاهم..فإن العالِم إذا زرع علمه عند غيره ، ثم مات جرى عليه أجره ، وبقي له ذِكْره ، وهو عمر ثانٍ ، وحياة أخرى ، وذلك أحق ما تنافس فيه المتنافسون ، ورغب فيه الراغبون . فالعالم بما جاء به الرسول العامل به أطوع في أهل الارض من كل أحد ، فإذا مات أحيا الله ذكره ، ونشر له في العالمين أحسن الثناء ، فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس ، والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس . ومن تأمل أحوال أئمة الاسلام ، كأئمة الحديث والفقه ؛ كيف هم تحت التراب ، وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم ، لم يَفقدوا منهم إلا صورَهم ، وإلا فذِكْرهم وحديثهم ، والثناء عليهم غير منقطع . وهذه هي الحياة حقاً ، حتى عُدَّ ذلك حياة ثانية ، كما قال المتنبي :
ذِكْر الفتى عيشه الثاني ، وحاجته ... ما فاته ، وفضول العيش أشغالُ(1)
فلما كان صلاح الوجود بالعلماء ،ولولاهم كان الناس كالبهائم ؛ بل أسوأ حالاً: كان موت العالم مصيبةً لا يجبرها إلا خَلَف غيره له ، وأيضا فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك ، فموتهم فساد لنظام العالم .ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفاً عن سالف ، يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده )(2) .
__________
(1) شرح ديوان المتنبي للواحدي(1 / 352 )
(2) مفتاح دار السعادة (1 / 226 )(1/18)
فهؤلاء العلماء ينبغي أن يكون مقرهم سويداءَ القلوب ، وحَدَقَ الُمقَل ، وأن يُبَوَّأوا المكانة التي بوأهم الله إياها ، ويُعطَوا حقوقهم اللائقة بهم بلا إفراط ولا تفريط ؛ فلهم حقوق كبيرة وكثيرة ، وأهمها حقان ، تجاوزهما كثير من المسلمين في مجالسهم ، وصحفهم ومنتدياتهم ، وكتاباتهم ؛ فالحق الأول : أن تكون أعراضهم مُصانة ، وحرماتهم محفوظة ، وأن لا يُسْلَموا إلى من أُعطوا بسطةً في المقال ، أو استطالة في المقام(1) .
ويكفي في خطر الوقوع في أعراض العلماء أنه من أسباب سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية . وقد ذكروا عن أحد الفقهاء والقضاة الشافعية - وقد درَّس وأفتى - فيما قال عنه الجمال المصري: ( إنه شاهده عند وفاته, وقد اندلع لسانه واسودَّ , فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي ) رحمهم الله جميعاً (2) . وذكر نحوه السخاوي لشخص آخر من كرمان من اليمن ، كان يطلق لسانه في النووي ، فلم يمت حتى سقط لسانه(3) . وتكلم بعض المجازفين بما يُعَنِّيه ولا يَعْنيه، وبسط المقال في أحد أهل العلم ، فلم يلبث أن أصابته بشوم إساءَته علل منكرة، وذكر أنه انشق جوفه، ومات ميتة سوء، واشتهر بين من عرف حاله ، وسمع مقالة : إن لحم فلان سَمَّهُ !! يعنون أن لحوم العلماء مسمومة(4) .
ولما قال رجل لعمرو بن عبيد : يا أبا عثمان ! أني لأرحمك مما يقول الناس فيك ، قال : يا ابن أخي ! أسمعتني أقول فيهم شيئاً ؟ قال : لا ، قال : فإياهم فأرحم .
__________
(1) لحوم العلماء مسمومة /د. ناصر بن سليمان العُمر
(2) الدرر الكامنة 4/106
(3) المنهل العذب الروي - (ج 1 / ص 17)
(4) التدوين في أخبار قزوين - (ج 1 / ص 137)(1/19)
قال ابن عساكر - رحمه الله تعالى - : وكل من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ، بلاه الله - عز وجل - قبل موته بموت القلب . وذكر رجل بشيء عند الحسن بن ذكوان ، فقال : مه ! لا تذكر العلماء بشيء ؛ فيميت الله قلبك (1) .
وهاك الآن صوراً من عدوانهم وتطاولهم في أزماننا الأخيرة : فهذا أحدهم يعيِّر العلماء بأنهم: فقهاء الحيض والنفاس! وآخر يصف لجنة الفتوى في السعودية بأنها فاتيكان المسلمين! وثالث يمارس التكفير المقنَّع باتهام هذا العالِم بأنه ماسوني!، وذاك الداعية بأنه عميل كذا!، أو جاسوس كذا! [وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ] .
إن محاولة (هدم القمم) شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخْزَم ، إنما يراد منها التوصل إلى هدم الدين وإطفاء نوره هي سياسة قديمة قِدم الكائدين لهذا الدين ، ولربما عاونهم على مسلمون ضعيفو إيمان ، تنطلي عليهم شُبَه مرضى الشبهات ، فهم سماعون للمنافقين والكافرين ، كما سماهم الله سبحانه فقال : [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ] .
أما : لماذا الدفاع عن العلماء ؟ فلأمور منها :
أولاً: لأن العلماء هم حملة الرسالة بعد الأنبياء، وهم من يبلغون دين الله إلى الناس ، فإذا تزعزعت ثقة الناس في علمائهم ؛ فمن الذي سيقود الأمة إلى بر الأمان وطريق النجاة؟ خصوصاً في مثل هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والشبهات ؟
ثانياً: لأن الغيبة بجميع أنواعها محرمة، بل كبيرة من كبائر الذنوب، ويشتد تحريمها إذا كانت في العلماء .
ثالثاً: لأن كثيراً ممن يترصد لأخطاء العلماء ، ويفرح لزلاتهم وينشرها – سواء في مجلدات، أو في مطويات، أو على أشرطة أو في المجالس الخاصة – لم يُعرفوا بالعلم والرسوخ ؛ بل أكثرهم إنما عُرِفوا واشتهروا بطعنهم في إخوانهم الدعاة، ونشرهم لزلاتهم لا غير .
__________
(1) تبيين كذب المفتري / ابن عساكر ( ص 321 )(1/20)
رابعاً: لأن الوقوع في أعراض العلماء من أسباب سوء الخاتمة ، وقد سبق بيانها .
********************
************
******
الفصل الثاني: وتحته مبحثان :
حكم اختلاف العلماء , والموقف منه :
الخلاف بين العلماء لابد أن نوقن أنه سنة كونية لا تتغير ؛ بل هومن أعظم آيات الله - عزَّ وجلَّ - حين خلق الناس مختلفين في عقولهم وأفهامهم ، كما اختلفوا في ألوانهم وألسنتهم . وحينها فلا ننزعج من التباين بين علماء الشريعة في الأحكام الفقهية ؛ لأنه اختلاف سائغ جارٍ وفق سنن الله الكونية .
إلا أن الاختلاف الذي لا يسوغ ولا يقبل إذا كان اختلافاً في الأصول والعقائد ، ومن اختلف فيها فهو شقي بعيد عن الرحمة ، وهو داخل ضمناً تحت قول الحق سبحانه : [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] {هود:119} ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - : ( أَتْبع الناس للرسول ^ أقلهم اختلافاً ، كأهل الحديث والسنة ؛ فإنهم أقل اختلافاً من جميع الطوائف ، ثم مَن كان إليهم أقرب ، مِن جميع الطوائف المنتسبة إلى السنة ؛ كانوا أقل اختلافاً . فأما مَن بَعُد مِن السنة ، كالمعتزلة ، والرافضة ؛ فتجدهم أكثر الطوائف اختلافاً ) (1) .
لكن ثمت إشارة مهمة ، حريٌ أن تسترعى في مقام الزلل في العقيدة ، كمن تأوَّل في الصفات ، أو تجاوز في باب التوسل ، وتلكم الإشارة هي : أنه لابد أن يعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً ؛ يتعمد مخالفة رسول الله ^ في شيء من سنته ؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله ^ .
********
أسباب اختلاف العلماء :
__________
(1) الرد على المنطقيين لابن تيمية( 1 / 334 )(1/21)
ما دام أن العدالة في العلماء قائمة ثابتة مقبولة ، وذلك حينما تأتي من أهل الاجتهاد ، الذين جعلهم النبي ^ مأجورين ولو أخطأوا ، وذلك حينما قال فيهم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ، ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ، ثم أخطأ فله أجر )(1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى – معتذراً للعلماء ، ومبيِّناً أسباب اختلافهم ، في كتابه الرائع الماتع ( رفع الملام عن الأئمة الإعلام ) : ( فإنا لا نعتقد في القوم العصمة ؛ بل تجوز عليهم الذنوب ، ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات ؛ لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة ، والأحوال السنية ، وأنهم لم يكونوا مُصِرِّين على ذنب ، والمجتهد معذور ؛ بل مأجور . وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل: من لعنة ، أو غضب ، أو عذاب ، ونحو ذلك ؛ فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا ، أو فعله داخل في هذا الوعيد . . و إذا وُجد لواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ؛ فلا بد له من عذر في تركه . وجميع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي ^ قاله . والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول . والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة .
__________
(1) أخرجه البخاري في " صحيحه " كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . بَابُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ . رقم 7352
ومسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : الْأَقْضِيَةُ بَابٌ : بَيَانُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ رقم 1716-1(1/22)
السبب الأول: ألا يكون الحديث قد بلغه . . وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث ؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله ^ لم تكن لأحد من الأمة . . ولا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا ؛ لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي ^ وفعله ؛ فيما يتعلق بالأحكام : فليس في الأمة مجتهد ؛ وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه ، بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل .
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره .. ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه ؛ لاطلاعه على سبب جارح ، وقد يكون الصواب مع الآخر ؛ لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح .. وهذا باب واسع .
السبب الرابع: اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره .
السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ، لكن نسيه .
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث تارة ؛ لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده ، مثل لفظ : المزابنة والمحاقلة والمخابرة .
السبب السابع: اعتقاده أن لا دلالة في الحديث .. بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة ، سواء كانت في نفس الأمر صواباً أو خطأً .
الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة ، مثل معارضة العام بخاص ؛ فإن تعارض دلالات الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض بحر خِضَم .
السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على : ضعفه ، أو نسخه ، أو تأويله ، إن كان قابلاً للتأويل بما يصلح أن يكون معارضاً بالاتفاق .
السبب العاشر: معارضته بما يدل على : ضعفه ، أو نسخه ، أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضاً ؛ أو لا يكون في الحقيقة معارضاً راجحاً .(1/23)
فهذه الأسباب العشرة ظاهرة ، وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها ؛ فإن مدارك العلم واسعة ، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء ، والعالم قد يبدي حجته ، وقد لا يبديها ، وإذا أبداها فقد تبلغنا ، وقد لا تبلغ ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه ، وقد لا ندركه ، سواء كانت الحجة صواباً في نفس الأمر أم لا ؛ إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية ، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم . . (1) .
الفصل الثالث: وتحته أربعة مباحث:
1-تعريف الفتوى .
التعريف اللغوي :
قال ابن الأثير : يُقال: أفْتَاه في المسألة يُفْتِيه إذا أجابَه . والاسْم: الفَتْوَى ، ومنه الحديث : ( الإثْم مَا حَكَّ في صَدْرك وإن أفْتَاك الناسُ عنه وأفْتَوْك ) أي : وإن جَعَلوا لك فيه رُخصة وجَوازاً (2) .
وقال ابن المنظور : فتيا وفَتْوى ؛ اسمان يوضعان موضع الإِفْتاء ، ويقال أَفْتَيْت فلاناً رؤيا رآها : إِذا عبرتها له ، وأَفْتَيته في مسأَلته : إِذا أَجبته عنها .. يقال أَفْتاه في المسأَلة يُفْتِيه : إِذا أَجابه والاسم الفَتْوى . والفُتيا تبيين المشكل من الأَحكام ، أَصله من الفَتَى ، وهو الشاب الحدث الذي شَبَّ وقَوِي ، فكأَنه يُقَوّي ما أَشكل ببيانه ، فيَشِبُّ ويصير فَتِيّاً قوّياً .(3)
وقال الفراهيدي : فقيه يفتي : أي يبين المبهم ، ويقال : الفتيا فيه كذا ، وأهل المدينة يقولون: الفتوى.(4)
__________
(1) رِسَالَةٌ رَفْعُ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ - ( ص 1)
(2) النهاية في غريب الأثر - (3 / 778) والحديث انظر تخريجه بعد أربع صفحات .
(3) لسان العرب - (15 / 145)
(4) كتاب العين - (ج 8 / ص 137)(1/24)
وقال الزبيدي : ( والفُتيا و الفُتوى ) بضمهما ( وتفتح ) أي الاخيرة ، والجمع الفتاوي ، بكسر الواو على الأصل ، وقيل : يجوز الفتح للتخفيف (1) .
وقال في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : فَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ فِي الدَّعَاوَى سَوَاءٌ وَمِثْلُهُ الْفَتْوَى وَالْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي(2) .
وقال ابن سيده : الفَتْوَى اسم ليس بصفة كذلك الفُتْيا التي هي في معناها .(3)
وأما تعريفها الاصطلاحي الشرعي :
فهي : ( الجواب عما يُشكل من المسائل الشرعية ، فالإفتاء هو إبانة الأحكام فى المسائل الشرعية ، والمفتي: هو من يتصدر للإفتاء ، والفتوى بين الناس ، وهو في زمننا المعاصر : فقيه تعيِّنه الدولة ليجيب عما يُشكل من المسائل الشرعية .
ولايختلف هذا المعنى الشرعي للفتوى والإفتاء عن المعاني اللغوية ، فالفتوى شرعاً : هي بيان الحكم الشرعي فى مسألة من المسائل ، مؤيَّداً بالدليل من القرآن الكريم ، أو السنة النبوية ، أو الاجتهاد ) (4) .
****************
2- الفرق بين الإفتاء والاجتهاد :
ولأجل أن نعْرف الاجتهاد فلنعَرِّفه كما عرَّفنا الفتوى ، فيقال :
ــ الاجتهاد:مأخوذ من الجهد ، فهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع . والمراد به هنا : بذل الفقيه الوسع في نَيْل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط . والمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه في تحصيل الأحكام الشرعية العملية بطريق الاستنباط .(5)
وعرَّفه ابن حزم فقال : هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة ، حيث يوجد ذلك الحكم .(6)
__________
(1) تاج العروس - (1 / 531)
(2) ج 3 / ص 226) .
(3) المخصص (4 / 51) .
(4) مفاهيم إسلامية / أ.د عبد الصبور مرزوق ( ص 240)
(5) فصول لطالب العلم - ( 3 / 210 )
(6) الأحكام لابن حزم - ( 8 / 156 )(1/25)
إذاً ؛ فباب الفتوى له صلة قوية بباب الاجتهاد والتقليد ، بل إن الفتوى فرع عن الاجتهاد والتقليد، إذ المفتي هو المجتهد، والمستفتي هو المقلد، لذا فإن كثيرًا من مباحث الفتوى يرجع فيها إلى كثير من مباحث الاجتهاد والتقليد.
ومع ذلك ؛ فثمت فروقاً بينهما ، حيث إن ( الإفتاء : يكون فيما علم قطعاً أو ظنّاً ، أمّا الاجتهاد فلا يكون في القطعيّ ، وأنّ الاجتهاد يتمّ بمجرّد تحصيل الفقيه الحكم في نفسه ، ولا يتمّ الإفتاء إلاّ بتبليغ الحكم للسّائل .
والّذين قالوا : إنّ المفتي هو المجتهد ، أرادوا بيان أنّ غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقةً ، وأنّ المفتي لا يكون إلاّ مجتهداً ، ولم يريدوا التّسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم ) (1) .
وبناء عليه ؛ فإن للترجيح ألفاظاً بحسب تمكُّن العالم من الاجتهاد ، وتأهله للفتوى ، وهذا ما يُعرف عند أهل الفقه بـ : ألفاظ الترجيح في الفتوى ، والمراد بها :
( ما يلي مرتبة من الأقوى إلى الأضعف : به يُفتى - الفتوى عليه - الأصح - الصحيح - المختار - الأشبه )(2) .
3- الفرق بين الإفتاء والقضاء :
يفترقان في أمور:
1- أن الإفتاء أوسع مجالاً من القضاء ؛ فيصح الإفتاء من الحر والعبد ، والرجل والمرأة ، والبعيد والقريب ، والأجنبي والصديق ، بخلاف القضاء ففيه خلاف .
2- أن القضاء مُلْزِم للخصوم ، ونافذ فيهم بخلاف الإفتاء .
3- أن القضاء بما يخالف فتوى المفتي نافذ ، ولايعدُّ نقضاً لقضاء سابق ؛ بخلاف القضاء بما يخالف قضاءاً سابقاً ، فلا يَنْفُذ .
4- المفتي لا يقضي إلا إذا ولي القضاء ، ولكن القاضي يفتي ؛ بل ويجب عليه الإفتاء إذا تعيَّن له .
5- كل ما فيه قضاء يمكن أن يكون فيه فتوى ، وليس العكس .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - ( 1 / 480 )
(2) معجم لغة الفقهاء ( ص 128)(1/26)
6- أن القضاء يقوم على خصومة يستمع فيها القاضي إلى الدعوى وأدلتها ، بخلاف الفتوى فليس لها ذلك ، إذ هي واقعة يطلب صاحبها حكم الشرع فيها .
7- أنّ الفتوى إخبار عن الحكم الشّرعيّ ، والقضاء إنشاء للحكم بين المتخاصمين
8- أن حكم القاضي جزئيّ خاصّ لا يتعدّى إلى غير المحكوم عليه وله ، وفتوى المفتي شريعة عامّة تتعلّق بالمستفتي وغيره ، فالقاضي يقضي قضاءً معيّناً على شخص معيّن ، والمفتي يفتي حكماً عامّاً كلّيّاً : أنّ من فعل كذا ترتّب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا .
9- أنّ القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق ، وتكون الفتيا بالكتابة ، والفعل ، والإشارة .(1)
4- حكم الإفتاء :
وهو ضروري للناس ؛ لأنهم لايمكن أن يكونوا جميعاً علماء بالأحكام ، ولو انقطعوا لتحصيل ذلك ، حتى يبلغوا مرتبة الاجتهاد ، لتعطل العمل ، وتوقفت الحياة ، فكان من رحمة الله تعالى بالأمة ؛ أن جعل منها علماء ومقلدين ، وأوجب على العامة من المقلدين : أن يستفتوا العلماء فيما يجهلونه ، فقال سبحانه :[ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ] . ويفسر هذه الآية ما قاله النبي ^ : ( ألا سألوا إذ لم يعلموا ؛ فإنما شفاء العِيِّ السؤال )(2) .
__________
(1) للاستزادة ، انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية - (1 / 480 ) ، فتاوى الأزهر - (10 / 315 ) .
(2) أخرجه أبو داود في "سننه" كِتَابٌ : الطَّهَارَةُ . بَابٌ : فِي الْمَجْرُوحِ يَتَيَمَّمُ . رقم 336 وصححه الألباني:صحيح الجامع (4362)(1/27)
فيجب على العامي أن يتوجه بالسؤال إلى من يثق بعلمه وعدالته ، فإذا جهل حاله كفاه أن يراه مشهوراً بين الناس بذلك ، ومع هذا ؛ فلا تبرأ ذمته بالعمل بفتواه ، إلا إذا أطمأن قلبه إليها ، فإذا كان يعلم أن الأمر فى الواقع على خلاف الفتوى لم يبرأ من الإثم ، وإن كان المفتي أعلم العلماء ؛ لقوله ^ : ( استفت قلبك ، واستفت نفسك ، - ثلاث مرات - البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس ، وأفتوك )(1) .
وأما حكم الفتوى بالنسبة للمفتي ؛ فإنه مما تتطرق إليه جميع الأحكام التكليفية الخمسة ؛ لذا يحسن توضيح ذلك على خمسة أقسام :
__________
(1) رواه أحمد في المسند : ت الأرناؤوط - (27 / 90) و الدارمي - (8 / 28) وأبو يعلى (4 / 147) وحسنه النووي في الأربعين النووية (ص 24). وقال في فيض القدير - (1 / 634) : قال النووي في "رياضه " : إسناده حسن ، وتبعه المؤلف . فكان ينبغي له الابتداء بعزوه كعادته .ورواه أيضا الطبراني .قال الحافظ العراقي : وفيه عنده - العلاء بن ثعلبة ؛ مجهول. وقال شعيب الأرنؤوط (27 / 90): إسناده ضعيف من أجل الزبير أبي عبد السلام .(1/28)
أ- حكم الإفتاء في الأصل أنه واجب ؛ فلا بد للناس من علماء يسألونهم ، ومفتين يستفتونهم . ويكون الإفتاء واجبًا : إذا كان المفتي أهلاً للإفتاء، وكانت الحاجة قائمة، ولم يوجد مفتٍ سواه، فيلزمه والحالة كذلك فتوى من استفتاه، لقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ] . وقوله تعالى:[وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] . وقال ^ ( من سئل من علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ) .(1)
ب- وقد يكون الإفتاء مستحبًا إذا كان المفتي أهلاً، وكان في البلد غيره، ولم تكن هنالك حاجة قائمة .
ج- وقد يحرم على المفتي الإفتاء ؛ وذلك إذا لم يكن عالمًا بالحكم، لئلا يدخل تحت قوله تعالى: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] فجعل الله القول عليه بلا علم من المحرمات التي لا تباح بحال ؛ ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر .
__________
(1) أخرجه أبو داود في "سننه" كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابٌ : كَرَاهِيَةُ مَنْعِ الْعِلْمِ . رقم 3658 والترمذي في "سننه" أَبْوَابٌ : الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ^ بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كِتْمَانِ الْعِلْمِ رقم 2649 وابن ماجه في "سننه" المقدمة بَابٌ : مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ رقم 261
وقد حسنه أبو داود والترمذي ، وبمعناه قال المنذري في الترغيب (1 / 51) : إسناده جيد .(1/29)
وكذلك يحرم الإفتاء فيما إذا عرف المفتي الحق ؛ فلا يجوز له أن يفتي بغيره ، فإن من أخبر عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا ، وقد قال تعالى: [وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ] . والكاذب على الله أعظم جرمًا ممن أفتى بغير علم .(1)
د- ويكره للمفتي أن يفتي في أحوال منها :
1- أن يكون على حال وانشغال قد لا يتمكن فيها من فهم السؤال ، كغضب شديد ، أو جوعٍ مفرطٍ .
2 ــ إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع ولا نص فيها .
3 ــ إذا كان المستفتي يبحث عما يوافق غرضه من الفتوي .
4 ــ إذا سأل المستفتي عما لايعنيه أو لايفيده فى دينه.
5- أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التى لايعقل لها معنى .
6- السؤال عن المتشابهات ؛ كسؤال من سأل مالكاً عن الاستواء .
7- سؤال التعنُّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. (2)
هـ- ويجوز له أن يفتي أو أن يمتنع عن إجابة السائل على حدٍ سواء : عندما يكون الإفتاء فرض كفاية على المفتي ، أي لم يتعين عليه، على النحو الذى فصّلته سابقاً.
*******************************
الفصل الرابع: وتحته مبحثان:
1-منصب الإفتاء ومكانته الشرعية عبر التاريخ .
__________
(1) باختصار وتصرف من : أعلام الموقعين لابن القيم ( 4 / 168 – 178 ) .
(2) الموافقات للشاطبي (3 / 259)(1/30)
الإفتاء منصب ؛ لكنه تكليفي لا تشريفي ، ولذا كان متقلده هيَّاباً مهيباً ، أما أنه هيَّاب فلأنه يوقِّع عن رب العالمين ، ويدخل بين الله وعباده . وأما كونه مهيباً فلأن العلم سلطان يقهر النفوس ، ويدعوها إلى مهابة حامل العلم الشرعي ، فلما كان من أخشى الناس لله ؛ كان أن جعل الله في قلوب الخلق له خشية ، كما قال - سبحانه - : [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] . ولذا من المناسب أن أذكر أنها أجمعت السير والتراجم على أن إمام دار الهجرة ؛ الإمام مالك – رحمه الله تعالى – أنه أوتي مهابة في القلوب ، حتى قال فيه القائل :
يأبى الجواب فما يراجَع هيبة ... والسائلون نَوَاكِس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان(1)
إن لكل منصبٍ تبعاته التي يستمدها من طبيعة العمل الذي يتعاطاه القائم به، ثم تعظم التبعة بقدر عظمة ذلك المنصب . إذا تقرر هذا؛ فما الظن بمنصبٍ ينطق فيه القائل باسم الله تعالى، ويترجم فيه عن الحق سبحانه، ويقوم فيه مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته، وما الظن بقلمٍ هو أعلى الأقلام، ولسانٍ هو أشرف الألسنة، الظنُّ أنْ لا منصب يسمو فوق هذا المنصب، حاشا منصب النبوة.
وإن لأهل العلم، "المستبحرين" في فقه الشريعة، ووارثي علوم الأنبياء، الماضين على سبيل "الجهاد" العلمي؛ من هذا الشرف الباذخ والمقام الشامخ؛ بقدر استبحارِهم فيه، وبمقدار نصرتهم لهذا الدين، فهؤلاء بالكتب، وأولئك بالكتائب.
ولقد كانت كراسي الدرس والفتيا من الأمرِ الأول، و( كان يقال للعلماء قديماً: الكراسي بما كانوا يعلِّمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، وَ " لأنهم المعتمَد عليهم ) (2) .
__________
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك - (ج 1 / ص 50)
(2) تفسير القرطبي - (3 / 276).(1/31)
لقد كانوا يُعظِّمون هذا المنصب، ويرون أنْ لا يعتلي الكرسي إلا من أمضى دهوراً في الدرس والبحث والتنقيب في حِلَق العلم ومعاهده، ومدونات الفقه وكراريسه، حتى تختلط هذه بلحمه ودمه، حتى إنهم كانوا يقولون: "التاجرُ مَجْدُهُ في كيسِه، والعالِم مَجْدُهُ في كرارِيسه "، ويتفاضل الناسُ عندهم بقدر تفاضلهم في هذه المنزلة، كما قيل: ( خير هذا الحيوان الأناسيّ، وخير الأناسيّ الكراسيّ ) . (1)
وإذا كان كرسي الإفتاء بهذه المثابة من الفضل وسمو الرتبة، فإن له كذلك من الذِّمام والتبعات ما ينبغي للمتسنمين له أن يستحضروها عند كل جولة من جولات الإفتاء، وكل حلقةٍ تلفازية يعقدونها لأجل ذلك، بل عند كل سؤالٍ يتصدَّون للجواب عنه.
كيف وهؤلاء هم وُرَّاث النبوة، وفي صحيح مسلم من حديث أبي رفاعة - رضي الله عنه - أنه قال للنبي ^ وهو يخطب: يا رسول الله رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترك خطبته، حتى انتهى إليَّ، فأتي بكرسي حسبتُ قوائمَه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها .(2)
إنَّه ليس المقصود بكرسي الإفتاء "هنا": ذلك المقعد الذي يمتطيه المفتي حين يمارس دوره في إفتاء الناس ؛ وإنما المقصود هذه الوظيفة ذاتها ، بكل ما تحمله من مسؤوليات تقتضي الالتزام بالأخلاق اللائقة بهذا المنصب السامق .
__________
(1) أساس البلاغة - (404)
(2) أخرجه مسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : الْجُمُعَةُ . بَابٌ : حَدِيثُ التَّعْلِيمِ فِي الْخُطْبَةِ . رقم 876-1والنسائي في "السنن الكبرى"
كِتَابٌ : الزِّينَةُ اتِّخَاذُ الْكَرَاسِيِّ رقم 9740والنسائي في "المجتبى" كِتَابٌ : الزِّينَةُ الْجُلُوسُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ رقم 5377(1/32)
ولقد كان ( منصب المفتي ) جديراً بأن يمدح ويُكَبَر ، ويوشَّح صاحبه بألقاب تليق به ، ومنها : (شيخ الاسلام) أي شيخ أهل الاسلام، وهذا الوصف غلب على من كان في منصب الإفتاء أو القضاء.(1)
وهذا أحد الشعراء المجيدين ، يمدح عالماً تأهَّل وهو أهلٌ للإفتاء ، من قِبَل الخليفة في وقته ، فيقول :
ألا هكذا ترقى هضاب المناصب ... وفي مثله يزْدان صدْر الموَاكِبِ
وقد لاح ثغر الدين وافتر ضاحكاً ... سروراً بما أسدته أيدي المواهب
بهاء وإفتاء وحزم بسؤدد ... وسعْد بإقبال وعلم بصاحب(2)
ومادام الإفتاء بهذه المثابة فلا بد أن يحمى منصبه من قبل ولاة الأمر ، وقد فعل كثير منهم – بحمد الله - على مدى تعاقب هذه القرون ، ولنستعرض وقائع ومراسم وأنظمة تؤكد هذا الأمر وتثبته :
ففي بعض وقائع تاريخية تفيد وقف الفتيا على من أذن له دون غيره, وقَصْرِها على أقوام دون آخرين ؛ منها: ما رواه ابن سيرين أن عمر قال لأبي مسعود - رضي الله عنهم - : ( نُبئتٌ أنك تُفْتى الناس, ولست بأمير فَوَل حَارَّها من تولى قارَّها ). قال الذهبي - رحمه الله تعالى - بعده:(يدل على أن مذهب عمر أن يمنع الإمام من أفتى بلا إذن ) أ.هـ. (3)
__________
(1) حاشية رد المحتار - (1 / 20) .
(2) سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر - (1 / 277)
(3) سير أعلام النبلاء - (2 / 495) .(1/33)
وقد ذكر الذهبي – أيضاً – في مواضع متفرقة عن أكثر من عالم أنه نودي بأسمائهم ليتصدروا في الفتيا للناس دون غيرهم ؛ فهذا أحدهم يقول: أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح ، فإن لم يكن عطاء ، فعبد الله بن أبي نجيح . وآخر يقول : سمعت صائحاً يصيح في المسجد الحرام أيام مروان : لا يفتي الحاج في المسجد إلا يحيى بن سعيد ، وعبيدالله بن عمر ، ومالك بن أنس ، وفي رواية : وابن الماجشون ، وفي أخرى : عبد العزيز بن أبي سلمة.(1)
وعليه ؛ فيجب على من بسط الله يده بالولاية أن يرعى للإفتاء أمرين :
أن يوجِد للناس مفتين راسخين ، يُطْمَئَنُّ لدينهم وعلمهم . وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى : أن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق به. قال مالك –رحمه الله - : "ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وفي رواية: "ما أفتيت حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعا لذلك" ؟ . قال مالك: "ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه".(2)
ويتم إيجاد هؤلاء المفتين بأحد سبيلين: ــ
الأول: أن ينتدب إمام المسلمين مفتيا لكل بلدةٍ .
__________
(1) انظرها في مواضعها من سير أعلام النبلاء - (5 / 82) و(5 / 474) و( 7 / 311) و( 8 / 108).
(2) صفة الصفوة - (1 / 216)(1/34)
الثاني: أن يستقدم أهل البلدة مفتيا يسدّ حاجتهم، أو ينتدبوا بعض أهل البلدة لطلب العلم بما يسد حاجتهم لقوله تعالى : [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] . قال ابن حزم – رحمه الله تعالى - : ( وكل من كان منا في بادية لايجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يُرحِّلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحِّل إليهم فقيها يعلمهم ، وبعث عليه السلام معاذا ً وأبا موسى إلى اليمن، وأبا عبيدة إلى البحرين، معلمين للناس أمور دينهم، ففرض ذلك على الأئمة ) (1) .
أن يقيم سوق الحجر في الفتيا على المتعالمين المتقوِّلين على الله بغير علم ؛ فإن الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان والبلدان .
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : ( من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا .
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله : ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب ، وليس له علم بالطريق ، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم ، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى ، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ، ولم يتفقه في الدين ؟ .
__________
(1) الأحكام لابن حزم - (5 / 687) .(1/35)
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء ، فسمعته يقول : قال لي بعض هؤلاء : أجعلت محتسبا على الفتوى ؟ فقلت له : يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب ؟! ) (1) .
ومضى مصب الإفتاء مصاناً عن تدنِّيه بأنصاف المتعلمين فضلاٍ عن الجاهلين ، خلا فترات من الفتور تعتريه عبر القرون ، حتى زمننا هذا الذي يتفاوت أثر هذا المنصب فيه من بلد لآخر .
ففي المملكة العربية السعودية ننعم – بحمد الله – بجهة شرعية معتبرة ، وذلك بما يسمى رسمياً بـ ( هيئة كبار العلماء ) والذين لهم جلسات محددة ، يطرحون فيها المستجدات من النوازل ، ويتولى منهم الدخول فيما يسمى بـ ( اللجنة الدائمة للإفتاء ) وهي تصدر فتاوى لكل الجهات فردية أو رسمية ، وهي مخولة ومعتمدة ومعتبرة رسمياً لإنفاذ الوزارات – مثلاً – ما يصدر منها . وكلا الجهتين يتكون منهما نخبة العلماء الذين يسمع لهم ليس في المملكة فحسب ؛ بل في العالم الإسلامي ، والأقليات المنتشرة في العالم ، كيف لا ؛ وبلدنا مهوى أفئدة المسلمين . وقد مَنَّ الله علينا بعلماء راسخين سليمي العقيدة ، ينطلقون من أصول العلم الشرعي ، ويملك عدد منهم حق الاجتهاد .
ومما يزيد الأمر حسناً أن بلادنا لا تجعل الأمر حكراً على علماء بلادها ؛ بل تستقبل علماء البلدان الإسلامية ، وتمنحهم الدولة – وفقها الله – حق الحصول على الإقامة والجنسية والعمل ، بل وصار منهم ضمن هيئة كبار العلماء في بلادنا كالشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ، وغيرهما – رحم الله الجميع - .
لكن لو خرجنا وتجولنا في بلاد أخرى كمصر – مثلاً – لوجدنا الأمر يختلف كثيراً ، ولذا نجِدُ أن جامع وجامعة الأزهر هو المثِّل الرسمي للدولة ، لكن ما حقيقته ؟ فلننظر إلى الجواب ضمن ما طبعوه باسم : فتاوى الأزهر ؛ إذ يقولون فيه :-
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (5 / 79)(1/36)
( صدر قرار رسمي بمنصب الإِفتاء ، مع منصب مشيخة الأزهر ، ثم أضيف منصب الإِفتاء إلى وزارة العدل ، فكان يختار المفتي من كبار القضاة ، ومن أعضاء المحكمة العليا الشرعية بالذات ، ثم ألغي القضاء الشرعي سنة 1955 م ، ومع ذلك بقي منصب المفتي إلى الآن ، وحصرت مهمته الرسمية فى أمرين : إثبات أوائل الشهور العربية ، وبخاصة ما فيها من مواسم ، وأخذ الرأي فى الإعدام بالقصاص ، بعد إجراءات المحاكمة ، ورأيه فى الأمر الأول مُلْزِمٌ ، كما كان رأي المحكمة العليا الشرعية قبل إلغائها مُلْزِماً، ورأيه فى الأمر الثاني استشارى غير مُلْزِم ) (1) .
وبعد هذا الاستعراض المقتضب ؛ فلنعلم مدى الشأْوِ الذي بلغه ذلكم المنصب التكليفي لا التشريفي ( منصب الإفتاء ) ، ويكفيه إرعاباً وإتعاباً ما ذكره ابن القيم – رحمه الله تعالى – إذ يقول : ( وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ )(2) .
وهذا الذي دعاهم إلى الهرب منه كمنصب وكتبعات ؛ بل يوسطون الشفاعات للإعفاء منه ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وخذ هذه القصة كدليل واحد من بين أدلة كثُر :
__________
(1) فتاوى الأزهر(10 / 315)
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 11)(1/37)
( في القرن الثاني عشر : وجهت رتبة إفتاء الشام على علي أفندي المرادي، وبعد أشهر حضر علي أفندي لدى والدي وطلب منه أن يستعفي له من الإفتاء واعتذر بأنه رأى رؤيا أزعجته كثيراً، وقال له لا أخرج من دارك حتى تخلصني من منصب الإفتاء .. فتكلم والدي في أمره فقال له عثمان بيك لا بأس بذلك ، لكن بشرط أن يكون الإفتاء لك، فقال له أنا أسعى عن غيري وأقبل لنفسي؟! لا يمكن ذلك، فقال له: هذا منصب علم وأمانة، وأنا عندي منصب لا يعزلني منه أحد وهو منصب العلم فلا أختار غيره عليه، على أني لا آمن على نفسي، وهذا منصب خطر ) .(1)
2- المُفْتُون عبر القرون :
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : ( أول من وقع عن الله هو الرسول ^ ، وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيبن ، عبد الله ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ؛ فكان يفتي عن الله بوحيه المبين ، وكان كما قال له أحكم الحاكمين : [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] . فكانت فتاويه ^ جوامع الأحكام ، ومشتملة على فصل الخطاب ، وهي في وجوب اتباعها ، وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب ، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً . وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ] .
__________
(1) حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - (1 / 332)(1/38)
ثم قام بالفتوى بعده بَرْك الإسلام ، وعصابة الإيمان ، وعسكر القرآن ، وجند الرحمن أولئك أصحابه ^ ألين الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً وأحسنها بياناً ، وأصدقها إيماناً ، وأعمُّها نصيحة ، وأقربها إلى الله وسيلة ، وكانوا بين مكثر منها ومقل . وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر .وقال أبومحمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم .. وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء .قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد ^ ..
ثم صارت الفتوى في أصحاب هؤلاء ، كسعيد بن المسيب ؛ راوية عمر وحامل علمه. قال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة : سعيد بن المسيب – وكان أفقه الناس –وعروة بن الزبير ، وكان بحراً لا تكدِّره الدلاء ،وكنتَ لا تشاء أن تجد عند عُبيد الله طريقة من علم،لا تجدها عند غيره إلا وجدت.وكان المفتون من التابعين:ابن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود . وهؤلاء هم الفقهاء السبعة . (1)
ثم جاء بعدهم الأئمة الأربعة وتلاميذهم الذين نشروا علمهم وفقههم ، واستقرت هذه المذاهب على مدى هذه القرون ، ما خلا أزمان فيها من يملك الاجتهاد المطلق ، وهم قليل على مدى هذه القرون ، ولكن الخير في هذه الأمة لا ينقطع ؛ فقد وُجد من أهل الرسوخ والفتيا ممن هو من عجائب الدنيا ، قوة وتمكناً ورسوخاً . ولنأخذ نماذج من عجائبهم وقوة حفظهم ، وثاقب فهمهم للتصدي لكآدة الفتوى وعقباتها الصَّعود .
__________
(1) إعلام الموقعين ( 1 / 11 ) .(1/39)
1- ابْنُ عَرَفَةَ ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ الْوَرْغَمِّيُّ : فِي سَنَةِ 773 وَلِيَ الْفُتْيَا بِالْجَامِعِ وَكَانَ أَشْهَرَ رِجَالِهَا فِي عَصْرِهِ وَإِلَيْهِ الْمَفْزَعُ فِيهَا مِنْ تُونُسَ وَغَيْرِهَا . قَالَ تِلْمِيذُهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَكِّيُّ تَأْتِي إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ .(1)
2- أبو السعود المفسرمحمد العمادي الحنفى المولود سنة 983 هـ مكث فى منصب الإفتاء نحواً من ثلاثين سنة ، أظهر فيها الدقة العلمية التامة، والبراعة فى الفتوى والتفنن فيها .وقد ذكروا عنه أنه كان يكتب جواب الفتوى على منوال ما يكتبه السائل من الخطاب ، فإن كان السؤال منظوماً كان الجواب منظوماً كذلك ،مع الاتفاق بينهما فى الوزن والقافية،وإن كان السؤال نثراً مسجعاً كان الجواب مثله، وإن كان بلغة العرب ؛ فالجواب بلغة العرب ، وإن كان بلغة التُرْك ؛ فالجواب بلغة التُرْك..(2) كان يقول: جلست يوماً بعد صلاة الصبح أكتب على الأسئلة المجتمعة فكتبت إلى صلاة العصر على ألف وأربعمائة واثني عشر فتيا .(3)
3- السيد محمود أفندي الأولوسي البغدادى. ولد فى سنة 1217 هـ في بغداد . قُلِّد إفتاء الحنفية فى السنة الثامنة والأربعين ، بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية ، وولي أوقاف المدرسة المرجانية، إذ كانت مشروطة لأعلم أهل البلد .(4)
4- العمادي (ت 1171 هـ) حامد بن علي ، مفتي دمشق وابن مفتيها. أقام في منصب الافتاء 34 سنة.له مؤلفات كثيرة، منها (الفتاوي) في مجلدين كبيرين، نقحها .(5)
__________
(1) شرح حدود ابن عرفة - (3 / 101)
(2) التفسير والمفسرون . د. محمد حسين الذهبى (1 / 324)
(3) النور السافر عن أخبار القرن العاشر - (1 / 119)
(4) المصدر السابق (ج 1 / ص 331)
(5) الأعلام للزركلي - (2 / 162)(1/40)
5- جامي (ت 1342 هـ ) عبد القادر ملا جامي: مفتي اللاذقية ونقيب أشرافها. قضى نحو نصف قرن في منصب الافتاء.(1)
6- شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - الذي قال فيه البزار :
(قَلَّ أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة . ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة : أن يجيز له مروياته ، وينص على أسماء جملة منها فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه ؛ بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون.. وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته!فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت إني ما رأيت بعيني مثله،ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم!) (2)
7- الصبغي مولده في سنة ثمان وخمسين ومئتين.قال الحاكم: بقي يفتي بنيسابور نيفا وخمسين سنة ولم يؤخذ عليه في فتاويه مسألة وَهِمَ فيها . (3)
8- أبو النضر الطوسي ولد في حدود الخمسين ومئتين. يفتي الناس من سبعين سنة أو نحوها، ما أخذ عليه في فتوى قط.(4)
الباب الثاني : وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : شروط وأدوات الإفتاء .
الفصل الثاني : أقسام ودرجات المُفْتِين .
الفصل الثالث : وتحته مبحثان :
1- آداب وصفات المفتين الواجبة .
2- آداب وصفات المفتين المستحبة .
الباب الثاني: وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: شروط وأدوات الإفتاء .
لابد للمتصدر للإفتاء أن يتوافر ويتظافر فيه شؤرائظ الإفتاء وأدواته . وقد أسهب في عدِّها علماء أصول الفقه ، فهي بهم ألصق ، وذلك عند كلامهم على التقليد والاجتهاد . وتكاد تكون شروطهم متفقة أو متقاربة على الأقل . وهذه الشروط هي مجملة كما يلي :
- أمّا ما يشترط في المفتي فهو أمور:
أ - الإسلام: فلا تصحّ فتيا الكافر .
ب - العقل: فلا تصحّ فتيا المجنون .
ج - البلوغ: فلا تصحّ فتيا الصّغير .
__________
(1) الأعلام للزركلي - (4 / 47)
(2) الرد الوافر - (ج 1 / ص 22)
(3) سير أعلام النبلاء - (ج 15 / ص 483)
(4) سير أعلام النبلاء - (ج 15 / ص 490)(1/41)
د -: العدالة: فلا تصحّ فتيا الفاسق عند جمهور العلماء .
هـ - الاجتهاد ( وقد سبق تعريفه ص26 ) . قال الشّافعيّ فيما رواه عنه الخطيب: لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللّه، إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب اللّه: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكّيّه ومدنيّه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللّغة، بصيراً بالشّعر، وما يحتاج إليه للسّنّة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي . ا هـ . وهذا معنى الاجتهاد .
لكن قال ابن دقيق العيد: توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم، أو استرسال الخلق في أهوائهم، فالمختار أنّ الرّاوي عن الأئمّة المتقدّمين إذا كان عدلاً متمكّناً من فهم كلام الإمام، ثمّ حكى للمقلّد قوله فإنّه يكفيه، لأنّ ذلك ممّا يغلب على ظنّ العامّيّ أنّه حكم اللّه عنده، قال: وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النّوع من الفتيا .
و- قال ابن عابدين: شرط بعضهم تيقّظ المفتي، قال: وهذا شرط في زماننا ، فلا بدّ أن يكون المفتي متيقّظاً ، يعلم حيل النّاس ودسائسهم ؛ فإنّ لبعضهم مهارةً في الحيل والتّزوير ، وقلب الكلام ، وتصوير الباطل في صورة الحقّ ، فغفلة المفتي يلزم منها : ضرر كبير في هذا الزّمان .(1/42)
وقال ابن القيّم: ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر النّاس وخداعهم وأحوالهم، فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ.. فإن لم يكن المفتي فقيهاً في معرفة أحوال النّاس تصوّر له المظلوم في صورة الظّالم وعكسه، وممّا يتعلّق بهذا ما نبّه إليه بعض العلماء من أنّه يشترط في المفتي أن يكون على علم بالأعراف اللّفظيّة للمستفتي، لئلاّ يفهم كلامه على غير وجهه، وهذا إن كان إفتاؤه في ما يتعلّق بالألفاظ كالأيمان والإقرار ونحوها .
- ولا يشترط في المفتي الحرّيّة والذّكوريّة والنّطق اتّفاقاً، فتصحّ فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة.(1)
- ولا يشترط أن يكون حافظاً لكتاب الله - تعالى - ولا لمسائل الأحكام منه بل يكفي العلم بها ليطلبها عند مواقعها .. ولا يشترط معرفة الخلاف بين الأئمة الأربعة بل أن يكون عالماً بمذهب من الأربعة ليفتي عليه ويقلده بخلاف المجتهد المطلق .(2)
**********************
************
الفصل الثاني: أقسام ودرجات المُفْتِين .
تختلف درجات المفتين ؛ فبعضهم مجتهد مطلق وبعضهم مقيد، وبعضهم مجتهد في جميع المسائل، وبعضهم في مسألة أو باب معين ، ولا يجوز للمفتي أن يتجاوز مرتبته ؛ وإلا أفتى بغير علم . فأقسامهم ودرجاتهم كما يلي :
قال أبو عمرو بن الصلاح – رحمه الله تعالى - :
( ينقسم وراء هذا إلى قسمين :
القسم الاول : المفتي المستقل وشرطه أن يكون مع ما ذكرناه قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل ..فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية وأن يكون مجتهدا مستقلا .. والمجتهد المستقل هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (1 / 11486) .
(2) الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات - (ج 1 / ص 53)(1/43)
القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل ) (1) .
وقسمهم ابن القيم - رحمه الله تعالى – باعتبار آخر إلى أربعة أقسام ، وهو باعتبار الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة ؛ فقال :
( أحدهم العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة ؛ فهو المجتهد في أحكام النوازل ، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت ، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا ؛ فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء ، ويسوغ استفتاؤهم ، ويتأدى بهم فرض الاجتهاد ، وهم الذين قال فيهم النبي ^ : ( إن الله يبعث لهذه الأمة ، على رأس كل مائة سنة : من يجدِّد لها دينها ) (2) .
النوع الثاني : مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به ؛ فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله ، عارف بها ، متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره .
النوع الثالث : من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه ، مقرر له بالدليل ، متقن لفتاويه لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها ، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة .
النوع الرابع : طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه ، وحفظت فتاويه وفروعه ، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه ، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما ما في مسألة فعلى وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج والعمل ، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه أخذوا بقوله وتركوا الحديث .
__________
(1) أدب المفتي والمستفتي - ( ص 21)
(2) أخرجه أبو داود في "سننه" أَوَّلُ كِتَابِ الْمَلَاحِمِ . بَابٌ : مَا يُذْكَرُ فِي قَرْنِ الْمِائَةِ . رقم 4291 , وقد صححه العراقي وابن حجر ( عون المعبود - 9 / 326)والسخاوي ( .المقاصد الحسنة - 1 / ص 68) .(1/44)
ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم ، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم ، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط ، متشبه بالعلماء ، محاك للفضلاء ، وفي كل طائفة من الطوائف متحقق بغيه ومحاك له متشبه به ، والله المستعان ) (1) .
الفصل الثالث: في آداب وصفات المفتين ، وتحته مبحثان:
1- آداب وصفات المفتين الواجبة .
للمفتي خصال لا بد أن يتحلى بها في نفسه وفي سائر حاله. فمنها ما قاله الإمام أحمد: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
أن يكون له علم، وحلم، ووقار، وسكينة.
أن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الكفاية، وإلا مضغه الناس.
معرفة الناس ) .
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : ( وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة ؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى ، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه ) .(2)
يجب على المفتي أن يفتي بالحق ولو خالف مذهبه ، ويحرم عليه أن يفتي بضد لفظ النص ، إلا ما كان من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فهذا قد يفتي به وقد لا يفتي، حسب النظر.
لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله ^ بأنه أحل كذا أو حرمه، إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على حله أو تحريمه، والأولى أن يقول: نكره كذا، نرى هذا حسنًا، ينبغي هذا، لا نرى هذا، ونحو ذلك مما نقل عن السلف في فتاواهم .(1).
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 71)
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 52)(1/45)
لا يجوز للمفتي أن يأخذ أجرة على فتواه من أعيان من يفتيهم، ويجوز له أن يأخذ من بيت المال ما يغنيه إن احتاج لذلك.وأما الهدية فإن كانت بغير سبب الفتوى جاز قبولها، والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى كره قبولها لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.ويحرم قبول الهدية إن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره .(1)
أن يحفظ أسرار الناس، وأن يستر ما اطلع عليه من عوراتهم .
إذا اعتدل عند المفتي قولان أو لم يعرف الحق منهما فلم يتبين له الراجح من القولين فالأظهر أنه يتوقف ولا يفتي بشيء .
****************
*********
****
1- آداب وصفات المفتين المستحبة .
للمفتي آداب مسنونة ؛ ينبغي أن يتحلى بها قبل وأثناء إصداره الفتوى ، فمن ذلك:
1- ألا يفتي في مسألة يكفيه غيره إياها، فقد كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى، ويتورعون عن الإفتاء، ويود أحدهم أن يكفيه الجواب غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها مستعينًا بالله تعالى .
2- ألا يتسرع في إصدار الفتوى إن تعينت عليه، بل عليه أن يتأمل وينظر، ولا يبادر إلى الجواب إلا بعد استفراغ الوسع، وبذل الجهد، وحصول الاطمئنان .
3- أن يستشير من يثق بدينه وعلمه، ولا يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها، فقد قال الله لنبيه ^ : [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] .
4- للمفتي أن يدل المستفتي على عالم غيره، لكن على المفتي أن يتقي الله ويرشده إلى رجل سُنة، فإنه إما أن يكون معينًا على البر والتقوى، أو على الإثم والعدوان .
5- ذكر الدليل والتعليل، فإن جمال الفتوى وروحها هو الدليل، وقول المفتي إذا ذكر معه الدليل حجة يحرم على المستفتي مخالفتها، ويبرئ المفتي من عهدة الإفتاء بلا علم .
6- التوطئة للحكم إذا كان مستغربًا لم تألفه النفوس بما يؤذن به ويدل عليه، ويقدم بين يديه مقدمات تؤنس به .
__________
(1) شرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 85)(1/46)
7- الإرشاد إلى البديل المناسب، فإن من فقه المفتي ونصحه إذا منع المستفتي مما يحتاجه أن يدله على ما هو عوض له منه، فإذا سد عليه باب المحظور فتح له باب المباح، فمتى وجد المفتي للسائل مخرجًا مشروعًا أرشده إليه ونبهه عليه .
8- ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإن النص يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان.
9- ينبغي على المفتي أن يبين للسائل الجواب بيانًا مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يوقع السائل في الحيرة والإشكال ؛ فإذا كان السؤال محتملاً استفصالُ السائل، وعدم إطلاق الجواب إلا إذا علم أنه أراد نوعًا من تلك الأنواع الممكنة في المسألة.
10- ينبغي للمفتي إذا نزلت به المسألة أن يتوجه إلى الله بصدقٍ وإخلاصٍ أن يلهمه الصواب.(1)
11- إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفقْ به، ويصبر على تفهم سؤاله، وتفهيم جوابه، فإن ثوابه جزيل.
********************************
الباب الثالث : وفيه خمسة فصول :
الفصل الأول : وتحته مبحثان :
1- حكم وأدلة الفتوى بغير علم .
2- التحذير من الفتوى بغير علم .
الفصل الثاني : وتحته مبحثان :
1- حال السلف والصحابة في الحذر والتحذير من الفتيا .
2- أقوال العلماء قديماً وحديثا في التحذير من الفتوى بغير علم .
الفصل الثالث : مظاهر ونماذج للفتوى بغير علم .
الباب الثالث: وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: حكم وأدلة الفتوى بغير علم :
ويعرف الحكم بداهة من نصوص متضافرة متظاهرة على شدة التحريم ، وشناعته ز فلنبدأ بـ :
الأدلة من القرآن الكريم :
__________
(1) باختصار وتصرف من إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 21)(1/47)
[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] .
فهذه المحرمات الأربع تحريمها لذاتها تحريما أبديا . ولنقل هنا إن أصل الشرك والكفران, وأساس البدع والعصيان, وما هو أغلظ منها ومن جميع الفواحش والآثام, والبغي والعدوان:(القول على الله تعالى بلا علم)
[وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ] .
[انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا] .
[فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] .
[وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ ] .
[قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ] .
[إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ] .
[وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ] .
[وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ] .
[وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] .
[وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] .(1/48)
[قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ] .
[وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا] .
[سَاءَ مَثَلًا القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] .
[بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] .
[وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ] .
[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] .
[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] .
[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ] .
[الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا] .
فهذه عشرون آية متفرقة من كتاب الله ؛ تدعو إلى الصدق في تبليغ الشرع ، وتحذر من القول على الله بغير علم ، وكل آية منها تستدعي شرحاً وإسهاباً . ولزاماً أنه يدخل فيها ضمناً المفتي بغير علم بلا شك .
الأدلة من السنة الصحيحة :(1/49)
في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال : سمعت رسول الله ^ يقول : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ، ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ) (1) .
روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال ^ : مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ . وعند ابن ماجه : ( بفتيا غيرَ ثبتٍ ) (2).
__________
(1) أخرجه البخاري كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابٌ : كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ ؟ رقم 100ومسلم " كِتَابٌ : الْعِلْمُ بَابٌ : رَفْعُ الْعِلْمِ رقم 2673-4
(2) 2 ) أخرجه أبو داود في "سننه" كِتَابٌ : الْعِلْمُ . بَابٌ : التَّوَقِّي فِي الْفُتْيَا . رقم 3657وابن ماجه في "سننه" المقدمة بَابٌ : اجْتِنَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ رقم 53 . وقد حسنه أبو داود والألباني .(1/50)
وروى أبوداود وابن ماجه أيضاً ، عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ، ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً ، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ . فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ^ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : ( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ ! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ) .(1) )
__________
(1) أخرجه أبو داود في "سننه" كِتَابٌ : الطَّهَارَةُ . بَابٌ : فِي الْمَجْرُوحِ يَتَيَمَّمُ . رقم 336 أخرجه ابن ماجه في "سننه" كِتَابُ الطَّهَارَةِ وَسُنَنِهَا بَابٌ : فِي الْمَجْرُوحِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ رقم 572 . وقد صححه ابن السكن ، وحسنه الألباني . ورواه أحمد وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه ابن خزيمة والحاكم ، وانتقاه ابن الجارود .(1/51)
روى الترمذي ٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ^ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ:( هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ:(ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟ (1)
الفصل الثاني : أقوال وآثار في التحذير من الفتوى بغير علم .
عن ابن حصين، قال: « إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر » .
عن أيوب، قال: « رأيت أعلم الناس بالقضاء والفتوى أشدهم منه فرارا وأشدهم منه فرقا ، وأعماهم عنه أشدهم مسارعة إليه ».
قال ابن خلدة : « يا ربيعة إني أرى الناس قد أحاطوا بك، فإذا سألك الرجل عن مسألة فلا تكن همتك أن تخلصه، ولكن لتكن همتك أن تخلص نفسك » .
عن زبيد، قال: « سألت إبراهيم عن مسألة، فقال: ما وجدت من بلدك من تسأله غيري » وقال: « ما سألت إبراهيم عن شيء، قط إلا عرفت الكراهية في وجهه » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في "سننه" أَبْوَابٌ : الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابٌ : مَا جَاءَ فِي ذَهَابِ الْعِلْمِ رقم 2653
والنسائي في "السنن الكبرى" كِتَابٌ : الْعِلْمُ كَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ رقم 5878(1/52)
قال مالك: قال القاسم بن محمد: لأن يعيش الرجل جاهلا خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم . فقال مالك: هذا كلام شديد . ثم ذكر في ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وما خصه الله عز وجل به من الفضل وما آتاه من العلم، فقال: يقول أبو بكر في ذلك الزمان: لا أدري .
عن سفيان بن عيينة قال: كان الشعبي إذا ذكر عنده الملتبس من المسائل بالصعاب قال: زباء ذات وبر(1) ، لا تنقاد ولا تنساق، لو سئل عنها أصحاب محمد ^ لأعضلت بهم » .
عن عبد الله، قال: « من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون » . قال الأعمش: قال لي الحكم: لو سمعت هذا الحديث منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي .
عن ابن عباس، قال: « من أفتى فتوى يعمي فيها فإثمها عليه » (2) .
قال الحسن: « دخلنا فاغتممنا وخرجنا فلم نزدد إلا غما: اللهم إليك نشكو هذا الغثاء الذي كنا نحدث عنه، إن أجبناهم لم يفقهوا وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عي شديد، والله لولا ما أخذ الله على العلماء في علمهم ما أنبأناهم بشيء أبدا » .
عن عبيد الله بن عمرو، قال: كنت في مجلس الأعمش فجاءه رجل فسأله عن مسألة فلم يجبه فيها، ونظر فإذا أبو حنيفة فقال: « يا نعمان، قل فيها » قال: القول فيها كذا، قال: « من أين ؟ » قال: من حديث كذا، أنت حدثتناه، قال: فقال الأعمش، « نحن الصيادلة وأنتم الأطباء » .
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: « أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه قال: في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا » .
عن ابن شبرمة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه لتميم بن حذلم: « يا تميم بن حذلم إن استطعت أن تكون المحدَّث فافعل » .
__________
(1) المقصود أَنها مسأَلةٌ مُشْكِلَةٌ، شبَّهها بالناقة النَّفُور لصُعُوبَتِها
(2) إبطال الحيل لابن بطة الحنبلي ( 71 – 87 ) .(1/53)
عن شيخ من أهل المدينة يكنى أبا إسحاق قال: « كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتوى، قال : وكانوا يدعون سعيد بن المسيب الجريء » .
عن ابن عيينة وسحنون بن سعيد قالا: « أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه » .
قال سحنون: « إني لأحفظ مسائل، منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير فلم ألام على حبس الجواب » .
عن حماد بن زيد: « أنه ذكر رجلا فأثنى عليه فقال: لم يكن يستفتى ولا يفتي » .
عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: « إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن، قالوا: ومن يعلم ما نسخ من القرآن ؟ قال عمر أو أمير لا يجد بدا أو أحمق متكلف » قال: فربما قال ابن سيرين: فلست بواحد من هذين وما أحب أن أكون الثالث.
وسئل ابن شهاب عن شيء، فقال: « ما سمعت فيه بشيء وما نزل بنا وما أنا بقائل فيه شيئا » .
عن أبي المنهال قال: « سألت زيد بن أرقم، والبراء بن عازب عن الصرف، فجعل كلما سألت أحدهما قال: سل الآخر؛ فإنه خير مني وأعلم مني » وذكر الحديث في الصرف .
قال سحنون يوما: إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم، ثم قال: ها أناذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتؤخذ به الحقوق أما كنت عن هذا غنيا .
وروي عن أبي عثمان بن الحداد أنه قال: » القاضي أيسر مأثما وأقرب إلى السلامة من الفقيه؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة (1) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ( 1 / 7 – 14 ) و (3 / 423 - 441)(1/54)
وعن الهيثم بن جميل: شَهِدْتُ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وعن مالك أيضاً: أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب".
وسئل عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف).
وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا).
وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر ) (1) .
وكان ابن هرمز : فقيه المدينة قليل الفتيا، شديد التحفظ، كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث من يرده، ثم يخبره بغير ما أفتاه.(2)
قال ابن مهدي: محرم على الرجل أن يفتي إلا في شئ سمعه من ثقة .(3)
قال أبو عقيل: كنت جالسا عند القاسم بن عبيدالله، ويحيى بن سعيد ، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شئ من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه ..قال: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة.(4)
قال عبد العزيز بن أبي سلمة : قلت لربيعة في مرضه الذي مات فيه : إنا قد تعلمنا منك ، وربما جاءنا من يستفتينا في الشئ لم نسمع فيه شيئا ، فنرى أن رأينا خير له من رأيه لنفسه فنفتيه ؟ فقال : اقعدوا ، ثم قال : ويحك يا عبد العزيز ! لأن تموت جاهلا خير من أن تقول في شئ بغير علم لا ، لا ، ثلاث مرات.(5)
__________
(1) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 13-19) .
(2) سير أعلام النبلاء - (ج 6 / ص 379) .
(3) سير أعلام النبلاء - (ج 9 / ص 206)
(4) تهذيب الكمال - (ج 23 / ص 397)
(5) تهذيب التهذيب - (ج 3 / ص 224)(1/55)
عن أبي هريرة قال: أرسل إلي عمر: ألا تعمل؟ قلت: لا، قال: لم؟ أليس قد عمل يوسف؟ قلت: يوسف نبي بن نبي ، فأخشى من عملكم ثلاثا ، أو اثنتين ، قال: أفلا تقول خمسا؟ قلت : لا، أخاف أن يشتموا عرضي ، ويأخذوا مالي ، ويضربوا ظهري، وأخاف أن أقول بغير حلم ، وأقضي بغير علم. (1)
قَالَ مَالِكٌ : لَا يَنْبَغِي لِمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ لَاْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا ، فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا فَلْيُفْتِ . (2)
وقال ابن هرمز: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده " لا أدري " حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه .
وقال الشعبي: " لا أدري " نصف العلم .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الخروج، فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال: ما شاء الله، يا هذا إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه .
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق .
قال ابن المنكدر: العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم .
وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: يا عبد الله ما علمت فقل، وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء .
وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني .
وقال ابن عباس لمولاه عكرمة: اذهب فأفت الناس وأنا لك عون، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلث مؤنة الناس (3) .
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 4 / ص 335)
(2) المدونة - (ج 12 / ص 48) .
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 284)(1/56)
وبعدُ ؛ فهذه أربعون قولاً مجتمعة من أقوال الأئمة أهل القرون المفضلة ، ثم المذاهب الأربعة المعظَّمة ؛ من لدن الصحابة الأتقياء ، والتابعين الأولياء . وكلهم أجمعوا أمرهم وأتوا صفاً يَحْذَرون ويُحَذِّرون من الإفتاء بغير العلم ، أو حتى التسرع بالإفتاء ولو بعلم .
الفصل الثالث : أقوال العلماء المحققين قديماً وحديثاً
في التحذير من الفتوى بغير علم :
ولما ذكرتُ – بحمد الله – أقوالاً عظاماً للأقوام العظماء من الصحابة والتابعين ؛ فلأذكر الآن أقوال من تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا .
ولقد انبرى الناصحون لأمتهم ، وعلى رأسهم علماؤها ، لتتعالى صيحاتهم وتتنادى وتتوالى إنذاراتهم كفعل النذير العريان ، لإطفاء حريق فتنة ( الفتوى بغير علم ) .
ولما كان حمى الدين بالإفتاء جهلاً قد استبيح ، وأساء المتعالمون بسُوْئهم حتى بدت سَوْآتهم ؛ كان لزاماً على كل غيور على دينه وعلمائه أن يَحْذر ويُحذِّر بعلم من كل فتوى ومفتٍ بغير علم , وهتك باطله وما ينطوي عليه من مسلك مُرْدٍ, - نعوذ بالله من الردى - ؛ فكما أن المتطبب بغير علم يحجر عليه لصالح الأبدان ، والمهندس الجاهل يحجر عليه لصالح البلدان ؛ فإن المفتي المتقول على الله يُحجَر عليه من الفتيا لصالح الأديان ) (1).
وفيما يلي مَسرَدٌ لأقوال من طابت منهم الفِعال ؛ من علماء ربط بينهم رحم العلم ، وإن باعدت بينهم الأحقاب ، وقطع الموت منهم الرقاب ، وشطت بهم الديار والهضاب . وهذه الأقوال لا تحتاج إلى بسط وشرح وإيضاح ؛ بل بانت فيها العبارة ، كما بان منهم القصد والإشارة ؛ فإلى ما منه يحذرون - وأنعم بهم يوم يحذرون - :
__________
(1) باختصار وتصرف من التعالم وأثره على الفكر والكتاب( ص 9 – 11 )(1/57)
قال العلامة المالكي محمد بن يوسف الشهير بالمواق ( ت 883هـ ) : هَذَا شَأْنُ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ خُرِقَ هَذَا السِّيَاجُ وَهَانَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا أَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَى الْحَالُ بِالنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ وَالْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.(1)
__________
(1) مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 17 / ص 40)(1/58)
قال الحافظ ابن بطة الحنبلي : كتب أحمد بن حنبل قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه - يعني للفتوى - حتى يكون فيه خمس خصال : ( وذكرها ) فأقول - والله العالم -: لو أن رجلا أنعم نظره، وميز فكره، وسما بطرفه، واستقصى بجهده، طالبا خصلة واحدة في أحد من فقهاء المدينة والمتصدرين للفتوى فيها لما وجدها . فإني أحسب كثيرا ممن يتصدر لهذا الشأن يرى نفسه فوق الذي قد مضى وصفهم، ويرى أنهم لو أدركوه لاحتاجوا إليه وأمموه، ويرى أن هذه الأفعال منهم والأقوال المأثورة عنهم كانت من عجزهم وقلة علمهم وضعف نحائزهم . فليتق الله عبد في نفسه وفي المسلمين من إخوانه، ولا يخاطر بها وبهم، فقال بعلم فغنم أو سكت فسلم . ولو حلف حالف لبر أو قال لصدق: إن أكثر المفتين في زماننا هذا مجانين، لأنك لا تكاد تلقى مسئولا عن مسألة متلعثما في جوابها، ولا متوقفا عنها، ولا خائفا لله ولا مراقبا له أن يقول له: من أين قلت ؟ بل يخاف ويجزع أن يقال: سئل فلان عن مسألة فلم يكن عنده فيها جواب . يريد أن يوصف بأن عنده من كل ضيق مخرجا، وفي كل متعلق متهجرا، يفتي فيما عيي عنه أهل الفتوى، ويعالج ما عجز عن علاجه الأطباء، يخبط العشوة، ويركب السهوة، لا يفكر في عاقبة، ولا يعرف العافية، إذا أكثر عليه السائلون وحاقت به الغاشية .. (1)
قال الفيرزآبادي رحمه الله تعالى في تفسيره: ومن الأمور الموجبة للغلط أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله, كما اتفق في علم الطب, فإنه كان في الزمن القديم: حكمة موروثة عن النبوة , فهزل حتى تعاطاه بعض سفلة اليهود, فلم يتشرفوا به بل رذل بهم . (2)
__________
(1) إبطال الحيل لابن بطة - (ص 38)
(2) بصائر ذوي التمييز - (ج 1 / ص 30).(1/59)
قال الشاطبي - رحمه الله تعالى - : كثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه . فلو فتح لهم باب فى مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب وهذا من المفسدات التى لا خفاء بها .. إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى . فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب .(1)
قال أبو عمرو بن الصلاح – رحمه الله تعالى - : فمن انتصب في منصب الفتيا وتصدى لها وليس على صفة واحد من هذه الأصناف الخمسة فقد باء بأمر عظيم ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم . ومن أراد التصدي للفتيا ظانا كونه من أهلها فليتهم نفسه وليتق الله ربه تبارك الله وتعالى ولا يجد عن الأخذ بالوثيقة لنفسه والنظر لها . ويحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت، ويُسرِع بالفتوى قبل استيفاء حقِّها من النظر والفكر .(2)
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - : وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله .. وهذا من أقبح الخصال وأرداها. وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها إحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف ..وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل. فقال واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم .(3)
__________
(1) الموافقات - (ج 3 / ص 146)
(2) آداب الفتوى والمفتي والمستفي - (ص 17)
(3) فضل علم السلف على الخلف - (ص 5)(1/60)
قال الحسين بن المنصور اليمني ( ت 1050هـ ) : لا ينتصب للدرس إذا لم يكن أهلاً له.. وعن الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه. . فإنه متى لم يكن أهلاً استهزئ بحاله وانتقص به، ولا يرضى ذلك لنفسه أريب ولا يتعاطاه مع الغنا عنه لبيب. . وقيل لأبي حنيفة رضي الله عنه: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه؛ فقال ألَهُمْ رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبداً.
ولبعضهم في تدريس من لا يصلح:
تصدر للتدريس كل مهوِّس ... جهولٍ يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزُلت حتى بدا من هزالها ...كُلاها وحتى سامها كل مفلس(1)
قال الصيمري والخطيب: قلَّ من حرص على الفتيا، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقُه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب.(2)
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - : وكم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع .. وقد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا قد روي.(3)
__________
(1) آداب العلماء والمتعلمين - (/ ص 9)
(2) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي - (ص 1)
(3) صيد الخاطر - (ج 1 / ص 53)(1/61)
وقال الزاهد أبو محمد إسحاق بن أحمد العلثي- رحمه الله تعالى – مخاطباً مفتياً بغير علم : وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل ، ففضل الله أُوتيته وحدك ؟ وإذا جَهَّلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم؟ ومن أجهل منك، حيث لا تصغي إلى نصيحة ناصح ؟ وتقول: من كان فلان، ومن كان فلان. من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم، من أنت إذاً ؟ فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم. فانتبه يا مسكين قبل الممات، وحَسِّن القول والعمل، فقد قرب الأجل. (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : هؤلاء المتأخِّرون من الخلافيين ونحوهم من المتفقهة أقل الناس علماً بالحديث وأبعدهم عن ضبطه ومعرفته , ولعل أحدهم أو أكثرهم لا يعرفون مظان طلب الأحاديث , ولا حملها ونقلها , ولا يميزون بين أجناسها وأنواعها وأدنى دليل على ذلك مافي كتبهم من الأحاديث التي أجمع أهل الحديث على أنه ليس لها أصل عن النبي ^ , فتارةً يجعلون الفتوى حديثًا , وتارةً تكون الكلمة محفوظة عن بعض الفقهاء , أو بعض السلف , فيجعلونها مرفوعةً إلى النبي^ , وتارة يخلطون بالحديث زيادات ليست منه , وذلك لأنهم لم يتلقوا الأحاديث ممن ضبطها وأحكمها , وإنما غايةُ المبرِّز منهم أن يجده في بعض كتب الفقه ولا يعرف من أين نقله ذلك المصِّنف . (2)
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة - (ج 1 / ص 269)
(2) تنبيه الرجل العاقل لابن تيمية - رحمه الله تعالى - ( 2/534 )(1/62)
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : فلعمر الله لا يقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالما بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعا وفرقا، ويعلم أن ذلك الحكم مطابق لأصوله وقواعده .. ومن أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا . وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء ، فسمعته يقول : قال لي بعض هؤلاء : أجعلت محتسبا على الفتوى ؟ فقلت له : يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب ؟ (1)
وفي : ( معيد النعم للسبكي- رحمه الله تعالى - : ( 63 و73 و82 ) : ولبعضهم :
إن الذي يروي ولكنه يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرةٍ تنبع أمواهها تسقي الأراضي وهي لا تشرب
وقال بعض الظرفاء في الواحد من هذه الطائِفة : إنه قليل المعرفة والمخبرة يمشي ومعه أوراق ومِحبرة ؛ معه أجزاء يدورُ بها على شيخ وعجوز , لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز .
وقال المفسر محمود الآلوسي - رحمه الله تعالى - عن هؤلاء الجهال ، مذكِّراً نفسه بمنّضة الله عليه : قدح زند مسكنته فأوري وهو من الجهال وقد دلت الآثار أن من إمارات الساعة إفتاء من ليس سوى بز الجهل بضاعة ولا شك أن قيام الساعة قريب فوقوع مثل ذلك غير عجيب وإلا فبين أهل الصدر الأول السادة الأمجاد كانت لا تمهر فتاة الإفتاء إلا بنقد الاجتهاد:
فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملاً يطمع فيها من يراها
ولست أقول هذا من نفس واجدة ؛ لا والذي شقهن خمساً من واحدة ، كيف وأنا أحمد الله تعالى على أن خلصني من نصب منصب الإفتاء وشغلني برشف رضاب فتاة التدريس في الإصباح والإمساء وأنار ليلي بتوقد وجنات ليلى الدقائق ومن على سرح فكري برياض اللطائف وجنات الحقائق ..و أني لفي نعمة من فضل ربي عز شأنه جليلة عظيمة يحق لي أن أقول غير مبال بحسود جهول:
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (5 / 79)(1/63)
سهري لتنقيح العلوم الذلي ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصةٍ ... في الدرس ابلغ من مدامة ساق(1)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم ل الشيخ - رحمه الله تعالى - : وكانت فتنة الجهال وأرباب الكسل عظيمة ، ومفضية إلى أن تبقى البراهين الشرعية ليس لها بين الأمة قيمة ، ومؤدية إلى تضليل الأمة، وفتح باب غث الرخص .(2)
وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - : إن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه . وإن كثيرًا من العامة يفتي بعضهم بعضًا بما لا يعلمون ..وإن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصًا يريد أن يستفتي عالمًا يقول له هذا العامي لا حاجة أن تستفتي، هذا أمر واضح، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال .. وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم . أرأيتم لو أن شخصًا سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئًا؟!.. وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا !! وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام .(3)
الفصل الثالث: مظاهر ونماذج للفتوى بغير علم :
لما كان التحذير من الفتوى بغير علم بهذا الحجم ، كان أن يحذره كل عاقل غير مالك لأداته ، وإلا كان أضحوكة للعالمين عبر مر الدهور وتعاقب العصور .
__________
(1) غرائب الاغتراب الآلوسي (ج 1 / ص 29)
(2) فتاوى ابن إبراهيم - (ج 6 / ص 38)
(3) كتاب العلم للعثيمين - (ص 84)(1/64)
ولأذكر الآن نماذج وأمثلة هي والله مضحكة مبكية معاً ، في سلسلة أقوال شاذة وآراء فجة يمسك المتعالم لها رواية ضعيفة, أو خلافاً شاذاً, أو فهما ممرضا فيبني عليه فتوى مجللة بحلل البيان ونضد الكلام لكنها عرية عن الدليل والبرهان فالله المستعان. وإن من له أدنى ذوق ومسكة من عقله في قلبه ينكرها بفطرته, ولن يجد لها في الشرع موئلا, ولا من أهله قائلاً.وهي تدلنا على البون الشاسع بين العالم الراسخ والمتعالم المدعي بما ليس عنده ؛ وحينها ينطبق عليه قول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - حيث يقول : ( إذا تكلم المرء في غير فنه, أتى بهذه العجائب)(1) .
والآن إلى الأمثلة المضحكة المبكية من تخبط المفتين بغير علم :
فهذا أحدهم يقول : إننا ننادي بأن الديمقراطية هي الحل، مثلما ينادي أيضا الشيوعيون بأن الشيوعية هي الحل!!!.
وأحدهم أوّل قوله عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } بأنها ليست على عمومها، وإنما هي خاصة فيمن جحد بقلبه وأنكر بلسانه أنه حكم الله عز وجل، أما إن عرف بقلبه، أن هذا الحكم حكم الله، وأقر به بلسانه، فإنه لا يكفر، وإن لم يحكم به، بل وإن أتى بما يضاده ويخالفه. وهذه " التأويلات " تجاهل فظ سمج للأدلة الشرعية الصريحة والقطعية من الكتاب والسنة والإجماع، والتي تقضي بنزع الشرعية عن كل سلطة سياسية لا تحتكم إلى الشريعة الإسلامية ولا تحكم بها!!
__________
(1) فتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 446)(1/65)
ومازالت السلسلة تتلاحق دون انتهاء. فهذا سرب آثم أفاك أشر يذهب إلى القول أن الله حرم الربا، لأنه كان ظلما واستغلالا، أما وقد صار إسعافا للفقير والمحتاج ورفعا لخلته، فقد انقلب إلى حلال، بل أصبح ضرورة. ومن بينهم قائل متحايل متلاعب بدين الله يقول : إن الربا المحرم هو ما كان الاقتراض فيه للاستهلاك أما إذا كان للاستثمار والتنمية فلا بأس.(1) !!
أما في المعاصرة فترى فواقر الرخص وبواقر الشذوذ يجتمع منها الكثر في الشخص الواحد, وأجواء العصر المادي على أهبة الاستعداد باحتضان عالِم الشقاق فتحمل له العلم الخفاق لنشر صيته في الآفاق, فيغتر بذلك أسير الحظ الزائل, وما زاد أن صار بُوقاً ينفخ به العدو الصائل. ومن شواهدها في المتعالم الواحد:الفتيا بالتلقيح الصناعي من ضرة رحم أخرى وفي صور أخرى اكتسبت إجماع أهل العصر على تحريمها حتى من بعض المؤتمرات الكافرة. والقول بجواز إنشاء بنوك حليب الأمهات, استناداً إلى قول شاذ عن أبي ثور ولا يثبت.والقول بجواز التأمين بشتى صوره.والقول في عموم [فِي سَبِيلِ اللهِ] في مصارف الزكاة ــــ لبناء المساجد والمهاجع والمستشفيات... خرقاً للإجماع كما قرره المفسرون.والقول بإباحة الغناء !!!!
وهذا مهوِّس يقول صريحاً : أي فتوى من عالم موثوق به توافق أى مذهب من المذاهب الفقهية المعروفة يجوز الأخذ بها، أيا كانت وظيفة العالم، كما يجوز له عدم الأخذ بها لأنها غير ملزمة إلا فى الأحوال التى سبق ذكرها، وذلك فيما عدا ما يصدر من المفتى الرسمى بخصوص مواعيد المناسبات الدينية التى كانت من اختصاص المحكمة العليا الشرعية، فذلك قضاء أو يشبهه، ويمكن الرجوع إلى الفتوى الخاصة بأن اختلافهم رحمة .!!!!!
__________
(1) التأويل ابراهيم بويداين - (ص 9)(1/66)
وهذا مفتون يقترح بديلاً إسلامياً للقنوات الهابطة فيقول :إن اشتراك المرأة في التمثيل أمر ضروري لابد منه ؛ لأننا لانستطيع أن نخرج المرأة من الحياة!! ثم يقول : وأي عمل درامي هادف لاتوجد فيه المرأة فهو عمل غير منطقي ودليلنا على ذلك أن القصص القرآني منذ آدم عليه السلام حتى الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام لم يهمل وجود المرأة فيه حيث آدم وحواء ، ونوح وامرأته ...!!!!
إلى آخر هذا الهراء الذي يسمونه زوراً وبهتاناً بـ :( الإسلام المستنير ) الذين انطلقوا منه تحت ضغط الواقع من منطلقات عقلانية تستدبر النص الشرعي والضابط الفقهي .
ويذكر أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - مثالين لهذ التخبط من عصره ؛ فيقول عن أحدهم :جاءته امرأة فقالت: أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر قالت: لم تكن البئر مغطاة فقال يحيى: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر .وقد كان فيهم من يقدم على الفتوى بالخطأ لئلا يرى بعين الجهل فكان فيهم من يصير بما يفتي به ضحكة فسئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى
قلت : فانظروا إلى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام على الفتوى بمثل هذا التخليط .. وهذا كله من الإخلاص بمعزل وإنما مقصودهم الرساة والمباهاة .(1)
وتذكر كتب التاريخ وتفضح وتحفظ لنا سيراً لنفر من أولئك ليبقوا عبرة للمعتبرين ، فهذا مخذول كان عرياً عن الفقه بل كان يفتى بغير علم وربما أفحش في الخطأ بحيث جمع ابن سلامة من فاحش فتاويه جملة لا توافق مذهباً وأوقفني عليها لما كنت بحلب .(2)
__________
(1) تلبيس إبليس - (ج 1 / ص 138)
(2) الضوء اللامع - (ج 5 / ص 230)(1/67)
ومن هذا القبيل الفتوى التي صدرت من الجامع الأزهر ؛ فقد طلع علينا بفتوى جديدة في هذا الصدد مفادها أن الزواج يبطل إذا خلعت المرأة جميع ملابسها أمام الرجل أثناء عملية الجماع، مما أثار بعض المشايخ الآخرين الذي أفتى أحدهم أن أي شيء يقوي العلاقة بين الزوجين مسموح به.!!!
ونشر كثير من وسائل الإعلام المحلية والخارجية، فتوى مثيرة للجدل صادرة من مجمع البحوث الإسلامية أعلى جهة فقهية في مصر تابعة للأزهر، حول استثمار الأموال في البنوك : أن هذه المعاملات حلال، شريطة أن يكون البنك وكيلا عن صاحب المال في استثماره في معاملات مشروعة.
وإن العجب لا يكاد ينقضي من هذه الفتاوى المجيرة الجائرة المؤجرة ، فلا نقول إلا كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - :
والعلم معرفة الهدى بدليله*** ما ذاك والتقليد مستويان
حرما بكم والله لا أنتم مع العلمـ***ـاء تنفادون للبرهان
كلا ولا متعلمون فمن ترى*** تدعون نحسبكم من الثيران
لكنها والله أنفع منكمُ*** للأرض في حرث وفي دوران
نالت بهم خيرا ونالت منكم المعهـ***ـود من بغي ومن عدوان(1)
بناء على جميع ما تقدم فليحذر المسلم أن يخوض مع الخائضين في هذا الأمر الخطير في المجالس الخاصة، والمجتمعات العامة، وفي الصحف والمجلات وغيرها، من غير قدرة شرعية ولا قواعد علمية ولا أدلة قطعية فهذا تصرف يأباه الله ورسوله والمؤمنون، وفاعله مأزور غير مأجور
وبذلك يكون المسلم في مأمن من الإثم والتبعة في الدارين، وتسلم المجتمعات الإسلامية من مظاهر الانحراف التي سببها الجهل والميل إلى الهوى . والله المستعان .
... الباب الرابع : وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : أسباب الجرأة على الفتوى بغير علم .
الفصل الثاني : أضرار وأخطار الجرأة على الفتوى بغير علم .
الفصل الثالث : وتحته توطئة ومبحثان :
1-وقفة مع التفجيرات و التكفيرات .
__________
(1) القصيدة النونية - (ج 1 / ص 65)(1/68)
2- وقفة مع الفتاوى في الإنترنت والفضائيات .
الخاتمة: وأذكر فيها أهم نتائج البحث والتوصيات .
الباب الرابع: وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: أسباب الجرأة على الفتوى بغير علم .
1- الهوى وهو: المرض العضال الذي تنتهك بسببه كثير من الحماقات ، وما ذاك إلا ضعف في الإخلاص وفساد في الإرادة ولا يسلك هذا السبيل إلا من كان قلبه كالقبر أو البيت الخرب، ولو فعل ما ظاهره القربة إنما هو لزيادة الحصيلة العلمية لمماراة السفهاء ومجادلة العلماء، وللتفوق على الأقران، فبئس النية نية تحول دقة الطريق على الله فيلبس الأمر على صاحبها في طريقه إلى الله حتى يصير المشرق عنده مغرباً والمغرب مشرقاً، قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .
2- العجب والاغترار وهو: أن يُعجب المرء بنفسه، ويغتر بعلمه فيقدم على الفتوى، وإكثار الكلام وإن لم يعلم، ومما يؤسف له أن داء العجب أشد فتكاً بدين الإنسان من الهوى. والمعجب يغتر بنفسه وبراية و يأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ ويمنعه عجبه من سؤال أهل العلم فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهالك ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح.(1/69)
3- الاستحياء والخوف من التجهيل: فهو يظن أنه لو قال لا أدري، أو لا أعلم أن هذه سبة في حقه وفي شخصه، وأن السائل سيرميه بالجهل وعدم العلم، ويخاف أن يسقط من أعين الحاضرين. ( وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ . . وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ). (1)
4-الجهل ذاته: فلا يجسر على الفتوى ويتجرأ على أعلم إلا الجاهل الذي لم يشم للعلم أدنى رائحة، وذلك أنه إما أن يذكر الدليل على كلامه في المسألة الشرعية من الكتاب أو السنة أو قول السلف من علماء الأمة ويحيل السامع إلى مظانها... فهذا معه أثارة علم، وإما أن يتشدق ويثرثر ولا يحيل على المظان، ولا يستدل ببرهان فيكون هذا عين الجهل والبهتان، وذلك أن المسألة لا تحتمل إلا أمراً من أمرين: إما العلم، وإما الجهل
5- فقد العلماء واندثارهم في هذه الأرض، وهذا مصداق قول النبي ^ ( حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا )
6-تقصير العلماء بالقيام بواجبهم وذلك حال وجودهم؛فإن أهل الجهالة لا يتصدرون إلا حينما يغيب أهل العلم الذين يقومون بأمر الله، فمهمتهم في هذه الأرض إن يدلوا الناس إلى الخير ويحذروهم من الشر، ويقودوا هذه الأمة إلى بر الأمان على مر الأزمان .
7- سؤال الناس من هبَّ ودبَّ ، بحجة أنه واعظ أو خطيب أو داعية مشهور ، والحقيقة أن :
__________
(1) آداب العلماء والمتعلمين - (ص 8)(1/70)
( الدعوة شيء والفتوى شيء آخر، ويحق لك ان تكون واعظا، متحدثا خطيبا، وداعية، لكن لا يحق لك ان تكون مفتيا إلا إذا انطبقت عليك شروط الإفتاء..).(1) ثم يغتر هذا المسكين المفتي إذا لقب بـ : شيخ فقيه!! فيَضِلُّ ويُضِلُّ !! . قال ابن بطة - رحمه الله تعالى - : ( فإني رأيت هذا الاسم قد كثر المتسمون به من عامة الناس وكافتهم، وما ذاك إلا لأن البصائر قد عشيت، والأفهام قد صدأت وأبهمت عن معنى الفقه ما هو ؟ ) .(2)
الخلل في منهج التلقي : وله أسباب منها :
أ- أخذ العلم عن غير أهله: وقد ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى، ينضوي تحت لوائها الفئآم من الناس خاصة الشباب، وقادتها ورؤساؤها جهلة في بديهيات الدين، فيفتون بغير علم، ويَضِلون ويُضِلون، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعاً لهم يأخذون عنهم دون تروي، ودون تثبت ودون منهج صحيح سليم .
ب- استقلالية بعض المتعلمين وبعض الدعاة، وبعض الأحداث عن العلماء، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة ويعزفون عن التلقي عن العلماء، وهذا هو منهج خطير، بل هو بذرة خطيرة للإفتراق .(3)
__________
(1) الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي (ص 31)
(2) إبطال الحيل لابن بطة (ص 1)
(3) موقف المسلم من الفتن / حسين بن محسن أبو ذراع الحازمي - (ص 19)(1/71)
ج- تتلمذ الأحداث: أي: صغار السن على بعضهم، أو على طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم، بمعنى التتلمذ الكامل وترك المشايخ الكبار والانقطاع عنهم، ولا يعني ذلك أنه لايجوز أخذ العلم عن أي طالب علم، بل من أجاد أي علم من العلوم الشرعية وكان صالحاً أخذ عنه، لكن لايعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه، أو الانقطاع إليه، وترك المشايخ الكبار، وهذا هو مكمن الانحراف، أي أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته ودعوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم، وهذا مسلك خطير، بل أخطر منه أن يكون الصغار بعضهم شيوخاً لبعض في العلم .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « قد علمت متى صلاح الناس ومتى فسادهم إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا . وقال عبد الله بن مسعود قال: « لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا جاءهم العلم من قبل أصاغرهم فذلك حين هلكوا » قال أبو عمر: قال بعض أهل العلم: إن الصغير المذكور في حديث عمر وما كان مثله من الأحاديث إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده وأن الكبير هو العالم في أي سن كان وقالوا: الجاهل صغير وإن كان شيخا، والعالم كبير وإن كان حدثا..والله أعلم أي الأمور أراد عمر رضي الله عنه .(1)
9- التقصير في فهم فقه الخلاف : والمقصود هنا بفقه الخلاف معرفة أحكام الخلاف بين المسلمين، وماذا يترتب على وقوع الخلاف ؟ وما يجوز الخلاف فيه وما لايجوز ؟، وإذا خالف المخالف متى يُعذر ومتى لايُعذر ؟ وماذا نطلق عليه ؟ ومتى نطلق عليه الكفر أو الفسوق ؟ وهل إطلاق الحكم على المخالف أو الموقف منه متروك لكل أحد ؟ ، وتفصيل ذلك أمر يجهله كثير من الناس .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (ج 2 / ص 252)(1/72)
10- التسرع في إطلاق الأحكام إذ بمجرد أن يسمع أحدهم قضية أو حادثة أو خبراً أو مقولة ما، يحكم على صاحبها غيابياً، أو يحكم قبل أن يتثبت، أو يحكم باللوازم، كأن يقول: ( إذا كان فلان قد قال كذا فهو كافر ) بدون نقاش . ومثل قولهم: ( من لم يُكفّر فلاناً فهو كافر ) وربما لم يتبين له كفر فلان، ومثل قولهم: ( فلان رأى بدعة فلم ينكرها، أو تنتشر بين قومه فلم يغيرها، إذاً فهو مبتدع )، وهكذا ....، فنزعة إطلاق الأحكام، والالزامات في الأقوال والإكثار من التكفير بما يخرج عن سمت العلماء وحكمهم ورأيهم.
بل يصل الأمر إلى الحكم على القلوب وإساءة الظن والتوقف في مجهول الحال والمستور، والبراء على المسائل الخلافية .
11- الجفوة بين العلماء والشباب : مما أوقع بعض الشباب في التصدر والإفتاء بغير علم في الأحكام والتصرفات الجائرة والخاطئة التي لا تليق تجاه علمائهم، وتجاه حكامهم، وكذلك هناك حاجز نفسي كبير بين النخبة من الشباب ، تجعل كلا منهم يسيء الظن بالآخر، ولا يفهم حقيقة ما عليه الآخر إلا عبر وسائط غير أمينة غالبا، ومن هنا يفقد الحوار الذي هو أساس التفاهم والإصلاح .(1/73)
12- التقليد المذهبي المقيت والتعصب المميت : قال ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله تعالى - عن هذه الآفة : ( وجدنا السلف الصالح كلهم , الذين هم أرجح ممن ينتمي إليه أرباب المذاهب اليوم, وجدناهم على أصل وفرع . فالأصل أنهم لم يسلكوا مسلك تقليد بعضهم لبعض . ولا أنكروا بأجمعهم مخالفة الأدنى للأعلى في مسائل الفقه والفرائض . وما أنكر أحد نفس الخلاف . وإنما فزعوا الى الأدلة . ولا أحد منهم نظر في مسائل الاجتهاد الى السابقة , ولا الشجاعة , ولا البلاء في الجهاد , ولا الإيفاء في نصرة الإسلام , بالخلاف نظرهم الى ذلك في الخلافة . فأما مسائل الاجتهاد , فانقطعت ألْسنة التفضيل , والتفتوا الى نفس الدليل . هذه نبذة مثال في الفروع ) . (1)
الفصل الثاني: أضرار وأخطار الجرأة على الفتوى بغير علم :
الوقوع في شبهات ومتاهات من الابتداع والتبديع والإكفار والتكفير :
( وإن من الضلال المبين، والغش للمسلمين، والتدليس على شبَبَتِهم جَلْبُ أقوال الفرق الضالة، وكسائها بلِحَاء الشريعة، ونسبتها إلى مذهب أهل السنة والجماعة نتيجة لردود الأفعال، وجدل المخاصمات ، وهكذا من رد الباطل بمثله، والضلالة بأخرى وهذه جادة الأخسرين أعمالا، وقد فضح الله المنافقين بها، وهتك أستارهم فيها في مواضع من كتابه، منها في صدر سورة البقرة؛ إذ قالوا لتأييد إفسادهم: [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] فكذبهم الله بقوله [أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ] .
__________
(1) الفنون لابن عقيل ( 2 / 604)(1/74)
والتكفير حكم شرعي لا مدخل للرأي المجرد فيه , لأنه من المسائل الشرعية لا العقلية , لذا صار القول فيه من خالص - حق الله تعالى - لا حَقَّ فيه لأحد من عباده، فالكافر من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير . ولهذا نبه علماء التفسير، والوجوه والنظائر في كتاب الله - تعالى- وشراح الحديث والمؤلفون في: "لغته" وفي الأسماء المشتركة، والمتواطئة، أن لفظ "الكفر" جاء في نصوص الوحيين، على وجوه عدة: "الكفر الناقل عن الملة" و"كفر دون كفر" و"كفر النعمة" و"التبرؤ" و"الجحود" و"التغطية" على أصل معناه اللغوي .
إن بعض فرق الخوارج إنما حملهم على الخروج حبهم للعدل وكرههم للظلم وكانوا عبادا زهادا، فضلوا بالتأويل الفاسد وإن كانوا على قصد حسن ومثلهم بعض المعاصرين الذين ضلوا بالتأويل الفاسد ظانين أنهم إنما يدافعون عن الإسلام، ويقدموه بصورة حسنة مقبولة كما فعلوا في الدفاع عن حرية الرأي والاعتقاد ) .(1)
التزوير على العلماء ببتر نصوصهم من سياقاتها، وعدم النظر إليها في ضوء فقههم الكلي.
- التطرف والتعصب لآرائهم دون وجه حق، ودون دليل شرعي مسوغ مع كثرة شكايتهم من تطرف خصومهم وتشددهم المزعوم.
4- الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي .
5- سوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة .
6- الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب .
7- اتباع الهوى وحب الدنيا .
8- قلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين .
9- عدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها .
__________
(1) درء الفتنة - الشيخ بكر أبو زيد - (ص 20)(1/75)
10- الاستهانة بالعلماء المتأهلين بالفتوى ، وإسقاطهم ؛ بل واتهامهم بالجهل ، لا سيما المتقدمين منهم . قال الذهبي - رحمه الله تعالى - : ( وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين ! وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من سنية زماننا!! فلا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب وأحبها إلى الله تعالى فإنك لا دليل لك على ذلك ولا لمخالفك أيضا بل الأئمة رضي الله عنهم على خير كثير ولهم في صوابهم أجران على كل مسألة وفي خطئهم أجر على كل مسألة . وإن كانت همتك كهمة إخوانك من الفقهاء البطالين الذين قصدهم المناصب والمدارس والدنيا والرفاهية والثياب الفاخرة فماذا بركة العلم ولا هذه نية خالصة بل ذا بيع للعلم! بحسن عبارة وتعجل للأجر وتحمل للوزر وغفلة عن الله ) .(1)
11 – قرب قيام الساعة ؛ لأن جرأة الفساق على العلم من علاماتها الصغرى:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -^ : «إن أمام الدجال سنين خَدَّاعة يُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرُّوَيْبِضة. قيل: وما الروبيضة؟ قال: الفُوَيْسق يتكلم في أمر العامة».(2) والرُّوَيْبِضة هو الفاسق، وفي رواية التافه الذي يتكلم في أمور الدين وهو جاهل لأيسر قضاياه، وأمثال هؤلاء كثيرون في زمننا، بل وفي كل الأزمنة التي مرت بالمسلمين، ولكنهم سيظهرون بكثرة في زمننا لغياب العلماء، وابتعادهم عن واجبهم ومسؤوليتهم، وترك الحبل على الغارب لمن لا يحسن الكلام؛ فكيف بالفتوى وإصدار الأحكام؟
12- كثرة المعارف والعلوم في مقابل قلة العمل:
__________
(1) زغل العلم - (ص 3)
(2) أخرجه ابن ماجه في "سننه" كِتَابُ الْفِتَنِ بابٌ : شِدَّةُ الزَّمَانِ رقم 4036(1/76)
وقدروي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي ^ شيئاً ، فقال: ( ذاك عند ذهاب العلم ) قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك، زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَ ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيء مما فيهما؟»
- وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي ^ يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عليه، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بَهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...» (1)
13- المروق من ربقة الدين والانتكاس – نسأل الله الثبات إلى الممات - : ولذا قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وسئل عن الرجل يفتي بغير علم قال: يروى عن أبي موسى قال: يمرق من دينه. يكون عند الرجل سنة عن نبيه صلى الله عليه وسلم ويفتي بغيرها وشدد في ذلك. (2)
الفصل الثالث: وتحته توطئة ومبحثان:
1-وقفة مع التفجيرات والتكفيرات .
__________
(1) حديث زياد سبق تخريجه . وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " كِتَابٌ : الْإِمَارَةُ بَابٌ : مَنْ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ اسْتَحَقَّ النَّارَ رقم 1905-1والنسائي في "السنن الكبرى" كِتَابٌ : فَضَائِلُ الْقُرْآنِ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ رقم 8029والنسائي في "المجتبى" كِتَابٌ : الْجِهَادُ مَنْ قَاتَلَ لِيُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ رقم 3137
(2) طبقات الحنابلة - (ج 1 / ص 132)(1/77)
وهي وقفة جديرة بالوقوف ؛ بل الجلوس والتأني لحسمها وحزمها وزمِّها بزمام العلم والعقل . وإنما دعاني إلى إفرادها : بسسب أنها بيت القصيد ؛ فإن سبب تلكك القلاقل والتفجيرات والتكفيرات إنما هو وجود مفتين بغير علم ، وقد وجدوا من يستفتيهم ، ولا يصدر إلا عن رأيهم العفن والمليئ بالضغينة على المسلمين المتربص لهم الدوائر ، حتى حدا ذلك بالمفتين منهم والمستفتين إلى تجويز وتسويغ قتل المعاهدين والمستأمنين من الكفار الذين يعيشون بين المسلمين وقد أعطاهم ولي أمر المسلمين العهد والأمان ؛ بل جوزوا قتل المسلمين !! بحجة أوهى من بيت العنكبوت ؛ ألا وهي : أنه إذا لم يمكن قتل الكافر إلا بقتل المسلم فيسوغ – بزعمهم – ذلك . ويتبع ذلك طوام ليس هذا مجال سردها ، كاستباحة أموال المسلمين ، لأجل تسيير عجلة ما يسمونه جهاداً ، وهو – والله جدير أن يسمى إفساداً .
إنها قضية جديرة بالاعتناء ، ( أما صرف بعض الدعاة النظرعن هذه المسألة، واهتمامهم بغيرها مما هو فرع منها فهو بمثابة علاج الشجة والجروح في رأس مقطوع ) .(1)
لقد نشأت ناشئة فاسدة ونبتت شجرة خبيثة – قطع الله دابرها - من جراء تلكم الويلات ؛ إنهم : ( الخوارج أنّهم غلاة متفيقهون ضالّون في التصوّر والاعتقاد والسلوك، مع التشديد والأخذ بأحاديث الوعيد دون النظر في أحاديث التبشير والوعد، ولذلك استحقّوا التسمية النبويّة أنّهم: ( كلاب أهل النار، يقتلون أهل الإسلام ، ويذرون أهل الشرك والأوثان . وسلوكهم الذي -ولله الحمد والمنّة- كان سبب زوالهم ودمارهم ولم يبقَ منهم إلاّ أخبارهم السوداء التي سوّدوا فيها تاريخ هذه الأمة العظيمة ) .(2)
__________
(1) مباحث في العقيدة للدكتور ناصر العقل - (ص 77)
(2) من هم الخوارج ؟ - (ص 5)(1/78)
ولما صار لهم بعض النفوذ عبر جهات مشبوهة ، كالإنترنت ، وبعض المندسِّين الذين خانوا دينهم ومجتمعهم ، فظلموا أنفسهم : كان أن حدث منهم أحداث مشينة ؛ كاستهداف رجال الأمن والمعاهدين في بلادنا ، والتفجير في دوائر حكومية ووحدات سكنية . ما جرها من تكفير بحجة الولاء والبراء – زعموا - !!
فمسألة الأحداث التي حدثت والتي تحدث وأمثالها فهي من شؤون أهل الحل والعقد هم الذين يتباحثون فيها ويتشاورون فيها، ومن شأن العلماء أن يبينوا حكمها الشرعي، وأما عامة الناس والعوام وأما الطلبة المبتدؤن ليس هذا من شؤونهم قال الله عز وجل { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً } فالواجب إمساك اللسان في القول في مثل هذه المسائل لا سيما في التكفير والولاء والبراء .والإنسان في الغالب جاهل بتطبيقه قد يطبقه خطأ ويحكم على الناس بالضلال والكفر ويرجع حكمه عليه؛ لأن الإنسان إذا قال لأخيه: يا كافر، يا فاسق، وهو ليس كذلك رجع ذلك عليه - عياذا بالله -
و المتورط بهذه الأفعال والمسوغ لها والمفتي فيها يجب أن يؤخذ على يده، وأن يعزر تعزيراً بليغاً من قبل القضاة بما يحجزه عن ذلك، ولما فات التعزير الشرعي في مثل هذه المسائل كثر القول، وكثر الخوض فيها وقد كان القضاة فيما مضى يعزرون في قول المسلم لأخيه: يا كلب ! أو يا كذا ! بما فيه انتقاص له! فكيف إذا كان فيه رمي بمثل هذا الرمي العظيم الذي لا يجوز لمسلم يخشى الله أن يتفوه به، فضلاً على أنه يعتقده .(1/79)
قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى -: ( إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه في آخر الزمان يكثر القراء ويقل الفقهاء"وهؤلاء قراء وليسوا فقهاء، فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاءإطلاق في غير محله والعبرة بالحقائق لا بالألقاب، فكثير من يجيد الكلام ويستميل العوام وهو غير فقيه . والذي يكشف هؤلاء أنه عندما تحصل نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها فإن الخطباء والمتحمسين تتقاصر أفهامهم ) .(1)
فالواجب نحو هذه النازلة النازية والداهية الدهياء :
1- كشف مواطن الإشكال واللبس والغموض في القضايا الحساسة، وإعلان الوجهة الشرعية فيها، وتأصيل ما لم يتم تأصيله شرعا .. فتحرر جميع المسائل المشكلة شرعا، وتربط بأصولها وقواعدها وأدلتها وفتاوى العلماء .
2- أهمية استقراء شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم أو الأمور الملتبسة عليهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم والتعرف على رؤوسهم ومرجعياتهم، ثم الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي ، والحوار الجاد مع المنظِّرين والمتبوعين منهم . وأغلب أفراد الغلاة من المتدينين ذوي العاطفة والغيرة والحماس، لكنهم ينقصهم عمق الفقه، والحكمة والصبر والتجارب، واستهوتهم التيارات والأهواء، وأرى حيالهم:
أ - الحوار المباشر ما أمكن من قبل العلماء والدعاة والدولة، ولو في السجون.
ب- توجيه رسائل وبحوث علمية مؤصلة وأطروحات تطرح بكل الوسائل المتاحة ولا سيما مواقع الإنترنت ، وتكون من متخصصين جديرين، وتعالج القضايا الكبرى ، بأسلوب ميسر .(2)
__________
(1) المدارج في كشف شبهات للخوارج - (ص 46)
(2) الغلو الأسباب والعلاج - (ص 23)(1/80)
وقد نفعت – بحمد الله - الجهود المشكورة المبرورة من ( لجنة المناصحة ) ، والتي كونتها وزارة الدخلية مشكورة ، بتوجيه من صاحب السمو الملكي ، الأمير نايف بن عبد العزيز – حفظه الله - حيث تراجع واقتنع عدد من المقبوض عليهم لتورطهم في أحداث الإرهاب ، فعاد عدد منهم إلى رشدهم وتابوا .
وهذا الإجراء قديم جديد ؛ لابد أن يوليه العلماء ولاية خاصة ، وقدوتهم الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنهما - . ولنأخذ مثالاً يحتذى للعالم الذي يحل مثل هذ النازلة التي سببها جهل الجاهلين ؛ فهذا موقف للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ لما عُين قاضيًا في الأحساء ، حيث وجد فيها رجلين قد اعتزلا الجمعة والجماعة وكفرا من بتلك البلاد من المسلمين بحجج واهية وشبهات باطلة، فأحضرهما وكشف شبهاتهما وأدحض ضلالتهما ورد على زعمهم أن هذا هو معتقد الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، وبيّن لهم أن الشيخ المجدد لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر .(1)
ج- بيان أن من أهم وأخطر أسباب الغلو هو الجهل حيث يوقع في الخطأ في الفهم؛ ويدفع إلى بناء تصورات غير صحيحة، وعليها تنبني تصرفات منحرفة توقع فظائع الأمور .
د- التأكيد على أهم قضية في منهجية تلقي العلم ، فليس المراد بطلب العلم هو أن يجمع منه شيئًا لا يفهمه ولا يدركه، بل القضية هي الفقه والفهم قبل الحفظ .
__________
(1) جهود أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي للعنف والإرهاب (ص 15)(1/81)
( ومن الأمثلة التي تكشف هذه الحقيقة: من يعمد إلى مجمع سكني أو تجاري، أو دائرة حكومية، أو شركة خاصة، فينسفه بالمتفجرات، ويقتل من بداخله، بحجة أن فيه كفارًا، أو يُعمل فيه شئ من المنكرات، وكمن يعمد إلى محل لبيع الأغاني الماجنة، أو الأفلام الخالعة، فيحرقه أو يفجره، وهو يعلم أن وراءه سلطة تحرسه، وقانونًا يحميه، فينشأ عن ذلك من المفاسد والمناكر أضعاف أضعاف المنكر الذي قام بتغييره .
فهذا الأمر مزلة أقدام، ومضلة أفهام، ولا يحسنه ويوفق فيه إلا العلماء العاملون، والعقلاء المجربون، الذين فقهوا الشريعة وعرفوا مقاصدها، وسبروا غور الواقع، وفكروا في عواقب الأمور، فجمعوا في ذلك بين العلم بالشرع، والعلم بالواقع، ومعرفة مآلات الأمور وما تصير إليه ) .(1)
2- وقفة مع الفتاوى في الإنترنت والفضائيات .
نحن – المسلمين - لا نحارب وسائل الاتصال الحديثة، ولكننا نتصدى للاستخدامات الخاطئة والضارة لها؛ فالتكنولوجيا سلاح ذو حدين، ووسائل الاتصال الحديثة هي بالفعل نتاج رائع لثورة الاتصالات والمعلومات، والمضار الناجمة عنها إنما ترجع لسوء الاستخدام من قبل أشخاص يجيدون استغلال كافة الوسائل التي تمكنهم من الوصول مآربهم السيئة ، ومنها التصدر للإفتاء عبر مواقع الشبكات العنكبوتية ، وعبر الشاشات الفضائية.
أما عن الفتاوى التي ترسل للمسلمين عبر هواتفهم المحمولة ، وبريدهم الإلكتروني من قبل أشخاص مجهولين الهوية، ومن مواقع لا يُعرَف انتماؤها أو أصحابها ؛ فهو أمر لا يقل خطورة عن ذَيْنِ ؛ فهو أمر غاية في الخطورة ، إنه إفساد للمجتمع، لأنها تثير نوعا من البلبلة والجدل ، بحيث صار الكلام بالشرع كلأ لكل من هبَّ ودبَّ مباحا ، وحمى مستباحاً – ولا حول ولا قوة إلا بالله - .
__________
(1) أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف والعدوان - (ص 47)(1/82)
لقد صار لكل قناة تلفزيونية مفت وكل محطة إذاعية مفت وكل صحيفة أو مجلة مفتٍ، بل ان الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق يوجد فيها من يفتي وهذا يبين ان الامر جد خطير ولابد ان يتدارك الناس هذا الامر حتى لا نفاجأ بقوم يتهاونون ويتجرؤون أكثر فيحلون الحرام ويحرمون الحلال .
ومن المؤسف حقا أن القنوات الفضائية أدت دوراً بارزاً في إبراز شخصيات الإفراط والتفريط وتلميعها وحدثاء الأسنان والمتفيقهين ورؤوسا جهالا على حساب العلماء الأفذاذ وللأسف أصبح لهم قبول، والحال تكرر في الشبكات العنكبوتية وأصبح لهم تأثير بالغ على عقول الشباب وبرز شعار -ضعها برأس عالم واطلع منها سالم !!
والخطورة ليست في قلة العلماء بل في تقدم “الرؤوس الجهال” للفتوى، وفي استقطاب بعض الفضائيات لهذه الرؤوس. وفي تضارب الفتاوى فى القنوات الفضائية وعلى شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) أصبح يثير البلبلة والشكوك لدى عامة الناس الذين أصبحوا ضحية لهذا الطوفان المنهمر من فتاوى وآراء غير المتخصصين الذين يفتون فى الدين بغير علم ، فنجد فنانة أو ممثلة أو مطربة أو غير ذلك تستضيفهم الفضائيات بالساعات فى برامج على الهواء مباشرة ليردوا على مشكلات الناس وأسئلتهم الاجتماعية والدينية ، ولا يتحرج الواحد منهم أن يفتى بغير علم ويوجه نصائحه الدينية لهؤلاء المخدوعين!!
بالإضافة إلى هؤلاء هناك بعض الفضائيات تستضيف بعض محبى الظهور من غير العلماء أو المتخصصين وتصر على توجيه الأسئلة الدينية إليهم بزعم أنهم علماء .. ويخفى عليهم وهو أنه ليس كل أستاذ فى جامعة متخصصا في العلوم الشرعية والفقهية .
ولأن التجارب العملية أثبتت استحالة السيطرة على محتوى الانترنت ، لكن الموقع الجيد هو الذى يكون من خلفه رجال ثقات ،وعلماء فقهاء فى الإسلام يورث المصداقية لدى الجمهور ، ويجعل المستخدم يأخذ مادة علمية موثقة لا خلاف عليها .(1/83)
ولو تحرينا الأمانة العلمية لما حدثت مثل هذه المهاترات . فالواجب على الإعلاميين جميعا أن يحدوا من الظاهرة وذلك من خلال عدم دعوة أى إنسان يدعى العلم فى برامج دينية وخاصة الفضائيات ،وكذلك اختيار من يكتب على صفحات الجرائد ويفتى الناس .
وإنك إذا تأملت كثيرا ممن تعرضهم شاشات القنوات الفضائية أو مواقع الشبكات العنكبوتية ( الإنترنت ) وجدتهم – والله المستعان- :
- إما من علماء السوء الذين لهم حظ من العلم لكن لا حظ لهم من الورع والدين والخوف من الله، فهم مفتون مفتونون غرتهم الدنيا، فنبذوا العلم وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فشابهوا اليهود الذين بدلوا دين الله وكذبوا على الله وهم يعلمون، فزينوا للظالم ظلمه ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم من قول الحق أو الكف عن قول الباطل فاغتر بهم العامة والخاصة، واختلت بسببهم معالم الشريعة وانحرفت بسببهم أفهام الناس، فهؤلاء وإن اغتر بهم بعض العامة وتزيوا بزيّ العلماء ولبسوا عمائمهم إلا أنهم ممقوتون عند الله متوعدون بالعذاب الأليم إن لم يتداركهم الله برحمته.
_ وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين هم بعض صغار طلاب العلم ممن أوتوا شبراً أو شبرين من العلم ولم يؤتوا إيماناً فتاهوا وأعجبتهم أنفسهم بسبب تقدير العامة لهم، فأعطوا لأنفسهم الحق في الفتيا، وتجرؤوا عليها شيئاً فشيئاً حتى أصبحت شهوة للنفس لا يستطيعون الفكاك عنها، والسبب في زيغانهم أنهم تعلموا العلم قبل الإيمان.(1/84)
_ وصنف آخر من هؤلاء الذين تجرؤوا على مقام الفتوى هم المنافقون العلمانيون الذين لا يرون للإسلام ولا لشريعة رب العالمين حقاً في أن تحكم الناس في جميع شؤون حياتهم، ثم هم مع ذلك حين يكون الحق موافقاً للهوى، يأتيك الواحد منهم مذعناً متبجحاً فيفتي الناس بفتوى توافق ما في نفسه ثم يشنع، بل ويرد على العلماء المخالفين، وحين لا يجد ما يوافق هواه ينقلب على عقبيه ويسخر بشرائع الدين وأخلاقياته، فهم كما قال ربنا _سبحانه_ عنهم وهو أعلم بهم: "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" .
وهذا الصنف من المنافقين لم يكتف بنقل فتاوى بعض أهل العلم التي توافق هواه بل تجرأ هو بنفسه على الخوض في كلام الله وكلام رسوله فيرد هذا الحديث ويحرف تلك الآية حتى خرج لنا بعضهم بفقه عجيب يستبيح به موالاة اليهود والنصارى ومحبتهم والخنوع لهم كما يستبيح للمرأة المسلمة خلع حجابها وأن تتبرج بزينتها وتخالط من تشاء، بل وتخلو بمن تشاء.
-وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين شباب دفعهم الحماس والحمية لدين الله على أن تجاوزوا مقام العلماء الربانيين، بل وتنقصوهم ورموهم بالتهم وأطلقوا ألسنتهم بالتكفير والتفسيق، بل واستباحة الدماء دونما تنبه لخطورة ما يقومون به، ثم إن أحدهم حينما تُعرض عليه بعض مسائل الطهارة والصلاة يتوقف عن الفتيا فيها تورعاً، فأي ورع هذا الذي يكفه عن القول في مسائل الطهارة بينما لا يكفه عن الخوض في مسائل الكفر والدماء.
إن الحماس والحمية للدين والغيرة على المحارم والجهاد في سبيل الله ليس مسوغاً لكل أحد أن يتجاوز مقام الفتيا، فيقول على الله بغير علم.(1/85)
فإلى ورثة الأنبياء، أهل العلم الغيورين على دينهم من التحريف والتبديل :عليهم أن يتصدوا لموجة التحريف والتأصيل لمفاهيم الغرب التي يحمل لواءها كتاب ومفكرون وصحافيون وغيرهم، وأن يقولوا فيها قولا فصلا لا يخافون في الله لومة لائم، فتلك وظيفتهم الأولى ولهم في علمائنا السابقين سلف صالح حين تصدوا لمقولات الضلالة.
و إلى طلاب الدراسات العليا أن يركزوا دراساتهم ورسائلهم ويصبوا جهودهم في هذا الجانب الهام في الذود عن الدين والمنافحة عن الشريعة والكشف عن زيف الدعاوى المناوئة لها. داخل في باب الترجيح والتخصيص، وهو ليس بمقدور كل فقيه. فضلا عن أن يكون سهلا ومتاحا لكتاب وصحفيين ومحامين وأطباء ومهندسين ممن يتصدون لتأويل النصوص المحكمة والأحكام المبرمة في هذا الزمان. فيامن تجلس مجلساً أو تلقي درساً أو تكتب مقالة في صحيفة أو شبكة اتق الله فإن لم تعلم فاسكت فهو أسلم .
ويا مَفتونون فمُفتون بجهلكم : انتهوا خيراً لكم ، وإلا فيا ويلكم يوم تبلى السرائر ، وحينها يعلم كل متشبِّع بما لم يُعْطَ إلى أي انحطاط هو صائر !! . قَالَ مَالِكٌ : لَا يَنْبَغِي لِمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا ، فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا فَلْيُفْتِ (1) .
ملحق :
بضع مسائل متفرقة داخلة تحت موضوع :
الفتوى بغير علم ، لبقية باقية منها :
لا يَمنع علم العالم من الوقوع في الخطأ ؛ لأنه من سائر البشر ، ولكن خير الخطائين التوابون . ( وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ أَهْلًا لِلْفَتْوَى مَا لَمْ يَصِرْ صَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ مَتَى كَثُرَ فَقَدْ غَلَبَ وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَغْلُوبِ ) .(2)
__________
(1) المدونة - (ج 12 / ص 48)
(2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (17 / 360)(1/86)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( وهذا يعرفه من يتأمل ؛ كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل ، وأنا قد جربت ذلك . ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأى المحدث ..ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف . وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك ) .(1)
لا يضمن المفتي بجهل ما تلف بسسب فتواه . قال منصور البهوتي : ( وَإِنْ بَانَ خَطَؤُهُ ) أَيْ الْحَاكِمِ ( فِي إتْلَافٍ ) كَقَطْعٍ وَقَتْلٍ ( لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْ ) بَانَ ( خَطَأُ مُفْتٍ لَيْسَ أَهْلًا ) لَلْفُتْيَا ( ضَمِنَا ) أَيْ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي لِأَنَّهُ إتْلَافٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَاهُ وَعَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِيمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِمَّا يَقْبَلُ الِاجْتِهَادَ لَا ضَمَانَ . (2)
ناقل الفتوى ليس بمفتٍ ، ومع ذلك فيجب عليه الضبط والتحري في النقل ، وإلا صار جانيا من ناحيتين : على السائل السامع للفتوى ، وعلى العالم المنسوبة إليه كذباً وتزويراً . وقد سئل العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى - :
س : مُدرس يستفتيه طلابه ولديه علم لا بأس به ، ولكنه ليس أهلاً للفتيا فيكون قد سمع من بعض العلماء الثقات جوابًا لمثل السؤال المطروح ، فهل يجوز أن يفتي طلابه بذلك أم لابد من نسبة الكلام إلى صاحب الفتوى ؟
فأجاب : إذا سئل مَن لديه أهلية للفتوى وهو يحفظ فتاوى عن العلماء المعتبرين فلا بأس أن يخبر بها ولا ينسبها لنفسه ، بل يقول سمعت فلانًا أفتى بكذا إذا كان حافظاً ذلك حفظًا لا شك فيه . والله ولي التوفيق .(3)
__________
(1) الاستقامة لابن تيمية - (ج 1 / ص 6)
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 22 / ص 334)
(3) فتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 225)(1/87)
ثمت مسائل يسوغ للعلماء الاختلاف عليها ، وأخرى لا يسوغ الاختلاف عليها ، ولبيان هذا الأمر فلأُحِل البيان إلى العالم الراسخ ابن باز - رحمه الله تعالى - حيث يقول :( وإنما يكون الخلاف في المسائل الاجتهادية التي ليس فيها دليل من القرآن أو السنة ويقال عنها " مسائل الاجتهاد " ومن أصاب فيها فله أجران ومن أخطأ فله أجر إذا كان من أهل العلم والبصيرة وممن يستطيع أن يجتهد في استخراج الأحكام بالأدلة الشرعية - أما ما كان واضحا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة فلا يجوز فيه الخلاف ) .(1)
ينبغي ؛ بل يجب أن تكون كلمة على لسان العامي وطالب العلم والعالم ؛ ألا وهي كلمة : ( لا أدري ) ؛ فإن ( جُنة العالم (لا أدرى)، ويهتك حجابه الاستنكاف منها . وعليه ؛ فإن كان نصف العلم (لا أدرى)، فإن نصف الجهل (يقال) و(أظن) .(2)
( وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ).(3)
( ولما كان المعلم منبرياً لتعليم الطلاب والإجابة عن أسئلتهم _كان لزاماً عليه أن يأخذ نفسه بالأمانة العلمية؛ فإذا سئل عما يعلم أجاب بكل أمانة ووضوح.
وإذا سئل عما لا يعلم توقف عن الإجابة بأن يقول: لا أدري، أو لعلي أراجع المسألة، أو أتأكد منها، أو أسأل عنها، أو نحو ذلك.
وفي مثل هذه الحال يظهر مقدار صلة المعلم بالأمانة العلمية؛ فإن كان راسخاً فيها رسوخ الجبل تشتد به العواصف فلا تزحزحه قيد شعرة _أجاب داعيها، واستيقن أن الاحترام الحق في الوقوف عند حدودها.
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 7 / ص 110)
(2) حلية طالب العلم / بكر أبو زيد ص32
(3) آداب العلماء والمتعلمين - ( ص 8)(1/88)
وإن كانت الأمانة كلمة يقولها بفمه، ويسمعها بأذنه دون أن تتخلل مسلك الروح منه _آثر لذة الاحترام في ذلك المشهد، وأجاب بما ليس له به علم.
هذا وإن في توقف الإنسان عما لا يعلم، ورجوعِه إلى الحق إذا تبين _فوائد كثيرة منها: أ- أن هذا هو الواجب عليه: قال الله _تعالى_: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً].
ب- أن ذلك يفتح له باب العلم: فإذا توقف في المسألة أسرع إليه الجواب، إما مِنْ مُرَاجَعته هو، أو من مراجعة غيره .
جـ _ أن في ذلك رفعةً للقدر: كما أن من عرف منه الإقدامُ على الكلام فيما لا يعلم كان ذلك داعياً للرَّيب في كل ما يتكلم به حتى في الأمور الواضحة.ولأنْ يقال: سُئِل فقال: لا أدري خير من أن يقال: سئل فقال خطلاً، أو روى ما لم يكن واقعاً.
د_ أن في ذلك إرشاداً للمتعلمين، وتربيةً لهم؛ كي يسلكوا هذه الطريقة بلا تحرج.(1)
خاتمة المطاف
ها أنا ذا – بحمد الله – آتي على آخر محاورالبحث ، فبعد أن أفضت فيما وفقني الله ، ثم ما وسعني جهدي القليل ونظري الكليل من طرح وتحليل ؛ فإني الآن أطوِّف للوداع .
وقد خرجت بأربع نتائج وأربع توصيات ، وهن – بحق - جديرات بالاعتناء والالتفات ؛ فأما النتائج فكما يلي :
1- أنه لابد من خروج أهل العلم الصادقين وتصدرهم للفتيا، والقيام بالواجب والعهد الذي أخذه الله عليهم. أما إذا قعدوا في البيوت أو انحصروا في فئة قليلة من طلابهم ولم يتصدوا لأسئلة الناس ومشاكلهم فإن هؤلاء المتساهلين القائلين على الله بغير علم سيجدون أرضاً خصبة ، وساحة خالية يصولون فيها ويجولون .
2- نشر الوعي بين الناس بأهمية استفتاء العلماء الموثوقين، وإعلام الناس أن استفتاء مفتٍ تعلم أنه متساهل في فتواه لا يبرئ ذمتك أمام الله .
__________
(1) مع المعلمين - (ج 1 / ص 18)(1/89)
3- لابد أن يفتي علماء الشريعة وحراس الدين في كل قضية لها مساس بالشرع ؛ لاسيما النوازل ، استنادا إلى قول الحق – سبحانه - : [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا]
4- أن الذين يفتون بغير علم قد تعدوا على ما هو أعظم من حق العرض والمال والنفس ؛ ألا وهو الدين! ولك أن تعجب من شأن هؤلاء فلو كان الأمر يخص أجسادهم لما تعدوا أمهر الأطباء قيد أنملة ؛ بل لو كانت القضية في ملبس يفنى ولا يبقى لسألوا أحسن الناس ذوقاً ! فيا لله كيف هان أمر الدين على الناس حتى صدق فينا قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي : " لو اعتنى الواحد منا بدينه عنايته بشراك نعله لدخل الجنة " . والفتاوى دين وليست مجرد قول أو رأي غير أن بعض الناس والوسائل قد افتتن بالشاذ والمعضلات والطبوليات ؛ ومن حمل شاذ العلم واشتغل بالغرائب فلن يسلم من الكذب والافتراء .
أما التوصيات فكما يلي :
1- يجب على ولي أمر المسلمين معاقبة الذين يفتون من غير تأهل لهذا الأمر ؛ ولا يقتصر العقاب على أصحاب الفتاوى التحريضية الخاطئة بل يشمل بعض المتعالمين والإعلاميين والممثلين الذين يفتون بلا حياء ولا خشية .
2- المبادرة إلى إصدار فتاوى جماعية في بعض النوازل التي تقع للأمة، لكي يكون الناس على بينة من أمرهم، ولا ينفرد أولئك المفتون بإصدار فتاوى خاصة بها .(1/90)
3- لابد من التوسع في افتتاح الكليات الشرعية وزيادة الدروس العلمية والدورات المكثفة ؛ فبلاد المسلمين تحتاج العلماء والمفتين والقضاة والدعاة والمحتسبين والمعلمين والأئمة والخطباء ؛ وليست الحاجة المادية والتطبيقية بأولى من كليات الشريعة وأصول الدين والدعوة وعلوم القرآن والسنة وغيرها في خطط التعليم العالي الحالية والمستقبلية .
4- ومن المهم أن يكون لجهات الإفتاء فروع مركزية في جميع المناطق والمحافظات يقوم عليها أولوا العلم والدين والأمانة ليجيبوا عن مسائل الناس اليومية التي لا تحتاج إلى العرض على هيئة علمية كبرى . ومن المطلوب زيادة الطرق الموصلة للمفتين الأمناء عن طريق البرامج المرئية والمسموعة وأجهزة الاتصال الحديثة وبواسطة مواقع الانترنت والصحف والمجلات وفي المساجد والدوائر الرسمية وعلى هامش الندوات والمحاضرات ؛ فصاحب الحاجة متلهف لمن يجيبه ؛ وأوقات المحققين من أهل العلم شحيحة لا فضول فيها ؛ والترتيب مطلب لسد الحاجة وقطع الطريق على " مرتزقة " الإفتاء .
كما أن هذه المجامع مثل مجمع البحوث ومجامع الفقه الإسلامي الأخرى يجب أن تظل قائمة وأن يعظم نشاطها في بيان شرع الله وإصدار الفتاوى العلمية الصحيحة .
ومن هذه المجامع الفقهية الموثوقة:
- المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة.
- مجلس الفكر الإسلامي في إسلام آباد بالباكستان.
- وأكاديمية الفقه الإسلامي في دلهي بالهند.
5- مطالبة كل من عرف بالجرأة على الفتيا بالدليل الشرعي بالإسناد،كما قال السلف: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، فإما أن يهتدي إلى سبيل العلم وطريقه الصحيح، وإما أن يكفيكم شره ؛ لخوفه من المسائلة أمام الناس، واستحياه وكبره أن ينقص من أعين الناس.(1/91)
والله المسؤول أن يرينا الحق حقاً ، ويوفقنا لاتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ، ويعيننا على اجتنابه . وأن لا يجعلنا ممن يتقدم بين يديه ويدي رسوله ، ولا ممن يقدم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي . وهو المسؤول أن يوفقنا لما طلبناه ، وأن يجعله خالصاً لوجهه ، مُدْنياً من رضاه . إنه خير مسؤول ، وأكرم مأمول ، وبه المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين .
حرره كاتبه وباحثه / راشد بن عبدالرحمن بن رِدْن البِداح
ليلة الأربعاء 10 / 2 /1428 هـ
المصادر والمراجع
1- الأعلام : الزركلي، الطبعة الثامنة، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان .
2- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ( ت 751 هـ )، دار الجيل، بيروت - لبنان .
3- تفسير الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ )، دار الكتب العلمية - بيروت.
4- تفسير ابن كثير، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي ( ت 774 هـ )، تحقيق: سامي السلامة، دار طيبة للنشر - السعودية .
5- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي ( ت 204 هـ )، تحقيق: خالد العلمي، زهير الكلبي، دار الكتاب العربي - بيروت .
6- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر ( ت 463 هـ )، دار الفكر - بيروت .
7- سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ )، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان .
8- سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ( ت 275 هـ )، دار الكتب العلمية، بيروت 1418 هـ .
9- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ )، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر .(1/92)
10- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي ( ت 463 هـ )، دار الكتب العلمية - بيروت .
11- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، لتقي الدين ابن تيمية ( ت 728 هـ ) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
12- منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ( ت 728 هـ )، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم .
13- الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي ( ت 790 هـ )، الناشر: دار المعرفة، بيروت .
14- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري / تأليف ابن عساكر ؛ تحقيق أحمد حجازي السقا. - ط.1. - بيروت، لبنان : دار الجيل، 1995
15- الرد على الجهمية للإمام أحمدلناشر : المطبعة السلفية - القاهرة ، 1393
تحقيق : محمد حسن راشد . عدد الأجزاء : 1
16- البدع لابن وضاح . موقع جامع الحديث .
اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم . الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى ، 1404 – 1984 . عدد الأجزاء : 1
القصيدة النونية لابن القيم .
المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي . دار الفكر - بيروت
الطبعة الثالثة ، 1404تحقيق : د. محمد عجاج الخطيب
الأخلاق والسير لابن حزم .
التعالم وأثره على الفكر والكتاب ز بكر أبو زيد . 1408 هـ . دار الراية .
مجمع الأمثال المؤلف : أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري
الناشر : دار المعرفة – بيروت . تحقيق : محمد محيى الدين عبد الحميد
صحيح البخاري. ا لناشر : دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت . الطبعة الثالثة ،
1407 - 1987حقيق : د. مصطفى ديب البغا أستاذ الحديث
صحيح مسلم . دار إحياء التراث العربي – بيروت . ت محمد فؤاد عبد الباقي
السنن الكبرى البيهقي.مكتبة دار الباز- مكة ، 1414 ت:محمد عبد القادر عطا
الإبانة الكبرى لابن بطة .دار الراية – الرياض . الطبعة الثانية ، 1418تحقيق : د.عثمان عبدالله آدم الأثيوبي
مشكل الآثار . الطحاوي . موقع الإسلام .(1/93)
فتح المغيث . السخاوي .دار الكتب العلمية – لبنان . الطبعة الأولى 1403هـ
مشكاة المصابيح . الألباني .المكتب الإسلامي . بيروت الطبعة الثالثة1405
مفتاح دار السعادة لابن القيم دار الكتب العلمية - بيروت
العلماء والميثاق عبد العزيز الطريفي 1427هـ
صيد الخاطر لابن الجوزي .موقع الوراق .
سنن ابن ماجه دار الفكر – بيروت . تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي
السلسلة الصحيحة الألباني
شرح ديوان المتنبي للواحدي
لحوم العلماء مسمومة /د. ناصر بن سليمان العُمر
الدرر الكامنة لابن حجر .
المنهل العذب الروي للسخاوي .
التدوين في أخبار قزوين .
الرد على المنطقيين لابن تيمية
رِسَالَةٌ رَفْعُ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ
النهاية في غريب الأثر
لسان العرب لابن منظور
كتاب العين . الخليل الفراهيدي
تاج العروس للزبيدي
المخصص
مفاهيم إسلامية / أ.د عبد الصبور مرزوق
فصول لطالب العلم . عبد القادر بن عبد العزيز
الأحكام لابن حزم
الموسوعة الفقهية الكويتية
معجم لغة الفقهاء
فتاوى الأزهر .
صحيح الجامع . الألباني
مسند أحمد: ت الأرناؤوط
الأربعين النووية للنووي .
فيض القدير للمناوي.
الترغيب والترهيب للمنذري
ترتيب المدارك وتقريب المسالك
تفسير القرطبي
أساس البلاغةالزمخشري
حاشية رد المحتار سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر
صفة الصفوة ابن الجوزي
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر
شرح حدود ابن عرفة
التفسير والمفسرون . د. محمد حسين الذهبى
النور السافر عن أخبار القرن العاشر
الرد الوافر . ا بن ناصر الدين الدمشقي
الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات
أدب المفتي والمستفتي
صفة الفتوى و المفتي والمستفتي
شرح الكوكب المنير
المقاصد الحسنة / السخاوي .
السنن الكبرى النسائي
إبطال الحيل لابن بطة الحنبلي
تهذيب الكمال للمزي
تهذيب التهذيب لابن حجر
الطبقات الكبرى لابن سعد
المدونة / سحنون
مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل(1/94)
بصائر ذوي التمييز الفيروزبادي
فضل علم السلف على الخلف لابن رجب
آداب العلماء والمتعلمين . اليمني
ذيل طبقات الحنابلة
تنبيه الرجل العاقل لابن تيمية
غرائب الاغتراب الآلوسي
فتاوى ابن إبراهيم
كتاب العلم للعثيمين
التأويل ابراهيم بويداين
تلبيس إبليس ابن الجوزي
الضوء اللامع
الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي
موقف المسلم من الفتن / حسين بن محسن أبو ذراع الحازمي
الفنون لابن عقيل
درء الفتنة - الشيخ بكر أبو زيد
زغل العلم
طبقات الحنابلة
مباحث في العقيدة للدكتور ناصر العقل
من هم الخوارج ؟
الغلو الأسباب والعلاج
جهود أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي للعنف والإرهاب
أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف والعدوان
البحر الرائق شرح كنز الدقائق
الاستقامة لابن تيمية
كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي
فتاوى إسلامية . جمع المسند
مجموع فتاوى ومقالات ابن باز
حلية طالب العلم / بكر أبو زيد
مع المعلمين / محمد الحمد
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 1
أهمية الموضوع ... 2
أسباب ودواعي البحث ... 3
منهجي في البحث ... 6
خطة البحث ... 7
المعينات والمعيقات في لبحث ... 10
الباب الأول : الفصل الأول : فضل العلماء ... 12
حفظ منزلة العلماء ... 17
الفصل الثاني : حكم اختلافهم ... 21
أسباب اختلافهم ... 22
الفصل الثالث : تعريف الفتوى ... 24
الفرق بين الإفتاء والاجتهاد ... 26
الفرق بين الافتاء والقضاء ... 27
حكم الإفتاء ... 28
الفصل الرابع : منصب الإفتاء ... 31
المفتون عبر القرون ... 38
نماذج للعلماء المفتين ... 39
الباب الثاني
الفصل الأول : شروط وأدوات الإفتاء ... 42
أقسام ودرجات المفتين ... 44
آداب المفتين الواجبة والمسنونة ... 46
الباب الثالث
الفصل الأول : حكم وأدلة الفتوى بغير علم ... 51
الفصل الثاني : أقوال وآثار في التحذير من الفتوى بغير علم ... 54(1/95)
الفصل الثالث : أقوال العلماء في التحذير من الفتوى بغير علم ... 59
مظاهر ونماذج للفتوى بغير علم ... 66
الباب الرابع
الفصل الأول : أسباب الجرأة على الفتوى بغير علم ... 71
الفصل الثاني : أضرار وأخطار الجرأة على الفتوى بغير علم ... 76
الفصل الثالث : وقفة مع التفجيرات والتكفيرات ... 79
وقفة مع الفتاوى في الإنترنت والفضائيات ... 83
ملحق لبضع مسائل داخلة في موضوع الفتوى بغير علم ... 87
الخاتمة ... 90
المصادر والمراجع ... 93
الفهرس ... 98(1/96)