بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : الحاوي للفتاوي في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون
المؤلف : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1421هـ - 2000م
الطبعة : الأولى
تحقيق : عبد اللطيف حسن عبد الرحمن
عدد الأجزاء / 2
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
( مقدمة المؤلف )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جامع الشتات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالآيات البينات ، وعلى آله وصحبه وأزواجه الطاهرات .
وبعد : فقد استخرت الله تعالى في جميع نبذ من مهمات الفتاوي التي أفتيت بها على كثرتها جداً ، مقتصراً على المهم والعويص وما في تدوينه نفع وإجدا ، وتركت غالب الواضحات ، وما لا يخفى على ذوي الأذهان القادحات ، وبدأت بالفقهيات مرتبة على الأبواب . ثم بالتفسير . ثم بالحديث . ثم بالأصول . ثم بالنحو والإعراب . ثم بسائر الفنون إفادة للطلاب ، وسميت هذا المجموع ( الحاوي للفتاوي )(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
فارغة(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
الفتاوى الفقهية
كتاب الطهارة
مسألة : في قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في بعض كتبه : الماء المطلق إنه الذي يقول رائية : هذا ماء ، وتبعه في ذلك الإصحاب هل ينافي قول كثير من شارحي المنهاج في قوله : فإن بلغهما بماء ولا تغير فطهور إنه نكر الماء ليشمل الطهور والطاهر والمتنجس حيث جعل التنكير والعري عن القيد وصفاً للماء في الأول بالإطلاق دون الثاني إذ لا منافاة بين الوصفين .
الجواب : أن المذكور في حد الماء المطلق ( إنه الذي يقول رائيه : هذا ماء ) راجع إلى العرف ، والمذكور في قوله فإن بلغهما بماء بالنظر إلى المعنى اللغوي فإن الماء في اللغة يصدق بالطهور وبالطاهر وبالنجس ، ولهذا قالوا في قول التنبيه باب المياه إنه جمع الماء وإن كان اسم جنس واسم الجنس لا يجمع إلا عند اختلاف أنواعه لأن أنواع الماء مختلفة فيتنوع إلى طاهر وطهور ونجس وحرام ومكروه فعلم بذلك صدقه على هذه الأنواع لغة ، وأما الضابط المذكور في حد المطلق فإنما أخذ من العرف لاعتبار الشارع له ، والعرف لا يطلق الماء على ما عدا المطلق إلا مقيداً لا مطلقاً بأن يقول : ماء نجس أو ماء مستعمل أو ماء زعفران ، ويؤكد كونهم نظروا في ضابط المطلق إلى العرف قول الشيخين في سلب الطهورية عن المتغير بالمخالط في الكثير ، ولهذا لو حلف لا يشرب ماءاً ما لم يحنث بشربه لأن الأيمان مبناها على العرف والعرف لا يسمى هذا ماءاً ، وقولهم في قاعدة ما لا ضابط في الشرع ولا اللغة أنه يرجع فيه إلى العرف من ذلك الماء المطلق فعلم بهذا كله أنه لا منافاة بين الكلامين ، لأن الأول ضابط جرى على المصطلح العرفي ، والثاني تعبير جرى على الوضع اللغوي ، والمنكر بوضعه شامل للمطلق والمقيد .
مسألة : في القطران المستعمل في القرب إذا تغير به طعم الماء أو لونه أو ريحه هل يكون ذلك مانعاً له من إطلاق اسم الماء حتى يسلب الطهورية وهل هو مجاور أو مخالط ؟ والزفت المستعمل في الجرار إذا غير الماء هل يسلبه الطهورية أم لا ؟ .
الجواب : قال النووي رحمه الله في شرح المهذب : قال الشافعي رضي الله عنه في الأم : إذا وقع في الماء قطران فتغير ريحه جاز الوضوء به ثم قال بعده بأسطر : إذا تغير بالقطران لم يجز الوضوء به فقال الأصحاب : ليست على قولين بل على حالين فإن القطران ضربان مختلط وغيره ، وقال بعض الأصحاب : هما قولان وهو غلط هذا كلام شارح المهذب ، قلت : بقي صورتان لم ينبه عليهما ، إحداهما : ما إذا تغير لونه فإن الشافعي رضي(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الله عنه إنما فرض المسألة في تغير الريح ويظهر لي أن التغير باللون دليل المجاورة ، والثانية : ما إذا كان من صلاح الوعاء فإني سمعت أن القرب إذا لم تدهن به أسرع اليها الفساد فقد يقال : إن هذا حينئذ من المعفو عنه كالذي في مقر الماء وغيره ، وقد يقال : لا والفرق واضح .
باب الآنية
مسألة : قالوا : لو اشتري آنية ذهب أو فضة جاز ، وهو مشكل على قولنا : لا يجوز إتخاذ آنية الذهب والفضة .
الجواب : لا إشكال لأن مرادهم صحة الشراء لا إباحته ، وقد يصح الشيء مع تحريمه ، وفرق بين الأمرين على أن النووي قال في شرح المهذب : ينبغي تخريجه على جواز الاتخاذ فإن منعناه كان كبيع المغنية .
باب أسباب الحدث
مسألة : قال بعض المحققين الآن في شرحه في الكلام على الاستتار عند قضاء الحاجة : ويكفي الستر بالوهدة ونحوها وبإرخاء الذيل ، ولا يخفى أن محل عد الستر من الآداب إذا لم يكن بحضرة من يرى عورته ممن لا يحل له نظرها ، أما بحضرته فهو واجب وكشف عورته بحضرته حرام كما صرح به في شرح مسلم وجزم به صاحبا التوسط والخادم والبلقيني في فتاويه ، وقد قال الشيخ شهاب الدين بن النقيب في نكتته في قوله : ويبعد ويستتر أي يستر عورته ولو بشجرة ، وقال الشيخ جمال الدين الأسنوي في القطعة في قوله : ويستتر عن عيون الناس فتحرر أن المراد ستر العورة عن عيون الناظرين ، وقد قال أعني الأسنوي في أثناء الكلام على قوله يقدم داخل الخلاء يساره والخارج يمينه تنبيه جميع ما هو مذكور في هذا الباب من الآداب محمول على الاستحباب إلا الاستقبال والاستدبار في الصحراء قاله في شرح المهذب وسنذكر من لفظ المصنف ما يدل عليه فاعلمه . ثم قال في كلامه على قوله ويحرمان بالصحراء : تنبيهات أحدها أن عدول المصنف هنا إلى التحريم دون ما قبله وما بعده من الآداب يعرفك عدم تحريمها وهو كذلك كما سبق انتهى ، وقد قالوا في الغسل : أنه يحرم كشف العورة له بحضرة الناس ، والمسؤول بيان ما يعول عليه من ذلك هل هو عدم جواز كشف العورة له بحضرة الناس في قضاء الحاجة والغسل والاستنجاء أو جواز الكشف لذلك وعلى الناس غض أبصارهم ؟ وبيان أن الثلاثة على نسق واحد في الجواز وعدمه أو أن بعضها مخالف لبعض ، وإذا قلتم : إن بعضها يخالف الباقي فما الفرق ؟ وهل يقال : أن الغسل محل حاجة بدليل أنه يمكن مع الستر بالإزار ، والبول والاستنجاء محل ضرورة في الجملة فيسامح فيهما بما لا يسامح في الغسل ، والمسؤول بيان ما يعول عليه من ذلك متفضلين بعزو ما يكون منقولاً وبتوجيه غيره لتكمل الفائدة .
الجواب : المعول عليه تحريم كشف العورة بحضرة الناس في قضاء الحاجة والغسل والاستنجاء ، فالذي قاله الشارح المشار إليه صحيح ، وأما استشكاله بقول الأسنوى : إن(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
جميع ما في الباب محمول على الاستحباب وعد من ذلك الستر وفسره بقوله عن عيون الناس فقد تبع في هذه العبارة أكثر الأصحاب ، وقد استشكل ذلك على الأصحاب الجيلي ثم النووي كلاهما في شرح التنبيه فقالا : إن عد ذلك أدباً فيه إشكال لأن ستر العورة واجب وعبارة الروضة حسنة فإنه قال : أن يستر عورته عن العيون فيمكن حمل العيون على عيون الجن فيصح عد ذلك أدباً بهذا الاعتبار ، وقد ظهر تأويل حسن لعبارة من قال : عن عيون الناس ذكرته في حاشية الروضة وهو أنه ليس المراد بالناس الحاضرين بل من قد يمر من الطارقين حال قضاء الحاجة ، فخوطب من أراد قضاء الحاجة وهو خال من المارين بالاستعداد للاستتار لاحتمال أنه إذا جلس بلا سترة يمر عليه فجأة مار فيقع بصره على عورته ، وهذا مستحب بلا شك لأنه ليس فيه كشف العورة بحضرة أحد ، وقد يفرغ من حاجته قبل أن يمر أحد أو يشعر بمن مر قبل أن يراه فينحرف أو يرخي ذيله ، وهذا التأويل حسن أو متعين ، فيفسر قولهم : عن عيون الناس أي الطارقين بغتة لا الحاضرين ، أما الحاضرون فالستر عنهم واجب ، وحاصل الفرق أن النظر من الحاضرين حاصل في الحال فكان الستر واجباً ومن الطارقين متوقع إو متوهم فكان أدباً إذ لا تكليف قبل الحصول ، ويحتمل أن يقال بالتفرقة بين وصوره ، فمن كان قريباً من الناس بحيث يميز البصر عورته حرم الكشف للبول والاستنجاء بحضرتهم عليه ، ومن كان بعيداً وهم يرونه على بعد من غير تمييز لعورته ولا إدراك للون جلده بل إنما يرون شبحاً كما يقع كثيراً لمن يستنجي على شطوط الأنهار ، فهذا يظهر أن يقال فيه بالجواز ، ويظهر أن يقال بالجواز أيضاً في صورة وهو أن يأخذه البول وهو في مكان محبوس بين جماعة ولا سبيل إلى جهة يستتر بها ، فهذا يجوز له التكشف للبول وعليهم غض أبصارهم ، وكذا لو احتاج إلى الاستنجاء وقد ضاق وقت الصلاة ولم يجد بحضرة الماء مكاناً خالياً فهذا أيضاً يجوز له وعليهم الغض والله أعلم .
مسألة : لو شم الشخص يده بعد الاستنجاء فأدرك فيها رائحة النجاسة فقد صرح النووي بنجاسة اليد دون المحل وهو مشكل لأن اليد منفصلة عن المحل ومكتسبة منه .
الجواب : ذكر في شرح المهذب أن المسألة مبنية على مسألة ما لو غسلت النجاسة وبقيت رائحتها يعني مع العسر والأرجح فيها الطهارة فكذلك هنا الأرجح طهارة المحل ، وأما اليد فلم تغسل بعد فهي باقية على النجاسة يجب غسلها .
باب الوضوء
مسألة : لو بالغ في المضمضة وهو صائم هل يحرم أو يكره ؟
الجواب : المبالغة للصائم مكروهة ، صرح بالكراهة في شرح المهذب .
مسألة : لو نوى الاعتراف بعد غسل الوجه فهل يحتاج إلى تجديد النية لكون نية الاغتراف قاطعة لرفع الحدث كما لو طرأت نية التبرد ؟(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
الجواب : لا يحتاج إلى ذلك ، أفتى به الشيخ جلال الدين البلقيني وعلله بأن نية التبرد فيها صرف لغرض آخر وإنما ينوي الاغتراف لمنع حكم الاستعمال ، فهذا ولا بد يكون ذاكراً لنية رفع الحدث .
باب مسح الخف
مسألة : لو كان سليم إحدى الرجلين والأخرى عليلة بحيث يسقط غسلها فهل يجوز لبس الخف في إحداهما ؟ وقد قطع الدارمي بالصحة وقطع العمراني بالمنع .
الجواب : قد صحح في زوائد الروضة مقالة العمراني .
باب الغسل
مسألة : إذا اغتسل عن الجنابة هل يشترط في الوضوء الذي يتوضأه قبله الموالاة أم لا ؟ وإذا توضأ هذا الوضوء ثم انتهى بسبب من الأسباب قبل الغسل مع قرب الزمن هل يشترط إعادته لتحصيل السنة أم لا ؟ وهل سنة الوضوء كذلك إذا انتهت قبل تمامه ؟
الجواب : لا تشترط الموالاة ولا الإعادة .
مسألة : لو ألقت المرأة بعض ولد ولم تر بللاً فلا غسل عليها ، وهو مشكل مع قولنا : أن الولد يخلق من منهما .
الجواب : لم أر التصريح ببعض الولد في كلامهم ، وقد قالوا فيما لو ألقت علقة أو مضغة بلا بلل : إنه يجب الغسل ، ومقتضاه أن بعض الولد كذلك ويمكن الفرق .
مسألة : البلل [ الخارج ] على الولد هل هو طاهر أو نجس ؟ وهل ينجس ما أصابه ؟
الجواب : قال الماوردي في الحاوي ما نصه :
فصل : فأما حمل الميتة فإن انفصل بعد موتها حياً فهو طاهر ، ولكن قد نجس ظاهر جسمه بالبلل الخارج معه ، ولو كان قد انفصل منها في حياتها كان في البلل الخارج معه ومع البيضة من الطائر وجهان لأصحابنا ، أحدهما نجس كالبول . والثاني طاهر كالمني ، وهكذا البلل الخارج من الفرج في حال المباشرة على هذين الوجهين ، وقال البغوي في التهذيب : يجب غسل البيضة إن وقعت حالة الانفصال في مكان نجس ، وإن وقعت في مكان طاهر لا يجب على قول من يقول : بلل باطن الفرج طاهر ، وعلى قول من يقول : بلل باطن الفرج نجس يجب غسله ، وقال صاحب البيان : وفي نجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه وجهان كمنيه ، فإذا قلنا : إنه طاهر فهل يجب غسل ظاهره ؟ فيه وجهان بناءاً على نجاسة رطوبة فرج المرأة ، وفي فتاوي ابن الصلاح سئل هل يكون المولود إذا وقع على الأرض نجساً أم لا ؟ فأجاب : لا يحكم بنجاسة المولود عند ولادته على الأصح الظاهر من أحوال السلف رضي الله عنهم ، وفي شرح المهذب في باب الآنية ما نصه : وأما البيضة الخارجة في حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها ؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي ، والروياني ،(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
والبغوي ، وغيرهم بناءاً على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة ، وكذا الوجهان في الولد الخارج في حال الحياة ذكرهما الماوردي ، والروياني ، وفي شرح المهذب أيضاً في باب إزالة النجاسة وهل يجب غسل ظاهر البيض إذا وقع على موضع طاهر ؟ فيه وجهان حكاهماالبغوي ، وصاحب البيان وغيرهما بناءاً على أن رطوبة الفرج طاهرة أم نجسة ، وقطع ابن الصباغ في فتاويه بأنه لا يجب غسله وقال : الولد إذا خرج طاهر لا يجب غسله بإجماع المسلمين فكذا البيض ، وقال بعده بأوراق مانصه : الرابعة في الفتاوي المنقولة عن صاحب الشامل أن الولد إذا خرج من الجوف طاهر لا يحتاج إلى غسله بإجماع المسلمين : قال : ويجب أن يكون البيض كذلك فلا يجب غسل ظاهره ، قال : والنجاسة الباطنة لا حكم لها ولهذا اللبن يخرج من بين فرث ودم وهو طاهر حلال ، وقال الأسنوي في المهمات : رأيت في الكافي للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوع المولود فيه على الأصح قال : فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعاً على الخلاف ، وأن يكون مفرعاً على القول بعدم وجوب الغسل لكونه نجساً معفواً عنه انتهى ، لكن جزم الرافعي في الشرح الصغير بنجاسة البلل الخارج مع الولد ، ونقله الزركشي في الخادم وحكاه عن تصحيح الروياني في البحر ، فإن قصد الرافعي ولد غير الآدمي فهو على أصله لأن الأصح عنده نجاسة مني غير الآدمي ، ونجاسة رطوبة الفرج من غير الآدمي ، وإن أراد الآدمي وغيره فهو مخالف للبناء الذي ذكره الماوردي وغيره
مسألة : هل يجوز للجنب قراءة سورة الكهف لا بقصد القرآن ؟
الجواب : يجوز للجنب ايراد شيء من القرآن إذا لم يقصد القرآن بل قصد الذكر أو الوعظ أو الإخبار مثل : ) يا يحيى خذ الكتاب ( ونحو ذلك ، أما قراءة سورة الكهف لا بقصده فإن ذلك لا يتصور إيراده بلا قصد القرآن لأنه إنما يظهر الخلو عن قصد القرآن في آية أو نحوها ، أما مثل سورة كاملة فإنها لا يتصور فيها ذلك لأنها لا يقصد منها كلها شيء مما ذكر ، واللفظ موضوع للتلاوة .
باب النجاسة
مسألة : الأرض الترابية إذا تنجست نجاسة مغلظة ثم وطئها شخص وعلق به التراب أو الوحل المتنجس فهل يحتاج في تطهيره إلى تعفير أم لا ؟ وإذا قلتم : إنه يحتاج إلى تعفير فما الفرق بينه وبين ما إذا أصابه شيء من الغسلة الثانية وقد عفر في الأولى بجامع أن ما أصابه من الغسلة الثانية لا يجب تعفيره إذ هو من شيء لا يطلب تعفيره وكذلك ما أصابه من الأرض من شيء لا يطلب تعفيره ؟
الجواب : يحتاج إلى التعفير وذلك منقول ، والفرق بينه وبين الأرض الترابية حيث لا تحتاج هي أن لا تعفر أنه لا معنى لتتريب التراب وهنا المتنجس غير التراب وهو البدن أو الثوب بالتراب المتنجس والتراب المتنجس لا يكفي في الولوغ ، وفي وجه يكفي فلا يحتاج(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
إليه على هذا ، قال ابن السبكي في الطبقات : كان أبو بكر الضبعي يذهب إلى أن تراب الولوغ يجوز أن يكون نجساً وهو وجه غريب حكاه الرافعي ، قال أبو عاصم : وذكر أنه ركب يوماً فأصاب ذراعه طين من وحل كلب فأمر جاريته بغسله وتعفيره فقالت الجارية : أما في الطين تراب ؟ فقال : أحسنت أنت أفقه مني انتهى ما حكاه ابن السبكي ، وهذه عين المسألة المسؤول عنها ، وقد صرح ابن السبكي بأن ارتضاءه بعدم التعفير مبني على رأيه من الاكتفاء بالتراب النجس وهو وجه ضعيف ، فيكون على مقابله وهو الأصح محتاجاً إلى التعفير وقد أوضحنا علته ، وأما الفرق بينه وبين ما يصيب من الغسلة الثانية بعد التعفير فهو أنه من شيء وقع تعفيره لا من شيء لم يطلب تعفيره في الأصل ، وقد تقرر أن حكم غسالة النجاسة كحكم المغسول بها بعد غسلها فما كان حكمه كان حكم ما أصابته .
مسألة : لو أكل الشخص لحم كلب أو خنزير يرو أنه من غير استحالة هل يسبع المحل ؟
الجواب : لا يسبع نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه ونقله المتأخرون .
مسألة : إذا وقع أو ألقى في الخمر عين طاهرة كحصاة أو جريدة أو شيء مما يؤكل وأزيل ثم انقلبت خلاً هل تطهر أولا ؟ وإذا بقي فيها شيء مما ذكر حتى صارت خلاً هل ينجسها أولا ؟ وإذا انفصل شيء من الخمر أو فصل وعاد إليه أو أعيد أو صب عليها خمر ثم انقلبت خلاً هل تطهر أم لا ؟
الجواب : عن الصورة الأولى أنها تطهر ففي فتاوي النووي : إذا وقعت في الخمر نجاسة أخرى كعظم ميتة ونحوه فأخرجت منها ثم انقلبت الخمر خلاً لم تطهر بلا خلاف ذكره صاحب التتمة ، وعبارة الزركشي في الديباج : الخمر إذا تخللت تطهر إجماعاً ، قال في التتمة : هذا إن لم يقع فيه نجاسة أخرى ، فإن وقعت ثم أخرجت وتخللت لم تطهر قطعاً ، ففرض المسألة فيما إذا كان الواقع نجاسة وأخرجت قبل التخليل يقتضي أنه لو لاقاها عين طاهرة وأخرجت قبل التخليل فإنها تطهر إذا تخللت فإن المدرك هنا طرف نجس أجنبي ، ومنه أخذ من أخذ أن النجس نجس وهو هنا مفقود ، ولا عبرة بما عساه يتوهم من أن العين تنجس ثم تنجس فإن ذاك إنما يظهر أثر بعد الانقلاب كما لا يخفي ، ومن نظائر ذلك أن طروء النجس الأجنبي يمنع الاستنجاء بالحجر ولا يمنعه مر الحجر الطاهر من أول المحل إلى آخره وإن تلوث بأول جزء إذا لم ينفصل ، وكذا مر الماء على الثوب النجس المراد تطهيره وعلى محل الحدث .
وحاصل ما ذكرناه التفرقة بين النجسة والطاهرة في الملاقاة قبل التخليل لما في الأولى من طروء نجاسة أجنبية وإلى ذلك يشير قول النووي : نجاسة أخرى والتفرقة في الطاهرة بين ما إذا زالت قبل التخليل وما إذا بقيت بعده فإنها في الحالة الأولى مشاكلة وفي الثانية مغايرة فإنها في الأولى متلوثة بخمر في خمر فلا تؤثر . وفي الثانية متلوثة بخمر في خل فتنجس ، وعن الثانية أنها لا تطهر على الأصح وهي منقول الكتب ، وعن الثالثة أن الظاهر أنها تطهر لأنه لا فرق في وضع الخمر في الدن بين أن يوضع دفعة واحدة أو شيئاً بعد شيء ، فصب(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
خمر على خمر بمثابة ما لو وضع في الدن أولاً كوز منه ثم كوز ثم كوز وهكذا ، فلا فرق في ذلك بين طول الزمان وقصره ، ولا بين أن يوضع عليه خمر من خارج أو يؤخذ منه ويعاد إليه والله أعلم .
تحفة الأنجاب بمسألة السنجاب
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد علي سؤال صورته ما قول مولانا شيخ الإسلام حافظ العصر مجتهد الوقت عالم أهل الأرض المبعوث في المائة التاسعة في شعر السنجاب ونحوه من شعور الميتة هل يطهر بالدباغ تبعاً للجلد أولا ؟ ولسنا نسألكم عن مشهور مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فإن الأظهر من قوليه عند الجمهور عدم الطهارة ، بل نسألكم عما يقتضيه الدليل والنظر من حيث الاجتهاد ، والمسؤول أن يكون الجواب على طريقة الاجتهاد وأصحاب الاختيارات .
الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، الكلام على هذه المسألة يحتاج إلى تحرير مقدمتين : الأولى في أن الشعر هل ينجس بالموت أولا ينجس به بل يبقى على طهارته ؟ والثانية في مذاهب العلماء في طهارة الجلد بالدباغ وعدمها وحجج كل منهما .
أما المقدمة الأولى : فقد اختلف العلماء في نجاسة الشعر بالموت فذهب جماعة إلى نجاسته منهم عطاء ، والشافعي فيما حكاه عنه جمهور أصحابه ، البويطي ، والمزني ، والربيع المرادي ، وحرملة ، وأصحاب القديم ، وصححه جمهور المصححين ، وقال أكثر الأئمة : إن الشعر لا ينجس بالموت منهم عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وحماد بن أبي سليمان الكوفي ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي في آخر قوليه ، قال صاحب الحاوي : حكى ابن شريح عن أبي القاسم الأنماطي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجس الشعر ، وذهب إليه أيضاً أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، والمزني ، وابن المنذر ، وداود ، وقال أبو حنيفة : لا ينجس شيء من الشعر بالموت إلا شعر الخنزير ، واحتج هؤلاء بقول الله تعالى : ) ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ( وهذا عام في كل حال وبقوله صلى الله عليه وسلّم في الميتة : ( إنما حرم أكلها ) رواه الشيخان ، وبأن الشعر لا تحله الحياة بدليل أنه إذا جز لا يألم صاحبه فلا يحله الموت المقتضي للتنجيس فلا يكون نجساً بل يبقى على طهارته كما كان قبل الموت ، وبأن المقتضي لتنجيس اللحم والجلد ما فيها من الزهومة ولا زهومة في الشعر فلا ينجس ، وحكى العبدري عن الحسن ، وعطاء ، والأوزاعي ، والليث بن سعد أن الشعر ينجس بالموت ولكن يطهر بالغسل ، واحتجوا بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلّم : ( لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ ولا بشعرها إذا غسل ) رواه الدارقطني وسنده ضعيف ، وبالقياس على شعر غيرها إذا حلت فيه نجاسة فإنه يطهر بالغسل(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
كسائر الجامدات إذا طرأت نجاستها ، وحكى الربيع الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد يطهر بطهارته وينجس بنجاسته ، وهذا أقوى المذاهب كما سنذكره .
وأما المقدمة الثانية : فللعلماء في جلود الميتة سبعة مذاهب : أحدها لا يطهر بالدباغ شيء منها ، روى ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابنه ، وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد ، ورواية عن مالك . والثاني يطهر بالدبغ جلد مأكول اللحم دون غيره ، وهو مذهب الأوزاعي ، وابن المبارك ، وأبي ثور . وأسحق بن راهوية ، ورواية أشهب عن مالك . والثالث يطهر به كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو مذهب الشافعي ، وحكوه عن علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والرابع يطهر به الجميع إلا جلد الخنزير ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك حكاها ابن القطان ، والخامس يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب ويصلي عليه لا فيه وهو مذهب مالك فيما حكاه أصحابنا عنه ، والسادس يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير ظاهراً وباطناً ، قاله داود وأهل الظاهر وحكاه الماوردي عن أبي يوسف وحكاه غيره عن سحنون من المالكية ، والسابع ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ ويجوز استعمالها في الرطب واليابس حكوه عن الزهري ، واحتج أصحاب المذهب الأول بأشياء . منها قوله تعالى : ) حرمت عليكم الميتة والدم ( هو عام في الجلد وغيره ، وبحديث عبد الله ابن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل موته بشهر ( أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وهذا الحديث هو عمدتهم ، وقد أخرجه الشافعي في حرملة ، وأحمد في مسنده ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والدارقطنى ، والبيهقي ، وغيرهم ، قال الترمذي : سمعت أحمد بن الحسين يقول : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عكيم هذا لقوله قبل وفاته بشهر وكان يقول : هذا آخر الأمر ، قالوا : ولأنه جزء من الميتة فلا يطهر بشيء كاللحم ، ولأن المعنى الذي نجس به هو الموت وهو ملازم له لا يزول بالدبغ ولا يتغير الحكم ، واحتج أصحاب المذهب الثالث بما أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ) وفي لفظ : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) وبما أخرجه البخاري ، ومسلم عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم مر بشاة ميتة فقال : هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به ؟ قالوا : يا رسول الله إنها ميتة قال : ( إنما حرم أكلها ) وبما أخرجه البخاري عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شناً ، روى أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : ( ماتت شاة لسودة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة يعني الشاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : فهلاّ أخذتم مسكها ؟ قالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت ) فذكر تمام الحديث كرواية البخاري وروي مالك(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
في الموطأ ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه بأسانيد حسنة عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت ) وروى أحمد في مسنده ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في سننه وصححاه عن ابن عباس قال : ( أراد النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتوضأ من سقاء فقيل له إنه ميتة فقال : دباغة يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه ) وروى أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان والدارقطنى ، والبيهقي باسناد صحيح من طريق جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة قالت : ما عندي إلا ماء في قربة لي ميتة قال : أليس قد دبغتها ؟ قالت : بلى قال : ( فإن دباغها ذكاتها ) وروى أبو داود ، والنسائي ، والدارقطنى ، عن ميمونة قالت : ( مر على النبي صلى الله عليه وسلّم رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلّم : لو أخذتم أهابها ؟ قالوا : إنها ميتة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يطهرها الماء والقرظ ) وروى الدارقطنى والبيهقي في سننهما بسند حسن عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلّم بشاة ميتة فقال : ( هلا انتفعتم بأهابها ) فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة قال : ( إنما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها ؟ ) وفي لفظ عند الدارقطني قال : ( إنما حرم من الميتة أكلها ) وفي لفظ عنده [ قالوا : إنها ميتة ( قال : دباغها ذكاتها ) وفي لفظ عنده ] ( 2 قال : ( إنما حرم لحمها ودباغ إهابها طهوره ) وفي لفظ عنده قال : ( إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها ) قال الدارقطنى : هذه أسانيد صحاح ، وروى الدارقطنى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( ذكاة الميتة دباغها ) وفي لفظ : ( طهورها دباغها ) وروى الدارقطنى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( دباغ كل إهاب طهوره ) وروى الدارقطنى بسند صحيح عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أيما اهاب دبغ فقد طهر ) وروى الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث جابر مثله ، وروى الطبراني في الكبير ، والأوسط عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج في بعض مغازيه فمر بأهل أبيات من العرب فأرسل إليهم : ( هل من ماء لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ فقالوا : ما عندنا ماء إلا في إهاب ميتة دبغناها بلبن فأرسل إليهم أن دباغه طهوره فأتى به فتوضأ ثم صلى ) وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقال لي : يا بني ادع لي من هذه الدار بوضوء فقلت : رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطلب وضوءاً فقالوا : أخبره أن دلونا جلد ميتة ؟ فقال : سلهم هل دبغوه ؟ قالوا : نعم قال : ( فإن دباغه طهوره ) وروى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشاة ميتة فقال : ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بأهابها ؟ وروى الطبراني في الكبير عن سنان ابن سلمة ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى على جذعة ميتة فقال : ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بمسكها ؟ ) وروى الدارقطنى عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم مر على شاة فقال : ما هذه ؟ فقالوا : ميتة قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( أدبغوا إهابها فإن دباغه طهوره ) وروى الدارقطنى عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( دباغ جلود الميتة طهورها ) وروى الدارقطنى عن عائشة(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( طهور الأديم دباغه ) وروى أبو يعلى ، والطبراني ، والدارقطني عن أم سلمة أنها كانت لها شاة فماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : أفلا انتفعتم بأهابها ؟ قلنا إنها ميتة فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( إن دباغها يحل كما يحل الخل من الخمر ) .
وروى أحمد ، والطبراني عن المغيرة بن شعبة قال : ( طلب النبي صلى الله عليه وسلّم ماء من امرأة أعرابية فقالت : هذه القربة مسك ميتة ولا أحب أنجس به رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال : أرجع إليها فإن كانت دبغتها فهو طهورها فرجعت إليها فقالت : لقد دبغتها فأتيته بماء منها ) وروى الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن أنس بن مالك ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم استوهب وضوءاً فقيل له : لم نجد ذلك إلا في مسك ميتة فقال : أدبغتموه ؟ قالوا : نعم قال : فهلم فإن ذلك طهوره ، وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : كنا نصيب مع النبي صلى الله عليه وسلّم في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية فنقسمها كلها ميتة ، وبالقياس لأنه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهر كجلد المذكاة إذا تنجس .
وأجابوا عن احتجاج الأولين بالآية بأنها عامة خصصتها السنة ، وأما حديث عبد الله بن عكيم فأجاب عنه البيهقي ، وجماعة من الحفاظ بأنه مرسل ، وابن عكيم ليس بصحابي ، وكذا قال أبو حاتم ، وقال ابن دقيق العيد : روى أن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعي ، وأحمد بن حنبل في جلود الميتة إذا دبغت فقال الشافعي : دباغها طهورها فقال له إسحاق : ما الدليل ؟ فقال : حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : هلا انتفعتم بإهابها ؟ ) فقال له إسحاق : حديث ابن عكيم كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلّم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا بشيء من الميتة بإهاب ولا عصب ، فهذا يشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة لأنه قبل موته بشهر ، فقال الشافعي رضي الله عنه : هذا كتاب وذاك سماع ، فقال إسحاق : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب إلى كسرى ، وقيصر فكانت حجة عليهم عند الله فسكت الشافعي فلما سمع ذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عكيم وافتى به ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي ، قال ابن دقيق العيد : كان والدي يحكي عن شيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي وكان من أئمة المالكية أنه كان يرى أن حجة الشافعي باقية ، يريد لأن الكلام في الترجيح بالسماع والكتاب لا في إبطال الاستدلال بالكتاب ، وقال الخطابي : مذهب عامة العلماء جواز الدباغ والحكم بطهارة الإهاب إذا دبغ ووهنوا هذا الحديث لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما هو حكاية عن كتاب أتاهم ، قال : وقد يحتمل أن ثبت الحديث أن يكون النهي إنما جاء عن الانتفاع بها قبل الدباغ ، فلا يجوز أن تترك به الأخبار الصحيحة التي قد جاءت في الدباغ وأن يحمل على النسخ ، وقال غيره : قد عللوا حديث ابن عكيم بأنه مضطرب في إسناده حيث روى بعضهم فقال : عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة كذا حكاه الترمذي وهؤلاء الأشياخ مجهولون لم تثبت صحبتهم ، وقد حكى الترمذي عن أحمد بن حنبل أنه كان يذهب إلى هذا الحديث ثم تركه لهذا الاضطراب ، وقال الخلال :(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
لما رأى أبو عبد الله تزلزل الرواة فيه توقف فيه ، وقد روى قبل موته بشهر وروى بشهرين وروى بأربعين يوماً وروى بثلاثة أيام ، وروى من غير تقييد بمدة وهي رواية الأكثر ، وهذا الاضطراب في المتن ، وأجيب عنه أيضاً بأن أخبار الدباغ أصح إسناداً وأكثر رواة فهي أقوى وأولى ، وبأنه عام في النهي ، وأخبار الدباغ مخصصة للنهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ ، والخاص مقدم على العام عند التعارض ، وبأن الإهاب في اللغة هو الجلد قبل أن يدبغ ولا يسمى بعده إهاباً كذا قاله الخليل بن أحمد ، والنضر بن شميل ، وأبو داود السجستاني ، وكذا قاله الجوهري ، وآخرون من أهل اللغة ، وهذا من القول بالموجب .
فإن قالوا : هذا الخبر متأخر فيقدم ويكون ناسخاً ، فالجواب من أوجه : أحدها لا نسلم تأخره عن أخبار الدباغ لأنها مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلّم بدون شهرين وشهر ) الثاني أنه روى قبل موته بشهر وروى بشهرين وروى بأربعين يوماً ، وكثير من الروايات ليس فيها تاريخ ، وكذا هو في رواية أبي داود فحصل فيه نوع اضطراب فلم يبقى تاريخ يعتمد . الثالث : لو سلم تأخره لم يكن فيه دليل لأنه عام وأخبار الدباغ خاصة والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر كما هو معروف عند الجماهير من أهل أصول الفقه
وأما الجواب : عن قياسهم على اللحم فمن وجهين : أحدهما أنه قياس في مقابلة نصوص فلا يلتفت إليه . والثاني : أن الدباغ في اللحم لا يتأتى وليس فيه مصلحة له بل يمحقه بخلاف الجلد فإنه ينطفه ويطيبه ويصلبه ، وبهذين الجوابين يجاب عن قولهم : العلة في التنجيس الموت وهو قائم واحتج أصحاب المذهب الثاني بما رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم ، وغيرهم بأسانيد صحيحة عن أبي المليح عامر بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن جلود السباع ) وفي رواية للترمذي : ( نهى عن جلود السباع أن تفترش ) قالوا : فلو كانت تطهر بالدباغ لم ينه عن افتراشها مطلقاً ، وبحديث سلمة بن المحبق السابق : ( دباغها ذكاتها ) قالوا : وذكاة ما لا يؤكل لا تطهره ، قالوا : ولأنه حيوان لا يؤكل فلم يطهر جلده بالدبغ كالكلب ، وأجاب أصحابنا بالتمسك بعموم ( أيما إهاب ) و ( إذا دبغ الإهاب ) وأن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت فإنها عامة في كل جلد ، قالوا :
وأما الجواب : عن حديث النهي عن جلود السباع فمحمول على ما قبل الدباغ
فإن قيل : لا معنى لتخصيص السباع حينئذ بل كل الجلود في ذلك سواء
فالجواب : أنها خصت بالذكر لأنها كانت تستعمل قبل الدباغ غالباً أو كثيراً ، وأما حديث سلمة فمعناه أن دباغ الأديم مطهر له ومبيح لاستعماله كالذكاة فيما يؤكل ، وأما قياسهم على الكلب فجوابه الفرق بأنه نجس في حياته فلا يزيد الدباغ على الحياة .
واحتج أصحاب المذهب الرابع ، والخامس ، والسادس بعموم أحاديث الدباغ ، وأجاب الأولون عنها بأنها خص منها الكلب ، والخنزير للمعنى المذكور وهو أنهما نجسان في(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
الحياة فلا يزيد الدباغ عليها ؛ واحتج أصحاب المذهب السابع برواية وردت في حديث ابن عباس ( هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ؟ ) ولم يذكر الدباغ ، وأجاب الأولون بأن هذه الرواية مطلقة فتحمل على الروايات المقيدة لما تقرر في أصول الفقه من حمل المطلق على المقيد .
إذا تقرر ذلك فتعود إلى مسألتنا فنقول : من ذهب إلى أن الشعر لا ينجس بالموت بل هو باق على طهارته وهم أكثر الأئمة كما تقدم فلا إشكال على مذهبه ، وكذا من ذهب إلى أنه ينجس بالموت ويطهر بالغسل ، وأما من قال : بنجاسته بالموت وأنه لا يطهر بالغسل وهو الشافعي رضي الله عنه في أول قوليه وهو المشهور من مذهبه فهل يطهر الشعر عنده بالدباغ تبعاً للجلد أولاً ؟ فيه قولان مشهور أن عن الشافعي ، قال صاحب المهذب : فان دبغ جلد الميتة وعليه شعر قال في الأم : لا يطهر الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه ، وروى الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر لأنه شعر نابت على جلد فهو كالجلد في الطهارة كشعر الحيوان في حال الحياة ، قال النووي في شرح المهذب : هذان القولان للشافعي مشهوران وأصحهما عند الجمهوري نصه في الأم أنه لا يطهر ، وممن صححه من المصنفين أبو القاسم الصيمري ، والشيخ أبو محمد الجويني ، والبغوي ، والشاشي ، والرافعي وقطع به الجرجاني في التحرير قال : وصحح الأسناد أبو إسحاق الإسفراييني ، والروياني ، طهارته قال الروياني : لأن الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه قسموا الفراء المغنومة من الفرس وهي ذبائح مجوس ، واستدل من صحح القول الأول بحديث أسامة السابق ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن جلود السباع ) وروى أبو داود ، والنسائي بإسناد حسن عن المقدام بن معدى كرب أنه قال لمعاوية : أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها ؟ قال : نعم ، وروى أبو داود عن معاوية أنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم ، قال الأصحاب : يستدل بهذه الأحاديث على أن الشعر لا يطهر بالدباغ لأن النهي متناول لما بعد الدباغ ، وحيث لا يجوز أن يكون النهي عائداً إلى نفس الجلد فإنه طاهر بالدباغ بالدلائل السابقة فهو عائد إلى الشعر ، هذا ما في شرح المهذب ، وأقول : الذي يترجح عندي بالنظر في الأدلة ما رجحه الإسفراييني ، والروياني من طهارة الشعر بالدباغ . وقد رجحه أيضاً العبادي وقال : عليه تدل الآثار ، وصححه من المتأخرين ابن أبي عصرون في المرشد لعموم البلوى به . والشيخ تقي الدين السبكي قال ولده في التوشيح : صحح ابن أبي عصرون طهارة الشعر بالدباغ قال الوالد في مجاميعه : وهو الذي اختاره وأفتى به للحديث ، وقال صاحب الخادم : قال بعضهم : كأنه يعني البلقينى هو المختار من جهة الدليل لا سيما وقد قيل : إن الشعر لا ينجس بالموت ، قلت : ومن الأدلة على ما اخترته ما أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال : رأيت على ابن أبي وعلة السبائي فرواً(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
فمسسته فقال : مالك تمسه ؟ قد سألت عبد الله بن عباس قلت : أنا نكون بالمغرب ومعنا البربر ، والمجوس نؤتي بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم ويأتون بالسقاء يجعلون فيه الودك فقال ابن عباس : قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال : دباغه طهوره ، وأخرج الدارقطنى من طريق الوليد بن مسلم عن أخيه عبد الجبار بن مسلم عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الميتة لحمها فأما الجلد ، والشعر ، والصوف فلا بأس به ، ورجاله على شرط الصحيح إلا عبد الجبار فإنه ضعيف ، وأصل الحديث في الصحيح من وجه آخر عن الزهري مختصراً بلفظ ( إنما حرم من الميتة لحمها ) دون بقية الحديث ، ولم ينفرد عبد الجبار بل توبع فأخرجه الدارقطنى ، والبيهقي من طريق شبابة عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم فأما الجلد ، والشعر ، والصوف فهو حلال وأخرجه الدارقطنى أيضاً من طريق زافر بن سليمان عن أبي بكر الهذلي به ، وأخرجه أيضاً من وجه أخر عن زافر بن سليمان عن أبي بكر الهذلي أن الزهري حدثهم عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها ) فأما الجلد ، والفرو ، والشعر ، والصوف فكل هذا حلال لأنه لا يذكي ، وله شاهد أخرجه البيهقي من طريق يوسف بن السعد عن الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سمعت أم سلمة تقول : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بصوفها وشعرها إذا غسل بالماء ، وله شاهد ثان أخرجه البيهقي عن عبد الله بن قيس البصري أنه سمع ابن مسعود يقول : إنما حرم من الميتة لحمها ودمها ، وشاهد ثالث أخرجه البيهقي من طريق أبي وائل عن عمر بن الخطاب أنه قال في الفراء : ذكاته دباغه ، وشاهد رابع أخرجه أحمد ، والبيهقي من طريق ثابت البناني قال ( كنت جالساً مع عبد الرحمن بن أبي ليلى فأتاه ذو ضفرتين فقال : يا أبا عيسى حدثني ما سمعت من أبيك في الفراء قال : حدثني أبي أنه كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلّم فأتاه رجل فقال : يا رسول الله أصلي في الفراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأين الدباغ ؟ قال ثابت : فلما ولىّ قلت : من هذا ؟ قال : سويدبن غفلة . وشاهد خامس أخرجه أبو الشيخ بن حبان والبيهقي عن أنس ابن مالك قال : ( كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له رجل : يا رسول الله كيف ترى في الصلاة في الفراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( فأين الدباغ ؟ ) وروى البيهقي أيضاً عن قتادة قال : سأل داود السراج الحسن عن جلود النمر والسمور تدبغ بالملح قال : دباغها طهورها ؛ فهذه أحاديث ، وآثار صريحة في الحكم من غير معارض صريح ، حديث آخر أخرج الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك عن سلمان الفارسي قال : ( سئل(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الجبن والفراء ؟ فقال : ( الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ) هذا الحديث بنص رسول الله صلى الله عليه وسلّم صريح في إباحة الفراء كما هو نص استدلوا به في إباحة الجبن ولهذا بوب عليه الترمذي ) باب لبس الفراء ( وإنما وقع السؤال عن هذين بخصوصهما لما قد يتوهم من نجاستهما لما في الجبن من الأنفحة ولكون الفراء من ميتة ، ولو كان المراد الفراء المذكاة لم يحسن السؤال عنها للعلم بطهارتها قطعاً ، وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهما معاً بأنهما مما عفا الله عنه ، ولهذا الحديث شاهد موقوف على سلمان ، وأخرج عن الحسن مرسلاً ، قال الترمذي : وفي الباب عن المغيرة يشير إلى أن للحديث شاهداً من حديث المغيرة وله شاهد آخر عن أنس أخرج الطبراني في الأوسط عن راشد الحماني قال : رأيت أنس بن مالك عليه فرو أحمر فقال : كانت لحفنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم نلبسها ونصلي فيها ، رجال إسناده ثقات إلا أحمد بن القاسم فهذا أيضاً من الأدلة ، ولو كان الفرو الذي رآه على أنس من مذكى لم يكن محل إنكار حتى احتاج أنس إلى الاستدلال على طهارتها بأنهم كانوا يلبسونها ويصلون فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولأصل حديث سلمان شاهد صحيح من حديث أبي الدرداء أخرج البزار في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيرهما ، والطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي في مختصره ، وابن مردويه في تفسيره عن أبي الدرداء رفع الحديث قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا ) وما كان ربك نسياً ( وشاهد آخر من حديث جابر أخرج ابن مردويه عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم لكعب بن مالك : يا كعب ما أحل ربك فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته ) وما كان ربك نسياً ( . وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة ، ويؤيد أن سؤالهم في حديث سلمان عن الجبن لأجل ما فيه من الأنفحة . وعن الفراء لأجل كونه من ميتة ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عمرو بن شرحبيل قال : ذكرنا الجبن عند عمر بن الخطاب فقلنا : إنه يصنع فيه أنافح الميتة فقال عمر : سموا الله عليه وكلوا ؛ وروى سعيداً أيضاً عن الشعبي قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلّم بجبنة في غزوة تبوك فقيل : إن هذه من صنعة المجوس فقال : ( إذكروا اسم الله وكلوه ) وروى سعيد أيضاً عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : دخلت مع أبي علي بن عباس فقال له : إنه يصنع لنا بالعراق من هذا الجبن وقد بلغني أنه يصنع فيه من أنافح الميتة فقال ابن عباس : ما علمت أنه من أنافح الميتة فلا تأكله وما لم تعلم فكله ، قال له أبي : وأنه يصنع لنا من هذه الفراء وبلغني إنها تصنع من جلود الميتة فقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( دباغ كل أديم ذكاته ) ورواه الدولابي في الكنى عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : قلت لابن عباس : الفراء تصنع من جلود الميتة ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( ذكاة كل مسك دباغة ) فهذا أيضاً صريح في أن الدباغ يطهر الفراء مطلقاً جلداً أو شعراً ، ومما يستدل به لطهارة الشعر بالدباغ(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
إطلاق الأحاديث السابقة في دباغ إهاب الشاة فإنه لو كان الشعر لا يطهر بالدباغ لبين لهم ذلك وقال : انزعوا اشعرها وادبغوا الجلد وانتفعوا به وحده لأنه محل بيان ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز فلما أطلق ولم يفصل دل على أن الشعر يطهر بالدباغ تبعاً للجلد ، ومما يستدل به لذلك قوله تعالى : ) والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ( وقول الأصحاب : إن هذه الآية محمولة على شعر المأكول إذا ذكي وأخذ في حياته يجاب عنه بأن الآية خوطب بها المشركون من أهل مكة ولهذا قيل في أواخر تعداد النعم : ) كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( وقد كان المشركون يذبحون للأصنام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قبل البعثة يتوقف في أكل ذبائحهم فكانت ذبائحهم ميتة ، وقد وردت الآية امتناناً عليهم بالانتفاع بشعورها فدل على أن الدباغ طهرها ، وقول بعض الفقهاء : إن ( من ) في الآية للتبعيض والمراد البعض الطاهر ينازع فيه بأن ( من ) هذه ليست هي التبعيضة بل هي التجريدية كما يفهمه من له خبرة بعلم البيان ، وكذلك هي في الجملتين الأوليين في الآية فهي كالمثال الذي يمثل يه أرباب البيان وهو قولهم لي مني فلان صديق حميم أي أن فلاناً نفسه صديق حميم وليس المراد أن بعضه صديق ، وهذا معروف يسمى بالتجريد عند علماء البلاغة ، استدلال آخر ، قال بعض المجتهدين : يمكن أن يستدل لطهارة الشعر بالدباغ بنفس الحديث وهو قوله : ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ) لأن اسم الإهاب ينطلق على الجلد بشعره فيقال : هذا إهاب الميتة ولا يلزم أن يقال : هذا إهابها وشعرها ، وإذا انطلق الإسم عليه حصلت الطهارة ، قال : ومما يؤيده حديث أبي الخير قال : ( رأيت على ابن وعلة فرواً فكلمته فيه فقال : سألت عبد الله بن عباس فقلت : انا نكون بأرض المغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتي بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم ونؤتي بالسقاء يجعلون فيه الودك فقال ابن عباس : ( قد سألنا النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال : ( دباغه طهوره ) وحديث ثابت البناني قال : ( كنت سابع سبعة مع عبد الرحمن بن أبي ليلى في المسجد فأتى شيخ ذو ضفرتين فقال : يا أبا عيسى حدثني حديث أبيك في الفراء فقال : حدثني أبي فقال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلّم فأتاه رجل فقال : يا رسول الله انصلي في الفراء ؟ قال : فأين الدبغ ؟ فلما ولى قلت : من هذا ؟ قال : هذا سويد بن غفلة ، قال : ( هذا المجتهد المذكور ) ، ويمكن أن يستدل بالحديث على عدم نجاسة الشعور أصلاً ورأساً بأن يجعل دليلاً على مقدمة في الدليل ، وطريقة أن يقال : لو نجس الشعر بالموت لكان طاهراً بعد الدباغ لكن كان طاهراً قبل الدباغ فلا ينجس بالموت ، بيان الملازمة أن الدباغ إنما يفيد الطهارة في ماله أثر ولا أثر للدباغ في الشعر فلا يفيد الطهارة ، وبيان أنه طاهر بعد الدباغ أن اسم الإهاب يطلق عليه بالشعر المتصل به فيقال : هذا إهاب الشاة مثلاً ولا يلزم أن يقال : هذا إهابها وشعرها فدل ذلك على إطلاق اسم الإهاب على الجلد بشعره ، وإذا انطلق عليه(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وجب أن يطهر لقوله عليه الصلاة والسلام : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) والاعتراض عليه يمنع الملازمة ، وقوله في تقريرها : إن الدباغ إنما يفيد الطهارة فيما له فيه أثر يقال عليه : إنما يفيدها فيما له فيه أثر قصداً أو تبعاً الأول مسلم ونحن لا نقول بأنه يفيدها في الشعر قصداً وإنما يفيدها تبعاً للجلد بدلالة الحديث وانطلاق لفظ الإهاب على الجميع انتهى .
ومن الأدلة القياسية على طهارة الشعر بالدباغ تبعاً للجلد القياس على دن الخمر إذا صارت خلاً فإنه يطهر تبعاً لها ، فإن اعترض معترض بأن ذاك من محل الضرورة قلنا : وهذا من محل الحاجة ، وقد نص الفقهاء في قواعدهم على أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ، ومما يستدل به أيضاً من جهة القياس مسألة ما لو ولغ الكلب في إناء فيه ماء قليل فإن الماء والإناء ينجسان معاً ، فلو كوثر الماء حتى بلغ قلتين فإن الماء يطهر ، وكذا الأناء تبعاً له في أحد الأوجه فهذا حكم بالطهارة على سبيل التبعية فيقاس عليه الحكم بطهارة الشعر على سبيل التبعية للجلد ، ومما يستدل به أيضاً من جهة القياس مسألة الدم الباقي على اللحم وعظامه فإنه محكوم بطهارته تبعاً للحم لعموم البلوى به كما ارتضاه النووي في شرح المهذب وقال : قد ذكره أبو إسحق الثعلبي المفسر من أصحابنا ونقل عن جماعة كثيره من التابعين أنه لا بأس به ، ودليله المشقة في الاحتراز منه ، وصرح أحمد وأصحابه بأن ما يبقى بعد من الدم في اللحم معفو عنه ولو علت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز منه ، وحكوه عن عائشة ، وعكرمة ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي يوسف ، وأحمد ، وإسحق ، وغيرهم ، قلت : مع أن الأصل في الدم النجاسة وهي فيه أظهر منها في الشعر لما تقدم من أن أكثر الأئمة على عدم تنجيس الشعر بالموت فيكون الحكم بطهارته تبعاً للجلد أولى وأقوى من الحكم بطهارة الدم تبعاً للحم ، استدلال آخر من طريق القياس المسمى عندهم قياس العكس ، قالوا : إذا جز الشعر من الحيوان الحي المأكول فهو طاهر لقوله تعالى : ) ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ( امتن به فكان طاهراً والمأخوذ به من المذبوح لا يفي بالحاجة في مثل ذلك ، فكان شاملاً لما جز في حال الحياة فلو قطع في الحياة عضو عليه شعر حكم بنجاسة الشعر تبعاً للعضو المحكوم بنجاسة لقوله صلى الله عليه وسلّم : ( ما أبين من حي ميت ) فكما حكم بنجاسة الشعر تبعاً للجزء المتصل به المحكوم بنجاسته كذلك قياس عكسه إذا حكم بطهارة الجلد بالدباغ يحكم بطهارة الشعر المتصل به تبعاً . وشاهد أصل قياس العكس قوله صلى الله عليه وسلّم : ( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ قالوا : بلى قال : فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) رواه مسلم ، وطريقة أخرى في الاستدلال وهو أن الأحاديث التي احتججنا بها صريحة في المقصود ، والأحاديث التي احتج بها للنجاسة وهي أحاديث النهي عن جلود السباع ليست صريحة ، وإنما استدل بها بطريق الاستنباط واللزوم للمعنى الذي ذكروه ، وما كان صريحاً فهو مقدم على ما كان بطريق اللزوم ، وقد سلك ابن(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
دقيق العيد في الترجيح مسلكاً آخر فقال : نهيه عليه السلام عن افتراش جلود السباع مخصوص بالاتفاق . وقوله عليه السلام : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) غير مخصوص بالاتفاق فيرجح العمل به على معارضة ، وهذا كلام ابن دقيق العيد ، ومسلك آخر في الجواب وهو انا نمنع عن كون النهي عن جلود السباع لأجل شعرها بل لمعنى آخر أشار إليه الخطابي وهو أنها إنما نهى عنها من أجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء ، وتمام ذلك أن يقال : إنها من صنع الأعاجم وقد صحت الأحاديث بالنهي عن التشبه بزي الأعاجم أي الفرس ، ويؤيد ذلك أمران . أحدهما أن النهي مطلق ولو كان لأجل نجاسة الشعر لكان يزول بنتفه ولا شك أن الحديث شامل للحالتين ، والثاني أنه لو كان لأجل نجاسة الشعر لم يكن لتخصيص السباع بالذكر فائدة فإن الغنم وسائر الحيوانات كانت تساوي السباع في ذلك ، فلو لم يكن ذلك لمعنى آخر غير النجاسة لم يكن لتخصيص السباع بالذكر فائدة ، وأمر ثالث وهو أن أبا داود روى في سننه من حديث معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا تركبوا الخز والنمار ) فقرأ الخز بالنمار في هذا الحديث دليل على أن النهي فيه للسرف والخيلاء لا للنجاسة ، وكذلك ما رواه أحمد ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الميثرة والقسية وحلقة الذهب والمقدم ) ، قال يزيد : الميثرة جلود السباع ، والقسية ثياب مضلعة من إبريسم ، والمقدم المشبع بالعصفر ؛ وروى الطبراني في الكبير عن ثوبان قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم التختم بالذهب ، والقسية ، وثياب المعصفر ، والمقدم ، والنمور ، وفقر أن جلد السباع والنمور بهذه الأشياء في هذين الحديثين دليل على أن النهي فيه للسرف والخيلاء لا للنجاسة ؛ وروى أبو داود أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر ) وهذا أيضاً يدل على أن النهي للخيلاء لا للنجاسة لأن الجلد النجس لا يحرم اقتناؤه إنما يحرم لبسه وأستعماله في الأشياء الرطبة ، والحديث دل على ذم اقتنائه مطلقاً فعرف أن المعنى فيه للخيلاء كأواني النقدين حرمت للخيلاء فحرم اقتناؤها ، وأمر آخر وهو أنه لو كان النهي لنجاسة الشعر لم يكن يمتنع إلا الجلوس على الوجه الذي فيه الشعر خاصة ، ولو قلبه وجلس على الوجه الذي لا شعر فيه لم يمتنع لأن ذلك الوجه من الجلد قد طهر بالدباغ قطعاً ، ولا شك أن النهي شامل للوجهين معاً كما هو ظاهر الأحاديث السابقة . وعند ابن أبي شيبة في مسنده من حديث معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا تجلسوا على جلود السباع ) وعند الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن سمرة بن جندب ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن أن تفترش مسوك السباع )(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
فهذه إطلاقات شاملة للجلد بوجهيه فدل على أن ذلك لمعنى السرف والخيلاء لا للنجاسة ، وأيضاً فلم يذكر الفقهاء أنه يحرم الجلوس على جلد الميتة النجس إنما ذكروا تحريم لبسه ، ولحاق الافتراش به قد لايسلم ، والأحاديث صريحة في النهي عن افتراش جلود السباع ، والجلوس عليها والركوب عليها ، فدل ذلك على أنه لمعنى أخر غير النجاسة ؛
فإن قلت : فقد قال سعيد بن منصور في سنته : ثنا عبد الرحمن بن زياد عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن زيد بن وهب قال : أتاهم كتاب عمر بن الخطاب وهم في بعض المغازي بلغني أنكم في أرض تأكلون طعاماً يقال له : الجبن فانظروا ما حلاله من حرامه ، وتلبسون الفراء فانظروا ذكيه من ميته ؛ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها أن اسناده ضعيف ، والثاني أنه معارض بما تقدم عن عمر في الجبن والفراء أيضاً ، فقد تقدم أن البيهقي أخرج من طريق أبي وائل عن عمر بن الخطاب أنه قال في الفراء : ذكاته دباغه ، الثالث أن هذا من عمر ليس قولاً بأن الشعر لا يطهر بالدباغ ويطهر به الجلد وإنما هو مبني على قوله : بأن الدباغ لا يطهر الجلد أصلاً ورأساً ، وقد تقدم أنه مذهب له فكان له في المسألة قولان : أحدهما أن الدباغ يطهر الجلد والشعر معاً ، والآخر أنه لا يطهر لا الجلد ولا الشعر ، فكل رواية محمولة على قول من قوليه .
فهذا ما أدانا إليه النظر والاجتهاد في هذه المسألة فأجبنا به على حسب ما التمس السائل وقد سمينا هذا الكتاب ( تحفة الأنجاب بمسألة السنجاب ) وكان إملاؤه يوم الاثنين سابع محرم سنة تسعين وثمانمائة والله أعلم .
باب التيمم
مسألة : تراب المسجد إذا تيمم به شخص وقلتم : إنه لا يجوز هل يستبيح به ما نواه أو يكون ذلك كاستعمال الدار المغصوبة ، والثوب الحرير ونحو ذلك أولا ؟ وما الفرق بين ما لو تيمم قبل الاستنجاء فإنه لا يجزىء ولو كان بدنه نجاسة فإنه يجزىء ؟ .
الجواب : نعم يستبيح ما نواه كالوضوء بماء مغصوب ، والتيمم بتراب مغصوب ، وكذلك الوضوء بالماء المسبل للشرب صحيح مع تحريمه ، وأما المسألة الأخيرة فقد فرق الأصحاب بفروق منها أن نجاسة محل النجو ناقضة للطهارة موجبة للتيمم فلم يصح التيمم مع وجودها بخلاف غيرها ، كذا فرق الداركي وتبعه صاحب المهذب وأقره النووي في شرحه ، ومنها أن نجاسة غير الاستنجاء لا تزول إلا بالماء ، فلو قلنا : لايصح تيممه حتى يزيلها لتعذر عليه الصلاة إن لم يجد الماء بخلاف الاستنجاء لأنه يرتفع حكمه بالحجر فيمكنه تقديم الحجر حتى يصح تيممه فلزمه ، كذلك فرق المتولي في التتمة ، قال صاحب الوافي : وهذا فرق دقيق نفيس .
مسألة : لو تيمم في موضع الغالب فيه عدم الماء ، ثم انتقل إلى موضع الغالب فيه وجود(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
الماء أو عكسه فهل المعتبر في وجوب القضاء وعدمه موضع التيمم أو موضع الصلاة أو هما وهل في ذلك نقل للأصحاب ؟ .
الجواب : هذا السؤال غير موجه لأن الانتقال يوجب تجديد طلب الماء ويبطل التيمم إذا توهمه ، فإن فرض تعين العدم بحيث لا يبطل التيمم ولا يجب تجديد الطلب فالعبرة فيما يظهر بموضع الصلاة .
مسألة : في مفهوم هذه العبارة وهي قوله : وصاحب الجبائر يمسح عليها ويتيمم ويصلي ولا إعادة عليه إن كان وضعها على طهر ، ما المراد بالطهر هل هو عن الجنابة أو أعم من ذلك ؟
الجواب : المراد جنس الطهر الذي تيمم فيه ، فإن كان ذلك في الغسل فالمراد طهر الجنابة ، أو في الوضوء فالمراد طهر الحدث صرح به في الخادم .
مسألة : في قول المنهاج : وكذا استدامتها إلى مسح شيء من الوجه هل استدامتها إلى الوجه واجب ذكراً حتى أنها لو عزبت بعد النقل وقبل الوجه واستحضرها عنده لا تكفي أم الواجب استحضارها عند النقل وعند الوجه فقط حتى لو عزبت بينهما كفى ، وإذا تيمم لمس المصحف فهل له صلاة النفل ؟ .
الجواب : المتجه كما ذكره في المهمات وصرح به أبو خلف الطبري الاكتفاء بها عند النقل والمسح ولو عزبت بينهما ولا مفهوم لتعبير المنهاج بالاستدامة ؛ ولو تيمم لمس المصحف فليس له صلاة النفل ، صرح به في التحقيق .
مسألة : إذا تيمم الخطيب لخطبة الجمعة هل يقول : نويت استباحة فرض الخطبة أم ماذا ينوي ، وما كيفية نية المتيمم العاجز عن غسل الجمعة وغيرها إذا تيمم ؟ وغاسل الميت إذا أوجبتم عليه النية أو قلتم باستحبابها كيف يقول في الغسل ؟ وإذا لم يجد الماء ويمم الميت كيف ينوي ؟
الجواب : ينوي الخطيب استباحة فرض الخطبة أو استباحة خطبة الجمعة أخذاً من قول الأصحاب : ينوي المتيمم استباحة ما لا يستباح إلا بالطهارة وينوي العاجز عن غسل الجمعة التيمم عن سنة غسل الجمعة ، قلته : تفقهاً ولم أره منقولاً ، وأما غاسل الميت ففي شرح المهذب قال نصر المقدسي ، وصاحب البيان : صفة النية أن ينوي بقلبه عند إفاضة الماء القراح أنه غسل واجب . وقال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : ينوي الغسل الواجب أو الفرض أو غسل الميت ، وأما إذا يمم فلم أر من صرح به ، ويحتمل أن يقال : إذا يمم الميت لا يحتاج إلى نية كما لا يحتاج غسله إلى نية في الأصح ، ويحتمل أن يقال : أنه يحتاج إليها ، ويفرق بين التيمم والغسل كما قالت الحنفية : أن النية لا تجب في الوضوء وغسل الجنابة ومع ذلك أوجبوا النية في التيمم عنهما ولذلك قال الشافعي في الرد عليهم : طهارتان أني يفترقان ، وهذا النص إذا تمسك به بإطلاقه عضد الاحتمال الأول وهو أنه لا يحتاج تيمم الميت إلى نية فإن قلنا : يحتاج إليها أو يستحب نوى التيمم الواجب أو البدل(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
من الغسل أو استباحة الصلاة عليه ونحو ذلك .
مسألة : قولهم في الجبيرة إن وضعت على طهر لم يقض ، هل المراد طهر محلها فقط أو تمام الوضوء ؟ .
الجواب : قال الزركشي في الخادم ما نصه : ينبغي أن يبحث عن المراد بالطهر هل هو طهر كامل وهو ما يبيح الصلاة كالخف أو المراد طهارة المحل فقط ؟ فيه نظر وصرح الإمام ، وصاحب الاستقصاء بالأول والأشبه الثاني ، وقال ابن الأستاذ : ينبغي أن يضعها على وضوء كامل كما في لبس الخف انتهى .
باب الحيض
مسألة :
الحمد لله معيد ما بدا
بعد فناء لم يكن ذاك سدى
ثم الصلاة والسلام الكمل
على النبي الهاشمي المفضل
وآله وصحبه وعترته
وكل من مات على محبته
جوابكم يا سادة أفادوا
طالبهم وبالعلوم سادوا
في حائض ببيتها مقيمة
ذي جدة صحيحة سليمة
بعد انقطاع دمها المحرم
هل يستباح الوطء بالتيمم
من غير عذر مع وجود الماء
بظنها الغالب للإيذاء
وبيتها في خطة الحمام
مطيقة السعي على الأقدام
ذي سعة لأجرة وغيرها
ولم تكن محجوبة في خدرها
فهل يبيح وطأها التيمم
من غير عذر أم بغسل تلزم
أم حكمها في ذاك حكم الجنب
والنفساء حكمها في المذهب
وإن أبحتم وطأها بالترب
ما قولكم في محرم يلي
فهل له اللبس قبيل العذر
بغالب الظن بغير الوزر
أم بعد أن يحصل عذر ظاهر
يجوز لبس وغطاء ساتر
ولو طرأ عذر وزال عنه
هل يجب النزع ببرء منه
ولو تمادى لابساً والعذر
قد زال هل يسقط عنه الوزر
وإن بغير العذر لبس حصلا
هل الفدا يجزيه مما حملا
أم هو عاص آثم والجاني
فداه لم ينجه من العصيان(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
وهل بهذا الفعل ير حجه
أم غير مبرور كما قد وجهوا
وحائض والنفسا خل يقضيا
صومهما دون صلاة ألغيا
أم يختلف حكمهما عند قضا
صلاة فرض عن أداها أعرضا
وضح لنا الجواب شيخ السنة
أثابك الله الكريم الجنة
أجز جواباً يا جلال الدين
لعبدك السائل بالتبيين
يا من له نظم على الفتاوي
يشوق كل عالم وراوي
لازال ناديك الرحيب محتفل
بالوفد عن طلاب خير مشتمل
يا شيخ الإسلام ويا حبر النهي
ومن له مرتبة تعلو السها
الجواب :
الحمد لله على امتنان
يعجز عن إحصاه باللسان
ثم الصلاة والسلام أبداً
على النبي الهاشمي أحمداً
وآله الأولى حوو أكل الشرف
وصحبه والتابعين والسلف
إن حائض قد أقلعت عنها الدما
ووجدت فاقدة للعذر ما
أو كان في بلدتها حمام
فما إلى وصالها مرام
وإنما يجوز بالتراب
لفقد هذين بلا ارتياب
ومحرم قبل طروء العذر
أجز له اللبس بغير وزر
بغالب الظن ولا توقف
على حصوله فهذا الأرأف
نظيره من ظن من غسل بما
حصول سقم جوزوا التيمما
ومن تزل أعذاره فليقلع
مبادراً وليقض أن لم ينزع
وليس ينجيه الفدا من وزره
كمن تحده بشرب خمره
لو كان ينجيه الفدا من وزر
لسرى العذر بغير العذر
ولا يكون حجه مبروراً
ما لم يتب يكن له طهوراً
وحائض ونفساً فليقضيا
الصوم لا الصلاة فيما رويا
وليس بين تين من خلاف
فيما ذكرناه بلا خلاف
هذا جواب نجل الأسيوطي
معتصماً بربه القوي(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
كتاب الصلاة
مسألة : تكبيرة آخر وقت العصر وجبت مع الظهر لأنها تجمع معها وهو مشكل لأن الجمع رخصة فلا يقاس عليها
الجواب : هذا من باب النوع المسمى في الأصول بقياس العكس .
مسألة : المجنون هل يجوز له قضاء ما فاته إذا أفاق من صلاة وصوم أم يستحب أم يكره ؟ .
الجواب : القضاء للمجنون مستحب ذكره في المهمات .
الحظ الوافر من المغنم في استدراك الكافر إذا أسلم
مسألة : الكافر إذا أسلم وأراد أن يقضي ما فاته في زمن الكفر من صلاة وصوم وزكاة هل له ذلك وهل ثبت أن أحداً من الصحابة فعل ذلك حين أسلم ؟
الجواب : نعم له ذلك ، وذلك مأخوذ من كلام الأصحاب إجمالا وتفصيلاً ، وأما الإجمال فقال النووي في شرح المهذب : اتفق أصحابنا في كتب الفروع على أن الكافر الأصلي لا تجب عليه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج وغيرها من فروع الإسلام ، ومرادهم أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم ، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي فاقتصر على نفي اللزوم فيبقى الجواز ، وعبارة المهذب : فإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله تعالى : ) قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( ولأن في إيجاب ذلك عليهم تنفيراً فعفى عنه فاقتصر على نفي الإيجاب فيبقى الجواز أو الاستحباب .
وأما التفصيل فإن الفقهاء قد قرنوا في كتاب الصلاة بين الكافر ، والصبي ، والمجنون ، والمغمى عليه ، والحائض في عدم وجوب الصلاة ، ونص بعضهم على أن الصبي إذا بلغ وقد فاتته صلاة يسن له قضاؤها ولا تجب عليه ، وأن المجنون ، والمغمى عليه يستحب لهما قضاء الصلاة الفائتة في زمن الجنون ، والإغماء كذا نقله الأسنوي عن البحر للروياني ، ونقل عنه وعن شرح الوسيط للعجلي أن الحائض يكره لها القضاء ، فهذه فروع منقولة والكافر في معنى ذلك فيجوز له القضاء إن لم يصل الأمر إلى درجة الاستحباب ، ولا يمكن القول بالتحريم بل ولا بالكراهة ، ويفارق الحائض فإن ترك الصلاة للحائض عزيمة وبسبب ليست متعدية به والقضاء لها بدعة ، ولهذا قالت عائشة لمن سألتها عن ذلك : أحرورية أنت ؟ وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الصلاة عليها ، وترك الصلاة للكافر بسبب هو متعد به وإسقاط القضاء عنه من باب الرخصة مع قول الأكثرين بوجوبها عليه حال الكفر وعقوبته عليها في الآخرة كما تقرر في الأصول ، فاتضح بهذا الفرق بينه وبين الحائض(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
حيث يكره لها القضاء ولا يكره له بل يجوز أو يندب ، ويقاس بصلاة الكافر جميع فروع الشريعة من زكاة ، وصوم ، هذا ما أخذته من نصوص المذهب .
وأما الأدلة فوردت أحاديث يستنبط منها جواز ذلك بل ندبه : منها ما أخرجه الأئمة الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب أنه قال : ( يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : ( أوف بنذرك ) قال النووي في شرح مسلم : من قال إن نذر الكافر لا يصح وهم جمهور أصحابنا حملوا الحديث على الاستحباب أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل الذي نذرته في الجاهلية انتهى ، وفي هذا دلالة على أن الكافر يستحب له أن يتدارك القرب التي لو فعلها في حال كفره لم تصح منه ولو كان مسلماً لزمته ، وهذه دلالة ظاهرة لا شبهة فيها ، وقال الخطابي في معالم السنن : في هذا الحديث دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعة ، وقال القمولي من متأخري أصحابنا في الجواهر : إذا نذر الكافر لم يصح نذره لكن يندب له الوفاء إذا أسلم ، فلو نذر اليهودي أو النصراني صلاة أو صوماً ثم أسلم استحب له الوفاء ، ويفعل صلاة شرعنا وصوم شرعنا لا صلاة شرعه وصومه هذا كلام القمولي . وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة : استدل بهذا الحديث من يرى صحة النذر من الكافر وهو قول أو وجه في مذهب الشافعي ، والأظهر أنه لا يصح لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب ، ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤل الحديث بأنه أمر أن يأتي باعتكاف يوم يشبه ما نذر فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالنذر وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة ، وعلى هذا يكون قوله : ( أوف بنذرك ) من مجاز الحذف أو مجاز التشبيه ، ومنها ما أخرجه مسلم عن حكيم بن حزام قال : ( قلت يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية يعني أتبرر بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : أسلمت على ما سلف [ لك ] من الخير قلت : ( فوالله لا أدع شيئاً صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله ) قلت : هذا الحديث يؤخذ منه بدلالة الإشارة استدراك ما فات في الجاهلية ، فإنه لما صدر منه ما صدر من القربات في الجاهلية كأنه لم يرها تامة لفقد وصف الإسلام فأعاد فعلها في الإسلام استدراكاً لما فات من وصف التمام . وأخرج الحاكم في المستدرك عن هشام [ بن عروة عن أبيه قال : أعتق حكيم مائة رقبة وحمل على مائة بعير في الجاهلية فلما أسلم أعتق مائة وحمل على مائة بعير . هذا الحديث فيه التصريح بوفائه بما وعد به ، ومنها ما روى أن أبا سفيان لما أسلم قال : يا رسول الله لا أترك موقفاً قاتلت فيه المسلمين إلا قاتلت مثله الكفار ، ولا درهماً أنفقته في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت مثله في سبيل الله ، هذا الحديث صريح بمنطوقه في استدراك تكفير ما مضى في الكفر من فعل المناهي وهو غير لازم فيحمل على الندب ، ويؤخذ من فحواه إستحباب أستدراك ما مضى في الكفر من ترك الأوامر ، وأخرج(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
الحاكم في المستدرك وصححه عن عكرمة بن أبي جهل قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلّم يوم جئت : مرحباً بالراكب المهاجر ، فقلت : والله يارسول الله لا أدع نفقة أنفقتها إلا أنفقت مثلها في سبيل الله ، هذا أيضاً من استدراك تكفير ما مضى من فعل المنهيات في حال الكفر .
باب المواقيت
مسألة : فيما رواه مسلم عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدجال إلى أن قال قلنا : ( يا رسول الله وما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم قال : ( لا أقدروا له ) وفي حديث آخر نقله القرطبي في التذكرة قال ( رسول الله صلى الله عليه وسلّم : وأن أيامه أربعون سنة السنة كنصف السنة والسنة كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي ، فقيل : يا رسول الله كيف نصلي في تلك الأيام القصار ؟ قال : ( تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال ثم صلوا ) وفي حديث آخر عن أسماء بنت يزيد بن السكن قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار ) فهل هذه الأحاديث كلها متساوية في الصحة أم لا ؟ وهل بينها تناف أم لا ؟ وهل ليالي تلك الأيام كلها على حالة واحدة كليالينا هذه أم تتبع كل ليلة يومها في الطول وغيره ؟ وما كيفية التقدير في القصر هل هو مثلاً إذا كان اليوم ثلاث درج فتكون حصة الصبح درجة والظهر كذلك والعصر كذلك أم لا ؟ وهل صلاة المغرب والعشاء يجري عليهما حكم القصر أم لا لأنهما ليستا في النهار المتصف بتلك الصفات ؟ وإذا لم يسع الوقت المقسط تلك الصلاة فهل تجب عليه ثم يقضيها ؟ وما كيفية إقامة الجمعة في هذا اليوم القصير ؟ وما طريق حساب مدة مسح الخف ؟ وما كيفية الصوم وكذا سائر الأحكام المتعلقة بالأيام ؟ وهل الزيادة في الطول كما في الحديث الأول مختصة بالثلاثة الأيام الأولى أو السبعة والثلاثون متساوية الطول ، وعلى ظاهر الحديثين الآخرين هل يختص القصر باليوم الأخير أم يكون القصر فيه وفي غيره أم لا ؟ وهل التقدير مختص بصلاتي الظهر والعصر فقط والصبح مختص بما بعد الفجر إلى طلوع الشمس أم يشاركهما أم كيف الحال ؟ وهل ما ورد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالضرب بالنار ) داخل في حديث الدجال أم هو حديث برأسه في غير زمن الدجال ؟ .
الجواب : ليست هذه الأحاديث متساوية في الصحة بل الأول منها هو الصحيح ، والثاني(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة ، وقد نبه الحفاظ على أنه وقع فيه تخبيط في إسناده ومتنه وهذه الجملة مما وقع فيه التخبيط ، فقد تضافرت الأخبار بأن مدة لبثه في الأرض أربعون يوماً لا أربعون سنة ، ورد ذلك أيضاً من حديث جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وجنادة ابن أبي أمية عن رجل من الأنصار وغيرهم ، وقد روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً ) الحديث ، قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : والجزم بأنها أربعون يوماً على الترديد ، وقد أخرجه الطبراني أي من وجه آخر عن عبد الله بن عمر وبلفظ : ( فيمكث في الأرض أربعين صباحاً ) وجزم الحافظ ابن كثير في تاريخه أيضاً بذلك ، وقال : معدل إقامته سنة وشهران ونصف ، وأما الليالي وأما كيفية التقدير إذا كان اليوم مثلاً ثلاث درج فلا تتساوى فيه حصة الصبح والظهر والعصر بل يتفاوت على حسب تفاوتها الآن ، فإن من أول وقت الصبح الآن إلى وقت الظهر أكثر من أول وقت الظهر إلى وقت العصر ، ومن أول وقت الظهر إلى وقت العصر أكثر من أول وقت العصر إلى وقت المغرب ، فيقدر إذ ذاك على حسب هذا التفاوت ويجعل وقت الظهر بعد نصف النهار وهو بعد مضي أكثر من درجة ونصف إن كان الثلاث درج مقدرة من طلوع الفجر ، وإن كانت من طلوع الشمس فبعد مضي درجة ونصف ، وأما صلاة المغرب والعشاء فيقدران في الأيام الطوال الذي كسنة والذي كشهر والذي كجمعة فيصلي في اليوم الذي كسنة ألف صلاة وثمانمائة صلاة وثلثمائة وستين صبحاً وثلثمائة وستين ظهراً وثلثمائة وستين عصراً وثلثمائة وستين مغرباً وثلثمائة وستين عشاء مقدار كل صلاة بوقت محدود بالدرج والدقائق على حساب أهل الميقات ، غاية الأمر أن وقت الليل صار نهاراً . وأما في الأيام القصار فإن كل الليل على طوله المعتاد فواضح وإن تبع النهار في القصر نظر إن وسع اليوم والليلة الخمس الصلوات وجبت ، وإن لم يسع فمقتضى حديث ابن ماجه أنها تجب ، وقد سئل متأخروا أصحابنا عن بلاد يطلع فيها الفجر عقب ما تغرب الشمس فأجاب البرهان الفزاري بوجوب العشاء عليهم ويقضونها ، وأفتى معاصروه بأنها لا تجب عليهم لعدم سبب الوجوب في حقهم وهو الوقت ، فعلى ما أفتى به الفزاري لا إشكال ، وعلى ما أفتى به غيره قد يقال : هذا نص فيقدم على القياس ، وقد يقال : إن الحديث لم يصح وهذه الجملة مما غلط فيه الراوي كما تقدم ، وقد يقال : إن هذا من نص النبي صلى الله عليه وسلّم دليل على أن الأيام والليالي حينئذ لا بد أن تتسع بقدر ما تؤدي فيها الصلوات الخمس ولا تقصر عن ذلك ، وهذا الاحتمال(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
عندي أرجح بل متعين ، وأما إقامة الجمعة في اليوم القصير فواضح مما تقدم تقام بعد مضي نصف حصة النهار ، وأما حساب مدة الخف ففي الأيام الطوال تقدر يوم وليلة أو ثلاثة أيام ولياليها كما حسبت أوقات الصلاة وينزع عند مضي جانب من اليوم بقدر ذلك ، وفي الأيام القصار يوم كامل بليلته أو ثلاثة بلياليها وإن قصرت جداً وينزع بعد مضيها ، وأما الصوم ففي اليوم الذي كسنة يعتبر قدر مجيء رمضان بالحساب ويصوم من النهار جزءاً بقدر نهار بالحساب أيضاً ويفطر ثم يصوم وهكذا ، وفي اليوم الذي كشهر يصوم اليوم كله عن الشهر ويفطر فيه بقدر ما كان يجيىء الليل بالحساب ، وفي الأيام القصار يصوم النهار فقط ويحسب عن يوم كامل وإن قصر جداً ويفطر إذا غربت الشمس ويمسك إذا طلع الفجر وهكذا ولا يضر قصره . ويقاس بذلك سائر الأحكام المتعلقة بالأيام من الاعتكاف والعدد والآجال ونحوها ، وظاهر الحديث الصحيح أن الطول مختص بالأيام الأول الثلاثة والباقي متساوية كأيامنا ، وظاهر حديث ابن ماجه عكس ذلك وهو قصر أيامه وجمعه وشهوره وعامه بالنسبة إلى ما هو الآن ، ولهذا ترجح أن ذلك وهم من الراوي وتخبيط منه ، ويمكن الجمع بأن الأمرين موجودان ، ففي أيام ما هو زائد في الطول كسنة وشهر وجمعة وما هو مساو لأيامنا الآن وما هو قصير عنها إلى أن ينتهي آخر أيامه إلى أن يكون كاضطرام السعفة في النار ، وهذا الجمع عندي أفيد من تخطئة الرواية بالكلية . وعلى هذا فلا يختص القصر باليوم الأخير بل يكون فيما قبله أيضاً ، ولا يختص التقدير بالظهر والعصر بل يشاركهما الصبح في الأيام الطوال وفي القصار تصلي عند طلوع الفجر بلا تقدير ، وأما حديث : ( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ) إلى آخره فهو حديث مستقل غير حديث الدجال وقد اختلف فيه فقيل : هو على حقيقته نقص حسي وأن ساعات النهار والليل تنقص قرب قيام الساعة ، وقيل : هو معنوي وأن المراد سرعة مر الأيام ونزع البركة من كل شيء حتى من الزمان وهذا ما رجحه النووي تبعاً للقاضي عياض وفيه أقوال غير ذلك والله أعلم .
باب الأذان
مسألة : من أمير المؤمنين خليفة الوقت الإمام المتوكل على الله ورد أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه ، وذكروا أنه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان فإن الشيطان إذا سمع المؤذن أدبر وبقي الكلام هل يكره لسامع المؤذن في حال الاضطجاع استمراره على الاضطجاع مع حكايته للفظ المؤذن أو الجلوس له أولى ؟ وقد قال الله تعالى : ) الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ( ونقل عن الإمام مالك أنه أغلظ على من سأل عن حديث في حال قيامه فكيف الحال في ذلك ؟ .
الجواب : الآية الشريفة واردة في الحث على الذكر في كل حال وأنه لا يكره في حالة من الأحوال ، وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكر الله(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
على كل أحيانه ، وهذا الحكم الذي دلت عليه الآية والحديث باق معمول به عند العلماء كافة وما ذكر في السؤال من أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه لا أصل له في الحديث ولا ورد قط في حديث لا صحيح ولا ضعيف ، ولا ذكره أحد من أصحابنا في كتب الفقه ، فيجوز للسامع إذا كان قائماً أن يجلس وإذا كان جالساً أن يضطجع وإذا كان مضطجعاً أن يستمر على الاضطجاع ويجيب المؤذن حال الاضطجاع ولا يكره ذلك لأنه لم يرد فيه نهي ، والكراهة تحتاج إلى دليل من نهي خاص ولا سبيل إلى وجوده بل الآية الشريفة دالة على جوازه ، وكذلك الحديث المذكور ، وأما إغلاظ الإمام مالك على من سأله عن حديث في حال قيامه فلا ينافي ذلك لأن العلم خصوصاً الحديث له خصوصية في التوقير والتبجيل أعظم مما يطلب في الذكر ، وقد أخرج البيهقي في كتاب المدخل عن ابن المبارك أن رجلاً سأله عن حديث وهو يمشي فقال : ليس هذا من توقير العلم فكره ابن المبارك أن يسأل عن حديث وهو ماش في الطريق وعده منافياً لتوقير العلم ، ومعلوم أن الذكر للماشي في الطريق غير مكروه بل ولا تكره قراءة القرآن للماشي كما ذكره النووي ، وغيره ، وأخرج البيهقي عن إسماعيل بن أبي أويس قال : كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة فقيل له في ذلك فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم ، وأخرج عن سعيد بن المسيب أن رجلاً سأله عن حديث وهو مريض ، وهو مضطجع فجلس فحدثه فقال الرجل : وددت أنك لم تتعن فقال : كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا مضطجع ، وأخرج عن ضرار بن مرة قال : كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر ، فهذه آداب اختص بها نشر الحديث وروايته تعظيماً له ، ولا يطلب عند الذكر الاعتناء بمثل ذلك من تسريح اللحية ، والجلوس على صدر فراش ونحوه ، ولا يكره الذكر للمحدث بل ولا للجنب ، والمقصود بهذا كله أن نشر العلم يطلب عنده آداب تعظيماً له يختص بها عن الذكر ونحوه ، حتى لو أراد الإنسان أن يمر على حديث لنفسه في كتابه أو نحوه من غير نشر بين الناس لم يكره له أن يمر عليه وهو مضطجع أو قائم ، ولو أراد أن يقرىء أحداً القرآن كره له أن يقرئه وهو مضطجع أو قائم أو ماش لأن ذلك ليس من توقير العلم ، ولو أراد أن يقرأ لنفسه وحده لم يكره له أن يقرأ وهو قائم أو ماش أو مضطجع لأن ذلك مجرد قراءة وذكر لا تعليم .
والحاصل أن الآداب المطلوبة عند تعليم الناس العلم ونشره لهم لا يتعين طلبها على الإنسان إذا كان وحده ، فللقارىء وحده حكم غير المقرىء لغيره ، وللناظر في الحديث وحده حكم غير الراوي له عند غيره ، والذاكر حكمه حكم المنفرد لا حكم المعلم ، فلهذا لم يكره(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
له الذكر في حال من الأحوال وكره السؤال عن الحديث في حال القيام ، وأما كونه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان فهذا صحيح ، وقد ورد النهي عنه لكنه خاص بالمسجد ، روى مسلم ، وأبو داود ، والترمذي عن أبي الشعثاء قال : ( كنا مع أبي هريرة في المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أبا القاسم ثم قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي ) وأخرج ابن ماجه عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من أدرك الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق ) والله أعلم .
باب استقبال القبلة
مسألة : في قول الفقهاء في المحاريب التي يمتنع الاجتهاد معها في القبلة أن تكون في بلدة أو قرية نشأ بها قرون وسلمت من الطعن ، هل قولهم قرون مجازاً أرادوا به أن تمضي عليها سنون تغلب على الظن أو ذلك حقيقة ولا بد أن تمضي قرون ؟ والقرن مائه سنة وأقل الجمع ثلاث فلا بد من ثلثمائة سنة وإلا لم يثبت لها هذا الحكم ، وقولهم وسلمت من الطعن ما حقيقة الطعن الذي يخرجها عن هذا الاعتبار وما ضابطه ؟ هل يحصل بمجرد الطعن ولو من واحد أم لا بد من أكثر ؟ ومن صلى إلى محراب ثم تبين أنه لم يمض عليه قرون أو طعن فيه هل يلزمه إعادة ما صلاه إليه أم لا ؟ وهل يجب عليه قبل الإقدام أن يبحث عنها هل مضى عليها قرون وسلمت من الطعن ولا يجوز له الاعتماد عليها قبل البحث ؟ وإذا صلى إليها قبله لم تنعقد صلاته أم يجوز الإقدام وتنعقد صلاته حملاً على أن الأصل في وضع المحراب أن يحتاط له ويوضع بحق وإن كان ظناً حتى يتبين خلافه ، وإذا نشأ جماعة ببلدة عمر كل واحد نحو خمسين سنة وهم يصلون إلى محراب زاوية كان على عهد آبائهم ببلدهم وهم لا يعرفون أمضى عليه قرون أم لا ؟ ولا يعرفون هل طعن فيه أحد أم لا ؟ ثم ورد عليهم شخص يعرف الميقات فقال لهم هذا فاسد وأحدث لهم محراباً غيره منحرفاً عنه هل يلزمهم اتباع قوله وترك المحراب الأول أم لا ؟ وإذا لزمهم فهل يجب عليهم إعادة ما صلوه إلى الأول أم لا ؟
الجواب : ليس المراد بالقرون ثلثمائة سنة بلا شك ولا مائة سنة ولا نصفها ، وإنما المراد جماعات من المسلمين صلوا إلى هذا المحراب ولم ينقل عن أحد منهم أنه طعن فيه ، فهذا هو الذي لا يجتهد فيه في الجهة ويجتهد فيه في التيامن والتياسر ، وقد عبر في شرح المهذب بقوله في بلد كبير أو في قرية صغيرة يكثر المارون بها حيث لا يقرونه على الخطأ فلم يشترط قروناً وإنما شرط كثرة المارين وذلك مرجعه إلى العرف ، وقد يكتفي في مثل ذلك بسنة ، وقد يحتاج إلى أكثر بحسب كثرة مرور الناس بها وقلته فالمرجع إلى كثرة الناس لا إلى طول الزمان ، ويكفي الطعن من واحد إذا ذكر له مستنداً أو كان من أهل العلم بالميقات فذلك يخرجه عن رتبة اليقين الذي لا يجتهد معه ،(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
ومن صلى إلى محراب ثم تبين فقد شرطه المذكور لزمه الإعادة لأن واجبه حينئذ الاجتهاد ولا يجوز له الاعتماد عليه كما صرح به في شرح المهذب ، ومن واجبه الاجتهاد إذا صلى بدونه أعاد ، ويجب على الشخص قبل الإقدام البحث عن وجود الشرط المذكور ، وإذا صلى قبله بدون الاجتهاد لم تنعقد صلاته ، ومحراب الزاوية المذكور إن كانت بلدته كبيرة أو صغيرة كثيرة المرور بها ولم يسمع فيه طعن فالصلاة إليه صحيحة ، وإن كانت صغيرة ولم يكثر المرور بها لم تصح الصلاة إلا باجتهاد ، ويتبع قول الميقاتي في تحريفه إن كان بارعاً في فنه موثوقاً به وقليل ما هم ، ولا يلزم إعادة ما تقدم من الصلوات .
باب صفة الصلاة
مسألة : وقع في عبارة عدة من الكتب ( باب صفة الصلاة ) ومراده أن يبين في الباب الهيئة الحاصلة للصلاة بأركانها وعوارضها فهل يجوز أن تكون هذه الإضافة إضافة بيانية وإذا لم تكن فأي إضافة هي ؟ .
الجواب : ليست هذه الإضافة بيانية لأن الإضافة البيانية هي إضافة الشيء إلى مرادفه كسعيد كرز وبابه ، ولا يكون على تقدير حرف ولا هي من قسم المحضة عند الأكثرين ، بل هي إما غير محضة على رأي الفارسي وغيره أو واسطة بين المحضة وغيرها على رأي ابن مالك ، وصفة الصلاة ليست من إضافة الشيء إلى مرادفه لأن الصفة غير الموصوف والكيفية غير المكيف وهي على تقدير اللام وهي محضة تتبين مفارقتها للبيانية من هذه الوجوه الثلاثة .
مسألة : إذا قال المصلي : ( الصراط الذين ) بزيادة آل هل تبطل صلاته أم لا ؟ .
الجواب : الظاهر التفرقة في ذلك بين العامد وغيره .
مسألة : في قوله في دعاء القنوت : ( ولا يعز من عاديت ) هل هو بكسر العين أو فتحها ؟ .
الجواب : هو بكسر العين مع فتح الياء بلا خلاف بين العلماء من أهل الحديث واللغة والتصريف ، وألفت في ذلك مؤلفاً سميته أولاً الإعراض والتولي عمن لا يحسن يصلي ثم عدلت عن هذا الاسم وسميته الثبوت في ضبط القنون وهو مودع في الجزء السادس والثلاثين من تذكرتي ، وقلت في آخره نظماً :
يا قارئاً كتب التصريف كن يقظاً
وحرر الفرق في الأفعال تحريراً
عز المضاعف يأتي في مضارعه
تثليث عين بفرق جاء مشهوراً
فما كقد وضد الذل مع عظم
كذا كرمت علينا جاء مكسوراً
وما كعز علينا الحال أي صعبت
فافتح مضارعه إن كنت تحريراً
وهذه الخمسة الأفعال لازمة
واضمم مضارع فعل ليس مقصوراً
عززت زيداً بمعنى قد عليت كذا
أعنته فكلا ذا جاء مأثوراً(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا
يعز يا رب من عاديت مكسوراً
واشكر لأهل علوم الشرع إذا شرحوا
لك الصواب وأبدوا فيه تذكيراً
وأصلحوا لك لفظاً أنت مفتقر
إليه في كل صبح ليس منكوراً
لا تحسبن منطقاً يحكى وفلسفة
ساوي لدى علماء الشرع تطهيراً
3 ذكر التشنيع في مسألة التسميع
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المصلي إذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه : سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائماً يقول : ربنا لك الحمد ، وأنه يستحب الجمع بين هذين للإمام والمأموم والمنفرد ، وبهذا قال عطاء ، وأبو بردة ، ومحمد بن سيرين ، وإسحق ، وداود ، وقال أبو حنيفة : يقول الإمام ، والمنفرد : سمع الله لمن حمده فقط ، والمأموم : ربنا لك الحمد فقط وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، والشعبي ، ومالك ، وأحمد قال وبه أقول ؛ وقال الثوري ؛ والأوزاعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد : يجمع الإمام بين الذكرين ويقتصر المأموم على ربنا لك الحمد ، واحتج لهم بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) وبحديث عائشة قالت : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيته وهو شاك فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) رواهما الشيخان . ولأصحابنا الشافعية في الاحتجاج مسالك .
المسلك الأول : أنه لا حجة للخصوم في هذين الحديثين إذ ليس فيهما ما يدل على النفي بل فيهما أن قول المأموم ربنا لك الحمد يكون عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده ، والواقع في التصوير ذلك لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الحديث ، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين ) فإنه لا يلزم منه أن الإمام لا يؤمن بعد قوله : ( ولا الضالين ) وليس فيه تصريح بأن الإمام يؤمن ، كما أنه ليس في هذين الحديثين تصريح(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
بأن الإمام يقول ربنا لك الحمد لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صريحة ، منها هنا ما أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : كان إذا قال سمع الله لمن حمده قال : ( اللهم ربنا لك الحمد ) وأخرج مسلم عن حذيفة ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال حين رفع رأسه : ( سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ) وأخرج البخاري مثله من رواية ابن عمر ، ومسلم مثله من رواية عبد الله بن أبي أوفى ، فثبت بهذه الأحاديث أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد على خلاف ظاهر هذين الحديثين ، فلم يصلح الاستدلال بهما ، على أن الإمام لا يجمع بينهما ، وإذا لم يصلح الاستدلال بهما في حق الإمام لم يصلح الاستدلال بهما في حق المأموم أيضاً كما لا يخفي .
المسلك الثاني : إذا ثبت أنه لا دلالة في هذين الحديثين على أن الإمام لا يجمع بين الذكرين ولا [ على ] أن المأموم لا يجمع بينهما ، وثبت أن التصريح بأن الإمام يجمع بينهما من أدلة أخرى دل ذلك على أن المأموم أيضاً يجمع بينهما لأن الأصل استواء الإمام والمأموم فيما يستحب من الأذكار في الصلاة كتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود .
المسلك الثالث : ثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث وأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فهذا يدل على أن المأموم يجمع بين التسميع والتحميد لأنه أمر الأئمة بأن يصلوا كما صلى ، وقد ثبت بتلك الأحاديث أنه لما صلى قال : ( سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ) فلزم من ذلك أن كل مصل يقول ذلك فتتحق المثلية .
المسلك الرابع : نقل الطحاري ، وابن عبد البر الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما ، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما ويصلح ، جعله حجة لكون المأموم أيضاً يجمع بينهما لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه .
المسلك الخامس : الاستئناس بما أخرجه الدارقطني بسند ضعيف عن بريدة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلّم : يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، وبما أخرجه عن أبي هريرة قال : ( كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال سمع الله لمن حمده قال من وراءه : سمع الله لمن حمده ) وبما أخرجه عن ابن عون قال : قال محمد إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قال من خلفه : سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد .
المسلك السادس : أن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها ، فإن لم يأت بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خالياً عن الذكر .
المسلك السابع : قال الأصحاب : معنى قوله صلى الله عليه وسلّم وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد أي قولوا ربنا لك الحمد مع ما قد علمتموه من قول سمع الله لمن حمده ، وإنما خص هذا بالذكر لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي صلى الله عليه وسلّم بسمع الله لمن حمده فإن السنة فيه الجهر ولا يسمعون قوله ربنا لك الحمد غالباً لأنه يأتي به سراً ، وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلّم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلّم مطلقاً فكانوا موافقين في سمع الله لمن حمده فلم يحتج إلى الأمر به ولا يعرفون ربنا لك الحمد فأمروا به .(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
المسلك الثامن : القياس على حديث : ( إذا قال المؤذن حي على الصلاة فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله ) فإن الراجح في مذهب الخصم أن السامع يجمع بين الحيعلة والحوقلة فيكون قوله فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله أي مضموماً إلى الكلمة التي قالها المؤذن ، فكذلك معنى الحديث : ( فقولوا ربنا لك الحمد ) أي مضموماً إلى الكلمة التي قالها الإمام .
المسلك التاسع : أن الحديث بعضه منسوخ وهو قوله : وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون فما المانع أن يكون دخل في بقية أبعاضه نسخ أو تخصيص أو تأويل ؟ وإذا طرقه هذا الاحتمال سقط به الاستدلال ، قال ابن أبي شيبة في مصنفه : ثنا ابن علية عن ابن عون قال : كان محمد بن سيرين يقول : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قال من خلفه : سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد .
باب شروط الصلاة
مسألة : قال الأسنوي في أول باب صلاة الجماعة : احترز المصنف بالفرائض عن النوافل فإن الجماعة تسن في بعضها ، ثم قال : وعن الصلاة التي تستحب إعادتها بسبب ما كالشك في الطهارة ، فقوله كالشك مخالف للمتقدم له من أن الشك بعد الفراغ في الطهارة مبطل كالشك في النية ، فيحمل على الشك في طهارة الثوب أو البدن أو المكان أو كيف الحال ؟ .
الجواب : يجاب عن ذلك بوجهين أحدهما أن يكون ذلك على الوجه القائل بعدم الإبطال كما هو أحد الوجهين في المسألة ، والثاني أن يحمل على اختلاف الصورة ، فالابطال فيما إذا شك هل كان متطهراً أم لا ؟ والصحة واستحباب الإعادة فيما إذا كان متطهراً وشك في نقض الطهارة وهي مسألة تيقن الطهارة والشك في الحدث فيكون معنى قوله كالشك في الطهارة أي هل انتقضت أم لا والله أعلم ؟
باب سجود السهو
مسألة : قول المنهاج : ولو نقل ركناً قولياً إلى آخره قال الشارح : التكبير والسلام داخلان في عبارة المصنف مع أن نقل السلام مبطل وفي التكبير نظر ، فقوله نقل السلام مبطل هل يفرق فيه بين العمد والنسيان أم لا ؟ وما وجه النظر في التكبير ؟
الجواب : هو خاص بحال العمد ومراده بالنظر التوقف لأنه يحتمل أن يقال فيه بالبطلان لأنه كقطع الصلاة والإحرام الأول وتجديد إحرام جديد ، ويحتمل أن لا لأنه زيادة ذكر ولا تضر ، وإنما يكون مبطلاً إذا قصد به الخروج من الصلاة وتجديد إحرام جديد ، كمسألة من يخرج من صلاته بالإشفاع ويدخل بالأوتار ، والحاصل أنه لو قصد الذكر المحض لم تبطل قطعاً ، ولو قصد قطع الإحرام الأول وتجديد إحرام جديد بطلت قطعاً ، ولو اقتصر على قصد التجديد وانتقل دون القطع فهي المسألة وهي رتبة وسطى فيحتمل البطلان وعدمه وهو محل توقف والله أعلم .(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
باب سجود التلاوة
مسألة : سجدات التلاوة التي اختلف في محلها كسجدة حم هل يستحب عند كل محل سجدة عملاً بالقولين ؟
الجواب : لم أقف على نقل في المسألة والذي يظهر المنع لأنه حينئذ يكون آتياً بسجدة لم تشرع والتقرب بسجدة لم تشرع لا يجوز بل يسجد مرة واحدة عند المحل الثاني وتجزئه على القولين . أما القائل بأنه محلها فواضح ، وأما القائل بأنه محلها الآية قبلها فقراءه الآية لا يطيل الفصل والسجود على قرب الفصل مجزىء .
مسألة : فيما قاله العلماء في آية سجدة التلاوة من أنه إنما يسن السجود إذا قرأ أو سمع الآية كاملة ، فإن قرأ أو سمع بعضها لم يسن له ، وقد جزم العلماء الذين عدوا الآي بأن قوله تعالى في سورة النمل : ) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ( آية ، وكذا قوله في حم : ) فإن استكبروا إلى يسأمون ( آية ، فهل إذا قرأ كلاً من هاتين يسن له السجود أولا ؟ حتى يضم إليهما ما قبلهما وهو قوله : ) ألا يسجدوا لله ( إلى قوله : ) وما يعلنون ( وقوله : ) ومن آياته الليل ( إلى قوله : ) يعبدون ( ؟
الجواب : نعم يسن له السجود ولا يحتاج إلى ضم ما قبل .
باب صلاة النفل
مسألة : قوله في دعاء القنوت ( وإليك نسعى ونحفد ، هل هو بالدال المهملة أو بالمعجمة ؟ .
الجواب : هو بالمهملة وألفت فيه مؤلفاً سميته إتحاف الوفد بنبأ سورة الحفد وهو مودع في الجزء الثامن والثلاثين من التذكرة .
جزء في صلاة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد فقد وقع الكلام في استحباب صلاة الضحى والرد على من أنكرها فتمسك المنكر بحديث البخاري عن عائشة قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها ) وبحديث مسلم عن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة : ( أكان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى ؟ قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه ) فوقع الجواب بأن ذلك نفي منها ، فتقدم عليه رواية من أثبت فصمم بأنه لو صلاها لم يخف على أهله ، فوقع الجواب بأنه لم يكن ملازماً لها في جميع أوقاته بل كان لها منه وقت في أوقات ، فإنه صلى الله عليه وسلّم في وقت يكون مسافراً وفي وقت يكون حاضراً ، وقد يكون في الحضر(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
في المسجد وغيره ، وإذا كان في بيته فله تسع نسوة وكان يقسم لهن ، فإذا اعتبر ذلك لم يصادف وقت الضحى عند عائشة إلا في نادر من الأوقات وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة فقالت ما رأيته ، ولا ينافي ذلك أن يبلغها بأخبار غيرها أنه صلاها أو بإخباره هو صلى الله عليه وسلّم ، ولذلك ورد عنها أيضاً إثبات أنه صلى الله عليه وسلّم صلاها مع ما ورد من رواية غيرها في ذلك ومع الأحاديث الكثيرة الواردة في الأمر بها ، وقد أوردت ذلك جميعه في هذا الجزء .
ذكر استنباطها من القرآن
أخرج سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس قال : طلبت صلاة الضحى في القرآن فوجدتها ههنا : ) يسبحن بالعشي والإشراق ( وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، والبيهقي في شعب الإيمان من وجه آخر عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن ما يغوص عليها الأغواص في قوله تعالى : ) في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن عون العقيلي في قوله تعالى : ) إنه كان للأوابين غفوراً ( قال : الذين يصلون صلاة الضحى .
ذكر الأحاديث الواردة في أنه صلى الله عليه وسلّم صلاها
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى غير أم هانىء فإنها قالت : ( إن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود ) ، وأخرج أبو داود ، والبيهقي في سننه بسند صحيح عن أم هانىء : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمان ركعات سلم من كل ركعتين ) ، وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت : ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فتح مكة فنزل بأعلى مكة فصلى ثماني ركعات فقلت : يا رسول الله ما هذه الصلاة ؟ قال ؟ ( صلاة الضحى ) ، وأخرج مسلم عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء ) ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عائشة : ( أنها كانت تصلي الضحى وتقول : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي إلا أربع ركعات ) ، وأخرج الطبراني في الأوسط ، والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى ست ركعات فما تركتهن بعد ذلك ) ، وأخرج أحمد ، والحاكم في المستدرك وصححه عن أنس قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات ) ، وأخرج البخاري في التاريخ والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى ست ركعات ) ، وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني في الكبير بسند حسن عن جبير بن مطعم : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى ) ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن حذيفة بن اليمان قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حرة بني معاوية وتبعت أثره فصلى الضحى ثمان ركعات طول فيهن ثم(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
انصرف ) وأخرج الدارقطنى في الأفراد عن أبي سعيد الخدري : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى ببقيع الزبير ثمان ركعات ( وقال إنها صلاة رغب ورهب ) ، وأخرج أحمد عن عتبان بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا ) .
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدرى قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها ، وأخرج البزار ، وابن عدي ، والبيهقى في دلائل النبوة عن عبد الله بن أبي أوفى أنه صلى الضحى ركعتين وقال : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل وبالفتح ) ، وأخرج أحمد ، والطبراني عن عائذ بن عمرو قال :
( كان في الماء قلة فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنضحنا به ثم صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الضحى ) وأخرج البزار بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة يوم فتحها ثمان ركعات يطيل القراءة فيها والركوع ) ، وأخرج بسند ضعيف عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا غيره ) ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي هريرة قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى في سفرة ولا غيره ) ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي هريرة قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى إلا مرة ) ، وأخرج سعيد ابن منصور في سننه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنهار فقال : ( كان يصلي بالنهار ست عشرة ركعة كان إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة العصر من مغربها صلى ركعتين ثم انتقل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربع ركعات ، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين وقبل العصر أربع ركعات ) ، وأخرج أحمد ، وأبو يعلى بسند رجاله ثقات عن علي بن أبي طالب : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي الضحى ) ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن عبد الله بن بسر قال : ( أهدي للنبي صلى الله عليه وسلّم شاة والطعام يومئذ قليل فقال لأهله : أصلحوها فلما أصبحوا وسجدوا الضحى أتى بالقصعة ) الحديث ، وأخرج ابن منده ، وابن شاهين كلاهما في الصحابة عن قدامة وحنظلة الثقفيين رضي الله عنهما قالا : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ارتفع النهار وذهب كل أحد وانقلب الناس خرج إلى المسجد فركع ركعتين أو أربعاً ثم ينصرف ) وأخرج ابن عدي عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى عند الركن ركعتين ) ، فيه نافع أبو هرمز متروك ، وأخرج من طريق زاذان أبي عمر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم من الأنصار قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي الضحى ويقول : رب أغفرلي وتب علي إنك أنت التواب الغفور حتى بلغ مائة ، وأخرج ابن أبي حاتم في كتاب الأضاحي عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها ) .(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
الأحاديث الواردة في الأمر بها والترغيب فيها
ورد ذلك من رواية بضعة وعشرين صحابياً : أنس ، وبريدة ، وجابر ، وحذيفة ، والحسن ابن علي ، وزيد بن أرقم ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعبد الله بن جراد ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وعتبة بن عبد السلمى ، وعقبة بن عامر ، وعلي ، وعمر بن الخطاب ، ومعاذ ابن أنس الجهني ، ونعيم بن همار ، والنواس بن سمعان ، وأبي أمامة ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر ، وأبي مرة الطائفي ، وأبي موسى ، وأبي هريرة ، وعائشة .
حديث أنس : أخرج الترمذي ، وابن ماجه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب ) وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كحجة وعمرة تامة تامة تامة ) وأخرج أبو الشيخ في الثواب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم : ( ركعتان من الضحى تعدلان عند الله بحجة وعمرة متقبلتين ) . وأخرج الأصبهاني عن أنس قال : ( أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ( يا أنس صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأولين ) ، وأخرج عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى الضحى فقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشراً وآية الكرسي عشراً استوجب رضوان الله الأكبر ) وأخرج عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما من عبد صلى صلاة الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تطلع الشمس ثم يقوم فيصلي ركعتين أو أربع ركعات إلا كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس ) . وأخرج أبو نعيم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار وسلم إذا دخلت بيتك يكثر خير بيتك ) ، وأخرج ابن عساكر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أن للجنة باباً يقال له الضحى لا يدخل منه إلا أصحاب صلاة الضحى ، تحن الضحى إلى صاحبها كما تحن الناقة إلى فصيلها ) .
حديث بريد : أخرج حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال عن بريدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( في الإنسان ستون وثلثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة ) قالوا : من يطيق ذلك ؟ قال ( النخاعة في المسجد تدفنها والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم تقدر فركعتان الضحى تجزئك ) .
حديث جابر : أخرج الأصبهاني عن جابر بن عبد الله قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو في المسجد فقال : يا جابر سبحت تسبيحة الضحى ؟ قلت : لا قال : فادخل فصل ) /
حديث حذيفة : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن حذيفة بن اليمان قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( من شهد أن لا إله إلا الله وحافظ على صلاة الضحى ولم يتند بدم حرام فإنه في ذمة الله ، فمن إستطاع منكم أن يلقى الله يوم يلقاه وليس يطلبه بشيء من ذمته(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
فليفعل فإن الله ليس بتارك شيئاً من ذمته عند أحد من خلقه ) .
حديث الحسن : أخرج حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال ، والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى من الضحى ركعتين حرمه الله على النار أن تلفحه أو تطعمه ) .
حديث زيد بن أرقم : أخرج ابن أبي شيبة ، ومسلم عن زيد بن أرقم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج على أهل قباء وهم يصلون بعد طلوع الشمس ولفظ ابن أبي شيبة : ( وهم يصلون الضحى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ) .
حديث عبد الله بن أبي أوفى : أخرج عبد بن حميد ، وسمويه عن عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) .
حديث عبد الله بن جراد : أخرج الديلمي عن عبد الله بن جراد عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ ) ) قل يا أيها الكافرون ( .
حديث ابن عباس : أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( على كل سلامي من ابن آدم في كل يوم صدقة ويجزيء من ذلك كله ركعتا الضحى ) ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن شعبة مولى ابن عباس قال : كان ابن عباس يقول لي سقط الفيء ؟ فإذا قلت نعم قام فسبح ، وأخرج سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عباس قال : صلاة الضحى بعد أن تنقطع الظلال ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة عن حبيب بن الشهيد قال : سئل عكرمة عن صلاة ابن عباس الضحى ؟ قال : كان يصليها اليوم ويدعها العشر .
حديث ابن عمرو : أخرج أحمد ، والطبراني بسند رجاله ثقات عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة ) ؟ ( من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة ) .
حديث ابن عمر : أخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يقول الله تعالى : يا ابن آدم إضمن لي ركعتين من أول النهار أكفك آخره ) وأخرج أيضاً بسند حسن عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يقول : ( من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من الشهر ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر كتب له أجر شهيد ) .(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
حديث عتبة بن عبد السلمي : أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان ، وحميد ابن زنجويه في فضائل الأعمال عن عتبة بن عبد السلمي ، وأبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من صلى الصبح في مسجد جماعة ثم ثبت فيه حتى يسبح تسبيحة الضحى ) يعني صلاة الضحى كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجة وعمرته .
حديث عقبة بن عامر : أخرج البيهقي عن عقبة قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نُصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى ) وأخرج أحمد ، وأبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى : ( ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) . وأخرج أبو يعلى عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من قام إذا استقبلت الشمس فتوضأ فأحسن وضوءه ثم قام فصلى ركعتين غفر له خطاياه وكان كما ولدته أمه ) .
حديث علي : أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي رملة الأزدي عن علي أنه رآهم يصلون الضحى عند طلوع الشمس فقال : ( هلا تركوها حتى إذا كانت الشمس قيد رمح أو رمحين صلوها ؟ فتلك صلاة الأوابين ) .
حديث عمر بن الخطاب : أخرج حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث سرية فعجلت الكرة وعظمت الغنيمة فقالوا يا رسول الله ما رأينا سرية قط أعجل كرة ولا أعظم غنيمة من سريتك التي بعثت قال : ( أفلا أخبركم بأعجل كرة منهم وأعظم غنيمة ؟ قالوا من يا رسول الله ؟ قال ( أقوام يصلون الصبح ثم يجلسون في مجالسهم ويذكرون الله حتى تطلع الشمس ثم يصلون ركعتين ثم يرجعون إلى أهليهم فهؤلاء أعجل كرة وأعظم غنيمة منهم ) .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب قال : ( اضحوا عباد الله بصلاة الضحى )
حديث معاذ بن أنس : أخرج أبو داود ، والبيهقي في سننه عن معاذ بن أنس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح ثم يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً غفر له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) .
حديث نعيم بن همار : أخرج أبو داود ، والبيهقي في شعب الإيمان عن نعيم بن همار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( قال الله يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره ) .
حديث النواس بن سمعان : أخرج الطبراني بسند رجاله ثقات عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلّم : ( يقول الله يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) .
حديث أبي أمامة : أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم ، ومن مشى إلى سبحة الضحى لا(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
ينهضه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ) وأخرجه سعيد بن منصور في سننه بلفظ ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد جماعة فسبح به سبحة الضحى كتب الله له كأجر المعتمر المحرم ) ، والباقي نحو ما تقدم ، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية : ) وابراهيم الذي وفى ( هل تدرون ما وفى ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ( وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار ) . وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يقول الله يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) وأخرج بسند جيد عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة ) . وأخرج أيضاً بسند جيد عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا طلعت الشمس من مطلعها كهيئتها من صلاة العصر حتى تغرب من مغربها فصلى رجل ركعتين وأربع شجدات كان له أجر ذلك اليوم وكفر عنه خطيئته وإثمه وإن مات من يومه دخل الجنة ) .
حديث أبي الدرداء : أخرج مسلم عن أبي الدرداء قال : ( أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلّم بثلاث لا أدعهن ما عشت : بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وأن لا أنام حتى أوتر ) ، وأخرج الترمذي عن أبي الدرداء ، وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الله أنه قال : ( ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) وأخرج أحمد ، والبيهقي من وجه آخر بسند جيد عن أبي الدرداء ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن الله يقول يا ابن آدم لا تعجزن من أربع ركعات أول النهار أكفك آخره ) وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال : ( لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواب ) وأخرج الطبراني بسند حسن عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين ، ومن صلى ستاً كفي ذلك اليوم ، ومن صلى ثمانياً كتب من القانتين ، ومن صلى ثنتي عشرة بني الله له بيتاً في الجنة ) .
حديث أبي ذر : أخرج مسلم ، وأبو داود عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( يصبح على كل سلامي من ابن آدم صدقه تسليمه على من لقي صدقة وأمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة وبضعه أهله صدقة ويجزي من ذلك كله ركعتا الضحى وأخرج البزار ، والبيهقي ) ، والأصبهاني ، وحميد بن زنجويه فضائل الأعمال عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين ، وإن صليتها أربعاً كتبت من المحسنين ، وإن صليتها ستاً كتبت من القانتين ، وإن صليتها ثمانياً كتبت من الفائزين ، وإن صليتها عشراً لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب ، وإن صليتها ثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتاً في الجنة ) وأخرج ابن عدي عن أبي ذر قال : ( أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أصلي الضحى في السفر ) .
حديث أبي موسى : أخرج الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى الضحى وقبل الأولى أربعاً بنى له بيت في الجنة ) .(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
حديث أبي مرة الطائفي : أخرج أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي مرة الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( قال الله يا ابن آدم صَلِّ لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) .
حديث أبي هريرة : أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلّم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام ) وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من حافظ على سبحة الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ) وأخرج البخاري في تاريخه ، والحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ) قال : ( وهي صلاة الأوابين ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن في الجنة باباً يقال له الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أدين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى ؟ هذا بابكم فادخلوه برحمة الله ) وأخرج أبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : بعثاً فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل يا رسول الله ما رأينا بعثاً قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث ، فقال : ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة ؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة ثم عقب بصلاة الضحوة فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة ) وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الله بن مزيد عن أبي هريرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( عليك بسجدتي الضحى هما خير لك من ناقتين دهماوين من نتاج بني بحتر ) وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلّم أن أصلي الضحى فإنها صلاة الأولين )
حديث عائشة : أخرج أبو يعلى ، والطبراني في الأوسط بسند حسن عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( من صلى الغداة فقعد في مقعده فلم بلغ بشيء من أمر الدنيا ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له ) وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عائشة قالت : ( من صلى أول النهار ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة ) .
مرسل محمد بن كعب : أخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب القرظي قال : ( من قرأ في سبحة الضحى بقل هو الله أحد عشر مرات بني له بيت في الجنة )
مرسل كعب : أخرج سعيد بن منصور عن كعب قال : ( من صلى ركعتي الضحى في ثلاث ساعات من النهار فقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد وفي الثانية بفاتحة الكتاب ، والمعوذتين يتم ركوعهما وسجودهما كتب الله له بكل شعرة في جسده حسنة ) ، وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن . . . قال : كان يقال صلاة الأوابين وصلاة المنيبين ، وصلاة التوابين فصلاة الأوابين ركعتان قبل الظهر ، وصلاة المنيبين الضحى ، وصلاة التوابين ركعتان قبل المغرب .(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
تنبيه : قد علمت مما تقدم أنه لم يرد حديث بانحصار صلاة الضحى في عدد مخصوص فلا مستند لقول الفقهاء إن أكثرها ثنتا عشرة ركعة كما نبه عليه الحافظ أبو الفضل بن حجر وغيره ، قال إسحاق بن راهويه في كتاب عدد ركعات السنة : وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الضحى يوماً ركعتين ، ويوماً أربعاً ، ويوماً ستاً ويوماً ثمانياً توسعة على أمته . وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن قال : كان أبو سعيد الخدري من أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة يجيىء بالضحى فيصلي صلاة طويلة ثم ينصرف ثم يرجع فيصلي الظهر . وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن أبا سعيد الخدري كان من أشد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم توخياً للعبادة وكان يصلي عامة الضحى . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد قال : كانت عائشة رضي الله عنها تغلق بابها ثم تطيل صلاة الضحى . وأخرج ابن أبي شيبة عن الرباب أن أبا ذر صلى الضحى فأطال . وأخرج سعيد بن منصور عن طعمة بن ثابت قال : سأل رجل الحسن فقال يا أبا سعيد هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلون الضحى ؟ قال نعم كان منهم من يصلي ركعتين ومنهم من يصلي أربعاً ومنهم من يمد إلى نصف النهار . وأخرج عن إبراهيم أن رجلاً سأل الأسود كم أصلي الضحى ؟ قال كم شئت ؟ وهذا هو الذي نختاره عدم انحصارها في اثنتي عشرة . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عون بن أبي شداد أن عبد الله بن غالب كان يصلي الضحى مائة ركعة . قال الحافظ أبو الفضل العراقي في شرح الترمذي : لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين أنه حصرها في اثنتي عشرة ركعة ، وكذا لم أره لأحد من أصحابنا ، وإنما ذكره الروياني فتبعه الرافعي ومن اختصر كلامه . وقال الباجي من المالكية في شرح الموطأ : ليس صلاة الضحى من الصلوات المحصورة بالعدد فلا يزاد عليها ولا ينقص منها ولكنها من الرغائب التي يفعل الإنسان منها ما أمكنه .
فائدة : أخرج ابن أبي شيبة عن أم سلمة أنها كانت تصلي الضحى ثمان ركعات وهي قاعدة فقيل لها إن عائشة تصلي أربعاً فقالت : إن عائشة امرأة شابة هذا الأثر يؤخذ منه أن من صلاها قاعداً ضاعف الركعات لأن صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم ، فمن أراد الاقتصار على ثمان وصلاها قاعداً أتى بست عشرة ركعة أو على اثنتي عشرة أتى بأربع وعشرين .
فائدة : أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن مرجانة قال : جلست وراه سعد بن مالك وهو يسبح الضحى فركع ثماني ركعات أعدهن لا يقعد فيهن حتى قعد في أخرهن فتشهد ثم سلم .
فائدة : في سنن سعيد بن منصور ، ومعجم الطبراني الكبير ، ومسند مطين ، وتهذيب الطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : أول من صلى الضحى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يقال له ذو الزوائد ولفظ الطبراني يكنى بأبي الزوائد ، وهذا الأثر يحتاج إلى تأويل لما تقدم من الأحاديث ، وأبو الزوائد هذا لا يعرف اسمه وهو جهني ، وذكر الطبراني أنه(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
الذي يقال له ذو الأصابع ، قال ابن حجر في الإصابة : وعندي أنه غيره ، قلت : فإن صح ما قاله الطبراني فقد ذكر ابن دريد في الوشاح أن اسمه معاوية وذكر غيره أنه نزل فلسطين ولذي الزوائد حديث في حجة الوداع أخرجه أبو داود ، وقد تأولوا هذا الأثر على أنه أول من صلاها في المسجد جماعة كما تصلي التراويح ، وفي صحيح مسلم عن مجاهد قال : دخلت المسجد أنا وعروة بن الزبير فإذا عبد الله ابن عمر جالس والناس يصلون الضحى في المسجد فسألناه عن صلاتهم ؟ فقال بدعة ، قال القاضي عياض ، والنووي كلاهما في شرح مسلم : مراده أن إظهارها في المسجد بدعة والاجتماع لها هو البدعة لا أن أصل صلاة الضحى بدعة ، وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن ابن عمر قال : لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها .
باب صلاة الجماعة
مسألة : في جماعة انتظروا سكتة الإمام بعد الفاتحة ليقرؤوا فيها الفاتحة فركع الإمام عقب فاتحته هل يركعون معه ويتركون قراءة الفاتحة أم لا ؟ وقول المحب الطبري يحتمل أن ترتب هذه المسألة على مسألة الساهي عن قراءة الفاتحة حتى ركع إمامه هل هو متجه أم لا ؟ وما حكم الساهي المذكور ؟ .
الجواب : نعم قول المحب الطبري متجه ، ومسألة الساهي عن الفاتحة حتى ركع إمامه فيها وجهان : أحدهما يتخلف لقراءتها وهو الأصح . والثاني يركع مع الإمام للموافقة ثم يتدارك ركعة بعد سلامه كما لو تذكر ذلك بعد ركوعه مع الإمام ، وإذا قلنا بالأول ففيه وجهان : أحدهما أنه متخلف لعذر فله التخلف بثلاثة أركان طويلة وهذا هو الأصح والمجزوم به في المنهاج ، والثاني أنه ليس بعذر لتقصيره بالنسيان ، ويحتمل عندي في المنتظر سكتة الإمام ليقرأ أنه أولى بالتخلف وبكونه معذوراً من الساهي لأن الساهي منسوب إلى نوع تقصير وهذا غير مقصر بل محافظ على المأمور به المندوب فإنه يستحب للمأموم أن لا يقرأ الفاتحة حتى يفرغ الإمام من قراءتها فهو آت بما أمر به غير منسوب إلى تقصير .
مسألة : رجل اقتدى بالإمام مسبوقاً فركع قبل أن يتم الفاتحة وشك هل أدرك زمناً يسع الفاتحة ولكن اشتغل بشيء آخر من دعاء الافتتاح أم لم يدرك زمناً يسع ذلك فما يؤمر به هل يركع مع الإمام أو يتأخر للقراءة ؟ .
الجواب : لم أقف على نقل في ذلك ، والجاري على القواعد أنه كالمسبوق يركع مع الإمام ولا يتأخر لأن الأصل عدم إدراك زمن يسع الفاتحة والأصل عدم الاشتغال بشيء آخر ، فهذان أصلان متعاضدان كل منهما يقتضي ما قلناه ، وأفتى الشيخ جلال الدين البكرى في هذه [ القاعدة ] الواقعة بأنه يتأخر ويقرأ كمن اشتغل بدعاء الافتتاح قال : لأن شكه في ذلك قرينة على أنه اشتغل به وإن كان الأصل عدمه ، وليس هذا بواضح لأنه عمل بالاحتمال المجرد وطرح للأصل ، وأفتى الشيخ زكريا بأنه يحتاط فيركع مع الإمام ويأتي بركعة بعد(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
سلامه وليس بواضح أيضاً لأن فيه زيادة ركعة في الصلاة لا نقول بلزومها وأمراً بالركوع قبل إتمام الفاتحة وهو بسبيل من أن يتمها ، إن قلنا والحالة هذه بوجوب إتمامها .
مسألة : مأموم اشتغل عن التشهد الأول بالسجود الذي قبله فلما فرغ من السجود وجد الإمام قد تشهد وقام فما الذي يفعله المأموم هل يتشهد ثم يقوم أو يترك التشهد ويقوم ؟ وإذا قلتم أنه يقوم ويترك التشهد فهل هو على سبيل الوجوب حتى لو خالفه وتشهد بطلت صلاته إن كان عالماً عامداً أم لا ؟ وإذا قلتم : أنه يتشهد فهل هو على سبيل الوجوب أيضاً لأن إمامه كان فعله أم على سبيل الاستحباب ؟ فإن قلتم : أنه على سبيل الوجوب فخالفه ولم يتشهد فما ترتب على هذه المخالفة ؟ وإذا قلتم : أنه يتشهد وجوباً أو استحباباً ففعل التشهد وقام فوجد الإمام قد ركع فهل يركع معه وتسقط عنه القراءة أم يجب عليه أن يتخلف ويقرأ ويكون متخلفاً بعذر ؟ وإذا قلتم بسقوط القراءة فما الجواب عن قولهم عند الكلام على سقوطها عن المسبوق ويتصور سقوطها عن غير المسبوق وذلك كل موضع حصل له عذر تخلف بسببه عن الإمام بأربعة أركان طويلة وزال عذره والإمام راكع كما لو كان بطيء القراءة أو نسي أنه في الصلاة أو امتنع من السجود بسبب زحمة أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة الفاتحة ، فإن المسؤول عنه ظاهره مباين لهذا الضابط المذكور إن قلتم بسقوطها إذ ليس فيه تخلف بأركان وما معنى التخلف بأربعة أركان فإنه مبطل والمسؤول ايضاح ذلك ؟ .
الجواب : قد تردد نظري في هذه المسألة مرات والذي تحرر لي بطريق النظر تخريجاً أن له ثلاثة أحوال : الأول : أن يكون هذا لبطء القراءة فتأخر لإتمام الفاتحة وفرغ منها قبل مضي الأركان المعتبرة وأخذ في الركوع وما بعده فلما فرغ من السجود قام الإمام من التشهد ، وهذا حكمه واضح في التخلف للتشهد وسقوط القراءة عنه إذا قام وقد ركع الإمام ظاهر الثاني : أن يكون أطال السجود غفلة وسهواً وهذا لا سبيل إلى تركه التشهد لأنه لزمه بالمتابعة لكن الأوجه عندي أنه يجلس جلوساً قصيراً ولا يستوعب التشهد لأنه لا يلزمه بحق المتابعة إلا الجلوس دون ألفاظه بدليل أنه لو جلس مع الإمام ساكتاً كفاه فإن قام وقد ركع الإمام ففي سقوط القراءة عنه نظر لعدم صدق الضابط عليه . الثالث : أن يكون أطال السجود عمداً وهذا أولى من الحال الثاني بتقصير الجلوس . وأما سقوط القراءة فلا سبيل إليه جزماً لأنه غير معذور أصلاً ، بل عندي أنه لو قيل بأن هذا التخلف مبطل لفحشه لم يبعد لكن لا مساعد عليه من المنقول حيث صرحوا بأن التخلف بركن ولو بغير عذر لا يبطل ولم يفرقوا بين ركن وركن والجري على إطلاقهم أولى .
مسألة : مأموم شك في السجدة الأخيرة من آخر صلاته وهو في التشهد الأخير فهل يسجدها قبل سلام الإمام أو لا يسجدها إلا بعد سلامه لاجل المتابعة ؟ فإن قلتم : بأنه يسجدها قبل أو بعد وخالف فهل تبطل صلاته ؟ .
الجواب : الذي عندي أنه يسجدها عند التذكير قبل سلامه الإمام فلا يتأخر إلى بعد(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
سلامه ، وأكثر ما يقول القائل بأنه يتأخر أنه كمن ركع مع الإمام ثم شك في قراءة الفاتحة ، ولا يصح هذا القياس لأنه في صورة الركوع انتقل من ركن فعلي إلى ركن فعلي ومتابعة الإمام فيه واجبة وهنا لم ينتقل أصلاً بل الجلوس الذي هو فيه هو جلوس بين السجدتين استمر فيه ولم ينتقل عنه ، وإن فرض أنه أخذ في ألفاظ التشهد فهو إتيان بركن قولي في غير موضعه لا أنه انتقال ، وأيضاً فمسألة الركوع لم يتخلف فيها عن شيء فعله الإمام فإنه أتى بالقيام الذي أتى به الإمام وأكثر ما ترك الفاتحة والأذكار القولية لا فحش في مخالفة الإمام فيها وهنا قد فعل الإمام سجوداً لم يفعله هو وقد وجب عليه الإتيان به بحق المتابعة والمشي على ترتيب صلاته فوجب عليه فعله عند تذكره ، وأيضاً فمسألة الركوع لو عاد فيها كان فيها فعل قيام ثان وركوع ثان ، وفي هذا مخالفة فاحشة للإمام بخلاف مسألتنا هذه ، وأيضاً فركن القراءة أضعف من ركن السجود لأن السجود مجمع على وجوبه ولا يسقط بحال ، والقراءة خلف الإمام من الأئمة من لا يوجبها وتسقط عندنا في صور كالمسبوق ، ونحوه ، وأيضاً فقد اغتفروا في الركن القولي ما لم يغتفروا في الفعلي من جواز التقدم به والتأخر به وعدم الإبطال بتكرره ونقله فهذه خمسة فروق بين مسألة تذكر الفاتحة بعد الركوع وبين مسألتنا هذه ، فإذا ثبت انه لا يتأخر فلو تأخر كان من باب تطويل الركن القصير .
بسط الكف في إتمام الصف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يقطع من وصله ، ولا ينصر من خذله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي أرسله ، صلى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه الطائفة المكملة .
وبعد فقد سئلت عن عدم إتمام الصفوف والشروع في صف قبل إتمام صف فأجبت بأنه مكروه لا تحصل به فضيلة الجماعة ، ثم وردت إلي فتوى في ذلك فكتبت عليها ما نصه : لا تحصل الفضيلة وبيان ذلك بتقرير أمرين : أحدهما أن هذا الفعل مكروه ، والثاني أن المكروه في الجماعة بسقط فضيلتها ، فأما الأول فقد صرحوا بذلك حيث قالوا في الكلام على التخطي يكره إلا إذا كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي فإنهم مقصرون بتركها إذ يكره إنشاء صف قبل إتمام ما قبله ، ويشهد له من الحديث قوله صلى الله عليه وسلّم : ( أتموا الصفوف ما كان من نقص ففي المؤخر ) رواه أبو داود ، وفي شرح المهذب في باب التيمم : لو أدرك(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
الإمام في ركوع غير الأخيرة فالمحافظة على الصف الأول أولى من المبادرة إلى الإحرام لإدراك الركعة ، وأما كون كل مكروه في الجماعة يسقط الفضيلة فهذا أمر معروف مقرر متداول على ألسنة الفقهاء يكاد يكون متفقاً عليه ، هذا آخر ما كتبت ، وقد أردت في هذه الأوراق تحرير ما قلت بعد أن تعرف أن الفضيلة التي نعنيها هي التضعيف المعبر عنه في الحديث ببضع وعشرين لا أصل بركة الجماعة وسيأتي تقرير الفرق بين الأمرين ، ثم الكلام أولاً في تحرير أن هذا الفعل مكروه من كلام الفقهاء والمحدثين ، قال النووي في شرح المهذب في باب الجماعة : اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب سد الفرج في الصفوف وإتمام الصف الأول ثم الذي يليه إلى آخرها ولا يشرع في صف حتى يتم ما قبله هذه عبارته ولا يقابل المستحب إلا المكروه ، فإن قيل : يقابله خلاف الأولى قلت : الجواب من وجهين ، أحدهما أن المتقدمين لم يفرقوا بينهما وإنما فرق إمام الحرمين ومن تابعه . الثاني : أن القائلين به قالوا هو ما لم يرد فيه دليل خاص وإنما استفيد من العمومات ، والمكروه ما ورد فيه دليل خاص وهذا قد وردت فيه أدلة خاصة فضلاً عن دليل واحد فمن ذلك الحديث المذكور في الفتوى ، وقد رواه أبو داود من حديث أنس قال النووي في شرح المهذب بإسناد حسن ، ومن ذلك ما رواه أبو داود ، وابن خزيمة ، والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( أقيموا الصلاة وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ، ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله ) ومعنى قطعه الله أي من الخير والفضيلة والأجر الجزيل ، وقال البخاري في صحيحه باب أثم من لا يتم الصفوف وأورد فيه حديث أنس : ( ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف ) فقال الحافظ ابن حجر : يحتمل أن البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله : ( سووا ) ومن عموم قوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ومن ورود الوعيد على تركه فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب ومع القول به صلاة من خالف صحيحة لاختلاف الجهتين ، وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف ، وبما صح عن سويد بن غفلة قال : كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة فقال : ما كان عمر وبلال يضربان أحداً على ترك غير الواجب ، قال ابن حجر : وفيه نظر لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة ، وقال ابن بطال : تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دل على أن تاركها يستحق الذم وهذا صريح في أنه لا تحصل له الفضيلة ، وفي الصحيح حديث : ( لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) قال شراح الحديث : تسوية الصفوف تطلق على أمرين : اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل الذي في الصف ، واختلف في الوعيد المذكور فقيل هو على حقيقته والمراد بتشويه الوجه تحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا ، قال الحافظ ابن حجر : وعلى هذا فهو واجب والتفريط فيه حرام قال : وهونظير الوعيد فيمن رفع رأسه قبل(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الإمام ، قال : ويؤيد ذلك حديث أبي أمامة : ( لتسوون الصفوف أو لتطمسن الوجوه ) رواه أحمد بسند فيه ضعف ، قلت : وإذا كان هذا نظير مسابقة الإمام في الوعيد فهو نظيره في سقوط الفضيلة وهو أمر متفق عليه كما سيأتي ، ومنهم من حمله على المجاز قال النووي : معناه توقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب ، وفي الصحيح أيضاً حديث : ( أقيموا صفوفكم وتراصوا ) قال الشراح : المراد بأقيموا اعتدلوا وبتراصوا تلاصقوا بغير خلل ، وفيه أيضاً حديث : ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ) استدل به الجمهور على سنة التسوية ، وابن حزم على وجوبها لأن إقامة الصلاة واجبة وكل شيء من الواجب واجب ، وروى أبو يعلى ، والطبراني عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن من تمام الصلاة إقامة الصف ) وروى أحمد بسند صحيح عن ابن مسعود قال : رأيتنا وما تقام الصلاة حتى تتكامل الصفوف ، وروى الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود موقوفاً : ( سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها ) ، وروى أيضاً بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إياكم والفرج ) يعني في الصلاة ، وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( تراصوا الصفوف فإني رأيت الشياطين تتخللكم ) وروى أحمد بسند حسن عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( سووا صفوفكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيما بينكم ) وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من نظر إلى فرجة في صف فليسدها بنفسه فإن لم يفعل فمن مر فليتخط على رقبته فإنه لا حرمة له ) والأحاديث في ترك الفرج وتقطيع الصفوف كثيرة جداً وفيما أوردناه كفاية .
ومن الأحاديث التي في الترغيب ولا ترهيب فيها حديث ( من سد فرجة في الصف غفر له ) رواه البزار بإسناد حسن عن أبي جحيفة ، وحديث : ( من سد فرجة في صف رفعه الله بها درجة وبني له بيتاً في الجنة ) رواه الطبراني في الأوسط عن عائشة بسند لا بأس به ، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء مرسلاً ، وحديث : ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ) رواه الحاكم وغيره ، وحديث : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة ؟ قال : ( يتمون الصف المقدم ويتراصون في الصف ) أخرجه النسائي . وأخرج عبد الرزاق في مصنفه ، وابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لأن تقع ثنتاي أحب إلي من أن أرى فرجة في الصف أمامي فلا أصلها ، وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يقوم الرجل في الصف الثاني حتى يتم الصف الأول ، ويكره أن يقوم في الصف الثالث حتى يتم الصف الثاني ، وأخرج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أيكره أن يقوم الرجل وحده وراء الصف ؟ قال نعم والرجلان والثلاثة إلا في الصف ، قلت لعطاء : أرأيت إن وجدت الصف مزحوماً لا أرى فيه فرجة ؟ قال : لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وأحب إلي والله أن أدخل فيه . وأخرج عن النخعي قال : يقال إذا دحس الصف فلم يكن(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
فيه مدخل فليستخرج رجلاً من ذلك الصف فليقم معه فإن لم يفعل فصلاته تلك صلاة واحدة ليست بصلاة جماعة . وأخرج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء أيكره أن يمشي الرجل يخرق الصفوف ؟ قال : إن خرق الصفوف إلى فرجة فقد أحسن وحق على الناس أن يدحسوا الصفوف حتى لا يكون بينهم فرج ثم قال : ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ( فالصلاة أحق أن يكون فيها ذلك . وأخرج عن يحي بن جعدة قال : أحق الصفوف بالإتمام أولها . وأخرج سعيد بن منصور في سننه ، وابن أبي شيبة ، والحاكم عن العرباض بن سارية قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الصف المقدم ثلاثاً وعلى الذي يليه واحدة ) وأخرج سعيد بن منصور عن أبي إمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ، قالوا : يا رسول الله وعلى الثاني ؟ قال : إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ، قالوا : يا رسول الله وعلى الثاني ؟ قال : إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ، قالوا : يا رسول الله وعلى الثاني ؟ قال : ( سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف ) وأخرج عن إبراهيم النخعي قال : ( كان يقال سووا الصفوف وتراصوا لاتتخللكم الشياطين كأنها بنات الحذف ) وأخرج عن ابن عمر قال : ما خطا رجل خطوة أعظم أجراً من خطوة إلى ثلمة صف ليسدها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما تغبرت الأقدام في مشي أحب إلى الله من رقع صف ) يعني في الصلاة . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاعدلوا صفوفكم وسدوا الفرج فإني أراكم من وراء ظهري ) . ومما يناسب ذلك أيضاً قال البخاري في الصحيح باب الصلاة بين السواري في غير جماعة ثم أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في الصلاة في الكعبة ، قال الحافظ ابن حجر : إنما قيدها بغير الجماعة لأن ذلك يقطع الصفوف وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب ، وقال الرافعي في شرح المسند : احتج البخاري بهذا الحديث على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة ، وقال المحب الطبري : كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك ومحل الكراهة عند عدم الضيق والحكمة فيه انقطاع الصف .
فهذا الذي أوردناه من الأحاديث وكلام شارحيها من أهل المذهب وغيرهم صريح في كراهة هذا الفعل وفي بعضها ما يصرح بسقوط الفضيلة . ولنذكر الآن ما وقع في كتب المذهب من المكروهات التي لا فضيلة معها ، فأول ما صرحوا بذلك في مسألة المقارنة .(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
قال الرافعي رحمه الله في الشرح : قال صاحب التهذيب وغيره ذكروا أنه يكره الإتيان بالأفعال مع الإمام وتفوت به فضيلة الجماعة ، وكذا قال النووي في الروضة ، وشرح المهذب ، وابن الرفعة في الكفاية ، قال الزركشي في الخادم : الكلام في هذه المسألة في شيئين : أحدهما في كون المقارنة مكروهة ، الثاني تفويتها فضيلة الجماعة . فأما الأول فقد صرح بالكراهة البغوي وتابعه الروياني وكلام الإمام وغيره يقتضي أنه خلاف الأولى ، وأما الثاني فعبارة التهذيب إذا أتى بالأفعال مع الإمام يكره وتفوت به فضيلة الجماعة ولكن تصح صلاته ، وقال ابن الأستاذ : في هذا نظر فإنه حينئذ ينبغي أن يجري الخلاف في صحة صلاته إلا أن يقال تفوته فضيلة الأولوية مع أن حكم الجماعة عليه . وقال التاج الفزاري : في كلام البغوي نظر فإنه حكم بفوات فضيلة الجماعة وحكم بصحة الصلاة وذلك تناقض ، وتبعه أيضاً السبكي ، وصاحب المهمات ، والبارزي في توضيحه الكبير ، قال الزركشي : وهذا كله مردود فإن الصحة لا تستلزم الثواب بدليل الصلاة في الثوب الحرير والدار المغصوبة ، وإفراد يوم الجمعة بالصوم ، والحكم بانتفاء فضيلة الجماعة لا يناقض حصولها بدليل ما لو صلى بالجماعة في أرض مغصوبة فالاقتداء صحيح وهو في جماعة لا ثواب فيها ، قال : ومما يشهد لانفكاك ثواب الجماعة المسبوق يدرك الإمام بعد الركوع من الركعة الأخيرة فإنه في جماعة قطعاً لأن اقتداءه صحيح بلا خلاف وإلا لبطلت صلاته ، ومع ذلك اختلفوا في حصول الفضيلة له قال : وكذلك كل صلاة لا تستحب فيها الجماعة كصلاة العراة جماعة فإنه يصح الاقتداء ومع ذلك لا ثواب فيها لأنها غير مطلوبة ، قال : والحاصل أن النووي نفي فضيلة الجماعة أي ثوابها ولم يقل بطلت الجماعة فدل على أن الجماعة باقية وأنه في حكم المقتدي لأنه يتحمل عنه السهو وغيره ، قال : والعجب من هؤلاء المشايخ كيف غفلوا عن هذا وتتابعوا على هذا الفساد وأن فوات الفضيلة يستلزم الخروج عن المتابعة . وهذا عجب من القول مع وضوح أنه لا تلازم بينهما لما قلناه من بقاء الجماعة وصحة الاقتداء مع انتفاء الثواب في ما لا يحصى ، قال : وأما جزم البارزي بأنه يحصل له فضيلة الجماعة فأعجب لأن المقارنة مكروهة والمكروه لا ثواب فيه ، وكيف يتخيل مع ذلك حصول الثواب ، وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في تذكرة الخلاف فيمن أخرج نفسه من الجماعة إنا وإن حكمنا بالصحة فقد فاتته الفضيلة ، قال الزركشي : وإذا ثبت هذا في المقارنة جرى مثله في سبق الإمام من باب أولى بل يجري أيضاً في المساواة معه في الموقف فإنها مكروهة ، والضابط أنه حيث فعل مكروهاً في الجماعة من مخالفة المأموم فاتته فضيلتها إذ المكروه لا ثواب فيه ، وكذا لو اقتدى بإمام محدث وهو جاهل بحدثه فإن صلاته تصح وإن فاتته فضيلة الجماعة ، انتهى كلام الخادم بحروفه . وقد تحصل من هذا صور منقولة تسقط فيها الفضيلة مع الصحة بعضها للكراهة وبعضها للتحريم وبعضها لعدم الطلب ، فمن الأول المسابقة والمقارنة ، والمفارقة ، والمساواة في الموقف . ومن الثاني صلاة الجماعة في أرض(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
مغصوبة ، ومن الثالث صلاة العراة . وممن صرح بمسألة المساواة أيضاً الحافظ ابن حجر فقال في شرح البخاري : الأصل في الإمام أن يكون مقدماً على المأمومين إلا إن ضاق المكان أو كانوا عراة وما عدا ذلك تجزىء ولكن تفوت الفضيلة ، وصرح بذلك أيضاً ابن العماد في القول التمام وعلله بارتكاب المكروه ، وكذا قال الشيخ جلال الدين المحلى في شرح المنهاج معبراً بقوله ويؤخذ من الكراهة سقوط الفضيلة على قياس ما ذكر في المقارنة ، ثم قال الزركشي عند الكلام على مسألة المفارقة حيث جوزنا له المفارقة فهل يبقى للمأموم فضيلة الجماعة التي أدركها ؟ الذي صرح به الصيرفي البقاء وكلام المهذب يقتضي المنع ، ويؤيده ما سبق عن البغوي من تفويت الفضيلة بالمقارنة فإنها إذا فاتت مع الاتفاق على الصحة فلأن تفوت مع الاختلاف في البطلان أولى ، ثم قال : والمتجه التفصيل بين المعذور وغيره انتهى . وذكر مثل ذلك ابن العماد في القول التمام ، ويؤخذ من قوله أنها إذا فاتت مع الاتفاق على الصحة ففي الاختلاف في البطلان أولى فواتها أيضاً في المنفرد وخلف الصف ، فإن مذهب أحمد بطلانها وهو وجه عندنا حكاه الدارمي عن ابن خزيمة وحكاه القاضي أبو الطيب عن ابن المنذر ، والحميدي من أصحابنا قال السبكي وغيره : ودليلهم قوي . وقد علق الشافعي القول به على صحة الحديث فقالوا : لو ثبت حديث وابصة لقلت به وقد صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي ثم أطال الكلام في تقريره الجواب عن حديث أبي بكرة ، وقد ورد أثر في سقوط الفضيلة في هذه الصورة بعينها أورده البيهقي مستدلاً به وهو من كبار الشافعية فروى من طريق المغيرة عن إبراهيم فيمن صلى خلف الصف وحده فقال صلاته تامة وليس له تضعيف ، ومعنى ذلك أنه لا تحصل له المضاعفة إلى بضع وعشرين الذي هو فضل الجماعة ، وقال في الروضة في مسألة الأداء خلف القضاء وعكسه الأولى الانفراد للخروج من خلاف العلماء ، قال في الخادم : وإذا كان الأولى الانفراد لم يحصل له فضيلة الجماعة فهذه صورة أخرى . وقال الحافظ ابن حجر ، والشيخ جلال الدين المحلى في شرح المنهاج في مسألة الاقتداء في خلال الصلاة : صرح في شرح المهذب بأنه مكروه ، ويؤخذ من الكراهة سقوط الفضيلة على قياس ما ذكر في المقارنة فهذه صورة ثامنة ، ورأيت الشيخ جلال الدين يشير إلى أنه حيث وجدت الكراهة سقطت الفضيلة كما لا يخفى ذلك من عبارته . ومما يدل للكراهة في الصورة التي نحن بصددها قولهم بجواز التخطي في مثلها مع أن أصل التخطي مكروه كراهة شديدة عند الجمهور وحرام عند قوم ، واختاره النووي للاحاديث ، فلولا أنه أمر مهم جداً ما أبيح له ما هو في الأصل محرم أو مكروه كراهة شديدة مع قوله صلى الله عليه وسلّم في الحديث : ( فإنه لا حرمة له ) ومما يؤنسك بهذا أن من قواعد الفقه وأصوله أن ما كان ممنوعاً إذا جاز وجب ، وهذه قاعدة نفيسة استدلوا بها على إيجاب الختان ، فإن قطع جزء من بدن الإنسان ممنوع منه فلما جاز كان واجباً ، وتقريره هنا أن التخطي ممنوع منه إما تحريماً أو كراهة ، فلما جاز بل طلب دل على أنه(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
واجب في حصول الفضيلة والتضعيف وإن لم يكن واجباً في ذاته إذ لا يأثم تاركه ولا يقدح في صحة الصلاة . وأما تحرير الفرق بين بركة الجماعة وفضيلتها ففي الخادم في مسألة من أدرك الإمام بعد ركوع الأخيرة ذكروا أن كلام الرافعي في آخر هذه المسألة يقتضي أن بركة الجماعة أمر غير فضيلة الجماعة ، وأن البركة هي التي تحصل لهذا دون الفضيلة ، قال : وبهذا يندفع ما قيل في المسألة من تناقض أو إشكال ، وقد وقع في ذكر حكمة هذا العدد المخصوص في الحديث ما يؤيد الفرق بين بركة الجماعة وفضيلتها ، قال الحافظ ابن حجر : ذكر المحب الطبري أن بعضهم قال أن في حديث أبي هريرة ما يشير إلى ذلك حيث قال وذلك أنه إذا توضأإلى آخره ، وهذا ظاهر في أن الأمور المذكورة عليه للتضعيف المذكور ، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبراً ، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى فالأخذ بها متوجه والروايات المطلقة لا تنافيها بل تحمل عليها ، قال : وقد نقحت الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة فإذا هي خمس وعشرون في السرية وسبع وعشرون في الجهرية وبذلك يجمع بين الحديثين ، أولها إلى الخامس : إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة والتبكير إليها في أول الوقت والمشي إلى المسجد بالسكينة ودخول المسجد داعياً وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، سادسها : انتظار صلاة الجماعة والتعاون على الطاعة ، سابعها : صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له ، ثامنها : شهادتهم له ، تاسعها : إجابة الإقامة ، عاشرها : السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة ، حادي عشرها : الوقوف منتظراً إحرام الإمام والدخول معه في أي هيئة وجده عليها ، ثاني عشرها : إدراك تكبيرة الإحرام ، ثالث عشرها : تسوية الصفوف وسد فرجها ، رابع عشرها : جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده ، خامس عشرها : الأمن من السهو غالباً وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح والفتح عليه ، سادس عشرها : حصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالباً ، سابع عشرها : تحسين الهيئة غالباً ، ثامن عشرها : إحفاف الملائكة ، تاسع عشرها : التدريب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض ، العشرون : إظهار شعائر الإسلام ، الحادي والعشرون : إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل ، الثاني والعشرون : السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره به الظن بأنه ترك الصلاة رأساً ، الثالث والعشرون : رد السلام على الإمام ، الرابع والعشرون : الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل منهم على الناقص ، الخامس والعشرون : قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات . وتزيد الجهرية بالإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتيامن عند تأمينه ، قال الحافظ ابن حجر : ومقتضى ذلك اختصاص التضعيف بالتجميع في المسجد وإلا تسقط ثلاثة أشياء وهي : المشي والدخول والتحية ، فيمكن أن يعوض من ذلك ما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة ، لأن(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص ، وكذا فائدة قيام الألفة غير فائدة حصول التعاهد ، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالباً غير تنبيه الإمام إذا سها ، فيمكن أن يعوض من تلك الثلاثة هذه فيحصل المطلوب ، قال : ولا يرد على ذلك كون بعض الخصال تختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتكبير وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك ، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع ، وإذا علمت ذلك فالإخلال بسد الفرجة لا يحصل معه التضعيف المذكور قطعاً لأنه خصلة من الخصال المقابلة بدرجة ، ثم أنه يسقط بسببه خصال أخر كالسلامة من الشيطان لتصريح الحديث بتخلل الشيطان بينهم وإحفاف الملائكة لعدم مجامعتهم للشياطين ، وصلاة الملائكة وشهادتهم له لأن ذلك ينافي ورود الوعيد عليه ، وقيام نظام الألفة لإخبار الحديث بأنه يورث مخالفة القلوب ، وعود بركة الكامل على الناقص لذلك أيضاً ، وعدم الأمن من السهو غالباً ، وعدم إرغام الشيطان ، وعدم الخشوع لوسوسة الشياطين المتخللة ، فهذه عشر خصال تفوت بعدم سد الفرجة فيفوت بسببها عشر درجات ، فإن انضم إلى ذلك عدم التبكير والانتظار والوقوف منتظراً إحرام الإمام وإدراك تكبيرة الإحرام إذ المقصر في سد الفرجة مع سهولتها أقرب إلى التقصير في المذكورات وأبعد من المبادرة إليها ومن أن تكون له عادة بالمحافظة عليها سقط خمسة أخرى ، وإن انضم إلى ذلك بعده عن الإمام وتراخى الصف الذي وقف فيه عن سد الفرجة تسقط خصلتان وهي تنبيه الإمام إذا سها والاستماع لقراءة الإمام فيصير الحاصل له في الجهرية عشر درجات وفي السرية تسع والله أعلم . ومما يدل على ذلك [ أيضاً ] ما رواه سعيد بن منصور في سننه بإسناد حسن عن أوس المعافري أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص : أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى في بيته ؟ قال حسن جميل ، قال : فإن صلى في مسجد عشيرته ، قال خمس عشرة صلاة ، قال فإن مشي إلى مسجد جماعة فصلى فيه قال خمس وعشرون ، وبذلك يندفع قول من قال : إن الجماعة الكاملة يحصل فيها خمس وعشرون درجة والجماعة التي فيها خلل يحصل فيها هذا العدد لكن درجات الأول أعظم وأكمل كما قيل في بدنه المبكر إلى الجمعة حيث يشترك فيها الآتي أول الساعة وآخرها والصحابة أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلّم وبتفسير معاني كلامه من غيرهم ، وأيضاً فالأصح في تفسير الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمجمع كما رجحه جماعة منهم ابن دقيق العيد لأنه ورد مبيناً في بعض الروايات كحديث مسلم : ( صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ ) قال الحافظ ابن حجر : وهو مقتضى قوله تضعف لأن الضعف كما قال الأزهري المثل إلى ما زاد ، فالتفاوت في ذلك إنما يقع بزيادة عدد المثل ونقصانه لا بارتفاعه وانحطاطه بخلاف البدنة ونحوها فإنها مما تقبل العظم والخسة كما لا يخفي ، وقد أورد أن الصلاة أيضاً تتفاوت بالكمال والنقصان(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
فقلت : المراد أن تلك الصلاة التي صلاها بعينها في الجماعة تحصل له مثل ما لو صلاها منفرداً بضعاً وعشرين مرة سواء كانت في نهاية الكمال أم لا ، فنقصان سد الفرج ونحوه أمر زائد على نقصان أصل الصلاة قطعاً ، وأورد أن كلام ابن عمر ومحمول على أنه قاله اجتهاداً فلا يقلد فيه ولو قاله مرفوعاً لتم الاحتجاج به على ذلك ، فقلت : هذا من قبيل المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي إذ هو من أمور الآخرة التي لا تقال إلا عن توقيف ، وأورد أن الآتي ولا فرجة في الصف يؤمر بجذب رجل ويؤمر ذاك بمساعدته فيصير في الصف فرجة فقلت هذا للضرورة ولدفع ما هو أشد كراهة وإحرازاً لصحة الصلاة على قول من يرى بطلانها [ قال الشمس الداودي قال مؤلفه شيخنا : وكانت هذه الفتوى والتأليف في صفر سنة ست وسبعين وثمانمائة ] والله أعلم .
باب صلاة المسافر
مسألة : قال في الروضة في آخر صلاة المسافر : لو سافر رجلان شافعي ، وحنفي في مدة قصر ثم نوى الحنفي الإقامة يعني إقامة أربعة أيام . . . في موضع في طريقه فانه لا . . . سفرة في مذهبه وينقطع . . . مذهب الشافعي وشرع في صلاة مقصورة جاز للشافعي أن يقتدي به وهو مشكل على قولهم أن العبرة بنية المقتدي .
الجواب : قال العلامة ابن قاسم في حاشية التحفة بعد أن أورد عبارة المصنف هذه ما نصه : وقد يقال فيه نظر لأن الشافعي يعتقد عدم انعقاد صلاته لأنه صار مقيماً بنية الإقامة ، والمقيم إذا نوى القصر لا تنعقد صلاته فلم ينتف الإشكال فليتأمل ، وقد يجاب بأن الحنفي بمنزلة الجاهل بالحكم لاعتقاده الجواز ونية القصر جهلاً لا تضر ، وهذا الجواب يتوقف على أن الشافعي المقيم لا يضره نية القصر مع الجهل فليراجع ، انتهى ما أورده ابن قاسم ، وأقول : قد أجاب الشيخ ابن حجر في التحفة بأنه لما كان جنس القصر جائزاً اغتفر نية الإمام له وإن كان غير جائز في هذه الصلاة وكذلك في شرح العباب على ذلك أن الاقتدء به . . . لمروره في . . . إذا علم أنه نوى القصر فإحرامه بالصلاة صحيح فصح الاقتداء به ما دامت الصلاة صحيحة .
باب صلاة الجمعة
مسألة : في رجل صلى الجمعة إما ما فقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة ومن قوله تعالى في سورة يوسف ) لقد كان في يوسف وإخوته آيات ( إلى قوله ) والله المستعان على ما تصفون ( اثنتي عشرة آية ، وفي الثانية إلى قوله : ) وكذلك نجزي المحسنين ( أربع آيات فهل يكون هذا تطويلاً تكره به الصلاة ؟ وهل يكون مخالفاً للسنة لأجل قراءته بغير سورتي الجمعة ، والمنافقين ؟ وهل تكون هذه الصلاة مكروهة ؟(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
الجواب : ليس هذا هو التطويل المكروه لأن ذلك هو منتهى الكمال للمنفرد فما فوقه كستين آية فصاعداً ، وقد ورد : لا يقرأ في الصبح بدون عشرين آية ولا في العشاء بأقل من عشر آيات والجمعة والظهر كذلك بل أولى من العشاء ، ولا يلزم من قراءة غير الجمعة ، والمنافقين الكراهة بل غايته أنه خلاف الأولى .
مسألة : في رجل تذكر فائتة والخطيب يخطب فصلاها هل تصح ؟ .
الجواب : نعم تصح لأن لها سبباً قياساً على صحتها في الأوقات المكروهة وعلى صحة التحية للداخل حالة الخطبة ، وقد أفتى بذلك شيخنا قاضي القضاة علم الدين البلقيني أخذاً من قول والده في التدريب : ومن الصلاة المحرمة الزيادة على الركعتين للداخل حال خطبة الجمعة والتنفل لغير الداخل فأخذ من قوله والتنفل بطريق المفهوم أن قضاء الفائتة المفروضة لا يحرم ، ووافقه على ذلك شيخنا الشيخ سراج الدين العبادي . وخالفهما شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي فأفتى بالمنع والبطلان وتعرض للمسألة في حاشيته على شرح البهجة ، ثم رأيت الأذرعي ذكر مثل ما أفتى به شيخنا البلقيني من الجواز والصحة ونقله عن الماوردي في الحاوي والجرجاني في الشافي .
مسألة :
يا من لأهواء الجهالة مذهب
ولحلة الفقها طراز مذهب
يا من له فهم تفرد في الورى
يا من إليه جاء يسعى المذهب
يا من بتحرير المقالة قد حوى
فضلاً ببهجته نلذ ونطرب
يا عمدة في مذهب الحبر الرضي
الشافعي هو الإمام المطنب
ما قولكم في أربعين لجمعة
حضروا كذاك بخطبة إذ تخطب
والبعض منهم يجهلون كليهما
والبعض منهم عالم ومهذب
ماذا يكون الحكم في كلتيهما
أنت المراد لها وأنت المطلب
وصلاة عيد إن قضاها من وفى
تكبيره لقضائها هل يندب
ثم الطواف وجوب نيته على
من رامها حقاً فهل تترتب
نرجوا الجواب عن الثلاث معللاً
ويكون ذلك واضحاً يستعذب
أبقاك ربك ذاهناً يا من لنا
وبل الندى منه روى إذ نجدب
وجنى الجنان إليك يدنيه وعن
رؤياه في دار البقا لا يحجب
الجواب :
الحمد لله الذي من يقرب
لجنابه يحظى به ويقرب
ثم الصلاة على الذي كل الورى
والرسل في حشر إليه ترغب(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
إن أربعون نووا إقامة جمعة
كل إلى جهل القراءة ينسب
صحت ولو في بعضهم أمية
ما لم يؤمهم الجهول المتعب
أو كلهم جهلوا الخطابة ألغها
ما لم يكن فيهم فريد يخطب
والفرق أن إمامة الأمي بمن
ساوى تصح وفوقه لا تحسب
وصلاتها دون الخطابة لا تصح
وبعدها صحت ولو لم يعربوا
وصلاة عيد قد قضى لما مضت
أيامها تكبيرها لا يندب
وطواف فرض لا احتياج لنية
أما التطوع والوداع فأوجبوا
إذ نية الإحرام شاملة له
فله غنى عنها كما قد رتبوا
والنذر حكم النفل قطعاً واغتنى
عنها القدوم فليس فيه تطلب
هذا جواب ابن السيوطي سائلاً
من ربه الغفران عما يذنب
مسألة : في الروضة المقابلة لمصر العتيقة هل هي بلد مستقل فلا تنعقد الجمعة بها إلا بأربعين من أهلها الفاطنين بها أم هي حكم مصر ؟ .
الجواب : هي بلد مستقل فلا تنعقد بها الجمعة إلا بأربعين قاطنين بها وقد كانت في الزمن القديم مشهورة بذلك ولها وال وقاض مختص بها .
مسألة : إذا كان الخطيب حنفياً لا يرى صحة الجمعة إلا في السور فهل له أن يخطب ويؤم في القرية وهل تصح الصلاة خلفه ؟ .
الجواب : العبرة في الاقتداء بنية المقتدي فتصح صلاته في الجمعة خلف حنفي وإن كان في قرية لا سور لها إذا حضر أربعون من أهل الجمعة .
اللمعة في تحرير الركعة لإدراك الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : في قول المنهاج في صلاة الجمعة من أدرك ركوع الثانية أدرك الجمعة فيصلي بعد سلام الإمام ومشي عليه الشارح المحقق وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي بقوله : إن شرط إدراك الجمعة بركوع الثانية أن يستمر الإمام إلى السلام ، ووقع لبعضهم أنه قال : يجوز مفارقة الإمام إذا أدرك ركوع الثانية قبل أن يسلم الإمام إثر السجود الثاني وأفتى بذلك جماعة من الشافعية فعلام يعتمد المقلد للإمام الشافعي رضي الله عنه وعنا ؟ .
الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى هذه المسألة من معضلات المسائل التي يجب التوقف فيها ، فإن المفهوم من كلام كثيرين اشتراط الاستمرار إلى السلام ، ومن كلام آخرين خلافه ، وها أنا أبين ذلك واضحاً مفصلاً فأقول : المفهوم من كلام المشايخ(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
الثلاثة الرافعي والنووي ، وابن الرفعة اشتراط الاستمرار إلى السلام حيث عبروا في عدة مواضع الرافعي في شرحيه ، والنووي في شرح المهذب والمنهاج ، وابن الرفعة في الكفاية بقولهم صلى بعد سلام الإمام ركعة أضاف بعد سلام الإمام فإذا سلم الإمام قام وأتى بركعة ، وتكرر ذلك منهم في مواضع عديدة ، وهذا وإن كان محتملاً لذكر بعد صور المسألة لا للتقييد لكن يدفعه عدم ذكر الشق الآخر وهو ما لو فارق قبل السلام ما حكمه ؟ فإنه لو كان حكمه الإدراك لنهبوا عليه ليعرفوا أن قولهم بعد سلام الإمام ونحوه ليس للتقييد ، وكذا قال ابن الرفعة في مسألة المزحوم إذا راعى ترتيب نفسه عالماً بطلت صلاته ، ثم إن أدرك الإمام في ركوع الثانية وجب عليه أن يحرم معه وتدرك الجمعة بهذه الركعة فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى ، وقال في مسألة المسبوق : المراد بإدراك الركعة أن يحرم المأموم ويركع مع الإمام والإمام راكع فيجتمعان في جزء منه ويتابع الإمام إلى أن يتم ، وقال الرافعي : المراد بإدراك الركوع ان يدركه : فيه ويتابعه فيما بعده من الأركان . فهذه العبارات كلها ظاهرة في اعتبار الاستمرار إلى السلام وأما مسألة المفارقة التي ذكرها الأسنوي وجوزها قبل السلام فلم يصرح بها أحد من المشايخ الثلاثة ، وإنما ذكروا مسألة المفارقة مريدين بها بعد الركعة الأولى بقرينة أنهما لم يذكراها في مسألة المسبوق وإنما ذكرها الرافعي ، والنووي في مسألة الاستخلاف ، وابن الرفعة في مسألة الزحمة ، وكل من المسألتين خاص بإدراك الركعة الأول ، هذا وقد صرح بالمسألة واشتراط الاستمرار إلى السلام الشيخ تقي الدين السبكي ، والكمال الدميري في شرحيهما على المنهاج ، وعبارة السبكي . والدميري هذا إذا كملها مع الإمام ، أما لو خرج منها قبل السلام فلا ، ويرشد إليه قوله : فيصلي بعد سلام الإمام ركعة هذه عبارته . وقول الشيخ جلال الدين المحلى في شرحه : واستمر معه إلى أن سلم يحتمل التقييد والتصوير لأجل صورة الكتاب والأول أوجه وإلا لبين حكم القسم الآخر وألحقه بالأول كما جرت به عادته وعادة الشراح قبله ، وإلا لكان زيادة إبهام واستمراراً على ما في المتن من الإيهام ، وإن نظرت إلى الاستدلال وجدته يؤيد الاشتراط وذلك لأن الأصل في الجمعة أن لا يصلي شيء منها إلا مع الإمام خرج صورة من أدرك ركعة بالحديث فوجب الاقتصار عليه بشرط حصول مسمى الركعة والتشهد والسلام داخلان في مسمى الركعة وذلك من وجوه : أحدها أن النصوص والإجماع على أن الجمعة والصبح والعيد ونحوها ركعتان ، والظهر والعصر والعشاء أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ، والقول بأن آخر الركعات الفراغ من السجدة الثانية وأن التشهد والسلام قدر زائد عليها يلزم عليه أحد أمرين : إما إخراج ذلك عن مسمى الصلاة وهو شيء لم يقله أحد في التشهد وإن قال به بعض العلماء في السلام ، وإما دعوى أن الصلاة ركعتان وشيء أو أربع وشيء أو ثلاث وشيء وهو أمر ينبو عنه السمع ويأباه حملة الشرع . الثاني : أن الحديث واتفاق المذهب مصرح بأن الوتر ركعة وهي مشتملة على تشهد وسلام ، فدعوى أنهما خارجان عن مسمى الركعة خلاف الأصل والظاهر ، إذ الأصل والظاهر أن الاسم إذا أطلق على شيء يكون منصباً على جميع أجزائه ، ولا يخرج(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
بعضها عن إطلاق الاسم عليه إلا بدليل ينص عليه ، الثالث : أن أكثر ما يقال في إخراجهما عن مسمى الركعة القياس على الركعة الأولى وهو بعيد لأن السجدة الثانية في الركعة الأولى يعقبها الشروع في ركعة أخرى فوجب كونها آخر الركعة والتشهد الأول يعقبه ركعة أو ركعتان فصح جعله فاصلاً بين ما سبق وما سيأتي ، وأما الركعة الأخيرة فلا يعقبها شروع في ركعة أخرى فوجب أن يكون تشهدها جزءاً منها داخلاً في مسماه ، ولم يصلح أن يكون فاصلاً إذ لا شيء يفصله منها ، الرابع : ومما يؤيد ذلك أنه لا بدع أن يزيد بعض الركعات على بعض بأركان وسنن ، فكما أن الأولى زادت من الأركان بالنية والتكبيرة ومن السنن بدعاء الاستفتاح وبالتعوذ على رأي مشى عليه صاحب التنبيه رضي الله عنه فكذلك زادت الثانية بالتشهد والسلام وبالقنوت في بعض الصلوات ، الخامس : ومما يؤيد ذلك اختلاف الأصحاب في جلسة الاستراحة هل هي من الركعة الأولى أو من الثانية أو فاصلة بين الركعتين ؟ على أوجه حكاها ابن الرفعة في الكفاية وبنوا على ذلك ما لو خرج الوقت فيها ، فإن قلنا : إنها من الأولى فالصلاة قضاء لأنه لم يدرك ركعة من الوقت ، أو من الثانية أو فاصلة فأداء ، فانظر كيف لم يجزموا بأن آخر الأولى السجدة الثانية والتشهد الأخير نظير جلسة الاستراحة ، بل يجب القطع بأنه من الركعة التي قبله ، ولا يحسن فيه خلاف جلسة الاستراحة لأن جلسة الاستراحة تعقبها ركعة ، فيصح أن يجعل جزءاً منها أو فاصلاً بينها وبين ما قبلها ، ولا ركعة بعد التشهد الأخير ، فلا يصح جعله من غير الركعة التي هو فيها إذ لا شيء بعده تجعل منه أو فاصلاً بينه وبين ما قبله ، وبهذا يحصل الفرق بينه وبين التشهد الأول ، السادس : علم مما قررناه أن قوله صلى الله عليه وسلّم : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ) أي آداءً لا يكتفي فيه بالفراغ من السجدة الثانية بل لا بد من الفراغ من الجلسة بعدها أن جلسها على الأول وهو مرجوح ، فكذا حديث من أدرك ركعة من الجمعة لا يكتفي فيه بالفراغ من السجدة الثانية بل لا بد من الفراغ من الجلوس بعدها لما قطعنا به من كونه من جملة الركعة ، السابع قوله صلى الله عليه وسلّم : ( من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى ) ظاهر في أن التشهد والسلام داخل في مسمى الركعة وذلك لأن قوله أخرى صفة لموصوف مقدر أي ركعة أخرى ، والركعة التي تصلي مشتملة على تشهد وسلام وقد سماها ركعة فوجب دخولهما في مسمى الركعة ، فإن قيل : يقدر في الحديث فليصل إليها ركعة ويضم إليها التشهد والسلام ، قلنا : هذا تقرير ما لا دليل عليه ولا حاجة إليه ، والتقدير لا يصار إليه إلا عند الحاجة ولا حاجة ، الثامن : لفظ الحديث والأصحاب في صلاة الخوف أن الفرقة الثانية يصلون مع الإمام ركعة دليل أن التشهد والسلام داخلان في مسمى الركعة فإنها تتشهد معه وتسلم ، وكذا قولهم : فإن صلى مغرباً فبفرقة ركعتين وبالثانية ركعة فإن الأولى تتشهد معه والثانية كذلك وتسلم معه ، والتاسع : قول الفقهاء في صلاة النفل : فإن أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في ركعتين وفي كل ركعة صريح في أن التشهد داخل في مسمى الركعة حيث جعلوا الركعة ظرفاً للتشهد فيكون منها ، ولو كان زائداً عليها(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
لم يصح الظرف لأنه يكون بعدها لا فيها ، فقولهم تشهد في كل ركعة كقولهم تجب الفاتحة في كل ركعة ، وكقولهم في صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فإن ذلك داخل في مسمى الركعة قطعاً ، العاشر : قوله صلى الله عليه وسلّم في صلاة التسبيح إنها أربع ركعات في كل ركعة خمسة وسبعون تسبيحة ثم فصلها خمس عشرة في القيام وعشر في الركوع إلى أن قال : وعشر في جلسة الاستراحة ، إلى أن قال : وعشر في التشهد صريح في أن جلسة الاستراحة والتشهد بعض من الركعة وداخلان في مسمى الركعة ، وإلا لم يصح أن في كل ركعة خمسة وسبعين لأنه لو كانا خارجين عن مسمى الركعة كان في كل ركعة خمسة وستون والباقي مزيد على الركعة ، ولفظ الحديث : ( يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة فإذا انقضت القراءة فقل الله أكبر والحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله خمس عشرة مرة قبل أن تركع ثم إركع فقلها عشراً ثم ارفع رأسك فقلها عشراً ثم اسجد فقلها عشراً ثم ارفع رأسك فقلها عشراً ثم اسجد فقلها عشراً ثم اجلس للاستراحة فقلها عشراً قبل أن تقوم فذلك خمسة وسبعون في كل ركعة وهي ثلثمائة في أربع ركعات ) أخرجه أبو داود ، والترمذي وابن ماجه ، والحاكم ، وابن خزيمة في صحيحيهما ، فإن قيل : الأرجح أن جلسة الاستراحة فاصلة لا من الأولى ولا من الثانية . قلت : الجواب عن ذلك أن هذه الجلسة في صلاة التسبيح ليست كجلسة الاستراحة بل جلسة مزيدة في هذه الصلاة كالركوع في صلاة الكسوف ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن حجر في أماليه ، ولهذا طولت فدل على أنها هنا من الركعة الأولى ، فكذلك التشهد الأخير من الركعة الرابعة ، ولا تتم خمسة وسبعون إلا بما يقال فيه ، فإن قيل : فما الذي أوجب ذلك التوقف مع ما ذكرت من وجوه الاستدلال ؟ قلت : مسألة رأيتها في تهذيب البغوي فإنه بعد أن قرر في مسائل الاستخلاف أن الخليفة المقتدي في الثانية يتم ظهراً لا جمعة لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة ، قال مانصه : ولو أدرك المسبوق في الركوع من الركعة الثانية فركع وسجد مع الإمام فلما قعد للتشهد أحدث الإمام وتقدم المسبوق له أن يتم الجمعة لأنه صلى مع الإمام ركعة هذا نصه بحروفه فإن صحت هذه المسألة اتجه ما قيل في المفارقة ، إلا أني لم أر من ذكر هذه المسألة التي ذكرها البغوي ولم أر أحداً صرح بموافقته فيها ولا بمخالفته ، وقد ذكر هو ما يشعر بأنه قالها تخريجاً من عنده ولم ينقلها نقل المذهب ولم يتعرض لها أحد من المتأخرين لا الرافعي في شرحيه ولا النووي في شرح المهذب على تتبعه ولا ابن الرفعة في الكفاية مع حرصه على تتبع ما زاد على الشيخين ولا السبكي ، ولا أحد ممن تتكلم على الروضة كصاحب المهمات والخادم ، وهي محل نظر وهي التي أوجبت لي التوقف في مسألة المفارقة ، والتحقيق أن الركعة اسم لجميع أركان الواحدة من إعداد الصلاة من القيام إلى مثله أو إلى التحلل ، وإخراج التشهد والسلام عن مسمى الركعة بعيد جداً ، والاحوط عدم تجويز المفارقة قبل السلام ليتحقق مسمى الركعة المعتبرة في إدراك الجمعة والله أعلم .(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
7 ضوء الشمعة في عدد الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : اختلف علماء الإسلام في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أربعة عشر قولاً بعد إجماعهم على أنه لا بد من عدد ، وإن نقل ابن حزم عن بعض العلماء أنها تصح بواحد ، وحكاه الدارمي عن القاشاني فقد قال في شرح المهذب : أن القاشاني لا يعتد به في الإجماع ، أحدها : أنها تنعقد باثنين أحدهما الإمام كالجماعة وهو قول النخعي ، والحسن بن صالح ، وداود الثاني : ثلاثة أحدهم الإمام قال في شرح المهذب حكى عن الأوزاعي ، وأبي ثور ، وقال غيره : هو مذهب أبي يوسف ، ومحمد حكاه الرافعي وغيره عن القديم . الثالث : أربعة أحدهم الإمام ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي ، وأبي ثور واختاره وحكاه في شرح المهذب عن محمد ، وحكاه صاحب التلخيص قولاً للشافعي في القديم ، وكذا حكاه في شرح المهذب واختاره المزني كما حكاه عنه الأذرعي في القوت وهو اختياري . الرابع : سبعة حكى عن عكرمة . الخامس : تسعة حكى عن ربيعة . السادس : إثنا عشر في رواية عن ربيعة حكاه عنه المتولي في التتمة ، والماوردي في الحاوي ، وحكاه الماوردي أيضاً عن الزهري ، والأوزاعي ، ومحمد بن الحسن . السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكى عن إسحاق بن راهويه . الثامن : عشرون رواية ابن حبيب عن مالك . التاسع : ثلاثون في رواية عن مالك . العاشر : أربعون أحدهم الإمام ، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحق حكاه عنهم في شرح المهذب ، الحادي عشر : أربعون غير الإمام في أحد القولين للشافعي . الثاني عشر : خمسون وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما . الثالث عشر : ثمانون حكاه المازري . الرابع عشر : جمع كثير بغير قيد وهذا مذهب مالك فالمشهور من مذهبه أنه لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم . قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل ، وأقول هو كذلك لأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص وأنا أبين ذلك ، وأما اشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة فلا مستند له البته ، وأما الذي قال باثنين فإنه رأى العدد واجباً بالحديث والإجماع ، ورأى أنه لم يثبت دليل في اشتراط عدد مخصوص ، ورأى أن أقل العدد اثنان فقال به قياساً على الجماعة ، وهذا في الواقع دليل قوي لا ينقضه إلا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا أو بذكر عدد معين وهذا شيء لا سبيل إلى(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
وجوده ، وأما الذي قال بثلاثة فإنه رأى العدد واجباً في حضور الخطبة كالصلاة فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة فإنه لا يحسن عد الإمام منهم وهو الذي يخطب ويعظ ، وأما الذي قال بأربعة فمستنده ما أخرجه الدارقطنى في سننه قال : حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا محمد بن يحي ثنا محمد بن وهب بن عطية ثنا بقية بن الوليد ثنا معاوية بن يحي ثنا معاوية بن سعيد التجيبي ثنا الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة ) قال الدارقطني : لا يصح هذا عن الزهري ، وقد أخرجه البيهقي في سننه من هذا الطريق وله طريق ثان قال الدارقطنى : حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن إسماعيل الأيلي ثنا عبيد الله بن محمد بن خنيس الكلاعي ثنا موسى بن محمد بن عطاء ثنا الوليد بن محمد هو الموقري ثنا الزهري حدثني أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة ) قال الدارقطني : الموقري متروك ولا يصح هذا عن الزهري كل من رواه عنه متروك ، طريق ثالث قال الدارقطني : حدثنا أبو عبد الله الأيلي ثنا يحي بن عثمان ثنا عمرو بن الربيع بن طارق ثنا مسلمة بن علي عن محمد بن مطرف عن الحكم بن عبد الله بن سعد عن الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( الجمعة واجبة على أهل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) قال الدارقطني : الزهري لا يصح سماعه من الدوسية والحكم متروك ، طريق آخر : قال ابن عدي في الكامل : أخبرنا ابن مسلم ثنا محمد بن مصفي ثنا بقية ثنا معاوية بن يحي ثنا معاوية بن سعيد التجيبي عن الحكم بن عبد الله عن الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة ) حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة أخرجه البيهقي من هذا الطريق وقال : الحكم بن عبد الله متروك . ومعاوية بن يحي ضعيف ولا يصح هذا عن الزهري ، قلت : قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوع قوة للحديث فإن الطرق يشد بعضها بعضاً خصوصاً إذا لم يكن في السند متهم ، ويزيدها قوة ما أخرجه الدارقطني قال : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني ثنا إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس ثنا أسحاق بن منصور ثنا هريم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( الجمعة واجبة في جماعة إلا على أربعة : عبد مملوك أو صبي أو مريض أو امرأة ) وجه الدلالة منه أنه أطلق الجماعة فشمل كل ما يسمى جماعة وذلك صادق بثلاثة غير الإمام ، وأما الذي قال باثني عشر فمستنده ما أخرجه البخاري ، ومسلم عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً ) وجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام ، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، قلت : هو دال على صحتها باثني عشر بلا شبهة ، وأما اشتراط اثني عشر أنها(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
لا تصح بدون هذا العدد فليس فيه دلالة على ذلك ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلاً وتمت بهم الجمعة وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، فإن قلت : فكيف أخذت من الأحاديث السابقة اشتراط أربعة ؟ قلت : لأن قوله وإن لم يكونوا إلا أربعة بيان لأقل عدد تجزىء به الجمعة لأن ذلك شأن ( أن ) و ( لو ) الوصليتين كما تقرر في العربية أنهما يذكر بعدهما منتهى الأحوال ، وأندرها تقول : أحسن إلى زيد وإن أساء ، وأعط السائل ولو جاء على فرس ، فهاتان الحالتان منتهى غاية المحسن إليه والمعطى ، ومنه قوله تعالى : ) كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ( فليس بعد مرتبة النفس والوالدية والأقربية مرتبة تذكر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلّم : ( وإن لم يكونوا إلا أربعة ) بيان لمنتهى مراتب العدد المجزىء ولو كان أقل منه مجزئاً لذكره ، ويرشد إلى ذلك التعبير بالغاية في قوله في الحديث الآخر حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة ، فإن هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم تنزل إلى مراتب الأعداد حتى انتهت غايته إلى ذكر الثلاثة ، فإن قلت فعلى هذا يشترط ثلاثة لا أربعة . قلت : المراد ثلاثة غير الإمام لقوله في الحديث الآخر : ( وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) فإن قلت مسلم دلالة الحديث على ما ذكرت غير أنه لم يثبت ثبوت الأحاديث المحتج بها فإنه ضعيف من جميع طرقه وإنما يحتج بما بلغ مرتبة الصحة أو الحسن قلت : كذلك قولهم بالأربعين حديثه ضعيف ليس له طريق صحيح ولا حسن ، قال النووي في شرح المهذب : احتج أصحابنا لاشتراط الأربعين بما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر قال : مضت السنة أن في كل ثلاثة إماماً ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وفطر وأضحى وذلك أنهم جماعة ، قال : لكنه حديث ضعيف ضعفه الحفاظ ، وقال البيهقي : هو حديث لا يصح الاحتجاج به ، قال النووي : واحتجوا أيضاً بأحاديث بمعناه لكنها ضعيفة قال : وأقرب ما يحتج به ما احتج به البيهقي والأصحاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : ( أول من جمع بنا في المدينة سعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة في نقيع الخضمات ، قلت : كم كنتم ؟ قال : ( أربعين رجلاً ) حديث حسن رواه أبو داود ، والبيهقي ، وغيرهما بأسانيد صحيحة . قال البيهقي ؟ وغيره : وهو حديث صحيح . قال أصحابنا : وجه الدلالة أن يقال أجمعت الأمة على اشتراط العدد والأصل الظهر فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين انتهى ، وأقول : لا دلالة في حديث كعب على اشتراط الأربعين لأن هذه واقعة عين ، وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو بمكة الهجرة فلم يتمكن من إقامتها هناك من أجل الكفار ، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا واتفق أن عدتهم إذ ذاك كانت أربعين ، وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة ، وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم ، وقولهم لم يثبت أنه صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
حديث الانفضاض السابق فإنه أتمها باثني عشر فدل ذلك على أن تعيين الأربعين لا يشترط ، وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم اثنا عشر رجلاً ، قال الحافظ ابن حجر : ويجمع بينه وبين حديث كعب بأن سعداً كان أميراً وكان مصعب إماماً ، وأغرب من ذلك قول البيهقي باب ما يستدل به على أن عدد الأربعين له تأثير فيما يقصد منه الجماعة ثم أورد فيه حديث ابن مسعود قال : جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلاً فقال : ( إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم فمن أدرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل الرحم ) فاستدلاله بهذا في غاية العجب ، لأن هذه واقعة قصد فيها النبي صلى الله عليه وسلّم أن يجمع اصحابه ليبشرهم ، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد فهل يظن أنه لو حضر أقل منهم لم يفعل ما دعاهم لأجله ؟ وإيراد البيهقي لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحاً ، وقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعاً : ( إذا راح منا سبعون رجلاً إلى الجمعة كانوا كسبعين موسى الذين وفدوا إلى ربهم أو أفضل ) ولم يستدل أحد بهذا الحديث على اشتراط سبعين في الجمعة مع أنه أوجه من كثير مما استدلوا به على غيره من العدد ، وقال الغزالي في البسيط في الاستدلال على اعتبار الأربعين : مستند الشافعي في هذا العدد أن الأصل في الظهر الإتمام إلا بشرائط والعدد بالإجماع شرط وللشرع اعتناء بكثرة الجمع ، ولذلك لا تنعقد جمعتان في بلدة ولا بد من مستند التقدير ، وأقل ما يحصل به الاقتداء غير كاف فيكفي أدنى مستند . وقد روى عن جابر بن عبد الله أنه قال : مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة ، واستأنس الشافعي بمذهب عمر بن عبد العزيز وانضم إليه أنه لم يعتبر أحد زيادة على أربعين فكان هذا الاتقاء بالاحتياط هذا كلام الغزالي ، وفي النهاية لإمام الحرمين نحوه ، فانظر إلى هذا المستند المركب من ثلاثة أمور : الأول حديث ضعيف لا تقوم به الحجة مع أنه معارض بحديث آخر ومع كون هذا الحديث غير مصرح برفعه والحديث المعارض له مصرح برفعه ، وإذا قايست بين الحديثين من جهة الإسناد كان إسناد الحديث المعارض أمثل من إسناد هذا الحديث ، والأمر الثاني مذهب تابعي والشافعي رضي الله عنه لايحتج بمذهب الصحابي فضلاً عن التابعي ، ثم هو معارض مما حكى عن غيره من التابعين . والثالث الأمر المنضم إليه ولا حجة فيه مع بطلانه في نفسه ، فإنه قد ثبت اعتبار الزيادة على الأربعين عن عمر بن عبد العزيز كما تقدم والروايتان عنه في سنن البيهقي ، فأخرج عن سليمان بن موسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل المياه فيما بين الشام إلى مكة جمعوا إذا بلغتم أربعين ، وأخرج عن أبي المليح الرقي قال : اتانا كتاب عمر بن عبد العزيز : إذا بلغ أهل القرية أربعين رجلاً فليجمعوا ، وأخرج عن معاوية بن صالح قال : كتب عمر بن عبد العزيز قال : أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلاً فليؤمهم رجل منهم وليخطب عليهم ليصل بهم الجمعة ، ويوافق اشتراط(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
الخمسين ما أخرجه الطبراني في الكبير ، والدارقطني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : الجمعة على الخمسين رجلاً وليس على ما دون الخمسين جمعة ) ولفظ الدارقطني على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك لكنه ضعيف ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة فلا يلزم من عدم وجوبها على من دون الخمسين عدم صحتها منهم ، وعندي أن الروايتين الواردتين عن عمر بن عبد العزيز ليستا باختلاف قولين له بل المراد منهما . ومن حديث أبي أمامة المذكور . ومن حديث جابر الذي احتجوا به للأربعين ، ومن الأثر الذي أخرجه البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة بيان شرط المكان الذي تصح فيه الجمعة لا العدد الذي تنعقد به ، فإن الجمعة لا تصح في كل مكان بل في مكان مخصوص إما مصر قال علي رضي الله عنه : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ، وإما بلد أو قرية ولا تصح في فضاء ولا صحراء ، فأريد بالأحاديث والآثار المذكورة بيان المكان الذي يصلح أن يسمى بلداً أو قرية حتى تصح إقامة الجمعة فيه مع قطع النظر عن عدد من يصلح ، ولا يصلح أن يسمى بلداً أو قرية إلا ما كان فيها من الرجال قاطناً جمع الأربعين والخمسين وما شاكل ذلك ، فذكر عمر في أحد كتبه الأربعين وفي بعضها الخمسين كل منهما على وجه المثال لا التحديد بالعدد المخصوص ، ويفيد هذا أنه إذا قطن في مكان نحو هذا العدد صح أن تقام به الجمعة ، ثم أن أقامها أقل من هذا العدد وهم بعض من فيها صحت منهم ، ويؤيد هذا التأويل الذي ظهر لي وأنه هو المراد ما أخرجه البيهقي عن جعفر بن برقان قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي الكندي إنظر كل قرية أهل قرار ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميراً ثم مره فليجمع بهم ، وأخرج عن الوليد بن مسلم قال : سألت الليث بن سعد فقال كل مدينة أو قرية في جماعة وعليهم أمير أمروا بالجمعة فليجمع بهم فإن أهل الإسكندرية ، ومدائن مصر ، ومدائن سواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان بأمر هما وفيهما رجال من الصحابة . وأخرج عن عبد الله بن عمر الذي سئل عن القرى التي بين مكة . والمدينة ما ترى في الجمعة فيها ؟ قال : نعم إذا كان عليهم أمير فليجمع ، ومما يؤيد أيضاً أنها ذكرت لبيان المكان الصالح لا العدد الحاضر أن في حديث جابر الذي استدلوا به للأربعين عطفاً على جمعة وفطر وأضحى فلو كان الحديث لبيان اشتراط الأربعين في الجمعة وأنها لا تصح ممن دونهم للزم مثل ذلك أيضاً في الفطر والأضحى ، فكان يشترط في صحتهما حضور الأربعين ولا يصحان ممن دونهم وليس كذلك ، فعلم أن المراد بيان المكان الذي يصلح لمشروعية إقامة الجمعة والأعياد فيه بحيث يؤمر أهله بذلك وبالاجتماع له ، ثم أي جمع أقام الجمعة صح ذلك منهم ، وأي جمع أقام الأعياد صح ذلك منهم ، ومما يؤيد ذلك أيضاً التعبير ( بفي ) حيث قيل في كل أربعين جمعة دون ( من ) وسائر حروف الجر فدل على أن المراد بالعدد إيقاعها فيهم لا منهم ولا بد وذلك صادق بأي جمع أقاموها في بلد استوطنه أربعون وهذا استنباط حسن دقيق .(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
والحاصل أن الأحاديث والآثار دلت على اشتراط إقامتها في بلد يسكنه عدد كثير بحيث يصلح أن يسمى بلداً ، ولم تدل على اشتراط ذلك العدد بعينه في حضورها لتنعقد بل أي جمع أقاموها صحت بهم وأقل الجمع ثلاثة غير الإمام فتنعقد بأربعة أحدهم الإمام ، هذا ما أداني الاجتهاد إلى ترجيحه ، وقد رجح هذا القول المزني كما نقله عنه الأذرعي في القوت ، وكفى به سلفاً في ترجيحه فإنه من كبار الآخذين عن الإمام الشافعي ومن كبار رواة كتبه الجديدة ، وقد أداه اجتهاده إلى ترجيح القول القديم ، ورجحه أيضاً من أصحابنا أبو بكر بن المنذر في الأشراف ونقله عنه النووي في شرح المهذب ، قال الماوردي في الحاوي قال المزني : احتج الشافعي بما لا يثبته أصحاب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة جمع بأربعين انتهى ، وهذا هو الذي استدل إنه لا دلالة فيه ، ثم قال الماوردي : وقد قدح في حديث كعب بأنه مضطرب لا يصح الاحتجاج به لأنه يروي تارة أن مصعباً صلى بالناس ويروى تارة أخرى أن سعد بن زرارة صلى بهم ، وروى تارة بالمدينة وتارة ببني بياضة ، فلأجل اضطرابه وإختلاف روايته لا يصح الاحتجاج به قلت : ومن اضطرابه أنه روى أنهم كانوا أربعين ، وروى أنهم كانوا اثني عشر كما تقدم ، ثم قال الماوردي : ومن الدليل ما روى سليمان بن طريف عن مكحول عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : إذا اجتمع أربعون رجلاً فعليهم الجمعة ، وهذا الحديث أورده صاحب التتمة ثم الرافعي ، وقال الحافظ ابن حجر في تخريجه : لا أصل له ، وأورد الرافعي وغيره حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لا جمعة إلا بأربعين ) قال الحافظ ابن حجر أيضاً ولا أصل له ، وقال ابن الرفعة في الكفاية : إن انتفت الأدلة المنصوصة على اعتبار الأربعين قلنا الأصل الظهر عاماً ، وإنما يرد إلى ركعتين بشرائط منها العدد وأصله مشروط بالإجماع ، ولم ينقل عن الشارع لفظ صريح في التقدير ، وفهم منه طلب تكثير الجماعة لأنه لم يشرع جمعتين في بلد فأكثر كما في غيرها من الصلوات ، وأكثر ما قيل فيه أربعون فأخذنا به احتياطاً ثم قال : وقد اعترض بعضهم على هذا بأن الإمام أحمد اشترط في عقدها خمسين في أحد قوليه .
قلت : وحاصل ما ذكره ابن الرفعة أنه لم يوجد دليل من النص على اعتبار الأربعين فعدل إلى هذه الطريقة من الاستدلال ، وهذا هو الذي عول عليه الماوردي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، وغيرهم وتبعهم الرافعي ، والنووي .
خاتمة : أعلم أن ترجيحاً لهذا القول أولى من ترجيح المتأخرين جواز تعدد الجمعة ، فإنه ليس للشافعي نص بجواز التعدد أصلاً لا في الجديد ولا في القديم ، وإنما وقع منه في القديم سكوت فاستنبطوا منه رأياً بالجواز ثم زادوا فرجحوه على نصوصه في الكتب الجديدة وهو نفسه قد قال : لا ينسب لساكت قول فكيف ينسب إليه قول من سكوته ويرجح على نصوصه المصرحة بخلافه ، وأما الذي نحن فيه فإنه نص له صريح وقد اقتضت الأدلة ترجيحه فرجحناه فهو في الجملة قول له قام الدليل على ترجيحه على قوله الثاني فهو أولى(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
ممن ترك نصه بالكلية ، وذهب إلى ترجيح شيء خلافه لم ينص عليه البتة ، ثم يصير لهذه المسألة أسوة بالمسائل التي صحح فيها النووي القول القديم كمسألة امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق . ومسألة تفصيل غسل الجمعة على غسل الميت . ومسألة صوم الولي عن قريبة الميت واشباه ذلك .
باب اللباس
مسألة : شخص من أبناء العرب يلبس الفروج ، والزنط الأحمر ، وعمامة العرب اشتغل بالعلم وفضل وخالط الفقهاء فأمره آمر أن يلبس لباس الفقهاء لأن في ذلك خرماً لمروءته فهل الأولى له ذلك أو الاستمرار على هيئة عشيرته ؟ وما جنس ما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يلبس تحت عمامته وما مقدار عمامته وهل لبس أحد من الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلّم الزنط والفروج ؟ .
الجواب : لا إنكار عليه في لباسه ذلك ولا خرم لمروءته لأن ذلك لباس عشيرته وطائفته ، ولو غيره أيضاً إلى لباس الفقهاء لم يخرم مروءته فكل حسن ذاك لمناسبته أهل جنسه وهذا لمناسبة أهل وصفه ، وقد ذكر البارزي في توثيق عرى الإيمان له أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يلبس القلانس تحت العمائم ، ويلبس القلانس بغير عمائم ، ويلبس العمائم بغير قلانس ، ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحروب ، وكثيراً ما كان يعتم بالعمائم الحرقانية السود في أسفاره ويعتجر اعتجاراً قال : والاعتجار أن يضع تحت العمامة على الرأس شيئاً قال : وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وجبهته ، وكانت له عمامة يعتم بها يقال لها السحاب فكساها علي ابن أبي طالب فكان ربما طلع علي فيقول صلى الله عليه وسلّم ( أتاكم علي في السحاب ) يعني عمامته التي وهب له هذا ما ذكره البارزي . وروى البيهقي في شعب الأيمان عن ركانة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول ( فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ) قال القزاز : القلنسوة غشاء مبطن يستر به الرأس ، وروى البيهقي أيضاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يلبس قلنسوة بيضاء . دل مجموع ماذكر على أن الذي كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلّم والصحابة تحت العمامة هو القلنسوة ، ودل قوله بيضاء على أنه لم يكن من الزنوط الحمر ، وأشبه شيء أنها من جنس الثياب القطن أو الصوف الذي هو من جنس الجباب والكساء لا الذي من جنس الزنوط ، ويوضح ذلك ما رويناه في سداسيات الرازي من طريق رستم أبي يزيد الطحان قال : رأيت أنس بن مالك بالبصرة وعليه قلنسوة بيضاء مضرية ، وفي السداسيات أيضاً من طريق أم نهار قالت : كان أنس بن مالك يمر بنا كل جمعة وعليه قلنسوة لاطئة ومعنى لاطئة أي لاصقة بالرأس إشارة إلى قصرها ، وإنما حدثت القلانس الطوال في أيام الخليفة المنصور في سنة ثلاث وخمسين ومائة أو نحوها ، وفي ذلك يقول الشاعر :(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
وكنا نرجى من إمام زيادة
فزاد الإمام المصطفى في القلانس
وأما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت في حديث ، وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد السلام قال : ( سألت ابن عمر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتم ؟ قال : كان يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه ، وهذا يدل على أنها عدة أذرع ، والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير ، وأما الفروج فقد صح أنه صلى الله عليه وسلّم لبسه رواه البخاري عن عقبة بن عامر قال : ( أهدي للنبي صلى الله عليه وسلّم فروج حرير فلبسه فصلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له وقال : ( لا ينبغي هذا للمتقين ) ، قال العلماء : الفروج هو القباء المفرج من خلف ، وهذا الحديث أصل في لبس الخلفاء له وإنما نزعه صلى الله عليه وسلّم لكونه كان حريراً وكان لبسه له قبل تحريم الحرير فنزعه لما حرم ، وفي صحيح مسلم أنه قال حين نزعه : ( أنهاني عنه جبريل ) .
مسألة : رجل ليس له إلا ثوب فغسله ولبس ثوباً قصير الكم وخرج به بين الناس فهل في ذلك من عيب أو يقدح في الدين ؟ وإذا أنكر عليه أحد فهل هو مصيب في إنكاره أو مخطىء ؟ .
الجواب : ليس في هذه اللبسة من عيب لا تقدح في الدين بل التقشف في الملبس سنة حض عليها سيد المرسلين وهو شعار السلف الصالحين ، ونص أصحابنا على أنه يستحب تقصير الكم ، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان كمه إلى الرسغ وأنه لبس جبة ضيقة الكمين ، وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام تطويل الأكمام بدعة مخالف للسنة وإسراف ، وروى الترمذي حديث : ( من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاء الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الجنة شاء يلبسها ) وروى ابن ماجه عن عبادة بن الصامت قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم وعليه جبة رومية من صوف ضيقة الكمين فصلى بنا فيها ليس عليه شيء غيرها ) وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس قميصاً قصير اليدين والطول ) وروينا من حديث أبي هريرة : ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب : رجل غسل ثوبه فلم يجد له خلفاً ) الحديث ، والأحاديث في هذا والوعيد لمن لبس ثياباً وافتخر بها كثيرة ، والعجب ممن ينكر مثل هذا وهو سنة ولا ينكر على من يلبس الحرير الذي هو حرام بل يخضعون لمثله ويعظمونه ، ولكن من أشراط الساعة أن تنكر السنة وتقر البدعة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
مسألة : خضب الرجل لحيته ويديه ورجليه بالحناء هل يجوز له من غير ضرورة أم لا ؟ وهل المرأة والرجل في ذلك سواء أم لا ؟ وهل ورد في ذلك شيء من السنة الشريفة ؟
الجواب : خضاب الشعر من الرأس واللحية بالحناء جائز للرجل بل سنة صرح به النووي في شرح المهذب نقلاً عن اتفاق أصحابنا لما ورد فيه الأحاديث الصحيحة ، منها حديث الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) وروى مسلم عن جابر قال : ( أتى بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق يوم فتح(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( غيروا هذا واجتنبوا السواد ) وأما خضاب اليدين والرجلين بالحناء فيستحب للمرأة المتزوجة وحرام على الرجال إلا لحاجة هكذا قاله أيضاً في شرح المهذب ، قال : ومن الدليل على تحريمه للرجال ما رواه أبو داود عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال : ما بال هذا ؟ فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى البقيع ) ومنها حديث الصحيحين عن أنس ( أنه صلى الله عليه وسلّم نهى أن يتزعفر الرجال ) قال النووي : علة النهي اللون لا الرائحة ، فإن ريح الطيب للرجل محبوب والحناء في هذا كالزعفران ، والأحاديث في استحبابه للنساء المتزوجات كثيرة مشهورة .
الجواب الحاتم عن سؤال الخاتم
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : التختم بالفضة هل له وزن معلوم لا تجوز الزيادة عليه ؟ وهل يجوز التختم بسائر المعادن كالنحاس والحديد ؟ هل يجوز تعدد الخواتم من الفضة ؟ هل تختم النبي صلى الله عليه وسلّم بالفضة أو بغيرها ؟ وهل تباح الفصوص في الخواتم للرجال ؟ وهل كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلّم بفص وما كان فصه ؟ وهل تختم في اليمين أو الشمال ؟ وهل كان فصه مما يلي ظاهر الكف أو باطنه ؟ وهل الحديث الذي ورد ( أن رجلاً دخل عليه صلى الله عليه وسلّم وفي يده خاتم نحاس فقال : ( ما لي أرى عليك رائحة أهل النار ) ؟ صحيح ومن رواه ؟ وهل يأخذ منه التحريم أو الكراهة ؟
الجواب : أما الوزن فلم يتعرض له أصحابنا في كتب الفقه ولكن ورد في الحديث : ( ولا تتمه مثقالاً ) قال الزركشي في الخادم لم يتعرض أصحابنا لقدر الخاتم ولعلهم اكتفوا بالعرف فما خرج عنه إسراف ، وأما التختم بسائر المعادن ما عدا الدهب فغير حرام بلا خلاف لكن هل يكره وجهان ؟ أحدهما نعم لحديث بريدة : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه خاتم من شبه فقال : ما لي أجد منك ريح الأصنام ؟ فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النار ؟ فطرحه فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أي شيء أتخذه ؟ قال : ( اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً ) أخرجه أبو داود ، والترمذي وفي سنده رجل متكلم فيه فضعفه النووي في شرح المهذب لأجله ، ولكن ابن حبان صححه فأخرجه في صحيحه ، وهذا هو الحديث المسؤول عنه في السؤال .
والوجه الثاني : أنه لا يكره ورجحه النووي في الروضة وشرح المهذب قال : لضعف(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
الحديث الأول ، ولما أخرجه أبو داود بإسناد جيد عن معيقيب الصحابي قال : ( كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلّم من حديد ملوي عليه فضة ) وأما التعدد فصرح به الدارمي من أصحابنا فقال : يكره للرجل أن يلبس فوق خاتمين فضة ، فمقتضاه جواز الخاتمين بلا كراهة ، وارتضاه الأسنوي وقيده الخوارزمي في الكافي بأن لا يجمع بينهما في أصبع ، وأما هل تختم النبي صلى الله عليه وسلّم بالفضة أو بغيرها ؟ فسيأتي حديث أنه كان خاتمه من ورق ، وتقدم حديث معيقيب أنه كان خاتمه من حديد ، وأما تختمه بالذهب فقد كان قبل ذلك ثم نهى عنه وطرحه كما في الصحيح ، وأما الفص فمباح للرجال وغيرهم قال النووي في شرح المهذب : يجوز الخاتم بفص وبلا فص ويجعل الفص من باطن كفه أو ظاهرها وباطنها أفضل للأحاديث الصحيحة فيه انتهى ، وأما نص خاتم النبي صلى الله عليه وسلّم ففي صحيح البخاري أن فصه كان منه ، وفي صحيح مسلم عن أنس قال : كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلّم من ورق وكان فصه حبشياً فجمع بين الحديثين بالحمل على التعدد ، وذكر في شرح قوله وكان فصه حبشياً أنه حجر من بلاد الحبشة ، وقيل جزع أو عقيق لأن ذلك قد يؤتي به من بلاد الحبشة ، ورأيت في المفردات في الطب لابن البيطار أنه صنف من الزبرجد ، وأما هل تختم صلى الله عليه وسلّم في اليمين أو اليسار ؟ فقد تختم في كل منهما صح كل ذلك من فعله ، قال النووي في شرح المهذب : التختم في اليمين أو اليسار كلاهما صح فعله عن النبي صلى الله عليه وسلّم لكنه في اليمين أفضل لأنه زينة واليمين بها أولى ، وقال الحافظ ابن حجر : ورد تختمه صلى الله عليه وسلّم في اليمين من حديث ابن عمر عند البخاري ، وأنس عند مسلم ، وابن عباس ، وعبد الله بن جعفر عند الترمذي ، وجابر عنده في الشمائل ، وعلي عند أبي داود ، والنسائي ، وعائشة عند البزار ، وأبي أمامة عند الطبراني ، وأبي هريرة عند الدارقطنى في غرائب مالك فهؤلاء تسعة من الصحابة ، وورد تختمه باليسار من حديث أنس عند مسلم ، وابن عمر عند أبي داود ، وأبي سعيد عند ابن سعد ، ووردت رواية ضعيفة أنه تختم أولاً في اليمين ثم حوله إلى اليسار أخرجها ابن عدي من حديث ابن عمر واعتمد عليها البغوي في شرح السنة فجمع بين الأحاديث المختلفة بأنه تختم أولاً في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين ، وقال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال : لا يثبت هذا ولكن في يمينه أكثر ، وأما هل كان فصه مما يلي باطن الكف أو ظاهره ؟ فقد ورد أيضاً كلاهما من فعله صلى الله عليه وسلّم ولكن أحاديث الباطن أصح وأكثر فلذلك كان أفضل والله أعلم .
ثلج الفؤاد في أحاديث لبس السواد
بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج الإمام أحمد في مسنده ثنا عفان ح ، وقال ابن أبي شيبة في مصنفه ثنا وكيع ح ، وقال ابن سعد في الطبقات أنا وكيع بن الجراح ، وعفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
أبي الزبير عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ) أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأخرج ابن أبي شيبة ثنا عبيد الله أنا موسى ابن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل مكة يوم الفتح وعليه شقة سوداء وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل في مسنده جميعاً أنا وكيع بن الجراح عن مساور الوراق عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب الناس وعليه عمامة سوداء ) أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وابن ماجه ، وقال ابن سعد ، وابن أبي شيبة أنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي الفضل عن الحسن قال : ( كانت عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم سوداء ) وقال ابن سعد : أنا عتاب بن زياد أنا عبد الله بن المبارك أنا سفيان عمن سمع الحسن يقول : ( كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلّم سوداء تسمى العقاب وعمامته سوداء ) وقال أبو بكر بن أبي داود ثنا إسحاق بن الأخيل ثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي ثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن الزهري عن أنس قال : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ) وقال ابن عدي : أنا القاسم بن عبد الله بن مهدي ثنا يعقوب بن كاسب ثنا حاتم بن إسماعيل عن محمد بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر قال : ( كان للنبي صلى الله عليه وسلّم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه ) قال ابن عدي : لا أعلم يرويه عن أبي الزبير [ عن جابر ] غير العرزمي وعنه حاتم . وقال ابن عدي : ثنا أبو الفضل جعفر بن أحمد ثنا محمد بن الصباح الجرجرائي ثنا محمد بن صدران أبو جعفر ثنا عنبسة بن سالم ثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلّم يعتم بعمامة سوداء ) وقال الطبراني : ثنا أحمد بن زهير التستري ثنا الحسن بن خلف الواسطي ثنا عبيد الله بن تمام ثنا خالد الحذاء عن غنيم بن قيس عن أبي موسى أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه . وقال الطبراني : ثنا بكر بن سهل ثنا عبد الله بن يوسف ثنا يحيى بن حمزة ثنا أبو عبيدة الحمصي عن عبد الله بن بسر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه أو قالعلى كتفه اليسرى ، وقال ابن سعد أنا الفضل بن دكين ثنا شريك عن جابر عن مولى لجعفي يقال له هرمز قال : رأيت علياً عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه . وقال ابن أبي شيبة : ثنا وكيع ثنا الحسن ابن صالح عن جابر به ، وقال ابن سعد ، وابن أبي شيبة أنا وكيع بن الجراح عن أبي العنبس عمرو بن ميمون عن أبيه قال : رأيت على علي بن أبي طالب عمامة سوداء قد أرخاهامن خلفه . وقال ابن سعد ، وابن أبي شيبة أنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن أبي جعفر الأنصاري قال : رأيت على علي عمامة سوداء يوم قتل عثمان أخرجه(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
البيهقي في سننه . وقال ابن سعد : أنا الفضل بن دكين ، وهشام أبو الوليد الطيالسي قالا : ثنا شريك عن عاصم عن أبي رزين قال : خطبنا الحسن بن علي رضي الله عنهما وعليه ثياب سود وعمامة سوداء ، وقال ابن أبي شيبة : ثنا شاذان ثنا شريك به ، وقال ابن سعد : أنا سعيد بن محمد الثقفي عن رشدين قال : رأيت عبد الله بن الزبير يعتم بعمامة سوداء حرقانية ويرخيها شبراً أو أقل من شبر ، وقال ابن أبي شيبة : ثنا وكيع ثنا عاصم بن محمد عن أبيه قال : رأيت عبد الله بن الزبير اعتم بعمامة سوداء قد ارخاها من خلفه نحواً من ذراع . وقال ابن سعد : أنا الفضل بن دكين أنا قيس بن الربيع عن يونس بن عبد الله الجرمي عن أشياخ منهم قال : أتى أبو موسى الأشعري معاوية وهو بالنخيلة وعليه عمامة سوداء وجبة سوداء ومعه عصا سوداء . وقال ابن سعد ، وابن أبي شيبة : أنا وكيع ابن الجراح عن سلمة بن وردان قال : رأيت على أنس بن مالك عمامة سوداء على غير قلنسوة قد أرخاها من خلفه . وقال ابن سعد : قال عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال : رأيت على عبد الله بن الحارث بن جزء عمامة حرقانية قال : فسألنا ابن لهيعة عن الحرقانية فقال السوداء ، وقال ابن أبي شيبة ، وقال ابن أبي شيبة : ثنا غندر عن شعبة عن سماك عن ملحان بن ثروان قال : رأيت على عمار عمامة سوداء ، وقال البيهقي في سننه : أنا أبو الحسين الروذباري ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه ثنا جعفر بن محمد القلانسي ثنا آدم بن أبي إياس ثنا شعبة ثنا سماك بن حرب سمعت ملحان بن ثوبان يقول : كان عمار بن ياسر علينا بالكوفة وكان يخطبنا كل جمعة وعليه عمامة سوداء . وقال البيهقي : أنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن مكرم ثنا عثمان بن عمر ثنا أبو لؤلؤة قال : رأيت على ابن عمر عمامة سوداء وقال ابن أبي شيبة : ثنا البكراوي عن أبي عيسى عن أبيه زياد عن شيخ يقال له سالم قال : رأيت على أبي الدرداء عمامه يوداء ؛ وقال : ثنا إسحاق بن منصور ثنا شريك ثنا حرب الخثعمي قال : رأيت على البراء عمامة سوداء ، وقال : ثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن شريك بن مخارق عن عطاء قال : رأيت على عبد الرحمن بن عوف عمامة سوداء ، وقال : ثنا معن عن حسين بن يونس قال : رأيت على واثلة عمامة سوداء ، وقال ابن سعد : أنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا عثيم بن نسطاس قال : رأيت سعيد بن المسيب يلبس في الفطر والأضحى عمامة سوداء ويلبس عليها برنساً وقال ابن سعد : أنا الفضل بن دكين ثنا بدر بن عثمان قال : رأيت على الحسن البصري عمامة سوداء ، وقال ابن أبي شيبة : ثنا وكيع ثنا عثمان بن أبي هند قال : رأيت على أبي عبيد عمامة سوداء ، وقال ابن أبي شيبة في المصنف : ثنا شبابة عن سليمان قال : رأيت الحسن يعتم بعمامة سوداء قد أرخى طرفها خلفه . وقال ابن إبي شيبة : حدثنا شبابة عن سليمان بن المغيرة قال : رأيت أبا نضرة يعتم بعمامة سوداء قد أرخاها تحت عنقه . وقال ابن أبي شيبة : ثنا وكيع ثنا مالك بن مغول عن أبي صخرة قال : رأيت على عبد الرحمن بن يزيد عمامة(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
سوداء . وقال ابن أبي شيبة : ثنا وكيع قال : رأيت على الأسود عمامة سوداء . وقال ابن أبي شيبة : ثنا جرير عن يعقوب ابن جعفر عن سعيد بن جبير قال : كانت عمامة جبريل يوم غرق فرعون سوداء .
فائدة : أخرج ابن عدي في الكامل ، وأبو نعيم ، والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة عن ابن عباس قال : ( مررت بالنبي صلى الله عليه وسلّم وإذا معه جبريل وأنا أظنه دحية الكلبى فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلّم : إنه لوضح الثياب وإن ولده يلبسون السواد ) والله أعلم .
باب العيد
وصول الأماني بأصول التهاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد ، فقد طال السؤال عن ما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد . والعام . والشهر . والولايات ونحو ذلك هل له أصل في السنة ؟ فجمعت هذا الجزء في ذلك وسميته وصول الأماني بأصول التهاني .
التهنئة بالفضائل العلية والمناقب الدينية
أخرج الشيخان عن أنس قال : ( أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : لقد نزلت على آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا : هنيئاً لك يا رسول الله ) الحديث ، وأخرج الحاكم في المستدرك عن أسامة قال : ( تبعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بيت حمزة فلم نجده فقالت له امرأته : جئت يا رسول الله وأنا أريد أن آتيك وأهنئك أخبرني أبو عمارة يعني حمزة أنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر ) . وأخرج أحمد عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه فقال عمر بن الخطاب هنيئاً لك يا علي أمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ) وأخرج أحمد ، وابن ماجه عن البراء بن عازب قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة فصلى الظهر وأخذ بيد علي فقال : ألم تعلموا أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى فأخذ بيد علي فقال : اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه . قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : ( هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ) وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جعفر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( يا عبد الله هنيئاً لك مريئاً خلقت من طينتي وأبوك يطير مع الملائكة في السماء ) وأخرج أحمد ، ومسلم عن(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
أبي بن كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم سأله أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال آية الكرسي قال : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) .
التهنئة بالتوبة
أخرج الشيخان عن كعب بن مالك في قصة توبته قال : ( وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بتوبتي ويقولون : ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني فكان كعب لا ينساها لطلحة ، قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) .
التهنئة بالعافية من المرض
أخرج الحاكم عن خوات بن جبير قال : ( مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلّم فلما برأت قال : ( صح جسمك يا خوات ) . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مسلم بن يسار قال : كانوا يقولون للرجل إذا برأ من مرضه : ليهنك الطهر .
التهنئة بتمام الحج
أخرج البزار عن عدوة بن مضرس قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم بمنى فقال : ( أفرخ روعك يا عروة ) قال في الصحاح : أفرخ الروع أي ذهب الفزع ، يقال ليفرخ روعك أي ليخرج عنك فزعك كما يخرج الفرخ عن البيضة . وأفرخ روعك يا فلان أي سكن جأشك ، قال الميداني : وهو في هذا متعد وفي الأول لازم ، وأخرج الشافعي في الأم عن محمد بن كعب القرظي قال : ( حج آدم عليه السلام فتلقته الملائكة ) فقالوا : برنسْكك يا آدم ) .
التهنئة بالقدوم من الحج
أخرج ابن السني ، والطبراني عن ابن عمر قال : ( جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : إني أحج فمشى معه النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا غلام زودك الله التقوى ووجهك الخير وكفاك الهم ) فلما رجع الغلام سلم على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ( يا غلام قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك ) وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر أنه كان يقول للحاج إذا قدم : تقبل الله نسكك وأعظم أجرك وأخلف نفقتك .
التهنئة بالقدوم من الغزو
أخرج الحاكم في المستدرك عن عروة قال : ( لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه من بدر استقبلهم المسلمون بالروحاء يهنئونهم ) مرسل صحيح الإسناد ، وأخرج ابن السني عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة فلما دخل استقبلته فأخذت بيده فقلت الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك ) وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن أبي سفيان أبي أحمد قال : ( لقي(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
أسيد بن الحضير رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أقبل من بدر فقال : الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك ) .
التهنئة بالنكاح
أخرج أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال : ( بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير ) وأخرج ابن ماجه ، وأبو يعلى عن عقيل بن أبي طالب : ( أنه تزوج فقيل له بالرفاء والبنين فقال : لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( على الخير والبركة بارك الله لك وبارك عليك ) وأخرج الطبراني عن هبار ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم شهد نكاح رجل فقال : ( على الخير والبركة والألفة والطائر الميمون والسعة في الرزق بارك الله لكم ) .
التهنئة بالمولود
أخرج ابن عساكر عن كلثوم بن جوشن قال : جاء رجل عند الحسن وقد ولد له مولود فقيل له يهنيك الفارس فقال الحسن : وما يدريك أفارس هو ؟ قالوا : كيف نقول يا أبا سعيد ؟ قال : تقول بورك لك في الموهوب وشكرت الواهب ورزقت بره وبلغ أشده . وأخرج الطبراني في الدعاء من طريق السري بن يحيى قال : ولد لرجل ولد فهنأه رجل فقال : ليهنك الفارس فقال الحسن البصري : وما يدريك ؟ قل جعله الله مباركاً عليك وعلى أمة محمد ، ومن طريق حماد بن زيد قال : كان أيوب إذا هنأ رجلاً بمولود قال : جعله الله مباركاً عليك وعلى أمة محمد .
التهنئة بدخول الحمام
قال الغزالي في الأحياء في أدب الحمام : لا بأس بقوله لغيره عافاك الله نقله في شرح المهذب ، وفي الفردوس من حديث ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر ، وعمر وقد خرجا من الحمام ( طاب حمامكما ) لكن بيض له ولده في مسنده فلم يذكر له إسناداً .
التهنئة بشهر رمضان
أخرج الأصبهاني في الترغيب عن سلمان الفارسي قال : ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في آخر يوم من شعبان فقال : ( أيها الناس أنه قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ) الحديث ، قال ابن رجب : هذا الحديث أصل في التهنئة بشهر رمضان .
التهنئة بالعيد
أخرج الطبراني في الكبير ، وزاهر بن طاهر في تحفة عيد الأضحى عن حبيب بن عمر الأنصاري قال : حدثني أبي قال : لقيت وائلة رضي الله عنه يوم عيد فقلت : تقبل الله منا ومنك ، فقال : تقبل الله منا ومنك . وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن صفوان بن عمرو(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
السكسكي قال : سمعت عبد الله بن بشر ، وعبد الرحمن بن عائذ ، وجبير بن نفير ، وخالد بن معدان يقال لهم في أيام الأعياد : تقبل الله منا ومنكم ويقولون ذلك لغيرهم . وأخرج الطبراني في الدعاء ، والبيهقي عن راشد بن سعد أن أبا أمامة ، وواثلة لقياه في يوم عيد فقالا : تقبل الله منا ومنك . وأخرج زاهر بن طاهر في كتاب تحفة عيد الفطر ، وأبو أحمد الفرضي في مشيخته بسند حسن عن جبير بن نفير قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم . وأخرج زاهر أيضاً بسند حسن عن محمد بن زياد الألهاني قال : رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه : تقبل الله منا ومنكم . وأخرج البيهقي من طريق أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال : كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيدين : تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا مثله ولا ينكر ذلك ، وأخرج الطبراني في الدعاء عن شعبة بن الحجاج قال : لقيت يونس بن عبيد فقلت : تقبل الله منا ومنك فقال لي مثله . وأخرج الطبراني في الدعاء من طريق حوشب بن عقيل قال : لقيت الحسن البصري في يوم عيد فقلت : تقبل الله منا ومنك . وأخرج ابن حبان في الثقات عن علي بن ثابت قال : سألت مالكاً عن قول الناس في العيد تقبل الله منا ومنك فقال : ما زال الأمر عندنا كذلك . لكن أخرج ابن عساكر من حديث عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم فقال ( كذلك فعل أهل الكتابين ) وكرهه وفي إسناده عبد الخالق بن خالد بن زيد بن واقد الدمشقي قال فيه البخاري : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : ضعيف ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال أبو نعيم : لا شيء .
التهنئة بالثوب الجديد
أخرج البخاري عن أم خالد بنت خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كساها خميصة فألبسها بيده وقال ( أبلي واخلقي مرتين ) وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى على عمر قميصاً أبيض فقال : ( ألبس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً ) وقال سعيد بن منصور في سننه : ثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا لبس أحدهم ثوباً جديداً قيل له تبلي ويخلف الله عز وجل .
التهنئة بالصباح والمساء
أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عمرو : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لرجل : كيف أصبحت يا فلان ؟ قال أحمد الله إليك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( ذلك الذي أردت منك ) وأخرج بسند جيد عن ميسرة بن حبس قال : لقيت واثلة بن الأسقع فسلمت عليه فقلت : كيف أنت يا أبا شداد أصلحك الله ؟ قال بخير يا ابن أخي . وقال سعيد بن منصور في سننه : ثنا أبو شهاب عن الحسن بن عمرو عن أبي معشر عن الحسن قال : إنما كانوا يقولون السلام عليكم سلمت والله القلوب ، فأما اليوم فكيف أصبحت عافاك الله وكيف(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
أمسيت أصلحك الله فإن أخذنا نقول لهم كانت بدعة وإلا غضبوا علينا .
خاتمة : روى الطبراني في مسند الشاميين ، والخرائطي في مكارم الأخلاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( أتدرون ما حق الجار ؟ إن استعان بك أعنته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ) الحديث وله شاهد من حديث معاذ بن جبل أخرجه أبو الشيخ في الثواب ، ومن حديث معاوية بن حيدة أخرجه الطبراني في الكبير .
فائدة : قال القمولي في الجواهر : لم أر لأصحابنا كلاماً في التهنئة بالعيدين ، والأعوام ، والأشهر كما يفعله الناس ، ورأيت فيما نقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري أن الحافظ أبا الحسن المقدسي سئل عن التهنئة في أوائل الشهور ، والسنين أهو بدعة أم لا ؟ فأجاب بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك ، قال : والذي أراه أنه مباح ليس بسنة ولا بدعة انتهى ، ونقله الشرف الغزي في شرح المنهاج ولم يزد عليه .
كتاب الجنائز
مسألة : سقط لم يستهل ولم يختلج وقد بلغ سبعة أشهر فصاعداً هل تجب الصلاة عليه أم لا ؟
الجواب : قد يفهم من عبارة الرافعي في شرحيه حيث قال : وإن بلغ أربعة أشهر فصاعداً ولم يتحرك ولا استهل ففي الصلاة عليه قولان : أظهرهما لا يصلى عليه أنه لا يصلى ولو بلغ سبعة أشهر مثلاً حيث قال فصاعداً ، وكذا من تعليله بأنه لا يرث ولا يورث ، ومن تعليل غيره أنه قد يتخلف نفخ الروح لأمر أراده الله تعالى ، والأشبه تخصيص قوله فصاعداً بما لم يجاوز ستة أشهر فإن جاوزها دخل في حكم المولود لا السقط ، وقد قال ابن الرفعة في الكفاية نقلاً عن الشيخ أبي حامد : السقط من ولد قبل تمام مدة الحمل وقيل هو من ولد ميتاً ، فترجيحه القول الأول يدل على أن المولود بعد ستة أشهر مولود لا سقط فلا يدخل تحت ضابط أحكام السقط والله أعلم .
الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال عن الجنازة إذا صلى عليها أولاً ، ثم حضر من لم يصل وصلى فهل تكون الصلاة الثانية فرضاً أو نفلاً ؟ فأجبت بأنها فرض هذا هو المنقول ، فسئلت عن تحرير ذلك من حيث النظر فإن ذلك مشكل فإن الفرض بالصلاة الأولى فكيف توصف الثانية بأنها فرض ؟ فوضعت هذه الكراسة لتحرير ذلك وسميتها الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة ونبدأ بذكر المنقول في ذلك قال الرافعي : إذا(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
أقيمت صلاة الجنازة في جماعة ثم حضر آخرون فلهم أن يصلوا عليها أفراداً أو في جماعة أخرى وتكون صلاتهم فرضاً في حقهم كما أنها فرض في حق الأولين ، بخلاف من صلاها مرة لا تستحب له إعادتها فإن المعاد يكون تطوعاً ، وهذه الصلاة لا يتطوع فيها ، فإن كان قد صلى مرة وأعادها في جماعة لم تستحب أيضاً في أظهر الوجهين ، ولا فرق بين أن يكون حضور الآخرين قبل الدفن أو بعده ولا يشترط ظهور الميت ، وخالف أبو حنيفة في الحالتين ، أما قبل الدفن فلأن عنده لا يصلى على الجنازة مرتين ، وأما بعده فلأن عنده لا يصلى على القبر إلا إذا دفن ولم يصل عليه وساعد أبا حنيفة مالك في الفصلين هذا كلام الرافعي ، وقال النووي في شرح المهذب إذا صلى على الجنازة جماعة أو واحد ثم صلت عليه طائفة أخرى فصلاة الجميع تقع فرضاً ، قال صاحب التتمة : تنوي الطائفة الثانية بصلاتهم الفرض لأن فعل غيرهم أسقط عنهم الحرج لا الفرض ، وبسط إمام الحرمين هذا بسطاً حسناً فقال : إذا صلى على الميت جمع يقع الاكتفاء ببعضهم ، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحد منهم تقع فريضة ، إذ ليس بعضهم بأولى بوصفه بالقيام بالفرض من بعضهم فوجب الحكم بالفرضية للجميع قال : ويحتمل أن يقال هو كإيصال المتوضىء الماء إلى رأسه دفعة ، وقد اختلفوا في أن الجميع فرض أم الفرض ما يقع عليه الاسم فقط ، ولكن قد يتخيل الفطن فرقاً ويقول مرتبة الفرضية فوق مرتبة السنة ، وكل مصل في الجمع الكثير ينبغي أن لا يحرم رتبة الفرضية وقد قام بما أمر به وهذا اللطيف لا يقع مثله في المسح ، قال : ثم قال الأئمة إذا صلت طائفة ثانية كان كصلاتهم مع الأولين في جماعة واحدة هذا كلام إمام الحرمين وأقره في شرح المهذب ، وقال في شرح المهذب قبل ذلك ما نصه : إذا حضر بعد الصلاة عليه إنسان لم يكن صلى عليه أو جماعة صلوا عليه وكانت صلاتهم فرض كفاية بلا خلاف عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي عليه طائفة ثانية لأنه لا يتنفل بصلاة الجنازة فلا يصليها طائفة بعد طائفة ، والجواب منع كون صلاة الثانية نافلة بل هي عندنا فرض كفاية ، قال : فإن قيل كيف تقع صلاة الطائفة الثانية فرضاً ولو تركوها لم يأثموا وليس هذا شأن الفروض ؟ فالجواب أنه قد يكون ابتداء الشيء ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضاً كما إذا دخل في حج التطوع وكما في الواجب على التخيير بخصال الكفارة ، ولأن الطائفة الأولى لو كانت ألفاً أو ألوفاً وقعت صلاة جميعهم فرضاً بالاتفاق ، ومعلوم أن الفرض كان يسقط ببعضهم ولا يقول أحد إن الفرض يسقط بأربعة منهم على الإبهام والباقون متنفلون ، قال : فإن قيل قد وقع في كلام كثير من الأصحاب أن فرض للكفاية إذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الفرض عن الباقين وإذا سقط الفرض عنه كيف قلتم تقع صلاة الثانية فرضاً ؟ فالجواب أن عبارة المحققين سقط الحرج عن الباقين أي لا حرج عليهم في ترك هذا الفعل ، فلو فعلوه ، وقع فرضاً كما لو فعلوه مع الأولين دفعة واحدة ، وأما عبارة من يقول سقط الفرض عن الباقين فمعناه سقط حرج الفرض هذا كلام شرح المهذب ، وقال ابن الصباغ في الشامل : إذا صلى على الجنازة مرة جاز أن يصلى عليها مرة(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
أخرى ، وبه قال علي بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، وعائشة ، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد ، وقال النخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة : لا يصلى على الجنازة مرتين إلا أن يكون الولي غائباً فيصلي غيره فيعيدها الولي ، واحتجوا بأن الصلاة الأولى قد سقط بها الفرض ، فلو صلى ثانياً لكان تطوعاً والصلاة على الميت لا يتطوع بها ألا ترى أن من صلى لا يكررها ، قال : وهذا منقوض بقولهم في الولي زاد في التتمة لأن كل حالة جاز للولي أن يصلي فيها على الميت جاز لغيره قياساً على ما قبل الصلاة ، وقال في التتمة : إذا صلى على الجنازة قوم ثم جاءت جماعة أخرى وأرادوا الصلاة ينوون صلاة الفرض لأن فعل الغير ما أسقط الفرض عنه وإنما أسقط الحرج عنه ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه النكت في الخلاف : مسألة يجوز لمن لم يصل على الميت مع الإمام أن يصلي عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز : دليلنا أن سكينة ماتت ليلاً فكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدفنوها ثم أخبر بذلك فخرج بهم وصلى على قبرها ، فإن قيل في عهده صلى الله عليه وسلّم لا يسقط الفرض إلا بصلاته ولهذا قال : ( لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة له ) قيل : لو كان كذلك لأعلمه الناس وكانوا لا يصلون وإنما ندبهم إلى إعلامه لبركة دعائه ولهذا قال : ( فإن صلاتي عليكم رحمة ) ولم يقل أن الفرض لم يسقط ، ولأن من جاز له أن يصلي على الميت مع الناس جاز له بعد صلاتهم كالولي فإن قيل الولي له حق التقدم ، قيل له حق قبل سقوط الفرض فأما بعده فلا ولهذا لا تجب إعادتها . قالوا : لو جاز ذلك لصلى على النبي صلى الله عليه وسلّم من قدم بعد موته كمعاذ وغيره ، قلنا : هذا حجة لأنه قد صلى عليه ثلاثة أيام وإنما لم تجز على قبره لأنه قال عليه السلام : ( لا تتخذوا قبري مسجداً ) فإن قالوا سقط فرض الصلاة فلا يصلي عليه كمن صلى مرة ، قلنا : ينكر ممن صلى الظهر ثم أدرك جماعة والأصل غير مسلم ثم ذاك سقط الفرض بفعله حقيقة وههنا سقط الفرض عنه حكماً فجاز أن يأتي بالعزيمة كالمسافر في الرخص ، لأن من رد السلام مرة لا يرد أخرى ومن لم يرد يجوز أن يرد هذا كلام الشيخ أبي إسحاق بحروفه .
وقد تلخص مما سقناه من النقول عدة مسالك في التعليل ، المسلك الأول : القياس على فعل الطائفة الأولى . المسلك الثاني : القياس على أفراد الطائفة الأولى إذا كانت عدداً كثيراً زيادة عما يسقط الفرض ، فإن فعل كل واحد واحد منهم يوصف بأنه فرض بالاتفاق ، ولا يقال إن الفرض فعل بعض منهم والباقي نفل لأن ذلك تحكم إذ ليس بعضهم بأولى بالوصف بالفرضية من بعض . المسلك الثالث : القياس على حج التطوع فإنه يكون ابتداؤه ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضاً ولا يستنكر هذا فله نظير في الجهاد ، فإن من لم يتعين عليه القتال إذا شرع فيه وحضر الصف تعين عليه وحرم عليه الانصراف . المسلك الرابع : القياس على المكفر إذا أتى بجميع خصال الكفارة على الترتيب فإنه يثاب على الكل(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
ثواب الواجب مع أن الوجوب سقط بالخصلة الأولى وإنما قلنا في صورة المكفر : أنه يثاب على الجميع ثواب الواجب لأنه لو اقتصر على فرد منها لا يثاب عليه ثواب الواجب فانضمام غيره إليه لا ينقصه عنه . المسلك الخامس : القياس على رد السلام فإنه إذا رد واحد جاز لغيره أن يرد ويكون قبله فرضاً ولا يوصف بأنه نفل لأن رد السلام لا تطوع فيه . المسلك السادس : منع قول الخصوم إن الفرض سقط بالأولين وإنما الساقط حرجه لا هو ، ففرق بين سقوط الحرج الذي كان يلحق الأمة لو ترك وبين سقوط الفرض . المسلك السابع : أن يقال على تقدير تسليم سقوط الفرض فرق بين سقوطه حقيقة وبين سقوطه حكماً ، وفعل الأولين إنما أسقط الفرض عن غيرهم حكماً ولم يسقطه حقيقة ، وإنما يسقط عنهم حقيقة بفعلهم هم ، فإذا فعلوه ثانياً سقط عنهم حقيقة ، فوصف فعلهم بأنه أسقط الفرض عنهم حقيقة ، وهذا المسلك عندي أقوى المسالك وأدقها وأقطعها للنزاع ، وكيف لا يكون كذلك وهو مسلك الشيخ أبي إسحاق إمام عصره في المناظر والجدل غير مدافع . المسلك الثامن : القياس على من صلى الظهر ثم أعادها في جماعة فإن أحد الأقوال فيها أنهما جميعاً يقعان عن الفرض ، ومن قال : إن الفرض الأولى قال إنه ينوي بالثانية الفرض فكذلك صلاة الجنازة . المسلك التاسع : تقرير قاعدة مهمة وذلك أن فرض الكفاية اختلف هل هو واجب على البعض من أول وهلة أو واجب على الكل ويسقط بفعل البعض ؟ فإن قلنا : هو واجب على البعض فذلك البعض المتصف بأنه واجب عليه هو الذي قام به سواء فعله واحد أو جمع على المعية أو على الترتيب ، وبهذا يتضح أن صلاة الطائفة الثانية توصف بالفرض قطعاً لأن مجموع الطائفتين قد قام به ، وقد تقرر أن الفرض موجه على من قام به ، فلا سبيل إلى أن يبعض ويجعل فعل بعض من قام به فرضاً وفعل بعضهم نفلاً وإن قلنا : هو واجب على الكل فأوضح وأوضح لأن كل من صدر منه الفعل مخاطب بالوجوب وموصوف بأن الفرض توجه عليه ، فهو من هذه الجهة شبيه بفروض الأعيان من حيث توجهه على كل فرد فرد وإن اختلفا في وجوب المباشرة ، ومن توجه عليه فرض نفعله لا يقال أن فعله نفل بل هو فرض قطعاً سبقه غيره إلى فعل مثله أو لا ، وهذا مسلك تحقيقي مبني على أصل قاعدة فرض الكفاية وكيفية توجهه والقولان فيه مشهوران والجمهور على الثاني وهو أنه واجب على الكل ويسقط بالبعض ، وممن رجحه من المتأخرين الإمام فخر الدين الرازي ، والشيخ تقي الدين السبكي . المسلك العاشر : قال ابن السبكي في رفع الحاجب : الأفعال قسمان ما تتكرر مصلحته بتكرره فهو على الأعيان كالظهر مثلاً مصلحتها الخضوع وهو يتكرر بتكررها ، وما لا يتكرر فهو فرض الكفاية كإنقاذ الغريق وكسوة العاري ، ومن هنا يعلم أن المقصود من فرض العين الفاعلون وأفعالهم بطريق الأصالة ، وفي فرض الكفاية الغرض وقوع الفعل من غير نظر إلى فاعله ، وهذا معنى قول الغزالي في فرض الكفاية أنه كل مهم ديني يقصد الشرع حصوله ولا يقصد به عين من يتولاه ، قال : فإن(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
قلت : كيف تستحبون صلاة الجنازة لمن لم يصلها مع حصول الفرض بالصلاة أو لا ؟ قلت : الغرض بالذات من صلاة الجنازة انتفاع الميت والدعاء سبب فمن لم يتحقق الانتفاع يستحب الصلاة ، إذ يحتمل أن الله تعالى لم يستجب دعاء الأولين ، وإنما لم نوجب إعادة الصلاة لئلا نوجب ما لا يتناهى ، إذ لسنا على يقين من الاستجابة في واحدة من الصلوات ، وأيضاً فالاستجابة ليست في قدرتنا والتوصل إليها مرة واجب وبما زاد مستحب ، فإن قلت : قد قال الأصحاب إن صلاة الطائفة الثانية تقع فرضاً مع سقوط الحرج والإثم بالأولى فكيف تكون فرضاً مع جواز تركها ؟ قلت : فرض الكفاية قسمان ما يحصل تمام المقصود منه أو لا ولا يقبل الزيادة كإنقاذ الغريق فهذا إذا وقع فعله لا يتصور وقوعه ثانياً ، وما يتجدد به مصلحة بتكرر الفاعل كالاشتغال بالعلم وصلاة الجنازة فهذا كل من أوقعه وقع فرضاً ، فإن قلت : رد السلام فرض كفاية وقد قال الأصحاب : لو سلم على جماعة فأجاب الجميع كانوا كلهم مؤدين للفرض سواء أجابوا معاً أم على التعاقب ، ومقتضى ما تقولون أن الفرض فيما إذا أجابوا على التعاقب الأول لحصول تمام المقصود به قلت : المقصود الذي من أجله شرع أصل السلام إلقاء المودة بين المسلمين على ما قال صلى الله عليه وسلّم : ( ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ افشوا السلام بينكم ) والمودة لا تحصل إلا بين المجيب والمبتدىء دون الساكت ولذلك يستحب للثاني الجواب ، فإذا أجاب وقع فرضاً كما قلناه ، انتهى ما في رفع الحاجب .
كتاب الزكاة
مسألة : قالوا : لا زكاة في التين ، قال في الروضة : بلا خلاف وهو مشكل لأنه في معنى العنب بل أولى .
الجواب : المدار في الزكاة على ورود النص ولا مدخل للقياس في ذلك ولم يثبت نص في إيجابها في التين .
مسألة : ما المراد بفقير البلد الذي تصرف إليه الزكاة هل هو من أدرك وقت الوجوب بنية تقطع الترخص أم كيف الحال ؟ وإذا لم يقبل الفقراء الزكاة هل يجبرهم الحاكم أم لا ؟ وإذا لم يجبرهم هل يجوز النقل مع وجودهم أم لا ؟
الجواب : المراد بفقير البلد من كان ببلد المال عند الوجوب صرح به الإمام وغيره ، وذكر الزركشي في شرح المنهاج إن الفقراء إذا امتنعوا من أخذ الزكاة قوتلوا ولا يصح لهم إبراء رب المال منها .
مسألة : شافعي لا يجوز أن يقتصر في إخراج زكاة فطره على أقل من ثلاثة من كل صنف هل يجوز له أن يقلد بعض المذاهب ممن يجوز الاقتصار على أقل من ذلك إذ يعسر عليه إخراج قد حين لأشخاص متعددة أم لا ؟ فإن جوز تم فهل يسوغ له ذلك مع أنه(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
أخرجها قبل ذلك على مقتضى مذهبه سنين ؟ وهل يشترط في ذلك أن تدعوا إليه ضرورة أم لا ؟ وإذا وكل من مذهبه جواز أقل من ثلاثة فهل يجب على الوكيل أن يراعي مذهب الموكل أم لا ؟ فإن لم يجب وأخرجها لأقل من ثلاثة فهل تسقط عن الموكل أم لا ؟ فإن لم تسقط فهل يلزم الوكيل إخراجها من ماله أو يستردها من الفقير أو يخرج الموكل بدلها من عنده ؟ .
الجواب : يجوز للشافعي أن يقلد بعض المذاهب في هذه المسألة سواء عمل فيها فيما تقدم بمذهبه أم لا ، وسواء دعت إليه ضرورة أم لا ، خصوصاً أن صرف زكاة الفطر لأقل من ثلاثة رأى في المذهب فليس الأخذ به خروجاً عن المذهب بالكلية بل أخذ بأحد القولين أو الوجهين فيه وتقليد لمن رجحه من الأصحاب . وأما مسألة الوكيل فينظر إن عين له الموكل الدفع إلى عدد فليس له أن يدفع إلى أقل منه فإن فعل استرد من الفقير ، فإن تعذر غرم الوكيل لبقية الأشخاص من ماله ، وإن أطلق فيحتمل بطلان هذا التوكيل ويحتمل صحته ، ويراعي مذهب الموكل تنزيلاً للإطلاق منزلة التعين بقرينة المعتقد وهذا الاحتمال أظهر ، فإن صرفها والحالة هذه لواحد استرد فإن تعذر غرم لأحد عشر نفراً إذ الموجود من الأصناف الآن أربعة فيغرم لتسعة ثلاثة أرباع قد حين وذلك قدح ونصف ولإثنين أقل متمول ، ومدارك جميع ما قلناه من التخريج لا تخفى على من له إلمام بالفقه .
بذل العسجد لسؤال المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه ، وإعطاء السائل فيه قربة يثاب عليها وليس بمكروه فضلاً عن أن يكون حراماً هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث ، أما النفل فقال النووي في شرح المهذب في باب الغسل : فرع لا بأس بأن يعطى السائل في المسجد شيئاً لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق [ رضي الله عنهما ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً ؟ ) فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه ، رواه أبو داود بإسناد جيد هذا كلام شرح المهذب بحروفه ، والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معاً أن الصدقة عليه ليست مكروهة ، وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم لأنه صلى الله عليه وسلّم اطلع على ذلك بأخبار الصديق ولم ينكره ولو كان حراماً لم يقر عليه بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد ، وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد إن ثبت محمول على الكراهة والتنزيه وهذا صارف له عن الحرمة ، قلت : ومن أخذ تحريمه من كونه مؤذياً للمصلين برفع الصوت فأكثر ما ينهض ذلك دليلاً للكراهة ، وقد نص النووي في شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة في المسجد ولم يحكم عليه(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
بالتحريم ، وكذا رفع الصوت بالقراءة والذكر إذا آذى المصلين والنيام نصوا على كراهته لا تحريمه ، والحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإسناد غير معارض ، ثم إلى نص من أحد أئمة المذهب وكل من الأمرين لا سبيل إليه ، ثم رأيت أبا داود ، والبيهقي استدلا بالحديث المذكور على جواز المسألة في المسجد فإنهما قالا في سننهما باب المسألة في المسجد وأوردا فيه الحديث المذكور ، وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الزكاة وقال : صحيح على شرط مسلم ، قال المنذري : وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه منه حديث أبي حازم سليمان الأشجعي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قلت : وأخرجه البخاري في أحكام المساجد للزركشي ، ومن الأحاديث الدالة لما قلناه ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمار بن ياسر قال : وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فنزلت ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( وأخرج ابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المسجد والناس يصلون وإذا مسكين يسأل فقال أعطاك أحد شيئاً ؟ قال نعم ذاك القائم ، قال على أي حال أعطاك ؟ قال : وهو راكع ، قال : وذلك علي فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتلا الآية ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( وأخرج ابن جرير في تفسيره من طريق آخر عن ابن عباس قال : كان علي قائماً يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت الآية ، وأخرج أبو الشيخ بن حبان وابن مردويه في تفسيرهما عن علي بن أبي طالب قال : ( نزلت هذه الآية ) إنما وليكم الله ورسوله ( الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم في بيته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم والناس يصلون فإذا سائل فقال : أعطاك أحد شيئاً ؟ قال لا إلا ذاك الراكع لعلي أعطاني خاتمه ) وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن عساكر في تاريخه عن سلمة بن كهيل قال : تصدق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت : ) إنما وليكم الله ورسوله ( الآية ، فهذا خمس طرق لنزول هذه الآية الكريمة في التصدق على السائل في المساجد يشد بعضها بعضاً ، وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن حذيفة بن اليمان قال : ( قام سائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فسأل فسكت القوم ثم أن رجلاً أعطاه فأعطاه القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( من سن خيراً فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منتقص من أجورهم ) .
ثم إن النهي عن السؤال في المسجد لم يرد من طريق صحيح ، وما وقع في المدخل لابن الحاج من حديث : ( من سأل في المساجد فأحرموه ) فإنه لا أصل له ، وإنما قلنا بالكراهة أخذاً من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد ، وقوله : ( إن المساجد لم تبن لهذا ) قال النووي في شرح مسلم في هذا الحديث النهي عن نشد الضالة في المسجد ويلحق به ما في معناه في البيع والشراء والإجارة ونحوها وكراهة رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره ، وأجاز أبو حنيفة ، ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس إليه لأن مجمعهم فلا بد لهم منه انتهى .(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
كتاب الصيام
مسألة : لو ولدت الصائمة ولداً جافاً فهل يبطل صومها أم لا ؟ .
الجواب : ذكر النووي المسألة في شرح المهذب وحكى فيها طريقين : أحدهما القطع بأنه لا يبطل ، والثاني فيه وجهان بناء على الغسل إن أوجبناه بطل وإلا فلا ، هكذا أرسل الطريقين من غير ترجيح .
مسألة : إذا ارتد الصائم ثم عاد إلى الإسلام في بقية يومه فهل يعتد بصومه أم لا ؟ .
الجواب : ذكر صاحب البحر المسألة وحكى فيها وجهين مبنيين على أن نية الخروج من الصوم هل تبطله ؟ ومقتضاه تصحيح عدم البطلان فإنه الأصح في المسألة المبني عليها .
مسألة : رجل عليه صلاة العشاء وهو في شهر رمضان فقام قبل الفجر يصليها فتذكر في خلال الصلاة أنه لم ينو الصوم والوقت ضيق بحيث أنه إن قطع الصلاة ونوى الصوم خرج وقت الصلاة وإن أتم الصلاة خرج وقت النية فهل له أن يبطل أحدهما ويقضيه أو ينوي بقلبه وهو في الصلاة ؟ وإذا نوى بقلبه فهل يحصل تشريك في العبادة أم لا ؟
الجواب : لا يجوز له قطع الصلاة ولا ترك النية ، بل يجب عليه أن ينوي بقلبه في أثناء الصلاة ولا يضره ذلك وليس هذا تشريكاً .
كتاب الحج
مسألة : الطواف هل هو يمين أو يسار ؟
الجواب : يسري إلى ذهن كثير من الناس من اشتراطنا جعل البيت عن يسار الطائف أن الطواف يسار وليس كذلك بل هو يمين ، وبيان ذلك من وجهين : أحدهما أن الطائف عن يمين البيت لأن كل من كان عن يسار شيء فذلك الشيء عن يمينه ، الثاني : أن من استقبل شيئاً ثم أراد المشي عن جهة يمينه فإنه يجعل ذلك الشيء عن يساره قطعاً ، وقد ثبت في حديث مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلّم أتى البيت فاستقبل الحجر ثم مشى عن يمينه .
مسألة : رجل لا مال له وله وظائف فهل يلزمه النزول عنها بمال ليحج ؟ .
الجواب : لا يلزمه ذلك وليس هو مثل بيع الضيعة المعدة لنفقته المعدة لأن ذلك معاوضة مالية والنزول عن الوظائف إن صححناه مثل التبرعات .
كتاب البيع
مسألة : في دارين مشتركتين بين جماعة لكل منهم حصة تباين الأخرى في كل منهما فباعوا الدارين بثمن واحد في صفقة واحدة فهل البيع فاسد لتحقق الجهالة في الثمن المبتاع به حصة كل واحد كما لو باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد وجزموا فيه بالبطلان لما فيه من جهالة قسطه أم صحيح ؟ .(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
الجواب : الظاهر الصحة ، والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة المقيس عليها واضح ، لأن الثمن في اختلاف الحصص معلوم بالجزئية بخلافه في مسألة العبدين من حيث لكل عبد منهما ، نعم لو كانا في مسألة العبدين مشتركين فيهما بالحصص على حد اشتراكهما في الدارين اتجه الصحة أيضاً لحصول العلم بالجزئية .
مسألة : ما يفعله بعض الناس من تركيب حوائج يجتمع منها ذهب أو فضة ويسمى الكيمياء ويبيعه هل يجوز أم لا أو يفرق بين ما يظهر للنقاد وبين غيره ؟ وكذلك تركيب حوائج يظهر منها توتيا ، أو لادن ، أو زباد ، أو نيلة ، أو سمن ، أو قطران ، أو نحو ذلك هل يباح ويحل أكل ثمنه كالغالية أم لا ؟ كالمسك المخلوط بغيره واللبن المخلوط بالماء أو يفرق بين ما إذا بين الحال للمشتري وبين ما إذا لم يبينه وإذا بين وعلم البائع أن المشتري يبيعه من غير بيان فهل يحل له أكل ثمنه أم لا ؟
الجواب : أما مسألة الكيمياء فالذي يقطع به فيها عدم الجواز وعملها من جملة الفساد في الأرض فلا يصح فيها البيع سواء ظهر للنقاد أم لا ؟ وأما المركب الذي يظهر منه توتيا ونحوه الذي نقطع به فيه الجواز قياساً على الغالية ، ويشترط للحل الدافع للإثم أن يبين الحال حذراً من الغش والتدليس ، والفرق بينه وبين مسألة الكيمياء ظاهر فإنه ليس فيه من الفساد ما فيها من حيث أن القدر من الكيمياء يباع مثلاً على أنه ذهب بدينار ، وإذا حقق أمره رجع إلى قيمة الفلس بخلاف المركب المذكور ، ويجوز بيع المركب المذكور وإن علم أن المشتري يبيعه من غير بيان والإثم في ذلك على المشتري إذا لم يبين ، والفرق بين هذا المركب وبين مسألة اللبن والمسك المخلوطين هو الفرق بينهما وبين الغالية .
مسألة : رجل باع بستاناً وفيه قمين طوب فهل يدخل في البيع أم لا ؟ .
الجواب : لا يدخل إلا أن صرح بدخوله وإن أطلق فلا .
مسألة : رجل له حصة في فرس باعها لإنسان وسلمه جميع الفرس من غير إذن شريكه فسافر عليها سفراً عنيفاً حتى أمرضها فمن يطالب ؟
الجواب : الذي سلم الفرس بغير إذن شريكه ضامن لحصة شريكه فللشريك مطالبته ومطالبة الذي أمرضها بالسفر والقرار عليه .
باب الربا
مسألة : رجل باع عشرين نصفاً فضة مغشوشة بعشرة أنصاف طيبة وأقبض في المجلس فهل البيع صحيح أم لا ؟ .
الجواب : هذه الصورة لها أحوال : الأول أن تكون فضة العشرين مساوية لفضة العشرة وزناً . الثاني : أن يكون أقل منها . الثالث : أن يكون أكثر ولا يصح البيع في الأحوال الثلاث ، أما في الثاني والثالث فواضح لزيادة أحد الجانبين في الربوي ، وأما في الأول فهو من قاعدة مد عجوة ودرهم ، ومن باع ربوياً بمثله ومع أحد العوضين جنس آخر فالبيع باطل .(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
باب الخيار
مسألة : رجل اشترى حلة نحاس بشرط البراءة من كل عيب ثم وجد بها عيباً فهل يصح البيع أم لا ؟
الجواب : هو صحيح ولكن الشرط باطل فإذا وجد عيباً قديماً فله الرد .
مسألة : رجل باع جارية أبقت عنده فأبقت عند المشتري فاشتكاه وطالبه بثمنها فهل له ذلك أو ليس له حتى ترجع من أباقها ؟ .
الجواب : ليس له الرجوع عليه بثمن الجارية ولا بالأرش حتى ترجع من إباقها فيردها عليه إن لم يكن بين له هذا العيب ، وأما في حال الإباق فلا مطالبة له بالثمن ، وهذا الفرع عزيز النقل ، ولم يتعرض له الرافعي ولا النووي وإنما نقله السبكي في تكملة شرح المهذب .
مسألة : رجل اشترى أمة على أنها مغبة فبانت حاملاً فهل له الرد ؟
الجواب : دنعم لأن المغبة في العرف من انقطع دمها في أيام العادة لا بحمل ولهذا يقال : فلانه ظنت حاملاً فبانت مغبة .
مسألة : رجل اشترى شقتين صفقة واحدة ثم وجد باحداهما عيباً فهل يثبت البيع في إحداهما ويفسد في الأخرى أو يفسد فيهما ؟ وهل يجبر البائع على أرش الشقة لرغبة المشتري فيهما وإن كان المشتري قد تصرف في احداهما فما الحكم وهل يلزمه يمين أنه ما اطلع على العيب ؟
الجواب : البيع صحيح في الشقتين وللمشتري الخيار عند ظهور العيب فيردهما معاً وليس له أن يرد المعيبة ويمسك السليمة ولا طلب الأرش ، نعم إذا تصرف المشتري في واحدة ثم ظهر بالأخرى عيب فليس له الرد حينئذ لتبعيض الصفقة بل يطالب بالأرش ، إذا ادعى البائع أن المشتري اطلع على العيب حلف المشتري أنه لم يطلع عليه .
باب الإقالة
مسألة : رجل باع حماراً ثم طلب من المشتري الإقالة فقال بشرط أن تبيعه لي بعد ذلك بكذا فقال نعم فلما أقاله امتنع من البيع فهل تصح هذه الإقالة ؟
الجواب : إن كان هذا الشرط لم يدخلاه في صلب الاقالة بل تواطآ عليه قبلها ثم حصلت الاقالة ، فالأقالة صحيحة والشرط لاغ ولا يلزمه البيع له ثانياً ، وإن ذكر الشرط في صلب الإقالة فسدت الاقالة .
مسألة : رجل استأجر بيتاً سنة ثم أجره لآخر باقي إجارته ثم تقايل المستأجر الأول مع المؤجر فإجارة الثاني صحيحة أم لا ؟ ومن يطالب المستأجر الثاني وبماذا يطالب بالثمن أم بأجرة المثل ؟ .
الجواب : الذي يظهر بطلان الإقالة في العين المستأجرة بعد إيجارها لتعلق حق الغير بها(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
ولأن الإقالة واردة في هذه الحالة على المنفعة وهي غير باقية في ملكه ، فأشبه ما لو تقايلا في العين المبيعة بعد بيعها وهو باطل بلا شبهة ، وإذا بطل التقايل فالإجارة الثانية باقية والمطالبة للمؤجر الثاني بما أجر به .
باب السلم
مسألة : رجل أسلم في سبعة عشر أردباً أرزاً إلى أجل معلوم وأقبض رأس المال فغلا السعر فأرسل إليه نصف هذا القدر وقال : إنما جعلت الدراهم عندي وديعة وقد اشتريت لك بها هذا القدر .
الجواب : إن قامت بينة بالسلم المذكور لزمه أداء الأرز كاملاً ولو غلا السعر ، وإن لم تكن بينة حلف أنه ما أسلم إليه ولزمه رد المال الذي ادعى أنه وديعة ولا يلزم المدعي قبول ما اشتراه لأنه لم يصدقه على أنه أذن له في الشراء .
قدح الزند في السلم في القند
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : هل يجوز السلم في السكر الخام القائم في أعساله الذي لا تضبط له نار ، وإذا طبخ وصار في الأقماع وطين بالطين لا يعلم أي شيء يحصل منه سكر ولا عسل تارة يحصل السكر كثيراً وتارة قليلاً .
الجواب : عن هذه المسألة يتوقف على مقدمة وذلك أن النووي حكى في الروضة وجهين في السلم في السكر ولم يرجح منهما شيئاً ، وصحح في تصحيح التنبيه الجواز في كل ما دخلته نار لطيفة ومثل بالسكر ، وقد نازعه المتأخرون في ذلك بأمور ، منها منع كون نار السكر لطيفة بل هي قوية ، وممن نازع بذلك ابن الرفعة قال بعضهم : وهو أجدر بذلك فإنه كان له مطبخ سكر ، ومنها أن المفهوم من كلام الرافعي تصحيح المنع ، قال الأسنوي في شرح المنهاج : مقتضى كلام الرافعي في الكبير المنع في الجميع يعني السكر وما ذكر معه إلا أن المصنف غيره حالة الاختصار فحكى فيه وجهين من غير ترجيح ، وقال في المهمات : الأصح في الجميع هو المنع على ما يقتضيه كلام الرافعي فإنه قال : والسمن ، والدبس ، والسكر ، والفانيد كالخبز ففي سلمها الوجهان هذا لفظه ، وهذا الكلام مقتضاه المنع في جميع هذه الأشياء لأنه الصحيح في الخبز ، ويؤيده أن الأصح في باب الربا إلحاق ما دخلته النار للتمييز بما دخلته للطبخ حتى لا يجوز بيع بعضه ببعض ، فأطلق النووي ذكر وجهين فقط ولم يصرح في غير التصحيح بتصحيح هذا كله كلام المهمات ، وقال الشيخ ولي الدين العراقي في نكته : مقتضى كلام الرافعي ترجيح البطلان في السمن ، والدبس ، والسكر والفانيد فإنه جعل فيها الوجهين في السلم في الخبز والأصح فيه البطلان ، وحذف في الروضة هذا التشبيه وأطلق ذكر وجهين انتهى .(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
وحاصل ذلك ميل المتأخرين إلى تصحيح المنع في السكر نقلاً ومعنى ، أما النقل فلأنه مقتضى كلام الرافعي في الشرح مع ما عضده من خلو كتب النووي عن تصريح بتصحيح سوى تصحيح التنبيه ، وإنما صحح فيه الجواز بناء على أن ناره لطيفة ولم يثبت ذلك بل ثبت خلافه ، وأما المعنى فما ذكرناه من قوة ناره مع القياس على باب الربا في التسوية بين نار التمييز وغيرها إن ثبت أن ناره لطيفة ، نعم جزم البلقيني بالجواز في السكر ونقله عن النص هذا كله في السكر وهو غير المسألة المسؤول عنها ، أما المسألة المسؤول عنها فهي القند وهو غير السكر لغة وعرفاً ، أما لغة فمن راجع كتب اللغة وجد الفرق بينهما في التعريف ، وأما عرفاً فإن الفقهاء أفردوا المسألتين وتكلموا على كل على حدتها فدل على أنهم أرادوا بالسكر غير القائم في أعساله الذي هو القند ، فممن أفرد الكلام على كل على حدتها البلقيني في التدريب فقال عطفاً على ما يصح السلم فيه : وفي السكر على النص وفي القند صرح به الماوردي هذه عبارته ، لكن المفهوم من كلام الشيخ ولي الدين العراقي في فتاويه الميل إلى تصحيح المنع فيه أخذاً من عموم كلام الأصحاب فإنه قال فيها : الذي يظهر من كلام الأصحاب أن القند ليس مثلياً فإن ناره قوية ليست للتمييز ، ويختلف جودة ورداءة بحسب تربة القصب وجودة الطبخ كما ذكره أهل الخبرة بذلك ، وهو داخل في عموم منع الفقهاء السلم فيما دخلته النار للطبخ ، لكن صحح الماوردي السلم في القند ، ومقتضى ذلك أنه مثلى هذا لفظه في فتاويه ، وما جزم به في صدر كلامه فهما عن الأصحاب هو المتجه ، وبه نفتي ، وليست المسألة مصرحاً بها في كلام الشيخين إلا أنها داخلة في عموم منعهما السلم فيما طبخ ويزيد على السكر غرراً بما فيه من الاختلاف بحسب تربة القصب ، فتارة يحصل منه السكر كثيراً وتارة قليلاً بخلاف السكر فإن هذا الغرر معدوم فيه والله أعلم .
باب القرض
مسألة : لو اقترض جارية مجوسية هل يجوز لكونه ممنوعاً من وطئها الآن أم لا ؟ لاحتمال أن تسلم ، ولو تزوج امرأة ولم يدخل بها فهل يجوز له أن يقترض ابنتها ولو اقترض الخنثى المشدكل هل يجوز أم لا ؟
الجواب : أما الأوليان فالمتجه فيهما منع الاقتراض كما قاله الأسنوي في أخت الزوجة وعمتها وخالتها . وأما الثالثة فيجوز وذلك منقول .
قطع المجادلة عند تغيير المعاملة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فقد كثر السؤال عما وقع كثيراً في هذه الأزمان وهو اختلاف الخصوم في المطالبة بعد المناداة على الفلوس كل رطل بثلاثين درهماً بعد أن كانت ستة وثلاثين ، وهل يطالب من عليه الدين بقيمته يوم اللزوم أو يوم(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
المطالبة ؟ وهل يأخذ من الفلوس الجدد المتعامل بها عدداً بالوزن أو بالعدد ؟ فرأيت أن أنظر في ذلك وفي جميع فروعه تخريجاً على القواعد الفقهية ، وكذا لو نودي على الذهب أو الفضة ، وقد وقع في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عكس ما نحن فيه وهو عزة الفلوس وغلوها بعد كثرتها ورخصها ، وتكلم في ذلك قاضي القضاة جلال الدين البلقيني كلاماً مختصراً فنسوقه ثم تتكلم بما وعدنا به : نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله قال في فوائد الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره ما قال : اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عزة الفلوس بمصر وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم من الفلوس ثم صار بتسعة وكان الدينار الأفلوري بمائتين وستين درهماً من الفلوس . والهرجة بمائتين وثمانين . والناصري بمائتين وعشرة وكان القنطار المصري ستمائة درهم فعزت الفلوس ونودي على الدرهم بسبعة دراهم وعلى الدينار بناقص خمسين فوقع السؤال عمن لم يجد فلوساً وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس فلم يجدها فقال عطني عوضاً عنها ذهباً أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه ؟ وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية والمنقول في إبل الدية أنها إذا فقدت فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على الجديد ، قال الرافعي : فتقوم الإبل بغالب نقد البلد وتراعي صفتها في التغليط ، فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها ، فإن كانت له إبل معيبة وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف ، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم ، وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود أو قيمة بلد الأعواز لو كانت الإبل موجودة فيها ؟ والأشبه الثاني ، ووقع في لفظ الشافعي أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب ، والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب يوم وجوب التسليم ألا تراهم قالوا إن الدية المؤجلة على العاقلة تقوم كل نجم منها عند محله ، وقال الروياني : إن وجبت الدية والإبل مفقودة فتعتبر قيمتها يوم الوجوب ، أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت تجب قيمة يوم الأعواز لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة انتهى ، قال : فهذه تناظر مسألتنا لأنه وجب عليه متقوم معلوم الوزن وهو قنطار من الفلوس مثلاً فلم يجده ، فإن جرينا على ظاهر النص الذي نقله الرافعي فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار ويحكم عليه القاضي بذلك ، وإن قلنا بما قاله الروياني فتجب قيمتها يوم الأعواز فإن الأقارير كانت قبل العزة انتهى ما أجاب به ابن البلقيني .
وأعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس وذلك لأنها عدمت أو عزت فلم تحصل إلا بزيادة والمثلى إذا عدم أو عز فلم يحصل إلا بزيادة لم يجب تحصيله كما صححه النووي في الغصب بل يرجع إلى قيمته ، وإنما نبهت على هذا لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات وإنما هي من المثليات في الأصح ، والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
خلاف إلا أن في المغشوش منهما وجهاً أنه متقوم ، إذا تقرر هذا فأقول : تترتب الفلوس في الذمة بأمور ، منها القرض وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقاً ، فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس سواء زادت قيمته أم نقصت ، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم وسيأتي النقل فيه ، وأما في صورة النقص فقد قال في الروضة من زوائده ولو أقرضه نقداً فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه نص عليه الشافعي رضي الله عنه ، فإذا كان هذا مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب أولى ، ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن ثم ينادي عليها بالعدد ويكون العدد أقل وزناً وقولي فالواجب إشارة إلى ما يحصل الإجبار عليه من الجانبين هذا على دفعه وهذا على قبوله وبه يحكم الحاكم ، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال ، فإن رد أكثر من قدر القرض جائز بل مندوب وأخذ أقل منه إبراء من الباقي ، وقولي من ذلك الجنس احتراز من غيره كأن أخذ بدله عروضاً أو نقداً ذهباً أو فضة ، وهذا مرجعه إلى التراضي أيضاً فإنه استبدال وهو من أنواع البيع ولا يجبر فيه واحد منهما ، فإن أراد أخذ بدله فلوساً من الجدد المتعامل بها عدداً ، فهل هو من جنسه لكون الكل نحاساً أولا لاختصاصه بوصف زائد وزيادة قيمة ؟ محل نظر والظاهر الأول لكن لا إجبار فيها أيضاً لاختصاصها بما ذكر ، فإن تراضياً على قدر فداك وإلا فلا يجبر المدين على دفع رطل منها لأنه أزيد قيمة ، ولا يجبر الدائن على أخذ قدر حقه منها عدداً لأنه أنقص وزناً ، فإن عدمت الفلوس العتق فلم توجد أصلاً رجع إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة ويعتبر ذلك يوم المطالبة ، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال ديناراً ، ولو اقترض منه فلوساً عدداً كستة وثلاثين ثم أبطل السلطان المعاملة بها عدداً وجعلها وزناً كل رطل بستة وثلاثين كما وقع في بعض السنين ، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزناً ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها ، وإن لم يكن وزنه معلوماً فهو قرض فاسد لأن شرط القرض أن يكون المقرض معلوم القدر بالوزن أو الكيل وقرض المجهول فاسد والعدد لا يعتبر به والمقبوض [ بالقرض ] الفاسد يضمن بالمثل أو بالقيمة ، وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره فيرجع إلى القيمة ، وهل يعتبر قيمة ما أخذه يوم القبض أو يوم الصرف ؟ الظاهر الأول فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون فيرد ما قيمته الآن كذلك وهو رطل أو مثله من الفضة أو الذهب .
فرع : فإن مثل ذلك في الفضة فإن اقترض منه أنصافاً بالوزن ثم نودي عليها بأنقص أو بأزيد أو بالعدد أو اقترض عدداً ثم نودي عليها بالوزن فلا يخفى قياسه على ما ذكرنا .
فصل : ومنها السلم والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه ، ومعلوم أنه لا يتصور فيه قسم العدد لاشتراط الوزن فيه ، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزناً سواء زادت قيمته عما كان وقت [ تسليمه ] السلم أم نقصت ويجب تحصيله بالغاً ثمنه ما بلغ ، فإن عدم فليس إلا الفسخ والرجوع برأس المال أو الصبر إلى الوجود ولا يجوز الاستبدال عنه ، فإن كان رأس المال فلوساً وهي باقية بعينها أخذها وإن تلفت رجع إلى مثلها وزناً .(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
فصل : ومنها ثمن ما بيع به في الذمة قال في الروضة وأصلها : لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد ، كما لو أسلم في حنطة فرخصت فليس له غيرها ، فيه وجه شاذ ضعيف أنه مخير إن شاء أجاز العقد بذلك النقد وإن شاء فسخه كما لو تغيب قبل القبض انتهى . فأقول هنا صور أحدها أن يبيع برطل فلوس فهذ أليس له إلا رطل زاد سعره أم نقص ، سواء كان عند البيع وزناً فجعل عدداً أم عكسه ، وكذا لو باع بأوقية فضة أو عشرة أنصاف وهي خمسة دراهم أو دنانير ذهب ثم تغير السعر فليس له إلا الوزن الذي سمي ، الثانية أن يبيع بألف فلوساً أو فضة أو ذهباً ثم يتغير السعر فظاهر عبارة الروضة المذكورة أن له ما يسمى ألفاً عند البيع ولا عبرة بما طرأ ، ويحتمل أن له ما يسمى ألفاً عند المطالبة وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر ، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يتأتي في صورة الإبطال إذ لا قيمة حينئذ إلا عند العقد لا عند المطالبة ، ويرده أيضاً التشبيه بمسألة الحنطة إذا رخصت ، الثالثة أن يبيعه بعدد من الفضة أو من الفلوس كعشرة أنصاف أو مائة فلس في الذمة وهي مجهولة الوزن فهذا البيع فاسد والمقبوض به يرجع بقيمته فيما أطلقه الشيخان لا بما بيع به وليس من غرضنا ، وإن قلنا يرجع في المثلى منه بالمثل كما صححه الأسنوي فكان المبيع فلوساً فالحكم فيه كالمغصوب وسيأتي .
فصل : ومنها الأجرة وفيها الصور الثلاثة المذكورة في البيع والرجوع في الثالثة إلى أجرة المثل .
فصل : ومنها الصداق وفيه الصور المذكورة أيضاً والرجوع في الثالثة إلى مهر المثل .
فصل : ومنها بدل الغصب بأن غصب فلوساً أو فضة أو ذهباً ثم تغير سعرها فإن تغير إلى نقص لزمه رد مثل يساوي المغصوب في القيمة في أعلى أحواله من الغصب إلى التلف أو إلى زيادة لزمه رد المثل وزناً والزيادة للمالك ، فإن كان المغصوب عددياً فالقول قول الغاصب في قدر وزنه لأنه غارم .
فصل : ومنها المقبوض بالبيع الفاسد وحكمه حكم الغصب وهو اعتبار أكثر القيمة من يوم القبض إلى يوم التلف .
فصل : ومنها الاتلاف بلا غصب ويرجع فيه إلى المثل وزناً من غير اعتبار نقص ولا زيادة ، وكذا لو بيعت الفلوس أو الفضة أو الذهب ثم حصل تقايل بعد تلفها رجع إلى مثلها وزناً ، وكذا لو كانت ثمناً وتلفت ثم رد المبيع بعيب أو غيره ، وكذا لو التقطت وجاء المالك بعد التملك والتلف فالرجوع في الكل إلى المثل وزناً ولا يعتبر ما طرأ من زيادة السعر أو نقصه ، وكذا لو بيعت ثم حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فيما صححه صاحب المطلب لكن الذي أطلقه الشيخان وجوب القيمة فيه ، وعلى هذا تعتبر قيمتها يوم التلف ، ومنها لو استعيرت فإن الأصح جواز إعارة الدراهم والدنانير للتزيين ، والذي أطلقه الشيخان في تلف العارية الرجوع بالقيمة ويعتبر يوم التلف ، وصحح السبكي الرجوع بالمثل في المثلى(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
والمعتمد إطلاق الشيخين ، ومنها لو أخذت على جهة السوم فتلفت وفيها القيمة ويعتبر يوم القبض فيما صححه الإمام ويوم التلف فيما صححه غيره ، ومنها لو أخذت على جهة الزكاة المعجلة واقتضى الحال الرجوع وهي تالفة رجع بمثلها وزناً ، وكذا لو جعلت صداقاً ثم تشطر وهي تالفة رجع بنصف مثلها وزناً ، ومنها لو أداها الضامن عن المضمون حيث له الرجوع وحكمه حكم القرض .
فصل في حكم ذلك في الأوقاف : إذا شرط الواقف لأرباب الوظائف معلوماً من أحد الأصناف الثلاثة ثم تغير سعرها عما كان حالة الوقف فله حالان : الأول أن يعلق ذلك بالوزن بأن يشرط مثقالاً من الذهب أو عشرة دراهم من الفضة أو رطلاً من الفلوس فالمستحق الوزن الذي شرطه زاد سعره أم نقص . الثاني : أن يعلقه بغيره كثلاثمائة مثلاً ويكون هذا القدر قيمة الدينار يومئذ أو قيمة اثني عشر درهماً ونصفاً أو قيمة عشرة أرطال من الفلوس فالعبرة بما قيمته ذلك ، فلو زاد سعر الدينار فصار بأربعمائة فله في الحال الأول دينار وفي الثاني ثلاثة أرباع دينار ، ولو نقص فصار بمائتين فله في الحال الأول دينار وفي الثاني دينار ونصف ، وكذا لو زادت قيمة دراهم الفضة إو نقصت أو قيمة أرطال الفلوس فالمستحق ما يساوي ثلثمائة في الحال الثاني وما هو الوزن المقرر في الحال الأول .
فصل : إذا تحصل ريع الوقف عند الناظر أو المباشر أو الجابي فنودي عليه برخص نظر ، فإن حصل منه تقصير في صرفه بأن شرط الواقف الصرف في كل شهر فحصل الريع في الشهر الثاني وأخر الصرف يوماً واحداً مع حضور المستحقين في البلد عصى وأثم ولزمه ضمان ما نقص بالمناداة في ماله لأنه كالغاصب بوضع يده عليه وحبسه عن المستحقين ، وإن نودي عليه والحالة هذا بزيادة كانت للوقف كما هو واضح ، وإن لم يحصل منه تقصير بأن كان شرط الواقف الصرف في كل سنة مثلاً فحصل الريع قبل تمام السنة أو حصل عند الوقت الذي شرط الصرف عنده بعض الريع وهو يسير جداً بحيث لا يمكن قسمته وأخر ليجتمع ما يمكن قسمته ، فهذا لا تقصير فيه والنقص الحاصل يكون من ضمان الوقف ، ولا يدخل على المستحقين منها شيء كما لو رخصت أجرة عقار الوقف فإنه على الوقف ، ولا ينقص بسببها شيء من معاليم المستحقين ولو نودي عليه والحالة هذه بزيادة كانت للوقف ، ثم عند الصرف إلى المستحقين يراعي ما قدمناه في الحالين المذكورين في الفصل الذي قبل هذا ويعمل بما يقتضيه .
فصل في الوصية : إذا أوصى له بأحد الأصناف الثلاثة وتغير سعرها من الوصية إلى الموت فالظاهر أنها على الحالين المذكورين في الوقف إن علق بالوزن ، فللموصي له ما ذكر سواء زاد السعر أم نقص كما لو أوصى له بثوب فزادت قيمته أو نقصت وإن علق بالقدر استحق القدر المسمى .
فصل : ومما وقع السؤال عنه من طلق زوجته وله منها ولد وقرر له القاضي فرضاً كل شهر مائة درهم بمعاملة تاريخه فهل يلزمه عند تغير السعر ما قدره مائة يوم التقرير أو يوم(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
الدفع ؟ وأقول : إن كان الولد رضيعاً والتقرير أجرة الرضاع فالحكم ما سبق في الأجرة أنها على ثلاث صور ، وهذه الصورة هي الثانية ، فظاهر ما في الروضة في مسألة البيع أن عليه ما يسمى مائة عند التقرير ، وعلى الاحتمال الذي ذكرناه أن عليه ما يسمى مائة عند المطالبة ، وإن كان الوليد فطيماً فالمقرر نفقة القريب ، وأصل الواجب فيها إنما هو الأصناف بقدر الكفاية ، فإذا رأى الحاكم تقرير عوض عن ذلك من النقود أو الفلوس ثم تغير السعر فهذا الذي قرر ليس بلازم بدليل أنه لو زاد سعر القوت والأدم احتيج إلى زيادة على المقرر ، فالواجب عليه في هذه الصورة ما يسمى مائة عند المطالبة قطعاً ولا يطرقه احتمال أصلاً .
فصل : ودين المكاتبة يأتي فيه ما في البيع ، ودين المخارجة ليس بلازم والمدار فيه على قدرة العبد .
فصل : ووقع السؤال عن طباخ الشيخونية يأخذ أنصباء المستحقين من الطعام والخبز فيبيعها ثم يدفع لهم في آخر الشهر قدراً معلوماً أقل مما باع به ، وأقول . إن كان أخذه لها على جهة الشراء من أربابها فهذا اشتراء فاسد لأنه شراء لما لم يوجد بعد فحكمه في البيع والقبض حكم البيع الفاسد فيضمنه بقيمته من النقود ، وإن كان على جهة أنه وكيل عن أربابها في البيع فهو وكيل يجعل فبيعه وقبضه صحيح ، ثم إن جعل ثمن نصيب كل واحد على حدة ولم يخلطه بغيره ولا تصرف فيه دفعه إليه برمته وله منه القدر الذي شرط له كالثلث مثلاً ، وإن تصرف فيه فهو متعد بالتصرف ، فالقدر الذي تصرف فيه يضمنه بمثله والباقي يدفعه بعينه وإن خلطه ضمنه أيضاً بمثله .
فرع : من فتاوى ابن الصلاح سئل عن رجل تزوج امرأة على مبلغ من الفلوس في الذمة فانعدم النحاس فهل يرجل إلى قيمة الفلوس بقيمة البلد الذي عقدوا النكاح فيه أم بقيمة البلد الذي تطالب فيه ؟ فأجاب : لا يرجع إلى قيمتها أصلاً كما لا يرجع إلى قيمة المسلم فيه عند تعذره ، وإنما يثبت لها الرجوع إلى مهر المثل بالفسخ أو الانفساخ .
وهذه فوائد : نختم بها الكتاب :
الأولى : يكره للإمام أبطال المعاملة الجارية بين الناس لما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تكسر سكة المسلمين الجارية بينهم إلا من بأس ) .
الثانية : أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن كعب قال : أول من ضرب الدينار والدرهم آدم عليه السلام .
الثالثة : قال : في شرح المهذب قال الشافعي والأصحاب : يكرة للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح : ( من غش ليس منا ) ولأن فيه إفساداً للنقود وإضراراً بذوي الحقوق وغلاء الأسعار وانقطاع الأجلاب وغير ذلك من المفاسد ، قال أصحابنا : ويكره لغير الإمام ضرب المغشوش لما ذكرناه في الإمام ولأن فيه افتئاتاً على الإمام ولأنه يخفي فيغتر به الناس بخلاف ضرب الإمام .(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
الرابعة : قال الأصحاب : يكره لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير وإن كانت خالصة لأنه من شأن الإمام ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد .
الخامسة : قال الأصحاب : من ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها ، قال القاضي أبو الطيب : إلا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها ، قال في شرح المهذب : وقد نص الشافعي على كراهة إمساك المغشوشة واتفق عليه الأصحاب لأنه يغر به ورثته إذا مات وغيرهم في الحياة كذا علله الشافعي وغيره .
السادسة : قال في شرح المهذب : إذا كان الغش في الدراهم مستهلكاً بحيث لو صفيت لم يكن له صورة جازت المعاملة بها بالاتفاق وأن لم يكن مستهلكاً ، فإن كانت الفضة معلومة لا تختلف صحة المعاملة بها على عينها الحاضرة وفي الذمة بالاتفاق أيضاً ، وإن كانت الفضة التي فيها مجهولة ففيها أربعة أوجه : أصحها الجواز بعينه وفي الذمة لأن المقصود رواجها ولا يضر اختلاطها بالنحاس كما لا يجوز بيع المعجونات بالاتفاق ، وإن كانت أفرادها مجهولة المقدار . والثاني : المنع لأن المقصود الفضة وهي مجهولة كما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء بالاتفاق ، والثالث : يصح بأعيانها ولا يصح التزامها في الذمة كما يجوز بيع الحنطة المختلطة بالشعير بعينه ولا يصح السلم فيها ولا قرضها . والرابع : إن كان الغش فيها غالباً لم يجز وإلا جاز .
السابعة : قال الخطابي : كان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عدداً وقت قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويدل عليه قول عائشة في قصة شرائها بريرة : إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت تريد الدراهم فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الوزن وجعل المعيار وزن أهل مكة ، وكان الوزن الجاري بينهم في الدرهم ستة دوانيق وهو درهم الإسلام في جميع البلدان وكانت الدراهم قبل الإسلام مختلفة الأوزان في البلدان فمنها البغلي وهو ثمانية دوانيق ، والطبري أربعة دوانيق ، وكانوا يستعملونها منا صفة مائة بغلية ومائة طبرية ، فكان في المأتين منها خمسة دراهم زكاة ، فلما كان زمن بني أمية قالوا : إن ضربنا البغلية ظن الناس أنها التي تعتبر للزكاة فيضر الفقراء ، وإن ضربنا الطبرية ضر أرباب الأموال فجمعوا الدرهم البغلي والطبري وفعلوهما درهمين كل درهم ستة دوانيق ، وأما الدنانير فكانت تحمل إليهم من بلاد الروم ، فلما أراد عبد الملك ابن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطاً الأحبة بالشامي ، وأن كل عشرة من الدراهم سبعة مثاقيل فضربها ، انتهى كلام الخطابي .
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية : استقر في الإسلام وزن الدرهم ستة دوانيق كل عشرة سبعة مثاقيل ، واختلف في سبب استقرارها على هذا الوزن فقيل كانت في الفرس ثلاثة أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطاً ، ودرهم اثنا عشر ودرهم عشر ، فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطاً فكان أربعة عشر قيراطاً من قراريط المثقال ، وقيل أن عمر بن الخطاب(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
رضي الله عنه رأى الدراهم مختلفة منها البغلي ثمانية دوانيق والطبري أربعة دوانيق واليمني دانق واحد فقال : انظروا أغلب ما يتعامل الناس به من أعلاها وأدناها فكان البغلي والطبري فجمعا فكانا اثني عشر دانقاً فأخذ نصفها فكان ستة دوانيق فجعله درهم الإسلام ، قال : واختلف في أول من ضربها في الإسلام فحكي عن سعيد بن المسيب أن أول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان ، قال أبو الزناد أمر عبد الملك بضربها في العراق سنة أربع وسبعين من الهجرة ، وقال المدائني : بل ضربها في آخر سنة خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين ، قال وقيل : أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة ثم غيرها الحجاج ، انتهى كلام الماوردي .
وقال ابن عبد البر في التمهيد : كانت الدنانير في الجاهلية وأول الإسلام بالشام وعند عرب الحجاز كلها رومية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك واسم الذي ضربت في أيامه مكتوب بالرومية ، ووزن كل دينار منها مثقال كمثقالنا هذا وهو وزن درهمين ودانقين ونصف وخمسة أسباع حبة وكانت الدراهم بالعراق وأرض المشرق كلها كسروية عليها صورة كسرى واسمه فيها مكتوب بالفارسية ، ووزن كل درهم منها مثقال ، فكتب ملك الروم واسمه لاوي بن قرفط إلى عبد الملك أنه قد أعدله سككاً ليوجه بها إليه فيضرب عليها الدنانير فقال عبد الملك لرسوله : لا حاجة لنا فيها قد عملنا سككاً نقشنا عليها توحيد الله واسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكان عبد الملك قد جعل للدنانير مثاقيل من زجاج لئلا تغير أو تحول إلى زيادة أو نقصان وكانت قبل ذلك من حجارة وأمر فنودي أن لا يتبايع أحد بعد ثلاثة أيام من ندائه بدينار رومي فضرب الدنانير العربية وبطلت الرومية .
وقال القاضي عياض : لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ويقع بها المبايعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة قال : وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل ، وإنما معني ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لاتختلف ، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغاراً وكباراً وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشة وتصييرها وزناً واحداً وأعياناً يستغنى فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم .
وقال الرافعي : أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام .
وقال النووي في شرح المهذب : الصحيح الذي يتعين اعتماده واعتقاده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار وهي السابقة إلى(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
الافهام عند الإطلاق وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق والمقادير الشرعية ولا يمنع من هذا كونه كان هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر ، فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلّم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانيق كل عشرة سبعة مثاقيل ، وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم إلى يومنا هذا ، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين .
وأما مقدار الدرهم والدينار فقال الحافظ أبو محمد عبد الحق في كتاب الأحكام : قال ابن حزم : بحثت غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه فكل اتفق على أن دينار الذهب بمكة وزنه ثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير المطلق والدرهم سبعة أعشار المثقال ، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة . والرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً بالدرهم المذكور هذا كلام ابن حزم . قال النووي بعد إيراده في شرح المهذب وقال غير هؤلاء : وزن الرطل البغدادي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالاً انتهى .
وقال ابن سعد في الطبقات : حدثنا محمد بن عمر الواقدي حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين وهو أول من أحدث ضربها ونقش عليها وفي الأوائل للعسكري أنه نقش عليها اسمه ؛ وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق الحميدي عن سفيان قال سمعت أبي يقول : أول من وضع وزن سبعة الحارث بن أبي ربيعة يعني العشرة عدداً سبعة وزناً .
وأخرج ابن عساكر عن مغيرة قال : أول من ضرب الدراهم الزيوف عبيد الله بن زياد وهو قاتل الحسين ، وفي تاريخ الذهبي : أول من ضرب الدراهم في بلاد المغرب عبد الرحمن ابن الحكم الأموي القائم بالأندلس في القرن الثالث وإنما كانوا يتعاملون بما يحمل إليهم من دراهم المشرق ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر قال : القنطار خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً ، وأخرج ابن جرير في تفسيره عن السدي في قوله تعالى : والقناطير المقنطرة قال : يعني المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم .
الفائدة الثامنة : في تحرير الدراهم النقرة التي كان يتعامل بها في القرن الثامن وشرطها أرباب الدولة القلاوونية في أوقافهم كشيخون ، وصرغتمش ، ونحوهما ، قال الذهبي في تاريخه في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة : أمر الخليفة المستنصر بضرب الدراهم الفضة ليتعامل بها بدلاً عن قراضة الذهب فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم ، وقال الوزير : قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
الدراهم عوضاً عن قراضة الذهب رفقاً بكم وإنقاذاً لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي فأعلنوا بالدعاء ، ثم أديرت بالعراق وسعرت كل عشرة بدينار فقال الموفق أبو المعالي بن أبي الحديد الشاعر في ذلك .
لاعدمنا جميل رأيك فينا
أنت باعدتنا عن التطفيف
ورسمت اللجين حتى ألفنا
موما كان قبل بالمألوف
ليس للجمع كان منعك للصر
ف ولكن للعدل والتعريف
وقال ابن كثير في تاريخه : في سنة ست وخمسين وسبعمائة : رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه وجعل كل أربعة وعشرين فلساً بدرهم وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم . وهذا صريح في أن الدراهم النقرة كان سعرها كل درهم ثلثاً رطل من الفلوس ، كما أن ما قاله الذهبي صريح في أنه كان سعرها حين ضربت كل درهم عشر دينار ، وقال الحافظ ابن حجر في تاريخه : أنباء الغمر في سنة ست وسبعين وسبعمائة بيع الأردب القمح بمائة وخمسة وعشرين درهماً نقرة وقيمتها إذ ذاك ست مثاقيل ذهب وربع انتهى . وهذا على أن كل عشرين درهماً مثقال ، وقال ابن حجر أيضاً في هذه السنة : غلا البيض بدمشق فبيعت الحبة الواحدة بثلث درهم من حساب ستين بدينار ، وهذا أيضاً على أن كل عشرين درهماً مثقال .
التاسعة : التعامل بالفلوس قديم ، قال الجوهري في الصحاح : الفلس يجمع على أفلس وفلوس ، وقد أفلس الرجل صار مفلساً كأنما صارت دراهمه فلوساً وزيوفاً ، ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها ليس معه فلس انتهى . وهذا يدل على وجودها في زمن العرب ، وقال سعيد بن منصور في سننه : ثنا محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال : لا بأس بالسلف في الفلوس أخرجه الشافعي في الأم ، والبيهقي في سننه دليلاً على أنه لا ربا في الفلوس وإبراهيم هو النخعي وهذا يدل على وجودها في القرن الأول ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد قال : لا بأس بالفلس بالفلسين يداً بيد ، وأخرج عن حماد مثله ، وأخرج عن الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم قال : هو صرف فلا تفارقه حتى تستوفيه ، وذكر الصولي في كتاب الأوراق أنه في سنة إحدى وسبعين ومائتين ولي هرون بن إبراهيم الهاشمي حسبة بغداد في زمن الخليفة المعتمد فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس فتعاملوا بها على كره ثم تركوها .
العاشرة : أخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب قال : من زافت عليه ورقه فلا يخالف الناس أنها طياب وليبتع بها سمل ثوب أو سحق ثوب ، وأخرج أيضاً عن الشعبي أن عبد الله بن مسعود باع نفاية بيت المال زيوفاً وقسيات بدراهم دون وزنها فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فنهاه وقال : أو قد عليها حتى يذهب ما فيها من نحاس أو حديد حتى تخلص الفضة ثم بع الفضة بوزنها .(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
الحادية عشرة : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : قرض الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض ، وأخرج عن عطاء في قوله تعالى : ) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( قال : كانوا يقرضون الدراهم .
الثانية عشرة : قال العسكري في الأوائل : أول من اتخذ ألسنة الموازين من الحديد عبد الله ابن عامر بن كريز .
باب الرهن
مسألة : رجل رهن بيتاً فيه مطلقته المعتدة فهل يصح القبض له عن الرهن وهو مشحون بأمتعة مطلقته ؟ .
الجواب : يتوقف على مقدمة وهي أن الشيخين في الشرح ، والمحرر ، والروضة ، والمنهاج ، وشرح المهذب عبراً في قبض العقار بأن قالا : يحصل بالتخلية والتمكين منه بشرط فراغه من أمتعة البائع ، وكذا عبر البغوي في التهذيب والقمولي في الجواهر فاختلف المتأخرون في لفظه البائع هل هي قيد أو مثال ؟ فقال الأسنوي في شرح المنهاج : خرج بقوله أمتعة البائع أمتعة المشتري ، والمستعير ، والمستأجر ، والغاصب ، ثم قال : وفي هذا التعميم نظر ولم يتعرض لذلك في المهمات ، ونقل الشيخ ولي الدين العراقي هذا الكلام في شرح البهجة واقتصر عليه ولم يتعرض له في النكت ، وكذا قال ابن الملقن تقييده بأمتعة البائع يخرج ما عداه كأمتعة المشتري والمستأجر ، وكذا ابن النقيب في نكته ، وأما السبكي فلم يذكر شيئاً بل قال عقب عبارة المنهاج : فيشترط في صحة التسليم تفريغها ، وقال الأذرعي في الغنية : ذكر البائع يوهم التقييد به وأمتعة المستعير والمستأجر والموصى له بالمنفعة والغاصب كأمتعة البائع ، أما لو كانت مشغولة بأمتعة المشتري فالظاهر أنه لا يشترط التفريغ لصحة القبض ، وقال في التوسط قوله بأمتعة البائع مثال ثم ذكر ما تقدم وقال : ويحتمل أنه احتراز بأمتعة البائع عن أمتعة المشتري ، والظاهر أنه خرج على الغالب ولا مفهوم له ، وأغرب الأسنوي فقال في شرح المنهاج أنه يخرج ما عداه واغتربه من شرح المنهاج من أصحابه وهذا تخليط ، ولم ينظر قوله في السفينة مشحونة بالقماش وهو يشمل قماش البائع وغيره انتهى ، ويشير إلى ذلك قول ابن المقري في مختصر الروضة بشرط فراغه من متاع فنكره ليعم متاع البائع وغيره ، إذا علمت ذلك فنعود إلى مسألتنا فالقبض في الرهن كالقبض في البيع ، فإن كان مشغولاً بأمتعة الراهن لم يصح بلا شك أو المرتهن صح بلا شك أو المستأجر ونحوه ، فعلى جعله قيداً يصح وعلى جعله مثالاً لا يصح ، وأمتعة المعتدة ليست كالمالك خلافاً لمن توهم ذلك بل كالمستأجر كما يفهم من تصرفاتهم في بيع الدار المستحقة لسكنى المعتدة ، والظاهر في المستأجر ونحوه عدم الصحة .
مسألة :
ماذا تقولون لا زال الزمان بكم
زاه علمكم في الأرض منتشراً(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
في مسلم أسلم الذمي توثقة
في الدين رهناً على حق بغير مرا
فضاع ليلاً من البيت الذي سرقت
حاجاته ثم شاع القول واشتهرا
فخاصم المسلم الذمي مدعياً
برهنه عند قاض شافعي ذكرا
فألزم الحاكم الذمي معتمداً
ما لم يقله إمام كان معتبراً
هل حكمه باطل يا ذا العلوم وهل
للشافعية نقل بالذي صدرا ؟
جوزيتم بنعيم في الجنان غداً
عند الإله الذي للعالمين برا
ثم الصلاة وتسليم الإله على
طه الحبيب ومن والاه أو نصراً
ما لاح برق وما ناحت مطوقة
على الغصون وهبت نسمة سحراً
الجواب :
أقول من بعد حمد الله جل على
انعامه وأجل الحمد من شكرا
ثم الصلاة على خير البرية من
عمت رسالته من جاء أو غبرا
إن يسرق الرهن من حرز يليق فلا
ضمان يلزم من ذافي يديه جرى
وقوله بيمين منه نقبله
ولم يكلف بياناً فهو ما ظهرا
وإن يقصر ولم يجعله في سكن
حرز يليق به يضمنه معتبراً
قد خط معتمداً أحكام مذهبه
هذا جواب ابن الأسيوطي مستطراً
باب الصلح
مسألة : زقاق غير نافذ به بيوت وعلى كتفه مخزن فأراد صاحب البيوت أن يبني على الزقاق باباً يصون به بيوته ويبني على الباب طبقة فهل لصاحب المخزن منعه ؟ .
الجواب : إن كان باب المخزن داخل الزقاق فله المنع من بناء باب وطبقة علوه إن كان ذلك بحيث يصير باب المخزن داخل الباب ، وإن كان الباب يبنى داخلاً بحيث يصير باب المخزن خارجه فليس له المنع .
مسألة : رجلان لهما منزل مشترك فباع أحدهما حصته لآخر وللمشتري بجواره منزل فجدد عمارة منزله وأضاف له قطعة من المشترك من غير قسمة فهل يلزمه هدمه أو قيمة نصف القطعة ؟ .
الجواب : ينبغي أن يقسم فإن خرج له الشق الذي فيه البناء اختص به ولا شيء عليه وإلا خير شريكه بين القلع بلا غرم بين الإبقاء بالأجرة .(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
باب الحوالة
مسألة : فيمن جبى بالأمانة ريع وقف بإذن ناظر شرعي وصرف ذلك للمستحقين والعمارة بإذنه وفضل له شيء ومن الوقف حمام تجمد على مستأجرها من أجرتها شيء فأحال الناظر الجابي عليه بما فضل له فهل تصح الحوالة أم لا ؟ .
الجواب : نعم وهي عبارة عن تعيين جهة للدين المستقر على الوقف .
مسألة : رجل أحال رجلاً بدين له على آخر ثم تقايلا أحكام الحوالة ومات المحتال فادعى وارثه على المحال عليه بالمبلغ المحال به وقبضه منه فهل له الرجوع ؟ .
الجواب : المنقول عن الرافعي أنه جزم بعدم صحة الإقالة في الحوالة وإن كان البلقيني حكى عن الخوارزمي فيها خلافاً وصحح الجواز ، فعلى ما جزم به الرافعي يكون ما قبضه وارث المحتال من المحال عليه صحيحاً واقعاً موقعه ولا رجوع عليه .
مسألة : شخص له على آخر دين به ضمان أحال به شخصاً على ذمة الأصيل والضامن فهل الحوالة صحيحة أم لا ؟ وإذا صحت فهل يطالب الأصيل على انفراده أو الضامن أوهما معاً .
الجواب : هذه الحوالة باطلة فإن الرافعي ، والنووي حكيا في صحتها وجهين ولم يرجحا شيئاً ، وصحح البلقيني البطلان ووجهه كما قال في الروضة أن صاحب الدين كان له مطالبة واحد فلا يستفيد بالحوالة زيادة صفة .
مسألة : رجل له على رجل دين فمات الدائن وله ورثة فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدين وأحالهم على آخر بالباقي فقبلوا الحوالة وضمنوا آخر فمات المحال عليه فهل لهم الرجوع على المحيل أم لا ؟ .
الجواب : يطالبون الضامن وتركة المحال عليه فإن تبين إفلاسهما بأن فساد الحوالة لأنها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام فيرجعون على المحيل .
باب الضمان
مسألة : قال أئمتنا فيمن أذن لرجل أن يؤدي عنه دينه وهو عشرة فصالح المأذون رب الدين منها على نصفها أنه يرجع بالعشرة ولو أن رب الدين والحالة هذه أبر أمن خمسة وقبض خمسة رجع المأذون بخمسة فقط وهم مصرحون بأن الصلح من الدين على بعضه إبراء لباقيه ، فإما أن لا يكون كل صلح حطيطة إبراء من الباقي ، وإما أن يفرق بين إبراء وإبراء بفرق يعقل معناه .
الجواب : قول السائل في صورة الصلح أنه يرجع بعشرة ممنوع فإن المنقول في الروضة في الصورتين معاً أن المأذون لا يرجع إلا بخمسة ولم يحك في ذلك خلافاً ، وإنما اختلفت الصورتان في أن صورة الصلح يبرأ فيها الضامن والأصيل من الخمسة الباقية ، وصورة(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
الإبراء لا يبرأ فيها من الخمسة الباقية إلا الضامن فقط ويبقى الأصيل وهذا هو محط الإشكال فانقلب الأمر على السائل وقد فرق بينهما بفرق معقول فلينظر من كلامه .
مسألة : رجل ضمن شخصاً بإذنه في عشرين ديناراً وللمضمون المديون عند الضامن مال وديعة فقال له أد العشرين مما عندك ثم أنه وكل وكيلاً في قبض الوديعة فهل للضامن إمساك الوديعة عنده حتى يقضي منها الدين أم لا ؟
الجواب : نعم له ذلك .
مسألة : رجل ضمن رجلاً في دين ثم مات الضامن وترك ورثة أخذوا ما خلفه فطالب الدائن بعض الورثة بالدين فأجابه بأنه إنما يلزمه قدر حصته من الميراث فقال بل يلزمك الكل بمقتضى أن القدر الذي خصه من الإرث يستغرق جميع الدين فهل يلزمه ذلك ؟ .
الجواب : إنما يلزمه على قدر نسبة ماله من الإرث .
مسألة :
يا منشئا لعلوم ما سبقت لها
يا عالم الزمن المشهور كالعلم
ماذا جوابك يا بحر العلوم ويا
مفتي الأنام ومجلي حندس الظلم
في رب دين على شخص أقربه
مع رفقة ضمنوا في المال والذمم
أحال ذو المال شخصاً بالمقر به
على الأصيل وضمان بجمعهم
فهل لمحتال هذا المال من طلب
لضامن قادر خال من العدم
أولا يطالب ضماناً لما ضمنوا
إلا الأصيل فقط بين شفا ألمي ؟
أثابك الله جنات مزخرفة
بجاه خير البرايا أشرف الأمم
الجواب :
الله أحمد حمداً غير منفصم
ثم الصلاة على المبعوث للأمم
ما للذي احتال إن صححت من طلب
إلا الأصيل فقط فاحكم ولا تجم
ولا يطالب ضماناً بما ضمنوا
فالنقل في ذاك باد فيه للحكم
باب الإبراء
مسألة : أبراك الله هل تصح بها البراءة ؟ .
الجواب : وقع في زوائد الروضة في البيع أنه نقل عن الغزالي وأقره أن باعك الله . وأقالك الله . وزوجك الله كناية ؛ ولم يذكر سوى هذه الثلاثة ، وذكر في أصل الروضة نقلاً عن العبادي أن طلقك الله وأعتقك الله يقع به الطلاق والعتاق ، ثم قال : وظاهر هذا أنه صريح ، وذكر البوشنجي أنه كناية قال : وقول صاحب الدين للغريم أبرأك الله كقول الزوج(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
طلقك الله انتهى ، فمقتضى ما ذكره في البيع تصحيح مقالة البوشنجي أن الكل كناية ويرشد إليه استدراك مقالة العبادي بمقالته .
مسألة : رجل نزل لآخر عن اقطاع والتزم له أنه إذا صار اسمه في الديوان أعطاه مائتي دينار فلما صار اسمه في الديوان أعطاه بعضها وأبرأه من الباقي فهل تصح ؟ .
الجواب : هذا الالتزام إن كان بطريق النذر كما هو العادة الآن فالذي يظهر لي أنه لا تصح البراءة ولو تراضيا لأن النذر لا تصح البراءة منه لما فيه من حق الله كالزكاة والكفارة ، ويحتمل الصحة لأن الحق فيه لمعين بخلاف سائر النذور والزكاة والكفارة والأول أظهر كما لو انحصرت صفة الاستحقاق في معين فإنه لا تصح البراءة منه ، وأما إن كان هذا الالتزام لا بطريق النذر بل في مقابلة النزول وقلنا بصحة ذلك كما استنبطه السبكي من خلع الأجنبي فإن البراءة منه تصح كما للخلع .
بذل الهمة في طلب براءة الذمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : رجل اغتاب رجلاً بسبب أو نحوه أو قذفه أو خانه في أهله ثم أنه تاب بعد ذلك فهل يكفي في ذلك توبته ورجوعه إلى الله وكثرة ذكره وعبادته أم لا بد من تحلله من ذلك وذكره له ما ظلمه به إذا لم يكن علمه ؟ .
الجواب : لا بد من تحلله من ذلك وذكره له ما ظلمه به لأن ذلك من شروط التوبة ، وما لم تصح التوبة لم يكفر الذنب المتعلق بالآدمي شيء ، وإنما لا يحتاج إلى ذلك حيث تعذر الوقوف على صاحب الحق لموت أو نحوه هذا الذي جزمت به هو الموافق لنقل العلماء من أصحابنا وللآثار .
أما النقل فقال الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار في باب كفارة الغيبة والتوبة منها : إعلم أن كل من أرتكب معصية لزمه المبادرة إلى التوبة منها ، والتوبة من حقوق الله يشترط فيها ثلاثة أشياء : أن يقلع عن المعصية في الحال ، وأن يندم على فعلها ، وأن يعزم أن لا يعود إليها ، والتوبة من حقوق الآدميين يشترط فيها هذه الثلاثة ورابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها وطلب عفوه عنها والإبراء منها ، فيجب على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة لأن الغيبة حق آدمي ولا بد من استحلاله من اغتابه ، وهل يكفيه أن يقول قد اغتبتك فاجعلني في حل أم لا بد أن يبين ما اغتابه به ؟ فيه وجهان لأصحابنا أحدهما يشترط بيانه فإن أبرأه من غير بيانه لم يصح كما لو أبرأه من مال مجهول ، والثاني لا يشترط لأن هذا مما لا يتسامح فيه ولا يشترط علمه بخلاف المال والأول أظهر لأن الإنسان قد يسمح بالعفو عن غيبة دون غيبة ، فإن كان صاحب الغيبة ميتاً أو غائباً فقد تعذر تحصيل البراءة منها ، لكن قال العلماء : ينبغي أن يكثر الاستغفار له والدعاء ويكثر من الحسنات هذا كلام النووي بحروفه ، وقال(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
الشيخ تقي الدين السبكي في تفسيره : قد ورد في الغيبة تشديدات كثيرة حتى قيل : إنها أشد من الزنا من جهة أن الزاني يتوب فيتوب الله عليه والغائب لا يتاب عليه حتى يستحل من المغيب ، روى ذلك في حديث لكن سنده ضعيف قال : وهذا وإن كان في حقوق الآدميين كلها ففي الغيبة شيء آخر وهو هتك الأعراض وانتقاص المسلمين وإبطال الحقوق بما قد يترتب عليها وإيقاع الشحناء والعدوات ، ثم قال : فإن قلت : ما تقول في حديث كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته ؟ قلت : في سنده من لا يحتج به وقواعد الفقه تأباه لأنه حق آدمي فلا يسقط إلا بالإبراء فلا بد أن يتحلل منه ، فإن مات وتعذر ذلك قال بعض الفقهاء : يستغفر له فإما أن يكون أخذه من هذا الحديث . وإما أن يكون المقصود أن يصل إليه من جهته حسنات عسى أن يعدل ما احتمل من سيآته وأن يكون سبباً لعفوه عنه في عرصات القيامة ، وإلا فالقياس أن لا يسقط أيضاً ، نعم بالنسبة إلى الأحكام الدنيوية كقبول الشهادة ونحوها إذا تحققت منه التوبة وعجز عن التحلل منه بموت ونحوه يكفي ذلك انتهى .
وأما الآثار فأخرج ابن أبي الدنيافي كتاب الصمت ، والطبراني في الأوسط ، والأصبهاني في الترغيب عن جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الغيبة أشد من الزنا ) قيل : وكيف ؟ قال : ( الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ) ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن التوبة من الفرية فقال : تمشي إلى صاحبك فتقول : كذبت بما قلت لك وظلمت وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت ، وأخرج الأصبهاني عن عائشة بنت طلحة قالت : كنت عند عائشة أم المؤمنين وعندها أعرابية فخرجت الأعرابية تجر ذيلها فقالت بنت طلحة : ما أطول ذيلها ، فقالت عائشة : اغتبتيها أدركيها تستغفر لك .
وأما مسألة خيانة الرجل في أهله فقد روى مسلم ، وأبو داود ، والنسائي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما من رجل يخلف رجلاً في أهله فيخونه فيهم إلا نصب له يوم القيامة فقيل له هذا قد خانك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى أترون يدع له من حسناته شيئاً ) هذا لفظ الحديث ، فمن خان رجلاً في أهله بزنا أو غيره فقد ظلم الزوج وتعلق له به حق يطالبه به في الآخرة لا محالة بنص هذا الحديث ، وهذا حق آدمىٍ لا تصح التوبة منه إلا بالشروط الأربعة ، ومنها استحلاله من ذلك بعد أن يعرفه به بعينه على ما تقدم في كلام النووي ، ثم أقول : له حالان ، أحدهما أن لا يكون على المرأة في ذلك تبعة ولا ضرر بأن يكون أكرهها على ذلك فهذا كما وصفنا لا شك فيه ، والثاني أن يكون عليها في ذلك ضرر بأن تكون مطاوعة فهذا قد يتوقف فيه من حيث أنه ساع في إزالة ضرره في الآخرة بضرر المرأة في الدنيا والضرر لا يزال بالضرر ، فيحتمل أن لا يسوغ له في هذه الحالة أخباره به وإن أدى إلى بقاء ضرره في الآخرة ، ويحتمل أن يكون ذلك عذراً ، ويحكم بصحة توبته إذا علم الله منه حسن النية ، ويحتمل أن يكلف الأخبار به في هذه الحالة ولكن يذكر معه ما ينفي الضرر عنها بأن يذكر أنه أكرهها ، ويجوز الكذب(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
بمثل ذلك ، وهذا فيه جمع بين المصلحتين لكن الاحتمال الأول أظهر عندي .
ولو خاف من ذكر ذلك الضرر على نفسه دون غيره فالظاهر أن ذلك لا يكون عذراً لأن التخلص من عذاب الآخرة بضرر الدنيا مطلوب ، وقد أقر جماعة من السلف على أنفسهم بالزنا ليقام الحد عليهم فيطهروا مع أن ذلك محض حق الله والستر فيه على أنفسهم أولى فكيف في حق الآدمي ، ويحتمل أن يقال : إنه يعذر بذلك ويرجى من فضل الله أن يرضى عنه خصمه إذا علم حسن نيته ، ولو لم يرض صاحب الحق في الغيبة والزنا ونحوهما أن يعفو إلا ببذل مال فله بذله سعياً في خلاص ذمته والغبطة في ذلك له ، ثم رأيت الغزالي قال في منهاج العابدين في فضل التوبة من حقوق الآدميين : وأما الحرمة بأن خنته في أهله أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار فإنه يولد فتنة وغيظاً بل تفزع إلى الله سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيراً كثيراً في مقابلته ، فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه ، ثم قال في آخر كلامه : وجملة الأمر أن ما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت وما لم يمكنك راجعت الله بالتضرع [ والابتهال ] والصدق ليرضيه عنك فيكون ذلك في مشيئة الله سبحانه يوم القيامة والرجاء منه بفضله العظيم وإحسانه العميم أنه إذا علم الصدق من قلب العبد فإنه يرضي خصماءه من جزيل فضله يوم القيامة انتهى .
باب الشركة
مسألة : جماعة اشتركوا في مال واشتروا به قصبا وقلقاساً قائماً على أصوله ثم جاء جماعة أخرووا فقوهم على أنهم شاركوهم في ذلك ولم يحضروه ولا وزنوا شيئاً من الثمن ثم عملوا في قلع القصب ، والقلقاس أياماً فهل الشركة الثانية صحيحة أم لا ؟ وإذا فسدت فهل أجرة المثل في العمل أم لا ؟
الجواب : الشركة الثانية باطلة وإذا عملوا في القصب والقلقاس على مسمى فاسد فلهم أجرة المثل وشراء القلقاس وهو مدفون في الأرض باطل ، وكذا القصب في الأرض إن كان مستوراً بقشره وإلا يصح .
مسألة : رجل يسمى عثمان أخرج من ماله مائة وخمسين ديناراً فأقرض منها خمسين لرجل يسمى بدر الدين وشاركه بالمائة الباقية وجلسا في دكان واشتريا قماشاً بالمال وصارا يتصرفان معاً بالبيع والشراء ويأخذ كل منهما حصته من الربح أولاً فأولاً ، ثم تفاسخاً الشركة وأخذ عثمان القماش بأسره ودفع لبدر الدين خمسين ديناراً عن حصته في القماش فادعى بدر الدين بعد ذلك أنه لم يأخذ في مدة الشركة شيئاً من الربح وأن حصته منه باقية فهل يقبل قوله في ذلك ؟(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
الجواب : إن كان عثمان دفع لبدر الدين الخمسين على أنها عوض عن حصته من القماش فهذا عبارة عن شرائها ، فإن وجدت شروط البيع من الإيجاب والقبول والعلم بالأعيان ونحو ذلك فهو بيع صحيح وليس له بعد ذلك دعوى بربح سابق لأن ذلك قد دخل في الحصة التي باعها وقد رضي فيها بهذا الثمن سواء كان قدر القيمة أو أقل ، هذا إن صدق على البيع ، فإن أنكر فالقول قوله بيمينه والشركة باقية في الأمتعة ويرد الخمسين ديناراً ما لم تقم بينة على تصديقه ، وإن لم توجد شروط البيع فالشركة باقية في الأمتعة أعني شركة الملكية وإن كان عقد الشركة قد انفسخ والخمسون ديناراً قبضها بغير طريق شرعي فيردها وله حصته من الأمتعة ولا حاجة حينئذ إلى دعوى ربح لأنه قائم بالأمتعة فإن ادعى أن عثمان استبد بربح أخذه دونه وأنكر عثمان فالقول قول عثمان بيمينه .
باب الوكالة
مسألة : رجل وكل إنساناً في أن يسلم له في قمح ففعل وضمن المسلم إليه رجل فهل تصح دعوى الموكل على المسلم إليه بالقمح وعلى ضامنه ؟ وهل يجوز للوكيل أن يشهد للموكل بالضمان أم لا ؟
الجواب : نعم للموكل الدعوى على المسلم إليه والضامن ، وأما شهادة الوكيل له فإن كان قبل عزله لم تقبل وكذا بعده إن خاصم وإن لم يخاصم قبلت .
باب الإقرار
مسألة : إذا قال لفلان عندي أقل من ثلاثة دراهم كم يلزمه ؟ .
الجواب : مقتضى القواعد أنه يلزمه بعض درهم وهو قدر ما يتمول من الدراهم .
مسألة : مريض صدر بينه وبين زوجته مبارأة ما عدا حقوق الزوجية ولم يستفسروه عن مراده بالحقوق فهل تدخل كسوتها في لفظ الحقوق أو تحمل على حال الصداق ومنجمه فقط ؟ وهل ينفع قول المريض لغير الشهود قبل موته : ليس لزوجتي عندي سوى حال الصداق ومنجمه ؟
الجواب : هذه اللفظة في أصلها شاملة لكل حق للزوجة من صداق وكسوة ونفقة ، ولا يلزم من إطلاقها إرادة جميع مدلولاتها ، فإذا طلقها الزوج وأراد بعض ذلك قبل منه وإذا أخبر قبل موته أنه ليس لها عنده سوى الحال والمنجم نفع ذلك في تفسير هذه اللفظة المطلقة في الإقرار .
باب الغصب
مسألة : سيد قطع يد عبده ثم غصبه غاصب فمات بالسراية عنده فماذا يلزم الغاصب ؟
الجواب : مقتضى القواعد أنه لا يلزمه شيء لأن هلاكه مستند إلى سبب متقدم على الغصب .(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
مسألة : رجل ذمي نهى مسلماً عن منكر فهل له ذلك بناء على أنه مكلف بفروع الشريعة أم لا ؟ .
الجواب : لإنكار المنكر مراتب ، منها القول كقوله : لا تزن مثلاً ، ومنها الوعظ كقوله : اتق الله فإن الزنا حرام وعقوبته شديدة ، ومنها السب والتوبيخ والتهديد كقوله : يا فاسق يا من لا يخشى الله لئن لم تقلع عن الزنا لأر مينك بهذا السهم ، ومنها الفعل كرميه بالسهم من أمسك امرأة أجنبية ليزني بها وككسره آلات الملاهي وإراقة أواني الخمور ، وهذه المراتب الأربعة للمسلم وليس للذمي منها سوى الأوليين فقط دون الآخرين لأن فيهما ولاية وتسلطاً لا يليقان بالكافر ، وأما الأوليان فليس فيهما ذلك بل هما مجرد فعل خير ، وقد ذكر الأسنوي في شرح المنهاج أن في حفظه أنه ليس للكافر إزالة المنكر يعني بالفعل وهي المرتبة الرابعة ، وكذا ذكر الغزالي في الإحياء وعلله بأن ذلك نصرة للدين فلا يكون من أهلها من هوجاً حد لأصل الدين وعدوله ، ثم قال في أثناء الباب ما نصه : فإن قيل هل يجوز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني ؟ قلنا : إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه فنمنعه من حيث أنه تسلط وما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً .
وأما مجرد قوله لا تزن فليس بممنوع منه من حيث أنه نهى عن الزنا بل من حيث أنه إذلال للمسلم إلى أن قال بل نقول : إن الكافر إذا لم يقل للمسلم لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكفار بالفروع .
هدم الجاني على الباني
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرني شيخ الإسلام قاضي القضاة علم الدين البلقيني إجازة عن أبي إسحاق التنوخي عن القاسم بن مظفر أن عبد الرحيم بن تاج الأمناء أخبره الحافظ إبو القاسم بن عساكر أنبأنا أبو محمد ابن الأكفاني أنا أبو محمد الحسن بن علي بن عبد الصمد الكلاعي أنا تمام بن محمد أخبرني أبي حدثني أبو الحسن علي بن شيبان الدينوري أخبرني محمد بن عبد الرحمن الدنيوري عن رجل أظنه الربيع ابن سليمان قال : قال الشافعي : سمعت سفيان بن عيينة يقول : إن العالم لا يماري ولا يداري ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله وبعد فقد رفع إلي أن رجلاً خربة بجوار مسجد وبنى بها مخازن ثم أنه قصرها على سكنى من يعدها للفساد فيسكن فيها جماعة بعضهم عزاب وبعضهم متزوجون وعيالهم بمسكن آخر ، وإنما يعدون هذا المسكن ليختلوا فيه للفساد ، وأن هذا الموضع يجتمع فيه كل يوم ثلاثاء خلق كثيرون يأتونه من أطراف البلد من نساء ورجال وشباب مرد فيجتمعون فيه على شرب الخمر ، والزنا ، واللواط بحيث يدخل جماعة يباشرون الزنا ، واللواط ، ويتأخر جماعة ينتظرون انتهاء النوبة إليهم ، فمنهم من يقف بالدهليز ، ومنهم من يقف بالطريق ، ومنهم من يجلس على باب المسجد حتى قيل أنه رؤي رجل في ذلك(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
المسجد ومعه صبي يلوط به وصار ذلك مشاعاً في ذلك الخطة وصار المكان معروفاً بذلك بحيث يقصد من أمكنة بعيدة لهذه الأمور ، وبجوار هذا المكان الخبيث رجل مبارك يقوم في إنكار ما يراه بحسب استطاعته ، فراجع صاحب البيت في إخلائه من هؤلاء وتسكين من هو على سيرة حميدة فأني بعد طول المراجعة سنين رغبة في زيادة الأجرة ، وكان من جملة قوله له هذه أمة مذنبة ، ثم اتفق أن أخلى الله المكان من هؤلاء بعوارض طرأت لهم ثم زالت تلك العوارض فعادوا ليسكنوا على منوالهم فجاءني ذلك الرجل المبارك وشكاإلي هذا الأمر فقلت له : أذهب إلى صاحب المكان وقل له إن لم يخل هؤلاء منه أفتيت بهدمه ، ومن جملة الساكنين ثم رجل جهله فوق جهل الجاهلين ومقامه أسفل سافلين فلما بلغه هذا الكلام قال : هذا ليس بحكم الله وذهب إلى الشيخ شمس الدين الياني فاستفتاه فأفتاه بأنه لا يهدم وأن من قال بهدمه يلزمه التعزير ثم جاء بهذه الفتوى وصار يجلس على الدكاكين في الأسواق ويقول فلان مجازف في دين الله وانضم إليه عصبة من نمطه فمنهم من يقول هذا الذي أفتى به يعني قولي بالهدم خرق للإجماع وآخر يقول هذا جاء به من إرم ذات العماد ، وصار كل من الجهال يرمي بكلام فألفت في ذلك كتاباً سميته رفع منار الدين وهدم بناء المفسدين وهذا الكتاب مختصر منه ليسهل تناوله .
فأقول : أما ما تلفظ به الجهال فإن كلام الجاهلين لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ، وأما ما أفتى به الياني فإنه قد كتب في صحيفة عمله وطبع عليها بطابع وسوف يعرض عليه وهو واقف على الصراط فيقرؤه ويطلب منه الخروج من عهدته يوم لا ينفع جاه ولا تعصب ، وأما الذي أفتيت أنا به فهو الذي وردت به الأحاديث وثبت عن الصحابة والتابعين ونص عليه العلماء من أئمة المذاهب الأربعة ولم تزل عليه الخلفاء والملوك وولاة الأمور سلفاً وخلفاً ، وها أنا أبين ذلك .
ذكر الأحاديث المرفوعة
أخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ان أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) استدل بهذا الحديث من قال بأن الجماعة فرض عين وهم عطاء ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وابن خزيمة ، وابن حبان الأربعة من أصحابنا ، قال النووي في شرح المهذب : والصحيح أنها فرض كفاية ، والجواب عن الهم بتحريق بيوتهم ما أجاب به الشافعي وغيره أن هذا ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون فرادى قال : وسياق هذا الحديث يؤيد هذا التأويل ، قلت : إذا تأمل المنصف هذا الكلام عرف منه أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قائل بجواز العقوبة بتحريق البيوت فإنه لم ينكر سوى(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
الاستدلال بالحديث على فرضية الجماعة على الأعيان وقال بمقتضى الحديث في حق المنافقين الذين لا يصلون ، وأما القائلون بأنها فرض عين فاستدلالهم بالحديث صريح في أنهم أيضاً قائلون بجواز تحريق البيوت على من تخلف عنها من المسلمين ، وقال الرافعي في شرح المسند : اللفظ لا يقضي كون الإحراق للتخلف فيحتمل أنه أراد طائفة مخصوصين من صفتهم أنهم يتخلفون ، فأما مطلق التخلف فإنه لا يقتضي الزجر بالإحراق قال : ويوضحه أن الشافعي قال في الأم بعد رواية الحديث فيشبه أن يكون ما قاله من همه بالإحراق إنما قاله في قوم تخلفوا عن صلاة العشاء لنفاق ، وقال ابن فرحون المالكي : اختلف في هذا الحديث هل هو في المؤمنين أو المنافقين ؟ قال : والظاهر أنه في المؤمنين لقوله في الرواية الأخرى : ( ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليس لهم عذر فأحرقها عليهم ) والمنافقون لا يصلون في بيوتهم قال : وفائدة قوله ( لقد هممت ) تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة لأن المفسدة إذا ارتفعت واندفعت بالأخف من الزواجر لم يعدل إلى الأعلى انتهى .
وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر في شرح البخاري : ذهب جماعة إلى أن الحديث ورد في المنافقين ، والذي يظهر لي أن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية أبي داود : ( دثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة ) ، فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة ، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء ، نبه عليه القرطبي ، قال : ثم أنه قد يستدل بالحديث لكون الجماعة فرض كفاية ، إذ يحتمل أن يقال التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حد تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتالهم ، وقال ابن دقيق العيد في الحديث إنه صلى الله عليه وسلّم لا يهم إلا بما يجوز له فعله ، وأما كونه ترك ولم يفعل فلاحتمال أنهم انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه ، قال الحافظ ابن حجر : وقد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو ما أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ : ( لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار ) فهذا كلام الأئمة على هذا الحديث من الإمام الشافعي فمن بعده فإن قيل التحريق بالنار منسوخ قلنا في الأدمي والحيوان فقط ، وقد نص أصحابنا في باب السير على جواز تحريق شجر الكفار وهدم بنائهم إذا دعت ضرورة لذلك ، وقد ورد هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة فأخرج ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم ) وأخرج أحمد ، والنسائي عن زيد بن ثابت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصَّفَّان والناس في قايلتهم وتجارتهم فأنزل الله : ) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم ) وأخرج أحمد بسند صحيح عن ابن أم مكتوم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى المسجد فرأى في القوم رفقة فقال : ( إني لأهم أن أجعل للناس إماماً ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
أحرقته عليه ) وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس في جماعة ثم أنصرف إلى قوم سمعوا النداء فلم يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً ) وأخرج الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود . أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : ( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على قوم يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ) وأخرج ابن مردوية في تفسيره عن ابن عباس قال : ( دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم فقال : أخرج لهذا المسجد ، فقال مالك لعاصم : انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار وخرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه وخرج أهله فتفرقوا عنه ) وأخرج ابن إسحاق ، وابن مردويه عن أبي رهم كلثوم بن الحصين وكان من أصحاب الشجرة قال : ( دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك ابن الدخشم ، ومعن بن عدي أخا عاصم بن عدي فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين فقال مالك لمعن : انظرني حتى أخرج إليك فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى أتيا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ) وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحق عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا : ( أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة في الحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فنصلي لنا فيه فقال : إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه فلما نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وأتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان فقال : انطلقا إلى هذا الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل ) وأخرج ابن المنذر في تفسيره من وجه آخر عن محمد بن إسحاق مثله ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن إسحق عن ثقة من بني عمرو بن عوف مرسلاً مثله ، وأخرج أبو داود ، والترمذي ، والحاكم وصححه من طريق صالح بن محمد بن زائدة قال : ( دخل مسلمة أرض الروم فأتى برجل قد غل فسأل سالماً عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه قال فوجدنا في متاعه مصحفاً فسئل سالم عنه فقال بعه وتصدق بثمنه ) . وأخرج الحاكم وصححه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( دخلت يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلي ثوبان معصفران فقال ما هذان ؟(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
قلت صنعتهما لي أم عبد الله ، قال : أقسمت عليك لما رجعت إليها فأمرتها أن توقد لهما التنور ثم تطرحهما فيه فرجعت إليها ففعلت ) وأخرج مسلم ، والنسائي من طريق طاووس عن عبد الله بن عمرو قال : ( رأى النبي صلى الله عليه وسلّم علي ثوبين معصفرين قال : أمك أمرتك بهذا قلت : أغسلهما ؟ قال : ( بل احرقهما ) قال النووي في شرح مسلم : الأمر بإحراقهما عقوبة وهتك لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل .
ذكر ما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك
قال ابن سعد في الطبقات في ترجمة عمر بن الخطاب قالوا : إن عمر أول من ضرب في الخمر ثمانين واشتد على أهل الريب والتهم وأحرق بيت رويشد الثققي وكان حانوتاً قال ابن سعد : والنباذ بالمدينة يسمى الحانوت ، وقال ابن سعد أيضاً في ترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : أخبرنا يزيد بن هرون ، ومعن بن عيسى ، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك قالوا : حدثنا ابن أبي ذئب عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي وكان حانوتاً للشراب وكان عمر قد نهاه فلقد رأيته يتلهب كأنه جمرة ، أخرجه الدولابي في الكنى من وجه آخر عن سعد بن إبراهيم ، ورويناه أيضاً في نسخة إبراهيم بن سعد زاوية كاتب الليث عنه ، وقال عبد الرزاق في المصنف : أنا عبد الله بن عمر عن نافع عن صفية ابنة أبي عبيد ، ومعمر عن نافع عن صفية قالت : وجد عمر رضي الله عنه في بيت رجل من ثقيف خمراً وكان قد جلده في الخمر فحرق بيته وقال ما اسمك ؟ قال : رويشد ، قال : بل أنت فويسق ، وأخرج عن عبد القدوس عن نافع قال : وجد عمر في بيت رويشد الثقفي خمراً فحرق بيته وقال : ما اسمك ؟ قال : رويشد ، قال : بل أنت فويسق ، وقال ابن أبي شيبة في المصنف ثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني قال : بلغ عمر بن الخطاب أن رجلاً أثرى في بيع الخمر فقال : اكسروا كل آنية له وسيروا كل ماشية له ، وقال ابن سعد في الطبقات : أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه عن حبيب ابن عمير عن مليح بن عوف السلمي قال : بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص صنع باباً مبوباً من خشب على باب داره وخص على قصره خصاً من قصب فبعث محمد بن مسلمة وأمرني بالمسير معه وقد أمره أن يحرق ذلك الباب وذلك الخص فانتهينا إلى دار سعد فأحرق الباب والخص ، وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا مسكين بن ميمون ثنا عروة بن رويم قال : بيناعمر بن الخطاب يتصفح الناس يسألهم عن أهل أجنادهم إذ مر بأهل حمص فقال : كيف أنتم وكيف أميركم ؟ فقالوا : خيراً يا أمير المؤمنين إلا أنه بنى علية يكون فيها فكتب كتاباً وأرسل إليه بريداً وأمره إذا جئت باب عليته فاجمع حطباً وأحرق باب عليته ، فلما قدم جمع حطباً وأحرق باب العلية فأخبروه فقال دعوه فإنه رسول أمير المؤمنين . وقال ابن(1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
عبد الحكم في فتوح مصر : حدثنا شعيب عن الليث ، وعبد الله بن صالح عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال : أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذاقة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إلى عمرو بن العاصي : سلام عليك أما بعد فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة ولقد أراد خارجة أن يطلع على عورات جيرانه فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله والسلام . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف من طريق سعد ابن إبراهيم عن أبيه قال : دخل عبد الرحمن بن عوف ومعه ابن له عليه قميص حرير على عمر فشق القميص .
فهذه آثار صحيحة عن عمر بن الخطاب في هدم بيوت الخمارين وإتلاف أمكنة الفساد إذا تعينت طريقاً لإزالة الفساد ، وقد فعل ذلك في خلافته والصحابة يومئذ متوافرون ولم ينكره أحد منهم فكان ذلك إجماعاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) وقال البخاري في الأدب المفرد : حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني معن حدثني ابن المنكدر عن أبيه عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير بن عبد الله أن رجلين اقتمرا على ديكين على عهد عمر فأمر عمر بقتل الديكة فقال له رجل من الأنصار : أتقتل أمة تسبح ؟ فتركها ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن عفان أنه قال في النرد : لقد هممت أن آمر بحزم حطب ثم أرسل إلى بيوت الذين هم في بيوتهم فأحرقها ، وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي عن الحسن أن عثمان بن عفان كان يأمر بذبح الحمام التي يلعب بها ، فهذان أثران عن عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) وقد فعل ذلك عثمان وقاله في قصة النرد ولم ينكر عليه أحد والصحابة يومئذ متوافرون فكان إجماعاً مع أن اللعب بالحمام ليس من المحرمات ، وأخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنت جالساً مع عبد الله بن مسعود فأتاه ابن له قد ألبسته أمه قميصاً من حرير وهو معجب به فقال : يا بني من ألبسك هذا ؟ قال : أمي قال أدنه فدنا منه فشقه ثم قال : أذهب إلى أمك فلتلبسك ثوباً غيره ، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المهاجر بن شماس عن عمه قال : رأى ابن مسعود ابناً له عليه قميص من حرير فشقه وقال : إنما هذا للنساء ، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جحيف قال : انطلقت مع عبد الله حتى أتيت داره فأتاه بنون له عليهم قمص حرير فحرقها وقال : انطلقوا إلى أمكم فتلبسكم غير هذا ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، والبيهقي عن ابن الزبير أنه خطب بمكة فقال : بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير إني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت سلبه من أتاني به . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن مجاهد قال : مر ابن عمر بقوم يلعبون بالشهاردة فأحرقها بالنار ، وأخرج البيهقي عن مالك أنه قال : الشطرنج من النرد بلغنا عن ابن عباس أنه ولى مال يتيم فأحرقها . وقال أبو نعيم في الحلية : حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ثنا أحمد بن زيد الخزاز ثنا ضمرة ثنا أكدين بن سليمان أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عامله عبد الله بن عوف على فلسطين أن اركب إلى البيت الذي يقال له المكس فاهدمه ثم احمله(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
إلى البحر فانسفه في اليم نسفاً . وقال ابن جرير في تفسيره : ثنا ابن حميد ثنا هرون عن أبي جعفر عن ليث أن شقيقاً لم يدرك الصلاة في مسجد بني غاضرة فقيل له مسجد بني فلان لم يصلوا بعد فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضراراً أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بنى على ضرار .
ذكر نقول العلماء من أئمة المذاهب الأربعة في ذلك
قال الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى في ترجمة الاصطخري أحد أئمة أصحابنا الشافعيين أصحاب الوجوه ما نصه : ولي الحسبة ببغداد وأحرق طلق اللعب من أجل ما يعمل فيه من الملاهي ، وقال في الطبقات الكبرى في ترجمة الإصطخري أيضاً من أخباره في حسبته أنه كان يأتي إلى باب القاضي فإذا لم يجده جالساً يفصل القضايا أمر من يستكشف عنه هل به عذر من أكل أو شرب أو حاجة الإنسان ونحو ذلك ؟ فإن لم يجد به عذراً أمره بالجلوس للحكم ، ومنها أنه أحرق مكان الملاهي من أجل ما يعمل فيه من الملاهي ، قال ابن السبكي : وهذا منه دليل على أنه كان يرى جواز إتلاف مكان الفساد إذا تعين طريقاً هذه عبارة ابن السبكي ، وقد نقل الماوردي في الأحكام السلطانية فعل الاصطخري ولم ينكره ، وقال أيضاً في الأحكام السلطانية : يمتاز والى الجرائم على القضاة بأوجه : منها أن له فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر بالحدود استدامة حبسه إذا أضر الناس بجرائمه حتى يموت ، ومنها أن له أخذ المجرم بالتوبة قهراً ويظهر له من الوعيد ما يقوده إليها طوعاً ويتوعده بالقتل فيما لا يجب في القتل .
وقال الغزالي في الأحياء : درجات النهي عن المنكر سبعة : الأولى التخويف بلطف أن ذلك حرام وذلك للجاهل . الثانية : النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله . الثالثة : السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادىء الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح . الرابعة : التغيير باليد ككسر آلات الملاهي ، وإراقة الخمر ونحو ذلك . الخامسة : التهديد والتخويف كقوله : دع عنك هذا أو لأكسرن رأسك أو لأضربن رقبتك . السادسة : مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك بلا شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والأقتصار على قدر الحاجة في الدفع . السابعة : أن يحتاج إلى أعوان يشهرون السلاح وفي احتياج هذا إلى إذن الإمام خلاف فقال قائلون : يحتاج إليه لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن ، وقال آخرون : لا يحتاج إلى إذن وهو الأقيس لأن منتهاه تجنيد الجنود في رضاء الله ودفع معاصيه ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر ، فكذلك قمع أهل الفساد جائز ، لأن الكافر لا بأس بقتله فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله ، والمقتول من القائمين في حرب الفريقين شهيد ، ثم قال الغزالي : فإن قلت : فليجز للسلطان زجر الناس عن المعاصي بإتلاف أمولهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون وإحراق أموالهم التي بها(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
يتوصلون للمعاصي فأعلم أن ذلك إن ورد الشرع به لم يكن خارجاً عن سنن المصالح والمصالح يتبع فيها ولا يبتدع هذا كلام الغزالي .
فعلق القول به على وروده من الشرع لأنه لم يقف فيه على حديث ، وقد صحت به الأحاديث والآثار عن الخلفاء الراشدين فإن قيل : التعزيز بإتلاف المال منسوخ في مذهبنا قلت : محل ذلك فيما لم يتعين طريقاً لإزالة الفساد ، أما ما تعين طريقاً لإزالته فإنه غير منسوخ فيه ولهذا فعله عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين وهلم جراً ، وقد نص أصحابنا على مثل ذلك في فروع : منها قولهم يجوز كسر أواني الذهب والفضة لتحريم استعمالها واتخاذها ، ومنها قولهم : أن آلات الملاهي تكسر وهو متفق عليه عندنا ، ومنها قال الغزالي في الإحياء : للولاة كسر الظروف التي فيها الخمور زجراً وتأديباً دون الآحاد قال : وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تأكيداً للزجر ولم يثبت نسخه هذا كلام الغزالي ، قال الأسنوي ، في شرح المنهاج بعد نقله : وهو من النفائس المهمات فانظر إلى قوله : ولم يثبت نسخه كيف صرح بأن هذا القسم مما لم يجر فيه النسخ وإن جرى في القسم الآخر . ومنها قال الغزالي في الإحياء في إراقة الخمور للآحاد : ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس ولو اشتغل بإراقتها لأدركه الفساق ومنعوه أو لم يخف ذلك لكن كان فيه تضييع زمانه وتعطيل شغله فله كسرها ، إذا ليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظروف الخمر نقله الأسنوي . وارتضاه ومنها قال الغزالي في الإحياء : لو كانت آنية من بلور أو زجاج على صورة حيوان وفي كسرها خسران مال كثير جاز كسرها ، ومنها قال الغزالي في الإحياء : لو أخبره عدلان أبتداء من غير استخبار أن فلاناً يشرب الخمر في داره ، أو بأن في داره خمراً أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزمه الاستئذان ويكون قد تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه ، ومنها قال الغزالي : يتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني ، وفي النهي عن لبس الحرير تمزيق الثوب أن وجد إلى ذلك سبيلاً ، فإن لم يقدر إلا بالكسر والتمزيق فله ذلك وسقطت قيمة الظرف ويقومه بسبب الخمر إذا صار حائلاً بينه وبين الوصول إلى الخمر ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه للضرب والجرح لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذا لا تزيد حرمة ملكه على حرمة نفسه انتهى .
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في صفر سنة ثلاث عشرة وثلثمائة بلغ الخليفة المقتدر بالله أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد نراثا فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى ولاية محمد بن إسماعيل الذي بين الكوفة وبغداد ويدعون أنه المهدي ويتبرؤون من المقتدر ومن تبعه فأمر بالاحتفاظ عليهم واستفتى العلماء في المسجد المذكور فأفتوا بأنه مسجد ضرار يهدم كما هدم مسجد الضرار فأمر الخليفة بهدم المسجد المذكور كما أفتى بذلك العلماء فهدمه نازوك صاحب الشرطة وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيه جماعة من الموتى .(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وقال ابن عطية في تفسيره : روى أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة يرمى فيه الأقذار والقمامات قال : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت : ) لا تقم فيه أبداً ( كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وقال صاحب عيون التفاسير : كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض غير وجه الله أو بمال غير طيب فهو لا حق بمسجد الضرار ، وذكر نحو ذلك الكواشي في تفسيره وهو من الشافعية . والشهاب الأياسلوغي في تفسيره وهو من الحنفية ، وقال القرطبي في تفسيره ما نصه قال علماؤنا : لا يجوز أن يبني مسجداً إلى جنب مسجد ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا يتضرر المسجد الأول فيبقى شاغراً إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ ، وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان ويجب منع الثاني ومن صلى الجمعة فيه لم تجزئه وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلّم مسجد الضرار وهدمه .
[ قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضرار ] قلنا قال علماؤنا : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر فما ظنك بسواه ؟ بل هو أحرى أن يزال ويهدم ، هذا كله كلام القرطبي . وقال ابن فرحون في طبقات المالكية في ترجمة الحارث بن مسكين أحد أئمة المالكية قاضي مصر : كان عدلاً في قضائه محمود السيرة ، قال محمد بن عبد الحكم : قال ابن أبي دؤاد : لقد قام حارسكم مقام الأنبياء وقد هدم مسجداً كان بناه خرساني بين القبور بناحية القطب في الصحراء وكان يجتمع فيه للقراءة والقصص والتعبير ، قال ابن فرحون : وبمثل هذا أفتى يحي بن عمر في كل مسجد يبنى نائياً عن القرية حيث لا يصلي فيه أهل القرية وإنما يصلي فيه من ينتابه ، وبذلك أفتى في مسجد السبت بالقيروان ، وبمثله أفتى أبو عمران في المسجد الذي بني بجبل فاس . وقال ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : التعزيز لا يختص بفعل معين ولا قول معين فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالهجر . وأمر عمر بن الخطاب بهجر صبيغ الذي كان يسأل عن مشكلات القرآن فكان لا يكلمه أحد . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها ، ومن ذلك إباحته سلب الصائد في حرم المدينة لمن وجده ، وأمره عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين . وأمره يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر . وهدمه لمسجد الضرار . وأمره بتحريق متاع الغال . وبقطع نخل اليهود وتحريقها ، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلّم بلغه أن ناساً من المنافقين يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت ففعل ، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب أمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص لما بلغه أنه احتجب عن الخروج للحكم بين الناس . وأمر أيضاً بتحريق حانوت رويشد الثقفي الذي كان يبيع الخمر وقال له : أنت فويسق ولست برويشد ، ومن ذلك أنه أراق اللبن المغشوش ، وغير ذلك مما يكثر تعداده ، قال : وهذه قضايا صحيحة معروفة .(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
وقال الإمام شمس الدين بن القيم الحنبلي : في كتاب الطرق الحكمية قد منع النبي صلى الله عليه وسلّم الغال من الغنيمة سهمه وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده ، ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية ، وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة ، وأمر بكسر دنان الخمر وبكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام وبتحريق الثوبين المعصفرين ، وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده من ذلك ما هو معروف مشهور ، فحرق عمر بن الخطاب حانوت الخمار بما فيه ، وحرق قرية يباع فيها الخمر ، وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية .
وسئل أستاذنا الإمام كمال الدين بن الهمام الحنفي عن رجل يجمع في بيته جماعة على الفسق فأجاب بما نصه قال الفقهاء : رجل أظهر الفسق في داره ينبغي أن يتقدم إليه أبداً للعذر فإن كف لم يتعرض له وإن لم يكف فالإمام مخير إن شاء سجنه وإن شاء ضربه أسواطاً وإن شاء أزعجه عن داره ، وقد بالغ بعض أشياخنا حيث أمر بتخريب دار الفاسق انتهى .
وقال ابن فرحون : صرح الحنفية بقتل من لا يزول فساده إلا بالقتل وذكروا ذلك في اللوطي إذا أكثر من ذلك يقتل تعزيزاً . وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي أن نور الدين الشهيد لما فتح المدرسة الكبيرة بحلب استدعى البرهان البلخي إمام الحنفية في زمانه فألقى فيها الدرس وكان الأذان بحلب على قاعدة الشيعة يزاد فيه حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر ، فلما سمع البلخي ذلك أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم : مروا المؤذنين يؤذنوا الأذان المشروع ومن امتنع منهم ألقوه من فوق المنارة على رأسه ففعلوا فلم يعد أحد يؤذن على ذلك .
وقال ابن كثير في سنة تسع وسبعمائة : برزت المراسيم السلطانية المظفرية بيبرس إلى نواب البلاد الساحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ففعل ذلك وفرح المسلمون فرحاً كثيراً ولله الحمد .
وقال الذهبي في العبر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة : خرب البازار المعد للفاحشة ببغداد من أوله إلى آخره وما يعلم ما غرم على بنائه إلا الله تعالى من عظمه ولله الحمد ، وقال غيره في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة خرب آل ملك نائب السلطنة خزانة النبوذ وأراق خمورها وكانت دار فسق وفجور ، وقال الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة : شدد منجك نائب الشام على أهل اللهو وأمر بقطع الأشجار الصفصاف التي بين النهرين وبتحريق المكان الذي بالسوق الأعلى وأزال المنكرات منه ومن الذي فوق الجهة وهدم الأبنية والحوانيت التي هناك .
قلت : : وما زال هذا دأب الخلفاء ، والملوك سلفاً وخلفاً من عهد الصحابة وهلم جراً والعلماء يفتونهم بذلك من غير نكير ، ومن طالع تواريخ الأمة وقف على ذلك وعلمه علم اليقين وقد قلت في هذه الواقعة :
يقول ربع الفسق ما مسلم
مما له أرصدت يرضاني(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
ولا ترى في الناس ذا مسكة
إلا يرى في الوزن نقصاني
وإن يزني أحد راجحاً
فالجاهل اللوطي والزاني
وقلت إن لم يخل مما به
فالشرع فيه هدم ذا الجاني
واستفتى الباني فأفتى بأنه
من قال هذا آثم جاني
يا أيها الناس ألا فاسمعوا
مقال حق ليس بالواني
من ذا الذي أولى بتأثيمه
عند محب كان أوشاني
أهادم ربعاً بنوه لكي
يعصي به الله أم الباني
باب القراض
مسألة : لو اختلف المالك والعامل فقال المالك دفعت لك المال قراضاً وقال الآخر بل قرضاً من المصدق ؟
الجواب : هذا الفرع لم أره منقولاً عندنا وإنما المنقول عكسه وهو في الروضة محكي فيه وجهان بلا ترجيح ، ورجح فيما إذا كان المال باقياً تصديق المالك وفيما إذا تلف تصديق العامل ، وأما هذا الفرغ فالذي يظهر فيه تصديق العامل لأن معه يداً وبلغني أنه منقول عند المالكية كذلك .
باب المزارعة
مسألة : رجل له أرض اتفق مع شخص عنده قمح على أنهما يزرعان الأرض وأن صاحب القمح يبذر عن صاحب الأرض ما يخصه من القمح وأن ما يخص صاحب القمح يؤدي هو خراجه وإن صاحب الأرض يحرث ما يخصه وما يخص شريكه في مقابلة أنه يصبر عليه بما يخصه من القمح ثم طلع الزرع فما الذي يستحقه كل منهما ؟
الجواب : يختص صاحب القمح بجميع الزرع لأن القمح الذي بذره كله ملكه ولم يقع فيه قرض صحيح وعليه أجرة المثل للأرض ولصاحب الأرض أيضاً أجرة المثل لعمله وحرثه لأنه عمل بإجارة فاسدة .
باب الإجارة
مسألة : رجل أجر أرضاً عشر سنين ثم باعها لآخر بعد ثمان سنين وجعل له أجرة السنتين فامتنع المستأجر من زرعها وقال للمشتري : ازرع أنت أرضك فهل له ذلك ؟
الجواب : إذا باع الأرض المؤجرة فالإجارة لازمة باقية على حكمها وليس للمستأجر الامتناع ، ومعناه أن عليه بقية الأجرة زرعها أم لا ، لأن الأجرة تلزم وإن لم يستوف المنفعة ولا يجبر على الزرع نفسه ، لكن الصورة المسؤول عنها فيها جعل الأجرة الباقية للمشتري(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
فإن ذكر ذلك في العقد على وجه أنه شرط في البيع بطل البيع .
مسألة : فيمن استأجر شخصاً لقلع سن وجعه فحضر لذلك فقال المستأجر سني طيبة وامتنع من قلعها فهل تنفسخ الإجارة أم لا ؟
الجواب : أطلق الجمهور أن الإجارة تنفسخ .
مسألة : رجل استأجر بيتاً مرخماً على أن يسكنه خاصة وأقبض الأجرة فوضع فيه كتاباً واحترق البيت بسببه فهل يضمن البيت وإذا ضمنه فهل يلزمه قيمته أو بناء مثله ؟ وهل تنفسخ الإجارة وهل له الرجوع بأجرة بقية المدة ؟ .
الجواب : إن كان حصول الحريق في البيت بفعل منسوب إليه من نار أوقدها وجرت إلى ذلك فهو ضامن للبيت مطلقاً ، وإن كان غير منسوب إليه فضمانه على من نسب إليه الحريق ، وهل يكون المستأجر طريقاً في الضمان ؟ ينظر فإن كان استأجر للانتفاع مطلقاً فلا أو للسكني خاصة فهو متعد بوضع الكتان فيصير بذلك غاضباً كما ذكره الأصحاب فيما إذا اكترى ليسكن فأسكن حداداً أو قصاراً ، وإذا صار غاصباً صار طريقاً في الضمان والقرار على من نسب إليه الحريق ، وعلى كل حال تنفسخ الإجارة بما حصل ويستحق بقية أجرة المدة فيرجع بها أو يحاسب بها مما يلزمه ، وأما هل تلزمه قيمة الدار أو بناء مثلها ؟ فالذي أفتى به النووي ونقله عن نص الشافعي أنه يلزمه بناء مثلها ولكن فيما إذا هدم جداراً ، ولا يظهر بينه وبين ما نحن فيه فرق ، وأما الأسنوي فصحح وجوب القيمة لأن الجدار متقوم وأول النص فالعمدة على ما أفتى به النووي وقصة جريح في الصحيح تؤيده .
مسألة : استأجر إنسان عيناً مدة ولزمته الأجرة باستيفاء المنفعة فادعى أنه معسر وكان أقر عند الإجارة أنه مليء وقادر فهل يقبل قوله في دعوى الإعسار بعد إقراره ؟ .
الجواب : لا يقبل قوله إلا ببينة تشهد أنه كان قادراً وتلف ما له .
مسألة : رجل استأجر من رجل أرضاً إقطاعية ليزرعها مدة ثلاث سنين فمات المؤجر بعد سنتين وخلف ولداً فهل تنفسخ الإجارة أو تبقى لولد المؤجر ؟ .
الجواب : الأرض الإقطاعية في إجارتها كلام للعلماء حتى قال المحققون : أنها لا تصح إجارتها لأنها بصدد أن ينزعها الإمام من المقطع ويقطعها غيره ، لكن الذي نختاره صحة إجارتها ومع ذلك لا نقول أنها كالأرض المملوكة حتى أنه إذا مات المؤجر تبقى الإجارة بل نقول بانفساخ الإجارة بموته ، كما إذا مات البطن الأول وقد أجر الوقف بل أولى لأن البطن الثاني ينتقل إليه الوقف قطعاً والإقطاع لا يتحقق انتقاله إلى الولد فقد يقطعه السلطان إياه وقد لا يقطعه .
مسألة : في رجل سافر لبلاد السلطان في طلب مال الذخيرة فأعطوه حق طريقه فأخذ صحبته ثلاثة مماليك في خدمته فأعطى كل واحد منهم عشرة أشرفية فهل له أن يدعي على أحدهم بالمبلغ الذي أعطاه في نظير سفره معه وهل يلزمه أن يعطي من أخذ معه تسفيره ؟ .(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
الجواب : يلزمه أن يعطي الذي أخذه معه تسفيره بشرط أن يشرط عليه ذلك أولاً ، فإن سافر معه ولم يذكر له أجرة فلا شيء له ، ومتى أعطاه شيئاً وقد شرطه له أولاً أو لم يشرطه ولكن تبرع به فلا رجوع له به .
باب الجعالة
مسألة : شخص جج حجة نافلة فقال له آخر : يعني ثواب حجتك بكذا فقال له بعتك فهل ذلك صحيح وينتقل الثواب إليه ؟ وإذا قال شخص لآخر : أقرأ لي كل يوم ما تيسر من القرآن واجعل ثوابه لي وجعل له على ذلك مالاً معلوماً ففعل فهل يكون ثواب القراءة للمجعول له أو مثل الثواب أم لا ؟ وإذا انتقل الثواب له فهل يبقى للقارىء ثواب أم لا ؟ وكذا إذا لم يقرأ له بجعالة ولكن قرأ له تبرعاً من نفسه وكذا سائر العبادات ؟ .
الجواب : أما مسألة الحج وسائر العبادات فباطلة عند الفقهاء ، وأما مسألة القراءة فجائزة إذا شرط الدعاء بعدها والمال الذي يأخذه من باب الجعالة وهي جعالة على الدعاء لا على القراءة ، فإن ثواب القراءة للقارىء ولا يمكن نقله للمدعو له وإنما يقال له مثل ثوابه فيدعو بذلك ويحصل له ان استحباب الله الدعاء ، وكذا حكم القارىء بلا جعالة في الدعاء .
مسألة : فيمن يقرأ ختمات من القرآن بأجرة هل يحل له ذلك ؟ وهل يكون ما يأخذه من الأجرة من باب التكسب أو الصدقة ؟ .
الجواب : نعم يحل له أخذ المال على القراءة والدعاء بعدها وليس ذلك من باب الأجرة ولا الصدقة بل من باب الجعالة ، فإن القراءة لا يجوز الاستئجار عليها لأن منفعتها لا تعود للمستأجر لما تقرر في مذهبنا من أن ثواب القراءة للقارىء لا للمقروء له ، وتجوز الجعالة عليها إن شرط الدعاء بعدها وإلا فلا وتكون الجعالة على الدعاء لا على القراءة . هذا مقتضى قواعد الفقه وقرره لنا أشياخنا ، وفي شرح المهذب أنه لا يجوز الاستئجار لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وتجوز الجعالة إن كانت على الدعاء عند زيارة قبره لأن الدعاء تدخله النيابة ولا يضر الجهل بنفس الدعاء وإن كانت على مجرد الوقوف عنده ومشاهدته فلا لأنه لا تدخله النيابة انتهى ، ومسألة القراءة نظيره .
مسألة :
ماذا جوابكم لا زال فضلكم
يعم سائلكم في كل ما سألا
في قارىء يقرأ القرآن ليس له
قصد سوى أنه في الوقف قد حصلا
لأخذ معلومه في الوقف لازمة
فصار مثل أجير لازم العملا
فهل يثاب على هذي القراءة أو
ثوابه في حضور يشبه العملا ؟
فقد تنازع فيها قائلان فمن
أصاب وجه صواب نلتم نزلا
ولا برحتم نجوماً والزمان بكم
نراه ومبتهج والخير قد حصلا(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
الجواب :
الحمد لله حمداً يبلغ الأملا
ثم الصلاة على المختار منتحلا
لا يطلق القول في هذا بأن له
أجراً ولا بانتفاء الأجر عنه خلا
بل المدار على ما كان نيته
بالقلب وهو على النيات قد حملا
فإن نوى قربة لله كان له
أجرو إن ينو محض الجعل عنه فلا
وابن السيوطي قد خط الجواب لكي
يرى لدى الحشر في فردوسه النزلا
باب إحياء الموات
مسألة : رجل بيده رزقة اشتراها ثم مات فوضع شخص يده عليها بتوقيع سلطاني فهل للورثة منازعته ؟ .
الجواب : إن كانت الرزقة وصلت إلى البائع الأول بطريق شرعي بأن أقطعه السلطان إياها وهي أرض موات فإنه يملكها ويصح منه بيعها ويملكها المشتري منه وإذا مات فهي لورثته ، ولا يجوز لأحد وضع اليد عليها لا بأمر سلطاني ولا بغيره ، وإن كان السلطان أقطعه إياها وهي غير موات كما هو الغالب الآن فإن المقطع لا يملكها بل ينتفع بها بحسب ما يقرها السلطان في يده وللسلطان انتزاعها متى شاء ، ولا يجوز للقطع بيعها فإن باع ففاسد وإذا أعطاها السلطان لأحد نفذ ولا يطالب .
مسألة : ما شرع فيه في هذه الأيام من هدم الأبنية المحدثة في الشوارع وحريم المساجد هل يجوز أم لا ؟ .
الجواب : نعم هو جائز بل واجب .
البارع في إقطاع الشارع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، عرض علي ورقة صورتها : فرع يجوز للإمام إقطاع الشارع على الأصح فيصير المقطع به كالمتحجر ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء ، وفي وجه غريب يجوز للإمام تملك ما فضل عن حاجة الطريق ، ومراد قائله أن للإمام التملك للمسلمين لا لنفسه . وذكر الرافعي في الجنايات أنه تقدم في الإحياء أن الأكثرين جوزوا الإقطاع وأن المقطع يبني فيه ويتملك وهذا ذهول فإن الأصح في الصلح منع البناء وهنا منع التملك انتهى .
وأقول : هذا الفرع منقول برمته من التكملة للزركشي والكلام عليه من وجهين : الوجه الأول في ذكر حكم المسألة إجمالاً وحكمها على ما هو المفهوم من المنقول بعد مراجعة ما تيسر من كتب المذهب كالروضة ، والشرح ، وتهذيب البغوي ، وكافي الخوارزمي ، ونهاية(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
إمام الحرمين ، وبسيط الغزالي ، ووسيطه ، والأحكام السلطانية للماوردي ، والتلخيص لابن القاص ، والبلغة للجرجاني ، وتعليق القاضي الحسين ، وغير ذلك ، ومن كتب المتأخرين الكفاية لابن الرفعة ، وشرح المنهاج للسبكي ، والمهمات ، والخادم أن الإمام إذا أقطع أحداً موضعاً من الشارع كان المقطع أولى به من غيره للارتفاق خاصة دون التملك والبناء ، وأنه لو جاء أحد بعد صدور الإقطاع إلى هذا الموضع فجلس فيه أزعج منه ولا يقر ، ولو كان المقطع غائباً عنه وليس فيه أمتعته ، فإن قلت مقتضى قوله كالمتحجر أنه لو جاء أحد وتعدى وجلس لم يمنع لأن المشبه به وهو المتحجر قالوا أنه يصير أحق من غيره ومع ذلك لو تعدى غيره وبنى لم يكن عليه سوى الإثم ويملك البقعة بالإحياء ، ومقتضى ذلك أن المتعدي هنا ليس عليه سوى الإثم ولا يزعج ، قلت : ليس الأمر كذلك كما سنبينه مفصلاً .
الوجه الثاني في الكلام على ذلك من حيث التفصيل فنقول في هذا الفرع المسؤل عنه أمور : أحدها أن قوله كالمتحجر زيادة زادها الزركشي وليست في كلام الشيخين ولا غيرهما كما سنبين ذلك عند سياق عباراتهم ، وحينئذ فلا يرد أصلاً السؤال المتقدم ، وعلى تقدير توجهه فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : الوجه الأول أن القاعدة المقررة أنه لا يلزم استواء المشبه والمشبه به من كل وجه فيكون التشبيه في الأحقية فقط لا في القدر الزائد أيضاً من حصول متعد بعد ثبوت الأحقية وهذا واضح . الثاني : الفرق بين الصورتين فإن مسألة المتحجر البقعة فيها تقبل التملك فإذا وجد الإحياء الذي هو أقوى سبباً عمل بمقتضاه وقدم على التحجر الذي هو أضعف وذلك من باب نسخ السبب الضعيف لوجود أقوى منه ، ونظيره إدخال الحج على العمرة ، وطروء الحدث الأكبر على الأصغر ، وتقديم المباشرة على السبب في باب الجنايات . وأما مسألة الشارع فالبقعة فيها لا تقبل التملك فلم يوجد سبب أقوى يقدم على هذا السبب فتمسكنا بالسبب السابق الذي هو إقطاع الإمام وألغى كل ما طرأ بعده . الثالث : أن قوله عقب هذا التشبيه ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء يجري مجرى القيد لمحل التشبيه فيكون في معنى قوله أنه كالمتحجر إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتملكه فتكون هذه الجملة مخرجة لتلك الصورة المذكورة في المتحجر وهو تعدى شخص عليه بالإحياء فلا تأتي هنا ويكون إخراجها من منطوق الكلام لا من مفهومه ، ولهذا عبر بقوله لأحد الدال على العموم ولم يقل ولا يجوز له تملكه أي للمقطع ليفيد أن المقطع وغيره في ذلك سواء ، فبكل من هذه الأوجه الثلاثة عرف أن العبارة لا تعطى ذلك المقتضى المذكور ، ووجه رابع وهو أنه شبهه بالمتحجر من حيث أنه لم يملك البقعة بالتحجر وكذلك هو لا يملك البقعة بالإقطاع ، وعلى هذا فقوله بعده ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء جار مجرى التفسير لا مجرى التقييد ، الأمر الثاني أن قوله وذكر الرافعي في الجنايات إلى قوله وهذا ذهول سبقه إليه ابن الرفعة في الكفاية ثم السبكي في شرح المنهاج ثم الأسنوي في المهمات فاعتمده الزركشي هنا وحاول في الخادم التأويل والجمع بين كلامي الرافعي ونحن نسوق ما تيسر من عبارات الأصحاب في المسألة ، قال في الروضة : وهل لإقطاع الإمام فيه(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
مدخل ؟ وجهان أصحهما عند الجمهور نعم وهو المنصوص لأن له فيه نظراً ولهذا يزعج من أضر جلوسه ، وأما تملك شيء من ذلك فلا سبيل إليه بحال ، وحكى وجه في الرقم للعبادي وفي شرح مختصر الجويني لأبي طاهر أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق والمعروف الأول هذه عبارة الروضة ، فانظر كيف لم يذكر فيها قوله كالمتحجر . وقال البغوي في التهذيب : القطائع قسمان أحدهما ما يملك وهو ما مضى من إحياء الموات . والثاني إقطاع إرفاق لا تملك فيه كمقاعد الأسواق والطرق الواسعة ، ويجوز للسلطان إقطاعه لكنه لا يملكه بل يكون أولى به ، ويمنع أن يبني دكة لأنه يضيق الطريق ويضر بالضرير وبالبصير بالليل ، وإذا أقطع السلطان موضعاً كان أحق به سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل لأن للإمام النظر والاجتهاد ، وإذا أقطعه ثبت يده عليه ، وقال الخوارزمي في الكافي : القطائع ضربان إقطاع إرفاق وإقطاع تملك ، أما إقطاع الإرفاق وهو أن يقطع الإمام أو نائبه من إنسان موضعاً من مقاعد الأسواق والطريق الواسعة ليجلس فيه للبيع والشراء فيجوز إذا كان لا يضر بالمارة هذا هو المذهب ، ولو أقطعه السلطان موضعاً منه لا يملكه ويكون أولى به نقل متاعه إليه أو لم ينقل ولو قام عنه أو غاب عنه لا ينقطع حقه عنه حتى لو عاد كان أولى به ، ولو قعد فيه بالسبق من غير إقطاع كان أولى به ما دام هو فيه ، وكذا لو قام وترك فيه شيئاً من متاعه فليس لغيره إزعاجه منه ، ولو لم يترك فيه شيئاً فسيق إليه غيره كان الثاني أحق به ، والفرق بينهما أن الاستحقاق تم بالإقطاع وهو باق بعد الذهاب والاستحقاق ههنا بكونه فيه وقد زال هذا هو المذهب ، انتهى كلام الخوارزمي بحروفه .
فانظر كيف صرح بأن المقطع أحق به ولو قام أو غاب ولم يكن له فيه متاع ، وأنه لو أراد أحد الجلوس فيه في غيبته أزعج بخلاف من قعد بالسبق من غير إقطاع إذا قام ولم يترك متاعه كان لغيره الجلوس فيه ، ثم فرق بين المسألتين ببقاء الاستحقاق بعد الذهاب بالإقطاع وهذا ما قدمنا ذكره في أول الكلام على المسألة ، وقال الماوردي في الأحكام السلطانية : وأما القسم الثالث وهو ما اختص بأفنية الشوارع والطرقات فهو موقوف على نظر السلطان ، وفي حكم نظره وجهان : أحدهما أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار والإصلاح بينهم عند التشاجر ، وليس له أن يقيم جالساً ولا أن يقدم مؤخراً ويكون السابق إلى المكان أحق به من المسبوق . والوجه الثاني أن نظره فيه نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه وتقديم من يقدمه كما يجتهد في أموال بيت المال وإقطاع الموات ، ولا يجعل السابق أحق على هذا الوجه ، وليس له على الوجهين أن يأخذ منهم على الجلوس أجراً ، وإذا تاركهم على التراضي كان السابق إلى المكان أحق من المسبوق انتهى .
والوجه الثاني هو الذي ذكر في الروضة أنه الأصح فانظر كيف صرح الماوردي بأن السابق لا يجعل أحق على هذا الوجه تقديماً لإقطاع الإمام ، وقال السبكي في شرح المنهاج : وهل لإقطاع الإمام مدخل في الشوارع ؟ وجهان أصحهما نعم ورجحه الأكثرون(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
ونص عليه الشافعي لأن للإمام نظراً واجتهاداً في أن الجلوس في الموضع هل هو مضر أولا ؟ ولهذا يزعج من رأى جلوسه مضراً وإنما يزعجه الإمام وإذا كان لاجتهاده فيه مدخل فكذلك لإقطاعه ، والثاني وهو اختيار الجوري ، والقفال ورجحه الغزالي أنه لا مدخل للإقطاع في ذلك لأنها منتفع بها من غير عمل فاشبهت المعادن الظاهرة ولأنه لا مدخل للتمليك فيها فلا معنى للإقطاع بخلاف الموات ، قال الرافعي : وللنزاع فيه مجال في قوله لا مدخل للتمليك فيه لأن في الرقم للعبادي وفي شرح مختصر الجويني لابن طاهر رواية وجه أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق ، وزاد الرافعي فقال في كتاب الجنايات فيما إذا حفر بئراً في شارع بإذن الإمام أن الذي أورده أصحابنا الراقيون والروياني ، وصاحب التتمة لا ضمان ، وجوزوا أن يخصص الإمام قطعه من الشارع ببعض الناس فإن الخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع ؟ وبينا أن الأكثرين قالوا نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه هذا كلامه في الجنايات ، قال السبكي : ولم يتقدم منه في إحياء الموات إلا ما ذكرناه فقوله بينا أن الأكثرين قالوا نعم يريد به تجويز الإقطاع وهو صحيح ، وقوله : وجوزوا للمقطع أن يبني فيه يمكن تمشيته على قول من يقول بجواز بناء دكة في الشارع ، وقد تقدم في الصلح أن الأصح خلافه ، وقوله ويتملكه لا يمكن تمشيته إلا على ما حكاه هنا عن الرقم وشرح مختصر الجويني وهو وجه غريب منكر لا يكاد يعرف فلا يبني عليه ، قال : والظاهر أن الرافعي لما تكلم في الجنايات طال عهده بما ذكره في الصلح وفي إحياء الموات ولم يحرره ، قال ابن الرفعة : وكيف قدر فهو بعيد إلا إذا جهل السبب الذي صار به الشارع شارعاً وإذا جهل السبب ومنه ما يمتنع معه التملك جزماً ومنه ما لا يكون كذلك فكيف يقدم على تمليكه ، وأيضاً فإن الشارع وإن اتسع في وقت قد يكون في وقت آخر بقدر الحاجة أو أضيق وهو موضوع شارعاً لعموم الأوقات ، قال السبكي : وهذا الذي قاله ابن الرفعة صحيح ثم قال : وإذا جوزنا الإقطاع في ذلك فإنما معناه أن يصير المقطع أحق بالارتفاق به من غيره قال : وقد تكرر في كلام الشافعي والأصحاب أن الإقطاع قسمان : إقطاع إرفاق وهو هذا ، وإقطاع تمليك وهو ما تقدم في الموات ليتملك بالأحياء فالشارع وأن أطلق عليه اسم الموات فيما عدا المرور ونحوه لا يدخله الاحياء ولا الحمى ولا إقطاع التمليك ، ثم قال السبكي : فرع عن الأحكام السلطانية للماوردي إذا قلنا بدخول الإقطاع فلا يجعل السابق أحق ، قال : فإن أراه السابق بعد الإقطاع فصحيح لأن بالاقطاع صار المقطع أحق ، وأما إذا سبق واحد قبل الاقطاع فينبغي أن يمتنع الإقطاع لغيره ما دام حقه باقياً ولا يأتي فيه خلاف لقوله صلى الله عليه وسلّم : ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ) .
وحاصله أن السبق موجب للأحقية قطعاً بالحديث ، والإقطاع موجب للأحقية على الصحيح فإن تعارضا قدم الأقدم تاريخاً ، ولو فرضنا أنهما حصلا في وقت واحد فينبغي تقديم السبق لأنه ثابت بالنص وإنما لم نقدمه بعد الاقطاع لأنا نجعل الإقطاع سبقاً ، انتهى كلام السبكي .(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
فانظر كيف نقل عن الماوردي أن السابق مع الإقطاع لا حق له وحمله على السابق بعد صدور الاقطاع وقال إنه صحيح وعلله بأن بالاقطاع صار المقطع أحق وبأنا نجعل الاقطاع سبقاً وهو عين ما نقلناه في أول الكلام على المسألة .
الأمر الثالث في بقية ما يتعلق بكلام الرافعي قال في المهمات بعد سياق كلاميه : ولا شك في أن المذكور هناك يعني في الجنايات سهو فإنه أحال على المذكور هنا فأطلق القول من غير إمعان وقال في الخادم بعد أن ساق كلام الرافعي ، وكلام ابن الرفعة في الاعتراض عليه : الذي يظهر أنهما مسألتان إحداهما أن الإمام هل له أن يملك ذلك ابتداء ؟ والأصح المنع وهو المذكور هنا ، والثانية أنه إذا أقطعه الإمام ذلك فهل للمقطع أن يتملكه إذا بنى فيه والأصح نعم وهو المذكور في الجنايات قال : والحاصل أن هذا الإقطاع بمثابة إقطاع الموات إذا بنى فيه تملك وليس للإمام إن يملكه ابتداء ، قال : فإن قلت : يمنع من هذا حوالة الرافعي في الجنايات على المذكور هنا وهو لم يذكر هنا التملك بضم اللام وإنما ذكر التمليك قلت : قد ذكر هنا جواز الاقطاع ومن لازمه جواز التملك وقد صرح بهذا اللازم في الجنايات ، وأيضاً فلم يقل في الجنايات أنه يملكه بل يتملكه ومعناه أنه يتملكه بالاحياء للمسلمين ، قال : على أن الصواب المذكور هنا وفيما نقله هناك عن الأكثرين نظر ، أما قوله أنهم جوزوا فيه البناء فلا يتأتي فيه الإعلى تجويز بناء دكة في الشارع إذا لم يضر وهو وجه ، والأصح كما قاله في باب الصلح المنع وإن لم يضر ، وأما قوله إنهم جوزوا تملكه فلا يتأتى إلا على ما حكاه هنا عن الرقم وهو وجه غريب اه .
قلت : حط محط كلام الخادم على إبقاء الاعتراض على الرافعي والحكم عليه بالسهو فيما ذكره في الجنايات وهو معذور في ذلك ، فإنه حاول الجمع بينهما بالطريق التي ذكرها فوجدها لا تتمشى على الراجح فرجع إلى موافقة المعترضين ، وأقول : لا بأس بتأويل كلام الرافعي على وجه يمنع نسبة الذهول والسهو إليه ، وعبارته في الجنايات وإن حفر لمصلحة عامة ففيه الوجهان أو القولان ، والخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع وبينا أن الأكثرين قالوا : نعم وجوزوا للمقطع أن يبنى فيه ويتملكه انتهى ، فمحمل الإيراد هنا إجراء الكلام على أن قوله وجوزوا معطوف على قالوا فيكون منسوباً للأكثرين ، وعلى أن قوله : ويتملكه الضمير فيه راجع إلى الشارع كما هو راجع إليه في قوله أن يبنى فيه ، ويندفع الأول بأن يجعل قوله وجوزوا مستأنفاً لا معطوفاً على خبر أن فيكون إشارة إلى الوجه المذكور في الصلح أنه يجوز البناء في الطريق وهو وجه مشهور لا غريب وإن لم يكن هو المصحح ، والقصد بسياق ذلك هنا الإشارة إلى بناء الخلاف في مسألة حفر البئر على هذا الخلاف المذكور في إحياء الموات في إقطاع الإمام للشارع ، وعلى الخلاف المذكور في جواز البناء في الشارع ، ويوضح ما قلناه من الاستئناف وعدم العطف أن مسألة البناء ليست مذكورة في إحياء الموات وإنما هي مذكورة في باب الصلح ، فكيف يظن بالرافعي أنه يعزو إلى باب مسألتين وليس فيه إلا إحداهما ، فتعين أن(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
الذي عزاه إلى إحياء الموات إنما هو مسألة إقطاع الإمام فقط وهي التي حكى فيها هناك عن الأكثرين الجواز ، وتم الكلام عند قوله وبينا أن الأكثرين قالوا نعم ، ثم استأنف كلاماً آخر على طريق التذبيل مرشحاً لما ذكره فقال : وجوزوا أي طائفة من الأصحاب للمقطع أن يبنى فيه فيكون ذلك ترشيحاً لجواز حفر البئر في الشارع لمصلحة عامة الذي هو الأظهر ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الراجح في مسألة البناء الجواز لما أشرنا إليه من أن القصد بسياق ذالك بناء الخلاف على الخلاف والترشيح ، ولا يلزم من بناء الخلاف في مسألة على الخلاف في أخرى أن يستويا في الترجيح ، وأما اعتراضهم عليه في قوله ويتملكه بأن الوجه القائل بتملك الشارع المحكي في إحياء الموات غريب منكر لا يبنى عليه ولا يعول فضلاً عن أن يعزى إلى الأكثرين فإنه يندفع بأيسر شيء ، وذلك أن الاعتراض مبني على أن الضمير في يتملكه عائد إلى الشارع ونحن نقول ليس عائد إلى الشارع بل إلى البناء المفهوم من قوله يبني فيه ، فيكون ذلك ترشيحاً لجواز حفر البئر ، لأنه إذا قالت فرقة بجواز أن يبني في الشارع ما يكون ملكاً لبانيه فجواز حفر البئر التي لا تملك وتجعل لعموم المسلمين أولى ، هذا ما تيسر تأويل كلام الرافعي عليه وهو وإن كان فيه بعض تكلف فإنه أولى من نسبه الإمام الرافعي إلى السهو والذهول ، ومن النقول في المسألة عوداً وانعطافاً على ما تقدم قال ابن القاص في تلخيصه : القطائع فرقتان : أحدهما ما مضى ، والثاني إقطاع إرفاق لايملك مثل المقاعد في الأسواق هو أحق به ، وقال إمام الحرمين في النهاية الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يقطع المقاعد فله ذلك كما له أن يقطع الموات من محييه ، وقال الغزالي في البسيط : الإمام هل له أن يقطع مقاعد الأسواق ؟ الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن له ذلك كما في الموات ، وذكر في الوسيط نحوه ، وقال الجرجاني في البلغة : وأما الشوارع والرحاب الواسعة فلكل أحد أن يرتفق بالقعود فيها للبيع والشراء بحيث لا يضر بالمجتازين ومتى تركها كان غيره أحق بها ، وإن قام عنها ليعود إليها في غد كان أولى بها ، فإن أقطع الإمام مكاناً منها كان المقطع أحق بالارتفاق به من غيره ، وقال القاضي حسين في تعليقه : الإقطاع قسمان ، أحدهما إقطاع تمليك وهو الموات الذي يتملكه المقطع بإحداث أمر فيه ، والثاني إقطاع إرفاق وهو مثل الرباطات ومقاعد الأسواق فللإمام أن يقطعها من شاء ليجلس فيها للتجارة وغيرها إذا كان لا يتضرر المارة به إذ لاجتهاده مدخل في هذه المواضع بدليل أنه يمنع عنه من يجلس فيه على وجه يتضرر به الناس ، بخلاف المعادن الظاهرة فإنه لا مدخل لاجتهاد الإمام فيها إذ لا يسوغ له منع أحد عنها بحال ، ثم الحكم فيه أن المقطع أحق به ما دام يتردد ويرجع إليه ، فإن أعرض عنه وتركه فللغير أن يجلس فيه ، وإن اشتغل عنه بعذر أو غيره فحقه قائم فيه ليس للغير أن يجلس مكانه ، وإذا مرض أو غاب إن كانت المدة قصيرة لم يكن للغير أن يجلس مكانه ، وإن طالت المدة فللغير الجلوس مكانه ولا يملكه المقطع بحال إذ ليس فيه أثر عمارة ولا عين مال بخلاف الموات والمعادن الباطنة على أحد القولين انتهى .(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
فهذه عبارات مشاهير أئمة الأصحاب ليس فيها تعرض لتشبيهه بالمتحجر حتى يتوهم أن يأتي في المتعدى عليه على ما يأتي في المتعدي على المتحجر والله أعلم ، قال مؤلفه رضي الله عنه : ألفته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثمانمائة .
الجهر بمنع البروز على شاطىء النهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع في هذه الأيام أن رجلاً له بيت بالروضة على شاطىء النيل أصله قديم على سمت جدران بيوت الجيران الأصلية ثم أحدث فيه من بضع عشرة سنة بروز ذرعه إلى صوب البحر نحو عشرين ذراعاً بالذراع الشرعي بحيث خرج عن سمت بيوت الجيران القديمة ، ثم أراد في هذه الأيام أن يحدث فيه بروزاً ثانياً قدام ذلك البروز الأول متصلاً به فحفر له أساساً ذرعه إلى صوب البحر ستة عشر ذراعاً بالذراع الشرعي بحيث يصير مجموع البروزين ستة وثلاثين ذراعاً واقعة في حريم النهر وأرضه التي هي عند احتراق النيل مشرع له وطريق للواردين والمارين فقلت له : لايحل لك ذلك باتفاق المذاهب الأربعة فشنع علي في البلد أني أفتيت بهدم بيوت الروضة وهذا كذب محض وإشاعة باطلة ، فإن البيوت القديمة الباقية على أصولها لا يحل التعرض لها وإنما الكلام في البروز الحادث وما يراد إحداثه الآن ، وكثير من الناس يظنون أن مذهب الشافعي جواز البروز مطلقاً وليس كذلك بل شرطه أن لا يكون في شارع ولا في حريم نهر ولا نحو ذلك مما هو مبين في كتب الفقه ، وقد وقع في حياة شيوخنا أن أيبك الخاصكي بنى بيتاً بمصر تجاه جامع الريس وبرز فيه على شاطىء النهر فاستفتى الشيخ الإمام العلامة المحقق جلال الدين المحلى الشافعي فأفتى بمنعه من ذلك ، وعلله بأن شطوط الأنهار لا تملك ولا يجوز إحياؤها ولا البناء فيها ، وهذا هو منقول المذهب نص عليه إمامنا الإمام الشافعي رضي الله عنه . وسائر أصحابه ولا نعلم في ذلك خلافاً في المذهب بل ولا في بقية المذاهب الأربعة بل الأئمة الأربعة وأتباعهم متفقون على هذا الحكم . وهذه نبذة من نقول الأئمة في ذلك .
ذكر نقول مذهبنا
قال الرافعي في الشرح ، والنووي في الروضة : حريم المعمور لا يملك بالاحياء . والحريم هو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع كالطريق ومسيل الماء ونحوه ، ثم تكلما على حريم الدار وحريم القرية ثم قالا : والبئر المحفورة في الموات حريمها الموضع الذي يقف فيه النازح وموضع الدولاب ومتردد البهيمة ومصب الماء والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزرع من حوض ونحوه . والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه وكل ذلك غير محدود وإنما هو بحسب الحاجة كذا قاله الشافعي ، والاصحاب ،(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
وفي وجه حريم البئر قدر عمقها من كل جانب وبهذا يقاس حريم النهر هذا كلام الشيخين ، ثم قالا بعد ذلك : عمارة حافات هذه الأنهار من وظائف بيت المال ويجوز أن يبني عليها قنطرة لعبور الناس لأن ذلك من مصالح المسلمين انتهى .
وقال الشيخ تقي الدين السبكي في شرح المنهاج مانصه : فرع عن أبي حنيفة لا حريم للنهر . وعن أبي يوسف : ومحمد له حريم وهو مذهبنا قال : ورأيت في ديار مصر من الفقهاء من يستنكر العماير التي على حافات النيل ويقول إنه لا يجوز إحياؤها قال : وهذا قد عمت به البلوى في جميع البلدان ، قال : وإذا رأينا عمارة على حافة نهر لا نغيرها لاحتمال أنها وضعت بحق وإنما الكلام في الابتداء أو فيما عرف حاله ، ثم قال : ومما عظمت البلوى به اعتقاد بعض العوام أن أرض النهر ملك بيت المال وهذا أمر لا دليل عليه وإنما هو كالمعادن الظاهرة لا يجوز للإمام إقطاعها ولا تمليكها بل هو أعظم من المعادن الظاهرة في ذلك المعنى ، والمعادن الظاهرة إنما امتنع التملك والإقطاع فيها لشبهها بالماء وبإجماع المسلمين على المنع من إقطاع مشارع الماء لاحتياج جميع الناس إليها فكيف يباع ، قال : ولو فتح هذا الباب لأدى أن بعض الناس يشتري أنهار البلد كلها ويمنع بقية الخلق عنها ، فينبغي أن يشهر هذا الحكم ليحضر من يقدم عليه كائناً من كان ، ويحمل الأمر على أنها مبقاة على الإباحة كالموات وأن الخلق كلهم مشتركون فيها ، وتفارق الموات في أنها لاتملك بالإحياء ولا تباع ولا تقطع وليس للسلطان تصرف فيها بل هو وغيره فيها سواء ، فإن وجدنا نهراً صغيراً بيد قوم مخصوصين مستولين عليه دون غيرهم فهو ملكهم يتصرفون فيه بما شاؤوا ، وإن لم يكن ملكاً ولكن فيه مشارب لقوم مخصوصين فحقوقهم فيه على تلك المشارب يتصرفون فيها بالطريق الشرعي هذا كله كلام السبكي ، وهو تصريح بالنقل عن مذهبنا أن النهر له حريم لا يجوز تملكه ولا إحياؤه ولا البناء فيه ولا بيعه ولا إقطاعه ، وقال في فتاويه : الأنهار ومجاريها العامة ليست مملوكة بل هي إما مباحة لا يجوز لأحد تملكها وإما وقف على جميع المسلمين ، ولا شك إن الأنهار الكبار كالنيل والفرات مباحة كما صرح به الفقهاء في كتبهم ، ولا يجوز تملك شيء منها بالاحياء لا بالبيع من بيت المال ولا بغيره ، وكذلك حافاتها التي عموم الناس إلى الارتفاق بها لأجلها والأنهار الصغيرة التي حفرها قوم مخصوصون معروفون مملوكة لهم كسائر الأملاك المشتركة انتهى بحروفه ، وهو تصريح بالنقل عن الفقهاء إن حافات النيل لا يجوز تملكها ولا إحياؤها .
وقال في شرح المنهاج : فرع شخص أراد أن يغرس على حريمه على ماء جار شجرة جاز وإن كان النهر مشتركاً لأنه لا يضر بهم كما يتخذ على باب داره مشرعاً ، وفي فتاوى القفال رجل له دار في موضع ويجري نهر على باب داره فأراد أن يغرس شجرة على جانب النهر بحذاء داره لم يجز فقيل له هذا كما لو بنى دكة في الشارع فقال ليس كذلك انتهى .
فإذا منع القفال من غرس شجرة فما ظنك بالبناء ؟ وقال الزركشي في شرح المنهاج : حافات النيل والفرات لا يجوز تملك شيء منها بالاحياء ولا بالابتياع من بيت المال ولا(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
غيره قال : وقد عمت البلوى بالأبنية على حافات النيل كما عمت بالقرافة مع أنها مسبلة ، وذكر الدميري في شرح المنهاج نحو ذلك ، وقد راجعت نص الشافعي فوجدته نص في مختصر المزني وفي الأم على أن النهر والماء الظاهر لا يملكه أحد من الناس ولا يصح لأحد أن يقطعه بحال والناس فيه شرع والمسلمون كلهم شركاء في ذلك هذا نصه في الكتابين ، زاد في الأم : ولو أحدث على شيء من هذا بناء قيل له حول بناءك ولا قيمة له فيما أحدث بتحويله .
وقال ابن الرفعة في الكفاية : الحرائم هي المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع بها سميت بذلك لأنها يحرم التعرض لها بنوع عدوان وذلك يختلف باختلاف المحيا ، وذكر نحو ما تقدم عن الرافعي ، والنووي ثم قال : وحمل الأصحاب قوله صلى الله عليه وسلّم : ( حريم البئر أربعون ذراعاً ) على آبار الحجاز فإنها تكون عميقة تحتاج في المواضع التي يمر فيها الثور إلى ذلك المقدار وحريم النهر ملقى النهر للطين وما يخرج منه من التقن وهو رسابة الماء وقال البغوي في التهذيب : من حريم النهر ملقى الطين وما يخرج منه . وقال الخوارزمي في الكافي : حريم النهر ما يلقى فيه الطين عند الحفر ، وقال السبكي في شرح المنهاج في سنن البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( حريم البئر أربعون ذراعاً من جوانبها كلها ) وعن ابن المسيب حريم البئر البدئي خمس وعشرون ذراعاً من نواحيها كلها ، وحريم العادي خمسون ذراعاً من نواحيها كلها ، وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها ، قال الزهري : وسمعت الناس يقولون : حريم العيون خمسمائة ذراع . وعن أبي هريرة مرفوعاً مثل قول ابن المسيب . وعن ابن عباس : حريم البئر خمسون ذراعاً وحريم العين مائتا ذراع ، ثم قال السبكي ، والشافعي : لم ير التحديد وحمل اختلاف الروايات على القدر المحتاج إليه وبهذا يقاس حريم النهر قال : ومن حريم النهر ملقى طينه وما يخرج منه مما يحتاج إلى إلقائه عند حفره ، قال : وفي كلام الأصحاب وملقى تقنه وهو ما ينحى مع الماء وسمي الرسابة ، وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً عطناً لماشيته ) وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( حريم البئر مد رشائها ) وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( حريم النخلة مدجر يدها ) قال القاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ : إذا أحيا أرضاً ليغرس فيها وغرس فليس لغيره أن يغرس بجواره بحيث تلتف أغصان الغراس وبحيث تلتقي عروقها ، وقال الماوردي : حريم الأرض المحياة للزراعة طرقها ومفيض مائها وبيدر زرعها وما لا يستغني عنه من مرافقها . انتهى ما في شرح المنهاج للسبكي في ضبط الحريم . وقال الغزي في أدب القضاء : مسألة : لايجوز لأحد أن يبني سكراً في النهر العام الكبير الذي ليس بمملوك لأن النهر العام كالطريق المسلوك العام ، ولو أراد أن يضع صخرة في طريق واسع منع منه .
وفي فتاوي ابن الصلاح : مسألة إذا أراد رجل أن يبني عمارة سكر في النهر الكبير الذي ليس بمملوك ثم يبني عليه طاحونة وناعورة ولا يضر بمن هو فوقه ولا بمن هو أسفل(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
منه هل له ذلك ويكون ذلك إحياء له ويكون بمنزلة الموات الذي يملك بالإحياء حتى يملك قرار النهر الذي يبني عليه العمارات ويملك حريمه أم لا ؟ أجاب : ليس له ذلك فإنه لا يخلو عن ضرر فإنه يمنع من أن ينحدر في مكانه بسباحة أو سفينة أو نحو ذلك ، وطريق الماء العام كطريق السلوك العام ، ولو أراد مريد أن يضع صخرة في طريق شارع واسع منع منه وهذا شر من ذلك من وجه ولو قدر خلو ذلك عن الضرر لم يجز ملك ذلك الموضع كما لا يملك شيئاً من الطرق الواسعة بشيء من الاختصاصات الجائزة .
ذكر نقول المالكية
قال ابن الحاج في المدخل : شاطىء النهر لا يجوز لأحد البناء فيه للسكنى ولا لغيرها إلا القناطر المحتاج إليها لقوله عليه الصلاة والسلام : ( اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل ) رواه أبو داود في سننه ، وما ذاك إلا لأنها مرافق للمسلمين ، فمن جاء يرتفق بها يجد هناك نجاسة فيقول : لعن الله من فعل هذا والنبي صلى الله عليه وسلّم رؤوف رحيم فنهاهم أن يفعلوا ما يلعنون بسببه هذا ، وهو مما يذهب بالشمس والريح وغيرهما فكيف بالبناء على النهر المتخذ للدوام غالباً ، وقد قال ابن هبيرة في كتاب اتفاق الأئمة الأربعة واختلافهم : اتفقوا على أن الطريق لا يجوز تضييقها ، والبناء على النهر أكثر ضرراً وأشد من تضييق الطريق لأن الطريق يمكن المرور فيها مع تضييقها بخلاف النهر فمن بنى عليه كان غاصباً له لأنه موردة للمسلمين ، فإذا جاء أحد يرد الماء فيحتاجٍ أن يدور من ناحية بعيدة حتى يصل إليه وليس عليه ذلك فكان من أحوجه إلى ذلك غاصباً وقد قال عليه السلام : ( من أخذ شبراً من أرض ظلماً طوقه يوم القيامة إلى سبع أرضين ) رواه البخاري ، ومسلم ، قال : وقد تقدم فيمن أرسل سجادة إلى المسجد قبل إتيانه فوضعت هناك ليحصل بها المكان أو كان فيها زيادة على ما يحتاج إليه أن ذلك كله غصب ، هذا وهو مما لا يدوم فكيف بالبناء على النهر ، قال : وقد قال علماؤنا أن حريم العيون خمسمائة ذراع وحريم الأنهر ألف ذراع ، واختلفوا في حريم البئر فقيل خمس وعشرون ذراعاً وقيل خمسون وقيل ثلثمائة وقيل خمسمائة نقله الشيخ أبو الحسن اللخمي في تبصرته ، وابن يونس في كتابه ولم يحد مالك في ذلك حداً إلا ما يضر بالناس ، فعلى هذا ولو كان أكثر من ألف ذراع إذا أضربهم يمنع ثم أفضى الأمر من أجل كثرة البناء عليه إلى أن أمتنع على المسلمين أخذ الماء منه للشرب وغيره إلا مواضع قليلة ، ثم جرت هذه المفسدة إلى أن وصلت إلى عماد الدين وأصله وهو فساد الصلاة لأنه إذا صلى أحد في هذه الدار وقع فيها خلاف للعلماء في الصحة والفساد وهذا مشهور معروف ، ثم إن البناء على البحر لا بد وأن يفصل شيء من آلة العمارة غالباً أو ينهدم هناك شيء من الدور فيقع ذلك في البحر فتجيء المراكب وليس عندهم خبر فتمر على ذلك فتكسرها غالباً ، سيما إذا كانت الحجارة مبنية بارزة مع الزرابي الخارجة عن البيوت في داخل البحر ، ثم مع هذه الأذية يمنعون أصحاب المراكب من أن يلتصقوا إليها والموضع مباح ليس لأحد فيه اختصاص ، ثم أن المركب قد تأتي في وقت(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
هول البحر مع ثقلها بالوسق فيريد صاحبها أن يرسي في الموضع القريب منه ليسلم من آفات البحر فلا يجد لذلك سبيلاً من كثرة الدور التي هناك فيمضي لسبيله حتى يجاوز الدور فقد يكون ذلك سبباً لغرقه وذلك كله في ذمة الباني هناك ، قال : وقد نقل ابن رشد أن حكم إحياء الموات يختلف باختلاف مواضعه وهي على ثلاثة أوجه : بعيد من العمران ، وقريب منه لا ضرر على أحد في إحيائه ، وقريب منه في إحيائه ضرر ، فأما البعيد من العمران فلا يحتاج في عمرانه إلى استئذان الإمام إلا على طريق الاستحباب على ما حكى ابن حبيب ، وأما القريب منه الذي لا ضرر في إحيائه على أحد فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام على المشهور في المذهب ، وأما القريب منه الذي في إحيائه ضرر كالأفنية التي يكون أخذ الشيء منها ضرراً بالطريق وشبه ذلك فلا يجوز إحياؤه بحال ولا يبيح ذلك الإمام هذا كله كلام ابن الحاج بحروفه ، ومسألة السجادة التي أشار إليها يأتي نقلها آخر الكتاب ، وقد راجعت التنبيهات للقاضي عياض ، والتبصرة للخمي ، واللباب في شرح ابن الجلاب ، والجواهر لابن شاس وغير ذلك من كتب المالكية فوجدتها متفقة على ما نقل ابن الحاج .
ذكر نقول الحنفية
قال في الهداية : ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحاً لحصائدهم لتحقق حاجاتهم إليها فلا يكون مواتاً لتعلق حقهم بها بمنزلة الطريق والنهر ، وعلى هذا قالوا : لا يجوز أن يقطع الإمام ما لا غنى للمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها لما ذكرنا ، ومن حفر بئراً في برية فله حريمها ، فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعاً ، وإن كانت للناضح فحريمها ستون ذراعاً عندهما وعند أبي حنيفة أربعون ذراعاً لهما إلى أن قال : وإن كانت عيناً فحريمها خمسمائة ذراع بالتوقيف والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب ، والذراع هي المكسرة فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه ، ثم قال : والقناة لها حريم بقدر ما يصلح وعن محمد أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم وقيل : هذا عندهما وعنده لا حريم لها ما لم يظهر الماء لأنه نهر في التحقيق فيعتبر بالنهر الظاهر ، قالوا : وعند ظهور الماء على الأرض فهو بمنزلة عين فوارة فيقدر بخمسمائة ذراع ، والشجرة تغرس في أرض موات لها حريم أيضاً حتى لم يكن لغيره أن يغرس شجراً في حريمة لأنه يحتاج إلى حريم له يجد ثمره ويضعه فيه وهو مقدر بخمسة أذرع وبه ورد الحديث ، وما تركه الفرات أو دجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه لحاجة العامة إلى كونه نهراً وإن كان لا يجوز ان يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريماً لعامر لأنه ليس في ملك أحد لأن قهر الماء يدفع قهر غيره ، ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك وقالا له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه ، ثم عن أبي يوسف أن حريمه مقدار نصف بطن النهر من كل جانب ، وعن محمد مقدار بطن النهر من كل جانب وهذا أرفق بالناس .(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
ثم قال : أعلم أن المياه أنواع منها ماء البحار ولكل واحد من الناس فيها حق الشفه وسقي الأراضي ، حتى أن من أراد أن يكري منها نهراً إلى أرضه لم يمنع من ذلك ، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء ، والثاني ماء الأودية العظام كجيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات للناس فيه حق الشفه على الإطلاق ، وحق سقي الأراضي ، فإن أحيا واحد أرضاً ميتة وكرى منها نهراً ليسقيها أن كان لا يضر بالعامة ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك لأنها مباحة في الأصل إذ قهر الماء يدفع قهر غيره ، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك لأن دفع الضرر عنهم واجب ، وعلى هذا نصب الرحى عليه لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي .
ثم قال : الأنهار ثلاثة نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه وهذا كريه على السلطان من بيت مال المسلمين لأن منفعة الكرى لهم فتكون مئونته من الخراج والجزية دون العشر والصدقات ، فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة انتهى ملخصاً .
وقال القدوري : ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحاً لحصائدهم ، ومن حفر بئراً في برية فله حريمها ، فإن كانت للتعطن فحريمها أربعون ذراعاً ، وإن كانت للناضح فستون ذراعاً ، وإن كانت عيناً فحريمها ثلثمائة ذراع ، فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه ، وما ترك الفرات ودجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه ، وإن كان لا يجوز أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريماً لعامر من أحياه بإذن الإمام ملكه ، ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريمه عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك ، وقال أبو يوسف ومحمد : له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينة انتهى ، وقد عرف بهذا النص وغيره من كتب الحنفية أن الذي نقله السبكي عن أبي حنيفة من أنه لا حريم للنهر إنما هو في النهر المملوك في أرض الغير لا في الأنهار الكبار المباحة كالنيل . والفرات .
وقال صاحب النافع وهو الإمام أبو المفاخر السويدي الزوزني ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر يترك مرعى لأهل القرية ومطرحاً لحصائدهم ، ومن حفر بئراً فله حريمها ، فإن كانت بئراً للعطن فحريمها أربعون ذراعاً ، وإن كانت بئراً لناضح فستون ذراعاً ، وإن عيناً عيناً فحريمها خمسمائة ذراع من كل جانب ، فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه ، وما تركه الفرات أو دجلة وعدل عنه ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه لحاجة النهر إليه ، فإن كان لا يمكن أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريماً للعامر ، ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريمه عند أبي حنيفة إلا أن تكون له بينة عليه ، وقال أبو يوسف . ومحمد : له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه .
وفي فتاوي قاضي خان : لو حفر بئراً في المفازة أو في موضع لا يملكه أحد بإذن الإمام كان له ذلك وله ما حوله أربعون ذراعاً حريماً للبئر ، ولو حفر نهراً في مفازة بإذن الإمام قال(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
أبو حنيفة : لا يستحق للنهر حريماً ، وقال صاحباه : يستحق مقدار عرض النهر حتى إذا كان مقدار عرض النهر ثلاثة أذرع كان له من الحريم مقدار ثلاثة أذرع من الجانبين من كل جانب ذراع ونصف في قول الطحاوي ، وعن الكرخي مقدار عرض النهر ، هذا في النهر الذي حفره إنسان وملكه ، وقال في موضع آخر : ولو احتفر رجل قناة بغير إذن الإمام في مفازة وساق الماء حتى أتى به أرضاً فأحياها فإنه يجعل لقناته ولمخرج مائه حريماً بقدر ما يصلح ، وهذا قول أبي يوسف . ومحمد فأما عند أبي حنيفة إذا فعل ذلك بإذن الإمام فإنه يستحق الحريم للموضع الذي يقع الماء فيه على وجه الأرض ، وإن كان بغير إذن الإمام لا شيء له لأن عند أبي حنيفة من احتفر نهر ألا يستحق له الحريم والقناة إلا أن يقع الماء على وجه الأرض بمنزلة النهر ، وقال في موضع آخر : إذا أحيا رجل مواتاً ليس لها شرب وحفر لها من نهر للعامة حافتها غير مملوكة وساق إليها ما يكفيها من الماء ينظر ، إن كان ذلك لا يضر بالعامة كان له ذلك ، وإن كان يضر بالعامة ليس له أن يفعل ذلك ، ولا للإمام أن يأذن له بذلك ، وكذا ليس للإمام أن يزيد في النهر العظيم كوة أو كوتين إن كان يضر بالعامة ، وفي النهر الخاص المملوك ليس له أن يفعل ذلك أضر بصاحب الملك أم لم يضر لأن حافة النهر ملكه فلا يملك حفرها وسعتها ، وقال في موضع آخر : الأنهار ثلاثة ، الأول النهر العظيم الذي لم يدخل في المقاسم كالفرات ، ودجلة ، وجيحون ، وسيحون ، والنيل إذا احتاج إلى الكرى فاصلاح شطه يكون على السلطان من بيت المال ، فإن لم يكن في بيت المال مال يجبر المسلمون على كريه ، وإن أراد واحد من المسلمين أن يكري منها نهراً لأرضه كان له ذلك إذا لم يضر بالعامة بأن ينكسر شط النهر ويخاف منه الغرق فيمنع من ذلك ، ثم قال : نهر يجري في سكة تحفر في كل سنة مرتين ويجتمع تراب كثير في السكة قالوا : إن كان التراب على حريم النهر لم يكن لأهل السكة تكليف أرباب النهر نقل التراب ، وإن كان التراب جاوز حريم النهر كان لهم ذلك ، وكذلك نهر لقوم يجري في أرض رجل حفروا التراب وألقوا التراب في أرضه إن كان التراب في حريم النهر لم يكن لصاحب الأرض أن يأخذ أصحاب النهر برفع التراب لأن لهم إلقاء التراب في حريم النهر ، فإن ألقوا التراب في غير حريم النهر كان له أن يأخذهم برفع التراب ، وقال في موضع آخر : رجل بنى في الطريق الأعظم بناء لا يضر بالطريق فعثر به إنسان فعطب أو دابة فتلفت كان ضامناً ولكل واحد من الناس حق المنع والمطالبة بالرفع ، وكذا لو نصب على نهر العامة طاحونة لاتضر بالنهر فكالطريق ولكل واحد حق المنع والرفع ، فإن ضر في الحالين ترتب عليه الإثم أيضاً ، ولو جعل على نهر العامة قنطرة بغير إذن الإمام ولم يزل الناس والدواب يمرون عليه ثم انكسر أو وهى فعطب به إنسان أو دابة ضمن ، فإن كان بإذن الإمام لم يضمن لأن فعله حسبة وممراً للناس انتهى ملخصاً .
وفي فتاوي البزازي : المياه ثلاثة في عامة العموم كالأنهار والعظام مثل دجلة ،(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
وجيحون ، وسيحون ليست مملوكة لأحد فيملك كل أحد سقي دوابه وأرضه ونصب الطاحونة والدالية والسانية واتخاذ المشرعة والنهر إلى أرضه بشرط أن لا يضر بالعامة فإن أضر منع ، فإن فعل فلكل أحد من أهل الدار منعه المسلم ، والذمي ، والمكاتب فيه سواء ، ثم قال : النهر الأعظم كريه من بيت المال واصلاح مسناته أيضاً لأنه للعامة ، وإن لم يكن في بيت المال مال واحتاج المسناة والنهر إلى العمارة يجبر العامة .
وقال صاحب الكافي : ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحاً لحصائدهم لتحقق حاجتهم إليها فصار كالنهر والطريق وعلى هذا قالوا : لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه كالملح ، والآبار التي يستسقي الناس منها ، ومن حفر بئراً في أرض موات فله حريمها أربعون ذراعاً لقوله عليه السلام : ( من حفر بئراً فله حريمها أربعون ذراعاً ) لأن حافر البئر لا يتمكن من الانتفاع ببئره إلا بما حولها فإنه يحتاج إلى أن يقف على شفير البئر ليستسقي الماء ، وإلى أن يبني على شفير البئر ما يركب عليه البكرة ، وإلى أن يبني الحوض يجتمع فيه الماء ، وإلى موضع تقف فيه مواشيه عند الشرب ، وإلى موضع تنام فيه مواشيه بعد الشرب فاستحق الحريم لذلك وقدره الشرع بأربعين ثم قيل أربعون ذراعاً من الجوانب الأربعة في كل جانب عشرة أذرع لأن ظاهر اللفظ يجمع الجوانب الأربعة ، والصحيح أن المراد به أربعون ذراعاً من كل جانب لأن المقصود دفع الضرر عن صاحب البئر وهو لا يندفع بعشرة أذرع من كل جانب ، فإن كانت الناضح وهي التي تنزح الماء منها بالبقر فكذلك عند أبي حنيفة أربعون ذراعاً وعندهما حريمها ستون ذراعاً لقوله عليه السلام : ( حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً ) لأن استحقاق الحريم باعتبار الحاجة وحاجة صاحب البئر الناضح أكثر ، وحريم العين خمسمائة ذراع لما روينا ، ولأنه يحتاج فيها إلى زيادة المسافة والتوقيف ورد بخمسمائة فاتبعناه إذ لا يدخل الرأي في المقادير ، ثم عند بعضهم خمسمائة من الجوانب الأربعة من كل جانب مائة وخمسة وعشرون ذراعاً والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب ، والذراع هو المكسرة وهو ست قبضات وكان ذراع الملك سبع قبضات فكسر منه قبضة ، ثم قال : وما ترك الفرات أو دجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه لحاجة النهر إليه ، ثم قال : الأنهار ثلاثة : نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ، ودجلة ، والنيل فكريه على السلطان إن احتاج إليه من بيت المال لأن ذلك من حاجة عامة المسلمين ، وبيت المال معد للصرف إلى مصالح المسلمين ، فإن لم يكن في بيت المال شيء فللإمام أن يجبر الناس على كريه لأنه نصب ناظراً وفي تركه ضرر عام .
وفي خلاصة الفتاوي : المياه ثلاثة في نهاية العموم كالأنهار العظام كدجلة ، والفرات ، وجيحون وسيحون وهي ليست مملوكة لأحد ، ولكل أحد أن يستقي منها ويسقي دابته(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
وأرضه ويشرب منه ويتوضأ به ، ولكل واحد نصب الطاحونة والسانية والدالية واتخاذ المشرعة واتخاذ النهر إلى أرضه بشرط أن لا يضر بالعامة ، فإن أضر منع من ذلك ، فإن لم يضر وفعل فلكل واحد من أهل الدار مسلم أو ذمي أو امرأة أو مكانب منعه .
وفي مجمع البحرين : وحريم بئر الناضح أربعون كالعطن وقالا ستون وتقدر للعين خمسمائة من كل جانب ويمنع غيره من الحفر فيه ويلحق ما امتنع عود دجلة والفرات إليه بالموات إذا لم يكن حريماً لعامر ، وإن جاز عوده لم يجز إحياؤه ، قال ابن فرشته في شرحه لأن حق المسلمين قائم لجواز العود وكونه نهراً ، ثم قال في المجمع : والنهر في ملك الغير لا حريم له إلا ببينة وقالا : له حريم بقدر إلقاء الطين ونحوه ، وقيل : هذا بالاتفاق ، وقال ابن فرشته : وفي المحيط قال المحققون للنهر حريم بقدر ما يحتاج إليه بالاتفاق لضرورة الاحتياج إليه ، وقال شمس الدين محمد بن يوسف القونوي في درر البحار : وحريم بئر النضح أربعون كالعطن وقالا : ستون خمسمائة من كل جانب ويمنع غيره منه ولحق بالموات ما امتنع عود نحو دجلة إليه غير الحريم ، ويقدر حريم النهر بنصف النهر من جانبيه لا كله في وجه .
ذكر نقول الحنابلة
قال في المغني وهو أجل كتب الحنابلة وعلى منواله نسج الشيخ محيي الدين النووي كتابه شرح المهذب ما نصه : وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته فلا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب ، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مياهها لا يملك بالإحياء ولا نعلم فيه أيضاً خلافاً عن أهل العلم ، وكذلك حريم البئر والنهر والعين وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من أحيا أرضاً ميتة في غير حق مسلم فهي له ) فمفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء انتهى . وقال في موضع آخر : المعادن الظاهرة وهي التي توصل إلى ما فيها من غير مؤونة ينتابها الناس وينتفعون لها كالملح والماء والكبريت والكحل ومقالع الطين وأشباه ذلك لا يملك بالإحياء ولا يجوز إقطاعه لأحد من الناس ولا احتجاره دون المسلمين لأن فيه ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم ، ولأنه يتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز إحياؤه ولا إقطاعه كمشارع الماء وطرقات المسلمين وقال في موضع آخر : وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالإحياء ، قال أحمد في رواية العباس ابن موسى : إذا نضب الماء عن جزيرة إلى قناة رجل لم يبن فيها لأن فيه ضرراً وهو أن الماء يرجع إلى ذلك المكان فإذا وجده مبنياً رجع إلى الجانب الآخر فأضر بأهله ولأن الجزائر منبت الكلأ ، والحطب فجرت مجرى المعادن الظاهرة انتهى ، وذكر نحوه غير واحد من المؤلفين . وفي المستوعب : وما نضب عنه الماء(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
من الرفاق والجزائر فليس لأحد أن يتملكه ولا يجري ذلك مجرى الأرض الموات نص عليه في رواية إبراهيم في دجلة يصير في وسطها جزيرة فيها طرق فأجازها قوم فقال : كيف يجوزونها وهي شيء لا يملكه أحد ؟ وقال في رواية يوسف بن موسى : إذا نضب الماء من جزيرة إلى فناء رجل هل يبني فيه ؟ قال لا فيه ضرر على غيره لأن الماء قد يعود إليه وإن لم يعد بعد فهو طريق لكافة المسلمين .
فائدة لطيفة
قال ابن الحاج في المدخل : ليس للإنسان في المسجد إلا موضع قيامه وسجوده وجلوسه وما زاد على ذلك فلسائر المسلمين ، فإذا بسط لنفسه شيئاً ليصلي عليه احتاج لأجل سعة ثوبه أن يبسط شيئاً كبيراً ليعم ثوبه على سجادته فيكون في سجادته اتساع خارج فيمسك بسبب ذلك موضع رجلين أو نحوهما أن سلم من الكبر من أنه لا ينضم إلى سجادته أحد ، فإن لم يسلم من ذلك وولى الناس عنه وتباعدوا منه هيبة لكمه وثوبه وتركهم هو ولم يأمرهم بالقرب إليه فيمسك ما هو أكثر من ذلك فيكون غاضباً لذلك القدر من المسجد فيقع بسبب ذلك في المحرم المتفق عليه المنصوص عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلّم حيث قال : ( من غصب شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة إلى سبع أرضين ) وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب إلا في وقت الصلاة وهو في وقت الصلاة غاصب له فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته وزيه ، فإن بعث بسجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلىء المسجد بالناس ثم يأتي كان غاصباً لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه لأنه ليس له أن يحجزه وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته انتهى .
ذكر الأحاديث الواردة في إثم من ظلم شيئاً من الأرض وطريق المسلمين
أخرج البخاري عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( من ظلم من الأرض شيئاً طوقه من سبع أرضين ) وأخرج البخاري ، ومسلم عن سعيد بن زيد قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ) وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كانت بينه وبين الناس خصومة في أرض فدخل على عائشة فذكر لها ذلك فقالت : يا أبي سلمة اجتنب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين ) وأخرج البخاري عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( من أخذ شيئاً من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ) وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا يأخذ أحد شبراً من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة ) وأخرج البزار في سنده عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ملعون من تولى غير مواليه ملعون من ادعى إلى غير أبيه ملعون من غير علام الأرض ) وأخرج البخاري في(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
الأدب المفرد ، والحاكم في المستدرك عن علي بن أبي طالب قال : هذا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( لعن الله من ذبح لغير الله ومن تولى لغير مواليه ، ولعن الله العاق لوالديه ، ولعن الله منتقص منار الأرض ) وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( لعن الله من تولى غير مواليه ولعن الله من غير تخوم الأرض ) وأخرج البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( ملعون من غير حدود الأرض ملعون من تولى غير مواليه ) وأخرج البزار في مسنده عن أبي رافع قال : وجدنا صحيفة في قراب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته مكتوب فيها : ( بسم الله الرحمن الرحيم فرقوا بين مضاجع الغلمان والجواري بل والإخوة والأخوات لسبع سنين واضربوا أبناءكم على الصلاة إذا بلغوا تسعاً ، ملعون من ادعى إلى غير قومه أو إلى غير مواليه ، ملعون من اقتطع شيئاً من تخوم الأرض ) يعني بذلك طرق المسلمين ، وأخرج أحمد ، وابن حبان ، والطبراني عن يعلى بن مرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : ( أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي الله بين الناس ) وفي لفظ لأحمد : ( من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر ) وفي رواية للطبراني : ( من ظلم من الأرض شبراً كلف أن يحفره حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى المحشر ) وأخرج أحمد ، والطبراني عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من أخذ شيئاً من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين لا يقبل منه صرف ولا عدل ) وأخرج ابن سعد في الطبقات ، والطبراني عن الحكم بن الحارث السلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء به يوم القيامة يحمله من سبع أرضين ) وأخرج أحمد ، والطبراني عن أبي مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الظلم أظلم ؟ فقال : ( ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم قعرها إلا الله الذي خلقها ) وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والطبراني عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين ) .
خاتمة : أرسلت بقضية هذا الرجل الذي أراد البروز إلى قاضي القضاة الشافعي وأرسلت له نقول المذهب وهذا المؤلف وعرفته أن الذي كانوا يحكمون به من الإذن في البروز بالروضة ونحوها باطل ليس بحكم الله ولا هو مذهب الشافعي فأذعن للحق ومنع نوابه من الحكم بذلك ، ثم أراد أن يرسل إلى الخصم ويحكم عليه بالمنع من البروز فأرسلت أقول له : إن أحسن من ذلك أن يحكم حكماً عاماً بالمنع من غير تعيين خصم ولا توجه دعوى فاستغرب ذلك فأرسلت أقول له أن ذلك جائز في مثل هذا ونحوه ، وقد حكم الشيخ تقي الدين السبكي نظير هذا الحكم وأبلغ منه وألف فيه مؤلفاً فأرسلت إليه بمؤلف السبكي في ذلك فحكم بمنع البروز في الروضة منعاً مطلقاً إلى أن تقوم الساعة ونفذ هذا الحكم قاضي(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
القضاة الحنبلي ، وقاضي القضاة المالكي ، وأرسلت بذلك وبهذا المؤلف إلى المقام الشريف مولانا السلطان فأحاط بذلك علماً وتوعد أهل البروزات منعاً وهدماً ، وقد ختمت هذا المؤلف بقصيدة نظمت فيها المسألة لأن النظم أيسر للحفظ وأسيره على الألسنة وسميتها : ( النهر لمن برز على شاطىء النهر ) وهي هذه :
بدأت ببسم الله في النظم للشعر
وأثنى بحمد الله في السر والجهر
وصلى إله العرش ما ذكر اسمه
على المصطفى المبعوث للسود والحمر
وهاتيك أبياتاً يضاهي قريضها
إذا ما رأى الراؤون بالكوكب الدري
فمسنده لابن الفرات عذوبة
وبهجته الزهراء تعزى إلى الزهري
وألفاظه تحكي عن الماء رقة
وفيه معان كلها عن أبي بحر
شذاه إلى الآفاق طار فعرفه
وتحليقه في الجو كالورد والنسر
وذلك في حكم من الشرع بين
يفوق السني البدري في ليلة البدر
به قال أصحاب المذاهب كلهم
وكل إمام قدوة عالم حبر
لقد عمت البلوى بأمر محرم
وظن مباحاً ، ذاك كل امرىء غمر
ففي روضة المقياس جار بروز من
أراد بأن يسطو على البر والبحر
أتى في حريم النهر بعض بروزه
وسائره قد حل في بقعة النهر
وما قال هذا قط في الدهر عالم
ولم يستبحه في القديم أولو الخبر
وأعظم من ذا في البلية من عزا
إباحته للشافعية بالقسر
وما قال هذا الشافعي وصحبه
ولا أحد من قبل أو بعده يدري
يميناً وفجر والليالي بعشرها
وشفع ووتر ثم ليل إذا يسري
بل النص في كتب الإمام وصحبه
بأن حريم البحر والنهر إذ يجري
كلا ذبن لا ملك عليه يحوزه
وإن بناء الناس فيه أخو حظر
ولا جاز اقطاع لديه ولا انزوى
إلى ملك بيت المال بيعاً لمن يشري
ومن فيه يبني فليهد بناؤه
وننسفه في اليم نسفاً على قدر
وفي حسرة يمشي على فقد جسره
وفي خسره أضحى إلى حشره يجري
وأما قديماً قد رأينا مؤصلاً
على نمط الجيران في السمت للجدر
فذلك نبقيه ونولي احترامه
لوضع بحق سابق غير ذي ختر
ومن رام نقلاً يستفيد بعزوه
ليحكي نصوص العلم أن حل في صدر(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
ففي الأم نص الشافعي إمامنا
ومختصر عالي الذرى سامي القدر
وتعليقة القاضي الحسين وغيره
وكافي الخوارزمي ذي الفضل والذكر
وتهذيب محي السنة البغوي مع
نقول كثير قد تجل عن الحصر
وفي الشرح نص الشافعي وروضة النواوي حياً قبره وابل القطر
كذا في فتاوي ابن الصلاح بيانه
وناهيك بالحبر النقي عن الاصر
وسار عليه في الكفاية نجمنا
أجل فقيه جاء إذ ذاك من مصر
وأوضحه في الابتهاج وغيره الإمام
التقي السبكي بالبسط والنشر
وفيه عن القفال لو رام نخلة
ليغرس بالشاطىء منعناه بالقهر
وبين ذاك الزركشي بشرحه
ومن بعد في الشرح الدميري ذو الفخر
وبينه الغزي في أدب القضا
فخذها نقولاً من بحار أولي در
وخذ عن نقول المالكية مسنداً
لكل إمام منهم عالم حبر
وفي مدخل ابن الحاج أعظم بسط
وبين ما فيه من الإثم والضر
وحد حريم النهر ألف ذراعه
وذلك أعلى الحد في حرم النهر
وأما النقول المستفيضة عن أبي
حنيفة في هذا فأوفى من البحر
وحدوا حريم العين من كل جانب
بخمس ميء من أذرع هي ذو كسر
وأما نقول لابن حنبل جمة
وناهيك بالمغني فكن فيه ذا ذكر
ومذهبه في الجزر أضيق مذهب
لنص له أن ليس يبنى على جزر
ومذهبنا في ذاك أفسح مذهب
لأنهم قاسوا الحريم على البئر
وأدنى جريم البئر قد قيل خمسة
وعشرون ذرعاً من ذراع أولي الشبر
وكل مكان عمه في زيادة
من الماء معدود من الأرض للنهر
وضابطه ما بين سطحين حفرة
إذ النهر مردود إلى مادة الحفر
فحفرة مجرى الماء نهر ومبدأ
الحريم من التسطيح قدراً على قدر
ومن رام في هذا البناء فإنه
أضر على المارين في البحر والبر
يقيم به في أكثر العام ماؤه
فلا يجد المارون طرقاً إلى المر
ومن ههنا مع ههنا كل سالك
يمر وهذا البرز كالطود في البحر
وليس بها من يقطع الطرق غيره
فلله ممن يقطع الطرق في الظهر(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
وقد صح في الآثار تطويق سبعة
أراض لمن يجني من الأرض كالشبر
وقد صح أيضاً لعنه وانخسافه
إلى الأرضين السبع في موقف الحشر
فمن رام مع هذا الوعيد بروزه
ففي العصر أن المعتدين لفي خسر
وألفت في منع البروز بشاطىء
على النهر تأليفاً أسميه بالجهر
تضمن من هذي النقول عيونها
وأوضحت فيه ما تفرق في السفر
وقد صب حكم الشرع بالمنع هاكم
على كل من رام البروز على النهر
لزوماً لمنع في العموم لكل من
أراد بروزاً في الحريم مدى الدهر
وهذا صحيح نافذ يستمر لا
يشان بإفساد ونقض ولا كسر
وقد حكم السبكي فيه نظيره
وألف تأليفاً له عالي القدر
ومن لم يطع حكم الشريعة رده
إليها برغم راغم سطوة القهر
من الملك الحامي زمام شريعة
فأيده الرحمن بالعز والنصر
ونختم هذا النظم بالحمد دائماً
لرب العلا المختص بالحمد والشكر
ونثني على الهادي بخير صلاته
وتسليمه فهو المشفع في الحشر
وآل له خصوا بكل مزية
وأصحابه الزاكين والأنجم الزهر
ونتبع هذا بالرضا عن أئمة
هم قدوة للخلق في كل ما عصر
إمامي أعني الشافعي ومالك
وأحمد والنعمان كل ذوو قدر
وسميت هذا النظم بالنهر زاجراً
لمن رام أن يبني على شاطىء النهر
فموضوعه بحر وبحر علومه
وعدته سبعون بيتاً على بحر
ونختم بما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( قلت يا رسول الله ما حق جاري ؟ قال : ( إن مرض عدته ) إلى أن قال : ( ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ) ، وأخرج ابن عدي في الكامل ، والبيهقي بسند ضعيف من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( ليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه ) قال ( أتدري ما حق الجار ؟ إذا استعانك أعنته ) إلى أن قال ( ولا تستطيل عليه بالبناء تحجب عنه الريح إلا بإذنه ) ، قال البيهقي : هذا شاهد للذي قبله يعتضد به .
مسألة : في أرض آهر ببلد اكدز وهي أرض إسلام ليس فيها إلا المسلمون ولكل قبيلة منهم أرض هم نازلون بها وليس فيها ما ينتفع بها من الحرث والزراعة في الغالب وإنما(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
غالب ما ينتفع به فيها مباحات النبات من الأشجار كثمر الدوام والسدر وغيرهما مما ينبت بغير تكلف آدمي وما شابهه من حبوب الأعشاب النابتة بغير حرث ولا تعب مما هو تبع للأرض ، ويحصل لمن اعتنى بجمع ذلك شيء له قيمة والأرض المذكورة تملكها أهلها المذكورون بها بإذن أمين البلاد المولى بإذن أمير المؤمنين وأقطعها أمير البلاد المذكور لأهلها النازلين المذكورين بها لمصالح له وللمسلمين في اقطاعهم إياها فهل لمن هو بها أن يبيع كلأها وشيئاً من شجرها ؟ وهل لهم أن يمنعوا غيرهم من الرعي فيها أو الانتفاع منها بشيء ؟ وأصل الأرض المذكورة مجهول لا يعرف هل هي أرض عنوة أو أرض صلح ؟ وإنما هي من قديم الزمان بيد مقدم البلاد يقطعها لمن يشاء ونشأوا على ذلك خلفاً عن سلف ، وغالب مصالحهم ومنافعهم متعلقة بذلك ، فإن قلتم : لهم بيع كلائها ومنع غيرهم منه فما معنى الحديث الوارد في منع بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ ؟ وما معنى الحديث الوارد فيما يروى أربعة لا تمنع وذكر فيها الماء والكلأ افتونا مأجورين سددكم الله تعالى للصواب بعد السلام عليكم ؟ .
الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، اتفق العلماء على أن الكلأ إذا جز من نباته وقطع وحيز بالأخذ والتنازل فإن جائزه يملكه وله بيعه ولا يجب عليه بذله ، وأما الكلأ الذي هو في منابته لم يقطع ولم يجز فإن كان نابتاً في أرض موات فالناس فيها سواء كالماء المباح ، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث عن النبي عليه السلام من منعه ، وإن كان نابتاً في أرض مملوكة فهو ملك لصاحب الأرض لا يجب بذله ويجوز بيعه ، بقي قسم واحد وهو الكلأ النابت في أرض أقطعها السلطان إنساناً وفيه تفصيل فإن كانت تلك الأرض مواتاً لم يجز الإقطاع والحالة هذه لأنه من الحمى المنهي عنه في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لا حمى إلا لله ورسوله ) وإنما يجوز إقطاع الموات الخالي عن الكلأ والعشب وإن كانت تلك الأرض غير موات وهي من أراضي بيت المال التي يقطعها السلطان الآن من الديار المصرية فإن إقطاعها صحيح ، ويختص المقطع بالكلأ الذي فيها ينتفع به ويبيعه لأنه مال من جملة أموال بيت المال سوغ السلطان استغلاله لهذا المقطع بعينه ، والظاهر أن أرض أكدز بهذه المثابة في الاقطاع والاستغلال والله أعلم .
باب الوقف
مسألة : وقف تعطل ريعه وفيه إمام وغيره فهل يلزم الناظر أن يستدين على الوقف ويعطيهم ؟ .
الجواب : لا يلزمه ذلك .
مسألة : المسجد المعلق على بناء الغير أو على الأرض المحتكرة إذا زالت عينه هل يزول حكمه بزوالها ؟ .
الجواب : نعم يزول حكمه إذ لا تعلق لوقفية المسجد بالأرض ، وإنما قال الأصحاب :(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
إذا انهدم المسجد وتعذرت إعادته لم يصر ملكاً إذا كانت الأرض من جملة وقف المسجد بدليل تعليلهم ذلك بأن الصلاة تمكن في عرصته على أن في صحة وقف المسجد على الأرض المحتكرة نظراً لأن بعض أئمتنا أفتى بأن الموقوف في أرض مستأجرة إذا كان ريعه لا يفي بالأجرة أو وفى بها ولم يزد لا يصح وقفه ابتداء لأنه ملحق بما لا ينتفع به ، ومعلوم أن المسجد لا ريع له توفى منه أجرة الأرض ، وعلى تقدير أن يكون الواقف استأجرها مدة وأدى أجرتها فبعد انتهاء تلك المدة لا يلزم الواقف الأجرة فلا يبقى إلا تفريغ الأرض منه ، وعلى تقدير صحة الوقف لا شك في زوال حكمه بزوال عينه ويبني مالك الأرض مكانه ما شاء .
مسألة : رجل وقف على أولاده وأولادهم ونسلهم وعقبهم تحجب الطبقة العليا السفلى أبداً على أن من مات منهم ولم يخلف ولداً ولا أسفل منه من ولد الظهر أو البطن ينتقل نصيبه لمن في درجته فإذا انقرضوا كان وقفاً على محمد ، وحليمة ، وخديجة على أن من مات منهم انتقل نصيبه لمن بقى ثم من بعدهم على أولادهم ونسلهم [ وعقبهم ] تحجب الطبقة العليا السفلى على ما تقدم تفصيله في أولاد الواقف فانقرضوا وآل الأمر إلى الثلاثة المذكورين فمات محمد عن غير نسل ثم ماتت حليمة عن بنت وخديجة عن ابن بنت فهل يشتركان في الوقف لقوله أنهم على التفصيل المذكور في أولاد الواقف ؟ وقد قال هناك إن من لم يخلف منهم ولداً ولا أسفل منه ينتقل لمن في درجته ومفهومه أنه إذا خلف ولداً ما يختص به ولا ينتقل أم تستحق البنت دون ابن البنت ؟ .
الجواب : تستحق البنت فقط دون ابن البنت بصريح قوله تحجب الطبقة العليا السفلى ، وأيضاً فإن الوقف لا ينتقل لأولاد الثلاثة المذكورين إلا بعد انقراضهم كلهم لقوله على أن من مات منهم ينتقل نصيبه لمن بقي ثم من بعدهم لأولادهم فلم يجعل للأولاد حقاً إلا بعد انقراض جميع الثلاثة ، ثم اعتبر الأعلى فلا فالأعلى حق لابن البنت لأنه محجوب بالعليا .
مسألة : رجل وقف وقفاً على جهات وشرط أن ما فضل يصرف للفقراء والمساكين وله أخ وللأخ أربعة أولاد بصفة الفقر والمسكنة فهل للناظر أن يصرف لهم منه ؟ .
الجواب : نعم بل هم أولى من الأجانب .
مسألة : رجل وقف في مرض موته على أولاده ثم نسلهم فإذا انقرضوا فعلى أولاد أخته ، ومات ثم ماتت أولاده وهم أطفال بعد شهر وله عاصب فطلب أولاد أخته الوقف ونازعهم العاصب وقال : إن الوقف لم يصح لأنه صدر في مرض الموت ؟ .
الجواب : المنقول في هذه المسألة أن الموقوف أن احتمله الثلث صح ولم يحتج إلى إجازة ، وإن كان وقفاً على وارث ، وإن زاد على الثلث صح في قدر الثلث ووقف الزائد على الإجازة ، فإذا مات الأولاد قبل البلوغ فلوارثهم رد الوقف في القدر الزائد خاصة ، وأما قدر الثلث فهو لأولاد الأخت لا يجوز إبطاله .
مسألة : رجل وقف وقفاً وشرط فيه النظر لمن يصلح من الذرية فثبت صلاح واحد منهم(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
وحكم له بالنظر ، ثم بعد ذلك أثبت حاكم آخر صلاح امرأة منهم وحكم لها بالنظر فهل يشتركان أو تقدم المرأة ؟
الجواب : إذا شرط الواقف النظر لمن يصلح من الذرية ولم يزد على ذلك وثبتت الصلاحية للرجل وحكم له بالنظر فلا حق للمرأة بعد ذلك ولو كانت تصلح ، ولا يظن اختصاص ذلك بصيغة أفعل التفضيل بل هو في هذه الصيغة أيضاً لأن الحق إذا ثبت لواحد لم ينتقل إلى غيره ولم يتعده ، بل لو شرط الواقف بصيغة أفعل التفضيل كالأصلح والأرشد وثبتت الأصلحية والأرشدية لواحد وحكم له به ثم وجد بعد ذلك من صار أصلح أو أرشد لم ينتقل له الحق لأن العبرة بمن فيه هذا الوصف في الابتداء لا في الأثناء وإلا لم يستقر نظر لأحد ، ونظير ذلك إذا قلنا لا تنعقد إمامة المفضول مع وجود الفاضل فذاك في الابتداء لا في الدوام ، ومقصود الواقف تفويض النظر إلى واحد يصلح لا إلى كل من يصلح وإلا لأدى إلى جعل النظر لجميع الذرية إذا كانوا صالحين ، ويحصل بسبب ذلك من اختلاف الكلمة ما يؤدي إلى فساد الوقف فالأولى حمل ( من ) في كلام الواقف على النكرة الموصوفة لا على الموصولة وحينئذ لا عموم لها فإنها نكرة في الاثبات فلا تعم ، بل لو فرض فيها عموم كان من عموم البدل لا من عموم الشمول .
مسألة : واقف وقدف على أولاده ثم أولادهم بالفريضة الشرعية ومن مات منهم انتقل نصيبه إلى ولده ثم إلى ولد ولده بالفريضة الشرعية للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يكن فإلى إخوته وأخواته ، فإن لم يكن فإلى أقرب الطبقات إليه على ما شرح فآل الأمر إلى أن ماتت امرأة من أولاد الأولاد عن أولاد عم ثلاثة محمد ، وخاتون أخوان ، وفاطمة بنت عم فهل تنتقل حصتها إلى الثلاثة أو إلى محمد فقط كما في حكم الفريضة الشرعية التي عول عليها الواقف من أن ابن العم لا تشاركه إخوته ولا ابن عمه ؟ .
الجواب : الظاهر انتقال حصتها إلى الثلاثة لعموم قوله أقرب الطبقات ، وأما قوله بالفريضة الشرعية فمحمول على تفضيل الذكر على الأنثى في الأسهم فقط ، ويؤيد هذا الحمل أمور ، أحدها قوله عقب ذلك للذكر مثل حظ الأنثيين فهذه جملة مفسرة للمراد بذكر الفريضة الشرعية . الثاني : أن الفريضة معناها الوضعي المقدرة لا مذلول لها غير ذلك التقدير من صفات الأنصباء كما قال تعالى : ) نصيباً مفروضاً ( فلا دلالة للفظ الفريضة على منع ولا تأخير ، الثالث : أنا لو أخذنا بحكم الفريضة الشامل لما ذكر لم نعط بنت العم شيئاً البتة وإن فقد ابن العم لأن حكم الفرائض أنها لا ميراث لها البتة ولا يقول به أحد هنا فتعين تخصيصه بما ذكرنا .
مسألة : رجل وقف على أولاده الذكور وسماهم وقال : ومن توفي منهم انتقل نصيبه إلى ولده وولد ولده ، وأن الذكور خاصة تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى ، فإن لم يكن للمتوفي ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك رجع نصيبه إلى إخوته المشاركين له في هذا الوقف مضافاً لما بأيديهم ، وتوفي الواقف عن أربعة أولاد ثم مات أحد الأربعة عن(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
ثلاثة ذكور فأخذوا نصيبه ثم مات الثاني عن ولد ذكر فأخذ نصيبه ثم مات الثالث عن ولدين صغيرين وولدي ولد فأخذ ولداه نصيبه ثم مات الولدان الصغيران عن ولدي أخيهما وعن عمهما فهل يرجع نصيبهما إلى ابني أخيهما عملاً بواو العطف ولحرص الواقف على وصول نصيب كل أصل إلى فرعه بقوله : فإن لم يكن للمتوفي منهم ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك ولزوال من حجبهما من ذلك عند موت جدهما أو إلى عمهما . ؟
الجواب : يرجع إلى العم دون ولدي الأخ عملاً بقوله : تححب الطبقة العليا السفلى ، وما ذكر من التعاليل الثلاثة فاسد ، أما قوله عملاً بواو العطف فإنها لم يقصد بها التشريك مطلقاً بل تفيد حجب العليا السفلى وإلا لاستحق ولد الأخ مع وجود عميهما ولا قائل به ، وأما قوله : ويحرص الواقف إلى آخره فقد قال السبكي في فتاويه في مسألة وقفية ذكر فيها شبه ذلك المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ لا تعتبر ، وأما قوله : ولزوال من حجبهما إلى آخره فذاك إنما يعتبر ابتداء عند موت الأصل الذي هذان فرعاه ، وأما زواله في الأثناء بعد انتقال الوقف إلى جهة ليس هذان فرعيه فلا عبرة به بل هذا موت جديد لجهة غير الأولى ينظر نظراً آخر ، ألا ترى أنه لو مات هذان الولدان عن نسل لاستحق نسلهما ما كان بيدهما ولم يعد إلى ولد الأخ شيء فعرف أن زوال الحاجب في مثل ذلك لا أثر له وإلا لاستحقا مع وجود النسل وكانا يقولان قد زال الحاجب لنا وحينئذ نقول هذا مستحق مات عن غير نسل وشرط الواقف حينئذ العود إلى الإخوة المشاركين ولا إخوة مشاركون فانتقلنا إلى أعلى طبقة وهو العم عملاً بتقديم العليا على السفلى ، وأكد ذلك قول الواقف المشاركين له في هذا الوقف مضافاً لما بأيديهم والعم مشارك بيده حصة وولدا الأخ لا شيء بأيديهما فلا مشاركة لهما وهذا القدر المؤكد علاوة وليس المعول عليها بل المعول على ما صدرنا به .
مسألة : أرض من أراضي مصر بيد جماعة بكرية يستغلونها فسألهم السلطان عن مستندهم فأظهروا محضراً ثابتاً على حاكم شافعي أنها وقف السلطان صلاح الدين بن أيوب عليهم بشهادة جماعة مستندهم السماع وإن لم يصرحوا به وحكم بموجب ذلك فهل يستحقون ذلك ؟ وهل للإمام أن يقف بعض أراضي مصر على مثل هذه الجهة من غير أن يشتريها من بيت المال ؟ وهل للمخالف الذي يرى أن مصر فتحت عنوة وأن أراضيها لا تملك أن يتعرض لإبطال ذلك ؟ .
الجواب : نعم للإمام أن يقف بعض أراضي بيت المال من غير شراء على مثل الجهة المذكورة على الأصح في المذهب فقد نص الشافعي على ما يشهد لذلك وصرح بصحته القاضي حسين وأفتى به ابن أبي عصرون ، وأسعد الميهني ، والشاشى ، وابن الصلاح ، والنووي ، وقال ابن الرفعة في المطلب : انه المذهب وصرح كل منهم بأنه لا يجوز لمن يأتي بعد تغييره ، وأما السبكي فاختار لنفسه أنه لا يجوز للإمام الوقف لكن ما وجدناه موقوفاً لأحد من الأئمة ليس لنا أن نغيره .
فالحاصل أن عدم التغيير متفق عليه .(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وقد حكى ابن الصلاح في مجاميعه صورة استفتاء في أراضي وقفها الخليفة أو السلطان نائب الخليفة على رجل ثم عقبه هل يصح ؟ وهل يجوز لأحد من الولاة تغييره وصرفه إلى جهة أخرى ؟ فأجاب علماء ذلك العصر من سائر المذاهب أن الوقف صحيح ولا يملك أحد من خلق الله اعتراضه ولا تغييره ، ومن جملة من أفتى في هذه الواقعة ابن أبي عصرون وهو كان عين الشافعية في زمن السلطانين العادلين نور الدين الشهيد ، وصلاح الدين بن أيوب وكان مفتيهما وقاضيهما ، وقد نص العلماء على أنهما ما وقفا الذي وقفاه إلا بإفتائه ، فالحاصل أن وقف هذه الأرض على المذكورين صحيح ، ولا يجوز لأحد تغييره ولا نقله إلى جهة أخرى وثبوت ذلك بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة حيث لم يصرحوا بذلك صحيح ، أما في الوقف فأصلاً ، وأما في المستحقين فضمناً كما قاله ابن الصلاح ، وابن الفركاح ، وليس للمخالف الذي يرى أن مصر فتحت عنوة أن يتعرض لذلك بنقض ولا إبطال لأنه إن كان حكم بصحته في الأصل حاكم شافعي فذاك وإلا فمعناه أمران : أحدهما ثبوت الوقف بما ذكر وما ثبت وقفه قديماً لا يتعرض له لأن الظاهر وقوعه مستجمعاً للشرائط ، والثاني حكم الشافعي المتأخر ، وأمر ثالث وهو أن بعض المتأخرين ذكر أن أمر الإمام الأعظم وفعله يرفعان الخلاف كحكم الحاكم تفخيماً لشأنه ، ونص العلماء على أن السلطان صلاح الدين ما وقف الذي وقفه حتى أفتاه بذلك علماء عصره من الشافعية ، والحنفية ، والحنابلة ولولا إرادة الاختصار لسقت عباراتهم في ذلك .
مسألة : إذا ثبت وقفية عين ولم يعلم مآل الوقف وقلنا أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف هل يختص به الفقراء دون الأغنياء أم يشتركون فيه ؟ .
الجواب : يختص به الفقراء من أقاربه على الأصح فإن كانوا كلهم أغنياء صرف إليهم .
مسألة : رجل وقف مصحفاً على من يقرأ فيه كل يوم حزباً ويدعو له وجعل له على ذلك معلوماً من عقار وقفه لذلك فأقام القارىء مدة يتناول المعلوم ولم يقرأ شيئاً ثم أراد التوبة فما طريقه ؟
الجواب : طريقه أن يحسب الأيام التي لم يقرأ فيها ويقرأ عن كل يوم حزباً ويدعو عقب كل حزب للواقف حتى يوفى ذلك .
مسألة : واقف وقف مدرسة وقرر بها شيخاً وصوفية فهل يجوز للناظر أن يقرر في المشيخة اثنين ؟ وهل يجوز للشيخ الاستنابة إذا كان به ضعف في بدنه أو كان له وظيفة أخرى تعارض هذه الوظيفة ؟ .
الجواب : أوقاف السلاطين ، والأمراء كلها أصلها من بيت المال أو راجعة إليه ، فيجوز لمن كان بصفة الاستحقاق من بيت المال من عالم بالعلوم الشرعية ، وطالب علم كذلك ، وصوفي على طريق الصوفية أهل السنة ، ونسيب من آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأكل مما وقفوه غير متقيد بما شرطوه ، ويجوز والحالة هذه الاستنابة لعذر وغيره وتناول المعلوم وإن لم يباشر ولا استناب ، واشتراك اثنين فأكثر في الوظيفة الواحدة ، وأخذ الواحد عدة وظائف ،(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
ومن لم يكن بصفة الاستحقاق من بيت المال لم يحل له الأكل من هذا الوقف ولو قرره الناظر وباشر الوظيفة لأن هذا مال بيت المال لا يتحول عن حكمه الشرعي يجعل أحد وما يتوهمه كثير من الناس من دخوله في ملك الذي وقفه فهو توهم فاسد لا يفيد في باطن الأمر ، وأما الأوقاف التي ملكها واقفوها فلها حكم آخر وهي قليلة بالنسبة إلى تلك .
مسألة : إذا عجز الوقف عن توفية جميع المستحقين فهل تقدم منه الشعائر والشيخ أم لا ؟ .
الجواب : ينظر في هذا الوقف فإن كان أصله من بيت المال كمدارس الديار المصرية وخوانقها روعي في ذلك صفة الأحقية من بيت المال ، فإن كان في أرباب الوظائف من هو بصفة الاستحقاق من بيت المال ومن ليس كذلك قدم الأولون على غيرهم كالعلماء ، وطلبة العلم ، وآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن كانوا كلهم بصفة الاستحقاق منه قدم الأحوج فالأحوج والأفقر فالأفقر ، فإن استووا كلهم في الحاجة قدم الآ كد فالآ كد فيقدم المدرس أولاً ثم المؤذن ثم الإمام ثم القيم ، وإن كان الوقف ليس مأخذه من بيت المال اتبع فيه شرط الواقف فإن لم يشرط تقديم أحد لم يقدم أحد بل يقسم بين جميع أهل الوقف بالسوية الشعائر وغيرهم .
مسألة : المدارس المبنية الآن بالديار المصرية وغيرها ولا يعلم للواقف نص على أنها مسجد لفقد كتاب الوقف ولا يقام بها جمعة هل تعطى حكم المسجد أو لا ؟ .
الجواب : المدارس المشهورة الآن حالها معلوم فمنها ما علم نص الواقف أنها مسجد كالشيخونية في الإيوانين دون الصحن ، ومنها ما علم نصه أنها ليست بمسجد كالكاملية والبيبرسية ، فإن فرض ما لم يعلم فيه ذلك ولو بالاستفاضة لم يحكم بأنها مسجد لأن الأصل خلافه .
مسألة : قالوا : إن المسجد الموقوف على قوم مخصوصين لا يجوز لأحد أن يدخله أو يصلي فيه إلا بإذنهم فهل المدارس والربط كذلك ؟ وهل يجوز للموقوف عليهم الإذن في الانتفاع مطلقاً بالنوم والجلوس والأكل واجتماع الخصوم والقضاء بينهم وإقراء الصبيان أو هو مقيد بما كان على وفق شرط الواقف ؟ .
الجواب : المسجد الموقوف على معينين هل يجوز لغيرهم دخوله والصلاة فيه والاعتكاف بإذن الموقوف عليهم ؟ نقل الأسنوي في الألغاز أن كلام القفال في فتاويه يوهم المنع ثم قال الأسنوي من عنده والقياس جوازه ، وأقول : الذي يترجح التفصيل فإن كان موقوفاً على أشخاص معينة كزيد ، وعمرو ، وبكر مثلاً أو ذريته أو ذرية فلان جاز الدخول بإذنهم وإن كان على أجناس معينة كالشافعية ، والحنفية ، والصوفيه لم يجز لغير هذا الجنس الدخول ولو أذن لهم الموقوف عليهم ، فإن صرح الواقف بمنع دخول غيرهم لم يطرقه خلاف البتة ، وإذا قلنا بجواز الدخول بالإذن في القسم الأول في المسجد ، والمدرسة ، والرباط كان لهم الانتفاع على نحو ما شرطه الواقف للمعينين لأنهم تبع لهم وهم مقيدون بما شرطه الواقف .(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
مسألة : جامع له ناظر فاتفق موت إمامه والناظر مسافر فقرر السلطان إماماً فهل للناظر إذا حضر عزله وتقرير خلافه ؟ .
الجواب : إذا ولى السلطان إماماً بعد موت الإمام الأول والوظيفة شاغرة والناظر مسافر فهي ولاية صحيحة يلزم الناظر إبقاءها وليس له عزله وتقرير خلافه .
الانصاف في تمييز الأوقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : أمير وقف خانقاه ورتب بها شيخاً ، وصوفية وجعل لهم دراهم ، وزيتاً ، وصابوناً ، وخبزاً ولحماً فضاق الوقف فهل يقدم الشيخ على الصوفية أو يصرف بينهم بالمحاصة ؟ وهل يقتصر على صنف من الأصناف التي عينها الواقف ويترك الباقي أو يأخذون من جميع الأصناف التي عينها الواقف بالمحاصة ؟ وهل تجوز الاستنابة في شيء من الوظائف أم لا ؟ .
الجواب : أقول أولاً وبالله التوفيق : الأوقاف قسمان ، قسم ليس مأخذه من بيت المال ولا مرجعه إليه وهذا الوقف مبناه على التشديد والتحريص لا يجوز تناول ذرة منه إلا مع استيفاء ما شرطه الواقف لأنه مال أجنبي لم يخرج عن ملكه إلا على وجه مخصوص بالشرط المذكور ، وقسم مأخذه من بيت المال بأن يكون واقفه خليفة أو ملكاً من الملوك السابقة كصلاح الدين بن أيوب وأقاربه ، أو مرجعه إلى بيت المال كأوقاف أمراء الدولة القلاوونية ومن بعدهم إلى زماننا هذا ، وإنما قلنا إن مرجعه إلى بيت المال لأن واقفيه أرقاء بيت المال وفي ثبوت عتقهم نظر ، وقد ذكر الشيخ تاج الدين بن السبكي في واقعه وقعت بعد السبعمائة وهي عبد انتهى الملك فيه لبيت المال فأراد شراء نفسه من وكيل بيت المال فأفتى جماعة بالمنع لأن ذلك عقد عتاقة وعبد بيت المال لا يجوز عتقه ، وأفتى آخرون بالجواز لأنه عقد بعوض لا مجاناً فلم يضع منه على بيت المال شيء ، واختار ابن السبكي هذا الثاني أورده في الترشيح ، فإذا اختلف في جواز العتق بعوض فما ظنك به بغير عوض ، وإنما لم ينص متقدمو الأصحاب على هذه المسألة بخصوصها لأنها لم تعم بها البلوى في زمنهم وإنما كثر ذلك من بعد الستمائة ، وقد قام الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما حدث ذلك في زمنه القومة الكبرى في بيع الأمراء وقال : هؤلاء عبيد بيت المال ولا يصح عندي عتقهم ، وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر بسنده عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل إليه بعض أولاد خلفاء بني أمية فقال له : أعطني حقي من بيت المال فقال له عمر : ما أحوجك إلى أن أبيعك وأصرف ثمنك في مصالح المسلمين قال : وكيف ؟ قال : لأن أباك وهو خليفة أخذ أمك من رقيق بيت المال واستولدها إياك ولم يكن له ذلك فهو زان وأنت عبد بيت المال ، وفي طبقات الحنفية في ترجمة بعض علمائهم أنه كان من مماليك الخليفة الناصر(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
فاشتغل بالعلم وبرع وصار إماماً قائماً بالتدريس والافتاء فأرسل إليه الخليفة الناصر بعتقه وقال له : إنك قائم بنفع المسلمين فرد إليه العتاقة وقال : أنا عبد بيت المال فلا يصح عتقي فإن قال قائل : فقد ذكر الأصحاب في الأسير أن الإمام يتخير فيه بين القتل والمن والإسترقاق قلنا لا يصح القياس على مسألة الأسير لأنه يجوز تفويته بالقتل فبالمن أولى ولأنه لم يصرف فيه شيء من بيت المال بخلاف هذا الذي اشترى بثمن منه ، وأيضاً فقد نص الأصحاب على أنه ليس للإمام ذلك في الأسير بالتشهي بل ينظر ما تقتضيه المصلحة فيفعله وثبوت المصلحة في عتق هذا الجم الغفير من مماليك بيت المال متعذر أو متعسر ، وإن وجدت في واحد أو عشرة أو مائة لا توجد في ألوف مؤلفة ، وأي مصلحة في عتقهم وجميع ما يراد منهم يمكنهم فعله مع الرق ، إذا عرف ذلك عرف أن مرجع ما بأيديهم إلى أنه مال بيت المال فهذا القسم من الأوقاف مبناه على المسامحة والترخيص لأن لكل من العلماء وطلبة العلم من الاستحقاق في بيت المال أضعاف ما يأخذونه منهم .
والدليل على هذه التفرقة أمور : منها أن الشيخ ولي الدين العراقي لما حكى قول السبكي في إعطاء وظيفة العالم ، والفقيه لولده الصغير فرق بين الاوقاف الخاصة والتي مأخذها من بيت المال وأظن الأذرعي سبقه إلى ذلك ، ومنها أنه وقع في بعض كلام البلقيني التصريح بأن طلبة العلم يأكلون من هذه الأوقاف الموجودة الآن على وجه أنهم يستحقون من بيت المال ذلك وأكثر منه ذكر ذلك في مجلس عقد بسبب ذلك أيام الظاهر برقوق ، ومنها أنك إذا تأملت فتاوى النووي ، وابن الصلاح وجدتهما يشددان في الأوقاف غاية التشديد ، وإذا تأملت فتاوى السبكي ، والبلقيني ، وسائر المتأخرين وجدتهم يرخصون ويسهلون وليس ذلك منهم مخالفة للنووي بل كل تكلم بحسب الواقع في زمنه ، فإن غالب الأوقاف التي كانت في زمن النووي ، وابن الصلاح كانت خاصة ، وإنما حدثت أوقاف الأتراك في أواخر القرن السابع وكثرت في القرن الثامن وهو عصر السبكي ومن بعده وقطعت الأرزاق التي كانت تجري على الفقهاء من بيت المال من عهد عمر بن الخطاب إلى الخليفة المستعصم كل عام فرأى العلماء أن هذه الأوقاف أرصدت لهم من بيت المال عوضاً عما كانوا يأخذونه منه كل عام فرخصوا فيها لأنهم كانوا يأخذون ذلك القدر من غير عمل يكلفونه بل على القيام بالعلم خاصة ، فمن كان بهذه الصفة جاز له فيما بينه وبين الله الأخذ منها وإن لم يقم بما شرطه الواقف ، ومن لم يكن بصفة القيام بالعلم اشتغالاً وإشغالاً حرم عليه الأخذ منها وإن باشر العمل ، وقد قال الدميري في شرح المنهاج : سألت شيخنا يعني الأسنوي مرتين عن غيبة الطالب عن الدرس هل يستحق المعلوم أو يعطى بقسط ما حضر ؟ فقال : إن كان الطالب في حال انقطاعه يشتغل بالعلم استحق وإلا فلا ، ولو حضر ولم يكن بصدد الاشتغال لم يستحق لأن المقصود نفعه بالعلم لا مجرد حضوره ، وكان يذهب إلى أن ذلك من باب الارصاد ، وقال الزركشي في شرح المنهاج : ظن بعضهم أن الجامكية على الإمامة والطلب ونحوهما من باب الإجارة حتى لا يستحق شيئاً إذا أخل ببعض الصلوات أو(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
الأيام وليس كذلك بل هو من باب الارصاد والأرزاق المبني على الإحسان والمسامحة بخلاف الإجارة فإنها من باب المعارضة ، ولهذا يمتنع أخذ الأجرة على القضاء ويجوز إرزاقه من بيت المال بالإجماع انتهى ، وهذا الذي قاله الزركشي صحيح وهو محمول على الأوقاف التي هي من القسم الثاني كما كان الأكثر في زمانه ، وإذا قلنا بقوله من الاستحقاق مع الغيبة قلنا به مع الاستنابة من باب أولى ، ولا نقول بواحد من الأمرين في الأوقاف التي من القسم الأول ، وعلى هذا تحمل فتوى النووي بالمنع ، ونقول في القسم الثاني بجواز النزول وإعطاء الوظيفة للولد الصغير ولا نقول بذلك في القسم الأول ، وينبني على ذلك أيضاً مسألة تقديم الشيخ فما كان من القسم الأول لا يقدم فيه أحد على أحد إلا بنص من الواقف ، وما كان من القسم الثاني ينظر ، فإن كان الشيخ بصفة الاستحقاق من بيت المال لا تصافه بالعلم وبقية المنزلين ليسوا كذلك قدم الشيخ إذا ضاق الوقف قطعاً لأنه منفرد بالاستحقاق ، وإن كان الكل بصفة العلم والشيخ أحوج منهم قدم كما يقدم إذا ضاق بيت المال الأحوج فالأحوج ، وإن استووا في العلم والحاجة صرف بينهم بالمحاصة من غير تقديم ، وينبني على ذلك أيضاً مسألة الاقتصار على صنف من الأصناف المقررة ، ففي القسم الأول لا يقتصر بل يصرف من كل صنف بالمحاصة مراعاة لغرض الواقف ، وفي الثاني يجوز الاقتصار عند الضيق والأولى الاقتصار على النقد لأنه أيسر وبه تحصل سائر الأصناف والله أعلم .
كشف الضبابة في مسألة الاستنابة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال كثيراً عن الاستنابة في الوظائف فقد عمت البلوى بها وتمسك كثير من النظار في عدم جوازها بما نقل عن النووي ، وابن عبد السلام أنهما أفتيا بعدم جوازها ، وتمسك طائفة منهم في جوازها بما نقله الدميري في شرح المنهاج عن السبكي وغيره أنهم أفتوا بجوازها ، وقد أفتيت بذلك غير مرة ، وسئلت الآن عن تحرير القول في ذلك من جهة النظر والدليل فوضعت له هذه الكراسة .
ونبدأ بنقل كلام السبكي وغيره في ذلك ، قال السبكي في شرح المنهاج في باب الجعالة ما نصه : فرع يقع كثيراً في هذا الزمان إمام مسجد يستنيب فيه أفتى ابن عبد السلام ، والمصنف بأنه لا يستحق معلوم الإمامة لا المستنيب لعدم مباشرته ولا النائب لعدم ولايته ، قال : واستنبطت أنا من قول الأصحاب أن المجعول إذا استعان بغيره وحصل من غيره العمل على قصد الإعانة منفرداً أو مشاركاً إذا المجعول له يستحق كمال الجعل أن ذلك جائز ، وأن المستنيب يستحق جميع المعلوم لأن النائب معين له لكني أشترط في ذلك أن يكون النائب مثل المستنيب أو خيراً منه لأن المقصود في الجعالة رد العبد مثلاً ولا يختلف باختلاف الأشخاص ، والمقصود في الإمامة العلم والدين وصفات أخر ، فإذا كان المتولي(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
بصفة ونائبه مثله فقد حصل الغرض الذي قصده من ولاه فكان كالصورة المفروضة في الجعالة ، وإذا لم يكن بصفته لم يحصل الغرض ، فلا يستحق واحد منهما إن كانت التولية شرطاً ، وإن لم تكن شرطاً استحق المباشر لاتصافه بالإمامة المقتضية للاستحقاق ، والاستنابة في الإمامة تشبه التوكيل في المباحات ؛ وفي معنى الإمامة كل وظيفة تقبل الاستنابة كالتدريس ونحوه وهذا في القدر الذي لا يعجز عن مباشرته بنفسه ، أما في ما يعجز عنه فلا إشكال في الاستنابة هذا كله كلام السبكي ، ونقله الشيخ كمال الدين الدميري في شرح المنهاح وأقره ، ثم قال : كان الشيخ فخر الدين بن عساكر مدرساً بالعذراوية ، والتقوية ، والجاروخية وهذه الثلاثة بدمشق والمدرسة الصلاحية بالقدس يقيم بهذه أشهراً وبهذه أشهراً في السنة هذا مع علمه وورعه قال : وقد سئل في هذا الزمان عن رجل ولي تدريس مدرستين في بلدتين متباعدتين كحلب ، ودمشق فأفتى جماعة بجواز ذلك ، واستنيب منهم قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي ، والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله البعلبكي ، وشمس الدين الغزي ، والشيخ عماد الدين الحسباني كلهم من الشافعية ، ومن الحنفية ، والمالكية ، والحنابلة آخرون انتهى .
وأقول : قد أباح الله ورسوله وحملة الشرع من جميع المذاهب الاستنابة في عدة مواضع كل واحد منها يصلح على انفراده دليلاً مستقلاً لجواز الاستنابة في الوظائف وهي قسمان : قسم تجوز الاستنابة فيه وأن لم يكن عذر ، وقسم لا يجوز إلا مع العذر . فأما القسم الأول ففيه فروع : الأول تجوز الاستنابة في غسل أعضاء الوضوء وإن لم يكن له عذر ، قال النووي : ولا نعلم في ذلك خلافاً بين المسلمين إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال : لا يصح وضوؤه إذا وضأه غيره ، ورد عليه بأن الإجماع منعقد على خلاف ما قاله ، وكذا تجوز الاستنابة في صب الماء على الأعضاء وفي إحضاره للطهارة من غير كراهة فيهما سواء كان له عذر أم لم يكن ، فهذه ثلاثة فروع . الفرع الرابع : يجوز لمن أراد التيمم أن يستنيب رجلاً يطلب عنه الماء سواء كان له عذر أم لا ، قال النووي : هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وحكى الخراسانيون وجهاً أنه لا تجوز الاستنابة إلا لمعذور قال : وهذا الوجه شاذ ضعيف . الخامس : يجوز أن يستنيب من ييممه ويمسح أعضاءه بالتراب وإن لم يكن له عذر على الصحيح وفيه الوجه المذكور أنه لا يجوز بلا عذر قال النووي : وهو شاذ ضعيف . السادس : كان الأصل في الأذان أن يكون من وظائف الإمام الأعظم لأنه من شعائر الإسلام كالإمامة والحكم بين الناس ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لو أطيق الأذان مع الخليفى لأذنت فتفويضه إلى غيره استنابة . السابع : الإمامة في الصلاة أيضاً من وظائف الإمام الأعظم ولهذا استمر الخلفاء دهراً هم الذين يقيمون الجماعة فتفويض ذلك إلى غيره استنابة ، ومما يدل على أنها من وظائف الإمام الأعظم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه أبو لؤلؤة وعهد إلى أهل الشورى أوصى أن يصلي صهيب(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
بالناس حتى يجتمعوا على خليفة ، فلما توفي عمر وحضروا للصلاة عليه أراد عثمان أن يتقدم وذلك قبل البيعة فقال له عبد الرحمن بن عوف : ليس ذلك لك الآن إنما هو لصهيب الذي أوصى له . الثامن : من وظائف إمام الصلوات أن يأمر المأمومين بتسوية الصفوف عند إرادة الإحرام ، فلو كان المسجد كبيراً استناب رجلاً يأمرهم بتسويتها ، التاسع : يجوز أن يستنيب من ينظر له هل طلع الفجر أو زالت الشمس أو غربت الشمس أو غرب الشفق لأجل الصلوات والصوم ، ولا يلزمه أن يتولى ذلك بنفسه وإن لم يكن له عذر . العاشر : إقامة الجمعة والخطبة من وظائف الإمام الأعظم أيضاً على ما قررناه وتفويضه للغير استنابة . الحادي عشر : استخلاف الإمام إذا خرج من الصلاة لحدث أو رعاف رجلاً يتم الصلاة بالمقتدين استنابة . الثاني عشر : إذا صلى الإمام الأعظم العيد في الصحراء بالناس إستناب رجلاً يصلي بالضعفة في المسجد . الثالث عشر ، والرابع عشر : تجوز الاستنابة في تفرقة الزكاة وفي نيتها . الخامس عشر ، والسادس عشر : تجوز الاستنابة في صرف الكفارات والصدقات المندوبة . السابع عشر ، والثامن عشر : تجوز الاستنابة في ذبح الهدي وفي ذبح الأضحية . التاسع عشر : تجوز استنابة أصناف الزكاة في قبضها لهم ذكره في الروضة من زوائده . العشرون : الحكم بين الناس وظيفة الإمام الأعظم فإقامته القضاء لفصل الأحكام استنابة ولم يستنب النبي صلى الله عليه وسلّم قاضياً ولا أبو بكر وأول من استناب عمر أخرج الطبراني بسند حسن عن السائب بن يزيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر لم يتخذا قاضياً وأول من استقضى عمر ) قال : رد عني الناس في الدرهم والدرهمين ، وأخرج أبو يعلى بسند صحيح عن ابن عمر قال : ما اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قاضياً ولا أبو بكر ، ولا عمر حتى كان في آخر زمانه قال ليزيد ابن أخت نمر : أكفني بعض الأمور يعني صغارها الحادي والعشرون إلى الثالث والثلاثين : ولاية الحسبة ، وولاية المظالم ، وولاية الجرائم ، وإمارة الجهاد ، وإمارة سائر الحروب ، وإمارة تسيير الحجاج ، وإمارة إقامة الحج ، وولاية قسم الفيء والغنيمة ، وولاية الجزية ، وولاية الخراج ، وولاية الاقطاع ، وولاية الديوان ، وولاية النظر في بيت المال كلها ولايات شرعية وهي من وظائف الإمام وتفويضه إياها لغيره استنابة وهم نواب له ، وقد عقد لها الماوردي أبواباً في كتاب الأحكام السلطانية فليت شعري كيف تنكر الاستنابة في عمل وظيفة ونواب الإمام الأعظم طبقت الدنيا في كل بلد في أنواع الأعمال التي كلها وظائفه ومطوقة به شرعاً ومتعلقة بذمته ومطوقة بعنقه يسأل عنها يوم القيامة عملاً عملاً . الرابع والثلاثون : لولي النكاح أن يستنيب رجلاً في تزويج موليته . الخامس والثلاثون : قال الماوردي وأقره النووي : لو استأجره لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم لم يصح ، وأما الجعالة عليها فإن كان على مجرد الوقوف عند القبر ومشاهدته لم يصح لأنه لا تدخله النيابة ، وإن كان على الدعاء عند زيارة قبره جاز لأن الدعاء مما تدخله النيابة ولا يضر الجهل بنفس الدعاء انتهى ، فكذلك تدخل النيابة في وظيفة قراءة القرآن والدعاء للواقف . السادس والثلاثون : ذهب(1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
السبكي إلى أنه يجوز أن يستأجر الشخص إنساناً للدعاء فيقول : استأجرتك بكذا لتدعو لي بكذا فيذكر ما شاء من أمور الدنيا والآخرة .
فهذه ستة وثلاثون فرعاً كلها في العبادات ، ومما جازت فيه الاستنابة من غير العبادات طرفاً البيع بأنواعه والسلم ، والرهن ، والهبة ، والصلح ، والإبراء ، والحوالة ، والإقالة ، والضمان ، والكفالة ، والشركة ، والقراض ، والمساقاة ، والإجارة ، والجعالة ، والإيداع ، والإعارة ، والأخذ بالشفعة ، والوقف ، والوصية ، والنكاح ، والخلع ، والطلاق ، والرجعة ، والإعتاق ، والكتابة ، وقبض الديون ، وإقباضها ، والأموال ، والجزية ، وتعيين المختارة للنكاح أو الطلاق وتملك المباحات كالاحياء ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء ، والدعوى ، والجواب ، واستيفاء الحدود ، وسواء في كل ذلك كان للموكل عذر أم لا ، وجوز بعضهم الاستنابة في الإقرار ، والالتقاط ، والظهار ، والتدبير ، فهذه نحو مائة موضع أباح علماء المسلمين الاستنابة فيها من غير عذر وغالبها مما انعقد فيه الإجماع ، أفلا يصلح أن تلحق الوظائف التي مبناها على الإحسان والمسامحة بواحد منها ؟
ومن ألطف الفروع التي تجوز فيها الاستنابة ما ذكره إمام الحرمين في الأساليب أنه يجوز أن يستأجر رجلاً ليسرق له شيئاً من أموال الكفار من غير قتال ويكون ملكاً للمستأجر ، ومن ألطفها أيضاً ما في فتاوي ابن الصلاح أنه يجوز أن يستأجر رجلاً ليقعد مكانه في الحبس فإذا كان هذا في الحبس المقصود منه الزجر والتعلق بإنسان معين ففي سد وظيفة أولى .
فصل : وأما القسم الثاني وهو ما يكون عند العذر ففيه فروع ، منها جواز الاستنابة في الحج للمغصوب ، وجواز الاستنابة في رمي الجمار لمن يحج بنفسه وحصل له عذر أيام الرمي ، وجواز الاستنابة في الصوم عن الميت على ما صححه النووي ووردت به الأحاديث الصحيحة ، وجواز الاستنابة في الاعتكاف عنه في قول حكاه البويطي عن الشافعي ، وجواز الاستنابة في الصلاة عنه في وجه حكاه .
فصل : ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في ترجمة الشيخ محي الدين النووي أنه باشر تدريس الإقبالية نيابة عن ابن خلكان وكذلك الفلكية والركنية ، وهذا من النووي دليل على أنه تجوز الاستنابة لأنه أورع من أن يفعل ما لا يجوز .
فصل : ومن الدليل على جواز الاستنابة أن جماعة من الصحابة كانوا يفتون الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم والإفتاء بالأصالة إنما هو منصب النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه المبعوث لتبليغ الناس وتعليمهم ، وإفتاء العلماء بعد وفاته إنما هو بطريق الخلافة والوراثة عنه ، فإفتاؤهم في حياته بإذنه استنابة منه لهم ليقوموا عنه بما هو منصب له على وجه النيابة ، وقد عقد ابن سعد في الطبقات باباً في ذكر من كان يفتي بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخرج فيه عن ابن عمر أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ قال : أبو بكر ، وعمر ، وأخرج عن القاسم بن محمد قال : كان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي يفتون على عهد(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وأخرج عن أبي عبد الله بن نيار الأسلمي قال : كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وأخرج عن كعب بن مالك قال : كان معاذ ابن جبل يفتي الناس بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وأخرج عن سهل بن أبي حثمة قال : كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة من المهاجرين وثلاثة من الأنصار : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وقد تحصل من هذه الآثار ثمانية كانوا يفتون والنبي صلى الله عليه وسلّم حي وقد جمعتهم في بيتين فقلت :
وقد كان في عصر النبي جماعة
يقومون بالإفتاء قومة قانت
فأربعة أهل الخلافة معهم
معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت
فصل : ومن الدليل على جواز الاستنابة ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد مسند أبيه عن علي بن أبي طالب قال : ( لما نزلت عشر آيات من براءة دعا النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكر ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي : أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة فلحقته فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال : ( لا ولكن جبريل جاءني فقال لي لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ) وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه عن أنس ( قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلّم ببراءة مع أبي بكر ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً فأعطاه إياه ) فهذه استنابة من النبي صلى الله عليه وسلّم في تبليغ ما أمر بتبليغه ، ثم لما أمر أن يستنيب رجلاً من قبيلة مخصوصة رجع إليه ، فيستدل بفعله أولاً على جواز الاستنابة مطلقاً إذا سكت الواقف عن شرط ، ويستدل بفعله ثانياً على أنه إذا خصص الواقف تخصيصاً يتبع شرطه ، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : ( بعث النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه علياً فانطلقا فحجا فقام على أيام التشريق فنادى ذمة الله [ ورسوله ] بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، فكان علي ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر فنادى بها ، فهذه نيابة من أبي بكر عن علي فإنه قصد بالبعث علي ، وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ( بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، فهذه نيابة من أبي هريرة أيضاً ، والمقصود بالتبليغ في هذه القصة أن تكون من علي .
فصل : هذا كله في وقف سكت واقفه عن ذكر الاستنابة إباحة ومنعاً ، وكان الواقف حراً مالكاً لما وقفه إما وقف صرح واقفه بتجويز الاستنابة أو بمنعها فإنه يتبع شرطه لا محالة ، وأما وقف لم يملكه واقفه وذلك كالذي وقفه أمير المؤمنين أو السلطان من بيت المال فإن ذلك حكمه حكم الأرصاد لا حكم الأوقاف التي ملكها واقفوها فلا يتقيد بما شرطه الواقف فيها لأنه مال بيت المال أرصد لمصالح المسلمين ، فإذا قرر فيه بعض من له استحقاق في بيت المال جاز له أن يأكل منه ، وإن لم يقم بذلك الشرط ولو لم يكن بصفة الاستحقاق من بيت المال لم يجز له أن يأكل منه ولو باشر تلك الوظيفة ، وبهذا صرح المتأخرون(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
أصحابنا فقال الزركشي في شرح المنهاج في باب الإجارة : ظن بعضهم أن الجامكية عن الإمامة والطلب ونحوهما من باب الإجارة حتى لا يستحق شيئاً إذا أخل ببعض الصلوات أو الأيام وليس كذلك بل هو من باب الأرصاد والأرزاق المبني على الإحسان والمسامحة ، بخلاف الإجارة فإنها من باب المعارضة ولهذا يمتنع أخذ الأجرة على القضاء ويجوز إرزاقه من بيت المال بالإجماع انتهى .
وقال الدميري في شرح المنهاج في باب الجعالة : سألت شيخنا يعني الأسنوي مرتين عن غيبة الطالب عن الدرس هل يستحق المعلوم أو يعطى بقسط ما حضر ؟ فقال : إن كان الطالب في حال انقطاعه يشتغل بالعلم استحق وإلا فلا ، ولو حضر ولم يكن بصدد الاشتغال لم يستحق لأن المقصود نفعه بالعلم لا مجرد حضوره وكان يذهب إلى أن ذلك من باب الارصاد انتهى .
ومن صور ذلك ما يشتري من أراضي بيت المال بالحيلة من غير بذل ثمن معتبر فحكمه حكم ما وقفه السلطان من أراضي بيت المال ، وقد أراد برقوق في سنة نيف وثمانين وسبعمائة إبطال جميع الأوقاف وردها إلى بيت المال بهذه الحجة وعقد لذلك مجلساً حضره علماء عصره فقال الشيخ سراج الدين البلقيني : أما ما وقف على خديجة وعويشة فنعم ، وأما ما وقف على المدارس والعلماء وطلبة العلم فلا سبيل إليه لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك ، وإنما يأكلون من هذه الأوقاف بسبب استحقاقهم من بيت المال ، ومن صور ذلك ما اشترى بعقد صحيح وبذل فيه الثمن المعتبر ولكن كان مشتريه من الأتراك الذين أصلهم عبيد بيت المال وأعتقهم السلطان مجاناً فإن عتقهم في هذه الصورة غير صحيح فكل ما في أيديهم ملك لبيت المال فتجري أوقافهم على هذا الحكم .
المباحث الزكية في المسألة الدوركية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فقد ورد على سؤال من بلاد دوركي صورته قال الواقف في كتاب وقفه : وقف على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث فإن لم يبق من أولاده الذكور أحد يكون وقفاً على أولاده الإناث ، ما تقول السادة العلماء في معنى قوله : فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفاً على أولاده الإناث ؟ وفي مرجع الضميرين المجرورين فيه أنهما لماذا يرجعان وبماذا يصح معنى كتاب الوقف وما تقول فيمن قال بتحريم إناث الذكور وانتقال الوقف من نسل الواقف والخروج منهم بانقطاع الأولاد الصلبية بعد ما تصرفوا فيه بإذن الحاكمين الحنفي ، والشافعي ، مدة سبع وعشرين سنة زعماً منه أن معنى كتاب الوقف هكذا المفهوم من العبارة الواقعة في كتاب الوقف وهي أي الطاحونة وقف على أولاده الذكور أي على أولاد الواقف الذكور لما أن الضمير في أولاده راجع إلى الواقف ، وعلى أولادهم الذكور الضمير راجع إلى أولاد الذكور دون(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
الإناث نفي عن إناث الذكور فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفاً على أولاده الإناث فما بعد يكون وقفاً على المسجد الجامع المعمور بدوركي ، فعلم من ذلك أن الواقف اختص أولاً إلى ذكور الواقف وخرج من البين إناث الذكور خائبات بحكم عبارة دون الأناث ولم يستحق الوقف إلا من هو من الإناث الصلبية للواقف ، ولو بقي أحد من تلك الإناث الصلبية يستحق إلى حين الانقراض وإلا لا يستحق له أحد غيرها فمن عانده يأتي بحجة شرعية لا بحجة عقلية هذه صورة السؤال .
فكتبت عليه ما نصه : قول الواقف على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث ينفي أولاد بنات الذكور لا بنات الذكور ، والحاصل أن الواقف قصر الوقف على من ينسب إليه فأولاد بنيه يعطونَ ذكوراً كانوا أو إناثاً إذا وجد شرط الإناث وهو فقد الذكور وأولاد بنات بنيه لا يعطون البتة لأنهم لا ينسبون إليه ، فبنت الابن تنسب إلى جدها كابن الابن ، وبنت البنت أو ابن البنت إنما ينسبان إلى أبيهما لا إلى جدهما أبي أمهما ، فضمير أولادهم للأولاد والذكور صفة لأولاد المضاف إلى الضمير لا لأولاد الأول المضاف إلى أولادهم ، إذ لو كان صفة له لزم محذور أشد وهو الصرف إلى الأولاد الذكور من نسل جميع أولاد الأولاد الشامل للذكور والإناث فيلزم الصرف إلى ابن بنت الابن وهو خلاف المراد المفهوم من سياق غرض الواقف حيث منع بنات نفسه مع وجود الذكور فلا يمكن إعطاء من أدلى ببنت ابن مع وجودهم ووجود بنات نفسه ، فعلم أن مقصوده إعطاء من ينسب إليه من بنيه وبناته وأولاد بنيه ذكوراً وإناثاً وأولاد بني بنيه دون أولاد بنات بنيه ، وعلم شرط فقد ، لذكور في إعطاء الإناث من صلبه بالنص منه ومن بنات أولاده إما بالقياس عليهن وإما بعموم نصه ، فإن قوله أولاده في الموضعين وهماً ، فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفاً على أولاده الإناث قد يقال لشموله لهم لفظاً لكون الجملة جاءت عقب النوعين ، وإن كان الراجح عندنا أن أولاد الأولاد لا يدخلون في الوقف على الأولاد فهذا مدرك آخر خاص بهذه الواقعة هذه صورة الجواب .
وقد أورد عليه أنه على هذا التقرير يلزم خلو نص الواقف عن استحقاق أولاد أولاده ، فإنه لم يذكر أولاً أولاد وأولاد أولادهم ولم يذكر أولادهم ، وأقول : هذا الأمر مما زادنا يقيناً فيما أفتينا به من استحقاق بنات أولاده بشرط فقد الذكور ، ومن أن الذكور صفة لأولادهم لا لأولاد المضاف هو إليه ، ومن أن قوله أولاده في الموضعين شامل بعموم لفظه للحقيقة والمجاز أعني أولاد صلبه وأولاد أولاده فإن قلت : بين لي ذلك حتى أفهمه ، قلت : الذي يحمل عليه عبارة الواقف أن قوله وقف على أولاده الذكور ليس قاصراً على أولاد صلبه بل عاماً في جميع نسله الذكور الطبقة الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى آخر نسله فإن قلت : كيف تقول ذلك وكيف يسوغ لك هذا الحمل وهذا عندك في المنهاج ولا يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد في الأصح فهذا إفتاء بالقول المرجوح قلت : كلا غير(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
أنك قاصر عن إدراك المدارك ، والمدرك في هذا الحمل أمور : الأول أن شراح المنهاج قالوا : إن محل الخلاف فيما إذا لم يرد الواقف جميعهم فإن أراد ذلك دخل أولاد الأولاد قطعاً ذكره ابن خير أن في اللطيف ، وإراده الواقف تعرف بالقرائن وقد قامت هنا وهي ما يذكر بعد هذا . الأمر الثاني : أن قوله وأولاد أولادهم الذكور قرينة ظاهرة في أنه أراد بالأولاد جميع نسله لا أولاد صلبة فقط ، ونص على هذا الفرع بخصوصه وهو الطبقة الثالثة ليبين شرطها الخاص بها وهو أن يكون ممن ينسب ، إلى الواقف بأن يكون من ذرية أولاد أولاده الذكور لا من ذرية أولادهم الإناث ، ولو كان المراد بالأولاد الصلبية فقط لزم أن يعطي الأولاد وأولاد أولادهم دون أولادهم وهو خلاف الظاهر . الثالث : أنه ليس المراد أيضاً بأولاد أولادهم طبقة مخصوصة بل هو عام في كل طبقة من النسل وإن بعدت لا يعطي من طبقات النسل إلا من يدلي إلى الواقف بمحض الذكور ، ولا يعطي من أدلى بإناث فكما أن هذا عام في أولاد أولادهم لصلبهم ومن سفل فكذلك قوله على أولاده عام فيمن هم لصلبه ومن سفل . الرابع : لو أخذنا بالخصوص وقلنا الأولاد خاص بالصلبية دون أولاد الأولاد لكان الثاني أيضاً كذلك وهو قوله وأولاد أولادهم ، فلم يكن يعطي من أولاد أولادهم إلا طبقة واحدة وهم أولادهم لصلبهم وكان يحرم جميع الطبقات بعدهم وينقرض أهل الوقف بانقراض الطبقة الثالثة ولا سبيل إلى ذلك . الخامس : أن الالفاظ يراعي فيها عرف أربابها والواقف لهذا الوقف والحاكم به والموثق كلهم حنفية ومذهب الحنفية أن الوقف على الأولاد يدخل فيه أولاد البنين .
قال في المحيط : لو وقف على ولده يدخل فيه أولاده لصلبه وأولاد أبنائه ، وفي أولاد البنات روايتان عن محمد أنهم يدخلون فيه لأن اسم الولد يتناولهم لأن الولد اسم المتولد متفرع من الأصل ، وأولاد البنات متفرعة متولدة من الأم ، وأمهم متولدة من الجد فكانت بواسطة الأم مضافة إلى الجدة ، وقال في موضع آخر : لو قال أرضي هذه صدقة موقوفة على أولادي دخل فيه البطون كلها لعموم اسم الأولاد ، وقال في موضع آخر : لو قال هذه صدقة على ولدي وولد ولدي وأولادهم دخل فيه البطون كلها وإن كثروا الأقرب والأبعد فيه سواء لأنه لما قال أولادهم فقد ذكرهم مضافاً إلى أولاده لا إلى نفس الواقف فقد ذكر أولادهم على العموم فيقع ذلك على البطون كلها انتهى .
فعلم أن الواقف ومن وثق عنه اقتصر على لفظ الأولاد في الوقف لاعتقاده أنه شامل لجميع نسله بناء على مذهبه ، وزاد هذا المراد ايضاحاً تنصيصه على شرط يختص ببعض الفروع النازلة ، فعلم أن مراده بقوله على أولاده الذكور جميع نسله من صلبه ومن سفل ، فكذلك قوله يكون وقفاً على أولاده الإناث يكون مراداً به جميع الإناث من نسله من كانت لصلبه وبنات بنيه ، وخرج ببنات بناته وبنات بنات بنيه بالشرط الذي شرطه ، ويرشح أن الواقف والموثق مشيا في لفظ أولاده على الشمول بناء على مذهبهما أن عبارة الواقف وجيزة جداً ليس فيها إلا هذا القدر المذكور في السؤال من غير بسط ولا إطناب كما يفعله(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
موثقو بلادنا . الأمر السادس : أن الذي زعم إخراج بنات البنين من البنين متمسكاً بما تمسك به أخطأ خطأ ثانياً بعد خطأه أولاً حيث رام إخراجهم من لفظ الأولاد مع دخولهم فيه في مذهبه ، وذلك أنه إذا نظر إلى قول الواقف فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفاً على أولاده الإناث ، فإن أخذ لفظ أولاده في الشقين على العموم في أولاد الصلب وأولاد البنين فهو المدعي ويلزمه أن يعطي بنات البنين ، وإن أخذه على الخصوص فيهما بأولاد الصلب قلنا له يا غافل يلزمك أن لا تعطي من أولاد الأولاد أحداً فإنه رتب على فقد أولاده الذكور إعطاء أولاده الإناث وقد جعلت الأولاد فيهما خاصاً بالصلبية فلزم أن تعطي بنات الصلب عند فقد ذكور الصلب وتصرفه إلى الجامع عند فقد إناث الصلب ويذهب أولاد الأولاد الذكور خائبين فيبقى قول الواقف : وأولاد أولادهم الذكور لاغياً لا يعمل به وهو باطل ، وإن أخذه على العموم في الشق الأول دون الثاني فهو تحكم بحت فتعين أن يكون معنى قوله فإن لم يبق من أولاده الذكور أي من فروعه صلبية ومن سفل يكون وقفاً على أولاده الإناث أي فروعه صلبية ومن سفل ، هذا ما سنح في هذه المسألة والله أعلم .
القول المشيد في وقف المؤيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال عز عن وقف الملك المؤيد شيخ وذلك أنه وقف وقفاً وقال فيه مهما فضل بعد المصارف يصرف لأولاده لصلبه ثم لأولادهم ثم لذريتهم ونسلهم وعقبهم طبقة بعد طبقة تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى ، على أن من مات منهم عن ولد أو ولد ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه فإن لم يكن له ولد ولا نسل ولا عقب انتقل نصيبه إلى من هو في درجته يقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم ، ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب وابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، وعلى أنه من توفى منهم ومن أولادهم ومن أولاد أولادهم ومن أنسالهم وأعقابهم وإن سفل قبل أستحقاقه لشيء من منافع هذا الوقف وترك ولداً أو ولد ولد أو نسلاً أو عقباً أو أسفل من ذلك استحق ولده والأسفل منه ما كان يستحقه المتوفي لو بقي حياً حتى يصير إليه شيء من منافع هذا الوقف وقام في الاستحقاق مقام المتوفي أباً كان أو أماً أو جداً أو جدة ومن يجري مجراهم ومات الواقف وخلف أولاداً ذكوراً وإناثاً ثم ماتوا ولم يبق للواقف إلا ابنة واحدة فماتت وخلفت ابنة وابن ابن فهل تقدم الابنة عملاً بقول الواقف يقدم الأقرب إلى المتوفي منهم فالأقرب أو يشاركها ابن الابن ؟
فأفتيت بما نصه : تختص البنت بنصيب أمها ولا يشاركها ابن الابن وذلك لأمرين أحدهما قوله إن من مات عن نصيب وله ولد وأسفل منه ينتقل نصيبه لولده ويقدم الأقرب إلى المتوفي منهم فالأقرب ، وهذه صورة هذه الواقعة فإن بنت الواقف ماتت عن نصيب(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
ولها ولد وأسفل منه فينتقل نصيبها لولدها ويقدم الأقرب وهي البنت على الأبعد وهو ابن الابن عملاً بتنصيص الواقف في هذه الصورة بخصوصها ، والثاني قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فقد أفتى السبكي في هذه الصورة بعينها بأن العمة تختص ولا يشاركها أولاد إخوتها ، هكذا اجاب به في ثلاثة مواضع من فتاويه وقال عملاً بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى وقال : إن العمل بهذه الجملة أولى من العمل بجملة ومن مات قبل الاستحقاق إلى آخره ، لأن العمل بالجملة الأولى لا يؤدي إلى إلغاء الجملة الثانية بالكلية لأنها يعمل بها في بعض الصور وهو ما إذا فقد من هو أقرب بخلاف العمل بالجملة الثانية فإنه يؤدي إلى إلغاء الجملة الأولى بالكلية فإن حملها على حجب كل أصل لفرعه فقط غير مفيد لعدم الحاجة إليه إذ لم يدخل ولد الولد في لفظ الوقف مع وجود الولد حتى يحتاج إلى الاحتراز عنه ، وأكثر ما يقال إنه تأكيد والتأسيس أولى من التأكيد وهذا كلام السبكي في أحد المواضع ، وقال في موضع آخر : إن بعض الحنابلة خالفه وأفتى بالمشاركة وحمل حجب الطبقة العليا السفلى على حجب كل أصل لفرعه لا على الترتيب بين الطبقتين ، قال : وهذا ضعيف وخلاف الظاهر ، وأطال السبكي الكلام في تقرير ذلك في موضعين آخرين بما لا يحتمل المحل بسطه ، ووافقه الشيخ ولي الدين العراقي فأفتى في صورة نظير هذه بالاختصاص أيضاً وعدم المشاركة تقديماً لأقرب الطبقتين ، ثم قال : وبلغني عن بعض الشافعية ، والمالكية ، والحنابلة أنهم أفتوا بالمشاركة عملاً بقول الواقف : ومن مات قبل الاستحقاق إلى آخره قال : وهذا عندي ضعيف لأنا لا نخص عموم حجب الطبقة العليا السفلى بهذا المفهوم المستنبط من عبارة الواقف وإنما نخصه بأحد المخصصات المعروفة ولم يوجد ذلك إلا فيما إذا مات عن نصيب وله ولد فإنه ينتقل نصيبه إليه . هذا كلام الشيخ ولي الدين .
وأعلم أن السبكي إنما اعتمد في جوابه على جملة تحجب العليا السفلى فقط لأنه لم يكن في لفظ سؤاله غيره ونحن اعتمدنا في جوابنا عليه وعلى أمر ثان هو أقوى منه وهو تنصيص الواقف على تقديم الأقرب إلى المتوفي عند ذكر من مات عن نصيب وله ولد أو أسفل منه ، وبيان كون هذا أقوى أن المقرر في علم الأصول أن الألفاظ ثلاثة نص ، وظاهر ، ومحتمل . فالنص مالا يحتمل إلا معنى واحداً ، والظاهر ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر ، والمحتمل ما احتمل معنيين على السواء من غير رجحان ، ومرتبتها في القوة على هذا الترتيب وأنه عند التعارض يقدم النص على الظاهر والظاهر على المحتمل .
وقد اجتمعت الألفاظ الثلاثة في هذا الوقف فالنص قوله فيمن مات عن نصيب وله ولد أو أسفل منه أنه يقدم الأقرب إلى المتوفي فإن هذا لا يحتمل إلا معنى واحداً ، والظاهر قوله تحجب الطبقة العليا السفلى فإن هذا يحتمل معنيين أحدهما أن يراد حجب كل أعلى لكل أسفل ، والثاني أن يراد حجب كل أصل لفرعه فقط ، والحمل على المعنى الأول أظهر لما ذكره السبكي من أن الثاني لا فائدة له إلا التأكيد والتأسيس أرجح من التأكيد وقد توافق في(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
هذا الوقف النص والظاهر معاً من غير تعارض ، والمحتمل قوله : ومن مات قبل الاستحقاق إلى آخره فإنه يحتمل أن يراد استحق مطلقاً مع من هو في درجته ومع من هو أعلى منه ، ويحتمل أن يراد استحق مع فقد من هو أعلى منه فقط والمعنيان من حيث اللفظ على السواء فقدم النص والظاهر معاً لقوتهما وأخر هذا المحتمل ليعمل به في صورة لم يعارضاه فيها وهو ما إذا فقد من هو أعلى منه وأقرب ، ولما لم يكن في سؤال السبكي لفظ هو نص وكان فيه لفظ ظاهر وهو تحجب الطبقة العليا السفلى ولفظ محتمل وهو قوله ومن مات قبل الاستحقاق إلى آخره وقد تعارضا رجح العمل بالظاهر على المحتمل جرياً على القاعدة ، وما وقع لبعض الأئمة من الإفتاء فيها بالمشاركة فذاك لكون لفظ السؤال فيها مخالفاً للفظ هذا السؤال ، والأجوبة في الأوقاف تختلف باختلاف الألفاظ فإن مبناها على مقتضيات الألفاظ فمتى اختلف بتغيير أو زيادة أو نقص اختلف الجواب بحسبه والله أعلم .
تقرير آخر : يوضح ما تقدم : قول الواقف ( على أن من مات منهم عن ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه فإن لم يكن له ولد ولا نسل انتقل نصيبه إلى من هو في درجته يقدم الأقرب إلى المتوفي منهم فالأقرب ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم ) اشتمل على أمرين : أحدهما أن نصيب من مات ينتقل إلى شعب الولد به ، الثاني أنه عند فقد شعب الولد به ينتقل إلى نوع من في الدرجة ، فقوله يقدم الأقرب إلى المتوفي منهم فالأقرب راجع إلى شعب الولد به وقوله ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم راجع إلى نوع أهل الدرجة ولو كان قوله يقدم الأقرب خاصاً بأهل الدرجة وليس راجعاً إلى شعب الأولاد لم يقل في الجملة المعطوفة عليه ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة بل كانت العبارة يقدم الأقرب فالأقرب وتقدم الأخوة على غيرهم ، فلما خص هذه الجملة بأهل الدرجة عرف أن الجملة التي قبلها إما أعم من ذلك وإما خاصة بشعب الأولاد ، فكما أنه إذا اجتمع في الدرجة إخوة وغيرهم وكان في غير الإخوة من مات أبوه قبل الاستحقاق وكان حياً لاستحق لم يعط شيئاً مع الإخوة عملاً بتنصيص الواقف على تقديم الإخوة من أهل الدرجة على غيرهم ، فكذلك إن كان مع الأولاد أولاداً ولا دمات آباؤهم قبل الاستحقاق ولو كانوا أحياء لاستحقوا لا يعطون مع الأولاد شيئاً عملاً بتنصيص الواقف في هذا النوع على تقديم الأقرب إلى المتوفي منهم فالأقرب .
ولنسق عبارة السبكي في المواضع المذكورة لتستفاد ، الموضع الأول : سئل السبكي عن امرأة وقفت على ذكور وإناث بالسوية فإن توفي واحد منهم عن ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه ، فإن لم يخلف ولداً فلإخوته الاشقاء ثم لغير الاشقاء ثم إلى من بقي من أهل طبقته ثم لأقرب الطبقات إلى الطبقة التي هو فيها ، على أن من توفي منهم قبل استحقاقه شيئاً من منافعه عن ولد وإن سفل ثم عادت شرائط الوقف إلى حال لو كان المتوفي فيها حياً لاستحق أقيم أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه وعاد له ما كان يعود لمتوفاه لو كان حياً تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فتوفيت امرأة من أهل الوقف تدعى فاطمة وتركت بنت عمها(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
ست اليمن وأولاد ثلاث أخوات لست اليمن ماتت الأخوات قبل وفاة فاطمة قبل انتهاء الوقف إليهن وبقي أولادهن فهل ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن وحدها أو يشاركها فيه أولاد أخواتها ؟ .
فأجاب الشيخ تقي الدين السبكي ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن عملاً بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى قال : وقد تعارض في هذا الوقف عمومان : أحدهما هذا فإنه أعم من حجب كل شخص ولده خاصة ومن حجبه الطبقة السفلى بكمالها من ولده وولد غيره . والثاني قوله إن من توفي قبل استحقاقه يقام أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه ، وهذا أعم من أن يكون بقي من طبقة المتوفي أحداً ولا فحجب كل شخص لولده لا إشكال فيه ، ومحل التعارض في إقامة ولد المتوفي مقامه عند وجود أقرب منه وفي مثل هذا التعارض يحتاج إلى الترجيح ووجه الترجيح أن العمل هنا بعموم قوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى لا يوجب إلغاء قوله إن من توفي قبل استحقاقه يقام ولده مقامه لأنا نعمل به عند عدم من هو أقرب منه بخلاف العكس وهو أن يجعل هذا على عمومه ونقيم الولد مقام والده مطلقاً فإن فيه إلغاء قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى .
وبيانه أن حجب الشخص غير ولده خارج منه على هذا التقدير ، وحجبه ولده إنما يحتاج إليه لو كان في اللفظ الأول ما يدخله وليس كذلك لأنه إنما وقف على الأقرب فلا يدخل ولد الولد مع وجود الولد فيه حتى يحترز منه غاية ما في الباب أن يقال : هو تأكيد والتأسيس أولى من التأكيد هذا جواب السبكي بحروفه ، ولو لم يكن في فتاويه إلا هذا الموضع لكان فيه كفاية لكن ذكره في مواضع أخر نسوقها .
الموضع الثاني : سئل السبكي عن رجل وقف على المجبر ثم على أولاده : أحمد ، وعائشة ، وفاطمة ، وزينب ، ثم على أولادهم وإن سفلوا ومن مات وله ولد وإن سفل كان نصيبه له ، وإن مات أحد ليس له نصيب وله أولادو إن سفلوا وآل الأمر إليهم استحقوا تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى وتوفي المجبر ثم توفيت بنته زينب ثم ولده أحمد وترك أولاداً أبا بكر ، وعلياً ، وعبد المحسن ، وشامية ، وتوفيت فاطمة بنت المجبر وتركت بنتها ملوك ، وشرف ، ورزقت عائشة أولاداً محمداً ، ونفيسة ، ودنيا ثم رزقت دنيا المذكورة في حياة أمها محمداً ، وعيسى ، وآسن ، ومريم ، ثم رزقت مريم محمداً ثم ماتت مريم المذكورة في حياة عائشة ثم ماتت عائشة عن محمد ، ونفيسة ، ودنيا ، وأولادها محمد ، وعيسى ، وآسن وعن محمد بن مريم المتوفاة في حياتها فهل لمحمد بن مريم هذا شيء بحكم تنزيله منزلة أمه ؟ .
فأجاب السبكي : الظاهر أنه لا يستحق لقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فهو محجوب بأخواله فإنه إنما يستحق من أمه أو جدته لا جائز أن يستحق من أمه لأنها حين ماتت كانت محجوبة بأمها قطعاً فليس لها شيء ينتقل لابنها فلم يبق إلا استحقاقه من جدته على أن نصيبها ينتقل لأولادها وأولاد أولادها لكنه قال : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
وإطلاق ذلك يقتضي العموم ، ويحتمل أن يراد بحجب كل أصل فرعه ، ثم قال :
واعلم أن هذه المسألة قد تكررت وأنا أستشكلها جداً وأقدم فيها وأؤخر وهي في غاية الإشكال ينبغي النظر فيها أكثر من هذا وأن لا يستعجل فيها بالجواب ، والصيغ التي ترد في الأوقاف مختلفة ، فمنها أن يقول تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ثم يقول : من مات انتقل نصيبه فهنا يظهر أنه إذا مات واحد وله ابن وابن ابن يقدم الابن على ابن الابن عملاً بقوله تحجب العليا السفلى فإنه عام إلا فيمن كان له نصيب ومات فينتقل نصيبه لولده بمقتضى اللفظ الثاني على سبيل التخصيص ويبقى العموم فيما عداه ، وهذا أولى من حمل تحجب العليا السفلى على حجب الأصل لفرعه فقط لأنه يمكن تخصيصه ولأن قوله نصيبه حقيقته أن يكون له نصيب يتناوله وحمله على الاستحقاق الذي يصل إليه بعد ذلك مجاز لا دليل عليه ، وغاية ما في الباب إنه قد يموت قبل الاستحقاق وذلك لا يضر فإنه في كل الأحوال قد يحصل ذلك ، وحينئذ يحتمل أن يقال أنه دخل في الوقف موقوفاً على شرط وخرج منه بموته ، ولا يمتنع أن يقال أنه بموته تبين إنه لم يدخل أصلاً ، وكلا الاحتمالين سائغ لا مانع منه ، ومنها الصيغة المذكورة ولكن بموت هذا الابن بعد ويترك ابناً فهو مساو لابن عمه في الطبقة فهل يأخذ ابن عمه ما كان لأبيه لو كان حياً ؟ لأن المانع له حجب عمه له وقد زال ولا يأخذ لأنه إنما يأخذ من أبيه وأبوه لا حق له ، هذا محل احتمال والأقرب إنه إن كان لفظ آخر عام يمكن إخراجه منه استحق وإلا فلا ، مثال الأول قوله : وقفت على أولادي وأولاد أولادي بالواو لا بثم ويذكر الصيغتين بعد ذلك فهنا أقول : إنه يستحق بعد وفاة عمه ما كان أبوه يستحقه لو كان حياً ، ويختص ابن عمه الآن من نصيب أبيه بما كان له حين كان أبوه حياً ، وإن كان هذا يخالف ظاهر قوله من مات انتقل نصيبه إلى ولده لأنه ليس مخالفة ، هذا أبعد من مخالفة عموم قوله ثم على أولاد أولاده فيعمل في العام المتقدم إلا فيما خص به قطعاً بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، وأيضاً به حجب العم لابن أخيه ويبقى فيما عداه على الأصل ، ويكون قوله انتقل نصيبه لولده معناه في هذه الحالة نصيبه الأصلي ، ومنها أن يقول : وقفته على أولادي ثم أولاد أولادي من مات منهم انتقل نصيبه لولده تحجب الطبقة العليا السفلى ، فهنا حجب ابن المتوفي لابن أخيه صريح أصرح من الأول بعد حكم من مات .
الموضع الثالث : سئل السبكي عن رجل عليه وقف فإذا توفي عاد وقفاً على ولديه أحمد ، وعبد القادر بينهما بالسوية نصفين يجري نصيب كل منهما عليه ثم على أولاده واحداً أو أكثر ذكراً أو أنثى أو ذكوراً وإناثاً للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم على أولاد أولاده كذلك ، ثم على أولاد أولاد أولاده مثل ذلك ، ثم على نسله وعقبه بطناً بعد بطن ، على أنه من توفي من الأخوين المذكورين ومن أولادهما وأنسالهما عن ولد أو ولد ولدأو نسل عاد ما كان جارياًعليه من ذلك على ولده ثم على ولد ولده ثم على نسله على الفريضة ، وعلى أنه من توفي منهماأو من أولادهما وأنسالهما عن غير نسل عاد ما كان جارياً عليه من ذلك(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
على من في درجته من أهل الوقف المذكور يقدم الأقرب إليه منهم فالأقرب ، ويستوي الأخ الشقيق والأخ من الأب ، ومن مات من أهل الوقف المذكور قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وترك ولداً أو ولد ولد أو أسفل من ذلك استحق ولده أو ولد ولده أو الأسفل ما كان يستحقه المتوفي لو بقي حياً إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور وقام في الاستحقاق مقام المتوفي ، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين ، وتوفي الموقوف عليه وانتقل الوقف إلى ولديه أحمد ، وعبد القادر ثم توفي عبد القادر وترك أولاده الثلاثة وهم عمر ، وعلي ، ولطيفة ، وولدي ابنه محمد المتوفي في حياة والده وهما عبد الرحمن ، وملكة ، ثم توفي عمر عن غير نسل ، ثم توفيت لطيفة عن بنت تسمى فاطمة ، ثم توفي علي وترك بنتاً تسمى زينب ، ثم توفيت فاطمة بنت لطيفة عن غير نسل فإلى من ينتقل نصيب فاطمة المذكورة ؟ .
فأجال السبكي بما نصه : الحمد لله الذي ظهر الآن أن نصيب عبد القادر جميعه يقسم هذا الوقف على ستين جزءاً ، ولعبد الرحمن منه اثنان وعشرون جزءاً ، ولملكة أحد عشر ، ولزينب سبعة وعشرون ولا يستمر هذا الحكم في أعقابهم بل في كل وقت بحسبه ، ولا اشتهى أحداً من الفقهاء يقلدني في ذلك بل ينظر لنفسه والله أعلم . كتبه على السبكي الشافعي في ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة إحدى وسبعمائة ، قال السبكي : فذكر السائل إنه لم يتبين له هذا الجواب بعد أن أقام ينظر فيه أياماً فكتبت بيان ذلك وبالله التوفيق : أنه توفي عبد القادر انتقل نصيبه إلى أولاده الثلاثة وهم عمر ، وعلي ، ولطيفة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين لعلي خمساه ، ولعمر خمساه ، وللطيفة خمسة هذا هو الظاهر عندنا ، ويحتمل أن يقال يشاركهم عبد الرحمن وملكة ولدا محمد المتوفي في حياة أبيه ونزلا منزلة أبيهما فيكون لهما السبعان ، ولعلي السبعان ، ولعمر السبعان ، وللطيفة السبع ، وهذا وإن كان محتملاً فهو مرجوح عندنا لأن الممكن في مأخذه ثلاثة أمور : أحدها يزعمه بعض الحنابلة أن مقصود الواقف أن لا يحرم أحداً من ذريته وهذا ضعيف لأن المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ لا تعتبر . الثاني : إدخالهم في الحكم وجعل الترتيب بين كل أصل وفرعه لا بين الطبقتين جميعاً وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر ، وقد كنت مرة ملت إليه في وقف الطنبا للفظ أقتضاه فيه لست أعمه في كل ترتيب . الثالث : الاستناد إلى قول الواقف أن قول الواقف أن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء قام ولده مقامه ، وهذا الاستناد لا يتم ، وقد تعرض السبكي لهذا السؤال الأخير في شرح المنهاج وقال بعد أن ساق صورة السؤال : لما توفي عبد القادر انتقل نصيبه إلى أولاده عمر ، وعلي ، ولطيفة ، لعلي خمساه ، ولعمر خمساه ، وللطيفة خمسة ولا يشاركهم عبد الرحمن ، وملكة ولدا محمد على الرأي الأرجح ، ويحتمل أن يقال : بمشاركتهما لهم إما لما يزعمه بعض الحنابلة أن مقصود الواقف أن ذريته لا تحرم جعل الترتيب بين كل أصل وفرعه لا بين الطبقتين . وإما لأن والدهما من أهل الوقف في حياة والده والكل ضعيف . هذا لفظه في شرح المنهاج .(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وسئل الشيخ ولي الدين العراقي عمن وقف وقفاً على أولاده على أن من توفي من ذكورهم انتقل نصيبه إلى أولاده ثم إلى أولاد أولاده ثم إلى نسله وعقبه الذكور والإناث من ولد الظهر خاصة دون ولد البطن ، تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى ، على أن من توفي من أولاد الظهر المذكورين وترك ولداً أو ولد ولد أو أسفل من ذلك انتقل نصيبه إلى ولده ثم إلى ولد ولده ثم إلى نسله وعقبه من ولد الظهر خاصة ، فإن لم يترك ولداً ولا نسلاً ولا عقباً انتقل نصيبه إلى إخوته وأخواته ، وكان من توفيت من الإناث من أولاد الواقف ومن بقية أولاد الظهر من نسله انتقل نصيبها إلى إخوتها وأخواتها ، فإن لم يترك ولداً غيرهن من ولد الظهر ولا أخاً ولا أختاً أو لم تترك المتوفاة من الإناث منهم أخاً ولا أختاً من أولاد الظهر المذكورين [ انتقل إلى أقرب الطبقات إلى المتوفي المذكور من أولاد الظهر المذكورين ] المشاركين له في الاستحقاق ، وكل من مات من أولاد الظهر المذكورين قبل دخوله في هذا الوقف واستحقاقه لشيء من منافعه وخلف ولداً أو أسفل منه من ولد الظهر وآل الوقف إلى حال لو كان المتوفي حياً لاستحق ذلك أو شيئاً منه قام ولده ثم ولد ولده وإن سفل من ولد الظهر مقامه واستحق ما كان أصله يستحقه لو كان حياً فإذا انقرض أولاد الظهر صرف ما عين لهم إلى أولاد البطن على الوجوه المشروحة في أولاد الظهر ، فآل استحقاق الوقف إلى بنت ابن ابن الواقف وهي آخر أولاد الظهر ، فلما ماتت تركت ابناً وللواقف بنت بنت وابن بنت بنت فهؤلاء الثلاث من أولاد البطون فمن المستحق منهم ؟ .
فأجاب الشيخ ولي الدين بما نصه : المستحق لذلك بنت بنت الواقف دون ابن بنت بنته ودون ابن بنت ابن ابنه عملاً بقول الواقف : أن الطبقة العليا تحجب السفلى إلا فيما استثناه من أن يموت إنسان ويخلف ولداً فيستحق ما كان أصله يستحقه وليس هذا من المستثنى ، قال : ثم بلغني أن بعض المالكية ، والشافعية ، والحنابلة أفتوا بأن المستحق لذلك ابن بنت ابن ابنه فإن أمه هي التي آل اليها الاستحقاق فينتقل له ما كان لأمه عملاً بشرط الواقف أن من مات وله ولد انتقل نصيبه إليه قال : وهذا غلط وغفلة فإنه قيد ذلك فيما إذا كان المتوفي من أولاد الظهر بأن يكون ولده أيضاً من أولاد الظهر وقال : حين مصير الوقف لأولاد البطن إنهم يستحقونه على الوجوه المشروحة في أولاد الظهر وهذا الولد خارج عن الصورتين فإن أمه آخر أولاد الظهر فلما لم يبق أحد من أولاد الظهر انتقل لأولاد البطن ورجحنا أقربهم طبقة كما تقدم ، قال : ثم بلغني أن بعض الحنابلة ، والشافعية أفتى باشتراك الثلاثة المذكورين في استحقاق الوقف لأن كلاً منهم قد كان له أصل مستحق ، وقد فهم من كلام الواقف أن حجب الطبقة العليا للسفلى إنما هو فيما إذا كانت العليا أصل السفلى ، لأن من مات وله ولد استحق ولده نصيب والده ، فإن كان والده قد مات قبل إيالة الاستحقاق إليه استحق ولده ما كان يستحقه لو كا حياً ، فعلم أن الواحد لا يحجبه عمه ولا خاله وإنما يحجبه أصله وهؤلاء الثلاثة أصولهم مختلفة فاستحقوا كلهم ، قال : وهذا عندي ضعيف فإنا لا نخص عموم حجب الطبقة العليا للسفلى بهذا الأمر المستنبط المفهوم من عبارة الواقف(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
وإنما نخصه بأحد المخصصات المعروفة ، ولم يوجد ذلك إلا فيمن يموت عن ولد موافق له انتهى .
فصل : قال السبكي رحمه الله : قول الوراقين في كتب الأوقاف من مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وخلف ولداً استحق ولده ما كان يستحقه المتوفي لو بقي حياً حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف وقام في الاستحقاق مقامه عبارة جرت على ألسنتهم وكتابتهم ، وهي تقتضي أن الولد إنما يستحق ما كان أبوه يستحقه لو بقي حياً إلى أن يصل إليه شيء من منافع الوقف فكيف يجعل الوصول شرطاً أو بعض شرط ؟ وضرورة العبارة المذكورة جعله بعض شرط لأنه جعل وصفاً للبقاء المقدر بعد لو غاية فهو جزء من الشرط ، وكان ينبغي أن لا يستحق بمقتضى العبارة المذكورة إلا شيئاً ثانياً صيرورته مستحقاً وهذا ليس بمراد ، وكأنهم أرادوا بالمصير إليه انتهاء الوقف إلى حالة لو بقي حياً فيها لاستحق ، فجعلوا ذلك مصيراً إليه وهو صفة للوقف وحال من أحوالها ، ولا يبعد أن يجعل علة وسبباً وشرطاً في استحقاقه الذي هو صفة ، له ويجعل هذا الاستحقاق معلولاً عن الصفة واستعمال لفظه تصير في ذلك الظاهر أنها مجاز لأن حقيقة صيرورة شيء من المنافع إليه إنما هو باستحقاقه إياه ، فإذا فرضنا وفاة شخص آخر بعد ذلك لو كان هذا الذي استحق باقياً لاستحق نصيبه وحكمنا باستحقاق هذا الولد استحقاق ما لو كان والده حياً الآن لاستحقه كان استعمال لفظة يصير في حقه على سبيل الحقيقة لأنه صار إليه قبل ذلك شيء لكنا قد استعملناه في المعنى الأول مجازاً ، فاستعماله في الثاني مع الأول جمع بين الحقيقة والمجاز وهو مرجوح بالنسبة إلى المجاز المنفرد ، واستعماله في الثاني وحده وهو الحقيقة واطراح المجاز بالكلية يلزم عدم أخذه نصيب والده ولا قائل به ؛ ولا شك أنه ليس بمراد فيترجح الاقتصار على استعمال المجاز المنفرد ، ولا يستحق من الميت الثاني شيئاً إلا بدليل منفصل ، والموجب للنظر في هذه المسألة وقف على شخص ثم اولاده ثم أولادهم ، وشرط إن من مات من بناته انتقل نصيبها للباقين من أخواتها ، ومن مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وله ولد استحق ولده ما كان يستحقه المتوفي لو كان حياً حتى يصير إليه من منافع الوقف وقام في الاستحقاق مقامه فمات الموقوف عليه وخلف ولدين وولد ولد مات أبوه في حياة والده فأخذ الولدان نصيبهما وهما ابن وبنت وأخذ ولد الولد النصيب الذي لو كان والده حياً لأخذه ثم ماتت البنت فهل يختص أخوها الباقي بنصيبها أو يشاركه فيه ابن أخيه ؟ تعارض اللفظان المذكوران ونظرنا فيه النظر المذكور ، ويرجحه أن التنصيص على الإخوة وعلى الباقين منهم كالخاص ، وقوله : ومن مات قبل الاستحقاق كالعام فيقدم الخاص على العام فلذلك ترجح عندنا اختصاص الأخ وإن كان الآخر محتملاً وهو مشاركة ابن الأخ له والله أعلم ، ومن المرجحات أيضاً أن قوله يستحق مطلق لأنه فعل في سياق الاثبات لا عموم له ، والمطلق يكفي في العمل به صورة واحدة وقد عملنا به في استحقاقه(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
نصيب والده فلا يعمل به في غيره ، وقوله قبل استحقاقه شيئاً يقتضي أنه لم يستحق شيئاً أصلاً وهو كذلك في حياة والده ، وقوله استحق ولده فعل مطلق ، وقوله ما كان والده يستحقه عام لأن ما للعموم وهذا العموم بالنسبة إلى جميع نصيب والده وهو معمول به فيه بالنسبة إلى ذلك النصيب وإلى نصيب من يموت بعد ذلك .
فائدة : قال البلقيني : الترتيب يستفاد من صريح مرة ومن ظاهر أخرى ومن محتمل بقرينة ، فمن الصريح تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ومن الظاهر التعبير بثم ، وأما المحتمل بالقرينة فكقوله : وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي فإذا انقرض أولادي فهو لأولاد أولادي ، فإن قوله فإذا انقرض أولادي قرينة دالة على أنه أراد بالواو الترتيب .
فائدة : ومما أكد الترتيب في هذا السؤال الذي نحن فيه تعبيره أولاً بثم في قوله : ثم لأولادهم ثم لذريتهم ، وقوله طبقة بعد طبقة فإن هذه الجملة مع التعبير بثم تفيد الترتيب ، فلا يستحق أحد من الطبقة الثانية شيئاً حتى تنقرض جميع الطبقة الأولى ، وهكذا في سائر الطبقات كما هو منقول في الشرح ، والروضة ، ومما يؤكد ذلك أيضاً زيادة لفظه أبداً في قوله تحجب الطبقة العليا منهم أبداً الطبقة السفلى فإنها تفيد أمرين : التأبيد والتأكيد ، فالتأبيد يفيد الاطراد في كل وقت وزمان فلا تحتمل الجملة معه للتخصيص بخلاف ما سقطت منه فإنها تحتمل التخصيص ببعض الأشخاص في بعض الأحيان ، فالتأكيد يفيد دفع توهم عدم الشمول فيثبت الشمول المقصود هنا وهو حجب كل أعلى لكل أسفل شمولاً حقيقياً لا يقبل التخصيص ببعض الأفراد وإلا لذهبت فائدة التأكيد .
فائدة : ومما يؤكد ذلك أيضاً تنصيص الواقف على تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب وابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، فإذا كان الواقف لم يعط أهل الدرجة كلهم بل خص منهم الإخوة ولم يعط الإخوة كلهم بل قدم الأخ الشقيق على الأخ للأب مع أن أباهما واحد لأجل زيادة القرب بالأم فكيف يعطى من له أب آخر مع من هو أعلى من درجته ، فإن تمسك متمسك بقوله ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه . قلنا : يلزمه أن يعطي الأخ للأب مع الأخ الشقيق لأن أباه بهذا الوصف فيقام ولده مقامه ، فإن قال في الجواب : وقفت مع نص الواقف على تقديم الشقيق وقدمته على عموم تلك الجملة . قلنا له : فقف هنا مع نص الواقف على تقديم الأقرب إلى المتوفي ، وعلى حجب الطبقة العليا للسفلى ، وقدمه على عموم تلك الجملة ، فإما أن تسوي بينهما في المنع وإما أن تسوي بينهما في الإعطاء ، وإلا فالعمل بأحدهما دون الآخر تحكم .
تقرير آخر بعبارة أخرى : يقال للمتمسك بعموم قوله : ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه القاعدة المقررة في الأصول أنه إذا اجتمع نص خاص ولفظ عام فإنه يتمسك بالنص الخاص في تلك الصورة الخاصة ويخص به عموم اللفظ ، ويخرج منه تلك الصورة الخاصة بذلك النص الخاص ، ويبقى بقية العموم يعمل به فيما عدا تلك الصورة ، وأما أن(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
يلغي النص الخاص بالكلية ويتمسك بالعموم على عمومه فهذا شيء لا يقوله أحد ، وهذا الذي نحن فيه ثلاثة نصوص خاصة : أحدها تقديم الأقرب إلى المتوفي فالأقرب من الأولاد ، وأولادهم ، والثاني تقديم الإخوة من أهل الدرجة على غيرهم ، والثالث تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب وتقديم ابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، فهذه ثلاثة نصوص خاصة في صورة خاصة يتمسك بها فيها وتخص من عموم تلك الجملة ، ولا يعمل بتلك الجملة إلا فيما عدا هذه الصور الثلاث الخاصة ، فلا يعطي ابن العم للأب ولا الأخ للأب مع الشقيق منهما وإن كان أبوهما مات قبل الاستحقاق ولو عاش لاستحق ، ولا يقول قائل أعطهما مع الشقيق لأجل قوله : ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه لأن هذه الصورة مخرجة بنص يخصها ، وكذلك لا يعطي سائر أهل الدرجة مع الإخوة تمسكاً بذلك العموم لأنهم مخرجون بنص يخصهم ، وكذلك لا يعطى الأبعد من أولاد الأولاد مع الأقرب إلى المتوفي تمسكاً بذلك العموم لأنه مخرج بنص يخصه ، فهذه الصور الثلاث يعمل بنصوصها الخاصة بها ويخرج من ذلك العموم وتبقى بقية ذلك العموم معمولاً به فيما عداها والله أعلم .
باب الفرائض
مسألة : رجل مات عن بنت وابن ابن فهل يكون إرث البنت حينئذ بالفرض أو بالتعصيب ؟ .
الجواب : بالفرض .
مسألة :
هداة الدين أعلام الخطاب
وفرسان الفرائض والحساب
لقد بعدت عن الأفهام منا
مغربة تخال من الكذاب
تلقى الإرث أربعة وأفضوا
إلى قسم يعد من العجاب
فأولهم مضى بالثلث حظاً
وثلث اللذبقي ثاني الصحاب
وثلث الباقي بعد الثاني ما زوا
لثالثهم فأعصى للصواب
وحاز الرابع الباقي نصيباً
وقالوا : قسمنا وفق الكتاب
وأشكل أمرهم جداً علينا
وبتنا منه في تيه ارتياب
فهل من كاشف عنا بفصل
وتبيان غياهيب الحجاب ؟
وهل من عالم يشفي غليلاً
بشرح الحال في ضمن الجواب ؟
يجازيه الإله عليه خيراً
ويمنحه الجزيل من الثواب
بقيتم للورى أعلام رشد
هداة في الذهاب وفي الإياب(1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
الجواب :
بحمد الله مفتتح الكتاب
ومبتدأ المسائل والجواب
وتسليم على الهادي لدين
ومن أوتي البلاغة في الخطاب
جوابك خذه لا إشكال فيه
ولا يشني بشك وارتياب
لئن كدرت فهمك فيه لما
عييت لقد تبين باقتراب
فزوج ثم أم ثم جد
وأخت لا لأم في انتساب
لها كالزوج نصف ثم سدس
لجد ثلث أم في الكتاب
فإن الأصل ست ثم عالت
لتسع عند أرباب الحساب
ومن سبع تلي عشرين صحت
فتسع الزوج ثلث لا كتساب
وست الأم ثلث الباقي قطعاً
وربع الأخت ثلث في اعتقاب
وباقيها ثمانية لجد
فخذ هذا الجواب على الصواب
وناظمة ابن الأسيوطي يرجو
من الرحمن عفواً في المآب
مسألة : رجل مات وترك زوجة وأخا ومائة وخمسين ديناراً فادعت الزوجة ديناً مائة دينار وصدقها الأخ وقبضتها ثم اقتسما الباقي فجاء رجل وادعى بمائة دينار وصدقته الزوجة دون الأخ فماذا يعطى ؟ .
الجواب : أنه يأخذ سبعة وثلاثين ديناراً ونصفاً والأخ مثل ذلك والزوجة خمسة وسبعين ، وبيان ذلك أن الأخ لو صدقه أيضاً لقسمت المائة والخمسون بينه وبين الزوجة فيأخذ كل خمسة وسبعين ، فإذا صدقت الزوجة فقط أخذت ما كانت تأخذه حال تصديق الأخ أيضاً من غير زيادة ولا نقصان لأن تصديقها يسري في القدر الذي كان يؤخذ من حصتها ويلغو في حصة الأخ فكأنها أقرت بأنه يستحق مما في يدها سبعة وثلاثين ونصفاً خمسة وعشرين من الدين والاثني عشر ونصف حصة الإرث وأنه يستحق القدر الذي أخذه الأخ بكماله فلا يقبل قولها في جانب الأخ ويقبل في جانبها من غير أن تضر بأخذ زيادة على ما كان يؤخذ منها لو صدق الأخ .
البدر الذي انجلى في مسألة الولا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباد الذين اصطفى . وقع السؤال عن امرأة أعتقت عبداً ثم ماتت وتركت ابناً ثم مات الابن وترك ابن عم له ثم مات العتيق فهل يرثه ابن عم ابن المعتقة ؟ وذكر السائل وهو الشيخ بدر الدين المارديني فرضي هذا الوقت أن المفتين في عصرنا(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
اختلفوا في هذا فأفتى بعضهم بإرثه وبعضهم بعدم إرثه ، وسألني الشيخ بدر الدين من المصيب وهل تعرض للمسألة أحد من المصنفين ؟ فأجبت بأن الصواب مع من أفتى بعدم إرثه فإن ذلك مقتضى الدليل ومقتضى نصوص الأصحاب قاطبة ، ثم وجدت ذلك مصرحاً به وأنه لا خلاف فيه في مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة وهو أصح الروايتين في مذهب أحمد بن حنبل فهذه ثلاثة أمور عقدت هذه الكراسة لبيانها وسميتها البدر الذي انجلى في مسألة الولا فأقول : أما بيان كونه مقتضى الدليل فمن وجهين : أحدهما قوله صلى الله عليه وسلّم : ( الولاء لحمة كلحمة النسب ) هذا الحديث هو عمدة الإرث بالولاء حيث شبه الولاء بالنسب وقد نص العلماء في هذا الحديث بخصوصه على أن المشبه دون المشبه به فجعلوا الولاء دون النسب في القوة قال السبكي : شبه صلى الله عليه وسلّم الولاء بالنسب والمشبه دون المشبه به ، وحينئذ فالقول بأن ابن العم يرث في هذه الصورة يؤدي إلى زيادة الولاء على النسب في القوة لأن ضابط الذي يرث بالولاء أن يكون بحيث لو مات المعتق يوم موت العتيق ورثه ، والمرأة لو ماتت وابن عم ولدها موجود لم يرثها بالإجماع فتوريثه بالولاء مع عدم توريثه بالنسب تقوية للولاء على النسب وهو خلاف ما اقتضاه الحديث ، الوجه الثاني أن الأدلة قامت على أنه لا يرث بالولاء إلا عصبة المعتق ولهذا لم يرث إلا أصحاب الفروض وعصبة عصبة المعتق ليسوا عصبة للمعتق فلم يدخلوا تحت هذا اللفظ ، وأمر ثالث وهو أن الأدلة قامت على أن الولاء لا يورث قال ابن الضباع في الشامل : لو كان الولاء يورث لكان الزوج والزوجة يرثانه وقد حصل الإجماع على أنهما لا يرثان الولاء ، وقال امام الحرمين في النهاية : أصل الباب أن عصبة المعتق لا يرثون الولاء كما يرثون الأملاك وحقوقها ، وإنما يرثون بالولاء بانتسابهم إلى المعتق ، فمقتضى العصوبة المحضة تقتضي توريثهم قال : والدليل على أنهم لا يرثون الولاء أن الولاء لو كان موروثاً لاقتضى القياس أن يستوي في استحقاقه بالإرث الرجال والنساء كسائر الحقوق ، وقال الرافعي : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ) معناه قرابة وامتشاج كامتشاج النسب ، وقوله : لا يباع ولا يوهب يعني أن نفس الولاء لا ينقل من شخص إلى شخص بعوض وغير عوض كما أن القرابة لا تنقل ويروى النهي عن بيع الولاء وهبته ولذلك لا يورث الولاء لكن يورث به ، كما أن النسب لا يورث ويورث به ، ومما يدل عليه أنه لو كان الولاء موروثاً لاشترك في استحقاقه الرجال والنساء كسائر الحقوق ، انتهى كلام الرافعي ، وإذا لم يورث الولاء لم يرث عصبة عصبة المعتق شيئاً لأن عصبة المعتق ، إنما ورثوا بقرابتهم من المعتق لا بإرثهم الولاء الذي كان للمعتق ، وعصبة العصبة ليسوا بأقارب المعتق ولا ورثوا الولاء من العصبة فلم يرثوا شيئاً ، هذا مقتضى الدليل .
وأما بيان كون ذلك مقتضى نصوص الأصحاب فمن وجوه ؟ أحدها : إطباق الأصحاب على قولهم فإن لم يوجد المعتق بالاستحقاق لعصابته من النسب الذين يعصبون بأنفسهم ، فإن لم يوجد من عصبات المعتق أحد فالمال لمعتق المعتق ثم لعصاباته ثم لمعتق معتق(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
المعتق وهكذا ، فجعلهم المال بعد عصبة المعتق لمعتق المعتق من غير واسطة صريح في أن عصبة العصبة لا يرثون شيئاً وإلا لقالوا فإن لم يوجد من عصبات المعتق أحد فلعصبة عصبته ، فكانوا يذكرون عصبة العصبة قبل أن يذكروا معتق المعتق ، ولا يتخيل متخيل دخول عصبة العصبة في لفظ عصبة المعتق بحال لا معنى ولا لفظاً ، وكيف يتخيل ذلك وعصبة العصبة ليسوا بعصبة للمعتق بل هم منه أجانب محض ، وإذا كان الفقهاء لم يروا الاقتصار على ذكر المعتق حتى تعرضوا المعتق معتق المعتق ومن فوقه مصرحين بتأخيرهم عن عصبة المعتق فكيف يتصور إرث عصبة العصبة قبل معتق المعتق من غير تعرضهم له ولا تصريحهم به ؟ ويزيد ذلك وضوحاً عبارة الرافعي حيث قال : إذا لم يكن المعتق حياً ورث بولائه أقرب عصابته ولا يرث أصحاب الفروض ولا الذين يتعصبون بغيرهم ، فإن لم يوجد للمعتق عصبة من النسب فالميراث لمعتق المعتق ، فإن لم يكن فلعصبات معتق المعتق وهكذا ، فانظر إلى قوله : فإن لم يوجد للمعتق عصبة من النسب تجده صريحاً فيما ذكرناه فابن عم الولد ليس عصبة للمعتقة ولا نسيباً لها الوجه الثاني : قول الرافعي : للأصحاب عبارة ضابطة لمن يرث بولاء المعتق إذا لم يكن المعتق حياً وهي أنه يرث العتيق بولاء المعتق ذكر يكون عصبة للمعتق لو مات المعتق يوم موت العتيق بصفته ، وهذا الضابط يخرج عنه عصبة عصبة المعتق قطعاً لأن المرأة لو ماتت وابن عم ولدها موجود لم يرثها إجماعاً الوجه الثالث : قال الرافعي : ولا ميراث لغير عصبات المعتق إلا لمعتق أبيه أو جده ، ولا شك أن عصبة العصبة غير عصبة المعتق فدخلوا في هذا النفي ، وعبارة البغوي في التهذيب ولا ميراث لمعتق عصبة الميت ، إلا لمعتق أبيه أو لمعتق جده وإن علا ، وكذلك معتق عصبات المعتق لا يرث إلا معتق أبي المعتق أو معتق جده ، فإن من أعتق عبداً ثبت له الولاء على أولاده وعلى أولاد بنيه وإن سفلوا ، هذه عبارة البغوي في التهذيب ، فانظر كيف صرح بنفي الميراث عن معتق عصبات المعتق ، ومعنى العصبة من جملة أفراد عصبة العصبة ، فكما أنه لا ميراث له بهذا التصريح فكذلك باقي عصبة العصبة لأن العلة في ذلك كونه أجنبياً من المعتق فسواء في ذلك المعتق والنسب ، وإنما ورث معتق الأب والجد بالانجرار الذي وقع على الأحفاد ، فلو لم يكن في المسألة إلا هذا التصريح من البغوي لكان كافياً هذا بعض ما اقتضته نصوص الأصحاب .
وأما التصريح فقال صاحب المحيط من الحنفية ما نصه : ولو أعتق أمه ومات المعتق عن ابن والابن عن أخ لأمه ثم مات المعتق فالميراث لعصبة المعتق ولا شيء للأخ للأم لأنه أجنبي من المعتق ، قال : وكذا لو كان للمعتق أخٍ لأمه لم يرث شيئاً لأنه ليس بعصبة له هذه عبارة المحيط فانظر كيف علل الأول بكونه أجنبياً من المعتق ولم يعلله بكونه صاحب فرض ولا عصبة كما علل بذلك في الصورة الثانية ، فدل بفرقة التعليلين على أنِ لا يرث أحد من أقارب عصبة المعتق إذا كانوا أجانب من المعتق عصبة كانوا أو أصحاب فرض ،(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وأصرح من ذلك عبارة شمس الأئمة السرخسي من الحنفية أيضاً في كتابه المبسوط فإنه قال : وإذا أعتق الرجل الأمة ثم مات وترك ابناً ثم مات الابن وترك أخاً من أمه ثم ماتت الأمة فميراثها لعصبة المعتق وليس للأخ من ذلك شيء لأن الولاء للمعتق وأخو ابن المعتق لأمه أجنبي من المعتق ، وكذا أخو المعتق لأمه لأنه ليس بعصبة له إنما هو صاحب فريضة ، ولا يخلف المعتق في ميراث معتقه إلا من كان عصبة له ، هذه عبارته فإن قلت : هذه كلها علالات واحتمالات فإن لم تأت بنقل صريح وإلا لم نقبل شيئاً مما ذكرت قلت : اسمع يا أيها الرجل أنا عادتي في التقرير أن أبدأ أولاً بالإخفاء ثم انتقل إلى الإجلاء وآتي بالمحتملات ثم أثني بالدامغات فأكسر بها رؤوساً وأحي بها نفوسا فأقول : يا أيها الناس لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله بما تحدث به نفسه من غير اعتماد على نقول الأئمة ، وإذا كان الناس الآن لا يعتمدون فتوى المجتهد باجتهاده واستنباطه مع كون ذلك مقبولاً شرعاً لأنه مستند إلى آدلة وحجج ولا يقبلون منه إلا ما كان منقولاً في المذهب فكيف يسوغ لمن ليس مجتهداً أن يفتي بغير نقل ولا استناد إلى حجة ؟ هذه المسألة منقولة في الحاوي الكبير للماوردي وعبارته : فلو أعتقت امرأة عبداً وماتت وخلفت ابناً وأخاً ثم مات العبد المعتق كان ولاؤه للابن دون الأخ ، ولو مات الابن قبل موت العبد وخلف عماً وخالاً ثم مات العبد المعتق كان ولاؤه لخاله دون عمه لأن الخال أخو المعتقة والعم أجنبي منها هذا قول من جعل الولاء لا يورث ، فأما على قول من جعله موروثاً يجعل الولاء لعم الابن وإن كان أجنبياً من المعتقة دون الخال وإن كان أخاها لانتقال ماله إلى عمه دون خاله ، وقد بسط السبكي المسألة بسطاً شافياً في كتابه الغيث المغدق فقال : هذه المسألة اختلف الناس فيها وهي إذا ماتت المعتقة وخلفت ابنها وأخاها ثم مات ابنها وترك عصبته كأعمامه وبني عمه ثم مات العتيق وترك أخا مولاته وعصبة ابنها فعن علي بن أبي طالب فيه روايتان : إحداهما أن ميراثه لأخي مولاته لأنه أقرب عصبات المعتق ، فإن انقرض عصبتها كان بيت المال أحق به من عصبة ابنها وبه قال أبان بن عثمان ، وقبيصة بن ذؤيب ، وعطاء ، وطاووس ، والزهري ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي ، وأهل العراق ، والرواية الأخرى عن علي أنه لعصبة الابن روي نحو ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وبه قال شريح ، وهذا يرجع إلى أن الولاء يورث كما يورث المال ، وقد روي عن أحمد نحو هذا واحتجوا بحديث رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال صاحب المغني من الحنابلة : والصحيح الأول فإن الولاء لا يورث وإنما هو باق للمعتق يرث به أقرب عصباته ، ومن لم يكن من عصباته لم يرث شيئاً ، وعصبات الابن غير عصبات أمه ، وحديث عمرو بن شعيب غلط قال حميد : الناس يغلطون عمرو بن شعيب في هذا الحديث ، انتهى ما أورده السبكي هنا . فانظر كيف صرح بأن عدم الإرث هو قول مالك ، والشافعي ، وأهل العراق ، بلا خلاف عندهم وأنه الصحيح من قول أحمد ، ثم قال السبكي بعد ذلك : اتفق جمهور العلماء على أن الولاء لا(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
يورث ولا خلاف عند نافيه ، وروي نحو ذلك عن عمر ، وعلي ، وزيد ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأبي مسعود البدري ، وأسامة بن زيد ، وبه قال عطاء ، وسالم بن عبد الله ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وقتادة ، وأبو الزناد ، والشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، وهو المشهور عن أحمد .
وحكى الحنابلة ذلك عن طاوس أيضاً وشذ شريح فقال : الولاء كالمال يورث عن المعتق ، فمن ملك شيئاً حياته فهو لورثته وحكى القاضي حسين وغيره ذلك عن طاووس أيضاً ، ونقله ابن المنذر عن الزبير يعني ابن العوام ورواه حنبل ، ومحمد بن الحكم عن أحمد بن حنبل وغلطهما أبو بكر ، وغيره من أصحابه هذا كله كلام السبكي ، فانظر كيف صرح بأنه لا خلاف عندنا في أن الولاء لا يورث ، ونقل ذلك عن مذهب مالك ، وأبي حنيفة ولم يحك عنهما خلافاً وجعله المشهور من مذهب أحمد فعرف بذلك أن من أفتى في هذه الصورة بالإرث كان مخالفاً للمذاهب الأربعة الثلاثة باتفاقٍ ، وأحمد على المشهور من مذهبه ، وعلم بذلك أن قول الماوردي : فأما على قول من جعله موروثاً يريد به قول من شذ كشريح ونحوه وهو خلاف قول أئمة المذاهب الأربعة ، وقد راجعت سنن البيهقي فوجدته رجح قول الجمهور وعقد باباً احتج له فيه بحديث وآثار ، ثم عقد باباً ثانياً لمن قال : إن الولاء يورث وروى فيه حديث عمرو بن شعيب وضعفه ثم تأوله على تقدير الصحة وروى فيه الرواية المعزوة إلى علي وخطأها من حيث الإسناد ، ثم روى عنه موافقة الجمهور ، ثم روى عن الزبير الرواية المعزوة إليه وتأولها ، ثم روى عن ابن الزبير أنه قضى بذلك قال عطاء : فعيب ذلك على ابن الزبير ، وقال محمد بن زيد بن المهاجر : لما قضى به ابن الزبير سمعت القاسم بن محمد يقول : سبحان الله إن الولاء ليس بمال موضوع يرثه من ورثه إنما المولى عصبة .
وها أنا أسوق ما أورده البيهقي في البابين ثم أرتقى إلى جميع ما ورد في ذلك عن الصحابة فمن بعدهم مسنداً مخرجاً ليستفاد ، قال البيهقي . باب الولاء للكبر من عصبة المعتق وهو الأقرب فالأقرب منهم إذا كان قدمات المعتق ، ثم أخرج فيه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن العاصى بن هشام هلك وترك بنين له ثلاثة اثنان لأم ورجل لعلة فهلك أحد اللذين لأم وترك مالاً وموالي فورثه أخوه الذي لأمه وأبيه ماله وولاء مواليه ، ثم هلك الذي ورث المال وولاء الموالي وترك ابنه وأخاه لأبيه فقال ابنه : قد أحرزت ما كان أبي أحرز من المال وولاء الموالي . وقال أخوه : ليس كذلك إنما أحرزت المال فأما [ ولاء ] الموالى فلا أرأيت لوهلك أخي اليوم ألست أرثه أنا ؟ فاختصما إلى عثمان فقضى لأخيه بولاء الموالي . وأخرج عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا : الولاء للكبر ، وأخرج عن النخعي أن علياً ، وعبد الله ، وزيداً قالوا : الولاء للكبر . وأخرج عن الشعبي أن علياً رضي الله عنه قال : إذا أعتقت المرأة عبداً أوأمة(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
فهلكت ولداً ذكراً فولاء ذلك المولي لولدها ما كانوا ذكوراً فإذا انقطعت الذكور رجع الولاء إلى أوليائها ، وقال شريح : يمضي الولاء على وجهه كما يمضي الميراث ولكن لايورث الولاء انثى إلا شيئاً أعتقته . وأخرج من طريق مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أنه كان جالساً عند أبان بن عثمان بن عفان فاختصم إليه نفر من جهينة ، ونفر من بني الحارث بن الخزرج وكانت امرأة من جهينة ونفر من بني الحارث ابن الخزرج وكانت امرأة من جهينة تحت رجل من بني الحارث فماتت المرأة وتركت مالاً وموالياً فورثها ابنها وزوجها ثم مات ابنها فقال ورثة ابنها : لنا ولاء الموالي قد كان ابنها أحرزه ، وقال الجهنيون : ليس كذلك إنما هم موالي صاحبتنا فإذا مات ولدها فلنا ولاؤهم ونحن نرثهم ، فقضى أبان ابن عثمان للجهنيين بولاء الموالي ، ثم قال البيهقي : وقدروى فيه حديث مرسل يؤكد ما مضى من الآثار ، وأخرجه من طريق يونس عن الزهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( المولى أخ في الدين ونعمة وأحق الناس بميراثه أقربهم من المعتق ) ثم قال البيهقي : باب من قال من أحرز الميراث أحرز الولاء ، وأخرج فيه من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن إبيه عن جده أن راب بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة فورثوا رباعها وولاء مواليها ، وكان عمرو بن العاصي عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك مالاً فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب فقال عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان ) قال : فكتب له كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ورجل آخر ، فلما استخلف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إلى إسماعيل بن هشام فرفعهم إلى عبد الملك فقال : هذا من القضاء الذي ما كنت أراه فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب فنحن فيه إلى الساعة .
قال البيهقي : كذا في هذه الرواية ، قال : وقد روينا عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان أنهما قالوا : الولاء للكبر ، ومرسل ابن المسيب عن عمر أصح من رواية عمرو بن شعيب قال : وأما الحديث المرفوع فيه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال ذلك في الولاء ، ثم أخرج من طريق يزيد هرون أنا سفيان الثوري ، وشريك عن عمران بن مسلم بن رباح عن عبد الله بن معقل قال : سمعت علياً يقول : الولاء شعبة من النسب فمن أحرز الميراث فقد أحرز الولاء ، قال البيهقي : كذا وجدته في هذه الرواية وهو خطأ ، وكان يزيد حمل رواية الثوري على رواية شريك وشريك وهم فيه ، وإنما لفظ الحديث ما رواه سليمان عن عمران بن مسلم عن عبد الله بن مغفل قال : قال علي رضي الله عنه : الولاء شعبة من الرق من أحرز الولاء أحرز الميراث ، قال البيهقي : هذا هو الصحيح ، وكذلك رواه مسعر عن عمران وإنما معناه من كان له الولاء كان له الميراث بالولاء ، ثم أخرج عن هشام بن عروة عن أبيه قال : قال الزبير بن العوام : الولاء للذي يحوز الميراث ، قال البيهقي : وهذا يحتمل أن يكون المراد به أن الذي يحوز الميراث وهو العصبة الذي يأخذ(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
جميع الميراث هو الذي يأخذ بالولاء دون أصحاب الفروض ، ثم أخرج عن محمد بن زيد بن المهاجر أنه حضر القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وطلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن وهما يختصمان إلى ابن الزبير في ميراث أبي عمرو مولى عائشة وكان عبد الله ورث عائشة دون القاسم لأن أباه كان أخاها لأبيها وأمها وكان محمد أخاها لأبيها ثم توفي عبد الله فورثه ابنه طلحة ثم توفي أبو عمرو فقضى به عبد الله بن الزبير لطلحة قال : فسمعت القاسم بن محمد يقول : سبحان الله إن الولاء ليس بمال موضوع يرثه من ورثه إنما المولى عصبة ، قال البيهقي : وروى ابن جريج عن عطاء توريث ابن الزبير ابن عبد الله بن عبد الرحمن دون القاسم ، قال عطاء : فعيب ذلك على ابن الزبير هذا ما أورده البيهقي . وقد عقد سعيد بن منصور في سننه باباً لذلك فأخرج فيه عن إبراهيم النخعي قال : قال شريح : من ملك شيئاً حياته فهو لورثته من بعد موته . وقال علي ، وعبد الله ، وزيد : الولاء للكبر . وأخرج عن الشعبي أن عمر ، وعلياً ، وابن مسعود ، وزيداً كانوا يجعلون الولاء للكبر وأن شريحاً كان يقول : الولاء بمنزلة المال يجري مجرى الميراث . وروى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في الأصل عن يعقوب عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبي مسعود الانصاري ، وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أنهم قالوا : الولاء للكبر ، وروى عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم مثله قال : وهو قول أبي حنيفة الذي يأخذ به . وقول أبي يوسف ، ومحمد ، ثم روى عن يعقوب عن الأعمش عن إبراهيم عن شريح أنه قال : الولاء بمنزلة المال قال : وليس يأخذ بهذا أبو حنيفة ولا أبو يوسف ، ومحمد .
فائدة : قولهم : الولاء للكبر هو بضم الكاف وسكون الباء أكبر الجماعة ومعناه هنا الأقعد بالنسب كذا في صحاح الجوهري ، ونهاية ابن الأثير ، وذكره الزركشي في شرح الجعبرية وزاد : وليس المراد به الأكبر في السن ، وقال الحيري في التلخيص : معنى قولهم الولاء للكبر أي هو لأقرب عصبات المولى يوم يموت العبد .
مدرك آخر : قال السبكي : الأصحاب كلهم مصرحون الشيخ أبو حامد وغيره بأن الولاء لا ينتقل ثم قال : قد تقرر أن الولاء لا يورث ولكن هل نقول أنه بنفس العتق ثبت للمعتق وجميع عصباته ؟ أو ثبت للمعتق فقط وبعده يثبت لعصباته لا على جهة الإرث بل على جهة أن ثبوته لهم كان بعد موت المعتق يخرج من كلام الأصحاب ؟ فيه وجهان ، والصحيح وظاهر الحديث في إلحاق الولاء بالنسب أنه بنفس العتق ثبت للجميع في حياة المعتق قال : ولا شك أن كونه عتيقاً للسيد يثبت نسبه بينه وبين عصبته حساً فإنا نقول عتيق ابن عم فلان ونحو ذلك قال : وأما ثبوت هذه النسبة شرعاً فالحديث يقتضيها وتوقيفها على موت المعتق بعيد وإن أمكن القول به ، ثم خرج على ذلك مسألة مالو أعتق كافر عبداً مسلماً وللمعتق ابن مسلم ثم مات العتيق في حياة المعتق فإن ميراثه لابن المعتق المسلم على الأرجح لا(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
لبيت المال بناء على أن الولاء يثبت للعصبة في حياة المعتق ، ومقابله رأي أنه لا يثبت لهم في حياته ، والمعتق قام به مانع الكفر فانتقل إرثه لبيت المال ، ويوافق الأول قول الرافعي في الوصايا فيما إذا اعتق مريض عبداً ثم قتله السيد أنه لا يرث السيد من ديته لأنه قاتل ، بل إن كان له وارث أقرب من سيده فهي له وإلا فلأقرب عصبات السيد انتهى إذا تقرر ذلك : نشأ من هاتين القاعدتين أعني كونه لا ينتقض وكونه يثبت للعصبة في حياة المعتق أن عصبة العصبة لا يرثون شيئاً لأن لاسبيل إلى إثباته لمن هو أجنبي من المعتق في حال حياته ولا سبيل إلى نقله فنشأ من ذلك أنهم لا يرثون منه شيئاً .
عود إلى بدء : في نقول أخرى مصرحة من كتب سائر المذاهب : قال الحيري من أصحابنا في كتاب التلخيص في الفرائض : إذا مات المولى قبل عبده لم ينتقل الولاء إلى عصبته لأن الولاء كالنسب لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث ، وقال شريح ، وأحمد : هو موروث كما يورث المال ، وعن ابن مسعود نحوه والأول أصح عنه ، ثم قال : امرأة أعتقت عبداً ثم ماتت فتركت ابناً ، وأخاً ثم مات العبد فماله لابن مولاته فإن ترك ابنها أباه ، أو عمه ، أو ابن عمه فأخو المرأة أحق من عصبة ابنها في قول الجمهور ، وعن عمر ، وعلي ، وشريح ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وأحمد بن حنبل عصبة ابنها أولى وهو قياس قول عبد الله ، وكذلك إن مات أخو المرأة وخلف ابناً فهو أولى من عصبة الابن ، وعلى القول الآخر عصبة الابن أولى انتهى ، وهذا مثل ما تقدم مثل ما تقدم في عبارة الماوردي وتلك أصرح حيث صرح بأن القول الثاني قول من جعل الولاء موروثاً ، وفي الأصل لمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مانصه : وإذا أعتقت المرأة عبداً ثم ماتت وتركت ابنها وأخاها ثم مات ابنها وترك أخاه لأبيه ثم مات العبد المعتق فإن ميراثه لأخي المرأة ولا يكون لأخي ابنها من ميراثه شيء ، وكذلك لو كان لابنهاابنة لم ترث من ميراث المولى شيئاً هذا نصه بحروفه وهو أصرح مما تقدم في عبارة المحيط ، والمبسوط ، وفي المدونة في عقد موالي المرأة وميراثهم وجر الولاء ونقله وعقل موالي المرأة على قومها وميراثهم لها وإن ماتت هي لولدها الذكور ، فإن لم يكن لها ولد فذلك لذكور ولد ولدها دون الإناث وينتمي مولاها إلى قومها كما كانت هي تنتمي ، وإذا انقرض ولدها وولد ولدها رجع ميراث مواليها لعصبتها الذين هم أقعدبها يوم يموت المولى دون عصبة الولد ، وقاله عدد من الصحابة والتابعين ، وفي كتاب الرابض في خلاصة الفرائض تأليف أبي محمد عبد الله بن أبي بكر بن يحيى بن عبد السلام المالكي مانصه : كل امرأة تركت موالي فميراثهم كميراث مولى الرجل إلا في معنى واحد يرثهم بنوها وبنو بنيها وإن سفلوا ، فإذا انقرضوا رجع الميراث بالولاء إلى عصبة الأم دون عصبة الولاء ، إلا أن يكون بنوها من عصبتها فتكون عصبتهم من عصبتها قاله ابن القاسم ، وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ما نصه : لو أن المعتقة مات ابنها بعدها وقبل مولاها وترك عصبة كأعمامه وبني أعمامه ثم مات العبد وترك أخاً مولاته وعصبة أبيها يصير(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
إرثه لأخي مولاته لأن أقرب عصبة المعتق ، فإن المرأة لو كانت هي الميتة لورثها أخوها وعصبتها ، فإن انقرض عصبتها كان بيت المال أحق به من عصبة ابنها ، يروي نحو هذا عن علي ، وبه قال أبان بن عثمان وقبيصة بن ذؤيب ، وعطاء ، وطاوس والزهري ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي ، وأهل العراق . وروي عن علي رواية أخرى أنه لعصبة الابن ، وروى نحو ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وبه قال شريح ، وهذا يرجع إلى أن الولاء يورث كما يورث المال ، وقد روى عن أحمد نحو هذا واحتجوا بأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده أن ريان بن حذيفة تزوج امرأة فولدت ثلاثة غلمة فماتت أمهم فورثوا عنها ولاء مواليها وكان عمرو بن العاصي عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاصي ومات مولاها وترك مالاً فخاصمتهم إخوتها إلى عمر فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما أحرز الوالد والولد فهو لعصبته من كان ) وكتب له كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثايت ، ورجل آخر قال : فنحن فيه إلى الساعة رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما قال : والصحيح الأول فإن الولاء لا يورث على ما ذكرنا من قبل وإنما يورث به وهو باق للمعتق يرث به أقرب عصباته ، ومن لم يكن من عصباته ، لم يرث شيئاً وعصبات الابن غير عصبات أمه فلا يرث الأجانب منها بولائها دون عصباتها . وحديث عمرو بن شعيب غلط قال حميد : الناس يغلطون عمرو بن شعيب في هذا الخبر فعلى هذا لا يرث المولى العتيق من موالي معتقه إلا عصباته الأقرب منهم فالأقرب على ما ذكرنا في ترتيب العصبات ، انتهى كلام المغني .
باب الوصايا
مسألة : في رجل أوصى لرجل بما سيحدثه الله تعالى لأمته من الأولاد وله وارث يستغرق ثم توفي وقبل الموصى له وعلم الوارث بالوصية ثم إن الوارث المذكور وطىء الأمة المذكورة فأولدها ولداً فهل يكون الولد رقيقاً أو ينعقد حراً ؟ وإذا انعقد حراً هل تلزمه القيمة أم لا ؟
الجواب : هذه المسألة لم أرها منقولة لكن مقتضى ماذكره الأصحاب في صورة نظيرها أن الولد ينعقد حراً وأن عليه قيمته للموصى له .
مسألة : رجل مات وأوصى جماعة وجعل زوجته أحد الأوصياء وأوصى لهم بمبلغ فادعى مدع أنه لا يجوز لزوجته أن تأخذ نظير ما أوصى به للأوصياء لأنها وارثة ؟ .
الجواب : أما أصل الوصية للوارث فلا يطلق القول بابطالها بل هي موقوفة على إجازة الورثة ، وأما هذه المسألة بخصوصها فالذي يظهر فيها استحقاق الزوجة نظير ما يأخذه أحد الأوصياء لأنه ليس تبرعاً محضاً ، بل شبه الأجرة أو الجعالة للدخول في الوصايا وما يترتب عليها من الأخطار والنظر والقيام بحال الأولاد والأمور الموصى بها هذا ما ظهر لي ، وقد(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
رفع السؤال إلى الشيخ فخر الدين المقسي ووافقني على ما أفتيت به ، وإلى الشيخ سراج الدين العبادي فخالف وأجاب بوقف نصيب الزوجة جرياً على القاعدة ولم يظهر لي موافقته .
مسألة : رجل له مساطير على غرماء من عشرين سنة وأكثر وأقل فأوصى أن من أنكر شيئاً مما عليه أو ادعى وفاءه يحلف ويترك فهل يعمل بذلك والحال أن في الورثة أطفالاً ؟ .
الجواب : نعم يعمل به خصوصاً إذا لم تكن بينة تشهد بما في المساطير فإنها لا تقوم بها حجة ولو كان صاحب الحق حياً ، فإذا أجاب المديون أنه لا شيء عليه مما في المسطور قبل ذلك منه وحلف وبرىء ، وأقل أمور ذلك أذا شهدت بما في المسطور بينة مقبولة أن يجعل وصيته تحسب من الثلث ، وأما إذا لم تشهد به بينة فيسقط من رأس المال لعدم ثبوته .
مسألة : رجل أسند وصية لأقوام متعددة بصيغة تدل على اجتماعهم وهو قوله : أسند وصيتي لفلان ولفلان ولفلان فرد جماعة منهم الوصية فهل يتصرف الباقون أم لا بد من إقامة واحد عن الذي رد ؟ .
الجواب : إذا صرح باجتماع الأوصياء على التصرف أو أطلق لم يجز للباقين الانفراد بالتصرف ، بل ينصب الحاكم بدلاً عمن رد يتصرف معهم لكن هذه الصيغة المذكورة في السؤال عندي في دلالتها على الاجتماع نظر ، بل هي ظاهرة في استقلال كل واحد من أجل إعادة الجار في كل اسم ، فلو حذف الجار مما بعد الأول فقال لفلان وفلان وفلان كانت صورة الإطلاق .
مسألة : في قول المنهاج وغيره : ولو أوصى لجيرانه فلأربعين داراً من كل جانب هل الجوانب منحصرة في أربعة جوانب حتى لا تكون الدور أكثر من مائة وستين داراً أو تكون الجوانب أكثر من أربعة بأن تكون دار الموصى مسدسة أو مثمنة أو مدورة وهي محفوفة بدور تلاصقها ثمانية أو عشرة وكل دار تلاصقها دار بعد دار إلى أربعين فالدور الملاحقة لدار الموصى هل كلها جيران ؟ سواء كانت أربعين داراً أو أكثر أم لا ؟ وإذا كانت كلها جيراناً فهل ما يلاصق كل دار إلى أربعين داراً جيران للموصي حتى يكون جيرانه فيما إذا كان تلاصقه عشر دور ، ويلاصق كل دار أربعون داراً أربعمائة دار ، وإذا كان أكثر من ذلك فبحسابه إلى مالا نهاية له ، وهل في ذلك خلاف بين الأصحاب أم لا ؟ .
الجواب : كلام الأصحاب في الجوانب الأربعة أخذاً من الحديث الوارد في ذلك محمول على الغالب ، فلو كانت الدار على غير التربيع اعتبر ذلك من جميع جوانبها وتزيد العدة على مائة وستين كما يفهم من كلامهم ، وكون الجيران في الوصية محمولين على الأربعين من كل جانب هو الراجح والمسألة فيها عشرة أوجه حكاها الزركشي في التكملة .(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
كتاب النكاح
مسألة : رجل خطب امرأة ثم رغبت عنه هي أو وليها فهل يرتفع التحريم عمن يريد خطبتها ؟ وهل الخطبة عقد شرعي وهل هو عقد جائز من الجانبين أم لا ؟ .
الجواب : يرفع تحريم الخطبة على الغير بالرغبة عنه فيما يظهر وإن لم يتعرضوا له وإنما تعرضوا لما إذا سكتوا أورغب الخاطب ، والظاهر أن الخطبة ليس بعقد شرعي ، وأن تخيل كونها عقداً فليس بلازم بل جائز من الجانبين قطعاً .
مسألة : امرأة حضرت إلى شاهدين ومنها صداقها وبه فصل طلاق بذيله رسم شهادة شاهدين مؤرخ بمدة يمكن انقضاء عدتها وسئلت عن ذلك فأخبرت بانقضاء عدتها وحلفت عليها وعلى خلوها من كل مانع شرعي فهل للحاكم أن يزوجها بمجرد ذلك أم لا بد من إقامة البينة على الطلاق المذكور ؟ .
الجواب : في الشرح ، والروضة عن فتاوي البغوي أنه لا بد من إقامة البينة ، وفي أدب القضاء للزبيلي التفصيل بين الغريبة التي زوجها غائب وبين البلدية التي زوجها حاضر ، وفي توثيق الحكام لابن العماد أن الصحيح أنه لا يحتاج إلى إقامة البينة مطلقاً وضعف قول البغوي والزبيلي والراجح عندي مقالة البغوي وقد سكت عليها الشيخان ولم يتعقباها بنكير .
كتاب الصداق
مسألة : رجل تزوج بكراً بالغة فنذرت أن لا تطالبه بنفسها ولا بوكيلها ببقية حال صداقها عليه ما دامت في عصمته وذلك بحضور والدها واعترافه بجواز الإشهاد عليها وحكم بموجب ذلك حاكم شافعي فهل هذانذير تبرر أولا ؟ وهل النذير يصح من المسلم المكلف أو لابد أن يكون جائز التصرف ؟ وهل لها أن ترجع عن هذا النذير وتطالبه قبل الطلاق ؟ وهل اعتراف والدها بجواز الإشهاد عليها قرينة على رشدها ؟ .
الجواب : إنما يصح النذر المالي من جائز التصرف ، فإن كانت الزوجة البالغة رشيدة صح منها هذا النذر وكان نذر تبرر وليس لها الرجوع عنه ولا المطالبة ولو لم يحكم به حاكم ، وإن لم تكن رشيدة لم يصح ذلك منها ولا من الوالي لأنه لا يجوز له العفو عن الصداق على الجديد ، وأماهل اعتراف والدها بجواز الإشهاد عليها قرينة رشدها ؟ فالذي يظهر خلافه وأنه لا بد من ثبوت رشدها وهو كونه مصلحة لديها ومالها بطريقه الشرعي .
مسألة : فيما إذا أصدقها صداقاً مسمى على أنها بكر ثم وطئها وادعت أنه أزال بكارتها بوطئه واعترف هو أنه وطئها فوجدها ثيباً فهل تستحق المسمى لحصول الوطء أو مهر مثل ثبت لأنه لم يستمتع إلا بثيب ؟ وهل هذه هي المستثناة من قولهم القول قول نافي الوطء إلا في مسائل منها أذا تزوجها بشرط البكارة وادعت أنه أزال بكارتها فالقول قولها لدفع الفسخ(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وقوله لدفع كمال المهر أم لا ، لأن الواقعة المذكورة فيها اعترافه بالوطء والمستثناة من كلامهم ليس فيها ذلك ؟ .
الجواب : عبارة الروضة ولو قالت : كنت بكراً فافتضني فأنكر فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ وقوله بيمينه لدفع كمال المهر ، فقوله فأنكر صادق بصورتين أن ينكر الوطء بالكلية وأن ينكر الافتضاض الذي هو إزالة البكارة فقط مع اعترافه بوقوع الوطء ، فعلى هذا تستوي الصورتان في الحكم وهو تصديقه فيما يتعلق بالمهر فقط ، ويحتمل أن يكون الوطء قرينة لتصديقها فيكون القول قولها لكن الأول هو الاشبه الجاري على القواعد ، وأما قولهم القول قول نافي الوطء إلا في مسائل ، منها كذا إلى آخره فهذه عبارة أصحاب الأشباه والنظائر وإنما اقتصروا على الصورة التي فيها نفي الوطء لأنها المقصودة بالاستثناء الذي هو موضوع كتبهم .
باب الوليمة
مسألة : تقبيل الخبز هل هو بدعة أم لا ؟ وإذا كان بدعة هل يكون حراماً أم لا ؟ وقد قال ابن النحاس في تنبيه الغافلين ومنها أي من البدع تقبيل الخبز وهو بدعة لا تجوز ، وقد أفتى جماعة أنه يجوز دوسه ولا يجوز بوسه لكن دوسه خلاف الأولى وربما كرهه بعضهم ، واما بوسه فهو بدعة وارتكاب البدع لا يجوز ، وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه في الحجر الأسود : إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقبلك ما قبلتك ، هذا وهو الحجر الأسود الذي هو من ياقوت الجنة وهو يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه كما ورد في الحديث فكيف يجوز تقبيل الخبز ؟ لكن يستحب إكرامه ورفعه من تحت الأقدام من غير تقبيل ، وقد ورد في إكرام الخبز أحاديث لا أعلم فيها شيئاً صحيحاً ولا حسناً هذا نصه بحروفه فهل ماقاله هو الصحيح المعتمد أم لا ؟ .
الجواب : أما كون تقبيل الخبز بدعة فصحيح ، ولكن البدعة لا تنحصر في الحرام بل تنقسم إلى الأحكام الخمسة ولا شك أنه لا يمكن الحكم على هذا بالتحريم لأنه لا دليل على تحريمه ولا بالكراهة ، لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص ولم يرد في ذلك نهي ، والذي يظهر أن هذا من البدع المباحة فإن قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن ، ودوسه مكروه كراهة شديدة بل مجرد إلقائه في الأرض من غير دوس مكروه لحديث ورد في ذلك .
حسن المقصد في عمل المولد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع ؟ وهل هو محمود أو مذموم ؟ وهل يثاب فاعله أولاً ؟ .
والجواب : عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لمافيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلّم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف ، وأول من أحدث فعل ذلك صاحب اربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي ابن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة ، وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون ، قال ابن كثير في تاريخه : كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً وكان شهماً شجاعاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه ، قال : وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير فأجازه على ذلك بألف دينار ، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة .
وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان : حكي بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى ، قال : وكان ينحصر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم ، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلثمائة ألف دينار ، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة ، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار ، وكان يستفك من الفرنج في كل سنة أسارى بمائتي ألف دينار ، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار ، هذا كله سوى صدقات السر ، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم قالت : فعاتبته في ذلك فقال : لبسي ثوباً بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوباً مثمناً وأدع الفقير والمسكين .
وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دحية : كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء . قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز باربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين تعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب التنوير في مولد البشير النذير وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار قال : وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين وستمائة انتهى .
وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة وألف في ذلك كتاباً سماه المورد في الكلام على عمل المولد وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفاً حرفاً .(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
قال رحمه الله : الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين ، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين ، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين ، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين ، أحمده على مامن به من أنوار اليقين ، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين .
أما بعد ، فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين ؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً والإيضاح عنه معيناً فقلت وبالله التوفيق : لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون ، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمس قلنا إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً ، وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون [ ولا العلماء ] المتدينون فيما علمت ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ، ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين ، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً ، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين .
أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئاً من الآثام ، وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة .
والثاني : أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطى أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف ، وقد قال العلماء : أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف لا سيما إن انصاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات ، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات ، إما مختلطات بهن أو مشرفات ، والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف ، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى : ) إن ربك لبالمرصاد ( وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب ، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لامن الأمور المنكرات المحرمات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، بدأ الاسلام غريباً وسيعود كما بدا ، ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه :(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
قد عرف المنكر واستنكر
المعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدة
وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي
ساروا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى
والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت
نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن الإمام أبو عمر وبن العلاء حيث يقول : لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب ، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلّم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه ، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه . وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حسن القبول .
هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه المذكور ، وأقول : أما قوله لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة فيقال عليه نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود ، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلاً من السنة واستخرجت له أنا له أصلاً ثانياً وسيأتي ذكرها بعد هذا ، وقوله : بل هو بدعة أحدثها البطالون إلى قوله : ولا العلماء المتدينون يقال عليه قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم وقصد به التقرب إلى الله تعالى وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم ، وارتضاه ابن دحية وصنف له من أجله كتاباً ، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه ، وقوله ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه : إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص وتارة يكون بالقياس ، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما ، وقوله : ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين كلام غير مسلم لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه بل قد تكون أيضاً مباحة ومندوبة وواجبة . قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : البدعة في الشرع هي إحداث مالم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة . ومندوبة ومكروهة ومباحة ، قال : والطريق في ذلك أن نعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، أو في قواعد التحريم فهي محرمة ، أو الندب فمندوبة ، أو المكروه فمكروهة ، أو المباح فمباحة ، وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثله إلى أن قال : وللبدع المندوبة أمثلة ، منها أحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول ، ومنها التراويح والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل ، ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى ،(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال : المحدثات من الأمور ضربان : أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة ، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة ، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان : نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذ كانت فليس فيها رد لما مضى هذا آخر كلام الشافعي ، فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين ولا جائز أن تكون مباحاً إلى قوله : وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخرة لأن هذا القسم مما أحدث وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي وهو من الإحسان لذي لم يعهد في العصر الأول ، فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام . وقوله : والثاني إلى آخره هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه لا من حيث الاجتماع لاظهار شعار المولد ، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلاً لكانت قبيحة شنيعة ، ولا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح ، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليال رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح فهل يتصور ذم الاجتماع لصلاة التراويح لأجل هذه الأمور التي قرنت بها ؟ كلا بل نقول أصل الأجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح وشنيع ، وكذلك نقول : أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة ، وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع ، وقوله مع أن الشهر الذي ولد فيه إلى آخره جوابه أن يقال أولاً : أن ولادته صلى الله عليه وسلّم أعظم النعم علينا ووفاته أعظم المصائب لنا ، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسكون والكتم عند المصائب ، وقد أثر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود ولم يأمر عند الموت بذبح ولا بغيره بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع ، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلّم دون إظهار الحزن فيه بوفاته ، وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم ؟ .
وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جداً ، وحاصله مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر ، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات ، وأنا أسوق كلامه فصلاً فصلاً قال :
فصل في المولد : ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد ، وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جملة فمن ذلك استعمالهم المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات ، ولا شك أن(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم ؟ فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينهما وبين تعظيم هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين ، فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير شكراً للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلّم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئاً من العبادات ، وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلّم بأمته ورفقه بهم ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم ، لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن الصوم يوم الاثنين : ( ذاك يوم ولدت فيه ) فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه ، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة ، وهذا منها لقوله عليه السلام : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ( آدم فمن دونه تحت لوائي ) وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني ، فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين ، ألا ترى أن الصوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلّم ولد فيه ؟ فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعاً له صلى الله عليه وسلّم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات ، ألا ترى إلى قول ابن عباس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان ) فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا .
فصل : فإن قال قائل قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره فالجواب : أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه ، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا في قطع شجرة الجزاء تخفيفاً على أمته ورحمة بهم ، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلاً في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم ، فعلى هذا فتعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات ، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له تعظيماً لهذا الشهر الشريف وإن كان ذلك مطلوباً في غيره ، إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراماً ، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لاينبغي ، وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمان ضد هذا المعنى وهوأنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما ، وياليتهم عملوا المغاني ليس إلا ، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
المولد بقراءة الكتاب العزيز وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المهيجة لطرب النفوس وهذا فيه وجوه من المفاسد ، ثم أنهم لم يقتصروا على ما ذكر بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر وهو أن يكون المغني شاباً لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته ، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء ، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لايحصى ، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم ، وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع ، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط ، لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين ، واتباع السلف أولى ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن تبع فيسعنا ماوسعهم انتهى .
وحاصل ما ذكره أنه لم يذم المولد بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات ، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات ، وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه ، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة ، وأما قوله آخراً إنه بدعة فإما أن يكون مناقضاً لما تقدم أو يحمل على أنه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب ، أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله فهو بدعة بنفس نيته فقط وبقوله ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ، فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه ، وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه لأنه حث فيه على زيادة فعل البر ، وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى ، إذ أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم وهذا هو معنى نية المولد فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولاً ، وأما مجرد فعل البر وماذكر معه من غير نية أصلاً فإنه لا يكاد يتصور ، ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه ، إذ لا عمل إلا بنية ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة النبي الكريم في هذا الشهر الشريف ، وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك فتأمل .
ثم قال ابن الحجاج : ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذاته فيعمل المولد حتى يكون ذلك سبباً لأخذ ما اجتمع له عند الناس ، وهذا فيه وجوه من المفاسد : منها أنه يتصف بصفة النفاق وهو أنه يظهر خلاف ما يبطن إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة وباطنه أنه يجمع به فضة ، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له وهذا أيضاً فيه من المفاسد مالا يخفى انتهى ، وهذا أيضاً من نمط ما تقدم ذكره وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة لا من أصل عمل المولد .(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه : أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكراً لله تعالى ، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر ، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه ، فهذا ما يتعلق بأصل عمله .
وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة ، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحاً بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به ، وما كان حراماً أو مكروهاً فيمنع ، وكذا ما كان خلاف الأولى انتهى .
قلت : وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية ، فيجعل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلّم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات ، ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين بن الجزري قال في كتابه المسمى عرف التعريف بالمولد الشريف ما نصه : قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك ؟ فقال : في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا وأشار لرأس أصبعه وإن ذلك باعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلّم وبإرضاعها له ، فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمة جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلّم به فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلّم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلّم ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم .
وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى مورد الصادي في مولد الهادي : قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سروراً بميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أنشد :(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه
وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره
بأحمد مسروراً ومات موحدا
قال الكمال الأدفوي في الطالع السعيد : حكى لنا صاحبنا العدل ناصر الدين محمود بن العماد أن أبا الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يجوز بالمكتب في اليوم الذي فيه ولد النبي صلى الله عليه وسلّم فيقول : يافقيه هذا يوم سرور اصرف الصبيان فيصرفنا ، وهذا منه دليل على تقريره وعدم إنكاره ، وهذا الرجل كان فقيهاً مالكياً متفنناً في علوم متورعاً أخذ عنه أبو حيان وغيره ومات سنة خمس وتسعين وستمائة .
فائدة : قال ابن الحاج : فإن قيل ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده الكريم بشهر ربيع الأول ويوم الاثنين ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر ولا في الأشهر الحرم ولا في ليلة النصف من شعبان ولا في يوم الجمعة وليلتها ؟ فالجواب من أربعة أوجه : الأول ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الاثنين وفي ذلك تنبيه عظيم وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد به بنو آدم ويحيون وتطيب بها نفوسهم . الثاني : أن في لفظة ربيع إشارة وتفاؤلاً حسناً بالنسبة إلى اشتقاقه وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي : لكل إنسان من اسمه نصيب . الثالث : أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها . الرابع : أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف به الزمان الذي ولد فيه فلو ولد في الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه يتشرف بها . تم الكتاب ولله الحمد والمنة .
باب الخلع
مسألة : رجل قالت له زوجته : ائت بشاهد لا برئك وطلقني ، فأتى لها به فقالت : أبرأتك ، فقال : أنت طالق ثلاثاً ، فقالت له : قل إن شاء الله فقال إن شاء الله .
الجواب : إن كانت تعلم القدر الذي لها عليه صحت البراءة وإلا لم تصح وأما الطلاق فإنه نجزه ولم يعلقه على البراءة ، فالظاهر وقوعه صحت البراءة أم لا ، ولا ينفعه قوله بعد ذلك إن شاء الله .
مسألة : في رجل قال لزوجته : إن أبرأتني من جميع ما يلزمني لك فأنت طالق فأبرأته منه ثم قال : أنت طالق ثم بعد مضي قدر ثلاث درج قال : أنت طالق ثلاثاً فهل تبين باللفظ الأول أو يقع رجعياً ؟ وإذا قلتم بعدم البينونة لكون الإبراء لا يقبل التعليق فهل تبين بقوله أنت طالق الثانية الذي قالها بعد الإبراء ؟ وهل يقع طلقتين أو يقعا رجعتين وتلحقه الطلقة الثالثة ؟ .
الجواب : إن كان القدر المبرأ منه معلوماً صحت البراءة ووقع الطلاق بائناً ولم يلحق(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
شيء بعد ذلك ، وإن كان مجهولاً لم يصح ولم يقع الطلاق المعلق على البراءة ثم قوله بعد أنت طالق يقع به طلقة رجعية ثم تكمل الثلاث بقوله بعد أن أنت طالق ثلاثاً ، وقول السائل لكون الإبراء لا يقبل التعليق ليست هذه الصورة من تعليق الإبراء بل هي من تعليق الطلاق على الإبراء ، فالإبراء معلق عليه لا معلق فليفهم والله أعلم .
مسألة : إذا قالت الزوجة إن طلقتني فأنت بريء من صداقي فهل يقع الطلاق رجعياً أم يجب فيه مهر المثل كما لو كان العوض فاسداً بأن ذكر خمراً أو نحوه أو لا يقع الطلاق حملاً على أن تعليق الإبراء لا يصح أم كيف الحال ؟ .
الجواب : إذا قالت : إن طلقتني فأنت بريء من صداقي لم يحصل الإبراء لأن تعليقه باطل ، وهل يقع رجعياً ولا شيء أو بائناً ويلزمها مهر المثل ؟ وجهان جزم الرافعي والنووي بالأول في الباب الرابع من أبواب الخلع ، وجزماً بالثاني نقلاً عن القاضي حسين ، وأقراه في الفروع المنثورة آخر الخلع ، وذكر الأسنوي في المهمات أن الأول هو المشهور في المذهب ، واقتصر عليه الرافعي في الشرح الصغير لكن مال في الكبير إلى الثاني بحثاً ، وبه أجاب القفال في فتاويه ، والغزالي وصححه ابن الصلاح .
مسألة : رجل قال لزوجته : إن ابرأتني من صداقك فأنت طالق ، فإذا أبرأته فهل يقع الطلاق بائناً أو رجعياً ؟ وهل يشترط أن تبرى على الفور أولا ؟ وهل يشترط علم كل منهما بقدر المبرأ منه أو علم الزوج فقط ؟ أو الزوجة فقط ؟ وإذا رجع الزوج قبل صدور الإبراء هل يبطل حكمه ؟ .
الجواب : الراجح في هذه الصورة وقوعه بائناً بشرط أن يكون في المجلس كما نبه عليه الزركشي في قواعده ، وبشرط أن تنوي الزوجة البراءة من المعلق عليه ، وبشرط أن يكونا عالمين بقدره كما نبه عليهما الشيخ ولي الدين العراقي في فتاويه .
باب الطلاق
مسألة : رجل طلق امرأته واحدة ثم خرج من عندها فلقيه شخص فقال : ما فعلت بزوجتك ؟ قال : طلقتها سبعين فهل يقع عليه الثلاث ؟ .
الجواب : نعم يقع عليه الثلاث مؤاخذة بإقراره .
مسألة : رجل قال لزوجته : الطلاق يلزمني ثلاثا إن آذيتني يكون سبب الفراق بيني وبينك فاختلست له نصف فضة فما يقع عليه ؟
الجواب : يطلقها حينئذ طلقة فيبر من حلفه فإن لم يفعل وقع الثلاث .
مسألة : رجل حلف بالطلاق أنه لا ينام بحذاء زوجته فجاءت وهو مستغرق في النوم واضطجعت حذاءه وأيقظته فقام من نومه ولم ينم بحذائها فهل يقع عليه الطلاق ؟
الجواب : لا يقع الطلاق والحالة هذه .
مسألة : رجل تشاجر مع زوجته فقالت له : قل لي طالق ، فقال : طالق بلا نية فهل يقع عليه الطلاق ؟(1/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
الجواب : لا يقع حتى يصرح بأنت أو زوجتي أو نحو ذلك .
مسألة : شاهد حلف بالطلاق لا يكتب مع فلان في ورقة رسم شهادة فكتب الحالف أولاً ثم كتب الآخر ؟
الجواب : إن لم تكن أصل الورقة مكتوبة بخط المحلوف عليه ولا كان بينه وبينه في هذه الواقعة تواطؤ ولا على علمه أنه يكتب فيها لم يحنث وإلا حنث .
مسألة :
ما قولكم أهل العلوم والتقى
بقيتم في عزة وفي ارتقا
في رجل طلق طلقتين
زوجته ياقرة لعين
ثم تزوجت بشخص فإذا
ما طلقت منه فهل من بعدذا
لزوجها الأول هل تعود
لا فارقت أبوابك السعود
على ثلاث مثل ما قد كانت
أو بالذي يبقى بعيد بانت
وما هو الحكم افتنا مأجورا
فطالع السعد يضيء نورا ؟
الجواب :
الحمد لله الذي قد وفقا
إلى الجواب بالصواب المنتقى
ثم على نبينا الأمين
صلاته تشرق كل حين
إن طلقتين طلق الزوج وذا
من بعدما تزوجت قد أخذا
فإنها بطلقة تعود
قد قاله إمامنا المفيد
وليس حقاً بالثلاث عادت
فافهم جوابي فهم حبرقانت
وابن السيوطي الشافعي يرتجى
من ربه مغفرة ويلتجى
مسألة : قول المنهاج في الطلاق : يصح الاستثناء بشرط اتصاله ولا يضر سكتة تنفس وعى هل هو بكسر العين أو فتحها وما معناه ؟ .
الجواب : هو بالكسر وهو التعب من القول قال في الصحاح : العي خلاف البيان .
مسألة : شخص أراد أن يحبس رجلاً بدين فقال له : إن طلقت زوجتك بائناً لم أحبسك أو قال له : إن لم تطلقها بائناً حبستك فطلقها بمال خوفاً من الحبس هل يقع الطلاق أم لا ؟ .
الجواب : يفرق بين الموسر والمعسر ، فإن كان موسراً فتهديده بالحبس على الدين إكراه بحق فلا يمنع وقوع الطلاق ، وإن كان معسراً فهو ظلم لأن حبس المعسر لا يجوز فهو إكراه بغير حق فلا يقع الطلاق .(1/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
مسألة : فيمن قال لزوجته : تكوني طالقاً هل تطلق أم لا لاحتمال هذا اللفظ الحال والاستقبال ؟ وهل هو صريح أم كناية ؟ وإذا قلتم بعدم وقوعه في الحال فمتى يقع أبمضي لحظة أم لا يقع أصلاً لأن الوقت مبهم ؟
الجواب : الظاهر أن هذا اللفظ كناية ، فأن أراد به وقوع الطلاق في الحال طلقت أو التعليق احتاج إلى ذكر المعلق عليه وإلا فهو وعد لا يقع به شيء ، ثم بحث باحث في المسألة الأخيرة فقال : الكناية ما احتمل الطلاق وغيره وهذا ليس كذلك فقلت : بل هو كذلك لأنه يحتمل إنشاء الطلاق والوعد به فقال : إذا قصد الاستقبال فينبغي أن يقع بعد مضي زمن كالمعلق على مضى زمان . فقلت : لا لأنه لم يصرح بالتعليق ولا بد في التعليقات من ذكر المعلق وهو الطلاق والمعلق عليه وهو الفعل أو الزمان مثلاً وهنا لم يقع ذكر الزمان المعلق عليه قال : هو مذكور في الفعل وهو تكوني فإنه يدل على الحدث والزمان قلت دلالته عليهما ليست بالوضع ولا لفظية ولهذا قال النحاة : أن الفعل وضع الحدث مقترن بزمان ولم يقولوا أنه وضع للحدث والزمان ، وقد صرح ابن جني في الخصائص بأن الدلالات في عرف النحاة ثلاث : لفظية وصناعية ومعنوية ، فالأولى كدلالة الفعل على الحدث . والثانية كدلالته على الزمان . والثالثة كدلالته على الفعال وصرح ابن هشام الخضراوي في الإفصاح بأن دلالة الافعال على الزمان ليست لفظية بل هي من باب دلالة التضمن وقد بينت ذلك في كتاب أصول النحو ، ودلالات التضمن والالتزام لا يعمل بها في الطلاق والأقارير ونحوها ، بل لا يعتمد فيها إلا على مدلول اللفظ من حيث الوضع والدلالة اللفظية فثبت ما قلناه من أن هذه الصيغة وعد وهو مضارع لو دخل عليه حرف التنفيس لقيل سوف تكونين طالقاً وهذه الصيغة وعد بلا شك فكذا عند تجرده من سوف ، فإن قيل : لفظ السؤال تكوني بحذف النون قلت لا فرق فإنه لغة وعلى تقرير أن يكون لحناً فلا فرق في وقوع الطلاق بين المعرب والملحون بمئل ذلك ، فإن نوى بذلك الأمر على حذف اللام أي لتكوني فهو إنشاء فتطلق في الحال بلا شك .
مسألة : في رجل دخلت أمرأته إلى بيت رجل من إلزامه فدخل فوجدها قائمة مشدودة الوسط فقال : صرت خديمة الطلاق يلزمني ما بقيت تدخلي من هذه العتبة ، ثم إن صاحبة البيت أنتقلت إلى دار أخرى فهل إذا دخلت الزوجة المحلوف عليها الدار الثانية يقع عليها الطلاق أولا ؟ .
الجواب : لا يقع الطلاق بدخول الدار الثانية ويقع بدخول الأولى من تلك العتبة ولو بعد النقلة لأجل التعيين بالإشارة .
مسألة : في رجل عليه دين لشخص فطالبه فحلف المديون بالطلاق متى أخذت مني هذا المبلغ في هذا اليوم ما أسكن في هذه الحارة ، ثم أنه تعوض في المبلغ المذكور قماشاً وأنتقل من وقته فهل إذا عاد يقع عليه الطلاق أم لا ؟ .
الجواب : هنا أمرأن يتكلم فيهما الأول كونه تعوض بالمبلغ قماشاً والحلف على أخذ(1/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
هذا المبلغ ، فالإشارة إلى المبلغ المدعى به الثابت في الذمة وهو نقد والمأخوذ غير المشار إليه فلم يقع أخذ المحلوف عليه فلا يقع الطلاق إلا أن يريد بالأخذ مطلق الإستيفاء فيقع حينئذ عملا بنيته ، الثاني العود بعد النقلة فإن لم يقع الطلاق وهو في صورة الإطلاق فواضح ، وإن وقع وهو في صورة قصد مطلق الإستيفاء فالحلف قد وقع على السكنى من غير تقييد فيحنث بالسكنى في أي وقت كان .
مسألة : رجل حلف بالطلاق أنه متى غاب عن زوجته عشرة أيام بلا نفقة كانت طالقاً ، ثم بعد ذلك جاء أبوها وأخذها من منزل الزوج بغير أذنه وسافر بها إلى قطر آخر فجاء الزوج إلى منزلة وسأل عن زوجته فأخبر بما وقع فتخلف الرجل عن السفر إليهم مدة تزيد على عشرة أيام فهل يقع عليه الطلاق أم لا ؟ .
الجواب : لا يقع عليه الطلاق والحالة هذه لأمرين . أحدهما أنها لاتستحق نفقة في هذه الحالة فينزل قوله بلا نفقة على النفقة الواجبة أو ما يقوم مقامها ، والثاني أنه لم تحصل الغيبة عشرة أيام من جهته وإنما حصلت من جهتها ، ونظير هذه المسألة من المنقول من حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي منه ففارقه الغريم وهو واقف لم يتبعه لم يحنث سواء أمكنه أتباعه أم لا لأن المفارقة لم تحصل من جهته .
مسألة : رجل حلف بالطلاق إني أجود من فلان فهل عليه البينة بذلك ؟ ورجل حلف أن هذا الشاش لغيره الذي على رأس زيد لعمرو وأشار إليه فظهر أن الشاش لغيره وكان الحالف عهد شاش عمرو على زيد فهل يغلب جانب الإشارة على الظن ويقع عليه الطلاق أولا ؟ ورجل أكره زيداً على طلاق زوجته في مجلسه بطلقة فلم يوقعها في مجلسه ثم أنه خرج في الترسيم وخلع زوجته بطلقة على عوض معلوم فهل يعد ذلك أكراهاً ولا يحنث أم يقع عليه بصريح الخلع طلقة بائنة ؟ وما هو الأجود هل الأفضل ديناً أو النسب أو الأكرام ؟ .
الجواب : الأحوال ثلاثة : تارة يعرف الناس أن الحالف أجود أي أدين من الآخر فلا حنث . وتارة يعرفون أن الآخر أدين منه فيحنث . وتارة لا يعلم ذلك لكونهما متقاربين في الدين أو النحس ولا يعلم أيهما أميز فلا حنث للشك ، ومسألة الشاش يقع فيها الطلاق عندي ولي في ذلك مؤلف ، ومسألة الخالع يقع فيها الطلاق لأنه خالف ما أكره عليه .
مسألة : رجل اشترى خرقة جوخ فقطع بعض الثمن للبائع فقال البائع : علي الطلاق ما يلبسها إلا أنا أي الخرقة المذكورة ولا نية للحالف أصلاً ، ثم أتفق هو والمشتري على أن يفصل الخرقة المذكورة ويخيطها ، فلما فصلت وخيطت جيء بها وعلق فيها ما خرج منها مما لا بد من إخراجه عند الخياطة من قوارة وما يقطع من الذيل وغيره للإصلاح ولبسها البائع ثم نزعها وقلع منها ما علقه فيها من القوارة وغيرها ثم دفعها للمشتري فلبسها هو وغيره ، فهل اليمين تعلقت بحمله هذه الخرقة حتى لا يحنث الحالف بلبس غيره لها بعد إزالة ما ذكر ، أو يحمل اليمين على خلاف القوارة وغيرها فلا يتعلق به اليمين كما في مسألة فتات الخبز عند الإمام وغيره ، وكما هو ظاهر كلام الروضة أذا حلف لا يلبس هذا الثوب(1/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
فخيطه قميصاً أو قباء أو جبة أو سراويل أو جعل الخف نعلاً حنث بالمتخذ منه حتى يحنث البائع بلبسها بعد إزالة ما ذكر ؟ .
الجواب : يحنث الحالف والحالة هذه كما هو مقتضي صيغة الحصر حيث حلف لا يلبسها إلا هو ، ولا يفيد في دفع الحنث إزالة ما ذهب بالتفصيل من قوارة وقصاصة لأن العرف قاض بإزالة ذلك في حال التفصيل ليحصل اللبس المعتاد في مثلها ، وهذا مما لا شبهة فيه ولا وقفة ، وليس كما لو حلف لا يأكل الرغيف فأكله إلا لقمة كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة والله أعلم .
مسألة : رجل قال لزوجاته الأربع : أحدى زوجاتي طالق وكرر ذلك يقع عليه بكل مرة طلقة وعند قوله : لهن أحدى هؤلاء طالق وكرر ذلك لا يقع عليه غير واحدة ولا يقع بالتكرار شيء ، والحال أنه لم يكن في الموضعين إرادة إنشاء أو إخبار فما هو المعنى المقتضى لوقوع الطلاق عند التكرار في الأولى دون الثانية ؟ وهل الحكم في العتق كالحكم في الطلاق في هاتين الصورتين أم يفرق بينهما ؟ .
الجواب : [ هذه ] المسألة لا وجود لها في الشرحين ولا في الروضة ولا في شروح المتأخرين لا حكماً ولا تصويراً . والذي تقتضيه القواعد إستواء الصورتين وأنه إن قصدفيهما الإتحاد لم تطلق غير امرأة واحدة أو التعدد وقع بحسب ما عدد ، وإن أطلق فالذي يظهر أنه لا يقع إلا على واحدة هذا بحسب من يقع عليه الطلاق ، وأما عدد الطلقات فمرتبة ثانية فإن قصد التأكيد فواحدة أو الإستئناف أو أطلق فثلاث في صورتي ما إذا لم يقصد إلا امرأة واحدة بلا شك أو أطلق فيما يحثناه ولم نره منقولاً والله أعلم .
مسألة : رجل قال لأجنبية : أنت طالق وزوجتي كذلك هل تطلق زوجته ؟ .
الجواب : ذكر الرافعي أنه لو قال نساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي لا تطلق زوجته لأنه عطف على نسوة لم يطلقن ، وكذا لو قال : كل أمرأة أتزوجها فهي طالق وأنت يا أم أولادي لا تطلق زوجته ، قال الأسنوي في التمهيد : ويؤخذ من ذلك أن العطف على الباطل باطل حتى إذا أشار إلى أجنبية فقال : طلقت هذه وزوجتي لا تطلق زوجته انتهى .
فقد يقف الواقف على هذا النقل فيظن أنه الصورة المسئول عنها فيبادر إلى الجواب بعدم الوقوع وليس كذلك ، فإن الصورة التي ذكرها الرافعي والتي ذكرها الأسنوي في العطف خاصة وهو أن يقتصر على قوله : وأنت يا زوجتي ، أو قوله : وزوجتي ، وأما الصورة التي في السؤال فليست عطفاً بل جملة مستقلة من مبتدأ وخبر حيث ضم إليها قوله كذلك أي طالق ، فالذي يقال في هذه الصورة أنها صيغة كناية إن نوى طلاقها بذلك طلقت وإلا فلا ، كما هو المنقول فيما لو طلق هو أو رجل أمرأته ثم قال لزوجته : أنت كهي ، فإن نوى طلقت وإلا فلا ، وكذا لو قال لزوجته : أنت طالق عشراً ، فقالت : يكفيني واحدة ، فقال الباقي لضرتك ، فإنه إن نوى وقع على الضرة طلقتان وإلا فلا ، فقوله في صورة السؤال وزوجتي كذلك كقوله أنت كهي ، وكقوله الباقي لضرتك ، ويؤيد هذا التخريج من أصله ما(1/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
في الشرح والروضة أنه لو أكره على طلاق حفصة مثلاً فقال لها ولعمرة : طلقتكما فإنهما يطلقان لأنه عدل عن المكره عليه ، وإن قال : طلقت حفصة وطلقت عمرة أو حفصة طالق وعمرة طالق المكره عليها وهي حفصة وتطلق الأخرى ، فانظر كيف فرقوا بين الأفراد والجمل المستقلة في الحكم .
مسألة : رجل قال لزوجته : وكلتك في تطليق نفسك ، وأتى بهذا اللفظ أي لفظ التوكيل ، فهل يكون هذا توكيلاً حتى لو طلقت بعد شهر نفذ أو تمليكاً حتى يعتبر فيه الفور ؟ .
الجواب : ذهب القاضي حسين في هذه الصورة إلى أنه يعتبر الفور فيه وإن صرح بالتوكيل لأنه تشوبه شعبة من التمليك ، قال إمام الحرمين : وهو فقه حسن ولكنه متفرد به بين الأصحاب ، هكذا ذكر في النهاية ، وذكره الرافعي في الشرح بإختصار والنووي في الروضة بأخصر مما في الشرح .
مسألة : شخص حلف على زوجته بالطلاق أنها لا تخبز فطيراً عند الجيران فعجنت دقيقاً وجعلت فيه خميراً ثم خبزته قبل أن يختمر عند الجيران وقصده منعها من خبز الفطير عندهم فها يحنث أم لا ؟ .
الجواب : الظاهر أنه لا يحنث عملاً بالعرف في ذلك .
مسألة : في رجل قيل له إن لم تطأ زوجتك في هذه الليلة تكون طالقاً فقال : إي وإن لم ينو طلاقاً ولم يطأ في تلك الليلة فهل يقع عليه الطلاق أم لا ؟ .
الجواب : أي حرف جواب كنعم يستعمل في الخبر وفي الإنشاء ، قال تعالى في الإنشاء ) ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق ( وقد صرح الفقهاء بأن نعم صريحة في الإنشاء كالخبر فكذلك إي فالظاهر وقوع الطلاق بلا نية ، إلا أن عندي فيه وقفة من حيث أنه تعليق لا تنجيز ، فقد يقال بالفرق بينهما في مثل هذه الصورة إلا أن الأقرب عدم الفرق خصوصاً والقاعدة أن السؤال معاد في الجواب .
القول المضي في الحنث في المضي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد فقد تكرر السؤال عمن حلف أنه فعل كذا أو لم يفعله ، وكان كذا أو لم يكن ناسياً أو جاهلاً ثم تبين خلاف ذلك ، هل يحنث في اليمين والطلاق أو لا يحنث فيهما كما لو حلف لا يفعل كذا ففعله ناسياً أو جاهلاً بأنه المحلوف عليه ؟ فأجبت بأن الذي يظهر ترجيحه الحنث بخلاف صورة الإستقبال ، ومعتمدي في ذلك نقول صريحة وغيرها من كلام الرافعي ، والنووي ، وابن الصلاح ، وغيرهم من المتأخرين ، وليس في كلام أحد منهم التصريح بالتسوية بين صورتي المضي والإستقبال إلا في موضع وقع في الروضة سأذكر تأويله فأقول : أما تصريح الرافعي والنووي ففي مواضع .(1/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
أحدها : قالا في تعليق الطلاق لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب طلقت على الصحيح لأنها وإن كانت شهادة على النفي إلا أنه نفي يحيط العلم به هذه عبارة الروضة وهي إحدى صور المسألة بلا شك فحلفه بذلك إما عن جهل به أو نسيان ، فلا يصح فرض المسألة مع العلم لأنها حينئذ تطلق قطعاً فلا يصح حكاية خلاف فيه ، وممن صرح بأن فرض هذه المسألة في الجهل والنسيان الأسنوي ، والأذرعي ، ثم تعقبه الأول بما إختاره من عدم حنث الجاهل والناسي مطلقاً ، وسيأتي مستنده والجواب عنه ، وأما الأذرعي فلم يزد على أن قال هنا مأخذه يقتضي عدم الحنث وهو الجهل ، وليس في هذا إختيار له وسيأتي كلامه في ترجيح الحنث .
الموضع الثاني : قالا في آخر الباب نقلاً عن تعليق الشيخ إبراهيم المروذي وأقراه لو قال السني : إن لم يكن الخير والشر من الله فأمرأتي طالق وقال المعتزلي : إن كانا من الله فأمرأتي طالق . أو قال السني : إن لم يكن أبو بكر أفضل من علي فأمرأتي طالق ، وقال الرافضي : إن لم يكن علي أفضل من أبي بكر فأمرأتي طالق وقع طلاق المعتزلي والرافضي ، وهذه من صور المسألة بلا شك فإن حلف المعتزلي ، والرافضي صادر عن معتقدهما وغلبة ظنهما ، ولم يتعقب الأسنوي في المهمات هذا الموضع . فإن قلت : لا يصح الإستناد إليه لأن وقوع الطلاق هنا لفساد هذا الظن فلا عذرله . قلت : هو عين المسألة بلا شك لأن فرضها في ظن فاسد استند إليه ظاناً صحته . فإن قلت : هذا إعتقاد فاسد وهو دون الظن . قلت : كلا بل الإعتقاد صحيحاً كان أو فاسداً أقوى من الظن كما صرح به أهل الأصول ، إذ جعلوه قسيم العلم في الجزم ، وجعلوا غير الجازم ظناً ووهماً وشكاً ، وأنظر جمع الجوامع تجده فيه ، ويقرب من هذا الفرع ما نقله في الخادم عن فتاوي القاضي حسين لو حلف شافعي بالطلاق أن من لم يقرأ الفاتحة في الصلاة لم يسقط فرضه ، وحلف حنفي أنه يسقط وقع طلاق زوجة الحنفي ، وإن كنا نسلم الوقوع في هذا الفرع لأن هذا ليس مما تبين القطع بفساده بخلاف مسألة المعتزلي ، والرافضي .
الموضع الثالث : قال الرافعي : لو جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره فقالت له أمرأته : أستبدلت بخفك ولبست خف غيرك فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك فإن كان خرج بعد خروج الجماعة ولم يبق هناك إلا ما لبسه لم تطلق لأنه لم يستبدل . وإنما إستبدل الخارجون قبله وإن بقي غيره طلقت ، وأستدرك عليه النووي فقال : صواب المسألة أنه إن خرج بعد الجميع نظر إن قصد أني لم آخذ بدله كان كاذباً ، فإن كان عالماً أنه أخذ بدله طلقت ، وإن كان ساهياً فعلى قولي طلاق الناسي ، وهذا هو الموضع الذي أخذ منه من أخذ إستواء حالتي المضي والإستقبال وليس كما ظنوه ، بل هو محمول على إجراء الخلاف فقط كما صرح به الرافعي في أوائل الأيمان ولا يلزم منه الإستواء في التصحيح كما هو مقرر معروف ، خلافاً للأسنوي في المهمات حيث تعقب الموضع الأول بأنه إنما يأتي على القول(1/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
بحنث الناسي ، واستند في ذلك إلى قول الرافعي في الأيمان أن اليمين تنعقد على الماضي كما تنعقد على المستقبل ، وأنه إن كان جاهلاً ففي الحنث قولان كمن حلف لا يفعل كذا ففعله ناسياً فظن من التشبيه إستواءهما في التصحيح وليس كذلك كما أوضحه هو في مواضع كثيرة من المهمات وإنما قلت ذلك هنا لأمور : منها موافقة الموضعين السابقين وإلا لأدى إلى التناقض ولا شك أن درءه أولى ، ومنها أن الرافعي في الشرح لم يصحح في مسألة الإستقبال شيئاً بل حكى القولين بلا ترجيح ، وإنما الذي رجح عدم الحنث النووي في زوائد الروضة تبعاً للمحرر ، فأكثر ما وقع من الرافعي أنه حكى في مسألة الإستقبال قولين منبلا ترجيح ثم حكاهما في مسألة المضي كذلك ، فكيف ينسب له تصحيح عدم الحنث في المضي وهو لم يصحح في الموضعين شيئاً ؟ وإذا كان على تقدير تصحيحه في الإستقبال عدم الحنث لا يلزم منه تصحيحه في المضي بمجرد أجراء الخلاف فلأن لا ينسب إليه تصحيح في الثانية مع عدم تصحيحه في الأولى أولى ، ومنها أن في فتاوي النووي الإشارة إلى الفرق فإنه حكى القولين في حنث الناسي وصحح عدمه ثم قال : وصورة المسألة أن يحلف أنه لا يفعل كذا فيفعله ناسياً لليمين أو جاهلاً أنه المحلوف عليه ، فتصويره المسألة بذلك يشعر بأن صورة المضي بخلاف ذلك وإلا لم يكن للتصوير بذلك فائدة وكان فيه إخلال ، فكيف والمعروف من صنيع العلماء أنهم إذا حكموا بحكم ثم قالوا وصورة المسألة كذا فإنهم يقصدون اخراج بقية صورها من ذلك الحكم ، وهذا أمر لا يخفى على من مارس كلام العلماء وتصانيفهم ، ومنها أن جمعاً من المتأخرين صرحوا بالمسألة وبتصحيح الحنث فيها منهم ابن الصلاح في فتاويه فقال : أنه أظهر القولين قال : ولم يذكر المحاملي في رؤوس المسائل إلا الحنث . ومنهم قاضي القضاة تقي الدين بن رزين وبالغ في بسط الكلام فيها وقد سقت عبارته في كتاب الأشباه والنظائر بطولها ونذكر هنا المقصود منها قال : للجهل والنسيان حالتان : إحداهما أن يكون ذلك واقعاً في نفس اليمين أو الطلاق كما إذا دخل زيد الدار وجهل ذلك الحالف أو علمه ثم نسيه فحلف بالله أو بالطلاق أنه ليس في الدار ، فهذه اليمين ظاهرها تصديق نفسه في النفي وقد يعرض فيها أن يقصد أن الأمر كذلك في إعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه أي لم يعلم خلافه ، ولا يكون قصده الجزم بأن الأمر كذلك في الحقيقة بل ترجع يمينه إلى أنه حلف أنه يعتقد كذا أو يظنه وهو صادق في أنه معتقد ذلك أو ظان له ، فإن قصد الحالف ذلك حالة اليمين أو تلفظ به متصلاً بها لم يحنث ، وإن قصد المعنى الأول أو أطلق ففي وقوع الطلاق ووجوب الكفارة قولان ، مأخذهما أن النسيان والجهل هل يكونان عذراً في ذلك كما كانا عذراً في باب الأوامر والنواهي أم لا ، كما لم يكونا عذراً في غرامات المتلفات ؟ ويقوي إلحاقها بالإتلاف ، فإن الحالف بالله أن زيداً في الدار إذا لم يكن فيها قد انتهك حرمة الإسم المعظم جاهلاً أو ناسياً فهو كالجاني خطأ ، والحالف بالطلاق إن كانت يمينه بصيغة التعليق كقوله : إن لم يكن زيد(1/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
في الدار فزوجتي طالق ، إذا تبين أنه لم يكن فيها فقد تحقق الشرط الذي علق الطلاق عليه ، فإنه لم يتعرض إلا لتعليق الطلاق على عدم كونه في الدار ، ولا أثر لكونه جاهلاً أو ناسياً في عدم كونه في الدار ، وأما إن كان بغير صيغة التعليق كقوله لزوجته : أنت طالق لقد خرج زيد من الدار ، وكقوله : الطلاق يلزمني ليس زيد في الدار ، فهذا إذا قصد به اليمين جرى مجرى التعليق وإلا لوقع الطلاق في الحال ، وإذا جرى مجرى التعليق كان حكمه حكمه ، هذه عبارة ابن رزين بحروفها في هذه الحالة ، ثم ذكر الحالة الثانية وهي التعليق على الفعل في المستقبل فيفعله ناسياً أو جاهلاً وصحح عدم الحنث فيها كما هو المشهور ، وجزم بما قاله ابن رزين من غير عزو إليه القمولي في شرح الوسيط رأيته فيه ونقله عنه الأذرعي في القوت وقال : إنه أخذه من كلام ابن رزين ، وذكر أيضاً الزركشي في الخادم كلام ابن رزين وقال : تابعه القمولي وغيره .
قلت : وعلم من كلام ابن رزين تقييد محل الخلاف بقيدين مهمين : أحدهما أن لا يقصد في يمينه الحلف على ظنه فإن قصد أن ظنه كذلك لم يحنث قطعاً ، الثاني : أن لا يكون بصيغة التعليق فإن كان حنث قطعاً وهذا لا يمتري فيه أحد بدليل مسألة الغراب المذكورة في المنهاج وإنما نبهت عليه لأني رأيت بعض ضعفاء المشتغلين يهمون فيه ويظنون أنه لا فرق بين صيغة التعليق وغيرها في عدم الحنث في المضي أيضاً وهذا جهل مبين ، وقال الأذرعي في القوت : تكلم ابن رزين على هذه المسألة في فتاويه وأحسن ولا ذكر لقسم المضي في كلامهم ويشبه أن يقال : إن قلنا في مسألة الإستقبال بعدم الحنث وإنحلال اليمين فينبغي أن لا يحنث هنا ، وإن قلنا لا ينحل كما رجحه الرافعي والنووي فقد جعلناه خارجاً من اليمين فيحنث ، لأن في إخراجه عن اليمين هنا تكلفاً ، فلم يحلف هنا إلا على كونه في الواقع كذلك لا على ظنه ، ثم قال : نعم يشبه أن لا يلزمه كفارة لأنه إذا حلف معتقداً فلا انتهاك ، وينبغي وقوع الطلاق إذا قصد تحقيق الخبر بتعليق الطلاق بنقيض الحالة التي أخبر عنها ولم يكن كذلك ، وقال صاحب الخادم : فصل ابن رزين بين أن يقصد في يمينه إن ظنه كذلك فلا يحنث وبين أن لا يقصد ذلك فيحنث ، وأطلق ابن الصلاح الحنث ، والصواب تفصيل ابن رزين قال : ويدل لعدم الحنث في حالة القصد يمين عمر في ابن صياد أنه الدجال ولم يأمره صلى الله عليه وسلّم بالكفارة قال : وينبغي أن يكون في القصد هل هو حالة اليمين أو بعدها ؟ الخلاف في الإستثناء ونية الكناية انتهى ، قال الشيخ ولي الدين العراقي في مختصر المهمات عند قول الروضة : فإن حلف على ماض كاذباً فإن كان جاهلاً ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسياً مانصه : قلت : أفهم تعبيره بالجهل أن صورة المسألة أن يحلف على نفي شيء جهل وجوده ، فلو حلف على إثبات شيء بالتوهم ثم تبين خلافه فينبغي أن لا يجري فيه الخلاف بل يجزم بالحنث ولا عبرة بالظن البين خطؤه ، قال : والفرق بينهما أنه بنى يمينه في النفي على أصل ولم يبن يمينه في الإثبات على شيء ، قال : ويدل لذلك أمور : منها كلامهم في مسألة الغراب ، ومنها ما في الروضة لو أشار إلى ذهب(1/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان وشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب طلقت على الصحيح وإن كانت شهادة على النفي لأنه نفي يحيط العلم به أي محصور ، قال : وهذا يدل على الفرق بالنسيان في الماضي بين النفي والإثبات انتهى ، فانظر كيف بالغ رحمه الله وجزم بالحنث في قسم الإثبات من غير إجراء خلاف وهو صريح منه في أن مسألة الذهب المذكورة ليست مفروضة في العلم .
تنبيه : ممن جزم بمقالة ابن الصلاح ، وابن رزين من المتأخرين ابن الملقن في شرحه الكبير ، والكمال الدميري ثم حكى عن الأسنوي تصحيح عدم الحنث ، ومن نقل عن الدميري والأذرعي أنهما قالا بعدم الحنث فقد غلط عليهما كما يعرف ذلك من راجع شرحيهما وله أدنى فهم .
تنبيه : أصل مسألة الجهل والنسيان التي تختص بالإستقبال مضطرب فيه غاية الإضطراب توقف فيها الأئمة الجلة حتى قال الصيمري : ما أفتيت في يمين الناسي قط ، وكذا قال أبو الفياض ، والماوردي قال : لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الأقلام ، وممن توقف في الترجيح فيها الرافعي في الشرح فإنه أرسل القولين ولم يرجح واحداً منهما ، وذكر النووي من زوائده أن الراجح عدم الحنث ، وصور في فتاويه المسألة بالإستقبال كما تقدم ، فحينئذ أصل هذه المسألة المبني عليها مضطرب فيه يتوقف فيه لا ترجيح فيه للرافعي في الشرح وإن رجح في المحرر ، وترجيح النووي فيه مقيد به كما أفصح به هو في فتاويه ، فلا يتعداه إلى غيره مع تصريحه هو والرافعي في عدة مسائل بما يقتضي الفرق بين المسألتين ، ومع تصريح خلائق من أئمة المذهب منهم من هو في مرتبة الترجيح بالفرق أيضاً ، ثم رأيت في الخادم ما نصه : توقف الرافعي في الترجيح في مسألة الناسي وكذلك الموجود في غالب كتب الأصحاب إرسال القولين بلا ترجيح ، وتوقف في الإفتاء فيها القاضي أبو حامد ، وأبو الفياض البصري ، وأبو القاسم الصيمري ، والماوردي ، وكذلك ابن الرفعة في آخر عمره ، ورجحت طائفة الحنث منهم أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل ، والأعلام وإختاره ابن عبد السلام في القواعد ، وبه قال الأئمة الثلاثة : لأن اللفظ لم يغلب في عرف الأستعمال على حال الذكر ، وقال غيره : إنه الأرجح دليلاً وأنه قول أكثر العلماء : وأنه أثبت في المذهب ، فإن الطلاق من خطاب الوضع لأنه نصب سبباً للتحريم ، وخطاب الوضع لا يشترط فيه علم المكلف وشعوره ، ولهذا لو خاطب زوجته بالطلاق جاهلاً بأنها زوجته وقع فكذلك الناسي ، وأما حديث : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) فهو محمول على نفي الإثم والمؤاخذة ولا عموم فيه من حيث أن الكلام إنما يصح فيه تقدير مضمر ، ولا عموم في المقدرات على ما تقرر في الأصول ، وذكر نحو هذا الكلام الشيخ بهاء الدين السبكي في تكملة شرح المنهاج لأبيه وزيادات والده أيضاً كان يتوقف في الفتوى بها ، وإنما نقلت هذا كله لأبين لك أن مسألة الإستقبال متوقف فيها غاية التوقف ، فمن مصحح للحنث وناسبه للأكثرين ، ومن متوقف حتى الرافعي فكيف يلحق بها مسألة المضي من غير نقل صريح فيها(1/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
عن المتقدمين أو المصححين مع التصريح منهم بالحنث فيها من غير تصريح بخلافه هذا ما لا يكون أبداً .
تنبيه : قيل : قد تعقب في المهمات الموضع الأول في الروضة بأن الرجوع إلى الشهادة فيه نزاع ومخالف للمذكور في الصلاة أنه لا يرجع إلى أخبار الغير بل إلى تذكره . قلنا : هذا لنا لا علينا ، فإنه إذا حكم بالحنث عند الإخبار المتنازع في قبوله فعند تذكره هو أولى ومعولنا على الإنكشاف والتبيين بطريق معتبر مقبول .
تنبيه : إن قيل حديث عمر في حلفه أن ابن صياد هو الدجال يدل على عدم الحنث مطلقاً لأنه ليس فيه ما يدل أنه قصد أن ظنه كذلك فيكون عاماً . قلت : لا دلالة فيه فإن ابن صياد لم يتبين أمره ولا حنث مع الشك والأخبار في كونه هو الدجال أو غيره متعارضة وقد قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء : قصة ابن صياد مشكلة وأمره مشتبه والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يوح إليه في أمره بشيء وإنما أوحي إليه بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر : ( لا خير لك في قتله ) الحديث هذا كلام النووي .
تنبيه : ذهب بعض علماء العصر إلى الحنث في الجهل دون : النسيان فقلت له : لا يصح هذا لأن الجاهل أولى بالعذر من الناسي إذ من علم ثم نسي ينسب إلى تقصير ، صرح بذلك الفقهاء في مواضع ، منها من صلى مع نجاسة جهلها هل تلزمه الإعادة ؟ قولان أصحهما نعم ، فإن علمها ونسيها فطريقان أصحهما القطع بالإعادة لأنه منسوب إلى تقصير بخلاف الجاهل ، وفي التيمم لو أدرج في رحله ماءاً ولم يشعر به فتيمم وصلى لا إعادة عليه بخلاف ما لو علم في رحله ماءاً ثم نسيه وتيمم تلزمه الإعادة فقبله لإنصافه .
تنبيه : تخيل متخيل الحنث في اليمين دون الطلاق لأن في الأول الكفارة فهو من باب الغرامات فلا يعذر فيها بالنسيان ونحوه كالإتلاف ونحوها بخلاف الطلاق إذ لا غرامة فيه ، وهذا تخيل فاسد بل الطلاق أولى بالحنث من اليمين ، ألا ترى أن في مسألة الإستقبال طريقة قاطعة بالحنث في الطلاق وتخصيص الخلاف باليمين لأن المدار فيه على هتك حرمة الاسم المعظم ولا هتك مع النسيان ونحوه ، والمدار في الطلاق على وجود الصفة المعلق عليها وهي موجودة بكل حال .
تنبيه : قيل يدل لعدم الحنث قوله تعالى : ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( فإن أحد الاقوال في تفسير اللغو أنه الحلف على الشيء يرى أنه كذلك ثم يتبين خلافه فلا إثم فيه ولا كفارة . قلت : الجواب عنه من وجهين : أحدهما أن الأصح المعتمد في تفسير الآية أنها فيما سبق إلى اللسان من غير قصد اليمين ، روينا هذا التفسير بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلّم مرفوعاً وعن ابن عباس ، وعائشة موقوفاً ، كما أسندته في كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند وعليه أكثر المفسرين من السلف وغيرهم منهم مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبو قلابة ، وأبو صالح ، وطاوس ، والنخعي ، وخلائق . ونقله ابن العربي في(1/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
أحكام القرآن عن تفسير الشافعي ، وذهب آخرون وهو رواية عن ابن عباس إلى أنه فيمن حلف على أمر أن لا يفعله فيرى الذي هو خير منه فأمر الله أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير هكذا أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو أصح الطرق عنه في التفسير ، واستفدنا منها أن نفي المؤاخذة في الآية خاص بالإثم دون الكفارة ، وذهب آخرون إلى أن الآية في الحلف على فعل حرام أو ترك واجب فيحنث ويكفر . أخرج ذلك ابن جرير عن سعيد بن جبير ، وسعيد ابن المسيب وصرحا بأن نفي المؤاخذة خاص بالإثم دون الكفارة ، وذهب آخرون إلى أنها فيمن حلف على الشيء أن يفعله فينسى . الوجه الثاني : أن القول بأنها فيمن حلف على الشيء يظن أنه كذلك فإذا هو غيره أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة ، وابن عباس بإسنادين ضعيفين ، وأخرجه عن جماعة من التابعين ، ثم هم ثلاث فرق : فرقة سكتت عن وجوب الكفارة وعدمه . وفرقة صرحت بوجوبها . وفرقة صرحت بعدمه ، فالاستدلال بقول هذه الفرقة معارض بقول الفرقة الأخرى ، ويؤيد ذلك أشياء : منها أن نفي المؤاخذة إنما ينصب على الإثم دون الكفارة بدليل : ) ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( ومعلوم أن الكفارات والغرامات غير داخلة في ذلك . ومنها أن هذا التفسير إختاره مالك كما نقله عنه ابن العربي في أحكامه مع أن مذهبه في المسألة وقوع الطلاق ، فدل على أن الآية ليست دالة على خلاف ذلك ، ومنها أن في الآية ما يدل على وجوب الكفارة مع عدم المؤاخذة وهو قوله : ) فكفارته إطعام ( إلى آخره فإن ابن عباس وغيره قالوا : إن الضمير راجع إلى لغو اليمين الذي لا مؤاخذة فيه شرعت فيه الكفارة جبراً أو ذهبوا إلى أن قوله تعالى : ) ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( و : ) بما عقدتم الأيمان ( في اليمين الغموس وأنها لا كفارة فيها تغليظاً عليه وهو مذهب جماعة من العلماء ، ورأى عندنا جار في القتل عمداً فلم يجعل هؤلاء فيه الكفارة تغليظاً وخصوصاً بقتل الخطأ ، وكذلك ترك الصلاة والصوم عمداً ، قال هؤلاء : لا قضاء فيه تغليظاً وترك أبعاض الصلاة عمداً قالوا : أيضاً لا يجبر بالسجود ، والقائلون بالكفارة في اليمين الغموس وهو المعظم استدلوا بالقياس على غيرها لأنها أولى بالجبر كما استدلوا بذلك في القتل وما ذكر معه ، فإذا ثبت وجوب الكفارة في اللغو المفسر بالخطأ على هذا التقرير من رجوع الضمير إلى اللغو ، ويحرر ذلك على مذهب من يرى وجوب الكفارة في اليمين الغموس ومن لا يراه . فإن قيل : الضمير يرجع إلى أقرب مذكور . قلنا : ليس هذا بدائم ولا غالب بل تارة كذا ، وتارة بخلافه خصوصاً إذا ورد التفسير بذلك من أصح الطرق عن ابن عباس الذي هو ترجمان القرآن وحبر الأمة وإمام العرب وتابعه فيه أئمة التابعين .
تنبيه : قيل يدل لعدم الحنث قوله تعالى : ) وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ( قلت : لا دلالة فيه لأوجه : أحدها أن جماعة قالوا : الآية مخصوصة بنسبة زيد إلى محمد وهو السبب الذي نزلت فيه الآية وهذا على رأي من يقول : العبرة بخصوص(1/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
السبب لا بعموم اللفظ ، الثاني : على اعتبار العموم اتفق المفسرون أو أكثرهم على تفسير الخطأ في الآية بما كان من غير قصد ، فعلى هذا إنما يصح الاستدلال بالآية على ما سبق إليه اللسان من الأيمان فهو كقوله تعالى : ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( على أصح الأقوال فيه ولهذا عقبه بقوله : ) ولكن ما تعمدت قلوبكم ( كما قال هناك ) ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( الثالث على تقدير تسليم أن المراد بالخطأ ما هو أعم من ذلك أن الآية دالة على نفي الإثم فقط لأنه معنى الجناح قال الجوهري في الصحاح : الجناح بالضم الأثم هذه عبارته ، ولا يلزم من نفي الإثم نفي الكفارة ، ألا ترى أن القاتل خطأ عليه الكفارة إجماعاً ؟ وكذا الجاني في الإحرام بإزالة شعر أو نحوه خطأ ، ومن ظن أن وقوع الطلاق وكفارة اليمين من باب خطاب التكليف لا الوضع فقد أبعد ، وليت شعري ما يقول المحتج بعموم هذه الآية فيمن صلى بنجاسة جاهلاً فإن قال : لا تلزمه الإعادة أخذاً بعمومها فقد خالف مذهب الشافعي ، وإن قال : ألزمه الإعادة ولا أقيده بجهله إلا عدم الإثم فقد سلم ما قلناه .
تنبيه : فإن قلت : هذا تحرير النقل والدليل فما تحرير الفرق بين المضي والاستقبال من حيث المعنى حيث قلت بالحنث في الأول دون الثاني ؟ قلت : تحرر لي في ذلك ثلاثة فروق : أحدها : ما أشار إليه ابن رزين أن الإنتهاك ونحوه في الأول وقع حالة اليمين بخلاف الثاني فإن نفس اليمين صدرت سالمة من ذلك ثم طرأ ذلك بعدها وكان هذا راجع إلى أنه يغتفر في الأثناء مالا يغتفر في الإبتداء . الثاني : ما أشار إليه الأذرعي أن ترك الحنث في الأول يؤدي إلى إلغاء اليمين الصادرة بالكلية وإلغاء يمين مقصودة لم يسبق إليها اللسان بعيد بخلاف الثاني فإن ترك الحنث فيه لا يؤدي إلى ذلك بناء على أن اليمين لا تنحل وهو الأصح فتؤثر بعد ذلك . الثالث : وهو أقواها عندي ولم أر من تعرض له أن الحالف على الماضي غير معذور بخلاف الحالف على المستقبل وبيان كونه غير معذور من وجهين : أحدهما أن الحالف على الماضي لا يقصد به إلا تحقيق الخبر إذ لا يتعلق به حث ولا منع فكان عليه أن يستثبت قبل الحلف ، بخلاف الحالف على المستقبل فإن قصده الحث أو المنع فله في الحلف قصد صحيح والاستثبات فيه غير متصور ، فإذا وقع الفعل المحلوف عليه مع جهل أو نسيان كان معذوراً ، بخلاف الحالف على الماضي غير مستثبت ولا متحقق فإنه مقصر غير معذور ، الوجه الثاني أنه كان يمكنه أن يحلف على أن ظنه كذا أو معتقده أو ما انتهى إليه علمه لافظاً بذلك أو ناوياً له فيكون صادقاً ، فلما ترك ذلك وعدل إلى الجزم بأنه في نفس الأمر كذلك والواقع بخلافه كان كاذباً مقصراً حيث لم يقتصر في يمينه على ظنه بل عداه إلى الواقع جازماً به فلم يعذر لذلك ، ومما يصلح أن يعد فرقاً رابعاً أن التعليق في الماضي يقتضي الحنث مع الجهل قطعاً كقوله : إن كانت أمرأتي في الحمام فهي طالق ، بخلاف التعليق في المستقبل فإنه لا يقتضي الحنث إذا وقع مع الجهل أو النسيان ، وإذا افترق المضي والاستقبال في التعليق فلا بدع أن يفترقا في اليمين لأنه جار مجراه .(1/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
تنبيه : تقدم في كلامي أنه لا يلزم من البناء وإجراء الخلاف الاستواء في التصحيح وهذا أمر متفق عليه . فإن قيل : الغالب الاستواء . قلنا : لا يلزم الحمل على الغالب إلا مع عدم التضريح بخلافه ، على أنه إن أريد بالغالب أن ذلك هو الأكثر مع كثرة مقابله أيضاً فهذا لا يمنع الحمل على غير الغالب الكثير لما قام من الشواهد لذلك ، وإن أريد أن ما خالف ذلك نادر جداً فليس كذلك بل هو في غاية الكثرة ، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود لأوردت مسائل هنا وقد أفردتها بتأليف مستقل ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره الرافعي : لو نسي الماء في رحلة فتيمم وصلى فقولان أظهرهما وهو الجديد وجوب الإعادة قال : ولو أدرج الماء في رحلة وهو لا يشعر به ففيه قولاً النسيان لكن الأصح هنا نفي الإعادة لأنه لا تقصير فيه ، وفي الذهول بعد العلم نوع تقصير ، وهذا الفرع أشبه شيء بالمسألة التي نحن فيها ، فإن الناسي في مسألة الاستقبال لا ينسب إلى تقصير ، بخلاف مسألة المضي فإن الإقدام على الحلف على نفي الشيء بعد وقوعه أو عكسه فيه نوع تقصير ، وما أحسن قول الشيخ تاج الدين السبكي في رفع الحاجب : رب فرع لأصل ذلك الأصل يظهر فيه الحكم أقوى من ظهوره فيه لا نتهاض الدليل عليه ، ولهذا ترى الأصحاب كثيراً ما يصححون في المبني خلاف ما يصححونه في المبني عله انتهى .
تنبيه : مما يحصل الائتناس به لما قلناه قول الفقهاء : إن المسألة ذات الطريقين إذا كان الأصح فيهما طريقة الخلاف فالغالب أن الأصح فيها ما وافق طريقة القطع ، وهذه المسألة فيها طريقة قاطعة بالحنث كما تقدم أن ابن الصلاح نقل ذلك عن المحاملي ، وحينئذ فالراجح من قولي الطريقة المشهورة ما وافقها ، على أن عندي في إثبات القولين في المسألة نظراً ، فإن الأذرعي ذكر أن الأصحاب لم يتعرضوا لقسم المضي فالظاهر إجراء القولين فيها من تخريج الرافعي ، ثم رأيت أن أوسع النظر في كتب الشافعي ، والأصحاب في هذه المسألة لأقف على متفرقات كلامهم فيها وأعلم من تعرض لها ممن لم يتعرض لها . فراجعت الأم فوجدت فيها ما يدل على الحنث ونصه في أبواب ما اختلف فيه مالك ، والشافعي ، قال الربيع : قلت للشافعي : ما لغو اليمين ؟ فقال : أما الذي نذهب إليه فما قالت عائشة : أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لغو اليمين قول الانسان لا والله وبلى والله ، فقلت للشافعي : ما الحجة فيما قلت ؟ قال : اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه فيه من جماع اللغو يكون الخطأ فخالفتموه وزعمتم أن اللغو حلف الانسان على الشيء يظن أنه كما حلف عليه ثم يوجد على خلافه ، قال الشافعي : فهذا ضد اللغو ، هذا هو الإثبات في اليمين بعقدها على ما يقعد عليه وقول الله : ) ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( ما عقدتم به عقد اليمين عليه ، ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه منع من احتماله ما ذهبت إليه عائشة وكانت أولى أن تتبع منكم لأنها أعلم باللسان منكم مع علمها بالفقه هذا نصه بحروفه ، فقوله : هذا ضد اللغو إلى آخره صريح(1/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
في الحكم بالحنث والمؤاخذة على خلاف ما في اللغو ، فإن الشافعي قصد بهذا الكلام الرد على مالك فإنه اختار تفسير اللغو في الآية بذلك كما تقدم ، واحتج به على عدم الحنث في اليمين فيمن حلف على ظنه ثم تبين خلافه ، وإذا كان نص الشافعي صريحاً في الحنث في اليمين ففي الطلاق أولى لأن مالكاً موافق على الحنث فيه ، ثم رأيت في موضع آخر من الأم ما نصه : قيل للشافعي فإنا نقول إن اليمين التي لاكفارة فيها فإن حنث فيها صاحبها انها يمين واحدة إلا أن لها وجهين : وجه يعذر فيه صاحبه ويرجى له أن لا يكون عليه فيها إثم لأنه لم يعقد فيها إثم ولا كذب وهو أن يحلف بالله على الأمر لقد كان ولم يكن ، فإذا كان ذلك جهده ومبلغ علمه فذلك اللغو الذي وضع الله منه المؤونة عن العباد وقال : ) لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( والوجه الثاني أنه إن حلف عامداً للكذب استخفافاً باليمين بالله كاذباً فهو الوجه الثاني الذي ليست فيه كفارة لأن الذي يعرض من ذلك أعظم من أن يكون فيه كفارة ، وأنه ليقال له تقرب إلى الله بما استطعت من خير فقال الشافعي : أخبرنا سفيان ثنا عمرو بن دينار ، وابن جريج عن عطاء قال : ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة وهي معتكفة في ستر فسألتها عن قول الله عز وجل : ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( قالت : هو لا والله وبلى والله ، قال الشافعي : فلغو اليمين كما قالت عائشة رضي الله عنها وذلك إذا كان على اللجاج والغضب والعجلة لا يعقد على ما حلف عليه ، وعقد اليمين أن يثبتها على شيء بعينه أن لا يفعل الشيء فيفعله أو ليفعلنه فلا يفعله ، أو لقد كان وما كان ، فهذا عليه الكفارة ، هذا نصه بحروفه ، وقوله قيل للشافعي : يعني من جهة أصحاب مالك فهذان نصان في الأم صريحان في الحنث ، وقد استوعبت الأم من أولها إلى آخرها فلم أجد فيها تعرضاً للمسألة إلا في هذين الموضعين ، وقد جزم فيها بالحنث كما ترى ثم راجعت مختصر المزني .
فتح المغالق من أنت تالق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وقع السؤال عمن قال لزوجته أنت تالق ناوياً به الطلاق هل يقع به طلاق ؟ فأجبت الذي عندي أنه إن نوى به الطلاق وقع سواء كان عامياً أو فقيهاً ، ولا يقال أنه بمنزلة ما لو قال أنت فالق أو مالق فإنه لا يقع به شيء لأن حرف التاء قريب من مخرج الطاء ، ويبدل كل منهما من الآخر في كثير من الألفاظ فأبدلت الطاء تاء في قولهم طرت يده وترت يده أي سقطت ، وضرب يده بالسيف فأطرها وأترها أي قطعها وأندرها ، والتقطر التهيؤ للقتال والتقتر لغة فيه ويقال في القمطرة كمترة بإبدال القاف كافاً والطاء تاءاً ، وفي القسط كست كذلك ، ويقال في ذاطه أي خنقه أشد الخنق حتى دلع لسانه ذاته بالتاء ، ويقال غلط وغلت لغتان بمعنى ، ويقال في الفسطاط فستاط في ألفاظ أخر مذكورة في كتب اللغة والكتب المؤلفة في الأبدال ، وأبدلت التاء طاء في نحو مصطفى(1/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
ومضطر ومطعن ومظطلم وأطيرنا إلى ما لا يحصى ، فثبت بذلك أن التاء والطاء حرفان متعاوران وينضم إلى هذا الوضع العربي مع النية العرف وشهرة ذلك في ألسنة العوام كثير ، ولشهرة اللفظ في الألسنة مدخل كبير في الطلاق أعتبره الفقهاء في عدة مسائل ، فهذه ثلاثة أمور مقوية لوقوع الطلاق في هذا القسم ، فإن كان اللافظ بذلك عامياً حصل أمر رابع في التقوية .
فإن قال قائل : هذا اللفظ ليس من الصرائح ولا من الكنايات فلا يقع به شيء : قلنا : أقل مراتبه أن يكون من الكنايات فإن أصل اللفظ بالطاء صريح ، وخرج إلى حيز الكناية بأبدال حرف الطاء تاء ، ويؤيد ذلك من المنقول عام وخاص فالعام قال في الروضة : فرع إذا اشتهر في الطلاق لفظ سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة كحلال الله على حرام أو أنت علي حرام أو الحل علي حرام ، ففي التحاقه بالصريح أوجه أصحها نعم لحصول التفاهم وغلبة الاستعمال وبهذا قطع البغوي ، وعليه تنطبق فتاوي القفال ، والقاضي حسين ، والمتأخرين . والثاني لا ورجحه المتولي . والثالث حكاه الإمام عن القفال أنه إن نوى شيئاً آخر من طعام وغيره فلا طلاق ، وإذا ادعاه صدق وإن لم ينو شيئاً ، فإن كان فقيهاً يعلم أن الكناية لا تعمل إلا بالنية لم يقع ، وإن كان عامياً سألناه عما يفهم منه إذا سمعه من غيره فإن قال : يسبق إلى فهمي منه الطلاق حمل على ما يفهمه ، والذي حكاه المتولي عن القفال أنه إن نوى غير الزوجة فذاك وإلا يقع الطلاق للعرف .
قلت : الأرجح الذي قطع به العراقيون المتقدمون أنه كناية مطلقاً والله أعلم ، وأما البلاد التي يشتهر فيها هذا اللفظ للطلاق فهو كناية في حق أهلها بلا خلاف أنتهى . فانظر كيف صدر الفرع بضابط وهو أن يشتهر في الطلاق لفظ ولم يخصه بلفظ دون لفظ ، ولا يظن أحد اختصاصه بلفظ الحلال على حرام ونحوه فإنما ذكر هذه على سبيل التمثيل ، فالضابط لفظ يشتهر في بلد أو فريق استعماله في الطلاق وهذا اللفظ اشتهر في ألسنة العوام استعماله فيه ، فهو كناية في حقهم عند النووي وصريح عند الرافعي ، وأما في حق غيرهم من الفقهاء وعوام بلد لم يشتهر ذلك في لسانهم فهو كناية ، ولا يأتي قول بأنه صريح ، فإن نظر ناظر إلى أن الفقهاء لم ينبهوا على هذا اللفظ في كتبهم . قلنا : الفقهاء لم يستوفوا كل الكنايات بل عددوا منها جملاً ثم أشاروا إلى ما لم يذكروه بضابط ، وقد استنبط البلقيني من حديث قول إبراهيم لإمرأة ابنه إسماعيل عليهما السلام : قولي يغير عتبة بابه ، أن هذه اللفظة من كنايات الطلاق ولم ينص على هذه اللفظة أحد قبله ، ولعل الفقهاء إنما سكتوا عن التعرض للفظة تالق لكونها لم تقع في زمنهم ، وإنما حدث ذلك في ألسنة العامة من المتأخرين . وأما من قال أن تالقاً من التلاق وهو معنى غير الطلاق فكلامه أشد سقوطاً من أن يتعرض لرد ، فإن التلاق لايبنى منه وصف على فاعل ، وأما(1/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
الخاص ففي الروضة وأصلها في مسائل منثورة عن زيادات العبادي ولو قال أنت طال وترك القاف طلقت حملاً على الترخيم ، وقال البوشنجي : ينبغي أن لا يقع وإن نوى فإن قال يا طال ونوى وقع لأن الترخيم إنما يقع في النداء فأما في غير النداء فلا يقع إلا نادراً في الشعر انتهى . وإبدال الحرف أقرب إلى الوقوع من حذفه بالكلية ، قال الأسنوي في الكوكب : ولم يبين الرافعي المراد بهذه النية فيحتمل أن يكون المراد بها نية الطلاق ، وأن يكون المراد نية الحذف من طالق . قلت : فإن أريد الأول كان كناية أو الثاني كان صريحاً . فإن قلت : الحذف معهود لغة وفقهاً بهذا الفرع والإبدال وإن عهد لغة لم يعهد فقهاً ففي أي فرع اعتبر الفقهاء بالإبدال ؟ قلت : في فروع ، قال الأسنوي في الكوكب : إبدال الهاء من الحاء لغة قليلة وكذلك إبدال الكاف من القاف ، فمن فروع الأول إذا قرأ في الفاتحة الهمد لله بالهاء عوضاً عن الحاء فإن الصلاة تصح كما قاله القاضي حسين في باب صفة الصلاة من تعليقه ونقله عنه ابن الرفعة في الكفاية ، وأما الثاني فمن فروعه إذا قرأ المستقيم بالقاف المعقودة المشبهة للكاف فإنها تصح أيضاً كما ذكره الشيخ نصر المقدسي في كتابه المقصود ، والروياني في الحلية ، ونقله عنه النووي في شرح المهذب وجزم به ابن الرفعة في الكفاية ، قال الأسنوي : والصحة في أمثال هذه الأمور لأجل وروده في اللغة وبقاء الكلمة على مدلولها أظهر بخلاف الإتيان بالدال المهملة في الذين عوضاً عن المعجمة ، فإن إطلاق الرافعي وغيره يقتضي البطلان ، وأنه لا يأتي فيه الخلاف في إبدال الضاد ظاء وسببه عسر التمييز في المخرج انتهى .
فصل : فإن لم ينوبه الطلاق فله حالان : أحدهما : أن ينوي به الصرف عن الطلاق ولا شك أنه لا يقع شيء والحالة هذه ، ولو قيل بأن ذلك يقبل من الفقيه ويدين فيه العامي فيؤاخذ به ظاهراً ولا يقع باطناً لم يكن ببعيد ، وهذا لا يتأتى على القول بأنه كناية لأن الكناية لا تديين فيها ، وإنما يتأتى إن جعلناه صريحاً وهو قوي جداً ، أما على رأى الرافعي في اللفظ الذي اشتهر فواضح ، وأما على ما صححه النووي فهذا لمن تأمله أقوى من لفظ الحلال على الحرام فإن ذاك لفظ آخر غير لفظ الطلاق ويحتمل معاني ، وأما لفظ تالق يحتمل معنى آخر ، وإنما هو لفظ الطلاق أبدل منه حرف بحرف مقارب له في المخرج ، ويؤيد جعله صريحاً ما أشار إليه الأسنوي في أنت طال على إرادة نية المحذوف بالطلاق ، ويؤيده صحة الصلاة بالهمد لله فإنه صريح في أن الحرف المبدل قائم مقام الحرف المبدل منه من كل وجه فيستمر اللفظ على صراحته كما استمر ذلك اللفظ معتدأ به في القراءة بل أولى ، لأن باب الصلاة وإبطالها بسقوط حرف من الفاتحة أضيق وباب القراءة أشد ضيقاً ، فإن القراءة لا تجوز بالمعنى ولا بالمرادف بل ولا بالشاذ الذي قرىء به في الجملة ، ولم يقرأ أحد قط الهمد لله بالهاء ، فقولهم بالصحة والحالة هذه لمجرد الابدال بالحرف المقارب أدل دليل على أن الإبدال بما ذكر لا يخرج اللفظ عن معناه(1/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
الموضوع له فانشرح الصدر بذلك إلى القول بصراحة هذا اللفظ والله أعلم ، ولا يلزمنا طرد ذلك في الفقيه لأن هذا الإبدال ليس من نعته ولا من عادته فقبل قوله في عدم أرادته وكان في حقه كالكناية لا يعمل إلا بالنية . الحال الثاني : أن لا ينوي شيئاً بل يطلق ، والوقوع في هذه الحالة في حق العامي باطناً له وجه مأخذه الصراحة أو الشبه بالصراحة ، وأما ظاهراً فأقوى ، بل ينبغي أن يجزم به وفي حق الفقيه محل توقف .
فرع : أما لو قال : على التلاق بالتاء فهو كناية قطعاً في حق كل أحد العامي ، والفقيه ، فإن نوى فطلاق وإلا فلا ، والفرق بينه وبين تالق أن تالقاً لا معنى له يحتمل والتلاق له معنى يحتمله .
فرع : ولو قال : أنت دالق بالدال فيمكن أن يأتي فيه ما في تالق بالتاء لأن الدال والطاء أيضاً متعاوران في الأبدال ، إلا أن هذا اللفظ لم يشتهر في الألسنة كاشتهار تالق ، فلا يمكن أن يأتي فيه القول بالوقوع مع فقد النية أصلاً ، مع أن لدالق معنى غير الطلاق ، يقال : سيف دالق إذا كان سلس الخروج من غمده ، ورجل دالق كثير الغارات .
فرع ولو قال : أنت طالق بالقاف المعقودة قريبة من الكاف كما يلفظ بها العرب فلا شك في الوقوع ، فلو أبدلها كافاً صريحة فقال طالك فيمكن أن يكون كما لو قال : تالق بالتاء إلا إنه ينحط عنه بعدم الشهرة على الألسنة ، فالظاهر أنه كدالق بالدال إلا أنه لا معنى له يحتمله وتعاور القاف والكاف كثير في اللغة وقدقري . وإذا السماء كشطت وقشطت ، وتقدم أنه يقال في قسط كسط ، وفي قمطرة كمترة .
فرع : فلو أبدل الحرفين فقال تالك بالتاء والكاف فيحتمل أن يكون كناية إلا أنه أضعف من جميع الألفاظ السابقة ثم أنه لا معنى له محتمل ، ولو قال ذلك بالدال والكاف فهو أضعف من تالك مع أن له معاني محتملة منها المماطلة للغريم ، ومنها المساحقة يقال : تدالكت المرأتان إذا تساحقتا فيكون كناية قذف بالمساحقة ، والحاصل أن هنا ألفاظاً بعضها أقوى من بعض فأقواها تالق ثم دالق ، وفي رتبتها طالك ثم تالك ثم دالك وهي أبعدها ، والظاهر القطع بأنها لا تكون كناية طلاق أصلاً ، ثم رأيت المسألة منقولة في كتب الحنفية قال صاحب الخلاصة : وفي الفتاوي رجل قال لإمرأته أنت تالق أو تالغ أو طالغ أو تالك عن الشيخ الإمام الجليل أبى بكر محمد بن الفضل أنه يقع وإن تعمد وقصد أن لا يقع ولا يصدق قضاء ويصدق ديانة إلا إذا أشهد قبل أن يتلفظ وقال : إن أمرأتي تطلب مني الطلاق ولا ينبغي لي أن أطلقها فأتلفظ بها قطعاً لعلتها وتلفظ وشهدوا بذلك عند الحاكم لا يحكم بالطلاق وكان في الابتداء يفرق بين الجاهل والعالم كما هو جواب شمس الأئمة الحلواني ثم رجع إلى ما قلنا وعليه الفتوى .(1/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
المنجلي في تطور الولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . رفع إلي سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولي الله الشيخ عبد القادر الطشطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده في تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما أم لا ؟ فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك فقال : ولو قال أربعة أني بت عندهم لصدقوا . فأفتيت بأنه لا يحنث واحد منهما ، وتقرير ذلك من حيث الفقه أنه لا يخلو إما أن يقيم كل منهما بينة أو لا يقيم أحد منهما أو يقيمها واحد دون الآخر ، فالحالان الأولان عدم الحنث فيهما واضح لا ينازع فيه أحد لأنه لا يمكن تحنيثهما معاً كما هو ظاهر ، ولا تحنيث واحد معين منهما لأنه تحكم وترجيح من غير مرجح وأنت خبير بما قاله الفقهاء في مسألة الطائر ، وأما الحال الثالث فقد ينازع فيها من يتوهم أن وجود الشخص الواحد في مكانين في وقت واحد غير ممكن بل هو مستحيل ، وليس كما توهمه هذا المتوهم من الإستحالة ، فقد نص الأئمة الأعلام على أن ذلك من قسم الجائز الممكن ، وإذا كان ممكناً فظاهر أنه لا حنث لأن من حلف على وجود شيء ممكن عنده لم يحكم عليه بالحنث لإمكان صدقه ، والطلاق لا يقع في الظاهر بالشك وهذا أمر لا يحتاج إلى تقرير ، وإنما الذي يحتاج إليه إثبات كون هذا المحلوف عليه ممكناً ، وقد وقعت هذه المسألة قديماً وأفتى فيها العلماء بعدم الحنث كما أفتيت به وإستنادهم فيه إلى كونه ممكناً غير مستحيل فأقول : قد نص على إمكان ذلك أئمة أعلام منهم العلامة علاء الدين القونوي شارح الحاوي ، والشيخ تاج الدين السبكي ، وكريم الدين الأملي شيخ الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء ، وصفي الدين بن أبى المنصور ، وعبد الغفار بن نوح القوصي صاحب الوحيد ، والعفيف اليافعي ، والشيخ تاج الدين بن عطاء الله ، والسراج بن الملقن ، والبرهان الأبناسي ، والشيخ عبد الله المنوفي ، وتلميذه الشيخ خليل المالكي صاحب المختصر ، وأبو الفضل محمد بن إبراهيم التلمساني المالكي ، وخلق آخرون ، وحاصل ما ذكروه في توجيه ذلك ثلاثة أمور : أحدها أنه من باب تعدد الصور بالتمثل والتشكل كما يقع ذلك للجان ، والثاني أنه من باب طي المسافة وزوي الأرض من غير تعدد فيراه الرائيان كل في بيته وهي بقعة واحدة إلا أن الله طوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الإستطراق فظن أنه في مكانين وإنما هو في مكان واحد ، وهذا أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء ، والثالث أنه من باب عظم جثة الولي بحيث ملأ الكون فشوهد في كل مكان كما قرر بذلك شأن ملك الموت ، ومنكر ، ونكير حيث يقبض من مات في(1/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
المشرق وفي المغرب في ساعة واحدة ويسأل من قبر فيهما في الساعة الواحدة فإن ذلك أحسن الأجوبة في الثلاثة . ولا ينافي ذلك رؤيته على صورته المعتادة ، فإن الله يحجب الزائد عن الأبصار أو يدمج بعضه في بعض كما قيل بالأمرين في رؤية جبريل في صورة دحية وخلقته الأصلية أعظم من ذلك بحيث أن جناحين من أجنحته يسدان الأفق ، وها أنا أذكر بعض كلام الأئمة في ذلك ، قال العلامة علاء الدين القونوي في تأليف له يسمي الأعلام ما نصه : وفي الممكن أن يخص الله تعالى بعض عباده في حال الحياة بخاصية لنفسه الملكية القدسية وقوة لها يقدر بها على التصرف في بدن آخر غير بدنها المعهود مع إستمرار تصرفها في الأول ، وقد قيل في الإبدال أنهم إنما سموا إبدالاً لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحاً آخر شبيهاً بشبحهم الأصلي بدلاً عنه ، وإذا جاز في الجن أن يتشكلوا في صور مختلفة فالأنبياء والملائكة والأولياء أولى بذلك ، وقد أثبت الصوفية عالماً متوسطاً بين عالم الأجساد وعالم الأرواح سموه عالم المثال وقالوا : هو ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى : ) فتمثل لها بشراً سوياً ( فتكون الروح الواحدة كروح جبريل مثلاً في وقت واحد مدبرة لشبحه الأصلي ولهذا الشبح المثالي ، وينحل بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل عليه السلام فقال : أين كان يذهب جسمه الأول الذي سد الأفق بأجنحتة لما تراءى للنبي صلى الله عليه وسلّم في صورته الأصلية عند أتيانه إليه في صورة دحية ، وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال كان يندمج بعضه في بعض إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر صورة دحية ثم يعود ينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى ، وما ذكره الصوفية أحسن وهو أن يكون جسمه الأول بحاله لم يتغير ، وقد أقام الله له شبحاً آخر وروحه تنصرف فيهما جميعاً في وقت واحد وكذلك الأنبياء ، ولا بعد في ذلك لأنه إذا جاز إحياء الموتى لهم وقلب العصا ثعباناً وإن يقدرهم الله على خلاف المعتاد في قطع المسافة البعيدة كما بين السماء والأرض في لحظة واحدة إلى غير ذلك من الخوارق فلا يمتنع أن يخصهم بالتصرف في بدنين وأكثر من ذلك ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائل كثيرة وتنحل به إشكالات غير يسيرة كقولهم : جنة عرضها السموات والأرض وهي فوق السموات والأرض وسقفها عرش الرحمن كيف أريها النبي صلى الله عليه وسلّم في عرض الحائط حتى تقدم إليها في صلاته ليقتطف منها عنقوداً على ما ورد به الحديث وجوابه أنه بطريق التمثل ، وكما يحكى عن قضيب البان الموصلي وكان من الإبدال أنه أتهمه بعض من لم يره يصلي بترك الصلاة وشدد النكير عليه في ذلك فتمثل له على الفور في صور مختلفة وقال : في أي هذه الصور رأيتني ما أصلي ، ولهم حكايات كثيرة مبنية على هذه القاعدة وهي من أمهات القواعد عندهم والله أعلم هذا كله كلام القونوي بحروفه . وقال الشيخ تاج الدين بن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة أبى العباس الملثم : كان من أصحاب الكرامات والأحوال ومن أخص الناس بصحبته تلميذه(1/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
الشيخ الصالح عبد الغفار بن نوح صاحب كتاب الوحيد في علم التوحيد وقد حكى في كتابه كثيراً من كراماته من ذلك قال : كنا عنده يوم الجمعة فاشتغلنا بالحديث وكان حديثه يلذ للمسامع فبينما نحن في الحديث والغلام يتوضاً فقال له الشيخ : إلى أين يا مبارك ، فقال إلى الجامع فقال : وحياتي صليت فخرج الغلام وجاء فوجد الناس قد خرجوا من الجامع قال عبد الغفار : فخرجت فسألت الناس فقالوا : كان الشيخ أبو العباس في الجامع والناس تسلم عليه فرجعت إليه فسألته فقال : أنا أعطيت التبدل ، قال ابن السبكي : ولعل قوله صليت من صفات البدلية فإنهم يكونون في مكان وشبحهم في مكان آخر ، قال : وقد تكون تلك الصفة الكشف الصوري الذي ترتفع فيه الجدران ويبقي الإستطراق فيصلي كيف كان ولا يحجبه الإستطراق انتهى . وقال صفي الدين بن أبى المنصور في رسالته : جرت للشيخ مفرج ببلده قضية مع أصحابه قال شخص منهم كان قد حج لآخر : رأيت مفرجاً بعرفة فنازعه الآخر بأن الشيخ ما فارق دمامين ولا راح لغيرها وحلف كل منهما بالطلاق الذي كان قد حج حلف بالطلاق من زوجته أنه رآه بعرفة وحلف الآخر بالطلاق أنه لم يغب عن دمامين في يوم عرفة فاختصما إليه وذكر كل منهما يمينه فأقرهما على حالهما وأبقى كل واحد على زوجته ، فسألته عن حكمه فيهما وصدق أحدهما يوجب حنث الآخر وكان حاضراً معنا رجال معتبرون قال الشيخ لنا : قولوا أذنا منه بأن نتحدث في سر هذا الحكم فتحدث كل منهم بوجه لا يكفي وكأن المسألة قد اتضحت لي فأشار إلي بالإيضاح فقلت : الولي إذا تحقق في ولايته مكن من التصور في صور عديدة وتظهر على روحانيته في حين واحد في جهات متعددة فإنه يعطي التطور في الأطوار والتلبس في الصور على حكم إرادته ، فالصورة التي ظهرت لمن رآها بعرفة حق ، وصورته التي رآها الآخر لم تفارق دمامين حق ، وصدق كل منهما في يمينه فقال الشيخ ؛ هذا هو الصحيح انتهى . وقد ساق ذلك اليافعي في كفاية المعتقد وقال : فإن قلت : هذا مشكل ولا سبيل إلى أن يسلم الفقيه ذلك ولا يسوغ في عقله أبداً ولا يصح الحكم عنده بعدم حنث الأثنين أبداً إذ وجود شخص واحد في مكانين في وقت واحد محال في العقل . فالجواب عن هذا : ما أجاب به الشيخ صفي الدين المذكور وليس ذلك محالا لأنه إثبات تعدد الصور الروحانية وليس ذلك بصورة واحدة حتى يلزم منه المحال قال : فإن قيل : الإشكال باق في تعدد الصور من شخص واحد فالجواب : أن ذلك قد وقع وشوهد ولا يمكن جحده وإن تحير فيه العقل ، من ذلك ما اشتهر عن كثير من الفقهاء وغيرهم أن الكعبة المعظمة شوهدت تطوف بجماعة من الأولياء في أوقات في غير مكانها ، ومعلوم أنها في مكانها لم تفارقه في تلك الأوقات ، ومن ذلك قصة قضيب البان ، وروينا عن بعض الأكابر أنه قال : ما الشأن في الطيران إنما الشأن في اثنين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب يشتاق كل منهما إلى زيارة الآخر فيجتمعان ويتحدثان ويعود كل واحد منهما إلى مكانه والناس يشاهدون كل واحد منهما في مكانه لم يبرح عنه . وقال اليافعي أيضاً في روض الرياحين : ذكر بعض أصحاب سهل بن عبد الله قال : حج رجل سنة(1/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
فلما رجع قال لأخ له : رأيت سهل بن عبد الله في الموقف بعرفة ، فقال له أخوه : نحن كنا عنده يوم التروية في رباطه بباب تستر ، فحلف بالطلاق أنه رآه في الموقف فقال له أخوه : قم بنا حتى نسأله فقاما ودخلا عليه وذكر له ما جرى بينهما وسألاه عن حكم اليمين فقال سهل : ما لكم بهذا من حاجة اشتغلوا بالله وقال للحالف : امسك عليك زوجك ولا تخبر بهذا أحداً انتهى .
وقال الشيخ خليل المالكي صاحب المختصر المشهور في كتابه الذي ألفه في مناقب شيخه الشيخ عبد الله المنوفي مانصه : الباب السادس في طي الأرض له مع عدم تحركه من ذلك أن رجلاً جاء من الحجاز وسأل عن الشيخ وذكر أنه رآه واقفاً بعرفة فقال له الناس : الشيخ لم يزل من مكانه فحلف على ذلك فطلع الشيخ وأراد أن يتكلم فأشار إليه بالسكوت وذكر وقائع أخرى وقعت له من هذا النوع ثم قال : فإن قلت : كيف يمكن وجود الشخص الواحد بمكانين ؟ قلت : الولي إذا تحقق في ولايته تمكن من التصور في روحانيته ويعطي من القدرة التصوير في صور عديدة وليس ذلك بمحال لأن المتعدد هو الصورة الروحانية ، وقد اشتهر ذلك عند العارفين بالله كما حكى عن قضيب البان أنكر عليه بعض الفقهاء عدم الصلاة في جماعة ثم اجتمع ذلك الفقيه به فصلى بحضرته ثمان ركعات في أربع صور ثم قال له : أي صورة لم تصل معكم فقبل يد الشيخ وتاب ، وكما حكى عن الشيخ أبي عباس المرسي انه طلبه إنسان لأمر عنده يوم الجمعة بعد الصلاة فأنعم له ثم جاء له أربعة كل منهم طلب منه مثل ذلك فأنعم للجميع ثم صلى الشيخ مع الجماعة وجاء فقعد بين الفقهاء ولم يذهب لأحد منهم وإذا بكل من الخمسة جاء يشكر الشيخ على حضوره عنده ، وقد حكى جماعة أن الكعبة رؤيت تطوف ببعض الأولياء هذا كلام الشيخ خليل وناهيك به إمامة وجلالة ، ورأيت في مناقب الشيخ تاج الدين بن عطاء الله لبعض تلاميذه أن رجلاً من جماعة الشيخ حج قال : فرأيت الشيخ في المطاف وخلف المقام وفي المسعى وفي عرفة فلما رجعت سألت عن الشيخ فقيل هو طيب ، فقلت : هل سافر أو خرج من البلد ؟ فقيل لا ، فجئت إليه وسلمت عليه فقال لي : من رأيت في سفرتك هذه من الرجال ؟ قلت : يا سيدي رأيتك فتبسم وقال : الرجل الكبير يملأ الكون لو دعى القطب من حجر لأجاب . وقال صاحب الوحيد : الخصائص الإلهية لا يحجر عليها ، فهذا عزرائيل يقبض في كل ساعة من الخلائق في جميع العوالم ما لا يعلمه إلا الله ، وهو يظهر لهم بصور أعمالهم في مرائي شتى وكل واحد منهم يشهده ويبصره في صور مختلفة .
وقال الشيخ سراج الدين بن الملقن ومن خطه نقلت في طبقات الأولياء : الشيخ قضيب البان الموصلي ذو الأحوال الباهرة والكرامات المتكاثرة سكن الموصل واستوطنها إلى أن مات فيها قريباً من سنة سبعين وخمسمائة ذكره الكمال بن يونس فوقع فيه موافقة لمن عنده فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم فبهتوا وقال : يا ابن يونس أنت تعلم كل ما يعلمه الله ؟ قال(1/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
لا ، قال : فأين كنت أنا من العلم الذي لا تعلمه أنت ؟ فلم يدر ابن يونس ما يقول ، وسئل عنه الشيخ عبد القادر الكيلاني فقال : هو ولي مقرب ذو حال مع الله وقدم صدق عنده ، فقيل له ما نراه يصلي ، فقال : إنه يصلي من حيث لا ترونه ، وإني أراه إذا صلى بالموصل أو بغيرها من آفاق الأرض يسجد عند باب الكعبة ، وقال أبو الحسن القرشي : رأيته في بيته بالموصل قد ملأه ونمى جسده نماءً خارقاً للعادة فخرجت وقد هالني منظره ثم عدت إليه فرأيته في زاوية البيت وقد تصاغر حتى صار قدر العصفور ثم عدت إليه فرأيته كحالته المعتادة انتهى . وفي الطبقات المذكورة من هذا النمط أشياء كثيرة . وقال الشيخ برهان الدين الأبتاسي في كتاب تلخيص الكوكب المنير في مناقب الشيخ أبى العباس البصير : من كراماته أنه لما قدم مكة اجتمع بالشيخ أبي الحجاج الأقصري فجلسا في الحرم يتذاكران أحوال القوم فقال أبو الحجاج : هل لك في طواف أسبوع ؟ فقال أبو العباس : إن لله رجالاً يطوف بيته بهم ، فنظر أبو الحجاج وإذا بالكعبة طائفة بهما ، قال الأبتاسي : ولا ينكر ذلك فقد تضافرت أخبار الصالحين على نظير هذه الحكاية .
وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتاب الروح : للروح شأن آخر غير شأن البدن فتكون في الرفيق الأعلى وهي متصلة ببدن الميت بحيث إذا سلم على صاحبها رد السلام وهي في مكانها هناك وهذا جبريل رآه النبي صلى الله عليه وسلّم وله ستمائة جناح منها جناحان سداً الأفق وكان يدنو من النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يضع ركبتيه على ركبتيه ويديه على فخذيه ، وقلوب المخلصين تتسع للإيمان بأن من الممكن أنه كان يدنو هذا الدنو وهو في مستقره من السموات ، وقال صاحب الوحيد : من القوم من كان يخلي جسده ويصير كالفخارة التي لا روح فيها كما أخبرني عيسى بن المظفر عن الشيخ شمس الدين الأصبهاني وكان عالماً ومدرساً وحاكماً يقوص أن رجلاً كان يخلي جسده ثلاثة أيام ثم يرجع إلى حاله الذي كان عليه انتهى . قلت : الأصبهاني المذكور هو العلامة شمس الدين المشهور صاحب شرح المحصول وغيره من التصانيف في الأصلين نقل ابن السبكي في طبقاته عن الشيخ تاج الدين الفركاح أنه قال : لم يكن في زمانه في علم الأصول مثله ، وقال ابن السبكي أيضاً في الطبقات الكبرى : الكرامات أنواع إلى أن قال : الثاني والعشرون التطور بأطوار مختلفة وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال وبنوا عليه تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال واستأنسوا له بقوله تعالى : ) فتمثل لها بشراً سوياً ( ومنه قصة قضيب البان ثم ذكرها وذكر غيرها . قلت : ومن شواهد ما نحن فيه ما أخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لما أسري بي فأصبحت بمكة قطعت وعرفت أن الناس مكذبي ) فذكر الحديث إلى أن قال : قالوا وتستطيع أن تنعت المسجد وفي القوم من قد سافر إليه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( فذهبت أنعت فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل ) أو عقال ( فنعته وأنا أنظر إليه ) فهذا إما من باب التمثيل كما في رؤية الجنة والنار في عرض الحائط : وإما من باب(1/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
طي المسافة وهو عندي أحسن هنا ، ومن المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم ، ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبى حاتم ، وابن المنذر في تفاسيرهم ، والحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس في قوله تعالى : ) لولا أن رأى برهان ربه ( قال : مثل له يعقوب ، وأخرج ابن جرير مثله عن سعيد بن جيبر ، وحميد بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، والقاسم ابن أبى بزة ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، وقتادة ، وأبي صالح ، وشمر بن عطية ، والضحاك ، وأخرج عن الحسن قال : انفرج سقف البيت فرأى يعقوب ، وفي لفظ عنه قال : رأى تمثال يعقوب . فهذا القول من هؤلاء السلف دليل على إثبات المثال أو طي المسافة ، وهو شاهد عظيم لمسألتنا حيث رأى يوسف عليه السلام وهو بمصر أباه وكان إذ ذاك بأرض الشام ، ففيه إثبات رؤية يعقوب عليه السلام بمكانين متباعدين في وقت واحد بناء على إحدى القاعدتين اللتين ذكرناهما والله أعلم .
باب اللعان
مسألة : امرأة نفت ابنها بعد اعترافها به وحكم بالنفي حاكم فهل ينتفي منها وهل لها أن تقر به ثانياً ؟ .
الجواب : الولد لا يلحق الأم بإعترافها بل لا بد إقامتها البينة فإن أقامتها فلا يفيد النفي بعدها .
كتاب النفقات
مسألة : إذا أذن الولي في الأنفاق على الزوجة ومات هل يستمر الإذن إلى البينونة الكبرى أو ينقطع بموته ويحتاج إلى إذن ولي إن كان أو الحاكم ، وإذا قرر لها في نظير كسوتها مبلغ معين ورضيت به ثم بعد مدة تراضيا على أقل من ذلك هل يصح أم لا ؟ .
الجواب : المسألة الأولى مسألة حسنة ولم أجدها منقولة والذي يتخرج على القواعد الإحتمال الثاني لأنه كالوكيل عن الولي في الإنفاق عليها فينقطع بموته هذا مقتضى القواعد ، ولكن الأحسن خلافه لإطباق الناس على عدم النزاع في ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الآن ، وأما إذا قرر لها في نظير كسوتها دراهم ثم تراضيا على أقل وهي جائزة التصرف فإنه يجوز .
مسألة : في امرأة ناشزة هل تستحق شيئاً من النفقة والقسم والكسوة أم لا ؟ وإذا قلتم بالمنع فهل إذا رجعت في بعض اليوم هل تعود نفقة اليوم أو بعضه ؟ وهل تسقط كسوة الفصل كله أم بعضه ؟ وما معنى قولهم الفصل هل هو العام أو بعضه أو أحد الشهور المقرر فيها الكسوة ؟ وإذا ادعى الزوج النشوز وأنكرت الزوجة فهل القول قولها أم قوله ؟ وهل يلزم أحدهما يمين أم يكلف البينة ؟ وإذا طلقها وهي ناشزة فهل لها السكنى ؟ وإذا قلتم بالمنع فلازمت مسكن النكاح وأطاعت فهل تستحق السكنى أم لا ؟ .
الجواب : لا تستحق الناشزة شيئاً مما ذكر ، وإذا رجعت في بعض اليوم لم تستحق لذلك(1/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
اليوم شيئاً على ما رجحه في زوائد الروضة في النكاح ، وحكى في النفقات وجهين بلا ترجيح ، ويسقط بالنشوز كسوة فصل كامل وهو نصف العام ولا تعود بعود الطاعة على قياس ما ذكر في النفقة ، وإذا ادعى النشوز وأنكرته فالقول قولها بيمينها إلا أن تكون له بينة ، وإذا طلقها وهي ناشزة فلا سكنى لها فإن عادت إلى الطاعة عاد حق السكنى .
مسألة : زوجة خرجت من منزل الزوج بغير إذنه إلى منزل أبيها وأقامت به مدة وطلقها الزوج طلاقاً بائناً واستمرت نحو عشرة أشهر وادعت أنه مشتملة منه على حمل فهل تستحق النفقة والكسوة للمدة الماضية ؟ وهل القول قوله أنها خرجت من منزله بغير إذنه أو يحتاج إلى بينة ؟ وهل يثبت موت الحمل في بطن أمه بالبينة أم لا ؟ وإذا ثبت موته فهل تستحق المطلقة النفقة والكسوة أم لا ؟ وهل إذا وضعته ميتاً يكون الحكم كذلك أم لا ؟ وهل للمطلق أن يسأل البينة عن قراءة الفاتحة أو عن شيء من شروط الصلاة ، وإذا سألها وكانت لا تحسن شيئاً من ذلك فهل يكون قادحاً في الشهادة أم لا ؟ وهل إذا أتت بولد وادعت أنه من المطلق يلحق بها أم لا ؟ .
الجواب : إذا طلقت الناشز وهي حامل ففي استحقاقها النفقة رأيان مبنيان على أن النفقة هل هي للحمل أو لها بسبب الحمل . فإن قلنا : للحمل استحقت أو لها بسببه لم تستحق وهذا القول الثاني أظهر وهو أنها لها فلا تستحق ، والمسألة الثانية أيضاً مبنية على هذا الخلاف . فإن قلنا : للحمل لم تجب للمدة الماضية لأن نفقة القريب تسقط بمضى الزمان . وإن قلنا : لها وجبت أعني في غير هذه الصورة التي هي صورة النشوز ، وقدر الواجب أيضاً مبني على هذا الخلاف . فإن قلنا : للحمل فالواجب الكفاية من غير تقدير . وإن قلنا : لها فالواجب مقدر وهو القدر الذي يجب حالة العصمة ويختلف باليسار والإعسار والتوسط ، وهذا أيضاً في غير صورة النشوز لما تقدم من أن الناشز لا تستحق شيئاً والفروع المبنية على هذا الخلاف اثنان وثلاثون فرعاً سقتها في تأليفي الأشباه والنظائر ، وإذا أدعى أنها خرجت بغير إذنه وأنكرت فمقتضي ما ذكروه في العدد أن القول قول الزوج بيمينه لأن الأصل عدم الإذن ، لكن في الروضة وأصلها في النفقات لو ادعى الزوج النشوز وأنكرت فالصحيح أن القول قولها لأن الأصل عدم النشوز .
وأما ثبوت موت الحمل في بطن أمه بالبينة فقد رجحوا ثبوت الحمل نفسه بالبينة لأن له مخائل وقرائن يظهر بها ، ومقتضى هذا أن موته في البطن أيضاً يثبت بها لأن لذلك مخائل يعرفها النساء والأطباء ، وإذا ثبت موته أو وضع ميتاً استحقت النفقة والكسوة إلى آخر يوم الوضع بناء على الأظهر أن النفقة لها لا للحمل والكلام في غير صورة النشوز ، وللمدعى عليه أن يقدح في البينة بالفسق ويفسر ذلك بالتقصير في تعلم واجبات الصلاة ، فإذا ثبت ذلك كان قادحاً في عدالته وشهادته لكن بشرط أن يكون ذلك مما يلزم تعلمه إجماعاً أو في معتقده ، فإن كان مقلداً من لا يرى لزوم تعلم الفاتحة لم يفسق بترك تعلمها ، وكذا لو تعذر عليه حفظها فإنه يعذر في ذلك ويأتي بالبدل فلا يفسق ، وإذا أتت المطلقة بولد لحق المطلق(1/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
من غير دعوى بشرط أن يكون بين الولادة والطلاق أربع سنين فأقل وبشرط أن لا يطرأ عليها فراش لغيره .
مسألة : رجل تزوج بإمرأة ودخل بها ثم غاب عنها أكثر من سنة ونصف ولم يعلم له مكان فأثبتت غيبته على حاكم شافعي وعدم النفقة وعدم مال له تصرف لها منه نفقتها فخيرها الحاكم بين الإقامة والفسخ فاختارت الفسخ فأجابها الحاكم وفسخ فهل يجوز هذا الفسخ أم لا ؟ لكون الشهود لا يعلمون مقر الزوج فكيف يعلمون بإعساره ؟ .
الجواب : قال ابن العماد في كتابه توقيف الحكام على غوامض الأحكام : فرع : إذا تحقق الشهود إعسار الزوج ثم غاب مدة طويلة وادعت امرأته إعساره جاز لهم أن يشهدوا أنه الآن معسر استصحاباً للأصل ولا نظر إلى احتمال طروء اليسار قاله ابن الصلاح في فتاويه ، قال : ولا يكفي الشهود أن يقولوا نشهد إنه غاب وهو معسر بل لا بد أن يشهدوا أنه الآن معسر ونظيره الشهادة بالموت على الإستفاضة لا يكفي أن يقولوا : سمعنا أنه مات بل لا بد أن يقولوا : نشهد أنه مات ، ويجوز الجزم اعتمادا على غلبة الظن ، قال : ونظير ذلك ما لو رأى الشاهد انساناً أقرض غيره مالاً ثم غاب عنه مدة طويلة يحتمل أنه وفاه فيها أو أبرأه فإنه يجوز له أن يشهد للمقرض ببقاء الحق في ذمة المقترض ولا نظر إلى احتمال الوفاة ، انتهى كلام ابن العماد ، وحينئذ إذا كان هؤلاء الشهود عرفوا إعساره قبل غيبته ثم غاب ولم يعرفوا مقره فشهدوا بأنه معسر الآن فشهادتهم مقبولة وفسخ الحاكم المرتب عليها صحيح .
النقول المشرقة في مسألة النفقة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وقع السؤال عن رجل تزوج بامرأة حرة وأراد الدخول عليها في منزله فامتنعت من ذلك وقالت : أنا لا أخرج من منزلي فسكن معها في منزلها ، فهل يلزمه نفقة أم لا ؟ وأقول : عبارة الروضة إذا زوج أمته لم يلزمه تسليمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً لكن يستخدم نهاراً ويسلمها ليلاً ، ولو قال السيد لا أخرجها من داري ولكن أخلي لك بيتاً لتدخله وتخلو بها فقولان ، أظهرهما ليس له ذلك فإن الحياء والمروءة يمنعانه دخول دار غيره ، وعلى هذا فلا نفقة على الزوج كما لو قالت الحرة : أدخل بيتي ولا أخرج إلى بيتك ، والثاني للسيد ذلك لتدوم يده على ملكه مع تمكن الزوج من حقه فعلى هذا تلزمه النفقة هذه عبارة الروضة وهي صريحة أو ظاهرة في أن ذلك فيما إذا جاء الزوج واستمتع بها في منزلها بدليل قياس مسألة الأمة عليها ، فإن محل مسألة الأمة فيما إذا فعل الزوج ذلك بلا شك فكذلك مسألة الحرة المقيس عليها ، ولو كانت مسألة الحرة فيما إذا لم يفعل ومسألة الأمة فيما إذا فعل لم يصح القياس كما لا يخفي ، إذ الفارق حينئذ أن يفرق(1/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
بين المقيس والمقيس عليه بوجود الاستمتاع في هذا دون هذا ، فإن زعم زاعم أن مسألة الأمة أيضاً محلها فيما إذا لم يفعل . قلنا : قد صرح الشيخ جلال الدين المحلى في شرح المنهاج بخلاف ذلك فقال ما نصه : ولو أخلى السيد في داره بيتاً وقال للزوج تخلو بها فيه لم يلزمه ذلك في الأصح لأن الحياء والمروءة يمنعانه من دخول داره ولو فعل ذلك فلا نفقة عليه هذا لفظه ، ويقويه من جهة المعنى أمران : أحدهما أنها لو كانت فيما إذا لم يدخل لم يكن فيها قول بوجوب النفقة ، فإن الزوج إذا لم يدخل لانفقة عليه بلا خلاف ، والخلاف في هذه مصرح به في الروضة والشرح كما ترى ، فتعين أن يكون محله فيما إذا دخل ، والوجه الثاني أن هذه المسألة كمسألة ما إذا استخدمها السيد نهاراً وسلمها للزوج ليلاً ، والمرجع في تلك أنه لا نفقة على الزوج مع دخوله واستمتاعه كل ليلة فكذا هذه بل هذه أولى لأن الحرج فيها أضيق من تلك ، فإنه هناك تسلمها نصف تسليم وهو الليل كله الذي هو محل الإستمتاع ، وهنا لم يتسلمها أصلاً ، ويؤكد ما قلناه من الأولوية أمر آخر وهو أن قول السيد لا أسلمها إليك نهاراً بل ليلاً فقط مقبول منه ومجاب إليه ، وقوله لا أخرجها من داري ولكن أخلى لك بيتاً فيها غير مقبول منه ولا مجاب إليه ، فإذا لم يلزم الزوج نفقة في حالة مجاب إليها السيد شرعاً فكيف يتخيل أن تلزمه النفقة في حالة لا يجاب السيد إليها شرعاً هذا ما أفهمته عبارة الروضة ، وقال في الروضة أيضاً في كتاب النفقات ما نصه : فرع لو قالت المرأة لا أمكن إلا في بيتي أو في موضع كذا أو بلد كذا فهي ناشزة ، وعبر الرافعي في الشرح بأوضح من عبارة الروضة فقال : ولو قالت المرأة لا أمكن إلا في بيتي أو في بيت كذا أو بلد كذا فهي ناشزة لأن التمكين التام لم يوجد ، وهذا كما لو سلم للبائع المبيع وشرط أن لا ينقله إلى موضع كذا هذه عبارة الرافعي ، فأنطر كيف علله بقوله لأن التمكين التام لم يوجد فدل على أنه وجد تمكين ناقص والتمكين الناقص لا تجب معه نفقة وإن استمتع الزوج ، كم عللوا به مسألة الأمة إذا استخدمها السيد نهاراً وأسلمها للزوج ليلاً فإنه لا نفقة على الزوج مع رضاه به وإجباره عليه شرعاً لأنه ليس بتمكين تام ، وانظر أيضاً كيف شبهه الرافعي بمسألة تسليم البائع المبيع بشرط أن لا ينقله فإن هذا لا يكون تسليماً تاماً وإن رضي به المشتري ، ثم راجعنا كتاب التتمة للمتولي فوجدنا عبارته أوضح من عبارة الرافعي ، والسر في ذلك أن الكتب الأصول تبسط فيها العبارة بسطاً لا يبقى معه إشكال على قاصري الفهم ، والكتب المأخوذة منها تلف فيها العبارة اتكالاً على فهم الفطن أو توقيف الموقف ، ولما كانت الروضة مأخوذة من الشرح كانت عبارة الشرح أوضح من عبارتها ، ولما كان الشرح مأخوذاً من مثل التتمة ونحوها كانت عبارتهم أوضح ، وعبارة التتمة نصها : التسليم الذي يتعلق به استحقاق النفقة أن تقول المرأة لزوجها أنا في طاعتك فخذني إلى أي مكان شئت ، فإذا أظهرت الطاعة من نفسها على هذا الوجه فقد جعلت ممكنة سواء تسلمها الزوج أو لم يتسلمها ، فأما إذا قالت : أسلم نفسي إليك في منزلي أو في موضع كذا دون غيره من المواضع لم يكن هذا تسليماً تاماً كالبائع إذا قال للمشتري : أسلم المبيع إليك على شرط أن(1/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
لا تنقله من موضعه أو على شرط أن تتركه في موضع كذا لم يكن تسليماً للمبيع حتى يجب تسليم الثمن على قولنا تجب البداية بتسليم المبيع هذا نص التتمة بحروفه ، ومنه أخذ الرافعي . وقال في التتمة أيضاً في مسألة الأمة : لو قال السيد للزوج : أذنت لك أن تدخلي منزلي متى شئت من ليل أو نهار ولكني لا أمكن الجارية من الخروج من داري فمن أصحابنا من قال : لها النفقة لأن للسيد فيها حقاً فلا يمكن أن يكلف إزالة يده والزوج قد يمكن منها على الإطلاق ، ومنهم من قال : لا تستحق النفقة لأن الزوج يحتشم من دخول داره في كل وقت فلا يكمل التسليم هذه عبارته ، فانظر كيف علل الوجه القائل بعدم النفقة الذي هو المصحح في الروضة بعدم كمال التسليم ، فاندفع قول من قال إن التسليم في مسألة لو أخلى في داره بيتاً كامل إذ يدخل عليها متى شاء من ليل أو نهار بخلاف مسألة تسليمها ليلاً لا نهاراً فإنه ناقص فيها ، فها أنت قد رأيت تصريح المتولي بخلافه ، وقد صرح المتولي أيضاً في مسألة الحرة بالتسوية بين ما إذا قالت أسلم نفسي ليلاً وبين ما إذا قالت لا أسلم نفسي إلا في بيتي فقال ما نصه : الثالث عشر السيد إذا زوج أمته فإن سلمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً وجبت نفقتها ، وأما إن سلمها ليلاً دون النهار اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه : أحدها لا تستحق النفقة وهو اختيار ابن أبي هريرة ووجهه أنه تسليم ناقص فلا تستحق النفقة كالحرة إذا قالت أسلم نفسي ليلاً ، أو قالت أسلم نفسي في موضع مخصوص ، والثاني تجب النفقة بخلاف الحرة والفرق أن للزوج أن يسافر بها وليس له أن يسافر بالأمة ، فانظر بحمد الله إلى هذا التصريح المطابق لما فهمناه وكيف قطع بعدم وجوب النفقة في الحرة في مسألتين التسليم ليلاً والتسليم في موضع مخصوص وفرق بينها وبين الأمة حيث [ جرى ] الخلاف فيها بأن الزوج يملك المسافرة بالحرة فكان امتناعها من النقلة نشوزاً كامتناعها من المسافرة معه ، ولا يملك المسافرة بالأمة فجرى وجه أنه لا يملك نقلها فلم يكن نشوزاً ولا مسقطاً للنفقة على هذا الوجه .
وقد صرح النووي أيضاً في الروضة بالتفرقة المذكورة فقال : لو سامح السيد فسلمها ليلاً ونهاراً فعلى الزوج تسليم المهر وتمام النفقة ، وإن لم يسلمها إلا ليلاً فهل تجب جميع النفقة أو نصفها أم لا يجب شيء ؟ فيه أوجه أصحها عند جمهور العراقيين ، والبغوي أنه لا يجب شيء ، ويجري الوجهان الأخيران فيما إذا سلمت الحرة نفسها ليلاً واشتغلت عن الزوج نهاراً . قلت : الصحيح الجزم في الحرة أنه لا يجب شيء في هذه الحال والله أعلم ، فانظر كيف صحح طريقة الجزم في الحرة مع إجراء الخلاف في الأمة . نم وأما قول من قال : كيف يدخل ويستمتع في غير مقابل ؟ فجوابه أنه في مقابلة المهر وقد قال في الروضة هنا ما نصه : وأما المهر فقال الشيخ أبو حامد : لا يجب تسليمه كالنفقة ، وقال القاضي أبو الطيب : يجب ، قال ابن الصباغ : لأن التسليم الذي يتمكن معه من الوطء قد حصل وليس كالنفقة فإنها لا تجب بتسليم واحد . قلت : الأصح الوجوب والله أعلم .
فإن قال قائل : أيستمتع بها ولا تلزمه نفقة ؟ قلنا : الاستمتاع في مقابلة المهر كما هو(1/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
مصرح به في كلامهم وكيف يتخيل أن النفقة تجب بمطلق الاستمتاع وقد قال صاحب التنبيه : ولا تجب النفقة إلا بالتمكين التام ، قال ابن الرفعة في الكفاية : احترز الشيخ بلفظ التام عما إذا قالت أنا أسلم نفسي إليك ليلاً دون النهار وفي نهار دون الليل ، أو في البلد الفلاني دون غيره ، أو في المنزل الفلاني ، فإن النفقة لا تجب بذلك ، إذ لم يحصل التمكين المقابل بالنفقة ، وقال : وصورة التمكين التام أن تقول : سلمت نفسي أليك فإن اخترت أن تصير إلي وتأخذني وتستمتع بي فذاك إليك ، وإن اخترت جئت إليك في أي مكان شئت أو ما يؤدي هذا المعنى .
وعبارة الشيخ في المهذب : إذا سلمت المرأة إلى زوجها ومكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الأستمتاع في نكاح صحيح وجبت نفقتها ، فإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل أو في بلد دون بلد لم تجب النفقة لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة ، كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع أو سلم في موضع دون موضع .
وعبارة ابن الصباغ في الشامل : فإذا مكنت الزوجة من نفسها بأن تقول : سلمت نفسي إليك في أي مكان شئت فقد وجبت لها النفقة ، فأما إذا قالت : أسلم نفسي إليك في منزلي أو في الموضع الفلاني دون غيره لم يكن هذا تسليماً تاماً ولم تستحق النفقة ، كما لو قال البائع : أسلم إليك السلعة على أن تتركها في موضعها أو في مكان بعينه لم يكن تسليماً يستحق به تسليم العوض إليه ولهذا قلنا : إن السيد إذا زوج أمته وسلمها ليلاً دون النهار لم تستحق النفقة على الزوج فإنه لم يحصل التسليم التام .
وعبارة المحاملي في المجموع : وإنما يجب بالتمكين التام المستند إلى عقد صحيح ، فإذا قالت المرأة : مكنتك من نفسي فإن شئت أن تتركني في منزلي فافعل ، وإن شئت أن تنقلني إلى حيث شئت فافعل ، فإذا وجد ذلك استحقت النفقة ، وأما إذا لم يكن ذلك تمكيناً تاماً بأن قالت : أمكنك من نفسي في منزلي ولا أنتقل معك إلى موضع آخر فإنها لا تستحق النفقة بحال ، كالسيد إذا زوج أمته ولم يسلمها ليلاً ولا نهاراً بل قال : أسلمها بالليل دون النهار فإن النفقة لا تجب بذلك .
وعبارة ابن أبي عصرون في المرشد : إذا سلمت المرأة قال زوجها ومكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت النفقة عليه ، وإن أمتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل أو في بلددون بلد لم تجب النفقة .
وعبارة سليم الرازي في الكفاية : وإذا لم تسلم نفسها إلى الزوج لم تستحق عليه نفقة وسواء امتنعت منه بكل حال أو قالت : أنتقل معك إلى محلة دون محلة ، وهكذا إن تزوج بها وسكت كل واحد منهما فلم يطلب الزوج أن تسلم نفسها ولم تطلب هي أن يتسلمها لم(1/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
تستحق النفقة ، وإذا أرادت أن تسلم نفسها فإن كان الزوج حاضراً سلمت نفسها إليه بأن تقول : بذلت نفسي لك فإن شئت أن تردد إلي فافعل ، وإن شئت أن تنقلني إلى أي موضع أردت فافعل ، وإذا فعلت ذلك استحقت النفقة .
وعبارة صاحب البيان : إذا زوج الرجل أمته فليس عليه أن يرسلها مع زوجها ليلاً ونهاراً وإنما يجب عليه أن يرسلها معه بالليل دون النهار ، فإن اختار السيد إرسالها لزوجها ليلاً ونهاراً وجب على الزوج جميع نفقتها لأنه قد حصل له الأستمتاع التام ، وإن سلمها السيد بالليل دون النهار ففيه وجهان من أصحابنا من قال : يجب عليه نصف نفقتها والمذهب أنه لا يجب عليه شيء من نفقتها لأنه لم يسلمها تسليماً تاماً فهو كما لو سلمت الحرة نفسها بالليل دون النهار ، أو في بيت دون بيت .
وعبارة الشاشي في العمدة : إذا سلمت المرأة إلى زوجها وهي من أهل الاستمتاع ومكن من الاستمتاع بها ونقلها حيث يريد وجب عليه نفقتها ، وكذا عبارته في كتابه المسمى بالترغيب ، ثم رأيت الماوردي قال في الحاوي ما نصه : وأما التمكين فيشتمل على أمرين لا يتم إلا بهما ، أحدهما تمكينه من الاستمتاع بها ، والثاني تمكينه من النقلة معه حيث شاء في البلد الذي تزوجها فيه وإلى غيره من البلاد إذا كانت السبل مأمونة ، فلو مكنته من نفسها ولم تمكنه من النقلة معه لم تجب عليه النفقة لأن التمكين لم يكمل إلا أن يستمتع بها في زمان الامتناع من النقلة فتجب لها النفقة ويصير استمتاعه بها عفواً عن النقلة في ذلك الزمان هذه عبارته .
وقد يتمسك بها من أفتى بخلاف ما أفتينا به ، بل أنا لما رأيتها توقفت كل التوقف ثم بان لي أنها لا تعارض ما تقدم وذلك أني رأيت الماوردي اختار في النفقة طريقة ضعيفة خلاف الطريقة التي صححها الشيخان واعترف هو أن ما اختاره مخالف لما عليه الجمهور ولظاهر مذهب الشافعي فإنه اختار أنه لا يخلو استمتاع بزوجة عن نفقة وفرع على ذلك واختار في الأمة إذا سلمت ليلاً لا نهاراً أنه يجب لها القسط من النفقة ، وقال في الحرة الممتنعة من النقلة إذا استمتع بها يجب لها نفقة زمن الاستمتاع على قياس قوله : في الأمة بالتقسيط ومعلوم أن هذه الطريقة في الأمة ضعيفة والمشهور أنه لا نفقة لها أصلاً .
وهذه عبارة الماوردي : قال : الحالة الثانية أن يمكنها منها ليلاً في زمان الاستمتاع ويمنعه منها نهاراً في زمان الاستخدام ، فلا خيار للزوج في فسخ نكاحها إذا كان عالماً برقها لأنه حكم مستقر في نكاح الأمة ، وفي نفقتها وجهان : أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروذي ، وجمهور أصحابنا أنه لا نفقة عليه لقصور استمتاعه عن حال الكمال . والوجه الثاني وهو قول أبي علي بن أبي هريرة والأظهر عندي أن عليه نفقتها بقسطه من زمان الاستمتاع وهو أن يكون على الزوج عشاؤها وعلى السيد غداؤها ، لأن العشاء يراد لزمان الليل والغداء يراد لزمان النهار ، وعليه من الكسوة ما تتدثر به ليلاً وعلى السيد منه ما تلبسه نهاراً ، وإنما تقسطت النفقة عليه ولم تسقط عنه من أجل وجود الاستمتاع لئلا يخلو استمتاع(1/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
بزوجة من استحقاق نفقة هذا لفظه بحروفه ، فانظر كيف رجح في مسألة الأمة خلاف ما رجحه الشيخان وكيف قال في الأول : أنه قول جمهور الأصحاب ، وفيما رجحه الأظهر عندي إشارة إلى إنه اختيار له خارج عما رجحه الجمهور ، وانظر كيف بني أصله على أن الاستمتاع لا يخلو من نفقة وذلك غير لازم عند الجمهور ومنهم الشيخان فعرف أن قوله ذلك في الحرة بناء على أصله هو لا على طريقة الجمهور ، وقال الماوردي أيضاً بعد هذا الكلام بورقتين : فإن بوأها معه السيد منزلاً ليلاً ونهاراً وجبت عليه نفقتها ، وإن منعه منها ليلاً ونهاراً سقطت تفقتها وكان السيد متعدياً بمنعها منه في الليل دون النهار ، وإن بوأها معه ليلاً واستخدمها نهاراً لم يتعد ، وفي نفقتها ما قدمناه من الوجهين : أحدهما وهو قول المروزي والظاهر من مذهب الشافعي : أنه يسقط عنه جميعها ، والثاني وهو قول أبي علي بن أبى هريرة ، وهو الأصح عندي أنه يجب عليه من النفقة بقسطها من زمان الليل دون النهار وهو ما قابل العشاء دون الغداء انتهى . وإنما قال في الأول : إنه الظاهر من مذهب الشافعي لأنه نص عليه في المختصر كما تقدمت عبارته ، ثم تأمل عبارة الماوردي السابقة في الحرة تجده لم يوجب لها النفقة في كل الأيام إنما أوجب لها نفقة زمن الاستمتاع خاصة لقوله : ويصير استمتاعه بها عفواً عن النقلة في ذلك الزمان ، فقيده بقوله في ذلك الزمان ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أنه يجب لها إذا استمتع في يوم نفقة ذلك اليوم كله ، فعلى هذا إذا استمتع بها في منزلها أياماً وترك ذلك أياماً أو غاب عنها في البلد أو في سفر لم تستحق نفقة أيام الغيبة ولا أيام ترك الاستمتاع ، ولو كانت في منزله لاستحقت نفقة هذه الأيام كلها ، وهذا أغلظ ما يؤخذ من عبارة الماوردي وهي كالصريحة فيه . والثاني أنه إذا استمتع بها في يوم لم تجب نفقة ذلك اليوم كله بل بالقسط ، فإن استمتع في النهار لزمه غداؤها دون العشاء ، أو في الليل لزمه عشاؤها دون الغداء ، كما هو قياس قوله في الأمة ، وهذا يرشد إليه قوله : ويصير استمتاعه بها عفواً عن النقلة في ذلك الزمان أي في زمن الاستمتاع خاصة ، فلا يجب عليه إلا نفقته فقط ، لأن العفو مقصور عليه والنفقة عنده تقسيط ، فيجب ما قابل ذلك الزمن فقط إما الغداء أو العشاء وتبقى سائر الأوقات التي لم يستمتع بها وهي ممتنعة غير عفو فلا يجب لها شيء ، ولا شك أن كلا من المعنيين تحتمله عبارته . ويحتمل أيضاً أصل العبارة معنى ثالثاً وهو أنه لم يرد بذلك التي قالت لا أسلم إلا في بيتي وإنما أراد من سلمت في منزله وبذلت له الطاعة ثم أراد أن ينقلها إلى منزل آخر أو يسافر بها إلى بلد آخر فامتنعت فإنه مادام يستمتع بها في منزلة الأول تجب لها النفقة استصحاباً للطاعة السابقة والتسليم السابق مع تقويته بالاستمتاع بخلاف من قالت : لا أسلم إلا في بيتي فإنها لم تدخل تحت قهره وطاعته أصلاً ، فلا يفيد الاستمتاع بها نفقة ، بل هو في هذه الصورة كالمحجور عليه من قبلها خلاف موضوع الزوجية ، ولا شك أن العرف قاض بأن للساكن بزوجته في بيت نفسه من الراحة والعز والسلطة وقوة النفس ما ليس للساكن في بيت زوجته أو عند أهلها ، والإنسان لا يكون أميراً في بيت غيره والزوج يحتاج(1/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
إلى المباسطة مع زوجته ورفع الحشمة معها في الأقوال والأفعال وذلك لا يتأتي له وهي في منزل أهلها خصوصاً إذا كانت الدار واحدة تجمع الجميع وهي في حجرة من حجرها وإن استقلت بمرافقها ، هذا أمر يعرفه كل أحد ، وقد ورد حديث مخرج في بعض الأجزاء الحديثية أن إبليس قال : إنما أحزن على الساكن في بيت زوجته ، ولا يحضرني الآن سنده وسأتبعه وألحقه ، ثم تذكرت عن شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي أنه كان يقول فيما إذا امتنعت الزوجة من النقلة وسكن الزوج في بيتها : ينبغي أن يعرض عليها النقلة في كل يوم ليتحقق امتناعها ، فإقا امتنعت سقطت نفقة ذلك اليوم ، لأن نشوز لحظة في اليوم يسقط نفقة كل اليوم ، وهذا الذي قاله شيخنا تحقيقاً من عنده قصد به أن يتحقق امتناعها من النقلة في كل يوم لاحتمال أن تكون رجعت عن الامتناع ، ويكون سكن الزوج في منزلها باختيار نفسه ، وهي بحيث لو طلبت منها لأجابت ، فإنها في هذه الحالة تستحق النفقة بلا شك ، والذي أقوله أن ما قاله شيخنا محمول على الاستحباب والاستظهار لبراءة الذمة لأجل هذا الاحتمال لا على الوجوب لأن الأصل بقاؤها على الامتناع إلى أن يتيقن منها الطاعة صريحاً .
تذنيب : ذكر الأصحاب أن الأمة الموقوفة بزوجها الحاكم ، قال الماوردي : هذا إذا لم يكن للوقف ناظر خاص ، فإن كان له ناظر خاص فهو الذي يزوج ، قال ابن العماد في توقيف الحكام على غوامض الأحكام : وقد اغتر صاحب المهمات بمقالة الماوردي فجعلها تقييداً لإطلاقهم وأخطأ في ذلك ، فإن الماوردي بنى جوابه في المسألة على أن ولاية التزويج تابعة لولاية المال وهو وجه ضعيف والأكثرون على خلافه ، والرافعي نقل هنا عن الأكثرين أن الحاكم يزوج انتهى ، وهذا نظير ما نحن فيه من أن الماوردي بنى جوابه في هذه المسألة على اختياره أنه لا يخلو استمتاع بزوجة من استحقاق نفقة حتى إنه أوجب للأمة المسلمة ليلاً لا نهاراً شطر النفقة وهو خلاف المصحح في المذهب وقول الجمهور فلا يغترن أحد بذلك ويجعله تقييداً لإطلاق الأصحاب فتأنس بذلك .
تأكيد : وقد اختار الماوردي أيضاً وجوب النفقة في مسائل على خلاف ما رجحه الأكثرون ، والشيخان ، قال ابن الرفعة في الكفاية : لو سافرت بأذنه في حاجتها ولم يكن معها فقولان : أحدهما لا تسقط النفقة لأنها سافرت بالإذن وهذا أظهر عند الماوردي وأظهرهما عند أكثر الأصحاب أنها تسقط لأنها غير ممكنة ، وبه قطع بعضهم ، وقال ابن الرفعة أيضاً ؛ لو صامت تطوعاً سقطت نفقتها وفي وجه لا تسقط ، وقال الماوردي : إن لم يدعها إلى الخروج بالاستمتاع فهي على حقها ، وإن دعاها فأبت فإن كان ذلك في أول النهار سقطت نفقتها وإن كان في آخره فلا لقرب الزمان .
قال ابن الرفعة : ويفهم من كلامه أنه لودعاها إلى الخروج بغير الاستمتاع فلم تفعل كانت على حقها ، وهذا وجه ثالث حكاه في العدة ، قال الرافعي : وقد استحسن الروياني هذا التفصيل والأكثرون سكتوا عنه انتهى .(1/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
فانظر : إلى هذين الفرعين كيف قال الماوردي فيهما بوجوب النفقة على خلاف ما عليه الأكثرون مشياً على أصله في أنه لا تخلو زوجة عن نفقة ، وانظر إلى الرافعي كيف لم يعتبر تفصيله في الفرع الثاني ولا قيد به إطلاق الأصحاب بل نبه على أن الأكثرين سكتوا عنه ، وهكذا المسألة التي نحن فيها أطلق الأصحاب فيها عدم وجوب النفقة ولم يقيدوه بما إذا استمتع ، ولم أر هذا القيد إلا في كلام الماوردي وحده جرياً على ما اختاره في مسألة الأمة وغيرها من وجوب النفقة على خلاف قول الأكثرين فتفطن إن كنت من أهل الفطنة وإلا فخل الهوى لرجاله ، ومما يؤيد أن هذا التخصيص الذي قاله الماوردي ليس بمعتمد أن الرافعي لم يعول على ذكره بل أطلق المسألة كما أطلقها سائر الأصحاب ، وكذا ابن الرفعة في الكفاية لم ينبه عليه أصلاً مع حرصه على تتبع ما أغفله الرافعي من القيود والتخصيصات وغير ذلك ، وما ذاك إلا لأنه رآه مفرعاً على طريقة مرجوحة فأعرض عن التشاغل به .
وإذ قد انتهى القول فيما أوردناه فلنلخص الكلام في المسألة فنقول : إذا سكن الزوج في بيت زوجته أو عند أهلها فله أحوال .
أحدها : أن يكون هو الطالب لذلك والمرأة أو أهلها كارهون لذلك مريدون منه أن ينقل زوجته إلى مكان يستأجره فهذا عليه النفقة وأجرة المنزل كما هو واضح ، وفي المحيط من كتب الحنفية أنها إذا منعته من الدخول في منزلها وقد سألته أن يحولها إلى منزله لا تكون ناشزة وتستحق النفقة وهو واضح .
الحال الثاني : أن تعرض المرأة أو أهلها ذلك عليه عرضاً من غير امتناع من النقلة معه فيرضى بذلك فهذا أيضاً لا يسقط النفقة لأنها بحيث لو طلب منها النقلة إلى منزله لأجابت ، وهذه الصورة بعينها مصرح بها في الكفاية لسليم الرازي ومأخوذة من عبارة الروضة ، وهل عليه في هذه الحالة أجرة المنزل ؟ ينظر ، فإن صرح بعقد إجارة لزمته الأجرة أو صرح بإباحة السكنى له لم تلزمه ، وإن سكت ففيه احتمالان عندي ، ثم رأيت ابن العماد جزم توقيف الحكام بأن عليه الأجرة لمدة مقامه معها قال : لأنه لا ينسب إلى ساكت قول ولأن عدم المنع أعم من الإذن فإن أذنت فلا أجرة لمدة سكت انتهى .
الحال الثالث : أن يطلب الزوج تحويلها إلى منزله وتمتنع هي من ذلك وتقول : لا أسلم إلا في منزلي فيأتي إلى منزلها ويستمتع بها فيه ليلاً ونهاراً ، وهذه الصورة هي محل الكلام ، فالمفهوم من كلام الروضة والشرح والتتمة وسائر كتب الأصحاب أنه لا نفقة لها في هذه الحالة إلا ما وقع في كلام الماوردي ، وقد علمت أنه مفرع على طريقة مرجوحة وأنه لم يوجب لها النفقة مطلقاً بل نفقة زمن الاستمتاع خاصة دون الأيام التي لم يستمتع بها أو غاب عنها على خلاف ما لو كانت في منزله والله أعلم .(1/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
- تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء
أما بعد حمد الله غافر الزلات ، ومقيل العثرات . والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنزل عليه في كتابه العزيز ) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( وعلى آله وصحبه النجوم النيرات . فهذا جزء سميته تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء والسبب في تأليفه أنه وقع أن رجلاً خاصم رجلاً فوقع بينهما سب كثير فقذف أحدهما عرض الآخر فنسبه الآخر إلى رعي المعزى فقال له ذاك : تنسبني إلى رعي المعزى ؟ فقال له والد القائل : الأنبياء رعوا المعزى أو ما من نبي إلا رعي المعزى ، وذلك بسوق الغزل بجوار الجامع الطولوني بحضرة جمع كثير من العوام ، فترافعوا إلى الحكام فبلغ الخبر قاضي القضاة المالكي فقال : لو رفع إلى ضربته بالسياط ، فسئلت ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء مستدلاً بهم في هذا المقام ؟ فأجبت بأن هذا المستدل يعزر التعزير البليغ لأن مقام الأنبياء أجل من أن يضرب مثلاً لآحاد الناس ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك ، فبلغني بعد ذلك أنه الشيخ شمس الدين الحمصاني إمام الجامع الطولوني وشيخ القراء وهو رجل صالح في اعتقاده ، فقلت مثل هذا الرجل تقال عثرته وتغفر زلته ولا يعزر لهفوة صدرت منه ، وكتبت ثانياً بذلك فبلغني أن رجلاً استنكر مني هذا الكلام وقال : إن هذا القائل لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام ، وإن ذلك من المباح المطلق لا ذنب ولا أثام ، واستفتى على ذلك من لم تبلغه واقعة الحال فخرجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام ، ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة فيؤديهم إلى أن يمرقوا من دين الإسلام ، فوضعت هذا الكراسة نصحاً للدين وإرشاداً للمسلمين والسلام .
ولنبدأ بالفصل الذي ذكره القاضي عياض في الشفا في تقرير ذلك ، فإنه جمع فيه فأوعى وحرر فأستوفى قال : فصل الوجه الخامس أن لا يقصد نقصاً ولا يذكر عيباً ولا سباً ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره ، أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل والتنذير بقوله : كقول القائل إن قيل : في السوء فقد قيل في النبي ، أو إن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله ، أو(1/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
قد صبرت كما صبر أو لو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله على عداه وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول المتنبي :
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كقول المعري :
كنت موسى وافته بنت شعيب
غير أن ليس فيكما من فقير
على أن آخر البيت شديد وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي عليه الصلاة والسلام وتفضيل حال غيره عليه ، وكذلك قوله :
لولا انقطاع الوحي بعد محمد
قلنا محمد من أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه
لم يأته برسالة جبريل
فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلّم في فضله بالنبي صلى الله عليه وسلّموالعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر استغناؤه عنها وهذه أشد ، ونحو منه قول الآخر :
وإذا ما رفعت راياته
صفقت بين جناحي جبرئيل
وقول الأخر من أهل العصر :
فر من الخلد واستجار بنا
فصبر الله قلب رضوان
وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون :
كأن أبا بكر أبو بكر الرضا
وحسان حسان وأنت محمد
إلى أمثال هذا ، وإنما كثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك واستخفافهم فادح هذا العبء وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر وكلامهم فيه بما ليس لهم به علم ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم لا سيما الشعراء وأشدهم فيه تصريحاً وللسانه تسريحاً ابن هانىء الأندلسي ، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حد الإستخفاف والنقص وصريح الكفر وقد أجبنا عنه ، وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سباً ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصاً ولست أعني عجزي بيتي المعري ولا قصد قائلها إزراءاً وغضاً ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزر حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة ، حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره والزم توقيره وبره ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده ، فحق هذا إن درىء عنه(1/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
القتل الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله و ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم
فإن عصا موسى بكف خصيب
وقال له : يا ابن اللخناء أنت المستهزىء بعصا موسى وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته إلى أن قال : فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه من طريق الفتيا ، على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله ، وأصحابه ، ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم في رجل عير رجلاً بالفقر فقال : تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلّم الغنم ، فقال مالك : قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلّم في غير موضعه أرى أن يؤدب ، قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا ، وقال عمر بن عبد العزيز لرجل : أنظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً ، فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافراً ، فقال : جعلت هذا مثلاً فعزله وقال : لا تكتب لي أبداً ، وقد كره سحنون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلّم عند التعجب إلا على طريق الثواب والإحتساب توقيراً له وتعظيماً كما أمرنا الله ، وسئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح : كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء وإن قصد ذم الملك قتل ، وقال أيضاً في شاب معروف بالخير قال : لرجل شيئاً فقال له الرجل : أسكت فإنك أمي ، فقال الشاب : أليس كان النبي صلى الله عليه وسلّم أمياً ؟ فشنع عليه مقاله وكفره الناس وأشفق الشاب مما قال وأظهر الندم عليه فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ لكنه مخطىء في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلّم وكون النبي أمياً آية له وكون هذا أمياً نقيصة [ فيه ] وجهالة ، ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلّم لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل وما طريقة الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه ، ونزلت أيضاً مسألة استفتي فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور رحمه الله في رجل تنقصه آخر بشيء فقال له : إنما تريد نقصي بقولك وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه إذ لم يقصد السب ، وكان بعض الفقهاء بالأندلس أفتى بقتله هذا كله كلام القاضي عياض في الشفا ويفطن لقوله في أول الفصل على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره كيف سوى في الحكم بين ضارب المثل والمحتج ، والمحتج هو المستدل ومراده المستدل في الخصومات والتبري من المعرات ، وكذلك قوله : ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله فإن الاستشهاد بمعنى الاستدلال ، وكذلك قوله في آخر الفصل : لكنه مخطىء في استشهاده ، بصفة النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقوله ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلّم فهذه المواضع كلها صريحة في تخطئة المستدل في مثل هذا المقام ووجوب(1/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
تأديبه ، وإنما نبهت على هذا لأنه أنكر على ذكر لفظ المستدل في الإفتاء وليس بمنكر ، فإن المستدل تارة يكون في مقام التدريس والإفتاء والتصنيف وتقرير العلم بحضرة أهله وهذا لا أنكار عليه كما سيأتي ، وتارة يكون في الخصام والتبري من معرة أو نقص ينسب إليها هو أو غيره وهذا محل الإنكار والتأديب لا سيما إذا كان بحضرة العوام وفي الأسواق ، وفي التعارض بالسب والقذف ونحو ذلك ، ولكل مقام مقال ، ولكل محل حكم يناسبه ، وكذلك الأثر الذي أشار إليه القاضي عن كاتب عمر بن عبد العزيز فإنه ما قصد بما ذكره إلا الاحتجاج على أنه لا ينقصه كفر أبيه والاستدلال عليه ومع ذلك أنكره عليه عمر وصرفه عن عمله ، أخبرني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين ابن شيخ الإسلام سراج الدين اللقيني الشافعي رحمه الله إجازة عن أبيه شيخ الإسلام : أن الشيخ تقي الدين السبكي أخبره عن الحافظ شرف الدين الدمياطي ، أنا الحافظ يوسف بن خليل ، أنا أبو المكارم اللبان ، أنا أبو علي الحداد ، أنا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسن الحذاء ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : سمعت بعض شيوخنا يذكر أن عمر بن عبد العزيز أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلماً وكان أبوه كافراً ، فقال عمر الذي جاء به : لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين ، فقال الكاتب : ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلّم كفر أبيه ، فقال عمر : وقد جعلته مثلاً لا تخط بين يدي بقلم أبداً هكذا أخرجه في الحلية ، فالكاتب قصد بهذا الكلام الاحتجاج والاستدلال على نفي النقص عنه ، وقد قال عمر في الرد عليه : إنه جعله مثلاً ، فعلم أن المستدل لا منافاة بينه وبين ضارب المثل ، والجامع بينهما أن ضرب المثل يراد للاستشهاد كما أن الاستدلال كذلك ، فبهذا القدر المشترك يصح إطلاق المستدل على ضارب المثل وعكسه ، ومن له إلمام بالأحاديث والآثار وكلام المتقدمين لا يستنكر ذلك فإنهم كثيراً ما يطلقون ضرب المثل على الحجة ، ولهذا سوى بينهما القاضي عياض حيث قال على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره .
ومما أطلق الأولون : ضرب المثل على الحجة ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن أبى سلمة أن أبا هريرة قال لرجل : يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثاً فلا تضرب له الأمثال ، وكان عارضه بقياس من الرأي كما في بعض طرق الحديث عند الهروي في ذم الكلام أي فلا تقابله بحجة من رأيك ، فأطلق أبو هريرة على الحجة والاستدلال ضرب المثل ، واللغة أيضاً تشهد لذلك قال في الصحاح : ضرب مثلاً وصف وبين ، وقال ابن الأثير في النهاية : ضرب الأمثال اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به ، وإنما حكمت في الإفتاء على لفظ المستدل وعللته بضرب المثل لأعرف أن المستدل الذي حكمت عليه هو المحتج بضرب ذلك مثلاً للغير لا المستدل في الدرس والتصنيف ومذاكرة العلم بين أهله فإن ذلك لا يسمى في عرف العلماء ضرب مثل . وقصدت أيضاً الاقتداء بالخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز(1/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
في لفظه ، وقد وجدت للقصة طريقاً آخر قال الهروي في ذم الكلام : أنا أبو يعقوب أن أبو بكر بن أبى الفضل أنا أحمد بن محمد بن يونس ثنا عثمان بن سعيد ثنا يونس العسقلاني ثنا ضمرة ثنا علي بن أبي جميلة قال : قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد : بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق قال : هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلّم كافراً فما ضر ، فغضب عمر غضباً شديداً وقال : ما وجدت له مثلاً غير النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ قال : فعزله عن الدواوين .
ومما وقع في عبارة العلماء من إطلاق ضرب المثل على الاستدلال ما وقع في عبارة ابن الصلاح في جزئه الذي ألفه في صلاة الرغائب حيث ذكر إنكار الشيخ عز الدين بن عبد السلام لها وقال : إنه ضرب له المثل بقوله : ) أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى ( .
وأما الفصل السابع من الشفا الذي قال المعترض : إن المسألة فيه فنذكره ليعلم من علم واقعة الحال أنه غير مطابق لها ، قال القاضي عياض : الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلّم أو يختلف في جوازه عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية له ، ويمكن إضافتها إليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته وما لقيه من بؤس زمنه ومر عليه من معاناة عيشته كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت عنه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم فهذا فن خارج عن [ هذه ] الفنون الستة إذ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحقق فوائده ، ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه أو يخشى به فتنته ، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن .
هذا كلام القاضي في الفصل السابع فانظر كيف فرض المسألة في رواية الحديث ومذاكرة العلم ثم لم يطلق ذلك ، بل قيده بأن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء الطلبة ، وهذه الواقعة لم تكن في مذاكرة العلم ولم يحضرها طالب علم البتة ، بل كانت في السباب والخصام في سوق الغزل بحضرة جمع من التجار والدلالين والسوقة وكلهم عوام وأكثرهم سفهاء الألسنة يطلقون ألسنتهم في كثير من الأمور بما يوجب سفك دمائهم ولا يعلمون عاقبة ذلك ، فيقال لمن أنكر ما أفتيت به إن لم تعرف عين الواقعة فأنت معذور ، وقولك لا تعزير ولا عثرة إن أردت فيما وقع في مجلس الدرس ومذاكرة العلم بين أهله فمسلم وليس هو صورة الواقعة ، وإن أردت ما وقع في السوق بالصفة المشروحة فمعاذ الله وحاشى المفتين أن يقولوا ذلك ، وبعد هذا كله فلست أقصد بذلك غضاً من القائل ولا حطاً عليه ، فإني أعتقد دينه وخيره وصلاحه ، وإنما هي بادرة بدرت وزلة فرطت وعثرة وقعت فليستغفر الله منها ويتوب إليه ويندم على ما وقع منه ولا يعود ، ولا يقدح ذلك في صلاحه(1/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
فإن الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في قواعده : من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل ، وقال : إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها ، ونص الشافعي رضي الله عنه على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث ، وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيترك ، وفسرهم بعض الأصحاب أنهم أصحاب الصغائردون الكبائر وفسرهم بعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا ، والأحاديث الواردة في إقالة ذوي الهيئات عثراتهم كثيرة ، أخرج أحمد في مسنده ، والبخاري في الأدب ، وأبو داود ، والنسائي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ) وأخرجه النسائي من وجه آخر بلفظ : ( تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة ) ، وأخرجه باللفظ الأول الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود ، وابن عدي في الكامل من حديث أنس ، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث زيد بن ثابت بلفظ : ( تجافوا عن عقوبة ذي المروءة إلا في حد من حدود الله ) ، وأخرجه في المعجم الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ : ( تجافوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر ) ، وأخرجه بهذا اللفظ من حديث ابن مسعود الطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية ، وقال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه طريق المعدلة في قتل من لاوارث له : قول الأصحاب أن من قتل قتيلاً لا وارث له فللسلطان الخبرة بين أن يقتص منه أو يعفو عن الدية وليس له العفو مجاناً كأنهم ذكروه على الغالب ، وقد يظهر للإمام من المصلحة ما يقتضي العفو عنه مجاناً إذا كان لا مال له ولا يقدر على الكسب وفيه صلاح وخير ونفع للمسلمين ، ولكن فرطت منه تلك البادرة فقتل بها وظهرت توبته وحسنت طريقته ، فالقول بأن هذا لا يجوز للإمام العفو عنه بعيد لا سيما إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى ذلك القدر الذي يؤخذ منه . فالرأي عندي أن يكون ذلك مفوضاً إلى رأي الإمام ، والإمام يجب عليه فيما بينه وبين الله أن لا يختار إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ، ولا يقدم على سفك دم مسلم بمجرد ما يقال له إن هذا جائز فجوازه منوط بظهور المصلحة فيه للمسلمين ولإقامة الدين لا لحظ نفسه ولا لغرض من أغراض الدنيا ، وحيث شك في ذلك يتعين الكف عن الدم وتبقية ذلك الشخص لأنه نفس معصومة إلا بحقها ، فمتى قتلها من غير مرجح أخشى عليه أن يدخل فيمن قتلها بغير حقها ، انتهى كلام السبكي ، فإذا جوز السبكي العفو عمن فيه صلاح وخير ونفع للمسلمين من القتل قصاصاً مجاناً بلا دية فمن تعزير زلة فرطت منه من باب أولى ، وهذا لا شبهة فيه .
عود لبدء : قال ابن السبكي في كتابه الترشيح : قال الشافعي رضي الله عنه في بعض نصوصه : وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة لها شرف فكلم فيها فقال : ( لو سرقت فلانة : لامرأة(1/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
شريفة لقطعت يدها ) قال ابن السبكي : فانظر إلى قوله فلانة ولم يبح باسم فاطمة تأدباً معها رضي الله عنها أن يذكرها في هذا المعرض وإن كان أبوها صلى الله عليه وسلّم قد ذكرها لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلّم حسن دال على أن الخلق عنده في الشرع سواء انتهى . فهذا من صنع الشافعي ثم من تقرير السبكي أصل في هذه المسألة ونقل من حيث مذهبنا ، فقوله : تأدباً يدل على أن ضده خلاف الأدب ، وقوله : لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلّم حسن يدل على أنه من غيره قبيح ، هذا مع كون الشافعي رضي الله عنه إنما ساق الحديث مساق الاحتجاج على المسائل الشرعية ، ومساق تقرير العلم في التصنيف الذي لا يقف عليه إلا أهله بل لو صرح بالاسم في مثل هذا المحل لم يكن فيه شيء ، وأمر آخر أن النقص المذكور واقع في حيز ( لو ) منفي عنها لا مثبت لها ، وإنما ذكر على سبيل الفرض الذي لا سبيل إلى وقوعه فكيف يظن بالشافعي أنه يخالف ما قرره المالكية في المسألة التي نحن فيها ؟ وإنما ذكرت هذا الكلام لأن قائلاً قال : هذا الذي أفتيت به مذهب المالكية وليس بمنصوص في مذهبك ، وكذا يقع لأهل العصر كثيراً يدعون علينا في فتاوي كثيرة أنها مخالفة للمذهب بمجرد كونها غير منصوصة لا بنفي ولا بإثبات كما وقع لنا في العام الماضي حين أفتينا بهدم الدار التي بنيت برسم الفساد فإدعوا أن ذلك خلاف المذهب بمجرد كون الأصحاب لم ينصوا عليها ، على أن الغزالي وغيره أشارو إليها كما بيناه في التأليف الذي ألفناه فيها ، ثم نقول في هذه وغيرها قولهم ما أفتيت به خلاف المذهب مستدلين على ذلك بعدم وجود المسألة منصوصاً عليها معارض بأنا نقول لهم ما أفتيتم أنتم به أيضاً خلاف المذهب لأن المسألة غير منصوص عليها ، فكما استندتم إلى العدم في نسبة الخلاف إلي استندت إلى العدم في نسبته إليكم فإن الإثبات والنفي كلاهما حكم شرعي يحتاج إلى دليل أو نقل . فإن قالوا : أخذناه من القواعد . قلت : وأنا أيضاً أخذت من القواعد ، وعلى بيان ذلك لمن يريد الإنصاف فمن قال : التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب لأن الأصحاب لم ينصوا عليها أقول له : فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى تقدم على القول به وتنسبه إلى مذهب الشافعي ، وكذلك من قال القول : بهدم الدار الموصوفة بالصفات التي شرحتها في تأليفها خلاف المذهب لأنه لم ينص عليها أقول له : فهل نصوا على أنها لا تهدم حتى استندت إليه ؟ وإذا حصل الاستواء في الجانبين من حيث عدم النص وجدت النقول في المذاهب بأحدهما والأدلة ثابتة عليه من الأحاديث والآثار وجب الوقوف عنده وعدم التجاوز إلى الجانب الآخر إذا لم يكن في قواعد مذهبنا ما يخالفه ، وقد وقع في فتاوي ابن الصلاح أنه سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب فأفتى فيها بالمنصوص في مذهب أبي حنيفة وبين ذلك وقرر النووي في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري وقال : إنه ليس في قواعدنا ما ينفيه ، وسئل البلقيني عن مسألة فقال : لا نقل فيها عندنا وأجاب فيها بما ذكره القاضي عياض في المدارك ، وذكر بعض الأصحاب مسألة لا نقل فيها عندنا وأفتى فيها(1/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
بالمنقول في مذهب الحنابلة ، وذكر الزركشي في الخادم مسألة مسح الخف للمحرم وقال : لا نقل فيها ، وأجاب بالمنقول في مذهب المالكية في أشياء كثيرة لا تحصى وقد استوعبتها في كتابي الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع ، ومسألة الهدم نص عليها أئمة المذاهب الثلاثة وأشار إليها الغزالي ، وطائفة ، وثبتت فيها الأحاديث الصحيحة والآثار الكثيرة عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وابن مسعود ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم سلفاً وخلفاً قولاً وفعلاً ، ولا نص في مذهبنا يخالف ذلك إلا قولهم أنه لا تعزير بإتلاف المال ، وهذه القاعدة مخصوصة ليست على عمومها بدليل قولهم : إنه لا يكسر آنية الخمر والأواني المثمنة إذا كان فيها صورة إلى غير ذلك ، فعلم أن القاعدة مخصوصة بما لم يتعين إتلافه طريقاً لإزالة الفساد ، وتقرير ذلك بإيضاحه يستدعي طولاً وقد بسطته في التأليف المشار إليه ، وكذلك نقول في هذه المسألة : قد نص أئمة المالكية على التعزير فيها ولم ينص أصحابنا على خلافه ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه فوجب الوقوف عنده والعمل به ، وهذا النص الذي أوردناه عن الشافعي رضي الله عنه يصلح أصلاً في المسألة ، وتقرير السبكي له وإيضاحه زاده بياناً وحسناً ، وسأتتبع ذلك من نصوص الشافعي ، والأصحاب في كتبهم في الفقه وشروحهم للحديث ما أراه مقوياً لذلك فاذكره .
فصل : قال الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة في باب الردة في كتب أصحاب أبي حنيفة اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر ، وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه فنذكر ما يحضرنا في كتبهم ، ثم سردها الرافعي وتبعه في الروضة وتعقبا جملة منها ، ثم قال الرافعي وتبعه في الروضة بعد الفراغ من سردها : وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة من كلام الناس وأجابوا فيها اتفاقاً واختلافاً بما ذكر ، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء وقد بين ذلك ، فهذا من الشيخين صريح فيما قررناه من الفتوى بما نص عليه في المذاهب بقية الأئمة فيما لا نص فيه عندنا ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه ، ثم قال النووي في الروضة : من زوائده عقب ذلك . قلت : قد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفا جملة من الألفاظ المكفرة غير ما سبق نقلها عن الأئمة أكثرها مجمع عليه ، ولخص ما في الشفا من ذلك فهذا من النووي عين ما جنحنا إليه بل هو نص صريح في مسألتنا هذه بعينها ، وقال في الروضة تبعاً للرافعي فيما نقله عن كتب أصحاب أبي حنيفة واختلفوا فيمن قال : رؤيتي إليك كرؤية ملك الموت وأكثرهم على أنه لا يكفر . زاد النووي قلت : الصواب إنه لا يكفر ، وهذه إحدى الصور التي ساقها القاضي عياض في الفصل الخامس ، فإذا كان فيها قول بالتكفير فلا أقل من التعزير إذا لم يكفر .
فصل : قال سعيد بن منصور في سننه : ثنا هشيم ثنا مغيرة عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون أن يتناولوا من القرآن عندما يعرض من أحاديث الدنيا قيل لهشيم نحو قوله : ) جئت(1/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
على قدر يا موسى ( قال : نعم ، وقد صرح العماد الينهي من أصحابنا بهذا الحكم فقال : بمنع ضرب الأمثال من القرآن نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته والينهي هذا من تلامذة البغوي وهذا شاهد لما نحن فيه ، فكما أن الأدب أن لا يضرب كلمات القرآن مثلاً لواقعة دنيوية فكذلك الأدب أن لا تضرب أحوال الأنبياء مثلاً لحال غيرهم .
فصل : وسئل شيخ الإسلام ، والحافظ قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر بما نصه : ما قول أئمة الدين في هذه الموالد التي يصنعها الناس محبة في النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ غير أن بعض الوعاظ يذكرون في مجالسهم الحفلة المشتملة على الخاص والعام من الرجال والنساء ما جريات هي مخلة بكمال التعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن ورقة فيبقى في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم ، من ذلك أنهم يقولون : إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله إلا حليمة رغبت في رضاعه شفقة عليه ، ويقولون : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يرعى غنماً وينشدون :
بأغنامه سار الحبيب إلى المرعى
فيا حبذا راع فؤادي له يرعى
وفيه : فما أحسن الأغنام وهو يسوقها . وكثير من هذا المعنى المخل بالتعظيم فما قولكم في ذلك ؟ .
فأجاب بما نصه : ينبغي لمن يكون فطناً أن يحذف من الخبر ما يوهم في المخبر عنه نقصاً ولا يضره ذلك بل يجب هذا جوابه بحروفه .
فصل : ومما يدخل في هذا الباب ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن مطرف قال : ليعظم جلال الله في صدوركم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب : اللهم أخزه وللحمار وللشاة .
فصل : قال السهيلي في الروض الأنف بعد أن أورد حديث إن أبي وأباك في النار ما نصه : وليس لنا أن نقول نحن هذا في أبويه صلى الله عليه وسلّم لقوله صلى الله عليه وسلّم : ( لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات ) والله تعالى يقول : ) إن الذين يؤذون الله ورسوله ( الآية .
فصل : رعي الغنم لم يكن صفة نقص في الزمن الأول لكن حدث العرف بخلافه ولا يستنكر ذلك فرب حرفة هي نقص في زمان دون زمان وفي بلددون بلد ، ويشهد لذلك كلام الفقهاء في الكفاءة في النكاح وفي المروءة في الشهادات ، والمسألة مسطورة حتى في المنهاج ثم إن الخصم لم يخرج هذه الكلمة إلا مخرج الشتم والتنقيص حيث قال : وأنت يا راعي المعزى صار لك كلام ، ومثل هذا الموطن لا يحتج فيه بأحوال الأنبياء أبداً خصوصاً بين العوام ، هذا لا يقوله من يعلم أنه يلقي الله تعالى . وقد تذكرت هنا نكتة لطيفة : قال الشيخ تاج الدين ابن السبكي في الترشيح : كنت يوماً في دهليز دارنا في جماعة فمر بنا كلب يقطر ماء يكاد يمس ثيابنا فنهرته وقلت يا كلب يا ابن الكلب وإذا بالشيخ الإمام يعني والده الشيخ تقي الدين السبكي يسمعنا من داخل فلما خرج قال : لم شتمته ؟(1/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
فقلت : ما قلت إلا حقاً أليس هو بكلب ابن كلب ؟ فقال : هو كذلك إلا أنك أخرجت الكلام في مخرج الشتم والإهانة ولا ينبغي ذلك ، فقلت : هذه فائدة لا ينادي مخلوق بصفته إذا لم يخرج الإهانة هذا لفظة في الترشيح .
فصل : المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس ، وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله ، ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء والحق للأنبياء ، وقد ذكر السبكي أن تارك الصلاة يخاصمه كل صالح لأن لكل صالح في الصلاة حقاً حيث فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وكذلك المدلس في هذه المسألة يخاصمه كل الأنبياء يوم القيامة وعدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، وقد قيل ليحي بن معين : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله ؟ فقال : لأن يكونوا خصماء لي أحب إلي من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم خصمي يقول لي : لم لم تذب الكذب عن حديثي ، وكذلك أقول : لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إلي من أن يخاصمني نبي واحد فضلاً عن جميع الأنبياء [ والله أعلم ] .
مسألة : رجل حكم بحكم فأنكره عليه قضاة بلده فقال له سلطان البلد : ارجع عن هذا الحكم فإنه لم يوافقك عليه أحد فأبى وحلف أنه لا يرجع لقول أحد ولو قام الجناب العالي عليه الصلاة والسلام من قبره ما سمعت له حتى يريني النص فهل يكفر بهذا ؟ ثم قال بعد مدة : لو سبني نبي مرسل أو ملك مقرب لسببته ، وصار يفتي العامة والسوقة بجواز هذا .
الجواب : أما قوله الأول وهو قوله : لا يرجع لأحد ولو قام صلى الله عليه وسلّم من قبره ماسمع له حتى يريه النص فهذا له ثلاثة أحوال :
الأول : أن يكون هذا صدر منه على وجه سبق اللسان وعدم القصد وهذا هو الظن بالمسلم واللائق بحاله ، ولعله أراد مثلاً أن يقول ولو قام مالك من قبره فسبق لسانه إلى الجناب الرفيع لحدة حصلت عنده فهذا لا يكفر ولا يعزر إذا عرف بالخير قبل ذلك ويقبل منه دعوى سبق اللسان ، ولا يكتفي منه في خاصة نفسه بذلك بل عليه أن يظهر الندم على ذلك وينادي على نفسه في الملأ بالخطأ ويبالغ في التوبة والاستغفار ويحثو التراب على رأسه ويكثر من الصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والاستقالة من هذه العثرة .
الحال الثاني : أن لا يكون على وجه سبق اللسان ولا على وجه الإعتقاد الذي يذكره المصمم فيقول مثلاً : لو أمرني الإنس والجن بهذا ما سمعت لهم ، ولو روجع في خاصة نفسه لقال ماأردت ظاهر العبارة ولو قام النبي صلى الله عليه وسلّم من قبره حقيقة وقال لي لبادرت إلى امتثال قوله وسمعت من غير تلعثم ولا توقف ، ولكن هذه عبارة قلتها على وجه المبالغة لعلمي بأن قيامه الآن من قبره وقوله لي غير كائن وهو محال عادة فهذا لا يكفر ، ولكنه أتى بعظيم من القول فيعزل من الحكم بين المسلمين ويعزر تعزيراً لائقاً به من غير أن ينتهي إلى حد القتل .
الحال الثالث : أن يكون على وجه الإعتقاد بحيث يعتقد في نفسه أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلّم(1/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
حياً وقال له الحكم بخلاف ما حكمت لم يسمع له وهذا كفر نعوذ بالله منه قال الله تعالى : ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ( وقال تعالى : ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ( وقصة الذي حكم له النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرض بحكمه وجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحكم له فقتله عمر بالسيف مشهورة ، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلّم دمه ، والعجب من قوله : ما سمعت له حتى يريني النص وقوله صلى الله عليه وسلّم نفسه : هو النص فأي نص يريه بعد قوله ، والظن بالمسلم إنه لا يقول ذلك عن اعتقاد والله أعلم .
وأما قوله الثاني : فمن أخطأ الخطأ وأقبحه وأشد من قول هذه المقالة في السوء الإفتاء بإباحتها فأما أصل المقالة وهو أن يقول قائل : لو سبني نبي أو ملك لسببته ، فالجواب فيها كما قال ابن رشد ، وابن الحاج : أنه يعزر على ذلك التعزير البليغ بالضرب والحبس ، وأما إباحته للناس أن يقولوا ذلك فمرتبة أخرى فوق ذلك في السوء لأنه إغراء للعامة على ارتكاب الحرام واستحلاله وغض من منصب الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، وكيف يتصور أن يباح هذا لأحد والأنبياء عليهم السلام معصومون فلا يسبون إلا من أمر الشرع بسبه ، ومن سب بالشرع لم يجز له أن يسب سابة فالمسألة مستحيلة من أصلها ، فالجواب ردع هذا الرجل وزجره وهجره في الله وعليه التوبة والانابة والإقلاع .
باب الجهاد
مسألة : في الرمي بالنشاب على نية الجهاد في سبيل الله هل هو واجب لمطلق الأمر في قوله تعالى : ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( والقوة مفسرة من النبي صلى الله عليه وسلّم بالرمى أم لا ؟ وإذا لم يكن واجباً فهل الصارف عن ذلك قول من قال من الصحابة الآية منسوخة ؟ وإذا قلتم بسنيته فهل ذلك من باب أن الأمر بالوجوب إذا انتفى بطريق ما يبقى الندب أو قطع النظر عن الآية بالكلية لدعوى نسخها وأخذت السنية من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ .
الجواب : نقول مذهبنا أن الرمي بالنشاب على نية التأهب للجهاد سنة لا واجب ولا مباح مستوى الطرفين هكذا نص عليه الأصحاب ، وإذا نظرنا إلى مقتضى الأدلة من الآية والأحاديث وجدناها تدل على ذلك ولا تتعداه ، وبيان ذلك أن نقول : الأمر في الآية الكريمة له أربعة احتمالات .
أحدها : أن تكون للإرشاد كما في قوله تعالى : ) وأشهدوا إذا تبايعتم ( وهذا الاحتمال ضعيف لكثرة الأحاديث الواردة في الترغيب في الرمي وترتيب الثواب عليه ، ومثل ذلك لا يكون إلا فيما أمر به على وجه الندب أو الوجوب لا على وجه الإرشاد كحديث : ( تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة ) . وحديث : ( الرمي سهم من سهام الإسلام ) .(1/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
الثاني : أن يكون للندب وهو المدعى لأنه في صيغة الأمر أظهر من الإرشاد فيها ، وإذا انتفى الوجوب بالطريق الآتي بقي الندب لأنه القدر المتيقن من صيغة الطلب ولا نافي له بل الأحاديث الآمرة والمرغبة مثبتة له .
الثالث : أن يكون للوجوب ولا شك أنه بعيد من لفظ الآية لأن صيغة الأمر لم تنصب عليه بخصوصه إنما انصبت على المستطاع من قوة الصادق بالرمي وبغيره كما هو مدلول لفظ ( ما ) التي موضوعها العموم لغة وشرعاً ، وكما ورد بذلك التفسير عن الصحابة ، والتابعين ، أخرج ابن مردويه في تفسيره وأبو الشيخ بن حيان في كتاب السبق والرمي من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( قال : الرمي والسيوف والسلاح ، وأخرج أبو الشيخ عن مخلد بن يزيد قال : سألت الأوزاعي عن قوله تعالى : ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( قال : القوة سهم فما فوقه . وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق عباد بن جويرية عن الأوزاعي قال : سألت الزهري عن قوله تعالى : ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( قال : قال سعيد بن المسيب قال : القوة الفرس إلى السهم فما دونه . وأخرج عن مقاتل بن حيان قال : القوة السلاح وما سواه من قوة الجهاد . وأخرج عن عكرمة قال : القوة الحصون . وأخرج عن مجاهد قال : القوة ذكور الخيل . وأخرج عن رجاء بن أبي سلمة قال : لقي رجل مجاهد وهو يتجهز إلى الغزو ومعه جوالق فقال مجاهد : وهذا من القوة ، فهذه أقوال الصحابة ، والتابعين صريحة في أن المراد من الآية ماهو أعم من الرمي وغيره . وأما الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلّم : ( ألا إن القوة الرمي ) فليس المراد منه حصر مدلول الآية فيه بل المراد أنه معظم القوة وأعظم أنواعها تأثيراً ونفعاً على حد قوله : ( الحج عرفة ) ، أي معظم أعمال الحج وليس المراد أنه لا ركن للحج سواه كما هو معروف ، وقد فهم هذا الفهم مكحول من التابعين فقال في تفسير الآية : الرمي من القوة ، أخرجه ابن المنذر في تفسيره ، وإذا تقرر ذلك كان القول بوجوب الرمي أخذاً من الأمر في الآية لا على معنى أنه واجب بعينه بل من باب إيجاب شيء لا بعينه كما قال الفقهاء في خائف العنت : أنه يجب عليه التعفف ، ولا يقال : إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب بعينه بل على معنى أن السعي في الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري ، فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه ، وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل إنه سنة ولهذا أطلق أصحاب المختصرات قولهم : النكاح سنة لمحتاج إليه يجد أهبته ، وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ويدفع به العدو إما الرمي أو غيره ، وإذا حكم على الرمي بعينه قيل إنه سنة كما صرح به الأصحاب فعرف بذلك وجه قولهم إنه سنة وإنه ليس لكون الآية منسوخة بل لهذه القاعدة الأصولية التي أشرنا إليها .
الاحتمال الرابع : أن الأمر قد يكون في الآية ليس لكل الناس بل لقوم مخصوصين وهم المرصدون للجهاد المنزلون في ديوان الفيء ، فيكون واجباً عليهم من حيث أنهم ارتزقوا(1/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
أموال الفيء على أن يقوموا بدفع الكفار عن المسلمين فوجب عليهم السعي في تحصيل ما يحصل به الدفع ، ويؤيد هذا ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي وهذا الوجوب من باب إيجاب ما لا يتم الواجب إلا به ، كإيجاب نصب السلم عند إيجاب صعود السطح وليس من باب الوجوب المطلق ، وهو أيضاً إذا نظر إليه في حد ذاته لم يحكم عليه بخصوصه إلا بالنسبة كغسل بعض الرأس والرقبة مع الوجه في الوضوء فإنه من باب مقدمة الواجب ويطلق عليه الوجوب لأجل تحقق استيعاب الوجه ، وإذا نظر إليه في حد ذاته كان سنة لأن الواجب الأصلي في الوضوء غسل الوجه لا بعض الرأس والرقبة ، فإتضح بهذا قول الأصحاب أنه من قسم السنة لا من قسم الواجب ولا المباح المستوى الطرفين والله أعلم .
مسألة : في أي سنة كان فرض الجهاد ؟
الجواب : روى أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، وغيرهم عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن فنزلت : ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( الآية قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال ، قال ابن عباس : فهي أول آية نزلت في القتال ، قال ابن الحصار من أئمة المالكية في كتابه الناسخ والمنسوخ : استنبط بعضهم من هذا الحديث أنها نزلت في سفر الهجرة ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن مجاهد قال : خرج ناس مؤمنون مهاجرين من مكة إلى المدينة فأتبعهم كفار قريش فأذن الله لهم في قتالهم فأنزل الله ) أذن للذين يقاتلون ( الآية فقاتلوهم ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس أن نفراً من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس فذكر القصة قال : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم اثنتي عشرة سنة بمكة ثم أذن الله له بالخروج إلى المدينة وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال فأنزل الله : ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( الآيتان فكان هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال : إن أول آية نزلت في الجهاد حين ابتلى المسلمون بمكة وسطت بهم عشائرهم ليفتنوهم عن الإسلام وأخرجوهم من ديارهم فأنزل الله ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( الآية وذلك حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم بالخروج وأذن لهم بالقتال . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : أن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلّم في قتالهم بمكة فلما خرج إلى المدينة أنزل الله ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( قال : أذن لهم في قتالهم بعدما عفى عنهم عشر سنين .
هذه الآثار كلها : متضافرة على أن ذلك كان في السنة الأولى من الهجرة غير أن هذه الآية مبيحة لا موجبة ، وقد نص الإمام الشافعي رضي الله عنه على أن القتال كان قبل الهجرة ممنوع ثم أبيح بعد الهجرة ثم وجب بآيات الأمر فلعل الإيجاب كان في آخر السنة(1/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
الأولى أو أول السنة الثانية وفيها كان مبدأ الغزوات ، وذكر القاضي عياض أن فرض الجهاد العام كان عام الفتح سنة ثمان في براءة لقوله تعالى : ) وقاتلوا المشركين كافة ( وهذا لا ينافي ما سبق لأن فرضيته قبل ذلك كانت مخصوصة وهذه الآية فرضت على العموم ، وقد روى النسائي ، والحاكم عن ابن عباس أن ناساً أتوا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا : ( يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أزلة قال : ( إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ) فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله : ) ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ( الآية ، وهذا أيضاً ظاهر في أن فرض القتال كان في سنة الهجرة ، وفي بعض طرق الحديث فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتال كره القوم ذلك فأنزل الله الآية ، ثم رأيت ابن سعد في الطبقات ذكر أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخمسة في رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره وبعثه في ثلاثين رجلاً لغير قريش ثم بعث سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره وبعثه في ستين رجلاً ثم بعث سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجره وبعثه في عشرين رجلاً ، فهذا كله يدل على أن فرض الجهاد كان في السنة الأولى من الهجرة والله أعلم .
كتاب الصيد والذبائح
مسألة : في الرمي بالبندق في الفلوات على الطيور هل يجوز أولاً مع أنه لا يحصل لأحد به ضرر ؟ .
الجواب : مذهبنا ومذهب أكثر العلماء أن الصيد المقتول بالبندق لا يحل أكله وأنه داخل في الموقوذة إلا أن يدركه وفيه حياة مستقرة ، وأما الرمي بالبندق فالأصل فيه حديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم نهى عن الخذف وقال : ( إنه لا يصاد به صيد ولا ينكى به عدو ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين ) فذهب أكثر العلماء إلى أن هذا النهي للتحريم وهو المعروف من مذهبنا صرح به مجلى في الذخائر ، وأفتى به الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وجزم به ابن الرفعة في الكفاية ، وعبارته القتل بالبندق لا يحل المقتول لأنه يقتل الصيد لقوة راميه لا بحده ولا يحل الرمي به لأن فيه تعريض الحيوان للهلاك انتهى ، وقيل : إنه يجوز لأنه طريق إلى الاصطياد .
وقال شيخ الإسلام ابن حجر : التحقيق التفصيل فإن كان الغالب من حال الرامي أنه يقتله به امتنع وإلا جاز لا سيما إن كان الرامي لا يصل إليه إلا بذلك ثم لا يقتله غالباً ، وقال(1/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
الحسن البصري : يكره رمي البندق في القرى والأمصار ، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من المسلمين والله أعلم .
باب الأطعمة
مسألة : هل يحل أكل البطارخ وهل هو نجس أم طاهر ؟ .
الجواب : المنقول في الجواهر للقمولي أنه لا يجوز أكل سمك ملح ولم ينزع ما في جوفه فإن كان البطارخ بهذه الصفة فهو حرام ، ومن نسب العفو إلى الروضة فهو غالط لأن الذي في الروضة هل يحل أكل السمك الصغار إذا شويت ولم يشق ما في جوفها ويخرج ما فيه ؟ فيه وجهان ، وجه الجواز عسر تتبعها ، وعلى المسامحة جرى الأولون فإن الروياني بهذا أفتى ورجيعها طاهر عندي انتهى . وهذه غير المسألة لأنه فرضها في الصغار وعلل الجواز بعسر التتبع وهو مفقود في الكبار .
كتاب الأيمان
مسألة : في رجل حلف شهد الله أو يشهد الله لو أضاف قوله وحق هل تنعقد يمينه وتلزمه الكفارة إذا حنث أم لا ؟ وما إذا حلف بالجناب الرفيع وأراد به الله ؟ .
الجواب : لا نقل عندي في ذلك ، والذي يظهر في شهد الله ، ويشهد الله أنه ليس بيمين ، وفي الأذكار للنووي ما يشهد لذلك فإنه ذكر ما معناه إن من الناس من يتورع عن اليمين فيعدل إلى قوله : شهد الله فيقع في أشد من ذلك من حيث أنه نسب إلى الله تعالى أنه شهد الشيء وعلمه على خلاف ما هو عليه ، وكذا لو ضم إليه قوله : وحق شهد الله إلا إن أراد بشهد المصدر فيكون معناه وحق شهادة الله أي علمه فيكون والحالة هذه يميناً لأنه حلف بالعلم وإطلاق الفعل وإرادة المصدر سائغ لقوله تعالى : ) هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ( أي يوم نفعهم ، وقول الشاعر :
من جفان تعتري نادينا
بسديف حين هاج الصنبر
أي حين يهيج الصنبر ، وإذا حلف بالجناب الرفيع وأراد به الله فهو يمين بلا شك .
مسألة : رجل حلف لايشارك أخاه في هذه الدار وهي ملك أبيهما ، فمات الوالد وانتقل الإرث لهما وصارا شريكين فهل يحنث الحالف بذلك أم لا ؟ وهل أستدامة الملك شركة تؤثر أم لا ؟ .
الجواب : أما مجرد دخولها في ملكه بالإرث فلا يحنث به ، وأما الاستدامة فمقتضي قواعد الأصحاب أنه يحنث بها .(1/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
كتاب الأضحية
مسألة : وردت من المغرب ، فيما ذكره الشيخ أبو عبد الله البلالي في مختصر الاحياء حيث قال في كتاب الأضحية : وتتأكد الأضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد بحثنا عن هذا الفرع في كتب السادة المالكية فما وجدنا ما يثلج الصدر ، ويزيل اللبس فكتبنا لكم فيه لتبينوا لنا أصله من السنة ؟ .
الجواب : قال الإمام أحمد في مسنده : ثنا أسود بن عامر قال : ثنا شريك عن أبي الحسناء عن أبي الحكم عن حنش عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبداً ، وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش عن علي قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أضحي عنه بكبش فأنا أحب أن أفعله ، وقال أبو داود في سننه : ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال : رأيت علياً يضحي بكبشين فقلت له : ما هذا ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه ، وقال الترمذي في جامعه ، وابن أبي الدنيا معاً : ثنا محمد بن عبيد المحاربي الكوفي ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش عن علي أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم والآخر عن نفسه فقيل له : فقال : أمرني به يعني النبي صلى الله عليه وسلّم فلا أدعه أبداً .
قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك انتهى ، وقد نص على هذه المسألة بخصوصها من المالكية القاضي أبو بكر بن العربي في الأحوذي ، ومن أصحابنا الشافعية أبو الحسن العبادي ، والقفال في فتاوية ، وجزم القفال بأنه لا يجوز للمضحي أن يأكل منها شيئاً ، وكذا قال ابن العربي : وعلله بأن الذابح لم يتقرب بها عن نفسه وإنما تقرب بها عن غيره فلم يجز له أن يأكل من حق الغير شيئاً ، وكذا نقله الترمذي في جامعه عن ابن المبارك قال : فإن ضحى فلا يأكل منها شيئاً ويتصدق بها كلها ، قال البلقيني في تصحيح المنهاج : حديث علي إن صح محمول على أنه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلّم .
باب الدعوى والبينات
مسألة : ثلاثة وضعوا أيديهم بالسوية على دار فادعى أحدهم أنه يملك جميعها وأقام بينة شهدت له بذلك ، ثم ادعى الثاني أنه يملك ثلثي الدار وأقام بينة بذلك ، ثم ادعى الثالث أنه يملك ثلث الدار وأقام بينة بذلك فماذا يفعل الحاكم ؟ .
الجواب : لكل منهم ثلثها لأن بينة كل منهم شهدت له بما في يده وشهدت للأولين بزيادة فلم تثبت الزيادة من أجل المعارضة ، أما مدعي الكل فلأن بينتة في الزائد معارضة ببينة مدعي الثلثين في الثلثين ، وبينة مدعي الثلث في الثلث فتساقطا وسقطت دعواه في(1/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
الثلثين ، وأما مدعي الثلثين فلأن بينته في الزائد معارضة ببيتة مدعي الكل فيه فتساقطا وسقطت دعواه بالثلث الزائد ، وأما مدعي الثلث فبينته لم تشهد بزيادة على ما في يده ولا يعارضها بينة مدعي الثلثين بل عارضها مدعي الكل ولكن اليد مرجحة فاستقر لكل منهم الثلث الذي في يده ، وهل هذا الاستقرار باليد فقط أو بها وبالبينة معاً ؟ فيه كلام طويل ليس هذا محله .
30 حسن التصريف في عدم التحليف
وقع في هذه الأيام أنني استفتيت عن رجل أقر بأنه استأجر أرضاً من مالكها وأنه رأى وتسلم وأشهد على نفسه بذلك ثم عاد بعد مدة وأنكر الرؤية وطلب يمين المؤجر بذلك فهل له ذلك ؟ فأجبت بأن له تحليفه على التسليم لا على الرؤية ، ثم بلغني عن بعض المفتين أنه أجاب بأن له التحليف في الرؤية أيضاً فكتبت له أن هذا الأمر تأباه القواعد فلا يقبل إلا بنقل صريح ، وفرق بينه وبين مسألة القبض فكتب لي ما ملخصه أن ذلك معلوم من عموم وخصوص ، أما العموم فقولهم أن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع المدعى تجوز الدعوى به وتسمع ، أما الخصوص فقول المنهاج في باب الإقرار : لو أقر ببيع أو هبة وإقباض ثم قال : كان فاسداً وأقررت لظني الصحة لم يقبل وله تحليف المقر له ، قال : ولم يفرق الأصحاب بين علة فساد وعلة قال : وإذا حلف بعد إقرار المدعي بالبيع فتحليفه عند انتفاء شرطه أولى قال : ويشهد لذلك تصحيح الأسنوي أن القول قول منكر الرؤية وموافقته على أن القول قول من قال : إن المبيع معلوم والفرق أن دعوى عدم الرؤية أقرب إلى الصدق من دعوى كونه غير معلوم ومنكر الرؤية معه أصل وظاهر فظهر أن القواعد ما تأتي ذلك قال : ونحن في الجواب ما خرجنا على مسألة القبض ولو خرجنا صح التخريج لكن لا معنى للتخريج مع النقل من العموم والخصوص هذا آخر كلامه . فلما وقفت عليه رأيته لم يحم حول الحمى وهو في غاية الفساد فكتبت إليه ما صورته : وقفت على ما سطره مولانا فوجدت فيه مؤاخذات وكنا أردنا الاغضاء عن ذلك كما هو دأبنا مع أكثر الناس ثم قوي العزم على ذكر ذلك لأن أكثر إعراضنا إنما هو عن الجاهلين كما أمر الله لا عن مثلكم فمن ذلك قولكم : إن كلما لو أقر المدعي عليه به نفع المدعي تجوز الدعوى به وتسمع فجوابه أن هذه القاعدة ليست على عمومها وإنما هي أكثرية ، ومن ذلك استدلالكم على مسألتنا بمسألة الإقرار بالبيع المذكورة في المنهاج وهذا أمر عجيب يطول التعجب منه ، وما ظننت أن مثل هذا يلتبس على آحاد الناس فضلاً عنكم ، وأشد من ذلك دعواكم أنه نقل خاص في المسألة وليس بخاص بل ولا عام فشتان ما بين المسألتين وأن بينهما لأشد المباينة وأن بينهما من الفرق كما بين القدم والفرق بل كما بين حضيض الثري ومناط الثريا ، وبيان ذلك أن مسألة المنهاج صورتها فيمن أقر بعقد إجمالي مشتمل على جزئيات وصفات وشروط فعاد ولم يكذب نفسه ولكن أنكر شرطاً من شروطه أو شيئاً من لوازمه أو صفة من صفاته قائلاً معتذراً : لم أظن أن فواته يفسد العقد فلهذا سمحنا له بالتحليف لأن مثل هذا قد يخفي(1/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
عليه ، وأما مسألتنا هذه فصورتها أنه أقر على نفسه أنه رأى ما شهد عليه بذلك ثم عاد وأنكر ذلك بالكلية وأكذب نفسه بلا عذر ولا تأويل فأين هذه المسألة من تلك ؟ أيقاس على رجل أقر بعقد مجمل ثم لم ينكر ما وقع منه وإنما أنكر شيئاً من لوازمه كالرؤية مثلاً ؟ وهو لم يتعرض لها في إقراره الأول ولا ذكرها من صرح بإقراره بالرؤية ثم عاد يكذب نفسه ولا عذر له في ذلك لا ولا كرامة ولا نعمة عين ، وقولنا : ولا عذر له ولا تأويل احترزت به عن مسألة القبض فإنه فيها أقر بالقبض ثم عاد وأكذب نفسه فيه لكن بعذر وتأويل لأنه جرت العادة بتأخير القبض عن العقد ، وإن الناس يقرون به لأجل رسم القبالة ليقبضوا بعد ذلك ولا كذلك الرؤية فإنه لم تجر العادة ولا الشرع بتأخيرها عن العقد حتى نقول إنه أقربها لأجل رسم القبالة ليرى بعد ذلك هذا فرق ما بينهما فقد علم بهذا أن مسألة الرؤية تفارق مسألة القبض وإن كانت تشبهها ، وأنها تباين مسألة البيع المذكورة في المنهاج بكل وجه ، لأن الإقرار في مسألة البيع بأمر عام أنكر منه جزئية خاصة من لوازمه مع بقائه على وقوع أصل العقد المقر به لكن بفقد شرط من شروطه ، ومسألتنا هذه الإقرار فيها وقع بجزئية خاصة لا غير ثم عاد وأنكرها فلا يعذر في ذلك ولا يقبل رجوعه ولا يسمح له بالتحليف كما هو شأن الأقارير غالباً ، وإنما كان يصلح لكم أن تستدلوا بمسألة المنهاج لو كانت الصورة أنه أقر بعقد إجارة فقط ولم يتعرض للرؤية ولا غيرها ثم عاد وقال : لم أر فهذه هي التي يقال فيها له التحليف وأنها داخلة في مسألة المنهاج ، وأما صورتنا هذه فلا ، وإنما نظير صورتنا هذه أن يقر ببيع ورؤية ثم يعود ويقول : لم أر فتقولون في هذه أن له التحليف . إن قلتم : لا فهو المقصود . وإن قلتم : نعم ، قلنا لكم لا نقل في ذلك والقواعد تأباه فإن المسألة التي استندتم إليها في المنهاج ليس صورتها أنه صرح بالإقرار بالرؤية مع الإقرار بالبيع ، وإنما صورتها أنه أقر بالبيع من غير تعرض لذكر شروطه من رؤية أو غيرها ثم عاد وأنكر الرؤية .
ومن العجب قولكم أن الأصحاب لم يفرقوا بين علة فساد وعلة ، فإن هذا إنما يمشي معكم في أمر عام له شرط فواته مفسد لم يذكره عند الإقرار ثم عاد وذكره ، وأما الإقرار بالرؤية الذي هو مسألتنا فليس شيئاً عاماً له شرط فواته يفسده وإنما هو أمر خاص أقر به ثم عاد وأنكره فلا يسمع ، فثبت بهذا أن بين مسألتنا ومسألة المنهاج بوناً عظيماً ، وأن قولنا في مسألة أنكار الرؤية بعد الإقرار بها : ليس له التحليف هو الذي يقتضيه النظر الصحيح والتخريج الصحيح الرجيح فلا يعدل عنه إلا بنقل صريح فحينئذ نقبله ونقول : إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .
باب الشهادات
مسألة : قراء يقرأون القرآن بأصوت حسنة محترزين من الزيادة والنقص فيه عالمين بأحكام القراءة فهل يمنعون من ذلك ؟ .(1/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
الجواب : قراءة القرآن بالألحان والأصوات الحسنة والترجيع إن لم تخرجه عن هيئتة المعتبرة سنة حسنة وإن أخرجته فحرام فاحش هذا منقول المذهب صرح به النووي في الروضة والتبيان ، ويدل للشق الأول أحاديث ، منها حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلّم ( قرأ سورة الفتح في السفر يرجع فيها ويقول آآآ ) ومنها حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، ورواه الدارمي ، والبيهقي بلفظ ( حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً ) ومنها حديث فضالة ابن عبيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( لله أشد أذاناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ومنها حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ) رواه الشيخان وأذن بمعنى استمع وفي معناه حديث سعد بن أبي وقاص ، وأبن عباس ، وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) على أحد التأويلين في الحديث وهو في المستدرك ، وفي لفظ عن سعد : ( أن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فأبكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ) رواه البيهقي في شعب الأيمان ، ومنها حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلّم سمع قراءة أبي موسى فقال : ( لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود ) رواه مسلم .
ويدل للشق الثاني ما رواه البيهقي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحسن الناس قراءة ؟ فقال : ( من إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله ) وما رواه أيضاً عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( أقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتاب فإنه سيجيء قوم يرجعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ) وروى أيضاً عن عابس الغفاري قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يذكر خصالاً يتخوفهن على أمته من بعده إمارة السفهاء واستخفافاً بالدم وقطيعة الرحم وكثرة الشرط ونشواً يتخذون القرآن مزامير يتغنون غناء يقدمون الرجل بين أيديهم ليس بأفضلهم ولا أعلمهم لا يقدمونه إلا ليغني لهم ) وروى الدارمي عن الأعمش قال : قرأ رجل عند أنس بلحن من هذه الألحان فكره ذلك أنس . وروى عن محمد بن سيرين قال : كانوا يرون هذه الألحان في القراءة محدثة ، والأحاديث والآثار في الشقين كثيرة وفيما أوردناه كفاية .
باب جامع
مسألة : رجل سلم على جماعة مسلمين وفيهم نصراني فأنكر عليه ذلك فقال : ما قصدت إلا المسلمين فقيل له : من حقك أن تقول السلام على من أتبع الهدى فهل يجزىء اللفظ الأول أو يتعين الثاني ؟ .
الجواب : لا يجزىء في السلام إلا اللفظ الأول ولا يستحق الرد إلا به ، ويجوز السلام على المسلمين وفيهم نصراني إذا قصد المسلمين فقط ، وأما السلام على من أتبع الهدى فإنما شرع في صدور الكتب إذا كتبت للكافر كم ثبت في الحديث الصحيح .(1/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
مسألة : إذا قال من يشمت العاطس يرحم الله سيدي أو قال من يبتدىء السلام : السلام على سيدي أو الراد وعلى سيدي السلام هل يتأدى بذلك السنة أو الفرض ؟ .
الجواب : قال ابن صورة في كتاب المرشد : وليكن التشميت بلفظ الخطاب لأنه الوارد ، قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام : وهؤلاء المتأخرون إذا خاطبوا من يعظمونه قالوا : يرحم الله سيدنا أو ما أشبه ذلك من غير خطاب وهو خلاف ما دل عليه الأمر في الحديث قال : وبلغني عن بعض علماء زماننا أنه قيل له ذلك فقال : قل يرحمك الله يا سيدنا ، قال : وكأنه قصد الجمع بين لفظ الخطاب وبين ما اعتادوه من التعظيم انتهى . ويقاس بذلك مسائل السلام .
مسألة : رجل قال : اللهم أجمعنا في مستقر رحمتك فأنكر عليه شخص فمن المصيب ؟ .
الجواب : هذا الكلام أنكره بعض العلماء ورد عليه الأئمة منهم النووي وقال : الصواب جواز ذلك ومستقر الرحمة هو الجنة .
مسألة : رجل من الصوفيه أخذ العهد على رجل ثم اختار الرجل شيخاً آخر وأخذ عليه العهد فهل العهد الأول لازم أم الثاني ؟ .
الجواب : لا يلزم العهد الأول ولا الثاني ولا أصل لذلك .
مسألة :
ما قولكم ياأولي الألباب في رجل
مؤذن لخطيب كلما صعدا ؟
يقول ملتزماً بعد الصلاة على
خير البرية من جاء الأنام هدى
وزده يا رب تشريفاً وقد علموا
ضرورة أنه بالمجد منفردا
وقدره زائد وهو المكمل في
خلق وأخلاقه محمودة أبدا
لم يسأل الشرف العالي لرتبته
إذ شرفت بعزيز خص متحدا
فهل عليه اعتراض في مقالته
وقد تعاهد هذا كل من وجدا ؟
أو قوله ذا يضاهي ما يجوزه
متن الحديث الذي في ضمنه وردا
ذكر الترحم يا من للعلوم يرى
وفضله ظاهر والخير منه بدا
أنت الذي ناله من فيضكم مدد
وزال عنه بفتياكم أذى وردى
لا زلت ترشد محتاجاً لمسألة
أعيت ونلت منالاً ناله السعدا
الجواب :
الحمد لله حمداً دائماً أبدا
سبحانه لم يزل بالحمد منفردا
ثم الصلاة على الهادي النبي ومن
هدى بدعوته الأدنين والبعدا
من قال للمصطفي أثناء دعوته
وزده يا رب تشريفاً فقد رشدا(1/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
ولا اعتراض عليه في مقالته
ولا التفات إلى إنكار من فندا
ألا ترى النووي الحبر قال كذا
في صدر خطبة كتب عددت عددا
وهو المكمل حقاً في فضائله
من غير ريب ولا نقص يهي أبدا
لكن زيادات فضل الله ليس لها
حد تحاط به أو تنتهي أمدا
وانظر أحاديث أوصاف الجنان تجد
مضمونها بالذي قد قلت قد شهدا
في كل يوم يراه الأنبياء بها
والمؤمنون نوالاً لم يكن عهدا
وعند رؤية بيت الله زده على
دعا النبي وتشريفاً كما وردا
فهل يقول امرؤ في كعبة عظمت
بأن ذا توهم ما ليس معتمدا ؟
وابن السيوطي قد خط الجواب عسى
يوم المعاد يحيى في زمرة السعدا
مسألة : هل يستدل لجواز قول الناس مالي إلا الله وأنت بقوله تعالى : ) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( ؟ .
الجواب : قد يتمسك به المتمسك لكن يرد عليه أمور ، منها أن الأرجح فيمن اتبعك أنه معطوف على الكاف لا على الجلالة ، والتمسك إنما يصح إذا قدر معطوفاً على الجلالة ، ومنها أن هذا الكلام صادر من الله وهو صاحب هذا المنصب فلا يصلح أن يقاس عليه المخلوقون في قولهم مثل ذلك ، ونظيره أنه تعالى أقسم بالمخلوقات في قوله : ) والذاريات ( ) والطور ( ) والنجم ( ) والفجر ( ) والشمس ( ) والليل ( ) والضحى ( ) والتين والزيتون ( ) والعصر ( وليس ذلك لغيره ، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يدعو بلفظ الصلاة لأنه صاحب منصب الصلاة وليس لغيره أن يدعو لأحد من الأمة بلفظ الصلاة ، وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قوله صلى الله عليه وسلّم : ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، أن التشريك في الضمير من خصائصه صلى الله عليه وسلّم وإن كان قد نهى عنه في قصة الخطيب ، ويؤيد عدم الاستدلال بالآية على ذلك ما ورد : ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم : ما شاء الله وشئت فقال : جعلتني لله عدلاً بل ما شاء الله وحده ) .
مسألة : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم عند التعجب هل تستحب أو تكره ؟ فقد ذكر بعض العلماء أنها تستحب وقال : أخذته من نص الشافعي رضي الله عنه في قوله : وأحب أن يكثر الصلاة عليه في كل الحالات قال : فدخل في عمومه حاله التعجب ، ثم نقل عن سحنون أنه كرهها عند التعجب وقال : لا يصلي عليه إلا على طريق الاحتساب وطلب الثواب ثم نازعه في ذلك بأن ذكر الله التعجب مشروع ، وقد بوب عليه البخاري فقال : باب التكبير والتسبيح عند التعجب وروى فيه حديث عمر ، وحديث صفية ، وهل ورد دليل خاص بكراهتها كما قال سحنون ؟ .
الجواب : قد يستدل لسحنون بما أخرجه الحاكم عن ابن عمر أن رجلاً عطس بحضرته(1/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
فقال : الحمد لله والسلام على رسول الله فقال ابن عمر : وأنا أقول : الحمد الله والسلام على رسول الله ولكن ما هكذا علمنا ، لكن الذي تختاره خلاف قول سحنون : لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن الصلاة عليه حالة التعجب ، ولا ترد قصة ابن عمر في العطاس ، لأن العطاس ورد فيه ذكر يخصه فالعدول إلى غيره أو الزيادة فيه عدول عن المشروع وزيادة عليه وذلك بدعة ومذموم ، فلما كان الوارد في العطاس الحمد فقط كان ضم السلام إليه من الزيادة في الأذكار وذلك متفق على ذمه ، وقد نهى الفقهاء عن الصلاة عليه عند الذبح لأنه زيادة على ما ورد من التسمية ، وقد عقد النووي في الأذكار باباً لجواز التعجب بلفظ التسبيح والتهليل ونحوهما وأورد فيه عدة أحاديث وآثار وقع فيها ذكر سبحان الله عند التعجب ، فقول النووي : ونحوهما يدخل فيه فصل القول في ذلك أن الصلاة عند التعجب لا تكره لعدم النهي ولا تستحب لعدم دليل على طلبها حينئذ بل هي من الأمور المباحة كما أشار إليه النووي بلفظ الجواز في الترجمة .
القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عبادة الذين اصطفى .
مسألة : في شخص يدعى فقهاً يقول : إن توحيد الله متوقف على معرفة علم المنطق ، وأن علم المنطق فرض عين على كل مسلم ، وأن لمتعلمه بكل حرف منه عشر حسنات ولا يصح توحيد من لا يعلمه ، ومن أفتى وهو لا يعلمه فما يفتي به باطل ، وقال : إن الحشيشة كل من استعملها كفر وقال : إن المجتهد يحل الحرام ويحرم الحلال ، وقال : أن أبا حامد الغزالي ليس بفقيه وإنما كان زاهداً فماذا يجب عليه في ذلك ؟ .
الجواب : فن المنطق فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به مبني بعض ما فيه على القول بالهيولي الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة وليس له ثمرة دينية أصلاً بل ولا دنيوية نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه ، ونص عليه من أصحابه إمام الحرمين ، والغزالي في آخر أمره ، وابن الصباغ صاحب الشامل وابن القشيري ، ونصر المقدسي ، والعماد بن يونس ، وحفده ، والسلفي ، وابن بندار ، وابن عساكر ، وابن الأثير ، وابن الصلاح ، وابن عبد السلام ، وأبو شامة ، والنووي ، وابن دقيق العيد ، والبرهان الجعبري ، وأبو حيان ، والشرف الدمياطي ، والذهبي ، والطيبي ، والملوي ، والأسنوي ، والأذرعي ، والولي العراقي ، والشرف بن المقري ، وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي ، ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب الرسالة والقاضي أبو بكر بن العربي ، وأبو بكر الطرطوشي ، وأبو الوليد الباجي ، وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وأبو الحسن بن الحصار ، وأبو(1/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
عامر بن الربيع ، وأبو الحسن بن حبيب ، وأبو حبيب المالقي ، وابن المنير ، وابن رشد ، وابن أبي جمرة ، وعامة أهل المغرب . ونص عليه من أئمة الحنفية أبو سعيد السيرافي ، والسراج القزويني ، وألف في ذمه كتاباً سماه نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلى بحب علم المنطق ونص عليه من أئمة الحنابلة ابن الجوزي ، وسعد الدين الحارثي ، والتقي ابن تيمية وألف في ذمة ونقض قواعده مجلداً كبيراً سماه نصيحة ذوي الأيمان في الرد على منطق اليونان وقد اختصرته في نحو ثلث حجمه وألفت في ذم المنطق مجلداً سقت فيه نصوص الأئمة في ذلك ، وقول هذا الجاهل : إن المنطق فرض عين على كل مسلم يقال له أن علم التفسير ، والحديث ، والفقه التي هي أشرف العلوم ليست فرض عين بالإجماع بل هي فرض كفاية فكيف يزيد المنطق عليها ، فقائل هذا الكلام إما كافر أو مبتدع أو معتوه لا يعقل ، وقوله : إن توحيد الله متوقف على معرفته من أكذب الكذب وأبلغ الافتراء ويلزم عليه تكفير غالب المسلمين المقطوع بإسلامهم ، ولو أن المنطق في نفسه حق لا ضرر فيه لم ينفع في التوحيد أصلاً ، ولا يظن أنه ينفع فيه إلا من هو جاهل بالمنطق لا يعرفه لأن المنطق إنما براهينه على الكليات والكليات لا وجود لها في الخارج ولا تدل على جزئي أصلاً ، هكذا قرره المحققون العارفون بالمنطق ، فهذا الكلام الذي قاله هذا القائل استدللنا به على أنه لا يعرف المنطق ولا يحسنه فيلزم بمقتضي قوله : أنه مشرك لأنه قال : إن التوحيد متوقف على معرفته وهو لم يعرفه بعد . فإن قال : أردت بذلك أن أيمان المقلد لا يصح وإنما يصح أيمان المستدل . قلنا : لم يريدوا بالمستدل على قواعد المنطق بل أرادوا مطلق الاستدلال الذي هو في طبع كل أحد حتى في طبع العجائز ، والأعراب ، والصبيان كالاستدلال بالنجوم على أن لها خالقاً ، وبالسماء ، والأنهار ، والثمار ، وغيرها ، وهذا لا يحتاج إلى منطق ولا غيره ، والعوام والأجلاف كلهم مؤمنون بهذا الطريق .
وقوله : إن للمتكلم بكل حرف منه عشر حسنات هذا شيء لا نعرفه إلا للقرآن الذي هو كلام الله جل جلاله ، فإن أراد هذا الجاهل أن يلحق المنطق الذي هو من وضع الكفار بكلام رب العالمين فقد ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً ، والعجب من حكمه على الله بالباطل والأخبار بمقادير الثواب لا يتلقي إلا من صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام ، وقوله : إن من لا يعلم المنطق ففتواه لا تصح يلزم عليه أن الصحابة ، والتابعين [ وأتباع التابعين ] لم تصح فتواهم ، فإن المنطق إنما دخل بلاد الإسلام في حدود سنة ثمانين ومائة من الهجرة فمضى الإسلام هذه المدة ولا وجود للمنطق فيه ، وقد كان في هذه المدة غالب المجتهدين من الأئمة المرجوع إليهم في أمر الدين أفيظن عاقل مثل هذا الظن ؟ وقد نص الشافعي رضي الله عنه نفسه على ذم الاشتغال بالمنطق أفيقول هذا الجاهل هذه المقالة في مثل الشافعي رضي الله عنه ؟ ومن سميناهم من أئمة المذاهب الأربعة الذين دونوا الفقه وأوضحوا سبل الفتاوي وهم عصمة الدين ، وقول هذا الجاهل : أن الغزالي ليس بفقيه(1/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
يستحق عليه أن يضرب بالسياط ضرباً شديداً ويحبس حبساً طويلاً حتى لا يتجاسر جاهل أن يتكلم في حق أحد من أئمة الإسلام بكلمة تشعر بنقص ، وقوله هذه الكلمة : صادر عن جهل مفرط وقلة دين فهو من أجهل الجاهلين وأفسق الفاسقين ، ولقد كان الغزالي في عصره حجة الإسلام وسيد الفقهاء ، وله في الفقه المؤلفات الجليلة ، ومذهب الشافعي الآن مداره على كتبه فإنه نقح المذهب وحرره ولخصه في البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة وكتب الشيخين إنما هي مأخوذة من كتبه ، والحاصل أن هذا الرجل الذي صدرت عنه هذه المقالة رجل غلب عليه الجهل والحمق والفسق ، فالواجب على المحتاط لدينه أن يهجره في الله ويتخذه عدواً يبغضه فيه إلى أن تأتيه من الله قاصمة تلحقه بالغابرين ، وقوله في الحشيشة : من استعملها كفر لا ينكر عليه إطلاق هذه المقالة لأن مثل هذه يجوزان يقال في معرض الزجر والتغليظ كقوله صلى الله عليه وسلّم : ( من ترك الصلاة فقد كفر ) فيكون مؤولاً على المستحل أو المراد كفر النعمة لا كفر الملة ، فإن أراد حقيقة الكفر من غير تأويل فباطل لأن مذهب أهل السنة أنه لا يكفر أحد بذنب ، والعالم إذا أفتى بمثل هذه العبارة إنما يطلقها متأولاً على ما ذكرنا ، والمجتهد لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً ، فالتحليل والتحريم لله وحده لا شريك له ، بل ولا يحدث قولاً من عنده إنما وظيفته أن ينظر في أقوال من تقدمه ويختار ما قام الدليل عنده على رجحانه .
مسألة : في رجل ألهمه الله طباً يداوي به المسلمين ويحصل به نفع لهم وداوي به جماعة في بلده بعشب من الأعشاب الذي ألهمه الله وحصل لهم به الشفاء فاعترض عليه جماعة حساد وأرادوا منعه من مداواة المسلمين فهل يجوز لهم ذلك أم لا ؟ والحال أن الطبيب المذكور أحضر الجماعة الذين داواهم وهم أكثر من عشرين نفراً إلى شهود المسلمين واعترفوا بحصول الشفاء على يده وكتب بذلك محضراً واتصل بحاكم ؟ وهل يثبت بهذا المحضر عدالة الطبيب ؟ وهل يجوز لهم إخراجه من البلد ؟ وهل إذا قال الطبيب ألهمت من الله هذا الدواء يسوغ لأحد الاعتراض عليه ؟ .
الجواب : الإلهام لا ينكر لكنه إنما يصح غالباً مع الصوفية الخلص أرباب القلوب الصافية النيرة ، وقد يحصل لغيرهم من آحاد المسلمين لكنه قد يصح وقد لا يصح ، فإن كان هذا الذي ألهم الطب من الصوفية أرباب القلوب فإنه لا يخطىء في الغالب بحسب تمكن بحسب تمكن حاله وقوته ، وإن كان من غيرهم فعليه توقي ذلك والرجوع إلى قانون الطب الذي تعارف الناس المداواة به ، وليس لأحد منعه من المداواة ما لم يظهر عليه كثرة الخطأ ، والأولى له في الحالين أن يبين للمداوي أنه لم يعتمد في ذلك على القانون المتعارف في الطب لينظر ذاك لنفسه ويحتاط لها لئلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلّم : ( من تطبب ولدم يعلم منه طب فهو ضامن ) والمحضر المذكور لا فائدة فيه ولا يثبت به عدالة ولا يجوز إخراجه من البلد بهذا السبب .(1/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
مسألة : في رجل اشتهر بوقتنا هذا بعلم التعبير وفتح عليه فيه ونور الله بصيرته بمعرفة تفسير الرؤيا وإن كان في غيرها مزجي البضاعة فإذا قص عليه أحد رؤيا بادر إلى تفسيرها فيحمد الله تعالى ويصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم ثم يفسرها بكلام أهل الصناعة ويستشهد عليه بأدلة من الكتاب والسنة وما وافق القواعد والمنقول في هذا الفن متبعاً شروطه وآدابه في الأغلب ، ولم يقل عنه مع كثرة تعبيره أنه أخطأ في شيء من ذلك خطأ فاحشاً خالف فيه منقول أهل الفن هذا وقد قرأ فيه كتباً على مشايخ عصره وتفهم ظواهرها بحسب الحال وشاع نفع الناس به وقصدوه من الأمكنة البعيدة لفقد العلماء بذلك ، ثم أن رجلاً كبيراً من الناس قام على هذا الرجل المذكور وأنكر عليه كثرة تعبيره لكل سائل كائناً من كان وسرعة مبادرته لذلك فزجره ونهاه عن تعبير الرؤيا مطلقاً قاصداً نصحه ، وقال له ما معناه : هذا العلم تخييلات من باب الظن والحدث وهو مظنة الكذب والخطأ فلا يجوز العمل به ولا الاعتماد عليه ، فانزجر الرجل المذكور وكف عن تعبير الرؤيا مدة طويلة فتضرر كثير من الناس بسبب ذلك ورموه بألسنتهم وظنوا بأمتناعه أن قصده به طلب الدنيا من الأكابر بسؤالهم له في ذلك واحتياجهم إليه ، وقد وقع في ورطة مع الناس بسبب ذلك وحصل عنده شك وارتياب في هذا العلم هل له حقيقة أو كما يقوله هذا المعترض ؟ وهل الأولى له الرجوع إلى ما كان عليه من التعبير لكل سائل إذ الحاجة والضرورة إليه أم لا ؟ وإذا كان لم يأخذ عليه جعالة فهل يثاب عليه أم لا ؟ .
الجواب : القول بأن الرؤيا وتعبيرها تخيلات لا أصل لها يكاد يخرق الإجماع فإن الكتاب والسنة طافحان بإعتبار الرؤيا وتأويلها ، وقد ورد في الحديث : ( أن رؤيا العبد كلام يكلمه ربه في المنام ) وفي أثر آخر : ( أن الله وكل بالرؤيا ملكاً يريها للنائم ) والأحاديث في ذلك ونحوه كثيرة عن حد الحصر ، وإنما قصر علم الناس عن كثير من المغيبات لعدم وقوفهم على السنة واشتغالهم بها وهي لا تؤخذ إلا من جهة الوحي فعدلوا عن معديها ورجعوا إلى أقوال الحكماء والفلاسفة الجهال الضلال الذين حدسوا بأفكارهم وخمنوا فلم يقفوا على حقيقة الحال كقولهم هذا في الرؤيا ، وكقولهم : في الطاعون ، والزلزلة ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والقوس ، والمجرة ، والمطر ، والسحاب ، وسائر ما فوق الملكوت وما تحت الأرضين كل ذلك خاض فيه الفلاسفة قبحهم الله بالظنون الفاسدة قأتوا فيها بأشياء أكذبهم فيها صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلّم الموحي إليه بعلوم الأولين والآخرين ، وقول المنكر فلا يجوز العمل به كلام عجيب فإن الرؤيا ليست علم عمل بل إما تبشير بخير أو تحذير من شر ، فأي عمل هنا ؟ نعم التثبت مطلوب وعدم المسارعة والمبادرة وقد تكون الرؤيا صورتها واحدة ، ويختلف تأويلها بحسب الرائي وحاله وصفته وما اتفق في أيام الرؤيا ، وقد تكون الرؤيا من أنواع الكشف الذي يحصل لأرباب الأحوال في كثير من أوقاتهم ، وهذه لا يليق بكل معبر تأويلها إنما يؤلها صاحب حال له معرفة بأحوال القوم ، وفي جواز أخذ الجعالة على تأويل الرؤيا وقفة ، ويقرب الجواز لأنه ليس من الفروض والعبادات التي يمتنع أخذ(1/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
الأجرة عليها ، ووجه التوقف كونه كلاماً يقال فيشبه الاستئجار على كلمة لا تتعب ولكن الفرق أوضح ، وفي الثواب عليه إذا لم يأخذ أجرة وقفة أيضاً والأقرب أنه لا ثواب لأنه ليس من العلوم المفروضة ولا المندوبة بل من المباحات والله أعلم .
رقع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : استعمال ألفاظ القرآن في المحاورات والمخاطبات والمجاوبات والإنشاءات والخطب ، والرسائل ، والمقامات مراداً بها غير المعنى الذي أريدت به في القرآن يسمى عند الصدر الأول من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة والعلماء ضرب مثل وتمثلاً واستشهاداً إذا كان في النثر ، وقد يسمى اقتباساً بحسب اختلاف المورد ، فإذا كان في الشعر سمي اقتباساً لا غير ، فأما الأول وهو الذي في النثر سواء كان تمثلاً أو اقتباساً فجائز في مذهبنا بلا خلاف عندنا نص عليه الأصحاب إجمالاً وتفصيلاً واستعملوه في خطبهم وإنشائهم ورسائلهم ومقاماتهم ، أما النصوص فقالوا في باب الغسل : أنه يجوز للجنب أن يورد ألفاظ القرآن لا بقصد القرآن وقالوا في باب شروط الصلاة : إن المصلي لو نطق بنظم القرآن لا بقصد القرآن بل بقصد التفهيم فقد بطلت صلاته ، فإن قصد القراءة والتفهيم معاً لم تبطل ، ولم يحكوا في المسألة خلافاً ، قال النووي في شرح المهذب في باب الغسل ما نصه : قال أصحابنا ولو قال لإنسان : خذ الكتاب بقوة ولم يقصد القرآن جاز وكذا ما أشبهه ؛ وقال الرافعي في الشرح : وأما إذا قرأ شيئاً منه لا على قصد القرآن فيجوز ، وفي الروضة مثله ، وقال الأسنوي في شرح المنهاج عند قوله : ويحل إذا كان لا بقصد قرآن هذا الحكم لا يختص بأذكار القرآن بل يأتي أيضاً في مواعظه وأحكامه وأخباره وغير ذلك كما دل عليه كلام الرافعي فإنه عبر بقوله : أما إذا قرأ شيئاً منه لا على قصد القرآن فيجوز هذه عبارته وذكر مثلها في الروضة . وصرح القاضي أبو الطيب في تعليقه بالأوامر انتهى . وقال الرافعي في باب شروط الصلاة إذا أتى المصلي بشيء من نظم القرآن قاصداً به القراءة لم يضر ، وإن قصد مع القراءة شيئاً آخر كتنبيه الإمام أو غيره والفتح على من ارتج عليه وتفهيم الأمر من الأمور مثل أن يقول لجماعة يستأذنون في الدخول : ادخلوها بسلام آمنين أو يقول : يا يحيى خذ الكتاب بقوة وما أشبه ذلك ، ولا فرق بين أن يكون منتهياً في قراءته إلى تلك الآية أو ينشىء قراءتها حينئذ ، وقال أبو حنيفة : إذا قصد شيئاً آخر سوى القراءة بطلت صلاته إلا أن يريد تنبيه الإمام والمار بين يديه وإن لم يقصد إلا الإفهام والإعلام فلا خلاف في بطلان الصلاة كما لو أفهم بعبارة أخرى انتهى .
وذكر مثله في الشرح الصغير ، والمحرر ، وذكر النووي مثله في الروضة ، وشرح المهذب ، والمنهاج ، وإنما بدأت بنقل كلام الشيخين لأن الاعتماد الآن في الفتيا على(1/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
كلامهما وإلا فالمسألة متفق عليها بين الأصحاب قال إمام الحرمين في النهاية في باب شروط الصلاة : ولو قرأ المصلي آية أو بعضاً من آية فأفهم بها كلاماً مثل أن يقول : خذها بقوة أو يقول : وقد حضر جمع فاستأذنوا ادخلوها بسلام فإن لم تخطر له قراءة القرآن ولكن جرد قصده إلى الخطاب بطلت صلاته ، وإن قصد القراءة ولم يخطر له إفهام أحد بحيث لو دخلوا لم يرد دخولهم من معنى قوله فلا شك أن صلاته لا تبطل ، وإن قصد قراءة القرآن وقصد إفهامهم فالذي قطع به الأئمة أن الصلاة تبطل ، وقال أبو حنيفة : تبطل الصلاة بهذا ، وقال في باب الغسل : لو قال الجنب شيئاً من القرآن وقصد به غير القرآن لم يعص وإن أجداه على لسانه ولم يقصد قراءة ولا غيرها فقد كان شيخي يقول : لا يعصى وهذا مقطوع به انتهى : وقال البغوي في التهذيب لو قال الجنب شيئاً من القرآن لا بقصد قراءة القرآن فإنه يجوز ، وكذلك لو تكلم بكلمة توافق نظم القرآن ، وقال في باب شروط الصلاة : ولو تكلم بكلام موافق نظمه نظم القرآن مثل أن دق رجل الباب فقال : ادخلوها بسلام ، أو أراد دفع كتاب فقال : يا يحيى خذ الكتاب نظر إن لم يكن قصد به قراءة القرآن بطلت صلاته وإن قصد قراءة القرآن وإعلامه لا تبطل . وعند أبي حنيفة تبطل ، وقال الغزالي في البسيط : إذا أتى الجنب بالقرآن على قصد غيره لا يعصي ، فإن لم يقصد لا القراءة ولا غيرها قال الشيخ أبو محمد : لا يعصي لأن قصد معتبر في هذا الجنس ، وقال في باب شروط الصلاة : إذا استأذن جمع وهو في الصلاة فقال ادخلوها بسلام أو قال : خذها بقوة أو غير ذلك من خطاب الآدميين ، فإن قصد التفهيم دون القراءة بطلت صلاته ، وإن قصد القراءة دون التفهيم لم تبطل ، وإن قصدهما جميعاً قال أصحابنا : لا تبطل ، وقال أبو حنيفة : تبصل ، وقال المتولي في التتمة الخامسة : إذا نابه أمر في الصلاة فتلا آية من القرآن يحصل بها تنبيه الغير على بعض الأمور مثل إن دق الباب فقرأ قوله تعالى : ادخلوها بسلام آمنين أو رأى إنساناً اسمه موسى يمشي بالنعل على بساطه فقرأ قوله تعالى : اخلع نعليك فإن قصد به التنبيه تبطل الصلاة لأن هذا خطاب وافق نظم القرآن ، وإن قصد القراءة لا تبطل صلاته وإن تضمن ذلك تنبيهاً ، وقال أبو حنيفة : تبطل ، ودليلنا ما روى أن علياً رضي الله عنه كان يصلي في مسجد الكوفة فدخل عليه رجل من الخوارج فعرض به وقال : لا حكم إلا لله ورسوله وقصد الإنكار حيث رضي التحكيم فتلا علي : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون فلما سلم قال : كلمة حق أريد بها باطل ، ولو كان ذلك يبطل الصلاة لما أقدم عليه علي رضي الله عنه ، وتقول الأصحاب في ذلك لا تحصى وفيما أوردناه كفاية .
وقال النووي في التبيان : فصل في قراءة القرآن يراد بها الكلام ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافاً فروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يتناول القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا ، وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ في صلاة المغرب بمكة والتين والزيتون وطور سينين(1/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
ثم رفع صوته : وهذا البلد الأمين ، وعن حكيم بضم الحاء بن سعد أن رجلاً من المحكمة أتى علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الصبح فقال : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، فأجابه على وهو في الصلاة : ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) ، قال أصحابنا : إذا استأذن إنسان على المصلي فقال المصلي : ادخلوها بسلام آمين فإن أراد التلاوة أو التلاوة والإعلام لم تبطل صلاته ، وإن أراد الإعلام أو لم تحضره نية بطلت صلاته ، انتهى كلام النووي في التبيان . فانظر كيف أخذ حكم المسألة مما ذكره الأصحاب في المصلى ، والأثر المذكور عن علي أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في سننه وترجم عليه باب ما يجوز من قراءة القرآن في الصلاة يريد به جواباً أو تنبيهاً .
33 ذكر من استعمل ذلك من الصحابة والتابعين غير من تقدم ذكره
أخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي في دلائل النبوة عن الشعبي قال : لما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن أكيس الكيس التقى ، وإن أعجز العجز الفجور ، ألا وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية لا امرؤ كان أحق به مني وهو حق لي تركته إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم ، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر ونزل ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها بلغها قتل عثمان فقالت : ( قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قصة الإفك : وإني لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ، ومن هنا سمي العلماء استعمال ذلك ضرب مثل وتمثلاً ، وكذا من قوله صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر ، وعمر حين استشارهما في أسرى بدر : ( مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم حيث قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ومثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) وفي رواية إن مثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) وإن مثلك يا عمر مثل موسى قال : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) فمن هذا وأمثاله أطلق السلف والخلف على ذلك ضرب مثل .
وقد ورد في الحديث المرفوع استعمال ما نحن فيه وكفى به حجة
أخرج الترمذي وحسنة عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) ، وقد سبقني إلى الاحتجاج بهذا الحديث على التمثل بنظم القرآن الحافظ أبو بكر بن مردويه حيث أورد هذا(1/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
الحديث في تفسيره عند قوله تعالى في آخر سورة الأنفال : ) إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( وأخرجه أيضاً من حديث أبي هريرة ، وفيه حجة لأمر آخر وهو أنه يجوز تغيير بعض النظم بإبدال كلمة بأخرى وبزيادة ونقص كما يفعله أهل الإنشاء كثيراً لأنه لا يقصد به التلاوة ولا القراءة ولا إيراد النظم على أنه قرآن ، ومن الأحاديث التي يستدل بها لجواز ذلك ما أخرجه مالك ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج ، إلى خيبر فجاءها ليلاً فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا محمد والله محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .
قال بعضهم : هذا الحديث من أدلة الاقتباس ، وقال ابن عبد البر في التمهيد : في هذا الحديث جواز الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن وبحمل ، وذكر ابن رشيق مثله في شرح الموطأ وهما مالكيان وقال النووي في شرح مسلم : في الحديث جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة ، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة كما ورد في فتح مكة : ( أنه صلى الله عليه وسلّم جعل يطعن في الأصنام ويقول : ( جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد جاء الحق وزهق الباطل ) ، قال : وإنما يكره ضرب الأمثال من القرآن في المزح ولغو الحديث فيكره . وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم . وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، وقعيس بن ضبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فذكر الحديث إلى أن قال : وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : ( أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ) . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً ) . وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : كتب أبي في وصيته : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر ويتقي الفاجر ويصدق الكاذب أني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل أعلم الغيب فلا ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلون ( وأخرج ابن أبي شيبة عن بكرة قال : لما انتهى الربيع ابن خيثم إلى مسجد قومه قالوا له : يا ربيع لو قعدت لتحدثنا اليوم فقعد فجاء حجر فشجه فقال : ) فمن جاءه(1/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ( . وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال قال : آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك . وأخرج البخاري عن هذيل بن شر حبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنه وابنة ابن وأخت قال : للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين . وأخرج ابن سعد في طبقاته عن فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذ بن جبل كان أمه قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ، فقلت : غلط أبو عبد الرحمن إنما قال الله : إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ، فقلت : إنه تعمد الأمر تعمداً فسكت فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت : الله أعلم فقال : الأمة الذي يعلم الناس . الخير والقانت المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان معاذ كان يعلم الناس الخير وكان مطيعاً لله ولرسوله . وأخرج ابن سعد عن مسروق قال : كنا عند ابن مسعود فقال : إن معاذ بن جبل كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ، فقال فروة بن نوفل : نسي أبو عبد الرحمن إبراهيم يعني قال : وهل سمعتني ذكرت إبراهيم ؟ الأمة الذي يعلم الناس الخير والقانت الذي يطيع الله ورسوله .
وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن عبد الله بن مسعود أنه أتى مكة فمر بأعرابي وهو يصلي وهو يقول : نحج بيت ربنا في كلام له فقال عبد الله : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن أبي ليلى الكندي قال : أشرف عثمان على الناس من داره وقد أحاطوا به فقال : يا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ، يا قوم لا تقتلوني إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه . وأخرج الشافعي في الأم عن عروة قال : كان أبو حذيفة بن اليمان شيخاً كبيراً فخرج يوم أحد يتعرض للشهادة فابتدره المسلمون فتواشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول : أبي أبي فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلّم فيه بديته . وأخرح الشافعي عن المطلب بن حنطب أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال : ما حملك على ذلك ؟ فقال : قد فعلت قال فقرأ : ) ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ( أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة ثبت . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن هشام بن عروة قال : أتى عمر بن عبد العزيز بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال : لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وأخرج ابن أبي شيبة عن أم راشد قالت : كنت عند أم هانىء فسمعت رجلين يقولان بايعته(1/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
أيدينا ولم تبايعه قلوبنا فذكرت ذلك لعلي فقال علي : ) من نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ( .
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب قال : من أدرك ذلك الزمان فلا يطعنن برمح ولا يضرب بسيف ولا يرم بحجر واصبر فإن العاقبة للمتقين . وأخرج الزجاجي في أماليه عن جويرية بنت أسماء قال : قدم عمر بن الخطاب مكة فوضع الدرة بين أذني أبي سفيان وضرب رأسه فجاءت هند فقالت : أتضربه فوالله لرب يوم لو ضربته لا قشعر بك بطن مكة ؟ فقال عمر : أجل والله جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . وأخرج ابن عساكر عن محمد بن عبد الملك قال : سمع عبد الله بن مسعود أعرابياً ينادي بالصلاة فأتاه ابن مسعود فقرأ بأم القرآن ثم قال : نحج بيت ربنا ونقضي الدين وهن يهوين بنا بخطرات يهوين قال ابن مسعود : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا إختلاق . وأخرح الطبراني من طريق قتادة عن أنس عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما صبح خيبر تلا هذه الآية إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين . وأخرج ابن سعد في طبقاته عن عمرو بن ميمون قال : رأيت عمر بن الخطاب لما طعن عليه ملحفة صفراء قد وضعها على جرحه وهو يقول : وكان أمر الله قدراً مقدورا .
وأخرج ابن سعد عن عمرو بن ميمون أن عمر لما طعن دخل عليه كعب فقال : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قد أنبأتك أنك شهيد ، فقلت : من أين لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب ؟ . وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال : طعن ابنا معاذ بن جبل فقال معاذ : كيف تجدانكما ؟ قالا : يا أبانا الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، قال : وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين . وأخرج ابن سعد ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر قال : قال علي بن أبي طالب للحسن : قم فاخطب الناس يا حسن قال : إني أهابك أن اخطب وأنا أراك فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه فقام الحسن فخطب ثم نزل فقال علي : ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
وأخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم أن أبا موسى الأشعري ، وعمرو بن بن العاص تكلما فقال أبو موسى لعمرو : إنما مثلك كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فقال له عمرو : أنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً . وأخرج ابن سعد عن ابن أبي ملكية قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول لعبيد بن عمير : كيف أنت يا ليثي ؟ قال : بخير على ظهور عدونا علينا ، فقال جابر : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين . وأخرج أحمد في مسنده عن سلمان الفارسي أنه قيل له : ما كان بينك وبين حذيفة ؟ قال : وكان الإنسان عجولا . وأخرج أحمد عن أبي الدرداء أنه بلغه أن أباذر أخرج إلى الربذة فاسترجع قريباً من عشر مرات ثم(1/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
قال : فارتقبهم واصطبر كما قيل لأصحاب الناقة : اللهم إن كذبوا أباذر فإني لا أكذبه وإن اتهموه فإني لا أتهمه ، والذي نفسي بيده لو أن أباذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ) . وأخرج ابن سعد عن عمارة بن أبي حفصة أن عمر بن عبد العزيز قيل له في مرضه : من توصي بأهلك ؟ فقال : إن ولي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين .
وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة عن هبيرة بن خزيمة قال : قال الربيع بن خيثم حين قتل الحسين : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون .
وأخرح ابن شيبة عن ابن أبي مليكة قال : قال ابن الزبير لعبيد بن عمير : كلم هؤلاء لأهل الشام رجاء أن يردهم ذاك فسمع ذلك الحجاج فأرسل إليهم ارفعوا إصواتكم فلا تسمعوا منه شيئاً فقال عبيد : ويحكم لا تكونوا كالذين قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي يعلى قال : كان الربيع بن خيثم إذا مر بالمجلس يقول : قولوا خيراً افعلوا خيراً وداوموا على صالحة ولا تقسوا قلوبكم ولا يتطاول عليكم الأمد ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون .
وأخرج ابن أبي شيبة عن مسروق أنه قدم فأتاه أهل الكوفة وناس من التجار فجعلوا يثنون عليه ويقولون : جزاك الله خيراً ما كان أعفك عن أموالنا فقرأ هذه الآية : ) أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ( وكان يقرأها كذلك . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن قتادة أن عبد الله بن غالب كان يقص في المسجد الجامع فمر عليه الحسن فقال : يا عبد الله لقد شققت على أصحابك فقال : ما أرى عيونهم انفقأت ولا أرى ظهورهم اندقت والله يأمرنا يا حسن أن نذكره كثيراً وتأمرنا أن نذكره قليلاً ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ، فقال الحسن : والله ما أدري أسجد أم لا .
وأخرج أبو نعيم عن عون العبدي أن الحجاج لما أمر بقتل سعيد بن جبير قال سعيد بن جبير : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، فقال الحجاج : شدوا به لغير القبلة ، فقال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله ، فقال الحجاج : كبوه لوجهه ، فقال سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم .
وأخرج أبو نعيم عن سالم بن أبي حفصة قال : لما أتى سعيد بن جبير الحجاج قال : لأقتلنك ، قال : دعوني أصلي ركعتين ، قال : وجهوه إلى قبلة النصارى ، قال : أينما تولوا فثم وجه الله إني أعوذ بالرحمن منك كنت تقيا . وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الكريم قال : كان عمر بن عبد العزيز إذا دخل بيتاً قال : بسم الله والحمد لله ولا قوة إلا بالله والسلام على نبي الله اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا .(1/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن واسع قال : قدمت من مكة فانطلق بي إلى مروان ابن المهلب وهو أمير على البصرة فرحب بي فقلت : إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي ، قال : ومن أخو بني عدي ؟ قلت : العلاء بن زياد استعمل صديق له مرة على عمل فكتب إليه ، أما بعد فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف وبطنك خميص وكفك تقية من دماء المسلمين وأموالهم فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، قال مروان : صدق والله ونصح .
ذكر ما وقع للإمام مالك رضي الله عنه من ذلك
أخرج الخطيب البغدادي وغيره عن سعيد بن بشير بن ذكوان قال : كان مالك بن أنس إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة يقول : وللبسنا عليهم ما يلبسون .
ذكر ما وقع للإمام الشافعي رضي الله عنه من ذلك
رأيت في تاريخ من دخل مصر للحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في ترجمة التاج الأرموي تلميذ الإمام فخر الدين الرازي ومصنف الحاصل مختصر المحصول في الأصول ما نصه : أملي علي الإمام تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي بالقاهرة نسخة كتاب شاهده بمدينة ساوة في الخزانة الموضوعة في جامعها بخط الإمام الشافعي رضي الله عنه كتبه إلى صاحب مكة شفاعة في الحاج وهذه عبارة الإمام مهد إليك يا سيد البطحاء كلمة طيبة ) كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( وأنا أتشفع إليك في ضعفاء الحاج من ركب الريح ومضغة الشيح . كتبه محمد بن إدريس بن شافع وكان التاريخ مذكوراً فأنسيته انتهى .
ذكر ما وقع لحجة الإسلام الغزالي من استعمال ذلك
قال في أول كتابه المسمى بالانتصار لما في الإحياء من الأسرار ما نصه : سألت يسرك الله لمراتب العلم تصعد مراقيها وقرب لك مقامات الولاية تحل معاليها عن بعض ما وقع في الإملاء الملقب بالإحياء مما أشكل على من حجب فهمه وقصر علمه ولم يفز بشيء من الحظوظ الملكية قدحه وسهمه وأظهرت التحزن لما غاش به شركاء الطغام ، وأمثال الأنعام ، وأتباع الأعوام ، وسفهاء الأحلام ، وعار أهل الإسلام حتى طعنوا عليه ونهوا عن قراءته ومطالعته وأفتوا بمجرد الهوى على غير بصيرة باطراحه ومنا بذته ، ونسبوا ممليه إلى ضلال وإضلال ، ونبذوا قراءة ومنتحليه بزيغ في الشريعة واختلال ، فإلى الله انصرافهم ومآلهم ، وعليه في العرض الأكبر إيقافهم وحسابهم ، فستكتب شهادتهم ويسألون ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ) ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( ( ولكن الظالمين في شقاق بعيد ) ولا عجب فقد ثوى أدلاء(1/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
الطريق وذهب أرباب التحقيق فلم يبق في الغالب إلا أهل الزور والفسوق إلى أن قال : حجبوا عن الحقيقة بأربعة : الجهل ، والإصرار ، ومحبة الدنيا ، والإظهار والله من ورائهم محيط وهو على كل شيء شهيد ، فكان قد جمع الخلائق في صعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ( فأعرض عن الجاهلين ولا تطع كل أفاك أثيم ) ) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ( ( ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة فاصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) ) كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ( هذا نص الغزالي بحروفه .
وقد وقع في دمشق أن الشيخ تقي الدين بن الصلاح أفتي بالمنع من صلاة الرغائب ثم لما قدم الشيخ عز الدين بن عبد السلام أفتى بالمنع منها فعارضه ابن الصلاح ورجع عما أفتى به أولاً وألف كراسة في الرد عليه وضرب له المثل بقوله تعالى : ) أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى ( فألف الشيخ عز الدين كراسة في الرد على ابن الصلاح وقال فيها : وأمان ضربه لي المثل بقوله تعالى : ) أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى ( فأنا إنما نهيت عن شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
وقد حكى ذلك أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث وقال : إن الناس ضربوا لابن الصلاح المثل بقول عائشة في حق سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ، ويشبه هذا ما ورد عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يرى صلاة النافلة قبل صلاة العيد ، وأنه دخل مسجد الكوفة يوم العيد فرأى قوماً يصلون فلم ينههم فقال له من معه : ألا تنهاهم ؟ فقال : لا أكون ممن نهى عبداً إذا صلى . وعن مالك بن أنس أنه أمر بصلاة في وقت كراهة فقام فصلى فقيل له في ذلك : فقال : لا أكون ممن إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون .
فصل : عند علماء البلاغة هذا الأمر شرطاً من شروط الإنشاء قال ابن الأثير في كتابه المثل السائر يفتقر صاحب هذا الفن إلى ثمانية أنواع من الآلات : الأول معرفة العربية من النحو والتصريف . الثاني : معرفة اللغة . الثالث : معرفة أمثال العرب وأيامهم ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام فإن ذلك يجري مجرى الأمثال . الرابع : الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظوم منه والمنثور والتحفظ للكثير منه . الخامس : معرفة الأحكام السلطانية . السادس : حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه . السابع : حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلّم والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال انتهى .
وقد أطبق أرباب الفن على اشتراط ذلك واستعماله في مطاوي الخطب ، والرسائل ،(1/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
والمقامات ونحو ذلك وفهم أئمة فقهاء كبار ومحدثون وزهاد وورعون ، وقد ألف الحريري صاحب المقامات كتاباً سماه توشيح البيان بالملتقط من القرآن قال فيه : أما بعد فإنك أشرت أيها الحبر البر إلى أن ألتقط لك من القرآن الذي أخرس الفصحاء وأفحم البلغاء ما يوشح به المتمثل لفظه ، والواعظ وعظه ، والكاتب كتبه ، والخاطب خطبه فامتثلت أمرك بالانقياد مع الاعتراف بقصور شأو الارتياد عن استغراق هذا المراد والانتهاء إلى جوامع المواد إذ كانت أسرار القرآن لا يدرك غورها وعجائبه لا يزال ينمى نورها ونورها إلى أن قال : وها أنا قد جمعت لك من هذا النمط والدر الملتقط ما رجوت أن يجمع بين رضا الباري وارتضاء القاري .
ذكر ما استعمله الشيخ تاج الدين السبكي
في خطبة كتاب الأشباه والنظائر من تضمين الآيات ، والأحاديث
قال : فمنهم أو كلهم من أحب حب الخير وسار على منهاجه أحسن سير إلى أن قال : وسيد هذه الطائفة أبو بكر بن الحداد تقدم هذه الفرقة تقدم النص على القياس وسبق وهي تناديه ما في وقوفك ساعة من باس وتصدر ولو عورض لقال لسان الحال الحق مروا أبا بكر فليصل بالناس إلى أن قال : وأنفق من خزائن علمه ولم يخش من ذي العرش إقلالاً هكذا هكذا وإلا فلا لا إلى أن قال : وجاء هذا الكتاب على وفق مطلوبه ، كاملاً في أسلوبه ، شاملاً للفضل بعيده وقريبه ، شفاء لما في الصدور ووفاء لما للعلم في ذمة بني الدهور إلى أن قال : وحررته في الدجى بشهادة النجوم ، ولاقيت عسره بهمة نبذت سهيلاً بالعراء وهو مذموم إلى أن قال : وراح الفقيه المستفيد يبدي ويعيد ولا مزيد على تحقيقه ، وينفق سوقه فلا يجد من يسكع في ظلام الشبهات غير صبح فضله ، استغلظ فاستوى على سوقه ، وكمل كتاباً طبخ قلوب الحاسدين لما استوى ، وسحاباً لا تغير معه الأغراض الأموية ، قائلة لا نبرح نحن ولا أنت مكاناً سوي إلى أن قال : ولا آمن طائفة تطوف على محاسنه فتأخذها وتدعيها وتدخل وتخرج وليت لها أذناً واعية فتعيها ، وتسرح في روضة فتجني على مصنفه وتجني كل زهر وتسرق ثمره وتقول لا قطع في ثمر ولا كثر إلى أن قال : لعب بها شيطان الحسد وشد وثاقها الذي لا يوثق به حبل من مسد .
ذكر ما استعمله الشيخ بهاء الدين السبكي من ذلك
في خطبة كتاب عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
قال : تشتمل على جناس القلب فتسكن بمد النصر لهبأ يرمي بشرر كالقصر إذا التفت الساق بالساق واشتد كرب ذلك اللف والنشر إلى أن قال : وردوا مناهل هذا العلم فصدروا عنها بملء سجلهم ، وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم إلى أن قال : أولى له فأولى أن يعطي القوس باريها كأنما ضرب بينه وبين العلم بسور من الشدائد وقيل ارجع وراءك فالتمس نوراً إنما أنت تضرب في حديد بارد ، ولو أوتي رشده لألف أن يسخر منه(1/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
الساخر ، واغترف من هذا البحر الزاخر ، واعترف بأنه الذي يلتقط منه جواهر المفاخر ، وترى الفلك فيه بشراع العلم مواخر .
ذكر ما استعمله العلامة زين الدين بن الوردي
في مقامته الحرقة للخرقة
من ذلك قال : أسقط في يوم مشهود تسعة من أعيان الشهود فلو لا نفر من كل فرقة من يذم هذا للبراز الجري على تخريق الخرقة إلى أن قال : سطوة وعتواً واستكباراً في الأرض وعلواً وخوفاً على الدرهم والدينار بل مكر الليل والنهار إلى أن قال : وقالوا : كبرت كلمة واستحلوا سبة وشتمه إلى أن قال : فأقسموا بالله جهد أيمانهم أن ذلك لم يكن في أديانهم إلى أن قال : لقد بالغ في الختل والفتنة أشد من القتل إلى أن قال : ما أولى أحكامه بالانتقاض وما أحقه بقول السحرة لفرعون : ) فاقض ما أنت قاض ( ولولا العافية لتوهمت أن ( ما ) ها هنا نافية إلى أن قال : فكم صاحب مكتوب يبكي على حاله كأنما أوتي كتابه بشماله إلى أن قال : أذهب حب الذهب دهن ذهنه وأفنى ) كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( إلى أن قال : فلا قوة لنا من خمرته ولا حول لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلى أن قال : سكر بخمر الولاية إن في ذلك لآية إلى أن قال شعراً :
جرحت الأبرياء وأنت قاض
على الاعراض بالاغراض ضاري
ألم تعلم بأن الله عدل
ويعلم ما جرحتم بالنهار
إلى أن قال : لقد غاظني عامي يعلو بنفسه والعامة عمى أفتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء إلى أن قال : خذوه فغلوه فإنا نخاف أن يقتلوه واحسموا مادة هذا الكذاب المبير ) إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( .
وقال ابن الوردي أيضاً في مقامة الطاعون : وقهر خلفاً بالقاهرة وتنبهت عينه لمصر فإذا هي الساهرة وقال أيضاً في منطق الطير في الباز : وحنت الجوارح إلي وبعث إلى الطير فإذا هم بالساهرة من عيني إلى أن قال في الحمامة : حملت الأمانة التي أبت الجبال عن حملها وامتثلت مرسوم ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( فمهما حدث على البعد من أخصامك أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك إلى أن قال في البنفسج : فأنا في الحالين مستطاب ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب إلى أن قال في اليوم : ألم تر ما بالحيوان يفعلون فمنها ركوبهم ومنها يأكلون أتدري من يرزق اليوم ؟ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، فلا تغتر بما إدراكه فوت كل نفس ذائفة الموت إلى أن قال في المنثور : وفي اختلاف صبغتي واتحاد طينتي دليل على وحدانية جبلتي الذي خلق الإنسان من مضغة صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة إلى أن قال في الريحان : اعتدل لوني ولطف كوني وما أبرىء نفسي إذ كان النمام من جنسي وأرجو أن يكون للتوبة منتهياً(1/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً إلى أن قال في الخفاش : وبالليل أكشف الغطا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ إلى أن قال في الديك : أنا قد أذنت فأقمت الصلاة ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله أنهاكم عن معصية الله بخروج الوقت فلا تعصوه والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه كم منحت أهل الدار إخائي وولائي وهو يذبحون أبنائي ويستحيون نسائي إلى أن قال : ومزقوا قباءه الملون فاصبر واحتسب تماماً على الذي أحسن إلى أن قال في الخزامي : واهين بالدوس واللمس وشروه بثمن بخس إلى أن قال في البط : فما هو بماش على الماء إليه ولا طائر يطير بجناحيه إلى أن قال في النمل : أتدري من أعطى النمل هذي القوى فألق الحب والنوى إلى أن قال : فانتفخ الشقيق في عروقه فاستغلظ فاستوى على سوقه إلى أن قال : فسرت سر سير ولباس التقوى ذلك خير لا تكن كالمنافقين الذين بطن كفرهم وظهر إسلامهم وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم إلى أن قال : أما أنت أيها الفراش فلا تتبع الهوى ولا تكذب في الدعوى إلى أن قال : فتلقي نفسك فيها غروراً وتحسب النار نوراً فتدعو ثبوراً وتصلي سعيراً إلى إن قال : فإن كنتم من النسكة فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بلى من أراد الفخار بشهادة اثنين إذهما في الغار إلى أن قال : نحن من الموت على يقين قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين إلى أن قال : أفي كتاب منزل رأيتموها أم عن نبي مرسل تلقيتموها إن هي إلا أسماء سميتموها إلى أن قال : تحسدني على سواد الثياب وقال : يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب إلى أن قال : فلو صحت حتى تنشق وجاءت سكرة الموت بالحق إلى أن قال : وهون الأشياء ولا تنس نصيبك من الدنيا .
وقال ابن الوردي أيضاً في مفتتح كتاب خريدة العجائب ، وفريدة الغرائب : الحمد لله غافر الذنب قابل ، التوب شديد العقاب عالم الغيب راحم الشيب منزل الكتاب إلى أن قال : ساطح الغبراء على متن الماء فيمسكه بحكمته عن الاضطراب منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم يوم الحشر والمآب ، وقال ابن الوردي أيضاً في مفاخرة السيف ، والقلم : فقال القلم : بسم الله مجراها ومرساها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها إلى أن قال : بسم الله الخافض الرافع وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع إلى أن قال : الجنة تحت ظلاله ولا سيما حين يسل فترى ودق الدم يخرج من خلاله ما هو كالقلم المشبه بقوم عروا عن لبوسهم ثم نكسوا على رؤسهم فكأن السيف خلق من ماء دافق أو كوكب راشق إلى أن قال : قال القلم : أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين يفاخر وهو قائم عن الشمال الجالس عن اليمين إلى أن قال : أنت للرهب وأنا للرغب وإذا كان بصرك حديداً فبصري ما ذهب إلى أن قال : فطالما أمرت بعض فراخي وهي السكين فأصبحت من النفاثات في عقدك يا مسكين إلى أن قال : تفصل مالا يفصل وتقطع ما أمر الله به أن يوصل لا جرم سمر السيف وصقل قفاه وسقى ماءاً حميماً فقطع أمعاه إلى أن قال : أنا من مارج من نار والقلم من صلصال كالفخار إلى أن قال : فتلا ذو القلم لقلمه إنا أعطيناك(1/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
الكوثر ، فتلا صاحب السيف لسيفه فصل لربك وانحر . فتلا ذو القلم لقلمه إن شانئك هو الأبتر ، قال القلم : أما وكتابي المسطور وبيتي المعمور إلى أن قال : مع أني ما ألوتك نصحاً أفنضرب عنكم الذكر صفحاً .
وقال القاضي عياض في خطبة كتاب الشفا : وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ، وقال أيضاً : حملتني من ذلك أمراً إمراً وأرهقتني فيما ندبتني إليه عسرا .
وقال الخطيب ابن نباته القديم في خطبة له : فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون مالكم لا تشفقون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل أنكم تنطقون .
وقال عبد المؤمن الأصفهاني صاحب أطباق الذهب في الوعظ : فمن عاين تلون الليل والنهار لا يغتر بدهره ، ومن علم أن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره ، فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .
وقال العماد الكاتب في كتاب فتح بيت المقدس والبلاد الشامية واستخلاصها من يد الفرنج على يد السلطان صلاح الدين بن أيوب : والفرق بين فتوح الشام في هذا العصر وبين فتوحه في أول الأمر فرق يتبين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى أن قال : والشام الآن قد فتح حيث الإسلام قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا ، وهريق شبابه وقد عاد غريباً كما بدأ غريباً ، وطال الأمد على القلوب فقست ورانت الفتن على البصائر فطمست وعرض هذا الأدنى قد أعمى وأصم حبه ، ومتاع هذه الحياة القليل قد شغل عن الحظ الجزيل في الآخرة كسبه وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون وأمدهم في طغيانهم يعمهون إلى أن قال : فكل معاد معادي إلا هذا المعاد ، وكل مداد يكتب به أسود إلا هذا المداد ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون . إلى أن قال : فساروا مدججين وسروا مدلجين وصبحوا صفورته وساء صباح المنذرين .
وقال الإمام ضياء الدين بن الأثير في رسالة : وعباد الله الصالحون إذا حلوا بأرض أمنت وسكنت وأخذت زخرفها وازينت . وقال في رسالة أخرى : وقلما ولى أمرؤ قوماً فشكروا أثر مقامه وتألموا لفقد أيامه إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ، وقال في تقليد حسنه : فابدأوا أولاً بالنظر في العقائد واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية الذي هو سبيل واحد ، وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا موطن الحق فأقاموا وقالوا ربنا الله ثم استقاموا ، ومن عداهم فشعب كانوا دياناً ، وعبدوا من الأهواء أوثاناً ، واتبعوا ما لم ينزل الله به سلطاناً ، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول إلى أن قال : فخذهم بآلة التعزيز التي هي نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى إلى أن قال : وأما التسعير فإنه وإن آثره القاطنون وحكم به القاسطون قيل إن ذلك لمصلحة الفقير في تيسير العسير فليس لأحد أن يكون نداً لله في خفض ما رفع وبذل ما منع ، فقف أنت حيث أوقفك حكم الحق ، ودع ما يعن لك من مصلحة الخلق ، ولا تكن ممن تبع الرأي والنظر وترك الآية(1/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
والخبر ، فحكمة الله مطوية فيما يأمر به على ألسنة رسله ، وليست مما يستنبطه ذو العلم بعلمه ، ولا يستدل عليه ذو العقل بعقله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً . وقال في رسالة تشفع إلى الخليفة : وحباه من عمر الزمان بعقد ألف ومن خلقه بعقيدة الألف وجعل عقبه كلمة باقية إذا أصبحت الأعقاب كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف إلى أن قال : وهو يرجو أن لا يكون في رجائه هذا من الخائبين ، وأن يقال له أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ، وليس هنا إلا عفو أمير المؤمنين ، الذي لا يحتاج إلى سفير وفيه يصح ويعفو عن كثير .
وقال في رسالة أخرى عن الملك الظاهر غازي إلى الخليفة الناصر ولما بلغ الخادم محضره قال : أني نذرت للرحمن صوماً وعد يومه بالدهر كله وإن كان في الأيام يوما . وقال في رسالة أخرى : فعبقت الأسماع بهذا الخبر الأريج ، واهتزت له الآمال وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . وقال في رسالة أخرى : فأصبحت يدي حمالة الحطب وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب : وقال في رسالة أخرى : ومحاهم الخطب ولم يكن الخطب بمريب وكان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب . وقال في رسالة أخرى : فظن في سورة قوة الاحتماء وقال : سآوى إلى جبل يعصمني من الماء . وقال في أخرى : وعند ذلك عمد العبد إلى ما أميت بها من عدل فجعله حباء منشوراً وقدم إلى ما عمل بها من عمل فجعله هباء منثوراً إلى أن قال : تبعتهم على ذلك وكابد أسباب منها آيات محكمات هن أم الكتاب إلى أن قال : ويرجو العبد أن تكون ولايته هذه ولاية بر وإلطاف ، وأن يرزق الله الناس أعواماً سماناً يأكلن ما تقدم من العجاف ، وأن يكون ممن أصاب الله به قوماً إذا هم يستبشرون ، وأن يجعل عامه هو العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ، ولقد وجد من ألطاف الله مرة بعد أخرى ما يقال معه إن في ذلك لذكرى ، فما يريه من آية إلا هي أكبر من أختها مقاماً ، وكذلك يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما .
وقال البيضاوي في أول تفسيره : الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً إلى أن قال : ثم بين للناس ما نزل إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ليديروا آياته وليتذكر أو لو الألباب تذكيراً إلى أن قال : ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيراً ، فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد ، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه يعش ذميماً ويصلي سعيرا .
وقال ابن المنير في الأنتصاف في مسألة رد فيها على الزمخشري ما نصه : ولو نظر بعين الإنصاف إلى جهالة القدرية وضلالها لا نبعث إلى حدائق السنة وظلالها ولتزحزح عن مزالق البدعة ومزالها ولكن كره الله انبعاثهم ليعلم أي الفريقين أحق بالأمن والدخول في العلم .
وقال ابن دقيق العيد في خطبة كتابه الإلمام : ولم يكن ذلك مانعاً لي من وصل ماضيه بالمستقبل ولا موجباً لأن أقطع ما أمر الله به أن يوصل .(1/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
وقال ابن الساعاتي من أئمة الحنفية في شرح كتابه مجمع البحرين : فكانت حالة عجزت البلغاء عن نعتها ونطقت بها ألسن طالت مدة صمتها وما ينعم الله بنعة إلا وهي أكبر من أختها .
وقال الشيخ جمال الدين الأسنوي في خطبه المهمات : وإذا تأمل المنصف هذا التصنيف وأمعن النظر في هذا التأليف ، حكم بأنه لنظم الكتابين كالقوافي وأن هذا الثالث هو ثالث الأثافي ، وربما تأمله بعض أبناء الوقت ممن أدركه الخزي والمقت ، واتخذ إلهه هواه وشيطانه مولاه ، وألبسه الله رداء الحسد وسربال الشقاوة وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، فنظر إليه بطرف خفي وصم عن إدراك ما فيه وعمى كما وقع في الكتاب الأول الموضوع لبعض هذه الأنواع المسمى بالجواهر فلم يكن ذلك مانعاً إن أشفع بالثاني الأول ولا قاطعاً ما أمر الله به أن يوصل .
فصل : ومن أكثر الناس استعمالاً لذلك الصوفية وقد يسمى ضرب مثل وقد يسمى إشارة بحسب اختلاف المورد ، وكتبهم مشحونة بذلك ومحاوراتهم ومخاطباتهم حتى ذكروا أن منهم من أقام برهة لا يتكلم ولا يخاطب أحداً إلا من القرآن ، وممن حكى عنه استعمال ذلك في محاوراته الجنيد ، والسري ، ومعروف الكرخي ، والشبلي . حضر شيخ من الصوفية سماعاً فحصل لبعض المريدين وجد فأراد أن يقوم فقال له الشيخ : الذي يراك حين تقوم فسكن عن القيام ، ودخل آخر على جماعة وهم سكوت فقال : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، ودخل رجل على بعض الأولياء فاستحقره في عينه فقال : سرا حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً فاطلع الولي على ذلك بطريق الكشف فقال له : يا فلان اقرأ ما بعدها . وفي لطائف المنن للشيخ تاج الدين بن عطاء الله قال الجنيد : التصديق بعلمنا هذا ولاية وإذا فاتتك المنة في نفسك فلا يفتك أن تصدق بها في غيرك فإن لم يصبها وابل فطل . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي في حزبه المشهور : نسألك العصمة في الحركات والسكنات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب ، فقد ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ، ليقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في الحكم : ما أرادت همم سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادتها هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك ولا تبرجت ظواهر المكنونات إلا نادتك به حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وقال : لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحا يسير ، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون وأن إلى ربك المنتهى ، وقال : لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وافرح بها لأنها برزت من الله إليك ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون . وقال : قوم اقامهم الحق لخدمته وقوم اختصهم بمحبته كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا . وقال : ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ، وقال : الحقائق لا ترد في حال التجلي مجملة وبعد الوعي يكون البيان ، فإذا قرأناه فأتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ، متى(1/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
وردت الواردات الإلهية إليك هدت العوائد عليك إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وقال : الوارد يأتي من حضرة قهار لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . وقال : بل دخلوا إلى ذلك بالله ولله ومن الله وإلى الله ، وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني ، واستسلامي وانقيادي إليك إذا اخرجتني ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً تنصرني وتنصر بي . وقال السلفي في بعض أحزابه : سمعت أبا محمد جعفر بن أحمد بن الحسين بن السراج النحوي ببغداد يقول : رأيت على أبي الحسن القزويني الزاهد ثوباً رفيعاً ليناً فخطر ببالي كيف مثله في زهده يلبس مثل هذا ؟ فقال في الحال بعد أن نظر إلي : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قال : وحضرنا عنده يوماً لقراءة الحديث فتمادى بنا الوقت إلى أن وصلت إلينا الشمس وتأذينا بحرها فقلت في نفسي : لو تحول الشيخ إلى الظل ، فقال والله في الحال : قل نار جهنم أشد حراً .
فصل : ومن مصطلح أهل فن البلاغة أن يصدروا إنشاءاتهم بآية من القرآن الكريم فيها مناسبة لما هم بصدده ويوردوها بعد البسملة من غير تصدير بقال الله تعالى أو نحوه لتكون البسملة ملاصقة للآية من غير فاصل ، أنشأ الشهاب ابن فضل الله صورة مبايعة للخليفة الحاكم ابن المستكفي العباسي أورد صدرها : ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله إلى آخر الآية ( وقرىء ذلك بحضرة القضاة الأربعة ومشايخ الإسلام والدين بالديار المصرية وكانوا جماً غفيراً وعدداً كثيراً فما منهم من أبدى لذلك نكيراً وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة .
وأنشأ الجمال اليعموري كتاب بشارة بخلاص دمياط من الفرنج بحضرة الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأرسله إلى بغداد لحضرة الخليفة أورد صدره : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( وأنشأ ابن الأثير كتاباً عن زعيم الموصل إلى صدر الدين شيخ الشيوخ ببغداد يبشره بعود مملكته إليه أورد صدره : ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( وأنشأ تقليداً لقاضي القضاة بالديار المصرية أورد صدره : ) رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أتعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ( وأنشأ أيضاً رسالة في رجل غضب عليه الخليفة أورد صدرها : ) ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( وأنشأ الحافظ فتح الدين بن سيد الناس رسالة في صلح بين طائفة أورد في صدرها : ) أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( وأنشأ ابن الأثير كتاباً في تهنئة الخليفة بمولود أورد صدره : ) ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب ( وأنشأ كتاباً إلى أخيه العلامة مجد الدين صاحب جامع الأصول يذكر مفارقته مصر أورد صدره : ) كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين ( .(1/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
وأنشأ كتاباً إلى الخليفة عن الملك الأفضل حين حوصرت دمشق أورد صدره : ) وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( وأنشأ كتاباً إلى الخليفة عن الملك الرحيم وكانت طائفة من مماليكه أرادوا الفتك به فظفر بهم أورد صدره : ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ( 1 .
وأنشأ الكمال عبد الرزاق الأصبهاني مقامة في القوس أورد صدرها : ) ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ( وكتب الشيخ علي بن وفا رسالة إلى بعض أصحابه أورد صدرها : ) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ( ( 01 وألف الحافظ الذهبي كتاباً في رتن الذي ادعى الصحبة بعد الستمائة سماه كسر وثن رتن أورد صدره : ) سبحانك هذا بهتان عظيم ( 1 وأنشأ بعض الفضلاء كتاب بشارة بفتح بلاد النوبة والسودان لما غزيت أورد صدره : ) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل ( 1 وأنشأ فخر الدين بن الدهان كتاباً إلى القاضي الفاضل يسأله الصلح لأمير المواصلة مع السلطان صلاح الدين بن أيوب افتتحه بقوله : ) قل اللهم فاطر السموات والأرض علم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ( .
وأعظم من هؤلاء كلهم وأفضل وأفخم وأكمل إمام العلماء والبلغاء إمامنا الإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه سلك مسلك البراعة وأتى بواجب هذه الصناعة فصدر كتاب الرسالة بهذه الآية ) الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( وبنى عليها الخطبة ولم يصدرها بقوله : قال الله تعالى ، بل وصلها وذلك لأن الخطبة من نوع الإنشاء فكان واجبها وصل الآية بالبسملة من غير أن يقال قال الله ونحوه ، ثم لما عقد الأبواب وأورد الآيات فيها للاحتجاج صدرها بقوله : قال الله تعالى ، فأعطى كل مقام حقه ووفى كل موضع قسطه ، وكيف لا وهو إمام الفصاحة والبلاغة والبراعة والذي يقتدي به أكابر هذه الصناعة .
فإن قلت : هل لذلك من نكتة يستحسنها أهل الذوق أو دليل من الحديث النبوي يطرب إليه أهل الشوق ؟ قلت : نعم أما النكتة فشيئان أحدهما أنهم أرادوا أن يجعلوا الآية مقام خطبة المقامة أو الرسالة أو نحوها بجامع أنها ذكر والخطبة ذكر ، كما جعل البخاري حديث : ( إنما الأعمال بالنيات ) مقام خطبة الكتاب فافتتح به . والثاني أنه لما كانت البسملة من القرآن والآية من القرآن ناسب أن لا يفصل بينهما بشيء بل تكون ملصقة بها ألا ترى أن القارىء إذا أراد أن يقرأ من أثناء سورة فإنه يستحب له أن يبسمل ويقرأ عقبها من الموضع الذي أراده ولم يقل أحد من الأمة أنه إذا بسمل يقول قال الله ثم يشرع في القراءة إنما يفعل ذلك من أراد إيراد آية للاحتجاج ونحوه ، وأما من أراد محض القراءة فلا يفعل ذلك بحال ولو فعله عد بدعة وخلافاً لما عليه الأئمة سلفاً وخلفاً ، ولما نص عليه أئمة القراءات في كتبهم ، ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرد قط عنه صلى الله عليه وسلّم ولا عن أحد من أصحابه ولا من سائر الأمة أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقرءوا من أثناء سورة يقولون(1/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
عقب البسملة : قال الله تعالى في مفتتح قراءتهم ، بل كانوا يقرءون الآية موصولة بالبسملة من غير أن يقولوا قال الله ، وإذا أرادوا إيراد آية للاحتجاج على حكم أو نحوه يقولون قال الله تعالى كذا من غير أن يبسملوا ، هذا ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ، والصحابة ، والتابعين وهلم جرا ، وعليه عمل الإمام الشافعي فإنه لما أراد افتتاح الخطبة بسمل ووصل البسملة بالآية من غير أن يقول قال الله ، ولما أراد الاحتجاج في الأبواب بالآيات قال : قال الله وذكر الآية من غير بسملة ، وعلى ذلك عمل علماء الأمة وبلغائها كافة .
وأما الدليل فعام وهو ما أشرنا إليه من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم في القراءة ، وخاص ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلّم كتب كتاباً إلى اليمن فصدره بعد البسملة بآية كالخطبة والعنوان وبراعة الاستهلال للكتاب ووصلها بالبسملة من غير أن يقول قال الله تعالى ونحوه ، وبذلك اقتدى الأئمة والبلغاء في مكاتباتهم ورسائلهم وخطبهم وانشاءاتهم .
قال البيهقي في دلائل النبوة : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندنا الذي كتبه لعمرو ابن حزم حين بعثه إلى اليمن فكتب له كتاباً وعهداً فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره أن يبشر الناس بالخير وساق الكتاب بطوله ، وقال ابن أبي شيبة في المصنف : ثنا سليمان بن داود عن شعبة عن أبي إسحاق قال : كتب إلينا ابن الزبير بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان صدقة الفطر صاع صاع .
فصل : وأما الاقتباس في الشعر فلم ينص عليه متقدمو أصحابنا مع شيوعه في أعصارهم واستعمال الشعراء له قديماً وحديثاً ، فسكوتهم على ذلك وعدم نصهم على تحريمه يدل على أنهم رأوه جائزاً كضرب الأمثال والاقتباس في النثر ، وأصرح من ذلك أن جماعة من أئمة المذهب استعملوه في شعرهم قال الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات في ترجمة الأستاذ أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي أحد كبار الأصحاب وأجلائهم من شعره قوله :
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف
ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
قال ابن السبكي : استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره فائدة فإنه جليل القدر ، وبعض الناس بحث أنه لا يجوز ، وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين ، وقد فعل هذا وأسند عند هذين البيتين الأستاذ الحافظ أبو القاسم بن عساكروهما حجة في جواز مثل ذلك .(1/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
قلت : وروى البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال : أنشدنا أحمد ابن محمد بن يزيد لنفسه :
سل الله من فضله واتقه
فإن التقي خير ما يكتسب
ومن يتق الله يجعل له
ويرزقه من حيث لا يحتسب
فإسناد البيهقي هذا الشعر وتخريجه في مثل هذا الكتاب الجليل يدل على أنه يجوزه ، وقد استعمله أيضاً الإمام الرافعي وناهيك به إمامة وجلالة وورعاً فقال : وأنشده في أماليه ورواه عنه الأئمة :
الملك لله الذي عنت الوجو
ه له وذلت عنده الأرباب
متفرد بالملك والسلطان قد
خسر الذين يحاربوه وخابوا
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم
فسيعلمون غداً من الكذاب
واستعمله أيضاً شيخ الشيوخ الحموي ، وابن الوردي ، وجمع من المتأخرين آخرهم الحافظ ابن حجر ، ولما أنشأ شيخنا الشهاب الحجازي كتابه في اقتباسات القرآن أوقفه عليه فكتب له خطه عليه وأثنى عليه . وقال الشرف بن المقري صاحب الروض والإرشاد في شرح بديعيته : ما كان من الاقتباس في الشعر في المواعظ والزهد ومدحه صلى الله عليه وسلّم وآله وصحبه فهو مقبول وغيره مرود ، وقال التقي بن حجة : الاقتباس ثلاثة أقسام : مقبول ، ومباح ، ومردود ، فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود . والثاني ما كان في الغزل والرسائل والقصص . والثالث ما كان في الهزل والخلاعة . وذكر الشيخ علاء الدين بن العطار تلميذ النووي في كتاب له ألفه في الشعر أنه سأل النووي عن الاقتباس فأجازه في النثر وكرهه في الشعر ، ووافقه على ذلك الشيخ بهاء الدين بن السبكي فجوزه في النثر واستعمله وقال : الورع اجتنابه في الشعر ، ذكره في عروس الأفراح . قلت : وعلة التفرقة بين النثر والشعر ظاهرة ، فإن القرآن الكريم لما نزه عن كونه شعراً ناسب أن ينزه عن تضمينه الشعر بخلاف النثر . هذا مجموع المنقول عندنا في هذه المسألة ، وحاصله الاتفاق على جواز ضرب الأمثال من القرآن واقتباسه في النثر والاختلاف في اقتباسه في الشعر ، فالأكثرون جوزوه واستعملوه منهم الرافعي ، وأما النووي ، والبهاء بن السبكي فكرهاه ورعاً لا تحريماً ، ولم أقف على نقل بتحريمه لأحد من الشافعية ، ومحل ذلك كله في غير الهزل والخلاعة والمجون ، ويلتحق بما نحن فائدة جليلة . ذكر جماعة من المتأخرين منهم الشيخ ولي الدين العراقي عن الشريف تقي الدين الحسيني أنه نظم قوله :
مجاز حقيقتها فاعبروا
ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له ( زخرف )
تراه ( إذا زلزلت ) ( لم يكن )
ثم توقف لأنه استعمل هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى الشيخ تقي الدين بن(1/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
دقيق العيد ليستفتيه عن ذلك فلما أنشده إياهما قال له الشيخ قل : ( وما حسن كهف ) فقال : يا سيدي أفدتني وأفتيتني ، ثم رأيت الشيخ داود الباخلي الشاذلي تعرض للمسألة في كتابه المسمى باللطيفة المرضية في شرح دعاء الشاذلية وبسطها أحسن بسط فقال ما نصه : قوله يعني الشيخ أبا الحسن الشاذلي فقد ابتلى المؤمنون إلى آخره هذا اللفظ موافق للفظ التلاوة إلا في قوله : فقد ابتلى المؤمنون وليقول المنافقون ، والقرآن هنالك ابتلى المؤمنون وإذ يقول المنافقون ولم يرد بذلك التلاوة ولو أريد التلاوة لتعين الإتيان بلفظها ، إذ لا يحل لمسلم أن يزيد حرفاً في القرآن ولا ينقص حرفاً ، وكل مؤمن يعلم ذلك ويقطع به وذلك معلوم ضرورة عند المؤمنين فكيف العلماء العارفين ؟ وإذا لم يقصد التلاوة جاز للإنسان النطق باللفظ الموافق للتلاوة سواء كان جنباً أو متطهراً ، ويجوز مسه مكتوباً على غير وضوء لأنه إذ ذاك ليس بقرآن ، وإذا كان كذلك جاز أن يزيد لفظاً وينقص لفظاً كغيره من الكلام ، قال : وقد وقعت هذه المسألة خصوصاً في وقت وتردد سؤال الناس مني عنها وأجبت عنها قال : وهذا نص السؤال : هل يجوز ذكر كلمات يسيرة مما يذكر في القرآن العظيم ويقصد به معنى غير ما هو في القرآن كقوله لمن استأذن عليه ادخلوها بسلام آمنين ، أو يا يحيى خذ الكتاب بقوة ، أو عتب على أمر فقال : كان ذلك في الكتاب مسطوراً فإن مدلول اسم الإشارة في قوله غير ما هو في القرآن أو أراد أن يخبر عن حال نفسه هو فقال : وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ، أو وقعت فتنة فثبت قوم واضطرب آخرون فقال : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ، أو ضمن ذلك خطبة أو رسالة قاصداً سياق قوله غير قاصد معاني التلاوة ، وإذا جاز ذلك فهل له أن يزيد في ذلك وينقص منه أو يغير نظمه بتقديم أو تأخير أو تغيير حركة إعراب ونحو ذلك ؟ ونص الجواب : الكلام في جواب هذا السؤال مستمد من وجهين : أحدهما : تحقيق معاني ذلك وتبيين وجوه قواعد تنبني عليها وجوه معانيه وذلك يستدعي الكلام من علوم غامضة جليلة هي أساس العلوم ومستنار الفهوم قل من يصل بالتحقيق إليها ، وكثير من الناس لم يعرج عليها وما ذاك إلا لعلوها عن فهم العموم وغموض معانيها على كثير من الفهوم كعلم قواعد معرفة إعجاز القرآن ، وعلم أصول الدين ، وأصول الفقه ، ودقائق علوم العربية ، واللغة وأسرارهما ، وعلم البيان ، والبديع ، والمعاني وتصرف اللسان العربي ، وسعة ميدانه ، والنظر في سرعة تصريف جواد البلاغة عند إطلاق عنانه في أنحاء أنواع الكلام ، والتصرف في بدائع المعاني في التوصل إلى الأفهام ، ولكل عبد في مقدار فهمه ومبلغ علمه حال ولكل مقام مقال
ولقد بلغني عن الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه سئل عن مسألة في نحو ذلك وكان بالاسكندرية فقال : لا أجيب عن هذه المسألة في هذه البلدة ، وما ذاك إلا لدقة الجواب عن أفهام كثير من الناس لأنه إذا لطف الكلام في دقائق العلوم استصعب ذلك على فهم من لم يكن ذا فهم ثاقب وذهن صحيح وممارسة لكثير من العلوم التي هي أدوات لإدراك غامض المعاني ، ولقد ذاكرت الشيخ الإمام شيخ وقته وإمام عصره شيخنا الشيخ(1/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
شمس الدين الجزري في مسألة من ذلك فقال لي : حضرت مع جماعة من الفقهاء فحاولت أن أوصل إلى أذهانهم معنى هذه المسألة فلم يمكن لبعد أذهانهم عن إدراك ذلك ، والأصل الآخر المعتمد عليه في بيان ذلك وهي القواطع السمعية والنقول البينة الجلية التي تقرع الأسماع ويرتفع عند وجودها النزاع ، وفي ذلك أعظم كفاية وأكبر حجة وأجل بيان وأوضح محجة ، إذ النقول الصريحة يصل إلى فهم معناها وإدراك دلالتها عموم الأفهام ، ويشترك في الوصول إلى العلم بها الخاص والعام ، وفي تقصيها والنظر لما فيها ما هو جواب عن هذا السؤال وبيان لمثل هذا الحال وذلك نوعان : أحدهما ذكر ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار وكلام الأئمة ، والعلماء والخطباء ، والأدباء وما سطره في ذلك علماء البيان وأئمة اللسان قولاً . والثاني ما ذكره العلماء أئمة الفتوى في ذلك حكماً ، وذلك أمر في ذلك كاف وجواب في المسألة شاف ، أما النوع الأول فمن ذلك ما رواه مسلم عن علي : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام إلى الصلاة قال : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ) الحديث ، هذا ظاهر في الدلالة على ذلك لأن التلاوة إني وجهت وجهي وأنا أول المسلمين ، ففي ذلك أوضح بيان وأشفى جواب لما ذكر ، وقد نص على ذلك القاضي عياض في شرح مسلم عند ذكره الحديث وقال : وجه قوله من أنه لم يرد تلاوة الآية بل الإخبار بالاعتراف بحاله فنبه بذلك على قواعد جليلة من أنه يجوز أن يراد بشيء من كلمات القرآن غير التلاوة ، وقد نص على ذلك الأئمة من المالكية والشافعية وعلم ذلك من قولهم ، وأنه إذا أريد بذلك غير التلاوة جاز أن يحذف شيء منه ويزاد على سياق قول قائلة ، ومن ذلك ما رواه البخاري في حديث هرقل فإن فيه : ( ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة إلى قوله بأنا مسلمون ) فذكر فيه سلام على من اتبع الهدى والتلاوة والسلام ، وذكر فيه ويا أهل الكتاب ، ومن ذكل ما رواه البخاري ، ومسلم عن أنس قال : ( كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم : ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) والتلاوة ربنا آتنا ، وقد سماه أنس دعاءاً ولم يسمه تلاوة ، وفي البخاري حديث : ( لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يبعث ) الحديث ، وحديث عبادة بن الصامت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : وحوله عصابة من أصحابه : ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف ) . وحديث ابن عمر : ( قدم النبي صلى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) . وحديث البراء : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى نحو بيت(1/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله : ) قد نرى تقلب وجهك في السماء ( فتوجه نحو الكعبة ) وقال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ومن ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) [ وروى أيضاً عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) ] ففي ذلك دلالة ظاهرة على المعنيين جميعاً الحذف حيث حذف الهاء من تفعلوه والزيادة والقصد سياق كلام المتكلم إذا قصد غير التلاوة .
ومن ذلك ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يدعو فيقول : ( اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر . حسباناً اقض عني الدين وأغنني من الفقر ) وروى في كتاب إلى ملك فارس من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس إلى قوله : فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين . وروى في عهد أبي بكر لعمر : هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله إلى أن قال : والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . وفي رسالة أبي بكر إلى علي أيام توقفه عن البيعة فقال [ في آخره ] والله على ما نقول شهيد وبما نحن عليه بصير . وقال علي في جوابه آخر كلام له : وإني عائد إلى جماعتكم ومبايع صاحبكم إلى قوله : ليقضي الله أمراً كان مفعولا وكان الله على كل شيء شهيداً .
ومن رسائل القاضي الفاضل : وقد ذكر الفرنج وغضبوا زادهم الله غضباً وأوقدوا ناراً للحرب جعلها الله لهم حطباً ، ومن ذلك قول الفقيه الإمام الخطيب عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة في خطبه المشهورة السائرة شرقاً وغرباً قال في خطبة : هنالك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب ويجمع من وجب له الثواب وحق عليه العذاب فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . وقال في خطبة أخرى : يا له من نادم على تضييعه أسفاً على السيء من صنيعة حين عاين رتب الصالحين وأبصر منازل المفلحين الذين قدروا الله حق قدره وكانوا نصب نهيه وأمره ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكره . وقال في أخرى : ألا وإن الجهاد كنز وفر الله به أقسامكم وحرز طهر الله به أجسامكم وعز أظهر الله فيه إسلامكم ، فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، فأحسنوا رحمكم الله الثقة بمن لم يزل بكم براً لطيفاً وقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، واغتنموا بمقارعة العدو وقرب الفرج فإن الله اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج . وقال في أخرى : وخرست الألسن الفصيحة عن الكلام وقضى بدار البوار لمن حرم دار السلام وعرف المجرمون بسيماهم فأخذوا بالنواصي والأقدام ، وكلامه في نحو ذلك كثير في خطبه ، وكذلك غيره من الفصحاء والعلماء وأئمة اللسان ، والاستدلال على ذلك بهذه(1/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
الخطب ظاهر جلي لأنها [ خطب ] اشتهرت على رؤوس المنابر ، وذكرت في جمع المسلمين وجموعهم ، وتكررت على أسماع كثير من العلماء والأئمة الأكابر ، فالاحتجاج بها على مثل ذلك جلي ظاهر . وقال القاضي الإمام ناصر الدين ابن المنير في خطبه المشهورة مع اشتهاره بالعلوم الدينية والأدبية وتقدمه وتبحره في ذلك وسيادته فقال في خطبة : كيف بك إذا جئت وأنت لجميع ما خلفت فاقد وجاءت كل نفس معها سائق وشاهد ، . وقال في أخرى : الحمد لله الذي يدافع عن الذين آمنوا ويكافىء بالحسنى والزيادة الذين أحسنوا . وقال في أخرى : بل هو الفرد الصمد الواحد الأحد يسمع النجوى ويعلم السر وأخفى وهو تعالى أينما كنا معنا . وقال في أخرى : ف الله الله عباد الله شمروا الذيل فإن السيل قد بلغ الزبي فحلوا الحبا وسلوا الظبا وأعدوا لعدوكم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبونهم به رهباً .
قال : والاستدلال بهذه الخطب على نحو ماتقدم في تلك وتزيد هذه بوفور علم من نسبت إليه وتقدمه في العلوم الشرعية عليه . وإنما ذكرت هذه من هذين لشهرتهما وكثرة دور خطبهما بين الناس وكثرتهما ، وإلا فكلام العلماء والفصحاء في هذا المنهاج متسع وكثير ، وسلوك أرباب العلوم والآداب في ذلك معلوم وشهير .
وقال الحريري في المقامة الثانية الحلوانية : فلم يك إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب ، وقال في الخامسة الكوفية : فهل سمعتم يا أولى الألباب بأعجب من هذا العجاب ؟ فقلنا : لا ومن عنده علم الكتاب . وقال في السادسة : لقد جئتم شيئاً إداً وجرتم عن القصد جداً . وقال فيها أيضاً : فإن كنت صدعت عن وصفك باليقين فأت بآية إن كنت من الصادقين . وقال في الاسكندرية : واصبر على كيد الزمان ومره فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده . وقال في الرجبية : كلا ساء ما تتوهمون ثم كلا سوف تعلمون . وقال في الميافارقية :
ولا سما يفتح مستصعبا
مستغلق الباب منيعاً مهيب
إلا ونودي حين يسموله
نصر من الله وفتح قريب
وقال في البغدادية : فعاهدني أن لا أفوه بما اعتمد ما دمت حلاً بهذا البلد . وقال في الملطية : فقال افعل لئلا يرتاب المبطلون ويظنوا بي الظنون ، ومثل ذلك ونظائره كثير جداً ، والقصد التنبيه على ما ذكر ليعلم الناظر أنه أمر ظاهر مشهور معلوم والاستشهاد بما في المقامات لكثرة دورها بين الناس واشتهارها واطلاع علماء الإسلام على ما فيها وقراءتها وإقرائها وحفظها وشرحها والاعتناء بها يوضح صحة الاستشهاد بما فيها على ما ذكروها . أنا أذكر جملة دالة على صحة ذلك مؤكدة لما نحن بسبيله مما ذكره الأئمة وعلماء البلاغة وفرسان اللسان والذين يرجع إليهم في مثل هذا الشأن ، ليعلم أن ذلك عندهم معلوم السبيل علماً جزماً ، وأنه مشهور بينهم نثراً ونظماً ، وأنشد القاضي أبو بكر الباقلاني في ذلك جملة في كتاب الإعجاز له . وأنشد الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتاب الفوائد له قال : أنشدني(1/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
بعض البغداديين :
رحل الظاعنون عنك وأبقوا
في حواشي الحشاء وجداً مقيما
قد وجدنا السلام برداً سلاما
إذ وجدنا النوى عذاباً أليما
وأما علماء البيان في كتبهم فقد أكثروا من ذلك أنشدوا للحماسيين :
إذا رمت عنها سلوة قال شافع
من الحب ميعاد السلو المقابر
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة ود يوم تبلى السرائر
وقول الآخر :
لا تعاشر معشراً ضلوا الهدى
فسواء أقبلوا أو أدبروا
بدت البغضاء من أفواههم
والذي يخفون منها أكبر
وقول الآخر :
إن كنت أزمعت على هجرنا
من غير ما جرم فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله ونعم الوكيل
وقول الآخر :
خلة الغانيات خلة سوء
فاتقوا الله يا أولى الألباب
وإذا ما سألتموهن شيئاً
فاسألوهن من وراء حجاب
قال : ولولا خشية التطويل لذكرت من ذلك جملة كثيرة ، لكن في التنبيه بما ذكر كفاية ، ولأني أكره ذكر التضمين في الشعر لكن المقصود الإعلام بأن ذلك مذكور مشهور .
وأما النوع الثاني : من الاستدلال وهو ما ذكره أئمة الفتوى وعلماء الأصول فقد نص القاضي أبو بكر الباقلاني إمام هذا الفن والقدوة في هذا الباب في كتاب إعجاز القرآن له على تضمين كلمات من القرآن في نثر الكلام ونظمه وذكر من ذلك جملة ، ولكن أشار إلى كراهة التضمين في الشعر خاصة ، وذلك ظاهر لإجلال كلمات تذكر في القرآن العظيم أن تساق في أوزان الشعر ، وجعل ذلك على سبيل الكراهة في الشعر خاصة دون المنع والتحريم ، والمكروه جائزن الإقدام عليه عند علماء الأصول وهذا بخلاف الكلام ، وكلام مثل هذا الإمام في مثل ذلك كاف ، وكذلك ما ذكره القاضي عياض في شرح مسلم كما تقدم ، وذكر الإمام محيى الدين النووي في كتاب التبيان له فقال : قال أصحابنا إذا قال الإنسان : خذ الكتاب بقوة وقصد به غير القرآن فهو جائز ، قالوا : ويجوز للجنب والحائض أن يقولا عند المصيبة : إنا لله وإنا إليه راجعون إذا لم يقصد القرآن ، فإنظر صريح هذا النقل ، وهذا إمام من المجتهدين في مذهب الشافعي بل هو في هذا الزمان عمدة المذهب في نقلة وتصحيحه ، وقد صرح بجواز أن يقصد غير القرآن كرر ذلك في مواضع ، وكذلك(1/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
ذكر إمام الحرمين وهو قدوة في العلوم الفقهية والأصول الدينية ، ولو بسط القول في ذلك نقلاً وبحثاً لاتسع جداً ، وقد نص على ذلك الأئمة من المالكية والشافعية ولم أر لأحد من أئمة المذهبين في ذلك خلافاً ، وأما علماء البيان وأئمة الفصاحة وأهل الاجتهاد في بدائع اللسان العربي وهم من أئمة المسلمين وعلمائهم فقد أوضحوا القول في ذلك وسموه بالاقتباس ولم يكتفوا في ذلك بحكم الجواز فقط ، وإنما جعلوه من حسن الكلام وجيده ومعدوداً في طبقات الفصاحة ، إذ هو عندهم من أنواع علم البديع ، فقد اجتمع على التصريح بالمقصود من ذلك أئمة الفتوى وأئمة الفصاحة وهو كما ترى أمر بين معلوم واضح للمتأملين والمسألة ظاهرة جلية . وشواهدها من السنة ، وكلام السلف ، والخلف ، والعلماء ، والفصحاء كثير جداً ، ومما استشهدوا به على الاقتباس مع تغيير اللفظ المنقول قول بعض المغاربة :
قد كان ما خفت أن يكونا
إنا إلى الله راجعونا
وقول الآخر :
يريد الجاهلون ليطفئوه
ويأبي الله إلا أن يتمه
ومما استشهدوا به على الاقتباس من لفظ الحديث قول ابن عباد :
قال لي إن رقيبي
سيء الخلق فداره
قلت دعني وجهك الج
نة حفت بالمكاره
وهذا لا جائز أن يكون هو الحديث أصلاً ، بل هو موافقة في ظاهر عبارة فقط ، والله تعالى المسدد والهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل ، انتهى جواب الشيخ داود الشاذلي بلفظه ، وهو أحد أئمة المالكية وأحد محققي الصوفية ، أخذ التصوف عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله ، والعلوم عن الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري شارح منهاج البيضاوي ، وعن غيره من المشايخ ، وله مؤلفات جيدة تؤذن بطول باع ورسوخ قدم وسعة اطلاع رحمه الله ونفعنا به .
أسئلة واردة من التكرور في شوال سنة ثمان وتسعين وثمانمائة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب فيه أسئلة من الفقير العاصي الحقير المذنب المنكسر الراجي عفو ربه الكريم الكبير وسميته مطلب الجواب بفصل الخطاب الحمدلله الكامل الذات الحي القيوم الأزلي الصفات وصلى الله على حبيبه المفضل على سائر المخلوقات وعلى آله وصحبه وأزواجه الطاهرات .
فصل : رد الجواب على من علمه الله فرض كما قال الله لآدم : ) أنبئهم بأسمائهم ((1/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
كما أن السكوت على من لا يعلم فرض كما قالت الملائكة : ) لا علم لنا ما علمتنا ( وكذلك أن تخضع لمن علمه الله ما لم يعلمه لك كما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا وكانوا عباداً مكرمين وأبى إبليس وقيل له : ) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( والسؤال على من لم يعلم فرض قال الله تعالى : ) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( .
فصل : نسأل عن قوم عادة ملوكهم أخذ الأموال منهم بعادة معروفة في زمن معروف وأكثره عند ظهور الثريا ، أو الشتاء ، أو الصيف بأموال شتى منها ما يخرج من الأرض كالمن ، ومنها ما يخرج من الدوم حتى حبالها ونعالها وحصيرها ويفرض ذلك عليهم في كل سنة فالبلد للملوك ومن أراده منهم فيجىء عندهم فيعطيهم شيئاً ثم يشترطون عليه شروطهم فيرضونهم فإن نقص شيء من خراجهم أخذوه وعذبوه وأخرجوه وجعلوا في بلادهم من أرادوا .
فصل : ولهم عند قوم بقرات وشياه ومزاود طعام وغير ذلك من الخراج في كل زمن معروف فمن أعطى وإلا ضربوه أو نفوه .
فصل : ويأتيهم سادات قوم وكبراؤهم مع جماعاتهم فيطلبون البلاد فيقولون لهم : إن كانت عادتنا على ما هي عليه فأتوا بقبيلتكم فلنختر واحداً منكم يحكمون لهم بذلك ومرة يحكمون لمن يعطيهم أموالاً كثيرة أو يرجون منه أو يخافون شره .
فصل : ومنهم من يخاصم على الأحرار ويدعوهم بالعبيد فإن مات من ادعى عليه ذلك لم يقسموا بين ورثته ثم يدعوهم من بقي باسم الرق ، وإن قلت لهم : هؤلاء أحرار كادوا يقتلونك ويقولون : هؤلاء عبيد أتباع للسيف ، ومنهم من يجعلهم كالخدم بالضرب : والعذاب ، ومنهم من يسخر منهم ويأخذ منهم الأموال ولا يضرهم في أنفسهم ، ومنهم من يبيعهم بالتنافس ، والتنازع ، ومنهم من يؤمر على قوم فيأخذ منه الخراج أكثر مما أخذ منه الملوك فإن أبوا نفاهم أو سلط عليهم الأمير أو وزراءه ، ومنهم من يؤمر على بلد فيتركه ويمشي إلى أحرار قبيلته حيث كانوا فيأخذ ما أراد حتى يكون القتال في ذلك .
فصل : ومنهم من لا يورث فما تركه بعده لأبناء إخوته وأهل القوة والجاه ، ومنهم من يكون أميراً على قوم فيعطي الملوك ماله ثم يجيء عندهم فيأخذ منهم أضعاف ذلك /
فصل : من بعض أموال الملوك الخراج على المسلمين ومكس الأسفار والاسواق على كل من جاء بالخيل ، أو بالإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، أو الرقيق ، أو الثياب ، أو الطعام ، وكذلك عند الأبواب عند دخول قوم أو خروجهم ولو بحطب .
فصل : ومنهم من بينه وبين الكفار المصاحبة والمراسلة فإن قتلوا المسلمين أو نهبوهم أو قطعوا عليهم الطرق لم يبالوا بذلك إن أعطوهم شيئاً ، ومنهم من إذا أغرت على الكفار وآذيتهم آذاك أكثر مما آذيت به المشركين فيكون ذلك عوناً للكفار وضعفاً للمسلمين .(1/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
فصل : ومنهم من اختار الكفار على المسلمين لسكون بلادهم أو ربح تجارته في أرضهم أو سكون بعض أقاربهم أو بسبب من الأسباب من دنياهم لا يبالون بأوامر الله ونواهيه إلا حيث كانت اللقمة بداء .
فصل : منهم من لا يبال بالكتاب والسنة إلا حيث كان الدرهم والدينار معه وإلا فلا .
فصل : منهم من لا يعطي المرأة صداقها أصلاً وكان ذلك عادة فليس لهن عند الرجال إلا الذبيحة والنفقة .
فصل : وعادتهم عدم الحياء عند اجتماعهم بالنساء وخلوتهم بهن واللعب بهن وحديثهن ورؤيتهن وكشف زينتهن وأكثرهن للمزمار والعود والغناء وضرب الدفوف والزغاريت وآلات اللهو كلها ويعرضن بأنفسهن ، ويقلن إن الجن فينا وإن دواءنا بذلك ، وفيهن من يقلن إن من الخدم من يقتل وإن مسك مرضت وإذا جن الليل يطرن ومعهن النار ويقتلن بذلك .
فصل : ومنهم من يقاتل فيما بينهم تكبراً وتجبراً وتنافساً وينهب بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض ، ومنهم من يمنع بلاد الله إذا وكله الأمراء عليهم إلا بالخراج ، ويمنع الماء والفواكه والحشيش والكلأ وكل ما ينبت في الأرض حتى يمنعون الطرق ويسدونها بالحجارة والأشجار حتى لا يقرب المسافرون بلادهم ويعذبون بهائم المسلمين بآلات من العذاب والضرب وسد الأفواه ويربطون مع أذناب الأنعام الشوكة وماله أذى .
فصل : منهم من ليس له حرفة إلا الغناء والمزمار ومدح من أعطاه وذم عكسه ، ومنهم من ليس له حرفة إلا أن يكون مع الأمراء والكبراء فيأكل معهم ويعيش في أموالهم الحرام .
فصل : منهم من حرفته أن يكون جالساً حتى يجيء أوان الطعام فيحضر ويسلم ويأكل .
فصل : ومنهم من حرفته القمار والميسر وأمثال ذلك .
فصل : ومنهم من حرفته أن ينكح النساء المطلقات بالثلاث فيحللهن لأزواجهن .
فصل : ومنهم من حرفته أن يرمي عقله فيجعل نفسه كالمجنون فيضحك الناس به ، ومنهم من حرفته السؤال ، ومنهم من حرفته أن يتزوج النساء الكثيرات الأموال ويعيش في رزقهن ، ومنهم من حرفته السرقة ، ومنهم من حرفته الأختلاس ، ومنهم من حرفته أن يصيد ، ومنهم من حرفته أن يكون مع الأمراء فيقضي للناس حوائجهم ويعيش هناك ، ومنهم من حرفته أن يعادي للناس أعداءهم ويحب لهم أحبتهم سواء كانوا على الحق أو الباطل .
فصل : منهم من حرفته علم الحديث والقصص وأخبار الدنيا والحكايات المضحكة بالحق أو الكذب .
فصل : منهم من حرفته أن يكون نماماً أو مغتاباً أو متجسساً ، ومنهم من حرفته معاداة العلماء والأتقياء والصالحين ، ومنهم من حرفته أن يكون رسولاً بين النساء والرجال كالديوث ، ومنهم من حرفته أن يخلط الماء باللبن أو الشحم مع اللحم الهزيل أو دنيء بجيد ، ومنهم من حرفته أن ينزل المسافرين في مسكنه فيخدعهم بقدر طاقته وقلة عقولهم ،(1/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
ومنهم من حرفته إلباس الحق بالباطل عند الموازين والمكاييل .
فصل : عوائد بعضهم البخل والجبن وعدم الرحمة للناس كافة وقطع الرحم ، ومنهم من عادته السخاء والكرم والشجاعة إلا أن عندهم مع ذلك كثرة الظلم والفساد والاختلاط بالنساء الأجانب ويحلفون بالآباء والأمهات والنساء ويشهدون بالزور ، ولنسائهم مكان معروف يخلون فيه بالرجال في يوم نكاح أو يوم عرس أو يوم عيد ولهم لهو يتضاربون فيه حتى يقع في ذلك شج وكسر سن أو يد أو رجل أو قتل ، وعادة بعضهم بناء المساجد وتلاوة القرآن والعلوم والمدائح والحج ومع ذلك يعبدون الأصنام ويذبحون لها ولا تصوم نساؤهم ولا يصلين إلا إذا كبرن ، ولا يدخلون مساجدهم إلا ومع كل واحد منهم عصا ، وعندهم طلسمات للنكاح والبيع والشراء والرهج والحروب والمحبة ووجع الرأس والضرس ويزعمون أنهم ملوك الدنيا وأبناء الأنبياء ، ومنهم من يجحد البعث والحشر والنشر والحساب والثواب والعقاب ويسجدون لملوكهم ويركعون لهم ، ومنهم من هو مسلم ويجعلون أموالهم دولاً بينهم يغير بعضهم على بعض ويقتلونهم .
فصل : منهم من عادته أن يجيء إلى قوم فيسألهم إبلهم ليسافروا عليها فيحملوا عليها الطعام إلى بلد الملح ويحملوا عليها الملح إلى بلاد السودان فيبيعونها بالثياب والمتاع ثم يرجعون إلى بلادهم فيجيئهم أرباب الإبل فيعطونهم من الثياب ما شاء الله ، فمرة يرضون ومرة يأبون حتى يسترضوهم ، وإلا فيخاصمون ما شرط أحد على أحد منهم ذرة .
فصل : منهم من صلاته بالتيمم أبداً فلا يتوضئون إلا نادراً ولا يغتسلون من الجنابة إلا نادراً وتوحيدهم بالفم وما يعرفون حقيقة التوحيد ، وزكاتهم يجلبون بها مصالح دنياهم أو يدفعون بها مضارهم ، وحجهم بالأموال المحرمة ، ومنهم من عادته محبة العلماء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم والأعمال الصالحة والصدقة وإطعام الطعام وقري الضيف وغير ذلك من وجوه الخير ولا يتركون ما هم عليه من تكبر واسترقاق الأحرار والمقاتلة والظلم وأكل الحرام ، ومنهم من عادته مصاحبة الكفار ومؤاخاتهم وذكر أخبار المسلمين وعيوبهم لهم ، ومنهم من يعادي من عادى الكفار .
فصل : ومن فقهائهم من عادته ترك القرآن والسنة وأخذ الرسالة ، والمدونة الصغرى ، وابن الجلاب ، والطليطلي ، وابن الحاجب حتى عادوا من يفسر القرآن ويقولون قال أبو بكر الصديق : إن كذبت على ربي أي أرض تحملني ، وإذا سمعوا آية تتلى لتفسير نفروا عنها نفرة الحمر الوحشية .
فصل : منهم من لا يفارق الأمراء طرفة عين يأكل معهم ويشرب ويأخذ من أموالهم المحرمة ، ومنهم من يحلل ذلك للملوك ومن تبعهم ، ومنهم من سكت لم يأمر ولم ينه ، ومنهم من نهى فعادوه فخاف فسكت ، ومنهم من يأخذ الزكاة ولا يستحقها ، ومنهم من حرفته أن يشترط مع الناس أن يصلي بهم ويقرىء صبيانهم ويرى عندهم المنكر العظيم ويسكت وإن تكلم قالوا له أسكت فقد ذكرت ما عليك فخذ شرطك ومالك ولا تزر وازرة(1/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وزر أخرى فيسكت ، ومنهم من إذا وعظت الناس قالوا لك : أما نحن فقهاء مثلك ؟ فنحن قد رأينا ذلك وسكتنا عنه ، هذا آخر الزمان نهي المنكر فيه منكر ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ( وتقول له العامة : أما رأيت فلاناً هو أعلم منك وأتقى وأعز وأشرف ؟ وقد ترك ذلك وهو يراه ويقدر على قطعه فيسكتونك بذلك وإلا جعلوك شر خلق الله وأجهل الناس وأسفه الناس ، ومنهم من تعظه من العلماء فيطيعك ويصدقك فإذا خرج من عندك يكذبك ويذكر للعامة دلائله على تكذيبك وتصديقه ، ومنهم من إذا وعظت العامة وقبلت وتابت خلا بهم فتقض عنهم ذلك حتى تعود العامة على ما كانت عليه .
فصل : منهم من يأخذ العشر عند الميراث فلا يقسم لأحد إلا إذا أخذ عشره ، ومنهم من اكتسابه بالطلسمات والرقي لباب المحبة والنكاح والوجه عند العامة والخاصة ومن غضبوا عليه يفعلون به ما قدروا من مكائد السوء فمرة يوافق فعلهم بالقدر ويقولون هذا فعلنا .
فصل : منهم من يشتري القضاء بماله ويأخذ الرشوة والسحت ويحكم بما يريد ، ومنهم من يؤمره الملوك على قوم فيأخذ زكاتهم ولا يقسمها بين من يستحقها .
فصل : منهم من يقرأ بالشواذ ويترك القراءات المشهورة .
فصل : ومنهم الألد الخصم في كل شيء .
فصل : ومنهم من ليس له عمل إلا تلاوة القرآن والحديث والعبادة ولزوم الخلوة وقراءة الرسالة والشهاب وأمثال ذلك .
فصل : منهم من يكون عند الجهال يأكل معهم ويشرب ويكون إمامهم .
فصل : منهم من يقول ويعتقد أن بعض الناس يقتلون بعضاً بمس أو مقاربة ويزعمون أنهم يمرضونهم وإن أعطوهم ما أرادوا داووهم ، ومنهم من يعتقد أن الجرب ، والجذام ، والبرص ، والزكام ، وسائر الأمراض تعدي ، وإذا نكحت امرأة ومات عندها ثلاثة من الأزواج تشاءموا بها وكذلك الدار والخيل ، ومنهم من يزعم أن بعض الطيور أو السباع أنحس من بعض ، ومنهم من إذا رميته بمشط يقول لك : لا فإنه يأتي بطلاق ويقولون في الأيام بعضها منحوس وبعضها مسعود ، ويذمون الحجامة في بعض الأيام وشرب الدواء ومشي المسافرين والنكاح فيها ، وكذلك بعض البلاد والمياه والمراعي يزعمون أن بعضها أعكس من بعض .
فصل : منهم من يزعم أنه عارف إذا كرهت البهيمة أولادها ويعرف أسباب ذلك ويقول للناس : تعالوا عندي كلكم فيأتونه فيكيل بذراعه أرجلهم ثم يبقى بعد ذلك ما مسح بيديه أرجلهم ويعزم بشيء في نفسه ويزعم أن ذلك قراءة ثم يكيلهم ثانية فيزيد الأمر على ما هو عليه أو ينقص فيأخذ ذلك فيأخذون من أشعار رأسه أو لحيته فيبخرونه على تلك البهيمة فيوافق مرة ومرة لا .(1/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
فصل : منهم من إذا سرق ماله وأخذ المتهمين فيوقد ناراً ويقيد المتهمين بشيء قصير ويأمرهم بالمشي عليه فيمرون عليها فالذي يسرق تارة تحرقه والذي لم يسرق لا تحرقه ولا تمسه ، ومنهم من يأخذ المتهم ، ويأخذ المرآة ويعلقها على خيط ويأخذ الخيط ويدلي المرآة ويجعل خطين في الأرض ويجعل الرماد على خط واحد من الأرض ويترك الآخر ويدليها على وسط الخطين ويقرؤون سورة يس على ذلك فإن تحركت المرآة وجرت على طريق الرماد ثبتت السرقة عليه وإلا فلا .
فصل : منهم من يقرىء الصبيان فإذا ختم واحد أو بلغ النصف أو الثلث حملوه على درقة من فوق رؤوسهم أو على فرس أو جمل ويجتمع عليه القراء ويطوفون به البلد كله يقرؤون عليه آيات الرجاء ومدائح رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيعطيهم الناس طعاماً وشراباً وغنماً وثياباً فيتركونه للفقيه .
فصل : ومنهم من يمشي بين العوام ويناجي كل من يلقاه ألا أريك رقية العين والنكاح ودخلة القلوب والوجه عند السلاطين ؟ وأمثال ذلك .
فصل : ومنهم من لا يزوجون إلا صاحب نسب وحسب ومال كثير ولا يزوجون الفقير ولو كان عالماً صالحاً تقياً .
فصل : ومنهم قوم لا يعدون الطلاق فليس له عندهم حد ومنهم من يعد الطلاق فإذا وصلوا ثلاثاً أعطى شيئاً ثم يعيدها بغير محلل ، ومنهم من لا يعتد المرأة فتنكح من أرادت في العدة ، ومنهم من يشتري للتي طلقها ثلاثاً من يحللها أو تشتريه هي بنفسها أو أحد من أهلها .
فصل : منهم ملوك لا يقيمون القصاص أصلاً وإنما يأخذون المال ويقسمونه بين من لا يستحقه شرعاً .
فصل : منهم من يدعي أنه شريف ليكرم ولا شهادة له في ذلك ، ومنهم من يدعي أنه عالم أو ولي أو عابد ليستخدم وليس كذلك .
فصل : منهم من إذا قصده المسلمون بقتل أو أخذ مال أو نحوه يقاتل حتى يقتل أو يقتل وفي نيته من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومنهم من يأتي القتال حتى يقتل بغير حركة منه وفي نيته إني أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار كما فعل هابيل ثم عثمان أيهما أعلى من الآخر ؟ .
فصل : هل يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر القتال في ذلك بقدر طاقته ؟ .
فصل : فقيه رأى منكراً فعلم أنه لا يقبل الناس نهيه ولا أمره يسقط ذلك عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فصل : ما قلتم فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر وقصد به رياء وسمعة ؟ .
فصل : ما قلتم فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر وخوفوه فسكت خوفاً . وفيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم سكت عجزاً عن سوء مقالات الناس له والضرر والتعب ؟ .(1/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
فصل : ما قلتم في رجلين أمراً بمعروف ونهياً عن منكر حتى رأيا أمراً عظيماً فيه هلاك النفوس والأموال فتركه واحد منهما ولم يقاتل عليه . وقاتل عليه الآخر حتى قتل وقتل أيهما أعلى من الآخر ؟ .
فصل : ما قلتم في رجلين أحدهما يخالط أمراء السوء فيشفع للمسلمين لديهم وينفعهم والآخر اعتزلهم أيهما أعلى ؟ .
فصل : في بلادنا كتب يذكرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقاويل ليست في الموطأ ولا في الصحيحين وليس عندنا من يعلم ذلك فما يفعل فيها ؟ .
فصل : هل يتمثل الشيطان بأمر من أمور الله ككتا به وملائكته ورسله وأوليائه أم لا ؟ .
فصل : هل يجوز مدح النبي صلى الله عليه وسلّم بالكلام العجمي أم لا ؟ .
فصل : هل يدخل أحد الجنة بمحبة النبي صلى الله عليه وسلّم وهو عاص وتارك بعض الفرائض ؟ .
فصل : رجل يعظ الرجال فقال له النساء : عظنا معهم فجعل بين الرجال والنساء ستراً لا يرى أحد الفريقين الآخر أيجوز له ذلك أم لا ؟ .
فصل : أيجوز لمسلم إن حضر القتال بين المسلمين والكفار أن يرمي نفسه في الغرر لحب الشهادة ؟ .
فصل : أيجب القتال على أمراء المسلمين بأنفسهم أو ليس عليهم إلا تجهيز الأمور وصلاحها ؟ وهل يجوز للأمير أن يرمي نفسه على أشد البأس من الكفار وهو إذا مات لم يجتمع المسلمون بعده لقتال ولا يجتمعون على غيره إلا بعد مدة طويلة ؟ .
فصل : هل تقبل هدية الكفار وتجوز صحبتهم وليس عليهم جزية ؟
فصل : وتبين لي أمر هيئة السموات والأرض بدلائل القرآن والحديث ، وعرض بلدنا وطولها ، وبلغني أنك ألفت شيئاً في حروف التهجي فلا يليق بكرمك أن تكتمه عنا ، وأنا أحبك في الله وأني لمشتاق إلى لقائك غاية ، واسمي محمد بن محمد بن علي اللمتوني فلا تنسني في دعائك والسلام .
فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور
في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور
بسم الله الرحمن الرحيم
من الفقير عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد بن خضر بن أيوب ابن محمد بن همام الخضيري السيوطي الشافعي إلى حبيبه وأخيه في الله الشيخ العالم الصالح شمس الدين محمد بن محمد بن علي اللمتوني أعزه الله تعالى في الدارين وأزال عن قلبه كل رين سلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى ولدك وأهلك ومن يلوذ بك . أما بعد فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم على نبيه(1/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم أنه قد وردت على أسئلتك المفيدة التي سميتها مطلب الجواب وهذه أجوبتها سميتها : فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور فأعلم أن جميع ما سألت عنه في هذه الفصول من فعل الملوك والرعية للأشياء التي وصفتها كلها مذمومة ومحرمة شرعاً إلا ما استثنيته لك وبعضه أشد في الحرمة من بعض وبعضها مقتض للكفر ، وهو ما ذكرت عن قوم أنهم يذبحون للأصنام ويعبدونها ، وقوم أنهمم يجحدون البعث والحساب والثواب والعقاب . وقوم أنهم يسجدون لملوكهم فهذا كله كفر ، والباقي محرم لا يقتضي الكفر إلا ما يستثنى والقدر المستثنى من التحريم من حرفته أن يكون جالساً حتى يجيء أوان الطعام فيحضر ويسلم ويأكل ومن حرفته أن ينكج المطلقات الثلاث فيحللهن لأزواجهن حيث لم يصرح بذلك لفظاً في العقد ، ومن حرفته أن يجعل نفسه كالمجنون يضحك الناس ، ومن حرفته السؤال ، ومن حرفته نكاح النساء الكثيرات الأموال ويعيش في رزقهن ، ومن حرفته الصيد ، ومن حرفته أن يكون مع الأمراء فيقضي للناس حوائجهم ويرتزق بذلك ، ومن حرفته التحديث والقصص ورواية الأخبار الحق بخلاف الكذب ومن يأخذ إبل قوم للسفر ثم إذا رجع أرضاهم بشيء ولم يشترط في أول الأمر شيئاً ، ومن يكون عند الجهال يؤمهم ويأكل معهم ويشرب ، ومن يقرىء الصبيان فإذا ختم واحد دار به البلد فيعطى عليه ما يعطى ، ومن يكتب للناس الرقي إذا لم يكن فيها مذموم شرعاً ، ومن لا يزوج إلا صاحب نسب وحسب ومال ، فكل هذه الصور ليست بمحرمة لكن بعضها مكروه كراهة تنزيه وبعضها مباح وبقي من الأسئلة ما يذكر جوابه ، فمنها من سكت عن إنكار المنكر لخوف فلا شيء عليه وكذا إذا أنكر وقالوا له : قد بلغت فاسكت فسكت لا لوم عليه إلا أن يكون من ولاة الأمور أو له شوكة يقدر بها على إزالته باليد ، ومنها من يقرأ بالشواذ وذلك حرام بالإجماع ، ومنها الألد الخصم في كل شيء ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) أخرجه البخاري ، وغيره . ومنها من ليس له عمل إلا تلاوة القرآن ، والحديث ، والعبادة ، ولزوم الخلوة ، وقراءة الرسالة ، والشهاب ، وأمثال ذلك وهذا من الخصال الحميدة الحسنة تقبل الله منه ، ومنها من يعتقد أن بعض الناس يقتل بمس ، أو مقاربة ، أو يمرض وهذا اعتقاد فاسد فإن كان ذلك بسحر أثم فاعله أو كفر ، ومنها من يعتقد أن الأمراض تعدي وهو اعتقاد فاسد قال صلى الله عليه وسلّم : ( لا عدوى ) ، ومنها التشاؤم بالمرأة ، والدار ، والفرس وقد ورد في ذلك الحديث في الصحيح واختلف العلماء هل ذلك على ظاهره أو مؤل والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك ومنها التشاؤم ببعض الطيور أو السباع أو بالمشط أو بالأيام ولا أصل لذلك ، ومنها ذم الحجامة في بعض الأيام وهو صحيح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الحجامة يوم الجمعة ، ويوم السبت ، ويوم الأحد ، ويوم الأربعاء رواه ابن ماجه ، والحاكم من حديث ابن عمر ، وروى أبو داود عن أبي بكرة أنه كان ينهى عن الحجامة يوم الثلاثاء ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ ، وروى البزار ،(1/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من أحتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه ) وروى أبو يعلى في مسنده عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن في يوم الجمعة لساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات ) وصح الأمر بالحجامة يوم الخميس ، ويوم الاثنين في حديث رواه الحاكم وغيره ، ومنها ذم السفر والنكاح في بعض الأيام وهو صحيح أيضاً ثبت عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره أن يتزوج أو يسافر في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب ؛ ومنها ذم شرب الدواء في بعض الأيام ولم أقف فيه على حديث ولا أثر ، ومنها ذم بعض البلاد والمياه والمراعي وذلك خاص بما حلت به عقوبة من الله كما ورد الحديث بذلك في بابل ، والحجر ، وآبار ثمود ، ونحوها . ومنها مسألة المتكلم على البهيمة والمتهم بالسرقة وهذا شيء لا أصل له . ومنها من قصد بقتل أو أخذ مال فقاتل وآخر أبى القتال حتى قتل بغير حركة أيهما أعلى ؟ والجواب : الذي أبى القتال أعلى وأفضل من الذي قاتل وفيه ورد الحديث : ( كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ) . ومنها هل يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر القتال في ذلك ؟ والجواب : لا . ومنها من رأى منكراً وعلم أن الناس لا يقبلون نهيه وأمره أيسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ والجواب : لا يسقط بل يأمر وينهى فإن قبل قبل فإن رد رد . ومنها من أمر ونهى وقصد به رياءاً وسمعة والجواب : أنه مذموم آثم فشرط ذلك الإخلاص لوجه الله تعالى . ومنها من أمر ونهى ثم سكت لخوف أو عجز عن سوء مقالات الناس له أو ضرر أو تعب والجواب : هو معذور . ومنها رجلان أمرا ونهيا ثم قاتل واحد وترك آخر القتال أيهما أعلى ؟ والجواب : أن الذي ترك [ القتال ] أعلى وأفضل فليس سل السيف في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم بالهين ، ومنها رجلان أحدهما يخالط أمراء السوء فيشفع للمسلمين لديهم وينفعهم والآخر اعتزلهم أيهما أعلى ؟ والجواب : أن الأول أعلى إن أمن على نفسه الافتتان بهم والدخول في أهوائهم ، والثاني أعلى لمن خشي على نفسه ذلك ، ومنها سألت عن كتب فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليست في الموطأ ولا في الصحيحين وليس عندكم من يعلم ذلك فما تفعلون ؟ والجواب : لا ترووا منها إلا ما ثبت وروده وإلا فقفوا عن رواياتها حتى تكتبوا بها إلي وأنبئكم بأمرها ، وإذا علمتم أن الحديث في سائر الكتب السنة أو مسند الإمام أحمد فارووه مطمئنين ، وكذلك ما كان مذكوراً في تصانيف الشيخ محي الدين النووي ، أو المنذري صاحب الترغيب والترهيب فارووه مطمئنين . ومنها هل يتمثل الشيطان بأمر من أمور الله ككتابه وملائكته ورسله ؟ والجواب : قد ورد الحديث أن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولا بالكعبة . ومنها هل يجوز مدح النبي صلى الله عليه وسلّم بالعجمي ؟ والجواب : نعم . ومنها هل يدخل أحد الجنة بمحبته صلى الله عليه وسلّم وهو عاص ؟ والجواب : نعم . ومنها رجل يعظ الرجال والنساء وبين الفريقين ستر لا يتراءيان أيجوز ؟ والجواب : نعم . ومنها هل يجوز إقراء النساء سورة النور ؟ والجواب : نعم روى الحاكم في المستدرك وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لا تنزلوهن(1/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
الغرف ولا تعلمونهن الكتابة يعني النساء وعلموهن الغزل وسورة النور ) ، ومنها أيجوز لمسلم في قتال الكفار أن يرمي نفسه في الغرر لحب الشهادة ؟ والجواب : نعم ويجوز ذلك للأمير الذي سألت عنه . ومنها أيجب القتال على الأمراء بأنفسهم أو ليس عليهم إلا تجهيز الأمور وصلاحها ؟ والجواب : ليس عليهم إلا تجهيز الأمور وصلاحها . ومنها هل تقبل هدية الكفار وتجوز صحبتهم ؟ والجواب : نعم .
ومنها سألت أن أبين لك أمر هيئة السموات والأرض بدلائل القرآن ، والحديث ، والجواب : أن لي في ذلك تأليفاً كاملاً يسمى الهيئة السنية في الهيئة السنية وسأرسل لكم منه نسخة لي . وسألت عن الرسالة التي لي في حروف التهجي وسأرسل لكم منها نسخة أيضاً . وإني أحبك في الله كما أحببتني ونرجو من فضل الله أن يجمعنا في الجنة من غير عذاب سبق ، ولا تنسني من دعائك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .(1/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
الفتاوي الأصولية
مسألة : وقعت في الدرس قال الشيخ جلال الدين المحلى في شرح جمع الجوامع : وإثم القاتل الذي هو مجمع عليه لإيثاره نفسه بالبقاء على مكافئه الذي خيره بينهما المكره بقوله : اقتل هذا وإلا قتلتك ، أقول أشكل إعراب ( الذي ) وعائده فإن الممكن فيه أمور مع القطع بأن الهاء في خيره عائدة على القاتل وفاعل خير المكره ، أحدها : أن يجعل ( الذي ) صفة لمكافىء ويشكل عليه عود ضمير بينهما وهو مثنى على ( الذي ) وهو مفرد والعائد يشترط فيه المطابقة ، الثاني : أن يجعل صفة لنفسه ومكافئه إما على أنها صفة سببية لا يشترط فيها المطابقة كقولك مررت بالرجلين الضارب أبوهما عمراً ، أو هو فاسد لاختلاف إعرابهما فإن نفسه منصوب ومكافئه مجرور ، ولأن الإفراد في المثال المذكور لإسناد الوصف إلى الظاهر ولا إسناد في ( الذي ) وإنما ربطه مررت بالرجلين الذي ضرب أبوهما عمراً . الثالث : أن يجعل صفة لهما على أن ( الذي ) أريد به الجنس ( والذي ) إذا أريد به الجنس جاز إطلاقه على المثنى والجمع على حد قوله : ) كمثل الذي استوقد ناراً ( وخضتم كالذي خاضوا فحصلت المطابقة . وأما اختلاف الإعراب فيوجب جعل ( الذي ) نعتاً مقطوعاً على الرفع أو النصب ولا يخل بالتركيب ، الرابع : أن يجعل صفة للبقاء والبقاء معرف بلام الجنس صادق بالواحد فأكثر فجاء الموصول مراعاة للفظ والضمير مراعاة لمعناه كما هو المعهود في مثل ذلك وهذا أمثل الأوجه وأقربها . الخامس : أن يجعل صفة لإيثاره كذلك . السادس : أن يجعل صفة للقاتل فالعائد الهاء في خيره وهذا أسهل الأوجه لكنه بعيد معنى وإعراباً أيضاً لما فيه من الفصل الكثير بين الصفة والموصوف .
مسألة : هل سبب النزول يخص المنزول فيه بلفظه وحكمه أم يعمه وغيره ؟ وإذا ورد السبب خاصاً فهل يكون التخصيص من السبب أم من النص ؟ وإذا لم يكن من النص فهل يقضي على النص أم لا ؟ وهل السبب ناشىء عن النص أم من أهل التأويل ؟ وهل التأويل ناشىء عن النص أم لا ؟ .
الجواب : أما كون سبب النزول هل يخص المنزول فيه أم لا ؟ فهذه مسألة خلاف بين أهل الأصول ، منهم من يقول إنه يخص المنزول فيه فلا يعم غيره والأصح وهو رأي الأكثرين أنه لا يخصه بل يعم غيره ، ولكن صورة السبب قطعية الدخول لا يجوز إخرجها منه ، وأما قوله : وإذا ورد السبب خاصاً فهل يكون التخصيص من السبب أم من النص ؟ فهذا إنما يجيء على قولنا بأن السبب يخص المنزول فيه ، ونحن قد بينا أن الأصح خلافه ، وعلى(1/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
تقدير القول فيه فالتخصيص من السبب للنص العام اللفظ فقد عده أهل الأصول من المخصصات للعموم على القول بتخصيصه وذلك لأن سبب النزول إنما يقبل إذا ورد بسند صحيح متصل فهو في حكم الحديث المرفوع ، ومن يرى جواز تخصيص الكتاب بالسنة وهم الجمهور لا يستنكر ذلك . وقوله : وإذا لم يكن من النص فهل يقضي على النص ؟ قد علم جوابه وهو أن سبب النزول نص أيضاً فإنه حديث والحديث يقضي على القرآن أخرج سعيد بن منصور في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال : السنة قاضية على الكتاب ويحيى هذا من التابعين من أضراب الزهري وقوله : وهل السبب ناشىء عن النص ؟ قد علم جوابه وهو أنه ناشىء عن نص لكن نص حديثي لا قرآني وليس ناشئاً عن التأويل ، فإن السبب لا يكون إلا عن نص منقول لا عن تأويل ولا مدخل للتأويل في ذلك ، وقوله : وهل التأويل ناشىء عن النص ؟ جوابه أنه قد علم أنه لا تأويل .
مسألة : تقرر أنه إذا خلا العصر عن مجتهد يقوم بفرض الكفاية أثموا عن آخرهم فما الجمع بينه وبين قولهم في مسألة الفترة : أنه إذا لم يجد صاحب النازلة من ينقل له حكماً في نازلته الصحيح انتفاء التكليف عن العبد وأنه لا يثبت في حقه إيجاب ولا تحريم ولا يؤاخذ بأي شيء صنعه .
الجواب : متعلق الإثم مختلف فالإثم لمن كان يمكنه بلوغ هذه الرتبة وقصر فيها وعدم التكليف لغيره وليس المخاطب بفرض الاجتهاد كل أحد بل من هو في صفة خاصة كما قررناه في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض .
مسألة : رجل يقلد الإمام الشافعي رضي الله عنه أصابته نجاسة كلبية فغسلها على مقتضى مذهب إمامه ثم أصابته وعسر عليه غسلها فهل يجوز له تقليد من يرى عدم وجوب هذا الغسل أم لا ؟ لأن ما التزمه وعمل به أولاً يمنعه من مخالفته آخراً . وإذا قلتم : إن له التقليد فما معنى قول الأسنوي في شرح منهاج البيضاوي أنه إذا قلد مجتهداً في مسألة فليس له تقليد غيره فيها اتفاقاً ، ويجوز ذلك في حكم آخر على المختار ، فلو التزم مذهباً معيناً ففي الرجوع إلى غيره من المذاهب ثلاثة أقوال : ثالثها يجوز الرجوع فيما لم يعمل به ولا يجوز في غيره هل معناه امتناع التقليد فيما تقدم السؤال عنه أم لا وما الراجح من الأقوال الثلاثة ؟ وكذلك قول الشيخ جلال الدين المحلي في شرح جمع الجوامع وإذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة فليس له الرجوع عنه إلى غيره في مثلها لأنه قد التزم ذلك القول بالعمل به إلى أن قال : والأصح جوازه أي جواز الرجوع إلى غيره في حكم آخر إلى أن قال : والأصح أنه يجب على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الإجتهاد التزام مذهب معين ، ثم قال : في خروجه عنه أقوال : ثالثها لا يجوز في بعض المسائل ويجوز في بعض توسطا بين القولين في الجواز في غير ما عمل به أخذاً مما تقدم في عمل غير الملتزم فإنه إذا لم يجز له الرجوع . قال ابن الحاحب . كالآمدي اتفاقاً : فالملتزم أولى بذلك وقد حكيا فيه الجواز فيقيد مما قلناه انتهى . وإذا قلتم : بامتناع التقليد في المسئول عنه وهي المسائل التي عمل(1/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
بها فكيف يلتئم ذلك مع ما قال الكمال الدميري في شرحه في القضاء : فرع لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون ، وإذا دونت المذاهب فهل يجوز للمقلدأن ينتقل من مذهب إلى مذهب ؟ الأصح الجواز كما لو قلد في القبلة هذا أياماً انتهى ، وإطلاقه شامل لما عمل به وما لم يعمل به والمسئول إيضاح ذلك .
الجواب : الأصح جواز الانتقال مطلقاً فيما عمل به وفيما لم يعمل به ، كذا صححه الرافعي وهو المنقول في السؤال عن الدميري لكن بشرط عدم تتبع الرخص ، وهي مسألة غير التي حكى فيها المنع اتفاقاً ، ولذا جمع الأصوليون بينهما فحكوا الاتفاق في هذه وحكوا الخلاف في تلك ، ومن جملته قول التفصيل والفرق بين المسألتين أن تلك في التمذهب بمذهب معين وإرادة الانتقال عنه بعد العمل به أو ببعضه ، ومسألة المنع اتفاقاً فيمن استفتى في حادثة مجتهداً فأفتاه وعمل بقوله ثم وقعت له مرة أخرى ، وحاصل الفرق أن في هذه تقليداً في جزئية معينة خاصة وتلك فيها تقليد كلي على سبيل الإجمال لا التفصيل ، إذا تقرر هذا فمقلد الشافعي إذا غسل نجاسة الكلب على مذهبه وأراد بعد ذلك أن ينتقل ويقلد غيره فيها فله ذلك لكن بشرط مراعاة ذلك المذهب في جميع شروط الطهارة والصلاة من مسح كل الرأس أو الربع والدلك ومراعاة الترتيب في قضاء الصلوات ، فإن أخل بشيء من ذلك كانت صلاته باطلة باتفاق المذهبين .(1/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
الفتاوى القرآنية
سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : ما يوجد في بعض التفاسير في قوله في سورة الفاتحة افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن ولذلك من أسمائها أم القرآن وأم الكتاب والأساس فصارت كالعنوان ، والمقصود بيان ذلك على وجه التفصيل والتبيين ؟ .
الجواب : هذا الكلام قد تكلمت عليه في عدة من تصانيفي . منها الإتقان في علوم القرآن ، ومنها الإكليل في استنباط التنزيل ، ومنها قطف الأزهار في كشف الأسرار ، ومنها حاشية البيضاوي ، وأنا ألخص ذلك هنا فأقول : قال العلماء : إنما افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن فناسب الافتتاح بها لأنها تصير كبراعة الاستهلال وهي الإتيان أول الكلام بما يدل على المقصود على وجه الإجمال وكالعنوان والمراد بالعنوان نوع من أنواع البديع يسمى بذلك قال ابن أبي الأصبع في بدائع القرآن : بالعنوان أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة وقصص سالفة . ومنه نوع عظيم جداً وهو عنوان العلوم بأن يذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح العلوم ومداخل لها هذا كلام ابن أبي الأصبع والفاتحة لكونها جامعة لجميع مقاصد القرآن ، وفيها الإشارة إلى جميع الأخبار المتقدمة من بدء الخلق والأمم السالفة من اليهود والنصاري وغيرهم ، وفيها الإشارة إلى مفاتيح العلوم ومداخلها من أصول الدين ، والفقه ، والتصوف ، وهذه العلوم الثلاثة هي أجل العلوم ، فإن الأول هو الذي يصح به الإيمان . والثاني هو الذي تصح به الأعمال . والثالث هو الذي تتم به محاسن الأخلاق ويصل إلى حضرة الخلاق ، وما عدا هذه من العلوم كالوسيلة لها ، فلما جمعت الفاتحة هذه كانت جديرة بأن تكون عنوان القرآن بالتقرير الذي ذكره ابن أبي الأصبع .
القذاذه في تحقيق محل الاستعاذه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وقع السؤال عما يقع من الناس كثيراً إذا ارادوا إيراد آية قالوا : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويذكرون الآية هل(1/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
( بعد ) هذه جائزة قبل الاستعاذة أم لا ؟ وهل أصاب القارىء في ذلك أو أخطأ ؟ .
فأقول : الذي ظهر لي من حيث النقل والاستدلال أن الصواب أن يقول : قال الله تعالى ويذكر الآية ولا يذكر الاستعاذة فهذا هو الثابت في الأحاديث والآثار من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ، والصحابة ، والتابعين فمن بعدهم أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي عن أنس قال : قال أبو طلحة : ( يا رسول الله إن الله يقول ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( وإن أحب أموالي إلى بير حاء ) الحديث ، وأخرج عبد بن حميد ، والبزار عن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : حضرتني هذه الآية : ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد أحب إلي من جارية لي رومية فأعتقتها ، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر يشتري السكر فيتصدق به فنقول له : لو اشتريت لهم بثمنه طعاماً كان أنفع لهم فيقول : إني أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله يقول : ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( وأن ابن عمر يحب السكر ، وأخرج الترمذي عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً وذلك بأن الله تعالى ) يقول : ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( ) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن الله قضى على نفسه أنه من آمن به هداه ومن وثق به نجاه ) قال الربيع : وتصديق ذلك في كتاب الله : ) ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ( وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك بن الوليد أنه سأل ابن عباس ما تقول في سلطان علينا يظلمونا ويعتدون علينا في صدقاتنا أفلا نمنعهم ؟ قال : لا الجماعة الجماعة إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله : ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ( وأخرج أبو يعلى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لا تستغيثوا بنار المشركين ) قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله : ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ( وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في الجمعة : ( هي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك لأن الله تعالى يقول : ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( ) والأحاديث ، والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر ، فالصواب الاقتصار على إيراد الآية من غير استعاذة اتباعاً للوارد في ذلك فإن الباب باب اتباع ، والاستعاذة المأمور بها في قوله تعالى : ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ ( إنما هي عند قراءة القرآن للتلاوة ، أما إيراد آية منه للاحتجاج والاستدلال على حكم فلا ، وأيضاً فإن قوله : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله(1/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
تركيب لا معنى له وليس [ فيه ] متعلق للظرف وإن قدر تعلقه بقال ففيه الفساد الآتي ، وإن قال : قال الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وذكر الآية ففيه من الفساد جعل الاستعاذة مقولاً لله وليست من قوله ، وإن قدم الاستعاذة ثم عقبها بقوله : قال الله وذكر الآية فهو أنسب من الصورتين غير أنه خلاف الوارد وخلاف المعهود من وصل آخر الاستعاذة بأول المقروء من غير تخلل فاصل ، ولا شك أن الفرق بين قراءة القرآن للتلاوة وبين إيراد آية منه للاحتجاج جلى واضح .
مسألة : إذا قرأ كلمة ملفقة من قراءتين كالرحيم مالك بالإدغام مع الألف ، وترى الناس سكرى بترك الألف وعدم الإمالة هل يجوز أم لا ؟ وإذا قلتم يجوز فهل ذلك جائز سواء أخل بالمعنى أم لا ؟ غير نظم القرأن كقوله : ) لقضي إليهم أجلهم ( ببناء الفعل للمفعول مع نصب اللام أم لا ؟ وما معنى قولهم القراءة سنة متبعة ؟ .
الجواب : الذي اختاره ابن الجزري في النشر أنه إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى منع التلفيق منع تحريم كمن يقرأ : ) فتلقى آدم من ربه كلمات ( برفعهما أو بنصبهما ونحو ذلك مما لا يجوز في العربية واللغة ، وإن لم يكن كذلك فرق فيه بين مقام الرواية وغيرها فيحرم في الأول لأنه كذب في الرواية وتخليط ويجوز في التلاوة هذا خلاصة ما قاله ابن الجزري وذكر ابن الصلاح ، والنووي أن التالي ينبغي له أن يستمر على قراءة واحدة ما دام الكلام مرتبطاً ، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أخرى ، وهذا الإطلاق محمول على التفصيل الذي ذكره ابن الجزري ، وأما قولهم القراءة سنة متبعة فهذا أثر عن زيد بن ثابت أخرجه سعيد بن منصور في سننه . وغيره قال البيهقي في تفسيره : أراد أن اتباع من قبلنا في الحروف سنة ولا تجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة وإن كان غير ذلك سائغاً في اللغة انتهى .
مسألة : الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن الشريد بن سويد قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا جالس هكذا وقد اتكأت على إلية يدي اليسرى ووضعتها خلف ظهري فقال : ( أتقعد قعدة المغضوب عليهم ) من هم المغضوب عليهم هل هم المذكورون في قوله تعالى ) غير المغضوب عليهم ( ؟ .
الجواب : نعم المراد بالمغضوب عليهم في الحديث المذكورون في صورة الفاتحة وهم اليهود ، وقد أورده النووي في شرح المهذب مستدلاً به على كراهة هذه القعدة لفعل اليهود لها ، وأورد بعده حديث البخاري عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل الرجل يده في خاصرته وتقول : إن اليهود تفعله فدل على أن المقصود كراهة التشبه باليهود في كيفية قعودهم .
مسألة : في قول الإمام البيضاوي في إعراب قوله تعالى : ) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( يصح أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، ويصح أن تكون حالاً من المستكن في ولي أو من الموصول أو منهما ، بين لنا كيف صيغة الحال على كل ؟ .
الجواب : من القواعد المقررة في العربية أن صاحب الحال والحال يشبهان المبتدأ(1/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
والخبر فلذلك السبب يجوز أن يكون صاحب الحال واحداً ويتعدد حاله كما يكون المبتدأ واحداً والخبر متعدد ، ويجوز أن يكون صاحب الحال متعدداً والحال متعدد أو متحد ، ويشترط وجود الرابط لكل من الصاحبين ، كما يشترط وجود الرابط لكل من المبتدأين ، ومن القواعد المشهورة حتى في الألفية أن الحال يأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف عاملاً فيه كما قال :
ولا تجز حالاً من المضاف له
إلا إذا اقتضى المضاف عمله
إذا تقرر ذلك فالوجه الأول وهو أنه حال من الضمير المستكن في ولي وهو الذي رجحه أبو حيان في البحر ، فإن صيغة ولي صفة مشبهة وفيه ضمير الفاعل هو الأوضح ، والحال تأتي من الفاعل كثيراً ، وتقدير الكلام الله ولي المؤمنين حال إخراجه إياهم من الظلمات أو حال كونه مخرجاً لهم أي مولاهم حيث أخرجهم والحال قيد في العامل ، فجملة الإخراج حال مبينة لهيئة التولي ، وضمير يخرج المستتر فيه هو الرابط لجملة الحال بصاحبها ، وإنما جعل من ضمير ولي لا من نفس ولي لأنه واقع خبراً عن المبتدأ والقاعدة أن الحال لا تأتي من الخبر بل من الفاعل أو المفعول أو ما كان في معناهما وهو المضاف إليه بشرطه أو المبتدأ على رأي ، وأما الخبر فلا يأتي منه الحال فلذلك عدل إلى الضمير الذي هو فاعله ، والوجه الثاني وهو أنها حال من الموصول واضح أيضاً لأنه مجرور بإضافة الصفة المشبهة إليه فهو من قاعدة ما كان المضاف عاملاً فيه وهو في معنى المفعول ، ولهذا لو جئت بدل الصفة المشبهة بالفعل ظهرت المفعولية فيقال : الله تولى الذين آمنوا فيكون الذين مفعولاً والحال يأتي من المفعول وتقدير الكلام الله ولي المؤمنين حال كونهم مخرجين بهدايته من الظلمات ، فإذا قدرت الحال من ضمير ولي كانت في تقدير مخرجاً بالكسر اسم فاعل ، وإذا قدرتها من الذين الذي هو في معنى المفعول كانت في تقدير مخرجين بالفتح اسم مفعول ، والوجه الثالث واضح أيضاً وهو أنها حال منهما معاً فإن فيها رابطين : رابط بالأول وهو ضمير يخرج المستتر الذي هو فاعل ، ورابط بالثاني وهو ضمير الذين آمنوا الذي هو مفعول يخرج وهو هم ، وتقدير الكلام على هذا الله ولي المؤمنين حال كونه مخرجاً لهم بالهداية وحال كونهم مخرجين بالاهتداء ، وفي ذلك ملاحظة أخرى لقاعدة أصولية وهي استعمال المشترك في معنييه .
مسألة : في قوله تعالى : ) كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ( هل يصح نصب حلالاً على التمييز ؟
الجواب : لا يصح بل هو حال أو مفعول به .
سورة آل عمران
مسألة : المسئول من صدقاتكم فسح الله في أجلكم بيان معنى قول الإمام البيضاوي في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى : ) بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ((1/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
ذكر الخبر وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كلياً بياناً شافياً ؟ .
الجواب : لا شك أن الشرائع كلها متفقة على النظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد ، وكذا أحكام القضاء والقدر جارية على سنن ذلك وإن خفي وجه ذلك على الناس في كثير منها ، ولهذا ورد في الحديث لاتتهم الله على نفسك فإذا علم ذلك ومن المعلوم أن الله قدر الخير والشر كان مظنة أن يقول قائل : كيف [ قدر ] الشر وهو خلاف ما علم نظره إليه شرعاً وقدراً ؟ وهذه هي الشبهة التي تمسك بها المعتزلة والجواب : أن الشر اليسير إذا كان وسيلة إلى خير كثير كان ارتكابه مصلحة لا مفسدة ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيراً لا شراً وصحة لا مرضاً لا ستلزامه ذلك ، فكذلك كل ما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعاً ولهذا ورد : ( لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين ) وورد : ( لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب ) فتقدير الذنوب وإن كان شراً فليست لكونها مقصودة في نفسها بل لغيرها وهو السلامة من داء العجب التي هي خير عظيم ، قال بعض المحققين : ولهذا قيل يا من إفساده إصلاح يعني أن ما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها ، وما أدى إلى الخير فهو خير ، فكل شر قدره الله لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله : ) بيدك الخير ( فلذا اقتصر عليه في وجه أنه شامل لما قصد أصلاً ولما وقع استلزاماً ، وهذه من مسألة ليس في الإمكان أبدع مما كان التي قررها الغزالي وألفنا في شرحها كتاب تشييد الأركان فلينظره من أراد البسط والله أعلم .
مسألة : في قوله تعالى : ) ولله على الناس حج البيت ( كيف أضاف الحج إلى البيت والمضاف غير المضاف إليه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم : ( الحج عرفة ) ؟ .
الجواب : كيف تسأل عن هذا ومن شأن المضاف أبداً أن يكون غير المضاف إليه ألا اضافة البيان ، وهذه الإضافة في الآية من باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، وأما حديث ( الحج عرفة ) فعلى حذف مضاف والتقدير معظم أفعال الحج وقوف عرفة . فأعاد السائل السؤال يحيط علم سيدنا ومولانا أنه إذا كان معظم أفعال الحج يكون بعرفة فما الحكمة في إضافة الحج إلى البيت دون غيره ؟ .
فأجبت : البيت هو المقصود بالذات فأضيف الحج إليه قال تعالى : ) جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس ( ، وقال سبحانه : ) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ( وقال : ) إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ( فالآيات ، والأحاديث دلت على أن البيت هو المقصود الأعظم وهو أشرف من عرفة وسائر البقاع إلا القبر الشريف النبوي(1/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
فأضيف الحج إليه لأنه المعظم فوق عرفة ، وأما قوله صلى الله عليه وسلّم : ( الحج عرفة ) فاعتبار آخر وذلك لأنه سيق لبيان ما يعتني الحاج بحصوله خوف فوات الحج ، فإن وقوف عرفة مقدر بزمان مخصوص وهو من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد ، فمن لم يدرك الوقوف في لحظة من هذا الزمان فاته الحج ، بخلاف الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق التي هي بقية أركان الحج فإنها لا تفوت أصلاً ولا تتقيد بوقت بل هي مطلقة متى فعلت أجزأت فلهذا قال : ( الحج عرفة ) أي الأمر الذي يحصل به إدراك الحج أو فواته وقوف عرفة فمن أدركه أدرك الحج ومن فاته فاته الحج فهذه اضافة اعتبارية . وقوله : ) حج البيت ( إضافة حقيقية فافهم الفرق بين الإضافتين .
مسألة : في قوله تعالى : ) يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ( ما السمة التي كانت عليهم ، وهل كان للنبي صلى الله عليه وسلّم عذبة ؟ فإن الشيخ مجد الدين الشيرازي نقل في شرح البخاري أنه كان له عذبة طويلة نازلة بين كتفيه ، وتارة على كتفيه وأنه ما فارق العذبة قط وأنه قال : ( خالفوا اليهود ولا تصمموا فإن تصميم العمامة من زي أهل الكتاب ) وأنه قال : ( أعوذ بالله من عمامة صماء ) فهل هذه الأحاديث صحيحة ؟ وما على من علم أن العذبة سنة وتركها مستنكفاً عنها ؟ وهل إذا اقتدى الشخص برسول الله صلى الله عليه وسلّم في العذبة وحصل له الخيلاء يحرم عليه أم لا ؟ وهل يجوز أن يقال إن الأحاديث كلام الله ؟ .
الجواب : أما السمة التي كانت عليهم فروى ابن أبي حاتم في تفسيره بأسانيد عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها ، وروى عن أبي هريرة بالعهن الأحمر ، وروى عن مكحول . وغيره أنها العمائم ، وروى من طريق وكيع عن هشام ابن عروة عن يحيى بن عباد أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر ، ورواه ابن المنذر من طريق هشام عن عباد بن حمزة وزاد في آخره مثل سيما الزبير ، وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم ، وفي إسناده عمار بن أبي مالك ضعفه الأزدي وروى أيضاً عن عروة قال : نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء وهو مرسل صحيح الإسناد ، وروى أيضاً عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله : مسومين قال : معلمين وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ، وفي إسناده عبد القدوس بن حبيب وهو متروك ، وروى ابن جرير بإسناد حسن عن أبي أسيد الساعدي وهو بدري قال : خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم . فالذي صح من هذه الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ، ورواية البيض والسود ضعيفة . والاعتجار لف العمامة على الرأس قاله في الصحاح . وأما العذبة فوقفت فيها على عدة أحاديث من لبس النبي صلى الله عليه وسلّم وإلباسه وليس فيها طويلة ، الأول عن عمرو بن حريث قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه ) رواه مسلم ، وأبو داود . الثاني عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا اعتم سدل(1/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
عمامته بين كتفيه ، قال نافع : وكان ابن عمر يفعل ذلك ) رواه الترمذي في الشمائل . الثالث : عن عبد الرحمن ابن عوف قال : ( عممني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسدلها بين يدي ومن خلفي ) رواه أبو داود . الرابع : عن عائشة قالت : ( عمم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع ) رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف . الخامس : عن ثوبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه ) رواه في الأوسط وفيه الحجاج ابن رشدين ضعيف . السادس : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال : ( هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن ) رواه في الأوسط وإسناده حسن . السابع : عن أبي عبد السلام قال : قلت لابن عمر : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتم ؟ قال : ( كان يدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسلها بين كتفيه ) رواه الطبراني في الكبير وإسناده على شرط الصحيح إلا أبا عبد السلام وهو ثقة . الثامن : عن أبي موسى : ( أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابتها من ورائه ) رواه في الكبير وفيه عبد الله بن تمام وهو ضعيف . التاسع : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( عليكم بالعمائم فإنها سيما الملائكة وارخوها خلف ظهوركم ) رواه في الكبير . وفيه علي بن يونس وهو مجهول . العاشر : عن أبي أمامة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يولي والياً حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن ) رواه في الكبير وفيه جميع بن ثوب متروك . الحادي عشر : عن عبد الله بن بسر قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً إلى خيبر فعممه عمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه أو قال : على كتفه ) رواه في الكبير وإسناده حسن . الثاني عشر : عن عائشة قالت : عمم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا وترك من عمامته مثل ورق العشر ثم قال : ( رأيت أكثر الملائكة معتمين ) أخرجه ابن عساكر .
هذا ما حضرني الآن من الأحاديث فيها فقول الشيخ مجد الدين : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عذبة صحيح ، وقوله : طويلة لم أره لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين ، وقوله : بين كتفيه صحيح كما تقدم ، وقوله : وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه لكن من إلباسه كما تقدم في تعميمه عبد الرحمن بن عوف ، وعلياً ، وقوله : ما فارق العذبة قط لم أقف عليه في حديث بل ذكر صاحب الهدى أنه كان يعتم تارة بعذبة وتارة بلا عذبة .
وأما حديث ( خالفوا اليهود ) إلى آخره ، وحديث ( أعوذ بالله من عمامة صماء ) فلا أصل لهما ، ومن علم أنها سنة وتركها استنكافاً عنها أثم أو غير مستنكف فلا ، قال النووي في شرح المهذب : يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ولا كراهة في واحد منهما ، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء وإرسالها إرسالاً فاحشاً كإرسال الثوب فيحرم للخيلاء ويكره لغير الخيلاء لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( الإسبال في الإزار(1/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
والقميص والعمامة من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) رواه أبو داود ، والنسائي بإسناد صحيح ، وأما إذا اقتدى الشخص به صلى الله عليه وسلّم في عمل العذبة وحصل له ضمن ذلك خيلاء فدواؤه أن يعرض عنه ويعالج نفسه على تركه ولا يوجب ذلك ترك العذبة فإن لم يزل إلا بتركها فليتركها مدة حتى يزول لأن تركها ليس بمكروه وإزالة الخيلاء واجبة ، وأما هل يجوز أن يقال الأحاديث كلام الله ؟ فنعم بمعنى أنها من عند الله قال تعالى : ) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( وروى أبو داود ، وابن حبان في صحيحه من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ألا أني أوتيت الكتاب وما يعدله فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما كان فيه من حلال استحللناه وما فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل ما حرم الله ) وروى أبو داود من حديث العرباض بن سارية نحوه ، وفيه : ( ألا إني أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها بمثل القرآن أو أكثر ) وأصرح من ذلك في المطلوب ما رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ، ومضر ، فقال رجل : يا رسول الله وما ربيعة ومضر ؟ فقال : ( إنما أقول ما أقول ) وإسناده حسن ، وقال حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلّم بالسنة كما ينزل بالقرآن أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه وهو شامي ثقة من صغار التابعين ولذلك شواهد كثيرة استوعبتها في القطعة التي كتبتها على سنن ابن ماجة وفيما ذكرناه كفاية .
مسألة : ما وجه عطف قوله تعالى : ) وكفر عنا سيئاتنا ( على قوله : ) فاغفر لنا ذنوبنا ( مع أن الذنوب بمعنى السيئات ؟ .
الجواب : فيه أوجه : أحدها أن المراد بالذنوب الكبائر وبالسيئات الصغائر ، ويؤيد هذا أن التكفير إنما يكون في الصغائر كما في الأحاديث الصحيحة . الثاني : أن المراد بالذنوب ما قدموه قبل الإسلام ، وبالسيئات ما يحدث بعد الإسلام . الثالث : أن المراد بالذنوب ترك الطاعات ، وبالسيئات فعل المعاصي . الرابع : أن المراد بهما شيء واحد وأنه من باب عطف المترادفين كقوله :
وألفى قولها كذباً ومينا
سورة النساء
مسألة : في قوله تعالى : ) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ( ما فائدة قوله : ) ضعافاً ( مع أن ذرية يغني عنه فإن الذرية هم الصغار ؟ .
الجواب : أما من حيث التفسير فإن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الذرية في الآية بالأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً ، وفسر قوله : ) ضعافاً ( أي صغاراً فعلم أن الذرية شامل للأولاد مطلقاً كيف كانوا ، وتخصيصهم في الآية بالصغار من الوصف أعني صغاراً . وقال الراغب في مفردات القرآن : الذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان قد يقع على الصغار(1/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
والكبار معاً في التعارف هذا لفظه ، وهذا قول آخر فرق فيه بين اللغة والعرف ، والأول أصح لأن القرآن ناطق بإطلاق الذرية على الكبار والصغار [ معاً ] في قوله تعالى : ) ذرية من حملنا مع نوح ( وقوله : ) قال ومن ذريتي ( وقوله : ) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ( فدل ذلك على أن إطلاقه عليهما من حيث اللغة أيضاً ، وقال تعالى : ) إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض ( وقال جماعة : الذرية تطلق على الأولاد وعلى الآباء أيضاً ، قال صاحب نظم القرآن [ وغيره ] الذرية تقال للواحد والجمع وللأصل والنسل ومنه قوله تعالى : ) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ( أي آباءهم ، قال الزملكاني في أسرار التنزيل : الذرية كما تطلق على الأولاد تطلق على الآباء لأن الأب ذرىء من الولد أي خلق فكان ذرية لولده كما أن الولد ذريء من أبيه قال : ومن استعمالها في الآباء قوله تعالى : ) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ( أي آباءهم ، قال : ومنه قوله تعالى : ) ذرية بعضها من بعض ( جعل آدم ومن ذكر معه ذرية للأنبياء انتهى .
مسألة : ما صرح الفقهاء فيه بأنه حرام استناداً لما نطق القرآن فيه بالحرمة كآية ) حرمت عليكم أمهاتكم ( ) حرمت عليكم الميتة ( إلى غير ذلك هل الحرمة فيه لعينه أم لمعنى آخر ؟ حكوا في ذلك خلافاً وحينئذ فالقائل بأن المحرم معين هل يقول : أن حد الحكم بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إلى آخره قيد الأفعال فيه لا مفهوم له أو معتبر لا بد منه لإخراج ما احترزوا عنه به مما لا يسمى حكماً ، وحينئذ فكيف معلق الحكم بالعين كما ذهب إليه من ذهب ؟ .
الجواب : الخلاف في أن التحريم والتحليل هل هما من صفات الأفعال أو من صفات الأعيان شهير حكاه خلائق منهم القاضي أبو بكر الباقلاني في التقريب ، وحكاه من المتأخرين السبكي . وزيف القول الثاني جداً حتى قال : إنه قال به من لا تحقيق عنده ، وحكاه ولده الشيخ تاج الدين وقال : إن القول بأنهما من صفات الأفعال أصلنا ، والقول بأنهما من صفات الأعيان قول بعض المعتزلة : وهو قول باطل هذه عبارته وذكر والده أن فائدة الخلاف تظهر في فروع فقهية منها ما لو كان بيد شخص مال مغصوب فأعطاه الآخر وهما جاهلان بالغصب ظانان أنه ملكه . فإن قلنا : التحريم من صفات الأفعال لم يوصف هذا المال بأنه حرام . وإن قلنا : من صفات الأعيان وصف به ، ومنها قتل الخطأ يوصف بالتحريم على قول الأعيان دون الأفعال ، وذكر ولده الشيخ تاج الدين له فوائد أصولية ، منها أن نحو : ) حرمت عليكم أمهاتكم ( لا إجمال فيه قطعاً على قول الأعيان ويجري فيه الخلاف على قول الأفعال . وأما حد الحكم المذكور فإنه ماش على القول الصواب دون القول المزيف . ومن يقول بالمزيف يحتاج في الحد إلى عبارة تناسب مذهبه هذا آخر الجواب ، ثم إن قول السائل هل الحرمة فيه لعينه أم لمعنى آخر ؟ عبارة ملبسة فإن لنا مسألتين ، مسألة تعلق الحكم بالأفعال أو بالأعيان ، وهذه مطردة في كل تحريم وتحليل ،(1/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
ومسألة : إذا قلنا : تتعلق بالأفعال ففي بعض الصور يجري فيها خلاف هل التحريم للعين والذات أو لمعنى خارج كما قيل في استعمال أواني النقدين ؟ وهذه غير مطردة في كل تحريم فأول السؤال يوهم أنه عن هذه المسألة وآخره يوهم أنه عن الأولى .
سورة الأعراف
مسألة : في قوله تعالى : ) إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ( هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض ؟ وهل كانت لها ثم أمور تعرف بها أوفي الآية شيء مقدر ؟ .
الجواب : الذي وضح لي بعد الإجتهاد والنظر في الأدلة والتمهل أيام حتى أعطيت النظر حقه أن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كانت دفعة واحدة من غير تقديم أحدهما على الآخر ، وذكر الأدلة على ذلك يطول ولكن نذكر شيئاً مختصراً وذلك أنه روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( خلق الله التربة وفي لفظ الأرض يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء والدواب يوم الخميس وآدم يوم الجمعة ) فهذا يدل على خلق هذه الأشياء في هذه الأيام المسماة بعينها . وروى ابن جرير ، وابن المنذر في تفسيريهما عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قالوا : إن الله كان عرشه على الماء لم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماءاً ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يوم الثلاثاء والأربعاء ثم استوى إلى السماء ففتقها فجعلها سبع سموات في يوم الخميس والجمعة وأوحي في كل سماء أمرها خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها فهذا الأثر أيضاً صريح في أن الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض هي هذه المسماة بعينها وهو المعتمد في أن الابتداء يوم الأحد لا يوم السبت لأحاديث أخر كثيرة دلت على ذلك . وحديث مسلم أعله الحفاظ وصوبوا وقفه على كعب وإنما ذكرته للقدر المشترك فيه وهو أن الخلق وقع في الأيام المسماة المعهوة ، وقد دل الأثر الذي سقناه على أمر آخر وهو أن الأيام لم يتقدم خلقها لقوله : لم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء ثم ذكر خلق الأرض والسماء وفتقهما ، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس أنه سئل عن الليل كان قبل أم النهار ؟ قال : الليل ثم قرأ ) إن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ( فهل تعلمون كان بينهما إلا ظلمة ؟ فهذا يدل على أنه لم يكن قبل خلق الأرض نهار ولا أيام ، وروى ابن عساكر عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله الأحد فسماه الأحد ، فهذه الأدلة الأربعة إذا ركبت مع بعضها أنتجت للمجتهد أن خلق الأيام وقع مقارناً لخلق الأرض والسموات لا متقدماً ولا متأخراً ، وأن الأيام المذكورة في قوله تعالى : ) خلق السموات والأرض في ستة أيام ( هي أول أيام خلقت في الدنيا .(1/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
مسألة :
يا عالم العصر لا زالت أناملكم
تهمي وجودكم نام مدى الزمن
لقد سمعت خصاماً بين طائفة
من الأفاضل أهل العلم واللسن
في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل
بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن ؟
فمنهم قال إن الأرض منشأة
بالخلق قبل السما قد جاء في السنن
ومنهم من أتى بالعكس مستنداً
إلى كلام إمام ماهر فطن
أوضح لنا ما خفي من مشكل وأبن
نجاك ربك من وزر ومن محن
ثم الصلاة على المختار من مضر
ما حي الضلالة هادي الخلق للسنن
الجواب :
الحمد لله ذي الأفضال والمنن
ثم الصلاة على المبعوث بالسنن
الأرض قد خلقت قبل السماء كما
قد نصه الله في حم فاستبن
ولا ينافيه ما في النازعات أتى
فدحوها غير ذاك الخلق للفطن
فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا
لما أتاه به قوم ذوو لسن
وابن السيوطي قد خط الجواب لكي
ينجو من النار والآثام والفتن
مسألة : في قوله تعالى : ) خلق الله السموات ( هل السموات مفعول به أو مفعول مطلق ؟ .
الجواب : هو مفعول مطلق ومن أعربه مفعولاً به فقد غلطه المحققون منهم ابن الحاجب في أماليه ، وابن هشام في مغنيه ، ووجهوه بأمور ، منها أن المفعول به ما كان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فيه ثم أوقع الفاعل به فعلاً ، والمفعول المطلق ما كان الفعل العامل به هو فعل إيجاده ، قال ابن هشام : والذي غر النحويين في هذا أنهم يمثلون المفعول المطلق بأفعال العباد وهم إنما يجري على أيديهم إنشاء الأفعال لا الذوات ، فتوهموا أن المفعول المطلق لا يكون إلا حدثاً ولو مثلوا بأفعال الله تعالى لظهر لهم أنه لا يختص بذلك لأنه سبحانه موجد للأفعال وللذوات جميعاً ، قال : وكذا البحث في أنشأت كتاباً وعمل فلان خيراً وآمنوا وعملوا الصالحات هذا ما ذكره ابن هشام وقد رأيت للشيخ تقي الدين السبكي في هذه المسألة بخصوصها تأليفين نفيسين ، أحدهما مطول سماه التهدي إلى معنى التعدي أتى فيه بنفائس وغرائب ثم لخصه في كتاب أخصر منه سماه بيان المحتمل في تعديه عمل ، قال في توجيه ما ذكرناه : المفعول به هو محل الفعل ومن ضرورة قولنا مفعول به أن يكون المفعول غيره فزيداً في ضربت زيداً مفعول به لأنه في محل الفعل ، وأما المفعول الذي أوجده الفاعل فالضرب وهو المفعول المطلق ، وكذا نحو خلق الله السموات وعملت(1/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
صالحاً السموات والصالح هو نفس المفعول لا محل الفعل والمفعول غيره فهو مطلق بمعنى أن ما سواه من المفاعيل مقيد وهو نفس المفعول المطلق أي المجرد عن القيود وهو الصادر عن الفاعل وهو نفس فعله قال : وإنما سرى الغلط من ظن أن المفعول المطلق شرطه أن يكون مصدراً وليس كذلك فليس كل مفعول مطلق مصدراً هذا كلام السبكي .
مسألة : في قوله تعالى : ) أيان مرساها ( ما إعرابه ؟ .
الجواب : ) أيان ( خبر مقدم ) ومرساها ( مبتدأ مؤخر .
سورة براءة
مسألة : في قوله تعالى : ) ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ( هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور ؟ وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله عليه وسلّم قبر أمه أنه لإحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي ؟ .
الجواب : المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة ، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضاً أخذاً من الإطلاق ، وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده ، فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلّم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك ثم الضمير في ( منهم ) خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياساً ، وقد صح في حديث الزيارة أنه أستأذن ربه في ذلك فأذن له ، وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري ، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح . فإن قلت : استئذانه يدل على خلافه وإلا لزارها من غير استئذان . قلت : لعله كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحى إليه بصحة ذلك .
سورة يونس
مسألة : في قوله تعالى : ) أمن لا يهدي ( ما أصل هذه الكلمة وماضيها وما إعلالها وهل إعلالها جار على الأصل ؟ .
الجواب : أصل ( يهدي ) يهتدي قلبت التاء دالاً لتدغم فصار يهددي ثم سكنت لذلك فنقلت حركتها وهي الفتحة إلى الهاء قبلها وأدغمت فصار يهدي ، قال أبو البقاء : ونظير ذلك قوله تعالى : ) يكاد البرق يخطف أبصارهم ( فيمن قرأ بفتح الياء والخاء والطاء المشددة ، قال : فالأصل يختطف قلبت التاء طاءاً وأدغمت في الطاء ونقلت حركتها إلى الخاء ، وأما الماضي فهدى والأصل اهتدى قلبت التاء دالاً فصار اهتددى ونقلت حركتها إلى الهاء فاستغني عن همزة الوصل فحذفت وأدغمت الدال في الدال فصارت هدى وهذا الإعلال جار على الأصل وليس بخارج عن القياس كما نص عليه علماء التصريف ، فإن فاء(1/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
الافتعال تدغم في أحرف معروفة منها الذال وقد مثل لذلك الجار بردى بقراءة مردفين والأصل مرتدفين قلبت التاء دالاً فصار مرددفين ثم نقلت حركة الدال إلى الراء وأدغمت في الثانية .
سورة هود
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( شيبتني هود وأخواتها ) ما المرد بأخواتها ؟ .
الجواب : المراد بهن سورة ) الواقعة ( ) والمرسلات ( ) وعم يتساءلون ( ) وإذا الشمس كورت ( كذا ثبت مفسراً في حديث الترمذي ، والحاكم . زاد الطبراني في رواية . ) والحاقة ( زاد ابن مردويه في أخرى . ) هل أتاك حديث الغاشية ( . زاد ابن سعد في أخرى . ) القارعة ( ) وسأل سائل ( وفي أخرى : ) اقتربت الساعة ( .
سورة يوسف
مسألة :
ما قول حاو لتنبيه لبهجته
در نفيس صحيح يخطف البصرا
بروضة أظهر المنهاج في ملأ
محرراً ولأرباب الذكا قمرا
في آية قرئت في يوسف علنا
في وحي قرآننا هذا إليك جرى
وفي إشارات آيات الكتاب بها
بتلك في آية تبدو لمن نظرا
هل الإشارة معناها الجميع وهل
بأحسن القصص القرآن قد حصرا ؟
وهل تنزل في صوم بأجمعه
أو ليلة القدر أنزلنا كما ذكرا ؟
وأهل كفر وتوحيد لهم رفق
في النار إن عذبوا هل ذاك قد أثرا ؟
لا زلت تجلو ظلام الجهل في زمن
بكم زها ولإرشاد الأنام يرى
بكم شفا وبتوضيح العلوم سما
لمسلم ولجمع الخلق قد شهرا
الجواب :
الحمد لله حمداً مثل ما أمرا
ثم الصلاة على المختار من مضرا
إن الإشارة خصوها بما اشتملت
عليه سورتها لا شك منحصرا
وليلة القدر فيها كان منزله
إلى سماء الدنا جمعاً كما أثرا
وأهل توحيده في النار يرتفقوا
بموتهم فشعور منهم شعرا
وأهل كفر فمنهم ذو تشدده
ومن يخفف عنه حسب ما ذكرا(1/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
دفع التعسف عن إخوة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : في رجلين قال أحدهما : إن إخوة يوسف عليه السلام أنبياء ، وقال الآخر : ليسوا بأنبياء فمن أصاب ؟ .
الجواب : في إخوة يوسف عليه السلام قولان للعلماء والذي عليه الأكثرون سلفاً وخلفاً أنهم ليسوا بأنبياء ، أما السلف فلم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم قالوا : بنبوتهم كذا قال ابن تيمية ولا أحفظه عن أحد من التابعين ، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال : بنبوتهم . وتابعه على هذا فئة قليلة . وأنكر ذلك أكثر الأتباع فمن بعدهم ، وأما الخلف فالمفسرون فرق منهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي ، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي ، والإمام فخر الدين ، وابن كثير . ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي ، ومنهم من لم يتعرض للمسألة ولكن ذكر ما يدل على عدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبىء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمر قندي ، والواحدى ، ومنهم من لم يذكر شيئاً من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولاً بنبوتهم وإنما أريد بهم ذريته لا بنوه لصلبه كما سيأتي تحرير ذلك ، قال القاضي عياض في الشفا : إخوة يوسف لم تثبت نبوتهم . وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء قال المفسرون : يريد من نبىء من أبناء الأسباط فانظر إلى هذا النقل عن المفسرين من مثل القاضي ، وقال ابن كثير : اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف وظاهر سياق القرآن يدل على خلاف ذلك ، ومن الناس من يزعم أنهم أوحى إليهم بعد ذلك . وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ولم يذكروا سوى قوله تعالى : ) وما أنزل إلى إبراهيم ( إلى قوله : ) والأسباط ( وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط كما يقال للعرب قبائل . وللعجم شعوب فذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالاً لإنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحى إليهم انتهى .
وقال الواحدي : الأسباط من ولد إسحق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل وكان في الأسباط انبياء وقال ؛ في قوله تعالى : ) ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ( يعني المختصين بالنبوة منهم ، وقال السمرقندي في قوله تعالى : ) وما أنزل إلينا ( إلى قوله : ) والأسباط ( السبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب وإنما أنزل على انبيائهم وهم كانوا يعملون فأضاف إليهم كما أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم فأضاف إلى أمته فقال : ) وما أنزل إلينا ( فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم لأنهم كانوا يعملون به ، وقال في قوله تعالى : ) إنا أوحينا إليك ( إلى قوله : ) والأسباط ( هم أولاد يعقوب أوحى إلى أنبيائهم ، ثم رأيت الشيخ تقي الدين بن تيمية ألف في هذه المسألة مؤلفاً خاصاً قال فيه ما ملخصه : الذي يدل عليه القرآن ، واللغة ، والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا(1/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
عن النبي صلى الله عليه وسلّم بل ولا عن أصحابه خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال إنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة ، والنساء : ) والأسباط ( وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب ، والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال فيهم أيضاً : بنو إسرائيل وقد كان في ذريته الأنبياء فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل ، قال أبو سعيد الضرير : أصل السبط شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فسموا الأسباط لكثرتهم ، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب ومثل السبط الحافد ، وكان الحسن ، والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر ، وقال تعالى : ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً ( فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل كل سبط أمة لا أنهم بنوه الاثنا عشر ، بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطاً فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس . ومن قال : الأسباط أولاد يعقوب لم يرد أنهم أولاده لصلبه بل أراد ذريته كما يقال : بنو إسرائيل ، وبنو آدم فتخصيص الآية ببنيه لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ، ومن ادعاه فقط أخطأ خطأ بيناً ، والصواب أيضاً أن كونهم أسباطاً إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا يوسف ، ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال : ) ومن ذريته داود وسليمان ( الآيات ، فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الأسباط ، فلو كان إخوة يوسف نبئوا كما نبىء يوسف لذكروا معه ، وأيضاً فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبل النبوة كما قال عن موسى : ) ولما بلغ أشده ( الآية ، وقال في يوسف كذلك ، وفي الحديث : ( أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي من نبي من نبي ) فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم ، وهو تعالى لما قص قصة يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة ولا شيئاً من خصائص الأنبياء ، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم ، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار . ولا ذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء لا قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد ، وقطيعة الرحم ، وإرقاق المسلم ، وبيعه إلى بلاد الكفر ، والكذب البين ، وغير ذلك مما حكاه عنهم ، ولم يحك عنهم شيئاً يناسب الاصطفاء والاختصاص الموجب لنبوتهم ، بل الذي حكاه يخالف ذلك بخلاف ما حكاه عن يوسف ، ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف لآية غافر ، ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر وظهرت أخبار نبوته ، فلما لم يكن ذلك علم أنه لم يكن منهم نبي ، فهذه وجوه متعددة يقوي بعضها بعضاً .
وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضاً وأوصى بنقله إلى(1/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
الشام فنقله موسى . والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حصل من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الأسباط ذريتهم الذين قطعوا أسباطاً من عهد موسى كل سبط أمة عظيمة ، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال : ويعقوب وبنيه فإنه أوجز وأبين ، واختير لفظ الأسباط على لفظ بني إسرائيل للإشارة إلى أن النبوة إنما حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطاً من عهد موسى هذا كله كلام ابن تيمية ؛ والله أعلم .
سورة الحجر
مسألة :
ماالقول يا عالم العصر الذي شهدت
بفضله فرق الأعجام والعرب
في قول رب العلا فيما حكاه لنا
في سورة الحجر عن قوم أولي نسب ؟
مستثنياً في نجاة آل لوطهم
بجمعهم يا أولي الأحلام والرتب
مستثنياً ثانياً في قوله امرأة
مقرراً أنها في غابر الحقب
ما حكم الأول والثاني وذكرهما
في آية نسقاً يفضي إلى السبب
ما الشأن فيه أبن لا زلت ترشدنا
في المشكلات وما تبديه من عجب ؟
أنالك جنات النعيم إذا
هال الحساب وظل الناس في كرب
ثم الصلاة على المختار من مضر
حامي البرية ما حي الشرك والريب
وآله الغر والأصحاب ما طلعت
شمس الضحى وحدا حاد على قتب
الجواب :
حمداً لمن أنزل القرآن بالعربي
مفصل القول محضاً غير ذي أشب
ثم الصلاة على المختار سيدنا
محمد خير أهل العجم والعرب
إذا تكرر مستثنى نظرت إلى
معناه يوصلك المعنى إلى الأرب
فحيث أمكن في كل لسابقه
فاجعله منه بلا ريب ولا نصب
وهذه الآية الغراء منه فخذ
فصل الخطاب وكن في الحرب ذا أهب
فأول مخرج من مجرمين عدوا
لآل لوط فلا جرم لآل نبي
والثاني ينفي من الانجاء مرأته
هذا الجواب عن الأشياخ والكتب
وابن السيوطي يرجو عفو خالقه
وأن يكون بخير الخلق ذا سبب(1/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
سورة النحل
مسألة : في قوله تعالى : ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( هل المراد بها جنس النعمة أو النعمة الواحدة ؟ .
الجواب : أكثر المفسرين على أن المراد بها الجنس وممن جزم به من أهل التدقيق الراغب في مفرداته ، ومحمود بن حمزة الكرماني في غرائبه ، وقيل المراد أن النعمة الواحدة لو عد ما يتشعب عنها من النعم لم يحص ، وهذا أدق معنى والأول أوفق لمراد الألفاظ وموارد اللغة .
سورة الإسراء
مسألة :
ماذا جواب إمام مفرد شهرت
آياته كاشتهار الشمس والقمر ؟
إذ لم يكن ثم من يحصي فضائله
في العصر بل ليس ذا في قدرة البشر
فيما قرأناه في الإسرا وبان لنا
معناه في محكم الآيات والسور
بأن لا شيء في الدنيا بأجمعها
إلا يسبح في حمد لمقتدر
وقول أحمد طه حيث مر على
قبرين قد عذبا في غاية الضرر
وشق غصناً رطيباً ثم أودع في
كل نصيباً كما قد جاء في الأثر
وقال تسبيح هذا الغصن غايته
يبساً يحل به ينفيه عن نظر
هل ذا يعارض آيات الكتاب إذاً
أو لا يعارضه يا منتهى وطري ؟
جنات عدن لكم مأوى ومسكنكم
يوم المعاد بقصر يانع نضر
ولا برحتم لحل المشكلات كما
تأليفكم للهدى يسمون مدى الدهر
الجواب :
الحمد لله في الآصال والبكر
ثم الصلاة على المختار من مضر
قد خصصت آية الإسرى بمتصف
وصف الحياة كرطب الزرع والشجر
فيابس مات لا تسبيح منه كذا
ما زال عن موضع كالقطع للحجر
سورة الكهف
مسألة : من حلب قد وقع في تفسير القاضي البيضاوي موضع عسر فهمه في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف : ) ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ((1/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
والاستثناء من النهي أي لا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا بأن يشاء الله أي إلا ملتبساً بمشيئته قائلاً إن شاء الله أي إلا وقت إن يشاء الله أن يقوله بمعنى أن يأذن لك ، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضياً دونه لا يناسب النهي انتهى ، والمقصود بيان ذلك ، ويوضح ذلك قوله : ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن إلى آخره فإن هذا عسر فهمه على كثير من الناس .
الجواب : سبب ذلك وجازة العبارة واختصارها ، ويوضحه ما في عبارة ابن الحاجب حيث قال : الوجه فيه أن يكون استثناء مفرغاً كقولك : لا تجيء إلا بإذن زيد ولا تخرج إلا عشية ، على أن يكون الأعم المحذوف حالاً أو مصدراً ، وحذفت الباء من بأن يشاء الله أي إلا بذكر المشيئة ، وقد علم ذكر المشيئة المستصحبة في الأخبار عن الفعل المستقبل هي المشيئة المذكورة بحرف الشرط أو ما في معناه كقولك : لأفعلن إن شاء الله أو بمشيئة الله وما أشبهها ، قال : وأما ما ذكر أنه متصل بقوله : إني فاعل ففاسد إذ يصير المعنى : إني فاعل بكل حال إلا في حال مشيئة الله فيصير المعنى النهي عن أن يقول : أني فاعل إن شاء الله وهذا لا يقوله أحد انتهى . وقد وضح بهذا معنى قول القاضي ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد ، وهذا التعليل من زوائده على الكشاف أخذه من أمالي ابن الحاجب ، وقول القاضي واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي هذا التعليل هو المذكور في الكشاف وعبارته لا بقوله : إني فاعل لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله كان معناه إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله وذلك مالا مدخل فيه للنهي انتهى . والحاصل أن القاضي علل إبطال تعلقه بقوله : إني فاعل بأمرين : أحدهما أنه يؤدي إلى النهي عن أن يقول : إني فاعل إن شاء الله وذلك فاسد ، والثاني أنه يؤدي إلى أن المعنى إني فاعل إلا أن تعترض المشيئة دون الفعل ، وهذا القدر وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه لا مدخل للنهي فيه فلا يلتئم معه قوله : ) ولا تقولن لشيء ( فبطل تعليق الاستثناء بقوله : إني فاعل وتعين تعليقه بالنهي والأول من الأمرين ، ذكره ابن الحاجب ولم يذكره صاحب الكشاف ، فجمع القاضي بينهما كعادته في الجمع والإيجاز .
سورة طه
مسألة : ما معنى قوله تعالى : ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ( .
الجواب : ليست هذه الآية في المسلم الذي حفظ القرآن ثم نسيه بل في الكافر ، ومعنى نسيانه تركه الإيمان به والإعراض عنه فيحشر يوم القيامة أعمى كما قال تعالى : ) ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ( ولا يظن من ذلك سهولة نسيان القرآن فقد ورد الوعيد عليه في قوله صلى الله عليه وسلّم : ( من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم ) رواه أبو داود .(1/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
سورة الفرقان
مسألة : قوله تعالى : ) وعاداً وثموداً ( لم صرفت ثمود وفيها علتان مانعتان من الصرف العجمة والعلمية ؟ .
الجواب : ليس في ثمود عجمة بل هو اسم عربي نص عليه أئمة اللغة منهم الجوهري في صحاحه ، وكذا نص أهل التاريخ قاطبة على أن قبيلة ثمود من العرب لا من العجم ، ولهذه الصيغة اشتقاقات وتصاريف في كلام العرب وليس هذا شأن الأعجمي فليس فيه حينئذ إلا العلمية ، ثم إن اعتبر اسماً للقبيلة منع من الصرف للتأنيث مع العلمية ، وإن اعتبر اسماً للأب أو الحي صرف لخلوه من علة ثانية .
سورة الشعراء
مسألة :
ماذا يقول إمام العصر من شهدت
بفضله الخلق حتى شاع واشتهرا
في قصة المجتبى موسى الكليم ترى
في قول خالقنا في سورة الشعرا
مخاطباً فأتيا فرعون تثنية
قولا كذاك كما قد قيل معتبرا
إنا رسول إله العرش مفردة
من غير تثينة تبدو لمن نظرا
هل الرسالة للاثنين مسندة
أو واحد منهما يا ناظم الدررا ؟
وإن تقولوا لكل مادلالته
أو واحد وحده والحال قد شهرا
وإن يكن لهما ماذا تقول إذا
قد بلغت قريب منهما وجرى ؟
أثابك الله جنات النعيم كما
ضاء الزمان بكم والغيث قد قطرا
الجواب :
الحمد لله حمداً ليس منحصراً
ثم الصلاة على المختار من مضرا
موسى وهرون بالإرسال قد وصفا
لما دعا بإشتراك حيث سال جرى
أما تلوت بطه بعد أزري أشر
كه ويتلوه في أمري كما أثرا
وحيث أفرد في أنا رسول فلا
إشكال عند لبيب خالط الكبرا
فمن قواعد هذا النحو أن فعو
لاً مع فعيل يجي لإثنين أو كثرا(1/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
سورة الأحزاب
مسألة : في قوله تعالى : ) إن المسلمين والمسلمات ( إلى قوله : ) أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ( هل الإعداد للمجموع أو لكل فرد فرد ؟ .
الجواب : الإعداد في هذه الآية مرتب على المسلمين الموصوفين بكل ما ذكر في الآية من الصفات لا على كل فرد فرد من الصفات ، فالمعطوفات من عطف الصفة لا من عطف الذوات ، والمراد بهم البالغون درجة الكمال من هذه الأمة ، والمراد بالعد أكمل ما أعد بدليل تنكير مغفرة الدال على التعظيم وتنكير أجر الدال عليه أيضاً ووصفه تعظيماً ، وإذا قال الله لشيء : عظيم فهو عظيم جداً لا يعبر عنه وذلك أبلغ ما أعد للمسلمين الذين لم يتصفوا بكل هذه الصفات أو ببعضها فإن أجرهم دون ذلك ، هذا من حيث الإستنباط المأخوذ من قواعد العربية والمعاني ، وأما من حيث النقل عن العلماء فقد قال الغزالي في بعض كلامه : إن الموعود في القرآن بالجنة لم يقع مرتباً على مجرد الإسلام أو الإيمان ، بل لم يقع فيه إلا مقروناً باشتراط إنضمام الأعمال إليه ، ذكر ذلك في معرض الحث على الأعمال ، فهذا يدل على أن الأعمال الواقعة في هذه الآية كل منها جزء المحكوم عليه وليس كل منها محكوماً عليه استقلالاً ، ويؤيده أيضاً من حيث الاستنباط أنه لو كان فرد محكوماً عليه استقلالاً لزم الحكم على فرد من الأعمال كالصوم أو الصدقة المذكور في الآية مجرداً عن الوصف المصدر به وهو الإسلام والإيمان وهو باطل قطعاً وإذا بطل اللازم بطل الملزوم فإن قال قائل : هذا مستثنى لا بد من اعتبار لما دل عليه من خارج . قلنا : والباقي أيضاً دل على اعتبار مجموعه القواعد العربية ، والبيانية ، والسياق يرشد إليه ، والأحاديث الواردة في الحساب ، والوزن ، والتقاص إذا وقعت عليها بلفظها مع مراعاة قواعد الاستدلال وأساليب البيان وغير ذلك من الأمور المشترطة في الاجتهاد انتجت للمجتهد أن الاعداد مرتب على المجموع لا على كل فرد فرد والله أعلم .
سورة سبأ
مسألة :
الحمد لله باري الخلق والنسم
ومنزل الكتب للتبيين للأمم
ثم الصلاة على المبعوث من مضر
محمد المصطفى الهادي من الظلم
وآله وصحاب ثم شيعته
والتابعين بإحسان لاثرهم
ماذا تقول موالينا وسادتنا
وقدوة الخلق للرحمن بالحكم ؟
من مدحهم بكتاب الله منتظم
بفاطر وسواها أي منتظم
أبقاهم الله في خير وفي دعة
وفي ازدياد علوم فوق علمهم(1/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
هل جاز أن يقرأ الإنسان في سبأ
منساته وبجر الهاء كالقسم
وهل يجازي بها بالياء إن ضممت
بكسر زاي وضم الراء في الكلم ؟
وهل هشام قرأ في نص مذهبه
عن ابن عامر أبراهام ملتزم ؟
في سورة الحج أو في الأنبياء وما
ترون فيمن قرأ هذا بلا كتم
وحالف بطلاق من حليلته
بأن ذا ليس من سبع على الأمم
الجواب : أما من قرأ ( منسأته ) بالجر فهو لاحن مخطىء غالط جاهل لأنها مفعول تأكل والمنسأة العصا ، وأما ) وهل يجازى إلا الكفور ( ففيه قراءتان بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول ورفع الكفور نائباً عن الفاعل ، وبضم النون وكسر الزاي مبنياً للفاعل ونصب الكفور مفعولاً وليس فيه غير ذلك ، وأما ابراهام في ( الحج ) ( والأنبياء ) فلم يرد من طريق التيسير والشاطبية ، لكن ابن الجزري ذكر . في النشر أن عياشاً روى عن ابن عامر أنه قرأ ابراهام في القرآن كله ، وقد ذكر هو وغيره أن القراءات ليست منحصرة فيما في التيسير والشاطبية ، لكن أخشى أن تكون هذه الرواية من شواذ السبعة ، فقد ذكر السبكي . وغيره أن عندهم شيئاً كثيراً شاذاً ، وأما الحالف بالطلاق أن هذه القراءة ليست من السبع فأقول : إن كان من المبتدئين في هذا الفن ممن أخذ بالتيسير ، والشاطبية فلا حنث عليه لأن مراده ليست من السبع من طريق هذين الكتابين اللذين عليهما الآن المعول فيمينه مخصوصة . وإن كان من المتبحرين ممن أمكنه الاطلاع على ما في النشر فإنه يحنث إلا أن يصل إلى درجة الترجيح بحيث يترجح عنده شذوذ هذه الرواية وعدم إثباتها فلا يحنث حينئذ ، وقلت في الجواب نظماً :
الحمد لله ذي الافضال والنعم
ثم الصلاة على المبعوث للأمم
من قال في سبأ منساته وأتى
بالجر فهو حمار قده باللجم
ومن قرا هل نجازي نون أوله
وكسر زاي فنصب الراء عنه نمي
وليس نفي الحج ابراهام واقتربا
لا في القصيد ولا التيسير فاحتكم
لكن في النشر عن عياش يأثره
عن ابن عامرهم يا طيب نشرهم
وحالف بطلاق إذنفاه من الس
بع الجواب له التفصيل فارتسم
إن كان مبتدئاً لا حنث يلحقه
إذ نفيه بيمين وفق ظنهم
إذ المراد بنفي السبع من طرق
أتت بتيسيرهم أو في قصيدهم
وإن يكن من علاة الفن يحنث لا
إن كان مجتهداً يعلو لنفيهم
وابن السيوطي قد خط الجواب لكي
ينجو غداً من سعير النار والضرم(1/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
سورة يس
مسألة : ما معنى قوله تعالى : ) وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ( الآية ؟ .
الجواب : روى الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال : جاء العاصي بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم حائل ففته فقال : يا محمد أيبعث الله هذا بعد ما أرم ؟ قال : ( نعم يبعث الله هذا ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ) فنزلت الآيات : ) أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ( إلى آخر السورة ، ومن هذا الحديث يعرف معنى الآية ، فالإنسان المذكور هو العاصي بن وائل السهمي وهو أحد المستهزئين المذكورين في سورة الحجر قتل ببدر كافراً وضربه المثل بالعظم الرميم ونسي خلقه أولاً من نطفة ولهذا قال تعالى : ) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ( والقادر على الإنشاء قادر على الإعادة بل هي أهون .
سورة الصافات
القول الفصيح في تعيين الذبيح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عبادة الذين اصطفى . وبعد فقد وردت إلي فتوى في السيد إسحق ، والسيد إسماعيل من الذبيح منهما ؟ والخلاف الوارد فيهما ما الأصح والراجح منه ؟ فأجبت الخلاف في الذبيح معروف مشهور بين الصحابة فمن بعدهم ولكل من القولين حجج .
أما القول بأنه إسماعيل فهو قول علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وسعيد ابن المسيب ، وأبي جعفر الباقر ، وأبي صالح ، والربيع بن أنس ، والكلبي ، وأبي عمرو بن العلاء ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم . وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، ورجحه جماعة خصوصاً غالب المحدثين ، وقال أبو حاتم : الصحيح أنه إسماعيل ، وقال البيضاوي ، إنه الأظهر ، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة ، والتابعين ، فمن بعدهم ، قال وأما القول : بأنه إسحق فمردود بأكثر من عشرين وجهاً ، روى الحاكم في المستدرك ، وابن جرير في تفسيره ، والأموي في مغازيه ، والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعد الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل ، وإسحق ابني إبراهيم أيهما الذبيح ؟ فقال بعض القوم : إسماعيل ، وقال بعضهم : بل إسحاق فقال(1/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
معاوية : على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعنده أعرابي فقال : يا رسول الله خلفت الكلأ يابساً ، والماء عابساً هلك العيال وضاع المال فعد على مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم ينكر عليه ، فقال القوم : من الذبيحان يا أمير المؤمنين ؟ قال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم وكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا : أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة ، قال معاوية : هذا واحد . والآخر إسماعيل ، هذا حديث غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله . وروى الإمام أحمد في منسده من طريق حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال : لما أمر إبراهيم بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات وثم تله للجبين وعلى إسماعيل قميص أبيض فقال له : يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه ) أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ( الحديث بطوله في المناسك ، ثم رواه أحمد من طريق حماد عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره إلا أنه قال : إسحق ، قال ابن كثير : والأول أصح لأن أمور المناسك إنما وقعت لإبراهيم ، وإسماعيل ، وروى أحمد أيضاً عن سفيان عن منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عثمان بن طلحة وقالت مرة : أنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ قال : قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلين ، قال ابن كثير : هذا دليل مستقل على أن الذبيح إسماعيل فإن قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفاً عن سلف ، وقال الشعبي : قد رأيت قرني الكبش في الكعبة ، وقال ابن جرير : ثنا يونس أنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحق ، وكذبت اليهود ، وقال ابن إسحق : ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال إسماعيل : والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وقال ابن كثير : نص في التوراة أن إسماعيل ولد ولإبراهيم ست وثمانون سنة وولد إسحق وله تسع وتسعون وعندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة بكره فأقحموا ههنا كذباً وحسداً إسحق وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان بمكة ، وهذا تحريف وتأويل باطل فإنه لا يقال وحيد إلا لمن ليس له غيره ، وأيضاً فإن أول ولد له معزة ما ليست لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار ، ولأن الله تعالى قال بعد ذلك :(1/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
) وبشرناه بإسحق ( فدل على أن المأمور بذبحه غيره وقال : ) فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب ( أي يولد له ولد يسمى يعقوب وذلك لا يتخلف فأمتنع أن يؤمر بذبحه ، قال : ومن قال : إنه إسحق فإنما أخذه عن أهل الكتاب بلا حجة وليس فيه كتاب ، ولا سنة . قال : وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين وهو ما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( الذبيح إسحق ) ، والحسن بن دينار متروك ، وشيخه منكر الحديث ، وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به مرفوعاً ، ثم رواه عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس قوله : وهذا أشبه وأصح انتهى .
قلت : قد رفعه مبارك مرة فرواه البزار في مسنده عن معمر بن سهل الأهوازي عن مسلم بن إبراهيم عن مبارك عن الحسن عن الأحنف عن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( الذبيح إسحق ) وله شواهد : أحدها ما أخرجه البزار عن أبي كريب عن زيد بن الحباب عن أبي سعيد عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : قال : ( داود أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب قال : أما إبراهيم فألقي في النار فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك ، وأما إسحق فبذل نفسه للذبح فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك ، وأما يعقوب فغاب يوسف عنه وتلك بلية لم تنلك ) ، وأبو سعيد هو الحسن بن دينار ضعيف كما تقدم ، وأخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن داود سأل ربه مسألة فقال : اجعلني مثل إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، فأوحى الله إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر ، وابتليت إسحق بالذبح فصبر ، وابتليت يعقوب فصبر ) الحديث الثاني ما أخرجه الدارقطني ، والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الذبيح إسحق ) . الثالث : ما أخرجه الطبراني في الكبير من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود وفي لفظ فاخر أسماء بن خارجة رجلاً فقال : أنا ابن الأشياخ الكرام فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله وهذا إسناد صحيح موقوف ، وروى أيضاً عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أكرم الناس ؟ قال : ( يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ) وفي سنده بقية وهو مدلس ، وأبو عبيدة عن أبيه عبد الله منقطع . الرابع : ما أخرجه الطبراني في الأوسط ، وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن(1/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فأخترت شفاعتي ورجوت أن يكون أعم لأمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي أن الله لما فرج عن إسحق كرب الذبح قيل له يا إسحق سل تعطه قال : أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً قد أحسن فاغفر له ) وعبد الرحمن ضعيف ، قال ابن كثير : والحديث غريب منكر قال : وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله : إن الله لما فرج إلى آخره ، وإن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحق .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم قال : اجتمع أبو هريرة ، وكعب فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلّم : ( إن لكل نبي دعوة مستجابة وأني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) فقال كعب : أفلا أخبرك عن إبراهيم ؟ أنه لما رأى ذبح ابنه إسحق قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً ، فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : غدا به لبعض حاجاته ، قال : فإنه لم يغد به لحاجة وإنما ذهب به ليذبحه قالت : ولم يذبحه ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك ، قالت : قد أحسن أن يطيع ربه ، فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام : أين ذهب بك أبوك ، ؟ قال : لبعض حاجاته ؟ قال : فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك ، قال : ولم يذبحني ؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك ، قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن ، فتركه ولحق بإبراهيم فقال : أين غدوت بابنك ؟ قال : لحاجة ، قال : فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت به لتذبحه ، قال : ولم أذبحه ؟ قال : تزعم أن ربك أمرك بذلك ، قال : فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن ، فتركه ويئس أن يطاع ) . وقد رواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي أخبره أن كعباً قال لأبي هريرة : فذكره بطوله ، وقال في آخره : ( وأوحى الله إلى إسحق أني أعطيتك دعوة استجيب لك فيها ، قال إسحق : اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فادخله الجنة ) وقال عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد : أنا الليث ابن خالد أبو بكر البلخي حدثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى بن أبي بكر عن سعيد بن جبير قال : لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحاً إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال ، وهذا القول نسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي وغيره إلى عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وجابر ، والعباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، وأبي ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ، والزهري ، والقاسم بن يزيد ، ومكحول ، وكعب ، وعثمان بن حاضر ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ،(1/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
وأبي الهذيل ، وابن سابط ، ومسروق ، وعطاء ، ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس . واختاره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري . وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه كان قد بلغ معه السعي أي العمل ومن الممكن أنه كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضاً ، وأما القرنان فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام ، وقال سعيد بن جبير : سار به من الشام على البراق حتى أتى به منى في ليلة واحدة فلما صرف عنه الذبح سار به كذلك ، وأخرج من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : ) وبشرناه بإسحق نبيا ( قال : بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده ، وجزم بهذا القول القاضي عياض في الشفا ، والسهيلي في التعريف ، والاعلام وكنت ملت إليه في علم التفسير وأنا الآن متوقف في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .
سورة الفتح
مسألة : قوله تعالى : ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( .
الجواب : أحسن مايجاب به عن الآية الكريمة أنه كنى بالمغفرة عن العصمة أي ليعصمك الله عن الذنب فيما تقدم من عمرك وما تأخر ، وقد نص غير واحد على أن المغفرة ، والعفو ، والتوبة جاءت في القرآن ، والسنة في معرض الاسقاط والترخيص وإن لم يكن ذنب ، ومنه قوله تعالى : ) عفا الله عنك لم أذنت لهم ( عفا الله لكم عن صدقة الخيل ، والرقيق ) فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ( ) علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ( أي رخص لكم . ) علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ( وقد ألفت في ذلك مؤلفاً سميته المحرر في قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
سورة الواقعة
مسألة : قوله تعالى : ) يطوف عليهم ولدان مخلدون ( هل الولدان من مخلوقات الدنيا أو من مخلوقات الجنة ؟ وهل هم طوال أو قصار ؟ وهل يتمتعون في الآخرة بالنساء ؟ .
الجواب : الولدان من مخلوقات الجنة لا الدنيا وهم متفاوتون في الخلقة بالطول والقصر وكذلك الحور بخلاف أهل الجنة من البشر فإنهم سواء في الخلقة ولا يتمتع الولدان في الجنة بالنساء بل هم معدون لخدمة أهل الجنة .(1/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
سورة المجادلة
مسألة من حلب : وقع تفسير البيضاوي في سورة ( قد سمع الله ) ( وللكافرين عذاب أليم ) قال القاضي : وهو نظير قوله تعالى : ) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( فماوجه كونه نظيراً له ؟ .
الجواب : وجه إيقاع لفظ الكفر موضع عدم الفعل فإنه هناك أوقع ) ومن كفر ( موضع ومن لم يحج وهنا أوقع وللكافرين موضع وللذين لا يقبلونها .
سورة الملك
مسألة : من حلب وقع في تفسير البيضاوي في تفسير الملك في قوله : ) فسحقاً لأصحاب السعير ( قال : والتغليب للإيجاز إلى آخره فالتغليب في ماذا ؟ .
الجواب : هو في قوله : ) لأصحاب السعير ( فإنه أريد به الفريقان أصحاب السعير والذين قالوا : ) لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا ( فيهم ولو جاء على طبق الآية المتقدمة لقبل : فسحقاً لهم ولأصحاب السعير منهم فوقع التغليب للإيجاز ولأن الذين يكونون فيهم يصبرون منهم .
سورة المدثر
مسألة : في قوله سبحانه وتعالى : ) والصبح إذا أسفر ( هل له تعلق بضوء الشمس أم لا ؟ وهل للنهار ضوء غير ضوء الشمس مختص به أم لا نور له ولا ضوء أصلاً ؟ وما معنى قوله تعالى : ) حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( وهل الوارد في الحديث أن الله تعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وسلّم فجزأه أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول العرش . وخلق من الجزء الثاني القلم . وخلق من الثالث اللوح ، ثم قسم الجزء الرابع وجزأه أربعة أجزاء . وخلق من الجزء الأول العقل . وخلق من الجزء الثاني المعرفة . وخلق من الجزء الثالث نور الشمس والقمر ونور الأبصار ونور النهار ، وجعل الجزء الرابع تحت ساق العرش مدخوراً يقتضي أن نور الشمس غير نور النهار أم لا ؟ وهل قال قائل : أن المراد بقوله تعالى : ) والشمس وضحاها ( إن الضحى هنا هو النهار في قوله تعالى : ) والنهار إذا جلاها ( وهل هما غيران أم لا ؟ افتونا مأجورين وابسطوا الجواب أثابكم الله الجنة ؟ .
الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الصبح في اللغة هو الفجر كذا في الصحاح وأسفر معناه أضاء كذا أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن قتادة ، وإذا تعلق بهذين الأمرين لم يكن للآية تعلق بضوء الشمس ، ومقتضى الأدلة من الأحاديث والآثار وكلام الأئمة في تفسير الآيات وكلام أهل اللغة مختلف منه ما يشهد لأن النهار نوره غير نور(1/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
الشمس ومنه ما يشهد لأن نوره نورها ، فمن الأول ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن السدي في قوله تعالى : ) الحمدلله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ( قال : الظلمات ظلمة الليل ، والنور نور النهار ، فهذا تصريح بأن النهار له نور حيث أضافه إليه وقابله بظلمة الليل وليس سببه الشمس كما أن ظلمة الليل لها سبب نشأت عنه ، وأخرج ابن جرير عن قتادة في الآية قال : خلق الله السموات قبل الأرض وخلق الظلمة قبل النور وخلق الجنة قبل النار ، وأخرج ابن المنذر عن أبي عبيدة في الآية قال : النور الضوء فهذان صريحان في أن المراد بالنور ضوء خلقه الله على حياله لا تعلق له بالشمس ولا بغيرها ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عكرمة قال : سئل ابن عباس الليل كان قبل النهار ؟ فقرأ ابن عباس : ) إن السموات والأرض كانتا رتقاً ( قال : فالرتق الظلمة الليل كان قبل النهار ، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ) فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ( فكما أن الليل كان يسمى ليلاً قبل خلق القمر فيه كذلك كان يسمى النهار نهاراً قبل خلق الشمس ، واستمرت التسمية في الليل والنهار بعد خلق القمر والشمس ، فالنهار على هذا غير الشمس وضوؤها غير نورها ، وقال الكرماني القديم في تفسيره في سورة الأنعام في قوله : ) وجعل الظلمات والنور ( جمع الظلمات لأنها تحدث عن أشياء كظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة البحر ، ووحد النور لأنه متحد الوصف وهو ما يرى ويرى به ، وأعظم دليل على أن النهار له نور يخصه لا تعلق له بالشمس أن الجنة فيها نهار بلا شمس ، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن شعيب بن الحجام قال : خرجت أنا وأبو الغالب الرياحي قبل طلوع الشمس فقال : نبئت أن الجنة هكذا ، وقد وردت آثار بأن الأيام على عدتها أجسام مخلوقة تتكلم وتحشر كأثر : ( ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم الحمدلله الذي أخرجني من الدينا وأهلها ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة حتى يكون الله هو الذي يفض خاتمه ) أخرجه أبو نعيم في الحلية عن مجاهد ، وروى ابن خزيمة ، والحاكم في المستدرك حديث : ( تحشر الأيام على هيئتها وتحشر الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تضيء لهم يمشون في ضوئها ) فهذه كلها تدل على أن النهار له ضوء يخصه لا تعلق له بالشمس ، لكن عارض هذا أن ابن جرير قال في تفسيره : اختلف أهل التأويل في قوله تعالى : ) والشمس وضحاها ( فقال قتادة : معنى ذلك والشمس والنهار وكان يقول الضحى هو النهار كله ، وقال مجاهد : ( وضحاها ) ضوؤها ، قال ابن جرير : والصواب أن يقال أن الله تعالى أقسم بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس الظاهرة هو النهار ، هذه عبارة ابن جرير وهي صريحة في أن النهار هو ضوء الشمس ، وقال الكرماني القديم في تفسيره ما نصه : والشمس سراج النهار بالإجماع ، وضحاها ارتفاعها وضوؤها وحرها وقيل هو النهار كله ، ثم قال : ) والنهار إذا جلاها ( أي جلا الظلمة ، وقيل جلا الشمس لأنها تظهر بالنهار وإن كان النهار من ضوئها هذه عبارته وهي أيضاً صريحة في أن النهار من ضوء الشمس ، وقال الراغب : الصبح والصباح أول النهار وهو وقت ما احمر(1/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
الأفق بحاجب الشمس فأسند نور الصباح والنهار إلى الشمس ، وقد وردت آثار كثيرة استوفيتها في التفسير المأثور شاهدة للقولين جميعاً ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها ، وفيها ما يدل على أن الفجر أيضاً من نور الشمس وفيها مايدل على خلافه ، والحديث المذكورفي السؤال ليس له إسناد يعتمد عليه ، وقول السائل : وهل قال قائل إلى آخره ؟ قد حكيناه فيما تقدم عن قتادة والله أعلم .
سورة والمرسلات
مسألة : في قوله تعالى : ) أنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر (
الجواب : في قوله تعالى : ) كالقصر ( قراءتان المشهورة بسكون الصاد والمراد به البيت قاله ابن قتيبة ، وقال ابن مسعود : كالحصون والمدائن [ أخرجه الطبراني في الأوسط ، وسعيد بن منصور في سننه ، وابن أبي حاتم في تفسيره ] ، وقرأ ابن عباس بفتح الصاد جمع قصرة والمراد به أعناق الإبل وقيل أصول الشجر ، قال ابن عباس : كانت العرب تقول في الجاهلية : اقصروا لنا الحطب فيقطع على قدر الذراع والذراعين [ أخرجه ابن مردويه ، وفي البخاري نحوه ] وقوله : ( جمالات ) فيه قراءتان المشهورة بكسر الجيم جمع جمالة وجمالة جمع جمل ، والصفر هي السود شبهها بالإبل السود ، وإطلاق الصفر على الإبل السود معروف كإطلاق السواد على الخضرة ، وقرأ ابن عباس جمالات بضم الجيم وفسره بحبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوسط الرجال ، رواه البخاري في صحيحه ، والقراءتان بتفسيرهما في قوله تعالى : ) حتى يلج الجمل في سم الخياط ( وفي رواية عن ابن عباس أن المراد بقوله : ( جمالات صفر ) قطع نحاس أخرجها ابن أبي حاتم .
سورة الليل
مسألة : في قوله تعالى : ) لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى ( إلى آخر السورة هل نزلت في رجلين معينين وماسبب نزولها ؟ وهل المراد بالأتقى أبو بكر الصديق ؟ .
الجواب : أخرج البزار في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر في تفسيرهما عن عبد الله ابن الزبير ، وابن جرير أيضاً عن سعيد بن جبير ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن عروة بن الزبير أن قوله تعالى : ) وسيجنبها الأتقى ( إلى آخر السورة نزلت في أبي بكر الصديق حيث اشترى سبعة كلهم يعذب في الله وأعتقهم ، وقال ابن جرير : أن الصحيح الذي قاله أهل التأويل أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الآية نزلت في أبي بكر وأن ما قبلها نزل في أمية بن خلف ، وممن ذكر أنها نزلت في أبي بكر الواحدي في أسباب النزول ، والسهيلي في التعريف والأعلام ، وقال القرطبي(1/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
في تفسيره : قال ابن عباس : الأشقى أمية بن خلف ، والأتقى أبو بكر الصديق . وقال بعض أهل المعاني : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي . ونقل ابن جرير هذا القول وضعفه وصحح الأول وقد تواردت خلائق من المفسرين لا يحصون على أنها نزلت في أبي بكر والله أعلم .
الحبل الوثيق في نصرة الصديق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد فقد رفع إلي سؤال في قوله تعالى : ) لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى ( إلى آخر السورة هل نزل ذلك في رجلين معينين وما سبب نزوله ؟ وهل المراد بالأتقى أبو بكر الصديق أو الآية عامة فيه وفي غيره ؟ وذكر السائل أن السبب في هذا السؤال أن الأمير ازدمر حاجب الحجاب ، والأمير خاير بك من حديد وقع بينهما تنازع في أبي بكر رضي الله عنه هل هو أفضل الصحابة ؟ وأن خاير بك قائل بذلك ، وأن ازدمر ينكر ذلك وأنه طالب خاير بك بدليل من القرآن على أن أبا بكر أفضل . وأن خاير بك استدل عليه بقوله تعالى : ) وسيجنبها الأتقى ( فإنها نزلت في حق أبي بكر وقد قال الله تعالى : ) إن أكرمكم عند الله اتقاكم ( وأن ازدمر قال : الأتقى عام في أبي بكر ، وغيره . وطالب كل منهما الآخر بشهادة العلماء له بنصره قوله : وأن الشيخ شمس الدين الجوجري كتب على سؤال نظير هذا السؤال . فقلت : أرني ما كتب فأرانيه فإذا فيه أن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فقلت : هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد والرجل فقيه فما له يتكلم في غير فنه ، وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية ، فمن لم يكن متبحراً في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة ، وأنا أوضح الكلام عليها في فصلين :
الفصل الأول : في تقرير أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه . قال البزار في مسنده : حدثنا بعض أصحابنا عن بشر بن السري ثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه قال : نزلت هذه الآية : ) وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( إلى آخر السورة في أبي بكر الصديق ، وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ثنا هرون بن معروف ثنا بشر بن السري به ، وقال ابن المنذر في تفسيره : حدثنا موسى بن هرون ثنا هرون بن معروف ثنا بشر بن السري به ، وقال الآجري في الشريعة ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا محمود بن آدم المروزي ثنا بشر بن السري به ، وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : ثنا أبي ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا سفيان ثنا هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق أعتق(1/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
سبعة كلهم يعذب في الله منهم بلال ، وعامر بن فهيرة وفيه نزلت : ) وسيجنبها الأتقى ( إلى آخر السورة . وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ثنا ابن ثور عن معمر قال : أخبرني عن سعيد في قول : ) وسيجنبها الأتقى ( قال : نزلت في أبي بكر أعتق ناساً لم يلتمس منهم جزاءاً ولا شكوراً ستة أو سبعة منهم بلال ، وعامر بن فهيرة . وقال ابن إسحق : حدثني محمد بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله عن أبيه قال : قال أبو قحافة . لأبي بكر : أراك تعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك ، فقال : يا أبت إني إنما أريد ما أريد ، ثم نزلت هذه الآيات فيه : ) وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ( أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق زياد البكائي عن ابن إسحق . وقال : صحيح على شرط مسلم . وقال ابن جرير : حدثني هرون بن إدريس الأصم ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن عامر بن عبد الله ابن الزبير قال : كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا اسلمن فقال أبوه : أي بني أراك تعتق أناساً ضعفاء فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك فقال : أي أبت إنما أريد ما عند الله قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه : ) فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى ( إلى قوله : ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( وقال ابن أبي حاتم : ثنا أبي ثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا ابن أبي الوضاح عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف ، وأبي ابن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه لله فأنزل الله ) والليل إذا يغشى ( إلى آخرها في أبي بكر ، وأمية بن خلف . وقال الآجري في الشريعة : ثنا حامد بن شعيب أبو العباس البلخي ثنا منصور ابن أبي مزاحم ثنا أبو سعيد المؤدب عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود قال : إن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف ، وأبي بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه لله فأنزل الله : ) والليل إذا ايغشى ( إلى قوله : ) وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ( يعني أبا بكر ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( قال : لم يصنع ذلك أبو بكر ليد كانت منه إليه فيكافئه بها ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ( وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق في بلال حين قال : أتبيعنيه ؟ قال : نعم أبيعه بقسطاس عبد لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار ، وغلمان ، وجوار ، ومواش وكان مشركاً يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله : ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( وفي تفسير القرطبي روى عطاء ، والضحاك عن ابن عباس قال : عذب المشركون بلالاً فاشتراه أبو بكر برطل من ذهب من أمية بن خلف وأعتقه فقال المشركون : ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له(1/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
عنده فنزلت : ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( قال الآجري : هذا وما قدمناه من الأحاديث يدل على أن الله خص أبا بكر بأشياء فضله بها على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ) فهذا ما يتعلق بنزول الآية ( وهو من علم الحديث ، ويأتي في الفصل بعد هذا ما يتعلق بها من العلوم الأربعة : التفسير ، والكلام ، وأصول الفقه ، والنحو ، وقد تواردت خلائق من المفسرين لا يحصون على أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه ، وكذا أصحاب الكتب المؤلفة في المبهمات .
الفصل الثاني : في تضعيف ما أفتى به الجوجري وذلك من أربعة وجوه : ثلاثة جدلية ، وواحد من طريق التحقيق . فأما الثلاثة الأولى فأحدها : أن نقول لا شك أنه لو جاز لأحد أن يفتي في مسألة بمجرد نظره لها في كتاب أو كتابين من غير أن يكون متقناً لذلك الفن بجميع أطرافه ماهراً فيه متبحراً فيه لجاز لآحاد الطلبة أن يفتوا بل العوام . والسوقة لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفاً بعدة من المسائل تعلمها من عالم أو رآها في كتاب ، ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي ، وقد نص العلماء على أن العامي لو تعلم مسائل وعرفها لم يكن له أن يفتي بها إنما يفتى المتبحر في العلم العارف بتنزيل الوقائع الجزئية على الكليات المقررة في الكتب ، وما شرطوا في المفتي أن يكون مجتهداً إلا لهذا المعنى وأمثاله ، والمدار الآن على التبحر فمن تبحر في فن أفتى به وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه ويطلق قلمه فيه وهو لم يقف على متفرقات كلام أرباب ذلك الفن فلعله يعتمد على مقالة مرجوحة وهو يظنها عندهم صحيحة ، وهذه المسألة من ذلك كما سنبينه ، وكذلك ليس لأحد أن يفتي في العربية وقصارى أمره النظر في ابن المصنف ، والتوضيح ونحو ذلك ، بل حتى يحيط بالفن خبرة ويقف على غرائبه وغوامضه ونوادره فضلا عن ظواهره ومشاهيره . وما مثل من يفتي في النحو وقصارى أمره ما ذكر إلا مثل من قرأ المنهاج واقتصر عليه وأراد أن يفتي في الفقه ، فلو جاءته مسألة من الروضة مثلاً فإن كان ديناً قال : هذه لم أقف عليها وإن كان غير ذلك أنكرها بالكلية وقال : هذا شيء لم يقله أحد بل ولا والله لا يكتفي في إباحة الفتوى بحفظ الروضة وحدها فماذا يصنع في المسائل التي اختلف فيها الترجيح ؟ ماذا يصنع في المسائل ذات الصور والأقسام ، ولم يذكر في الروضة بقية صورها وأقسامها ؟ ماذا يصنع في مسائل لها قيود ومحال تركت من الروضة وهي مفرقة في شرح المهذب وغيره من الكتب ؟ ماذا يصنع في مسائل خلت عنها الروضة بالكلية بل لا بد في المفتي من أن يضم إلى الروضة حمل كتب ، فإن لم ينهض إلى ذلك وعسر عليه النظر في كتب الشافعي رضي الله عنه . وأصحابه المتقدمين فلا أقل من استيعاب كتب المتأخرين ، وقد قال ابن تلبان الحنفي في كتابه زلة القارىء : قال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني في خزانة الأكمل : لا يجوز لأحد أن يفتي في هذا الباب يعني باب اللحن في القراءة إلا بعد معرفة ثلاثة أشياء : حقيقة النحو ، والقراءات الشواذ ، وأقاويل المتقدمين ، والمتأخرين من أصحابنا في هذا الباب .(1/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
الوجه الثاني : أن نقول لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم وأئمة المفسرين أصناف شتى كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم فكان تفسيره في غاية الإتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه ، فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن التي تلك الحيثية منه ، فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل ، والأثر ، وأجلّها تفسير ابن جرير الطبري فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله ، وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ عماد الدين بن كثير ، وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كأشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه ، فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين وسائر تفاسير المحدثين المسندة كسعيد بن منصور ، والقرباني ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ومن جرى مجراهم ، ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه كابن فورك ، والباقلاني ، وإمام الحرمين ، والإمام فخر الدين ، والأصبهاني ، ونحوهم . ومن أراد التكلم عليها من حيث الإعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه كأبي حيان . ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف ، وتفسير الطيبي ونحو ذلك . ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ابن جرير ونحوه لأجل معرفة الأرجح في التفسير ، وكتاب الإمام فخر الدين ونحوه لأجل معرفة التقرير الكلامي ، ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرروا الاستدلال بها على أفضلية الصديق ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وابن فورك ، والباقلاني ، والشهر ستاني ، وإمام الحرمين ، والغزالي ومن جرى مجراهم ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ويعتزل الراحة والشغل ولا يسأم ولا يضجر ، ويدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين ، فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل إشكال وأعدله الجواب المقبول حطم حينئذ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء ، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله أو يظهر في بادىء الرأي مع الراحة والاتكال على الشهرة وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاح إليه فيه فإنه لا يليق ، ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه ، وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمّم على قوله أن يقول : الظاهر كذا أو كذا أو هذا الذي ظهر لي من غير اعتماد على مستند بيده أوحجة يظهرها كأنه الشيخ أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمداً على الإلهام الواقع في قلبه ذاك إلهامه صواب لا يخطىء وبعد موتات ماتها في الله .(1/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
الوجه الثالث : أن نقول : لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان ، فالمفتي طبيب الأديان وذلك طبيب الأبدان ، وقد قال عمر بن عبد العزيز : يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور قال السبكي : ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان بل بإختلاف الصور الحادثة فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها ، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكماً خاصاً ، هذا كلام السبكي قرره في كتاب ألفه في شأن رافضي حكم بقتله وسماه غيره الإيمان الجلي لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي وقال السبكي أيضاً في فتاويه ما معناه : يوجد في فتاوي المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة لأنها وردت على وقائع ، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتي بها بذلك ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره ، وهذه الواقعة المسؤول عنها تتعلق برافضي وليته رافضي فقط بل زنديق جاهل من كبار الجهلة ، ولقد اجتمعت به مرة فرأيت منه العجب من إنكاره الاحتجاج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورد أقواله الشريفة ويقول لعنه الله وفض فاه : النبي واسطي ما قاله وهو في القرآن فصحيح وما قاله وليس في القرآن وذكر كلمة لا أستطيع ذكرها فرجعت من عنده ولم أجتمع به إلى الآن وألفت مؤلفاً سميته مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة وكان من جملة أقواله في ذلك المجلس : علي عنده العلم والشجاعة ، وأبو بكر ليس عنده ذلك ، وإنما زوجه بابنته وأنفق عليه ماله فكافأه بالخلافة بعده ، فقلت له : وردت الأحاديث بأن أبا بكر أعلم الصحابة وأشجعهم ؟ فقال : هذه الأحاديث كذب ، ثم أعاد الآن الكلام في ذلك مع خاير بك وطلب منه الاستدلال على أفضلية أبي بكر بآية من القرآن لأنه لا يرى الحديث حجة فذكر له خاير بك هذه الآية ولم يقلها من عند نفسه بل رآها في بعض كتب الكلام فذكرها ، فكان لا يليق بالجوجري في مثل هذه الواقعة أن يفتي بأن الآية ليست خاصة بأبي بكر ولا دالة على أفضليته فيؤيد مقالة الرافضي ويثبته على معتقده الخبيث ويدحض حجة قررها أئمة كل فرد منهم أعلم بالتفسير والكلام وأصول الفقه من مائة ألف من مثل الجوجري ، والله لو كان هذا القول في الآية هو المرجوح لكان اللائق في مثل هذه الواقعة أن يفتى به فكيف وهو الراجح والذي أفتى به الجوجري قول مرجوح ، هذه الوجوه الثلاثة الجدلية .
وأما الوجه الذي يرد به عليه من جهة التحقيق فأقول : قال البغوي في معالم التنزيل : يريد بالأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى يطلب أن يكون عند الله زكياً لارياء ولا سمعة يعني أبا بكر الصديق في قول الجميع . وقال ابن الخازن في تفسيره : الأتقى هنا أبو بكر الصديق(1/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
في قول جميع المفسرين . وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد به علي . فانظر إلى نقل هؤلاء الأئمة الثلاثة . إجماع المفسرين على أن المراد بالأتقى أبو بكر لا كل تقي . وقال الأصبهاني في تفسيره : خص الصلى بالأشقى . والتجنب بالأتقى ، وقد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، لأن الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل الأشقى وجعل مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له انتهى .
وهذا صريح في أن المراد بالأتقى أتقى الأتقياء على الإطلاق لا مطلق التقي ، وأتقى الأتقياء على الإطلاق بعد النبيين أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه . وقال النسفي في تفسيره : الأتقى الأكمل تقوى وهو صفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : ودل على فضله على جميع الأمة قال تعالى : ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( انتهى . وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : الأتقى أبو بكر الصديق . وقال بعض أهل المعاني : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي كقول طرفة :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد فوضع أفعل موضع فعيل انتهى ، وهذا الذي نقله عن بعض أهل المعاني هو الذي أفتى به الجوجري عادلاً عن قول جميع المفسرين إلى قول بعض أهل النحو قال ابن الصلاح حيث رأيت في كتب التفسير : قال أهل المعاني : فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ، والفراء ، والأخفش ، وابن الأنباري انتهى .
وكذا نقل ابن جرير في تفسيره هذه المقالة عن بعض أهل العربية ثم قال : والصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل أنها في أبي بكر بعتقه من أعتق من المماليك ابتغاء وجه الله . فأنت ترى هذه النقول تنادي على أن الذي أفتى به الجوجري مقالة في الآية لبعض النحويين مشى عليها بعض المصنفين في التفسير ، وأن الذي وردت به الآثار وقاله المفسرون من السلف وصححه الخلف اختصاصها بأبي بكر إبقاء للصيغة على بابها هذا بيان رجحان ذلك من حيث التفسير وأما من حيث أصول الفقه . والعربية فأقول : قول الجوجري : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فرع أن يكون في اللفظ عموم حتى يكون العبرة به والآية لا عموم فيها أصلاً ورأساً بل هي نص في الخصوص . وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن العموم إنما يستفاد في مثل هذه الصيغة من ( أل ) الموصولة أو التعريفية وليست ( أل ) هذه موصولة قطعاً لأن الأتقى أفعل تفضيل ( وأل ) الموصولة لا توصل بأفعل التفضيل بإجماع النحاة وإنما توصل باسم الفاعل والمفعول . وفي الصفة المشبهة خلاف ، وأما أفعل التفضيل فلا توصل به بلا خلاف ، وأما التعريفية فإنما تفيد العموم إذا دخلت على(1/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
الجمع ، فإن دخلت على مفرد لم تفده كما اختار الإمام فخر الدين ، ومن قال : إنها تفيده فيه قيده بأن لا يكون هناك عهد ، فإن كان لم تفده قطعاً هذا هو المقرر في علم الأصول . والأتقى مفرد لا جمع والعهد فيه موجود فلا عموم فيه قطعاً فعلم بذلك أنه لا عموم في الأتقى . فتأمل فإنه نفيس فتح الله به علي تأييداً للجناب الصديقي .
الوجه الثاني : أن الأتقى أفعل تفضيل وأفعل التفضيل لا عموم فيه بل وضعه للخصوص فإنه لتفرد الموصوف بالصفة وأنه لا مساوي له فيها كما تقول : زيد أفضل الناس أو الأفضل فإنها صيغة خصوص قطعاً عقلاً ونقلاً ، ولا يجوز أن تتناول غيره أبداً ، فبان بذلك أنه لا عموم في الأتقى وإلى ذلك يشير تقرير الأصبهاني حيث قال : فإن قلت كيف قال : ) لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى ( وقد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالاشقى فما تصنع بقوله : ) وسيجنبها الأتقى ( ؟ فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة . قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل : الأشقى وجعل مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له . وقيل : الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له هذه عبارته وهي صريحة في إرادة الخصوص أخذاً من صيغة أفعل التفضيل ، ومن جنح من أهل العربية إلى أنها للعموم احتاج إلى تأويل الأتقى بالتقي ليخرج عن التفضيل وهذا مجاز قطعاً والمجاز خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا بدليل ولا دليل يساعده بل الدليل يعارضه وهو الأحاديث الواردة في سبب النزول وإجماع المفسرين كما نقله من تقدم ، فثبت بهذا كله أن الكلام على حقيقته للتفضيل وأن اللام للعهد وأنه لا عموم فيه أصلاً . فإن قلت : لم يؤخذ العموم من لفظ الأتقى بل من لفظ ( الذي ) يؤتى فإن ( الذي ) من صيغ العموم .
قلت : هذه غفلة منك وجهل بالعربية فإن ( الذي ) وصف للأتقى وقد تبين أن الأتقى خاص فيجب أن تكون صفته كذلك لما تقرر في العربية أن الوصف لا يكون أعم من الموصوف بل مساوياً له أو أخص منه ، فاشدد بهذا الكلام يديك وعض عليه بنا جذيك على أن في قوله : ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( وقوله : ) ولسوف يرضى ( ما يشير إلى التنصيص على التخصيص ، وقد قرر الإمام فخر الدين اختصاص الآية بأبي بكر والاستدلال بها على أفضليته بطريق آخر فقال : أجمع المفسدون منا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهب الشيعة إلى أن المراد به علي ، والدلالة النقلية ترد ذلك وتؤيد الأول ، وبيان ذلك أن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى : ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( والأكرم هو الأفضل فالأتقى المذكور هنا هو أفضل الخلق عند الله ، والأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إما أبو بكر ، وإما علي ، ولا يمكن حمل الآية على علي فتعين حملها على أبي بكر ، وإنما لم يكن حملها على علي لأنه قال عقيب(1/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
صفة هذا الأتقى : ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( وهذا الوصف لا يصدق على علي لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه أخذه من أبيه فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه فكان الرسول صلى الله عليه وسلّم منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم عليه نعمة دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، وإنما كان الرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين وهذه النعمة لا تجزي لقوله تعالى : ) لا أسألكم عليه أجراً ( والمذكور ها هنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى ، فعلم أن هذه الآية لا تصلح لعلي ، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الآية إما بكر ، وإما علي وثبت أن الآية غير صالحة لعلي تعين حملها علي أبي بكر ، وثبت دلالة الآية أيضاً علي أن أبا بكر أفضل الأمة انتهى كلام الإمام .
سورة القدر
مسألة :
يا مفرداً فاق أهل العصر بل سلفا
وصار مشتهراً بالعلم والعملفي ليلة القدر بالافراد قد شهرت
وهل تظن بشهر الصوم في الأزلأو بالقين وبالعشر الأخير ترى
من غير شك ولا ريب ولا جدل ؟ وإن تقولوا به ماذا أوائلها
هل بالغروب إلى فجر يلوح جليوهل لقائم نصف الليل من عمل
من الغروب بفرد العشر في وجل ؟ يدعو الإله مظناً أن دعوته
قد استجيبت بنيل القصد والأملأفنوا عبيداً غداً ممن يلوذ بكم
يرجو لكم كل قدر تقصدون علي أثابكم ربكم جناته كرماً
بجاه خير البرايا أشرف الرسل الجواب :
الحمد لله رب الحمد في الأزل
ثم الصلاة عليه خاتم الرسل في ليلة القدر أقوال وعدتها
لنحو خمسين قولاً يا أخي صل فقيل دائرة في العام أجمعه
وقيل بل نصف شعبان بلا زلل ورجحوا كونها شهر الصيام أتت
وذاك ظن قوي بالدليل جلي وكونها فيه دارت قول طائفة
وكونها في الأخير العشر فهو جلي وذاك ظن بلا قطع وأولها
من الغروب إلى فجر الصباح جلي ومن يقم نصف ليل أو أقل حوى
فضل القيام بها فاقصد بلا وجل(1/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
بل من يصلي العشاء والصبح ثمت في
جماعة حاز منها الحظ في الأملكذا أتى في حديث صح مسنده
فاقبله طوعاً وكن في الدين ذا عملهذا جواب ابن الأسيوطي مرتجياً
من فضل خالقه الغفران للزللبروضة المشتهي خط الجواب لدى
شوال من عام تسعين بلا ملل مسألة : في كيفية الوحي من الله هل يتلقاه الملك من الله تعالى بكلام يفهمه الملك أو بالعربية للنبي العربي وبالعبرانية للنبي العبراني ، وهل يلقيه الملك إلى جبريل أو جبريل المتلقي من الله تعالى ؟ وقوله تعالى : ) إنا أنزلناه في ليلة القدر ( وفسر بنزوله إلى بيت العزة ما كيفية نزوله إليه وقوله تعالى للقلم : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة هل يكون بإلهام من الله تعالى يلهمه للقلم أو بإملاء من الله تعالى ؟ وكيف أخذ الملك الوحي من اللوح المحفوظ هل بقول الله له اليوم الفلاني يقع فيه كذا خذه من اللوح أو يوم يقع فيه يقول له : خذها وألقها إلى النبي ؟ وهل تنام الملائكة ؟ وقوله تعالى : ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( هل اطلع على ذلك الوحي ملك أو ذكره النبي صلى الله عليه وسلّم لأحد .
الجواب : قال الأصبهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل واختلفوا في معنى الإنزال فمنهم من قال : إظهار القراءة ، ومنهم من قال : أن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض ، وقال الطيبي في حاشية الكشاف : لعل نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يتلقفه الملك من الله تلقفاً روحانياً أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه ، وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف : المراد بأنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً روحانياً أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم انتهى . وقد سألت شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي عن كيفية التلقف الروحاني فقال لي : لا يكيف ، وقال الزركشي : اختلف العلماء في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلّم على ثلاثة أقوال : أحدها أن اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به ، وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف . والثاني : أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلّم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى : ) نزل به الروح الأمين على قلبك ( والثالث : أن جبريل ألقى عليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرءونها بالعربية ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك ، وقال البيهقي في معنى قوله تعالى : ) إنا أنزلناه في ليلة القدر ( يريد والله أعلم أنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع فيكون الملك هو المنتقل به من علو إلى أسفل ، قال أبو شامة : ولا بد من هذا المعنى على مذهب أهل السنة .
فهذه نبذة من كلام أئمة السنة في كيفية تلقي جبريل الوحي ، وحاصل ما في ذلك أقوال : أحدها ألهمه ، والثاني أنه سمعه من الله ، والثالث أنه حفظه من اللوح المحفوظ ،(1/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
وقول التلقف الروحاني الظاهر أنه الإلهام فلا يكون قولاً رابعاً ، وقد سئل الإمام أبو إسحق إسماعيل البخاري الصفار عن تبليغ الوحي من جبريل إلى أنبياء الله هل سمع من الله تعالى جملة أم جاء به من اللوح المحفوظ ؟ قال : كلا الوجهين جائز وذكر في تفسير سورة القدر أن الله تعالى سمع جبريل كله جملة واحدة ثم أملاه جبريل على السفرة وهم ملائكة في سماء الدنيا لكي لا يكون لهم احتياج حين أسمعهم الله تعالى القرآن . وذكر الفقيه الزاهد أبو الليث في تفسير سورة الدخان ، وفي سورة الأحزاب في قوله تعالى : ) ليسأل الصادقين عن صدقهم ( وقال في سورة الدخان : جاء بها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم أنزل على محمد [ نجوماً ] نجوماً ، وذكر في الدينوري أنه سمع من الله جملة ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلّم متفرقاً ، وقال بعضهم : جاء جبريل عليه السلام به سماعاً من إسرافيل وإسرافيل من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلّم متفرقاً ، ويقال : جاء به جبريل في ليلة القدر بما يحتاج له من سنة إلى سماء الدنيا ثم نزل به على محمد متفرقاً .
وقد نظرت في الأحاديث . والآثار فوجدتها أيضاً مختلفة . وأخرج الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعاً : ( إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجداً فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا ؟ قال : الحق فينتهي به إلى حيث أمر ) وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة فيفزعون ) الحديث هذان الحديثان شاهدان للقول الثاني أن جبريل يسمع الوحي من الله تعالى . وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ، وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن ابن سابط قال : ( في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة ووكل بها ثلاثة من الملائكة فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء والنصر عند الحروب وبالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً ووكل ميكائيل بالقطر والنبات ووكل ملك الموت بقبض الأنفس فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء ) فهذا شاهد للقول الثالث : أن جبريل حفظ الوحي من أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال : ( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه جبريل يناجيه إذ أنشق أفق السماء ونزل ملك فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخبرك بين أن تكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً قال فقلت : نبي عبد ففرح ذلك الملك فقلت يا جبريل : من هذا ؟ قال : هذا إسرافيل خلقه الله بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه بين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله في شيء من السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فيه فإن كان في عملي أمرني ، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به ) الحديث . وأخرج ابن أبي زيد في كتاب السنة عن كعب قال : إذا(1/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
أراد الله أن يوحي أمراً جاء اللوح المحفوظ حتى يصفق جبهة إسرافيل فيرفع رأسه فينظر فإذا الأمر مكتوب فينادي جبريل فيلبيه فيقول أمرت بكذا ، أمرت بكذا ، فيهبط جبريل على النبي فيوحي إليه ، وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي بكر الهذلي قال : إذا أمر الله بالأمر تدلت الألواح على إسرافيل بما فيها من أمر الله فينظر فيها إسرافيل ثم ينادي جبريل فيجبيه وذكر نحوه . وأخرج أيضاً عن أبي سنان قال : اللوح المحفوظ معلق بالعرش فإذا أراد الله أن يوحي بشيء كتب في اللوح فيجيء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فإن كان إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى جبريل ، الحديث وله شواهد كثيرة استوفيتها في كتابي الذي ألفته في أخبار الملائكة ، منها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الرحمن بن سابط قال : يدبر أمر الدنيا أربعة جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود . وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات . وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح . وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم . وما أخرجه أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد : ( أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الملائكة أكرم على الله ؟ فقال : ( جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، فأما جبريل صاحب الحرب وصاحب المرسلين ، وأما ميكائيل فصاحب القطر والنبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم ) فهذه الأحاديث والآثار تدل على أمر خلاف القولين السابقين وهو أن جبريل يأخذ الوحي من إسرافيل وإسرافيل يأخذه مما كتب تلك الساعة في اللوح ، ويمكن الجمع لمن تأمل فلا يكون بينهما اختلاف وقول السائل : أو بالعربية للنبي العربي وبالعبرانية للنبي العبراني . جوابه : ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند عن سفيان الثوري قال : لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه . وقوله : هل يلقيه الملك إلى جبريل أو جبريل المتلقي من الله ؟ تقدم في ذلك أحاديث مختلفة بعضها شاهد للأول . وبعضها شاهد للثاني . وقوله : ما كيفية نزوله إلى بيت العزة ؟ ذكر علي بن سهل النيسابوري في تفسيره أن كيفية ذلك أن جبريل حفظه من اللوح المحفوظ ثم أتى به إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو معنى قوله تعالى : ) بأيدي سفرة كرام بررة ( وتابعه الإمام علم الدين السخاوي فقال في كتابه جمال القراء : نزل به جبريل إلى السماء الدنيا وأمره سبحانه بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له . وأما سؤال القلم فمعنى الحديث أن الله أجراه بالكتابة لما هو كائن بقدرة من الله لا بالإملاء ولا بالإلهام لأنهما إنما يكونان للحيوان . والقلم من نوع الجماد وخطابه ورده الجواب من باب خطاب السماء والأرض في قوله تعالى : ) ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ( ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : إن الله لما خلق العرش استوى عليه ثم خلق القلم وأمره أن يجري بإذنه فجرى بما هو كائن فأثبته الله في الكتاب المكنون فقوله : بأذنه أي يقدرته أي أوجد الكتابة في اللوح بمر القلم عليه بخلق(1/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
الله ذلك . ويؤيده ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن جبير بن نفير قال : إن الله خلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ، فإدخال باء الآلة عليه وإسناد كتب إلى الله صريح في أن القلم آلة والعلم والقدرة لله تعالى . وقول السائل : وكيف أخذ الملك الوحي من اللوح إلى آخره ؟ . وجوابه : ما تقدم في أثر كعب وشبهه . وقوله : وهل تنام الملائكة ؟ لم أقف على شيء في ذلك ولكن ظاهر قوله تعالى : ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( انهم لا ينامون . وقوله : ) فأوحى إلى عبده ( إلى آخره من جملة ما أوحاه إليه تلك الليلة فرض الصلوات الخمس في أشياء أخر بينها النبي صلى الله عليه وسلّم للناس ومنه ما لم يؤمر ببيانه .
مسألة : رجل ادعى أن لا إله إلا الله أفضل من كلمة بقدرها من القرآن والاشتغال بها أفضل من القرآن يعني التلاوة والذكر متمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلّم : ( أفضل كلمة قلتها والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ) فهل ما يقول مستقيم مع قوله صلى الله عليه وسلّم : ( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) ؟ وأيضاً فالقرآن تحرم تلاوته على الجنب ومسه على المحدث بخلاف الذكر وغير ذلك مما يدل على فضله ؟ .
الجواب : لا إله إلا الله من جملة كلمات القرآن فتفضيلها على بقية كلماته من باب تفضيل بعض القرآن على بعض لا من باب تفضيل غير القرآن على القرآن .
مسألة : ما كيفية ما حزب القرآن هل هو بعد الآيات أم غيرها ؟ .
الجواب : حزب بعض الحروف لا الآيات ولا الكلمات والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
الفتاوى الحديثية
كتاب الطهارة
مسألة : ما قولكم في حديث : ( من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ) أخرجه أبو داود ، والترمذي هل هو صحيح أو ضعيف وما وجه ضعفه من جهة الرواية أو المعنى ؟ وكذا حديث : ( الوضوء على الوضوء نور على نور ) هل خرجه أحد فإن المنذري في الترغيب والترهيب قال : لم أقف على من خرجه ولعله من كلام السلف والمسئول الكلام على هذين الحديثين وتبيين صحتهما ومعانيهما ؟ .
الجواب : الحديث الأول ضعيف صرح بضعفه جماعة ، وسببه أن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعفه يحيى بن معين ، والنسائي ، وقال الإمام أحمد : نحن لا نروي عنه شيئاً لكن أبو داود إذ رواه سكت عليه فلم يضعفه وقد قال : إن مارويته في هذا الكتاب ولم أضعفه فهو صالح يعني للاحتجاج والصالح له إما صحيح ، أو حسن فيحتمل أن يكون الحديث عنده حسناً لأن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم لم يتفق على ضعفه فقد قال بعضهم : كان الثوري يعظمه ويعرف حقه لكن المشهور تضعيف الحديث ، وأما معناه فظاهر لأن الحسنة بعشر أمثالها والوضوء حسنة فمن عملها كتبت له عشراً ، ثم إن لفظ الحديث كتب له بالبناء للمجهول من غير ذكر الله . وأما الحديث الثاني فلم نر أحداً أخرجه كما قال الإمام المنذري ، وكذا قال الحافظ زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الاحياء لكن قال الحافظ ابن حجر : إن رزيناً أورده في كتابه ومعناه أيضاً ظاهر لأن الوضوء يكسب أعضاءه نوراً ولهذا قيل إنه مشتق من الوضاءة ودليله قضية الغرة والتحجيل فكان الوضوء على الوضوء يقوي ذلك النور ويزيده إذ يعرض له من الحدث ما يقتضي ستره ، وقد كان شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي يذكر لنا أن الصالحين يشاهدون الحدث على الأعضاء ويرتبون عليه مقتضاه وفيه إشارة إلى ذلك .
مسألة : هل ورد حديث في قراءة سورة القدر بعد الوضوء وما حاله ؟ .
الجواب : روى الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي عبيدة عن الحسن عن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من قرأ في أثر وضوئه إنا أنزلناه في ليلة القدر مرة واحدة كان من الصديقين ، ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ، ومن قرأها ثلاثاً حشره الله محشر الأنبياء ) وأبو عبيدة مجهول .
مسألة : ما قولكم في الحديث الذي أخرجه أبو داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن الاستنجاء(1/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
فقال : ( من فعل أحسن ومن لا فلا حرج ) هل هو صحيح فإن الحنفية استدلوا به على عدم وجوب الاستنجاء ؟ .
الجواب : ليس لفظ الحديث هكذا إنما لفظه : ( من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ) هكذا هو في سنن أبي داود ، وابن ماجه ، وغيرهما وهو حديث حسن كما قاله النووي في شرح المهذب ، ولا دليل فيه على عدم وجوب الاستنجاء لأن الكلام راجع إلى الإيتار وهو سنة بلا خلاف .
الأخبار المأثوره في الإطلاء بالنوره
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : ما قولكم في الإطلاء بالنورة هل هو سنة مأثورة عن الشارع أم لا ؟ وهل الأحاديث الواردة في ذلك ثابتة أم لا كحديث أم سلمة الذي أخرجه ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا طلى بدأ بعورته بالنورة ، وسائر جسده كله ، وحديث عائشة الذي أخرجه الإمام أحمد قالت : ( أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنورة فلما فرغ منها قال : ( يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهور وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم ) . فإن قلتم : بأن ذلك ثابت فما الجمع بينه وبين ما أخرجه أبو حاتم عن أنس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يتنور فإذا كثر شعره حلقه ) وقول الشيخ محي الدين النووي في فتاويه لم يثبت في ذلك شيء ؟ .
الجواب : الحمد لله قد وردت الأحاديث والآثار مرفوعة ومقطوعة موصولة ومرسلة عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، والصحابة ، والتابعين باستعمال النورة فهي مباحة غير مكروهة وهل يطلق عليها سنة ؟ محل توقف لأن السنة تحتاج إلى ثبوت الأمر بها كحلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار وفعل النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان دليلاً على السنة فقد يقال هنا : أن هذا من الأمور العادية التي لا يدل فعله لها على السنية ، وقد يقال : أنه إنما فعل ذلك لبيان الجواز كسائر المباحات التي فعلها ولم توصف بأنها سنة ، وقد يقال : أنها سنة لما فيه من الاقتداء ، وقد يقال : فيها بالاستحباب بناء على أن المستحب أخف مرتبة من السنة ، ومحل هذا كله ما لم يقصد المتنور اتباع النبي صلى الله عليه وسلّم في فعله ، أما اذا قصد ذلك فلا ريب في أنه مأجور وآت بسنة .
ذكر الأحاديث الواردة في أنه صلى الله عليه وسلّم تنور
قال ابن ما جه في سننه : حدثنا علي بن محمد ثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا حماد بن سلمة عن أبي هاشم الرماني عن حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها وسائر جسده أهله ، قال الحافظ عماد الدين بن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام : هذا إسناد جيد وعبد الرحمن بن عبد الله هذا ذكر صاحب الأطراف أنه أبو سعيد مولى بني هاشم ف الله أعلم ، ثم رواه ابن ماجه عن علي بن(1/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
محمد عن إسحاق بن منصور عن كامل أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اطلى وولى عانته بيده ، وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرسلاً ، وهذا أيضاً إسناد جيد أنتهى كلام ابن كثير . قلت : وله طريق آخر قال الخرائطي في مساوي الأخلاق : حدثنا القنطري ثنان يزيد بن خالد بن يزيد ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن كهيل عن حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان ينوره الرجل فإذا بلغ مراقه تولى هو ذلك ، وقال الخرائطي : [ في مساوي الأخلاق ] : حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان ثنا سليمان بن سلمة الجنائزي ثنا سليمان بن ناشرة قال : سمعت محمد بن زياد الألهاني يقول : كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاراً لي فكان يدخل الحمام فقلت : وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم تدخل الحمام ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل الحمام وكان يتنور أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن سليمان بن سلمة الحمصي ثنا بقية ثنا سليمان بن ناشرة به ، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريقه ، وهذا الحديث فات ابن كثير . وأخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريق موسى بن أيوب عن بقية عن عمر بن سليمان الدمشقي عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر جعلت له مائدة فأكل كل متكئاً وأطلى وأصابته الشمس وليس الظلة قال أحمد : سألت آدم ما الظلة ؟ قال : البرطلة وأومأ بيده إلى رأسه وهذا أيضاً فات ابن كثير .
وقال سعيد بن منصور في سننه : ثنا هشيم عن أبي المشرفي ليث بن أبي راشد عن أبي معشر عن إبراهيم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أطلى ولي عانته بيده أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن هشيم ، وشريك كلاهما عن أبي المشرفي به ، قال ابن كثير : وهو مرسل يتقوى بالموصول الذي أخرجه ابن ماجه ، وقال سعيد بن منصور : ثنا الصفدي بن سنان العقيلي عن محمد بن الزبير الحنظلي عن مكحول قال : لما افتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر أكل متكئاً وتنور .
قلت : هذا الحديث فات ابن كثير فلم يذكره وهو مرسل وقال أبو داود في المراسيل : حدثنا أبو كامل الجحدري عن عبد الواحد هو ابن زياد عن صالح بن صالح عن أبي معشر زياد بن كليب أن رجلاً نور رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما بلغ العانة كف الرجل ونور رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه أخرجه البيهقي في سننه الكبرى وفي تاريخ ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتنور كل شهر ويقلم أظفاره كل خمس عشرة هذا الحديث فات ابن كثير وفيه فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت .(1/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
ذكر الآثار عن الصحابة فمن بعدهم
أخرج الطبراني عن يعلى بن مرة الثقفي قال : ( أطليت يوماً ثم تخلقت بزعفران فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فناولته يدي فقلت : يا رسول الله صل علي فقال : ما هذا الذي على يدك ؟ قلت : إني تنورت ثم تخلقت فقال : ألك امرأة ؟ قلت : لا قال ألك سرية ؟ قلت : لا قال : فانطلق فاغسله ثم اغسله ثلاث مرات فانطلقت فاغتسلت ثلاث مرات ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى علي ) وأخرج مسدد في مسنده ، والطبراني في الكبير بسند رجاله الصحيح عن ابن عمر أنه كان يدخل الحمام فينوره صاحب الحمام فإذا بلغ حقوه قال الصاحب الحمام : أخرج .
وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زياد الألهاني قال : كان ثوبان جاراً لنا وكان يدخل الحمام ويتنور .
وأخرج البيهقي من طريق أسامة بن زيد الليثي عن نافع قال : كان عبد الله بن عمر يطلي فيأمرني أطليه حتى إذا بلغ سفلته وليها هو ، وأخرج الخرائطي عن مكحول قال : لما قدم أبو الدرداء ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشام دخلوا الحمامات واطلوا بالنورة . وأخرج البيهقي من طريق عبد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان أؤخر لا يدخل الحمام وكان يتنور في البيت ويلبس إزاراً ويأمرني أطلي ما ظهر منه ثم يأمرني أن أؤخر عنه فيلي فرجه . وأخرج عبد الرزاق عن أم كلثوم قالت : أمرتني عائشة فطليتها بالنورة ثم طليتها بالحناء على أثرها ما بين قرنها إلى قدمها من حصباء كانت بها . وقال ابن أبي شيبة في المصنف : حدثنا مالك بن إسماعيل عن كامل عن حبيب قال : دخل الحمام عطاء ، وطاوس ، ومجاهد فأطلوا فيه ، وحدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة أن سالماً اطلى مرة .
وأخرج ابن عساكر عن أبي عثمان ، والربيع ، وأبي حارثة قال : بلغ عمر أن خالد بن الوليد دخل الحمام فتدلك بعد النورة بخبز عصفر معجون بخمر فكتب إليه بلغني أنك تدلكت بخمر وأن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنها وقد حرم مس الخمر كما حرم شربها تمسوها أجسامكم فإنها نجس .
ذكر الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلّم لم يتنور
قال ابن أبي شيبة في المصنف : حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن هشام عن الحسن هو البصري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأبو بكر ، وعمر لا يطلون . قال ابن كثير : هذا من مراسيل الحسن وقد تكلم فيها ثم هو معارض بالأحاديث السابقة . وأخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن المبارك قال : ما أدري من أخبرني عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يتنور . وأخرج أبو داود في المراسيل من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يتنور ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان كلاهما منقطع وأخرج البيهقي من طريق مسلم الملائي عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يتنور فإذا كثر شعره حلقه قال البيهقي : مسلم الملائي ضعيف الحديث فإن كان حفظه فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضاً عن أنس .(1/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
قلت : فرجع الأمر إلى أنه حديث واحد وهو أولاً ضعيف . وثانياً معارض بالأحاديث السابقة وهي أقوى منه سنداً وأكثر عدداً . وثالثاً أن تلك مثبتة وهذا ناف والقاعدة الأصولية عند التعارض تقديم المثبت على النافي خصوصاً أن التي روت الاثبات باشرت الواقعة وهي من أمهات المؤمنين وهي أجدر بهذه القضية فإنها مما يفعل في الخلوة غالباً لا بين أظهر الناس وكلاهما من وجوه الترجيحات فهذه خمسة أجوبة . وسادس وهو أنه على حسب اختلاف الأوقات فتارة كان يتنور ، وتارة كان يحلق ولا يتنور .
وقد روى مثل هذا الاختلاف عن ابن عمر فتقدم من طرق عنه أنه كان يتنور ، وأخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله موثقون عن مسكين بن عبد العزيز عن أبيه قال : دخلت على عبد الله بن عمر وجاريته تحلق عنه الشعر فقال : إن النورة ترق الجلد . فالجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه فعل الأمرين معاً هذا في أوقات وهذا في أوقات ، نعم ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره التنور ويعلله بأنه من النعيم . قال سعيد بن منصور : حدثنا حبان بن علي عن محمد بن قيس الأسدي عن رجل قال : كان عمر بن الخطاب يستطيب بالحديد فقيل له : ألا تنور ؟ قال : إنها من النعيم وإنا نكرهها ، وقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن محمد بن قيس الأسدي عن علي بن أبي عائشة قال : كان عمر رجلاً أهدب وكان يحلق عنه الشعر وذكرت له النورة فقال النورة من النعيم .
وقد روى عنه ما يدل على أنه إنما كره الإكثار من ذلك . وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد : حدثنا بقية حدثني أرطاة بن المنذر حدثني بعضهم أن عمر بن الخطاب قال : إياكم وكثرة الحمام وكثرة طلاء النورة والتوطي على الفرش فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين . فهذا الأثر قاطع للنزاع ، وأولى ما اعتمد في التوقيت حديث ابن عمر السابق وهو التنور كل شهر فيكره في أقل من ذلك ، ثم رأيت في مساوي الأخلاق للخرائطي قال : حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق ثنا عبد العزيز بن الخطاب ثنا حميد يعني ابن يعقوب مولى بني هاشم وكان ثقة عن العباس بن فضل عن القاسم عن أبي حازم عن ابن عباس قال : يا أيها الناس اتقوا الله ولا تكذبوا فوالله ما اطلى نبي قط ، لكن قال ابن الأثير في النهاية : ما اطلى نبي قط أي ما مال إلى هواه وأصله من ميل الطلي وهي الأعناق واحدتها طلاة يقال أطلى الرجل اطلاء إذا مالت عنقه إلى أحد الشقين انتهى . وقال صاحب الملخص في غريب الحديث في حديثه عليه السلام : ما أطلى نبي قط أي ما مالت طلاته أي عنقه أي ما جار وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب في بعض الأحاديث : ما أطلى نبي قط أي ما مال إلى هوى والأصل فيه ميل عنق الإنسان يقال أطلى الرجل أي مالت عنقه للموت أو غيره وذكر مثل ذلك أيضاً صاحب القاموس .
خاتمة : روى البخاري في تاريخه ، وابن عدي في الكامل ، والطبراني في الكبير ، والأوسط عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أول من صنعت له النورة(1/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
ودخل الحمام سليمان بن داود ) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قصة بلقيس قيل لها : ) ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ( فإذا هي شعراء فقال : سليمان ما يذهبه قالوا : يذهبه الموسى ؟ قال : أثر الموسى قبيح فجعلت الشياطين النورة فهو أول من جعلت له النورة . وأخرج سعيد بن منصور . وابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد مثله وله طرق عن مجاهد . وغيره ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في القصة أن الشياطين صنعوا له نورة من أصداف فطلوها فذهب الشعر .
كتاب الصلاة
مسألة : الحديث الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه ثم تذكر أنه جنب فأشار إليهم أن اسكنوا وخرج واغتسل وعاد وتحرم بهم ، هذا الاستدلال به على من أحرم منفرداً ثم نوى القدوة في خلال صلاته ظاهر أم لا ؟ وقول الأسنوي : ومن المعلوم أنهم أنشأوا اقتداءاً جديدا هل [ علم ] ذلك في رواية أو طريق ؟ وهل عينت تلك الصلاة ؟ .
الجواب : الاستدلال بالحديث المذكور ظاهر ، وقوله : ومن المعلوم أي من طريق الاستدلال لأنهم تابعوه بعد عوده ولا يمكن المتابعة إلا بعد إنشاء اقتداء جديد لأن الاقتداء الأول لم يصادف محلاً لكونه ليس في صلاة والصلاة المذكورة في الحديث هي الصبح .
مسألة : في الحديث أنه صلى الله عليه وسلّم قنت شهراً يدعو على قوم فهل كان ذلك عقب فراغه من القنوت الذي هو : اللهم أهدنا فيمن هديت إلى آخره أم ابتدأ به دونه ؟ .
الجواب : لم أقف في شيء من الأحاديث على أنه صلى الله عليه وسلّم جمع بين القنوت الذي هو اللهم اهدنا إلى آخره وبين الدعاء على القوم بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر في قنوته على الدعاء عليهم .
مسألة : حديث ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) هل ورد ؟
الجواب : نعم أخرجه الدارقطني ، وإسناده ضعيف هو من حديث أبي هريرة رواه الحاكم والطبراني عنه أيضاً ، ورواه الدارقطني أيضاً من حديث جابر عن علي ، ورواه ابن حبان في الضعفاء عن عائشة وأسانيده كلها ضعيفة .
مسألة : قد كره الفقهاء أن يقال للعشاء عتمة فكيف ورد في الحديث الصحيح : ( لو يعلمون ما في العتمة والصبح لشهدوهما ولو حبواً ) ؟ .
الجواب : عن الحديث من أوجه ، الأول : يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن تسميتها عتمة . الثاني : أنه جرى على ما اشتهر على ألسنتهم كقوله صلى الله عليه وسلّم : ( أفلح وأبيه إن صدق ) وقد نهى أن يحلف بالآباء وإنما ذلك أمر جرى على الألسنة . الثالث : يحتمل أن يكون ذلك من كلام الراوي لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلّم لأن في بعض طرق الحديث ما في العشاء أو الصبح فلعل الراوي رواه بالمعنى ولم يطلع على النهي عن تسميتها عتمة . الرابع : يحتمل أن يكون ذكر ذلك لبيان أن النهي عن تسميتها به نهي تنزيه لا تحريم .(1/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
مسألة : هل ورد حديث ( لا تسودوني في الصلاة ) ؟ .
الجواب : لم يرد ذلك والله أعلم .
مسألة : هل ورد أن بلالاً أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة ؟ .
الجواب : ورد ذلك باسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها والمشهور الذي صححه أكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة وإنه لم يؤذن قبلها بلال ولا غيره .
مسألة : في قوله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) هل المراد الكمال أو عدم الصحة ؟ .
الجواب : ليس المراد هذا ولا هذا لأن ذلك إنما يكون في النفي المراد به النفي على ظاهره ، وأما النفي هنا فالمراد به النهي أي لا تصلوا إلا المكتوبة والله أعلم .
مسألة : في قول البخاري في باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة : حدثنا عبد الله ابن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمن على ذراعه اليسرى في الصلاة قال أبو حازم : لا أعلم إلا ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال أبو عبد الله : وقال إسماعيل : ينمى ذلك ولم يقل ينمى برفع الياء هل معنى قوله ينمى ذلك ، برفع الياء ولم يقل ينمى أي بالفتح فيكون في الكلام تقديم وتأخير أو التقدير ينمى ذلك ولم يقل ينمى برفع الياء وماوجه الصواب ي ذلك وما الرواية فيه ؟ .
الجواب : معناه قال إسماعيل : ينمى بضم الياء مبنياً للمفعول ولم يقل ينمي بالفتح مبنياً للفاعل .
مسألة : حديث ( سلموا على اليهود ، والنصارى ولا تسلموا على يهود أمتي ) قيل : ومن يهود أمتك ؟ قال : ( تراك الصلاة ) هل ورد ؟ .
الجواب : لم أقف عليه وأورد في الفردوس بلفظ : ( ولا تسلموا على شارب الخمر ) وبيض له ولده في مسنده فلم يذكر له إسناداً .
مسألة : من التكرور ما الفرق بين حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهاهم عن بيع بيوتهم حين أرادوا بيعها بسبب بعدها من المسجد فقال لهم صلى الله عليه وسلّم : ( إن لكم بكل خطوة درجة ) رواه مسلم ، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً وبين حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( فضل الدار القريبة من المسجد على الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد ) خرجه الإمام أحمد ؟ .
الجواب : لا تخالف بين هذه الأحاديث فإن كل واقعة لها حكم يخصها ، وشاهد ذلك أن الأحاديث قد وردت في تفضيل ميامين الصفوف ، فلما رغب الناس في ذلك عطلوا(1/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
ميسرة المسجد فقيل : يا رسول الله إن ميسرة المسجد قد تعطلت فقال : من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر فأعطى أهل الميسرة في هذه الحالة ضعف ما لأهل الميمنة من الأجر وليس لهم ذلك في كل حال ، وإنما خص بذلك هذه الحالة لما صارت معطلة ، وكذلك ما نحن فيه أصل القضية تفضيل الدار القريبة من المسجد على البعيدة منها فلما ثبت لها هذا الفضل رغب كل الناس في ذلك حتى أراد بنو سلمة أن يغيروا ظاهر المدينة وينتقلوا قرب المسجد فكره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعرى ظاهر المدينة فأعطاهم هذا الفضل في هذه الحالة ونزل في هذه القصة قوله تعالى : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( قال صلى الله عليه وسلّم نزلت الآية : ( يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ) .
مسألة : في حديث الترمذي عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده مرفوعاً : ( العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان ) إسناده ضعيف ، وله شاهد عند الطبراني ضعيف عن ابن مسعود قوله : وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي هريرة : إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة قال الحافظ ابن حجر : إسناده ضعيف وهو موقوف . وفي حديث عبد الرزاق عن قتادة قال : سبع من الشيطان فذكر منها شدة العطاس ما الجمع بين ذلك ؟ .
الجواب : المقام مقامان مقام الإطلاق ، ومقام نسبي . فأما مقام الإطلاق فإن التثاؤب والعطاس في الصلاة كلاهما من الشيطان وعليهم يحمل حديث الترمذي ، وأما المقام النسبي فإذا وقعا في الصلاة مع كونهما من الشيطان فالعطاس في الصلاة أحب إلى الله من التثاؤب فيها ، والتثاؤب فيها أكره إليه من العطاس فيها ، وعلى هذا يحمل أثر ابن أبي شيبة فهو راجع إلى تفاوت رتب بعض المكروه على بعض ، هذا على تقدير ثبوت لفظ في الصلاة في الأثر .
الجواب الحزم عن حديث التكبير جزم
مسألة : في قوله عليه الصلاة والسلام : التكبير جزم وفي قول بعضهم تأييداً لمقتضاه أنه عليه الصلاة والسلام لم ينطق بالتكبير إلا مجزوماً هل الحديث ثابت أم لا ؟ وعلى تقدير ثبوته هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف ؟ ومن خرجه من العلماء ؟ ومن رجاله ؟ ومن تعرض للكلام على سنده ومتنه من الأئمة ؟ وما التحقيق في حكم المسألة هل يشترط الجزم فيها أو لا ؟ وهل للشافعي رضي الله عنه فيها نص أم لا ؟ .
الجواب : أما الحديث فغير ثابت ، قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير : حديث التكبير جزم لا أصل له وإنما هو من قول إبراهيم النخعي حكاه عنه الترمذي انتهى . وقد وقفت على إسناده عن النخعي قال عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن مغيرة قال : قال إبراهيم : التكبير جزم يقول : لا يمد هكذا وقع في الرواية مفسراً وهذا التفسير إما من الراوي عن النخعي أو من يحيى أو من عبد الرزاق وكل منهم أولى بالرجوع إليه في تفسير الأثر ، وفسره بذلك أيضاً الإمام الرافعي في الشرح ، وابن الأثير(1/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
في النهاية ، وجماعة آخرون ، وأغرب المحب الطبري فقال : معناه لا يمد ولا يعرب بل يسكن آخره وهذا الثاني مردود بوجوه ، أحدها : مخالفة لتفسير الراوي والرجوع إلى تفسير الراوي أولى كما تقرر في علم الأصول . الثاني : مخالفتة لما فسره به أهل الحديث والفقه ، الثالث : أن إطلاق الجزم على حذف الحركة الإعرابية لم يكن معهوداً في الصدر الأول وإنما هو اصطلاح حادث فلا يصح الحمل عليه ، وأما حديث أنه عليه السلام لم ينطق بالتكبير إلا مجزوماً فلم نقف عليه وإن كان هو الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلّم لأن فصاحته العظيمة تقتضي ذلك ، وأما هل يشترط الجزم ؟ فجوابه لا بل لو وقف عليه بالحركة صح تكبيره وانعقدت صلاته لأن قصارى أمره أنه صرح بالحركة في حال الوقف وهو دون اللحن ومعلوم أنه لو لحن بأن نصب الجلالة مثلاً لم يضره في صحة الصلاة ، كما لو لحن في الفاتحة لحناً لا يغير المعنى فإنه لا تبطل صلاته كما هو منصوص عليه ، وأما هل للشافعي رضي الله عنه نص في ذلك ؟ فجوابه أنه لم ينص على ذلك وكذلك غالب الأصحاب اكتفاءاً بما نصوا عليه في اللحن في القراءة ، ومن نص على ذلك منهم كالمحب الطبري فكلامه في الإستحباب لا في الإشتراط بقرينة ذكر ذلك مع مسألة المد ومد التكبير لا يبطل بلا خلاف وحذفه سنة بلا خلاف ، نعم نص الشافعي في الأم على جزم التكبير بمعنى حذفه وعدم مده وتمطيطه .
المصابيح في صلاة التراويح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد فقد سئلت مرات هل صلى النبي صلى الله عليه وسلّم التراويح وهي العشرون ركعة المعهودة الآن ؟ وأنا أجيب بلا ولا يقنع مني بذلك فأردت تحرير القول فيها فأقول : الذي وردت به الأحاديث الصحيحة ، والحسان ، والضعيفة الأمر بقيام رمضان والترغيب فيه من غير تخصيص بعدد ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلّم صلى عشرين ركعة وإنما صلى ليالي صلاة لم يذكر عددها ثم تأخر في الليلة الرابعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها ، وقد تمسك بعض من أثبت ذلك بحديث ورد فيه لا يصلح الإحتجاج به وأنا أورده وأبين وهاءه ثم أبين ما ثبت بخلافه . روى ابن أبي شيبة في مسنده قال : حدثنا يزيد أنا إبراهيم بن عثمان عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر ) وأخرجه عبد بن حميد في مسنده ثنا أبو نعيم ثنا أبو شيبة يعني إبراهيم بن عثمان به ، وأخرجه البغوي في معجمه ثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا أبو شيبة به ، وأخرجه الطبراني أي من طريق أبي شيبة أيضاً قلت : هذا الحديث ضعيف جداً لا تقوم به حجة ، قال الذهبي في الميزان : إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الكوفي قاضي واسط يروي عن زوج أمه الحكم بن عيينة كذبه شعبة ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقال أحمد بن(1/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
حنبل : ضعيف ، وقال البخاري : سكتوا عنه وهي من صيغ التجريح وقال النسائي : متروك الحديث ، قال الذهبي : ومن مناكيره ما رواه عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر ، قال : وقدورد له عن الحكم عدة أحاديث مع أنه روى عنه أنه قال : ما سمعت من الحكم إلا حديثاً واحداً قال : وهو الذي روى حديث ما هلكت أمة إلا في آدار ولا تقوم الساعة إلا في آدار وهو حديث باطل لا أصل له ، انتهى كلام الذهبي . وقال المزني في تهذيبه : أبو شيبة إبراهيم بن عثمان له مناكير ، منها حديث أنه كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر قال : وقد ضعفه أحمد ، وابن معين ، والبخاري ، والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وابن عدي ، وأبو داود ، والترمذي ، والأحوص بن المفضل الغلابي ، وقال الترمذي فيه : منكر الحديث ، وقال الجوزجاني : ساقط . وقال أبو علي النيسابوري : ليس بالقوي ، وقال صالح بن محمد البغدادي : ضعيف لا يكتب حديثه ، وقال معاذ العنبري : كتبت إلى شعبة أسأله عنه أروي عنه ؟ قال : لا ترو عنه فإنه رجل مذموم انتهى . ومن اتفق هؤلاء الأئمة على تضعيفه لا يحل الإحتجاج بحديثه مع أن هذين الإمامين المطلعين الحافظين المستوعبين حكيا فيه ما حكيا ولم ينقلا عن أحد أنه وثقه ولا بأدنى مراتب التعديل ، وقد قال الذهبي : وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال لم يتفق اثنان من أهل الفن على تجريح ثقة ولا توثيق ضعيف ، ومن يكذبه مثل شعبة فلا يلتفت إلى حديثه مع تصريح الحافظين المذكورين نقلاً عن الحفاظ بأن هذا الحديث مما أنكر عليه ، وفي ذلك كفاية في رده وهذا أحد الوجوه المردود بها .
والوجه الثاني : أنه قد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عائشة سئلت عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم في رمضان فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة . الثالث : أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن عمر أنه قال في التراويح : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل فسماها بدعة يعني بدعة حسنة وذلك صريح في أنها لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقد نص على ذلك الإمام الشافعي وصرح به جماعات من الأئمة منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قسم البدعة إلى خمسة أقسام وقال : ومثال المندوبة صلاة التراويح ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات ، ثم قال : وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي قال : المحدثات في الأمور ضربان ، أحدهما : ما أحدث مما خالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة . والثاني : ما أحدث من الخير وهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر في قيام شهر رمضان : نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن هذا آخر كلام الشافعي . وفي سنن البيهقي وغيره بإسناد صحيح(1/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
عن السائب بن يزيد الصحابي قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة ولو كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لذكره فإنه أولى بالإسناد ، وأقوى في الإحتجاج . الرابع : أن العلماء اختلفوا في عددها ولو ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم لم يختلف فيه كعدد الوتر والرواتب فروي عن الأسود بن يزيد أنه كان يصليها أربعين ركعة غير الوتر . وعن مالك : التراويح ست وثلاثون ركعة غير الوتر لقول نافع : أدركت الناس وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث . الخامس : أنها تستحب لأهل المدينة ستاً وثلاثين ركعة تشبيها بأهل مكة حيث كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافاً ويصلون ركعتيه ولا يطوفون بعد الخامسة ، فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربعن ركعات ، ولو ثبت عددها بالنص لم تجز الزيادة عليه لأهل المدينة والصدر الأول كانوا أورع من ذلك ، ومن طالع كتب المذهب خصوصاً شرح المهذب ورأى تصرفه وتعليله في مسائلها كقراءتها ووقتها وسن الجماعة فيها بفعل الصحابة وإجماعهم علم علم اليقين أنه لو كان فيها خبر مرفوع لاحتج به . هذا جوابي في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .
ثم رأيت في تخريج أحاديث الشرح الكبير لشيخ الإسلام ابن حجر ما نصه : قول الرافعي : إنه صلى الله عليه وسلّم صلى بالناس عشرين ركعة ليلتين فلما كان في الليلة الثالثة اجتمع الناس فلم يخرج إليهم ثم قال من الغد : ( خشيت أن تفرض عليكم فلا تطيقوها ) متفق على صحته من حديث عائشة دون عدد الركعات ، زاد البخاري : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم والأمر على ذلك . قال شيخ الإسلام : وأما العدد فروى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر . فهذا مباين لما ذكره الرافعي قال : نعم ذكر العشرين ورد في حديث آخر رواه البيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصلى في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر زاد سليم الرازي في كتاب الترغيب ويوتر بثلاث ، قال البيهقي : تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف وفي الموطأ ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن عمر أنه جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم في شهر رمضان عشرين ركعة الحديث انتهى . فالحاصل أن العشرين [ ركعة ] تثبت من فعله صلى الله عليه وسلّم وما نقله عن صحيح ابن حبان غاية فيما ذهبنا إليه من تمسكنا بما في البخاري عن عائشة أنه كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ، فإنه موافق له من حيث أنه صلى التراويح ثمانياً ثم أوتر بثلاث فتلك إحدى عشرة . ومما يدل لذلك أيضاً أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا عمل عملاً واظب عليه كما واظب على الركعتين اللتين قضاهما بعد العصر مع كون الصلاة في ذلك الوقت منهياً عنها ، ولو فعل العشرين ولو مرة لم يتركها أبداً ، ولو وقع ذلك لم يخف على عائشة حيث قالت ما تقدم والله أعلم .
وفي الأوائل للعسكري : أول من سن قيام رمضان عمر سنة أربع عشرة . وأخرج البيهقي وغيره من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال : إن عمر بن الخطاب أول من جمع الناس على(1/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
قيام شهر رمضان الرجال على أبي بن كعب . والنساء على سليمان بن أبي حثمة . وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة نحوه : وزاد : فلما كان عثمان بن عفان جمع الرجال والنساء على إمام واحد سليمان بن أبي حثمة وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا عبد العزيز ابن محمد حدثني محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول : كنا نقوم في زمان عمر ابن الخطاب بإحدى عشرة ركعة نقرأ فيها بالمئين ونعتمد على العصي من طول القيام وننقلب عند بزوغ الفجر ، فهذا أيضاً موافق لحديث عائشة . وكان عمر لما أمر بالتراويح اقتصر أولاً على العدد الذي صلاه النبي صلى الله عليه وسلّم ثم زاد في آخر الأمر . وقال سعيد أيضاً : حدثنا هشيم ثنا زكريا ابن أبي مريم الخزاعي سمعت أبا أمامه يحدث قال : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ولم يكتب عليكم قيامه وإنما القيام شيء ابتدعتموه فدوموا عليه ولا تتركوه فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله فعاتبهم الله بتركها ثم تلا : ) ورهبانية ابتدعوها ( الآية ، وأخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرغب في قيام رمضان ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمع الناس على القيام . وقال الأذرعي في التوسط : وأما من نقل عنه صلى الله عليه وسلّم أنه صلى في الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة فهو منكر . وقال الزركشي في الخادم : دعوى أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم يصح بل الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر العدد . وجاء في رواية جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات والوتر ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم رواه ابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحهما وقال السبكي في شرح المنهاج : اعلم أنه لم ينقل كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلك الليالي هل هو عشرون أو أقل قال : ومذهبنا أن التراويح عشرون ركعة لما روى البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال : كنا نقوم على عهد عمر رضي الله عنه بعشرين ركعة والوتر ، هكذا ذكره المصنف واستدل به ، ورأيت إسناده في البيهقي لكن في الموطأ ، وفي مصنف سعيد بن منصور بسند في غاية الصحة عن السائب بن يزيد إحدى عشرة ركعة . وقال الجوري من أصحابنا عن مالك أنه قال : الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل له : إحدى عشرة ركعة بالوتر ؟ قال : نعم وثلاث عشرة قريب ، قال : ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير . وقال الجوري : إن عدد الركعات في شهر رمضان لا حد له عند الشافعي لأنه نافلة ، ورأيت في كتاب سعيد بن منصور آثاراً في صلاة عشرين ركعة وست وثلاثين ركعة لكنها بعد زمان عمر ابن الخطاب ، ومال ابن عبد البر إلى رواية ثلاث وعشرين بالوتر وأن رواية مالك في إحدى عشرة وهم ، وقال : إن غير مالك يخالفه ويقول إحدى وعشرين قال : ولا أعلم أحداً قال في هذا الحديث : إحدى عشرة ركعة غير مالك وكأنه لم يقف على مصنف سعيد بن منصور في ذلك فإنه رواها كما رواها مالك عن عبد العزيز بن محمد عن محمد بن يوسف شيخ مالك فقد تضافر مالك . وعبد العزيز الدراوردي على روايتها إلا أن هذا أمر يسهل(1/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
الخلاف فيه فإن ذلك من النوافل من شاء أقل ومن شاء أكثر ، ولعلهم في وقت اختاروا تطويل القيام على عدد الركعات فجعلوها إحدى عشرة . وفي وقت اختاروا عدد الركعات فجعلوها عشرين وقد استقر العمل على هذا . انتهى كلام السبكي .
كتاب الصيام
مسألة : الذي يقال على الألسنة أن الأيام البيض إنما سميت بذلك لأن آدم عليه السلام لما هبط من الجنة اسود جلده فأمره الله بصيامها فلما صام اليوم الأول ابيض ثلث جلده وفي اليوم الثاني الثلث الثاني وفي اليوم الثالث بقيته هل له أصل ؟ .
الجواب : هذا ورد في حديث أخرجه الخطيب البغدادي في أماليه . وابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث ابن مسعود مرفوعاً من طريق وموقوفاً من آخر ، وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من الطريق المرفوع وقال : إنه حديث موضوع وفي إسناده جماعة مجهولون لا يعرفون .
مسألة : في حديث البيهقي : ( من فطر صائماً كان له أجر من عمله ) ما معناه ؟ .
الجواب : كان خطر لي احتمالان : الأول أن معناه فله أجر من عمل الصوم على حد قوله في الحديث الآخر : ( من فطر صائماً فله مثل أجره ) فالضمير في عمله راجع إلى الصوم المفهوم من صائم . الثاني أن يكون هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلّم أول ما شرع هذا الحكم فأخبر الصحابة الذين بحضرته أن من عمل هذه الحسنة منهم فله أجر من عمل بها بعدهم إلى يوم القيامة على حد قوله في الحديث الآخر : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء ) ثم راجعت طرق الحديث فوجدتها تؤيد الاحتمال الأول ، فإن الحديث أخرجه البيهقي من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من فطر صائماً كان له أجر من عمله من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً ومن جهز غازياً أو خلفه في أهله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً ) وأخرجه أيضاً من طريق معقل بن عبيد الله عن عطاء عن زيد بن خالد مرفوعاً : ( من فطر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيئاً . ومن جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيئاً ) وأخرجه الدارقطني من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن زيد [ بن خالد ] مرفوعاً : ( من جهز غازياً أو خلفه في أهله أو فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً ) . وأخرجه أيضاً من طريق ابن جريج عن عطاء عن زيد بن خالد مرفوعاً ( من فطر صائماً أو جهز غازياً فله مثل أجره ) دلت هذه الطريق على أن مراد الحديث فله مثل أجر من عمل الصوم لا مثل أجر من عمل تفطير الصائم وإن اللفظ الأول يجوز أن يكون من تغيير الرواة ويجوز أن يكون ( من ) فيه بمعنى ( ما ) والأصل كان له أجر ما عمله وهو الصوم فالضمير في عمله راجع إلى ( من ) بمعنى ( ما ) من غير احتياج إلى التأويل السابق .(1/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
فإن قلت : فهل يجوز أن يقرأ كان له أجر بالتنوين ومن عمله بالجر ؟ قلت : لا لأمرين : أحدهما أن ( من ) إن قدرت تبعيضية والضمير راجع إلى الصائم كان منافياً لقوله في الرواية الأخرى : كان له مثل أجره فإنها تقتضي المثلية وتلك على التأويل المذكور تقتضي البعضية وإن قدرت تبعيضية والضمير للتفطير ففاسد كما لا يخفي ، الثاني أنها إن قدرت سببية والضمير للصائم ففاسد كما لا يخفي لأن الإنسان لا يؤجر بسبب عمل غيره إنما يؤجر بسبب عمل نفسه ، أو للمفطر لم يصح اعتلاق ما بعده به وهو قوله : من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً .
مسألة : في حديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر ) وحديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب له عبادة سبعمائة سنة ) وحديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صام من رجب يوما كان كصيام شهر ، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم السبعة ، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات ) هل هذه الأحاديث موضوعة وما الفرق بين الضعيف والغريب ؟ .
الجواب : ليست هذه الأحاديث بموضوعة بل هي من قسم الضعيف الذي تجوز روايته في الفضائل ، أما الحديث الأول فأخرجه أبو الشيخ بن حيان في كتاب الصيام ، والأصبهاني ، وابن شاهين كلاهما في الترغيب والبيهقي ، وغيرهم قال الحافظ إبن حجر : وليس في اسناده من ينظر في حاله سوى منصور بن زائدة الأسدي وقد روى عنه جماعة لكن لم أرفيه تعديلاً ، وقد ذكره الذهبي في الميزان وضعفه بهذا الحديث ، وأما الحديث الثاني فأخرجه الطبراني ، وأبو نعيم ، وغيرهما من طرق بعضها بلفظ عبادة سنتين قال الحافظ ابن حجر : وهو أشبه ومخرجه أحسن وإسناد الحديث أمثل من الضعيف قريب من الحسن . وأما الحديث الثالث فأخرجه البيهقي في فضائل الأوقات وغيره وله طرق وشواهد ضعيفة لا تثبت إلا أنه يرتقي عن كونه موضوعاً . وأما الفرق بين الضعيف والغريب فإن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه فقد يكون الحديث ضعيفاً غريباً معاً وقد يكون غريباً لا ضعيفاً لصحة سنده أو حسنه ، وقد يكون ضعيفاً لا غريباً لتعدد إسناده وفقد شرط من شروط القبول كما هو مقرر في علم الحديث .
كتاب الحج
مسألة : حديث ابن مسعود : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها ) ما معناه ؟ .
الجواب : قال العلماء : معنى قوله : وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها أي قبل ميقاتها المعتاد في باقي الأيام لأنه صلاها بغلس جداً وقت طلوع الفجر وكانت عادته صلى الله عليه وسلّم قبل ذلك(1/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
التأخير عن طلوع الفجر قليلاً . وأما المغرب والعشاء تلك الليلة فصلاهما مجموعتين جمع تأخير بأن أخر المغرب إلى وقت العشاء وصلاهما جميعاً بمزدلفة ، وجمع المذكورة في الحديث هي مزدلفة سميت بذلك لاجتماع الناس بها والحديث المذكور أخرجه البخاري . ومسلم .
مسألة : في رجل قال : إن حديث الباذنجان لما أكل له أصح من حديث ( ماء زمزم لما شرب له ) هل هو مصيب أم مخطىء ؟ .
الجواب : هو مخطىء أشد الخطأ ، فإن حديث الباذنجان كذب باطل موضوع بإجماعه أئمة الحديث نبه على ذلك ابن الجوزي في الموضوعات ، والذهبي في الميزان ، وغيرهما ، وحديث زمزم مختلف فيه قيل صحيح ، وقيل حسن ، وقيل ضعيف فأدنى درجاته الضعف ، ولم يقل أحد إنه في حد الوضع ، قال الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه التذكرة في الأحاديث المشتهرة : حديث الباذنجان لما أكل له باطل لا أصل له ، وقد لهج به العوام حتى سمعت قائلاً منهم يقول هو أصح من حديث ماء زمزم لما شرب له قال : وهذا خطأ قبيح ، قال : وحديث ( ماء زمزم لما شرب له ) أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث جابر بإسناد جيد ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد بإسناد قال فيه الحافظ شرف الدين الدمياطي : إنه على رسم الصحيح انتهى . وقد ألف الحافظ ابن حجر جزءاً في حديث ماء زمزم لما شرب له وتكلم عليه في تخريج الأذكار فاستوعب ، وحاصل ما ذكره أنه مختلف فيه فضعفه جماعة ، وصححه آخرون منهم الحافظ المنذري في الترغيب ، والحافظ الدمياطي قال : والصواب أنه حسن لشواهده ثم أورده من طرق من حديث جابر ، وابن عباس ، وغيرهما قال : وحديث جابر مخرج في مسند أحمد ، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة ، ومصنفه ، وسنن ابن ماجه ، وسنن البيهقي ، وشعب الإيمان له ، وحديث ابن عباس في سنن الدارقطني ، ومستدرك الحاكم ، وأخرجه البيهقي أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً لكن سنده مقلوب ، وورد هذا اللفظ عن معاوية موقوفاً بسند حسن لا علة له . وله شواهد أخر مرفوعة ، وموقوفة تركتها خشية الإطالة ، ولما نظر المنذري ، والدمياطي إلى كثرة شواهده مع جودة طريق أبي الزبير عن جابر حكما له بالصحة .
مسألة :
ماذا جواب إمام فاق أعصره
وخطه فاق في الإفتاء من سبقا
فيمن روى أن باذنجانهم وردت
فيه الرواية من قول الذي صدقا ؟
محمد خير خلق الله قاطبة
صلى عليه إله العرش من خلقا
إن الشفاء به قصداً لآكله
كماء زمزم دام الغيث مندفقاً
من فضلكم هل لهذا صحة فلكم
أعربتم عن أمور رجل من خلقا ؟(1/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
أوضح لنا أمره دام السرور بكم
يا أفصح الناس إن أفتى وإن نطقا
لا زلتم عدة للسائلين لكم
وباب جودكم للناس لا غلقا
الجواب :
الله أشكر من نعمائه غدقا
وأتبع الشكر بالتحميد ملتحقا
ثم الصلاة على الهادي النبي
ومن أسرى به ليلة المعراج ثم رقى
أبطل أحاديث باذنجانهم فلقد
نصبوا على أنه الموضوع مختلفاً
وماء زمزم صحح ما رووه به
والله أعلم تم القول متسقا
مسألة :
يا غرة في جبهة الدهر أفقنا
لا زلت تفتي كل من جا يسأل
في زمزم أو ماء كوثر حشرنا
من منهما ياذا المعالي أفضل ؟
جوزيت بالإحسان عنا كلنا
وبجنة المأوى جزاؤك أكمل
الجواب :
لله حمداً والصلاة على النبي
محمد من للبرية يفضل
ما جاءنا خبر بذلك ثابت
فالوقف عن خوض بذلك أجمل
هذا جواب ابن السيوطي راجياً
من ربه التثبيت لما يسأل
مسألة : قال الجندي في فضائل مكة : ثنا عبد الرحمن بن محمد ثنا عبد الرزاق عن أبي معشر المدني عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفر الله ذنوبه كلها بالغة ما بلغت ) .
الجواب : أبو معشر المدني هو نجيح السندي روى له أصحاب السنن الأربعة وفيه ضعف .
مسألة :
يا عالم العصر لا زالت أناملكم
تهمى وعلمكم في الأرض ينتشر
هل النبيون حجوا البيت كلهم
أو لم يحج به بعض كما ذكروا ؟
عن صالح مع هود أن حجهما
للبيت أنكر يا مولى له نظر
وآدم حين حج البيت هل أحد
لرأسه حالق إن كان كان قد ذكروا
هل بالحديد وهل جبريل فاعله
أو جوهر أو بغير هل الذا أثر ؟(1/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
أكشف لنا وأبن لا زلت ترشدنا
طرق الصواب إلى أن ينتهي العمر
ثم الصلاة على المختار من مضر
ما دام للبيت حجاج ومعتمر
الجواب : نعم ورد عن عروة بن الزبير قال : ما من نبي إلا حج هذا البيت إلا ما كان من هود ، وصالح تشاغلاً بأمر قومهما حتى قبضهما الله ولم يحجا ، أخرجه ابن إسحق في المبتدأ ، وابن عساكر في تاريخه ، وقصته أن جبريل حلق رأس آدم عليهما السلام حين حج بياقوتة من الجنة ، رويناها في تاريخ الخطيب من طريق جعفر بن محمد عن آبائه والله أعلم .
كتاب النكاح
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) هل هو صحيح ؟ وهل فيه معارضة لمذهب الشافعي [ رضي الله عنه ] أم لا ؟ .
الجواب : هو صحيح له طرق كثيرة وليس فيه معارضة لمذهبنا لأن الجمهور حملوا الحديث على ما إذا صرح في العقد باشتراط أنه وطىء طلق ، وممن قال بهذا الحمل الإمام أبو عمر بن عبد البر من كبار المالكية قال : الأظهر بمعاني الحديث حمله على التصريح بذلك لا على نيته لأن امرأة وفاعة صرحت بأنها تريد الرجوع إلى زوجها الأول وقد تضمن الحديث إقرارها على صحة النكاح فإذا لم تقدح فيه نيتها فكذلك نية الزوج ونية المطلق أولى أن لا تقدح فلم يبق للحديث معنى إلا الحمل على الإظهار فيكون كنكاح المتعة .
مسألة : حديث بريرة في مفارقتها زوجها مع كونه صلى الله عليه وسلّم كلمها في إبقائه لا ينافي ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلّم يخير من شاء على نكاح من شاء من الرجال لأن ذاك حيث كان منه إلزام وحديث بريرة لم يكن منه إلزام لها ولهذا قالت : يا رسول الله أتأمرني أم تشفع ؟ فاستفهمته هل هو ملزم لها أم مخير ؟ فأجابها بقوله : ( لا بل أشفع ) الدال على أنه مخير لا ملزم والله أعلم .
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) لم بدأ بالنساء وأخر الصلاة ؟ .
الجواب : لما كان المقصود من سياق الحديث بيان ما أصابه النبي صلى الله عليه وسلّم من متاع الدنيا بدأ به كما قال في الحديث الآخر : ( ما أصبنا من دنياكم هذه إلا النساء ) ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء بدليل قوله في الحديث الآخر : ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ) ناسب أن يضم إليه بيان أفضل الأمور [ الدينية ] وذلك الصلاة فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان ، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا وأفضل أمور الدين ، وفي ذلك ضم الشيء إلى نظيره وعبر في أمر الدين بعبارة أبلغ مما عبر به في أمر الدنيا حيث اقتصر في أمر الدنيا على مجرد التحبب وقال في أمر الدين : جعلت قرة عيني فإن في قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى .(1/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
مسألة : في قصة السيد سليمان هل قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة أو قال على تسعين امرأة ؟ .
الجواب : في هذا الحديث روايات ، إحداها : على سبعين امرأة رواها البخاري في أحاديث الأنبياء . الثانية : على تسعين امرأة رواها البخاري في الأيمان ، والنذور وأشار إليها في أحاديث الأنبياء تعليقاً فقال : قال شعيب ، وابن أبي الزناد : تسعين وهو أصح هذه عبارته . الثالثة : لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة رواها البخاري في النكاح . الرابعة : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين هكذا على الشك رواها البخاري في الجهاد . الخامسة : على ستين امرأة أشار إليها الحافظ ابن حجر فقال في شرح البخاري ما نصه : محصل الروايات ستون ، وسبعون ، وتسعون ، وتسع وتسعون ، ومائة . قال : والجمع بينها أن الستين كن حرائر وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس ، وأما السبعون فللمبالغة ، وأمان التسعون ، والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين فمن قال : تسعون ألغى الكسر ، ومن قال مائة جبره ، ومن ثم وقع التردد في الرواية التي في الجهاد انتهى .
قلت : وقد وقفت على رواية سادسة وهي ألف امرأة أخرج الحافظ أبو القاسم ابن عساكر من طريق الخدري عن مقاتل عن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الرحمن عن أبي هريرة : ( أن سليمان بن داود عليهما السلام كان له اربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوماً : لأطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق إنسان فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله ) .
كتاب الجنايات
مسألة : من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين صباحاً هل ورد ؟ وهل هو صحيح ؟ .
الجواب : نعم أخرجه أحمد في مسنده ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم من طرق عن عبد الله ابن عمر مرفوعاً : ( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه [ فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب ] لم يتب الله عليه وكان حقاً على الله أن يسقيه من نهر الخبال ) لفظ الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي الباب عن عبد الله ابن عمر ، وأخرجه أحمد ، والنسائي بسند صحيح بهذا اللفظ . وأخرجه البزار ، والطبراني من طرق مختصراً . وعن ابن عباس أخرجه الطبراني بسند حسن نحوه . وأخرجه أيضاً بلفظ : ( كان نجساً أربعين يوماً ) بدل لم تقبل له صلاة وبدل فإن تاب فإن عاد . وعن أبي ذر أخرجه أحمد ، والبزار بنحوه . وعن عياض بن غنم أخرجه أبو يعلي ، والطبراني بسند ضعيف نحوه أيضاً . وعن السائب بن يزيد أخرجه(1/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
الطبراني بسند ضعيف مختصراً : ( من شرب مسكراً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) . وعن أسماء بنت يزيد أخرجه أحمد ، والطبراني بسند حسن بلفظ : ( لم يرض الله عنه أربعين ليلة ) .
مسألة : في الحديث أتى ابن مسعود برجل نشوان فقال : ترتروه ومزمزوه ثم دعا بسوط فقطعت ثمرته ثم دق رأسه ما معنى هذه الألفاظ ؟ .
الجواب : قال في النهاية قوله : ترتروه ومزمزوه أي حركوه ليستنكه هل يوجد منه ريح الخمر أم لا ، ويروى تلتلوه ومعنى الكل التحريك وقال في حرف الميم : مزمزوه هو أن يحرك تحريكاً عنيفاً لعله يفيق من سكره ويصحو ، قال : وثمرة السوط طرفه الذي يكون في أسفله وإنما دقها لتلين تخفيفاً على الذي يضرب .
مسألة : عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيباً فقال : ( يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله عز وجل ) ثلاثاً ثم قرأ ) فأجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ( ) من رواه من الأئمة وما حاله ؟ .
الجواب : رواه أحمد في مسنده ، م والترمذي هكذا وأيمن مختلف في صحبته فذكره ابن منده وغيره في الصحابة ، وقال العجلي : تابع صالح ثقة وليس له عند الترمذي غير هذا الحديث ، وقد ورد من رواية خريم بن فاتك وهو والد أيمن هكذا أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وقال يحيى بن معين : إنه الصواب أي إنه من حديث خريم لا من حديث ابنه أيمن وله شاهد عن ابن مسعود قال : ( تعدل شهادة الزور الشرك بالله ثم تلا هذه الآية ) أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان .
كتاب الأدب والرقائق
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لو دعيت إلى كراع لأجبت ) هل المراد بالكراع . وضع معين بالمدينة ؟ .
الجواب : الأرجح أن المراد بالكراع في هذا الحديث كراع الدابة ، وقيل المراد به مكان بالحرة ، ووقع في بعض الكتب بلفظ : لو دعيت إلى كراع الغميم ، ورده النقاد وقالوا : إنه تحريف .
مسألة : هل الأفضل قول لا إله إلا الله أو الحمدلله رب العالمين ؟ وما الأفضل الذكر أو الحمد ؟ .
الجواب : قال صلى الله عليه وسلّم : ( أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمدلله ) دل هذا الحديث بمنطوقه على أن كلاً من الكلمتين أفضل نوعه ، ودل بمفهومه على أن لا إله إلا الله أفضل من الحمد فإن نوع الذكر أفضل من نوع الدعاء ، ودليل آخر روى ابن شاهين في السنة بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً ( التوحيد ثمن الجنة والحمد ثمن كل نعمة ) وهذا يدل على أن لا إله إلا الله أفضل من الحمدلله لأن الجنة أفضل من جميع النعم الدنيوية فثمنها أفضل .(1/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
مسألة : من التكرور ما معنى قوله صلى الله عليه وسلّم : ( كان داود عليه السلام يأكل خبز الشعير بالملح والرماد ) ؟ وما العهد والوعد في حديث سيد الاستغفار ؟ وما معنى من قالها موقناً ؟ .
الجواب : معنى أثر داود عليه السلام أنه كان يأتدم بالملح ويخلطه بالرماد مبالغة في التضرع والتواضع ، والعهد ما أخذ عليهم وهم في عالم الذريوم ألست بربكم والوعد ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم ( إن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ) ومعنى من قالها موقناً مخلصاً مصدقاً بثوابها .
مسألة : حديث أول ما خلق الله القلم هل ورد ؟ ومن خرجه ؟ وهل هو صحيح أم لا ؟ .
الجواب : هو حديث صحيح ورد من رواية جماعة من الصحابة فعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : يا رب ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد ) رواه أحمد في مسنده ، وأبو داود ، والترمذي ، وقال : حسن صحيح . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن أول ما خلق الله القلم قال : ما أكتب ؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة ) رواه الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات إلا أن فيه مؤمل بن إسماعيل وثقة ابن معين ، وغيره ، وضعفه البخاري ، وغيره ، ورواه أيضاً بلفظ : ( لما خلق الله القلم قال له : أكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة ) ورجاله ثقات . ورواه أيضاً موقوفاً عليه بلفظ : ( إن الله خلق العرش فاستوى عليه ثم خلق القلم فأمره أن يجري بإذنه فقال : يا رب بما أجري قال : بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أو نبات أو نفس أو أثر أو رزق أو أجل فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) ورجاله ثقات إلا الضحاك بن مزاحم فوثقه ابن حبان ، وقال : لم يسمع من ابن عباس ، وضعفه جماعة . ورواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق موقوفاً على ابن عباس بلفظ : ( أول ما خلق الله القلم قال : ما أكتب ؟ قال : أكتب القدر فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ) ورواه ابن جرير أيضاً عن ابن عباس موقوفاً بلفظ ( إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره بكتب كل شيء ) ورجاله ثقات . ورواه ابن عساكر في تاريخه من طريق أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له أكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة ) . ورواه ابن جرير من طريق معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( والقلم وما يسطرون قال : لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة ) .
مسألة : حديث ( لآية من كتاب الله خير من محمد وآله ) من أخرجه من أئمة الحديث ؟ .
الجواب : لم أقف عليه .
مسألة : حديث : ( أحبوا البنين فإن البنات يحببن أنفسهن ) هل ورد ؟ .
الجواب : هذا لايعرف ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث .(1/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
مسألة : هل ورد في الحديث أن نبياً من الأنبياء شكا الضعف فأمره الله بأكل البيض ؟ .
الجواب : نعم وهو ضعيف جداً رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر .
مسألة : هل ورد في الحديث : كما تكونون يولى عليكم ؟ .
الجواب : نعم رواه ابن جميع في معجمه من حديث الحسن عن أبي بكرة ، وذكر ابن الأنباري في بعض كتبه أن الرواية كما تكونوا بحذف النون .
مسألة : حديث : ( الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ) هل ورد ؟ وهل هو صحيح ومن أخرجه ؟ .
الجواب : ورد من رواية أنس ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، فحديث أنس أخرجه البزار ، وأبو يعلى ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق يوسف بن عطية عن ثابت عنه ، ويوسف متروك ، وحديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في الكبير ، والأصبهاني في ترغيبه من طريق الحكم عن إبراهيم عن علقمة عنه ، وحديث أبي هريرة أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي الهيثم السليل بن موسى بن سليل عن أبيه عن جده عن بشر بن نافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه بلفظ : ( الخلق كلهم عيال الله وتحت كنفه فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله وأبغض الخلق إلى الله من ضيّق على عياله ) .
مسألة : حديث : ( لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك ) هل ورد ؟ .
الجواب : نعم أخرجه الترمذي من حديث واثلة بن الأسقع وحسنه .
مسألة : هل ورد أن سعفص نهر في السماء يخرج من خلال الجنة ؟ .
الجواب : لم أقف على ذلك .
مسألة : هل ورد أن آدم عليه السلام والطبقة الأولى من أولاده كانوا ستين ذراعاً ، والثانية أربعين ، والثالثة عشرين ، والرابعة سبعة أذرع ؟ .
الجواب : هذا العدد المخصوص في الطبقات لم يردو إنما أن طول آدم كان ستين ذراعاً وأن من بعده تناقص ولم يزل الناس يتناقصون .
مسألة : اللهم أهد قريشاً فإن علم العالم منهم يسع طبقات الأرض من رواه ؟ .
الجواب : رواه أبو يعلى في مسنده من حديث ابن عباس وسنده جيد .
مسألة : حديث أنا جد كل تقي هل ورد ؟ .
الجواب : لا أعرفه .
مسألة : حديث من جلس فوق عالم بغير إذنه فكأنما جلس على المصحف هل له أصل ؟ .
الجواب : لا أصل له .
مسألة : حديث من بش في وجه ذمي فكأنما لكزني في جنبي هل له أصل ؟ .(1/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
الجواب : لا أصل له .
مسألة : هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء اطلع على النار فرأى فيها رجلاً عليه حلل خضر ويروح عليه بمراوح فقال : يا جبريل من هذا ؟ فقال هذا حاتم الطائى ؟ وهل ورد أن شجرة كانت في بستان فقطعت نصفين فجعل نصفين فجعل منها نصف في القبلة والآخر في مر حاض فشكا إلى ربه فأوحى إليه لئن لم تنته لأجعلنك في مجلس قاض لا يعرف الشرع .
الجواب : هذان باطلان .
مسألة : حديث أن رجلاً قال : يا رسول الله ايش هو الذي يخفى قال شيء لا يكون . وحديث : ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) هل هما صحيحان ؟ .
الجواب : الأول باطل ، والثاني صحيح أخرجه مسلم في صحيحه .
مسألة : حديث من لبس ثوب شهرة كيف لفظه ومن رواه ؟ .
الجواب : وراه أبو داود ، وابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ) ورواه ابن ماجه من حديث أبي ذر بلفظ : ( من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه متى وضعه ) .
مسألة : روى الطبراني في تاريخه الكبير ، والمسعودي في تاريخه ، وغيرهما : ( إن أول من رمى بالقوس العربية آدم عليه السلام وذلك أنه لما أمره الله بالزراعة حين أهبط من الجنة وزرع أرسل الله طائرين عليه يأكلان ما زرع ويخرجان ما بذر فشكا إلى الله ذلك فهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان فقال آدم : ما هذا يا جبريل ؟ فأعطاه القوس وقال : هذا قوة الله وأعطاه الوتر وقال : هذه شدة الله وأعطاه السهمين وقال : هذه نكاية الله وعلمه الرمي بهما فرمى الطائرين فقتلهما وجعلها عدة في غربته وأنساً عند وحشته ثم صار إلى إبراهيم الخليل ثم إلى ولده إسماعيل وفي رواية قال له جبريل : خذها ونش أب ومنه اشتق اسم النشاب . واختلف في قوس إبراهيم عليه السلام هل هي القوس التي هبطت على آدم من الجنة أو غيرها ؟ فمنهم من قال : إنها هي وإن آدم خبأها كما خبأ عصا موسى ، ومنهم من قال : إنها غيرها وأن الله أهبط على إبراهيم قوساً من الجنة وكان ولده إسماعيل أرمي أهل زمانه وعنه أخذ الرمى بأرض الحجاز والذي ذكر أن إبراهيم صنعها هي قوس النبع وصح أن ترك الرمي بعد تعلمه معصية رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر وثبت أنه صلى الله عليه وسلّم رمى بالقوس وركب الخيل مسرجة ومعراة وتقلد بالسيف وطعن بالرمح وكان عنده ثلاث قسي : قوس تدعى الروحاء ، وقوس تسمى البيضاء ، وقوس تسمى الصفراء وقال : ( إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه المحتسب فيه والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وكل شيء يلهو به المؤمن باطل إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته امرأته ) فهل هذه الأخبار صحيحة بينوا لنا ذلك وإن كان عندكم زيادة فتفضلوا بها ؟ .(1/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
الجواب : أما المنقول عن الطبري أولاً فلم أر له أصلاً في الحديث وراجعت تاريخ الطبري في ترجمة آدم ، وإبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام فلم أجده فيه ولا يبعد صحته فإن الله تعالى علم آدم علم كل شيء ، وقد ورد الحديث بأن أول من نطق بالعربية إسماعيل ورأيت من صرح بأن أول من تكلم بها آدم حتى تقادمت العربية فحرفت وصارت سريانية فجاء إسماعيل وفتق الله لسانه بها ، وأما حديث عقبة بن عامر فهو في صحيح مسلم كما ذكر ، وأما كونه صلى الله عليه وسلّم رمى بالقوس وركب الخيل فصحيح ثابت في الأحاديث المشهورة ومن ركوبه الخيل معرورات ركوبه . فرس أبي الدحداح ليلة فزع أهل المدينة ثم رجع وهو يقول : ( لن تراعوا لن تراعوا ) وأما تقلده السيف .
وأما حديث أن الله ليدخل بالسهم الواحد الحديث بطوله فأخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث عقبة بن عامر ، والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة وله شواهد كثيرة ، وأما زيادة على ذلك إجابة لما التمس السائل فروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرمي من طريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : أول من عمل القسي إبراهيم عمل لإسماعيل قوساً ولإسحق قوساً فكانوا يرمون بهما فعلمهم الرمي وكان أول من اتخذ القوس الفارسية نمروذ ، وروى من حديث أبي رافع مرفوعاً : ( حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي ) . وفي الصحيح : ( ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً ) وفي صحيح مسلم في تفسير قوله تعالى : ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( ( ألا إن القوة الرمي ) قالها ثلاثاً ، وروى الطبراني من حديث أبي الدرداء : ( من مشى بين الغرضين كان له بكل خطوة حسنة ) وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة : ( تعلموا الرمي فإن بين الهدفين روضة من رياض الجنة ) وروى الطبراني في الصغير عن عائشة مرفوعاً : ( ما على أحدكم إذا ألح به همه أن يتقلد قوسه فينفي بها همه ) وأسانيدها ضعيفة ، وروى في الكبير من حديث أبي عمرو الأنصاري البدري : ( من رمى بسهم في سبيل الله قصر أو بلغ كان له نوراً يوم القيامة ) وسنده ضعيف أيضاً ، والأحاديث المتعلقة بالرمي كثيرة وقد ألفت كتاباً في الرمي سميته غرس الأنشاب في الرمي بالنشاب ، وكتاباً في الخيل سميته جر الذيل في علم الخيل .
القول الجلي في حديث الولي
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : الحديث الذي أخرجه البغوي في تفسير سورة شورى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله يقول عز وجل : ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد وما تقرب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً [ ومؤيداً ] إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي(1/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فاكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير ) من أخرجه من الأئمة وما حاله ؟ .
الجواب : هذا الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء قال : حدثنا الهيثم بن خارجة ، والحكم بن موسى قالا : ثنا الحسن بن يحيى الخشني عن صدقة الدمشقي عن هشام الكناني عن أنس بطوله ولفظه ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة الحسن بن يحيى الخشني قال : ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا عبد الجبارين عاصم ح وثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ثنا أحمد بن يحيى الحلواني ح وثنا مخلد بن جعفر ثنا أحمد ابن محمد بن يزيد البراتي قالا : ثنا الحكم بن موسى قال : ثنا الحسن بن يحيى الخشني به بطوله ولفظه . وقال : غريب من حديث أنس لم يروه عنه على هذا السياق إلا هشام وعنه صدقة تفرد به الحسن ، والحسن بن يحيى قال الذهبي : تركوه وقال أبو حاتم : صدوق سيء الحفظ ، وقال دحيم : لا بأس به ، وروى الطبراني في الأوسط من طريق عمر بن سعيد الدمشقي وهو ضعيف عن صدقة بن عبد الله أبي معاوية عن عبد الكريم الجزري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( قال الله تعالى : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي إني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد ) هكذا رواه مختصراً ، ثم إن لأصل الحديث شواهد ، منها ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( [ قال الله عز وجل ] : ( من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا إحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) تفرد بإخراجه البخاري ، وأورده الذهبي في الميزان في ترجمة خالد وقال : هذا حديث غريب جداً تفرد به خالد بن مخلد ، ولولا هيبة الجامع الصحيح لعددته في منكرات خالد وذلك لغرابة لفظه ولأنه مما تفرد به شريك وليس بالحافظ اه . ومنها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن حماد بن خالد الخياط عن عبد الواحد مولى عروة عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من آذى لي ولياً(1/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
فقد استحل محاربتي ، وما تقرب إلي عبدي بمثل الفرائض ، وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته ، وما ترددت عن شيء أن فاعله ترددي عن وفاته لأنه يكره الموت وأكره مساءته ) ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الواحد وثقة أبو زرعة ، والعجلي ، وابن معين في رواية ، وضعفه غيرهم . وأخرجه الطبراني في الأوسط قال : ثنا هرون ابن كامل ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا إبراهيم بن سويد المدني حدثني أبو حزرة يعقوب بن مجاهد أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن الله يقول : من أهان لي ولياً فقد استحل محاربتي وما تقرب إلي عبد من عبادي بمثل أداء فرائضي ، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها وأذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته ) وقال : لم يروه عن عروة إلا أبو حزرة ، وعبد الواحد بن ميمون . قلت : ورجال الإسناد رجال الصحيح إلا هرون . ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده عن العباس بن الوليد عن يوسف بن خالد عن عمر بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن ميمونة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( فإن الله عز وجل : من آذى لي ولياً فقد استحل محاربتي وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي وأنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به ، إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موته وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته ) ويوسف هو السمتي كذاب ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن الله تعالى يقول : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالعداوة ابن آدم لم تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ولا يزال عبدي يتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به فإذا دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استنصرني نصرته ) وفي سنده علي بن زيد ضعيف .
ومنها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يقول الله تعالى : من عادى لي ولياً فقد ناصبني بالمحاربة ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، وربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه عن الغنى إلى الفقر ولو صرفته إلى الغنى لكان شراً له ، وربما سألني وليي المؤمن الفقر فأصرفه إلى الغنى ولو صرفته إلى الفقر لكان شراً له ) ومن شواهد قوله : ( وأن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة ) إلى آخره ما أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن حاجب بن أبي بكر(1/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
عن أحمد الدورقي عن أبي عثمان الأموي عن صخر بن عكرمة عن كليب الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( قال الله عز وجل : لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن من العجب ما خليت بين عبدي المؤمن وبين الذنب ) وما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من طريق جعفر بن محمد بن عيسى الناقد عن سويد بن سعيد عن ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لولا أن المؤمن يعجب بعمله لعصم من الذنب حتى لا يهم به ولكن الذنب خير له من العجب ) وما أخرجه أبو نعيم ، والحاكم في التاريخ من طريق سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس ، والديلمي من طريق كثير بن يحيى عن أبيه عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب ) .
مسألة : شخص روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلّم عن الله عز وجل أنه قال : ( ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ) فقال له رجل : تجازف في الحديث ؟ فما حال هذا الحديث وما معناه ؟ .
الجواب : هذا الحديث صحيح رواه البخاري في صحيحه ، والتردد في الحديث عنه أجوبة مشهورة أحسنها وعليه [ جرى ] ابن الجوزي أن هذا من باب الخطاب بما نعقل والباري تعالى منزه عن حقيقته على حد قوله : ( ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) فكما أن أحدنا يريد ضرب ولده تأديباً فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد بل كان يبادر إلى ضربه لتأديبه فأريد تفهيمنا لتحقيق المحبة للولي بذكر التردد جرياً على مخاطبة العرب بما يفهمون .
مسألة : حديث : ( من قرأ القرآن وأعربه كتب له بكل حرف عشر حسنات ، ومن قرأه ولحن فيه كتب له بكل حرف حسنة ) هل هو صحيح ؟ .
الجواب : هذا الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من طريق نعيم بن حماد عن أبي عصمة عن زيد العمى عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً : ( من قرأ القرآن فأعربه كله فله بكل حرف أربعون حسنة ، فإن أعرب بعضه ولحن في بعضه فله بكل حرف عشرون حسنة ، وإن لم يعرب منه شيئاً فله بكل حرف عشر حسنات ) وهذا إسناد ضعيف من وجوه : أحدها أن سعيد بن المسيب لم يدرك عمر فهو منقطع . الثاني : أن زيداً العمى ليس بالقوي . الثالث : أن [ أبا ] عصمة هو نوح بن أبي مريم الجامع الكذاب المعروف بالوضع ، والظاهر أن هذا الحديث بما صنعت يداه ، وقد ذكره الذهبي في ترجمته وعده من مناكيره ، وقد رواه الطبراني في الأوسط على كيفية أخرى مخالفة في السند ، والصحابي ، والمتن وهو دليل ضعف الحديث ونكارته واضطرابه فقال : حدثنا الفضل بن هرون ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ثنا عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن عروة عن عائشة مرفوعاً : ( من قرأ القرآن على أي حرف كان كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ، ومن قرأ فأعرب بعضاً ولحن بعضاً كتب له عشرون(1/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
حسنة ومحى عنه عشرون سيئة ورفع له عشرون درجة ، ومن قرأه وأعربه كله كتب له أربعون حسنة ومحى عنه أربعون سيئة ورفع له أربعون درجة ) قال الطبراني : لم يروه عن عروة إلا زيد تفرد به ابنه وقد عرفت ضعف زيد ، وابنه متروك . وروى البيهقي في شعب الإيمان أيضاً من طريق بقية بن الوليد عن عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً : ( من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف عشرون حسنة ، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات ) وهذا الإسناد لا يصح أيضاً فإن بقية مدلس وقد عنعنه . وروى الطبراني ، وأبون نعيم من حديث علي بن حرب عن عبد الرحمن بن يحيى عن مالك عن ابن القاسم عن أبيه عن عائشة مرفوعاً : ( من قرأ القرآن فأعربه كانت له دعوة عند الله مستجابة إن شاء أعد له في الدنيا وإن شاء أخرها إلى يوم القيامة ) وهو غريب أيضاً . وروى الطبراني في الأوسط من طريق نهشل عن الضحاك بن مزاحم عن أبي الأحوص عن ابن مسعود مرفوعاً : ( أعربوا القرآن فإنه من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات وكفارة عشرة سيئات ورفع عشر درجات ) ونهشل متروك .
مسألة : القول المشهور على الألسنة وهو الخمول نعمة وكل يأباه والشهرة آفة وكل يرضاه هل ورد ؟ .
الجواب : ليس هذا بحديث وإنما هو من كلام أبي المحاسن الروياني من أئمة الشافعية ، قال الحافظ أبو سعيد السمعاني في تاريخ بغداد : سمعت أبا الفوارس هبة الله بن سعد الطبري بآمل يقول : سمعت جدي لأمي الإمام أبا المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني يقول : الشهرة آفة وكل يتحراها والخمول راحة وكل يتوقاها . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول قال : حدثنا محمد بن علي ثنا إبراهيم بن الأشعث سمعت الفضيل يقول : بلغني أنه يقال للعبد في بعض مننه [ التي ] من بها عليه : ألم أنعم عليك ؟ ألم أعطك ؟ ألم أخمل ذكرك ؟ ألم ألم ؟ .
مسألة : حديث : ( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسائة عام ) وحديث : اتخذوا مع الفقراء أيادي قبل أن تجىء دولتهم . وحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم أنشد بين يديه :
لسعت حية الهوى كبدي
فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به
فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد حتى سقطت البردة عن كتفيه ما حالها ؟ .
الجواب : الحديث الأول صحيح أخرجه بهذا اللفظ الترمذي من حديث أبي هريرة وقال : حسن صحيح ، والحديث الآخران باطلان موضوعان باتفاق أهل الحديث .
مسألة : حديث : ( خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ ) هل هو صحيح ؟ وقيل إنه ( الحال ) باللام في آخره ، وقال آخر : إنه ( الجاد ) بالجيم والدال المهملة ، وقال آخر : إنه منسوخ بحديث : ( تناكحوا ) فهل ما قالوه صحيح أم لا ؟ .(1/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
الجواب : هذا الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث حذيفة بن اليمان بلفظ : ( خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ ) قيل يا رسول الله ومن خفيف الحاذ ؟ قال : ( من لا أهل له ولا مال ) وفي إسناده رواد بن الجراح قال فيه أحمد : لا بأس به إلا أنه حدث عن سفيان بمناكير ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال النسائي : روى غير حديث منكر ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه ، وقال أبو حاتم : محله الصدق تغير حفظه . قال الذهبي في الميزان : وهذا الحديث مما غلط فيه فإن أبا حاتم قال فيه : إنه منكر لا يشبه حديث الثقات قال : وإنما كان بدء هذا الخبر فيما ذكر لي أن رجلاً جاء إلى رواد فذكر له هذا الحديث فاستحسنه وكتبه ثم حدث به بعد يظن أنه من سماعة انتهى . وروى الترمذي من حديث أبي أمامة : ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة ) وأما الحاذ فهو بالحاء المهملة والذال المعجمة الخفيفة ومن قال : إنه باللام أو بالجيم والدال المهملة فقد صحف ، قال ابن الأثير في النهاية في حرف الحاء المهملة في فصل حوذ : وأصل الحاذ طريقة المتن وهو ما يقع عليه اللبد من ظهر الفرس أي خفيف الظهر من العيال والحاذ والحال واحد ، وكذا قال الديلمي في مسند الفردوس : وزاد ضربه النبي صلى الله عليه وسلّم مثلاً لقلة ماله وعياله ، وفي الصحاح حاذ متنه وحال متنه واحد وهو موضع اللبد من ظهر الفرس . وفي الحديث : ( مؤمن خفيف الحاذ ) أي خفيف الظهر انتهى . وأما من قال : إنه منسوخ فلم يصب لما تقرر في علم الأصول أن النسخ خاص بالطلب ولا يدخل الخبر وهذا خبر كما ترى ، ثم أنه لا منافاة بينه وبين حديث : ( تناكحوا تناسلوا ) حتى يحتاج إلى دعوى النسخ لأن الأمر بالنكاح ليس عاماً لكل أحد بل بشروط مخصوصة كما تقرر في علم الفقه ، فيحمل هذا الحديث على من ليست فيه الشروط وخشي من النكاح التوريط في أمور يخشى منها على دين بسبب طلب المعيشة وبذلك يحصل الجمع بين الحديثين ولا نسخ فدعوى النسخ في الخبر جهل بقواعد الأصول .
مسألة : قول صاحب الشفا عن قوله صلى الله عليه وسلّم : ( أن لله ملائكة سياحين في الأرض عبادتهم كل دار فيها اسم محمد ) هل هي بالباء الموحدة أو بالياء المثناة من تحت وإذا كانت بالياء فما معناها أو بالموحدة فما معناها ؟ .
الجواب : هو بالباء الموحدة من العبادة وهو مبتدأ خبره كل دار على تقدير مضاف أي حراسة كل دار أو نحو ذلك ، ثم أن هذا الحديث غير ثابت .
مسألة : الأسماء التي اشتهرت للبوني هل لها أصل ؟ .
الجواب : لم أقف لها على أصل إلا ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء قال : حدثنا محمد بن سعيد ثنا سلام الطويل عن الحسن بن علي عن الحسن البصري قال : لما بعث الله إدريس إلى قومه وقد فشا فيهم السحر فلم يطقهم علمه الله هذه الأسماء ثم أوحى إليه أن لا تبديهن للقوم فيدعوني بهن ولكن قلهن سراً في نفسك فكان إذا دعا بهن استجيب له وبهن دعا فرفعه الله مكاناً علياً ، ثم علمهن الله موسى وكان لا يخلص إليه سحر ولا سم(1/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
إذا دعا بهن ، ثم علمهن محمداً صلى الله عليه وسلّم فكان إذا دعا بهن استجيب له وبهن دعا في غزوة الأحزاب ، قال الحسن : فإذا أردت أن تدعو الله التماس المغفرة لجميع الذنوب والخطايا فصم ثلاثة أيام واغتسل والبس ثياباً جدداً وقم إذا نام كل ذي عين فاخرج إلى فضاء من الأرض فادع الله بهن أربعين مرة فإنهن أربعون اسماً عدد أيام التوبة ثم سل حاجتك من أمر آخرتك ودنياك تقول : سبحانك لا إله إلا أنت يا رب كل شيء ووارثه ، يا إله الآلهة الرفيع جلاله ، يا الله المحمود في كل فعاله ، يا رحمن كل شيء وراحمه ، يا حي حين لا حي في ديمومة ملكه وبقائه ، يا قيوم فلا يفوت شيء عن علمه ولا يؤوده ، يا واحد الباقي أول كل شيء وآخره ، يا دائم فلا فناء ولا زوال لملكه يا صمد في غير شبه ولا شيء كمثله ، يا بار فلا شيء كفؤه يدانيه ولا إمكان لوصفه ، يا كبير أنت الذي لا تهتدي القلوب لصفة عظمته ، يا باري النفوس بلا مثال خلا عن غيره ، يا زاكي الطاهر من كل آفة بقدسه يا كافي الموسع لما خلق من عطاء فضله ، يا نقياً من كل جور لم يرضه ولم يخالط فعاله ، يا حنان أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، يا منان ذا الإحسان قد عم كل الخلائق منه ، يا ديان العباد فكل يقوم خاضعاً لرهبته ، يا خالق من في السموات والأرض وكل معاده ، يا رحيم كل صريخ ومكروب وغياثه ومعاذه ، يا تام فلا تصف الألسن كل جلاله وعزه ، يا مبدىء البدائع لم يبغ في إنشائها عوناً من خلقه ، يا علام الغيوب فلا يؤوده شيء من حفظه ، يا حليم ذو الأناة فلا يعادله شيء من خلقه ، يا معيد ما أفنى إذا برز الخلائق لدعوته من مخافته ، يا حميد الفعال ذا المن على جميع خلقه بلطفه ، يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله ، يا قاهر ذا البطش الشديد أنت الذي لا يطاق انتقامه ، يا قريب المتعالى فوق كل شيء علوه وارتفاعه ، يا مذل كل جبار بقهر عزيز سلطانه ، يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات نوره ، يا عالي الشامخ فوق كل شيء علوه وارتفاعه ، يا قدوس الظاهر على كل شيء فلا شيء يعادله من خلقه ، يا مبدىء البرايا ومعيدها بعد فنائها بقدرته ، يا جليل المتكبر عن كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده ، يا محمود فلا تبلغ الأوهام كل ثنائه ومجده ، يا كريم العفو ذا العدل أنت الذي ملأ كل شيء عدله ، يا عظيم ذا الثناء الفاخر وذا العز والمجد والكبرياء فلا يذل عزه ، يا عجيب فلا تنطق الألسن بكل آلائه وثنائه ، يا غياثي عند كل كربة ، ويا مجيبي عند كل دعوة ، أسألك أماناً من عقوبات الدنيا والآخرة ، وأن تحبس عني أبصار الظلمة المريدين بي السوء ، وأن تصرف قلوبهم من شر ما يضمرون إلى خير مالا يملكه غيرك ، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان .
مسألة : هل ورد أنه صلى الله عليه وسلّم لبس السراويل ؟ .
الجواب : ذكر شيخنا الشيخ تقي الدين الشمني رحمه الله في حاشية الشفا عند ذكره شراء النبي صلى الله عليه وسلّم للسروايل وقوله لأبي هريرة : ( صاحب الشيء أحق بحمله ) قال : قالوا : لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلّم لبس السراويل ولكنه اشتراها ولم يلبسها ، وفي الهدى لابن القيم أنه لبسها قالوا : وهو سبق قلم انتهى .(1/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
وقد أجبت بذلك مرات ثم رأيت الحديث الذي أورده صاحب الشفا في المعجم الأوسط للطبراني ، ومسند أبي يعلى وفيه أنه لبسها ، ولفظه عن أبي هريرة قال : دخلت يوماً السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم وكان لأهل السوق وزان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم : زن وأرجح وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم السراويل فذهبت لأحمله عنه فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفاً يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم قلت : يا رسول الله وإنك لتلبس السراويل ؟ قال : ( أجل في السفر والحضر وبالليل وبالنهار فأني أمرت بالستر فلم أجد شيئاً أستر منه ) أخرجاه من طريق يوسف بن زياد الواسطي عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن أبي مسلم الأغر عن أبي هريرة ، ويوسف ، وشيخه ضعيفان . وأخرج أحمد قال : ثنا يزيد بن هرون أنا شعبة عن سماك بن حرب سمعت أبا صفوان مالك بن عمير الأسدي يقول : قدمت قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلّم فاشترى مني سراويل فأرجح لي .
مسألة : حديث ( شيبتني هود وأخواتها ) ما المراد بأخواتها ؟ .
الجواب : المراد به سورة الواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت ، كذا ثبت مفسراً في حديث الترمذي ، والحاكم زاد الطبراني في رواية زاد ابن مردويه في أخرى وهل أتاك حديث الغاشية زاد ابن سعد في أخرى والقارعة ، وسأل سائل ، وفي أخرى عن عطاء قوله : اقتربت الساعة .
مسألة : قال ابن حبان في صحيحه : يستدل بهذا الحديث أعني حديث ( أني أبيت يطعمني ربّي ويسقيني ) على بطلان ما ورد أنه كان يضع الحجر على بطنه من الجوع لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل فكيف يترك جائعاً مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد حجر على بطنه قال : وأمان لفظ الحديث الحجز بالزاي وهو طرف الإزار فتصحف بالراء ؟ .
الجواب : لا منافاة بين الأمرين لأنه لا مانع من أن يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم تكرمة له ويحصل له الجوع في بعض الأحيان على وجه الابتلاء الذي يصحل للأنبياء تعظيماً له كما قال في حديث آخر : ( أجوع يوماً وأشبع يوماً ) وكما قال جابر في حديثه لامرأته : سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضعيفاً أعرف فيه الجوع .
مسألة : سيرة البكري هل كلها صحيحة أو الغالب عليها الصحة وهل تجوز قراءتها ؟ .
الجواب : الغالب عليها البطلان والكذب ولا تجوز قراءتها .
مسألة : هل ردت الشمس النبي صلى الله عليه وسلّم بعد ما غربت في وقعة الخندق أو في غيرها ؟ وهل صلى العصر في وقتها أو قضاها بعد غروب الشمس ؟ .
الجواب : الثابت في الصحاح في غزوة الخندق أنه صلى العصر بعد المغرب لكن روى الطحاوي أن الشمس ردت إليه حتى صلاها وقال : إن رواته ثقات حكاه عنه النووي في شرح مسلم . والحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير ، ويمكن الجمع بين هذه(1/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
الرواية وما في الصحاح بأن يحمل قوله : بعد ما غربت أو بعد المغرب على وجود الغروب الأول ، ولا ينافي ذلك كونها عادت ، فغاية ما في الباب أن رواية الصحاح سكتت عن العود الثابت في غيرها ، وقد ورد أيضاً أن الشمس ردت لأجله بعد ما غربت عن علي رضي الله عنه وكانت العصر فاتته ورأى النبي صلى الله عليه وسلّم في حجره فقال : ( اللهم أنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس فطلعت بعد ما غربت ) وورد أن الشمس حبست له في قصة الإسراء حين أخبر بقدوم العير فأبطأت والقصتان في الشفا للقاضي عياض وقد تكلمت عليهما في تخريج أحاديثه .
مسألة : حديث ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ) هل له أصل في كتب الحديث ؟ .
الجواب : نعم هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث عقبة بن عامر ، والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري ، وعصمة بن مالك .
مسألة : في رجل بيده حجر بلور يقعد على الطرقات ويقول : الأحجار سلمت على النبي صلى الله عليه وسلّم وهذا الحجر من جنس الأحجار التي سلمت على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له رجل : كذبت هذا الحجر ما سلم على النبي صلى الله عليه وسلّم قال : من جنسه فأنكر ذلك فأيهما المخطىء والمصيب ؟ وهل الأحجار إذا سمعت صوت المصلي على النبي صلى الله عليه وسلّم هل تصلي عليه بلسان الحال كما ورد أن من كتب اسم النبي صلى الله عليه وسلّم في الورق بالصلاة عليه لا تزال تلك الأحرف تصلي ما دامت تلك الأحرف مكتوبة ؟ وهل ثبت أن الحجر سلم على النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ .
الجواب : ثبت من طرق صحيحة أن الأحجار سلمت على النبي صلى الله عليه وسلّم لكن البلور بخصوصه لم يرد فيه حديث ، ولم يرد في الحديث أن الأحجار إذان سمعت الصلاة عليه تصلي عليه ، ولا ورد أيضاً أن من كتب إسمه الشريف في الورق بالصلاة عليه تصلي عليه تلك الأحرف ، وإنما الوارد من صلى عليه في كتاب لم تزل الملائكة تصلى عليه أي على المصلي ما دام اسمه في ذلك الكتاب صلى الله عليه وسلّم .
مسألة : في خبر ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام . وعن ابن عباس أنه قال : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة . ما الجواب عن التعارض بين هذه الأخبار ؟ .
الجواب : إنما يطلب الجواب عن التعارض بين حديثين وهذان الحديثان غير ثابتين أما الثاني فباطل لا أصل له ، وأما الأول فورد بإسناد ضعيف جداً فلا نعول عليه ، والمعول عليه في ذلك الحديث الصحيح إن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وذلك شامل للأرزاق .
مسألة : في أخبار وردت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه احتجم في الأخدعين وبين الكتفين ، وقيل في الأخدعين والكاهل ، وقيل وهو محرم بمشلل على ظهرالقدم ، ما الجواب عن الأخدعين والكاهل وعن القول الثالث ؟ .(1/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
الجواب : الحديث الأول أخرجه أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم ثلاثاً في الأخدعين والكاهل قال صاحب النهاية : الأخدعان عرقان في جانبي العنق والكاهل مقدم أعلى الظهر ، وقال الجوهري في الصحاح : الأخدع عرق وهو شعبة من الوريد وهما أخدعان وربما وقعت الشرطة على أحدهما فينزف صاحبه . وأما الحديث الثاني فأخرجه ابن حبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به وفي رواية بمشلل وهو بضم الميم وفتح الشين وتشديد اللام الأولى وفتحها اسم موضع بين مكة والمدينة .
مسألة : فيما ورد عن بحيرا أنه بشر بالنبي صلى الله عليه وسلّم هل كانت تلك البشارة صادرة منه عن أيمان به حينئذ ؟ وهل مات بحيرا قبل البعثة أم بعدها ؟ وإذا مات قبل البعثة فهل مات مسلماً أم لا ؟ .
الجواب : بشارة بحيرا الراهب بالنبي صلى الله عليه وسلّم لما لقيه في سفره كانت قبل البعثة بدهر طويل ، ففي طبقات ابن سعد ، ودلائل أبي نعيم أن سنه صلى الله عليه وسلّم كان إذ ذاك اثنتي عشرة سنة . وفي رواية أخرجها ابن منده عشرين سنة ، وكان بحيرا على دين النصرانية وانتهى إليه علمها ، قال ابن حجر في كتاب الإصابة : ما أدري أدرك البعثه أم لا ، وقد ذكره ابن منده ، وأبو نعيم في كتابيهما في الصحابة ، وبالجملة فقد مات على دين حق وهو إن لم يكن أدرك البعثة فقد أدرك دين النصرانية قبل نسخه بالبعثة المحمدية .
مسألة : فيما جاءت به الرواية حين ولد النبي صلى الله عليه وسلّم وعطس أشمتته الملائكة لكونه عطس أو شمتته وما المشمت ومن الراوي أهي الشفاء أو غيرها وما نسبها ؟ .
الجواب : لم أقف في شيء من الأحاديث مصرحاً على أنه صلى الله عليه وسلّم لما ولد عطس وعلى أن الملائكة شمتته بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها كالطبقات لابن سعد ، ودلائل النبوة للبيهقي ، ولأبي نعيم ، وتاريخ ابن عساكر على بسطه واستيعابه ، وكالمستدرك للحاكم ونحوه . وإنما الحديث الذي روته الشفاء فيه لفظ يشبه التشميت لكن لم يرد فيه العطاس ، وهو ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق الزهري ، وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن جده عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء بنت عمرو بن عوف قالت : لما ولدت آمنة بنت وهب محمداً صلى الله عليه وسلّم وقع على يدي فاستهل فسمعت قائلاً يقول : رحمك الله ورحمك ربك الحديث ، والمعروف في اللغة أن الاستهلال هو صياح المولود أول ما يولد ، فإن أريد به هنا العطاس فمحتمل ، وحمل القائل المذكور على الملك طاهر ، وأما الشفاء فوقع في هذه الرواية أنها بنت عمرو بن عوف ، والذي ذكره ابن سعد في طبقاته أنها بنت عوف بن عبد الحرث بن زهرة بن كلاب أسلمت قديماً وهاجرت وماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله أعتق عن أمي ؟ فقال : ( نعم ) فأعتق عنها ، قال ابن سعد : فكان فيها سنة العتاقة عن الميت .
المسألة : أوردبعضهم في بعض الكتب حديثاً فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الحمى رائد(1/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
الموت ) ثم قال : ( أي طالبه ) فهل لهذا الحديث أصل وهل رائد بمعنى طالب كما ذكره ؟ أوله معنى آخر ؟ فإن كان بمعنى طالب فليس كل حمى مخوفة إذ فيها المخوف المؤدي إلى الموت وفيهاالغير المخوف ، وقوله : الحمى يشمل الكل ؟ .
الجواب : الحديث ضعيف أخرجه ابن السني في الطب النبوي ، قال ابن الأثير في معناه : أي رسول الموت الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه انتهى . وهذا المعنى لا ينافيه عدم استلزامه كل حمى للموت لأن الأمراض كلها من حيث هي مقدمات للموت ومنذرات به ، وإن أفضت إلى سلامة جعلها [ الله ] تذكرة لابن آدم يتفكر بها الموت ، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال : ما من مرض يمرضه العبد إلا رسول ملك الموت عنده حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد أتاه ملك الموت عليه السلام فقال : أتاك رسول بعد رسول فلم تعبأ به وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا . في آثار أخر بهذا المعنى . فوضح أن الأمراض كلها رسل للموت بمعنى أنها مقدماته ومنذرات به إلى أن يجيء في وقته المقدر فليس شيء من الأمراض موجباً للموت بذاته .
مسألة : ما الجواب عن قوله عليه السلام : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ) الحديث . وعن قوله في تعويذه الحسن ، والحسين : ( أعيذ كما بكلمات الله التامة من شر كل هام وهامة ) الحديث فإن الأول يدل على نفي الهام والثاني على وجوده فما التوفيق ؟ .
الجواب : الحديث الثاني لفظه : ( من كل شيطان وهامة ) والهامة بالتشديد واحدة الهوام وهي الحيات والعقارب وما شاكلها وأما الهامة المنفية في الحديث الأول فهي بالتخفيف شيء كانت العرب تزعمه لا وجود له في الخارج كانوا يقولون : إن القتيل إذا قتل يخرج له طائر يسمى الهامة فيقول : اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره ، ومنه قول الشاعر :
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
مسألة : حديث ( شفاء أمتي في ثلاث : آية من كتاب الله ، أو لعقة من عسل ، أو كأس من حجام ، أو لذعة من نار ) هل ورد لذعة من نار ؟ .
الجواب : نعم ورد لذعة من نار لكن لفظ الحديث : ( إن كان في أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي ) أخرجه البخاري من حديث جابر ، وروى البخاري من حديث ابن عباس : ( الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهي أمتى عن الكي ) . وروى البزار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم أو لعقة عسل ) هذه ألفاظ الحديث ، واللذعة بسكون الذال المنقوطة والعين المهملة بلا نقط هي الخفيف من حرق النار وليست بالغين المنقوطة والدال المهملة كما ينطق بها كثير من العوام .
مسألة : حديث : ( يا مقلب القلوب قلب قلوبنا على دينك ) هل ورد ؟ .
الجواب : لم يرد بلفظ قلب وهو مناف للمعنى المقصود إنما ورد : ( يا مقلب القلوب(1/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
ثبت قلبي على دينك ) رواه أحمد ، وغيره من حديث أسماء بنت يزيد ، والشيخان من حديث عائشة .
مسألة : ما يقوله بعض المداح على أنه حديث زينوا مجالسكم بالصلاة علي فإن صلاتكم تبلغني أو تعرض علي هل هو حديث ؟ وهل هو حسن أو صحيح أو ضعيف وما لفظه ؟ .
الجواب : هذا الحديث ضعيف أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ : ( زينوا مجالسكم بالصلاة علي فإن صلاتكم علي نور لكم يوم القيامة ) . وأما قوله : فإن صلاتكم تعرض علي أو تبلغني فقطعة من حديث آخر ثابت قوي أوله : ( صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) رواه الطبراني من حديث الحسن بن علي .
مسألة : هل ورد في فضل المغزل حديث ؟ .
الجواب : روى ابن عساكر في تاريخه من طريق يزيد بن مروان عن زياد بن عبد الله القرشي قال : ( دخلت على هند بنت المهلب بن أبي صفرة وهي امرأة الحجاج بن يوسف فرأيت في يدها مغزلاً تغزل فقلت : أتغزلين وأنت امرأة أمير ؟ قالت : سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم أطولكن طاقة أعظمكن أجراً وهو يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس ) .
وأخرج ابن عساكر من طريق موسى بن إبراهيم المروزي حدثنا مالك بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( عمل الأبرار من الرجال الخياطة ، وعمل الأبرار من النساء المغزل ) وموسى بن إبراهيم متروك . وأخرج ابن عساكر من طريق محمد ابن بكار السكسكي ثنا موسى بن أبي عوف ثنا العقيلي ثنا زياد أبو السكن قال : دخلت على أم سلمة وبيدها مغزل تغزل به فقلت : كلما أتيتك وجدت في يديك مغزلاً ؟ فقالت : إنه يطرد الشيطان ويذهب حديث النفس وإنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن أعظمكن أجراً أطولكن طاقة ) وقال الخطيب في التاريخ : أنا محمد بن الحسين بن الفضل القطان أنا عثمان ابن أحمد الدقاق ثنا سهل بن أحمد الواسطي ثنا عمرو بن علي قال : محمد بن زياد صاحب ميمون ابن مهران متروك الحديث كذاب منكر الحديث سمعته يقول : ثنا ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( زينوا مجالس نسائكم بالمغزل ) .
مسألة :
ما الجمع بين حديث صح في سند
عن أكرم الخلق والمبعوث من مضر
إن الولادة للمولود كائنة
بإذن خالقنا حقاً على الفطر
ووالداه بتهويد وما معه
يصرفاه كما قد جاء في الأثر
وبين ما صح في الآثار أن إذا
أراد رب العلا التخليق للبشر
فيأخذ الملك الماء المخلق في
يد يمرغه في ترب معتبر(1/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
يقول يا رب مخلوق وكيف به
مقدر الخلق من أنثى ومن ذكر
ما الرزق ما أجل ما الحال فيه وهل
يشقى ويسعد ما المحتوم في القدر ؟
من اين للأبوين الحكم فيه إذا
كان القضا ومضى حال على قدر
حقق لنا يا إمام العصر صورته
يا عالماً فاق أهل العلم والأثر
وحافظاًالمرء إن حانت منيته
وفارقت روحه جسماً من البشر
فهل يموتان أو للغير ينتقلا
يا ذا العلوم ورب الخبر والخبر
لا زال مجدك محروساً بأربعة
العز والنصر والإقبال والظفر
الجواب :
الحمد لله موصولاً مدى الدهر
ثم الصلاة على المبعوث من مضر
ما بين ذين تناف كل ذي سبب
وذي فعال جرى في سابق القدر
فيكتب الملك المأمور ما سبقت
به المقادير من رشد ومن خسر
فيولد المرء ذا رشد وتدركه
سوابق القدر المحتوم في الذكر
يسبب الله أسباب الضلال على
يدي أب أو لعين الجن والبشر
ألا ترى قاتل الأنسان ذا سبب
وكان في قدر هذا منتهى العمر
وحافظا المرء مهما مات يعتكفا
بقبره ذا كرين الله في الدهر
يسبحان بتهليل ويكتب ذا
لصاحب القبر هذا جاء في الأثر
ولا يموتان إلا عند نفخته
في الصور للصعق كالأملاك فادكر
وابن السيوطي قد خط الجواب لكي
يكون في الحشر ممن فاز بالظفر
مسألة :
ماذا جوابك يا بحر العلوم ويا
مجلي الهموم ومن في دهره برعا
في القهقري رجعة المختار من مضر
رسول رب العلا لما له وقعا
مع عمه حمزة ماذا المراد به
ما حكمة فيه يا من للورى نفعا ؟
أوضح لنا أمره من فضلكم لنرى
ما لم ير الآن في مصر ولا سمعا
لك النعيم غداً يوم الحساب فكم
أبديت من حجج كالبدر إذ طلعا
ثم الصلاة على من قد علا شرفاً
على الأنام وساد الكل فارتفعا
ما حن وحش إلى وكر وغرد في
خمائل الأيك قمري وقد سجعا(1/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
الجواب :
الحمد لله ما نجم الهدى طلعا
ثم الصلاة عليه سيد الشفعا
لعله كان من خوف الوثوب وقد
رآه في حالة لا تمنع الفزعا
أو كان مقصوده لحظاً يداومه
لكي يرى منه ما من بعده صنعا
أو كان مقصوده للناس تعلمة
كيف الرجوع لدى خوف فذا شرعا
أو كان ذا قبل نهي منه مرتجعا
عن قهقري فأتاه قبل ما وقعا
وقد يقال كنى الراوي بذلك عن
الرجوع للبيت لا بالطهر قد رجعا
هذي أمور تبدت قلت محتملا
ولم أر أحداً أبدى فأتبعا
مسألة : حديث : ( اللهم من أحببته فأقلل ماله وولده ) هل ورد فقد قيل إنه باطل ؟ .
الجواب : هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه ، والطبراني في الكبير عن عمرو ابن غيلان الثقفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك ما فأقلل ماله وولده وحبب إليه لقاءك وعجل له القضاء ، ومن لم يؤمن بي ويصدقني ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره ) وسنده صحيح إن صحت صحبة عمرو بن غيلان فإنه مختلف في صحبته ، وأبوه هو الذي أسلم على عشر نسوة فأمر أن يختار أربعاً وبقية رجاله ثقات ، وقد أورده الديلمي في مسند الفردوس ثم قال : وفي الباب عن معاذ بن جبل ، وفضالة بن عبيد .
قلت : ومن شواهده ما أخرجه سعيد بن منصور في كتاب السنن له قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( اللهم من أبغضني وعصاني فأكثر له المال والولد ، اللهم من أحبني وأطاعني فارزقه الكفاف ، اللهم ارزق آل محمد الكفاف ، اللهم رزق يوم بيوم ) ويناسبه ما أورده السلفي في الطيوريات من طريق علي بن الجعد عن شعبة عن منصور عن بعض أصحابه أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ادع لي فقال : اللهم أصح جسمه وأكثر ماله وأطل حياته .
مسألة : حديث : ( إن العين تسبق القضاء والقدر ) هل هو صحيح ؟ .
الجواب : لفظ الحديث : ( لو كان شيء سابق القدر سبقته العين ) هكذا أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس . وأخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس بلفظ : ( لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين ) . وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن جراد بلفظ : ( العين والنفس كادا يسبقان القدر ) .
مسألة : حديث من لم يكن له مال يتصدق به فليلعن اليهود فإنها له صدقة هل ورد ؟ .
الجواب : هذا الحديث أخرجه السلفي في الفوائد المسماة الطيوريات من طريق يحيى بن(1/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
خالد المخزومي قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن طلحة بن زادان المزني ثقة عن أبيه عن هشام بن عروة عن عائشة مرفوعاً : ( من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود ) [ ورواه ابن عدي في كامله من حديثها أيضاً ] وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي بكر محمد بن إسحاق بن يعقوب الطلحي عن سليم المكي عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً به ، [ ورواه أيضاً ابن حبيب أبي هريرة الخطيب ، البغدادي في تاريخه وكلا الطريقين ضعيف ] .
مسألة :
ماذا يقول الذي زادت مناقبه
على أكابرنا في العلم والأدب
فيمن روى أن خير الخلق سيدنا
رسول رب العباد الهادي العربي
قال الدراهم والدينار قد جعلا
خواتم الله في أرض لذي طلب
من جاء بالخاتم المذكور حاجته
تقضى ولم يعزه راويه للكتب
هل ذا صحيح وما معناه إن وردت
به الرواية أو قد صح في الكتب
جد بالجواب فقد أشفيت لي عللاً
نجيت دهرك من هم ومن نصب
ونلت جنة عدن يوم مبعثنا
بجاه خير الأنام الطاهر النسب
الجواب :
الحمد لله حمداً دائم الحقب
ثم الصلاة على خير الورى العربي
هذا الحديث رويناه له سند
رواته ضعفت فيما حكى الذهبي
في معجم الطبراني الأوسط انتظمت
فيه روايته يا منتهى الطلب
وصح في الحلية الغراء من طرق
يعل رفع بها وقفاً على وهب
بأنها خاتم تقضي المعايش لم
توضع لأكل إذا عدت ولا شرب
وابن السيوطي يرجو إذا أجاب بذا
في الحشر لمحة غفران بلا نصب
مسألة : في قوله صلى الله عليه وسلّم ، وشرف وكرم : ( حياتي خير لكم وموتي خير لكم ) فقد أشكل من جهة تنزيل المقصود منه على القواعد النحوية بناء على أن أفعل التفضيل يوصل بمن عند تجرده ووصله بها غير متأت بحسب الظاهر إذ يصير الكلام حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي وهو مشكل .
الجواب : إنما حصل الإشكال من ظن أن خيراً هنا أفعل تفضيل وليس كذلك فإن لفظة خير لها استعمالان : أحدهما أن يراد بها معنى التفضيل لا الأفضلية وضدها الشر وهي كلمة باقية على أصلها لم يحذف منها شيء ، والثاني أن يراد بها معنى الإفضلية وهي التي توصل بمن وهذه أصلها أخير حذفت همزتها تخفيفاً ويقابلها شر التي أصلها أشر قال في الصحاح :(1/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
الخير ضد الشر قال الشاعر :
فما كنانة في خير مخامرة
ولا كنانة في شر بأشرار
وتأنيث هذه خيرة وجمعها خيرات وهي الفاضلات من كل شيء ، قال تعالى : ) فيهن خيرات حسان ( أولئك لهم الخيرات ولم يريدوا به معنى أفعل ، فلو أردت معنى التفضيل قلت : فلانة خير الناس ولم تقل خيرة ولا تثنى ولا تجمع لأنه في معنى أفعل ، انتهى كلام الصحاح ، وقال الراغب في مفردات القرآن : الخير والشر يقالان على وجهين ، أحدهما : أن يكونا اسمين كقوله تعالى : ) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ( الثاني : أن يكونا وصفين وتقديرهما تقدير أفعل من نحو : هذا خير من ذاك وأفضل ، وقوله تعالى : ) فأت بخير منها ( ويحتمل الاسمية والوصفية معاً قوله تعالى : ) وأن تصوموا خير لكم ( وقال أبو حيان في تفسيره : الكثير في قوله تعالى : ] ) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ( [ ليس خير هنا ] أفعل تفضيل بل هي للتفضيل لا للأفضلية كما في قوله تعالى : ) أفمن يلقى في النار خير ( و ) خير مستقرا ( وفي قول حسان : فشر كما لخير كما الفداء ، انتهى . إذا عرف ذلك فخير في الحديث من القسم الأول وهي يراد بها التفضيل لا الأفضلية فلا توصل بمن وليست بمعنى أفعل ، وأنما المقصود أن في كل من حياته ومماته صلى الله عليه وسلّم خير لا أن هذا خير من هذا ولا أن هذا خير من هذا .
مسألة :
ماذا جواب إمام لا نظير له
في العصر كلا ولا في سالف الدهر ؟
في الحافظين على الإنسان إذ كتبا
هل بالمداد وحبر عد للبشر ؟
وكاغد يكتبا ما كان مع قلم
أولا كذلك يا من ضاء كالقمر
أثابكم ربكم جناته كرماً
بجاه خير الورى المبعوث من مضر
الجواب :
الله أحمد حمداً غير منحصر
ثم الصلاة على المختار من مضر
مداده الريق فيما قد أبى ولسا
ن الخلق أقلامهم قد جاء في الأثر
وفي الصحيفة كتب والبطاقة جا
من غير تعيين جنس صح في الخبر
مسألة : هل الشمع كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم أو الصحابة أو التابعين وهل الاستضاءة به مع أن غيره من الأدهان يقوم مقامه تعد إسرافاً ؟ .
الجواب : الشمع كان موجوداً من قديم من زمن الجاهلية قبل البعثة ، وقد ذكر العسكري(1/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
في الأوائل إن أول من أوقد له الشمع جذيمة بن مالك الأبرش وهو قبل البعثة النبوية بدهر وليس الاستصباح به إسرافاً لأنه لو كان كذلك لنهى عنه فإنه كان موجوداً في أيام النبي صلى الله عليه وسلّم فلما لم ينه عنه دل على أنه مباح ، بل ورد في حديث أنه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلّم عند دفنه عبد الله ذا البجادين ، وقد ألفت في المسألة مؤلفاً سميته مسامرة السموع في ضوء الشموع .
قطف الثمر في موافقات عمر
سئلت عن موافقات عمر رضي الله عنه فنظمت فيها هذه الأبيات :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله
على نبيه الذي اجتباه
يا سائلي والحادثات تكثر
عن الذي وافق فيه عمر
وما يرى أنزل في الكتاب
موافقاً لرأيه الصواب
خذ ما سألت عنه في أبيات
منظومة تأمن من شتات
ففي المقام وأسارى بدر
وآيتي تظاهر وستر
وذكر جبريل لأهل الغدر
وآيتين أنزلا في الخمر
وآية الصيام في حل الرفث
وقوله نساؤكم حرث يبث
وقوله لا يؤمنون حتى
يحكموك إذ بقتل أمتي
وآية فيها لبدر أو به
ولا تصل آية في التوبة
وآية في النور هذا بهتان
وآية فيها بها الاستئذان
وفي ختام آية في المؤمنين
تبارك الله بحفظ المتقين
وثلة من في صفات السابقين
وفي سواء آية المنافقين
وعددوا من ذاك نسخ الرسم
لآية قد نزلت في الرجم
وقال قولاً هو في التوراة قد
نبهه كعب عليه فسجد
وفي الأذان الذكر للرسول
رأيته في خبر موصول
وفي القرآن جاء بالتحقيق
ما هو من موافق الصديق
كقوله هو الذي يصلي
عليكم أعظم به من فضل
وقوله في آخر المجادلة
لا تجد الآية في المخالله
نظمت ما رأيته منقولاً
والحمد لله على ما أولى(1/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
مسألة : حديث : ( الغناء ينبت في القلب القسوة كما ينبت الماء البقل ) هل ورد ؟ .
الجواب : أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي من حديث ابن مسعود مرفوعاً بلفظ : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ) وزعم بعضهم أن لفظة الغنى بالقصر وأن المراد غنى المال الذي هو ضد الفقر ، وصوب بعض الحفاظ أنه بالمد وأن المراد به التغني ولهذا أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي ، واستدل لصحة هذا بأن ابن أبي الدنيا أخرج أيضاً من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفاً قال : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع ) فمقابلة الغناء بالذكر تدل على أن المراد به التغني .
مسألة : في مجيء المهدي من الغرب هل ورد فيه أثر يعتمد عليه ؟ وهل للقول بأنه موجود الآن بالمغرب صحة أو لا ؟ وهل مجيئه قبل نزول عيسى عليه السلام ؟ وهل نزول عيسى مؤقت بوقت ؟ وهل يقيم بالدنيا إذا نزل ويتزوج ويولد له ولدان يسمى أحدهما محمداً والآخر أبا موسى . ويدفن بإزاء النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ وهل المقالة الحاصلة بين الناس إنه ينزل بالشام بالجامع الأموي ؟ وأن بغلة تشد له كل جمعة انتظاراً لنزوله لها صحة أم لا ؟ وهل نزوله قبل يأجوج ومأجوج أو بعده ؟ وما طول يأجوج ومأجوج ؟ ومن أين خروجهم وما مقدار إقامتهم ؟ وما صفة الدابة التي تخرج في آخر الزمان ؟ ومن أين خروجها وأين تصل ؟ وهل ذلك قبل نزول عيسى أو بعده ؟ وهل الحور العين والملائكة يموتون أو لا ؟ ومن يتولى قبض أرواحهم ؟
الجواب على سبيل الاختصار : الأحاديث في المهدي مختلفة وكذلك العلماء ، ففي بعضها : ( لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ) وأكثر الأحاديث على أنه غيره . وأنه من أهل البيت ثم في بعضها أنه من ولد فاطمة . وفي بعضها أنه من ولد العباس . وبعض العلماء حمله على المهدي ثالث خلفاء بني العباس تولى الخلافة في القرن الثاني ؛ والذي ترجح عندي من أكثر الأحاديث أنه غيره . وأنه خليفة يقوم في آخر الزمان . وأنه من ولد فاطمة وقد ثبت في أحاديث أنه يخرج من قبل المشرق . وأنه يبايع له بمكة بين الركن والمقام . وأنه يدخل بيت المقدس . وأنه يمكث سبع سنين . وأن يملأ الأرض عدلاً ، وفي بعض الروايات بسند ضعيف أن الناس يقتتلون على الملك فينادي مناد من السماء أميركم فلان فيبايعون له ، ولم يقع شيء من ذلك إلى الآن فبطل قول من قال : إنه موجود الآن بالمغرب ، وفي الأحاديث أن عيسى عليه السلام ينزل في حياته فيسلم المهدي الأمر له . ونزول عيسى عليه السلام مؤقت بوقت وهو خروج الدجال فإنه ينزل في أيامه ويقتله ، وورد في الحديث أنه يمكث سبع سنين وفي رواية أربعين سنة وأنه يتزوج ويولد له ويحج له ويدفن عند النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولم ترد تسمية ولده ، وفي الحديث أيضاً أنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق . وأما شد البغلة كل جمعة فلا أصل له ، ونزوله قبل يأجوج ومأجوج فإنهم يخرجون في أواخر أيامه . وأما طول يأجوج ومأجوج ففي أثر أخرجه ابن المنذر عن ابن(1/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
عباس موقوفاً أنهم شبر وشبران وثلاثة أشبار . وفي حديث ضعيف مرفوع أخرجه الطبراني أنهم أصناف صنف منهم طول الأرز مائة وعشرون ذراعاً . وصنف منهم يفترش بأذنه ويلتف بالأخرى ، وأما خروجهم فمن خلف السد أقصى بلاد الترك ، وفي الحديث أن مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، وأما مدة إقامتهم فيسيرة فإنهم يخرجون في زمن عيسى ويهلكون في زمنه ، وأما صفة الدابة فذات زغب وريش لها أربعة قوائم ومسافة ما بين أذنيها مسيرة فرسخ للراكب وخروجها من صدع في الصفا بمكة وفي رواية من بعض أودية تهامة فتدور الأرض بأسرها ، واختلفت الأحاديث هل خروجها قبل نزول عيسى أو بعده . وأما الحور العين والوالدان وزبانية النار فلا يموتون وهم ممن استثنى الله تعالى في قوله إلا من شاء الله وأما الملائكة فيموتون بالنصوص والإجماع ويتولى قبض أرواحهم ملك الموت ويموت ملك الموت بلا ملك الموت . هذا ما يتعلق بالأسئلة على وجه الاختصار ، وسرد الأدلة في ذلك والأحاديث يحتمل كراريس كثيرة والله أعلم .
مسألة : في الحديث أن الطاعون وخز اخوانكم من الجن فكيف يتصور وقوع هذا الأمر من الأخوان وكيف سموا في هذا الحديث إخواناً ، وكذا في حديث العظم وليسوا من بني آدم ، وهل ورد في الحديث بلفظ وخز أعدئكم ؟ وكيف يكون شهادة مع أنه صلى الله عليه وسلّم استعاذ منه ؟ وهل وجد أدعية تمنع منه ؟ وهل لقول من قال : إنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يؤلف صحة أم لا ؟ .
الجواب : المحفوظ في الحديث : ( وخز أعدائكم من الجن ) هكذا أخرجه الإمام أحمد ، والبزار ، وأبو يعلى في مسانيدهم ، والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري ، وأخرجه الطبراني أيضاً من حديث ابن عمر ، وأخرجه أبو يعلى من حديث عائشة كلهم : ( بلفظ أعدائكم ) ولم يقع في شيء من طرق الحديث بلفظ إخوانكم ، قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : يقع في ألسنة الناس بلفظ وخز إخوانكم ولم أره في شيء من طرق الحديث بعد التتبع الطويل التام لا في الكتب المشهورة ولا في الأجزاء المنثورة فزال الإشكال المذكور . وأما تسميتهم إخواناً في حديث العظم فباعتبار الإيمان فإن الإخوة في الدين لا تستلزم الاتحاد في الجنس ، وأما قول السائل إنه صلى الله عليه وسلّم استعاذ منه فليس كذلك ولا ورد في شيء من الأحاديث أنه استعاذ منه ، بل الوارد أنه صلى الله عليه وسلّم دعا به وطلبه لأمته ، ففي الحديث عن أبي بكر الصديق قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ( اللهم طعناً وطاعوناً ) أخرجه أبو يعلى ، وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل ( قال : إن الطاعون شهادة ورحمة ودعوة نبيكم قال أبو قلابة : فعرفت الشهادة وعرفت الرحمة ولم أدر ما دعوة نبيكم حتى أنبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينما هو ذات ليلة يصلي إذ قال في دعائه : فحمى إذن وطاعوناً ثلاث مرات فلما أصبح قال له إنسان من أهله : يا رسول الله قد سمعتك الليلة تدعو بدعاء ؟ قال : وسمعته قال نعم(1/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
قال : ( إني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يسلط عليهم عدواً غيرهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض فأبى علي فقلت فحمى إذن أو طاعوناً ثلاث مرات ) وأخرج أحمد ، والطبراني عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( اللهم [ اجعل ] فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون ) وللحديث طرق أخرى صريحة في أنه دعا به لا أنه استعاذ منه ولم يرد دعاء يمنع منه ولا شيء أصلاً ، ولم يرد حديث بأنه صلى الله عليه وسلّم يؤلف تحت الأرض أولا يؤلف .
مسألة : وردت نظماً :
أظن الناس بالآثام باؤوا
فكان جزاؤهم هذا الوباء
أسيد من له قانون طب
بحيلة برئه يرجى الشفاء ؟
أآجال الورى متقاربات
بهذا الفصل أم فسد الهواء ؟
أم الأفلاك أوجبت اتصالاً
به في الناس قد عاث الفناء ؟
أم استعداد أمزجة جفاها
جميل الطبع واختلف الغذاء ؟
أم اقتربت على ما تقتضيه
عقائدنا فللز من انقضاء ؟
أفدنا ما حقيقة ما تراه
فما الأذهان أحرفها سواء
وقل ما صح عندك عن يقين
بحق لا يعارضه رياء
فإني غير مفش سر حبر
من المتشرعين به حياء
ولا تخل الأحبة من دعاء
فمنك اليوم يلتمس الدعاء
الجواب :
بحمد الله يحسن الابتداء
وللمختار ينعطف الثناء
سألت فخذ جوابك عن يقين
فما أوردت عندهم هباء
فما الطاعون أفلاكاً ولا إذ
مزاج ساء أو فسد الهواء
رسول الله أخبر أن هذا
بوخز الجن يطعننا العداء
يسلطهم إله الخلق لما
بهم تفشو المعاصي والزناء
يكون شهادة في أهل خير
ورجساً للأولى بالشر باؤوا
أتانا كل هذا في حديث
صحيح ما به ضعف وداء
ومن يترك حديثاً عن نبي
كما قال الفلاسفة الجفاء
فذلك ماله في العقل حظ
ومن دين النبي هو البراء(1/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
وناظمه ابن الأسيوطي يدعو
بكشف الكرب إن نفع الدعاء
مسألة : في الحديث الذي ورد : لما أنزل الله ) ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( بكى عمر وقال : يا رسول الله آمنا بك وصدقناك ومن ينجو منا قليل ؟ فأنزل الله : ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر فقال : قد أنزل الله فما قلت : فقال عمر : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من آدم إلينا ثلة ومني إلى يوم القيامة ثلة فلا يستتمها إلا أسودان من رعاة الإبل ممن قال : لا إله إلا الله ) .
الجواب : هذا الحديث أورده الواحدي في أسباب النزول مقطوعاً هكذا بلا إسناد ، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير بسنده عن عروة بن رويم مرفوعاً مرسلاً ، ووصله ابن عساكر في تاريخ دمشق فأخرجه من طريق هشام بن عمار عن عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم ( قال : لما نزلت : ) إذا وقعت الواقعة ( ذكر فيها : ) ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( قال عمر : يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا ، قال : فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله : ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( ( ألا وإن من آدم إلى ثلة وأمتي ثلة ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) فقوله : بالسودان هو جمع أسود وكذا قوله في السؤال : إلا سودان هي إلا التي للاستثناء ، وسودان جمع أسود وليس تثنية أسود معرفاً كما ظن .
مسألة : فيما نقله الإمام الغزالي في الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة من فتنة الموت وذلك أن إبليس لعنه الله وكل أعوانه واستعملهم بالميت فيأتونه على صفة أبويه على صفة اليهودية فيقولان له مت يهودياً ، فإن انصرف عنهم جاء أقوام آخرون على صفة النصارى حتى يعرض عليه كل عقائد كل ملة ، فمن أراد الله هدايته أرسل إليه جبريل فيطرد الشيطان وجنده فيبتسم الميت ويقول : من أنت الذي من الله علي بك في دار غربتي ؟ فيقول : أنا جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين مت على الملة الحنيفة والشريعة المحمدية فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك وهو معنى قوله تعالى : ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( وقال رجل : الدرة الفاخرة موضوعة على الغزالي وليس لها محل من الاحياء وأن جبريل لم ينزل إلى الأرض بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، واحتج له بحديث رواه عن أبي هريرة أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول : كيف تجدك ؟ قال : أجدني يا أمين الله وجعاً من هذا معك ؟ قال : ملك الموت وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك وآخر عهدك بها ولن آسى على شيء هالك من بني آدم بعدك ولن أهبط إلى الأرض بعدك لأحد أبداً فهل الدرة موضوعة على الغزالي أم لا ؟ وهل الحديث المعارض له صحيح أم لا ؟ وهل جبريل ينزل لعيسى ابن(1/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
مريم عند نزوله من السماء أم لا ؟ وهل يرد كلام الغزالي بالحديث المعارض أم لا ؟ .
الجواب : أما المذكور أولاً من فتنة الموت إلى آخره فلم أقف عليه في الحديث هكذا وإنما ورد ما يقرب منه : فأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث واثلة بن الأسقع ( عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله وبشروهم بالجنة فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع وأن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع ) وأخرج الحارث ابن أبي أسامة في مسنده من مرسل عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( معالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف وما من مؤمن يموت إلا وكل عرق منه يألم على حدة وأقرب ما يكون عدو الله منه تلك الساعة ) مرسل جيد الإسناد وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت من طريق آخر مرسلاً نحوه ، فهذا ما وقفت عليه من الأحاديث الدالة عى حضور الشيطان عند الموت ، وأما حضور جبريل فأخرج الطبراني في الكبير عن ميمونة بنت سعد ( قالت : قلت : يا رسول الله أينام الجنب ؟ قال : ( ما أحب أن ينام حتى يتوضأ إني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل ) دل هذا الحديث بمفهومه على أن جبريل عليه السلام يحضر الموتى خصوصاً من كان على طهارة ، واستفدنا منه أن طهارة الجنابة كافية في حضوره وأنه لا يشترط طهارة الحدث الأصغر ، وإن الجنب إذا توضأ يرجى له الاكتفاء بذلك وحضوره ، وأما قول من قال : إن الدرة الفاخرة موضوعة على الغزالي فليس كما قال : فقد نسبها إليه الأكابر منهم القرطي في التذكرة ، وينقل منها الصفحة والورقة بحروفها ومنهم خاتمة الحفاظ أبو الفضل بن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير نعم الدرة الموجودة الآن مشتملة على ألفاظ ركيكة وأشياء غير مستقيمة الإعراب والذي يظهر أن ذلك من تغيير النساخ لكثرة تداول أيدي العوام عليها فزادوا فيها ونقصوا وحرفوا وغيروا ، وقد نقل الحافظ ابن حجر في التخريج عنها شيئاً ليس موجوداً فيها الآن فكأنه مما أسقطه النساخ وقد أمليت عليها تخريجاً في خمسين مجلساً في سنة أربع وسبعين حررت فيه ما وقع فيها من الأحاديث والآثار وبينت ماله أصل ومالا أصل له . وأما حديث الوفاة وقول جبريل هذا آخر وطئتي بالأرض فضعيف جداً ولو صح لم يكن فيه معارضة لأنه يحمل على أنه آخر عهده بإنزال الوحي .
وأما نزوله ليلة القدر مع الملائكة فذكره جماعة من المفسرين في قوله تعالى : ) تنزل الملائكة والروح فيها ( قالوا : المراد بالروح جبريل ، وروى فيه من حديث أنس مرفوعاً ( إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من السماء يصلون ويسلمون على كل قائم أو قاعد يذكر الله تعالى ) .
وأما نزوله على عيسى عليه السلام فأخرج مسلم صحيحه من حديث النواس بن سمعان(1/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
قال : ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدجال فذكر الحديث في قصة الدجال ونزول عيسى وقتله اياه قال : ( فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لي لايدان لأحد في قتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج ) الحديث فقوله : أوحى الله إلى عيسى ظاهر في نزول جبريل إليه ، وأما قوله : وهل يرد كلام الغزالى بالحديث المعارض ؟ فقد تبين أنه لا معارضة لعدم صحة الحديث أصلاً ثم يحمله على ما ذكرناه كما تقدم .
مسألة : ما معنى قوله : ولا ينفع ذا الجد منك الجد ؟
الجواب : الجد بفتح الجيم على الصحيح المشهور ومعناه فيما ذكره الخطابي الغنى ، وفيما ذكر غيره الحظ قال الخطابي : و ( من ) هنا بمعنى البدل والمعنى لا ينفع صاحب الغنى غناه بذلك ، وقال الجوهري في الصحاح : ( منك ) هنا بمعنى عندك أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه إنما ينفعه العمل الصالح ، وقال ابن التين : الصحيح عندي أنها ليست بمعنى البدل ولا بمعنى عند بل هو كما تقول : لا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء ، وأوضحه ابن دقيق العيد فقال : ينفع هنا قد ضمن معنى يمنع وما قاربه ، و ( من ) متعلق به بهذا الاعتبار ولا يجوز تعلقه بالجد لأن الجد منه تعالى نافع انتهى ، وعلى هذا ( فمن ) للتعدية أو لابتداء الغاية ، ومن الغريب ما حكاه الراغب أن المراد بالجد هنا أبو الأب أي لا ينفع أحداً نسبه ، وأغرب منه ما حكاه القرطبي عن أبي عمرو الشيباني أنه الجد بكسر الجيم وأن معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده وأنكره الطبري ، ووجه القزاز إنكاره بأن الاجتهاد في العمل نافع لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك فكيف لا ينفع عنده قال : ويحتمل أن يكون المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة ، وقال غيره : لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده مالم يقارنه القبول وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته كما ورد : ( لن يدخل أحدكم الجنة عمله ) وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإسراع في الهرب ، قال النووي : الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان ، والمعنى : لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك .
مسألة :
ماذا الجواب من البحر المفيد لنا
في مشكل وإليه يهرع البشر ؟
عند الحوادث أن قال الأكابر لا
تفتى وقصر منهم من له نظر
في الكاس والطاس والساقي وشاربهم
وفي النديم وقول قاله عمر
أعني به العالم المعروف نسبته
لفارض قبره بالسحب منهمر
في سقيه من حميا كأس خمرته
ما الصفو ما سقيه ما الكاس ما الخمر ؟
وأهل مكة قالوا في سؤالهم
بالهاشمي المصطفى لما له حضروا
قبيل خلق السما والأرض أين ثوى
إلهك الحق يا مختار يا طهر ؟(1/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
أجابهم في عماء كان وهو كذا
ما هو العماء وما معناه يا مهر ؟
ومن توالد مختوناً وعدتهم
في الأنبياء سوى طه وهل حصروا ؟
بالفضل منك أجب هذا السؤال بدا
قدماً تصوره بالنقل مشتهر
بين الأكابر لكن لا جواب لهم
عليه ياعالماً ألفاظه درر
وحاز كل فخار بالعلوم وقد
أضحت به مصر تزهو ثم تفتخر
الجواب : أما قول ولي الله الشيخ [ العارف بالله تعالى ] عمر بن الفارض فلا نتكلم عليه بل من أراد أن يعرف معناه فليجع جوعه ويسهر سهره يعرف معناه ، وأما الحديث فهو من المتشابه الذي لا يخاض في معناه ، قال أبو عبيد في غريب الحديث : لا ندري كيف كان ذلك العماء وقيل هو كل أمر لاتدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن ، وقال الأزهري : نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة ، وأما من خلق مختوناً من الأنبياء فسبعة عشر آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وسام ، ولوط ، ويوسف ، وموسى ، وشعيب ، وسليمان ، وهود ، وصالح ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وحنظلة بن صفوان ، وخاتمهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم .
مسألة : هل ورد النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : ( اللهم من دعوت عليه بشيء أو سببته أو نحو ذلك فاجعله رحمة له ) وما التوفيق بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلّم : ( اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق اللهم عليه ) فإنه ينحل ويؤل إلى الدعاء لهم لا عليهم وهو لا يدعو لمن يؤذي المسلمين ويشق عليهم ؟ .
الجواب : الحديث صحيح أخرجه الشيخان بلفظ : ( اللهم إني أتخذ عندك عهداً أن لا تخلفنيه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته أو سبته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة وصلاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ) وأخرج أحمد في مسنده بسند صحيح عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دفع إلى حفصة رجلاً وقال : احتفظي به فغفلت عنه ومضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : قطع الله يدك ففزعت فقال : ( إني سألت ربي تبارك وتعالى أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة ) قال ابن العاص من أصحابنا ، وتبعه إمام الحرمين : من خصائصه صلى الله عليه وسلّم أنه يجوز له الدعاء على من شاء بغير سبب ويكون فيه من الفوائد ما أشار إليه في الحديث ، وبهذا يعرف أنه لا تنافي بين هذا الحديث والحديث المذكور في السؤال لأن الدعاء على الوالي إذا شق ونحوه دعاء بسبب فلم يدخل في ذلك الحديث . وأيضاً فالمقصود بالأول الدعاء على معين وهذا على مبهم .
مسألة : ( أذبيوا طعامكم بذكر الله والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم ) هل هو وراد ؟ وقد ذكر الشيخ نجم الدين الكبرا أن الذكر يقطع لقيمات الحرام هل له محمل ؟ وهل هو جار على القواعد أم لا ؟ .
الجواب : الحديث المذكور وارد أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط ، وابن السني في(1/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
عمل يوم وليلة من حديث عائشة مرفوعاً ، وماذكره الشيخ نجم الدين الكبرا جار على القواعد ومحمله على لقيمات يسيرة كما أشار إليه الشيخ بقوله لقيمات بالتصغير يأكلها الإنسان في وقت غلبة الحرام على الدنيا كما في زماننا هذا فإن ذلك يباح له من حيث الشرع كما نص عليه ابن عبد السلام وغيره أنه لوعم الحرام الدنيا جاز للمسلم أن يأكل منه قدر القوت كما يباح للمضطر أكل الميته ، وفي معناه قيل : لو كانت الدنيا دماً عبيطاً كان قوت المؤمن منها حلالاً ومع كونه مباحاً من حيث الشرع فإنه يورث ظلمة في القلب ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ( فالذكر ينوره ويمحق تلك الظلمة ، كما أن الدواء يذهب الأخلاط المتولدة من الغذاء المذموم ويقطعها ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( .
مسألة : حديث ( مر بجنازة فأثنى عليها خيراً فقال : وجبت ) إلى آخره هل هو صحيح يعمل بظاهره ؟ وهل يكون ثناء اثنين أو أكثر موجباً للجنة أو النار بحسب الثناء أو العبرة بثناء الأكثر ؟ .
الجواب : الحديث صحيح والعمل بظاهره بشرط أن يكون الثناء من عدل خير صالح للتزكية ، كذا حمل العلماء الحديث وليس ثناء من ذكر موجباً لذاته بل علامة على ما عند الله للعبد بإخبار الصادق المصدوق ولا يحتاج إلى ثناء الأكثر بل ثناء الاثنين كاف ورد به الحديث [ وفي حفظي أن ورد في بعض الطرق أنه يكفي ثناء الواحد أيضاً ولا يحضرني الآن من خرجه لأني كتبت هذه الأحرف على عجل ] .
مسألة : فيما ورد البيهقي عن أبي الضحى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى ) ومن الأرض مثلهن ( قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم ، ثم قال : هذا الحديث إلى ابن عباس صحيح إلا أني لا أعلم لأبي الضحى متابعاً فإذا كان الأمر كذلك فهل هؤلاء المذكورون من البشر أو من الجن أو خلق آخر ؟ وهل كل واحد منهم كان مقارنا لمثله من أنبياء البشر في الزمان أم كيف الحال ؟ .
الجواب : هذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان وقال : إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة ، وهذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن ، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما تقرر في علوم الحديث لاحتمال أن يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ أو علة تمنع صحته ، وإذا تبين ضعف الحديث أغنى ذلك عن تأويله لأن مثل هذا المقام لا تقبل فيه الأحاديث الضعيفة ، ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي بلغ عنه .
مسألة : هل تنام الملائكة ؟
الجواب : ظاهر قوله تعالى : ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( أنهم(1/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
لا ينامون ، ثم رأيت في الحديث ما يشهد لذلك قال ابن عساكر في تاريخه : أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين ، وأبو طاهر محمد بن الحسين قالا : أنا أبو علي الأهوازي ثنا عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر ثنا أبو الفتح المظفر بن أحمد بن برهان المقري ثنا أبو بكر محمد بن أيوب الداراني ثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني ثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة ابن علاق قال : سمعت عروة بن رويم اللخمي يقول : حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن الملائكة قالوا : ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم فجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويأتون النساء ويركبون الداوب وينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئاً فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال عز وجل : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان ) ؟
مسألة : هل ورد في الدعاء المأثور : اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تجعلني في حرزك وحفظك وجوارك وتحت كنفك ؟
الجواب : أخرج الطبراني عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عباس يدعو فذكره ولم أقف عليه مرفوعاً .
مسألة : هل ورد تسريح اللحية شيء وهل يقرأ عند تسريحها شيئاً ؟
الجواب : ورد في تسريح اللحية أحاديث أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سهل بن سعد قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر [ القناع يعني ] التطيلس ويكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء ) وأخرج الترمذي في الشمائل من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ) ، وأخرج الخطيب في الجامع من حديث الحسن مرسلاً : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يسرح لحيته بالمشط ) . وأما القراءة عند تسريحها فلم يرد في ذلك حديث ولا أثر .
مسألة : في حديث من صلى علي واحدة أمر الله سبحانه وتعالى الحفظة أن لا تكتب عليه سيئة ثلاثة أيام هل ورد ؟
الجواب : لم أقف على هذا الحديث في شيء من الكتب المعتبرة .
إعمال الفكر في فضل الذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : في الذكر والتسبيح والدعاء هل هو معادل للصدقة ويقوم مقامها في دفع البلاء ؟
الجواب : الأحاديث والآثار صريحة في ذلك وفي تفضيله على الصدقة ، وأما كونه سبباً لدفع البلاء فهو أمر لامرية فيه ، فقد وردت أحاديث لا تحصى في أذكار مخصوصة من قالها عصم من البلاء ، ومن الشيطان ، ومن الضر ، ومن السم ، ومن لذعة العقرب ، ومن أن يصيبه شيء يكرهه ، وكتاب الأذكار للشيخ محي الدين النووي مشحون بذلك وكذا كتاب الدعاء للطبراني ، وللبيهقي فلا معنى للإطالة بذلك ، وقد صح في لا حول ولا قوة إلا بالله(1/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
أنها تدفع سبعين باباً من الضر أدناها الفقر . وفي رواية أدناها الهم ، وأخرج الحاكم وصححه عن ثوبان مرفوعاً : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) ، وأخرج الحاكم أيضاً من حديث عائشة مرفوعاً : ( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ) وأخرج مثله من حديث ابن عمر . وأخرج أبو داود ، وغيره عن ابن عباس مرفوعاً : ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب ) وأخرج ابن أبي شيبة عن سويد بن جميل قال : من قال : بعد العصر لا إله إلا الله له الحمد وهو على كل شيء قدير قاتلن عن قائلهن إلى مثلها من الغد ، وأخرج إسحاق بن راهوية في مسنده من طريق الزهري قال : أتى أبو بكر الصديق بغراب وأفر الجناحين فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجةإلا بقلة التسبيح ) وأخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة من طريق ابن عون بن مهران عن أبي بكر موقوفاً ، وأخرج أبو نعيم في الحلية مثله من حديث أبي هريرة ، وأبو الشيخ في العظمة نحوه من حديث أبي الدرداء مرفوعاً : ( ما أخذ طائر ولا حوت إلا بتضييع التسبيح ) ومن حديث أنس مرفوعاً : ( آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها ) . ومن حديث يزيد بن مرثد مرفوعاً : ( لا يصاد شيء من الطير والحيتان إلا بما يضيع من تسبيح الله ) .
وأما تفضيل الذكر على الصدقة ففيه أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة ، فمن الموقوفة ماأخرجه الحاكم ، والترمذي عن أبي الدرداء مرفوعاً : ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله ) وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً ، قلت يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله : قال : ( لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة ) . وأخرج الحاكم عن البراء مرفوعاً : ( من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات فهو كعتق نسمة ) . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق أنس مرفوعاً : ( لأن اقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن اعتق أربعة من ولد إسماعيل ) .
ففي هذين عدل الذكر بالعتق وتفضيله عليه . ومن الموقوفات ، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود قال : ( لأن أسبح تسبيحات أحب إلي من أن أنفق بعددهن دنانير في سبيل الله ) وأخرج عنه قال : ( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي من أن أتصدق بعددها دنانير ) وأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ( لأن أقول(1/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر إليّ من أن أحمل على عدتها من خيل بأرسانها ) . وأخرج عن ابن عمر قال : ( ذكر الله بالغداة والعشي أعظم من حطم السيوف في سبيل الله وإعطاء المال سحاً ) وأخرج عن أبي الدرداء قال : ( لأن أسبح مائة تسبيحة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة دينار على المساكين ) وأخرج عن معاذ بن جبل قال : لو أن رجلين أحدهما يحمل على الجياد في سبيل الله والآخر يذكر الله لكان الذاكر أعظم وأفضل أجراً ) وأخرج عنه قال : ( لأن اذكر الله من غدوة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أحمل على الجياد في سبيل الله ) . وأخرج عن عبادة بن الصامت مثله ، وأخرج عن سلمان الفارسي قال : ( لو بات رجل يعطي القيان البيض وبات آخر يقرأ القرآن أو يذكر الله لرأيت أن ذاكر الله أفضل ) . وأخرج عن ابن عمر وقال : ( لو أن رجلين أقبل أحدهما من المشرق والآخر من المغرب مع أحدهما ذهب لايضع منه شيئاً إلا في حق والآخر يذكر الله حتى يلتقيا في طريق كان الذي يذكر الله أفضلهما ) فهؤلاء سبع صحابة صرحوا بتفضيل الذكر على الصدقة ، ومن أقوال غير الصحابة أخرج ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص قال : ( لتسبيحه في طلب حاجة خير من لقوح صفي في عام أزبة أو لزبة ) . وأخرج عن أبي بردة قال : ( لو أن رجلين أحدهما في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله كان ذاكر الله أفضل ) والآثار في هذا المعنى كثيرة وفيما أوردناه كفاية .
ومما استدل به على تفضيل الذكر على سائر العبادات أنه لم يرخص في تركه في حال من الأحوال أخرج ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال : ( افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونوا عند الضراب بالسيوف فقال : ) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ( ) والله أعلم .
نتيجة الفكر في الجهر في الذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى . وسلام على عبادة الذين اصطفى ، سألت أكرمك الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حلق الذكر والجهر به في المساجد ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه أولا ؟ .
الجواب : أنه لا كراهة في شيء من ذلك ، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر ، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به ، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن [ والأحاديث ] الواردة باستحباب الإسرار بها وها أنا أبين ذلك فصلاً فصلاً .(1/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزاماً
الحديث الأول : أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منه ) والذكر في الملاً لا يكون إلا عن جهر .
الحديث الثاني : أخرج البزار ، والحاكم في المستدرك وصححه عن جابر قال : ( خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ( يا أيها الناس إن لله سراياً من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة ) ، قالوا : وأين رياض الجنة ؟ قال : ( مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله ) .
الحديث الثالث : أخرج مسلم ، والحاكم واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن لله ملائكة سيارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء فيقول الله : من أين جئتم ؟ فيقولون جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك ، فيقول : ما يسألون وهو أعلم ؟ فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا يا رب ، فيقول : فكيف لو رأوها ؟ ثم يقول : ومم يستجيروني وهو أعلم بهم ؟ فيقولون من النار ، فيقول : وهل رأوها فيقولون لا ، فيقول : فكيف لو رأوها ، ثم يقول : أشهدوا أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوني وأجرتهم مما استجاروني ، فيقولون : ربنا إنا فيهم عبداً خطاء جلس إليهم وليس منهم ، فيقول : وهو أيضاً قد غفرت له هم القوم لا يشقي بهم جليسهم ) .
الحديث الرابع : أخرج مسلم ، والترمذي عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهماقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
الحديث الخامس : أخرج مسلم ، والترمذي عن معاوية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده ، فقال : ( إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ) .
الحديث السادث : أخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) .
الحديث السابع : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون ) مرسل ، ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن ذلك إنما يقال عند الجهر دون الإسرار .
الحديث الثامن : أخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ) قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : ( حلق الذكر ) .(1/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
الحديث التاسع : أخرج بقي بن مخلد عن عبد الله بن عمرو : ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم مر بمجلسين أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه والآخر يعلمون العلم فقال : ( كلا المجلسين خير وأحدهما أفضل من الآخر ) .
الحديث العاشر : أخرج البيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات ) .
الحديث الحادي عشر : أخرج البيهقي عن أبي سعد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( يقول الرب تعالى يوم القيامة : سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم فقيل ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : مجالس الذكر في المساجد ) .
الحديث الثاني عشر : أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم لله ذاكر ؟ فإن قال نعم استبشر ثم قرأ عبد الله : ) لقد جئتم شيئاً إذاً تكاد السموات يتفطرن منه ( ، الآية ، وقال : أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير ؟ .
الحديث الثالث عشر : أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله : فما بكت عليهم السماء والأرض ، قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال : إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض عبد الله المؤمن مات فتبكي عليه الأرض والسماء فيقول الرحمن : ما يبكيكما على عبدي ؟ فيقول ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك . وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به .
الحديث الرابع عشر : أخرج البزار ، والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( قال الله تعالى : عبدي إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر ) .
الحديث الخامس عشر : أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال : قال ابن الأدرع : ( انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة فمر برجل في المسجد يرفع صوته قلت : يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائياً ؟ قال : ( لا ولكنه أواه ) وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لرجل يقال له ذو البجادين ، إنه أواه وذلك أنه كان يذكر الله ) ، وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل : لو أن هذا خفض من صوته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( دعه فإنه أواه ) .
الحديث السادس عشر : أخرج الحاكم عن شداد بن أوس قال : ( إنا لعند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ قال : ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله ففعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد ثم قال : أبشروا فإن الله قد غفر لكم ) .(1/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
الحديث السابع عشر : أخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم فيقول الله تعالى : غشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ) .
الحديث الثامن عشر : أخرج الطبراني ، وابن جرير عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في بعض أبياته : ) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ( الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد فلما رآهم جلس معهم وقال : ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ) .
الحديث التاسع عشر : أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال : ( كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وسلّم فكفوا فقال : ما كنتم تقولون ؟ قلنا : نذكر الله ، قال : إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ثم قال : الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ) .
الحديث العشرون : أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له : ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة ؟ قال : بلى ، قال : عليك بمجالس الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله ) .
الحديث الحادي والعشرون : أخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي ، والأصبهاني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا ومافيها ) .
الحديث الثاني والعشرون : أخرج الشيخان عن ابن عباس قال : إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .
الحديث الثالث والعشرون : أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف أُلف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبنى له بيتاً في الجنة ) . وفي بعض طرقه : ( فنادى ) .
الحديث الرابع والعشرون : أخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه عن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( جاءني جبريل فقال : مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير ) .
الحديث الخامس والعشرون : أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبد الله بن عمر ، وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران لا يأتيان السوق إلا(1/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
لذلك ، وأخرج أيضاً عن عبيد بن عمير قال : كان عمر يكبر في قبته فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً . وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال : أدركت الناس وأنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها .
فصل : إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحاً أو التزاماٍ كما أشرنا إليه ، وأما معارضته بحديث : ( خير الذكر الخفي ) فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ، وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ، ولأنه يوقظ قلب القارىء ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ، وقال بعضهم : يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار انتهى ، وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل وبه يحصل الجمع بين الأحاديث فإن قلت : قال الله تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول قلت : الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول : أنها مكية كآية الإسراء ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلّم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله فأمر بترك الجهر سداً للذريعة كما نهى عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم وقد زال هذا المعنى وأشار إلى ابن كثير في تفسيره الثاني أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك ، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات ويقويه اتصالها بقوله : وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قلت : وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله ولذا ختم الآية بقوله : ولا تكن من الغافلين الثالث ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكامل المكمل ، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيراً في دفعها . قلت : ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذين جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته ، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته وانه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين ) .
فإن قلت : فقد قال تعالى : ) ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ((1/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء قلت : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع ، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه ، والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه ( أن عند الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني اسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء ) فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد الثاني : على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لافي الذكر ، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار لأنه أقرب إلى الإجابة ولذا قال تعالى : إذ نادى ربه نداء خفياً ومن ثم استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة أتفاقاً لأنها دعاء .
فإن قلت : فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال : ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد قلت هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض ، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود ، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد : ثنا حسين بن محمد ثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ما جالست عبد الله مجلساً قط إلا ذكر الله فيه ، وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال : إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء .
45
الدر المنظم في الاسم الأعظم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالشفاعة العظمى ، وعلى آله وصحبه ذوي المقام الأسنى وبعد فقد سئلت عن الأسم الأعظم وما ورد فيه فأردت أن اتتبع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار والأقوال فقلت في الأسم الأعظم أقوال ، الأول : أنه لا وجود له بمعنى أن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا يجوز تفضيل بعضها على بعض ، ذهب إلى ذلك قوم منهم أبو جعفر الطبري ، وأبو الحسن الأشعري ، وأبو حاتم بن حبان ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، ونحوه قول مالك ، وغيره : لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض ، وحمل هؤلاء ما ورد من ذكر الاسم الأعظم على أن المراد به العظم ، وعبارة الطبري اختلفت الآثار في تعيين الأسم الأعظم والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الأسم الأعظم ولا شيء أعظم منه فكأنه تعالى يقول : كل اسم من أسمائي يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم : وقال(1/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
ابن حبان : الأعظمية الواردة في الأخبار المراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به ثواب الداعي والقارىء .
القول الثاني : أنه مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه كما قيل بذلك في ليلة القدر وفي ساعة الإجابة وفي الصلاة الوسطى .
القول الثالث : أنه ( هو ) نقله الإمام فخر الدين عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام عظيم بحضرته لم يقل أنت قلت كذا وإنما يقول هو تأدبا معه .
القول الرابع : ( الله ) لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه ، قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل ابن علية عن أبي رجاء حدثني رجل عن جابر بن عبد الله بن زيد أنه قال : اسم الله الأعظم هو الله ألم تسمع أنه يقول : ) هو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء : حدثنا إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن عيينة عن مسعر قال : قال الشعبي : اسم الله الأعظم يا الله .
القول الخامس : ( الرحمن الرحيم ) قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت اللهم أني أدعوك الله . وأدعوك الرحمن . وأدعوك الرحيم . وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم ، الحديث ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلّم قال لها : إنه لفي الأسماء التي دعوت بها قال : وسنده ضعيف وفي الاستدلال به نظر انتهى . قلت : أقول منه في الاستدلال ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : هو أسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب ، وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث ابن عباس مرفوعاً : ( اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر ) .
القول السادس : ( الرحمن الرحيم الحي القيوم ) لحديث الترمذي وغيره عن أسماء بنت يزيد أنه عليه السلام قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . ( وفاتحة سورة آل عمران : الله لا إله إلا هو الحي القيوم .
القول السابع : ( الحي القيوم ) لحديث ابن ماجه ، والحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه رفعه : الاسم الأعظم في ثلاث سور : البقرة ، وآل عمران ، وطه ، قال القاسم الراوي عن أبي أمامة : التمسته فيها فعرفت أنه الحي القيوم ، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان على صفات العظمة بالربوبية مالا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما .
القول الثامن : ( الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام ) ، لحديث أحمد ، وأبي داود ، وابن حبان ، والحاكم عن أنس : ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالساً ورجل يصلي ثم دعاء اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( لقد دعا الله باسمه(1/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ) .
القول التاسع : ( بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام ) أخرج أبو يعلى من طريق السري بن يحي عن رجل من طيء وأثنى عليه خيراً قال : كنت أسأل الله تعالى أن يريني الاسم الأعظم فرأيت مكتوباً في الكواكب في السماء يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام .
القول العاشر : ( ذو الجلال والإكرام ) لحديث الترمذي عن معاذ : ( سمع النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً يقول يا ذا الجلال والإكرام فقال : ( قد استجيب لك فسل ) وأخرج ابن جرير في تفسير سورة النمل عن مجاهد قال : الاسم الذي إذا دعي به أجاب يا ذا الجلال والإكرام واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات .
القول الحادي عشر : ( الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) لحديث أبي داود ، والترمذي ، وابن حبان والحاكم عن بريدة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سمع رجلاً يقول : اللهم ، اني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال : ( لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ) . وفي لفظ عند أبي داود : لقد سألت الله باسمه الأعظم ، قال الحافظ ابن حجر : وهو أرجع من حيث السند عن جميع ما ورد في ذلك .
القول الثاني عشر : ( رب رب ) أخرج الحاكم عن أبي الدرداء ، وابن عباس قالا : اسم الله الأكبر رب رب ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة مرفوعاً وموقوفاً : ( إذا قال العبد : يا رب يا رب قال الله تعالى : لبيك عبدي سل تعط ) .
القول الثالث عشر : ولم أدرمن ذكر ( مالك الملك ) أخرج الطبراني في الكبيربسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء إلى قوله : ( وترزق من تشاء بغير حساب ) .
القول الرابع عشر : ( دعوة ذي النون ) لحديث النسائي ، والحاكم عن فضالة بن عبيد رفعه : دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له . وأخرج ابن جرير من حديث سعد مرفوعاً : ( اسم الله الذي إذاد دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى ) وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً : ( ألا أدلكم على اسم الله الأعظم دعاء يونس ) فقال : رجل هل كانت ليونس خاصة ؟ فقال ألا تسمع قوله : ) ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( وأخرج ابن أبي حاتم عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن عن اسم الله الأعظم : فقال : أما تقرأ القرآن ؟ قول ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .(1/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
القول الخامس عشر : ( كلمة التوحيد ) نقله عياض .
القول السادس عشر : نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم هو الله الله الله الذي لا إله هو رب العرش العظيم .
القول السابع عشر : هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما دعت ببعض الأسماء [ وبالأسماء ] الحسنى فقال [ لها ] إنه لفي الأسماء التي دعوت بها .
القول الثامن عشر : إنه كل اسم من أسمائه تعالى دعا العبد به ربه مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله ، فإن من دعا الله تعالى بهذه الحالة كان قريب الإجابة ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي يزيد البسطامي أنه سأله رجل عن الاسم الأعظم فقال : ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك لوحد انيته ، فإذا كنت كذلك فافزع إلى أي اسم شئت فإنك تسير به إلى المشرق والمغرب ، وأخرج أبو نعيم أيضاً عن أبي سليمان الداراني قال : سألت بعض المشايخ عن اسم الله الأعظم قال : تعرف قلبك ؟ قلت نعم قال : فإذا رأيته قد رأيته قد أقبل ورق فسل الله حاجتك فذاك اسم الله الأعظم ، وأخرج أبو نعيم عن ابن الربيع السائح أن رجلاً قال له : علمني الأسم الأعظم فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أطع الله يعطيك كل شيء .
القول التاسع عشر : ( اللهم ) حكاه الزركشي في شرح جمع الجوامع واستدل لذلك بأن الله دال على الذات والميم دالة على الصفات التسعة والتسعين ذكره ابن مظفر ولهذا قال الحسن البصري : اللهم مجمع الدعاء ، وقال النضر بن شميل من قال : اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه .
العشرون : الم أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : الم هو إسم الله الأعظم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبن عباس قال : الم اسم من أسماء الله الأعظم ، وأخرج ابن جرير .
وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الم قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى .
تم الجزء الأول من الحاوي للفتاوي ويليه الجزء الثاني أوله - المنحة في السبحة -(1/383)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الثانى
وأوله : المنحة في السبحة(2/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
المنحة في السبحة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين ) اصطفى وبعد ( فقد طال السؤال عن السبحة هل لها أصل في السنة ؟ فجمعت فيها هذا الجزء متتبعاً فيه ما ورد فيها من الأحاديث والآثار . والله المستعان .
أخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يعقد التسبيح بيده ) . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والترمذي ، والحاكم عن بسيرة وكانت من المهاجرات قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات ) .
وأخرج الترمذي ، والحاكم ، والطبراني عن صفية قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال : ما هذا يا بنت حيي ؟ قلت : أسبح بهن ، قال : قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا ، قلت : علمني يا رسول الله قال : ( قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء ) صحيح أيضاً . وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص : ( أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلّم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح فقال : أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل ؟ قولي سبحان الله عدد ما خلق في السماء ، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض ، سبحان الله عدد ما بين ذلك ، وسبحان الله عدد ما هو خالق ، الله أكبر مثل ذلك ، والحمد لله مثل ذلك ، ولا إله إلا الله مثل ذلك ، ولا قوة إلا بالله مثل ذلك ) .
وفي جزء هلال الحفار ، ومعجم الصحابة للبغوي ، وتاريخ ابن عساكر من طريق معتمر بن سليمان عن أبي بن كعب عن جده بقية عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح به حتى يمسي . وأخرجه الإمام أحمد في الزهد ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت : رأيت أبا صفية رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وكان جارنا قالت : فكان يسبح بالحصى .
وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى ، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مولاة لسعد أن سعداً كان يسبح بالحصى ، أو النوى ،(2/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
وقال ابن سعد في الطبقات : أنا عبيد الله بن موسى أنا إسرائيل عن جابر عن امرأة حدثته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها .
وأخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به ، وأخرج أحمد في الزهد ثنا مسكين بن نكير أنا ثابت بن عجلان عن القاسم بن عبد الرحمن قال : كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن .
وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه يسبح بالنوى المجزع ، وقال الديلي في مسند الفردوس : أنا عبدوس بن عبد الله أنا أبو عبد الله الحسين بن فتحويه الثقفي ثنا علي بن محمد بن نصرويه ثنا محمد بن هرون بن عيسى بن المنصور الهاشمي حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي حدثني عبد الصمد بن موسى حدثتني زينب بنت سليمان بن علي حدثتني أم الحسن بنت جعفر بن الحسن عن أبيها عن جدها عن علي مرفوعاً : ( نعم المذكر السبحة ) .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يسبح بالحصى ، وأخرج من طريق أبي نضرة عن رجل من الطفاوة قال : نزلت على إبراهيم ومعه كيس فيه حصى أو نوى فيسبح به حتى ينفد ، وأخرج عن زاذان قال : أخذت من أم يعفور تسابيح لها فلما أتيت علياً قال : أردد على أم يعفور تسابيحها .
ثم رأيت كتاب تحفة العباد ومصنف متأخر عاصر الجلال البلقيني فصلاً حسناً في السبحة قال فيه ما نصه : قال بعض العلماء : عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السبحة لحديث ابن عمرو ، لكن يقال إن المسبح إن آمن من الغلط كان عقده بالأنامل أفضل وإلا فالسبحة أولى .
وقد اتخذ السبحة سادات يشار إليهم ويؤخذ عنهم ويعتمد عليهم كأبي هريرة رضي الله عنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فكان لا ينام حتى يسبح به ثنتي عشرة ألف تسبيحة قاله عكرمة ، وفي سنن أبي داود من حديث أبي نضرة الغفاري قال : حدثني شيخ من طفاوة قال : تثويت أبا هريرة بالمدينة فلم أر رجلاً أشد تشميراً ولا أقوم على ضيف منه قال : فبينما أنا عنده يوماً وهو على سرير له ومعه كيس فيه حصى أو نوى وأسفل منه جارية سوداء وهو يسبح بها حتى إذا أنفد ما في الكيس ألقاه إليها فأعادته في الكيس فدفعته إليه يسبح قوله تثويت أي تضيفته ونزلت في منزله والمثوى المنزل وقيل : كان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح بالنوى المجزع يعني الذي حك بعضه حتى ابيض شيء منه وترك الباقي على لونه وكل ما فيه سواد وبياض فهو مجزع قاله أهل اللغة : وذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائه ألف تسبيحة ، وذكر أيضاً عن سلمة بن شبيب قال : كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة(2/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
سوى ما يقرأ فلما وضع ليغسل جعل بأصبعه كذا يحركها يعني بالتسبيح ومن المعلوم المحقق أن المائة ألف بل والأربعين ألفاً وأقل من ذلك لا يحصر بالأنامل فقد صح بذلك وثبت أنهما كانا يعدان بآلة والله أعلم .
وكان لأبي مسلم الخولاني رحمة الله عليه سبحة فقام ليلة والسبحة في يده قال : فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول : سبحانك يا منبت النبات ويا دائم الثبات قال : هلمي يا أم مسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب قال : فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت . ذكره أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري في كتاب كرامات الأولياء .
وقال الشيخ الإمام العارف عمر البزار : كانت سبحة الشيخ أبي الوفا كاكيش وبالعربي عبد الرحمن التي أعطاها لسيدي الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس الله أرواحهم إذا وضعها على الأرض تدور وحدها حبة حبة ، وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان أنه رؤي في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله يوماً سبحة فقيل له : أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة ؟ قال : طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه ، قال : وقد رويت في ذلك حديثاً مسلسلاً وهو ما أخبرني به شيخنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله من لفظه ورأيت في يده سبحة قال : أنا الإمام أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن يوسف بن البانياسي بقراءتي عليه ورأيت في يده سبحة قال : أنا أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود الترمذي ورأيت في يده سبحة .
قال : قرأت على شيخنا أبي الثناء ورأيت في يده سبحة قال : [ أنا عبد الصمد بن أحمد ابن عبد القادر ورأيت في يده سبحة قال ] أنا أبو محمد يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ورأيت في يده سبحة قال : أنا أبي ورأيت في يده سبحة قال : قرأت على أبي الفضل بن ناصر ورأيت في يده سبحة قال : قرأت على أبي محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي ورأيت في يده سبحة قلت له : سمعت أبا بكر محمد بن علي السلمي الحداد ورأيت في يده سبحة ؟ فقال : نعم قال : رأيت أبا نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر المقري ورأيت في يده سبحة قال : رأيت أبا الحسن علي بن الحسن بن أبي القاسم المترفق الصوفي وفي يده سبحة قال : سمعت أبا الحسن المالكي يقول : وقد رأيت في يده سبحة فقلت له : يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة ؟ فقال :
كذلك رأيت أستاذي الجنيد وفي يده سبحة فقلت له : يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة ؟ قال : كذلك رأيت أستاذي سري بن مغلس السقطي وفي يده سبحة فقلت : يا أستاذ أنت مع السبحة ؟ فقال : كذلك رأيت أستاذي معروف الكرخي وفي يده سبحة فسألته عما سألني عنه فقال : كذلك رأيت [ بشر الحافي وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال كذلك رأيت ] أستاذي عمر المالكي وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال : كذلك رأيت أستاذي الحسن البصري وفي يده سبحة فقلت : يا أستاذ مع عظم شأنك وحسن عبادتك وأنت إلى الآن مع السبحة ؟ فقال(2/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
لي : شيء كنا استعملناه في البدايات ما كنا نتركه في النهايات ، أحب أن أذكر الله بقلبي وفي يدي ولساني ، فلو لم يكن في اتخاذ السبحة غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في سلكهم والتماس بركتهم لصارت بهذا الاعتبار [ من أهم الأمور ] وآكدها فكيف بها وهي مذكرة بالله تعالى لأن الإنسان قل أن يراها إلا ويذكر الله وهذا من أعظم فوائدها وبذلك كان يسميها بعض السلف رحمه الله تعالى . ومن فوائدها أيضاً الاستعانة على دوام الذكر ، كلما رآها ذكر أنها آلة للذكر فقاده ذلك إلى الذكر ، فيا حبذا سبب موصل إلى دوام ذكر الله عز وجل ، وكان بعضهم يسميها حبل الوصل ، وبعضهم رابطة القلوب . وقد أخبرني من أثق بقوله : أنه كان مع قافلة في درب بيت المقدس فقام عليهم سرية عرب وجردوا القافلة جميعهم وجردوني معهم فلما أخذوا عمامتي سقطت مسبحة من رأسي فلما رأوها قالوا : هذا صاحب سبحة فردوا علي ما كان أخذ لي وانصرفت سالماً منهم . فانظر يا أخي إلى هذه الآلة المباركة الزاهرة وما جمع فيها من خيري الدنيا والآخرة ، ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروهاً ، وقد رؤي بعضهم يعد تسبيحاً فقيل له : أتعد على الله ؟ فقال : لا ولكن أعد له ، والمقصود أن أكثر الذكر المعدود الذي جاءت به السنة الشريفة لا ينحصر بالأنامل غالباً ولو أمكن حصره لكان الاشتغال بذلك يذهب الخشوع وهو المراد والله أعلم .
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن بكر بن خنيس عن رجل سماه قال : كان في يد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال : فقام والسبحة في يده فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول : سبحانك يا منبت النبات ويا دائم الثبات فقال : هلم يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب فجاءت أم مسلم والسبحة تدور تسبح فلما جلست سكنت . وقال عماد الدين المناوي في سبحة :
ومنظومة الشمل يخلو بها
اللبيب فتجمع من همته
إذا ذكر الله جل اسمه
عليها تفرق من هيبته
مسألة : هل تداوى النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه ثم من أنكر ذلك وقال إنه أمر بالتداوي ولم يتداو ؟ .
الجواب : نعم قال النووي في شرح مسلم في حديث : ( هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ) اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال الإمام أبو عبد الله المازري : احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكروه ومعظم العلماء على خلاف ذلك واحتجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلّم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء ، والقسط والصبر وغير ذلك وبأنه صلى الله عليه وسلّم تداوى ، وبأخبار عائشة بكثرة تداويه ، ثم نقل عن القاضي عياض أنه صلى الله عليه وسلّم تطبب في نفسه وطبب غيره انتهى .
قلت : يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن السني ، وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أم المؤمنين أعجب من بصرك بالطب قالت : يا ابن أختي إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما طعن في السن سقم فوفدت الوفود(2/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
فنعتت فمن ثم ، وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن عبد الرحمن المليكي قال : حدثني عروة بن الزبير قال : قلت لعائشة : يا خالة إني لأفكر في أمرك وأتعجب أن وجدتك عالمة بالطب فمن أين ؟ فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كثرت أسقامه فكنا نعالج له . وأخرج أبو نعيم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة أنه قيل لها من أين تعلمت الطب ؟ .
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلاً مسقاماً وكان يقدم عليه وفود العرب والعجم فتنعت له فتعلمت ذلك . وأخرج البخاري ، ومسلم عن سهل بن سعد أنه سئل بأي شيء دووي جرح النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد ؟ فقال : كانت فاطمة تغسل الدم وعلي يسكب الماء عليها فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم . وأخرج أبو داود ، والحاكم وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم استعط . وأخرج ابن السني عن ابن عباس قال : ( احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستعط ) . وأخرج ابن السني عن أبي هريرة ( أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يحتجم فقال : أي شيء هذا يا رسول الله ؟ فقال : الحجم قلت : وما الحجم يا رسول الله ؟ قال : خير ما تداوي به العرب ) وأخرج الحاكم وصححه عن سمرة قال : ( دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يحتجم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذا الحجم وهو خير ما تداويتم به ) وأخرج ابن السني عن عبد الله بن جعفر قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قرنه بعد ما . وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم على وركه من وني كان به [ يعني من وهن دون الخلع والكسر ] . وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم [ وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به . وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم ] في رأسه من أذى كان به . وأخرج أبو نعيم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم من وجع كان برأسه وهو محرم . وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلّم احتجم تحت كتفه اليسرى من الشاة التي أكل يوم خيبر ، وأخرج أبو نعيم عن علي قال : ( لدغت النبي صلى الله عليه وسلّم عقرب وهو يصلي فقال : لعنك الله لا تدعين نبياً ولا غيره ثم دعا بماء وملح فجعل يمرسها عليها ) .
أعذب المناهل
في حديث من قال أنا عالم فهو جاهل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . سئلت عن حديث من قال أنا عالم فهو جاهل .
الجواب : هذا إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفاً عليه على ضعف في إسناده(2/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
إليه ويحيى من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده ، وقد يعد في أتباع التابعين باعتبار أنه لم يلق غيره من الصحابة ولا يعرف له عن أحد منهم رواية متصلة ، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم إن وجد عنه الجزم بذلك ، وذلك أن الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلّم فذكره ، وقال الطبراني : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد ، وهذا الحديث حكم عليه الحفاظ بالوهم في رفعه فإن ليث بن أبي سليم متفق على ضعفه قال فيه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث . وقال : ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأياً في أحد منه في ليث لا يستطيع أحد أن يراجعه فيه ، وقال فيه ابن معين ، والنسائي : ضعيف ، وقال ابن معين : ليث أضعف من عطاء بن السائب ، وقال عثمان ابن أبي شيبة : سألت جريراً عن ليث ، وعن عطاء بن السائب ، وعن يزيد بن أبي زياد فقال : كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث ثم عطاء وكان ليث أكثرهم تخليطاً ، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : وسألت أبي عن هذا فقال : أقول كما قال جرير ، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا يحيى بن معين عن يحيي بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث بن أبي سليم ، وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يحدث عن ليث بن أبي سليم ، وقال أبو معمر القطيعي : كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم ، وقال علي ابن المديني : قلت لسفيان إن ليثاً روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلّم يتوضأ فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جد طلحة لقي النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقال علي بن محمد الطنافسي : سألت وكيعاً عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم فقال : ليث ليث كان سفيان لا يسمى ليثاً ، وقال قبيصة ، قال شعبة لليث بن أبي سليم : أين اجتمع لك عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ؟ فقال إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه فما زال شعبة متقياً لليث مذ يومئذ ، وقال أبو حاتم : أقول في ليث كما قال جرير بن عبد الحميد ، وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي ، وأبا زرعة يقولان : ليث لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث ، وقال أبو زرعة أيضاً : ليث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث ، وقال مؤمل بن الفضل : قلنا لعيسى بن يونس لم تسمع من ليث بن أبي سليم ؟ قال : قد رأيته وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن ، وقال ابن حبان : اختلط في آخر عمره .
هذا مجموع كلام أئمة الحديث في تخريجه . والحاصل أنه كان في حال صحة عقله كثير التخليط في حديثه بحيث جرح بسبب ذلك ثم طرأ له بعد ذلك الاختلاط في عقله فازداد حاله سوءاً ، وحكم المختلط الذي كان قبل اختلاطه من الثقات الحفاظ المحتج بهم أن ما رواه بعد اختلاطه يرد ، وكذا ما شك فيه هل رواه قبل الاختلاط أو بعده فإنه مردود . فإذا كان هذا حكم من اختلط من الثقات الحفاظ الذين يحتج بهم فكيف بمن اختلط من الضعفاء المجرحين الذين لا يحتج بهم قبل طروء الاختلاط عليهم ؟ وقد جرت عادة الحفاظ إذا ترجموا أحداً ممن تكلم فيه أن يسردوا في ترجمته كثيراً من الأحاديث التي(2/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
أنكرت عليه ، وإن كان له أحاديث سواها صالحة نبهوا على أن ما عدا ما سردوه من أحاديثه صالح مقبول خصوصاً إذا كان ذلك الرجل ممن خرج له في أحد الصحيحين فإنهم يقولون : إن صاحب الصحيح لم يخرج من حديثه إلا ما صح عنده من طريق غيره فلا يلزم من ذلك قبول كل ما رواه هكذا نصوا عليه . وهذا الرجل روى له مسلم مقروناً بأبي إسحاق الشيباني فالحجة في رواية أبي إسحاق والحديث الذي خرجه صحيح من طريق أبي إسحاق لا من طريق ليث بن أبي سليم . ولما ترجمه ابن عدي في الكامل سرد أحاديثه التي أنكرت عليه ثم قال : له أحاديث صالحة غير ما ذكرت ، وكذا صنع الحافظ الذهبي في الميزان سرد له أكثر من عشرة أحاديث أنكرت عليه منها هذا الحديث الذي نحن فيه أعني حديث من قال : أنا عالم فهو جاهل وحديث من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل . وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وحديث كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم وجه إليه أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت ، في أحاديث أخر على أن هذا الحديث الذي نحن فيه لم يجزم ليث برفعه لقوله فيما تقدم : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلّم وهذه صيغة تقال عند الشك .
ومما يؤيد بطلان هذا الحديث الذي نحن فيه من جهة المعنى ثبوت هذا اللفظ عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وما كان هؤلاء ليقعوا في شيء ورد فيه ذم عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وكذا ثبت مثل ذلك عن خلائق لا يحصون من التابعين فمن بعدهم كما سقت رواياتهم وألفاظهم في الكتاب المسمى بالصواعق على النواعق ولا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لا يطبقون على التلفظ بما ذم النبي صلى الله عليه وسلّم التلفظ به ، وأبلغ من ذلك قول نبي الله يوسف عليه السلام فيما حكاه الله عنه في التنزيل ) إني حفيظ عليم ( . فإن قلت : كيف حكم على الحديث بالإبطال وليث لم يتهم بكذب ؟ قلت : الموضوع قسمان : قسم تعمد واضعه وضعه وهذا شأن الكذابين . وقسم وقع غلطاً لا عن قصد وهذا شأن المخلطين والمضطربين الحديث كما حكم الحفاظ بالوضع على الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في سننه وهو من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فإنهم أطبقوا على أنه موضوع وواضعه لم يتعمد وضعه وقصته في ذلك مشهورة . وإلى ذلك أشار العراقي في ألفيته بقوله : ومنه نوع وضعه لم يقصد ، نحو حديث ثابت من كثرت صلاته الحديث وهلة سرت .
وأكثر ما يقع الوضع للمغفلين والمخلطين والسئي الحفظ بعزو كلام غير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليه إما كلام تابعي ، أو حكيم ، أو أثر إسرائيلي كما وقع في المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة ، وغير ذلك يكون معروفاً بعزوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلّم فيلتبس على المخلط فيرفعه إليه وهماً منه فيعده الحفاظ موضوعاً ، وما ترك الحفاظ بحمد الله شيئاً إلا بينوه ) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ولكن يحتاج إلى سعة النظر وطول الباع وكثرة الاطلاع ، وقد يقع الوضع في لفظة من(2/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الحديث لا في كله كحديث لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح فإن الحديث صدره ثابت ، وقوله : أو جناح موضوع تعمده واضع تقرباً إلى الخليفة المهدي لما كان مشغوفاً باللعب بالحمام ، وقد وقع نظير ذلك لليث هذا صاحب هذا الحديث فإنه روى عن مجاهد ، وعطاء عن أبي هريرة في الذي وقع على أهله في رمضان قال له النبي صلى الله عليه وسلّم : أعتق رقبة قال : لا أجد ، قال : اهد بدنة ، قال : لا أجد ، قال الحفاظ : ذكر البدنة فيه منكر والظاهر أن ليثاً إنما زادها غفلة وتخليطاً لا عن قصد وعمد والله أعلم .
حسن التسليك في حكم التشبيك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى : قال البخاري في صحيحه : ( باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ) وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وشبك بين أصابعه ) وحديث أبي هريرة ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ) قال الحافظ ابن حجر في شرحه : حديث أبي موسى دال على جواز التشبيك مطلقاً . وحديث أبي هريرة دال على جوازه في المسجد فهو في غيره أجوز . ووقع في بعض نسخ البخاري قبل هذين الحديثين حديث آخر نصه : حدثنا حامد بن عمر ثنا بشر ثنا عاصم ثنا واقد عن أبيه عن ابن عمر قال : شبك النبي صلى الله عليه وسلّم أصابعه ، قال الحافظ مغلطاي : هذا الحديث ليس موجوداً في أكثر نسخ الصحيح ، وقال الحافظ ابن حجر : هو ثابت في رواية حماد بن شاكر عن البخاري قال ابن بطال : المقصود من هذه الترجمة معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد وقد وردت فيه مراسيل ومسند من طرق غير ثابتة ، وقال ابن المنير : التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث ، وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصداً إليها إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي ، وقيل أن صورته تشبه صورة الاختلاف ، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه وهو قوله صلى الله عليه وسلّم للمصلين : ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وقال الحافظ مغلطاي في شرح البخاري : زعم بعضهم أن هذه الأحاديث التي أوردها البخاري في هذا الباب معارضة لحديث النهي عن التشبيك ، وقال ابن بطال : إن حديث النهي ليس مساوياً لهذه الأحاديث في الصحة ، وقال الأكثر : حديث النهي مخصوص بالصلاة وهو قول مالك : روي عنه أنه قال : إنهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد وما به بأس إنما يكره في الصلاة ورخص فيه ابن عمر ، وسالم ابنه ، فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة ، ثم قال مغلطاي : والتحقيق أنه ليس بين حديث النهي عن التشبيك وبين تشبيكه صلى الله عليه وسلّم بين أصابعه(2/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
لأن النهي إنما ورد عن فعله في الصلاة أو في المضي إليها ، وفعله صلى الله عليه وسلّم للتشبيك ليس في صلاة ولا في المضي إليها ، فلا معارضة إذن وبقي كل حديث على حياله انتهى .
قلت : ومن الأحاديث في تشبيكة صلى الله عليه وسلّم ما أخرجه البخاري ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بفناء الكعبة محتبياً بيده هكذا زاد البيهقي وشبك بين أصابعه ) وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه ) ، وأخرج البزار عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأيمانهم وأماناتهم وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه ) . وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً فقال : ( كيف ترون إذا أخرتم في زمان حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون ويقبل أحدكم على خاصة نفسه ويذر أمر العامة ) .
وأخرج الطبراني عن عبادة الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس واختلفوا حتى يكونوا هكذا وشبك بين أصابعه ؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : خذ ما تعرف ودع ما تنكر ) وأخرج الشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، والنسائي بسند صحيح على شرط مسلم عن جبير بن مطعم قال : لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه ) . وأخرج البيهقي في الزهد عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة وشبك بين أصابعه ؟ قلت يا رسول الله ما تأمرني ؟ اصبر اصبر اصبر خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في أعمالهم ) .
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا دفن العبد الكافر يقول له القبر لا مرحباً ولا أهلاً ثم يلتئم عليه حتى تلتقي أضلاعه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصابع يديه فشبكها ) وأخرج مسلم ، وأبو داود عن جابر في حديث الحج قال : قام سراقة بن جعشم فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصابعه في الأخرى وقال : ( دخلت العمرة في الحج مرتين ) وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أي المؤمنين أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : إذا اختلفوا وشبك بين أصابعه أبصرهم بالحق وإن كان في عمله تقصير وإن كان يزحف زحفاً ) .(2/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
ذكر الحديث المسلسل بالتشبيك
أخبرني شيخنا الإمام تقي الدين الشمني بقراءتي عليه ، والجلال أبو المعالي القمصي ، وأبو العباس أحمد بن الجمال عبد الله بن علي الكناني سماعاً عليهما بالقاهرة ، وناصر الدين أبو الفرج ابن الإمام زين الدين أبي بكر المراغي يقراءتي عليه بمكة المشرفة ، والحافظ تقي الدين أبو الفضل بن فهد الهاشمي سماعاً عليه بمنى وشبك كل منهم بيدي قال الأول ، والثاني ، والثالث : أنا الجمال عبد الله بن علي الحنبلي وشبك بيد كل منا قال : أنا أبو الحسن علي بن أحمد العرضي وشبك بيدي ، وقال الرابع : أنا الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الجزري وشبك بيدي وقال : أنا أبو حفص عمر بن حسن المزي وشبك بيدي قال هو . والعرضي : أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن البخاري وشبك بيدي كل منا أنا عمر بن سعيد الحلبي وشبك بيدي أنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي وشبك بيدي أنا الحافظ وإسماعيل بن محمد التيمي وشبك بيدي أنا الإمام أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي وشبك بيدي أنا أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري وشبك بيدي أنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز المكي وشبك بيدي أنا أبو الحسين محمد بن طالب وشبك بيدي أنا أبو عمر عبد العزيز بن الحسن بن بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني وشبك بيدي قال : شبك بيدي أبي ح وقال الخامس : أنا القاضي جمال الدين بن ظهيرة وشبك بيدي أنا البهاء عبد الله بن محمد المكي وشبك بيدي أنا الرضي الطبري وشبك بيدي أنا أبو الحسن بن بنت الجميزي وشبك بيدي أنا الشرف بن أبي عصرون وشبك بيدي أنا القاضي أبو عبد الله بن نصر وشبك بيدي حدثنا أبو بكر الطريثيثي وشبك بيدي ثنا علي بن أبي نصر وشبك بيدي حدثنا محمد بن علي بن هاشم وشبك بيدي حدثنا عبيد بن إبراهيم الصنعاني وشبك بيدي ثنا بكر بن الشرود وشبك بيدي وقال : شبك بيدي ابن أبي يحيى . وقال ابن أبي يحيى : شبك بيدي صفوان بن سليم . وقال صفوان : شبك بيدي أيوب بن مالك الأنصاري . وقال أيوب : شبك بيدي عبد الله بن رافع . وقال عبد الله بن رافع : شبك بيدي أبو هريرة . وقال أبو هريرة : شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلّم وقال : ( خلق الله الأرض يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الإثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء والدواب يوم الخميس وآدم يوم الجمعة ) .
مسألة :
ماذا يقول إمام العصر مجتهد
قد فاق سالفه في العجم والعرب
فيما روى عن رسول الله سيدنا
في يوم بدر عقيب النصر والنصب ؟
بأنه قال للكفار حين رموا
ضمن القليب قضوا للنار واللهب
أهل القليب وجدنا وعد خالقنا
حقاً وفزنا بنيل القصد والأرب
فهل وجدتم حقيقاً وعد ربكم
وبعض أصحابه قد مال للعجب ؟
وقال كلمت خير الخلق من مضر
موتى خلوا عن سماع الصدق والكذب(2/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
وأن أحمد الخلق قال له
منكم لأسمع في بعض من الكتب
وأن تقولوا روى في قول خالقنا
في محكم الذكر للمبعوث خير نبي
لا يسمع الميت ماذا القول فيه وهل
معارض للذي قلناه في الرتب ؟
لا زلت ترشد عبداً ضل في حلك
بواضح الفرق خالي الشك والريب
ونلت أعلى مقام في النعيم غداً
مهنئاً بسرور غير مقتضب
الجواب :
الحمد لله حمداً دائم الحقب
ثم الصلاة على المبعوث خير نبي
سماع موتى كلام الخلق معتقد
جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى
لا يقبلون ولا يصغوا إلى أدب
شد الأثواب في سد الأبواب
بسم الله الرحمن الرحيم
) فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( .
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . روى البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس وقال : أن الله خَيَّرَ عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر وفي لفظ لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ) أخرجه ابن عساكر ، وفي لفظ : ( ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة ) أخرجه أحمد ، والدارمي هذا حديث متواتر كما سأشير إلى طرقه . قال النووي في شرح مسلم : فيه خصيصة لأبي بكر رضي الله عنه . وقال ابن شاهين في السنة : تفرد أبو بكر رضي الله عنه بهذه الفضيلة . وللأمر بسد الأبواب في المسجد النبوي طرق كثرة تبلغ درجة التواتر فأخرج البخاري ، والنسائي عن ابن عباس قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه في خرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( إنه ليس أحد أمنّ علي في نفسه وماله من أبي بكر ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر ) . وأخرج ابن سعد من طريق الزهري أخبرني أيوب بن بشير الأنصاري عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج فاستوى على(2/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
المنبر فتشهد فلما قضى تشهده قال : إن عبداً من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند ربه فاختار ما عند ربه ففطن لها أبو بكر الصديق أول الناس فعرف إنما يريد النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه فبكى أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم : على رسلك يا أبا بكر سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءاً أفضل عندي يداً في الصحابة من أبي بكر ) وأخرج الطبراني بسند حسن عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( صبوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم فخرج عاصباً رأسه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عبداً من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله فلم يفهمها إلا أبو بكر فبكى فقال : نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : على رسلك أفضل الناس عندي في الصحبة وذات اليد ابن أبي قحافة انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر فإني رأيت عليه نوراً ) وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر ) وأخرج أبو يعلى بسند رجاله ثقات عن بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في مرض موته : انظروا هذه الأبواب اللاصقة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر فإني لا أعلم أحداً كان أفضل عندي في الصحبة منه ) .
وأخرج البزار بسند حسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( سدوا عني كل باب إلا باب أبي بكر ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسد الأبواب التي في المسجد إلا باب أبي بكر ) وأخرج الدارمي في مسنده عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلّم في مرضه : ( صبوا عليّ من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم فصببنا عليه فخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا إن عبداً من عباد الله قد خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر فقال : على رسلك سدوا هذه الأبواب الشوارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءاً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي بكر ) وأخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحباً لاتخذته خليلاً ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة ) وأخرج ابن سعد في الطبقات ، وابن عدي في الكامل عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إن أعظم الناس علي منا في الصحبة وذات يده أبو بكر فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر ، فقال ناس : أغلق أبوابنا وترك باب خليله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر وإني أرى على باب أبي بكر نوراً وأرى على أبوابكم ظلمة ) مرسل ، وقد أخرجه أبو طاهر المخلص في فوائده ، وابن عدي في الكامل ، وابن عساكر في تاريخه موصولاً من طريق يحيى بن سعيد عن أنس به وزاد : ( فكانت الآخرة أعظم عليهم من الأولى ) قال ابن عدي : لا أعلم وصله عن الليث غير عبد الله بن صالح ورواه غيره عن الليث عن يحيى بن سعيد بدون(2/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
ذكر أنس ، وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( عندما أمر به من سد [ تلك ] الأبواب إلا باب أبي بكر ) وقال : ( ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر فإن عليه نوراً ) .
وأخرج ابن سعد عن أبي الحويرث قال : ( لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر قال عمر : يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حتى تخرج إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا ) وأخرج ابن سعد عن أبي البداح بن عاصم بن عدي قال : قال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم . يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمري ) .
فصل : وأخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم في المستدرك وصححه عن زيد بن أرقم قال : ( كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبواب شارعة في المسجد فقال يوماً : سدوا هذه الأبواب إلا باب علي فتكلم أناس في ذلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته ) . وأخرج أحمد ، والنسائي ، وأبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في الأوسط بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال : ( أمر رسول الله بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي فقالوا : يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي قال : ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها ) وأخرج أحمد ، والترمذي ، والنسائي عن ابن عباس قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي ) . وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه وزاد : ( فقال الناس في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : إنما أنا عبد مأمور ما أمرت بشيء فعلته إن اتبع إلا ما يوحى إليّ ) وأخرج البزار عن علي بن أبي طالب قال : ( أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر أن سد بابك قال : سمعاً وطاعة فسد بابه ثم أرسل إلى عمر ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ولكن الله فتح باب علي وسد أبوابكم ) وأخرج البزار عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إنطلق فمرهم فليسدوا أبوابهم فانطلقت فقلت لهم ففعلوا إلا حمزة فقلت : يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : قل لحمزة فليحول بابه فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرك أن تحول بابك فحوله ) وأخرج أحمد ، والنسائي عن ابن عباس قال : سد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبواب المسجد غير باب علي وكان يدخل المسجد وهو جنب وهو طريقه ليس له طريق غيره .
وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسد الأبواب كلها غير باب علي فقال العباس : يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج قال : ما أمرت بشيء من ذلك فسدها كلها غير باب علي . وأخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر أنه سئل عن علي فقال : انظر إلى منزله من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه . وأخرج(2/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
أحمد من وجه آخر عن ابن عمر قال : ( أعطى علي ثلاث خصال : زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر ) ، فهذه أكثر من عشرين حديثاً في الأمر بسد الأبواب وبقيت أحاديث أخر تركتها كراهة الإطالة .
فصل : قال العلماء : لا معارضة بين الأحاديث المذكورة في الفصل الأول من أنه سد الأبواب إلا باب أبي بكر وبين المذكورة في الفصل الثاني من أنه سد الأبواب إلا باب علي فإنهما قصتان إحداهما غير الأخرى ، فقصة علي كانت متقدمة وهي في سد الأبواب الشارعة وقد كان أذن لعلي أن يمر في المسجد وهو جنب ، وقصة أبي بكر متأخرة في مرض الوفاة في سد طاقاة كانوا يستقربون الدخول منها وهي الخوخ كذا جمع القاضي إسماعيل المالكي في أحكامه ، والكلاباذي في معانيه ، والطحاوي في مشكله ، وعبارة الكلاباذي لا تعارض بين قصة علي وقصة أبي بكر لأن باب أبي بكر كان من جملة خوخات يطلع منها إلى المسجد وأبواب البيوت خارجة من المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسد تلك الخوخ فلم تبق تطلع منها إلى المسجد وتركت خوخة أبي بكر فقط . وأما باب علي فكان داخل المسجد يخرج منه ويدخل منه .
وقال الحافظ ابن حجر : قصة علي في سد الأبواب ، وأما سد الخوخ فالمراد به طاقاة كانت في المسجد يستقربون الدخول منها فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم في مرض موته بسدها إلا خوخة أبي بكر ، وفي ذلك إشارة إلى استخلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيراً دون غيره انتهى قلت ويدل على تقدم قصة علي ذكر حمزة قصته فإن حمزة قتل يوم أحد .
فصل : قد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أنه صلى الله عليه وسلّم منع من فتح باب شارع إلى مسجد ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمه العباس ولا لأبي بكر إلا لعلي لمكان ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم منه ، ومن فتح خوخة صغيرة أو طاقة أو كوة ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمر إلا لأبي بكر خاصة لمكان الخلافة ولكونه أفضل الناس يداً عنده كما أشار إلى التعليل به في الأحاديث المبدأ بها ، وهذه خصيصة لا يشاركه فيها غيره ولا يصح قياس أحد عليه إلى يوم القيامة ، فإن عمر استأذن في كوة فلم يؤذن له فمن ذا الذي يقاس عليه ؟ وقد منع عمر واستأذن العباس في فتح باب صغير بقدر ما يخرج منه وحده فلم يؤذن له وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمن ذا الذي يباح له ذلك وقد منع منه عمر ، والعباس ؟ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسند ذلك إلى أمر الله به وأنه لم يسد ما سد ولم يفتح ما فتح إلا بأمره تعالى ، ثم إن ذلك كان في مرض الوفاة وفي آخر مجلس جلسه على المنبر ، وكان ذلك من جملة ما عهد به إلى أمته ومات عليه ولم ينسخه شيء وتقلد ذلك حملة الشريعة من أمته ، فوجب على من علمه أن يبينه عند الحاجة إليه ولا يكتمه ، فإن توهم متوهم أو زعم زاعم أن الأمر في ذلك منوط برأي الإمام زد عليه بأن هذا حكم من الأحكام نص رسول الله صلى الله عليه وسلّم على منعه فلا رأي لأحد في إباحته ، بل لو وقف رجل من آحاد الناس مسجداً وشرط فيه شيئاً اتبع شرطه فكيف بمسجد وقفه النبي صلى الله عليه وسلّم ونص فيه على المنع من أمر وأسنده إلى(2/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
الوحي وجعله من جملة عهده عند وفاته ، والرجوع إلى رأي الإمام إنما يكون في مساجد لا تعرض في شروط واقفيها لمنع ولا لغيره على ما في ذلك أيضاً من توقف ونظر ، وإن خطر ببال أحد أن يقول : إن المسجد الشريف قد زالت معالمه وجدره ووسع زيادة على ما كان في عهده صلى الله عليه وسلّم فلا يجديه هذا شيئاً فإن حرمة المسجد وأحكامه الثابتة له باقية إلى يوم القيامة ، ولو اتسع وأزيلت جدره وأعيدت عادت على هذا الحكم من غير تغيير ، فإن الحكم المذكور منوط بالمسجد من حيث هو لا بذاك الجدار بعينه وقد بني في زمن عمر ووسع في زمان عثمان وغيره في القرن الأول وبعده ولم يخرجوا عن هذا الحكم وإن قيل بجواز الفتح في الجدار الذي هو ملك الفاتح . قلنا : إن كان مع إعادة حائط المسجد الشريف كما كانت بحيث يسد الباب والشبابيك التي في الجدار فلا يستطرق منه ولا يطلع منها فلا كلام ، وإن كان مع إزالة حائط المسجد وبقاء الاستطراق والاطلاع فمعاذ الله فإن هذه ذريعة وحيلة يتوصل بها إلى مخالفة الأمر الشريف ، وإذا منع النبي صلى الله عليه وسلّم عمر من فتح كوة ينظره منها حين يخرج إلى الصلاة فكيف يهدم الحائط جميعه ؟ بل أزيد على هذا وأقول لو أعيد حائط المسجد وبنى خلفه جدار أطول منه وفتح في أعلاه كوة يطلع منها إلى المسجد فينبغي المنع من ذلك احتياطاً للحديث ، وإن انضم إلى ذلك أن الشبابيك تصير معدة لمن يجلس فيها مرتفعاً والقبر الشريف تحته فهذا أشد وأشد ، والواجب على كل متحر الاحتياط لدينه حيث علم أن هذا الحكم منصوص عليه من صاحب الشرع وأنه لا رأي لأحد فيه بعد نصه ، وأن حكم الحاكم بما يخالف النص ينقض وفتوى المفتي بما يعارض ترد ، والتوصل إلى خلافه بالحيل الفاسدة من باب قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود : فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) .
فصل : اعلم أن اكثر مفتي عصرنا أفتوا بجواز فتح الباب والكوة والشباك من دار بنيت ملاصقة للمسجد الشريف وكان ذلك منهم استرواحاً وعدم وقوف على مجموع الأحاديث الواردة في ذلك ، ثم روجع كل منهم في مستنده فيما أفتى به فأبدوا شبهاً كلها مردودة ، ولولا جناب النبي صلى الله عليه وسلّم وعظمته الراسخة في القلب لم أتكلم في شيء من ذلك وكنت إلى السكوت أميل لكن لا أرى السكوت يسعني في ذلك فإن هذا عهد عهده النبي صلى الله عليه وسلّم عند وفاته فوجب على كل من علمه أن يبينه ولا يراعى فيه صديقاً ولا حبيباً ولا بعيداً ولا قريباً ، وأنا أذكر شبه المفتين وأردها واحدة واحدة ، فمنهم من قال : لا نقل في هذه المسألة لأهل مذهبنا ونقول بالجواز استحساناً حيث لا ضرر وجواب هذا أنه لا استحسان مع النصوص النبوية ، ومنهم من قال : بالقياس على سائر المساجد حيث رأى الناظر ذلك وجواب هذا أن النص منع القياس ودلت الأحاديث على أن المسجد النبوي انفرد بهذه الخصوصية على سائر المساجد ، ومنهم من قال : الأمر في ذلك منوط برأي الإمام وجواب هذا أنه لا رأي لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهل لأحد من الأئمة أن يغير من الأمور المنصوصة في الشريعة(2/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
شيئاً برأيه ؟ ومنهم من قال : الحديث الوارد في ذلك مخصوص بزمنه عليه السلام وهذا خطأ من وجوه ، أحدها : أنه لا دليل على التخصيص وإنما يصار إلى تخصيص النصوص بدليل ، ثانيها : أن القصة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلّم في مرض وفاته ولم يعش إلا دون عشرة أيام فدل على أنه أمر به شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة ، ثالثها : أنه لو كان مخصوصاً بزمن لوجب على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبينه وإلا لكان تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة لا سيما وهي آخر جلسة جلسها للناس ، رابعها : أن الصحابة استمروا إلى أن انقرضوا وهم باقون على هذا الحكم وهذا يدل على أنهم فهموه شرعاً مؤبداً ، خامسها : يقال لهذا الذي ادعى التخصيص ما وجه منع الصحابة في زمنه والإذن لمن جاء بعدهم والصحابة أشرف وأجل وأحق بكل خير ؟ وهل يتخيل متخيل أن يرخص لأهل القرن الأرذل ما منع [ منه ] أشرف الأمة وخيارهم معاذ الله ، ومنهم من قال المنع مخصوص بجدار النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا هدم وأعيد غيره فإن المعاد ملك للمعيد فيفتح فيه ما شاء ولا يصير وقفاً حتى يوقفه ، وهذا الكلام مردود بوجوه :
الأول : أن سبب هذا القول فهم أن الحكم متعلق بالجدار وليس كذلك بل الحكم متعلق بالمسجد وقصد النبي صلى الله عليه وسلّم أن لا يستطرق إلى مسجده من باب في دار تلاصقه ولا يطلع إليه من كوة في دار تلاصقه فسواء في ذلك بقي الجدار الذي كان في عهده أو أزيل وأعيد غيره فإن المعاد يقوم مقام الجدار الأول في هذا الحكم .
الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية كما تقرر في الأصول ، وقد رتب صلى الله عليه وسلّم الحكم هنا على الوصف حيث قال : ( انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها ) وفي لفظ : ( الشوارع إلى المسجد ) فعلق الحكم بالشوارع فدل على أن العلة في سدها كونها شارعة إلى المسجد أي طريقاً إليه من دار فسد كل باب يشرع إلى المسجد من دار سواء فتح في الجدار النبوي أم في الجدار الذي أعيد مكانه أم في جدار صاحب الدار .
الثالث : أن الجدار النبوي أزيل في عهد عمر ، وعثمان وبني غيره وأبقى الصحابة هذا الحكم فدل على أنهم فهموا من الأمر الشريف تعلق ذلك بالمسجد لا بالجدار وإلا لكانوا يفتحون لهم أبواباً وكوات ويحتجون بأن الجدار النبوي أزيل وهذا الجدار ملك عمر ، أو عثمان وحاشاهم من ذلك وهم أتقى لله وأورع وأشد خشية .
وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : ( ينبغي أن يزاد في مسجدنا هذا ما زدت ) أخرجه أحمد ، وأبو يعلى ، والبزار في مسانيدهم فانظر إلى هذا التوقف من إحداث شيء في المسجد النبوي إلا بنص من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلّم .
الرابع : أن دعوى أن الجدار المعاد ملك للمعيد يقال عليه أولاً هدم الجدار الذي قبله لا يخلو إما أن يكون لمصلحة أولا ، فإن كان لغير مصلحة فإعادته واجبة على الهادم ، فإذا أعاده كان بدل متلف لا ملكاً له ، وإن كان لمصلحة فإعادته واجبة على الهادم ، فإذا أعاده كان بدل لا ملكاً له ، وإن كان لمصلحة فإعادته واجبة من مال وقف المسجد الشريف أو من مال بيت المال ، فإذا أعيد منهما كان وقفاً كما كان لا ملكاً ، وإن أعاده الإمام أو غيره من(2/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
مال نفسه على نية إعادته للمسجد فالأمر كذلك أيضاً أو على نية التملك فهذا لا يجوز وكيف يبني على نية التملك في أرض المسجد الشريف ؟
الخامس : أن هذا الجدار المعاد لا يخلو إما أن يمحض جداراً للمسجد الشريف أو يجعل جداراً للدار التي تبنى ملاصقة ويكتفي به عن إعادة جدار المسجد أو يجعل جداراً لها ويعاد جدار المسجد كما كان ، فإن كان الثالث فهو المطلوب ، وإن كان الثاني لم يجز إهمال إعادة جدار المسجد بل يجب على الإمام الأعظم أو الحاكم الشافعي ناظر الحرم الشريف إعادة جدار المسجد ولا يتركه مهدوماً ويزيد ذلك تحريماً أن يبنى على أرض المسجد ويجعل جداراً للدار ، فهذا فيه أخذ قطعة من المسجد وإدخالها في الدار وهو ممنوع ، وإن كان الأول وجب فصل الدار منه ولم يجز أن ينتفع بجدار المسجد في الدار .
السادس : أن قوله صلى الله عليه وسلّم : ( سدو الأبواب اللاصقة في المسجد ) [ يدل على أنه لم يخص الحكم بجداره بل علقه باللصوق في المسجد ] أي كونه متصلاً به فيشمل ذلك كل باب لصق به من أي جدار كان .
السابع : أن الحديث الآتي وهو قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي ) دل على استواء القدر الذي كان في عهده مسجداً والذي يحدث بعده في الحكم فكذلك يستوي الجدار الذي كان في عهده والذي يحدث بعده في الحكم .
الثامن : لو قدر والعياذ بالله احتياج بعض حيطان الكعبة إلى هدم وإصلاح فهدمها الإمام وأعادها فهل يقول قائل إن الحائط الذي أعاده ملك له يفتح فيه ما شاء ويتصرف فيه كيف شاء ولا يخرج عن ملكه حتى يوقفه ؟ فإن قيل بذلك ففي غاية السقوط ، وإن لم يقل به فحائط المسجد النبوي كذلك ، إذ الحرمان الشريفان مستويان في غالب الأحكام ، وقياس الحرم النبوي على الحرم المكي أشبه من قياسه على سائر المساجد لما له من الخصوصيات لا سيما مع ما ورد فيه من النصوص في هذا الحكم بعينه .
التاسع : قد ذكر الأقفهسي أن الملك الظاهر بيبرس هو الذي أحدث المقصورة حول الحجرة الشريفة سنة ثمان وستين وستمائة وأنه فعل ذلك ظناً منه أنه زيادة تعظيم وحرمة للحجرة ، ثم أنكر الأقفهسي هذا الفعل لكونه حجر طائفة من الروضة الشريفة عن صلاة الناس فيها وصار هذا القدر مأوى النساء بأطفالهن أيام الموسم ، ونقل عن قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أن ذلك ذكر للملك الظاهر فسكت وما أجاب ثم قال : وهذا من أهم ما ينظر فيه انتهى . فانظر إلى توقف العلماء في هذا القدر مع أنه لم يرد فيه نص بمنع بل قصد التعظيم فيه والحرمة ظاهر فكيف بإحداث باب يشرع أو شبابيك يطلع منها أو يجلس فيها الجالس مرتفعاً مع مصادمة ذلك للنصوص وإن لم يظهر لمن قال بذلك اطراد الحرمة في الجدار المعاد فلا أقل من التوقف والورع في مثل هذا المحل الخطر .
العاشر : هل يظن ظان أو يتوهم متوهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم خص المنع بالجدار بخلاً بجداره أو حرصاً عليه أو خشية أن يضعف الجدار ؟ كلا والله بل إنما أراد بذلك منع الاستطراق(2/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
والاطلاع إلى مسجده مع قطع النظر عن الجدار بخصوصه حسبما أمره الله وأوحى إليه .
الحادي عشر : هل كان المنع لعمر وغيره من حيث الجدار حتى لو فتحوا من جدارهم حيث لا جدار للمسجد لجاز لهم ذلك ؟ الأحاديث تقتضي خلافه كما من مر عليها .
الثاني عشر : هذا المنع قد أسند النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الوحي ولم يبين علته ، فإن أدرك له علة وهو تعظيم المسجد استمر ذلك إلى يوم القيامة في كل جدار ، وإن لم يدرك علة استمر أيضاً فإن التخصيص إذا لم ينص يكون عن قياس وما لا تدرك علته لا يدخله القياس كسائر الأمور التوقيفية والتعبدية وإن قال قائل : العلة اختصاصه بالجدار قلنا : ليس هذا بعلة ، وإن قال : العلة خوف إضعافه ، قلنا : هي علة ساقطة لأن الصحابة كانوا يلتزمون بناءه كلما وهي فدل على أنه إنما يعلل بتعظيم المسجد فيعم المسجد أو غير معلل بل هو حكم أمر الله نبيه أن يأمر به ولم يطلع على علته .
الثالث عشر : قد وقع في الأحاديث التصريح بأن هذا عهد عهد به صلى الله عليه وسلّم عند وفاته وقد علم صلى الله عليه وسلّم ما هو كائن في أمته إلى أن تقوم الساعة ، وعلم من جملة ذلك أنه يقع في خلافة عمر إزالة تلك الجدر الموجودة وذلك بعد وفاته بسنين قليلة ، فلو كان الحكم الذي عهد به مختصاً بتلك الجدر لبينه لعلمه بزوالها عن قريب .
الرابع عشر : قد ورد عن عائشة أنها كانت تمنع أهل الدور المطيفة بالمسجد من دق الوتد في الحائط وذلك بعد إزالة الجدر التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلّم فدل على أن الجدر التي أعيدت لها حكم الجدر الأول .
الخامس عشر : قوله صلى الله عليه وسلّم : ( لا يبقين في المسجد باب إلا سد ) يدل على أن الحكم معلق بالمسجد ولم يقل لا يبقين في الجدار .
السادس عشر : ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أبقيت فيها الخوخة باعها أبو بكر في أمر احتاج إليه فاشترتها حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف فلما وسع المسجد في زمن عثمان طلب منها أن تبيعها ليوسع بها المسجد فامتنعت وقالت : كيف بطريقي في المسجد ؟ فهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الأمر الشريف الاختصاص بالمسجد لا بالجدار امتناع فتح الأبواب ونحوها ولو بعد توسعة المسجد وهدم الجدار النبوي .
السابع عشر : أن ابن الصلاح سئل عن رباط موقوف على الصوفية اقتضت المصلحة أن يفتح فيه باب جديد مضافاً إلى بابه القديم فأجاب بالجواز بشروط واستدل بفعل عثمان رضي الله عنه حيث فتح في المسجد النبوي أبواباً زيادة على ما كان ، وهذا من ابن الصلاح دليل على أنه فهم أن الجدار المعاد له حكم الجدار الأول عثمان رضي الله عنه إنما فتح في جداره الذي بناه هو بعد إزالة الجدر النبوية والجدر العمرية ، فلو كان الحكم مختلفاً لم ينهض لابن الصلاح الاستدلال بذلك لأنه يقال له في الفرق جدار الرباط جدار الواقف فلا يفتح فيه ، والجدار الذي فتح فيه عثمان ليس جدار الواقف بل هو جدار وملكه فيبطل(2/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
الاستدلال ، وقد نقل السبكي كلام ابن الصلاح هذا في فتاويه وقال : إنه صحيح فهو تقرير لهذا الفهم .
الثامن عشر : صرح العبادي ، والشيخ أبو محمد الجويني في كتاب موقف الإمام والمأموم بأنه لو التمس من الناس آلة ليبني بها مسجداً فأعطوه الآلة فبنى بها فإنه يصير مسجداً بنفس البناء ولا يحتاج إلى إنشاء وقف ، كما لو أحيا مواتاً بنية جعلها مسجداً فإنه يصير مسجداً بالنية ولا يحتاج إلى وقف ، نقله الزركشي في التكملة عن الجويني ، وابن العماد في أحكام المساجد عن العبادي ، وهذا يدفع القول بأن حائط المسجد الشريف إذا أعادها الإمام يكون ملكاً له ويحتاج إلى إنشاء وقف لأنه ما نوى بعمارتها إلا إعادة حائط المسجد ، والقرائن على هذه النية متضافرة منها كون البناء على أرض المسجد .
التاسع عشر [ والعشرون ] : قال الماوردي : إذا بنى مسجداً في موات ونوى به المسجد صار به مسجداً ويغني الفعل مع النية عن القول قال : ويزول ملكه عن الآلة بعد استقرارها في مواضعها من البناء وهي قبل الاستقرار باقية على ملكه إلا أن يقول : إنها للمسجد فيخرج عن ملكه نقله الزركشي في التكملة ، وصدر هذا الكلام والاستثناء الذي في آخره يبطلان القول بأن حائط المسجد الشريف إذا أعادها الإمام صارت ملكه ويحتاج إلى وقف .
الحادي والعشرون : لم ينقل عن عثمان رضي الله عنه أنه حين وسع المسحد صرح بوقف ولا ذكر لفظاً ذكره الزركشي في التكملة قلت وكذلك لم ينقل عن عمر بن عبد العزيز ولا عن المهدي حين وسعاه ولا عن أحد من الملوك الذين بنوه بعد الحريق الأول أنهم صرحوا بوقف ولا ذكروا لفظاً ولا نبههم أحد من علماء عصرهم مع كثرتهم على أنه محتاج إلى ذلك ، فدل على أنه لا يحتاج إليه لأن البناء المحدود تابع للمسجد القديم .
الثاني والعشرون : قال الزركشي : أورد بعضهم على قول الأصحاب لو بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجداً أنه صلى الله عليه وسلّم لم ينقل عنه أنه حين بنى مسجده تلفظ بوقفه قلت : وقد يجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلّم بناه بأمر الله تعالى وبالوحي فأغنى ذلك عن التصريح بوقفه ، فإن قوة الأحاديث والأخبار تعطي ذلك فيكون ذلك من خصائص مسجده وتستمر هذه الخصوصية فيه إلى يوم القيامة فلا يحتاج كل من جدده إلى تصريح بوقفه .
الثالث والعشرون : قال في الروضة وأصلها نقلاً عن الإمام : لا شك في انقطاع تصرف الإمام عن بقاع المسجد فإن المساجد لله انتهى ، وهذا الكلام صريح في منعه من أن يبني حائطاً على بقعة المسجد ويضم إليها زيادة في البناء موصولة بها متملكاً ذلك ويتصرف في المجموع بفتح الشبابيك أو غير ذلك .
الرابع والعشرون : هل يجوز للإمام أو غيره إعادة حائط المسجد من مال نفسه على نية التملك والتصرف بما شاء مع وجود سهم المصالح الذي يجب عليه بناء المساجد منه وإعادتها كما كانت ؟ هذا محل نظر ، وما أظن فقيهاً يسمح به إلا بشرط عدم نية التملك والتصرف ، وكذا مع وجود ريع متحصل من وقف المسجد .(2/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
الخامس والعشرون : قد صرح العلماء بأن ملك النبي صلى الله عليه وسلّم ثابت بعد موته لثبوت الحياة له ، ولهذا أنفق على زوجاته بعد وفاته من سهمه الذي كان يستحقه ، فكذلك يبنى منه ما تهدم من مسجده ويعاد على وضعه وشرطه من غير تعد ولا تصرف .
السادس والعشرون : لا شك في أن جميع ما بأيدي الملوك الآن هو مال بيت المال وليس في أيديهم شيء يثبت أنه ملكها بالطريق الشرعي ، وأي جهة فرضت فعنها الجواب الشافي فالحائط المعاد لم يبن بمال نفسه فلا ملك له فيه .
السابع والعشرون : قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلّم من حيث المعنى على قريش حيث تصرفوا في الكعبة لما بنوها ولم يعيدوها على بناء إبراهيم وسدوا أحد بابيها وغيروا موضع الآخر وهمَّ بهدمها وإعادة البابين كما كانا لولا حدثان عهدهم بالجاهلية فما منعه من ذلك إلا مصلحة التآلف على الإسلام وخوف ارتدادهم إلى الكفر ، وهذا يدل على أن البناء المعاد له حكم ما كان قبل الهدم ، وإلا كان يقال أن قريشاً إنما تصرفت في بنائها الذي بنته من مالها ، وأن بناء إبراهيم قد ذهبت عينه وزال رسمه ، ولهذا قال السبكي فيما سيأتي نقله عنه : أن همّ النبي صلى الله عليه وسلّم بفتح الباب الثاني في الكعبة رد لما كانت عليه أولاً ، ولا فرق بين ما بناه إبراهيم صلى الله عليه وسلّم بالوحي وبين ما بناه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم بالوحي ، وإنما قد يفرق بين ذلك وبين سائر المساجد التي بناها آحاد الناس أن سلم الفرق وقد وقع في كلام ابن الصلاح قياس رباط الصوفية في إحداث باب فيه على الكعبة .
الثامن والعشرون : صرح ابن العماد في أحكام المساجد بأنه لو كانت المساجد متلاصقة فأراد الناظر رفع الجدار التي بينها وجعلها مسجداً واحداً لم يجز له ذلك لأنه يؤدي إلى تغيير معالم الوقف ، وكذلك لا يجوز ترك جدار المسجد النبوي والاقتصار على جدار واحد يجعل للمدرسة التي تلاصقه مكتفياً به عن جدار المسجد على جهة الاختصاص بالمدرسة أو الاشتراك بينها وبين المسجد ، بل لا بد من جدار للمسجد متميز منفصل عن جدار غيره يختص به وتجري عليه أحكامه .
التاسع والعشرون : هذه المدرسة إن لم تكن مسجداً كما هو المعروف في المدارس والربط فلا يجوز الاشتراك بينها وبين المسجد في الجدار ، إذ لا يتميز حينئذ جدار المسجد الذي حكمه حكم المسجد من جدار المسجد المدرسة الذي لا يعطي حكم المسجد من وجوه ، منها تحريم مكث الجنب وصحة الاقتداء والاعتكاف وتحريم البصاق وحمل الجذوع وإعادته إذا هدم من مال الوقف أو مال بيت المال إلى غير ذلك ، وإن كانت مسجداً فينظر إلى ما أورده المفسرون من الأحاديث والآثار في آخر سورة براءة ، ومنهم من قال : المنع مخصوص بالقدر الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلّم فأما الزيادة التي وسع بها فلا وهذا مردود بنص العلماء ، على أن المسجدين ولو وسعا معاً لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما وقد وسع في زمن عثمان وغيره واستمر الصحابة على إبقاء الحكم المذكور . وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( لو بني مسجدين هذا إلى صنعاء كان(2/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
مسجدي ) وروى أيضاً عن عمر بن الخطاب قال : لو مد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ذي الحليفة لكان منه . فهذا الحديث والأثر تصريح بأن أحكام المسجد ثابتة له ولو هدم عما كان في عهده صلى الله عليه وسلّم وأعيد ولو وسع وامتد ، وأيضاً فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم لأنه يلزم من الاستطراق إلى القدر المزيد الاستطراق إلى بقية المسجد وهو القدر الذي كان في عهده فالمحذور باق .
فصل : وقد تعرض جماعة من متأخري أصحابنا للمسألة وعمموها في سائر المساجد ، فسئل الشيخ تقي الدين عن باب فتح في سور المسجد هل بعد فتحه يجوز الاستطراق منه إلى المسجد مثل الأبواب التي في المسجد الحرام ومثل شباك الطيبرسية المجاورة للجامع الأزهر أم لا يجوز ذلك ؟ ويفرق بين أن يكون الجدار عريضاً بحيث يحتاج إلى وضع القدم في وسطه أم لا ؟ فأجاب بأن هذه المسألة يتكلم فيها في موضعين : أحدهما في جواز فتح الباب المذكور الذي يظهر على قواعد مذهب الشافعي أنه لا يجوز ، ولا يكاد الشافعية يرتابون في عدم إيجاز ذلك فإنهم يحترزون عن تغيير الوقف جداً ، ولما فتح شباك الطيبرسية في جدار الجامع الأزهر عظم ذلك عليّ ورأيته من المنكرات ، ولما فتح الشيخ علاء الدين في بيته في المدرسة الشريفية بالقاهرة شباكاً لطيفاً لأجل الضوء خشي الإنكار [ عليه ] فقال لي : إنه استند إلى كلام لابن الرفعة في المطلب شرح الوسيط ورأيت أنا ذلك الكلام عند قول الغزالي في تعليل الوجه القائل بأنه لا يجوز تزويج الجارية الموقوفة لأنه ينقص الوقف ويخالف غرض الواقف ، فقال ابن الرفعة : قوله : ويخالف غرض الواقف يفهم أن أغراض الواقفين وإن يصرح بها ينظر إليها ولهذا كان شيخنا عماد الدين يقول : إذا اقتضت المصلحة تغيير بناء الوقف في صورته لزيادة ربعه جاز ذلك وإن لم ينص عليه الواقف بلفظه ، لأن دلالة الحال شاهدة بأن ذلك لو ذكره الواقف حالة الوقف لأثبته في كتاب وقفه . قال ابن الرفعة : وقلت ذلك لشيخ الإسلام في وقته . وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد ، وأن قاضي القضاة تاج الدين وولده قاضي القضاة صدر الدين عملا بذلك في بعض الوقف من تغيير باب من مكان إلى مكان فقال لي في جواب ذلك : كان والدي يعني الشيخ مجد الدين يقول : كان شيخي المقدسي يقول بذلك وأكثر منه قال الشيخ تقي الدين : وناهيك بالمقدسي أو كما قال : فأشعر ذلك كله برضاه فاغتبط ابن الرفعة بما استشعره من رضى الشيخ تقي الدين وكان قدوة زمانه في العلم والدين وكان بحيث يكتفي منه بأدنى من ذلك ، والمقدسي شيخ والده مالكي فقيه محدث قدوة أيضاً ، وقد قلت في شرح المنهاج : أن الذي أراه في ذلك الجزاز بشرطين . أحدهما : أن يكون يسيراً لا يغير مسمى الوقف ، الثاني : أن لا يزيل شيئاً من عينه بأن ينقل بعضه من جانب إلى جانب ، فإن اقتضى زوال شيء من العين لم يجز ، فإذا وجد هذان الشرطان فلا بأس إذا كان في ذلك مصلحة للوقف ، فهذا شرط ثالث لا بد منه وهو مقصودي في شرح المنهاج وإن لم أصرح به ، وفتح شباك الطيبرسية لا(2/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
مصلحة لجامع الأزهر فيه فلا يجوز ، وكذلك فتح أبواب للحرم لا حاجة للحرم بها وإنما هي لمصلحة ساكنيها ، فهذا لا يجوز على مقتضى قواعد مذهب الإمام الشافعي ولا على مذهب غيره إذا لم يكن فيه مصلحة . وفي فتاوى ابن الصلاح رباط موقوف على الصوفية اقتضت المصلحة لأهله أن يفتح فيه باب جديد مضافاً إلى بابه القديم ، فهل يجوز للناظر ذلك وليس في شرط الواقف تعرض لذلك بمنع ولا إطلاق ؟ .
أجاب : إن استلزم ذلك تغيير شيء من الموقوف عن هيئة كان عليها عند الوقف إلى هيئة أخرى غير مجانسة لها مثل أن يفتح الباب إلى أرض وقفت بستاناً مثلاً فيستلزم تغيير محل الاستطراق منه وجعل ذلك القدر طريقاً بعد أن كان أرض غرس وزراعة فهذا وشبهه غير جائز ، وإن لم يستلزم شيئاً من ذلك ولم يكن إلا مجرد فتح باب جديد فهذا لا بأس به عند اقتضاء المصلحة له ، وفي الحديث والأثر الصحيحين ما يدل على تسويغه الحديث : ( لولا حدثان قومك بالكفر لجعلت للكعبة بابين ) ولا فرق والأثر فعل عثمان بن عفان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو إجماع .
قلت : الذي قاله صحيح لكن في استدلاله بالكعبة نظر لأن البابين كانا في زمن إبراهيم ففتح الثاني رد لما كانت عليه في الأول ، وأما فعل عثمان فكان لمصلحة عامة المسلمين فلا يلزم طرده في كل وقت ، ألا ترى أن ذلك هدم بالكلية ، ولو جئنا نفعل ذلك في كل عصر في كل الأوقات لم يجز ، وقال ابن الصلاح : لا بد أن يصان ذلك عن هدم شيء لأجل الفتح على وجه لا يستعمل في موضع آخر من المكان الموقوف فإن ذلك من الموقوف ، فلا يجوز إبطال الوقف فيه ببيع وغيره ، فإذا كان الفتح بانتزاع حجارته بأن تجعل في طرف آخر من المكان فلا بأس ، هذا كلام ابن الصلاح ، وظهر من هذا أنه يجوز الفتح بهذه الشروط في باب جديد في الحرم إذا اضاقت أبوابه من ازدحام الحجيج ونحوهم فيفتح فيه باب آخر وأكثر ليتسعوا ، فهذا هو الذي نقول أنه جائز بالشرط المذكور ، أما غيره لغرض خاص من جيرانه أو غيرهم فلا .
الموضع الثاني وهو جواز الاستطراق فيه بعد الفتح ولا نقل عندي في مثله ، والذي أقوله أنه حيث جاز الفتح الاستطراق ولا إشكال ، وحيث لم يجز الفتح فقد خطر لي في نظري في ذلك في باب الكعبة الذي هو اليوم وهو الذي أحدثته قريش بدلاً عن الباب التحتاني الذي كان في زمن إبراهيم عليه السلام وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلّم منه ، وخطر لي في الجواب عنه أن دخول الكعبة مشروع سنة وربما كان واجباً فلا يترك لفعل قريش ولم يكن تغيير ذلك الباب ممكناً لما قال صلى الله عليه وسلّم : ( لولا حدثان عهد قومك ) فاجتمع في باب الكعبة أمران : أحدهما جواز إبقائه في ذلك الوقت ، والثاني الحاجة إلى دخول الكعبة إقامة للشرع المسنون والواجب وهكذا الآن ، فإن الإجماع انعقد على جواز تغييرهما معاً ، ويكفي تقرير النبي صلى الله عليه وسلّم دليلاً لجواز إبقاء ذلك الباب والدخول منه ودع يكون فتح على أي وجه كان ، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلّم ودخوله منه شرع مستقل ، ويكون أيضاً في أن الحجر من البيت وقد أفرد(2/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
عنه ببناء لطيف فيه فتحتان شرقية وغربية في جرية متلاصقتان لجهة الكعبة والدخول فيه من إحدى الفتحتين أو من فوق جداره اللطيف ما أظن أحداً يمنع منه ولا أدري هل دخله النبي صلى الله عليه وسلّم أو لا ، ولكن جاء في الترمذي أنه قال لعائشة : ( صلي فيه ) والمعنى الذي قدمناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلّم أيضاً يكفي في مشروعية إبقائه والدخول فيه من تلك الفتحتين ومن التسور على جداره ، وكيف كان فإن دعت الحاجة إلى الدخول فيه [ جاز ] الدخول منه كالدخول في الكعبة لاجتماع المعنيين ، وإن لم تدع الحاجة كان الجواز لأجل جواز الإبقاء للحديث المذكور وللتقرير ؟ وأما الأبواب المفتحة للحرم من أماكن لأصحابها فلا حاجة للمسلمين ولا للحرم بها فلا يجوز فتحها ولا يجوز ابقاؤها ولا حاجة إلى الدخول إلى الحرم منها ، فلم يوجد فيها شيء من المعنيين اللذين في الكعبة فيظهر أن لا يجوز لأمرين : أحدهما معنى فإن شيخنا ابن الرفعة لما زينت القاهرة في سنة اثنتين وسبعمائة زينة عظيمة أفتى بتحريم النظر إليها قال : لأنها إنما تعمل لينظر إليها فهو العلة الغائية المطلوبة منها [ ففي ] تحريم النظر إليها حمل على تركها ، وهكذا إذا تواطأ الناس على عدم الدخول منه كان ذلك داعياً إلى سده الواجب ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب وترك الواجب حرام ، بل أقول إن الدخول منه دعاية إلى الحرام ودوامه فيكون حراماً ، والثاني أن الوقف غير مملوك لنا وإنما جاز لنا التصرف فيه بإذن من الواقف شرطاً أو عرفاً على مقتضى الشرع ، فوافق الجامع والحرم وغيرهما من المساجد ونحوها وقفه على صفة ليس لنا أن نتصرف فيه إلا على تلك الصفة ، والدخول من ذلك المكان المفتوح لم يقتضه شرط الواقف فلا يكون مملوكاً لنا ، وأيضاً فمن ملك مكاناً ملك تحته إلى تحت تخوم الأرض وفوقه إلى السماء والهواء الذي فوقه مملوك له فالداخل من الباب متصرف في هواء غيره بما لم يؤذن له فلا يجوز مع ملاحظة هذين المعنيين ، فلا فرق بين أن تكون العتبة عريضة بحيث يضع قدمه عليها أو لا ، نعم إن كانت عريضة يتأكد المنع للتصرف في الهواء والقرار ، هذا هو الذي يترجح عندي في ذلك . ويحتمل أيضاً أن يقال المنع إنما كان لوجود الجدار وليس بمقصود في نفسه ، فإذا زال الجدار بأي طريق كان فلا يمتنع دخول المكان كما لو انهدم بنفسه ، واعتبار ملك الهواء بحيث يقال ليس لهما العبور إذا انهدم بنفسه لا تقتضيه قواعد الفقه ولا العرف وهو مستنكر ، فالوجه أن يقال إنما يتخيل التحريم من جهة أنها إعانة على ظلم فإذا لم يكن إعانة على ظلم فهو جائز ، وذلك حيث لا يفيد الامتناع من الدخول وإنما يفيد إذا كان الممتنع مطاعاً فيكون امتناعه سبباً لإنكار المنكر فيجب إذا لم يكن بهذه المثابة فلا منع ، لا سيما قد يتفق أن يكون الشخص الذي لا قدرة له على التغيير ساكناً في جوار الحرم في مكان قد فتح منه باب كذلك وهو لا يقدر على سده فيحتمل جواز دخوله منه ، ويقوي ذلك إذا احتاج بأن يكون في الليل ونحوه وخاف على نفسه أو ما معه من الخروج فإنا نقطع في هذه الحالة بجواز دخوله قياساً على الكعبة للحاجة ، وأما السكن فيه فلا يمتنع هذا كله كلام السبكي في فتاويه .(2/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
وقال الزركشي في كتابه أحكام المساجد : بوّب البخاري في صحيحه باب الخوخة والممر في المسجد وأدخل فيه حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلّم خطب وقال : ( لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر ) وظاهر الخبر المنع وخصوصية الصديق بذلك دون غيره هذه عبارته ، وأورد ابن العماد في كتابه أحكام المساجد كلام السبكي بحروفه ، ثم أورد على حديث الأمر بسد الأبواب إشكالاً وهو غير وارد فقال : يلزم على الحديث إشكال وهو أن هذه الأبواب يعني التي أمر بسدها إن كانت من أصل الوقف التي وضع المسجد عليها لزم عليه جواز تغيير معالم الوقف وخروجه عن الهيئة التي وضع عليها أولاً ، وإن كانت محدثة لزم عليه جواز فتح باب في جدار المسجد وكوة يدخل منها الضوء وغير ذلك مما تقتضيه مصلحة حتى يجوز لآحاد الرعية أن يفتح من داره المجاورة للمسجد باباً إلى المسجد في حائط المسجد وقد تقدم أنه ممنوع ، ويحتمل أن يقال يجوز ذلك للواقف دون غيره لأنه صلى الله عليه وسلّم هو الذي وقف المسجد ، وفيه إشكال من جهة انتقال الوقف وزواله عن ملكه إلى الله تعالى هذه عبارته قلت : الإشكال ساقط فإن الفتح أولاً كان بأمر من الله ووحي فكان جائزاً ثم نسخ الله تعالى وأمر بالسد بوحي أيضاً كما تقدم في الأحاديث فهو من قبيل الناسخ والمنسوخ من الأحكام الشرعية فلا إشكال ، وقد فهم من كلام السبكي السابق أنه لا يجوز الفتح إلا بثلاثة شروط : أن يكون يسيراً لا يغير مسمى الوقف ، وأن لا يزيل شيئاً من عينه ، وأن يكون في ذلك مصلحة للوقف أو لعامة المسلمين ، ويزاد عليها شرط رابع من فتاوي ابن الصلاح ، وهو أن لا يكون في شرط الواقف نص على منعه ، فإذا اجتمعت هذه الشروط الأربعة جاز الفتح وإن فقد شرط منها لم يجز ، وقد فقد في مسجد المدينة شرطان :
الثالث والرابع : فإنه لا مصلحة في ذلك للمسجد بل للمدرسة المجاورة [ كما قاله السبكي في الطيبرسية مع الجامع الأزهر وفي البيوت المجاورة ] للمسجد الحرام والرابع فإن الواقف هو صاحب الشرع صلى الله عليه وسلّم نص على منعه وأسند ذلك إلى الوحي الشريف فوجب القول بالمنع ولو قيل بالجواز في بقية المساجد ، وقد بنى السلطان سقاية للشرب في رحبة الجامع الطولوني وفتح له شباكاً في الجدار المحوط على الرحبة ليسهل شرب المارين منها ، وهذا الفتح جائز هنا لوجود المصلحة العامة وعدم نص من الواقف على منعه ، ولو أراد السلطان الآن الزيادة في عدة أبواب المسجد النبوي لجاز له ذلك بل يستحب لأمرين : أحدهما وجود المصلحة العامة ، والثاني الرد إلى ما كان عليه أولاً ، فسيأتي أنه كان له في زمن عمر بن عبد العزيز عشرون باباً .
فائدة نختم بها الكتاب : قال النووي في شرح المهذب : فرع عن خارجة بن زيد ابن ثابت آخر فقهاء المدينة السبعة قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسجده سبعين ذراعاً في ستين ذراعاً أو يزيد ، قال أهل السير : جعل عثمان بن عفان طول المسجد مائة وستين ذراعاً
وعرضه مائة وخمسين وجعل أبوابه ستة كما كانت في زمن عمر - وزاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل(2/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمة مائتين وفي مؤخره وثمانين ، زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط مائة وخمسين وجعل أبوابه ستة كما كانت في زمن عمر وزاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع وعرضه دون الجهات الثلاث هذا ما في شرح المهذب ، وأخرج ابن سعد في الطبقات عن الزهري قال : بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند موضع المسجد وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين وكان مربد السهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ابتاعه منهما فابتاعه بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع ، وأمر باللبن فضرب ، وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب ، وكان في المربد ماء مستحل فسيروه حتى ذهب وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع ويقال : كان أقل من المائة وجعلوا الأساس قريباً من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وجعل ينقل معهم الحجارة بنفسه ويقول :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجره
وجعل يقول :
هذا الحمال لا حمال خيبر
هذا أبرر بنا وأطهر
وجعل له ثلاثة أبواب : باباً في مؤخره ، وباباً يقال له باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة ، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الباب الذي يلي آل عثمان ، وجعل طول الجدار بسطه وعمده الجذوع وسقفه جريداً فقيل له : ألا تسقفه ؟ فقال : عريش كعريش موسى خشيبات وتمام الشأن أعجل من ذلك ، وبنى بيوتاً إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد ، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد وجعل سودة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان ؛ وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن مجمع بن يزيد قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسجد مرتين ، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد فيه مثله في الدور وضرب الحجرات ما بينه وبين القبلة ، وأخرج أيضاً عن أنس قال : بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أول ما بناه بالجريد وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين .
وأخرج البخاري عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مبنياً باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم باللبن والجريد وأعاد عمده خشباً ، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج .(2/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
وقال الأقفهسي في تاريخ المدينة : قيل كان عرض الجدار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبنة ثم إن المسلمين لما كثروا بنوه لبنة ونصفاً ثم قالوا يا رسول الله لو أمرت لزدنا فقال نعم فزادوا فيه وبنوا جداره لبنتين مختلفتين ولم يكن له سطح فشكوا الحر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأقيم له سواري من جذوع ثم طرحت عليها العوارض والحصر والأذخر فأصابتهم الأمطار فجعل يكف عليهم فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين فقال عريش كعريش موسى والأمر أعجل من ذلك . ولما زاد فيه عمر جعل طوله مائة وأربعين ذراعاً وعرضه مائة وعشرين ذراعاً وبدل أساطينه بأخر من جذوع النخل وسقفه بجريد وجعل طول السقف أحد عشر ذراعاً وفرشه بالحصى ، ولما زاد فيه عثمان ذلك في ربيع الأول سنة تسع وعشرين جعل طوله مائة وستين ذراعاً وعرضه مائة وخمسين ذراعاً وجعل أبوابه ستة ، ولما زاد فيه عمر بن عبد العزيز وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك وكان عامله على المدينة جعل طوله ما تقدم عن شرح المهذب وجعل على كل ركن من أركانه الأربعة منارة للأذان وجعل له عشرين باباً وبنى على الحجرة الشريفة حائطاً ولم يلصقه بجدار الحجرة ولا بالسقف وطوله مقدار نصف قامة بالآجر ، فلما حج سليمان بن عبد الملك هدم المنارة التي هي قبلي المسجد من الغرب لأنها كانت مطلة على دار مروان فأذن المؤذن فأطل على سليمان وهو في الدار فأمر بهدمها ، ثم زاد فيه المهدي سنة إحدى وستين ومائة ولم يزد بعده أحد شيئاً ، ثم عمر الخليفة الناصر سنة ست وسبعين وخمسمائة في صحنه قبة لحفظ حواصل الحرم وذخائره ، ثم احترق المسجد الشريف بالنار التي خرجت من الحرة في ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم فأرسل الصناع والآلات مع حجاج العراق سنة خمس وخمسين وستمائة فسقفوا في هذه السنة الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي والشرقي إلى باب جبريل وسقفوا الروضة الشريفة إلى المنبر ، ثم قتل الخليفة سنة ست وخمسين واستولى التتار على بغداد فوصلت الآلات من صاحب اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول فعمل إلى باب السلام ثم عمل من باب السلام إلى باب الرحمة من سنة ثمان وخمسين من جهة صاحب مصر الملك المظفر قطن المعزى ، ثم انتقل الملك آخر هذه السنة إلى الملك الظاهر بيبرس الصالحي فعمل في أيامه باقي المسجد وجعلت الأبواب أربعة ، ثم لما حج سنة سبع وستين أراد أن يدير على الحجرة الشريفة درابزيناً من خشب فقاس ما حولها بيده وأرسله سنة ثمان وستين وعمل له ثلاثة أبواب وطوله نحو مائتين ، ثم في سنة ثمان وسبعين في أيام الملك المنصور قلاوون عملت القبة على الحجرة الشريفة ، ثم في سنة أربع وتسعين في أيام الملك العادل كتبغا زيد في الدرابزين الذي على الحجرة حتى وصل بسقف المسجد الشريف ، ثم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة إحدى وسبعمائة جدد سقف الرواق الذي فيه الروضة الشريفة ، ثم جدد السقف الشرقي والغربي في سنة خمس وسبعمائة ، ثم أمر بعمارة المنارة(2/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
الرابعة مكان التي هدمها سليمان بن عبد الملك فعمرت سنة ست وسبعمائة ، ثم أمر بإنشاء الرواقين في صحن المسجد من جهة القبلة في سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، ثم في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون جددت القبة التي على الحجرة الشريفة ، ثم أحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون سنة خمس وستين وسبعمائة بأن سمر عليها ألواح من خشب ومن فوقها ألواح الرصاص ، ثم في أيام سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي في شهر رمضان سنة ست وثمانين وثمانماشة عمر قبة أخرى وأشياء في المسجد ، ثم أعقب ذلك نزول صاعقة من السماء فأحرقت المسجد بأسره وذلك في ليلة ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين فأرسل السلطان الصناع والآلات سنة سبع وثمانين وعليهم الخواجا شمس الدين بن الزمن فهدم الحائط القبلية وأراد أن يبني بجوار المسجد مدرسة باسم السلطان ويجعل الحائط مشتركاً بين المسجد والمدرسة ويفتح فيه باباً يدخل منه إلى المسجد وشبابيك مطلة عليه فمنعه جماعة من أهل المدينة فأرسل يطلب مرسوماً من السلطان بذلك فبلغه منع أهل المدينة فقال : استفتوا العلماء فأفتاه القضاة الأربعة وجماعة بالجواز وامتنع آخرون من ذلك ، وجاءني المستفتي يوم الأحد رابع عشري رجب من السنة المذكورة فجمعت الأحاديث المصدر بها وأرسلتها لقاضي القضاة الشافعي فذكر أنه يرى اختصاصها بالجدار النبوي وقد أزيل ، وهذا الجدار ملك السلطان يفتح فيه ما شاء ولا يصير وقفاً إلا بوقفه ، فذكرت الجواب عن ذلك من تسعة وعشرين وجهاً وألحقتها بالأحاديث مع ما ذكر معها وأفردتها تأليفاً ، ورأيت ليلة الثلاثاء سادس عشري رجب في المنام النبي صلى الله عليه وسلّم وهو في همة وأنا واقف بين يديه فأرسلني لا أدري إلى عمر أو غيره ، ولا أدري هل أرسلني إليه لأدعوه أو لأبلغه رسالة ولم أضبط من المنام إلا هذا القدر ، فاستيقظت وأنا أرجو أن لا يتم لهم ما أرادوه ، ثم برز مرسوم السلطان بالفتح حسبما أفتاه من أفتاه ، وسافر القاصد بذلك في أواخر رجب وأرسل إلى رجلان من كبار أرباب الأحوال يخبراني أن هذا الأمر لا يتم ففي رمضان جاء الخبر بأن ذلك قد رجع عنه وعدلوا إلى الفتح من الجهة الغربية ، وأفتى بعض الحنفية بجواز ذلك لأن دار أبي بكر رضي الله عنه كانت من تلك الجهة وكان له باب مفتوح فيفتح نظيره فوجب النظر في ذلك . فأقول : قد ثبت في الأحاديث السابقة وقرر العلماء أن أبا بكر رضي الله عنه لم يؤذن له في فتح الباب بل أمر بسد بابه وأنما أذن له في خوخة صغيرة وهي المرادة في حديث البخاري ، فلا يجوز الآن فتح باب كبير قطعاً ، وليس لأحد أن يقول إن المعنى الاستطراق فيستوي الباب والخوخة في الجواز ، لأن النص من الشارع صلى الله عليه وسلّم على التفرقة حيث أمر بسد بابه وأبقى خوخته يمنع من التسوية والإلحاق ، وأما جواز فتح الخوخة الآن فأقول : لو بقيت دار أبي بكر واتفق هدمها وإعادتها أعيدت بتلك الخوخة كما كانت بلا مرية ، وكان يجب مع ذلك أن يعاد مثل تلك الخوخة قدراً ومحلاً ، فلا تجوز الزيادة فيها بالتوسعة ولا جعلها في موضع آخر من الحائط اقتصاراً على ما ورد الإذن من الشارع الواقف فيه ، لكن دار أبي بكر هدمت وأدخلت في(2/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
المسجد زمن عثمان ، وهل يجوز أن يبنى بإزائها دار يفتح منها خوخة نظير ذلك ؟ فيه نظر وتوقف فيحتمل المنع وهو الأقرب لأن تلك خصيصة كانت لأبي بكر فلا تتعدى داره ، ويحتمل الجواز لأمرين : أحدهما : أن حق المرور قد ثبت من هذه البقعة التي بإزاء دار أبي بكر إلى المسجد بواسطة دار أبي بكر فيستمر . والثاني : لا أبديه خوفاً أن يتمسك به المتوسعون وعلى الاحتمال فإنما يجوز بشرطين يتعذر الآن وجودهما أن يكون الذي يفتح بقدر تلك الخوخة لا أوسع منه ، وأن يكون على سمتها لا في محل آخر ، والأمران لا يمكن الوقوف عليهما الآن للجهل بمقدار تلك الخوخة ومحلها ، وإذا لم يتحقق وجود الشرط امتنع المشروط ، فتلخص من ذلك القطع بالمنع من الخوخة ومن الشبابيك أيضاً ، وبتحقق وجود الشرطين يجاب عن الأمر الثاني الذي رمزت إليه ولم أبده إن عثر عليه عاثر ، هذا ما عندي في ذلك .
خاتمة : وأما كسوة الحجرة الشريفة فأول من كساها ابن أبي الهيجاء وزير ملك مصر بعد أن استأذن الخليفة المستضيء فكساها ديباجاً أبيض ، ثم بعد سنتين أرسل الخليفة المستضيء كسوة ديباجاً بنفسجياً ، ثم أرسل الخليفة الناصر لما ولي كسوة من الديباج الأسود ، ثم لما حجت أم الخليفة وعادت أرسلت كسوة كذلك ، ثم صارت ترسل الكسوة من جهة مصر كل سبع سنين من الديباج الأسود ذكر ذلك الأقفهسي .
العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . مسألة : علي بن أبي طالب رضي الله عنه رزق من الأولاد الذكور أحداً وعشرين ولداً ، ومن الإناث ثماني عشرة على خلاف في ذلك ، والذين أعقبوا من ولده الذكور خمسة ، قال ابن سعد في الطبقات : كان النسل من ولد علي لخمسة : الحسن ، والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، والعباس بن الكلابية ، وعمر بن التغلبية . مسألة : فاطمة الزهراء رضي الله عنها رزقت من الأولاد خمسة : الحسن ، والحسين ، ومحسن ، وأم كلثوم ، وزينب فأما محسن فدرج سقطاً ، وأما الحسن والحسين فأعقبا الكثير الطيب ، وأما أم كلثوم فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وولدت له زيداً ورقية وتزوجها بعده ابن عمها عون بن جعفر بن أبي طالب فمات معها ثم تزوجها بعده أخوه محمد فمات معها ثم تزوجها بعده أخوه عبد الله بن جعفر فماتت عنده ولم تلد لأحد من الثلاثة شيئا . وأما زينب فتزوجها ابن عمها عبد الله بن جعفر فولدت له علياً ، وعوناً الأكبر ، وعباساً ، ومحمداً ، وأم كلثوم . مسألة : أولاد زينب المذكورة من عبد الله بن جعفر موجودون بكثرة ونتكلم عليهم من عشرة أوجه : أحدها أنهم من آل النبي صلى الله عليه وسلّم وأهل بيته بالإجماع لأن آله هم المؤمنون من بني هاشم والمطلب ، وأخرج مسلم ، والنسائي عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيباً فقال : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ثلاثاً فقيل(2/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
لزيد بن أرقم : ومن أهل بيته ؟ قال : أهل بيته من حرم الصدقة بعده قيل : ومن هم ؟ قال : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس . الثاني : أنهم من ذريته وأولاده بالإجماع وهذا المعنى أخص من الذي قبله . قال البغوي في التهذيب : أولاد بنات الإنسان لا ينسبون إليه وإن كانوا معدودين في ذريته حتى لو أوصى لأولاد أولاد فلان يدخل فيه ولد البنت . الثالث : أنهم هل يشاركون أولاد الحسن ، والحسين في أنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ والجواب لا ، وهذا المعنى أخص من الوجه الذي قبله . وقد فرق الفقهاء بين من يسمى ولداً للرجل وبين من ينسب إليه ولهذا قالوا : لو قال : وقفت على أولادي دخل ولد البنت ولو قال : وقفت على من ينسب إلي من أولادي لم يدخل ولد البنت ، وقد ذكر الفقهاء من خصائصه صلى الله عليه وسلّم أنه ينسب إليه أولاد بناته ولم يذكروا مثل ذلك في أولاد بنات بناته ، فالخصوصية للطبقة العليا فقط ، فأولاد فاطمة الأربعة ينسبون إليه ، وأولاد الحسن ، والحسين ينسبون إليهما فينسبون إليه ، وأولاد زينب ، وأم كلثوم ينسبون إلى أبيهم عمر ، وعبد الله لا إلى الأم إلى أبيها صلى الله عليه وسلّم لأنهم أولاد بنت بنته لا أولاد بنته ، فجرى الأمر فيهم على قاعدة الشرع في أن الولد يتبع أباه في النسب لا أمه ، وإنما خرج أولاد فاطمة وحدها للخصوصية التي ورد الحديث بها وهو مقصور على ذرية الحسن ، والحسين .
أخرج الحاكم في المستدرك عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لكل بني أم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما ) وأخرج أبو يعلى في مسنده عن فاطمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لكل بني أم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما ) فانظر إلى لفظ الحديث كيف خص الانتساب والتعصب بالحسن ، والحسين دون أختيهما لأن أولاد أختيهما إنما ينسبون إلى آبائهم . ولهذا جرى السلف والخلف على أن ابن الشريفة لا يكون شريفاً ولو كانت الخصوصية عامة في أولاد بناته وإن سفلن لكان ابن كل شريفة شريفاً تحرم عليه الصدقة وإن لم يكن أبوه كذلك كما هو معلوم ، ولهذا حكم صلى الله عليه وسلّم بذلك فاطمة دون غيرها من بناته ، لأن أختها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم تعقب ذكراً حتى يكون كالحسن والحسين في ذلك وإنما أعقبت بنتاً وهي أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع ، فلم يحكم لها صلى الله عليه وسلّم بهذا الحكم مع وجودها في زمنه ، فدل على أن أولادها لا ينسبون إليها لأنها بنت بنته ، وأما هي فكانت تنسب إليه بناء على أن أولاد بناته ينسبون إليه ، ولو كان لزينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولد ذكر لكان حكمه حكم الحسن ، والحسين في أن ولده ينسبون إليه صلى الله عليه وسلّم . هذا تحرير القول في هذه المسألة ، وقد خبط جماعة من أهل العصر في ذلك ولم يتكلموا فيه بعلم .
الوجه الرابع : أنهم هل يطلق عليهم أشراف ؟ والجواب : إن اسم الشريف كان يطلق في الصدر الأول على كل من كان من أهل البيت سواء كان حسنياً أم حسيناً أم علوياً من ذرية(2/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
محمد ابن الحنفية وغيره من أولاد علي بن أبي طالب أم جعفرياً أم عقيلياً أم عباسياً ، ولهذا تجد تاريخ الحافظ الذهبي مشحوناً في التراجم بذلك يقول : الشريف العباسي ، الشريف العقيلي ، الشريف الجعفري ، الشريف الزينبي ، فلما ولي الخلفاء الفاطميون بمصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين فقط فاستمر ذلك بمصر إلى الآن ، وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الألقاب : الشريف ببغداد لقب لكل عباسي وبمصر لقب لكل علوي انتهى ، ولا شك أن المصطلح القديم أولى وهو إطلاقه على كل علوي ، وجعفري ، وعقيلي وعباسي كما صنعه الذهبي وكما أشار إليه الماوردي من أصحابنا ، والقاضي أبو يعلى بن الفراء من الحنابلة كلاهما في الأحكام السلطانية ، ونحوه قول ابن مالك في الألفية : وآله المستكملين الشرفاء فلا ريب في أنه يطلق على ذرية زينب المذكورين أشراف ، وكم أطلق الذهبي في تاريخه في كثير من التراجم قوله : الشريف الزينبي ، وقد يقال : يطلق على مصطلح أهل مصر الشرف أنواع عام لجميع أهل البيت وخاص بالذرية فيدخل فيه الزينبية وأخص منه شرف النسبة وهو مختص بذرية الحسن والحسين .
الوجه الخامس : أنهم تحرم عليهم الصدقة بالإجماع لأن بني جعفر من الآل .
السادس : أنهم يستحقون سهم ذوي القربى بالإجماع .
السابع : أنهم يستحقون من وقف بركة الحبش بالإجماع لأن بركة الحبش لم توقف على أولاد الحسن والحسين خاصة بل وقفت نصفين : النصف الأول على الأشراف وهم أولاد الحسن والحسين ، والنصف الثاني على الطالبين وهم ذرية علي بن أبي طالب من محمد ابن الحنفية وإخوته ، وذرية جعفر بن أبي طالب ، وذرية عقيل بن أبي طالب ، وثبت هذا الوقف على هذا الوجه على قاضي القضاء بدر الدين يوسف السنجاوي في ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة ، ثم اتصل ثبوته على شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام تاسع عشري ربيع الآخر من السنة المذكورة ، ثم اتصل ثبوته على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة . ذكر ذلك ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتأمل .
الثامن : هل يلبسون العلامة الخضراء ؟ والجواب أن هذه العلامة ليس لها أصل في الشرع ولا في السنة ولا كانت في الزمن القديم ، وإنما حدثت في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بأمر الملك الأشرف شعبان بن حسين ، وقال في ذلك جماعة من الشعراء ما يطول ذكره من ذلك قول أبي عبد الله بن جابر الأندلسي الأعمى صاحب شرح الألفية المشهور بالأعمى والبصير :
جعلوا لأبناء الرسول علامة
إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في وسيم وجوههم
يغني الشريف عن الطراز الأخضر
وقال الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي :
أطراف تيجان أتت من سندس
خضر بأعلام على الأشراف(2/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
والأشرف السلطان خصصهم بها
شرفاً ليعرفهم من الأطراف
وحظ الفقيه في ذلك إذا سئل أن يقول : ليس هذه العلامة بدعة مباحة لا يمنع منها من أرادها من شريف وغيره ، ولا يؤمر بها من تركها من شريف وغيره ، والمنع منها لأحد من الناس كائناً من كان ليس أمراً شرعياً ، لأن الناس مضبوطون بأنسابهم الثابتة ، وليس لبس العلامة مما ورد به شرع فيتبع إباحة ومنعاً أقصى ما في الباب أنه أحدث التمييز بها هؤلاء عن غيرهم ، فمن الجائز أن يخص ذلك بخصوص الأبناء المنتسبين إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهم ذرية الحسن ، والحسين ، ومن الجائز أن يعمم في كل ذريته وإن لم ينتسبوا إليه كالزينبية ، ومن الجائز أن يعمم في كل أهل البيت كباقي العلوية ، والجعفرية ، والعقيلية كل جائز شرعاً ، وقد يستأنس فيها بقوله تعالى : ) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ( فقد استدل بها بعض العلماء على تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل الأكمام وإدارة الطيلسان ونحو ذلك ليعرفوا فيجلوا تكريماً للعلم ، وهذا وجه حسن والله أعلم .
التاسع : هل يدخلون في الوصية على الأشراف ؟ .
والعاشر : هل يدخلون في الوقف على الأشراف ؟ .
والجواب : أنه إن وجد في كلام الموصي والواقف نص يقتضي دخولهم أو خروجهم اتبع ، وإن لم يوجد فيه ما يدل على هذا ولا هذا فقاعدة الفقه أن الوصايا والأوقاف تنزل على عرف البلد ، وعرف مصر من عهد الخلفاء الفاطميين إلى الآن أن الشريف لقب لكل حسني وحسيني خاصة فلا يدخلون على مقتضى هذا العرف وإنما قدمت دخولهم في وقف بركة الحبش لأن واقفها نص في وقفه على ذلك حيث وقف نصفها على الأشراف ، ونصفها على الطالبيين .
آخر العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب نزهة المجالس لعبد الرحمن الصفوري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من لم يكن عنده مال يتصدق به فليلعن اليهود والنصارى ) . حكاية : ( خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبيع إزار فاطمة رضي الله عنها ليأكلوا بثمنه فباعه بستة دراهم فرآه سائل فأعطاه إياها فجاءه جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة فقال : يا أبا الحسن اشتر هذه الناقة فقال ما معي ثمنها ، قال : إلى أجل فاشتراها بمائة ، ثم عرض له ميكائيل في طريقه فقال : أتبيع هذه الناقة ؟ قال : نعم واشتريتها بمائة قال : ولك من الربح ستون فباعها له فعرض له جبريل قال : بعته الناقة ؟ قال : نعم قال : ادفع إلي ديني فدفع له مائة ورجع بستين فقالت له فاطمة : من أين لك هذا ؟ قال : تاجرت مع الله بستة فأعطاني ستين ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك فقال : البائع(2/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
جبريل والمشتري ميكائيل والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة ) حكاية : ( رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه درع علي رضي الله عنه يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة فقال عثمان رضي الله عنه : هذا درع فارس الإسلام لا يباع أبداً فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم عليه أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه ، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس في كل كيس أربعمائة درهم مكتوب على كل درهم هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال : هنيئاً لك يا عثمان ) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من تبسم في وجه غريب ضحك الله إليه يوم القيامة ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( إذا نظر الغريب عن يمينه وشماله وعن أمامه ومن خلفه فلم ير أحداً يعرفه غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) . وفي حديث آخر : ( إن الله تعالى لينظر كل يوم إلى الغريب ألف نظرة ) وفي حديث آخر : ( ما من غريب يمرض فيرى ببصره فلا يقع على من يعرفه إلا كتب الله له بكل نفس يتنفس به سبعين ألف حسنة ومحا عنه سبعين ألف سيئة ) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( أكرموا الغرباء فإن لهم عند الله شفاعة يوم القيامة ألا وأنه ينادي يوم القيامة ألا ليقم الغرباء فيقومون يستبقون إلى الله ألا من أكرمهم فقد أكرمني ومن أحبهم فقد أحبني ومن أكرم غريباً في غربته وجبت له الجنة ) .
وعنه عليه السلام أنه قال : ( ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غاب عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ) وعنه عليه السلام قال : ( ارحموا اليتامى وأكرموا الغرباء فإني كنت في الصغر يتيماً وفي الكبر غريباً ) . وقال عليه السلام : ( من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن حارب جاره فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب الله ) . وعنه عليه السلام قال : ( مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها ) . وسمع النبي صلى الله عليه وسلّم علياً يقول : ( اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك قال : من هم ؟ قال : الذين إذا أعطوا منوا وإذا منعوا عابوا ) .
فائدة : أصاب إبراهيم عليه السلام حاجة فذهب إلى صديق له ليستقرض منه شيئاً فلم يقرضه فرجع مهموماً فأوحى الله إليه لو سألتني لأعطيتك فقال : يا رب عرفت مقتك للدنيا فخشيت أن أسألك إياها فتمقتني فأوحى الله إليه ليست الحاجة من الدنيا . حكاية : قال النسفي في زهرة الرياض : لما تولى سليمان الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فإنها جاءت تعزيه فعاتبها النمل في ذلك فقالت : كيف أهنئه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبداً زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة وقد شغل سليمان بأمر لا يدري عاقبته فهو بالتعزية أولى من التهنئة ، وجاءه في بعض الأيام شراب من الجنة فقيل له : إن شربته لم تمت فشاور جنده إلا القنفذ فإنه كان غائباً فأشاورا عليه إن يشربه فأرسل الفرس خلف القنفذ فلم يجبها فأرسل الكلب خلفها فأجابه فسأله سليمان عن الشراب فقال : لا تشربه فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا قال . صدقت فأراق الشراب في البحر فطاب ماؤه ثم قال له : كيف أطعت الكلب دون الفرس ؟ فقال : لأنها تعدوا بصاحبها وبغيره(2/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
والكلب لا يطيع إلا صاحبه وتقدم في باب المحبة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( حبب إلي من دنياكم هذه ثلاث ) .
فإن قيل : كيف أمطر الله على أيوب عليه السلام جراداً من ذهب ؟ قيل : جعله الله عوضاً عن الدود الذي أكله ، فالجراد خلعة الطائع وعقوبة العاصي لأنه مخلوق من الذنوب وذلك أن المريض تلقى ذنوبه في البحر فيخلق الله منها التمساح فإذا مات التمساح صار دوداً ثم جراداً بإذن الله تعالى ، وتقدم في فصل الأدب من كتاب الموت أنه مخلوق من طينة آدم عليه السلام . وقال بعض الحكماء : الدنيا ميراث الغرور ، ومسكن البطالين ، وسوق الراغبين ، وميدان الفاسقين ، وسجن المؤمنين ، ومزبلة المتقين زاد مؤلفه رحمه الله ومزرعة للعالمين .
فائدة : قال ابن عباس : التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء وكان النبي عليه السلام يتوكأ عليها ، وعنه عليه السلام قال : ( العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء ومن خرج في سفر ومعه عصا من لوز مر ) أمنه الله من كل سبع ضار ولص عاص ومن كل ذات ( حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات يستغفرون له حتى يرجع ويضعها ) وعن النبي عليه السلام قال : ( من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عدله من الكبر والعجب ) وقال النبي عليه السلام : ( ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه ) .
لطيفة قال أنس : خرجت مع النبي عليه السلام فرأينا طيراً أعمى يضرب بمنقاره على شجرة فقال النبي عليه السلام : ( أتدري ما يقول ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : إنه يقول : اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت ، فأقبلت جرادة فدخلت في فيه ، ثم ضرب بمنقاره على الشجرة فقال النبي عليه السلام : أتدري ما يقول ؟ قلت : لا ، قال : إنه يقول : من توكل على الله كفاه وعن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال : من عمل فرقة بين امرأة وزوجها كان عليه لعنة الله في الدنيا والآخرة وحرم الله عليه النظر إلى وجهه الكريم ) .
موعظة : عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : أيما امرأة خانت زوجها في الفراش فعليها نصف عذاب هذه الأمة وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من مات وهو يعمل عمل قوم لوط لم يلبث في قبره إلا ساعة واحدة ثم يرسل الله إليه ملكاً يشبه الخطاف فيخطفه برجليه ويطرحه في بلاد قوم لوط ويكتب على جبينه آيس من رحمة الله ) وعنه عليه السلام قال : ( يؤتى يوم القيامة بأطفال ليس لهم رؤوس فيقول الله تعالى : من أنتم ؟ فيقولون : نحن المظلومون ، فيقول : من ظلمكم ؟ فيقولون : آباؤنا كانوا يأتون الذكران من العالمين فألقونا في الأدبار فيقول الله تعالى : سوقوهم إلى النار واكتبوا على جباههم آيسين من رحمة الله ) وعنه عليه السلام قال : ( يمسخ اللوطي في قبره خنزيراً وتدخل [ النار ] في منخريه وتخرج من دبره كل يوم سبعين مرة ) وقال عليه السلام : ( العفريت أخبرنا عن إيليس فتوجه معه إلى البحر فوجده على وجه الماء فقال : أخبرنا بأبغض الأعمال إلى الله وأحبها إليك قال : اللواط ولولا ممشاك(2/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
يا بني الله ما أخبرتك ) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من مشى في تزويج امرأة حلالاً يجمع بينهما رزقه الله تعالى ألف امرأة من الحور العين كل امرأة في قصر من در وياقوت وكان له بكل خطوة خطاها أو كلمة تكلم بها في ذلك عبادة سنة قيام ليلها وصيام نهارها ) . وذكر ابن الجوزي أن الله تعالى اتخذ أربعين بدلاً من الرجال والنساء كذلك كلما مات واحد قام مقامه آخر .
عن أنس مالك عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً ، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة ) .
فائدة : عن ابن مسعود عن النبي عليه السلام قال : ( إذا غسلت المرأة ثياب زوجها كتب الله لها ألفي حسنة وغفر لها ألف سيئة واستغفر لها كل شيء طلعت عليه الشمس ورفع لها ألفي درجة ) وقالت عائشة : ( صرير مغزل المرأة يعدل التكبير في سبيل الله ، والتكبير في سبيل الله أثقل من السموات والأرض ، أيما امرأة كست زوجها من غزلها كان لها بكل سدى مائدة ألف حسنة ) قال أبو قتادة رضي الله عنه : صرير مغزل المرأة وقراءة القرآن عند الله سواء ، وقال عليه السلام : ( من اشترى لعياله شيئاً ثم حمله بيده إليهم حط الله عنه ذنب سبعين سنة ) . وفي حديث آخر : ( من فرح أنثى فكأنما بكى من خشية الله ، ومن بكى من خشية الله حرم الله بدنه على النار ) ورأيت في كتاب النورين في إصلاح الدارين أن النبي عليه السلام قال : ( البيت الذي فيه البنات ينزل الله فيه كل يوم اثنتي عشرة رحمة من السماء ولا تنقطع زيارة الملائكة من ذلك البيت يكتبون لأبويهما كل يوم وليلة عبادة سنة ) . وعن حذيفة أن النبي عليه السلام قال : ( أطعمني جبريل الهريسة أشد بها ظهري لقيام الليل ، أول من حرث آدم عليه السلام أدركه التعب آخر النهار فقال لحواء : ازرعي ما بقي فصار زرعها شعيراً فتعجبت من ذلك فأوحى الله تعالى إلى آدم لما أطاعت العدو المشير أبدلنا القمح بالشعير . وعن النبي عليه السلام قال : نعم الطعام الزبيب يشد العصب ويذهب الوصب ويطفىء الغضب ويذهب بالبلغم ويصفي اللون ويصيب النكهة يعني رائحة الفم ) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( ما للنفساء عندي شفاء مثل الرطب ولا للمريض مثل العسل ) وعن النبي عليه السلام قال : ( اطعموا نساءكم في نفاسهن التمر فإنه من كان طعامها في نفاسها التمر خرج ولدها حليماً ) وعن النبي عليه السلام قال : ( أطعموا حبالاكم اللبان يعني بذلك حصى لبان الذكر فإن يكن في بطنها ذكر يكن ذكي القلب ) وعنه عليه السلام قال : ( عليكم بأكل البلس فإنه يقطع عروق الجذام ألا وهو التين ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( كلوا السفرجل فإنه يجلو عن الفؤاد وما بعث الله نبياً إلا وأطعمه من سفرجل الجنة فيزيد في قوته قوة أربعين رجلاً ) .
وعن جابر بن عبد الله قال : ( سأل النبي عليه السلام إبليس عن ضجيعه فقال : السكران ، وعن جليسه قال : الناسي يؤخر الصلاة عن وقتها ، وعن ضيفه فقال : السارق ، وعن أنيسه فقال : الشاعر ، وعن رسوله فقال : الكاهن ، والساحر ، وعن قرة عينه فقال : الذي يحلف(2/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
بالطلاق وإن كان صادقاً ، وعن حبيبه قال : تارك الصلاة ، وعن أعز الناس قال : من سب أبا بكر وعمر ) .
ورأيت في بعض كتب الرافضة قال رجل لعلي بن أبي طالب : يا أبا الحسن كيف سبقك أبو بكر بالخلافة ؟ فقال : لأني كنت اشتغلت بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودفنه ثم قال : أنت حضرت مبايعة أبي بكر ؟ قال : من بايعه أولاً ؟ قال : شيخ كبير معه عكاز أخضر فقال : علي رضي الله عنه ذاك إبليس أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أول من يبايع أبا بكر إبليس .
لطيفة : رأيت في شوارد الملح أن النبي صلى الله عليه وسلّم عروس المملكة والعروس تجلى تارة بتاج وتارة بعمامة وتارة بمنطقة وتارة بسيف فتاجه أبو بكر ، وعمامته عمر ، ومنطقته عثمان ، وسيفه علي . وعن النبي عليه السلام قال : أخبرني جبريل إن الله تعالى لما خلق آدم وأدخل الروح في جسده أمرني أن آخذ تفاحة من الجنة فأعصرها في حلقه فعصرتها فخلقك الله يا محمد من القطرة الأولى ، ومن الثانية أبا بكر ، ومن الثالثة عمر ، ومن الرابعة عثمان ، ومن الخامسة علي بن أبي طالب . فقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أكرمتهم ؟ فقال تعالى : هؤلاء خمسة أشياخ من ذريتك وهؤلاء أكرم عندي من جميع خلقي فلما عصى آدم قال : يا رب بحرمة أولئك الأشياخ الخمسة الذين فضلتهم إلا تبت علي فتاب الله عليه . وعن النبي عليه السلام قال : ( أول من جزع من الشيب إبراهيم عليه السلام حين رآه في عارضه فقال : يا رب ما هذه الشوهة التي شوهت بخليلك ؟ فأوحى الله تعالى إليه هذا سربال الوقار ونور الإسلام وعزتي وجلالي ما ألبسته أحداً من خلقي يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي إلا استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً أو أعذبه بالنار ، فقال يا رب : زدني وقاراً فأصبح رأسه مثل الغمامة البيضاء ) . وعن النبي عليه السلام قال : ( اختضبوا فإن الملائكة يستبشرون بخضاب المؤمن ) . وقال أبو طيبة رضي الله عنه : نفقة درهم في سبيل الله بسبعمائة درهم ونفقة درهم في خضاب اللحية بسبعة آلاف . وعن النبي عليه السلام قال : ( إذا دخل المؤمن في قبره وهو مختضب بالحناء أتاه منكر ونكير فقالا له : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول منكر لنكير : ارفق بالمؤمن أما ترى نور الإيمان . وقال أنس : دخل رجل على النبي عليه السلام وهو أبيض الرأس واللحية فقال : ألست مسلماً ؟ قال : بلى قال : فاختضب ) .
فائدة : قال ابن كعب : قال النبي عليه السلام : ( من سرح رأسه ولحيته كل ليلة عوفي من أنواع البلاء وزيد في عمره ) . وعن النبي عليه السلام قال : ( من أمرّ المشط على حاجبه عوفي من الوباء ) وقال علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : ( عليكم بالمشط فإنه يذهب الفقر ، ومن سرح لحيته حتى يصبح كان له أماناً حتى يمسي لأن اللحية زين الرجال وجمال الوجه ) .
فائدة : قال وهب رضي الله عنه : من سرح لحيته بلا ماء زاد همه أو بماء نقص همه ، ومن سرحها يوم الأحد زاده الله نشاطاً ، أو الاثنين قضى حاجته ، أو الثلاثاء زاده الله رخاء ، أو الأربعاء زاده الله نعمة ، أو الخميس زاد الله في حسناته ، أو الجمعة زاده الله سروراً ، أو(2/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
السبت طهر الله قلبه من المنكرات . ومن سرحها قائماً ركبه الدين أو قاعداً ذهب عنه الدين بإذن الله تعالى . وعن النبي عليه السلام قال : ( إن الرجل ليكون من أهل الصلاة ، والصيام ، والجهاد فما يجزى إلا على قدر عقله ) وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال : ( لكل شيء آلة وآلة المؤمن العقل ، ولكل شيء دعامة ودعامة المؤمن العقل ، ولكل قوم غاية وغاية العباد العقل ، ولكل صنف راع وراعي العابدين العقل ، ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهد العقل ، ولكل أهل بيت قيم وقيم بيوت الصديقين العقل ، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ) .
ورأيت عن بعض الصحابة قال : نهانا عليه السلام أن يمشط أحدنا كل يوم ، وفي الحديث : ( من سعادة المؤمن خفة لحيته ) رواه ابن عباس . وقالت عائشة : من أكل اليقطين بالعدس رق قلبه . وعن أنس عنه عليه السلام قال : ( إن لله مدينة تحت العرش من مسك أذفر على بابها ملك ينادي كل يوم ألا من زار عالماً فقد زار الرب فله الجنة . وعن أنس عنه عليه السلام أنه قال : من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفس محمد بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ويبني له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ) وعنه عليه السلام : ( من خاض في العلم يوم الجمعة فكأنما أعتق سبعين ألف رقبة ، وكأنما تصدق بألف دينار ، وكأنما حج أربعين ألف حجة وهو في رضوان الله وعفوه ومغفرته ) . وقال عليه السلام : ( من اغبرت قدماه في طلب العلم حرم الله جسده على النار واستغفر له ملكاه ، وإن مات في طلبه مات شهيداً ، وكان قبره روضة من رياض الجنة ، ويوسع له في قبره مد البصر ، وبنور على جيرانه أربعين قبراً عن يمينه وأربعين قبراً على يساره وأربعين من خلفه وأربعين أمامه ) .
حكاية : قال أبو جهل : يا محمد إن أخرجت لنا طاووساً من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن أنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاووس صدره من ذهب ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوت ورجلاه من جوهر ، فلما رآه أبو جهل أعرض عن الإيمان . ورأيت في الزهر الفائح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في أصحابه فمرت به امرأة مشركة ومعها صبي دون شهرين فلما دنت منه عبست في وجهه فانتفض الطفل وترك ثديها وقال : يا ظالمة نفسها تعبسي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال : السلام عليك يا رسول الله وأكرم الخلق على الله ، فقال : من أخبرك أني أكرم الخلق على الله ؟ قال بذلك فقال جبريل صدق الغلام ثم قال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني من خدامك في الجنة فدعا له فمات في الحال فقالت أمه : جاء الحق وزهق الباطل أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله واأسفاه على ما فاتني منك يا رسول الله ، فقال : أبشري فقد هدم الغلام عنك ما فعلتيه في الجاهلية وإني لأنظر إلى كفنك وحنوطك مع الملائكة في الهواء فماتت أيضاً في الحال فصلى عليهما النبي صلى الله عليه وسلّم .
حكاية : في روض الأفكار : أن امرأة خرجت تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم فرآها شاب فقال :(2/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
إلى أين ؟ قالت : أسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم قال : أتحبيه ؟ قالت : نعم ، قال : فبحقه ارفعي نقابك حتى أنظر وجهك ففعلت ثم أخبرت زوجها بذلك فأوقد تنوراً ثم قال : بحقه عليك ادخلي التنور فألقت نفسها فيه ثم ذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال : ارجع واكشف عنها فكشف فرآها سالمة وقد جللها العرق . ودعا الله أن يرد الشمس على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في خيبر فطلعت بعد ما غربت ، وقال عليه السلام : ( معرفة آل محمد براءة من النار ، وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب ) .
رأيت في القول البديع عن علي عنه عليه السلام قال : من حج حجة الإسلام وغزا بعدها غزاة كتبت غزاته بأربعمائة حجة فانكسرت قلوب قوم لا يقدرون على الجهاد فأوحى الله إليه ما صلى عليك أحد إلا كتبت صلاته بأربعمائة غزاة كل غزاة بأربعمائة حجة ، وقال علي : خلق الله تعالى في الجنة شجرة ثمرها أكبر من التفاح وأصغر من الرمان ألين من الزبد وأحلى من العسل وأطيب من المسك ، وأغصانها من اللؤلؤ الرطب وجذوعها من الذهب وورقها من الزبرجد لا يأكل منها إلا من أكثر من الصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه أحدق النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : هل من حاجة ؟ قال : لما رفعتك حليمة وأنت ابن أربعين يوماً رأيتك تخاطب القمر ويخاطبك بلغة لم أفهمها قال : يا عم قرصني القماط في جانبي الأيمن فأردت أن أبكي فقال القمر : لا تبك ولو قطر من دموعك قطرة على الأرض قلب الله الخضراء على الغبراء فصفق العباس فقال : أزيدك يا عم ؟ قال : نعم قال : ثم قرصني القماط في جانبي الأيسر فهممت أن أبكي فقال القمر : لا تبك يا حبيب الله فإن وقع من دموعك قطرة على الأرض لم تنشق عن خضراء إلى يوم القيامة فسكت شفقة على أمتي ، فصفق العباس وقال : أكنت تعلم ذلك وأنت ابن أربعين يوماً ؟ فقال : يا عم والذي نفسي بيده لقد كنت أسمع صرير القلم على اللوح المحفوظ وأنا في ظلمة الأحشاء ، أفأزيدك يا عم ؟ قال : نعم قال : والذي نفسي بيده لقد خلق الله مائة ألف نبي وأربعاً وعشرين ألف نبي ما منهم من نبي علم أنه نبي حتى بلغ أشده وهو أربعون سنة إلا عيسى فإنه لما نزل من جوف أمه قال : ) إني عبد الله آتاني الكتاب ( وابن أخيك ، أفأزيدك يا عم ؟ قال : نعم قال : لما ولدت ليلة الإثنين خلق الله تعالى سبعة جبال في السموات السبع وملأها من الملائكة ما لا يحصيهم إلا الله يسبحون الله ويقدسونه إلى يوم القيامة ، وجعل ثواب تسبيحهم وتقديسهم لعبد ذكرت عنده بين يديه فأزعج أعضاءه بالصلاة عليّ ذكره في شوارد الملح وعنه عليه السلام قال : ( من صلى علي صلاة وجهر بها شهد له كل حجر ومدر ورطب ويابس ) . وعنه عليه السلام قال : ( من صلى علي فتح الله عليه باباً من العافية ) . وعنه عليه السلام قال : ( أكثروا من الصلاة علي فإنها تحل العقد وتفرج الكرب ) وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وكان قاعداً غفر له قبل أن يقوم وإن كان قائماً غفر له قبل أن يقعد ) . وعنه عليه السلام قال ( من شم الورد الأحمر ولم يصل علي فقد جفاني ) وعن أنس عنه عليه(2/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
السلام قال : ( خلق الله تعالى الورد الأحمر من بهائه وجعله ريحاً لأنبيائه فمن أراد أن ينظر إلى بهاء الله ويشم رائحة الأنبياء فلينظر إلى الورد الأحمر ) وعنه عليه السلام قال : ( من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر ) .
لطيفة : يستحب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم عند أكل الرز لأنه كان جوهراً أودع فيه نور محمد صلى الله عليه وسلّم فلما خرج النور منه تفتت وصار حباً . وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( كل شيء أخرجته الأرض فيه داء وشفاء إلا الأرز فإنه شفاء لا داء فيه ) .
لطيفة : قال مؤلفه رحمه الله تعالى : سمعت والدي رحمه الله يقول لبعض الفقراء تعال كل من هذا العدس المبارك فقال : أطعموني من الرز الميشوم . رأيت في منازل الأنوار أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلّم لما خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة : ( إن الله قد أعطاك قبة في الجنة عرضها ثلثمائة عام قد حفتها رياح الكرامة لا يدخلها إلا من أكثر الصلاة عليك ) .
فائدة : قال جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام أنه قال : ( من أصبح وأمسى قال اللهم يا رب محمد صل على محمد وآل محمد واجز محمداً صلى الله عليه وسلّم ما هو أهله أتعب سبعين كاتباً ألف صباح ولم يبق لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم حق أداه وغفر لوالديه وحشر مع محمد وآل محمد ) .
فائدة : روى ابن أبي مليكة عن ابن جريج عن النبي عليه السلام أنه قال : ( من كان له ذو بطن فأجمع أن يسميه محمداً رزقه غلاماً ) . وقالت جليلة بنت عبد الجليل : يا رسول الله إني امرأة لا يعيش لي ولد فقال : ( اجعلي لله عليك أن تسميه محمداً ففعلت فعاش ولدها ) . ورأيت في المورد العذب أنه عليه السلام قال ( من صبح بالصلاة عليّ في الدنيا صبحت الملائكة بالصلاة عليه في السموات العلا ) . وعنه عليه السلام قال : ( لو يعلم الأمير ما في ذكر الله لترك إمارته ، ولو يعلم التاجر ما في ذكر الله لترك تجارته ، ولو أن ثواب تسبيحة واحدة قسم على أهل الأرض لأصاب كل واحد عشرة أضعاف الدنيا ) . وعن أنس أنه قال : ( من قال سبحان الله وبحمده غرست له ألف شجرة في الجنة من ذهب طلعها أي ثمرها كثدي الأبكار ألين من الزبد وأحلى من الشهد كلما أخذ منها شيئاً عاد كما كان ) . وعنه عليه السلام أنه قال : ( من قال سبحان الله وبحمده خلق الله ملكاً له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة ) .
فائدة : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( أكثروا من الحمد لله فإن لها عينين وجناحين تطير بهما وتستغفر لقائلها إلى يوم القيامة ) . موعظة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( من قطع سدرة ضرب الله رأسه في النار ) .
فائدة : عنه عليه السلام : ( خلق الله نوراً قبل السموات والأرض بألف عام ثم خلق من ذلك النور مسكاً فكتب به سورة يس وخلق لها خمسين ألف جناح فلم تمر في سماء إلا خضعت لها سكانها وسجدوا لها فمن تعلم يس وعرف حقها كان في الدرجة العليا ) ، وقوله : ( خلق لها أي لثوابها ) ، وعنه عليه السلام قال : ( يس تدعى في التَّوراة المعمة قيل :(2/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
وما المعمة ؟ قال : تعم صاحبها بخيري الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا وأهاويل الآخرة ) .
وفي الخبر خلق الله تعالى عشرين ألف نهر وقال للقلم : اكتب فضل قل هو الله أحد ، وفي كتاب البركة عن النبي عليه السلام قال : ( من ولد له مولود فسماه محمداً حباً لي وتبركاً كان هو ومولوده في الجنة ، وما قعد قوم على طعام حلال فيهم رجل اسمه اسمي إلا تضاعفت فيهم البركة ، وعنه عليه السلام قال : زوجني عائشة ربي في السماء وأشهد عقدها الملائكة وأغلقت أبواب النيران وفتحت أبواب الجنة أربعين صباحاً مسها مس الحرير وريحها ريح المسك ) .
رأيت في بعض المجاميع أن محمداً صلى الله عليه وسلّم قال : ( يا جبريل هل كنت تعلم براءة عائشة ؟ قال : نعم قال : فكيف لم تخبرني ؟ قال : أردت ذلك فقال الله تعالى : يا جبريل لا تفعل الشدة مني والفرج مني ) . وعنه عليه السلام : ( ما صب الله في صدري شيئاً إلا صببته في صدر أبي بكر ) . وعن حذيفة قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( صلاة الغداة فلما انصرف قال : أين أبو بكر ؟ قال لبيك ، قال ألحقت معي الركعة الأولى ؟ قال : كنت معك في الصف الأول فوسوس لي شيء في الطهارة فخرجت إلى باب المسجد فهتف بي هاتف يا أبا بكر فالتفت فإذا بقدح من ذهب فيه ماء أبيض من الثلج وأطيب من الشهد بفتح الشين على الأفصح وعليه منديل مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق فتوضأت ثم وضعت المنديل مكانه فقال يا أبا بكر لما فرغت من القراءة أخذت ركبتي فلم أقدر على الركوع حتى جئت وأن الذي وضأك جبريل ، والذي مندلك ميكائيل ، والذي أخذ بركبتي إسرافيل ) .
لطيفة : قال النبي عليه السلام : يا علي سألت الله أن يقدمك فأبى إلا أبا بكر .
حكاية : قال حذيفة : صنع النبي عليه السلام طعاماً ودعا أصحابه فأطعمهم لقمة لقمة وقال : سيد القوم خادمهم . وأطعم أبا بكر ثلاث لقم فسأله العباس عن ذلك فقال : لما أطعمته أول لقمة قال له جبريل هنيئاً لك يا عتيق ، فلما لقمته الثانية قال له ميكائيل هنيئاً لك يا رفيق ، فلما لقمته الثالثة قال له رب العزة هنيئاً لك يا صديق . وقال أُبي بن كعب : قال النبي عليه السلام : ( أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة عمر بن الخطاب ، وأول من يؤخذ بيده فينطلق إلى الجنة عمر بن الخطاب ، وكان النبي عليه السلام إذا قطرت قطرة يعني من السماء يقول : رب لك الحمد ذهب السخط ونزلت الرحمة ، وقال النبي عليه السلام لعلي بن أبي طالب : إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه بأنواع العقل . وعن النبي عليه السلام قال : دخلت الجنة ليلة أسري بي فأعطيت سفرجلة فانفلقت عن حوراء فقلت لمن أنت ؟ قالت : إن على هذا النهر سبعين ألف شجرة كل شجرة سبعون ألف غصن على كل غصن سبعون ألف ورقة على كل ورقة حوراء مثلي خلقهن الله لمحبي أبي بكر ، وعمر ) .(2/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
لطيفة : عن النبي عليه السلام قال : ( رأيت حمزة وجعفر بن أبي طالب في المنام وكان بين أيديهما طبق فيه نبق كالزبرجد فأكلا منه ثم صار عنباً فأكلا منه ثم صار رطباً فأكلا منه فقلت لهما ما وجدتما أفضل ) الأعمال قالا : ( قول لا إله إلا الله ، قلت : ثم ماه ؟ قالا : الصلاة عليك ، قلت ثم ماه ؟ قالا حب أبي بكر وعمر ) ومر رجل على النبي عليه السلام فقيل يا رسول قال : ( تهب على النار ريح فيقولون ما رأينا ريحاً أنتن من هذه فيقال لهم هذه ريح من يسب أبا بكر وعمر ) . وكان عمر رضي الله عنه إذا ذكر الكوفة قال : كنز الإيمان ورمح الله الأطول . لطيفة : عطس النبي عليه السلام بحضرة يهودي فقال يا محمد يرحمك الله فقال يهديك الله فقال أشهد أن محمداً رسول الله وقال النبي عليه السلام : دخلت الجنة فناولني جبريل تفاحة فانفلقت عن حوراء عيناء مرضية كأن مقادم عينها أجنحة النسور فقلت لمن أنت ؟ قالت للخليفة المقتول ظلماً عثمان بن عفان ) وعن جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام : ( لما أسري بي مررت بملك جالس على سرير من نور إحدى رجليه في المشرق والأخرى في المغرب والدنيا كلها بين عينيه وبين يديه لوح فقلت يا جبريل من هذا ؟ قال عزرائيل تقدم فسلم عليه فسلمت عليه ) فقال : وعليك السلام يا أحمد ما فعل ابن عمك علي ؟ قلت : هل تعرف ابن عمي علياً ؟ قال : وكيف لا أعرفه وقد وكلني ربي بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك وروح ابن عمك . وعنه أيضاً قال : سمعت النبي عليه السلام يقول لعلي بن أبي طالب : ( أنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي تفرق بين الحق والباطل ) . وقال علي : ( قال النبي عليه السلام : يا علي إنك أول من يقرع باب الجنة بعدي فتدخلها بغير حساب ) . وقال لي عليه السلام : ( من مات على حبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ) . وقال أنس : خرجت مع بلال ، وعلي بن أبي طالب إلى السوق فاشترى بطيخاً وانطلقنا إلى منزله فكسر واحدة فوجدها مرة فأمر بلالاً برد البطيخ إلى صاحبه فلما رده قال : ألا أحدثكم حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( يا أبا الحسن إن الله أخذ حبك على البشر والشجر فمن أجاب إلى حبك عذب وطاب ومن لم يجب إلى حبك خبث ومر وأظن هذا البطيخ ممن لا يحبني وفي حاوي القلوب الطاهرة وغيره في أرض الله بلاد لها بطيخ يخرج من كل واحدة خاروف غنم يعيش أربعين يوماً ) .
فائدة : عنه عليه السلام : ( من أحب علياً بقلبه فله ثواب ثلث هذه الأمة ، ومن أحبه بقلبه ولسانه فله ثواب ثلثي هذه الأمة ، ومن أحبه بقلبه ولسانه ويده فله ثواب هذه الأمة ، ألا وأن الشقي كل الشقي من أبغض علياً في حياتي وبعد مماتي [ ألا وإن جبريل أخبرني أن السعيد كل السعيد من أحب علياً في حياتي وبعد مماتي ] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حب علي بن أبي طالب يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب ، ولو اجتمع الناس على حبه ما خلق الله جهنم . وقال معاذ بن جبل : حب علي بن أبي طالب حسنة لا تضر معهما معصية ،(2/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
وبغضه معصية لا تنفع معها حسنة ، وعنه عليه السلام : ( من أراد أن يتمسك بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه [ الله ] في جنات عدن فليتمسك بحب علي ) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أشهد على النبي عليه السلام أنه قال : ( لو وضعت السموات السبع والأرضون السبع في كفة ووزن إيمان علي في كفة لرجح إيمان علي . وقال ابن عباس : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلّم وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلّم فوجد فيها دودة خضراء مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله نصرته بعلي . وقال النبي صلى الله عليه وسلّم لعلي : ( إنك سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين . وعنه عليه السلام قال : مكتوب على باب الجنة : محمد رسول الله ، علي أخو رسول الله قبل أن تخلق السموات بألفي عام ) .
فائدة : رأيت في الزهر الفائح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعلي : ( تختم بالعقيق الأحمر فإنه جبل أقر لله بالوحدانية ولي بالنبوة ولك بالوصية ولأولادي بالإمامة ولمحبيك بالجنة ) . وعنه عليه السلام قال : ( عليكم [ بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم وأعجب إلى نسائكم ) . وعنه عليه السلام قال : ( عليكم ] بالحناء فإنه خضاب الإسلام ويصفي البصر ويذهب الصداع وإياكم والسواد ) ، وعنه عليه السلام قال : ( إن الله تعالى خلق الجنة بيضاء ، وإن أحب الثياب إلى الله البيض ) . وقال النسفي : أوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه ، فاختار كل واحد منهما الحياة فأوحى الله إليهما أفلا كنتما كعلي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلّم فبات على فراشه يؤثر بنفسه إهبطا إلى الأرض واحفظاه من عدوه فكان ميكائيل عند رأسه وجبريل عند رجليه فقال جبريل : من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ؟ وقال الحسن : حيا النبي صلى الله عليه وسلّم بكلتا يديه ورداً وقال سيد رياحين الجنة سوى الآس . وقال طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى : ) والتين ( هو أبو بكر ) والزيتون ( عمر ) وطور سينين ( عثمان ) وهذا البلد الأمين ( علي بن أبي طالب . وفي حديث : أنا مدينة [ العلم ] وعلي بابها .
فائدة : نزل جبريل بطبق تفاح وقال : يا محمد إعط من تحب وكان الطبق مستوراً فأدخل يده وأخذ تفاحة على جانبها بسم الله الرحمن الرحيم هذه هدية من الله لأبي بكر الصديق وعلى الجانب الآخر من أبغض الصديق فهو زنديق ، ثم أخذ أخرى على جانبها البسملة [ فيه ] هذه هدية من الله الملك الوهاب لعمر بن الخطاب وعلى الآخر من أبغض عمر فهو في سقر ، ثم أخذ أخرى على جانبها البسملة هذه هدية من الله الحنان المنان لعثمان بن عفان وعلى الآخر من أبغض عثمان فخصمه الرحمن ، ثم أخذ أخرى على جانبها البسملة هذه هدية من الله الغالب لعلي بن أبي طالب وعلى الجانب الآخر من أبغض علياً لم يكن لله ولياً ، فحمد الله محمد صلى الله عليه وسلّم . قال النسفي وغيره : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلّم الجنة ليلة المعراج ورأى قصر خديجة أخذ جبريل تفاحة من شجرة من القصر وقال : يا محمد كل [ من ] هذه(2/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
فإن الله تعالى يخلق منها بنتاً تحمل بها خديجة ففعل فلما حملت خديجة بها وجدت رائحة الجنة لسبعة أشهر فلما وضعتها انتقلت الرائحة إليها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا اشتاق إلى الجنة قبل فاطمة ، فلما كبرت قال : يا ترى هذه الحورية لمن ؟ فجاءه جبريل في بعض الأيام وقال : إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك : اليوم كان عقد فاطمة في موطنها في قصر أمها في الجنة الخاطب إسرافيل وجبريل وميكائيل الشهيد والولي رب العزة والزوج علي بن أبي طالب . وقال أنس : بينما النبي صلى الله عليه وسلّم في المسجد إذ قال لعلي بن أبي طالب : هذا جبريل يخبرني أن الله تعالى زوجك فاطمة وأشهد على تزويجها أربعين ألف ملك وأوحى إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدر والياقوت فنثرت عليهم فابتدر الحور العين يلتقطن في أطباق الدر والياقوت والحل والحلل فهم يتهادونه إلى يوم القيامة .
وفي رواية قال : أبشر يا أبا الحسن فإن الله تعالى زوجك في السماء قبل أن أزوجك في الأرض ، ولقد هبط عليَّ ملك من السماء قبل أن تأتيني لم أر قبله في الملائكة مثله بوجوه شتى وأجنحة شتى فقال : السلام عليك يا محمد أبشر باجتماع الشمل وطهارة النسل فقلت : وما ذاك ؟ قال : يا محمد أنا الملك الموكل بإحدى قوائم العرش سألت ربي أن يأذن لي ببشارتك وهذا جبريل على أثري يخبرك عن كرامة ربك لك فما تم كلامه حتى نزل جبريل وقال : السلام عليك يا رسول الله ثم وضع في يده حريرة بيضاء فيها سطران مكتوبان بالنور فقلت : ما هذه الخطوط ؟ قال : إن الله تعالى اطلع إلى الأرض فاختارك من خلقه وبعثك برسالته ثم اطلع عليها ثانياً فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً فزوجه ابنتك فاطمة ، فقلت : يا جبريل من هذا الرجل ؟ قال : أخوك في الدين وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب وإن الله أوحى إلى الجنان أن تزخرفي ، وإلى الحور أن تزيني ، وإلى شجرة طوبى كما تقدم . وقال جابر بن عبد الله : دخلت أم أيمن على النبي صلى الله عليه وسلّم وهي تبكي فسألها عن ذلك فقالت : دخلت على رجل من الأنصار قد زوج بنته ونثر عليها اللوز والسكر فتذكرت تزويجك فاطمة ولم تنثر عليها شيئاً فقال : والذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة إن الله لما زوج علياً فاطمة أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وأمر الجنان أن تزخرف والحور العين أن تزين ثم أمرها أن ترقص فرقصت ثم أمر الطيور أن تغني فغنت ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الزبرجد الأخضر مع الياقوت الأحمر .
وفي الرواية : كان الزواج عند سدرة المنتهى ليلة المعراج وأوحى الله تعالى إليها أن انثري ما عليك فنثرت الدر والجوهر والمرجان ، هذا كذب مفترى ما أنزل الله به من سلطان قاتل الله واضعه ما أشد عذابه في النيران ، والحمد لله الذي جعلنا من حماة السنة بمحمد وآله .
والمسؤول من موالينا وساداتنا علماء الإسلام وحسنات الليالي والأيام جمل الله تعالى بوجودهم وأفاض على المسلمين من بركاتهم وجودهم إمعان النظر فيما سطر في هذه الكراسة هل يجوز أن يدون في كتاب ويسمى نزهة المجالس ومنتخب النفائس ويتداوله من(2/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
لا معرفة له تميز بين الصحيح والسقيم ؟ ويكتبه أو يستكتبه ويقرأ وينقل منه على الكراسي والمنابر ، وماذا يجب على من استهدف وجمعه بعد أن طلبه خادم السنة الفقير إبراهيم الناجي ونصحه ونهاه وفارقه قائلاً : رجعت عنه كما رجع الإمام الشافعي عن القول القديم ثم عاد إلى ما كان عليه ودعا الناس إليه ؟ وهل يؤمر بإعدامه وما وجد من نسخه مع أن ما اختصر من الكتابة منه خشية الإطالة من هذه المقولة أكثر مما كتب أم يبقى على حاله ؟ أمعنوا في الجواب بوأكم الله زلفى وحسن المآب .
الدرة التاجية على الأسئلة الناجية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد فقد وردت هذه الأحاديث من دمشق من محدثها الشيخ برهان الدين الناجي وصحبتها كتاب يتضمن أنه أنكر على رجل أودعها تصنيفاً له وأنها باطلة وسأل في الكتابة بذلك فرأيت كثيراً منها كما قال : وفيها أحاديث واردة بعضها مقبول وبعضها فيه مقال وها أنا أتكلم عليها حديثاً حديثاً .
الحديث الأول : حديث من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث عائشة . والخطيب في تاريخه من حديث أبي هريرة وإسنادهما ضعيف وليس فيه زيادة والنصارى .
الحديث الثاني : حديث الغريب أخرجه الديلي في مسند الفردوس وقال : أنا ابن مندويه ثنا أبو نعيم ثنا الغطريفي ثنا ابن خزيمة [ ثنا أحمد بن منصور ] ثنا رافع بن أشرس ثنا النضر بن كثير عن طاووس عن ابن عباس مرفوعاً فذكره باللفظ المذكور في السؤال وله شواهد قال الطبراني في الكبير : ثنا حجاج بن عمران السدوسي ثنا عمرو ابن الحصين العقيلي ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة عن الحكم بن أبان عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : موت الغريب شهادة إذا احتضر فرمى ببصره عن يمينه وعن يساره فلم ير إلا غريباً وذكر أهله وولده وتنفس فله بكل نفس تنفسه يمحو الله عنه ألفي ألف سيئة ويكتب له ألفي ألف حسنة عمرو بن الحصين متروك .
الحديث الثالث : حديث الغريب أيضاً قال ابن جرير في تفسيره : ثنا يحيى بن طلحة ثنا عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو السكسكي عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إن الإسلام بدا غريباً وسيعود غريباً ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ) ) فما بكت عليهم السماء والأرض ( ثم قال : ( إنهما لا يبكيان على كافر ) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت ثنا محمد بن عبد الله المديني ثنا إسماعيل بن عباس حدثني صفوان بن عمرو به .(2/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
الحديث الرابع : حديث من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله قال سمويه في فوائده ثنا سعيد بن سليمان ثنا موسى بن خالد عن القاسم العجلي عن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : من آذى مسلماً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل ، وأخرجه الطبراني في الأوسط ثنا سعيد بن محمد بن المغيرة الواسطي ثنا سعيد بن سليمان ثنا موسى بن خلف العمي ثنا القاسم العجلي به ، وقال : لم يروه عن القاسم إلا موسى تفرد به سعيد .
الحديث الخامس : قال ابن عباس : التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوكأ عليها أخرجه ابن عدي هكذا وقال الديلمي في مسند الفردوس : أنا عبدوس إجازة عن أبي بكر الشيرازي ثنا محمد بن عمران الجرجاني ثنا علي بن الفضل ابن نصر ببلخ ثنا علي بن إسماعيل بن الفضل وكان معدلاً ثنا عبد الله بن عاصم المروزي ثنا يحيى بن هاشم الغساني عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء ، وأخرج الديلمي من طريق وثيمة بن موسى عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رفعه : كانت للأنبياء كلهم مخصرة يتخصرون بها تواضعاً لله عز وجل [ قوله : وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوكأ عليها ] أخرج البزار في مسنده ، والطبراني بسند ضعيف عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( أن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم ) . وأخرج ابن ماجه عن أبي أمامة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متوكىء على عصا . وأخرج الطبراني عن عبد الله بن أنيس أنه أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عصا يتخصر بها فناولها إياه .
الحديث السادس : ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه أخرجه ابن عساكر في تاريخه ، والديلمي قال : أنا أبي أنا عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي أنا أبو حسان محمد بن أحمد بن محمد المزني أنا إبراهيم بن محمد الوراق إنا سعيد بن هاشم بن مزيد ثنا محمد بن هاشم البعلبكي أنا أبي ثنا يزيد بن زياد الدمشقي ثنا حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلاً على الناس . وقال الخطيب في تاريخه : أخبرني محمود بن عمر العكبري أنا أبو طالب عبد الله بن محمد بن عبد الله أنا عمي أبو العباس أحمد بن عبد الله فيما أجازه لنا أن أحمد بن عيسى المصري حدثهم قال : ثنا يغنم بن سالم بن قنبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاً على الناس ) . وأخرجه الديلمي من وجه آخر عن أحمد بن عيسى به ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن حذيفة بن اليمان قال : ليس خيركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا ولكن يتناولون من كل .
الحديث السابع : حديث عمار بن ياسر : أيما امرأة خانت زوجها في الفراش فعليها(2/46)