الكتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
عدد الأجزاء : 7 أجزاء
مصدر الكتاب : موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
http://www.alifta.com
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
( 1 )
حكم السعي
فوق سقف المسعى
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(1/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم السعي فوق سقف المسعى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد (1) :
فبناء على خطاب سمو نائب وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية رقم ( 26 \ 10612 ) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ المتضمن رغبة وزارة الداخلية في دراسة موضوع السعي فوق سقف المسعى من قبل هيئة كبار العلماء بالمملكة .
وبناء على ما تقتضيه لائحة سير عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي فيما يحتاج إلى بحث من المواضيع التي تتجه الرغبة إلى دراستها في الهيئة - قامت اللجنة بإعداد بحث في حكم السعي فوق سقف المسعى .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الأول ، ص 179 - 196 ، عام 1395 هـ .(1/17)
وفيما يلي ما تيسر إعداده من النصوص والنقول التي يمكن أن يستعان بها في هذا الموضوع :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد : فإنه قد عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ موضوع ( حكم السعي فوق سقف المسعى ) ؛ ليكون وسيلة لعلاج ازدحام الناس في المسعى أيام موسم الحج .
واطلعت الهيئة على البحث المقدم عنه من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء . هذا نصه .(1/18)
حكم السعي فوق سقف المسعى (1)
الأمر الأول : قال البخاري في [ صحيحه ] : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : حدثني طلحة بن عبد الله : أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل أخبره : أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين » (2) .
قال ابن حجر : وفي الحديث تحريم الظلم والغصب ، وتغليظ عقوبته ، وإمكان غصب الأرض ، وأنه من الكبائر ، قاله القرطبي ، وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد ، وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض ، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه ، وفيه أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة ثابتة وأبنية ومعادن وغير ذلك ، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ، ما لم يضر بمن يجاوره . اهـ . (3) .
وقال العيني : بعد أن ساق حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع
__________
(1) يمكن أن يرجع في ( حكم السعي بين الصفا والمروة فوق سقف المسعى ) إلى الأمور الآتية : أن من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين . الطواف والسعي على بعير ونحوه . استقبال الكعبة في الصلاة . رمي الحاج الجمرات وهو راكب .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2320),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/190),سنن الدارمي البيوع (2606).
(3) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ فتح الباري ] ، ( 5 \ 38 ) .(1/19)
أرضين » (1) (2) :
ذكر ما يستفاد منه : فيه دليل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهاها ، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا ، سواء أضر ذلك بأرضه أو لا ، قاله الخطابي ، وقال ابن الجوزي : لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها ، وقال القرطبي : وقد اختلف فيما إذا حفر أرضه فوجد فيها معدنا أو شبهه فقيل : هو له ، وقيل : بل للمسلمين ، وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجاره ، وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد . اهـ .
وقال الأبي (3) : قوله : « من ظلم شبرا من الأرض » (4) . . . واستدل بعضهم على أن من ملك ظاهر الأرض يملك ما تحته مما يقابله ، فله منع من يتصرف فيه أو يحفر ، وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فيمن اشترى دارا فوجد فيها كنزا أو وجد في أرضه معدنا ، فقيل : له ، وقيل : للمسلمين .
ووجه الدليل من الحديث : أنه غصب شبرا فعوقب بحمله من سبع أرضين . . . إلى أن قال : وكذلك يملك ما قبل ذلك من الهواء يرفع فيه من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد . اهـ .
فدل ما تقدم على أن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما ، وعلى ذلك يمكن أن يقال : إن السعي فوق الطابق الذي جعل سقفا لأرض المسعى له حكم السعي على أرض
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2320),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/190),سنن الدارمي البيوع (2606).
(2) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ عمدة القاري ] ( 12 \ 298 ) .
(3) [ صحيح مسلم ] ، مع شرحه [ إكمال المعلم ] ( 4 \ 313 ، 314 ) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3026),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/187),سنن الدارمي البيوع (2606).(1/20)
المسعى .(1/21)
الأمر الثاني : وقد جاءت أحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير ، » (1) ومن رواية أم سلمة : « شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال : طوفي وأنت راكبة » (2) ، وقد بوب البخاري في [ صحيحه ] فقال : ( باب المريض يطوف راكبا ) ثم ساق الحديثين السابقين : حديث ابن عباس ، وحديث أم سلمة ، قال ابن حجر (3) : أن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى ، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ : « قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته » (4) (5) ، ووقع في حديث جابر عند مسلم : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه . وطاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ؛ ليراه الناس ، ويشرف ليسألوه » .
فيحتمل أن يكون فعل ذلك لأمرين ، وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر ، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز ، إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها ، والذي يترجح المنع ، لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد ، ووقع في حديث أم سلمة : « طوفي من
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1534),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/215).
(2) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(3) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ الفتح ] ، ( 3 \ 460 ) .
(4) سنن الترمذي الحج (865),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1881),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248),سنن الدارمي المناسك (1845).
(5) تمام الحديث : كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجنه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين ، سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به ، وقال البيهقي : في حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها وهي قوله '' وهو يشتكي '' [ مختصر السنن ] ( 2 \ 377 ) .(1/21)
وراء الناس » (1) ، وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف ، وإذا حوط المسجد امتنع داخله ، إذ لا يؤمن التلويث ، فلا يجوز بعد التحويط ، بخلاف ما قبله ، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في المسعى ، وعلى هذا فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار ، وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها . اهـ .
وفي [ صحيح البخاري ] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما . قال : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن » (2) .
قال العيني : وأخرج مسلم عن أبي الطفيل : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن » (3) ، وروى مسلم عن جابر : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، ليراه الناس ، وليشرف ليسألوه » . . . قال : ذكر معناه قوله : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير » (4) . قال ابن بطال : استلامه بالمحجن راكبا يحتمل أن يكون لشكوى به . . . إلى أن قال : وقال النووي : قال أصحابنا : الأفضل أن يطوف ماشيا ، ولا يركب إلا لعذر من مرض ونحوه ، أو كان يحتاج إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به ، فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة ، لكنه خلاف الأولى . . . إلى أن قال : وقال مالك وأبو حنيفة : إن طاف راكبا لعذر أجزأ ولا شيء عليه ، وإن كان لغير عذر فعليه دم ، قال أبو حنيفة : وإن كان بمكة أعاد الطواف . اهـ (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(2) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(3) صحيح مسلم الحج (1275),سنن أبو داود المناسك (1879),سنن ابن ماجه المناسك (2949),مسند أحمد بن حنبل (5/454).
(4) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(5) [ صحيح البخاري ] مع شرحه [ عمدة القاري ] ( 6 \ 523 ) .(1/22)
وقال السرخسي : وإن طاف راكبا أو محمولا ؛ فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء ، وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة ، فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا ، وعلى قول الشافعي لا شيء عليه ؛ لأنه صح في الحديث : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على ناقته واستلم الأركان بمحجنه » (1) .
ولكن نقول : المتوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا ، وهذا على قول من يجعله كالصلاة ؛ لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز ، فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر ، ولكنا نقول : المشي شرط الكمال فيه ، فتركه من غير عذر يوجب الدم ؛ لما بينا ، فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله أنه طاف راكبا لوجع أصابه ، وهو أنه وثبت رجله ؛ فلهذا طاف راكبا ، وذكر أبو الزبير عن جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لكبر سنه » ، وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به ، وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا ، وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا . ا هـ (2) .
وقال ابن الهمام : على قول صاحب [ الهداية ] : ( وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده ) كالعرجون وغيره ، ثم قبل ذلك فعل ؛ لما روي : « أنه عليه السلام طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه » (3) ، وقوله : وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده أو يمسه بيده ، ويقبل ما مس به - فعل ،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/237).
(2) [ المبسوط ] ( 4 \ 45 ) .
(3) سنن الترمذي الحج (858),سنن ابن ماجه المناسك (2953),مسند أحمد بن حنبل (1/237).(1/23)
أما الأول فلما أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ؛ لأن يراه الناس ويشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه » (1) .
وأخرجه البخاري عن جابر إلى قوله : لأن يراه الناس ، ورواه مسلم عن أبي الطفيل : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن » (2) ثم أورد إشكالا حديثيا وهو : أن الثابت بلا شبهة : أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع ، وطوافه راكبا على البعير ينافي ذلك . . . إلى أن قال : والجواب : أن في الحج للآفاقي أطوفة ، فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم ، ومشيه كان في طواف القدوم ، وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل ؛ لأنه حكى ذلك الطواف الذي بدأ به أول دخوله مكة المكرمة ، كما يفيده سوقه للناظر فيه .
فإن قلت : فهل يجمع بين ما عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : « إنما طاف راكبا ليشرف ويراه الناس فيسألوه » وبين ما عن سعيد بن جبير : « أنه إنما طاف كذلك ؛ لأنه كان يشتكي » كما قال محمد : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان : أنه سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة ، فجعل حماد يصعد الصفا وعكرمة لا يصعد ، ويصعد حماد المروة وعكرمة لا يصعد ، فقال حماد : يا أبا عبد الله ، ألا تصعد الصفا والمروة ، فقال : هكذا كان طواف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال حماد : فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له ذلك ، فقال : إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وهو شاك يستلم الأركان بمحجن ، فطاف بين الصفا والمروة على
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1273),سنن النسائي مناسك الحج (2975),سنن أبو داود المناسك (1880).
(2) صحيح مسلم الحج (1275),سنن أبو داود المناسك (1879),سنن ابن ماجه المناسك (2949),مسند أحمد بن حنبل (5/454).(1/24)
راحلته ، فمن أجل ذلك لم يصعد . اهـ (1) .
وقال الدسوقي : ( قوله : إذ هو واجب . . . إلخ ) .
حاصله : أن المشي في كل من الطواف والسعي واجب على القادر عليه ، فلا دم على عاجز طاف أو سعى راكبا أو محمولا ، وأما القادر إذا طاف أو سعى محمولا أو راكبا فإنه يؤمر بإعادته ماشيا ما دام بمكة المكرمة ، لا يجبر بالدم حينئذ ، كما يؤمر العاجز بإعادته إن قدر ما دام بمكة المكرمة ، وإن رجع لبلده فلا يؤمر بالعودة لإعادته ، ويلزمه دم ، فإن رجع وأعاده ماشيا سقط الدم عنه ، ثم قال : وهذا في الطواف الواجب ، وأما الطواف غير الواجب فالمشي فيه سنة ، وحينئذ فلا دم على تارك المشي فيه ، قاله عج . اهـ (2) .
قال النووي : والأفضل : أن يطوف راجلا ؛ لأنه إذا طاف راكبا زاحم الناس وآذاهم ، وإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا ؛ لما « روت أم سلمة أنها قدمت مريضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوفي وراء الناس وأنت راكبة » (3) ، وإن كان راكبا من غير عذر جاز ؛ لما روى جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وسألوه » (4) .
حديث أم سلمة رواه البخاري ، وحديث جابر رواه مسلم ، وثبت طواف النبي صلى الله عليه وسلم في [ الصحيحين ] من رواية غير هؤلاء ، ولفظ حديث ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة
__________
(1) [ شرح فتح القدير ] ( 2 \ 147 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 2 \ 40 ) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(4) سنن النسائي مناسك الحج (2975).(1/25)
الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن » (1) رواه البخاري ومسلم ، وفي حديث : « طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه؛ لأن يراه الناس ، وليشرف ليسألوه ، فإن الناس غشوه » (2) رواه مسلم . وعن عائشة قالت : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس » (3) رواه مسلم .
وأما ا لأحكام :
فقال أصحابنا : الأفضل أن يطوف ماشيا ، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه ، أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله ، فإن طاف راكبا بلا عذر جاز بلا كراهية ، لكنه خالف الأولى ، كذا قاله جمهور أصحابنا . . . إلى أن قال : ( فرع ) قد ذكرنا مذهبنا في طواف الراكب ، ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن طواف الماشي أولى من طواف الراكب . اهـ (4) .
وقال أيضا : أما سنن الطواف وآدابه فثمان : أحدها : أن يطوف ماشيا ، فإن طاف راكبا لعذر يشق معه الطواف ماشيا أو طاف راكبا ليظهر ويستفتى ويقتدى بفعله - جاز ولا كراهة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا في بعض أطوافه ، وهو طواف الزيارة ، ولو طاف راكبا بلا عذر جاز . اهـ .
وقال ابن حجر الهيتمي في حاشيته على الشرح قوله : وهو طواف الزيارة ، أما ما أشار إليه من ركوبه صلى الله عليه وسلم فيه إنما كان ليظهر فيستفتى ، هذا ما
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(2) صحيح مسلم الحج (1273),سنن النسائي مناسك الحج (2975),سنن أبو داود المناسك (1880).
(3) صحيح مسلم الحج (1274),سنن النسائي مناسك الحج (2928).
(4) [ المهذب مع شرحه المجموع ] للنووي ( 8 \ 29 ، 30 ) .(1/26)
رواه مسلم ، قال السبكي : وهذا أصح من رواية من روى أنه طاف راكبا لمرض ، أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود على أن في إسناده من لا يحتج به ، وقال البيهقي : في حديثه : لفظه لم يوافق عليها ، وهي قوله : ( وهو يشتكي ) ، ومن ثمة قال الشافعي : لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعله ماشيا ، وخبر مسلم أنه طاف في حجة الوداع راكبا على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة - لا ينافي ذلك ، وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف القدوم ؛ لأن الواو لا تقتضي ترتيبا . اهـ (1) .
وقال في [ الإيضاح ] أيضا : ويجوز الطواف في أخريات المسجد ، وفي أروقته وعند بابه من داخله وعلى أسطحته ، ولا خلاف في شيء من هذا ، لكن قال بعض أصحابنا : يشترط في صحة الطواف أن يكون البيت أرفع بناء من السطح ، كما هو اليوم حتى لو رفع سقف المسجد فصار سطحه أعلى من البيت لم يصح الطواف على هذا السطح ، وأنكره عليه الإمام أبو القاسم الرافعي . اهـ (2) .
وقال ابن قدامة : لا نعلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر . . . إلى أن قال : فصل : فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ ، وهذا هو إحدى الروايات عن أحمد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الطواف بالبيت صلاة » (3) (4) .
ولأنها عبادة تتعلق بالبيت
__________
(1) [ متن الإيضاح في مناسك الحج للنووي مع شرحه ] لابن حجر الهيتمي ( 11 \ 255 ) .
(2) [ الإيضاح ] للنووي ( 1 \ 239 ) مع شرحه للهيتمي .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).
(4) قال الزيلعي في [ نصب الراية ] ( 3 \ 57 ) : قلت : رواه ابن حبان في [ صحيحه ] في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض ، والحاكم في [ المستدرك ] من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : '' الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق ، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير '' انتهى . وسكت الحاكم عنه ، وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير عن عطاء بن السائب به بلفظ : '' الطواف حول البيت مثل الصلاة '' قال : وروي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره عن طاووس موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . انتهى ، وعن الحاكم رواه البيهقي في [ المعرفة ] بسنده ، ثم قال : وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا وهو أصح . اهـ .(1/27)
فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة ، والثانية : يجزئه ويجبره بدم ، وهو قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال : يعيد ما كان بمكة المكرمة ، فإن رجح جبره بدم ؛ لأنه ترك صفة واجبة من واجبات الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس ، والثالثة : يجزئه ولا شيء عليه . اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي وابن المنذر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل ثم قال : فصل فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر ؛ لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه . اهـ (1) .
وقال البهوتي (2) : ومن طاف أو سعى راكبا أو محمولا لغير عذر لم يجزئه الطواف ولا السعي ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « الطواف بالبيت صلاة » (3) ، ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا كالصلاة ، والسعي كالطواف ، والطواف أو السعي راكبا أو محمولا لعذر يجزئ ؛ لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ، وعن أم سلمة قالت : « شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال : طوفي من وراء
__________
(1) [ المغني والشرح الكبير ] ( 3 \ 415 ) .
(2) [ كشاف القناع ] ( 2 \ 433 ) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).(1/28)
الناس راكبة » (1) متفق عليه ، ولأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر - كما يشير إليه قول ابن عباس - كثر عليه الناس ، يقولون : هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب . رواه مسلم ، واختار الموفق والشارح : يجزئ السعي راكبا ولو لغير عذر . اهـ .
مما تقدم يتبين : أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ، ولا شيء عليه ، أما غير المعذور فله أن يسعى راكبا لكن المشي له أفضل ، وفي طوافه راكبا خلاف ، فقيل : يجزئه ولا شيء عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة راكبا ، وقيل يجزئه وعليه دم جبرا ؛ لأن الطواف له حكم الصلاة في الجملة ، والمفترض لا يصلي محمولا ، ولأن ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف كان لوجع في رجله أو ليراه الناس فيسألوه ، وقيل : لا يجزئه لحديث : « الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام » (2) والمفترض لا تصح صلاته راكبا لغير عذر ، وطواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا كان لعذر كما تقدم .
وعلى هذا يمكن أن يقال بإجزاء السعي على سقف المسعى ؛ بل بجوازه ، وإن كان المشي أفضل لشبهه بالسعي راكبا بعيرا ونحوه ، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه ، وخاصة أنه لم يرد في السعي ما يلحقه بالصلاة في حكمها ؛ بل أنه أولى من الطواف راكبا بالإجزاء ، فإذا صح الطواف راكبا لعذر صح السعي فوق سقف المسعى لعذر ، وفي سعيه فوقه لغير عذر يكون فيه الخلاف في جوازه وإجزائه ، وأخيرا إن اعتبر في إجزاء
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).(1/29)
السعي فوق سقف المسعى أو جوازه وجود العذر نظر في زحام السعاة في الحج والعمرة ، هل يقوم عذرا أو لا . والله الموفق .(1/30)
الأمر الثالث : وقد يسترشد فيه بالقرآن وأقوال الفقهاء ، قال الله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (1) في هذه الآية خطاب من الله للناس في كل مكان أن يولوا وجوههم قبل المسجد الحرام سواء منهم من كان بأرض منخفضة عن المسجد الحرام فيكون مستقبلا في صلاته لتخوم أرضه ومن كان منهم بمكان مرتفع عن سطح الكعبة ، فيكون مستقبلا لما فوق الكعبة من الهواء ، فدل ذلك على أن حكم ما تحت البيت الحرام من تخوم الأرض وما فوقه من الهواء في استقبال القبلة في الصلاة حكم استقبال البيت نفسه .
وفيما يلي نقول عن بعض أهل العلم في الموضوع :
قال السرخسي : ومن صلى على سطح الكعبة جازت صلاته عندنا ، وإن لم يكن بين يديه سترة ، وقال الشافعي : لا يجوز إلا أن يكون بين يديه سترة ، بناء على أصله : أن البناء معتبر في جواز التوجه إليه للصلاة ، ثم قال : وعندنا القبلة هي الكعبة ، فسواء كان بين يديه سترة أو لم يكن فهو مستقبل القبلة ، وبالاتفاق : من صلى على أبي قبيس جازت صلاته وليس بين يديه شيء من بناء الكعبة ، فدل على أنه لا معتبر للبناء . اهـ . (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 150
(2) [ المبسوط ] ( 2 \ 79 ) .(1/30)
وقال المرغيناني (1) : ( ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح ؛ لأن التكليف بحسب الوسع ) .
وقال ابن الهمام تعليقا على قول المرغيناني : ( إصابة جهتها ) قال : قوله : ( إصابة جهتها ) في [ الدراية ] عن شيخه ما حاصله : أن استقبال الجهة أن يبقى شيء من سطح الوجه مسامتا للكعبة أو لهوائها ؛ لأن المقابلة إذا وقعت في مسافة بعيدة لا تزول بما يزول به من الانحراف لو كانت مسافة قريبة ، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامة مع انتقال مناسب لذلك البعد ، فلو فرض خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا تزول تلك المقابلة والتوجه بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة . . . اهـ .
وقال الدسوقي (2) : قوله : ( وبطل فرض على ظهرها ) أي : على ظهر الكعبة قوله : ( فيعاد أبدا ، أي : على المشهور ، ولو كان بين يديه قطعة من حائط سطحها بناء على أن المأمور به استقبال جملة البناء لا بعضه ولا الهواء ، وهو المعتمد ، وقيل : إنما يعاد بناء على كفاية استقبال هواء البيت أو استقبال قطعة من البناء ولو من حائط سطحه . اهـ .
وقد ذكر نحوا من ذلك الحطاب (3) .
__________
(1) [ الهداية وعليها فتح القدير ] ( 1 \ 189 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 1 \ 299 ) .
(3) [ مواهب الجليل على مختصر خليل ] ( 1 \ 511 - 513 ) .(1/31)
وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي : ملخصا حكم الصلاة على ظهر الكعبة (1) : ( فتحصل من كلام الشارح أن الفرض على ظهرها ممنوع اتفاقا ، وأما النفل ففيه أقوال ثلاثة ، الجواز مطلقا ، والجواز إن كان غير مؤكد ، والمنع وعدم الصحة مطلقا ، قال شيخنا : وهذا الأخير هو أظهر الأقوال .
( تنبيه ) : سكت المصنف عن حكم الصلاة تحت الكعبة في حفرة ، وقد قدم أن الحكم بطلانها مطلقا ، فرضا أو نفلا ؛ لأن ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال ، ألا ترى أن الجنب يجوز له الدخول تحته ، ولا يجوز له الطيران فوقه ، كذا قرره شيخنا .
وكتب الشيخ محمد عليش في تقريره على [ حاشية الدسوقي والشرح الكبير ] ، للشيخ أحمد الدردير ما نصه : وإنما جاز على جبل أبي قبيس مع أنه أعلى من بنائها ؛ لأن المصلى عليه مصل إليها وأما المصلي على ظهرها فهو فيها ، انتهى ( ضوء الشموع ) .
وقال النووي (2) : أما حكم المسألة : فقال أصحابنا : ولو وقف على أبي قبيس أو غيره من المواضع العالية على الكعبة وبقربها صحت صلاته بلا خلاف ؛ لأنه يعد مستقبلا وإن وقف على سطح الكعبة نظر إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصح صلاته بالاتفاق ؛ لعدم استقبال شيء منها ،
__________
(1) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل ] ، وما فيها من تقرير الشيخ عليش على الحاشية ( 1 \ 129 )
(2) [ المهذب مع شرحه المجموع ] للنووي ( 3 \ 198 ) .(1/32)
وهكذا لو انهدمت - والعياذ بالله - فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصح صلاته ، ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صح بلا خلاف ، أما إذا وقف في وسط السطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص - لم تصح صلاته على الصحيح المنصوص ، وبه قال أكثر الأصحاب ، وقال ابن سريج : تصح ، وبه قال أبو حنيفة وداود ومالك في رواية عنه ، كما لو وقف على أبي قبيس ، وكما لو وقف خارج العرصة واستقبلها ، والمذهب الأول ، والفرق أنه لا يعد هنا مستقبلا بخلاف ما قاس عليه ، وهذا الوجه الذي لابن سريج جاز في العرصة والسطح كما ذكرنا ، كذا نقله عنه إمام الحرمين وصاحب التهذيب وآخرون ، وكلام المصنف يوهم أنه لا يقول به في السطح وليس الأمر كذلك . اهـ
وقال ابن قدامة : ولو صلى على جبل عال يخرج من مسامتة الكعبة صحت صلاته ، وكذلك لو صلى في مكان ينزل عن مسامتتها ؛ لأن الواجب استقبالها وما يسامتها من فوقها وتحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - صحت الصلاة إلى موضع جدارها . اهـ (1) .
وقال البهوتي : ولا يضر علو على الكعبة كما لو صلى على أبي قبيس ، ولا نزوله عنها كما لو صلى في حفيرة تنزل عن مسامتتها ؛ لأن العبرة بالبقعة لا بالجدران . اهـ (2) .
مما تقدم يتبين أن من صلى على مكان مرتفع عن سطح الكعبة مستقبلا
__________
(1) [ المغني مع الشرح الكبير ] ( 1 \ 463 ) .
(2) [ متن الإقناع مع شرح كشاف القناع ] ( 2 \ 79 ) .(1/33)
ما فوق سطحها من هواء صحت إجماعا ، كمن صلى فوق جبل أبي قبيس ، أو في بلاد سطح أرضها أعلى من سطح الكعبة ، ومن صلى الفريضة فوق الكعبة مستقبلا ما أمامه من هوائها أو مستقبلا سترة بين يديه ففي صحة صلاته خلاف ، بناء على الاكتفاء باستقبال جزء من بناء الكعبة أو جزء من هوائها في صحة الصلاة ، وعدم الاكتفاء بذلك ؛ بل لا بد من شاخص أو استقبال جملة البناء أو جملة الهواء أما من على سطحها أو في جوفها فيقال فيه إنه مستدبر الكعبة أو هواءها باعتبار كما يقال أنه مستقبل باعتبار آخر ، فلم يتحقق فيه شرط الاستقبال بإطلاق ، فلا تصح صلاته ، ومن صلى على طرفها وجعل هواءها وراءه بطلت صلاته ؛ لأنه لم يستقبل شيئا من بنائها ولا من هوائها .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إذا كان استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها ، فالسعي فوق سقف المسعى في حكم السعي على أرض المسعى .(1/34)
الأمر الرابع : روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه » (1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (2) .
وما روى أبو داود وابن ماجه في [ سننهما ] ، عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).
(2) [ المنتقى مع شرحه ] للشوكاني ( 5 \ 70 ) .(1/34)
الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل خلفه يستره فسألت عن الرجل فقالوا : الفضل بن عباس ، وازدحم الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس ، لا يقتل بعضكم بعضا ، وإذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف » (1) سكت أبو داود عن الحديث ، وقال المنذري : في إسناده يزيد بن أبي زياد (2) .
وقال الشوكاني : قوله : ( على راحلته ) استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل ، وبه قالت الشافعية ، والحنفية ، والناصر ، والإمام يحيى ، وقال الهادي والقاسم : إن رمي الراجل أفضل . اهـ (3) .
وقال ابن عابدين : وقوله : ( وجاز الرمي راكبا . . . إلخ ) عبارة المتلقي أخص وهي : وجاز الرمي راكبا ، وغير راكب أفضل في جمرة العقبة . انتهى ، وفي اللباب : والأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبا وغيرها ماشيا في جميع أيام الرمي - إلى أن قال : والضابط : أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا ، وهو كل رمي بعده رمي ، كما مر وما لا فلا ، ثم هذا التفصيل قول أبي يوسف ، وله حكاية مشهورة ذكرها ( ط ) وغيره وهو مختار كثير من المشايخ ، كصاحب [ الهداية ] و [ الكافي ] و [ البدائع ] ، وغيرهم ، وأما قولهما : فذكر في [ البحر ] : أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الحاشية ، والمشي في الكل على ما في الظهيرية ، وقال : فتحصل أن في
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1966),سنن ابن ماجه المناسك (3028).
(2) [ مختصر سنن أبى داود ] للمنذري ( 2 \ 415 ) .
(3) [ نيل الأوطار ] ( 5 \ 71 ) .(1/35)
المسألة ثلاثة أقوال . . . ثم قال : ( قوله : ورجحه الكمال ) أي : بأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع ، وخصوصا في هذا الزمان ، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ، ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا . اهـ .
قال في [ البحر ] : ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة وفي اليوم الأخير لكان له وجه ؛ لأنه ذاهب إلى مكة المكرمة في هذه الساعة كما هو العادة ، وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له عليه الصلاة والسلام . اهـ (1) .
وقال السرخسي : وإن رماها راكبا أجزأه ؛ لحديث جابر رضي الله عنه :
« أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا » . اهـ . (2) .
وفي [ المدونة الكبرى ] : قلت : فهل يرمي الرجل الجمار راكبا أو ماشيا ، قال : قال مالك : أما الشأن يوم النحر فيرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي على دابته يمضي كما هو يرمي ، وأما في غير يوم النحر فكان يقول : يرمي ماشيا ، قلت : فإن ركب في رمي الجمار في الأيام الثلاثة أو مشى يوم النحر إلى جمرة العقبة فرماها ماشيا هل عليه لذلك شيء ؟ قال : ليس عليه لذلك شيء . اهـ . (3) .
__________
(1) [ رد المحتار على الدر المختار ] ( 1 \ 254 ) .
(2) [ المبسوط ] ( 4 \ 69 ) .
(3) [ المدونة الكبرى ] ( 1 \ 325 ) .(1/36)
وقال الدسوقي : ( قوله : وإن راكبا ، أي : إذا وصل إليها ماشيا ؛ بل إن وصل إليها راكبا ، وهذا من تعلقات الندب ، أي : أنه يندب أن يرميها حين وصوله على الحالة التي وصل عليها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل إذا وصل راكبا ولا يصبر حتى يركب إذا وصل إليها ماشيا ؛ لأن فيه عدم الاستعجال برميها . اهـ (1) .
وقال الشافعي : ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة وحدها ويرميها راكبا ، وكذلك يرميها يوم النفر راكبا ويمشي في اليومين الآخرين أحب إلي . ثم قال : وإن ركب فلا شيء عليه ثم ساق رواية قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقته الصهباء وليس ضرب ولا طرد ولكن قيل : إليك إليك » (2) اهـ (3) .
وقال النووي (4) : ( فرع ) مذهبنا : أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا إن كان دخل منى راكبا ، ويرمي في أيام التشريق ماشيا ، إلا يوم النفر فراكبا ، وبه قال مالك ، قال ابن المنذر : وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد ، وكره جابر الركوب إلى شيء من الجمار إلا لضرورة . قال : وأجمعوا على أن الرمي يجزئه على أي حال إذا وقع في المرمى ، دليلنا : الأحاديث الصحيحة السابقة (5) . أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى
__________
(1) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 2 \ 45 ) .
(2) سنن الترمذي الحج (903),سنن النسائي مناسك الحج (3061),سنن ابن ماجه المناسك (3035),مسند أحمد بن حنبل (3/413),سنن الدارمي المناسك (1901).
(3) [ الأم ] للشافعي ( 2 \ 213 ) .
(4) [ المجموع ] للنووي ( 8 \ 183 )
(5) يشير بذلك إلى حديث أم سلمة قالت : رأيت رسول الله ،صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب ( 8 \ 154 ) من [ المجموع ] . وإلى حديث أم أبي الأحوص قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب ( 8 \ 175 ) من [ المجموع ] .(1/37)
جمرة العقبة راكبا يوم النحر والله أعلم .
وقال ابن قدامة (1) : ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته رواه جابر ، وابن عمر ، وأم أبي الأحوص ، وغيرهم ، قال جابر : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه » (2) .
وقال نافع : « كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا » (3) رواه أحمد في [ المسند ] ثم قال : وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها اهـ .
وقال البهوتي (4) : فإذا وصل إلى منى . . . بدأ بها راكبا ؛ إن كان راكبا ؛ لحديث ابن مسعود : أنه « انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب ، يكبر مع كل حصاة » (5) . . . إلى أن قال : هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة . رواه أحمد . وظاهر كلام الأكثر ماشيا وإلا - أي : لم يكن راكبا - رماها ماشيا . اهـ .
مما تقدم يتبين : أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة راكبا ، وأن الفقهاء اتفقوا على أنه يجزئ الرمي راكبا وماشيا .
واختلفوا في الأفضل منهما ، هل هو الرمي ماشيا ؛ لأنه أقرب للتواضع
__________
(1) [ المغني مع الشرح الكبير ] ( 3 \ 449 ) .
(2) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970).
(3) سنن الترمذي الحج (900),سنن أبو داود المناسك (1969),مسند أحمد بن حنبل (2/138).
(4) [ كشاف القناع ] ( 2 \ 449 )
(5) صحيح البخاري الحج (1664),صحيح مسلم الحج (1296),سنن الترمذي الحج (901),سنن النسائي مناسك الحج (3073),سنن أبو داود المناسك (1974),سنن ابن ماجه المناسك (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/427).(1/38)
والبعد عن إيذاء المشاة ، وإنما رماها صلى الله عليه وسلم راكبا ؛ ليراه الناس ويسألوه ويقتدوا به ، أو الرمي راكبا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى ، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها ؛ بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه ؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب . .
ونظرا إلى أن السعي فوق سقف المسعى لم نقف فيه على نصوص للفقهاء ، وأن ما يرجع إليه من أقوالهم للاسترشاد بها على هذه المسألة ليس بكثير وليس الخلاف فيه كثيرا - اكتفينا بما نقلناه ، سائلين الله التوفيق للجميع .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/39)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 21 ) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فبناء على الخطاب الوارد لفضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من معالي وزير العدل رقم ( 267 ) وتاريخ 23 \ 3 \ 1393هـ المبني على خطاب سمو نائب وزير الداخلية رقم ( 26 \ 10612 ) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ بخصوص الرغبة في إبداء الحكم الشرعي في ( حكم السعي فوق سقف المسعى ) ليكون وسيلة من وسائل علاج ازدحام الحجاج أيام الموسم ، وبناء على ما رآه فضيلته من إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة فقد تم إدراج ذلك ، وفي تلك الدورة جرى الاطلاع على أوراق المعاملة المتعلقة بالاستفتاء ، كما جرى الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ، والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد دراسة المسألة ، واستعراض أقوال أهل العلم في حكم الطواف والسعي والرمي راكبا ، والصلاة إلى هواء الكعبة أو قاعها ، وكذا حكم الطواف فوق أسطحة الحرم وأروقته ، وحكمهم بأن من ملك أرضا ملك أسفلها وأعلاها .
وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة ، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة ، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضا لما يأتي :(1/40)
1 - لأن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما ، فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه .
2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ، ولغير عذر على خلاف من بعضهم ، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبا بعيرا ونحوه ، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه ، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبا لغير عذر ، فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذرا يبرر الجواز .
3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها ، بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء ، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه .
4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبا وماشيا ، واختلفوا في الأفضل منهما ، فإذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى ، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها ، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه ؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب .
5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة ؛ ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام ، وقد قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (1) وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78(1/41)
مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة ، بل إن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة .
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي رحمه الله رأيه في المسألة : فقال في حاشيته على [ الإيضاح ] لمحيي الدين النووي ص ( 131 ) : (ولو مشى أو مر في هواء المسعى فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدا ، صحة سعيه) . اهـ .
أما المشايخ : محمد بن حركان ، وعبد العزيز بن صالح ، وسليمان بن عبيد ، وصالح بن لحيدان ، وعبد الله بن غديان ، وراشد بن خنين - فقد توقفوا في هذه المسألة .
وأما الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فيرى عدم جواز ذلك ، وله وجهة نظر في المنع مرفقة .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثالثة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي له وجهة نظر مخالفة ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير(1/42)
وجهة نظر
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من هيئة كبار العلماء في شأن جواز السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة ، وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو :
أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين : مسعى أسفل ، ومسعى أعلى ؛ وذلك للأمور الآتية :
الأمر الأولى : أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
الأمر الثاني : أن الأمكنة المحددة شرعا لنوع من أنواع العبادات ليست محلا للقياس ؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة ، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات في دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس ، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس .
الأمر الثالث : هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوارد لبيان إجمال نص من القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله . فإن دلت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من(1/43)
الأحكام وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله - فإن ذلك الفعل يكون واجبا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية ، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر . ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين كما هو مقرر في الأصول :
الأول منهما : أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم وارد لبيان نص من كتاب الله ، كقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) فإن الآية تحتمل القطع من الكوع ، ومن المرفق ، ومن المنكب ؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر ، وقد دلت القرينة على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو : قطعه يد السارق من الكوع وارد لبيان قوله تعالى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (2) فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
القسم الثاني من قسمي الفعل المذكور : هو أن يرد قول من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم بيان لنص من القرآن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي » (3) فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة ، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه صلى الله عليه وسلم لبيان تلك الآيات القرآنية إلا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لتأخذوا عني مناسككم » (4) فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج ، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) صحيح البخاري أخبار الآحاد (6819),سنن الدارمي الصلاة (1253).
(4) صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).(1/44)
وإذا علمت هذا فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (1) فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي علمه الصفا ، والمكان الذي علمه المروة من شعائر الله . ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين ، وهو علم شخص لا علم جنس ، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان في أن العلم يعين مسماه - أي : يشخصه - فإن كان علم شخص كما هنا شخص مسماه في الخارج ، بمعنى : أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص ، عاقلا كان أو غير عاقل ، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن ، وليس البحث في ذلك من غرضنا .
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة ، أي : الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي ، ولا يدخل شيء آخر البتة في ذلك لتعين المسمى بعلمه الشخصي دون غيره ، كائنا ما كان ، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى . وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتب بالفاء قوله { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (2) على كونهما من شعائر الله ، وفي قوله تعالى : { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (3) إجمال يحتاج إلى بيان كيفية التطوف ومكانه ومبدئه ومنتهاه .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا النص القرآني بالسعي بين الصفا والمروة ، مبينا أن فعله المذكور واقع لبيان القرآن العظيم المذكور ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (4) وقوله : « أبدأ بما بدأ الله به » (5) يعني : الصفا في قوله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 158
(2) سورة البقرة الآية 158
(3) سورة البقرة الآية 158
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(5) سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(6) سورة البقرة الآية 158(1/45)
الآية ، ومن جملة البيان المذكور بيان جواز السعي حالة الركوب على الراحلة ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سعيه بين الصفا والمروة مبينا لذلك مراد الله في كتابه لا يجوز العدول عنه في كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
ولا شك أن المسعى الجديد الكائن فوق السقف المرتفع الذي فوق المسعى النبوي المبين بالسعي فيه معنى القرآن غير المسعى النبوي المذكور ، ومغايرته له من الضروريات ؛ لأنه مما لا نزاع فيه أن المتضايفين اللذين تستلزمهما كل صفة إضافية متباينان تباين المقابلة لا تباين المخالفة ، ومعلوم أن المتباينين تباين المقابلة بينهما غاية المنافاة ؛ لتنافيهما في حقيقتيهما ، واستحالة اجتماعهما في محل آخر .
ومعلوم أن المتباينات هذا التباين التقابلي التي بينها منتهى المنافاة أربعة أنواع : هي : التقابل بين النقيضين ، والتقابل بين الضدين ، والتقابل بين المتضايفين ، والتقابل بين العدم والملكة ، كما هو معلوم في محله . فكما أن الشيء الواحد يستحيل أن يتصف بالوجود والعدم في وقت واحد من جهة واحدة ، وكما أن النقطة البسيطة من اللون يستحيل أن تكون بيضاء سوداء في وقت واحد ، وأن العين الواحدة يستحيل أن تكون عمياء مبصرة في وقت واحد ، فكذلك يستحيل أن يكون الشيء الواحد فوق هذا وتحته في وقت واحد . فالمسعى الذي فوق السقف يستحيل أن يكون هو المسعى الذي تحت السقف . فهو غيره قطعا ، كما هو الشأن في كل متضايفين وكل متباينين تباين تقابل أو مخالفة .
وإذا حققت بهذا أن المسعى الذي فوق السقف مغاير في ذاته لحقيقة المسعى الذي تحت السقف ، وعلمت أن السعي في المسعى الذي(1/46)
تحت السقف هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مبينا بالسعي فيه مراد الله في كتابه قائلا : « خذوا عني مناسككم » (1) وأن أفعاله صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن لا يجوز العدول عنها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة - علمت بذلك أن العدول بالسعي عن المسعى النبوي إلى المسعى الجديد الكائن فوق السقف الذي فوق الصفا والمروة يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله ، ويحتاج جدا إلى معرفة من أخذ عنه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحده صلى الله عليه وسلم ، ولم يأذن لنا في أخذها عن زيد ولا عمرو .
فعلينا أن نتحقق الجهة التي أخذنا عنها هذا المنسك الجديد ؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها ، ولا يجوز التحكم في مكان أو زمان غير الزمان والمكان المحدودين من قبل الشارع ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الأمكنة التي أنيط بها النسك ، وعمم البيان في ذلك ، وجعله شاملا للأمكنة التي أقام فيها هو النسك ، وغيرها من الأمكنة الصالحة للنسك ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « وقفت هنا وعرفة كلها موقف » (2) ونظير ذلك في مزدلفة ومنى بالنسبة للنحر كما هو معلوم .
الأمر الرابع : أن السعي في المسعى الجديد خارج عن مكان السعي الذي دلت عليه النصوص ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الظرف المكاني للسعي بالنسبة إلى الصفا والمروة هو ظرف المكان الذي يعبر عنه بلفظة : ( بين ) وأما المسعى الجديد فظرفه المكاني بالنسبة إلى الصفا والمروة هو لفظة ( فوق ) ومعلوم أن لفظ : ( بين ) ولفظ : ( فوق ) وإن كانا ظرفي مكان فمعناهما مختلف ، ولا يؤدي أحدهما معنى الآخر ؛ لتباين مدلوليهما ، فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يصدق عليه أنه ساع بين الصفا والمروة ، وإنما هو ساع فوقهما ، والساعي فوق شيئين ليس ساعيا بينهما ؛ للمغايرة
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) صحيح مسلم الحج (1218).(1/47)
الضرورية بين معنى : ( فوق ) و ( بين ) كما ترى .
ويزيد هذا إيضاحا ما ثبت في الصحيح من حديث - عائشة رضي الله عنها المرفوع ، وإن ظن كثير من طلبة العلم أنه موقوف عليها . فقد روى البخاري عنها في جوابها لعروة بن الزبير في شأن السعي بين الصفا والمروة أنها قالت ما لفظه : « وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما » (1) انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فتأمل قولها وهي هي ، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، وقولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) وتأمل معنى لفظة ( بين ) يظهر لك أن مفهوم كلامها : أن من سعى فوقهما لم يأت بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك ليس له . وهذا المعنى ضروري للمغايرة الضرورية بين الظرفين ، أعني : ( فوق ) و ( بين ) وفي لفظ عند مسلم عنها أنها قالت : « ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة » (2) انتهى محل الغرض منه ، وهو يدل على أن من طاف فوقهما لا يتم الله حجه ولا عمرته ؛ لأن الطائف فوقهما يصدق عليه لغة أنه لم يطف بينهما ، وفي لفظ لمسلم عنها : أنها قالت : « فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة » (3) وقد علمت أن الساعي فوقهما لم يطف بينهما . وقد أقسمت على أن من لم يطف بينهما لا يتم حجه كما ترى .
واعلم أن ما يظنه بعض أهل العلم من أن حديث عائشة هذا الدال على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ولا عمرة أنه موقوف عليهما غير صواب . بل هو مرفوع .
ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) على قولها :
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1561),سنن النسائي مناسك الحج (2968),سنن أبو داود المناسك (1901),مسند أحمد بن حنبل (6/144).
(2) صحيح البخاري الحج (1698),صحيح مسلم الحج (1277),موطأ مالك الحج (838).
(3) صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1277),سنن ابن ماجه المناسك (2986).(1/48)
« قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما » (1) وهو صريح في أن قولها : ( ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما .
ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنة : أنه فرضه بسنته ، كما جزم به ابن حجر في [ الفتح ] مقتصرا عليه ، مستدلا له بأنها قالت : ( ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ) فقولها : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ) وترتيبها على ذلك بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك - دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا برأي منها كما ترى .
الأمر الخامس : أن إقرار المسعى الأعلى الجديد لا يؤمن أن يكون ذريعة لعواقب غير محمودة ؛ وذلك من جهتين :
الأولى : أنه يخشى أن يكون سببا لتغييرات وزيادات في أماكن النسك الأخرى ؛ كالمرمى ، وكمطاف مماثل فوق الكعبة .
الثانية : أنه لا يؤمن أن يكون ذريعة للقال والقيل ، وقد شوهد شيء من ذلك عند البحث في تأخير المقام لتوسعة المطاف ، فلا يؤمن أن يقال : إن الهيئة الفلانية أو الجهة الفلانية بدأت تغير مواضع النسك التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون أربعة عشر قرنا ، والدعايات المغرضة كثيرة ، فسدا للذريعة إليها مما يستحسن - ولا يخفى أن إقرار هذا المسعى الأعلى الجديد يلزمه جواز إقرار مطاف أعلى جديد مماثل - فقد يقترح مقترح ، ويطلب طالب جعل سقف فوق الكعبة الشريفة على قدر مساحة المطاف الأرضي ، ويجعل فوق السقف المذكور علامات واضحة تحدد مساحة الكعبة تحديدا دقيقا ، مع تحقيق كون مساحة الكعبة المحددة فوق
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1277),سنن النسائي مناسك الحج (2968),مسند أحمد بن حنبل (6/144).(1/49)
السقف مسامتة للكعبة مسامتة دقيقة ، ويبقى صحن ذلك المطاف الأعلى واضحا متميزا عن قدر مساحة الكعبة من الهواء الذي فوق السطح ، فيطوف الناس حول ذلك الهواء المسامت للكعبة ؛ لتخف بذلك وطأة الزحام في المطاف الأرضي ، ولا شك أن هذا المطاف الأعلى المفترض لو فرض جوازه فهو أقل مشقة على الطائفين من توسعة المطاف الأرضي ؛ لأن المطاف الأرضي كلما اتسع كانت مسافة الشوط في أقصاه أكثر من مسافته فيما يقرب منه من الكعبة ، وأما المطاف الأعلى فلا تزيد مسافة الشوط فيه عن مسافته في المطاف الأرضي ؛ لاتحادهما في المساحة ، فهو أخف على الطائف ، ولا نعتقد أن لهذا المطاف الأعلى المفترض مستندا من الشرع ، كما لا نعتقد أن بينه وبين المسعى الجديد فرقا .
وفي الختام فإن زيادة مكان نسك على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم تحتاج إلى تحر وتثبت ونظر في العواقب ، ودليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع العلم بأن الزحام في أماكن النسك أمر لا بد منه ، ولا محيص عنه بحال من الأحوال ، والله الذي شرح ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عالم بما سيكون ، والعلم عند الله تعالى .
أملاه الفقير إلى رحمة ربه وعفوه .
حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي(1/50)
( 2 )
حكم الأوراق النقدية
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(1/51)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الأوراق النقدية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه (1) .
وبعد : فقد عرض على هيئة كبار العلماء برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية - موضوع ( الورق النقدي ) حيث تم إدراجه في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الأول ، ص 197 - 222 ، عام 1395 هـ .(1/53)
وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه :
تعريف النقد .
نشأة النقود وتطورها .
قاعدة النقد الورقي .
سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل .
آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية .
الأوراق النقدية أسناد .
الأوراق النقدية عروض .
الأوراق النقدية فلوس . الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة وأجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها .
علة الربا في النقدين .
الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه .(1/54)
حكم الأوراق النقدية
تعريف النقد :
يقول علماء الاقتصاد : إن للنقد ثلاث خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا :
الأولى : أن يكون وسيطا للتبادل .
الثانية : أن يكون مقياسا للقيم .
الثالثة : أن يكون مستودعا للثروة .
وعلى هذا الأساس قيل : إن النقد هو أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون ، وفي أقوال بعض أهل العلم الشرعي ، ما قد يؤيد هذا التعريف ، ففي [ المدونة الكبرى ] ، ما نصه : ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة . ا هـ (1) .
قد يقال : إن كراهة مالك لذلك من باب الاحتياط ، لا لأنه أنزلها منزلة الذهب والفضة حقيقة ، بدليل ما جاء في [ المدونة الكبرى ] من كتاب الزكاة ، قال ابن القاسم : سألت مالكا عن الفلوس تباع بالدارهم والدنانير نظرة ويباع الفلس بالفلسين ؟ قال مالك : إني أكره ذلك وما أراه مثل الذهب
__________
(1) انظر : كتاب الصرف من [ المدونة ] .(1/55)
والورق في الكراهية .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ؛ بل الفرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد بنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال ، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأموال الطبيعية أو الشرعية ، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت . اهـ (1) وبهذا يمكن القول بأن النقد شيء اعتباري ، سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام ، وقد يقال : إن النقد ليس شيئا اعتباريا محضا ناتجا عن حكم سلطة الإصدار ؛ بل يتوقف اعتباره نقدا على قيمة ذاتية أو غطاء كامل مع اعتبار السلطة لنقديته أو جريان العرف بذلك .
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ] ( 19 \ 551 ، 252 ) .(1/56)
نشأة النقود وتطورها
الإنسان مدني بطبعه ، قليل بنفسه كثير بغيره ، فكل محتاج إلى ما عند غيره ، ومن طبيعة الإنسان أن يضن ببذل ما عنده إلا بعوض ، لذا نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة ، ويذكر أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما إلا أن تطور الحياة وما في الأخذ بالمقايضة من صعوبات أدى إلى الأخذ بوسيط آخر يكون أيسر ويصلح وحده للمحاسبة ومقياسا للقيم ، وخزانة(1/56)
للثروة وقوة شرائية غير محدودة ، إلا أن كل أمة اختارت وسيطا يناسب البيئة التي تعيشها ، ولم يعد هذا الوسيط أن يكون سلعا متنوعة من الأصداف والخرز والرياش وأنياب الفيلة ونحوها ، ولما تطورت الحياة البشرية ظهر عجز السلع عن مسايرة هذا التقدم ، فاتجه الفكر إلى وسيط سهل الحمل عظيم القيمة له من المميزات ما يحفظه من عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان فاتخذوا الوسيط للتبادل من المعادن النفيسة على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة ، غير أن اختلاف أنواعها وعدم وجود سكة لها أدى إلى التلاعب في وزنها ، وإلى صعوبات في تقديرها عند التبادل ، فتدخل ولاة الأمر ، ورأوا احتكار إصدار الوسيط ، وأن يكون قطعا متنوعة من المعادن معلومة الوزن مختوما على كل قطعة ما يدل على مسئولية الحاكم عنها .
وبهذا تحقق في النقد الثقة به والاطمئنان إليه والقدرة على إدارة التعامل به ، إلا أن هذه القدرة غير تامة للصعوبة النسبية في حمله ونقله من مكان إلى آخر ؛ لذلك اتجه الفكر إلى الأخذ بالعملات الورقية على أن الأخذ بالعملات الورقية لم يكن دفعة واحدة ، وإنما كان على مراحل ، فخوفا على ضياع النقد في الأسفار التجارية اختار التجار طريق التحويل لمن يريدون التعامل معه ، ثم رأوا عدم تعيين أشخاصهم في الحوالة ، ولما كثر التعامل بهذه الطريقة ووجدت الأوراق التحويلية قبولا أصدر الصيارفة أوراقا مصرفية جديدة بقدر الجزء المتداول في الأسواق .
وبهذا صارت جزءا من النقود لها قبول عام ، وصارت خزائن للثروة(1/57)
ومقياسا للقيم ، وقوة شرائية مطلقة ، لكن إصدارها كان مشوبا بالفوضى والتلاعب ، فساءت سمعة هذه الأوراق وضعفت الثقة بها فتدخل ولاة الأمور في الإصدار ومراقبته وتحديده وتعيين شكل للورقة النقدية فاكتسبت بذلك قوة الإبراء التام ، ثم جرى العمل على أن من طلب من جهة الإصدار والاستعاضة عما تعهدت به في الورقة بنقود معدنية دفع إليه ، ثم تخلف الوفاء بهذا التعهد إلا إذا كان ما طلب استرجاعه كثيرا ، وأخيرا تخلف الوفاء بما تعهد به إلا بمثله من الورق ، وبذلك انقطعت العلاقة بين الورقة النقدية والنقد المعدني وصارت قيمة وحدة النقود الورقية قيمة مستقلة .(1/58)
قاعدة النقد الورقي
لا شك أن أي نقد قابل للتداول العام كوسيط للتبادل لا بد أن يكون له ما يسنده ويدعو إلى الثقة به كقوة شرائية لا حد لها ، هذا السند إما أن يكون في ذات النقد نفسه كالذهب والفضة إذ فيهما قيمتهما المقاربة لما يقدران به ، أو يكون ركيزة تدعم النقد وتوحي بالثقة به .
ثم إن هذه الركيزة قد تكون شيئا ماديا محسوسا كالغطاء الكامل للأوراق النقدية من ذهب أو فضة أو عقار أو أوراق مالية من أسهم وسندات .
وقد تكون التزاما سلطانيا باعتبارها وضمان قيمتها ، وتكون بذلك أوراقا وثيقية .
وقد تكون الركيزة المستند عليها النقد شيئا ماديا محسوسا والتزاما(1/58)
سلطانيا معا فيغطي بعض النقد الورقي بقيمته المادية عينا ويلتزم السلطان في ذمته بقيمة باقيه دون أن يكون لهذا الباقي غطاء مادي محفوظ وقد يمثل هذا الباقي غالب النقد الورقي (1)
__________
(1) انظر : [ مبادئ الاقتصاد السياسي ] للدكتورين رفعت المحجوب ، وعاطف صدقي ، وكتاب [ قصة النقود ] لوهيب مسيحة .(1/59)
سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل
لعلماء الاقتصاد ثلاث نظريات في سر قابلية النقد للتبادل العام ، قد تكون كل منها صحيحة في فترة ما :
الأولى : النظرية المعدنية : إن النقد مادة لها قيمة في نفسها قبل اتخاذها وسيطا للتبادل فلذلك حصلت الثقة بها وكانت ذات قابلية - عامة للوساطة في التبادل ، وهذه النظرية صحيحة حينما كان النقد معدنيا ، أما اليوم فإن النقد كل ما لقي من الناس قبولا عاما وثقة في اعتباره وسيطا للتبادل فيدخل في ذلك النقد الورقي سواء أكان له غطاء حسي أم كان من اعتبار الحاكم له وسيطا وضمانه له .
الثانية : النظرية السلطانية : وهذه النظرية تقول بأن أمر السلطان هو الذي أكسب النقد قبولا عاما وثقة به ولاشك أن مجرد أمر السلطان لا يكفي في ذلك دون أن يستند إلى مبرر يضمن اطمئنان الأمة إلى هذا الوسيط ؛ لتقف إلى جانب السلطان وتنفذ أمره طائعة مختارة .
الثالثة : النظرية النفسانية : بأن النقد هو الذي تطمئن النفس إلى اعتباره(1/59)
قوة شرائية مطلقة ثقة به واطمئنانا إليه سواء أكان له غطاء أم لا ، وسواء أكانت له قيمة ذاتية أم لا ، وسواء أمر السلطان باعتباره أم حصل التراضي والتعارف على استعماله وقبوله .
مما تقدم يمكن أن يستنتج ما يلي :
1 - النقد هو كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط متبادل .
2 - التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم حاملها قيمتها عند الطلب كان سابقا في وقت ما لاعتبار خاص بالأوراق النقدية ، أما الآن فليس له من واقع التعامل به نصيب ، وإنما هو الآن يحكي ما مضى ويعني التذكير بمسئولية الجهات المختصة تجاه قيمتها والحد من إصدارها بلا تقدير .
3 - من الجائز وجود كميات من الأوراق النقدية رعاية عن الغطاء العيني إلا أن الغالب ألا تزيد هذه الكميات عن 65% من مجموع الأوراق النقدية المتداولة .
4 - ليس متعينا أن تكون القاعدة للورق النقدي ذهبا أو فضة إذ لا مانع أن تكون من غيرها كعقار أو أوراق مالية .
5 - القابلية العامة للنقد من حيث هو نقد في الجملة ليس ناتجا عن قيمة ذاتية في النقد أو عن وازع سلطاني يفرض التعامل به فقط ، وإنما هي الثقة العامة به كقوة شرائية مطلقة ، سواء أكانت هذه الثقة صادرة عن تغطيتها بالمعدن النفيس أو عن الانقياد إلى حكم سلطاني باعتبارها أو عن أي اعتبار آخر يضمن هذه الثقة .(1/60)
هذه الأمور المستنتجة يمكن أن تكون عونا في إدراك حقيقة الأوراق النقدية والقدرة على تكييفها فقهيا .(1/61)
آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية
لم تكن الأوراق النقدية معروفة عند قدماء فقهاء الإسلام ؛ لعدم تداولها في زمنهم ، فلذا لم نجد منهم من تعرض لحكمها ، ولما كثر تداولها في البلاد الإسلامية بعد ذلك بحثها الفقهاء من حيث الحقيقة والحكم ، واختلفت أنظارهم في ذلك تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقتها .
وجملة ذلك خمسة أقوال :
القول الأول : الأوراق النقدية أسناد :
أن الأوراق النقدية أسناد بدين على جهة إصدارها ، ويوجه أصحاب هذا القول قولهم بما يأتي :
( أ ) التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه .
( ب ) ضرورة تغطيتها بذهب ، أو فضة ، أو بهما معا في خزائن مصدريها .
( ج ) انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق حيث إن المعتبر ما يدل عليه من العدد لا قيمتها الورقية .
( د ) ضمان سلطات إصدارها قيمتها عند إبطالها ، ومنع التعامل(1/61)
بها (1) .
مستلزمات هذا القول :
إن القول باعتبار الأوراق النقدية أسنادا على مصدريها يستلزم الأحكام الشرعية الآتية :
( أ ) منع السلم بها فيما يجوز السلم فيه إذ يشترط في صحة السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد وقبض البائع الأوراق النقدية ، والحال أنها أسناد يعتبر حوالة بها على صدريها .
( ب ) عدم جواز صرفها بنقد معدني من ذهب أو فضة ولو كان يدا بيد لأن الورقة النقدية على رأي أصحاب هذا القول وثيقة بدين غائب عن مجلس العقد ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد .
( ج ) يعتبر التعامل بالأوراق النقدية بموجب هذا القول من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة التي أصدرتها وفي القول بصحة العقود بالمعاطاة خلاف بين أهل العلم ، فالمشهور في مذهب الشافعي - رحمه الله - عدم صحتها مطلقا ؛ لاشتراط أن يكون الإيجاب والقبول فيها لفظيين وعلى فرض أن القول باعتبار المعاطاة موضع اتفاق بين أهل العلم فمن شروط الحوالة أن يستطيع المحال استيفاء حقه من المحال عليه وفي مسألتنا لا يمكن أن يستوفي المحال مقابل الورقة من رصيدها ، كما يدل على ذلك
__________
(1) انظر ( مجلة الأزهر ) في سنواتها الأولى ، وكتاب [ بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق ] للشيخ محمد الحسيني ص 68 ، 71 .(1/62)
التطبيق العملي ، فتعتبر الحوالة بذلك باطلة .
( د ) القول باعتبارها أسنادا بديون على مصدريها يخضعها للخلاف بين أهل العلم في زكاة الدين هل تجب زكاته قبل قبضه أم بعده ؟ وبالتالي عدم وجوب زكاتها لدى من يقول بعدم وجوبها قبل قبض الدين لامتناع قبض مقابل هذه الأسناد .
( هـ ) بطلان بيع ما في الذمة من عروض أو أثمان بهذه الأوراق ؛ لكونها وثائق بديون غائبة ؛ لأن ذلك من قبيل بيع الكالئ بالكالئ ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ .
مناقشة هذا القول : المبررات التي وجه بها أصحاب هذا القول قولهم يمكن الإجابة عنها بما يلي :
أولا : إن التعهد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة لحاملها وقت الطلب ليس له من حقيقة معناه نصيب إذ لا يختلف اثنان أن المرء لو تقدم لمؤسسة النقد السعودي أو لغيرها من البنوك المركزية المختصة بإصدار الأوراق النقدية بورقة نقدية صادرة ممن تقدم إليه طالبا منه الاستعاضة عنها بما تحتويه من ذهب أو فضة لما وجد استجابة لذلك ، ولا وفاء لهذا التعهد ، وإنما يرجع الإبقاء على هذا المتعهد - بالرغم من أن الوفاء به لا يتم - إلى تأكيد مسؤوليته على جهات إصداره .
ثانيا : أما الاستدلال على سنديتها بضرورة تغطيتها جميعا بذهب أو فضة أو بهما معا فقد سبق القول بأن الحاجة إلى تغطيتها جميعها ليست(1/63)
ملحة ، وأنه يكفي تغطية بعضها ، فإنا نجد أن الغالب في النقد الورقي أنه غير مغطى بنقد معدني ، وإنما غطاؤه التزام سلطاني بضمان قيمته في حال تعرضه للبطلان ، وإذن فلا يصلح هذا الدليل سندا لهذا القول .
ثالثا : أما انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق النقدية فقد سبق لنا تعريف النقد بأنه أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل ، كما سبقت الإشارة إلى بعض أقوال أهل العلم الشرعي المؤيدة لهذا التعريف ، وعليه فمتى ثبت للأوراق النقدية القابلية العامة لتكون وسيطا فلا فرق بين أن تكون قيمتها في ذاتها أو في خارج عنها ، ويؤيد هذا أن سلطات سك النقود المعدنية جرت على أن تجعل للنقود المعدنية قيما أكثر من قيمتها الذاتية ؛ حفاظا على بقائها ومنعا من صهرها سبائك معدنية ، ومتى كنا نرى جزءا من قيمة النقد المعدني ليس له مقابل إلا الالتزام السلطاني ، ولم نقل بأن الزيادة على قيمته الذاتية سند على الدولة فليبطل القول بأن الأوراق النقدية سند على الدولة على أن هذا القول لا يعني انتفاء مسئولية الدولة عن الهيمنة على ثبات قيمتها في حدود المستوى الاقتصادي العام أو ضمان قيمتها في حال إبطالها .
رابعا : أما ضمان سلطات إصدارها قيمتها وقت إبطالها وتحريم التعامل بها ، فهذا سر اعتبارها والثقة بتمولها وتداولها ، إذ أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما هي في ضمان السلطات لها وليس في هذا دلالة على اعتبارها أسنادا بديون على مصدريها ما دام الوفاء بسدادها نقدا معدنيا عند الطلب مستحيلا .(1/64)
على أن في القول بسنديتها من الحرج والضيق وإيقاع الناس في مشقة عظيمة في معاملاتهم ما يتنافى مع المقتضيات الشرعية ، لا سيما بعد أن عم التعامل بهذه الأوراق بين الشعوب الإسلامية ، وأصبحت هي العملة الوحيدة الرائجة السائدة ، وما عداها من أنواع النقود فقد كاد ترك استعمالها وسيطا للتبادل يسلبها صفة النقد وأحكامه .
ومن الأصول العامة في الشريعة الإسلامية أن الأمر الذي لم ينص على حكمه إذا دار بين ما يقتضي التشديد على الناس وما يقتضي التخفيف عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم ترجح جانب التخفيف على جانب التشديد { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } (3) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده ، والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك ، ورواه البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري : « يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » (4) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: « إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه » (5) .
وفي لفظ: « إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه » (6) وفي الترمذي وغيره : « ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما » (7) ، (8)
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412).
(5) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6528),صحيح مسلم السلام (2165),سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701),سنن الدارمي الرقاق (2794).
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594),سنن أبو داود الأدب (4808),مسند أحمد بن حنبل (6/125).
(7) صحيح البخاري الحدود (6404),صحيح مسلم الفضائل (2327),سنن أبو داود الأدب (4785),مسند أحمد بن حنبل (6/130),موطأ مالك الجامع (1671).
(8) انظر في الرد على هذا الرأي ص 20 ، 21 من رسالة الشيخ أحمد الخطيب [إقناع النفوس بإلحاق أوراق الأنوات بعملة الفلوس] ، وص 15 من الرسالة نفسها .(1/65)
القول الثاني : الأوراق النقدية عروض :
هذا القول: أن الأوراق النقدية عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام ، ويوجهه القائلون به توجيهات نلخصها فيما يلي:
(1) الورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه ومدخر ويشترى ، وتخالف ذاته ومعدنه ذات الذهب والفضة ومعدنهما.
(ب) الورق النقدي ليس بمكيل ولا موزون ، وليس له جنس من الأجناس الربوية المنصوص عليها .
(ج) ما كتب عليها من تقدير قيمتها وتعيين اسمها يعتبر أمرا اصطلاحيا مجازيا لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليست من جنس الذهب والفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية .
(د) انتفاء الجامع بين الورق النقدي والنقد المعدني في الجنس وإمكان التقدير والمماثلة : أما الجنس فالورق النقدي قرطاس والنقد المعدني معدن نفيس من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعادن ، وأما إمكان التقدير فالنقد المعدني موزون ، أما القرطاس فلا دخل للوزن ولا للكيل فيه .
(هـ) الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع ، وليس عندنا دليل يمنع ذلك (1)
__________
(1) انظر [الفتاوى السعدية ، ص 213- 229 ، وانظر مقالين للشيخ يحيى أمال في (جريدة حراء) في 27 ، 28 جمادى الآخرة عام 1387 هـ ، وانظر : فتوى منسوبة للشيخ سليمان بن حمدان في (جريدة البلاد) السعودية في 22 \ 5 \ 1378 هـ .(1/66)
مستلزمات هذا القول :
إن القول بعرضية الأوراق النقدية يستلزم الأحكام الشرعية التالية :
(أ) عدم جواز السلم بها لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد ؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض وليست أثمانا .
(ب) عدم جريان الربا بنوعيه فيها فلا بأس ببيع بعضها ببعض متفاضلة ، فيجوز بيع العشرة بخمسة عشر أو أقل أو أكثر كما يجوز بيع بعضها ببعض أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب أو الفضة أو البرنز أو غيرها من المعادن النقدية نسيئة .
(ج) عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة ؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة .
مناقشة هذا القول :
1 - إن في القول بعرضية الأوراق النقدية تفريطا تنفتح به أبواب الربا على مصاريعها ، وتسقط به الزكاة عن غالب الأموال المتمولة في زماننا هذا ، يتضح ذلك بالمثال الآتي :
مسلم يملك مليون جنيه إسترليني أودعه أحد المصارف بفائدة قدرها 8% لم يقصد بهذا المبلغ التجارة وإنما يريد باقيا عند البنك بصفة مستمرة على أن يأخذ فائدته ليقوم بصرفها على نفسه في شئون حياته مثلا ، فلا بأس(1/67)
بمقتضى هذا القول بصنيعه هذا ؛ لأن هذا المبلغ ليس نقدا فيجري فيه الربا ولا زكاة فيه ؛ لكونه عرضا لم يقصد به التجارة .
2 - إذا عمدت الجهات المختصة إلى نوع من جنس الورق فأخرجت للناس منه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والصور والكتابات وقررت التعامل بها وتلقاها الناس بالقبول فقد انتقل هذا الورق من جنسه باعتبار وانتفى عنه حكم جنسه لذلك الاعتبار لانتفاء فوائد الانتفاع به ورقا يكتب فيه وتحفظ فيه الأشياء ، فإذا كان الناس يحرصون على الحصول عليه ويرضونه ثمنا لسلعهم سواء أكانت سلعا عينية أو خدمات فليس؛ لأنه مال متقوم مرغوب فيه بعد تقطيعه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والكتابة والصور ؛ بل لأنه انتقل إلى جنس ثمني بدليل فقده قيمته كليا في حال إبطال السلطان التعامل به .
أما مخالفة ذاته ومعدنه ذات النقدين والفضة ومعدنهما ، فالجواب عن ذلك فرع عن تحقيق القول في علة الربا في النقدين هل هي الثمنية كما هو رأي المحققين من أهل العلم فينتفي الفارق المؤثر بينهما لاشتراكهما فيها أم أن العلة غيرها.
3 - أما القول بأن قيمتها النقدية وتعيين اسمها اصطلاح مجازي لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليس له جنس الذهب ولا الفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية فيمكن أن يجاب عن ذلك بأن تسمية هذه الأوراق بريال أو جنيه أو دولار أو دينار أو غيرها تعتبر حقائق عرفية لا مجازية لا سيما في وقتنا هذا الذي اختفى فيه الذهب والفضة عن الأسواق(1/68)
كنقد سائد في التداول وحلت هذه المسميات محلها في الثمنية .
4 - وأما القول بانتفاء الجامع بينهما في الجنس وإمكان التقدير فيمكن أن يجاب عنه بعد تحقيق القول في علة الربا في النقدين فإذا كانت العلة في ذلك الثمنية كما سيأتي بيانه وتوضيحه فالجامع موجود .
5 - وأما القول بأن الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع فيجاب بالتسليم بهذه القاعدة إلا أن دليل المنع وارد بناء على أن علة الربا في النقدين الثمنية .(1/69)
القول الثالث : الأوراق النقدية فلوس :
يتلخص هذا الرأي في أن الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها ، فما ثبت للفلوس من أحكام الربا والزكاة والسلم وغيرها ثبت للأوراق النقدية مثلها ، ويوجه أصحاب هذا القول رأيهم بأن الأوراق النقدية عملة رائجة أعيانها بما رقم عليها رواج النقدين بقيمتها المرقومة عليها وليست ذهبا ولا فضة ، وإنما هي كالفلوس .
ولكنهم اختلفوا في مقتضيات هذا القول : فمنهم من لم يلحقها بالنقدين مطلقا ، فلم يوجب فيها الزكاة إلا بنية التجارة ولم يجر فيها الربا بنوعيه ، ومنهم من فصل فألحقها بالنقدين في وجوب الزكاة وجريان ربا النسيئة فيها ؛ للإجماع على حرمته ، واعتراف من حرم ربا الفضل بأن حرمة ربا النسيئة أشد إثما من ربا الفضل ، ولدخول النسيئة في الأنواط في عموم قوله تعالى ؛ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130(1/69)
ولأن مفسدة بيع عشرة أنواط باثني عشر منها ، أو بأحد النقدين إلى أجل لا تقل عن مفسدة بيع عشرة دنانير ذهبا باثني عشر دينارا ، وتكاد معرفة الفساد فيهما تكون ضرورية .
وأباح هؤلاء ربا الفضل في الأنواط ، فأجازوا بيع بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان ذلك يدا بيد ؛ لأن ربا الفضل حرم تحريم الوسائل ، ولكونها غير نقود حقيقية ولموضع الحاجة ، ونظير هذا أن بعض العلماء أجاز بيع الفلوس بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان يدا بيد ومنع من ذلك مؤجلا ، ولأن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كبيع العرايا ، ولأن بعض العلماء أجاز بيع الحلي من الذهب بالدنانير ، وبيع الحلي من الفضة بالدراهم متفاضلا يدا بيد ، فجعلوا للصنعة أثرا (1) .
مناقشة هذا القول:
1 - إن قياس الأوراق النقدية بالفلوس قياس مع الفارق .
ويتبين ذلك فيما يأتي:
(أ) الأوراق النقدية بمزيد قبولها ، وكثرة رواجها في المعاملات ، وطغيانها على سائر الأثمان في سوق المعاوضات - صارت موغلة في الثمنية إيغالا لا تقصر دونه الفلوس ، بل نقود الذهب والفضة بعد ندرة
__________
(1) انظر ص 48 من كتاب [إقناع النفوس بإلحاق أوراق الأنوات بعملة الفلوس] ، للشيخ أحمد الخطيب ، وانظر [الفتاوى السعدية] ، ص 313- 329 ، وانظر (جريدة حراء) الصادرة بتاريخ 10 \ 6 \ 1378 هـ .(1/70)
التعامل بهما في المعاوضات.
(ب) في انتقال الأوراق النقدية من أصلها العرضي إلى الثمنية قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها ، بخلاف الفلوس فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها فلها قيمة في نفسها كسائر العروض.
(ج) الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين ، بل إن بعضا من الورق النقدي يعجز عن اللحاق بقيمته أكبر قطعة نقدية من ذهب أو فضة.
(د) تستخدم الفلوس في تقييم المحقرات من السلع ، وهذه المحقرات مما تعم الحاجة إليها ، فالتخفيف في أحكامها أمر حاجي تقتضيه المصلحة العامة كالعرايا والتجاوز عن يسير الغرر والجهالة.
(هـ) نظرا لتفاهة قيمة الفلوس فإن الصفقات ذات القيمة العالية لا تتم بها ، وإنما تتم بالنقدين أو بالأوراق النقدية والربا في الغالب لا يكون إلا في صفقات ذات قيمة عالية نسبيا.
هذه الفروق لها أثرها في إعطاء الأوراق النقدية مزيد فضل على الفلوس تختلف به عنها في الأحكام وتجعلها في معنى النقدين : الذهب والفضة في الثمنية ، وفي جريان الأحكام.
2 - على فرض التسليم بإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس فقد بحث العلماء رحمهم الله مسألة الفلوس ، واختلفوا في تكييفها ، وانقسموا في ذلك الاختلاف قسمين تبعا لعاملين يتجاذبانها : عامل أصلها ، وهو العرضية(1/71)
وعامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية ، فبعضهم اعتبر أصلها وهو العرضية ففرق بينها وبين النقدين ، فأثبت لها أحكام أصلها ومنع عنها أحكام النقدين في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها (1) ، والبعض الآخر اعتبرها نقدا ، وأثبت لها ما للنقدين من أحكام في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها (2) ، وبمزيد من العمق في دراسة مسألة الفلوس والموازنة بين الرأيين - يظهر وجاهة القول باعتبارها نقدا ، لها ما للنقدين الذهب والفضة من أحكام .
__________
(1) انظر [شرح المنتهى ] ، (2 \ 194 ، 205 ، 212) و[ كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (3 \ 206) ، وانظر ص 34 ، 28 ، 29 ، 30 من رسالة [إمتاع الأحداق والنفوس بمطالعة أحكام أوراق الفلوس] ، ص 34 ، 28 ، 29 ، 30 حيث أورد مجموعة نقول عن [ شرح المنهاج ] ، وعن [فتاوى عليش] ، وعن [شرح الدردير على مختصر خليل] ، وعن [ الفتاوى الهندية] ، وعن [ الدر المختار ] ، وعن حاشيته .
(2) انظر [ الفروع ] ، وتصحيحه (2 \ 546 ، 548) ، و[ الروض المربع ] ، (2 \ 117) و[إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) ، و [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 468 ، 471) و[المدونة الكبرى] ، في كتاب الزكاة وكتاب الصرف ، وكتاب [ شمس الإشراق في حكم التعامل بالأوراق] ، ص 57 ، 58 نقلا عن [ المدونة ] ، وص 67 نقلا عن [ قاري الهداية ] ، و[ بدائع الصنائع ] ، (5 \ 185).(1/72)
القول الرابع : الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة :
يتلخص هذا القول في : أن الأوراق النقدية بدل لما استعيض بها عنه ، وهما النقدان : الذهب ، والفضة ، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقا ، ويوجهه أصحابه بأن هذه الأوراق النقدية قائمة في الثمنية مقام ما تفرعت عنه من ذهب أو فضة حالة محلها ، جارية مجراها ، معتمدة على تغطيتها بما تفرعت عنه منهما ، والأمور الشرعية بمقاصدها ، يؤيد القول بثمنيتها أنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد(1/72)
إبطالها شيئا مما كانت تساويه قبل الإبطال ، ويلزم سلطة الإصدار تعويض حاملها إما بمقابلها من جنس رصيدها ، وإما بأوراق أخرى تقوم مقام مقابلها من الرصيد ما تراه الدولة من المصلحة .
مستلزمات هذا الرأي:
يستلزم هذا الرأي ما يأتي:
(أ) جريان الربا بنوعيه في الأوراق النقدية .
(ب) ثبوت الزكاة فيها متى بلغت قيمتها مائتي درهم فضة أو عشرين مثقالا ذهبا إذا استكملت شروط وجوب الزكاة في النقدين ، مع ملاحظة أن ما كان بدلا عن ذهب فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الذهب ، وما كان بدلا عن فضة فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الفضة .
(ج) جواز السلم بها .
(د) اعتبارها بغض النظر عن أشكالها وأسمائها وجنسياتها متفرعة عن جنسين هما : الذهب والفضة ، فما كان عن ذهب فله حكم الذهب ، وما كان عن فضة فله حكم الفضة .
(هـ)) إذا بودل بين نوعين من الورق النقدي متفرعين عن ذهب أو فضة - امتنع التفاضل بينهما ، وإذا بودل بين جنسين من الورق أحدهما متفرع عن ذهب والثاني متفرع عن فضة - جاز فيهما التفاضل إذا كان يدا بيد ، وامتنع فيهما التأخير .(1/73)
مناقشة هذا القول :
هذا الرأي مبني على افتراض أن الأوراق النقدية مغطاة غطاء كاملا بذهب أو فضة ، وحيث إن الواقع خلاف ذلك ، وأن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية قيمتها مستمدة من سن الدولة التعامل بها ، وتلقي الناس إياها بالقبول ، وأن القليل المغطى لا يلزم أن يعطى بالذهب أو الفضة ؛ بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية من أسهم أو سندات لا تقدر قيمتها بذهب ولا فضة وإنما تقدر بعمل ورقية ، فضلا عن الحرج والمشقة في القول بهذا الرأي في مسائل الصرف عند اشتراط المماثلة في الجنس ، وذلك إذا صح ما قيل بانتفاء أي نقد ورقي غطاؤه فضة .
ويمكن أن يورد على هذا النقاش ما يلي :
إن رصيد الأوراق النقدية وإن كان مختلفا فبعضه ذهب أو فضة وآخر منه عقار أو أوراق مالية من أسهم وأسناد إلا أن ما كان منه عقارا أو أوراقا مالية لم يعتبر رصيدا بنفسه ، وإنما اعتبر بما قدر به من العمل المتعامل بها سابقا في دولة الإصدار ، ذهبا كانت أم فضة ، وكذا ما كان أوراقا وثيقية عمادها التزام سلطة الإصدار ليست قيمتها من مجرد سن الدولة التعامل بها ؛ لما سبق في بيان السبب الثاني من أسباب سر قابلية النقد وسيطا في التبادل وإنما كسبت الأوراق الوثيقية ثقة الناس بها وقبولهم إياها وسيطا في التعامل مع ملاءة سلطة الإصدار القائمة مقام الذهب أو الفضة مع سنها التعامل بها ، فعاد الأمر إلى قيمة ما كان به مليئا من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما ، وبذلك كان بعض الرصيد ذهبا أو فضة بالفعل ، وبعضه الآخر في(1/74)
حكم الذهب أو الفضة تبعا لنوع العمل المتعارف عليها في الدولة قبل إصدار الأوراق النقدية ، أما ما قيل من أن هذا الرأي يستلزم الحرج والمشقة في مسائل الصرف لاشتراط المماثلة في الجنس فغير مسلم ، فإن ما اشترط من المماثلة في حال معاوضة بديل الذهب مثلا بعضه ببعض قد اشترط في حال معاوضة الذهب نفسه بعضه ببعض ولم يعتبر ذلك حرجا ، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا ، ويؤيد ما ذكر من البدلية واعتبار الرصيد قائما أن قيمة الأوراق النقدية لا تخضع في صعودها وهبوطها لحالة السوق التجارية عرضا وطلبا فقط ، بل تخضع في ذلك أيضا لحالة رصيدها قوة وضعفا ، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة لدولة أخرى مليئة معتبرة كعملة الدولار أو الإسترليني في الوقت الحاضر أثبتت وجودها وعلت قيمتها ، وإلا تزلزلت وهبطت قيمتها ، ومن هنا قيل هذه عملة صعبة ، وقيل في أخرى ليست صعبة ، ويشهد لذلك حالة الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني فهبط بعد أن كان صاعدا مرتفعا سعره في السوق العالمية .
ويؤيد اعتبار الرصيد أيضا وأنه لم يزل قائما أن الدولة إذا أبطلت نوعا من الأوراق النقدية لزمها تعويض من بيده الأوراق إما بأصل الرصيد أو بأوراق أخرى تقوم مقام نصيبها من الرصيد ، وإنما منعت الدولة التعويض عن الأوراق بما يقابلها من نفس الرصيد محافظة على خاماتها الثمينة وحماية لها من تلاعب الناس فيها أو تهريبها ، إلى غير هذا من أنواع العبث ، وقد(1/75)
يكون احتفاظها بالرصيد لمعنى اقتصادي جعل الدولة تحل الأوراق محل الذهب أو الفضة .(1/76)
القول الخامس : الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه :
يتلخص هذا القول : في أن الورق النقدي نقد قائم بنفسه ؛ كالذهب والفضة ، وغيرهما من الأثمان مما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل بين الناس ، وأن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها .
توجيه هذا القول :
ويمكن أن يوجه هذا القول بما يأتي :
1 - ما عليه البلاد من حال اقتصادية (1) .
2 - ثقة الناس بها ثقة تامة جعلتها صالحة لتكون مستودعا عاما للادخار ، وقوة للشراء ، ومقياسا للقيم (2) 3 - قانونيتها بسن الدولة لها ، وحمايتها إياها ، والاعتراف بذلك أكسبها قوة الإبراء العام (3) 4 - لا يحتم قانون إصدار الأوراق النقدية تغطيتها جميعها ، فيكفي تغطية بعضها بغطاء مادي له قيمة في نفسه ولو لم يكن ذهبا ولا فضة ، على
__________
(1) انظر [قصة النقود] ، ص 107 لوهيب مسيحة ، وكذلك ص 118 من الكتاب نفسه ، وانظر ص 31 من الفصل الرابع من كتاب [ النقود والائتمان ] ، للأستاذين: محمد لهيطة ] ، ومحمد عليش .
(2) انظر ص 6 ، 7 من [ الموجز في اقتصاديات النقود ] ، للأستاذ ج . ف . كرواذ .
(3) انظر ص 98 ، 99 من كتاب [ قصة النقود ] .(1/76)
أن يكون الباقي أوراقا وثيقية لا غطاء لها إلا التزام سلطة الإصدار سجل بما سجل عليها عند إبطالها .
5 - التعهد المسجل على هذه الأوراق لا يقصد إلا تذكير المسئولين عن مسئوليتهم تجاهها والحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة بها ، وإذن فليست أسنادا وليس التعهد بها سر قبولها .
6 - ليس للأوراق النقدية قيمة في نفسها ، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فليست عروضا.
7 - رجحان القول بأن علة الربا في النقدين الثمنية مع الاعتراف بثمنية الأوراق النقدية .
8 - تحقق الشبه بينها وبين الذهب والفضة المسكوكتين في الثمنية وفي وقوع الظلم والعدوان والاضطراب في المعاملات إذا جعل كل من هذه الأثمان سلعا كالعروض تباع وتشترى فأعطيت حكمها لا حكم العروض .
9 - اختلاف جهات الإصدار فيما تتخذه من أسباب الثقة بالأوراق النقدية لتحل محل الذهب والفضة وتكسب قبولا عاما وإبراء تاما ، واختلاف هذه الجهات أيضا قوة وضعفا وسعة وضيقا في الاقتصاد والسلطان وغير ذلك مما يقضي بأنها أجناس مختلفة باختلاف جهات إصدارها ، فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف كل منهما عن الآخر في القيمة الذاتية ، فكذلك العملات الورقية أجناس لاختلاف كل منها عن الأخرى بما تقدرها به جهات إصدارها وفيما تتخذه من أسباب لقبولها(1/77)
وإحلال الثقة بها .
10 - في القول بتفرع الأوراق النقدية عن الذهب والفضة مجانبة للواقع ، وفي العمل به حرج ومشقة حينما تعتبر الأوراق النقدية جنسا واحدا.
وحيث كان سر قبول الأوراق النقدية ثقة الناس به لا التعهد المسجل على كل ورقة بتسليم حاملها ما سجل عليها وقت الطلب ، ولا أن جميعها مغطى بذهب أو فضة ، ولا لأن سلطة الإصدار ألزمت الناس التعامل بها ، وحيث أنها أشبهت الذهب والفضة في الثمنية وتقويم الأشياء بها ، واطمئنان النفوس إلى تمولها وادخارها ، وفي اضطراب أحوال المعاملات وانتشار الظلم والعدوان باتخاذها سلعا تباع وتشترى ، وكان الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة الثمنية ، وتبين أنها ليست أسنادا ولا عروضا وأن الفلوس جارية مجرى الذهب والفضة في أحكامها وأنها ليست متفرعة عن الذهب والفضة ، وأن قيمة الأوراق الثمنية وقوتها الشرائية تختلف باختلاف جهات الإصدار في حالتها الاقتصادية ، وقوتها وضعفها ، وسعتها وضيقها في الاحتياط لحفظ كيان هذه الأوراق وفي نوع ما تسندها ثبت أنها نقد قائم بنفسه ، وأنها أجناس مختلفة تبعا لاختلاف جهات إصدارها ، وأن لها ما للذهب والفضة من أحكام (1)
__________
(1) انظر كتاب [ يسر الإسلام ] ، للشيخ رشيد رضا ، وكتاب [قصة النقود] ، لوهيب مسيحة ، والفصل الرابع من كتاب [النقود والائتمان] ، للأستاذين فهمي لهيطة ومحمد حمزة عليش.(1/78)
مستلزمات هذا القول :
يستلزم هذا القول الأحكام الشرعية الآتية :
(1) جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان .
(ب) عدم جواز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض أو بيع جنس منها بغيره من الأجناس الثمنية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة .
(ج) عدم جواز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلا ، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد .
(د) جواز بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض متفاضلا ، إذا اختلف الجنس وكان يدا بيد ، فيجوز بيع الريال الفضة بريالين من الورق مثلا ، وبيع الليرة بريال سعودي فضة كان أو ورقا ، وبيع الدولار بخمسة ريالات أو أقل أو أكثر إذا كان يدا بيد .
(هـ) وجوب زكاتها إذا بلغت أدنى النصابين من ذهب أو فضة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها وحال عليها الحول .
(و) جواز السلم بها .
مناقشة هذا القول :
ويمكن أن تناقش هذه التوجيهات بما يأتي :
أما الأول : فيناقش بأن تغير أسعار الورق النقدي ونحوه ارتفاعا وانخفاضا لا يخضع فقط لحالة السوق التجارية طلبا وعرضا وكثرة الإنتاج(1/79)
وقلته وكثرة الأثمان وقلتها ، بل يخضع أيضا لحالة رصيد هذه الأوراق قوة وضعفا ، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة أخرى مليئة ولها رصيد معتبر كعملة الدولار والإسترليني في الوقت الحاضر ، أثبتت وجودها وغلت قيمتها وإلا تزلزلت وهبط سعرها في الأسواق العالمية ، ومن هنا قيل : عملة صعبة وعملة ليست صعبة ، ويشهد لذلك واقع الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني هبط بعد أن كان مرتفعا سعره في السوق العالمية .
ويناقش الثاني والثالث : بأن ثقة الناس بها وقانونيتها بسن الدولة لها وحمايتها والاعتراف بذلك إنما أكسبها قوة الشراء والإبراء العام وجعلها مقياسا للقيم من أجل ما استندت إليه من رصيد لا يزال اعتباره قائما ، يدل على ذلك ما جاء في التوجيه الرابع والخامس والسادس والتاسع ، وما تقدم في بيان سر قابلية النقد الورقي للتبادل والإبراء العام .
ويناقش الرابع : بأنه وإن لم يتعين تغطية الأوراق النقدية بالذهب أو الفضة لكن لابد من التغطية ولو بعقار يقدر بالعملة المتعارف عليها في دولة الإصدار حتى يمكن الوقوف عند حد معقول اقتصاديا في إصدار الأوراق النقدية يتناسب مع الرصيد ، وما كان غير مغطى منها قام فيه التزام جهة الإصدار المليئة مقام الغطاء بالعملة المتعارف عليها سابقا ، وبذلك كان الغطاء من عقار والتزام مثلا في حكم الذهب والفضة وكانت ثقة الناس بهذه الأوراق وكانت قوة الشراء والإبراء العام .
(انظر التعليق على مناقشة القول الرابع) .(1/80)
ويناقش الخامس : بأنه يحمل رده في طيه حيث ذكر فيه أن مما يقصد بالتعهد المسجل على الأوراق الحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة ، واستكمال أسباب الثقة إنما يكون بزيادة الرصيد بنسبة ما يراد زيادة إصداره من الأوراق النقدية ، وبذلك يتبين أن اعتبار الرصيد ولو اختلف نوعه لا يزال قائما ، وإنما لم يسلم العوض ذهبا أو فضة عند إبطال عملة الأوراق واكتفي بتسليم عملة أخرى من الأوراق لمصلحة رآها ولي الأمر ، كالمحافظة على المعادن النفيسة من تهريبها مثلا ، أو الرغبة في الانتفاع بها فيما يعود على الدولة بالخير مع قيام أوراق نقدية لا تكلفه شيئا سوى إصدارها مع دعمها بالتزام الوفاء ورصيد يتصرف فيه رجاء فائدة تعود إلى الحكومة والأمة .
ويناقش السادس : بأنه يحمل رده في طيه أيضا كالخامس ؛ بل هذا أوضح ، حيث صرح فيه بأن قيمة الأوراق النقدية في أمر خارج عنها لا في نفسها ، فدل ذلك على اعتبار الرصيد قائما وإن لم يستجب إلى من طلبه من حملة الأوراق النقدية ولم يدفع إليه شيء من الرصيد بعينه ، لما تقدم بيانه في رد الوجه الخامس .
ويناقش السابع والثامن : بأنه إن صح القول بأن الثمنية علة الربا في النقدين وصح قياس الأوراق النقدية عليها دل ذلك على أنها فرع عنهما لا على استقلالها جنسا أو أجناسا قائمة بنفسها ، فما كان منها متفرعا عن الذهب ألحق به وما كان منها متفرعا عن الفضة أعطي حكمها في كل ما يتعلق بالربا والزكاة ونحوهما .(1/81)
ويناقش التاسع بأمرين :
الأول : أن فيه التصريح باتخاذ رصيد لهذه الأوراق ، وأنه سبب الثقة بها وحلولها محل الذهب أو الفضة وكسبها القبول العام والإبراء التام فدل على أنها فرع عما دعمت به من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما من عقار ونحوه ، فكانت بدلا عن أصلها الذي حلت محله لا جنسا أو أجناسا مستقلة بنفسها .
الثاني : أن اختلاف جهات الإصدار قوة وضعفا وسلطانا وسعة وضيقا واختلافها في نوع ما تدعم به عملتها الورقية لا تأثير له في اختلاف رصيده منهما أو مما قدر بهما فيكون بعض الورق تبعا للفضة وبعضها تبعا للذهب لا غير ، يدل على ذلك أن جهات إصدار نقد من الذهب أو الفضة لا يؤثر اختلافها ولا وحدتها في جنس كل من الذهب والفضة ، بل هما جنسان اتحدت الجهة أو اختلفت.
ويناقش العاشر : بأنه لا حرج ولا مشقة في القول بتفرعها عن الذهب والفضة ، فإن ما اشترط فيها من المماثلة في بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض قد اشترط فيما هي بديل عنه من الذهب أو الفضة ولم يعتبر ذلك حرجا ، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا .(1/82)
علة الربا في النقدين :
نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا(1/82)
المعاوضات كوسيط للتبادل ، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنيه ، وحيث أن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما ، نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة : فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم : قصر العلة فيهما مطلقا سواء كانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين .
وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس وابن عقيل من الحنابلة ، حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها ، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعذ نقدا ، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي ، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أتهم اختلفوا في تخريج المناط .
ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال :
الأولى : يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن » (1) (2) ، ولقوله : « الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل ، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل » (3) (4)
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن أبو داود البيوع (3353),مسند أحمد بن حنبل (6/22).
(2) أخرجه مسلم برقم (1584) (77) وأبو داود برقم (3353) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (5470) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1588).
(4) أخرجه أحمد (2 \ 262) و (6 \ 19) ومسلم برقم (1588) (84) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (4569) .(1/83)
وقوله : « ما وزن مثلا بمثل » (1) ، وقوله : « بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (2) .
وقال في [الميزان] ، مثل ذلك (3) ، فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات ، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن ؛ كالحديد ، والنحاس ، والرصاص ، والصفر ، والصوف ، والقطن والكتان ، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد ، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي . ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي :
(أ) الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (4) .
(ب) العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات ، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل ، وفي جواز ذلك نقض للعلة (5) .
(ج) أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن ؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا ، كالفلوس ، والورق النقدي ، فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في
__________
(1) رواه الدارقطني برقم (58) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),موطأ مالك البيوع (1314).
(3) [صحيح البخاري] ، (3 \ 35 ، 61) و (5 \ 83 ، 84) .
(4) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .
(5) انظر [ المغني ] ، (4 \ 4) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 471) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .(1/84)
التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين ، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار .
الثاني : ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبة الثمنية ، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة ، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راج رواج النقدين فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها .
ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي:
(أ) أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس ؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1)
(ب) أن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما ؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي .
الثالث : ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية .
وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة .
قال أبو بكر من أصحاب أحمد : روى ذلك عن أحمد جماعة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم (2)
__________
(1) انظر [مجموع النووي] ، (9 \ 445) ، وانظر الفروع ، (2 \ 545) .
(2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 473 ، 474) ، وانظر إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .(1/85)
وقد أورد ابن مفلح على هذا القول إيرادا ملخصه : بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد : بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية ، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين ، بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما ، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة ؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب ؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة (2) .
كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه : بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، سواء أكانا سبائك أو مسكوكين ، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه ؛ لكونه ثمنا وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا ، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما ، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا ، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن .
__________
(1) انظر [ الفروع ] ، وتصحيحه (2 \ 545) .
(2) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 145 - 142 ) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (29 \ 453) .(1/86)
ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال : « جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، فساومنا سراويل فبعناه ، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: " زن وارجح » ، ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: « يا بلال أقضه وزده » (1) فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) .
هذا ما تيسر إيراده. وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2185),صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/314).
(2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (19 \ 248) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 140) .(1/87)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (10) وتاريخ 17 \ 8 \ 1393هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، والأمين العام لهيئة كبار العلماء - بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء ؛ استنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر ، أو بتوصية من الهيئة ، أو من أمينها ، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 1393 هـ ، وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادا ، أو عروضا ، أو فلوسا ، أو بدلا عن ذهب أو فضة ، أو نقدا مستقلا بذاته ، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - جرى تداول الرأي فيها ، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات. فتنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها :(1/88)
وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية ، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحدا أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم - فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي ، وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية ، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س1 : هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدا قائما بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها ، كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي ، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة ، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة ، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا ؟
س2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها ، وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط ، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية ، وما هو الحد الأدنى لها؟
س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية ، وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة ، وله هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقا ؟
س4 : المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها ، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها ، فما هي مقومات هذه القيمة؟(1/89)
س5 : نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة ، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلى؟
س6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب ، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له ، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟
س7 : ما يسمى بالدينار ، والجنيه هل هو مغطى بالذهب ، ولذا سمي دينارا أو جنيها رمزا لما غطي به ، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة ؟
س8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعا لم يسبق له نظير؟
وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته ، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي .
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ - قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح ، بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل ، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا(1/90)
شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ؛ ولهذا كانت أثمانا . . . إلى أن قال : والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض ، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت ) اهـ (1) .
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في [ المدونة ] ، من كتاب الصرف حيث قال: ( ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ) اهـ (2) .
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة ، وبه الإبراء العام ، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ : أن صفة السندية فيها غير مقصودة ، والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية ، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء ، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا ، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية ، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم ، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية ، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها ، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 251) .
(2) [المدونة الكبرى] ، للإمام مالك (3 \ 5 ) توزيع \ مكتبة دار الباز بمكة المكرمة.(1/91)
غطاء للعملات الورقية.
وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا ، والأقرب إلى مقاصد الشريعة ، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد ، قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة ، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية ؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان ، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار ، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس ، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس ، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته ، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها ، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس ، وهذا يقتضي ما يلي :
(أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما - نسيئة مطلقا ، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا ، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد ، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.(1/92)
(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا ، إذا كان ذلك يدا بيد ، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ، ورقا كان أو فضة ، أو أقل من ذلك أو أكثر ، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد ، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد ؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
. ... . ... محمد الأمين الشنقيطي
متوقف
عبد الرزاق عفيفي
لي وجهة نظر أخرى في الأوراق النقدية أقدم بها بيانا إن شاء الله ... عبد الله بن حميد
متوقف ... عبد الله خياط
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان
متوقف ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان
متوقف ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير(1/93)
(3)
{ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1)
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(1/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان المراد من قول الله تعالى في
آية مصارف الزكاة : وفي سبيل الله (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5\ 8\ 1394 هـ ويوم 22\ 8\ 1394 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على أقوال أهل العلم في ذلك، مع ذكر مستند كل قول ومناقشته:
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني، ص 23- 60، عام 1395 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60(1/97)
{ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1)
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) على ثلاثة أقوال:
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60(1/98)
القول الأول: إن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء.
وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم:
قال ابن جرير الطبري : وأما قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال: الغازي في سبيل الله. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، وفي سبيل الله، وابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له » (3) (4) ا هـ .
وقال القرطبي : الثانية والعشرون: قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [جامع البيان]، (14\ 320) تحقيق محمود شاكر.
(5) سورة التوبة الآية 60(1/98)
هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله (1) اهـ.
وقال ابن العربي : (المسألة التاسعة عشرة) قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال مالك : سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا: الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج، والذي يصح عندي من قولهما: أن الحج من جملة السبل مح الغزو؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر، وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله » (3) .
وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص. وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقران مثله أو بخبر متواتر، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله: { وَلِذِي الْقُرْبَى } (4) فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه.
__________
(1) [الجامع لأحكام القرآن]، (9\ 185).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) سورة الأنفال الآية 41(1/99)
وقال محمد بن عبد الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؟ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة (1) ا هـ.
وقال الجصاص : قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له » (3) واختلف الفقهاء في ذلك: فقال قائلون: هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي .
وقال الشافعي : لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله، لأن شرطها تمليكه، وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ، وقد روي « أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعد في صدقتك » (4) فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها... إلى أن قال:
وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث مآله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة .
فإن قيل: فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله: « لا تحل
__________
(1) [أحكام القرآن]، (1 \ 396 ، 397) الطبعة الأولى]، عام 1331 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) صحيح البخاري الزكاة (1418),صحيح مسلم الهبات (1620),سنن الترمذي الزكاة (668),سنن النسائي الزكاة (2617),سنن أبو داود الزكاة (1593),سنن ابن ماجه الأحكام (2392),مسند أحمد بن حنبل (2/55),موطأ مالك الزكاة (624).(1/100)
لغني إلا في سبيل الله » (1) .
قيل له: قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها- فلا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة- فتجوز له الصدقة، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر، فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « الصدقة تحل للغازي الغني » اه (2)
وقال السيوطي في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) قال: هم المجاهدون، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) قال: الغازي في سبيل الله. اهـ (6)
وقال الخازن : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) يعني: وفي النفقة في سبيل الله، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) [أحكام القرآن]، (3\ 156، 157) المطبعة البهية، عام 1347 هـ.
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) [الدر المنثور] (3\ 352).
(7) سورة التوبة الآية 60(1/101)
والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء. اهـ (1) .
وقال الشوكاني في [تفسيره]: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء وهذا قول أكثر العلماء. اهـ (3) .
وقال ابن حجر العسقلاني : وأما { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. اهـ (5) .
وقال بدر الدين العيني : قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف، ومنقطع الحاج عند محمد، وفي [المبسوط]، { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد فقراء الحاج.
وقال ابن المنذر : وفي الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : سبيل الله هو: الغازي غير الغني وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج وذكر ابن بطال : أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في [شرح المهذب]، وقال صاحب [ التوضيح]: وأما قول أبي حنيفة : لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (8) وأما السنة فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
__________
(1) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [فتح القدير] (2\ 373).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [فتح الباري]، (3\ 59).
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60
(8) سورة التوبة الآية 60(1/102)
أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم » (1) .
(قلت): ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني » (2) . وقال: المراد من قوله: « لغاز في سبيل الله » (3) هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم. اهـ (4)
وقال أبو الحسن المباركفوري : اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور، قال الباجي : هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء، وقال الخرقي : وسهم في سبيل الله هم الغزاة. قال ابن قدامة : هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو. اهـ، ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به .
قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [عمدة القاري]، (9\ 45).(1/103)
فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج- ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) ثم قال: والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة؛ لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه.
قال ابن العربي في [أحكام القرآن] ، قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال مالك : سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو؛ لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه، وهو حديث صريح مفسر لقوله في سبيل الله في الآية، فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم، إذ قال: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود (3) ، وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به. انتهى، وهو الذي صححه الخازن في [تفسيره]، حيث قال: والقول الأول هو الصحيح؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضا العلامة القنوجي اليوناني في [تفسيره]، إذ قال: والأول أولى؛ لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في [فتح القدير]، ورجحه، واختاره أيضا غيرهم من المفسرين. اهـ .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) حديث عطاء بن يسار: ''لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة '' الحديث وقد تقدم ذكره.(1/104)
وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (1) ما نصه:
قلت: فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه، وهو من سهم سبيل الله، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وقال أصحاب الرأي: لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به.
قلت: سهم السبيل غير سهم ابن السبيل، وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } (2) والمنقطع به هو: ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب، وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه (3) اهـ.
قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه (4) .
وقال البابرتي على عبارة [الهداية]،: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) منقطع الغزاة
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [معالم السنن]، (2\ 234، 235).
(4) [النهاية في غريب الحديث]، (2\ 145).
(5) سورة التوبة الآية 60(1/105)
عند أبي يوسف رحمه الله: وقوله: منقطع الغزاة، أي: فقراء الغزاة ... ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم » (1) .
وقال الشافعي : يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (2) من جملتهم الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن، ومعناه: أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب. اهـ (3)
وفي [الفتاوى الهندية]، ما نصه: ومنها: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وهم: منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعند محمد رحمه الله تعالى: منقطعو الحاج الفقراء منهم، هكذا في [التبيين]، والصحيح: قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، كذا في [المضمرات] ، (5) اهـ.
وقال أبو البركات أحمد دردير في [شرحه]: وأشار للسابع بقوله: ومجاهد، أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه؟ لكونه حرا مسلما ذكرا بالغا قادرا، ولا بد أن يكون غير هاشمي، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها، ولو كان المجاهد غنيا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرا، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد؟ لتحفظ به من الكفار، ولا في عمل مركب يقاتل فيها
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4090),صحيح مسلم الإيمان (19),سنن الترمذي الزكاة (625),سنن النسائي الزكاة (2435),سنن أبو داود الزكاة (1584),سنن ابن ماجه الزكاة (1783),مسند أحمد بن حنبل (1/233),سنن الدارمي الزكاة (1614).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) [العناية على الهداية]، هامش على [فتح القدير]، (2\ 17، 18).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [الفتاوى الهندية] (1\ 188).(1/106)
العدو . ا هـ (1) .
وقال المواق ومجاهد : وآلته ولو غنيا. ابن عرفة : من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله. أبو عمرو : ذلك الجهاد والرباط. اللخمي : ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو وإن كانوا أغنياء حيث غزوهم.
واختلف إذا كان غنيا بالموضع الذي هو به: فقيل: يعطى لحديث: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز... » (2) الحديث؛ ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك، ولأن في إعطائه ضربا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس. اهـ (3) .
وقال الإمام الشافعي : ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين. اهـ (4) .
وقال النووي على [المهذب]: قال المصنف رحمه الله تعالى: وسهم في سبيل الله، وهم: الغزاة إذا نشطوا غزوا، وأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء. قال النووي: ومذهبنا: أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق
__________
(1) [الشرح الكبير]، هامش على [حاشية الدسوقي]، (1\ 456).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) [التاج والإكيل لمختصر خليل، هامش على [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل]، (2\ 351).
(4) [الأم]، للإمام الشافعي (2\ 60).(1/107)
لهم في الديوان، بل يغزون متطوعين، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. اهـ (1) .
وقال النووي أيضا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة: واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو: الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن كذلك، واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين (2) : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) فذكر منهم الغارم، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. اهـ (4) .
وقال ابن قدامة : السابع: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، ولا يعطى منها في الحج. اهـ . وقال في [حاشية المقنع]، على قوله: السابع في سبيل الله: لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } (7) وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم، وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا، وهم الذين لا ديوان لهم، أي: لا حق لهم في الديوان؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به
__________
(1) [المجموع]، (6\ 211) الطبعة الأولى.
(2) أي: من [المجموع].
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [المجموع وحاشيته]، (1\ 249).
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة البقرة الآية 190
(7) سورة الصف الآية 4(1/108)
فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم . . . إلى أن قال: قوله: (ولا يعطى منها في الحج) في رواية اختارها في [المغني]، وصححها في [الشرح]، وقاله أكثر العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن سبيل الله تعالى حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا، والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير، أو من يحتاجه المسلمون كالعامل، والحج لا نفع فيه للمسلمين، ولا حاجة بهم إليه، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى. اهـ (1)
وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة : قوله السابع: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة، كما تقدم في المكاتب والغارم (3) . تنبيه: ظاهر قوله: (وهم الذين لا ديوان لهم) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها وهو صحيح، لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه، فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه. قاله في [الرعاية]، وغيرها.
... إلى أن قال: قوله: (لا يعطى منها في الحج) هذا إحدى الروايتين. اختاره المصنف والشارح، وقالا: هي أصح، وجزم به في [الوجيز]، ا هـ . (4)
__________
(1) [المقنع وحاشيته]، (1\ 349).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) أي: من [الإنصاف]، للمرداوي.
(4) [الإنصاف] (3\ 235).(1/109)
وقال ابن حزم : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، حدثنا أبو داود، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني » (1) .
وقد روي هذا الحديث عن غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر، وزيادة العدل لا يحل تركها.
فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن « الحج من سبيل الله » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج. قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق. اهـ (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: 1 - أن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3)
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) [المحلى]، (6\ 151) المطبعة المنيرية.
(3) سورة التوبة الآية 60(1/110)
عليه؛ لأن الظاهر إرادته، قال تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } (2)
2 - أن حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله » (3) الحديث، وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) فيجب حمله عليه.
3 - ما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله: الجهاد ومن ذلك: ما ذكره الطبري في [تفسيره] قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) قال: الغازي في سبيل الله. وما ذكره السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، قال: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) قال: هم: المجاهدون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) قال: الغازي في سبيل الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة الصف الآية 4
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60(1/111)
القول الثاني: أن المراد بسبيل الله: الغزاة والحجاج والعمار، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال ابن كثير : وأما في سبيل الله، فمنهم: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق : والحج من سبيل الله؟ للحديث. اهـ (1)
__________
(1) [تفسير القرآن العظيم]، (2\ 366).(1/111)
وقال الخازن في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . اهـ (2)
وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. اهـ (4)
وقال القرطبي : الثانية والعشرون: قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) وهم الغزاة وموضع الرباط... إلى أن قال: وقال ابن عمر : الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري : ويذكر عن أبي لاس : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج » (6) . ويذكر عن ابن عباس : ويعتق من (زكاة) ماله ويعطى في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) [فتح القدير] (2\ 373).
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) مسند أحمد بن حنبل (4/221).(1/112)
فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا اهـ (1) .
وقال الجصاص : وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا، وقد روي عن ابن عمر : أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر : إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به، وهذا يدل على أن قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قد أريد به عند محمد الحاج المنقطع به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الحج والعمرة من سبيل الله » (3) اهـ (4) .
وقال البخاري : باب قوله تعالى: { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } (6) الآية، في أيهما أعطيت أجزأت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن خالدا احتبس أدراعه في
__________
(1) [الجامع لأحكام القرآن]، (8\ 185).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن الدارمي الوصايا (3304).
(4) [أحكام القرآن]، (3\ 156) المطبعة البهية.
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة التوبة الآية 60(1/113)
سبيل الله » (1) ويذكر عن أبي لاس : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج » (2) اهـ (3) .
وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل: وعن ابن لاس الخزاعي قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج » (4) رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. وعن أم معقل الأسدية « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج والعمرة في سبيل الله » (5) رواه أحمد .
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت: « لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي؟ " قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله » (6) رواه أبو داود .
قال الشوكاني : حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه. وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وقد اختلف على أبي بكر بن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1399),صحيح مسلم الزكاة (983),سنن النسائي الزكاة (2464),سنن أبو داود الزكاة (1623),مسند أحمد بن حنبل (2/323).
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(3) [صحيح البخاري]، (2\ 104).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(5) سنن أبو داود المناسك (1988),مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(6) سنن أبو داود المناسك (1989).(1/114)
عبد الرحمن فيه، فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها، وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروى عنه عن أبي معقل، والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
قوله: ( ابن لاس ) هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ (ابن) والذي في البخاري ( أبي لاس ) وكذا في [التقريب]، من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس؛ بسين مهملة خزاعي، اختلف في اسمه فقيل: زياد، وقيل: عبد الله بن عنمة - بمهملة ونون مفتوحتين-، وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد : ابن خزيمة، والحاكم وغيرهما من طريقه، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؛ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته.
وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة اهـ (1)
وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وقيل: المراد منه: منقطع الحاج، وبه قال محمد، وروي
__________
(1) نيل الأوطار، (4\ 180، 181) الطبعة الثانية- 1371هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60(1/115)
عن أحمد وإسحاق : أن الحج أيضا من سبيل الله يعني: أن الحج من جملة السبل مع الغزو؟ لأنه طريق بر إلى أن قال:
قلت: واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس : « أن امرأة قالت لزوجها: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فلان، قال: (ذاك حبيس في سبيل الله) الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (1) ، وبما روي عن أم معقل الأسدية : « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج.. الحديث، وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج من سبيل الله » (2) أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج » (3) ذكره البخاري تعليقا بصفة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وقال الشوكاني : حديث أم معقل، وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدين الحج . انتهى، وبما روى أبو عبيد في [الأموال]، عن أبي معاوية، وابن أبي شيبة في [مصنفه] عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221).(1/116)
صحيح عنه. اهـ (1) .
وقال الكسائي في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وقال محمد : المراد منه: الحاج المنقطع ؛ لما روي « أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحجاج » . اهـ (3) .
وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس وعن ابن عمر، الحج من سبيل الله، وهو قول إسحاق؛ لما روي: « أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (5) اهـ (6) .
وقال البهوتي : والحج من السبيل أيضا، روي عن ابن عباس وابن عمر، لما روى أبو داود : « أن رجلا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (7) فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه، أي: في فرض الحج والعمرة؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، وأما التطوع فله عنه مندوحة، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله، والفقير
__________
(1) [المرآة على المشكاة]، (3\ 117).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [بدائع الصنائع]، (2\ 45) الطبعة الأولى.
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(6) [الشرح الكبير] (2\ 702).
(7) سنن أبو داود المناسك (1988),مسند أحمد بن حنبل (6/406).(1/117)
لا فرض عليه فهو منه كالتطوع. اهـ (1) .
وقال النووي ناسبا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد ما نصه: وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج، وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما.
واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت: « لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته، فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ " قالت: قلت: لقد تهيأنا، فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله. قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله ". » (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، إنها سألتني الحج معك، قالت: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (3) [قال] ، (4) : « وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، قال
__________
(1) [كشاف القناع عن متن الإقناع]، (2\ 256).
(2) سنن أبو داود المناسك (1989).
(3) سنن أبو داود المناسك (1990).
(4) الزيادة من [المجموع]، (6\159) تحقيق وتكميل\ محمد نجيب المطيعي (الناشر).(1/118)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة » (1) يعني: عمرة في رمضان، رواهما أبو داود في [سننه] ، في أواخر كتاب الحج في باب العمرة، والثاني: إسناده صحيح، وأما الأول: حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه: (عن) وهو مدلس، والمدلس إذا قال: (عن) لا يحتج به بالاتفاق. اهـ (2) .
واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة (في سبيل الله).
وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس : « أن امرأة قالت لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك الفلاني، قال: ذاك حبيس في سبيل الله... الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (3) ، وبما روي عن أم معقل الأسدية « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت الحج.. وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر وقال: الحج من سبيل الله » (4) أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج » (5) ذكره البخاري تعليقا، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وبما روى أبو عبيد في [الأموال]، عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في [مصنفه]، عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).
(2) [المجموع، (6\ 212، 213) المطبعة المنيرية.
(3) سنن أبو داود المناسك (1990).
(4) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/221).(1/119)
امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبيل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه.
وقال القرطبي في [تفسيره]: خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم، ويكنى: أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر، فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر : (فهو كما قال في سبيل الله)، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: (فما تأمرني يا ابن أبي نعم؟ ! آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل)! قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها.
وقد أجيب بما يلي:
بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) في آية المصارف: هو: الغزو.
وقال المباركفوري : وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين:
الأول: الكلام فيها إسنادا، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(1/120)
عبد الواحد الأحول، وقد تكلم فيه أحمد والنسائي، وقال الحافظ: صدوق يخطئ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة، وليس عندهما أنه جعل جمله حبيسا في سبيل الله، ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (1) ، وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه، وذلك لا شك فيه، من ينظر في طرق هذا الحديث في [مسند الإمام أحمد ]، وفي السنن، مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي، وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ولا يخفي بعده، وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في [الفتح]،: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ؟ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ .
ويشير بذلك ما حكي عنه أنه قال: إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها. انتهى.
وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد، كما في [الفتح]، وقد بين اضطرابه الحافظ؛ ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا، وقيل: بل رجع عن هذا القول.
والثاني: أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله، بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).(1/121)
المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم، وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد؛ لحديث أبي سعيد وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى.
قال ابن حزم : فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن « الحج من سبيل الله، » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضح إلا حيث بين النص، وهي الذي ذكرنا. انتهى.
وقال ابن قدامة : هذا- أي: عدم صرف الزكاة في الحج- أصح؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وأما الخبر (يعني: حديث أن « الحج في سبيل الله » فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا. انتهى.
وقال ابن الهمام متعقبا على الاستدلال المذكور: ثم فيه نظر؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية؟ والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية، بل(1/122)
نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى انتهى. وقال صاحب تفسير [المنار] ، بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه: وأقول من جهة المعنى: أولا: إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية. وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن بقائه على ما أوصى به أبو معقل ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس . وثالثا: أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار: أنه غير مراد في الآية. انتهى (1)
وقال أبو الفرج ابن قدامة : ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين: محتاج إليها؛ كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون؛ كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفعه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى. اهـ (2) .
__________
(1) [المرآة على المشكاة]، (3\ 117، 118).
(2) [الشرح الكبير]، (2\ 701) (الطبعة المشتركة مع المغني).(1/123)
القول الثالث: أن المراد بذلك: جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك، ولقد قال(1/123)
بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال الفخر الرازي : إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) عام في الكل. اهـ (3) .
وقال الخازن في [تفسيره]: وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط؛ ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، قال: لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ (5) .
وقال محمد جمال الدين القاسمي : ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشترى لهم الكراع والسلاح، قال الرازي : لا يوجب قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى،
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [تفسير الرازي]، (16\ 113).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60(1/124)
وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) عام في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه.
قال في [الإقناع]، وشرحه: والحج من سبيل الله نصا، وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود : « أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (2) فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله . انتهى.
قال ابن الأثير : وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه انتهى.
وقال في [التاج] ،: كل سبيل أريد به الله عز وجل- وهو بر- داخل في سبيل الله. اهـ (3) .
وقال أحمد مصطفى المراغي : في [تفسيره]، قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به:
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(3) [محاسن التأويل]، (8\ 3181) مطبعة الحلبي.
(4) سورة التوبة الآية 60(1/125)
الغزاة، والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق: أن المراد بسبيل الله: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ (1) .
وقال الألوسي : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) أريد بذلك عند أبي يوسف : منقطعو الغزاة، وعند محمد : منقطعو الحجيج، وقيل: المراد: طلبة العلم، واقتصر عليه في [الفتاوى الظهيرية]، وفسره في [البدائع]، بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير (3) اهـ.
وقال السيد رشيد رضا في تفسيره: [المنار]، بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) ما نصه: والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه؛ كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية.. ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة
__________
(1) [تفسير المراغي]، (10\ 745) مطبعة الحلبي.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [روح المعاني]، (10\ 123) المطبعة المنيرية.
(4) سورة التوبة الآية 60(1/126)
للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ (1) .
وقال أيضا: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة... إلى أن قال: ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا: إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ (3) .
وقال سيد قطب رحمه الله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها: إعداد العدة للجهاد، وتجهيز المتطوعين، وتدريبهم، وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام، وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين، وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة، فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام، ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثتهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ (5)
وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله:
لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد، ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل
__________
(1) [تفسير المنار]، (10\ 585).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) تفسير المنار (10\ 587).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [في ظلال القرآن]، (10| 82).(1/127)
الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته وهو الجهاد؛ لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل، وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا: ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. ا هـ (1) .
وقال صديق حسن خان : أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل والجهاد، وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. ا هـ (2) .
وقال الصنعاني في الكلام على حديث: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) الحديث: كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع في سبيل الله.
قال الشارح: ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين ، وأشار إليه البخاري حيث قال: (باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال
__________
(1) [الروض النضير شرح مسند الإمام زيد]، (2\ 622) الطبعة الثانية.
(2) [الروضة الندية]، (1\ 206).
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).(1/128)
لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا . اهـ . المقصود (1) .
وقال المباركفوري : وقيل : اللفظ عام ، فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير ، من تكفين الموتى ، وبناء الجسور والحصون ، وعمارة المساجد ، وغير ذلك ، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية [تفسير البيضاوي ] لشيخ زاده ، وإليه مال الكاساني ، إذ فسره بجميع القرب ، قال في [البدائع] : سبيل الله عبارة عن جميع القرب ، ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا . وقال النووي في [شرح مسلم ] : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء : أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة ، وتأول عليه هذا الحديث- أي : ما روى البخاري في القسامة « أنه صلى الله عليه وسلم وداه- أي : الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة » (2) . اهـ (3) .
وقال الكاساني : وأما قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) عبارة عن جميع القرب ، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا . (5) اهـ .
وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله : أن معنى { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) أنه : المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد ، والتي لا يختص بالانتفاع بها
__________
(1) [سبل السلام] (2 \ 198) مطبعة الاستقامة .
(2) صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4719),سنن أبو داود الديات (4523),مسند أحمد بن حنبل (4/3),سنن الدارمي الديات (2353).
(3) [المرآة على المشكاة] (3 \ 117) .
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [بدائع الصنائع] (2 \ 245) .
(6) سورة التوبة الآية 60(1/129)
أحد ، فملكها لله ، ومنفعتها لخلق الله ، وأولاها وأحقها : التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة ، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية ، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية ، ويشمل تعبيد الطرق ، ومد الخطوط الحديدية ، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان ، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته ، ويفسرون حكمته ، ويبلغون أحكامه ، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم ، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر- ويتواتر- بهم نقله كما أنزل ، من عهد وحيه إلى اليوم ، وإلى يوم الدين إن شاء الله (1) . اهـ .
وأفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد ، فكان جوابه :
(إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر- صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه ، والصرف على المسجد في تلك الحال يكون المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سبيل الله) .
وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة (سبيل الله) المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه ، فتشمل المساجد
__________
(1) [الإسلام عقيدة وشريعة] ص 97 ، 98 الأزهر .(1/130)
والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها ، مما يعود نفعه على الجماعة . وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء .
ثم ذكر ما نقله الرازي في [تفسيره] عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير .
ثم قال : وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به ، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد ، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق (1) . اهـ .
وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة ، فأفتى بالجواز ، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي :
إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك ، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح ، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا ، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في
__________
(1) [الفتاوى] لمحمود شلتوت ، ص219 .
(2) [فتاوى شرعية] حسنين مخلوف (1 \ 296) ط \ مطبعة المدني بمصر .
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).(1/131)
سبيل الله .
جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله ، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه : « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (2) .
وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار الحج سبيلا من سبل الله ، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه [الأموال] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله للحج ، وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج قال : (أما إنه من سبيل الله) ، وما ذكره القرطبي في [تفسيره] من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله . . . وفيه : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن .
كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله . . ففي [صحيح البخاري ] في باب القسامة قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار : « زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة ، أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا ، وقالوا للذي
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سنن أبو داود المناسك (1990).(1/132)
وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا ، فقال : " الكبر الكبر " فقال لهم : " تأتون بالبينة على من قتله " ؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : " فيحلفون " قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه ، فوداه مائة من إبل الصدقة . » (1)
قال ابن حجر : ووقع في رواية ابن أبي ليلى : فوداه من عنده . وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله : من عنده ، أي : بيت المال المرصد للمصالح ، قال ابن حجر : وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة ، واستدل بهذا الحديث وغيره . قلت : وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة (2) ، في الكلام على حديث أبي لاس قال : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج » (3) ، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم ، قال القرطبي في [المفهم] : فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه ، وحسن سياسته ، وجلبا للمصلحة ، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف ، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق . اهـ (4) .
وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال : وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا : يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6502),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(2) أي : من [صحيح البخاري] .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(4) [فتح الباري] (12 \ 235) المطبعة السلفية .(1/133)
فأخذ بظاهره . اهـ (1) .
ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة ، ففي [صحيح البخاري] تحت : باب قول الله تعالى : { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج . وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } (3) الآية في أيها أعطيت أجزأت .
قال ابن حجر : ووصله أبو عبيد في كتاب [الأموال] من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة ، وأخرجه عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : أعتق من زكاة مالك . اهـ (4) .
تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله : « فإن الحج من سبيل الله » يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها ، وبمثل تعبيره صلى الله عليه وسلم عبر ابن عمر ، فقال عن الحج : (أما إنه من سبيل الله) .
وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة منها ما ذكره المباركفوري حيث قال :
وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال ؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ، ولا
__________
(1) [شرح صحيح مسلم] (11 \ 147) .
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) [فتح الباري] (3 \ 331) المطبعة السلفية .(1/134)
من سنة صحيحة أو سقيمة ، ولا من إجماع ، ولا من رأي صحابي ، ولا من قياس صحيح أو فاسد ؛ بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت ، وهو حديث أبي سعيد ، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في [تفسيره] عن بعض الفقهاء المجاهيل والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين .
قال صاحب تفسير [المنار] : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ، ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة ، وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف ، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا ؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية ، وإذا قيل : إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق ؛ عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط الأذى عن الطريق ، مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية ، فيجب أن يعطى منها ، ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا ، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة ؛ لأن هذا الصنف لأحد جماعاته فضلا عن أفراده وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها . انتهى .
وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري(1/135)
الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة- فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته أنه وداه من عنده ، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل ، حكاه النووي عن الجمهور ، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم .
وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية ، وبناء الجسور ، وإصلاح الطرق والشوارع ، وتكفين الموتى ، وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر ؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة ، وهو مذهب أحمد ، كما يظهر من [المغني] (1) ، ومالك كما في [المدونة] (2) ، وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء ، كما في [الأموال] لأبي عبيد . (3) .
هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين ؛ كالقضاء ، والإفتاء ، والتدريس ، وإن كان غنيا وأدخله بعضهم في العاملين ، فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا ولا يخفى ما فيه .
وقال صاحب المنار : إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص ، وأن الحج ليس منها ، قال : وأولها وأولاها بالتقديم : الاستعداد للحرب بشراء السلاح ، وأغذية
__________
(1) [المغني] (2 \ 667) .
(2) المدونة ، (2 \ 59) .
(3) [الأموال] ص 610 .(1/136)
الجند ، وأدوات النقل ، وتجهيز الغزاة ، قال : ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها : بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق ، قال : ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به . انتهى .
قلت : حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم ؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم : الغزاة والمجاهدون خاصة ، فيجب الوقوف عنده . اهـ (1) .
ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه :
ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال -كما هو رأي الجمهور- أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة-كما هو رأي من ذكرنا- وكما يدل عليه عموم اللفظ .
ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا ، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن ، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت ، فخير ما يفسر القرآن
__________
(1) [المرآة على المشكاة] (3 \ 118 ، 119) .(1/137)
بالقرآن .(1/138)
سبيل الله في القرآن :
ذكرت كلمة : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) في القرآن العزيز بضعا وستين مرة (2) ، وقد جاء ذكرها على طريقين :
1 - فتارة تجر بحرف في { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) كما في آية مصارف الزكاة هذه ، وهو أكثر ما ورد في القرآن ، وتارة تجر بحرف (عن) " عن سبيل الله " وذلك في ثلاثة وعشرين موضعا من القرآن .
وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين :
إما الصد : مثل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا } (4) { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (5)
وإما الإضلال : مثل { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (6)
2 - وحينما تجر بـ (في)- وهو أكثر ما ورد في القرآن- يكون ذلك بعد فعل الإنفاق { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) أو الهجرة
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) راجع [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] مادة (سبل) .
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة النساء الآية 167
(5) سورة الأنفال الآية 36
(6) سورة لقمان الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 195(1/138)
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) أو الجهاد { وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) أو القتال أو القتل : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } (3) { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ } (4) أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها .
__________
(1) سورة الحج الآية 58
(2) سورة البقرة الآية 218
(3) سورة التوبة الآية 111
(4) سورة البقرة الآية 154(1/139)
فما المراد بسبيل الله في القرآن :
إن السبيل في اللغة هو : الطريق ، وسبيل الله هو : الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته ، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه ، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (1) النحل ، وأن يعلن في الناس { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (2)
وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت . وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده ، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله ، وقد قال الله تعالى مقارنا بين الطريقين وأصحابهما : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } (3)
وسبيل الله دعاته قليلون ، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النساء الآية 76(1/139)
{ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (1) { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (2) { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (3) هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه ؛ ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (4)
وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن (سبيل الله) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم ، وينفقوا أموالهم في (سبيل الله) وهذا ما فرضه الإسلام ، فجعل جزءا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في (سبيل الله) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 36
(2) سورة لقمان الآية 6
(3) سورة الأنعام الآية 116
(4) سورة ص الآية 26
(5) سورة التوبة الآية 60(1/140)
معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق :
والمتتبع لكلمة (سبيل الله) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين :
1 - معنى عام- حسب مدلول اللفظ الأصلي- : يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات ، وذلك كقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (1) وقوله :
__________
(1) سورة البقرة الآية 261(1/140)
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به بدليل ذكر المن والأذى ، وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة وبخاصة الأذى ، وكذلك قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (2) فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر (3) - لا خصوص القتال ، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها- دون خصوص القتال- داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب . وزعم بعض المعاصرين : أن كلمة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزما ولا تحتمل غيره مطلقا (5) ، وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز ، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه .
2 - والمعنى الثاني معنى خاص ، وهو : نصرة دين الله ، ومحاربة أعدائه ، وإعلاء كلمته في الأرض ، { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (6) والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق ، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل : { قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 262
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) [فتح الباري] (3 \ 172) .
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [النظام الاقتصادي في الإسلام] د . تقي الدين النبهاني ، من منشورات حزب التحرير ص 208 ، ط \ الثالثة .
(6) سورة البقرة الآية 193
(7) سورة آل عمران الآية 167(1/141)
{ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (2) فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه .
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (3) فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة .
وفي سورة الأنفال قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } (4)
فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله ، كما صرح بذلك الحديث الصحيح : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » (5) (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سورة الحديد الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) صحيح البخاري العلم (123),صحيح مسلم الإمارة (1904),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646),سنن النسائي الجهاد (3136),سنن أبو داود الجهاد (2517),سنن ابن ماجه الجهاد (2783),مسند أحمد بن حنبل (4/417).
(6) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري [صحيح البخاري] (1 \ 40) و[صحيح مسلم] برقم (1904) .(1/142)
وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانا بالجهاد والغزو ، وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى ، وإلا لكان مضمون معنى { وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) جاهدوا في الجهاد .
__________
(1) سورة البقرة الآية 218(1/143)
" سبيل الله" في آية مصارف الزكاة :
وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان : العام والخاص- كما ذكرنا- فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة ، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه ؟
إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا ؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة ، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها ، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء » (1) ، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى ؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله ، فما الفرق إذا بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟
إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة ، فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف ، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور ، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد ، وقالوا : إنه المراد به عند إطلاق اللفظ ؛ ولهذا قال ابن الأثير : إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه ، كما نقلنا عنه في أول الفصل ، ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير ؛ ما رواه الطبراني : إن الصحابة كانوا يوما مع رسول الله
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1630).(1/143)
صلى الله عليه وسلم فرأوا شابا جلدا ، فقالوا : لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ؟ " (1) . يريدون . في الجهاد ونصرة الإسلام .
وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله) هو الجهاد ، كقول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح : (حملت على فرس في سبيل الله) يعني : في الجهاد ، وحديث الشيخين : « لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » (2) ، وحديث البخاري : « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة » (3) يعني : حسنات ، وحديث الشيخين ؛ « ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا » (4) وحديث النسائي والترمذي وحسنه : « من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف » (5) وحديث البخاري : « ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار » (6) (7) وغيرها كثير . ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد .
فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من (سبيل الله) في الآية المصارف : هو الجهاد ، كما قال الجمهور ، وليس المعنى اللغوي الأصلي ، وقد أيد ذلك حديث : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . . » (8) وذكر منهم الغارم والغازي في (سبيل الله) اهـ (9) .
__________
(1) قال المنذري في [الترغيب] : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، (3 \ 4) ط المنيرية .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2639),صحيح مسلم الإمارة (1880),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651),سنن ابن ماجه الجهاد (2824),مسند أحمد بن حنبل (3/264).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2698),سنن النسائي الخيل (3582),مسند أحمد بن حنبل (2/374).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2685),صحيح مسلم الصيام (1153),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1623),سنن النسائي الصيام (2248),سنن ابن ماجه الصيام (1717),مسند أحمد بن حنبل (3/26),سنن الدارمي الجهاد (2399).
(5) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1625),سنن النسائي الجهاد (3186).
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2656),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1632),سنن النسائي الجهاد (3116),مسند أحمد بن حنبل (3/479).
(7) خرج هذه الأحاديث كلها المنذري في [الترغيب] ج (2) كتاب الجهاد .
(8) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(9) [فقه الزكاة] للقرضاوي (2 \ 652-657) ط \ الأولى .(1/144)
هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/145)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (24) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وآله وصحبه وبعد :
قد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 \ 8 \ 1394 هـ ويوم 22 \ 8 \ 1394 هـ على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم ، أم عام في كل وجه من وجوه الخير ؟
وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد- ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية : بأنهم الغزاة وما يلزم لهم ، وأدلة من توسع في المراد بالآية ، ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر- رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) الغزاة المتطوعون بغزوهم ، وما يلزم لهم من استعداد ، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ، ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60(1/146)
الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الخامسة
عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد الحركان ... مخالف وله وجهة نظر ...
. ... عبد المجيد حسن مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح مخالف وله وجهة نظر
صالح بن غصون مخالف وله وجهة نظر ... . ... .
. ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
. ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع مخالف وله وجهة نظر(1/147)
(4)
الشرط الجزائي
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(1/149)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرط الجزائي
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد : (1)
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و22 \ 8 \ 1394 هـ بمدينة الطائف موضوع الشرط الجزائي هذا نصه .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع (الشرط الجزائي) في جدول أعمال الدورة (الخامسة) لهيئة كبار العلماء- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في موضوع الشرط الجزائي يشتمل على بيان المراد منه ونشأته ونماذج من صوره ، وما ذكره بعض أهل العلم من ضوابط للشروط والعقود الصحيحة والفاسدة ، وبيان ما يمكن اندراجه تحتها من ذلك ، وذكر مسائل وصور يمكن أن يكون الشرط الجزائي نظيرا لها .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني ، ص 59- 144 ، عام 1395 هـ .(1/151)
الشرط الجزائي
1 - المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه :
الشرط الجزائي لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين ، وإنما جاء ذكره في صور مسائل فقهية .
ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج ، فقال شريح : من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه ، وقال أيوب عن ابن سيرين : أن رجلا باع طعاما وقال : إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجئ ، فقال شريح للمشتري : أنت أخلفت فقضى عليه . اهـ .
أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم ، وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به .
فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء (1) :
في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية والصنائع وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة ؛ كامتياز المؤلف والمخترع وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته ، أو مخترعاته ، أو آثاره الفنية مما سمي
__________
(1) [المدخل الفقهي العام] ص 713- 714 ، ف 386 .(1/152)
بالملكية الأدبية والصناعية ، واحتاج أصحاب هذه الحقوق الامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها .
إلى أن قال : واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأولية إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها .
وقد ازدادت أيضا قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية ، فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل ، فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتعطل العمل وعماله .
ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحة ، وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته ، وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده .
ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي ؛ لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة ، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا ، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه ، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي(1/153)
"الشرط الجزائي " اهـ .
وذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال (1) : يحدث كثيرا أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل بل يعمدان إلى الاتفاق مقدما على تقدير هذا التعويض ، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه ، وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ ، أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه ، وهذا هو التعويض عن التأخير ، هذا الاتفاق مقدما على التعويض يسمى بالشرط الجزائي ، وسمي بالشرط الجزائي ؛ لأنه يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه . اهـ .
وفي [الموسوعة العربية الميسرة] ، ما نصه : (شرط جزائي) : اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه . اهـ .
__________
(1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 851 ف 477 .(1/154)
2 - ما للشرط الجزائي من صور مختلفة :
الشرط الجزائي وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد إلا أنه له صورا مختلفة باختلاف العقود والالتزامات ، وقد أشار الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال (1) :
__________
(1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 852 ف 477 .(1/154)
والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة : فشروط المقاولة قد تتضمن شرطا جزائيا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه ، ولائحة المصنع قد تتضمن شروطا جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة .
وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة . واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزائي ، ولكن من نوع مختلف ، إذ هو هنا ليس مقدارا معينا من النقود قدر به التعويض ، بل هو تعجيل أقساط مؤجلة . اهـ .
وقال في [الحاشية] في الصفحة نفسها ما نصه : ( هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديرا مقدما للتعويض كما أسلفنا ، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى : من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيرا على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي ، وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيرا عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية . . وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولا عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد ، وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط(1/155)
في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع ، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير . اهـ .
وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه :
( إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملا في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي :
1 % عن الأسبوع الأول 1.5% عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث 2.5% عما زاد عن ثلاثة أسابيع 3% عن الآية مدة تزيد على أربعة أسابيع . ا هـ (1) .
__________
(1) انظر : ص 107 [نظام المناقصات] .(1/156)
3 - ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج :
نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين : شروط صحيحة وشروط فاسدة ، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما ؛ ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط ، وما يلتحق به من المسائل(1/156)
التي يشبهها وأدرجوها تحتها ، أو جعلوها أمثلة شارحة لها .
روى البخاري في [صحيحه] تحت باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله عن عروة : « أن عائشة رضي الله عنها أخبرته : أن بريرة جاءت تستفتيها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا . فقالت لها عائشة : (ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت) فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا ، وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابتاعي فأعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق " قال : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق » (1) ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « أرادت عائشة رضي الله عنها أن تشتري جارية لتعتقها ، فقال أهلها : على أن ولاءها لنا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (2) .
قال ابن حجر في [الفتح] : قوله : (باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله) ، جمع في هذه الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني ، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله ، وسيأتي في كتاب [الشروط] (3) : أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله ، وقال ابن بطال : المراد بكتاب الله هنا : حكمه ؛ من كتابه ، أو سنة رسوله ،
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2422),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) صحيح البخاري العتق (2423),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/30).
(3) أي : من [صحيح البخاري] .(1/157)
أو إجماع الأمة ، وقال ابن خزيمة : (ليس في كتاب الله) أي : ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل ؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل .
قال النووي : قال العلماء : الشروط في البيع أقسام :
أحدها : يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه .
الثاني : شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا .
والثالث : اشتراط العتق في العبد ، وهو جائز عند الجمهور ؛ لحديث عائشة وقصة بريرة .
الرابع : ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل .
وقال القرطبي : قوله : (ليس في كتاب الله) ، أي : ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا ، ومعنى هذا : أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء ، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة ، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع ، وكذلك القياس الصحيح ، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا . . . إلى أن قال : وقال القرطبي : قوله : (ولو كان مائة شرط) ، يعني : أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو(1/158)
كثرت . اهـ (1) .
وقال البخاري في [صحيحه] (باب الشروط التي لا تحل في الحدود) .
عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما : أنهما قالا : « إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قل" ، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال : فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت » (2) .
قال ابن حجر في [الفتح] : وقد ترجم له في الصلح (3) : إذا اصطلحوا على جور فهو مردود .
ويستفاد من الحديث : أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل ، وكل صلح وقع فيه فهو مردود . اهـ (4) .
وروى البخاري في [صحيحه] عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (5) .
__________
(1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 142) .
(2) صحيح البخاري الشروط (2575),صحيح مسلم الحدود (1698),سنن الترمذي الحدود (1433),سنن النسائي آداب القضاة (5411),سنن أبو داود الحدود (4445),سنن ابن ماجه الحدود (2549),مسند أحمد بن حنبل (4/115),موطأ مالك الحدود (1556),سنن الدارمي الحدود (2317).
(3) أي : من [صحيح البخاري] .
(4) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 347) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/270).(1/159)
قال ابن حجر : وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه ، قال النووي : هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك ، وقال الطرقي : هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع ؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين ، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه
وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه ؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم ، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس : هذا ليس من أمر الشرع ، وكل ما كان كذلك فهو مردود ، فهذا العمل مردود ، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث
وإنما يقع النزاع في الأولى ، ومفهومه : أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح ، مثل : أن يقال في الوضوء بالنية : هذا عليه أمر الشرع ، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح ؛ فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع ، لكن هذا الثاني لا يوجد ، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع ، والله أعلم .
وقوله : "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل : خلق ومخلوق ، ونسخ ومنسوخ ، وكأنه قال : فهو باطل غير معتد به .
واللفظ الثاني وهو قوله : من "عمل" أعم من اللفظ الأول وهو قوله : "من أحدث" ، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها ، وفيه رد المحدثات ، وأن النهي يقتضي الفساد ؛ لأن(1/160)
المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها
ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر ؛ لقوله : "ليس عليه أمرنا" ، والمراد به : أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد . اهـ (1) .
__________
(1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 331) .(1/161)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها ، فقال (1) :
القاعدة الثالثة : في العقود والشروط فيها ، فيما يحل منها ويحرم ، وما يصح منها ويفسد . ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا . والذي يمكن ضبطه فيها قولان :
أحدهما : أن يقال : الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك : الحظر ، إلا ما ورد الشرع بإجازته ، فهذا قول أهل الظاهر ، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد ، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس ، كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه ، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ، ويقولون : ما خالف مقتضى العقد فهو باطل
أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع ، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله ، وطردوا ذلك
__________
(1) [القواعد النورانية] ص 184- 220 .(1/161)
طردا جاريا ، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم .
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي : أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق ، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته
وإنما جوز الإجارة المؤخرة ؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة ، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به ، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ، ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا ؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ، ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا ، وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر ، وهو عنده موضع استحسان .
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل ، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص ، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع ، حتى منع الإجارة المؤخرة ؛ لأن موجبها- وهو القبض- لا يلي العقد
ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق ، لما فيه من السنة والمعنى ، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع ، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه ، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك
ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ، ولا يجوز(1/162)
اشتراطها دارها أو بلدها ، وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها ، وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه ، وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار ، وانفساخه بالشروط التي تنافيه ؛ كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار ، بخلاف فساد المهر ونحوه .
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول ، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي ، كالخيار أكثر من ثلاث ، وكاستثناء البائع منفعة المبيع ، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها ، ونحو ذلك من المصالح ، فيقولون : كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل ، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين .
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي ، فقد يوافقونه في الأصل ، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى ، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثنى للمعارض .
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم ؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر
وعمدة هؤلاء : قصة بريرة المشهورة ، وهو ما خرجاه في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها قالت : « جاءتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ، فقلت : (إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي(1/163)
فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ، فأبوا عليها ، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إني قد عرضت ذلك عليهم ، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء ، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "خذيها ، واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "أما بعد : ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق » (1)
وفي رواية للبخاري : « اشتريها فأعتقيها ، وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها ، واشترط أهلها ولاءها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق ، وإن اشترطوا مائة شرط » (2) وفي لفظ : « شرط الله أحق وأوثق » (3)
وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر : « أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها ، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لا يمنعنك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (4)
وفي [صحيح مسلم ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا يمنعنك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (5) .
ولهم من هذا الحديث حجتان :
إحداهما : قوله : ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع : فليس في كتاب الله ، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) صحيح البخاري الشروط (2576).
(3) صحيح البخاري البيوع (2047),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4) صحيح البخاري البيوع (2061),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/100),موطأ مالك العتق والولاء (1520).
(5) صحيح مسلم العتق (1505).(1/164)
دلالته على اتباع السنة والإجماع .
ومن قال بالقياس- وهم الجمهور- قالوا : إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة ، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله : فهو في كتاب الله .
الحجة الثانية : أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء ؛ لأن العلة فيه ؛ كونه مخالفا لمقتضى العقد ، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع ، بمنزلة تغيير العبادات ، وهذا نكتة القاعدة ، وهي أن العقود مشروعة على وجه ، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع
ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين- لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها ، فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر ، ومتابعة لعبد الله بن عمر ، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول : (أليس حسبكم سنة نبيكم ؟ ) وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) وقوله : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2)
قالوا : فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله ، وزيادة في الدين ، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا : ذلك منسوخ ، كما قاله بعضهم في شروط
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 229(1/165)
النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية ، أو قالوا : هذا عام أو مطلق ، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله .
واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » وقد ذكره جماعة من المسلمين في الفقه ، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث ، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء ، وذكروا أنه لا يعرف ، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه .
وأجمع الفقهاء المعروفون- من غير خلاف أعلمه من غيرهم- أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا ، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك : شرط صحيح .
القول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط : الجواز وا
لصحة ، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله ، نصا أو قياسا عند من يقول به ، وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس ، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص ، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة ، فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه ، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته
وكذلك قد يضعف(1/166)
ما اعتمدوه من قياس ، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط (1) ، كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا ، فمالك يجوزه بقدر الحاجة ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا
ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان نحوه ، ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود ، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق ، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع ، كما سأذكره إن شاء الله .
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع ؛ كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك ، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير ، اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله ، واستثنى ظهره إلى المدينة .
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما ؛ اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة ، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش .
ويجوز على عامة أقواله : أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها ، كما في حديث صفية ، وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة ، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع ، لكنه استثناها بالنكاح ؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز ، بخلاف منفعة الخدمة .
__________
(1) أي : في [القواعد النورانية] .(1/167)
واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال :
وجماع ذلك : أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة ، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع ، يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه ، وجوز أيضا استثناء بعض التصرفات .
وعلى هذا فمن قال : هذا الشرط ينافي مقتضى العقد ، قيل له : أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا ؟ فإن أراد الأول : فكل شرط كذلك ، وإن أراد الثاني : لم يسلم له ، وإنما المحذور : أن ينافي مقصود العقد ، كاشتراط الطلاق في النكاح ، أو اشتراط الفسخ في العقد ، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده ، هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي .
أما الكتاب : فقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1) والعقود هي العهود ، وقال تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } (2) وقال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } (3) وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الإسراء الآية 34
(4) سورة الأحزاب الآية 15(1/168)
فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام ، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد ، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه ، بدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } (1) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه ، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع ، إنما أمر بالوفاء به .
ولهذا قرنه بالصدق في قوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } (2) ؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر ، والوفاء بالعهد يكون في القول المعلق بالمستقبل ، كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } (3) { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } (4) { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } (5) .
واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها .
إلى أن قال : والأحاديث في هذا كثيرة ، مثل ما في [الصحيحين] عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 15
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة التوبة الآية 75
(4) سورة التوبة الآية 76
(5) سورة التوبة الآية 77(1/169)
فجر » (1) .
وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة » (2) .
وفي [صحيح مسلم ] عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة » (3) وفي رواية : « لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة » (4) .
وفي [صحيح مسلم ] عن بريدة بن الحصيب قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : "اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . . » (5) الحديث ، فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .
وفي [الصحيحين] عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم : (هل يغدر ؟ فقال : لا يغدر ، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك : هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر) فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .
وفي [الصحيحين] عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » (6) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء ، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (34),صحيح مسلم الإيمان (58),سنن الترمذي الإيمان (2632),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020),سنن أبو داود السنة (4688),مسند أحمد بن حنبل (2/189).
(2) صحيح البخاري الفتن (6694),صحيح مسلم الجهاد والسير (1735),سنن الترمذي السير (1581),سنن أبو داود الجهاد (2756),مسند أحمد بن حنبل (2/70).
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738),سنن الترمذي الفتن (2191),سنن ابن ماجه الجهاد (2873),مسند أحمد بن حنبل (3/61).
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738),سنن الترمذي الفتن (2191),سنن ابن ماجه الجهاد (2873),مسند أحمد بن حنبل (3/61).
(5) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2612),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439).
(6) صحيح البخاري الشروط (2572),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).(1/170)
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره » (1) فذم الغادر ، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر .
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود ، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك ، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع- لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا ، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه ، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح ، بخلاف ما كان جنسه واجبا ؛ كالصلاة والزكاة ، فإنه يؤمر به مطلقا ، وإن كان لذلك شروط وموانع ، فينهى عن الصلاة بغير طهارة ، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك
وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ، ويجب السكوت أو التعريض .
وإذا كان جنس الوفاء ، ورعاية العهد مأمورا به : علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره ، وحصل به مقصوده ، ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال ، حدثنا
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2150),سنن ابن ماجه الأحكام (2442),مسند أحمد بن حنبل (2/358).(1/171)
كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، والمسلمون على شروطهم » (1) وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية : هو ثقة وضعفه في رواية أخرى .
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا ، أو أحل حراما » (2) قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وروى ابن ماجه منه الفصل الأول ، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة ، وضرب أحمد على حديثه في [المسند] فلم يحدث به ، فعلل الترمذي له بروايته من وجوه .
وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس على شروطهم ما وافق الحق » وهذه الأسانيد- وإن كان الواحد منها ضعيفا- فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة ، وهو حقيقة المذهب ، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله ، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله
وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله ، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه
فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما ، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع ، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا ، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352),سنن ابن ماجه الأحكام (2353).(1/172)
الإقباض ما لم يكن واجبا ، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما
وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين ، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا ، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها : فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك .
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط ، قال ؛ لأنها إما أن تبيح حراما ، أو تحرم حلالا ، أو توجب ساقطا ، أو تسقط واجبا ، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع
وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض ، وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط : فالشرط لا يبيحه ؛ كالربا ، وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء .
فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته) وجعل الله الولاء كالنسب ، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا » (1) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره ، وانتساب المعتق إلى غير مولاه ، فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما
وأما ما كان مباحا بدون الشرط : فالشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والرهن ، وتأخير الاستيفاء ، فإن الرجل له أن يعطي المرأة ،
__________
(1) سنن الترمذي الوصايا (2121),سنن ابن ماجه الوصايا (2712),مسند أحمد بن حنبل (4/238),سنن الدارمي السير (2529).(1/173)
وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ، ونحو ذلك ، فإذا شرطه صار واجبا ، وإذا وجب فقد حرمت (1) المطالبة التي كانت حلالا بدونه ؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط ، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا ، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره .
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا : فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله ، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله ، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم ، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب ، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب ، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك ، كما قال عمر رضي الله عنه : (مقطع الحقوق عند الشروط) .
وأما الاعتبار فمن وجوه : أحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية ، والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم ، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم ، وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } (2) عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة ، وكانت صحيحة .
__________
(1) قال المعلق على [القواعد الفقهية] : كذا في الأصلين ولعله (وجبت) .
(2) سورة الأنعام الآية 119(1/174)
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط ، إلا ما ثبت حله بعينه ، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة ، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا ، كالأعيان التي لم تحرم .
وغالب ما يستدل به على الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله ، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها ، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم
فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع : منه ما سببه تحريم الأعيان ، ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري ، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف ، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجبية ، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة ، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع ، فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة ، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص ، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها ، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا(1/175)
ما حرمه الله ؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما لم يحرمه الله
فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله ، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله ، فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به ، فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله
والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر ، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة .
فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا ؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال : فقد غير ما كان مشروعا ، بخلاف الأعيان التي لم تحرم ، فإنه لا يعتبر في إباحتها .
فيقال : لا فرق بينهما ، وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون ، فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها ، وهو من باب العقود ، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها ، بمنزلة العقود .
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة ، فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال ، فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل ، وإن غير حكم العين ، فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك .
وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك(1/176)
البضع الثابت بالنكاح ، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام ، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ، لم يثبته ابتداء ، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة ، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ، ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه
فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره ؛ لإثباته سبب ذلك ، وهو الملك الثابت بالبيع
وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه ، كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه ، وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع ، وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها ، وهو أن الأحكام الجزئية- من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو- لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا ، وإنما شرعها شرعا كليا .
مثل قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) وقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (2) وقوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } (3)
وهذا الحكم الكلي ثابت ، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد ، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا ، فهذا المعين سببه فعل العبد ، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط ؛ لأن الشارع أثبته ابتداء .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 24
(3) سورة النساء الآية 3(1/177)
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام ، وليس كذلك ، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع ، وأما هذا المعين فإنما ثبت ؛ لأن العبد أدخله في المطلق ، فإدخاله في المطلق إليه ، فكذلك إخراجه ، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا ، مثل أن يقول : هذا الثوب بعه أو لا تبعه ، أو هبه أو لا تهبه
وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين ، فتدبر هذا ، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق ، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد
وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع ، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل ، بل والعقلاء جميعهم
وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع ، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن ، ولإيجاب العقل أيضا .
وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ؛ لأن الله قال في كتابه العزيز : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وقال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2)
فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4(1/178)
بشرطه فدل على أنه سبب له ، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم ، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن .
وكذلك قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة ، وإذا كان كذلك ، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة ، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله ، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك .
وأيضا فإن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد . ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود
فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به ينافي العقد المطلق : فكذلك كل شرط زائد ، وهذا لا يضره ، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك .
وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد ، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين : بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء ، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا .
__________
(1) سورة النساء الآية 29(1/179)
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع ، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا ،(1/179)
فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه ، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (1) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله.
فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله : فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ؟ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه ، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج .
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو ، إما أن يقال : لا يحل ولا يصح (2) ، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص ، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور ، كما ذكرناه من القول الأول ، أو يقال : لا تحل وتصح (3) حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال : تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .
والقول الأول : باطل ؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر ، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم ، فقال سبحانه في آية الربا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (4) فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا ، بل
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).
(2) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(3) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(4) سورة البقرة الآية 278(1/180)
مفهوم الآية- الذي اتفق العمل عليه- يوجب أنه غير منهي عنه .
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ، ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم : « أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم ، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام » (1) وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ، ولم يستفصل : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته ، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن ، وكما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى ، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم .
ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين ، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع ، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .
فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله : مضت ، ولم يؤمروا باستئنافها ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله ، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع ، وكلاهما عندكم سواء .
قلنا : ليس كذلك ، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا
__________
(1) سنن أبو داود الفرائض (2914),سنن ابن ماجه الأحكام (2485).(1/181)
اتصل به التقابض ، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض ، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه ، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها ، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح ، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك ، بخلاف الأموال ، فإن المقصود بعقودها هو التقابض ، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها ، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود .
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم ؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل .
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها ، فإن الفقهاء جميعهم- فيما أعلمه- يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها ، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ، ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله ، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود : لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد ، فإنه آثم ، وإن كان قد صادف الحق .
وأما إن قيل : لا بد من دليل شرعي يدل على حلها ، سواء كان عاما أو خاصا ، فعنه جوابان :(1/182)
أحدهما : المنع كما تقدم .
والثاني : أن نقول : قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة ، إلا ما استثناه الشارع ، وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله (1) ، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (2) فالشرط يراد به المصدر تارة ، والمفعول أخرى ، وكذلك الوعد والخلف ، ومنه قولهم : درهم ضرب الأمير ، والمراد به هنا- والله أعلم- : المشروط لا نفس التكلم .
ولهذا قال : إن كان مائة شرط أي : وإن كان قد شرط مائة شرط ، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط ، وإنما المراد : تعديد الشرط ، والدليل على ذلك قوله : كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه ، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى .
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله ، فلم يخالف كتاب الله وشرطه ، حتى يقال : (كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق) فيكون المعنى : من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة : فهو باطل ؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط ، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط .
ولما لم يكن في كتاب الله : أن الولاء لغير
__________
(1) أي : في [القواعد النورانية] .
(2) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).(1/183)
المعتق أبدا كان هذا المشروط- وهو ثبوت الولاء لغير المعتق- شرطا ليس في كتاب الله ، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما ، فإن كان الله قد أباحه ؛ جاز اشتراطه ووجب ، وإن كان الله لم يبحه : لم يجز اشتراطه ، فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله ؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها ، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله .
فمضمون الحديث : أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال : ليس في كتاب الله ، أي : ليس في كتاب الله نفيه (1) ، كما قال : « سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم » (2) أي : بما تعرفون خلافه ، وإلا فما لا يعرف كثير .
ثم نقول : إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة ، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم : فإن هذا خلاف الكتاب والسنة ، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام ، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه ، وسماه منكرا من القول وزورا ، ثم إنه أوجب به على من عاد : الكفارة ، ومن لم يعد : جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد ، وكذا النذر : فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال : « إنه لا يأتي بخير » (3) ثم أوجب الوفاء به ، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » (4) .
__________
(1) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(2) صحيح مسلم مقدمة (7),مسند أحمد بن حنبل (2/321).
(3) صحيح مسلم النذر (1639),سنن النسائي الأيمان والنذور (3801),مسند أحمد بن حنبل (2/86).
(4) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6318),سنن الترمذي النذور والأيمان (1526),سنن النسائي الأيمان والنذور (3807),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289),سنن ابن ماجه الكفارات (2126),مسند أحمد بن حنبل (6/36),موطأ مالك النذور والأيمان (1031),سنن الدارمي النذور والأيمان (2338).(1/184)
فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم ، نعم لا يكون سببا لإباحة ، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة ؛ لأن المنهي عنه معصية ، والأصل في المعاصي : أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته ، والإباحة من نعمة الله ورحمته ، وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا ، لكن ذلك قدر ليس بشرع ، بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب ، والتحريم قد يكون عقوبة ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } (1) وإن كان قد يكون رحمة أيضا ، كما جاءت شريعتنا الحنيفية .
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص : فهو عقد حرام ، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه ، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم .
وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها- وإن كان لم يحرمها- باطلة ، فنقول :
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما ، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها ، وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة ، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة ، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة ، وذلك لأن
__________
(1) سورة النساء الآية 160(1/185)
قوله : ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه ، إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله ؛ لأن قولنا : (هذا في كتاب الله) يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم ، وعلى هذا معنى قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1) وقوله تعالى : { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } (2) وقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3) على قول من جعل الكتاب هو القرآن ، وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ : فلا يجيء هاهنا .
يدل على ذلك : أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع : صحيح بالاتفاق ، فيجب أن يكون في كتاب الله ، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين ، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار ؛ لأن جامع الجامع جامع ، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار .
يبقى أن يقال على هذا الجواب : فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم ، فيقال : العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص ، فإن الخاص يفسر العام ، وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله : « من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (4) .
ودل الكتاب
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة يونس الآية 37
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سنن الترمذي الوصايا (2121),سنن ابن ماجه الوصايا (2712),مسند أحمد بن حنبل (4/238),سنن الدارمي السير (2529).(1/186)
على ذلك بقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (1) { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } (2) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده ، دون من تبناه ، وحرم التبني ، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه ، كما « قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا » (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس » (4) .
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب ، وبين سبب الولاء في قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } (5) فبين أن سبب الولاء : هو الإنعام بالإعتاق ، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد ، فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق ؛ لأنه في معناه ، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره .
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « إنما الولاء لمن أعتق » (6) .
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه : لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه ، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 4
(2) سورة الأحزاب الآية 5
(3) صحيح البخاري الصلح (2553).
(4) صحيح البخاري العتق (2407),صحيح مسلم الأيمان (1661),سنن الترمذي البر والصلة (1945),سنن أبو داود الأدب (5157),سنن ابن ماجه الأدب (3690),مسند أحمد بن حنبل (5/161).
(5) سورة الأحزاب الآية 37
(6) صحيح البخاري البيوع (2048),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/100).(1/187)
الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله ، والتقدير : من اشترط شيئا لم يبحه الله ، فيكون المشروط قد حرمه ؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه ، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله ، بدليل قوله : « كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق » (1) .
فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان : الأدلة الشرعية العامة ، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم ، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة : هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا ؟
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي : فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ؛ أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك ، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب ، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك .
وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة ؛ فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به ، إلا بعد البحث عن تلك المسألة : هل هي من المستخرج أو من المستبقى ؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه ، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه ، أو علم تخصيص صور معينة فيه : هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له ؟
فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما ، وذكروا عن
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).(1/188)
أحمد فيه روايتين ، وأكثر نصوصه : على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره ، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه ، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه ، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض ، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة- كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم- أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر ، لكن القرينة مانعة لدلالته ، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم ، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي ، أو إطلاق لفظي ، أو اصطلاح جدلي ، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي .
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها : مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط ، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع ، فهي بأصول الفقه- التي هي الأدلة العامة- أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة .
نعم ، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة ، فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة .(1/189)
فمن ذلك : ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق : أن يستثني بعض منافعها ، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة- كالبيع- فلا بد أن يكون المستثنى معلوما ؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي « عن جابر قال : (بعته- يعني بعيره- من النبي صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي) » (1) وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان ، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف .
ومن ذلك : أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد : صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة ، وإن كان عنهما قول بخلافه .
ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري ، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع ، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق ، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع ؛ على وجهين في مذهبهما ، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس ؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق ، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا .
قالوا : وإنما جوزته السنة ؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره ، ولذلك أوجب فيه السراية ، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره ، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3505).(1/190)
يلحق به غيره ، فلا يجوز اشتراط غيره .
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح ، وإن كان فيه منع من غيره ، قال ابن القاسم : قيل لأحمد : الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها ؟ فأجازه ، فقيل له : فإن هؤلاء- يعني : أصحاب أبي حنيفة - يقولون : لا يجوز البيع على هذا الشرط ، قال : لم لا يجوز ؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة ، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها ، فلم لا يجوز هذا ؟ قال : وإنما هذا شرط واحد ، والنهي إنما هو عن شرطين ، قيل له : فإن شرط شرطين أيجوز ؟ قال : لا يجوز .
فقد نازع من منع منه ، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير لجابر ، وبحديث بريرة ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع ، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق ، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق .
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك ، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره .
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان : سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي ؟ قال : هذا مدبر . فجوز اشتراط(1/191)
التدبير كالعتق ، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف ، صحح الرافعي أنه لا يصح .
وكذلك جوز اشتراط التسري ، فقال أبو طالب : سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها ، تكون نفيسة ، يحب أهلها أن يتسرى بها ، ولا تكون للخدمة ؟ قال : لا بأس به ، فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه .
وكذلك جوز أن يشترط باع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع ، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول ، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب .
وجماع ذلك : أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع » (1) فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق ، وهو جائز بالإجماع . ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق ، وهو جائز بالإجماع ، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (الثنيا إلا أن تعلم) فدل على جوازها إذا علمت ، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة .
وقد أجمع المسلمون- فيما أعلمه- على جواز استثناء الجزء الشائع ، مثل : أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها ، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر ، مثل : أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها ، أو الثياب أو العبيد أو الماشية- التي قد رأياها- إلا شيئا منها قد عيناه .
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2567),صحيح مسلم البيوع (1543),سنن الترمذي البيوع (1244),سنن النسائي البيوع (4636),سنن أبو داود البيوع (3433),سنن ابن ماجه التجارات (2211),مسند أحمد بن حنبل (2/82),موطأ مالك البيوع (1302).(1/192)
واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع، كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما- وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (1) قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة .
فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك- والله أعلم- لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها- ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك- لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.
ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك
__________
(1) سورة النساء الآية 24(1/193)
الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع.
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره- كالنخل المؤبر- فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة- كالدار والعبد- عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، وكاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة، فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجيرا لخياطة أو بناء ونحو ذلك: فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو آلى منها ثبت لها(1/194)
فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (1) والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (2) ، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك، وقد تقدم
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) صحيح البخاري النفقات (5049),صحيح مسلم الأقضية (1714),سنن النسائي آداب القضاة (5420),سنن أبو داود البيوع (3533),سنن ابن ماجه التجارات (2293),مسند أحمد بن حنبل (6/206),سنن الدارمي النكاح (2259).(1/195)
التنبيه على هذا الأصل.
وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة؛ كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الروايتين عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك، والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين، وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.
وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل: أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة : أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح،(1/196)
وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.
كذلك يجوز أكثر السلف- أو كثير منهم- وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين- أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز مالم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت- فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك، فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود، ومثله: التبرع المفروض والتطوع.
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع- فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد، « فإن ميمونة زوج النبي
__________
(1) كذا في المطبوع(1/197)
صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك » (1) ؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كان الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في هذا خلافا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم، فإن فيه عن أحمد روايتين:
إحداهما: تجب، كقول طائفة من السلف والخلف.
والثانية: لا تجب، كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطي ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؛ على روايتين عن أحمد، وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.
وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أوكفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق.
وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار، ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2452),صحيح مسلم الزكاة (999),سنن أبو داود الزكاة (1690),مسند أحمد بن حنبل (6/332).(1/198)
وبالتكميل أخرى.
وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في القربة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون، ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور.
والعبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال: لم يزل ملكه عنه- كما قد يقوله أكثر أصحابنا- فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال: زال ملكه عنه فإنه(1/199)
يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد : نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.
وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.(1/200)
فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته، وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا (1) اهـ.
__________
(1) إلى هنا انتهى ما نقل من [القواعد النورانية] لابن تيمية (الناشر).(1/201)
وقال ابن حزم : مسألة: وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين- يعني: قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (1) ، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ، والشرط باطل، أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه، سواء كان مالهما
__________
(1) في النسخة رقم 16 ( فلم يلزم ) .
(2) في النسخة رقم 16 في حال العقد.(1/201)
مجهولا كله، أو معلوما كله، أو معلوما بعضه مجهولا بعضه، أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها، فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت أو كثرت، أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها.
برهان ذلك: ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج، نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، نا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - نا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه [بما هو أهله] (1) ثم قال: « أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (2) ، وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود، حدثنا القعنبي وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو: ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: « ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق » (3) (4)
__________
(1) الزيادة من [صحيح مسلم] (1 \ 440 ).
(2) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن الترمذي الوصايا (2124),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3) صحيح البخاري العتق (2422),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4) الحديث في [سنن أبي داود] مطولا اختصره المؤلف.(1/202)
فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله، فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (1) إلا بصحة الشرط، والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة ما لا يصح.
قال أبو محمد : وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرناها فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه (2) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (3) وقال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } (4) { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (5) وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (6) فأما (7) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (8) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى: { إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (9) وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (10) ، وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة أومن أن لا خديعة ومن صناعة العبد أو الأمة أو سائر صفات المبيع- فلقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (11) فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على
__________
(1) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح).
(2) سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14.
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4
(6) سورة النساء الآية 80
(7) في النسخة رقم 14 (وأما).
(8) سورة البقرة الآية 283
(9) سورة البقرة الآية 282
(10) ذكر في (8 \ 376 ) من [المحلى] (الطبعة المنيرية).
(11) سورة النساء الآية 29(1/203)
صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة، وأما اشتراط الثمن إلى الميسرة، فلقول الله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (1) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي قدمت عليه ثياب ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة » وذكر باقي الخبر، وأما مال العبد أو الأمة واشتراطه واشتراط ثمر النخل المؤبر- فلما روينا من طريق عبد الرزاق، نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع » (2) .
قال أبو محمد : ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا.
قال علي : فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (3) وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } (4) وبما روي: « المسلمون عند شروطهم » قلنا وبالله تعالى التوفيق (5) : أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) صحيح البخاري المساقاة (2250),صحيح مسلم البيوع (1543),سنن الترمذي البيوع (1244),سنن النسائي البيوع (4636),سنن أبو داود البيوع (3433),سنن ابن ماجه التجارات (2211),مسند أحمد بن حنبل (2/9).
(3) سورة المائدة الآية 1
(4) سورة النحل الآية 91
(5) الزيادة من النسخة الحلبية.(1/204)
فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } (1) فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى؛ بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والباطل لا يحل الوفاء به.
وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال، نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون على شروطهم » (2) ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون على شروطهم » (3) ومن طريق ابن أبي شيبة يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء، بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المسلمون عند شروطهم » ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطأة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: (المسلم عند شرطه)، ومن طريق ابن أبي شيبة، نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب : (إن مقاطع الحقوق عند الشروط) ومن طريق ابن أبي شيبة، نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: (المسلمون عند شروطهم).
قال أبو محمد : كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن
__________
(1) سورة النحل الآية 91
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).
(3) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).(1/205)
عمرو (1) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول، وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط، أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل، فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين، ثم إن الحنفيين والمالكيين والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمرة النخل المؤبر، ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة، ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر
__________
(1) في النسخة رقم 14 (بن عمر) وهو غلط.(1/206)
النبي (1) صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا (2) : « المسلمون عند شروطهم » وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى، بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد : ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام » (3) وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (4) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.
حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة، نا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي، نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي، نا عبد الوارث - هو: ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال: (البيع باطل والشرط باطل)، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟ فقال: (البيع جائز والشرط باطل)، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟
__________
(1) في النسخة رقم 16 (أمر النبي).
(2) في النسخة رقم 14هنا.
(3) صحيح البخاري الفتن (6667),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),مسند أحمد بن حنبل (5/37),سنن الدارمي المناسك (1916).
(4) سورة التحريم الآية 1(1/207)
فقال: (البيع جائز والشرط جائز) فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نهى عن بيع وشرط » ، البيع باطل والشرط باطل)، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء » (1) ، البيع جائز والشرط باطل)، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله (أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة ) البيع جائز والشرط (جائز).
وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب، أنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب السختياني، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (2) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن » (3) ، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه،
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من [سنن النسائي] (7 \ 295 ).
(3) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن الدارمي البيوع (2560).(1/208)
وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا.
قال أبو محمد : هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه، فإذا خرج من ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده) (1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان.
وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: « كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل » (3) فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق.
وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا عبد الله بن جعفر بن الورد، نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف ونا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عروة « عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني،
__________
(1) الزيادة من النسخة رقم 16.
(2) في النسخة رقم 14 (للشرطين).
(3) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/213),موطأ مالك العتق والولاء (1519).(1/209)
فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق » (3) وذكر باقي الخبر.
ومن طريق البخاري، نا أبو نعيم، نا عبد الواحد بن أيمن، نا أبي قال: « دخلت على عائشة [رضي الله عنها] فقالت: دخلت بريرة - وهي مكاتبة- وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم، قالت: لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة : لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط » (5) .
قال أبو محمد : فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ، وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا، وكان البيع على هذا
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) في النسخ كلها (أن أحبوا أهلك). (1)
(3) في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (2)
(4) صحيح البخاري العتق (2426),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(5) الزيادة من [صحيح البخاري] كتاب [المكاتب] باب (5) (3 \ 304 ) والحديث فيه مطول اختصره المصنف. (4)(1/210)
الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1) وقال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (2)
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها، إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذ لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة أو بشرط الهبة أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.
وأما حديث جابر فإننا رويناه من طريق [ البخاري ] نا أبو نعيم، نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: « حدثني جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) في النسخة رقم 14 عتقا أصلا
(4) صحيح البخاري الشروط (2569),صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/314).(1/211)
ثم قال: بعنيه بأوقية قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرف فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك » (1) .
ومن طريق [ مسلم ] نا ابن نمير، نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي، حدثني جابر بن عبد الله، فذكر هذا الخبر وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: « بعنيه فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك » (3) .
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل، بعنيه ، قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه ، قلت: بل هو لك، قال: [لا، بل] بعنيه، قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال : [يا بلال ] زن له أوقية وزده قيراطا » (7) هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر .
قال أبو محمد : روي هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول
__________
(1) في [صحيح البخاري] (4 \ 30 ) فسار يسير. (4)
(2) صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/376).
(3) في النسخة رقم 16 (ثم إني رجعت) وما هنا موافق لما في {صحيح مسلم](1 \ 470 ). (2)
(4) صحيح مسلم الرضاع (715),سنن النسائي البيوع (4639).
(5) في [سنن النسائي] (7 \ 299 ) قلت: بل هو لك يا رسول الله. (4)
(6) الزيادة من [سنن النسائي]. (5)
(7) الزيادة من [سنن النسائي] (6)(1/212)
الله صلى الله عليه وسلم واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم له أنه كان شرطا.
ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قد أخذته بأوقية » (1) ، وصح عنه عليه السلام أنه قال: « أتراني ماكستك لآخذ جملك، ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك » (2) كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله؛ بل انتفى عنه، ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه.
وهذا كفر محض، فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (3) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر، وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (4) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط.
وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/314).
(2) صحيح مسلم المساقاة (715).
(3) في النسخة رقم 16 (إذ لا سبيل).
(4) في النسخة رقم 14 (وترك).(1/213)
الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
فأما الحنفيون والشافعيون : فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم، وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (1) أو يمنع حلالا.
وهذا ضلال مبين، فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين، فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك.
(فإن قالوا): إن في بعض ألفاظ الخبر أن ذلك كان حين دنوا من المدينة، قلنا: الدنو يختلف، ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر، فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن
__________
(1) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما)(1/214)
هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد، وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا (1) ، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ، ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات، فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك: ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا لو أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله (لا شرطا).
(2) في النسخة رقم 16 (سائر الطريق).
(3) في النسخة 14 (حتى نعلم).(1/215)
أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة، ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال: (أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة)، قال: (نعم)، فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري : فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري، فخالف الحنفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا، وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (1) حياته وقال: (إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها).
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور، فخالفوه، ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحارث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة، فخالفوهم كلهم.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع
__________
(1) في النسخة 16 (سكناه).(1/216)
عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة، وليس فيه وقت ذكر الإيفاء فخالفوه.
ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره، فتبايع الناس إلى قدوم الراكب، وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.
وحكم علي بشرط الخلاص.
وللحنفيين والمالكيين والشافعيين تناقض عظيم فيما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره؛ لأن الأمر أكثر من ذلك.
وبالله تعالى التوفيق . اهـ (1)
__________
(1) [المحلى] (8 \ 412- 420) المطبعة المنيرية.(1/217)
ضوابط الشروط المقترنة بالعقد
هذا وقد نقل الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها، وذكر عنهم كثيرا من المسائل، وأمثلة للقسمين، وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره.
قال الدكتور عبد الرزاق ما نصه (1) :
__________
(1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] (3 \ 117 - 153، 167- 194).(1/217)
1 - الشرط الصحيح
متى يكون الشرط صحيحا؟
يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحا، فيصح معه العقد، إذا كان:
(أ) شرطا يقتضيه العقد.
(ب) أو شرطا يلائم العقد.
(ج) أو شرطا جرى به التعامل بين الناس.
(أ) الشرط الذي يقتضيه العقد :
النصوص في [البدائع] (1) : ( وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوبا على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريرا لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد ) اهـ.
وجاء في [الخرشي] (2) : ( وبقي شرط يقتضيه العقد، وهو واضح
__________
(1) [البدائع] (5\171).
(2) [الخرشي] (5 \ 8 ).(1/218)
الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع، وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد ) اهـ.
وجاء في [المهذب] (1) : ( إذا شرط في البيع شرطا نظرت، فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله ) اهـ.
وجاء في [المغني] (2) : ( والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها): ما هو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد ) اهـ.
صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي:
ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمر بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان.
__________
(1) [المهذب] (5\268).
(2) [المغني] (5\285).(1/219)
(ب) الشرط الذي يلائم العقد :
النصوص:
جاء في [البدائع] (1) : ( وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث
__________
(1) [بدائع الصنائع] (5\171).(1/219)
المعنى مؤكد إياه على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا أو كفيلا، والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل.
وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن : أن الرهن لا يخلو؛ إما أن يكون معلوما أو مجهولا، فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدا، إلا أنا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن، وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن، وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا، ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر : يجبر عليه.
وجه قوله: أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقا من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البييع فيجبر عليه.
ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعا، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع؛ لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته لأن قيمته تقوم مقامه؛ ولأن الدين يستوفى من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه(1/220)
الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض، وإن الرهن مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع؛ لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوما معينا من الابتداء؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد، وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري نقد الثمن جاز البيع أيضا؛ لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة، وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل؛ لأن الكفيل إن كان حاضرا في المجلس وقبل جاز البيع استحسانا، وإن كان غائبا فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضرا ولم يقبل؛ لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد ما بينا، فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن كفالة المجهول لا تصح، ولو كان الكفيل معينا وهو غائب ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس- جاز البيع؛ لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد، ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد(1/221)
وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد، بخلاف الكفالة والرهن . اهـ.
وجاء في الحطاب (1) : قال في البيوع الفاسدة: ( منها: وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل، وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض، وكذلك إن تكلفت به على أن يعطيك عبده رهنا فإن امتنع من دفعه إليك أجبر. اهـ.
قال اللخمي في كتاب [الرهن]: البيع على غير رهن معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة... اهـ، وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، تعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهنا به، فإن كان الرهن المشترط غير معين وأبى المشتري من دفعه خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه، وهكذا قال ابن الجلاب مقتصرا عليه، والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين ( ابن عبد السلام ) وهو المذهب ) اهـ.
__________
(1) [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] (4\ 375، 376).(1/222)
وجاء في [شرح المنهاج] للرملي (1) : والرهن للحاجة إليه لاسيما في معاملة من لا يعرف حاله، وشرطه العلم به، إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم، ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينة، فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزئ عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافا لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع، فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد؛ لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع، فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضا، وشرطه العلم به بالمشاهدة.. أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الأحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة، فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة فللبائع الخيار، ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ.
وجاء في [الشرح الكبير للمقنع ] (2) : ( الثاني شرط من مصلحة العقد، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين، أو الشهادة، أو صفة في المبيع مقصودة نحوكون العبد كاتبا أو خطيبا أو صانعا أو مسلما أو الأمة بكرا أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به،
__________
(1) [شرح المنهاج] (3\436- 438).
(2) [الشرح الكبير] (4\48).(1/223)
فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن ) اهـ.(1/224)
ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد :
الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي:
1 - شرط أخذ الرهن بالثمن.
2 - شرط أخذ الكفيل بالثمن.
3 - شرط الحوالة بالثمن.
وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد وتتعلق بها مصلحة العاقدين.
والمذهب الحنفي: يقتصر كما رأينا على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظا، تقول المالكية : الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضا: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع.
وتقول الشافعية : شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه.
وتقول الحنابلة : شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين.
على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو: المذهب الحنفي، وأوسعها هو:(1/224)
المذهب المالكي.
ففي المذهب الحنفي: إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولا، أو كان الكفيل مجهولا أو كان غير حاضر في المجلس أو كان حاضرا ولم يقبل الكفالة: فإن الشرط يكون فاسدا ويفسد معه البيع، أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد.
فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إن كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد لأن كفالة المجهول لا تصح، فلابد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاما نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، وسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد، على أنه يجوز أن يكون الرهن- لا الكفيل- غائبا عن المجلس ما دام معلوما إذا كان عينا معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئا غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار، إذا لم ينقد الثمن بين فسخ العقد أو إبقائه، ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن خلافا لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقا من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه،(1/225)
والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد إذ يشترط حضور الكفيل وقبول الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا.
ويوضحه صاحب [فتح القدير] إذ يقول: الآن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلا بد من حضور العقد بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن ما لم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ ).
والظاهر من النصوص: أن الشافعية والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة، ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفية في وجوب أن يكون الكفيل حاضرا في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس، فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معينا معلوما على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول خير البائع إذا لم ينقده المشتري الثمن.
ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله، وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة: فللبائع الخيار... ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط؛ لزوال الضرر بالفسخ،(1/226)
ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره.
أما المذهب المالكي: فهو كما قدمنا أوسع المذاهب في هذه المسألة، فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معينا، ويقول الحطاب : (وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز)، ليس هذا فحسب، بل أيضا إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن، وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثيابا أو حليا أو دارا أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة كالعبيد والدواب.
ويقول الحطاب أيضا في ذلك: (وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض.. والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة... والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين... وهو المذهب).
ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل، بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع، وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام(1/227)
المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، أما المالكية فيكتفون هم أيضا بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل.. ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معينا، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين.
بقي شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط، فقد جاء في [البدائع]- كما رأينا-: ( ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد، لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد بخلاف الكفالة والرهن )، والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضيا بحوالة الثمن الذي في ذمه المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مدينا للمشتري (غريما من غرمائه)، فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع وتبرأ ذمة المشتري من الثمن، هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ثم هو يلائم العقد؛ لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب [البدائع]، ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاطا له من وجه فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له، فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب، هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل- إبراء غير كامل- وشل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضا تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له.(1/228)
ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري، فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلا من أن يدفعه للبائع يكون واجبا عليه أن يدفعه لدائن البائع، فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة.
من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في [فتح القدير] من أن ( شرط الحوالة كالكفالة ) وبما جاء في [المبسوط] من أن ( شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة )؛ لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسدا للعقد).(1/229)
الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى
لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد، وإلا فإن الشرط ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد، فيكون عقدا في عقد وهذا لا يجوز.(1/229)
وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن.
جاء في [المبسوط] (1) : ( وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه: ففي القياس العقد فاسد، لما بينا (2) أنه شرط عقد في عقد، وفي الاستحسان يجوز هذا العقد؛ لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء.
وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن ) اهـ.
وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول في هذا المعنى: ( وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه. فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا... فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى صورة العقد فكان مفسدا، إلا أننا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له
__________
(1) [المبسوط] (13\19).
(2) أي : في [المبسوط].(1/230)
معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا ) اهـ (1) .
أما في المذهب الشافعي: فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلا لا استثناء؛ بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا.
وأما المذهبان المالكي والحنبلي: فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد وإن كان العقد لا يقتضيه فهو جائز ما دامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين.
ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء- على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس- الشرط الذي يلائم العقد؛ لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد فيلحق به، أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه، بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد؛
__________
(1) بدائع الصنائع (5\171).(1/231)
لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء.
وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: (ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه أخذ يذكر ما لا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته بقوله مشبها له بالحكم قبله، وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني: أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور، وليس في ذلك فساد ولا كراهية، لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع).
ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في [الشرح الكبير]: ( الثاني شرط من مصلحة العقد... فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به ).(1/232)
(ج) الشرط الذي يجري به التعامل :
النصوص:
جاء في [المبسوط] (1) : ( وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضا، كما لو اشترى نعلا وشراكا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجا بينا ).
__________
(1) [المبسوط] (13\14).(1/232)
وجاء في [البدائع] (1) : ( كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ويلائم العقد أيضا، لكن للناس فيه تعامل- فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلا على أن يحذوه البائع أو جرابا على أن يخرزه له خفا أو ينعل خفه، والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله.
وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك، ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع ).
ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان، أما في القياس فهو لا يجوز؛ لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقدا في عقد.
وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول: ( والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله، وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك.
ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع ).
__________
(1) [بدائم الصنائع] (5\172).(1/233)
الشرط الفاسد
المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى:
ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين.
أولا: المذهب الحنفي :
التمييز بين حالتين:
يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين:
(أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد.
(ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد.
(أ) شرط فاسد يفسد العقد :
النصوص:
جاء في المبسوط (1) : ( وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف
__________
(1) [المبسوط] (13\15- 18).(1/234)
ظاهر، قال: (فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد)؛ لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط، فلهذا فسد به البيع، وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين.. قال: (وإذا اشترى عبدا على أنه يعتقه فالبيع فاسد)، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة، قالت: إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق، وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. ولأن العتق في المبيع قبض.. والقبض من أحكام العقد، فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده، وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع، يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسدا، فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملاءمة، ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد، وبيع العبد لسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعدا من المشتري ثم البيع بعقد مطلقا، وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها(1/235)
فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقا ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها..
وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضا أو يهب له هبة أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن فالبيع في جميع ذلك فاسد؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة.. وإن اشترى شيئا وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد، لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إذا كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل ).
وجاء في [البدائع] (1) : (ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع، أو للمشتري، أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع دارا على أن يسكنها البائع شهرا ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرا، أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا، أو على أن يقرضه المشتري قرضا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن
__________
(1) [البدائع] (5\69- 173).(1/236)
يجذها، أو شيئا له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله نحو ذلك: فالبيع في هذا كله فاسد؛ لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا، وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد، وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.. وكذا لو باع عبدا أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه فالبيع فاسد؛ لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسدا للبيع.
ولو اشترى شيئا بشرط أن يوفيه في منزله فهذا لا يخلو: إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر، وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله، وعند محمد البيع بهذا الشرط فاسد، وهو القياس؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر، ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس، ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر، ولا في(1/237)
شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه.. وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض إن اشتري بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا؛ لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض: وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه.
ونستعرض استخلاصا من النصوص المتقدمة مسائل ثلاث:
1 - الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.
2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه ا لصور.
3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد.(1/238)
1 - الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد :
يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها، وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقا أو للبائع أو للمشتري أو لأجنبي غير المتعاقدين.
فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقا: أن يشتري عبدا على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على(1/238)
أن يعتقه على خلاف بين المذاهب، أو يشتري أمة على أن يستولدها، ففي هذه الأمثلة نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري، فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب، أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق، ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه.
والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع.
فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبدا ويشترط على المشتري أن يبقى في خدمته وقتا من الزمن، أو يبيع دارا ويشترط أن يسكنها شهرا، أو يبيع أرضا ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوبا ويشترط أن يلبسه أسبوعا، ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة.
ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضا، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري منه شيئا آخر أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقدا آخر: قرضا أو هبة أو صدقة أو بيعا أو زواجا.(1/239)
والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضا إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع.
فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولا ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونة ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله، وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر هو في أغلبها إجارة عمل البائع، وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج.
ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضا، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئا آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته، وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع.
وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجدا، أو باع طعاما على أن يتصدق به المشتري، أو باع دارا واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن، ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسدا في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.(1/240)
2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور:
وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين:
العلة الأولى: أن الشرط يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي ربا أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد.
العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياسا، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحسانا، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقدا آخر- إجارة أو إعارة أو بيعا أو قرضا أو هبة أو غير ذلك- تضمنه عقد البيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة.. ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث فقد أخذ بها المذهب الحنفي، وقد رأينا صاحب [المبسوط] يقول في هذا المعنى: ( إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد.. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة ).
ورأينا صاحب [البدائع] يقول: ( إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا(1/241)
يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا للإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه ).
ورأينا صاحب [فتح القدير] يقول: ( وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم فهو فاسد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، أي: قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمنا بإزاء المبيع، وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى- يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة ).(1/242)
3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد :
والظاهر من نصوص [فتح القدير] التي قدمناها: أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال (1) .
وقد ورد في المادة 323 من [مرشد الحيران]: ( كل ما كان مبادلة مال بمال كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة
__________
(1) أكتفي فيما تقدم عما في [فتح القدير] بما نقل عن [المبسوط] و[البدائع] لاشتمالهما عليه.(1/242)
والصلح عن مال.. لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به.. ومثل ذلك إجازة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به ).
أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الإسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة، وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد- صح العقد، ولغى الشرط (1)
ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه، والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسدا فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضي بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط وقد فات عليه فيكون غير راض بالمبادلة فيفسد العقد.
وفي هذا يقول صاحب [المبسوط]: ( لأن الشرط باطل في نفسه، والمنتفع به غير راض بدونه )، وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى ومن ثم يسقط الشرط؛ لأنه فاسد، ولكن يبقى العقد على صحته.
__________
(1) انظر المواد 324- 326 من [مرشد الحيران].(1/243)
(ب) شرط فاسد يسقط ويبقى العقد
النصوص:
جاء في [البدائع] (1) : ( إذا باع ثوبا على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاما على ألا يأكله ولا يبيعه ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في [المجرد] عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد، ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسدا كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة؛ لأن هذا الشرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجبه الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشرط؛ لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل.
ولو باع ثوبا على أن يحرقه المشتري، أو دارا على أن يخربها: فالبيع جائز والشرط باطل؛ لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا ).
وجاء في [فتح القدير] (2) : ( أما لو كان المبيع ثوبا أو حيوانا غير آدمي،
__________
(1) [البدائع] (5\170).
(2) [فتح القدير] (5 \ 215 ، 216).(1/244)
فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل؛ لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة. وكذا ذكر الحسن في [المجرد]، قال المصنف: وهو الظاهر من المذهب؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه؛ لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا .(1/245)
شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط
يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك شرطا لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد، ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوبا أو دابة أو حيوانا غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه، يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة، يبيع طعاما ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه، يبيع ثوبا ويشترط على المشتري أن يحرقه، يبيع دارا ويشترط على المشتري أن يخربها.
ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة فيه لأحد، ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل- فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسدا فيسقط، ولكن العقد يبقى صحيحا.(1/245)
على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته- والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة- فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحا بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث أنه فاسد يسقط، ومن حيث إنه لا منفعة فيه لأحد يستبقي العقد صحيحا، وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي.
ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين:
العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد؛ إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك ربا أو شبهة الربا، والربا وشبهته يفسدان العقود، أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحا مع سقوط الشرط لفساده.
العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده من جهة أخرى؛ لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقدا تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز، أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة في صفقة، أو عقدا في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقي على صحته مع سقوط الشرط لفساده.(1/246)
ثانيا تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي
أ- سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.
ب- السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط .
ج- علتان تنتهيان إلى علة واحدة تعدد الصفقة.
رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين:
علة الربا، وعلة تعدد الصفقة، وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها.
ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة للشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكئة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن نقف عندها، ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية، فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفيا، وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده، ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجئوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا، والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها- لو سلمنا بها جدلا- ترد في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة، ذلك أن كل مثل يورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتما صفقتين في صفقة واحدة(1/247)
ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا، فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعا آخر أو هبة أو صدقة أو زواجا أو غير ذلك، فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة.
والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل، فإن لم يكن له مقابل من الثمن فهنا تأتي فكرة الربا.
إذ يقول الفقهاء: أن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض فيفسد العقد للربا، ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة.
أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن فإن فكرة الربا لا تقوم، إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض، فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة.
ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط الفاسد فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلا لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.(1/248)
على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك، فإن التعليل بالربا حتى في بعض الأحوال دون بعض قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي: المكيلات والموزونات عند الحنفية، فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي- لم تقم علة الربا بشطريها: وهما القدر، والجنس، فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا. ففكرة تعدد الصفقة تجب- إذن- فكرة الربا، وهي وحدها- في رأينا التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط، ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة، فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معا.(1/249)
السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد.
ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.
على أنه فضلا عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة كالنهي عن صفقتين في صفقة، وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.(1/249)
ونطالع هنا صفحة من [المبسوط] ترددت في كتب كثيرة، نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة، وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد، وبعضها يسقط الشرط والعقد معا.
قال السرخسي في [المبسوط] (1) : ( حكي عن عبد الوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال: (باطل)، فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط باطل) فدخلت على ابن شبرمة، وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط جائز)، فقلت: هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته، فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم: « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » ...) فدخلت على ابن أبي ليلى، فقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه « عن عائشة رضي الله عنها: أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: اشتري واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بالى أقوام يشترطون شروطا ليست
__________
(1) [المبسوط] للسرخسي (13 \ 13 ).(1/250)
في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق » (1) فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات، وشرط له ظهرها إلى المدينة ) اهـ.
فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة، ولابد من التوفيق بينها، وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد، لا سيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف، فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه المسألة، ويدع الأحاديث الأخرى؟
والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة- فضلا عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام- هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون، فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد، وتكون وحدة العقد مبدأ جوهريا من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته، بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها- كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد- عن الشكلية في العقود، تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوما وأوضاعا ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضربا من الشكلية أكثر تهذيبا.
ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن الترمذي الوصايا (2124),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك العتق والولاء (1519).(1/251)
قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد... إلى أن قال:(1/252)
تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد
تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة
على أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامدا عند المرحلة الأولى للفكر القانوني، بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور، تطور في المذهب الحنفي نفسه، وفي المذهب الشافعي، وتطور تطورا أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي.
1 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي :
رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي: أن فقهاء هذا المذهب، بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام: وجوب وحدة الصفقة- يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه، ويوسع ما ضاق منه؛ سدا لحاجات التعامل.
1 - فأول ما يقررونه- لا على سبيل الاستثناء من المبدأ، بل مطاوعة لطبائع الأشياء- أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد، وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن يذكر، فإن ما يقتضيه(1/252)
العقد صحيح معمول به، سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلا، ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى.
2 - ومن ثم يقررون: أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحسانا شرطا صحيحا يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة.
3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع، فيجيزون شرطا فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به، فيصح الشرط في هذه الحالة استحسانا ويصح معه العقد.
4 - ثم يقررون الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط؛ لعدم إمكان المطالبة به، ولكن يبقى العقد صحيحا.
5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد- وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة- يميزون بين أنواع العقود المختلفة: فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والإسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا، ففي المعاوضات(1/253)
المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملا، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي، فيلغو الشرط ويصح العقد.
هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيرا من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور، وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.(1/254)
2 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي .
مذهب الشافعي يقرب كثيرا من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به، وهو: منع تعدد الصفقة وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل.
فالشرط الذي يقتضيه العقد صحيح بداهة؛ لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر.
والشرط الذي يلائم العقد- ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة- صحيح أيضا ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء- كما هو الأمر في المذهب الحنفي - بل هو أصل يقوم بذاته، وقد تقدم بيان ذلك، ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد، واشتراط كتابته في صك،(1/254)
واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن.
ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد، إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل.
ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه- يلغو ويصح العقد.
ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد، فلا يجوز أن يشتري زرعا ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع دارا بألف على أن يقرضه المشتري قرضا بمائة، ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونة أصلا أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها، ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح، فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ، أو قد لا تربح شيئا، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك(1/255)
مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان.
ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أيا منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقدا أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين.
ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء.
ويتبين مما تقدم: أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي، وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.(1/256)
3 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي :
التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي، وفي مذهب الشافعي، وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطورا أبعد مدى من تطوره في مذهبي: أبي حنيفة، والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيرا مما لا يجيزانه.
وعنده: أن الأصل في الشرط: أن يكون صحيحا، ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسدا على سبيل الاستثناء.(1/256)
ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد ، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب (1) ، فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض ، وقد نوه بذلك ابن رشد في [بداية المجتهد] .
__________
(1) هكذا في الأصل (الناشر) .(1/257)
الشرط الصحيح في مذهب مالك :
الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة :
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح ، وفي هذا يتفق المذهبان ، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن ، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع ، أو أن يضمن العيب ، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدما على سائر الغرماء ، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها .
(ب) ولا يصح- فحسب- في مذهب مالك كل شرط يقتضيه العقد ، بل يصح أيضا كل شرط لا يناقض مقتضى العقد ، وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة ، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد ، والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة ، ويدخل أيضا الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد(1/257)
المتعاقدين ، ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه ، ما دام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد ، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعا للتعامل ، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة .
فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن ، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته .
ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة .
1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع ، أو يقف الأرض المبيعة ، أو يبني فيها مسجدا ، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر .
2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل ، وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع .
3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة ، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب ، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه ، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها ، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين .(1/258)
الشرط الفاسد في مذهب مالك :
ولا يكون الشرط فاسدا عند مالك إلا في موضعين :(1/258)
1 - إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد ، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع ، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها ، أو ألا ترثه ، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع ، وسبب فساد الشرط هنا واضح ، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط ما دام الشرط يناقض مقتضاه ، أو كما يقول الحطاب وهو شرط : (لا يتم معه المقصود من العقد) .
2 - إذا كان الشرط يخل بالثمن ، وذلك كبيع وسلف ، أي : بيع يتضمن قرضا ، وكبيع الثنيا ، وصورته : أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط (وكبيع يشترط البائع فيه : أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري . وسبب فساد الشرط هنا : أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري ، وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع, كما في بيع الثنيا ، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري ، كما في بيع وقرض للمشتري من البائع ، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن أو كما يقول الخرشي : إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري أو بنقص إن كان من البائع .
والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال ولا يعمل به ، أما أثره في العقد :
1 - فتارة يبطله .(1/259)
2 - وطورا يبطل الشرط وحده ويبقى العقد .
3 - وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد .
1 - أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد : فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد ، بحيث إذا أعمل الشرط كان لا بد للعقد حتما من أن يختل ، فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة ، أو اشترط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض ، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده ، أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة ، أو أن الرهن لا يباع ، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده ، أو أن يضمنه العامل ، أو أن يجعل مع العامل أمينا ، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه ، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة ، أو أن الزوج إذا لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج .
2 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد : فيبدو أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد ، ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط ، فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى ، أما الشرط فيسقط ؛ لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد ، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفا للنظام العام في لغة الفقه الغربي ، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها ، أو ألا يطلقها ، أو لا ينقلها من بلدها أو من دارها ، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان(1/260)
الولاء للبائع ، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جز من الثمن إذا أصابت الثمار آفة ، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها .
3 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معا إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد : فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن ، كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري ، ويتحقق ذلك أيضا فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر ، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه ، وهذا إذا عمم أو استثنى قليلا كقوله : على ألا تبيعه جملة ، أو لا تبيعه إلا من فلان ، وأما إذا خصص ناسا قليلا فيجوز الشرط ويصح البيع .
تقدير مذهب مالك :
ولا شك في أن الفقه الإسلامي فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط قد تطور في مذهب مالك تطورا ملحوظا نحو الإباحة ، فالمذهب المالكي- خلافا للمذهبين الحنفي والشافعي- يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة ، فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجع في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة .
ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صوره منطقة معقولة ، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد .(1/261)
أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه ، وهي صورة المنع من التصرف في البيع لا يجاوز أيضا حدودا معتدلة ، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة ، كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحا لأكثر الناس ، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع ، كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل ، وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر .
وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد ، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن ، كما في بيع وسلف ، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامدا ولم يتابع التطور إلى غايته ، وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة ، فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف ، فإن العقد الذي يتضمن بيعا وسلفا لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين .(1/262)
4 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي .
المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط : وأبعد تطور للفقه الإسلامي في مسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل ، لا سيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية ، وهو من أكبر فقهائه .
فالمذهب الحنبلي كالمذهب المالكي ، تخطى مبدأ وحدة الصفقة ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان : الحنفي ، والشافعي ، ومن ثم(1/262)
استطاع أن يسير أشواطا بعيدة في طريق التطور .
والحنابلة كالمالكية ؛ الأصل عندهم في الشرط : أن يكون صحيحا ويصح معه العقد ، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط ، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسدا على سبيل الاستثناء ، إذا كان ينافي مقتضى العقد ، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص .
فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد ، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط .(1/263)
الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة :
الأصل في مذهب الحنابلة كما قدمنا- هو : أن يكون الشرط صحيحا ، ونساير صاحب [ المغني ] في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط :
أ- فكل شرط يقتضيه العقد صحيح ، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة ، فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع والتقابض في الحال ، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس ، فكل هذه الشروط يقتضيها العقد ، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط .
ب- ويصح أيضا كل شرط يلائم العقد ، ويكون من مصلحته ، فتتعلق به مصلحة المتعاقدين ؛ كالرهن ، والضمين ، والشهادة ، وفي هذا أيضا(1/263)
تتفق المذاهب الأربعة .
ج- ويصح أخيرا الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد .
وهنا نلحظ المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي ، كما لحظنا ذلك في مذهب مالك ، وهذا خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي ، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح ، سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه ، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه ، والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة ، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي ، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط ، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به ، خلافا لما يذهب إليه الفقه الحنفي .
ومن ثم نرى المذهب الحنبلي- خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي - يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي ، ونورد ما جاء في هذا الصدد في [ الشرح الكبير على المقنع] (1) ( والثالث : أن يشترط نفعا معلوما في المبيع ؛ كسكنى الدار شهرا ، وحملان البعير إلى موضع معلوم ، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع ؛ كحمل الحطب أو تكسيره ، أو خياطة الثوب أو تفصيله ، ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة ، مثل أن يبيع دارا ويستثني
__________
(1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 49- 51) .(1/264)
سكناها سنة ، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم ، أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة ، نص عليه أحمد ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يصح ؛ لأنه روي : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط . . » ولنا ما « روى جابر : أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة » (1) ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ، وإنما « نهى عن شرطين في بيع » (2) ، فمفهومه إباحة الشرط الواحد . . ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع ، مثل : أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا ، أو بغلة ويشترط حذوها نعلا ، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم ) .
ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص ، ويفوق في ذلك سائر المذاهب ، وفيها مذهب مالك نفسه ، فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج ، ويقول ابن تيمية في ذلك (3) : ( ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح ؛ لما في [ الصحيحين ] « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » (4) فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها ، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلا ، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو موردا معينا من العيش ، ويكون للمشترط أن
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3852).
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 327- 332) ، [نظرية العقد] ، ص (155) .
(4) صحيح البخاري النكاح (4856),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).(1/265)
يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه ، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة ، وهذا هو أصح روايتي أحمد ، وأصح وجهي أصحاب الشافعي ، وظاهر مذهب مالك (1) ، بل يجوز أيضا في مذهب أحمد : أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها ، أو لا يتسرى ، أو ألا يتزوج عليها ، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (2) . وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 346) ، [نظرية العقد] ص (156-157) .
(2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16 ، 34 ، 161- 162) و[الفتاوى] ، (3\ 327) .(1/266)
الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة :
ولا يكون الشرط فاسدا عند الحنابلة إلا في موضعين :
أ- إذا كان الشرط ينافي مقتضى العقد ، مثل ذلك : أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه ، أو يشترط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع ، فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد ، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه ، يبيعه أو لا يبيعه ، ويهبه أو لا يهبه ، وإذا كان رقيقا فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق .
بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه ، فهل يصح الشرط ؟ في المذهب روايتان :
أحدهما : الشرط فاسد ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما(1/266)
قدمناه من الشروط .
والرواية الأخرى : الشرط صحيح ؛ لحديث بريرة المعروف .
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة : أن يشترط المشتري إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن ، ومنها : أن يشترط البائع : أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري ؛ لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه ، فهو كما لو اشترط ألا يبيعه إلا من فلان ، وهذا يقيد حرية المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد ، وقيل أيضا : في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين ، فيكون غير جائز على ما سنرى ؛ لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول ، فهما شرطان (1) .
وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي لأنه يخل بالثمن .
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضا ما جاء في [الشرح الكبير على المقنع] ، (2) : ( وإذا قال : بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد ؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري ، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره ، ولا يشبه هذا ما لو قال : أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ؛ ولذلك لم يجز في النكاح .
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع (4\ 55) .
(2) المرجع السابق (4\ 58) .(1/267)
أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك ، فلا يثبت ؛ لأن العوض على غيره ، وإن كان هذا القول على وجه الضمان : صح البيع ولزم الضمان ) .
ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسدا فإنه يبطل ولا يعمل به .
أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان :
الأولى : أن العقد صحيح ، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي ، فيسقط الشرط ويبقى العقد ( وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط ؛ لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط ، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه ، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا ، ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء ، كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع الراهن والضمين ؛ لأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع (1) .
والرواية الثانية : أن الشرط الفاسد يبطل البيع ؛ لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا ، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه ، والمشتري
__________
(1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 55) .(1/268)
كذلك إذا كان الشرط منه ، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه ، والبيع من شرطه التراضي (1) .
ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيرا في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد ، ففي كلا المذهبين الشرط فاسد ، ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد ، فتارة يبطل الشرط والعقد معا ، وطورا يبطل الشرط ويستبقي العقد صحيحا ، وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد ، وقد مر ذكر ذلك .
ب- ويكون الشرط فاسدا أيضا إذا ورد في النهي عنه نص خاص ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ، وعن شرطين في بيع وسلف ، « وقال عليه السلام : لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك » (2) فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد ، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف .
أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد ، كما قدمنا ، والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيهما العقد أو يلائماه ، ولو انفرد أي منهما كان صحيحا ، مثل ذلك : من اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته ، أو طعاما واشترط طحنه وحمله ، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل : الشرطان
__________
(1) [الشرح الكبير] ، (4\ 54) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),مسند أحمد بن حنبل (2/179),سنن الدارمي البيوع (2560).(1/269)
باطلان والعقد باطل ، أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد ، مثل : أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن- فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر .
وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضا ، ومعناه في مذهب أحمد : أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقدا ثانيا مستقلا في مقابل العقد الأول ، وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد ، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز ، كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب ، وقد جاء في [المغني] ، (1) : ( والثاني : أن يشترط عقدا في عقد ؛ نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره- فهذا شرط فاسد يفسد به البيع ، سواء اشترطه البائع أو المشتري ) ثم جاء فيه : ( ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه ، أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل ، وهذا مذهب مالك والشافعي ، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال : إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع ، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو : أن « النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف » (2) . أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وفي لفظ « لا يحل بيع وسلف » (3) ؛ ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله ، فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن
__________
(1) [المغني] ، (4\ 285) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/175),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504).(1/270)
القرض وربحا له ، وذلك ربا محرم ، ففسد لو صرح به ، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا ، كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما ) (1) .
هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده ، ولكن المشهور في مذهب أحمد : أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد .
ويبدو أن المذهب الحنبلي في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة ، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف ، وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد ؛ لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له ، فلا يخل بوحدته إخلالا جسيما ، أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله ، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير .
فالمذهبان المالكي والحنبلي وقفا جامدين هنا ، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطيا تاما ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة .
وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية ؟
__________
(1) [المغني] ، (4\ 290 ، 291) .(1/271)
استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية :
يقول ابن تيمية : إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ، ولا(1/271)
يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به ، وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه (1) .
ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل :
أما النقل : فلقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (2) ولقوله عليه السلام « . . . والمسلمون على شرطهم ، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما » (3) .
وأما العقل : فإنه يقول : إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية- أي : ليست من العبادات- والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم ، كما أن الأعيان : الأصل فيها عدم التحريم ، وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } (4) عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة ؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم ، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة (5) . فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل ، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختارا ، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، ونتيجتها هي ما
__________
(1) [الفتاوى] ، (29\ 132 ، 133) .
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) سنن الترمذي الأحكام (1352),سنن ابن ماجه الأحكام (2353).
(4) سورة الأنعام الآية 119
(5) [الفتاوى] ، (3\ 334) .(1/272)
أوجباه على نفسيهما بالتعاقد ، لقوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وقال : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه ، فدل على أنه سبب له ، وإذا كان طيب النفس هو المبيح الصداق فكذلك سائر التبرعات ، قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن .
وكذلك قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (3) لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة ، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (4) .
ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات : أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا ، ويصح معه العقد ، سواء كان ذلك في المعاوضات ، أو في التبرعات .
ففي المعاوضات : يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع ؛ كأن يسكن الدار شهرا أو ينتفع بزراعة الأرض سنة ، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب ، أو يحمل المبيع إلى داره ، أو يحصد الزرع ، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري ، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق ؛ لأن هذا شرط يحلل حراما .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة النساء الآية 29
(4) الفتاوى ، (3\ 336 ، 337) .(1/273)
وفي التبرعات : يجوز لمن أعتق عبدا أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته ، حياة العبد أو السيد ، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة ، واشترطت عليه أن يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاش (1) .
ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (2) ، بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة ، إذ يجوز في التبرعات من الغرر ما لا يجوز في المعاوضات ، كما تقدم القول .
وفي هذا يقول ابن تيمية : ( يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع ، أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها ، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما ، لما روي عن جابر ، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان ، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف ) (3) .
ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد على سبيل الاستثناء ، إلا في موضعين :
الأولى : إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد ، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يؤجره ، ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود- فقد جمع
__________
(1) [الفتاوى] ، (3\ 327) .
(2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16) ، و[الفتاوى] ، (3\ 389 ، 390) .
(3) [الفتاوى] ، (3\ 342 ، 343) .(1/274)
بين المتناقضين ، بين إثبات المقصود ونفيه ، فمثل هذا الشرط باطل .
ويقول ابن تيمية في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع- ما يأتي : ( إن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد ، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به : ينافي العقد المطلق ، فكذلك كل شرط زائد ، وهذا لا يضره ، وإن أريد : ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك ، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد . فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين ، بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء ، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا .
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع ، مثل : اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده ، فإن مقصوده الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا ، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه ، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق » (1) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله ، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما : إذا لم يكن لغوا ، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).(1/275)
لولا حاجتهم إليه لما فعلوه ، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج (1) .
الثاني : الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام ، ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح ، فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالا ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه ، كالزنا ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط ؛ كالزيادة في مهر المثل ، وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن- فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحا ، بل كان تركة هو الأصل المعمول به ما دام الشرط الموجب لفعله لم يوجد ، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام ، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطا مشروعا ، ومن ثم يكون صحيحا . ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي :
فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله . وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه ، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما . . وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا . . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا ، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك ، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط ، قالوا : لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا ، وذلك لا
__________
(1) [مجموع الفتاوى] ، لابن تيمية (29\ 155 ، 156) .(1/276)
يجوز إلا بإذن الشارع . . وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه ، كالزنا وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته » (1) ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . . . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط ما كان حراما ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن .
ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا للمقصود من العقد ، وهذا طبيعي ، وإلا إذا كان مناقضا للشرع فيحل حراما ، وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط الذي يخالف القانون أو النظام العام . ولم يعرض ابن تيمية لتحريم اجتماع الشرطين ولا لتحريم اجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف ، ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث .
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6375),صحيح مسلم العتق (1506),سنن الترمذي الولاء والهبة (2126),سنن النسائي البيوع (4657),سنن أبو داود الفرائض (2919),سنن ابن ماجه الفرائض (2747),مسند أحمد بن حنبل (2/107),موطأ مالك العتق والولاء (1522),سنن الدارمي البيوع (2572).(1/277)
مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد :
مقارنة إجمالية :
يتبين مما قدمناه : أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين :
1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة ، فلا يبيح(1/277)
إلا شرطا اقتضاه العقد ، أو لاءم العقد ، أو جرى به التعامل ، وهذان هما : المذهب الحنفي والمذهب الشافعي .
2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط ، ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة ، فيبيح الشروط ما لم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع ، وهذان هما : المذهب المالكي ، والمذهب الحنبلي .
فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساسا من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون- أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول ، على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية- هو أكثر المذاهب تقدما من ناحية تنسيق الصناعة القانونية ، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى .
مقارنة تفصيلية :
على أن هناك فروقا تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمها القسم الأول ، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمها القسم الثاني .
فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي : يبيحان جميعا الشرط الذي يقتضيه العقد ، ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد ، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان ، ومذهب الشافعي يبيحه(1/278)
أصلا لا استثناء . ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بإفساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل ، ويبيحه استحسانا كذلك ، فيدخل العرف من هذا الباب عنصرا مرنا يطور الفقه الإسلامي ، أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحا ، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد ، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد ، ولكن مذهب الشافعي - من جهة أخرى - يصحح شروطا لا يصححها المذهب الحنفي ، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه ، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك ، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش .
أما المذهبان المالكي والحنبلي : فيصدران جميعا عن مبدأ واحد وهو : أن الأصل في الشروط الصحة ، والفساد هو الاستثناء ، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة ، وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط ، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال : (وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه) ، فيجوز في مذهب أحمد مثلا، أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها ، أو لا يتسرى ، أو ألا يتزوج عليها ، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج ، وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك .(1/279)
ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة ، وإنما هو في الشروط الفاسدة ، على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية لما كان يتميز عن المذهب المالكي في ذلك ، ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضا لمقتضى العقد ، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف ، فيخل الشرط بالثمن ، كما يقول المذهب المالكي ، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي ، وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثرا لمبدأ وحدة الصفقة ، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره ، بل إن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد .
أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية فإننا نراه يتقدم تقدما كبيرا في التطور ، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة ، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة ، فلا يكون الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا لمقتضى العقد ، أو إلا إذا كان مناقضا للشرع (1) . اهـ .
ويمكننا على ضوء ما تقدم من تقسيم الشروط في العقود إلى : صحيح وفاسد- أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحة في العقود أم
__________
(1) ملحوظة : نقلت اللجنة ما تقدم عن الدكتور السنهوري ؛ لما فيه من نصوص فقهية في الموضوع من المذاهب الأربعة مع مقارنة بينها ، وفي هذا فوائد كثيرة ، غير أنه وقع في حديثه عن تطور الفقه الإسلامي بعض أخطاء ، منها ظنه أن المالكيين والحنابلة انتهيا إلى عدم اعتبار وحدة الصفقة في صحة العقد ، غير أنهما استبقياها في صور قليلة كبيع وسلف أو شرطين في عقد ، ومنها ظنه أن ابن تيمية نبذ مبدأ وحدة الصفقة مطلقا في صحة العقد ، وأنه بذلك طور مذهب الإمام أحمد ص 63 ، 64 ، 67 ، 68 ، 71 ، 72 .(1/280)
من الفاسدة ؟ وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه ؟
لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله : أن الشروط في العقود قسمان : صحيح وفاسد .
أما الصحيح فثلاثة أنواع :
أحدها : شرط يقتضيه العقد ؛ كالتقابض ، وحلول الثمن ، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه .
الثاني : شرط من مصلحة العقد ؛ كاشتراط صفة في الثمن ؛ كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به ، أو صفة في المثمن ؛ ككون العبد خصيا أو مسلما ، والأمة بكرا ، والدابة هملاجة ، وحكمه : أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع ، وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط ، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان :
الأول : أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش ، وهو الصحيح من المذهب .
والثاني : أنه ليس له إلا الفسخ .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد ؛ لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه ، فكان شبيها باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه ، وإذن يصح الشرط ويلزم الوفاء به ، فإن لم يف وتعذر استدراك ما(1/281)
فات تعين لمن اشترط شرطا جزائيا الأرش ، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما ، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه .
الثالث : شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، وليس منافيا لمقتضاه ؟ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا ، أو اشتراط المشتري خياطة الثوب ، وفي حكمه خلاف : قيل : يصح وقيل : لا يصح ، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط ، فهو مرتبط بالعقد حيث إنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالالتزام .
وأما الفاسدة فثلاثة أنواع :
أحدها : أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر ؛ كبيع أو إجارة أو نحو ذلك- فهذا الشرط غير صحيح ، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط ؟ قولان لأهل العلم : أشهرها : القول ببطلان العقد لبطلان الشرط ؟ لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنها ، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها : « حديث عائشة ، حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : اشتريها ، واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق » (1) متفق عليه ، فصحح الشراء مع إبطال الشرط .
ويمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).(1/282)
عليها ، وتوجيه ذلك : أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضة مغاير للعقد الأصلي ، فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها ، ويمكن أن يرد هذا : بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي ، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر ، فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني ؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا .
الثاني : من الشروط الفاسدة : شرط ينافي مقتضى العقد ، كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق ، فهذه الشروط باطلة ، وهل تبطل العقود المشتملة عليها ؟ قولان لأهل العلم ، وهما روايتان عن الإمام أحمد :
إحداهما : لا يبطل العقد ، وهو المذهب ، اختاره في [المغني] ، ونصره في [الشرح] ، وجزم به في [الوجيز] ، وقدمه في [الفروع] ؛ لحديث بريرة ، وإذا ألغي الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن .
وقيل : ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له .
ويمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط ، لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه .
الثالث : من الشروط الفاسدة : شرط يعلق به العقد ، كقوله : بعتك إن(1/283)
جئتني بكذا أو إن رضي فلان ، أو بقول الراهن : إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك ، فلا يصح المبيع ، وهذا هو المذهب ؛ لأن مقتضى العقد انعقاد البيع ، وهذا الشرط يمنعه ، وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؛ لأنه لم يخالف نصا ، ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط ، باعتباره عقد معاوضة مستقلا ، وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضة معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي ، فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط ، إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه ؛ لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهونا بوجود الشرط ، وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضة مستقلا معلقا نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي ؛ ذلك لأن النص في عقد المقاولة مثلا بعبارة : (إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا) يعتبر عقدا يشبه في الجملة عقد الرهن المتضمن قول الراهن : (إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك) ويمكن أن يرد على هذا : بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي ، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر ، فليس من قبيل : بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني ؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا .
ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط ، وكان ذلك مثار خلاف بين(1/284)
أئمة الفقهاء :
أ- بيع العربون : وهو : أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن ، وإن لم يأخذها فهو للبائع .
وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع ، واختلفوا فيه على قولين :
فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه .
قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله (1) : والعربون في البيع هو : أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن ، وإن لم يأخذها فذلك للبائع ، يقال : عربون وأربون وعربان وأربان ، قال أحمد : لا بأس به ، وفعله عمر رضي الله عنه ، وعن ابن عمر أنه أجازه ، وقال ابن سيرين : لا بأس به ، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا ، وقال أحمد : هذا في معناه .
واختار أبو الخطاب : أنه لا يصح ، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ؛ لأن « النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربون) » رواه ابن ماجه ، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح ، كما لو شرطه لأجنبي ، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول ، فإنه اشترط أن له رد
__________
(1) [المغني] ، (4\ 232\ 233) طبعة المنار .(1/285)
المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح ، كما لو قال : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما ، وهذا هو القياس ، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث : (أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية ، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا) قال الأثرم : قلت لأحمد : تذهب إليه ، قال : (أي شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه) ، وضعف الحديث المروي . روى هذه القصة الأثرم بإسناده .
فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال : (لا تبع هذه السلعة لغيري ، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك) ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ ، وحسب الدرهم من الثمن- صح ؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد ، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه ، فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس ، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم ؛ لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ، ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله ؛ لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه ، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة . اهـ .
وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين ، ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون - فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه (1) .
__________
(1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] ، (2\ 101 ، 102) .(1/286)
ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي :
إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون ؛ ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض ، وهذا شرط فاسد ، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم .
إن أحمد يجيز بيع العربون ، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر ، وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي : أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا . قال أحمد : هذا في معناه .
ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون ، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض ، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة ، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول ، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار . اهـ .
ويمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك .(1/287)
ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي :
أولا : في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن : عبد الرحمن بن فروخ السعد مولى عمر ، وهو مجهول العين ؛ لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار ؛ ولذا ترك مسلم الرواية عنه في [صحيحه] ، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات ، اللهم إلا أن يقال : إن الشهرة تقوم مقام راو آخر ، ذكر معنى ذلك ابن حجر في [تهذيب التهذيب] ، عن الحاكم .
ثانيا : هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلا بين نافع وصفوان ، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء ، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه .
ثالثا : دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا- تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه ، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال ، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال : إن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب ، بل هو مجتهد مطلق ، ويرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية .
رابعا : ذكر الأستاذ السنهوري : أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه ، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضا عنه ، هذا محل نظر ، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله .(1/288)
خامسا : لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة ، فكان شبهه بالخيار المجهول ثابتا .
ب- مسألة : ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له : (إن خطته اليوم فبعشرة ، أو خطته غدا فبتسعة) ، فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله ، ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه :
قوله : إن قال : إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح ؟ على روايتين : وأطلقهما في [الهداية] و [المذهب ] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [المغني] ، و [الشرح] ، و [الفائق] ، و [شرح ابن منجا ] ، و [الحاوي الصغير] ، إحداهما : لا يصح ، وهو المذهب ، والرواية الثانية : يصح وقدمه في [الرعايتين] ، اهـ (1) .
ج- مسألة : ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال : (إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة ، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة) ، فقال أحمد في رواية عبد الله : لا بأس به ، قال في [الفائق] : صح في الروايتين وجزم في [الوجيز] والمذهب ، وقدمه في [الرعايتين] ، و [الخلاصة] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم] (2) .
فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين (ب ، ج) يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير ، وهذا يشبهه الشرط
__________
(1) [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف] ، (6\ 18) .
(2) المرجع السابق (6\ 20) .(1/289)
الجزائي من حيث أن كلا منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفا في مبدأ العقد .
وقد يرد على ذلك : بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملا على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة ، وإنما هو عقد تخييري لحالين ، أي : حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها ، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة .
د- مسألة : ما إذا قال : (من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا) فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلا فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئا ؟
هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في [ المغني] ، فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل : وإن علقه بمدة معلولة فقال : ( من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار) ، أو (من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم) صح ؛ لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى . . . إلى أن قال : فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل ، ولا يلزمه شيء آخر ، وإن لم يف به فيها فلا شيء له . اهـ (1) .
وذكرها البهوتي رحمه الله في [ الكشاف] ، فقال :
ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة ، كأن يقول : (من خاط لي هذا
__________
(1) [المغني] ، (6\ 28) مطبعة الإمام .(1/290)
الثوب في يوم فله كذا ، فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر ، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له ) اهـ (1) .
فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل ، ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير ، وعليه فيمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث أن استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير .
هـ- المسألة التي حكم فيها القاضي شريح : والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها : روى البخاري في [صحيحه] ، بسنده عن ابن سيرين : أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم ، فلم يخرجوا فقال شريح : (من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه) اهـ .
فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية .
ويمكن أن يقال : بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع ، ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سدا لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله ، وسببا من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود ؛ تحقيقا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (2)
__________
(1) [كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (4\ 173) .
(2) سورة المائدة الآية 1(1/291)
هذا ومن الجدير بالذكر : أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط ، وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك ، وأقربها إلى قوة الدليل ، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله ، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى ؛ كالمذهب الحنفي والشافعي ، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد ، فبهذا يمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط ، فيعد من الشروط الصحيحة .
هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق . وصلى على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/292)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (25) وتاريخ 31\ 8\ 1394هـ .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28\ 10 و 14\ 11 \ 1393\هـ من الرغبة في دراسة موضوع (الشرط الجزائي)- فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة ، المنعقدة فيما بين 5 و 22\ 8 \ 1394 هـ في مدينة الطائف .
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد مداولة الرأي والمناقشة ، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه ، وتأمل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : « المسلمون على شروطهم ، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا » (2) ولقول عمر رضي الله عنه : (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح : من أن الأصل في الشروط الصحة ، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).(1/293)
أو قياسا .
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى :
صحيحة ، وفاسدة ، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع : أحدها : شرط يقتضيه العقد ؛ كاشتراط التقابض ، وحلول الثمن .
الثاني : شرط من مصلحة العقد ؛ كاشتراط صفة في الثمن ؛ كالتأجيل ، أو الرهن ، أو الكفيل به ، أو صفة في المثمن ، ككون الأمة بكرا .
الثالث : شرط فيه منفعة معلومة ، وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، ولا منافيا لمقتضاه ؛ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا .
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع :
أحدها : اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر ؛ كبيع ، أو إجارة ، أو نحو ذلك .
الثاني : اشتراط ما ينافي مقتضى العقد ، كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه ، أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق .
الثالث : الشرط الذي يتعلق به العقد ، كقوله : بعتك إن جاء فلان .
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها ، وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد ، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له ، والاستئناس بما رواه البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين : أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم(1/294)
فلم يخرج ، فقال شريح : (من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه) .
وقال أيوب عن ابن سيرين : أن رجلا باع طعاما وقال : إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع ، فلم يجئ ، فقال شريح للمشتري : (أنت أخلفت) فقضى عليه ، وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام ، حيث إن الإخلال به مظنة الضرر ، وتفويت المنافع ، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله ، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود ؟ تحقيقا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع :
أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر ، يجب الأخذ به ، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعا ، فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول .
وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا ، بحيث يراد به التهديد المالي ، ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية- فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف ، على حسب ما فات من منفعة ، أو لحق من مضرة .
ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر ؛ عملا بقوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (2) وقوله سبحانه : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة المائدة الآية 8(1/295)
وبقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد, وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).(1/296)
(5)
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية(1/297)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد (1)
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد ، وآله وبعد : فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء مسألة (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) .
وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، بحثا في الموضوع ، ونصه :
الحمد لله وحده ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء ، في دورته الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني ، عام 1393 هـ من البحث في الدورة الرابعة عن (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) .
وبناء على ما تقتضيه لائحة عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي عن المسألة التي تقرر عرضها على
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثالث ، ص 27- 124 ، لعام 1397 هـ .(1/299)
الهيئة- قامت اللجنة الدائمة بإعداد بحث في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، اشتمل على ما يلي :
1 - حكم الإقدام على جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، مع الأدلة ومناقشتها .
2 - ما يترتب على إيقاع الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، مع الأدلة ومناقشتها .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .(1/300)
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد
المسألة الأولى : حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة وفيه قولان :
القول الأول : أنه محرم ، وهو مذهب الحنفية والمالكية ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، وقول شيخ الإسلام وابن القيم :
أما المذهب الحنفي : فقال الكاساني في الكلام على طلاق البدعة (1) : وأما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه ، سواء كان على الجمع : بأن أوقع الثلاث جملة واحدة ، أو على التفاريق واحدا بعد واحد ، بعد أن كان الكل في طهر واحد . وهذا قول أصحابنا :
ولنا الكتاب والسنة والمعقول :
أما الكتاب : فقوله عز وجل : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) أي : في أطهار عدتهن ، وهو الثلاث في ثلاثة أطهار ، كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق ، والأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع ، ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده- وهو : الجمع- نهي تحريم ، وإن كان أمر ندب ، كان نهيا عن ضده- وهو : الجمع- نهي ندب ، وكل
__________
(1) [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] ، (3\ 94 ، 95) .
(2) سورة الطلاق الآية 1(1/301)
ذلك حجة على المخالف ؛ لأن الأول يدل على التحريم ، والآخر يدل على الكراهة ، وهو لا يقول بشيء من ذلك .
وقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) أي : دفعتان ، ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين ، لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين .
وجه الاستدلال : أن هذا إن كان ظاهره الخبر ، فإن معناه : الأمر ؛ لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف ، لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد ، وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الأمر ، قال الله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } (2) أي : ليرضعن ، ونحو ذلك ، كذا هذا ، فصار كأنه سبحانه وتعالى قال : طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق ، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع ؛ لأنه ضده ، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا .
فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم ؛ لأنه ذكر جنس الطلاق ، وجنس الطلاق ثلاث ، والثلاث إذا وقع دفعتين ، كان الواقع في دفعة طلقتان ، فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين .
فالجواب : أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث ، لا بتفريق الثلاث ؛ لأنه أمر بالرجعة عقب الطلاق مرتين- أي : دفعتين- بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } (3) أي : وهو الرجعة ، وتفريق الطلاق- وهو إيقاعه
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) سورة البقرة الآية 229(1/302)
دفعتين- لا يتعقب الرجعة ، فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث ، لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث ، والأمر بتفريق طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما .
وأما السنة : فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تزوجوا ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن » (1) ، نهى صلى الله عليه وسلم عن الطلاق ، ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه ؛ لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي ، فعلم أن هاهنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه ، فكان النهي عنه لا عن الطلاق ، ولا يجوز أن يمنع من الشرع لمكان الحرام الملازم له ، كما في الطلاق في حالة الحيض ، والبيع وقت النداء ، والصلاة في الأرض المغصوبة ، وغير ذلك .
وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه : أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا ، وأجاز ذلك عليه ، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا .
وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها ؛ أن النكاح عقد مصلحة ؛ لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا ، والطلاق إبطال له ، وإبطال المصلحة مفسدة ، وقد قال الله عز وجل : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (2) وهذا معنى الكراهة الشرعية
__________
(1) رواه ابن عدي في [الكامل] من طريق علي بن أبي طالب ، وقال السيوطي في [الجامع الصغير] : ضعيف .
(2) سورة البقرة الآية 205(1/303)
عندنا : أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به ، إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة ؛ لعدم توافق الأخلاق ، وتباين الطبائع ، أو لفساد يرجع إلى نكاحها ، بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة ، أو أن المقام معها يسبب فساد دينه ودنياه ، فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى ، إلا أن احتمال أنه لم يتأمل . حق التأمل ، ولم ينظر حق النظر في العاقبة قائم ، فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر ، وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية ، حتى أن التباين والفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق ، وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه ، أنه هل يمكنه الصبر عنها ؛ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها ، وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا ، ويجرب نفسه ، ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا ؛ لأنه لا يلحقه الندم غالبا ، فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة ، وصيرورة المصلحة في الطلاق ، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب ، وليست حالة الغضب حالة التأمل ، لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة ، فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر ، فكان مفسدة .
والثاني : أن النكاح عقد مسنون ، بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح ، فكان الطلاق قطعا للسنة ، وتفويتا للواجب ، فكان الأصل هو الحظر أو الكراهة ، إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص ، والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية ؛ لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها ، فإذا ذاقت(1/304)
مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح ، والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار ، والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة ، وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد ، فبقي ذلك على أصل الحظر . والثالث : أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم ، وقال الله تعالى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1) قيل في التفسير : أي : ندامة على ما سبق من فعله ، أو رغبة فيها ، ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح ، فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام ، وليس في الامتناع ذلك ، والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا ، بخلاف الطلقة الواحدة ؛ لأنها لا تمنع التدارك بالرجعة ، وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار ؛ لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا ؛ لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم . انتهى المقصود .
وقال السرخسي : وعلى هذا الأصل- أي : توجيه إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار - قال علماؤنا رحمهم الله : إيقاع الثلاث جملة بدعة .
وبعد أن ساق مذهب الشافعي في إباحته وأدلته (2) ، ساق الدليل على تحريمه ، وهو قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) قال : معناه : دفعتان ، كقوله : أعطيته مرتين ، وضربته مرتين ، والألف واللام للجنس ، فيقتضي
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [المبسوط] (6\4) وما بعدها ، ويرجع أيضا إلى [فتح القدير] ، (3\ 26) وما بعدها .
(3) سورة البقرة الآية 229(1/305)
أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ، ودفعة ثالثة في قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (1) أو في قوله عز وجل : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير ، وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى : « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا . فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (3) .
واللعب بكتاب الله : ترك العمل به ، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب ، وأن المراد من قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (4) تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ، ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة ؟ وفائدته : التفريق ، فإنه قال : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (5) أي : يبدو له فيراجعها ، وذلك عند التفريق لا عند الجمع .
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه « أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن أبانا طلق امرأته ألفا . فقال صلى الله عليه وسلم : بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى ، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة » .
وإن « ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، فقال : أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سنن النسائي الطلاق (3401).
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 1(1/306)
تحل لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، بانت منك وهي معصية » (1) .
وبعد أن بين وجه الرد على استدلال الشافعي رحمه الله بقصة لعان عويمر العجلاني ، وأنه طلق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم قال : ولنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فقد روي عن علي ، وعمر ، وابن مسعود ، وابن عباس وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم : كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة .
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال : لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة ، إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه ، مهلا مهلا بارك الله عليكم ، فيكم كتاب الله وسنة رسوله ، فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة ؟
قال الكرخي : لا أعرف بين أهل العلم خلافا : أن إيقاع الثلاث جملة مكروه ، إلا قول ابن سيرين ، وإن قوله ليس بحجة .
ثم ساق الرد على ما استدل به الشافعي من الآثار ، ثم ذكر بعد ذلك دليلا من جهة المعنى ، وقد سبق ما يوافقه عن الكاساني .
وقال الطحاوي (2) : حدثنا ابن مرزوق قال : ثنا وهب ، قال : ثنا شعبة ، عن ابن أبي نجيح ، وحميد الأعرج ، عن مجاهد : أن رجلا قال لابن عباس : رجل طلق امرأته مائة ؟ فقال : عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن الترمذي الطلاق (1175),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2179),سنن ابن ماجه الطلاق (2019),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).
(2) [شرح معاني الآثار] (2\30) .(1/307)
لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ، من يتق الله يجعل له مخرجا ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1)
المذهب المالكي :
أما المذهب المالكي فهذه بعض نقول عنه :
قال سحنون : قلت لعبد الرحمن بن القاسم : هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، كان يكرهه أشد الكراهية (2) .
وقال محمد بن أحمد بن رشد : وكذلك لا يجوز عند مالك أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة ، فإن فعل لزمه ذلك ، بدليل قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } (3) وقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (4) وهي : الرجعة ، فجلعها فائتة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة ، إذ لو لم يقع ولم يلزمه لم تفته الزوجة ، ولا كان ظالما لنفسه (5) انتهى المقصود .
وقال الباجي (6) : فأما العدد فإنه لا يحل أن يوقع أكثر من طلقة واحدة ، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلق بغير سنة . . . والدليل على ما نقوله قوله
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [المدونة] (2\66) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) [المقدمات] وهي مع [المدونة] (2\78) .
(6) [المنتقى] (4\3) .(1/308)
تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
ولا يخلو أن يكون أمرا بصفة الطلاق ، والأمر يقتضي الوجوب ، أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي ، ومن أصحابنا من قال : إن الألف واللام تكون للحصر ، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه .
فإن قيل : المراد بذلك الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان ، وأن ما زاد عليه ليس برجعي ، قالوا : يدل على ذلك أنه قال بعد ذلك : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكم الطلقتين ، فقال : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) وإذا كان المراد ما ذكرناه من الإخبار عن الطلاق الرجعي لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره .
فالجواب : أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل ؛ لأنكم تضمرون الرجعي ، وتقولون : معناه : الطلاق الرجعي مرتان ، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديها إلا بدليل .
وجواب ثان : وهو : أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال : الطلاق طلقتان ؛ لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين ، فلما قال : { مَرَّتَانِ } (4) - ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا-
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 229(1/309)
ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه ، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه .
فإن قالوا : إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل ، يدل على ذلك قوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (1) ولم يرد في تفريق الأجر ، وإنما أراد تضعيف العدد .
فالجواب : أن قوله : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (2) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد ، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم ، يدل على ذلك أنك تقول : لقيت فلانا مرتين ، فيقتضي تكرار الفعل ، وكذلك قوله : دخلت مصر مرتين ، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له- لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل .
وجواب آخر : وهو أن الفضل قال : معنى { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) (مرة بعد مرة في الجنة) . فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه ، ولا عدل به عن حقيقته .
وإن قلنا : إن معناه : التضعيف في ماله وأجره : فالفرق بينهما : أن قوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (4) يفيد التضعيف ، ويمنع الاقتصار على ضعف واحد ، ولو كان معنى قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (5) يريد به : التضعيف ، لمنع من إيقاع طلقة واحدة ، وإلا بطل معنى التضعيف ، وهذا باطل باتفاقنا .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 229(1/310)
ودليلنا من جهة السنة : ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد قال : « أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال : فعلته لاعبا ؟ ثم قال : تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا أقتله » (1) ؟ !
ودليلنا من جهة القياس : أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان .
أما مذهب الحنابلة : فقد قال ابن قدامة : والرواية الثانية : أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم ، اختارها أبو بكر وأبو حفص ، روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة .
قال علي رضي الله عنه : لا يطلق أحد للسنة فيندم ، وفي رواية قال : يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا .
وعن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلى ابن عباس قال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان ، فلم يجعل الله له مخرجا .
ووجه ذلك : قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (2) إلى قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 1(1/311)
ثم قال بعد ذلك : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (2) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث ، ولا يجعل الله له مخرجا ، ولا من أمره يسرا ، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد ، وقد سبق في استدلال المالكية ، وفي حديث ابن عمر قال : « قلت : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال : إذا عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك » (3) .
وروى الدارقطني بإسناده ، عن علي قال : « سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب ، وقال : تتخذون آيات الله هزوا ، أو دين الله هزوا أو لعبا ، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا ، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . »
ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة ، فحرم كالظهار ، بل هذا أولى ؛ لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير ، وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال ، ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة ، فيدخل في عموم النهي ، وربما كان وسيلة إلى عودة إليها حراما أو بحيلة لا تزيل التحريم ، ووقوع الندم ، وخسارة الدنيا والآخرة ، فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة ، أو الطلاق في طهر مسها فيه ، الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل ، فإن ضرر جمع
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سنن النسائي الطلاق (3557),مسند أحمد بن حنبل (2/6).(1/312)
الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة ، فالتحريم ثم تنبيه على التحريم هاهنا .
ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، رواه الأثرم وغيره ، ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم ، فيكون ذلك إجماعا (1) .
وقال شيخ الإسلام : وأما جمع (الطلقات الثلاث ) ففيه قولان :
القول الأول : محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، واختاره أكثر أصحابه ، وقال أحمد : تدبرت القرآن ، فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي- يعني : طلاق المدخول بها- غير قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2)
وعلى هذا القول : فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار ، فيطلقها في كل طهر طلقة ؟
فيه قولان ، هما روايتان عن أحمد .
إحداهما : له ذلك ، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة .
والثانية : ليس له ذلك ، وهو قول أكثر السلف ، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه ؟ كأبي بكر عبد العزيز ، والقاضي أبي يعلى وأصحابه .
__________
(1) [المغني مع الشرح الكبير] (8\240, 241)
(2) سورة البقرة الآية 230(1/313)
القول الثاني : أن جمع الثلاث ليس بمحرم ، بل هو ترك الأفضل ، وهو مذهب الشافعي ، والرواية الأخرى عن أحمد : اختارها الخرقي .
واحتجوا : بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا ، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا ، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
وأجاب الأكثرون : بأن حديث فاطمة ، وامرأة رفاعة ، إنما طلقاهما ثلاثا متفرقات ، هكذا ثبت في الصحيح : أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات ، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات ، وقول الصحابي : طلق ثلاثا ، يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ، ثم يطلقها ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة ، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا ، وأما جمع الثلاث بكلمة ، فهذا كان منكرا عندهم ، إنما يقع قليلا ، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق ، ولا يجوز أن يقال : يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل ، بل هو بخلاف الدليل .
وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة ، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة ، فكان مؤكدا لموجب اللعان ، والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها ، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما ، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها ، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح ، والمعروف : أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا ، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها ، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت(1/314)
عليه حتى تنكح زوجا غيره .
وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ؛ لأنهما صارا أجنبيين ، ولكن غاية ما يمكن أن يقال : حرمها عليه تحريما مؤبدا ، فيقال : فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما ، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح ، وأن الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما إذا قيل : إنه يقع بها واحدة رجعية ، فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما .
وقول سهل بن سعد : طلقها ثلاثا ، فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك ، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أنه تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده ، بل زاده ، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق ، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره ، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة .
واستدل الأكثرون : بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي ، وإلا الطلاق للعدة ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (1) إلى قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (2) { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (3) وهذا إنما يكون في الرجعي . وقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (4)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 1(1/315)
يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها ؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة : أي : لاستقبال العدة ، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين . فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر ، فإن هذا قول ضعيف ؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها ، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها ، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر ، كما جاءت بذلك الآثار .
ودل على أنه كان مستقرا عند الله : أن العدة لا تستأنف بدون رجعة ، سواء كان ذلك ؛ لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة ، أو يقع ولا يستأنف له العدة ، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة . فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة ، إذا كان بعد الدخول ، كما دل عليه القرآن ، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد ، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول : إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة ، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان ، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا . فلم يكن ذلك طلاقا للعدة ، ولأنه تعالى قال : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (1) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان ، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2(1/316)
العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان .
وقد قال الله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (1) فهذا يقتضي : أن هذا حال كل مطلقة ، فلم يشرع إلا هذا الطلاق ، ثم قال : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) أي : هذا الطلاق المذكور (مرتان) ، وإذا قيل : سبح مرتين أو ثلاث مرات : لم يجزه أن يقول : سبحان الله مرتين ، بل لا بد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة ، فكذلك لا يقال : طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثا أو مرتين لم يجز أن يقال : ثلاث مرات ولا مرتين ، وإن جاز أن يقال : طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين ، ثم قال سبحانه بعد ذلك : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين . وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (4) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث ، وهو يعم كل طلاق ، فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع . ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ، كما هو مبسوط في موضعه .
وسبب ذلك أن ( الأصل في الطلاق الحظر) وإنما أبيح منه قدر الحاجة
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 232(1/317)
كما ثبت في [ الصحيح] عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن إبليس ينصب عرشه على البحر ، ويبعث سراياه ، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ، فيأتيه الشيطان فيقول : ما زلت به حتى فعل كذا ، حتى يأتيه الشيطان فيقول : ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته ، فيدنيه منه ، ويقول : أنت أنت ويلتزمه » (1) .
وقد قال تعالى في ذم السحر : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } (2) وفي [السنن ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات » (3) . وفي [ السنن ] أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » (4) . ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات ، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، وإذا كان إنما أبيح للحاجة ، فالحاجة تندفع بواحدة ، فما زاد فهو باق على الحظر . اهـ (5) .
وقال ابن القيم : فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة . قد تقدم حديث محمود بن لبيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، فقام مغضبا ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (6) وإسناده على شرط مسلم ، قال ابن وهب : قد رواه مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه . قال : سمعت محمود بن لبيد ، فذكره ، ومخرمة ثقة بلا شك . وقد احتج مسلم في [صحيحه] بحديثه عن أبيه .
والذين أعلوه ، قالوا : لم يسمع منه ، وإنما هو كتاب . قال أبو طالب :
__________
(1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2813),مسند أحمد بن حنبل (3/315).
(2) سورة البقرة الآية 102
(3) سنن النسائي الطلاق (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/414).
(4) سنن الترمذي الطلاق (1187),سنن أبو داود الطلاق (2226),سنن ابن ماجه الطلاق (2055),مسند أحمد بن حنبل (5/283),سنن الدارمي الطلاق (2270).
(5) [مجموع الفتاوى] (33\ 76-81)
(6) سنن النسائي الطلاق (3401).(1/318)
سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير ، فقال : هو ثقة ولم يسمع من أبيه ، وإنما هو كتاب مخرمة ، فنظر فيه كل شيء يقول : (بلغني عن سليمان بن يسار ) فهو من كتاب مخرمة . وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه ، وقال في رواية عباس الدوري : هو ضعيف ، وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه ، وقال أبو داود : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر . وقال سعيد بن أبي مريم ، عن خاله موسى بن سلمة : أتيت مخرمة فقلت : حدثك أبوك ؟ فقال : لم أدرك أبي ، ولكن هذه كتبه .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظ مضبوط ، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به ، أو رآه في كتابه ، بل الأخذ عن النسخة أحوط ، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها .
وهذه طريقة الصحابة والسلف ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بكتبه إلى الملوك ، وتقوم عليهم بها الحجة ، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها ، واحتجوا بها ، ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله ، وعملت به الأمة . وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ، ويقول المكتوب إليه : كتب إلي فلان : أن فلانا أخبره .
ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير ، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ ، والحفظ خوان ، والنسخة ولا(1/319)
تخون ، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة : أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب ، وقال : لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله ، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كاتبه .
الجواب الثاني : أن قول من قال : (لم يسمع من أبيه) معارض بقول من قال : (سمع منه) ومعه زيادة علم وإثبات . قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : صالح الحديث . قال : وقال ابن أبي ذئب : وحدث في ظهر كتاب مالك : سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ، فحلف لي : ورب هذه البنية- يعني : المسجد- سمعت من أبي .
وقال علي بن المديني : سمعت معن بن عيسى يقول : مخرمة سمع من أبيه ، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار ، وقال علي : ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير ، ولم أجد أحدا في المدينة ومخرمة يخبرني عن مخرمة بن بكير : أنه كان يقول في شيء من حديثه : (سمعت أبي) ومخرمة ثقة . . انتهى . ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في [موطئه] وكان يقول : حدثني مخرمة ، وكان رجلا صالحا .
وقال أبو حاتم : سألت إسماعيل بن أبي أويس ، قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدثني الثقة من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير ، وقيل لأحمد بن صالح المصري : كان مخرمة من ثقات الرجال ؟ قال : نعم . وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة : أحاديث حسان(1/320)
مستقيمة ، وأرجو أنه لا بأس به .
وفي [صحيح مسلم ] قول ابن عمر للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك ، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به ، وتفسير الصحابي حجة ، وقال الحاكم : هو عندنا مرفوع .
ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول ، هو الطلاق الذي تملك به الرجعة ، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة ، قال تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1)
ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبره ثلاثا وثلاثين » (2) ونظائره ، فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال ، يتلو بعضه بعضا ، فلو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين ، والحمد لله ثلاثا وثلاثين ، والله أكبر ثلاثا وثلاثين- بهذا اللفظ- لكان ثلاث مرات فقط ، وأصرح من هذا قوله سبحانه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (3) فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات بالله ، إني لمن الصادقين ، كانت مرة ، وكذلك قوله : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } (4) فلو قالت :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597),سنن أبو داود الصلاة (1504),مسند أحمد بن حنبل (2/371),موطأ مالك النداء للصلاة (488).
(3) سورة النور الآية 6
(4) سورة النور الآية 8(1/321)
أشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين كانت واحدة .
وأصرح من ذلك قوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } (1) فهذا مرة بعد مرة . ولا ينقض هذا بقوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (2) وقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين » (3) . فإن المرتين هنا : هما : الضعفان ، وهما المثلان ، وهما مثلان في القدر ، كقوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } (4) وقوله تعالى : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } (5) أي : ضعف ما يعذب به غيرها ، وضعف ما كانت تؤتي ، ومن هذا قول أنس : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين » (6) أي : شقتين وفرقتين ، كما قال في اللفظ الآخر : « انشق القمر فلقتين » (7) وهذا أمر معلوم قطعا : أنه إنما انشق القمر مرة واحدة ، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزءين ومرتين في المضاعفة ، فالثاني يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ، والأول لا يتصور فيه ذلك .
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة ، أنه قال : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (8) إلى أن قال : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } (9) فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول ، فالمطلق
__________
(1) سورة التوبة الآية 101
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2849),صحيح مسلم الإيمان (154),سنن الترمذي النكاح (1116),سنن النسائي النكاح (3344),سنن ابن ماجه النكاح (1956),مسند أحمد بن حنبل (4/405),سنن الدارمي النكاح (2244).
(4) سورة الأحزاب الآية 30
(5) سورة البقرة الآية 265
(6) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2802),سنن الترمذي تفسير القرآن (3286),مسند أحمد بن حنبل (3/275).
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4583),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801),سنن الترمذي تفسير القرآن (3285),مسند أحمد بن حنبل (1/447).
(8) سورة البقرة الآية 228
(9) سورة البقرة الآية 228(1/322)
أحق فيه بالرجعة ، سوى الثالثة المذكورة بعد هذا .
وكذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (2) فهذا هو الطلاق المشروع ، وقد ذكر الله سبحانه أقسام الطلاق كلها في القرآن ، وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه ، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره ، وذكر طلاق الفدا الذي هو الخلع ، وسماه : فدية ، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم ، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحق للمطلق فيه الرجعة ، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة .
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما ، على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة ، وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائنة ، كانت رجعية ، ويلغو وصفها بالبينونة ، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض ، وأما أبو حنيفة فقال : تبين بذلك ؛ لأن الرجعة حق له وقد أسقطها ، والجمهور يقولون : وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها ، وبذلها العوض ، وسؤالها أن تفتدي نفسها بغير عوض في أحد القولين ، وهو جواز الخلع بغير عوض ، وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض- فخلاف النص والقياس .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2(1/323)
قالوا : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد ، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويرجعها ، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة ، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث ، وقصر الزوج عليها ، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها ، فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه ، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث ، فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده ، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها ، كان خلاف شرعه وحكمته ، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة ، بل إنما ملك واحدة ، فالزائد عليها غير مأذون له فيه .
قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه ، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف ما شرعه .
ونكتة المسألة : أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين :
(أحدهما) : طلاق غير المدخول بها .
(والثاني) : الطلقة الثالثة ، وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة . هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره ، وهذا قول الجمهور ، منهم : الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر .
قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع ، ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال : أنت طالق طلقة لا رجعة فيها- وساقها رحمه الله-(1/324)
هل هي ثلاث ، أو خلع بدون عوض ، أو واحدة بائنة ؟ (1) .
وقد أجاب ابن حزم رحمه الله في كتابه [المحلى] عن ذلك بقوله (2) : أما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط ، ثم نسألهم عمن طلق مرة ، ثم راجع ، ثم مرة ، ثم راجع ثانية ، ثم ثالثة ، أببدعة أتى ؟ فمن قولهم : لا ، بل بسنة ، فنسألهم : أتحكمون له بما في الآيات المذكورات ؟ فمن قولهم : لا ، بلا خلاف .
فصح أن المقصود- في الآيات ، المذكورات- من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا ، فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا .
وأما قولهم : معنى قوله : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) أن معناه : مرة بعد مرة ، فخطأ ، بل هذه الآية كقوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (4) أي : مضاعفا معا ، وهذه الآية أيضا تصلح لما دون الثلاث من الطلاق ، وهو حجة لنا عليهم ؛ لأنهم لا يختلفون- يعني : المخالفين لنا- في أن طلاق السنة هو : أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم ، وفي قول آخرين منهم : أن يطلقها في كل طهر طلقة ، وليس شيء من هذا في هذه الآية ، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل : طلاق سنة ، فبطل تعلقهم بقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (5)
__________
(1) [زاد المعاد] (4\100) وما بعدها .
(2) انظر [المحلى] لابن حزم (10\167 ، 168) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 229(1/325)
وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل ، ولا حجة في مرسل ، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا .
ويعني ابن حزم بالإرسال : ما قرره الحافظ ابن حجر (1) ، وهو : أن محمود بن لبيد ، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية . . وقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع .
وقال الحافظ (2) : ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال : سمع من عمر ، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين ، وكان ثقة قليل الحديث ، كما ذكر الحافظ : أن الترمذي قال فيه : (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير) .
وقال ابن أبي حاتم : قال البخاري : له صحبة ، فسخط أبي عليه ، وقال : لا يعرف له صحبة ، روى عن ابن عباس ، روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة : سمعت أبي يقول ذلك . سئل أبو زرعة عن محمود بن لبيد ؟ فقال : روى عن ابن عباس ، وروى عنه الحارث بن فضيل ، مديني أنصاري ثقة ، وفي رواية مخرمة عن أبيه كلام كثير . اهـ (3)
__________
(1) انظر [فتح الباري] (9\ 97) .
(2) انظر [تهذيب التهذيب] (10\ 66) .
(3) انظر [الجرح والتعديل] للإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (8\290 ، 298) .(1/326)
الثاني من قولي العلماء في الإقدام على جمع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة : أنه ليس بمحرم ولا بدعة ، بل سنة ، وهو قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ، وجماعة من أهل الظاهر ، كما في [زاد المعاد] ، ونكتفي بإيراد كلام الشافعي في [الأم] ، وابن حزم في [المحلى] .
قال الإمام الشافعي : ( الخلاف في الطلاق الثلاث ) :
عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس ، « أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء . فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : ليس لك عليه نفقة » (1) .
قال الشافعي رحمه الله : وأبو عمرو رضي الله عنهما طلق امرأته البتة وعلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط نفقتها ؛ لأنه لا رجعة له عليها ، والبتة التي لا رجعة له عليها ثلاث ، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم طلاق الثلاث ، وحكم فيما سواها من الطلاق بالنفقة والسكنى . فإن قال قائل : ما دل على أن البتة ثلاث فهو لو لم يكن سمى أبو عمرو رضي الله عنهما ثلاثا البتة ، أو نوى بالبتة ثلاثا ، كانت واحدة يملك الرجعة وعليه نفقتها .
ومن زعم أن البتة ثلاث بلا نية المطلق ، ولا تسمية ثلاث ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يعب الطلاق الذي هو ثلاث دليل على أن الطلاق بيد الزوج ، ما أبقى منه أبقى لنفسه ، وما أخرج منه من يده لزمه غير محرم
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),موطأ مالك الطلاق (1234).(1/327)
عليه ، كما لا يحرم عليه أن يعتق رقبة ، وألا يخرج من ماله صدقة ، وقد يقال له : لو أبقيت ما تستغني به عن الناس كان خيرا لك .
فإن قال قائل : ما دل على أن أبا عمرو لا يعدو أن يكون سمى ثلاثا ، أو نوى بالبتة ثلاثا ؟ قلنا : الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع ، عن عبد الله بن علي بن السائب ، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد : أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني طلقت امرأتي سهيمة البتة ، والله ما أردت إلا واحدة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة : « والله ما أردت إلا واحدة ؟ » (1) فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمان عمر ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، أنه أخبره : « أنه تلاعن عويمر وامرأته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع الناس ، فلما فرغا من ملاعنتهما ، قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . » (2) قال مالك : قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين .
قال الشافعي رحمه الله : فقد طلق عويمر ثلاثا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك محرما لنهاه عنه ، وقال : إن الطلاق وإن لزمك فأنت عاص بأن تجمع ثلاثا ، فافعل كذا ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، حين طلق امرأته حائضا ، أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، فلا يقر النبي
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن أبو داود الطلاق (2245),موطأ مالك الطلاق (1201).(1/328)
صلى الله عليه وسلم بطلاق لا يفعله أحد بين يديه ، إلا نهاه عنه ؛ لأنه العلم بين الحق والباطل ، لا باطل بين يديه إلا يغيره .
قال الشافعي : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول : أخبرني المطلب بن حنطب ، أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ قال : قد فعلته فتلا : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } (1) ما حملك على ذلك ؟ قال : قد فعلته قال : أمسك عليك امرأتك ، فإن الواحدة تبت .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سليمان بن يسار : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للتوءمة مثل ما قال للمطلب .
قال الشافعي : أخبرنا الثقة ، عن الليث بن سعد ، عن بكير عن سليمان :
أن رجلا من بني زريق طلق امرأته البتة ، قال عمر : ما أردت بذلك ؟ قال : أتراني أقيم على حرام والنساء كثير ؟ فأحلفه فحلف .
قال الشافعي رحمه الله : أراه قال ، فردها عليه . قال : وهذا الخبر في الحديث في الزرقي ، يدل على أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمطلب : ما أردت بذلك ؟ يريد : أواحدة أو ثلاثا ؟ فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة في عدد الطلاق ، وأنه قال : بلا نية زيادة ، ألزمه واحدة ، وهي أقل
__________
(1) سورة النساء الآية 66(1/329)
الطلاق ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } (1) لو طلق فلم يذكر البتة ، إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق تحتمل صفة الطلاق وزيادة في عدده ، ومعنى غير ذلك ، فنهاه عن المشكل من القول ، ولم ينهه عن الطلاق ، ولم يعبه ولم يقل له : لو أردت ثلاثا كان مكروها عليك ، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو أراد أكثر من واحدة ألزمه ذلك .
أخبرنا الربيع : قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، وكان أعلمهم بذلك ، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض ، فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن امرأة عبد الرحمن نشدته الطلاق ، فقال : إذا حضت ثم طهرت فآذنيني ، فطهرت وهو مريض فآذنته ، فطلقها ثلاثا .
قال الشافعي رحمه الله : والبتة في حديث مالك بيان هذا الحديث ثلاثا ، لما وصفنا من أن يقول : طالق البتة ينوي ثلاثا ، وقد بينه ابن سيرين فقطع موضع الشك فيه .
أخبرنا الربيع ، قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير ، قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، ثم بدا له أن ينكحها ،
__________
(1) سورة النساء الآية 66(1/330)
فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له ، فسأل أبا هريرة ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك ؟ فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك . قال : إنما كان طلاقي إياها واحدة ، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل .
قال الشافعي رحمه الله : وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا ، ولو كان ذلك معيبا ، لقالا له : لزمك الطلاق وبئسما صنعت ، ثم سمى حين راجعه ، فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ، ولم يقل : بئسما صنعت ، ولا حرجت في إرساله .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بكير ، عن النعمان بن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو : عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها ، قال عطاء : فقلت : إنما طلاق البكر واحدة . فقال عبد الله بن عمرو : إنما أنت قاض ، الواحدة تبينها ، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره . ولم يقل له عبد الله : بئسما صنعت حين طلقت ثلاثا .
أخبرنا الربيع : قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ، أن بكيرا أخبره عن النعمان بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير ، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال : إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، فماذا تريان ؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول ، اذهب إلى ابن عباس(1/331)
وأبي هريرة ، فإني تركتهما عند عائشة فسلهما ؟ ثم ائتنا فأخبرنا . فذهب فسألهما ؟ فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة ، فقد جاءتك معضلة ، فقال أبو هريرة رضي الله عنه : الواحدة تبينها ، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره .
وقال ابن عباس مثيل ذلك ولم يعيبا عليه الثلاث ولا عائشة .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة : أن مولاة لبني عدي يقال لها : زيراء ، أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي يومئذ أمة ، فعتقت ، فقالت : فأرسلت إلي حفصة فدعتني يومئذ ، فقالت : إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا ، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك ، فقالت : ففارقته ثلاثا ، فلم تقل لها حفصة : لا يجوز لك أن تطلقي ثلاثا . ولو كان ذلك معيبا على الرجل ، إذا لكان ذلك معيبا عليها إذا كان بيدها فيه ما بيده .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن جهمان ، عن أم بكرة الأسلمية : أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد ، ثم أتيا عثمان في ذلك فقال : هي تطليقة ، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت . فعثمان رضي الله عنه يخبره : أنه إن سمى أكثر من واحدة كان ما سمى ، ولا يقول له : لا ينبغي لك أن تسمي أكثر من واحدة ؟ بل في هذا القول دلالة على أنه جائز له أن يسمي أكثر من واحدة .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن عمر بن عبد العزيز(1/332)
رضي الله عنه قال : البتة ما يقول الناس فيها ؟ فقال أبو بكر : فقلت له : كان أبان بن عثمان يجلعها واحدة ، فقال عمر : لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا ، من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى .
قال الشافعي : ولم يحك عن واحد منهم على اختلافهم في البتة أنه عاب البتة ولا عاب ثلاثا .
قال الشافعي : قال مالك في المخيرة : إن خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا ، وإن قال زوجها : لم أخيرك إلا في واحدة فليس له في ذلك قول ، وهذا أحسن ما سمعت .
قال الشافعي : فإذا كان مالك يزعم أن من مضى من سلف هذه الأمة قد خيروا ، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيار إذا ختارت المرأة نفسها يكون ثلاثا ، كان ينبغي بزعمهم أن الخيار لا يحل ؛ لأنها إذا اختارت كان ثلاثا ، وإذا زعم أن الخيار يحل وهي إذا اختارت نفسها طلقت ثلاثا فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز طلاق ثلاث ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد ، أن سعيد بن جبير أخبره : أن رجلا أتى ابن عباس فقال : طلقت امرأتي مائة ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين .
قال الشافعي : أخبرنا سعيد ، عن ابن جريج : أن عطاء ومجاهدا قالا : إن رجلا أتى ابن عباس ، فقال : طلقت امرأتي مائة ، فقال ابن عباس : تأخذ(1/333)
ثلاثا وتدع سبعا وتسعين .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن عطاء وحده ، عن ابن عباس أنه قال : وسبعا وتسعين عدوانا ، اتخذت بها آيات الله هزوا ، فعاب عليه ابن عباس كل ما زاد عن عدد الطلاق الذي لم يجعله الله إليه ولم يعب عليه ما جعل الله إليه من الثلاث ، وفي هذا دلالة على أنه يجوز له عنده أن يطلق ثلاثا ، ولا يجوز له ما لم يكن إليه . اهـ (1) .
المذهب الحنبلي
وأما المذهب الحنبلي : فقد قال ابن قدامة : اختلفت الرواية عن أحمد في جمع الثلاث ، فروي عنه أنه غير محرم اختاره الخرقي ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي ثور وداود ، وروي ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف ، والشعبي ؛ لأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال : « كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) متفق عليه . ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن عائشة : « أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي » (3) متفق عليه ، وفي حديث فاطمة بنت قيس : أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ، ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء (4)
__________
(1) [الأم] للإمام الشافعي (5\ 122- 124) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2245),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(3) صحيح البخاري الطلاق (4960),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] ، ( 8\ 240) .(1/334)
وقد أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بالإباحة جوابا إجماليا :
فقال : وأما حديث المتلاعنين فغير لازم ؛ لأن الفرقة لم تقع بالطلاق ، فإنها وقعت بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه .
ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا ، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره ، ولأن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من الندم ، ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها ، ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان .
وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقرا عليه ، ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لينكر عليه . على أن حديث فاطمة قد جاء فيه : أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، متفق عليه ، فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث . ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلقها في كل قرء طلقة ، والأولى أولى ، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله سبحانه ، وموافقة لقول السلف ، وأمنا من الندم ، فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها . (1)
وقال ابن حزم : وجدنا من حجة من قال : إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة لا بدعة ، قول الله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2)
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 242) .
(2) سورة البقرة الآية 230(1/335)
فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة ، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص .
وكذلك قوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (1) عموم لإباحة الثلاث والاثنتين والواحدة . وقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } (2) فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا .
ووجدنا ما رويناه من طريق مالك ، عن ابن شهاب : أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث التعان عويمر العجلاني مع امرأته ، وفي آخره أنه قال : (كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها) فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد : لو كانت طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى ، لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة .
وقال بعض أصحابنا : لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته ، أو طلقها وقد حرمت عليه ووجب التفريق بينهما ، فإن كان طلقها وهي
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 49
(2) سورة البقرة الآية 241(1/336)
امرأته ، فليس هذا قولكم ؛ لأن قولكم إنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد ، وإن كان طلقها أجنبية فإنما نحن فيمن طلق امرأته لا فيمن طلق أجنبية . فقلنا : إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد ، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاعتراض ، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته : ولا يشك أنها في عصمته فقط . فإن قالوا : ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة . فقلنا : نعم ، هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر ، فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة .
ومن طريق البخاري ، نا محمد بن بشار ، نا يحيى هو ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، نا القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : « إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ قال : لا ، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال ، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك . وخبر فاطمة بنت قيس المشهور رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن : « أن فاطمة بنت قيس أخبرته : أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين ، فقالوا : إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة وعليها العدة » (2) وذكر باقي الخبر .
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن النسائي الطلاق (3405),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373),سنن الدارمي النكاح (2177).(1/337)
ومن طريق مسلم ، نا محمد بن المثنى ، نا حفص بن غياث ، نا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن فاطمة بنت قيس قالت : « قلت : يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي ، قال : فأمرها فتحولت » (1) . ومن طريق مسلم ، نا محمد بن المثنى ، نا عبد الرحمن بن مهدي ، نا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا قال : ليس لها سكنى ولا نفقة » (2) .
فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا (3) ، وبأنه عليه الصلاة والسلام حكم في المطلقة ثلاثا ، ولم ينكر عليه الصلاة والسلام ذلك ، ولا أخبر بأنه ليس بسنة ، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه .
فإن قيل : إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر ، فقال فيه : أنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث طلقات ، وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه : فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته ، وذكر باقي الخبر .
قلنا : نعم ، هكذا رواه الزهري ، فأما روايته من طريق عبيد الله بن عبد الله فمنقطعة ، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها ولا عن قبيصة عنها ، إنما قال : إن فاطمة طلقها زوجها ، وإن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته . وأما خبره عن أبي سلمة فمتصل ، إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1482),سنن النسائي الطلاق (3547),سنن ابن ماجه الطلاق (2033).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن النسائي الطلاق (3404),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373).
(3) كذا في الأصل المنقول عنه .(1/338)
هي ولا غيرها بذلك ، إنما السند الصحيح الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن كمية طلاقها ؟ وأنها أخبرته ، فهي التي قدمنا أولا ، وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه عليه الصلاة والسلام ، وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من (أبت طلاقها) و (طلقها البتة) و (طلقها طلاقا باتا) و (طلاقا بائنا) فليس في شيء منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه أصلا فسقط كل ذلك وثبت حكمه عليه الصلاة والسلام على ما صح أنه أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط .
وأما الصحابة رضي الله عنهم فإن الثابت عن عمر رضي الله عنه الذي لا يثبت عنه غيره ، ما رويناه من طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، نا زيد بن وهب : أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا ، فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ فقال : إنما كنت ألعب ، فعلاه عمر بالدرة وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث . فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث ، وأحسن عمر في ذلك ، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها .
ومن طريق وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا . فقال له علي : بانت منك بثلاث ، واقسم سائرهن بين نسائك . . فلم ينكر جمع الثلاث .
ومن طريق وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا ، فقال : بانت منك بثلاث : . . فلم ينكر الثلاث .(1/339)
ومن طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي ألفا . فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك ، وبقيتها عليك وزرا ، اتخذت آيات الله هزوا . فلم ينكر الثلاث ، وأنكر ما زاد ، والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم : لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا ، وهو على ظاهره ، نعم ، إن اتقى الله جعل له مخرجا ، وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية .
ومن طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين . فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها ، وسائرها عدوان .
وهذا خبران في غاية الصحة ، لم ينكر ابن مسعود وابن عباس الثلاث مجموعة أصلا ، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث .
ومن طريق أحمد بن شعيب ، أنا عمرو بن علي ، نا يحيى بن سعيد القطان ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : طلاق السنة : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، وهذا في غاية الصحة عن ابن مسعود ، فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث .
فإن قيل : قد روى الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، وفيه : فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى .(1/340)
قلنا : نعم ، هذا أيضا سنة ، وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة . فإن قيل : قد رويتم من طريق حماد بن زيد ، نا يحيى بن عتيق ، عن محمد بن سيرين قال : قال علي بن أبي طالب : لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها فمتى شاء راجعها .
قلنا : هذا منقطع عنه ؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة ، ثم ليس فيه أيضا أن ما عدا ذلك معصية ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة رضي الله عنهم غير ما ذكرنا . وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : قال رجل لشريح القاضي : طلقت امرأتي مائة . فقال : بانت منك بثلاث ، وسبع وتسعون إسراف ومعصية .
فلم ينكر شريح الثلاث ، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع .
قال أبو محمد : فلم يخص واحدة من ثلاث من اثنتين ، لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية صرح بذلك إلا الحسن ، والقول بأن الثلاث سنة هو قول الشافعي وأبي ذر وأصحابهما (1) .
وقال ابن أبي شيبة (2) : ( من رخص للرجل أن يطلق ثلاثا في مجلس ) .
__________
(1) انظر [المحلى] (10\ 170-173)
(2) انظر [مصنف ابن أبي شيبة] (5\ 11) .(1/341)
حدثنا أبو أسامة ، عن هشام قال : سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد . قال : لا أعلم بذلك بأسا ، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك .
حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون عن محمد قال : كان لا يرى بذلك بأسا . حدثنا غندر عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، في رجل أراد أن تبين منه امرأته ، قال : يطلقها ثلاثا .(1/342)
المسألة الثانية : ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفي ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا .
ذكر من قال بهذا القول :
1 - قال الكاساني : وأما حكم طلاق البدعة (1) : فهو أنه واقع عند عامة العلماء ، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة ، وذكر منها : الثلاث بلفظ واحد .
2 - قال ابن الهمام : وذهب جمهور الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (2)
__________
(1) [بدائع الصنائع] (3\ 96) .
(2) [فتح القدير] (3\ 25) .(1/342)
3 - قال الطحاوي بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا : فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين (1) 4 - قال سحنون بن سعيد التنوخي : قلت : أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى ، أيلزمه ذلك أم لا ؟ قال : قال مالك : يلزمه ذلك (2) 5 - قال الحطاب : (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام [المدونة] المتقدم صورته : أن يقول لها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق في مجلس واحد ، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال : أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة ، فقال عبد الحميد الصائغ : ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس ، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار ، وكلما طلق يلزمه . . . انتهى (3) .
6 - قال الباجي : إذا ثبت ذلك- أي : كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد- فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث ، وبه قال جماعة الفقهاء (4) .
7 - قال القرطبي : قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور
__________
(1) [شرح معاني الآثار] (3\ 59) .
(2) [المدونة] (2\ 68) .
(3) [مواهب الجليل] (4\ 39) .
(4) [المنتقى] (4\ 3) .(1/343)
السلف (1) .
8 - قد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي رحمه الله في الكلام على المسألة الأولى ، وأنه يوقعها ثلاثا .
9 - قال الشيرازي : وإن قال لغير المدخول بها : أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث ؛ لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع ، كما لو قال ذلك للمدخول بها (2)
10 - قال ابن قدامة : وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، روي ذلك عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وابن مسعود ، وأنس ، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين ، والأئمة بعدهم (3)
11 - قال المرداوي : وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا ، وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب ، نص عليه مرارا ، وعليه الأصحاب ، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (4) .
12 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك :
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 129) .
(2) [المهذب] (2\ 84) .
(3) [المغني] (8\ 243) .
(4) [الإنصاف] (8\ 453) .(1/344)
الثاني : أنه طلاق محرم لازم ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه ، اختارها أكثر أصحابه ، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (1)
13 - قال ابن القيم : فاختلف الناس فيها- أي : وقوع الثلاث بكلمة واحدة- على أربعة مذاهب :
أحدها : أنه يقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة ، وجمهور التابعين وكثير من الصحابة (2)
14 - قال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي : الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا : هذا هو الصحيح من المذهب ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي ، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد ، كالخرقي ، و[المقنع] و[المحرر] و[الهداية] وغيرهم ، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه .
قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة) بأي شيء تدفعه ؟ فقال : برواية الناس عن ابن عباس : أنها ثلاث ، وقدمه في [الفروع] وجزم به في [المغني] ، وأكثرهم لم يحك غيره ، والله أعلم بالصواب (3)
15 - قال أيضا : الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به :
قال به ابن عباس غير مرة ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وعثمان ،
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\ 8) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 104) .
(3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70 .(1/345)
وعلي ، وابن مسعود ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال أحمد ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأنس (1) ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وقال به من أصحابنا الخرقي ، والقاضي وأبو بكر ، وابن حامد ، وابن عقيل ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، والشيخ موفق الدين ، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي- والشريف ، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول .
وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه .
وهذا القول اختاره ابن رجب . وقد صنف ردا على من قال بخلافه . والله أعلم بالصواب (2)
16 - قال ابن عبد الهادي : قال ابن رجب : اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام- شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (3)
17 - وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : وعلى هذا القول- أي : اعتبارها ثلاثا- جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة . اهـ (4)
__________
(1) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : مالك بن أنس .
(2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70 .
(3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 77 .
(4) [أضواء البيان] (1\ 176) .(1/346)
وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس .
أما الكتاب :
فأولا : قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
قال أبو بكر الرازي تحت عنوان : (ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا) قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، في طهر واحد ، وقد بينا أن ذلك خلاف السنة ، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما .
وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (4) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار ، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور .
فإن قيل : قد دللت في معنى الآية : أن المراد بها : بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 230(1/347)
فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنهما على هذا الوجه ؟
قيل له : قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة ، وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار ، وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك . ألا ترى أنه لو قال : طلقوا ثلاثا في الأطهار ، وإن طلقتم جميعا معا وقعن ، كان جائزا ، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما .
فإن قيل : معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) وقد بين الشارع الطلاق للعدة ؛ وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث ، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه .
قيل له : نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما ، فنقول : إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية ، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) إذ ليس في قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ } (4) نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى ، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ، وهو قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (5)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 1(1/348)
إلى قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (1) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه .
وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (2) يعني- والله أعلم- أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة ، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا : إن الله تعالى يقول : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته .
فإن قيل : لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع ، إذ ليس هو الطلاق المأمور به ، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد .
قيل له : أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف ، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا ، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه ، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته ،
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 2(1/349)
وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } (1) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته .
وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو : أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر ، وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه . ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه ، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه ، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر ، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا ، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته ، وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك . اهـ .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه (4) اهـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) انظر [تفسير القرطبي] (3\ 128) .(1/350)
وقال العيني : وجه الاستدلال به أن قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) معناه : مرة بعد مرة ، فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال : إن قوله تعالى : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) عام متناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة . وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه ، أنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، سمعت أبا رزين يقول : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) أين الثالثة ؟ قال : (التسريح بالإحسان) . » هذا إسناده صحيح ، ولكنه مرسل ، ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد ، حدثنا ابن عائشة ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (4) » . اهـ (5) .
وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية ، وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث ، وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى .
وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) انظر : [عمدة القاري] (9\538) .(1/351)
{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) وبين أنها لا تدل على وقوع الثلاث ، قال (2) : فصل : ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره : أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر ، فإن تقدير الكلام : طلقتك طلاقا ، ومعنى المصدر في الكلام : طلقتك تطليقات ثلاث ، ومعنى المصدر في الكلام : إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل .
والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل : حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي ، وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا ، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي ، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا .
وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل : إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مطلقا مثل : طلقتها تطليقا ، وأما إن تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده ، أو مضافا إلى المصدر المجموع ، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد ، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا ، أو خمس شهادات ، أو قال في القسامة : أقسم بالله خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة : (سبحان الله) مرة ثم قال : (ثلاثا وثلاثين) وكذا (الحمد لله) ، وكذا (الله أكبر) وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة (سبحان الله وبحمده) وأتبعها (مائة مرة) لم يكن بتكراره في الأيام
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) بواسطة [سير الحاث] لابن عبد الهادي ، ص (93 ، 94) .(1/352)
والأوقات والعدد ، فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه ، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة .
ثانيا : قال النووي : واحتج الجمهور بقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1)
قالوا : معناه : أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه ؛ لوقوع البينونة ، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (2) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال : كنت عند ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فسكت ، حتى ظننت أنه سيردها إليه . فقال : ينطق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول : يا ابن عباس ، الله قال : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وإنك لم تتق الله ، فلا أجد لك مخرجا ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك .
وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه ، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها (ومن يتق الله) ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة ، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بها مجتمعة ، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره ، وهو قوي جدا في محل النزاع ؛ لأنه
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\70 ، 71) .
(3) سورة الطلاق الآية 2(1/353)
مفسر به قرآنا ، وهو ترجمان القرآن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « اللهم علمه التأويل » (1) (2) .
ثالثا : قال ابن عبد الهادي نقلا عن ابن رجب : قوله في سياق آيات : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (3)
قال الحسن : كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول : كنت لاعبا ، ويعتق ويقول : كنت لاعبا ، ويزوج ابنه ويقول : كنت لاعبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم : العتاق ، والطلاق ، والنكاح » فأنزل الله : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (4)
وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (5) : وأما استدلاله بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (6) إلى قوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (7) قال : فليس بمسلم ؛ لأن في حديث ركانة لما قال له : " راجعها " تلا هذه الآية ، فهذه الآية دليل لنا لا لكم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا استدل بالآية ، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها ، واستدلاله بالآية بقول ابن عباس ، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول- أي : واحدة ، كما تقدم- فليس لكم في الآية دليل .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/266).
(2) [أضواء البيان] (1\ 175 ، 176) .
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) سورة البقرة الآية 231
(5) [سير الحاث] ص 89 ، 90 .
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) سورة الطلاق الآية 2(1/354)
وأما استدلاله بقوله تعالى : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (1) - واستدلاله بالحديث- أي : حديث الحسن وقد مضى مع الآية- فالآية والحديث ليس فيهما دليل له ؛ لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية ، وإنما كان يطلق ويقول : كنت لاعبا فنزلت هذه الآية ، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل .
وأما استدلاله بالآية الأخرى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) فليس فيها دليل أيضا ؛ لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة ، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى ، وليس في الآيات دليل له ، بل كلها دليل عليه .
وأما السنة : فقد استدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : ما ثبت في [الصحيحين] (3) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه : « فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله ، إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، » (4) قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين . متفق عليه .
قال النووي (5) : واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما ، وموضع الدلالة أنه لم ينكر عليه إطلاق لفظ
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) [فتح الباري] (9\ 391) و [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 123) .
(4) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2245),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),مسند أحمد بن حنبل (5/331),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(5) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 122) ، ويرجع أيضا إلى [الفتح] (9\ 367) .(1/355)
الثلاث .
وقد يعترض على هذا فيقال : إنما لم ينكره عليه ؛ لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا .
ويجاب عن هذا الاعتراض : بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه ، وقال له : كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام ، والله أعلم .
وقال ابن نافع من أصحاب مالك : إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان ؛ لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان ، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان ، وهذا فاسد ، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية .
وقال محمد بن أبي صفرة المالكي : لا تحصل الفرقة بنفس اللعان ، واحتج بطلاق عويمر ، وبقوله : إن أمسكتها ، وتأوله الجمهور كما سبق ، والله أعلم .
وأما قوله : (قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين) فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه : استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق ، وقال الجمهور : معناه حصول الفرقة بنفس اللعان .
وقال شيخ الإسلام (1) : وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة ، فكان مؤكدا لموجب اللعان ، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها ، لا سيما
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\77 ، 78) ويرجع أيضا إلى [زاد المعاد] (4\115) ، و[إغاثة اللهفان] (1\314) .(1/356)
والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما ، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها ، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح ، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا ، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها ، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ؛ لأنهما صارا أجنبيين .
ولكن غاية ما يمكن أن يقال : حرمها عليه تحريما مؤبدا . فيقال : فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما ، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح ، وأن الثلاث لم تقع جميعا ، بخلاف ما إذا قيل : إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما .
وقول سهل بن سعد : فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك ، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ، ولا يحتاج إلى إنفاذ ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه- أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده ، بل زاده ، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق ، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره ، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر : ووجه الدلالة والاعتراض عليها ، والجواب عن الاعتراض من وجهين ، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني ،(1/357)
قال (1) : وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع .
وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا ؟ قال : واختلف في هذا اللفظ- أي : ما جاء في الحديث المتقدم من قوله : فكانت سنة المتلاعنين- هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا ، وبه قال جماعة من العلماء ، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل ، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري : عن ابن شهاب عن سهل قال : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ، قال سهل : (حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا) هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري .
قال الشوكاني في نيل الأوطار ، : ورجاله رجال الصحيح ، قال مقيده عفا الله عنه : ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن ، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع ، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور- واقع موقعه ؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود ، مطابق لترجمة البخاري ، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها ؛ لأنها ليست على شرطه ، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 162) وما بعدها .(1/358)
الرواية الثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له ، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى . . . وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال : وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح ، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك .
وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال :
فإن قيل : إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان ؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية ، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان ، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان ، وقال : « أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (1) كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد .
فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : الكلام في حديث محمود بن لبيد ، فإنه تكلم فيه من جهتين : الأولى : أنه مرسل ؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صح وذكره في الصحابة من أجل الرؤية ، فقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح فيه بالسماع .
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).(1/359)
الثانية : أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث : لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير - يعني : ابن الأشج - عن أبيه ، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه . قاله أحمد وابن معين وغيرهما ، وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلا . قال ابن حجر في [التقريب] : روايته عن أبيه وجادة من كتابه .
قال مقيده عفا الله عنه :
أما الإعلال الأول : بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي ، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل ، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة ، كما قال ابن حجر في [التقريب] وغيره .
والإعلال الثاني : بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه : أن مسلما أخرج في [صحيحه] عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه ، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد ، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده .
الوجه الثاني : وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث ، ولا أنه لم ينفذها ، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها ، والمبين مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول ، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا .
ووجه استدلاله به : أنه طلق ثلاثا يظن لزومها ، فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة ؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة .(1/360)
الوجه الثالث : أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله : (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .
وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة .
الوجه الرابع : هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة ، كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي ، وإن كان الكل لا يخلو من كلام .
وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة ، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر ، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه ، بل نقول : لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة ، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم .
الدليل الثاني : ثبت في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال : حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) .
وجه الدلالة : ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا ) وقال ابن حجر (2) والعيني (3) : هو ظاهر في كونها مجموعة .
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961).
(2) [فتح الباري] (9\ 301) .
(3) [عمدة القاري] (9\ 541) .(1/361)
وقال ابن القيم (1) : في وجه استدلالهم بالحديث : فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ، ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها ، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها .
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (2) ، فقال : وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث- فهذا مما لا ننازعكم فيه ، نعم ، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا ، وقال : ثلاثا ، إلا لمن فعل ، وقال : مرة بعد مرة ، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثا ، وشتمه ثلاثا ، وسلم عليه ثلاثا .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة ، وقد قدمنا قريبا : أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة . انتهى .
ومقصوده (4) ببعض الروايات هي رواية مسلم : (أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى) .
ثم قال :
ورد هذا الاعتراض : بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع
__________
(1) [زاد المعاد] (4 \ 108) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 114) .
(3) [أضواء البيان] (1\ 167) .
(4) [أضواء البيان] (1\ 163) .(1/362)
لرفاعة فلا مانع من التعدد ، وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه : وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى ، وأن كلا من رفاعة القرظي ، ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق ، فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير ، فطلقها قبل أن يمسها ، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص .
وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب . . . اهـ .
الدليل الثالث : ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته ، فإن فيه (فقالت : يا رسول الله ، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي . . . ) الحديث ، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .
وجه الدلالة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : إن قولها : (فبت طلاقي) ظاهر في أنه قال لها : أنت طالق البتة .
وأجاب عن ذلك فقال : قال مقيده : عفا الله عنه- الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر ؛ لأن مرادها بقولها فبت طلاقي أي : بحصول الطلقة الثالثة .
ويبينه أن البخاري ذكر في [الأدب المفرد] من وجه آخر أنها قالت : طلقني آخر ثلاث تطليقات ، وهذه الرواية تبين المراد من قولها : (فبت
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 166) .(1/363)
طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة .
وقال شيخ الإسلام (1) : وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات ، هكذا ثبت في الصحيح : أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات ، لم يطلق ثلاثا ، لا هذا ولا هذا مجتمعات ، وقول الصحابي : طلق ثلاثا يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا ، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق ، ولا يجوز أن يقال : يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل ، بل هو خلاف الدليل .
الدليل الرابع : ثبت في [الصحيحين] من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن : « أن فاطمة بنت قيس أخبرته : أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة وعليها العدة » (2) .
وفي [صحيح مسلم] في هذه القصة قالت فاطمة : « فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كم طلقك ؟ قلت : ثلاثا . فقال : صدق ، ليس لك نفقة . . » (3) .
__________
(1) [ مجموع الفتاوى ] ( 33 \ 77 )
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).
(3) صحيح مسلم الطلاق (1480).(1/364)
وفي لفظ له : « قالت : يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي » . وفي لفظ له عنها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في المطلقة ثلاثا : ليس لها نفقة ولا سكنى » (1) .
وفي [الصحيحين] أيضا عن فاطمة بنت قيس : أن أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب . . . الحديث . وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق . . .
وفي [المسند] أن هذه الثلاث كانت جميعا (فروي من حديث الشعبي « أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة ، فقال : ما لك ولابنة قيس قال : يا رسول الله ، إن أخي طلقها ثلاثا جميعا » (2) . وذكر الحديث .
وجه الدلالة : أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة ، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين صلى الله عليه وسلم بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم .
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال (3) :
أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث ، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه ، ولم يأخذوا به ، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3244),سنن أبو داود الطلاق (2288),سنن ابن ماجه الطلاق (2036),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي الطلاق (2274).
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/417).
(3) [إغاثة اللهفان] (1\ 311- 313) .(1/365)
وأصحابه .
وأما الشافعي ومالك : فأوجبوا لها السكنى ، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به ، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم ، وإن لم يكن محفوظا ؛ بل هو غلط- كما قال بعض المتقدمين- فليس حجة علينا في جمع الثلاث ، فأما أن يكون لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل .
هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام ، ونقول : الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به ، ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به ، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة ، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ، ثم طلقها آخر ثلاث ، هكذا جاء مصرحا به في [الصحيح] فروى مسلم في [صحيحه] عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن ، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها . . . الحديث ، فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله : (طلقها ثلاثا) .
وقال الليث : عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة ، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال : وكذلك رواه صالح بن كيسان ، وابن جريج ، وشعيب بن أبي حمزة ، كلهم عن الزهري .
ثم ساق من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله(1/366)
قال : أرسل مروان إلى فاطمة ، فسألها ، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن ، فخرج معه زوجها ، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها ، وذكر الحديث بتمامه ، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب ، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى . فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس .
قالوا : ونحن أخذنا به جميعه ، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار . وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ (طلقها ثلاثا) و (طلقها البتة) و (طلقها آخر تطليقات) و (أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها) ، و (طلقها ثلاثا جميعا) هذه جملة ألفاظ الحديث . . . وبالله التوفيق .
فأما اللفظ الخامس : وهو قوله : (طلقتها ثلاثا جميعا) فهذا ؛ أولا من حديث مجالد عن الشعبي ، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره ، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي ، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله : (ثلاثا جميعا) وعلى تقدير صحته فالمراد به : أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة ، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال : طلقها ثلاثا جميعا ، فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد ، وهو الأغلب عليها ، لا الاجتماع في الآن الواحد ؛ لقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (1) فالمراد : حصول الإيمان من الجميع
__________
(1) سورة يونس الآية 99(1/367)
لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم (1) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه : قال (2) : ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث- يعنون : لفظ البتة- والثلاث المجتمعة ، والثلاث المتفرقة ، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ : طلقني ثلاثا ، وفي بعضها بلفظ : طلقني البتة ، وفي بعضها بلفظ : فطلقني آخر ثلاث تطليقات ، فلم تخص لفظا منها عن لفظ ؛ لعلمها بتساوي الصيغ ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه .
قالوا : والشعبي قال لها : حدثيني عن طلاقك ، أي : عن كيفيته وحاله ، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه ؟ ! وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث ، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها ، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها ، فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده ، هكذا ذكر بعض الأجلاء ، والظاهر : أن هذا الحديث لا دليل فيه ؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى ، كما هو ظاهر ، والعلم عند الله تعالى . انتهى .
وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 311-313) .
(2) [أضواء البيان] (1\ 170) .(1/368)
الإسلام عن الحديث الثالث ، وعن هذا الحديث فيرجع إليه .
الدليل الخامس : ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم « عن ركانة بن عبد يزيد : أنه طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ قال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . » (1)
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة ، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة ، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه ، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال : لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة . اهـ (2) .
وكذلك ابن قدامة قال : ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ؛ لما روي أن « ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، طلقت امرأتي سهيمة البتة ، والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال : هو ما أردت فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم » (3) . رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال : الحديث صحيح . فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) [أحكام القرآن] (1\ 459) .
(3) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).(1/369)
اهـ (1) .
وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم . قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي : (ما أشرف هذا الحديث) (2) .
روى ذلك عنه ابن ماجه في (باب طلاق البتة) من سننه ، بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ، عن أبيه عن جده .
وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (3) : قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين .
غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي ، فيصح به الحديث ، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب ، أنبأ الربيع بن سليمان ، أنبأ الشافعي ، أخبرني محمد بن علي بن شافع ، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد : « أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهم » (4) ، فقد صح الحديث بهذه الرواية ، فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته ، والسائب بن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب ، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد ، ومحمد بن علي بن شافع عم
__________
(1) [الكافي] (2\ 786) .
(2) [سنن ابن ماجه] (1\ 632) .
(3) [المستدرك] (1\ 199 ، 200) .
(4) سنن أبو داود الطلاق (2206).(1/370)
الشافعي شيخ قريش في عصره . انتهى كلام الحاكم ، وصححه أيضا ابن حبان ، كما في [التلخيص الحبير] للحافظ ابن حجر ، هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد .
أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود ، كما جاء في [سنن الدارقطني] (1) فقد قال بعد أن ساقها : (قال أبو داود : هذا حديث صحيح) .
ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر ابن العربي (2) ، وجزم به في [العارضة] والمنذري في [مختصر سنن أبي داود ] والقرطبي في [تفسيره] (3) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث .
وكذلك قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص الحبير] (صححه أبو داود ) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله ، فقد قال : كما في [تفسير القرطبي ] (4) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم ، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف ، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم) اهـ .
وأما الحافظ ابن كثير فيرى : أن الحديث حسن حسبما نقله عنه
__________
(1) [سنن الدارقطني] (2\ 439) .
(2) [العارضة على الترمذي] (5\ 135) .
(3) [تفسير القرطبي] (3\ 132) .
(4) [تفسير القرطبي] (3\ 132) .(1/371)
الشوكاني في [نيل الأوطار] بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير . .
وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له ؛ لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة ، إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف ، القرشي ، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في [الثقات] ، وذكره بعض من صنف في الصحابة . قال الحافظ ابن حجر في [تهذيب التهذيب] : ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة ، وكذا أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في [الذيل] وغيرهم ، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة . اهـ .
ويعني الحافظ مختصره في الصحابة [الإصابة في تمييز الصحابة] وقد ذكره فيه قال : (ذكره البغوي في الصحابة) وذكر له حديثه في (البتة) وتكلم على رواياته ثم قال : (وذكره ابن حبان في الصحابة) اهـ .
وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في [المنتقى] إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا ، ونصه (1) . (قال أبو داود - أي : في حديث نافع بن عجير - : هذا حديث حسن صحيح) وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية- الرد على من قال : بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع بن عجير ، وإنما قال فيه : (هذا أصح من حديث ابن جريج . . . إلخ) ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح ، فإن حديث ابن جريج ضعيف ، وحديث نافع بن عجير ضعيف ، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده) اهـ .
__________
(1) [المنتقى] مع شرحه [نيل الأوطار] (6\ 227)(1/372)
ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث ، فقد قال الدارمي في [مسنده] : (باب في الطلاق البتة) وقال أبو داود : ما جاء في (البتة) وقال الترمذي : (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) .
الجواب عن حديث ركانة :
أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه ، كما ذكره المنذري ، وكذلك ضعفه البخاري ، قال الترمذي في (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) من [سننه] بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (1) : (وسألت محمدا- يعني : البخاري - عن هذا الحديث فقال : فيه اضطراب ، ويروى عن عكرمة عن ابن عباس : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) اهـ .
وذكر الترمذي في موضع آخر (2) : أن حديث ركانة مضطرب فيه ، تارة قيل فيه (ثلاثا ، وتارة قيل فيه (واحدة) .
فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية (ثلاثا) ولا برواية (البتة) بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما ، كما ذكره الزرقاني .
وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان : أحمد بن حنبل ،
__________
(1) [مختصر سنن أبي داود] (3\ 122) .
(2) [جامع الترمذي] (5\ 132) .(1/373)
والبخاري نقول : إن لهذا الحديث روايتين :
إحداهما : عند الإمام أحمد بن حنبل : (ثنا سعد بن إبراهيم ، ثني أبي عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم . قال : فإنما تلك واحدة ، فارجعها إن شئت » (1) قال : فراجعها فكان ابن عباس يرى : إنما الطلاق عند كل طهر .
وقد أجيب عن هذه الرواية : فقال البيهقي : (إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك ، ومع رواية أولاد ركانة : أن طلاق ركانة كان واحدة) يعني البيهقي بأولئك الثمانية : الذين رووا فتيا ابن عباس بخلاف ذلك : سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهدا ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن الحارث ، ومحمد بن إياس بن البكير ، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري ، وقد ذكر رواياتهم عنه (2) في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك) ويعني برواية أولاد ركانة : روايتهم : أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح ؛ لأنهم أهله وهم أعلم بخبره ، كما سيأتي .
الثانية : ما أخرجه أبو داود في سننه ، قال : حدثنا أحمد بن صالح
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265).
(2) [السنن الكبرى] للبيهقي (7\ 337) .(1/374)
حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانه ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه منه [كذا وكذا من عبد يزيد ، وفلان يشبه منه] كذا وكذا ؟ قالوا : نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ، ثم قال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته قال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله ، قال : قد علمت راجعها وتلا : » (2) .
وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي :
1 - إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع : قال الخطابي (في إسناد هذا الحديث مقال ؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة) (3) .
وقال ابن حزم : هذا لا يصح ؛ لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع ، ولا حجة في مجهول ، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) سورة الطلاق الآية 1 (1) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
(3) [معالم السنن] (3\ 126) .(1/375)
وحده ، وسائرهم مجهولون (1) .
وقال ابن القيم (2) : إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولأبي رافع بنون ، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع ، ولا نعلم هل هو هذا أو غيره ؛ ولهذا- والله أعلم- رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه . اهـ .
وقد يقال : بأن في هذا الإعلال ؛ نظرا لأن كلام أبي داود في غاية التصريح ، بأن ترجيحه لحديث نافع بن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره . . . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بن عبيد الله بن رافع (3) وتبعه في ذلك ابن حجر في [تقريب التهذيب] والخزرجي في [الخلاصة] لكن ذكر الحافظ ابن رجب في [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق : هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، قال ابن رجب : وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق ، وأحاديثه منكرة ، وقيل : إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ . اهـ .
وأورد له الذهبي في [ميزان الاعتدال] عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال : قال فيه يحيى بن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال أبو حاتم :
__________
(1) [المحلى] (11\ 462) .
(2) [تهذيب سنن أبي داود] (3\ 121) .
(3) [المستفاد من مبهمات المتن والاسناد] ص 66 .(1/376)
منكر الحديث جدا ، وقال ابن عدي : هو في عداد شيعة الكوفة اهـ .
2 - إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها (إني طلقتها) وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق ، قال الحاكم (1) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة ، ثنا يزيد بن المبارك ، ثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك ، فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا ؟ فقال : رسول الله لعبد يزيد : طلقها ففعل ، فقال لأبي ركانة : ارتجعها فقال : يا رسول الله ، إني طلقتها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت : » (3) .
ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق ، محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم ، قال : وكان له ميل إلى التشيع ، وهذا الحكم مما يوافق هوى الشيعة .
3 - إن في حديث ابن جريج غلطا لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام ،
__________
(1) [المستدرك] (2\ 291) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(3) سورة الطلاق الآية 1 (2) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }(1/377)
نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه [تلخيص المستدرك] و[التجريد لأسماء الصحابة] وقال (1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم : (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) قال : ( محمد- أي : ابن عبيد الله بن أبي رافع - واه ، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام) وقال : (2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف : أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة . اهـ .
4 - حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم : هي ثلاثة ، وقال بعضهم : هي واحدة ، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث . فحكي أنه قال : (طلقتها ثلاثا ، يريد (البتة) التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (3) . . .
وقال النووي في [شرح صحيح مسلم ] : (ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ (البتة) يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك) اهـ .
5 - أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة ، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة ، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث ، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في
__________
(1) [تلخيص المستدرك] (2\ 491) .
(2) [التجريد] ص 388 .
(3) [معالم السنن] (3\ 122) .(1/378)
كتابه [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة)
6 - أن قضية ركانة من باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام ، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء ، قال : (وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل) اهـ .
7 - أن رواية أهل بيت ركانة أن ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا ، وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي . قال أبو داود في (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) من [سننه] (1) : حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : « طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة . فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه ، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية . . » (2) إلى آخر الحديث المتقدم ، ثم قال : وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده « أن ركانة طلق امرأته البتة ، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم » (3) أصح ؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به . « إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة » (4) . اهـ .
وأوضح الأمر غاية الإيضاح في (باب في البتة) فقال : (حدثنا ابن السرح ، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين : قالوا : ثنا محمد بن
__________
(1) [سنن أبي داود] (1\ 507 ، 508 ) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(3) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(4) سنن أبو داود الطلاق (2196).(1/379)
إدريس الشافعي ، حدثني عمي محمد بن علي بن شافع ، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة : « أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه » (1) . قال أبو داود : أوله لفظ إبراهيم ، وآخره لفظ ابن السرح .
حدثنا محمد بن يونس النسائي : أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حدثهم عن محمد بن إدريس ، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب ، عن نافع بن عجير ، عن ركانة بن عبد يزيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث .
حدثنا سليمان بن داود العتكي ، ثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن سعيد ، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده ، « أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أردت ؟ قال : واحدة ، قال : آلله ؟ ! ، قال : آلله ، قال : هو على ما أردت » (2) .
قال أبو داود : وهذا أصح من حديث ابن جريج : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به ، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس . اهـ .
وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (3) : رواية الشافعي لحديث ركانة
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2206).
(2) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(3) [تفسير القرطبي] (3\ 131) .(1/380)
عن عمه أتم ، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف ، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم . اهـ .
وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (1) : فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا ، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره ، والله أعلم . اهـ .
وممن قوى هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (2) : (إن أبا داود رجح : أن ركانة إنما طلق امرأته البتة ، كما أخرجه هو من طريق آل ركانة ، وهو تعليل قوي ؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل (البتة) على الثلاث فقال : (طلقها ثلاثا) فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا ، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالية بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث .
وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (3) : وأما حديث نافع ابن عجير الذي رواه أبو داود : « أن ركانة طلق امرأته البتة ، فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة » (4) ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ، ولا يدرى من هو (ولا ما هو) على ابن جريج ومعمر
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 131) .
(2) [فتح الباري] (9\ 297) .
(3) [زاد المعاد] (4\ 115 ، 116) ، و[إغاثة اللهفان] (1\ 415 ، 316) .
(4) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).(1/381)
وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء ، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا . هكذا قال الترمذي في [الجامع] ، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب ، فتارة يقول : (طلقها ثلاثا) وتارة يقول : (واحدة) وتارة يقول : (البتة) وقال الإمام أحمد : وطرقه كلها ضعيفة ، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه . ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع ، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم ، وليس فيهم متهم بالكذب ؟ ! .
وقد روى عنه ابن جريج ، ومن يقبل رواية المجهول ، أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده ، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد- فكلا ، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد ، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله : (حدثني داود بن الحصين ) ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في [مستدركه] وقال : إسناده صحيح ، فوجدنا الحديث لا علة له .
وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع ، وقد صحح هو وغيره بهذا لإسناد بعينه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا) وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به ، وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها ، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى(1/382)
فيها عن بيع الرطب بالتمر ، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون- جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته ، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في [صحيحه] .(1/383)
/3 الدليل السادس : روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال : « حدثنا عبد الله : أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخراوين عند القرءين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن عمر ، ما هكذا أمرك الله ، إنك قد أخطأت السنة ، والسنة : أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء ، قال : فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها ثم قال : إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك ، فقلت : يا رسول الله ، أرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال : لا ، كانت تبين منك وتكون معصية . » (1)
وأجيب : بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه : نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد ، وأبو بكر أحمد بن دارم ، قالا : نا أحمد بن موسى بن إسحاق ، نا أحمد بن صبيح الأسدي ، نا ظريف بن ناصح عن معاوية ، عن عمار الدهني ، « عن أبي الزبير ، قال : سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض ؟ فقال : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم . قال : طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة ، ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة » (2) .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),مسند أحمد بن حنبل (2/124).
(2) سنن الترمذي الطلاق (1175).(1/383)
وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى السنة : قال القرطبي : (1) ما نصه : قال الدارقطني - أي : في رواته - كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة ، وكذلك قال صالح بن كيسان ، وموسى بن عقبة ، وإسماعيل بن أمية ، وليث بن سعد ، وابن أبي ذئب ، وابن جريج ، وجابر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن نافع : أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة . وكذلك قال الزهري عن سالم ، عن أبيه ، ويونس بن جبير ، والشعبي ، والحسن . انتهى كلام القرطبي .
وممن ذكر رواية الليث بن سعد مسلم بن الحجاج في [صحيحه] قال : حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد ، وابن رمح ، واللفظ ليحيى قال قتيبة : حدثنا ليث ، وقال الآخران : أخبرنا الليث بن سعد ، عن نافع « عن عبد الله أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها ، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » (2) . وزاد ابن رمح في روايته : « وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم : أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا ، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت الله فيما أمرك من
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).(1/384)
طلاق امرأتك » (1) .
قال مسلم : جود الليث في قوله (تطليقه واحدة) يعني مسلم بذلك كما بينه النووي : أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره.
وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين، وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في [شرح صحيح مسلم ]، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره: أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة.
وقال (2) الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا : قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال: عن جابر : أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله: (فإنها امرأته) ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),مسند أحمد بن حنبل (2/124).
(2) [جامع العلوم والحكم] ص (56، 57) شرح حديث من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .(1/385)
فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة. خرجه مسلم.
وفي رواية: قال له ابن سيرين : فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه. وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل. ولذلك كان نافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك.
واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له. قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض، وقال أبو عبيدة : الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم.
وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (1) : وأما
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 318) .(1/386)
حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطني : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر -فذكره- وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي : فيه لين، وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه.
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن.
الدليل السابع : روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال: « طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه » .
قال ابن القيم : (1) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.
الدليل الثامن : روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 317) .(1/387)
عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يا معاذ، من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته » .
ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف.
قال ابن القيم : وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث.
الدليل التاسع : روى الدارقطني من حديث زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: « سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » .
ورد هذا الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني : كوفي ضعيف.
وقال ابن القيم : قلت: وفي إسناده مجاهيل وضعفاء.
وأما الإجماع: فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي : الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم... وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة(1/388)
واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب .
قال أبو بكر الرازي (1) : فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية.
وقال الباجي : من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق .
والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة؛ لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاووس، قال فيه بعض المحدثين: هو وهم، وقد روى ابن طاووس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل. اهـ (2) .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال : إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن
__________
(1) [أحكام القرآن] (1\ 459).
(2) [المنتقى] (4\ 3) .(1/389)
أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ (1) .
وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) المشروع قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (3) ، وقال ابن رجب في (بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة): (اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد) اهـ. /30
__________
(1) [الناسخ والمنسوخ].
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) [أحكام القرآن] (1\ 81).(1/390)
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه :
أحدها : ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة) وهذا الإسناد على شرط البخاري ... وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا(1/390)
غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاووسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاووسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.
أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاووسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة).
فقوله: (إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا) أي: إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان عن ابن عباس بلا شك.
الوجه الثاني : أن هذا مذهب طاووس، قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها . . وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاووس وعطاء أنهما قالا: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة).
الوجه الثالث : أنه قول عطاء بن أبي رباح . وقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاووس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: (إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة).(1/391)
الوجه الرابع : أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.
الوجه الخامس : أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس « أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة » (1) قال أبو عبد الله : ( وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة).
الوجه السادس : أنه مذهب إسحاق بن راهويه في البكر. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب [اختلاف العلماء] له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاووس عن ابن عباس « كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يجعل واحدة » (2) على هذا قال: (فإن قال لها -ولم يدخل بها-: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء؛ لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها).
وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى : (إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية). فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم:
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/392)
أحدها : أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثاني : أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثالث : أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.
الوجه السابع : أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه [الأوسط]: وكان سعيد بن جبير، وطاووس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: (من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة).
الوجه الثامن : أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير .
الوجه التاسع : أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه. قال ابن المنذر : واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة. وهذا الذي ذكره ابن المنذر، رواه عبد الرزاق في [المصنف]، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (1) : وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع
__________
(1) في المطبوعة (ويحطها مقالة جناية) وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر .(1/393)
فقال: واحدة تبينها... ويخطبها، فقال به حياته (1) .
الوجه العاشر : أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.
الوجه الحادي عشر : أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه.
الوجه الثاني عشر : أنه مذهب مقاتل الرازي (2) حكاه عنه المازري في كتابه [المعلم بفوائد مسلم ] قال الخطيب : حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في [صحيحه] وكان ثقة.
الوجه الثالث عشر : أنه إحدى الروايتين عن مالك . حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب [شرح الخلاف]، وعزاها إلى ابن أبي زيد : أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا.
الوجه الرابع عشر : أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب [الوثائق] وهو
__________
(1) وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه (6\ 332) .
(2) قوله -مقاتل الرازي- كذا بالأصل المطبوع .(1/394)
مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا: كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.
الوجه الخامس عشر : أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي صاحب كتاب [الوثائق] الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه، قال (البتة) أو لم يقل... قال: وقال بعض الموثقين -يريد المصنفين في الوثائق-: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه... قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : « أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا في مجلس واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها » ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها.
الوجه السادس عشر : أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه [تهذيب الآثار] فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا- ثم ذكر حديث(1/395)
أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به...؟ ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.
الوجه السابع عشر : أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات : أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض [مصنفاته]: هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد .
قلت : أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.(1/396)
الوجه الثامن عشر : قال أبو الحسن النسفي (1) في [وثائقه] وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس : أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه.
الوجه التاسع عشر : أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب [مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام] ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا.
ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما.
__________
(1) في نسخة الواسطي .
(2) سورة البقرة الآية 229(1/397)
قال ابن هشام : قال ابن مغيث : الطلاق ينقسم على ضربين : طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة نقيضه، وهو: أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟
فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود : يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله: ثلاثا لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في (ثلاث) إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، فالطلاق مثله ومثله.
قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة .
وكان من حجة ابن عباس : أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق،(1/398)
فقال تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) يريد: أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو: الرجعة في العدة، ومعنى قوله: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا، فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره.
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.
من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه... هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها).
الوجه العشرون : أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود وأصحابه، وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس، وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك،
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الطلاق الآية 1(1/399)
فأباح جمع الثلاث وأوقعها.
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس . ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس : الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك. فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.
وأما الآثار ففتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي شيبة في [مصنفه]: نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتي برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما.
نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب : أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما.
نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال:(1/400)
ثلاث تحرمها عليك وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، واقسم سائرها بين نسائك.
نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك واقسم سائرهن بين أهلك.
نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: (فما قالوا لك؟) قال: قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله : ( لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان).
نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة فقال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية).
نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: (تكلمت بالطلاق؟) قال: نعم. قال: قال عبد الله : (قد بين(1/401)
الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون).
نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر : من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته.
نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة قال: (بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة).
نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه فلم يجعل له مخرجا).
نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة ؟ فقال: (بانت بثلاث وعليك وزر سبعة وتسعين).
نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة قال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا.
نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل(1/402)
طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: (يكفيك من ذلك رأس الجوزاء).
نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: (أثم بربه وحرمت عليه امرأته).
نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: (ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل).
وقال سعيد بن منصور (1) : نا خالد بن عبد الله عن سعيد الجريري، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : (لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزمه نفسه، من قال لامرأته: أنت علي حرام فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث). اهـ.
وقال ابن عبد الهادي (2) : وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق وأنه مقبول قوله فقال: فصل: أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فإنه
__________
(1) [سنن سعيد بن منصور] القسم الأول، (3\ 259) .
(2) [سير الحاث] ص 79، 80 .(1/403)
عمر » (1) ، وفي رواية ذكرها تعليقا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر » (2) وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب » (3) ، وعنده قال ابن وهب : محدثون (ملهمون) وقال الترمذي عن ابن عيينة : قال: يعني: مفهمين. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: « الملائكة على لسانه » والله أعلم.
فصل : قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:
أحدهما : ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه، فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.
الثاني : ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:
أحدها : ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3486),مسند أحمد بن حنبل (2/339).
(2) صحيح البخاري المناقب (3486),مسند أحمد بن حنبل (2/339).
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398),سنن الترمذي المناقب (3693),مسند أحمد بن حنبل (6/55).(1/404)
الثاني : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما ما وافق لقضاء عمر، فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر .
الثالث : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح، ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.
الرابع : ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة فزوال الحكم بزوالها ووجد مانع يمنع من ذلك الحكم.
قال: فهذه المسألة؛ إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع.
وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علم ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك؟! هذا لا يحل اعتقاده البتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.
__________
(1) في الهامش: لعل صوابه (إخفاء) .
(2) قوله: (حقا) كذا في المطبوعة .(1/405)
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك عن فتاوى الصحابة في ذلك: فقال (1) : ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله - ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه؛ رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد. فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.
وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر رضي الله عنه وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\ 29- 31) .(1/406)
فقال عبد الله بن مسعود : (من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم، هو كما تقولون).
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك « تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (1) ، ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة : أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.
فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.
ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (2)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).
(2) سورة الطلاق الآية 2(1/407)
وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا)، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: (من يخادع الله يخدعه)، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.
فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم - أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.
وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.
وقال أيضا مبينا عذر عمر رضي الله عنه (1) : الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر رضي الله عنه ومن وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان :
النوع الأول : لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 330) وما بعدها.(1/408)
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وساق رحمه الله طائفة من الأمثلة. ثم قال: ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة - فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم؛ ليكفوا عنها. وذلك:
إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفي عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.
وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث.
ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه.
فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه(1/409)
عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في [مسند عمر]: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) (1) .
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي، الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } (2)
هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك؛ ولذلك قال: (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم). وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه؛ لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله
__________
(1) في سند هذا الأثر خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك. قال في [التقريب]: خالد بن يزيد هذا ضعيف مع كونه فقيها، وقد اتهمه ابن معين، وأبو يزيد صدوق ربما وهم. اهـ.
(2) سورة البقرة الآية 236(1/410)
تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة. اهـ.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك من وافقه من الصحابة ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث.
وأما القياس :
فقال ابن قدامة (1) : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. اهـ.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس : فقال (2) :
وقولكم: إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 243) .
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 306) .(1/411)
يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه؛ ولهذا قال من قال من السلف: ( رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامهم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة) ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه؛ كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.
وقال القرطبي : وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو: أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. نقله عنه ابن حجر العسقلاني (1) .
ويرد عليه بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 365) .(1/412)
فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا. اهـ.(1/413)
المذهب الثاني (1) : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا:
1 - قال ابن الهمام (2) : وقال قوم: يقع به واحدة هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاووس وعكرمة أنهم يقولون: خالف السنة فيرد إلى السنة .
2 - قال الباجي : (3) : وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق . انتهى المقصود.
3 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (4) :
الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم
__________
(1) يلاحظ أن المذهب الأول سبق في ص 342 من هذا الكتاب.
(2) [فتح القدير] (3\ 65) .
(3) [المنتقى شرح الموطأ] (4\ 3).
(4) [مجموع الفتاوى] (33\ 8)(1/413)
مثل: طاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ.
4 - قال ابن القيم (1) : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . اهـ.
5 - قال المرداوي (2) : وحكى -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)- عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة، بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد، وأنه كان يفتي به سرا أحيانا . اهـ.
6 - قال ابن القيم (3) : المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما- كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا .
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد
__________
(1) [ زاد المعاد] (4\ 105) .
(2) [الإنصاف] (8\ 453) .
(3) [إعلام الموقعين] (4\ 24، 28، 29) .(1/414)
بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا، بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس .
وأما التابعون: فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاووس .
وأما أتباع التابعين: فأفتى به محمد بن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي .
وأما أتباع تابعي التابعين: فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما.
وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل .
وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا.
وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه ترك القول به لمخالفة(1/415)
راويه له.
وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة راويه، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ.
7 - قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (1) : الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب، حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين]، وذكره في [الفروع]، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه [الهدي]، و[إعلام الموقعين]، و[إغاثة اللهفان] وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحكاه أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره. اهـ.
وقال أيضا: (2) : الفصل الخامس -فيمن قال بهذا القول وأفتى به-
__________
(1) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 81 .
(2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 82، 83 .(1/416)
وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من [إعلام الموقعين] قال: قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه- بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره .
قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (1) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ.
وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس:
الدليل الأول: قال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) إلى قوله تعالى: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3)
وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (4) : قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه -وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له- صح كلامه.
واعلم أن كتاب الله نص صريح: أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا
__________
(1) قبله (وظاهر إجماع ابن حزم.. إلخ) هكذا بالأصل المطبوع .
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) [سير الحاث] ص 90 وما بعدها، ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في [الإغاثة]: (1\ 301) .(1/417)
يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. والألف واللام في قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) للعهد، والمعهود هنا هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) وهو الرجعي بقوله: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (3) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (4) ، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا.
ثم قال: فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا.
ثم قال: وذلك أن ضمير الآيات في قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (5) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (6) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي: بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجا غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) قوله: (يعرف) كذا في الأصل المطبوع .
(5) سورة البقرة الآية 230
(6) سورة البقرة الآية 229(1/418)
تحل له، هذا لا يحتل خلافا.
قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.
ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله؛ لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (1) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي، فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (2) إتماما لما قبله، أي: متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإيلاء المذكورة قبل هذه الآيات - كان التحريم مختصا بطلاق المولي، ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 229(1/419)
عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدهما حتى تنكح زوجا غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره. انتهى.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى، والإجابة عنه في كلام الباجي ص 308، وما ذكر عن شيخ الإسلام في ص 313 وكلام ابن القيم في ص 318- 320.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } (2) إلى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (3)
قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه:
الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي: لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2(1/420)
الثلاث: أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى، طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبنى على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى؛ لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة.
وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة: الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: (فطلقوهن في قبل عدتهن).
قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.(1/421)
الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } (1) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله؛ ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.
وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقه وقد أسقطها.
والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (2) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن -وهم: الصحابة- أن الأمر هاهنا هو: الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث.
الوجه الخامس: قوله تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2(1/422)
فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ) كما تقدم -قصده رحمه الله الأثر الذي أشرنا إليه سابقا- وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.
ومضى رحمه الله إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور -أن جمع الثلاث غير مشروع- هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة. اهـ.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى.
وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: روى مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم » (1) .
وفي [صحيحه] أيضا عن طاووس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس :
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/423)
(هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟)
فقال: (قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) وفي لفظ لأبي داود : « أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما، فقال ابن عباس : بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم » (1) .. هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها.
وفي [مستدرك الحاكم] من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، « أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: (أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة ؟) قال: (نعم) » قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاووس عن أبي الصهباء .
وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة :
الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي.
قال الشافعي (2) : بعد سياقه لحديث أبي الصهباء : وأثر ابن عباس في
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) [الأم] اختلاف الحديث: (7\ 301- 305) .(1/424)
الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني: أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ.
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟
قيل: لا يشبه أن يكون يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر .
قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟!
فإن قيل: فلم لم يذكره؟
قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا يتقصى فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.
قال: فإن قيل: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ؟
قيل - والله أعلم-: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك ما وصفت.
فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟(1/425)
قيل: نعم، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله لا آويك.. ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق.
وذكر بعض أهل التفسير هذا فلعل ابن عباس أجاب: أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.
قال الشافعي : وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (2) يعني: والله أعلم الثلاث { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه، مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 230(1/426)
علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.
فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟
قيل: نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة : أنه سمعها تقول: « جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته قال: وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. » (1)
قال الشافعي : فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك » (2) ولو كانت عائشة حسبت طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.
فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
قيل: نعم، عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.
وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي صلى الله عليه وسلم: أن زوجها بت طلاقها: تعني والله
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5487),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3408),سنن أبو داود الطلاق (2309),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/38),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4960),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).(1/427)
أعلم: أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس لك عليه نفقة » (1) لأنه -والله أعلم- لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاقها ثلاثا معا، قال الشافعي : فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن وكان ثابتا - كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدا.
قال الشافعي : ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ.
وقال أبو داود في [سننه] (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ): حدثنا أحمد بن سعيد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (2) وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس : نعم » (4) .
وقال الطحاوي (5) في (باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا ): حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3222),سنن أبو داود الطلاق (2284),سنن ابن ماجه النكاح (1869),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2200).
(5) [شرح معاني الآثار] (2\ 32) .(1/428)
جريج، قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أن الثلاث، كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس : نعم. » (1)
وقال الطحاوي بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. حدثنا بذلك ابن أبي عمران .
قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق -ح- وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس رضي الله عنهما الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر رضي الله عنه ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر رضي الله عنه بذلك الناس جميعا، وفيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معان فجعلها
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/429)
أصحابه رضي الله عنهم من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر، ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معا: أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك. انتهى المراد من كلام الطحاوي .
وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (1) : ( ثم هذا ابن عباس رضي الله عنهما قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا: أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه.
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب : أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق
__________
(1) [شرح معاني الآثار] (3\ 33) .(1/430)
رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب : أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد : أن بكير بن الأشج أخبر عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري : أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، فاسألهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة : الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير : أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه، فكلهم قالوا: حرمت عليك.
حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.(1/431)
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير : أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته، إنه اتخذ آيات الله هزوا.
حدثنا علي بن شيبة، حدثنا أبو نعيم، قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن مرزوق، ثنا ابن وهب، قال: ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس : رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) انتهى المراد من كلام الطحاوي .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1(1/432)
وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ: الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثه الطويل في هذه المسألة قال
(1) : وفي الجملة: فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر : أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 299) .(1/432)
ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق . اهـ.
واعترض المازري على ذلك، قال: (زعم بعضهم: أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ وحاشاه لبادر الصحابة إلى إنكاره. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر .
قال: فإن قيل: فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك؛ لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك. قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط؛ لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورده المازري .
وأجاب عليه الحافظ بقوله (1) : ( هو متعقب في مواضع:
أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ) أي: اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه،
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 298) .(1/433)
وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا؛ لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر، بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر، بل وبعدهما طبقة واحدة ). انتهى كلام الحافظ.
وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال (1) : وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه (أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد) فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من
__________
(1) [زاد المعاد] (4\ 117، 118) .(1/434)
أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟! ثم كيف يقول عمر : (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة) وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم .
وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (1) : وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلما روى عن جابر رضي الله عنه أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا.. فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعي استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟
فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟
قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.
وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله تعالى، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 186، 187) .(1/435)
تطليقات وأكثر، قال في [سننه]: (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في [التقريب]: صدوق يهم.
وروى مالك في [الموطأ] عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم.
يؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (4) كما جاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229(1/436)
مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضا، كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } (1) { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } (2)
ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. والذين قالوا بالنسخ قالوا: معنى قول عمر : إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة: أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم: أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث، وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله: (فلو أمضيناه عليهم) يعني: ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: (فنهانا عنها عمر )، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة.
أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6(1/437)
الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه. فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع. وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة .
أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: (معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) (1) .
وأما الباجي فقال (2) : ( معنى الحديث: أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث طلقات، قال: ويدل على صحة هذا التأويل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله وما عاب
__________
(1) [السنن الكبرى] (7\ 338) .
(2) [المنتقى] (4\ 4) .(1/438)
عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاووس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاووس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ... انتهى كلام الباجي .
وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (1) : ( معناه: أن الناس. كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث قال: قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها ). انتهى.
وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي: أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا، أي: ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. انتهى كلام القرطبي .
وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (2) .
وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (3) : قيل: معنى حديث ابن عباس أن
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) .
(2) [الفتح] (9\ 299) .
(3) [المغني ومعه الشرح] (7\ 304) .(1/439)
الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : وأما قول من قال: إن معناه: كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد، ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث؛ لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث. فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما، فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة (ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم ) ؟ ولفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها
__________
(1) [زاد المعاد] (4\ 119) .(1/440)
جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ؟ فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر فلما رأى الناس -يعني: عمر - قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم) هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما. ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ.
الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها:
فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه] في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم. » (1)
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (2) : وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه لفظ
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 298) .(1/441)
الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق، فالحديث لا يندفع بمثل هذا البتة. اهـ.
وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (1) : وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية .
ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغى العدد لوقوعه بعد البينونة.
وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟
وقال النووي : أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر .
وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها: فقال (2) : ورواية طاووس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاووس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 363) .
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 285، 286) .(1/442)
الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: (كانوا يجعلونها واحدة)؟ فقال له ابن عباس : (نعم) أي: الأمر ما قلت، وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم، لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسؤول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه) لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : وحجة هذا القول: أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في [مراقي السعود]:
وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب
وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود بأنه لا دليل عليه، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار] من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 196- 198) .(1/443)
بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا.
نعم، لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا من غير المدخول بها فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني: مفهوم المخالفة كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار إليه في [مراقي السعود] في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
وجهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤال أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال.
وقد قدمنا: أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاووس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته، ولذا قال النووي في [شرح مسلم ] ما نصه: وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة رواها أيوب عن قوم(1/444)
مجهولين عن طاووس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم انتهى منه بلفظه .
وقال المنذري في [مختصر سنن أبي داود ] بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاووس مجاهيل. انتهى منه بلفظه . وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاووس فيها.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [زاد المعاد] بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد. انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم . انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي .
الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك ولا أنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.
قال ابن القيم (1) : وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك من علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه، أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس .
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 291) .(1/445)
وقال ابن حزم (1) : وأما حديث طاووس عن ابن عباس الذي فيه: أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى الواحدة وتجعل واحدة فليس شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة أو ردها إلى الواحدة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري « كنا نخرج في زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا، وأما نحن فلا » (2) ). انتهى كلام ابن حزم .
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (3) : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك، فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها، ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من
__________
(1) [المحلى، (10\ 462، 463) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1435),صحيح مسلم الزكاة (985),سنن الترمذي الزكاة (673),سنن النسائي الزكاة (2513),سنن أبو داود الزكاة (1616),سنن ابن ماجه الزكاة (1829),مسند أحمد بن حنبل (3/98),موطأ مالك الزكاة (628),سنن الدارمي الزكاة (1664).
(3) [زاد المعاد] (4\ 120) .(1/446)
هذا؟ وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.
الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق - فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة). انتهى كلام المجد .
وهذا جواب ابن سريح كما قاله الخطابي (2) والمنذري (3) .
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 196) .
(2) [معالم السنن] (3\ 27) .
(3) [المختصر] للمنذري (3\ 1126) .(1/447)
وقال ابن حجر (1) : هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي : إنه أصح الأجوبة.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (2) : وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا... آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم مطلقا برا كان أو فاجرا.
وأيضا فإن قوله: (إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم، فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول
__________
(1) [الفتح] (9\ 298) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 118، 119) .(1/448)
مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث ... هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره؟!
ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (1) : وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:
الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات.
وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة: من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟
فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أسعد بظاهر اللفظ.
__________
(1) [أضواء البيان] (1\180-183).(1/449)
قيل له، وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.
ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة: أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث- إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظه: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في [سننه] لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله - في [زاد المعاد] في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت الحديث.
فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. ا هـ. بلفظه.
وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث، لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة(1/450)
كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا . . . وبعد أن نقل كلام ابن سريج وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب.
ثم قال: قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاووس المذكور: أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاووس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده - عفا الله عنه -: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال: بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي .
الجواب السادس: عن حديث طاووس عن ابن عباس : أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي(1/451)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: (أنا أقول لكم: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ) قاله في فسخ الحج وغيره؛ ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاووس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور . ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (1)
وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (2) : ( وفيه، أي: معاني الحديث للأثرم أيضا في حديث ابن عباس : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال أبو عبد الله : أدفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا ) ا هـ.
وقال البيهقي في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك ) (3) : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس . . . ومنها: ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\158، 159).
(2) [ المسودة] (242).
(3) [السنن الكبرى] (7\337، 338).(1/452)
محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد : أن سعيد بن جبير أخبره، أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا: حرمت عليك.
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء : أن رجلا قال لابن عباس : طلقت امرأتي مائة فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2(1/453)
جرير بن حازم، عن أيوب عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك. قال: فإنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، ورواية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن . . . انتهى كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : لا يترك الحديث الصحيح
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\31) وما بعدها.(1/454)
المعصوم لمخالفة راويه له فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة : « من استقاء فعليه القضاء » (1) ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه- وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية، إلى أن قال - رحمه الله -: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدر بانتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. ا هـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (2) : قال مقيده- عفا الله عنه-: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (720),سنن أبو داود الصوم (2380),سنن ابن ماجه الصيام (1676),مسند أحمد بن حنبل (2/498),سنن الدارمي الصوم (1729).
(2) [ أضواء البيان] (1\189- 191).(1/455)
أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، قال للأثرم وابن منصور : أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو- ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
فإن قيل: رواية طاووس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب: أن الصحابي إذا خالف ما روى ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد - رحمه الله -: الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به وهو عدل عارف وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء: أن العبرة بروايته لا بقوله فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا، فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاووس المذكور محتمل احتمالا قويا؛ لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج .
فالحاصل: أن ترك ابن عباس لجعل ثلاث بفم واحد واحدة يدل على(1/456)
أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد . . . واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة : أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة : أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحافظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة. انتهى.(1/457)
الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها: لفظ البتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.
وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر، قال الخطابي (1) : ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة ؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن
__________
(1) [معالم السنن] (3\237، 238).(1/457)
حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين، ثم أن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق (البتة) على شاكلته . انتهى كلام الخطابي.
وقال ابن حجر (1) : هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها (البتة) والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن (البتة) إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل فكأن بعض رواته حمل لفظ (البتة) على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر .
الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم، فقال ابن عبد الهادي : قال ابن رجب في كتاب [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] وساق حديث ابن عباس، ثم قال (2) : هذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاووس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد
__________
(1) [فتح الباري](9\299).
(2) [سير الحاث] ص 74.(1/458)
الراوي بالحديث، وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاووس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور : كل أصحاب ابن عباس، يعني: رووا عنه خلاف ما روى طاووس .
وقال الجوزجاني : هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب اطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي : لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ.
وقال النخعي : كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب : إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال: (شر العلم الغريب) وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.. قال ابن رجب : وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي، كما ذكره في [المغني]، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟!
وقال القاضي إسماعيل في كتاب [أحكام القرآن]: طاووس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب(1/459)
من كثرة خطأ طاووس
وقال ابن عبد البر : شذ طاووس في هذا الحديث.
قال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاووس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل. انتهى المقصود.
الثاني: أنه منسوخ، وقد سبق ما يغني عن إعادته.
ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (1) : رواية طاووس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب .. قال: وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس .
ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا فقال (2) : فإن قيل: ففي [صحيح مسلم ]، عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه [منها] (3) :
الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\129).
(2) [ أضواء البيان] (192).
(3) ما بين المعقوفتين زيادة من الناشر. ا. هـ.(1/460)
تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاووس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاووس ؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي انتهى.
وقال ابن حجر (1) : الجواب الثاني: دعوى شذوذ رواية طاووس وهي طريقة البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. انتهى.
وقال ابن التركماني : وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. انتهى.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال بعد عرضه لهذا المسلك (2) وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات
__________
(1) [ الفتح] (9\363).
(2) [ إغاثة اللهفان] (1\295، 296).(1/461)
بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاووس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء.
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده، هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما- حديث ركانة وهو موافق لحديث طاووس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ : أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذا. وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له.
قال الشافعي : (وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات) قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به.. ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم،(1/462)
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.
وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلاما يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (1) : نعم، لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه- أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه: أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول أشار إليها في [مراقي السعود] بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: (وخبر الآحاد في السنى).
حيث دواعي نقله تواترا ... نرى لها لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب [جمع الجوامع] عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة . ا هـ منه بلفظه.
ومراده: أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة . اهـ. محل
__________
(1) [ أضواء البيان] (1\193-195).(1/463)
الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده- عفا الله عنه-: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاووس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاووس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى » (2) ، فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « وإنما لكل امرئ ما نوى » (3) .
__________
(1) قوله:(لأن) كذا بالأصل المطبوع.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).(1/464)
والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله. والأول أولى وأخف من الثاني.
وقال القرطبي في [المفهم] في الكلام على حديث طاووس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. ا هـ. بواسطة نقل ابن حجر في [فتح الباري] عنه وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى.
الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (1)
وذكر ابن القيم هذا الجواب وناقشه : فقال (2) : وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر، فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في [صحيحه] على خلافه فقال: (باب في من جوز الطلاق الثلاث في كلمة ) لقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهو لا يقر على باطل).
__________
(1) [فتح الباري](9\364).
(2) [إغاثة اللهفان](1\293- 295)
(3) سورة البقرة الآية 229(1/465)
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاووس عن ابن عباس، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: (ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة) وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه.
ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاووس، وحدث به ابن طاووس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاووس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: [الجامع المختصر الصحيح], ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم.(1/466)
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة- وهو الظاهر- فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا: ( أبو الصهباء ) وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في [المستدرك]، وأما رواية من رواه مقيدا (قبل الدخول) فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: (قبل الدخول) زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق.
الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به ومناقشة ابن القيم له، فاكتفي بذلك عن الإعادة هنا.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في [ المسند] قال: حدثنا سعد بن(1/467)
إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت قال: فراجعها » (1) ، فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر.
قال ابن القيم (2) ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد): هذا حديث ضعيف، أو قال: واه لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد، هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي، وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم : قال شيخنا - رضي الله عنه -: وأبو داود لما لم يرو في [سننه] الحديث الذي في [مسند أحمد ] يعني: الذي ذكرناه آنفا فقال: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته،
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).
(2) [إعلام الموقعين] (3\40).(1/468)
ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث البتة. قال الأثرم : قلت لأحمد : حديث ركانة في البتة فضعفه انتهى.
وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية.
الدليل الثالث: قال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس قال: « طلق عبد يزيد- أبو ركانة وإخوته- أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه من كذا وكذا"؟ قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد :"طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا(1/469)
» (2) .
وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا.
الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة، وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا.
وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر .
ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت.
وأما القياس فقد قال ابن القيم (3) : وأما القياس فإن الله سبحانه وتعالى قال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (4) ثم قال: { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (5) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) سورة الطلاق الآية 1 (1) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
(3) [إغاثة اللهفان] (1\289)
(4) سورة النور الآية 6
(5) سورة النور الآية 8(1/470)
أربع شهادات أنه كاذب : كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا, فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟! وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قاله الصحابة لماعز : (إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء.
وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال (1) : وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا، وحصلت بها البيونة بانقضاء العدة إجماعا.
وأما الآثار: فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاووس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك، ورواية طاووس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ, ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء بكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف . وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا
__________
(1) [أضواء البيان](1\195،196).(1/471)
صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح )، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت.
ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا، وذلك في الكلام على وفي استدلال الجمهور بالإجماع.
وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي:
أما ما روى طاووس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاووس التي خولف فيها طاووس (1) قال: وطاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا: إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما: أنها ثلاث، كما قال الله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } (2) أي: الثالثة.
وأما ما روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة) فقد تعقبه أبو دواد في [سننه]
__________
(1) [الناسخ والمنسوخ] ص71
(2) سورة البقرة الآية 230(1/472)
بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله, ولم يذكر ابن عباس , وجعله قول عكرمة . وعلى فرض ثبوتها فقد رجع ابن عباس عن ذلك, كما صرح أبو دواد قال (1) : وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس : أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا, فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره, قال أبو دواد : وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش : أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقالا: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة - رضي الله عنها - ثم ساق هذا الخبر. قال أبو دواد : وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينهما من زوجها, مدخولا بها أو غير مدخول بها- لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. هذا مثل خبر الصرف قال فيه: ثم إنه رجع عنه , يعني : ابن عباس . اهـ (2) .
وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاووس وعكرمة , حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة, نا إسماعيل , أنا
__________
(1) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] ( 2\226, 227).
(2) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] (2\226 , 227).(1/473)
أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) قال أبو داود : روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس، وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس كلهم قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير . اهـ.
وقال الباجي : بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (3) ما نصه: قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع . اهـ.
وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) [المنتقى](4\4).(1/474)
وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك ولم يثبت.
وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم قال (1) : قال تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة.
ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، وقد أدخل مالك في [موطئه] عن علي : أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها!؟ وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة.
قال ابن العربي : لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث،
__________
(1) [مختصر سنن أبي دواد ومعه التهذيب والمعالم](3\128).
(2) سورة البقرة الآية 229(1/475)
فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. ا هـ.
ذكر ابن القيم ذلك في [إغاثة اللهفان] (1) بقوله: ( لعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق ) انتهى. كلام ابن القيم .
وقال البيهقي في [السنن الكبرى] في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (2) ، أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن هشام، نا علي بن سلمة اللبقي، نا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال: فأتيته فقرعت عليه الباب، فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة،
__________
(1) [إغاثة اللهفان] ص 179.
(2) [السنن الكبرى] (7\339, 340).(1/476)
قال. فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال أخرج إليك كتابا، فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك ) ا هـ.
وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق)... إلخ، فلا يصلح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين:
أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، وقد قال الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال]، في يزيد بن أبي مالك : صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك . وذكره الحافظ ابن حجر في [تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس] وقال: وصفه أبو مسهر بالتدليس .
الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد : ليس بشيء، وقال النسائي : غير ثقة، وقال الدارقطني : ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى : سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري : سمعت ابن معين يقول بالعراق : كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب [ الديات](1/477)
لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة، قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته العطار فأعطى الناس فيه حوائج. وفي [تهذيب التهذيب] للحافظ ابن حجر : قال ابن حبان : كان صدوقا في الرواية، ولكنه كان يخطئ كثيرا، وفي حديثه مناكير لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد عن أبيه، وقال أبو داود : ضعيف، وقال مرة : متروك الحديث، وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. ا هـ.
وأجيب عما نقل عن أهل البيت النبوي في اعتبار الطلاق الثلاث في كلمة واحدة: بما رواه البيهقي (1) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السمان ببغداد، أنا حنبل بن إسحاق بن حنبل، نا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نا مسلمة بن جعفر الأحمسي، قال: قلت لجعفر بن محمد : إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا: (من طلق ثلاثا فهو كما قال) وأخبرنا أبو عبد الله، نا أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد، نا محمد بن عبد الله الحضرمي، نا إسماعيل بن بهرام، نا الأشجعي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد بانت منه. ا هـ.
ونقل السياغي عن صاحب [الأمالي] أنه قال (2) : حدثنا أبو كريب عن
__________
(1) [السنن الكبرى](7\340).
(2) [الروض النظير](4\387).(1/478)
حفص بن غياث قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق ثلاثا فهي ثلاث، وهو قولنا: أهل البيت) ثم ذكر رواية البيهقي عن شيخه الحاكم المتقدمة.
وقال السياغي من [ الروض النضير]، في وقوع الطلاق بائنا بإرساله ثلاثا بلفظ واحد قال (1) : وهو مذهب جمهور أهل البيت، كما حكاه محمد بن منصور عنهم في [الأمالي] بأسانيده، وروى في [الجامع الكافي] عن الحسن بن يحيى قال: رويناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي - عليه السلام - وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن علي الباقر، ومحمد بن عمر بن علي، وجعفر بن محمد، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله، وخيار آل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ثم قال الحسن : أجمع آل الرسول على أن الذي يطلق ثلاثا في كلمة واحدة أنها قد حرمت عليه، وسواء كان قد دخل بها الزوج أو لم يدخل، ورواه في [ البحر] عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة وعن علي - عليه السلام - والناصر والمؤيد بالله وتخريجه، والإمام يحيى والفريقين ومالك وبعض الإمامية.
قال ابن القيم : وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.
وذهب إليه ابن حزم في [المحلى] وأطال الاحتجاج عليه. انتهى المراد من [الروض النضير].
__________
(1) [الروض النظير](4\379).(1/479)
المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة :
وذكر ابن القيم أنه أخذ بالحديث الوارد في التفرقة: إسحاق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها.
وهذا المذهب مبني على ما رواه أبو داود في [سننه]: أن رجلا يقال له: أبو الصهباء وكان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما -؟ فقال ابن عباس : (بلى « كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما - فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم » (1) .
قال ابن القيم : رأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي بالصهباء في غير المدخول بها، قالوا: ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس. انتهى.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في الجواب الثالث من الأجوبة على حديث ابن عباس، وهو الدليل الأول للمذهب الثاني . . .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/480)
المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا :
لأن إيقاع الطلاق على ذلك الوجه بدعة محرمة فهو مردود لحديث: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) وقد حكي هذا القول للإمام أحمد فأنكره وقال: (هو قول الرافضة )، كما نص عليه ابن القيم في [زاد المعاد] وذكر بأن القول بعدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، قال: وحكوه عن جماعة من أهل البيت، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (الفرق بين الطلاق الحلال والحرام) أن القول بعدم الوقوع محدث مبتدع، قاله بعض المعتزلة والشيعة ولا يعرف عن أحد من السلف. اهـ.
وقال ابن رجب في كتابه [جامع العلوم والحكم] في شرحه لحديث: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (2) : قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: (هذا قول سوء رديء) ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.
وقال أبو عبيد : الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم، ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم . اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).
(2) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).(1/481)
وفيما يلي كلام مجمل لابن تيمية في المسألتين:
قال (1) : (الأصل الثاني) أن الطلاق المحرم الذي يسمى (طلاق البدعة) إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه، وقال آخرون: لا يقع، مثل طاووس، وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وأهل الظاهر كداود وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر: داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث، ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلاث إذا أوقعها جميعا، بل يقع منها واحدة.
ولم يعرف قوله في طلاق الحائض ولكن وقوع الطلاق جميعا قول طوائف من أهل الكلام والشيعة، ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول: إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلا، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها وأنه لا يقع إلا واحدة.
ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك . وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع، وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت أنه
__________
(1) [مجموع الفتاوى](33\81 - 98).(1/482)
يقع. وروي ذلك عن زيد .
وأما (جمع الثلاث) فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة، روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين وغيرهم، وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتابه الذي سماه: [المقنع في أصول الوثائق وبيان ما في ذلك من الدقائق]: وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق . ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وذلك لأن قوله: (ثلاثا) لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح، ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا، يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله تعالى فقال: أحلف بالله تعالى ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كله عن ابن وضاح، يعني: الإمام محمد بن وضاح(1/483)
الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة؛ ويحيى بن معين، وسحنون بن سعيد، وطبقتهم، قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة، وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس .
قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك، وكان يفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في [صحيحه] وأبو داود وغيرهما عن طاووس، عن ابن عباس أنه قال: « كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب : (إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم » (1) .
وفي رواية: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه » (2) .
والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك، مثل حديث يروى عن
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/484)
علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه.
وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث، وجواب المستدلين: أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فالمرفوع « أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فردها عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -) » (1) قال الإمام أحمد بن حنبل في [مسنده]: حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف طلقتها؟ "قال: فقال: طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد "؛ قال: نعم، فقال: "فإنها تلك واحدة، فارجعها إن شئت " قال: فراجعها » (2) ، وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر.
قلت: وهذا الحديث قال فيه ابن إسحاق : حدثني داود، وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري، وابن إسحاق إذا قال: حدثني، فهو ثقة عند أهل الحديث، وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).(1/485)
[السنن]، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد، فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد . وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر.
وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، ونافع بن عجير : أنه طلقها البتة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه، فقال: (ما أردت إلا واحدة)؟ فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم، وقال أحمد بن حنبل : حديث ركانة في البتة ليس بشيء، وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة ؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس (أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) ، وأهل المدينة يسمون (ثلاثا) البتة، فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء.
وبهذا الإسناد روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول) وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء، وابن إسحاق إذا قال:(1/486)
حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث، إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روى أبو داود في [سننه] هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاووس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاووس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه.
وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي، أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه: أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه: أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في الإلزام بالثلاث، وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر - رضي الله تعالى عنه -، وهو: أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله تعالى عليهم استحقوا العقوبة على ذلك(1/487)
فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم، وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها، كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما قاتل علي بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق.
وعمر بن الخطاب ومن وافقه- كمالك وأحمد في إحدى الروايتين- حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه: إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، إما أن يكون رآه شرعا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلا.
وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة : هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع، أو(1/488)
كان قد نهى عن الفسخ، لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة؟ وعلى التقديرين فالصحابة قد نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم: في المتعة وفي الإلزام بالثلاث، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. كما أن عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما: عمار، وأبو موسى، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر (1) , والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به.
والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو: أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمه؛ كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة: فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك ؛ لأنه قول
__________
(1) أي : في [ الفتاوى ] أو غيرها من كتب شيخ الإسلام . اهـ. ( الناشر )(1/489)
محرم، وأوجب فيه الكفارة.
وأما الطلاق فجنسه مشروع: كالنكاح والبيع، فهو يحل تارة، ويحرم تارة، فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح، والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم: كان مقتضى ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق، إلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد .
ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا: هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك، ومن نازعهم يقول: ما زال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها، فإن الاعتبار بما رووه، لا بما رأوه وفهموه، وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: (فاقدروا له) وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث: « البيعان بالخيار » (1) مع أن قوله هو ظاهر الحديث، وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله تعالى: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (2) وقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس : أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روى حديث بريرة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه، ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (1973),صحيح مسلم البيوع (1532),سنن الترمذي البيوع (1246),سنن النسائي البيوع (4464),سنن أبو داود البيوع (3459),مسند أحمد بن حنبل (3/402),سنن الدارمي البيوع (2547).
(2) سورة البقرة الآية 223(1/490)
ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع، لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.
قال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة؟ أو يقع ثلاث؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها: من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحري المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه.
وقد ذكرت أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث من عصى الله تعالى بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (2)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3(1/491)
فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم- فهذا لا يستحق أن يعاقب، وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه، وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله.
و ( نكاح التحليل ) لم يكن ظاهرا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل العن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له ) والعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي ؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل، أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له، والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه، فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح حديث صحيح، هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره.
فلما لم يكن على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - تحليل ظاهر، ورأى في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم- فعل ذلك باحتهاده، أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم- بالنص(1/492)
وإجماع الصحابة- والاعتقاد، وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن يزال مفسدة حقيقية بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال، كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أولى؛ ولهذا كان طائفة من العلماء- مثل: أبي البركات - يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا؛ إما لكونهم رأوه من (باب التعزير) الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس، وإما لاختلاف اجتهادهم: فرأوه تارة لازما وتارة غير لازم.
وبالجملة: فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته (شرعا لازما) إنما (1) لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال ؛ كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات ، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك : أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة.
وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم: أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما
__________
(1) هكذا في ( فتاوى شيخ الإسلام ) -(33\93) ولعل حذفها أولى . اهـ ( الناشر).(1/493)
تقول النصارى : من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد.
وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - (شرعا معلقا بسبب) إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ؛ لما روي عن عمر : أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك.
و ( متعة الحج ) قد روي عن عمر أنه نهى عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا (1) : إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من
__________
(1) القول الأول(1/494)
الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء : كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا (1) : بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا، متبدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة . و (القول الثالث): أن الفسخ جائز، وهو أفضل، ويجوز أن لا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف؛ كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ.
فأما حج المفرد والقارن: ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة.
وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك؛ وأنكر علي على ابن عباس إباحة المتعة، قال: إنك امرؤ تائه، « إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، » (2) فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه علي ذلك. وذكر له: « أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية » (3) :
__________
(1) القول الثاني
(2) صحيح البخاري المغازي (3979),صحيح مسلم النكاح (1407),سنن الترمذي النكاح (1121),سنن ابن ماجه النكاح (1961),مسند أحمد بن حنبل (1/142),سنن الدارمي النكاح (2197).
(3) صحيح البخاري النكاح (4825),صحيح مسلم النكاح (1407),سنن الترمذي النكاح (1121),سنن ابن ماجه النكاح (1961),مسند أحمد بن حنبل (1/142),سنن الدارمي النكاح (2197).(1/495)
ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية.. وأما تحريم المتعة، فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليمص الأمر كذلك.
فقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة وهو باطل، فإن هذا كان على عهد أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك، وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء، وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا، وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثابتة هي مع من أنكره، وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما قيل له: فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، فإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح.
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من (وجهين): من جهة: أن العقوبة بذلك: هل تشرع؟ أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق علي الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس، ومن جهة: أن العقوبة إنما تكون لمن(1/496)
يستحقها، فمن كان من (المتقين) استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا فإنه من (المتقين). في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة، وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين (1) ، وإنما نبهنا عليها هنا تنبيها لطيفا.
والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين:
إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة؛ كالزيادة على أربعين في الخمر.
وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم.
وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعا لازما، كسائر الشرائع: فهذا لا يقوم فيه دليل شرعي، وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضا، إذا كان ممن اتقى الله وتاب من البدعة.
__________
(1) أي : من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الناشر).(1/497)
الخلاصة
اتفق الفقهاء: على أن طلاق السنة بالنسبة لعدد الطلاق : أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة مدخولا بها أم غير مدخول بها، ثم له أن يمسك المدخول بها فيراجعها ما دامت في العدة، وله أن يتركها، فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وهذا هو التسريح لها بإحسان.
واتفقوا أيضا: على أنه إذا عاد إلى مطلقته برجعة أو عقد ثم طلقها طلقة واحدة فطلاقه طلاق سنة، ولو فعل مثل هذا مرة ثالثة كان طلاقه طلاق سنة باتفاق.
واختلفوا فيما لو طلق امرأته ثلاثا: بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا مثلا هل هو طلاق بدعة أو لا؟
واختلفوا أيضا: فيما لو طلق المدخول بها طلقة ثم أتبعها أخرى في نفس الطهر أو الطهر الثاني أو الثالث قبل أن يراجعها، هل هو طلاق بدعة أولا؟
ومحل البحث ما لو قال لها في لفظ واحد: أنت طالق ثلاثا مثلا، هل هو بدعة ممنوعة أو لا؟ وهل يعتد به أو لا؟
فهاتان مسألتان في كل منهما خلاف بين العلماء.
وفيما يلي خلاصة القول فيهما:(1/498)
المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة
وفيه قولان:
1 - القول الأولى: وهو قول الحنفية، والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول ابن تيمية، وابن القيم .
وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى والقياس:
أما القرآن : فمنه قوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ } (2) قيل: المراد الأمر بتفريق الطلقات الثلاث على أطهار العدة الثلاثة، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع نهي تحريم أو نهي كراهة، فكان جمع الثلاث في طهر واحد بدعة ممنوعة.
وذكر ابن تيمية : أن الله لم يبح في هذه الآية إلا الطلاق الرجعي، لقوله تعالى: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) والأمر: هو الندم على الطلاق، والرغبة في الرجعة، ولقوله تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
فخير سبحانه بين الرجعة قبل انقضاء العدة دون مضارة للزوجة وبين
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2(1/499)
تركها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وأنه سبحانه لم يبح فيها إلا الطلاق للعدة، فإرداف الطلاق للطلاق في العدة ولو في طهر آخر ممنوع، لقوله تعالى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إذ المعنى: الأمر بطلاقهن مستقبلات عدتهن، ومن طلق زوجته الطلقة الثانية في طهرها الثاني، والثالثة في طهرها الثالث- بنت مطلقته على ما مضى من عدتها ولم تستأنف العدة للثاني ولا للثالث، فلم يكن طلاقا للعدة، فكان غير مشروع، ومنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2)
ووجه الاستدلال: أن هذه الجملة خبرية لفظا طلبية معنى، لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة ولغة العرب، فالمعنى: إذا عزمتم الطلاق فطلقوا مرة بعد مرة، إذ لا يقال لمن دفع درهمين لإنسان دفعة أنه أعطاه مرتين، إلى غير هذا من النظائر، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع فكان ممنوعا.
فإن قيل: إذا كان كل الطلاق في دفعتين كان الواقع منه في دفعة طلقتين، وفي الأخرى طلقة، فكان الجمع بين طلقتين مشروعا، وإذا يكون الجمع بين الثلاث مشروعا، إذ لا فرق.
فالجواب: أن الآية أمرت بتفريق الطلقتين من الثلاث لا بتفريق الثلاث بدليل ما ذكر بعد من مشروعية الرجعة، وفي معناه ما قيل: من أن المراد: أوقعوا الطلاق الرجعي المذكور في قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (3) الآية, مرة بعد مرة، ومن طلق ثلاثا أو طلقتين
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 228(1/500)
دفعة لم يفعل ما أمر به فكان مبتدعا في طلاقه، كما أن من قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين عقب المكتوبات مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار كل من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة لم يكن آتيا بما أمر به كما أمر، فكان مبتدعا.
وقيل في وجه الاستدلال بالآية: إن المراد: الإخبار عن صفة الطلاق الشرعي، والألف واللام في الطلاق للحصر فيقتضي ذلك المنع من الطلاق على غير هذه الصفة؛ لكونه بدعة مخالفة للشرع.
فإن قيل: المراد الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وما زاد فليس برجعي، يدل عليه قوله بعد ذلك: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
أجيب: بأنه لو كان المراد ما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، سواء أوقعهما الزوج مجتمعتين أم مفترقتين، فلما قال { مَرَّتَانِ } (2) اقتضى إيقاعه مفترقا، وثبت أن المراد الإخبار عن صيغة إيقاعه.
فإن قيل: لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به تضعيف العدد دفعة دون تكرار الفعل، كما في قوله تعالى: { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) ونحوها، فإن المراد: تضعيف العدد لا تفريق الأجر.
أجيب: بأن المراد نؤتها أجرها مرة بعد مرة، كما روي عن بعض
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الأحزاب الآية 31(1/501)
السلف، وعلى تقدير: أن المراد في الآية: تضعيف العدد دفعة يقال: إن الأصل فيما ذكر تكرار الفعل، إلا إذا دل دليل على إرادة تضعيف العدد فيعدل إليه استثناء، كما في آية { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (1) وما عداه يبقى على الأصل، على أنه لو أريد بقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) تضعيف العدد دفعة، لمنع الزوج من إيقاع طلقة مفردة، وهذا باطل بإجماع.
وأجيب أيضا : بأن الفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان، فلا يتصور فيه الجمع، كآية الطلاق، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فيتصور فيه الجمع، كما في آية { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) وآية { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } (4) ونحوهما، ومنه قوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (5) الآية.
وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، لوقوعه في حيز الشرط، فعلم أن جمع الثلاث غير مشروع.
ومن السنة: حديث « تزوجوا ولا تطلقوا » إلخ، قيل: نهي عن الطلاق لأمر ملازم له لا لعينه؛ لأنه بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، والمراد والله أعلم: الجمع بين طلقتين أو أكثر في طهر والطلاق في الحيض، ولكن هذا الحديث ضعيف فلا يشتغل بمناقشته (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة التوبة الآية 101
(5) سورة البقرة الآية 232
(6) ذكره السيوطي في [الجامع الصغير] وضعفه(1/502)
ومنها: ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه: قال: سمعت محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: « فعلته لاعبا ثم قال: تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ » (1) وإسناده على شرط مسلم، ودلالة متنه على المنع ظاهرة.
وأعترض عليه: أولا: بأن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب.
وعورض ذلك: بقول من قال سمع من أبيه، ومعه زيادة علم وإثبات فيقدم، وعلى تقدير أنه لم يسمع من أبيه، وإنما رواه من كتابه وكان كتاب أبيه عنده محفوظا مضبوطا- فقد انعقد الإجماع على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عند راويه أنه من كتابة شيخه، بل الرواية من الكتاب المصون أوثق، فإن الحفظ يخون والنسخة الثابتة المحفوظة لا تخون، وقد أطال ابن القيم الكلام على توثيق مخرمة، واعتبار الرواية من الكتاب وصحة الاحتجاج بها.
واعترض ثانيا: بأن محمود بن لبيد وإن كان صحابيا إلا أنه لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه مرسلة.
وأجيب: بأن مرسل الصحابي مقبول، فصح الاحتجاج بالحديث.
ومنها: حديث عبادة بن الصامت: « أن قوما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أبانا طلق امرأته ألفا، فقال: بانت امرأته بثلاث في معصية لله، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة » .
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).(1/503)
وأجيب : بأن في سنده رجالا مجهولين وضعفاء، فلا يصلح للاحتجاج به.
ومنها: حديث علي قال: « سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » فدل غضبه على المنع من جمع الثلاث بلفظ صريح أو كناية.
وأجاب الدارقطني : بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، وهو ضعيف.
وقال ابن القيم : في سنده مجاهيل وضعفاء، فلا يصح الاحتجاج به.
ومنها: « أن ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها قال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي؟ قال: لا، بانت منك، وهي معصية » (1) .
وأجيب: بأن في سنده شعيب بن رزيق وقد تكلموا فيه، وتفرد في هذا الحديث عن الثقات بزيادة قوله: أرأيت لو طلقتها ثلاثا. إلخ.. فلم يأت أحد منهم في روايته لهذا الحديث بما أتى به؛ ولذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن.
وأما الإجماع: فقد أنذر عمر من يأتيه وقد طلق امرأته ثلاث تطليقات مجموعة بأن يوجعه ضربا، وحكم كثير من الصحابة بأن من يطلق ثلاثا مجموعة أو أكثر فقد عصى ربه، واستنكروا ذلك من فاعله وجعلوه متعديا
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1471),مسند أحمد بن حنبل (2/124).(1/504)
لحدود الله، وانتشر ذلك عنهم دون نكير، فكان إجماعا على المنع من جمع ثلاث طلقات فأكثر دفعة.
وأما المعنى: فمن وجهين:
الأول: أن النكاح عقد مصلحة، والطلاق إبطال له، فكان مفسدة، والله لا يحب الفساد.
الثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل واجب، وفي الطلاق قطع للسنة أو تفويت للواجب، فكان الأصل فيه الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص فيه للدواعي الطارئة كتوقع مفسدة من استمرار النكاح أشد من مفسدة الطلاق، فيرتكب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما، لكن يقتصر من ذلك على طلقة واحدة، إذ بها تندفع المفسدة، وما زاد عليها فيبقى على الأصل، وهو المنع، ويشهد لكون الأصل في الطلاق الحظر حديث: « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
وأما القياس : فلأن التطليق ثلاثا دفعة فيه تحريم البضع من غير حاجة فأشبه الظهار، فكان ممنوعا، ولأن فيه ضررا وإضرارا بنفسه وبامرأته، فأشبه الطلاق في الحيض فكان ممنوعا.
2 - القول الثاني: أن جمع الطلاق الثلاث في كلمة ليس بمحرم ولا بدعة:
وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1187),سنن أبو داود الطلاق (2226),سنن ابن ماجه الطلاق (2055),مسند أحمد بن حنبل (5/283),سنن الدارمي الطلاق (2270).(1/505)
واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والآثار والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (1) وقوله تعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (2) وقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } (3) فهذه تعم إباحة الثلاث والاثنتين، فإنه تعالى لم يخص مطلقة طلقة واحدة من مطلقة ثلاثا، فليس لأحد أن يخصها إلا بدليل.
ويمكن أن يقال: إن المقصود في الجمل الشرطية الحكم بما تضمنه الجواب على تقدير تحقق فعل الشرط، بقطع النظر عن كون فعل الشرط مطلوب الحصول أو مباحا أو ممنوعا، وعلى هذا يكون القصد من آية { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (4) الحكم بتحريم الزوجة على زوجها الذي طلقها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، وقد يكون طلاقها المرة الثالثة مأذونا فيه كما لو طلقها في طهر لم يمسها فيه طلقة، وقد يكون محرما كما لو طلقها المرة الثالثة في حيض مثلا، ويكون القصد من آية { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (5) عدم وجوب العدة على تقدير حصول الطلاق
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة الأحزاب الآية 49
(3) سورة البقرة الآية 241
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة الأحزاب الآية 49(1/506)
قبل الدخول، أما كون طلاقها مباحا أو محرما فيفهم من أمر آخر، وأما آية: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } (1) فالقصد منها إثبات المتعة للمطلقة، وجوبا أو ندبا، لا بيان حكم الطلاق، فقد يكون محرما وتثبت لها المتعة وقد يكون مباحا كما تقدم.
وبهذا يتبين: أن الآيات الثلاث ليست أدلة في محل النزاع.
وأما السنة: فمنها « حديث فاطمة بنت قيس، وفيه أن زوجها طلقها ثلاثا أو طلقها البتة وهو غائب وبعث إليها وكيله بشعير نفقة لها، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لك عليه نفقة » (2) . فلم يعب - صلى الله عليه وسلم - الثلاث مع الإجمال فيما بلغه من خبر الطلاق ولم يستفسر عن كيفيته، ولفظ البتة هنا مراد به: الثلاث، وإلا لم تسقط نفقتها ولا سكناها.
وأجيب: برواية الزهري هذا الخبر عن أبي سلمة، وفيه ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، وبرواية الزهري أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود : أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، فذكر الخبر، وفيه: أن مروان أرسل إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته، وذكر باقي الخبر، فكان هذا تفسيرا لما في الثلاث أو البتة من الإجمال، وأن ذلك لم يكن مجموعا، وأعل ابن حزم الرواية الثانية بالانقطاع؛ لعدم التصريح بالتحديث أو السماع.
__________
(1) سورة البقرة الآية 241
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3222),سنن أبو داود الطلاق (2284),سنن ابن ماجه النكاح (1869),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).(1/507)
ويمكن أن يقال: إن ظاهرها الاتصال؛ لأنها في حكم الرواية بها لمتعته ونحوها، فصلحت تفسيرا للإجمال.
وقال ابن حزم أيضا: إن كلا الخبرين ليس فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك.
ويمكن أن يقال: إن الأصل بيان السائل الثقة الورع لواقع أمره، وخاصة الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لتطمئن النفس إلى موافقة الجواب للواقع، وعلى تقدير الاحتمال في حديث فاطمة فحمله على ما كان شائعا كثيرا- وهو إفراد الطلاق- أولى من حمله على النادر وهو جمع الثلاث في كلمة.
ومنها: حديث تلا عن عويمر وامرأته، وفيه أنه طلقها ثلاثا بعد اللعان قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان جمع الثلاث ممنوعا لبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاص بجمع الثلاث، وعلمه الطلاق المشروع.
وأجيب: بأنه لما لم يصادف طلاقه محلا لم ينكر عليه، فإنها صارت أجنبية منه لا تحل له أبدا بتمام اللعان لا بالطلاق الثلاث وإلا لحلت له بعد أن تنكح زوجا آخر، وقد أيد ذلك فيما سبق في حديث محمود بن لبيد من إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، وبهذا يجمع بين خبري الإنكار والسكوت بحمل أحدهما على طلاق صادف محلا والآخر على ما إذا لم يصادف محلا.
وأما قول سهل : فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله: فمضت السنة بعد في(1/508)
المتلاعنين أن يفرق بينهما. فسيأتي الكلام عليه في موضعه من المسألة الثانية.
ومنها: حديث المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، والأخرى التي بت زوجها طلاقها. وقد تزوجت كلا منهما بعد ذلك ثم طلقت قبل أن يجامعها، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » (1) فدل عدم نقل الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق الرجل امرأته ثلاثا أو بت طلاقها على جواز الجمع بين الثلاث، إذ لو كان ممنوعا لأنكره، ولو أنكره لنقل.
أجيب: أن اللفظ محتمل أن تكون الثلاث مجتمعة وأن تكون مفرقة، ولفظ البتة يعبر به عن الثلاث، وقد ثبت أن كلا منهما قد طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فليس في ذلك دليل لجواز جمع الثلاث.
وأما الآثار: فمنها: ما روي أن عمر - رضي الله عنه - استفتي فيمن طلق امرأته البتة، فاستحلفه عما أراد، فحلف أنه أراد واحدة فردها إليه، ولم يقل له لو أردت ثلاثا لعصيت ربك.
وأجيب: بأن عمر أنكر عليه بقوله: ما حملك على هذا، وبتلاوة قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } (2) ورد الجواب بأنه أنكر عليه عدوله في الطلاق عن اللفظ الصريح إلى لفظ محتمل وهو البتة.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2496),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) سورة النساء الآية 66(1/509)
ومنها: أن عثمان لم ينكر على عبد الرحمن بن عوف طلاقه امرأته ثلاثا. ومنها: أن أبا هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة وعبد الله بن الزبير لم ينكروا على من استفتى في طلاق الثلاث ولم يعيبوا عليه ذلك ولم يقل أحد منهم لمن استفتاه في ذلك بئس ما صنعت، وما روي من إنكار ابن عباس وغيره من الصحابة على من طلق امرأته مائة أو ألفا فإنما إنكاره لما زاد عما جعل إليه من الثلاث، وروي ما يوافق ذلك عن شريح والشعبي وغيرهما من التابعين، وقد يقال: يرد هذا ما روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين أنهم أثموا من طلق ثلاثا، وقالوا: إنه عصى ربه، وتوعدوا من يطلق ثلاثا في مجلس واحد بالأذى، كما روي عنهم ذلك فيمن تجاوز الثلاث في طلاقه، وإذا فليس الإنكار خاصا بما زاد على الثلاث.
وأما المعنى: فإن الشرع قد جعل الطلاق إلى الزوج يمضي منه ما شاء ويبقي ما شاء، دون أن يكون عليه في ذلك حرج، كما أنه لا يحرم عليه أن يعتق ما شاء من عبيده ويتصدق بما شاء من ماله ويبقي من ذلك ما شاء، بل له أن يأتي على ذلك كله.
وأجيب: بأن الأصل فيما ذكر أنه من القربات، فله أن يفعل من ذلك ما شاء ويؤجر عليه ما لم يضر بنفسه، بخلاف الطلاق فإن الأصل فيه الحظر لما تقدم؛ ولأنه أبغض الحلال إلى الله وقد شرع على صفة معينة، فينبغي التزامها في إيقاعه.(1/510)
المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفيه مذاهب:
المذهب الأول : أنه يقع ثلاثا وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والقياس:
أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) فإنه يدل على أنه إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، في طهر لزمه اثنتان، وإذا فيلزمه اثنتان إذا أوقعهما معا في كلمة واحدة (2) ؛لأنه لم يفرق بين ذلك أحد، وأيضا حكم الله بتحريمها عليه بعد الثالثة في قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (3) الآية، ولم يفرق أحد بين إيقاعها في طهر أو أطهار، فوجب الحكم بإلزامه بالجميع على أي وجه أوقعه، مباح أو محظور.
واعترض: بأن المراد بالآية: الطلاق المأذون فيه، وإيقاع الثلاث معا غير مأذون فيه، فكيف يستدل بها في الإلزام بطلاق وقع على غير الوجه المباح وهي لم تتضمنه؟
وأجيب: بأنها دلت على الأمر بتفريق الطلاق، ولا مانع من دلالتها
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) وكذا الثلاث إذا أوقعها معا
(3) سورة البقرة الآية 230(1/511)
على الإلزام به من جهة أخرى إذا وقع على غير الوجه المأمور به.
واعترض أيضا: بأن قوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) بين المراد من آية الاستدلال، وأن الطلاق إنما يكون للعدة، فمتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.
وأجيب: بأنا نثبت حكم كل من الآيتين فنثبت بآية { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) أن الطلاق المسنون ما كان للعدة، ونثبت بآية { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) أن من طلق لغير العدة أو جمع بين الثلاث لزمه ما فعل، وبذلك نكون قد أخذنا بحكم كل من الآيتين، على أن آخر آية الطلاق للعدة وهو قوله تعالى: وتلك حدود الله ... الآية يدل على وقوع الطلاق لغير العدة، فإنه لو لم يلزمه لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه ولا بطلاقه، كما أن قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (4) يدل على ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الدليل الثاني إن شاء الله.
واعترض أيضا: بأن الزوج لو وكل من يطلق طلاقا مفرقا على الأطهار فجمع الثلاث في طهر لم يقع لكونه غير مأمور به فكذا الزوج.
وأجيب: بالفرق بينهما، فإن الزوج يملك الطلاق الثلاث، وإيقاعه على غير الوجه المشروع لا يمنع من إلزامه به كالظهار والردة، أما الوكيل فلا يملك من الطلاق إلا ما ملكه موكله ولا يملك إيقاعه إلا على الوجه
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الطلاق الآية 2(1/512)
الذي وصفه له موكله ، إذ هو معبر عن موكله وتلزمه حقوق ما يوقعه ، وسيأتي لهذا مزيد بحث .
واستدل أيضا بعموم قوله تعالى في الآية : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) على أنه يتناول إيقاع الثلاث دفعة .
وأجيب عن وجوه الاستدلال بالآية :
أولا : بأن تسريح المطلقة طلاقا رجعيا بإحسان تركها بلا مضارة لها حتى تنقضي عدتها ، لا طلاقها مرة أخرى قبل رجعتها ، وما روي مرفوعا من تفسير التسريح بالإحسان بطلاقها الثالثة فمرسل .
ثانيا : بأن من العلماء من فرق بين إيقاع الطلاق مفرقا في طهر أو مجموعا ، وبين إيقاعه مفرقا في أطهار دون سبق رجعة ، وإيقاعه مفرقا في أطهار مع سبق كل برجعة ، فدعوى عدم الفرق مخالفة للواقع .
ثالثا : بأن الله جعل الطلاق إلى الزوج لكن على أن يوقعه مفرقا مرة بعد مرة على صفة خاصة ، ولم يشرع سبحانه إيقاع الطلاق ثلاثا جملة حكمة في تشريعه ورحمة بعباده ، فإيقاعه ثلاثا مجموعة مخالف لأمر الله وشرعه ، وأما قياس الثلاث مجموعة على الظهار فيبطل قولكم ويثبت قول مخالفيكم ، فإن الله لم يلزم المظاهر بما التزم من تحريم زوجته وجعلها كأمه أو أخته مثلا ، بل لم تزل زوجته ، وعاقبه بشيء آخر على جريمة الظهار هو الكفارة ، فإذا أدى ما شرع من الكفارة حلت له مماستها ، فمقتضى قياسكم أن لا يلزم بشيء من الثلاث ، ويعاقب بأمر آخر على جريمة الجمع
__________
(1) سورة البقرة الآية 229(1/513)
بين الثلاث ، وكذا القول في قياسكم جمع الثلاث على الردة ، وإذا ليست الآية دليلا على إلزام الثلاث أو الثنتين إذا أوقعها مجموعة ، بل تدل على خلافه .
ومنه قوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1) ومن طلق ثلاثا مجموعة فقد تعدى حدود الله ؛ لإيقاعه الطلاق على غير الوجه المشروع ، وظلم نفسه بتعجله فيما كانت له فيه أناة ، وحرمانه من رجعة زوجته ، إذ لو لم يلزم بالثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لم يكن ظالما لنفسه ولا محروما من زوجته ، لتمكنه من رجعتها .
ويؤيده : أن ابن عباس أفتى بإلزام الثلاث من طلق ثلاثا ، وعاب على من جمع الثلاث ورماه بالحماقة ، واستشهد بالآية ، وأجيب بمنع دلالة الآية على الإلزام بالثلاث ؛ لأن ركانة لما طلق امرأته ثلاثا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، وتلا هذه الآية ، ولو كانت دليلا على إلزام الثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لما استدل بها صلى الله عليه وسلم ، وستأتي مناقشة حديث ركانة .
وكما روي عن ابن عباس الإلزام بالثلاث والاستشهاد بالآية روي عنه اعتبارها واحدة .
ويمكن أن يقال : بحمل تعدي حدود الله في الآية وظلم المطلق لنفسه على الطلاق لغير العدة وإخراج الزوج مطلقته طلاقا رجعيا من بيتها الذي
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1(1/514)
كانت تسكنه قبل الطلاق وخروجها منه أيام العدة ، دون الطلاق الثلاث ، وقد يساعد على هذا سابق الكلام ولاحقه ، وفي هذا أيضا جمع بين الأدلة ، ومنه قوله تعالى : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (1) ذكر عن الحسن أنها نزلت فيمن كان يطلق ويزوج ابنته ويعتق عبده ، ويدعي أنه كان لاعبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من قالهن لاعبا جائزات : العتاق والطلاق والنكاح » .
وأجيب : بأنه لا دليل في الآية ولا في الحديث على المطلوب ؛ لأنه لم يذكر فيهما طلاق الثلاث أصلا ، وإنما فيهما النهي عن اللعب في الطلاق ونحوه ، على أن ما ذكر من مراسيل الحسن .
وأما السنة فأولا : حديث تلاعن عويمر العجلاني وامرأته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بإنفاذ الطلاق الثلاث لا باللعان ، يؤيد هذا قول سهل : « فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) . . . إلخ . وبهذا يعلم أن طلاق عويمر اعتبر ثلاثا ، وبانت منه امرأته بذلك ، ثم أكد ذلك بتأبيد تحريمها عليه في اللعان خاصة ، وقد يقال : بأن إنفاذ الطلاق الثلاث دفعة على الملاعن خاص باللعان ، لما فيه من تأبيد التحريم بخلاف غيره ، بدليل حديث محمود بن لبيد .
ويجاب : بأن حديث محمود بن لبيد - وإن صح - ليس فيه إنفاذ الثلاث ولا عدم إنفاذها ، وحديث اللعان فيه إنفاذها فيقدم ، بل قيل : إن حديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) صحيح البخاري الأدب (5734),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409).(1/515)
محمود بن لبيد دليل على اعتبار إيقاع الثلاث دفعة ثلاثا ؛ لأن الزوج طلق ثلاثا يظنها لازمة له ، فلو كانت غير لازمة لبين له صلى الله عليه وسلم لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وقد أجيب عن أصل الاستدلال : بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ تطليقات عويمر على الوجه الذي كان معروفا في عهده من اعتبارها واحدة رجعية ، ثم حرمها عليه تحريما أبديا ، بدليل قوله في الحديث : ( فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ) فإن التفريق يتأتى مع بقاء النكاح ، بخلاف ما إذا اعتبرت تطليقات عويمر ثلاثا ، فإنها تكون أجنبية منه بذلك محرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره .
وكذلك يقال فيما أمضاه على المطلق في حديث محمود بن لبيد ، فإن حمله على ما كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم أقرب من حمله على الثلاث ؛ بل هو المتعين .
ثانيا : حديث من طلقها زوجها ثلاثا وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيحها لزوجها الأول حتى يطأها الثاني ، قالوا : الظاهر أنه طلقها ثلاثا مجموعة فأمضاها عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لحلت للأول دون أن تذوق عسيلة الثاني .
وأجيب : بأنه ورد في بعض الروايات أن الأول طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وعلى تقدير تعدد القصة وأن هذه الرواية كانت في إحداهما فكل منهما ليس فيها ما يدل على أن التطليقات كانت مجموعة ؛ لجواز أن تكون متفرقة ، بل في الحديث ما يدل على تفرقها ، فإنه لا يقال : طلق ثلاثا إلا لمن فعل ذلك مرة بعد مرة ، كما يقال : سلم ثلاثا ، وسبح ثلاثا ، ومع(1/516)
هذا فقد كان المشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق متفرقا ، أما إيقاعه مجموعا فقد كان قليلا ومنكرا ، وحمل اللفظ على الكثير الحق أقرب من حمله على القليل المنكر .
ثالثا : حديث فاطمة بنت قيس ، فإن زوجها طلقها ثلاثا مجموعة ، وقد تقدم الكلام فيه وفي مثله توجيها وإجابة ، إلا أنه ذكر هنا زيادة في رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي : أن زوجها طلقها ثلاثا جميعا .
وأجيب عنها : بأنها قد تفرد بها مجالد عن الشعبي وهو ضعيف ، وعلى تقدير الصحة فكلمة ( جميعا ) في الغالب لتأكيد العدد ، فالمعنى حصول الطلاق الذي يملكه جميعه لا اجتماعه ، كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (1)
فالمراد : حصول الإيمان من جميعهم لا حصوله منهم في وقت واحد . وذكر بعضهم : أن تعبير فاطمة بنت قيس عن كيفية طلاقها مختلف الصيغة ولم يفرق بينهما الصحابة في الحكم وإلا لاستفسروا عما فيها من إجمال .
وأجيب : بأن الإجمال زال برواية طلقها آخر ثلاث تطليقات ، ورواية أرسل إليها بطلقة كانت بقيت لها .
رابعا : حديث ركانة ، فإنه طلق امرأته سهيمة البتة ، واستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد ، واستحلفه عليه فحلف ما أراد إلا واحدة ، فردها عليه ، فدل على أنه لو أراد أكثر لأمضاه عليه ، إذ لو لم يفترق الحكم لما استفسره ولا
__________
(1) سورة يونس الآية 99(1/517)
استحلفه ، وهذا الحديث وإن تكلم فيه من أجل الزبير بن سعيد فقد صححه بعض العلماء ، وحسنه بعضهم ، وذكر الحاكم له متابعا من بيت ركانة .
وأجيب : بأن الإمام أحمد ضعف حديث طلاق ركانة زوجته ألبتة من جميع طرقه ، وضعفه البخاري ، وقال : مضطرب فيه ، تارة قيل فيه : ثلاثا ، وتارة قيل فيه : واحدة ، وعلى ذلك تترك الروايتان المتعارضتان ، ويرجع إلى غيرهما .
هذا وقد روي حديث تطليق ركانة امرأته ثلاثا ، وجعلها واحدة من طريقين :
إحداهما : عند الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس مرفوعا .
والثانية : في [ سنن أبي داود ] من طريق ابن صالح بسنده إلى ابن عباس مرفوعا ، فوجب المصير إلى ذلك .
وأجيب عن الأولى : بأنها لا تقوم بها الحجة ؛ لمخالفتها فتيا ابن عباس ، وستأتي مناقشة ذلك .
وأجيب عن الثانية : بأن في سندها مقالا ؛ لأن ابن جريج روى هذا الحديث عن بعض بني أبي رافع ، ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله ، وسائرهم مجهولون ، وقد رجح أبو داود في [ سننه ] رواية نافع بن عجير في طلاق ركانة زوجته ألبتة على رواية بعض بني أبي رافع :(1/518)
أن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا لذلك ، ولفظ ابن جريج في تسمية المطلق عبد يزيد مع أن عبد يزيد لم يدرك الإسلام ، ولأن أهل بيت ركانة أعلم بحاله .
وقد أجاب ابن القيم بما خلاصته : سقوط رواية كل من نافع بن عجير وبعض بني أبي رافع لجهالة كل منهما ، أما أن يرجح أحد المجهولين أو من هو أشد جهالة على الآخر فكلا ، ويعدل إلى رواية الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس لسلامته ، فإن أحمد وغيره احتجوا به في مسائل النكاح والعرايا وغيرها ، وقد ذكر فيه : أن ركانة طلق امرأته سهيمة ثلاثا ، فجعلها صلى الله عليه وسلم واحدة .
وستأتي لهذه زيادة بحث إن شاء الله .
خامسا : حديث ابن عمر في تطليق زوجته في الحيض ، وفي آخره : « فقلت : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؛ قال : لا ، كانت تبين منك وتكون معصية » فإنه ظاهر في إمضاء الثلاث مجموعة .
وأجيب أولا : بأن في سنده شعيب بن زريق الشامي عن عطاء الخراساني ، وقد وثق الدارقطني شعيبا ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وحكى عنه ابن حجر أنه قال : يعتبر بحديثه من غير روايته عن عطاء الخراساني ، وقال الأزدي : فيه لين ، وقال ابن حزم : ضعيف ، أما عطاء الخراساني فقد ذكره البخاري في الضعفاء ، وقال ابن حبان : كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به ، ووثقه ابن سعد وابن معين وأبو حاتم ، ومع ذلك فقد انفرد شعيب عن الأئمة الأثبات بهذه الزيادة فإنه لم يعرف عن أحد منهم ذكرها .(1/519)
سادسا : حديث عبادة بن الصامت في تطليق بعض آبائه امرأته ألفا ، فلما سأل بنوه النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه » .
وأجيب : بأن في سنده رواة مجهولين وضعفاء .
سابعا : حديث : « من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته » . وأجيب : بأن في سنده إسماعيل بن أمية الذراع ، وقد قال فيه الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث ، ضعيف متروك الحديث .
ثامنا : حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا طلق امرأته ألبتة ، فأنكر ذلك ، وقال : « من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » (1) .
وأجيب : بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي ، قال فيه الدارقطني : كوفي ضعيف ، وقال ابن القيم : في إسناد هذا الحديث مجاهيل وضعفاء .
وأما الإجماع : فقد نقل كثير من العلماء الإجماع على إمضاء الثلاث في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ، منهم : الشافعي وأبو بكر الرازي وابن العربي والباجي وابن رجب ، وقالوا : إنه مقدم على خبر الواحد ، قال الشافعي : الإجماع أكثر من الخبر المنفرد ، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه ، بخلاف الإجماع فإنه معصوم .
وأجيب : بأنه قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القول برد الثلاث المجموعة إلى الواحدة .
منهم : أبو بكر ، وعمر صدر من خلافته ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2198).(1/520)
عباس ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطاووس ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومحمد بن إسحاق ، وابن تيمية المجد ، وأصبغ بن الحباب ، ومحمد بن بقي ، ومحمد بن عبد السلام الخشني ، وعطاء بن يسار ، وابن زنباع ، وخلاس بن عمرو ، وأهل الظاهر ، وخالفهم في ذلك ابن حزم .
وغاية الأمر أن يقال : أن بعض من نقل عنهم الإلزام بالثلاث إذا كانت مجموعة نقل عنهم أيضا جعلها واحدة فيكون لهم في المسألة قولان . والقصد أن الخلاف في الإلزام بها مجموعة لم يزل قائما ثابتا .
وممن حكى الخلاف في ذلك عن السلف والخلف : أبو الحسن علي بن عبد الله اللخمي ، وأبو جعفر الطحاوي في [ تهذيب الآثار ] وغيرهم ، وبهذا يتبين أنه ليس في المسألة إجماع .
وأما الآثار المروية عن الصحابة وغيرهم في إمضاء الثلاث على من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فكثيرة :
منها : ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي هريرة وغيرهم ، فإن سلم اعتبارها في الاحتجاج لكونها أقوال صحابة ثبت المطلوب ، وخاصة أن فيهم ثلاثة من الخلفاء : عمر الملهم ، وعثمان ، وعلي ، وحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهم ، وإلا فالحجة في إجماعهم ، فإن فتواهم اشتهرت عنهم ، ولم يعرف عمن لم يفت بذلك إنكار لفتواهم به ، فكان إجماعا وقد تقدم .
وأجيب : بأن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث عقوبة لهم لما رآه(1/521)
من المصلحة في زمانه ؛ ليكفوا عما تتابعوا فيه من جمع الطلاق الثلاث ، ويرجعوا إلى ما جعل الله لهم من الفسحة والأناة رحمة منه بهم ، ولما علم الصحابة منه حسن سياسته لرعيته وافقوه على ذلك ، وأفتوا به رعاية لما رآه من المصلحة ؛ ولذا صرحوا لمن استفتاهم في هذا الأمر بأنه عصى ربه ولم يتقه ، فلم يجعل له مخرجا ، ولم يجعل ذلك الإمضاء شرعا لازما مستمرا ؛ لأنه مما تتغير الفتوى به بتغير الزمان والأحوال ، بل جعل العقوبة به تقريرا لمن خالف ما أمر به كالنفي ، ومنعه صلى الله عليه وسلم المخلفين الثلاثة من نسائهم مدة من الزمن ، والضرب في الخمر ، ونحو هذا مما يختلف التعزير فيه باختلاف الزمان والأحوال ، وكان هذا من الخليفة اجتهادا .
وأما القياس : فهو أن النكاح ملك للزوج فتصح إزالته مجتمعا كما صحت إزالته متفرقا وأن الله جعله بيده يزيل منه ما شاء ويبقي ما شاء ، كالعتق وعقد النكاح .
وأجيب : بأنه قياس مع الفارق فإن الطلاق جعل إليه ليوقعه متفرقا على كيفية معينة ، ومنعه من جمعه ؛ لما تقدم في المسألة الأولى ، فلا يصح قياس جمعه على تفريقه ، ولا على العتق ، ولا عقد النكاح على أكثر من واحدة وما أشبهها ، مما شرع له إيقاعه مجتمعا ومتفرقا .(1/522)
المذهب الثاني : أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة ، دخل بها الزوج أم لا :
وهو قول أبي بكر ، وعمر صدر من خلافته ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وكثير من التابعين ومن بعدهم ؛ كطاووس ، وخلاس بن عمرو ، ومحمد بن إسحاق ، وداود الظاهري ، وأكثر أصحابه ، وهو اختيار ابن تيمية ، وابن القيم .
واستدل لهذا المذهب بالكتاب ، والسنة ، والآثار ، والإجماع ، والقياس :
أما الكتاب : فأولا : قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (1) إلى قوله تعالى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2) وبيانه : أن الألف واللام في قوله : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) للعهد ، والمعهود هو : الطلاق المفهوم من قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (4) وهو رجعي ؛ لقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (5)
فالمعنى : الطلاق من الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة مرتان : مرة بعد مرة ، ولا فرق في اعتبار كل مرة منهما واحدة بين أن يقول في كل مرة : طلقتك واحدة أو ثلاثا أو ألفا ، فكل مرة منهما طلقة رجعية ؛ لما سبق ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 228
(5) سورة البقرة الآية 228(1/523)
ولقوله تعالى بعد : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) وأما قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2) فالضمير المرفوع والمنصوب فيه عائدان إلى المطلق والمطلقة فيما سبق ، لئلا يخلو الكلام عن مرجع لهما ؛ ولأن الطلاق وقع بعد الشرط والحل بعد النفي ، فدل على العموم ، فلو كانت هذه الجملة مستقلة عما قبلها للزم تحريم كل مطلقة ولو طلقة أو طلقتين حتى تنكح زوجا آخر ، وهو باطل بإجماع ، وإذا فمعنى الآية : فإن طلقها مرة ثالثة بلفظ واحد طلقة أو ثلاثا فلا تحل له حتى تتزوج غيره ، وبهذا يدل عموم الآية على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة ، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل .
ثانيا : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (3) وقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
وبيان أن الجمهور استدلوا بها من وجوه على تحريم جمع الثلاث ، وإذا فلا يقع منها مجموعة إلا ما كان مشروعا وهو الواحدة .
وأجيب : بأن التحريم لا يناقض إمضاء الثلاث ، فكم من عبادة أو عقد مشروع ارتكب فيه مخالفة فقيل لصاحبه : عصى ، وصحت عبادته ، ومضى عقده ، وعلى تقرير المناقضة فهو يمنع من إمضاء الواحدة أيضا لوقوع الطلاق على خلاف ما شرع الله ، وذلك ما لا يقول به أحد من
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2(1/524)
الجمهور .
وأما السنة : فمنها أولا : ما رواه مسلم في [ صحيحه ] من طريق ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » (1) .
وأجيب عن الاستدلال به بما يأتي :
أولا : أنه حديث منسوخ ؛ لأن ابن عباس أفتى بخلافه ، فدل ذلك على أنه علم ناسخا له فاعتمد عليه في فتواه .
ونوقش : بأنه يمكن أن يكون اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاد عمر رضي الله عنهما في إمضاء الثلاث تعزيرا للمصلحة ، كما تقدم ، وأيضا لو علم ناسخا لذكره مع وجود الدواعي إليه ، ولم يكتف بمثل ما كان يعلل به في فتواه ، وأيضا الصواب : أن العبرة بما رواه الراوي لا بقوله ، قالوا أيضا : يدل على نسخ الحديث ما ذكر في سبب نزول قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) من أن المطلق كان له الحق في الرجعة ولو طلق ألف مرة ، ما دامت مطلقته في العدة ، فأنزل الله الآية منعا لهم من الرجعة بعد المرة الثالثة حتى تنكح زوجا آخر .
ونوقش : أولا : بأنه روي مرسلا من طريق عروة بن الزبير ومتصلا من
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) سورة البقرة الآية 229(1/525)
طريق عكرمة عن ابن عباس ، لكن في سنده علي بن حسين بن واقد ، وهو ضعيف .
وثانيا : بأنه استدلال في غير محل النزاع ، فإنه ليس فيه الإلزام بالثلاث في لفظ واحد .
وقالوا أيضا : يدل على نسخه حديث امرأة رفاعة وحديث اللعان وحديث فاطمة بنت قيس .
وقد سبق الاستدلال بها ومناقشتها .
وقالوا أيضا : يدل على نسخه إجماع الصحابة زمن عمر رضي الله عنهم على إمضاء الثلاث ، فإنه لا يكون إلا عن علم بالناسخ .
ونوقش : بأنه لا يتأتى مع قول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فلو كان اعتمادهم على العلم بالناسخ لذكروه ولم يعلل عمر بذلك ، وأيضا كيف يستمر العمل بالمنسوح في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما ؟ ! مع كون الأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ .
ونوقش استمرار العمل بالمنسوخ في العهود الثلاثة : بأنه إنما فعله من لم يبلغه النسخ ، فلما كان زمن عمر انتشر العلم بالناسخ فأجمعوا على إمضاء الثلاث كما حصل في متعه النكاح سواء .
ونوقش : بأن متعة النكاح كان الخلاف فيها مستمرا بين الصحابة ؛ لعدم معرفة بعضهم بالناسخ المنقول نقلا صحيحا إلى أن أعلمهم به عمر في خلافته ونهاهم عنها ، بخلاف جعل الثلاث في لفظ واحد طلقة واحدة فإنه(1/526)
ثابت في عهده صلى الله عليه وسلم ، ولم يزل العمل عليه عند كل الصحابة في خلافة الصديق إلى سنتين أو ثلاث من خلافة عمر رضي الله عنهما ، إما فتوى أو إقرارا أو سكوتا ؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أنه إجماع قديم ، لم تجمع الأمة على خلافه بعد ، بل لم يزل في الأمة من يفتي بجعل الثلاث واحدة ؛ ولم ينقل حديث صحيح يصلح أن يعتمد عليه في نسخ حديث ابن عباس ويكون مستندا لما ذكر من الإجماع ، بل الذي روي في ذلك إما في غير الموضوع ، وإما في الموضوع لكنه ضعيف أو مكذوب ، ومع هذا فقد ثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا وموقوفا على ابن عباس ، فالمرفوع هو : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ما يخالفه مرفوعا ، وقد سبقت مناقشة حديث ركانة ، وستأتي بقيتها ، ولا نكارة في إمضاء عمر للثلاث باجتهاده ، ولا على غيره من الصحابة ممن وافق اجتهادهم اجتهاده في إمضائها ، وقد بين عمر وابن عباس وغيرهما وجه ذلك بأن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم من تطليقهم ثلاثا مجموعة وكثير منهم ذلك على خلاف ما كانوا عليه قبل الزموا بالثلاث عقوبة لهم ، ونظير هذا كلما تتغير فيه الفتوى بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة كالعقوبة في الخمر ، والتفريق بين الذين خلفوا ونسائهم ، وقتال علي لبعض أهل القبلة متأولا ، ولم يكن الإمضاء شرعا مستمرا إنما كان رهن ظروفه .
وأجيب ثانيا : بتأويل حديث طاووس عن ابن عباس بأن الطلاق الذي كان الناس يوقعونه واحدة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة(1/527)
عمر اعتادوا إيقاعه بعد ذلك ثلاثا ، ويشهد لهذا قول عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ... إلخ .
ونوقش : بأنه تأويل يخالف الواقع في العهود الثلاثة الأولى ، فإن الطلاق ثلاثا جملة قد وقع فيها من الصحابة ، كما تقدم في حديث محمود بن لبيد ، وحديث اللعان ، وكما يأتي في حديث ركانة ، وأيضا يمنع منه ما ورد في بعض روايات الحديث من أنها جعلت واحدة أو ردت إلى الواحدة .
وأجيب ثالثا : بحمل الحديث على غير المدخول بها بدليل ذكر ذلك في الرواية الأخرى ، فإن الزوج إذا قال لها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق : بانت بالأولى ، فكان الثلاث واحدة .
ونوقش هذا : ولم يزل ماضيا ولم يتقيد بعهد ولا زمان ، وما نحن فيه تغير حكمه في أيام عمر رضي الله عنه عما كان عليه قبل .
وقد وجه بعضهم الجواب بتوجيه آخر ، وهو : أن زوجها إذا قال لها : أنت طالق ثلاثا بانت بقوله أنت طالق ، ولغي قوله : ثلاثا ، ونوقش بأنه كلام متصل ، فكيف يفصل بعضه من بعض ويحكم لكل بحكم ؟
ونوقش أصل الجواب : بأن حديث طاووس نفسه عن ابن عباس مطلق ليس فيه ذكر لغير المدخول بها ، وجواب ابن عباس في الرواية الأخرى ، والرد على سؤال أبي الصهباء عن تطليق غير المدخول بها ثلاثا ، فخص ابن عباس غير المدخول بها ليطابق الجواب السؤال ، ومثل هذا ليس له مفهوم(1/528)
مخالفة .
وأجيب رابعا : بأن جعل الثلاث واحدة لم يكن عن علم منه صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره ، وإلا ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه .
ونوقش : بأن جماهير المحدثين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهده صلى الله عليه وسلم له حكم ، فإنه على تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بذلك يستبعد أن يفعله الصحابة وهم خير الخلق ، ولا يعلمه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل ، ثم كيف يستمر العمل من الأمة على خطأ في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، والأمة معصومة من إجماعها على الخطأ .
وأجيب خامسا : بحمل الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق فإنه يعتبر واحدة مع قصد التوكيد ، وثلاثا مع قصد الإيقاع ، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا ، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ واحد ، ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار ؛ إذ صار الغالب عليهم قصدها .
ونوقش : بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر ، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد ، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب ، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا ، وأيضا قول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . إلخ - يرد حمل الحديث على هذه الصورة - ، فإن معناه : أن الناس استعجلوا فيما شرعه(1/529)
الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منه بهم ، فأوقعوه بلفظ واحد ، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة ، وإن كان في نفسه محتملا .
وأجيب سادسا : بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته ، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه ، ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس ؛ قال : برواية الناس عنه من وجوه خلافه .
ونوقش : بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة راويه ، وهو غير معصوم ، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا ، أو يقوم في علنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه ؛ لثقته به واعتقاد أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه ، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة ، حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه ، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث ، وروي عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة ، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث .
لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين :
الأول : أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو طاهرة في معنى قال بخلافه ، وإلا قدم قوله ؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث ، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون(1/530)
في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث ، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع .
الثاني : أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة : أن ابن عباس قال : إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة : أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس ، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة .
وقد يقال في الأمر الأول : إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة ، وإلا لم يقل عمر رضي الله عنه إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . . . إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره ، وبه اعتذار ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث .
وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث بالنسخ .
ويقول في الأمر الثاني : أنه لا مانع من ثبوت القول بجعل الثلاث بلفظ واحدة عن كل من ابن عباس وعكرمة ، وعلى تقدير تعارض الروايتين بالنفي والإثبات ، فالمثبت مقدم على النافي ، على أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من كل من روى عن أيوب ، كما قال يحيى بن معين ، فيقدم على إسماعيل بن إبراهيم (1) .
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 3 \ 9 ) .(1/531)
وأجيب سابعا : بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث بلفظ ألبتة ؛ لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة ، فرواه بعض رواته بالمعنى ، فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة ، وفي هذا جمع بين الروايات ، وكان يراد بها واحدة كما أراد بها ركانة ، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث بها ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه ، ونظيره زيادته الضرب في شرب الخمر حين تتابع الناس فيه .
وقد يقال : إن هذا تأويل على خلاف الظاهر بلا دليل ، وأيضا تقدم في كلام الشافعي أن كلمة ألبتة مستحدثة ، وعلى ذلك لا يجوز حمل لفظ الطلاق الثلاث في الحديث عليها .
وأجيب ثامنا : بأنه حديث شاذ ؛ لانفراد طاووس به عن ابن عباس ، وانفراد الراوي بالحديث - وإن كان ثقة - علة توجب التوقف فيه إذا لم يرو معناه من وجه يصح .
ونوقش : بأن مجرد انفراد الثقة برواية الحديث ليس علة توجب رده أو التوقف ، ولا يسمى هذا شذوذا عند علماء الحديث ، إنما الشذوذ الذي يكون علة في رد الحديث هو : أن يخالف الثقة الثقاة مخالفة لا يمكن معها الجمع ، ولم يخالف طاووس في رواية هذا الحديث أحدا من الرواة الثقاة عن ابن عباس في هذا الموضوع ، وإنما وقعت المخالفة بين ما رواه وما أفتى به ، وقد مضى الكلام في ذلك ، لكن لقائل أن يقول : إن استمرار العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وتغيير عمر لذلك على علم من(1/532)
الصحابة مما تتوفر الدواعي على نقله ، فنقله آحادا يوجب رده ، اللهم إلا أن يحمل الحديث على ما تقدم من أن الطلاق كان على وجه التكرار مع قصد التأكيد أو قد كان بلفظ ألبتة فاختلف الحكم فيه لاختلاف النية .
وقد يناقش : ألا يراد بالمنع أن يكون ما ذكر مما توفر الدواعي على نقله ، وأنه على تقدير أن يكون من ذلك ، فللمستدل أن يقول : إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله ، كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره ، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين ، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى ، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره ، ويعتذر عن الفتوى بخلافه ، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه ، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين ، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى .
وأجيب تاسعا : بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا :
أما اضطراب سنده : فلروايته تارة عن طاووس عن ابن عباس ، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس .
وأما اضطراب متنه : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ؟ وتارة يقول : ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدر(1/533)
من خلافة عمر واحدة ؟
ونوقش : بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه ، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل ، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء ، وقد كان سيئ الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقات عن أبي الصهباء ، وأما روايته عن طاووس عن ابن عباس وعن طاووس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس - فكلاهما ممكن ، فلا تعارض ولا اضطراب ، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب .
وأجيب عاشرا : بمعارضته بالإجماع ، والإجماع معصوم فيقدم وقد تقدمت مناقشة ذلك .
ومن السنة أيضا : ما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] عن سعد بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال : فراجعها » (1) ، فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد ، واستدل بما روى به في رد ابنته صلى الله عليه وسلم على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأولى ، وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).(1/534)
يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه ، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة .
ونوقش : بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث : لفظ ألبتة ، لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة ، فرواه بعض رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة ، وفي هذا جمع بين الروايات ، وكانت يراد بها واحدة أولا ، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه ، ونظيره زيادة الضرب في شرب الخمر ونحوه مما تغير فيه الحكم لتغير أحوال الناس ، وقد تقدم هذا في الجواب السابع عند الاستدلال بحديث طاووس عن ابن عباس في جعل الثلاث المجموعة واحدة مع مناقشته .
ونوقش أيضا : بأن لفظ طلقتها ثلاثا يحتمل أن يكون بلفظ واحد ، وأن يكون مفرقا ، وأجيب بأن احتمال تفريقه خلاف الظاهر ؛ لقوله في الحديث في مجلس واحد ، والغالب فيما كان كذلك أن يكون بلفظ واحد .
ونوقش أيضا : بمعارضته للإجماع ، وقد تقدم مناقشة الإجماع عند الكلام على الاستدلال به على إمضاء الثلاث .
ونوقش أيضا : بمعارضته لحديث نافع بن عجير في إمضائه ثلاثا .
وأجيب : بترجيح هذه الرواية على رواية نافع بن عجير ، لسلامتها ، وضعف نافع ، وقد سبق شرح ذلك .
إلى غير هذا من المناقشات التي سبقت عند الإجابة عن الاستدلال بحديث ابن عباس في اعتبار الثلاث واحدة .(1/535)
ومن السنة أيضا : حديث بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس : « أن عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - طلق أم ركانة وتزوج امرأة أخري ، فشكت ضعفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره بطلاقها فطلقها ، وقال له : راجع أم ركانة وإخوته ، فقال : إني طلقتها ثلاثا ، فقال : قد علمت ، راجعها » (1) .
وقد سبق نص الحديث مع مناقشته .
ومن السنة أيضا : « حديث ابن عمر ، وفيه : أنه طلق امرأته وهي حائض ، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السنة » (2) .
ورد : أولا : بأن رواة هذا الحديث شيعة .
وثانيا : بأن في سنده ظريف بن ناصح ، وهو شيعي لا يكاد يعرف .
وثالثا : بأنه مع ما ذكر مخالف لما رواه الثقات الأثبات : أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقة واحدة ، فهو حديث منكر .
واستدلوا بالإجماع : قالوا : إن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة ، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر .
ويمكن أن يجاب : بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة من أن الثلاث بلفظ واحد تمضي ثلاثا .
وقد سبق ذكرها في استدلال من يقول بإمضاء الثلاث . لكن للمستدل أن يقول : إن الآثار التي وردت فيها الفتوى بخلاف هذا الدليل بدأت في عهد عمر بضرب من التأويل ، يدل على تأخير بدئها ظاهر حديث طاووس
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4625),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن الترمذي الطلاق (1175),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),سنن ابن ماجه الطلاق (2022),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).(1/536)
عن ابن عباس .
وقد تقدم مع المناقشة .
واستدلوا : بالقياس ، قالوا : كما لا يعتبر قول الملاعن وقول الملاعنة : أشهد بالله أربع شهادات - بكذا ، أربع شهادات - لا يعتبر قول الزوج لامرأته : أنت طالق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث تطليقات، وكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول أو الفعل من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وإقرار .
ونوقش : بأنه قياس مع الفارق ، للإجماع على اعتبار الطلقة المفردة في الطلاق ، وبينونة المعتدة منها بانتهاء العدة ، وعدم اعتبار الشهادة الواحدة من الأربع في اللعان .
وللمستدل أن يقول : هذا الفارق مسلم ، ومعه فوارق أخرى بينهما ، انفرد كل من الطلاق واللعان بشيء منها ، لكنها ليست في مورد قياس المستدل هنا ، فإنه وارد فيما يعتبر فيه تكرار الفعل أو القول ، ولا يعتد فيه بالاكتفاء بذكر اسم العدد ، وليس من شرط سلامة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع صفاتهما ، بل إن اعتبار هذا لا يتأتى معه قياس ؛ لأن كل شيئين لا بد أن ينفرد كل منهما عن الآخر بخاصة أو خواص ، وإلا كان عينه .
واستدلوا : بما روي من الآثار في الإفتاء بذلك عن ابن عباس وعلي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم .(1/537)
ونوقش : بأن ما روي من ذلك عن طاووس عن ابن عباس مردود ، فإن لطاوس عن ابن عباس مناكير منها روايته هذه الفتوى عن ابن عباس .
وأجيب : بأن طاووس بن كيسان قد وثقه ابن معين ، وسئل أيهما أحب إليك طاووس أم سعيد بن جبير ؟ فلم يخير بينهما ، وقال قيس بن سعد : كان طاووس فينا مثل ابن سيرين بالبصرة ، وقال الزهري : لو رأيت طاووسا علمت أنه لا يكذب ، وروى له أصحاب [ الكتب الستة ] في أصولهم (1) .
فعلى من ادعى روايته للمناكير عن ابن عباس أن يثبت ذلك بشواهد من رواياته عنه في غير هذه المسألة ، أما فيما رواه في هذه المسألة فهو مجرد دعوى في محل النزاع ، وما ذكر من مخالفة غيره له في هذه المسألة فغايته أن يكون لابن عباس فيها قولان ، روى كل من الفريقين عنه قولا منهما ؛ ولذلك قدرتم رجوعه عنها على تقدير صحة روايتها ، ثم إن عكرمة تابع طاووسا في روايته هذا الأثر عن ابن عباس وهو من رجال السنة .
ونوقش : بأن رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس معارضة برواية إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب : أن هذا الأثر من قول عكرمة .
وأجيب : أولا : بأنه لا معارضة لجواز أن يكون روي عن كل منهما .
وثانيا : أنه على تقدير المعارضة فرواية حماد بن زيد مقدمة على رواية إسماعيل بن إبراهيم ، فإن حمادا أثبت في الرواية عن أيوب من كل من
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 5 \ 8 ، 9 ) .(1/538)
روى عنه (1) .
المذهب الثالث : أن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها :
واستدلوا لمذهبهم في المدخول بها بما استدل به الجمهور .
وقد تقدم مع مناقشته .
واستدلوا لمذهبهم في غير المدخول بها بحديث أبي الصهباء الذي قال فيه لابن عباس : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر ؟ ! قال : بلى .
وقد تقدم الحديث ، قالوا : إن التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول بها فيه جمع بين الروايات وإثبات حكم كل منها في حال .
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل .
المذهب الرابع : أنه لا يعتد به مطلقا :
لأن إيقاعه ثلاثا بلفظ واحد بدعة محرمة ، فكان غير معتبر شرعا ، لحديث : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (2) .
ورد بأنه لا يعرف القول به عن أحد من السلف ، وأن أهل العلم في جميع الأمصار مجمعون على اعتباره والاعتداد به ، وإن اختلفوا فيما
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 1 \ 398 ، 399 ) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).(1/539)
يمضي منه ، ولم يخالف فيه إلا ناس من أهل البدع ممن لا يعتد بهم في انعقاد الإجماع .
وقد يستدل لهم أيضا : بأنه كالظهار فإنه لما كان محرما لم يعتبر طلاقا مع قصد المظاهر الطلاق فكذا الطلاق ثلاثا مجموعة .
وأجيب : بالفرق ، فإن الظهار محرم في نفسه على كل حال ، فكان باطلا ولزمت فيه العقوبة على كل حال ، بخلاف الطلاق فإن جنسه مشروع كالنكاح والبيع ؛ ولذا امتنع في حال دون حال ، وانقسم إلى صحيح وباطل أو فاسد .
هذا ما تيسر إعداده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم . . .
حرر في 19 \ 9 \ 1393 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/540)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 18 ) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة ، المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ بحث مسألة ( الطلاق الثلاث بلفظ واحد ) واستنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء ، والتي تنص على : أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة ، أو من أمينها ، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع .
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع ( الطلاق الثلاث بلفظ واحد ) .
وبعد دراسة المسألة ، وتداول الرأي ، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها ، ومناقشة ما على كل قول من إيراد - توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا ؛ وذلك لأمور أهمها ما(1/541)
يلي :
أولا : لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (2)
فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة ، وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان . وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة ، فلم يكن طلاقا للعدة ، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة ، إذ لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة ، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس رضي الله عنه حين قال للسائل الذي سأله - وقد طلق ثلاثا - : إن الله تعالى يقول : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (4) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك .
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه ، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة ، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر ، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة ، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 2(1/542)
المظاهر من امرأته بكفارة الظهار ، فظهر والله أعلم : أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه ، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله .
ثانيا : ما في [ الصحيحين ] عن عائشة رضي الله عنها : « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال : لا ، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) ، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة ( باب من أجاز الطلاق ثلاثا ) ، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات .
ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة ، فلا مانع من التعدد ، فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها ، ثم قال : وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب . اهـ .
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاووس « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة » (2) إلخ . . . ) فإن الحال لا تخلو من أمرين : إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاووس أنها مجتمعة أو متفرقة ، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم ، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج ، وإن كانت متفرقة
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/543)
فلا حجة في حديث طاووس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة ، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاووس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه .
ثالثا : لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة - رحمه الله - حيث يقول : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك . والقرطبي رحمه الله حيث يقول : وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا ، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره ، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير ، فلو قال الولي : أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد ، كما لو قال : أنكحتك هذه وهذه وهذه ، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام . اهـ ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه .
رابعا : لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل ، استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول ، من أن « ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة » (1) ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل ، حيث قال : ومن قال : لا لغو في الطلاق فلا حجة معه ؛ بل عليه ؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا ، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184),سنن أبو داود الطلاق (2194),سنن ابن ماجه الطلاق (2039).(1/544)
ذ كره . اهـ .
فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحه ، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس ، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله .
خامسا : إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم ، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة : ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وابن مسعود ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله : اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة ، إذا سبق بلفظ واحد . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك : الثاني : أنه طلاق محرم ولازم ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه ، اختارها أكثر أصحابه ، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين . اهـ .
وقال ابن القيم : واختلف الناس فيها - أي : في وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب : أحدها : أنه يقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة . اهـ .(1/545)
وقال القرطبي : قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف .
وقال ابن العربي في كتابه : [ الناسخ والمنسوخ ] ونقله عنه ابن القيم رحمه الله في [ تهذيب السنن ] : قال تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا : إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم ، وجعلوه واحدة ، ونسبوه إلى السلف الأول ، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس ، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة ، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل . . . إلى أن قال : وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد ، إلى أن قال : وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة . اهـ .
سادسا : لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة » (2) إلى آخر الحديث ، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه ، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي :
( أ ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا :
أما اضطراب سنده : فلروايته تارة عن طاووس عن ابن عباس ، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/546)
عباس .
وأما اضطراب متنه : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ، وتارة يقول : « ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة » (1) .
( ب ) قد تفرد به عن ابن عباس طاووس ، وطاووس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس ، قال القاضي إسماعيل في كتابه [ أحكام القرآن ] : طاووس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث ، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاووس ، وقال ابن عبد البر : شذ طاووس في هذا الحديث ، وقال ابن رجب : وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاووس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل ، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال : رواية طاووس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب .
( ج ) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين :
أحدهما : تفرد طاووس بروايته ، وأنه لم يتابع عليه ، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور : كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاووس ، وقال الجوزجاني : هو حديث شاذ ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي : وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا . الثاني : ما ذكره البيهقي ، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/547)
الثلاث ، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه ، وقال ابن التركماني : وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم . اهـ .
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، فقد قال للأثرم وابن منصور : بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا ؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد ، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد ، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك .
( د ) أن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها ، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف ، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط ، ولم يروها عن ابن عباس غير طاووس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير ، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة ، ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته ، فقد قال صاحب [ جمع الجوامع ] عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر : والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة . اهـ .(1/548)
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير ، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة . اهـ .
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره ، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس ، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين : إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد ، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد ، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله .
( هـ ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة .
فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف ، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه ، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول :(1/549)
قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر .
( و ) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر - يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث ، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد ، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه .
( ز ) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس ؛ لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة . وهذا مشكل ، ووجه الإشكال : كيف يقرر عمر رضي الله عنه - وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها - بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها ، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام ، ونعني بالطرف الآخر : الزوجات ، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث ، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج ، وحقوق الرجعة ، مما يدل على أن حديث طاووس عن ابن عباس فيه نظر .
وأما المشايخ : عبد العزيز بن باز ، وعبد الرزاق عفيفي ، وعبد الله خياط ، وراشد بن خنين ، ومحمد بن جبير - فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة ، ولهم وجهة نظر مرفقة ، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف .(1/550)
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الرابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط مخالف ... عبد العزيز بن صالح ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن لحيدان ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد المجيد حسن ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
محمد الحركان ... صالح بن غصون ... محمد بن جبير(1/551)
وجهة نظر المخالفين
نرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة ، وقد سبقنا إلى القول بهذا ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه ، وأفتى به : الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم ، وأفتى به : عكرمة ، وطاووس وغيرهما من التابعين ، وأفتى به ممن بعدهم : محمد بن إسحاق ، وخلاس بن عمرو ، والحارث العكلي ، والمجد بن تيمية ، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم .
وقد استدل على ذلك بما يأتي :
الدليل الأول : قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
وبيانه : أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه مرتان : مرة بعد مرة ، سواء طلق في كل مرة منهما طلقة أو ثلاثا مجموعة ؛ لأن الله تعالى قال : { مَرَّتَانِ } (2) ولم يقل طلقتان ، ثم قال تعالى في الآية التي تليها : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3)
فحكم بأن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230(1/552)
غيره ، سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة ، فدل على أن الطلاق شرع مفرقا على ثلاث مرات ، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة واعتبر واحدة .
الدليل الثاني : ما رواه مسلم في [ صحيحه ] ، من طريق طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ) فأمضاه عليهم » (1) .
وفي [ صحيح مسلم ] ، أيضا عن طاووس عن ابن عباس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر واحدة ؟ ! قال : ( قد كان ذلك ) ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ) .
فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، طلقة واحدة وعلى أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ؛ ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثا بقوله : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ) ولم يدع النسخ ولم يعلل الإمضاء به ، ولا بظهوره بعد خفائه ؛ ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثا ، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم أو ظهر له أنه منسوخ .
وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو : إما تأويل متكلف ، وحمل للفظه على خلاف ظاهره بلا دليل ، وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).(1/553)
وضعف طاووس ، وهذا مردود بأن مسلما رواه في [ صحيحه ] ، وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث ، ثم إن الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) ، فأمضاه عليهم ، فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردودا لاضطرابه وضعف راويه ؟
وأبعد من هذا ما ادعاه بعضهم من أن العمل كان جاريا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الطلاق الثلاث واحدة لكنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك ، إذ كيف تصح هذه الدعوى والقرآن ينزل والوحي مستمر ، وكيف تستمر الأمة على العمل بالخطأ في عهده وعهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر ، وكيف يعتذر عمر في عدوله عن ذلك إلى إمضائه عليهم بما ذكر في الحديث من استعجال الناس في أمر كانت لهم فيه أناة .
ومن الأمور الواهية التي حاولوا بها رد الحديث معارضته بفتوى ابن عباس على خلافه ، ومن المعلوم عند علماء الحديث وجمهور الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي متى صحت الرواية ، لا برأيه وفتواه بخلافه ، لأمور كثيرة استندوا إليها في ذلك ، وجمهور من يقول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر ثلاثا يقولون بهذه القاعدة ، ويبنون عليها الكثير من الفروع الفقهية ، وقد عارضوا الحديث أيضا بما ادعوه من الإجماع على خلافه بعد سنتين من خلافة عمر رضي الله عنه مع العلم بأنه قد ثبت الخلاف في اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا ، واعتباره واحدة بين السلف والخلف ، واستمر إلى يومنا ، ولا يصح الاستدلال على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ(1/554)
واحد ثلاثا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة رفاعة القرظي عليه حتى تنكح زوجا غيره لتطليقه إياها ثلاثا ؛ لأنه ثبت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، كما رواه مسلم في [ صحيحه ] فكان الطلاق مفرقا ، ولم يثبت أن رفاعة بن وهب النضري جرى له مع زوجته مثل ما جرى لرفاعة القرظي حتى يقال بتعدد القصة ، وأن إحداهما كان الطلاق فيها ثلاثة مجموعة ، ولم يحكم ابن حجر بتعدد القصة بل قال : إن كان محفوظا - يعني حديث رفاعة النضري - فالواضح تعدد القصة ، واستشكل ابن حجر تعدد القصة في كتابه [ الإصابة ] ، قال : لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير .
الدليل الثالث : ما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] ، قال : حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد - أخو بني المطلب - امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها ، قال : طلقتها ثلاثا قال ؟ فقال : في مجلس واحد قال : نعم ، فقال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ، قال : فراجعها » (1) ، قال : فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر .
قال ابن القيم في كتابه [ إعلام الموقعين ] : ( وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه ) ، وضعف أحمد وأبو عبيد والبخاري ما روي من أن ركانة طلق زوجته بلفظ - ألبتة .
الدليل الرابع : بالإجماع ، وبينه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن الأمر
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).(1/555)
لم يزل على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة في عهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر ، وأن ما روي عن الصحابة من الفتوى بخلاف ذلك فإنما كان من بعضهم بعدما أمضاه عمر ثلاثا تعزيرا وعقوبة ، لما استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة ، ولم يرد عمر بإمضاء الثلاث أن يجعل ذلك شرعا كليا مستمرا ، وإنما أراد أن يلزم به ما دامت الدواعي التي دعت إليه قائمة ، كما هو الشأن في الفتاوى التي تتغير بتغير الظروف والأحوال .
وللإمام أن يعزر الرعية عند إساءة التصرف في الأمور التي لهم فيها الخيار بين الفعل والترك بقصرهم على بعضها ومنعهم من غيره ، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا من زوجاتهم مدة من الزمن عقوبة لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك مع أن زوجاتهم لم يسئن ، وكالزيادة في عقوبة شرب الخمر ، وتحديد الأسعار عند استغلال التجار مثلا للظروف وتواطئهم على رفع الأسعار دون مسوغ شرعي إقامة للعدل ، وفي معنى هذا تنظيم المرور ، فإنه فيه منع الناس من المرور في طرق قد كان مباحا لهم السير فيها من قبل ؛ محافظة على النفوس والأموال ، وتيسيرا للسير مع أمن وسلام .
الدليل الخامس : قياس الطلاق الثلاث على شهادات اللعان ، قالوا : كما لا يعتبر قول الزوج في اللعان : أشهد بالله أربع شهادات أني رأيتها تزني إلا شهادة واحدة لا أربعا ، فكذا لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا لا يعتبر إلا طلقة واحدة لا ثلاثا ، ولو قال : أقر بالزنا أربعا مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار الإقرار لم يعتبر إلا واحدة عند من اعتبر التكرار في الإقرار ، فكذا لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا مكتفيا باسم العدد عن تكرار الطلاق لم يعتبر(1/556)
إلا واحدة , وهكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول لا يكفي فيه عن التكرار ذكر اسم العدد كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات المكتوبة .
والله ولي التوفيق , وصلى الله على نبينا محمد , وآله وسلم .
حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ .(1/557)
مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد
1 - [ تفسير القرطبي ] ، طبع مطبعة دار الكتب المصرية - عام 1354 هـ .
2 - [ أحكام القرآن ] لأحمد بن علي الرازي ( الجصاص ) طبع بمطبعة البهية المصرية ، سنة 1347 هـ .
3 - [ أضواء البيان ] .
4 - [ صحيح البخاري ] ، ومعه [ فتح الباري ] : طبع المطبعة السلفية ، بترقيم عبد الباقي ، وإشراف محيي الدين الخطيب .
5 - [ عمدة القاري ] للعيني ، طبع المطبعة المنيرية .
6 - [ صحيح مسلم وعليه النووي ] الطبعة الأولى ، طبع بالمطبعة الأزهرية - سنة 1347 هـ .
7 - [ مختصر سنن أبي داود ] ومعها [ المعالم ] للخطابي و [ تهذيبها ] ، لابن القيم : طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية - عام 1367 هـ .
8 - [ جامع الترمذي ] .
9 - [عارضة الأحوذي على الترمذي ] لابن العربي .
10 - [ شرح الزرقاني على الموطأ ] طبع بمطبعة الاستقامة بالقاهرة - سنة 1373 هـ .
11 - [ مسند الإمام أحمد ] بتعليق أحمد شاكر ، طبع دار المعارف - سنة 1369 هـ .(1/558)
12 - [ مستدرك الحاكم وعليه تلخيصه للذهبي ] الطبعة الأولى - سنة 1340 هـ ، طبع بمطبعة حيدر آباد .
13 - [ نيل الأوطار ] طبعة حلبية ، الطبعة الثانية - عام 1371 هـ .
14 - [ جامع العلوم والحكم ] لابن رجب ، طبعة حلبية - عام 1382 هـ الطبعة الثالثة .
15 - [ سنن ابن ماجه ] الطبعة الأولى بالمطبعة النازية .
16 - [ سنن سعيد بن منصور ] .
17 - [ سنن الدارقطني ] طبع دار المحاسن للطباعة - طبع عام 1386 هـ .
18 - [ السنن الكبرى ] للبيهقي - الطبعة الأولى - بمطبعة حيدر آباد .
19 - [ المصنف ] ، لعبد الرزاق : الطبعة الأولى .
20 - [ شرح المواهب اللدنية ] للزرقاني المالكي ، الطبعة الأولى ، بالمطبعة الأزهرية - سنة 1325 هـ .
21 - [ شرح معاني الآثار ] ، طبع مطبعة الأنوار المحمدية .
22 - [ المنتقى ] للباجي ، طبع مطبعة السعادة - الطبعة الأولى ، عام 1332 هـ .
23 - [ الجرح والتعديل ] ، الطبعة الأولى ، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، بحيدر آباد الدكن - عام 1371 هـ .
24 - [ تهذيب التهذيب ] الطبعة الأولى ، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، بحيدر آباد الدكن - عام 1327 هـ .
25 - [ خلاصة تهذيب تهذيب الكمال ] الطبعة الأولى - بالمطبعة الخيرية - عام 1323 هـ .(1/559)
26 - [ الإصابة ومعها الاستيعاب ] ، طبع بمطبعة مصطفى محمد .
27 - [ المستفاد من مبهمات المتن والإسناد ] - طبع مطابع الرياض .
28 - [ بدائع الصنائع ] للكني - طبع بمطبعة الجمالية بمصر ، الطبعة الأولى عام 1328 هـ .
29 - [ المبسوط ] ، للسرخسي - طبع بمطبعة السعادة ، بجوار محافظة مصر ، الطبعة الأولى .
30 - [ فتح القدير ] لابن الهمام - الطبعة الأولى ، بالمطبعة الكبرى الأميرية - عام 1315 هـ .
31 - [ المدونة ] ، الطبعة الأولى ، بالمطبعة الخيرية سنة 1324 هـ ، ومعها [ المقدمات ] .
32 - [ المقدمات ] لابن رشد ، ومعها [ المدونة ] .
33 - [ مواهب الجليل ] للحطاب : ملتزم الطبع مكتبة النجاح ، ليبيا .
34 - [ الأم ] الطبعة الأولى ، بالمطبعة الخيرية - عام 1331 هـ .
35 - [ المهذب ] الطبعة الحلبية .
36 - [ المغني والشرح الكبير ] ، الطبعة الأولى ، بمطبعة المنار - سنة 1346 هـ .
37 - [ الكافي ] ، الطبعة الأولى - سنة 1382 هـ - طبع المكتب الإسلامي .
38 - [ الإنصاف ] ، طبع بمطبعة السنة المحمدية - عام 1377 هـ .
39 - [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] .
40 - [ زاد المعاد ] طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية .
41 - [ إعلام الموقعين ] الطبعة المنيرية .(1/560)
42 - [ إغاثة اللهفان ] طبعة حلبية - عام 1357 هـ .
43 - [ مسودة آل تيمية ] .
44 - [ سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ] ليوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي ، طبعه محمد نصيف ضمن مجموعة رأس الحسين .
45 - [ المحلى ] ، لابن حزم ، الطبعة الأولى .
46 - [ التجريد في أسماء الصحابة ] ، للذهبي ، الطبعة الأولى في مطبعة دائرة المعارف النظامية - بحيدر آباد الدكن .
47 - [ الناسخ والمنسوخ ] ، لابن النحاس ، الطبعة الأولى .(1/561)
( 6 )
حكم النشوز والخلع
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(1/563)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم النشوز والخلع
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ، وآله وصحبه وبعد :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة مسألة النشوز والخلع (1) ، وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس ، وهذا نصه :
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
فبناء على ما تقرر من أن تبحث مسألة النشوز والخلع في الدورة الخامسة ، وأن يدرج موضوعها في جدول أعمال تلك الدورة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي :
1 - معنى النشوز والخلع في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الثالث ، ص 175 -226 ، لعام 1397 هـ .(1/565)
2 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوج .
3 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوجة .
4 - حكم أخذ العوض على الخلع عند تحقق النشوز أو توقعه .
5 - الحكم فيما إذا كان النشوز منهما جميعا أو ادعاه كل واحد منهما على الآخر .
وختمت ذلك بخلاصة لما تضمنه البحث .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .(1/566)
حكم النشوز والخلع
النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء :
قال ابن منظور : نشز : النشز والنشز : المتن المرتفع من الأرض ، وهو أيضا ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض ، وليس بالغليظ ، والجمع أنشاز ونشوز ، وقال بعضهم : جمع النشز : نشوز ، وجمع النشز : أنشاز ونشاز ، مثل جبل وأجبال وجبال . والنشاز بالفتح كالنشز .
ونشز ينشز نشوزا : أشرف على نشز من الأرض وهو ما ارتفع وظهر ، يقال : أقعد على ذلك النشاز ، وفي الحديث : « إنه كان إذا أوفى على نشز كبر » (1) أي : ارتفع على رابية في سفر ، قال : وقد تسكن الشين ، ومنه الحديث في خاتم النبوة : « بضعة ناشزة » أي : قطعة لحم مرتفعة على الجسم ، ومنه الحديث : « أتاه رجل ناشز الجبهة » (2) أي : مرتفعها ، ونشز الشيء ينشز نشوزا : ارتفع ، وتل ناشز : مرتفع ، وجمعه نواشز ، وقلب ناشز : إذا ارتفع عن مكانه من الرعب ، وأنشزت الشيء : إذا رفعته عن مكانه ، ونشز في مجلسه ينشز وينشز بالكسر والضم : ارتفع قليلا ، وفي التنزيل العزيز : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (3) قال الفراء : قرأها الناس بكسر الشين ، وأهل الحجاز يرفعونها ، قال :
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2833),صحيح مسلم الحج (1344),سنن الترمذي الحج (950),سنن أبو داود الجهاد (2770),مسند أحمد بن حنبل (2/21).
(2) صحيح البخاري المغازي (4094).
(3) سورة المجادلة الآية 11(1/567)
وهما لغتان .
قال أبو إسحاق : معناه : إذا قيل : انهضوا فانهضوا وقوموا ، كما قال تعالى : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } (1) وقيل في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } (2) أي : قوموا إلى الصلاة أو قضاء حق أو شهادة فانشزوا ، ونشز الرجل ينشز إذا كان قاعدا فقام ، وركب ناشز : ناتئ مرتفع ، وعرق ناشز منتبر ناشز ، لا يزال يضرب من داء أو غيره ، وقوله : أنشده ابن الأعرابي :
فما ليلى بناشزة القصيرى ... ولا وقصاء لبستها اعتجار
فسره فقال : ناشزة القصيرى ، أي : ليست بضخمة الجنبين مشرفة القصيرى بما عليها من اللحم . وأنشز الشيء : رفعه عن مكانه . وإنشاز عظام الميت : رفعها إلى مواضعها ، وتركيب بعضها على بعض ، وفي التنزيل العزيز : { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } (3) أي : نرفع بعضها على بعض .
قال الفراء : قرأ زيد بن ثابت { نُنْشِزُهَا } (4) بالزاي ، قال : والإنشاز نقلها إلى مواضعها ، قال : وبالراء قرأها الكوفيون .
قال ثعلب : والمختار الزاي ؛ لأن الإنشاز تركيب العظام بعضها على بعض . . وفي الحديث : « لا رضاع إلا ما أنشز العظم » (5) أي : رفعه وأعلاه وأكبر حجمه ، وهو من النشز المرتفع من الأرض .
قال أبو إسحاق : النشوز يكون بين الزوجين ، وهو كراهة كل واحد
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة البقرة الآية 259
(4) سورة البقرة الآية 259
(5) سنن أبو داود النكاح (2059),مسند أحمد بن حنبل (1/432).(1/568)
منهما صاحبه ، واشتقاقه من النشز ، وهو : ما ارتفع من الأرض ، ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز ، وتنشز نشوزا وهي ناشز : ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته . قال :
سرت تحت إقطاع من الليل حتى ... لخمان بيت فهي لا شك ناشز
قال الله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) نشوز المرأة : استعصاؤها على زوجها ، ونشز هو عليها نشوزا كذلك ، وضربها وجفاها وأضر بها ، وفي التنزيل العزيز : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (2) وقد تكرر ذكر النشوز بين الزوجين في الحديث ، والنشوز : كراهية كل واحد منهما صاحبه وسوء عشرته له ، ورجل نشز : غليظ عيل ، قال الأعشى :
وتركب مني إن بلوت نكيثتي ... على نشز قد شاب ليس بتوئم
أي : غلظ ذهب إلى تكبيره وتعظيمه فلذلك جعله أشيب ، ونشز بالقوم في الخصومة نشوزا : نهض بهم للخصومة . ونشز بقرنه ينشز به نشوزا : احتمله فصرعه .
قال شمر : وهذا كأنه مقلوب (3) ، مثل : جذب وجبذ ، ويقال للرجل إذا أسن ولم ينقص : إنه لنشز من الرجال ، وصتم إذا انتهى سنه وقوته وشبابه . قال أبو عبيد : النشز والنشز : الغليظ الشديد ، ودابة نشيزة إذا لم يكد
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 128
(3) قوله : ( وهذا كأنه مقلوب إلخ ) أي : من شزن - كفرح : نشط ، وتشزن : اشتد ، وله انتصب له في الخصومة وغيرها ، وصاحبه - تشزنا وتشزينا - : صرعه كما في [ القاموس ] .(1/569)
يستقر الراكب عليها والسرج على ظهرها ، ويقال للدابة إذا لم يكد يستقر السرج والراكب على ظهرها : إنها لنشزة . اهـ (1) .
وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في تعريف النشوز :
وأصل النشوز : الترفع على الزوج بمخالفته ، مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها . اهـ (2) .
وقال القرطبي : والنشوز : العصيان ، مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز ، وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ، ومنه قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (3) أي : ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى ، فالمعنى : أي : تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج .
وقال أبو منصور اللغوي : النشوز : كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ، يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء ، ونشصت تنشص ، وهي السيئة للعشرة .
وقال ابن فارس : ونشزت المرأة : استصعبت على بعلها ، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها ، قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد . اهـ (4) .
__________
(1) [ لسان العرب] ، ( 5 \ 417 ، 418 ) .
(2) [ أحكام القرآن ] ، للجصاص ( 2 \ 230 ) المطبعة البهية المصرية سنة 1347 هـ .
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) [ الجامع لأحكام القرآن ] ، للقرطبي ( 5 \ 170 - 171 ) الطبعة الثانية ، مطبعة دار الكتب المصرية سنة ( 1356 هـ \ 1937 م ) .(1/570)
وقال منصور البهوتي : ( فصل في النشوز ) : وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه وسوء عشرته ، يقال : نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز ، ونشز عليها زوجها جفاها وأضر بها ، قاله في [ المبدع ] ، وغيره ، وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها ، مأخوذ من النشز وهو : ما ارتفع من الأرض ، فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف ، ويقال : نشصت بالشين المعجمة والصاد المهملة . اهـ المقصود (1) .
__________
(1) [ كشاف القناع ] ، ( 5 \ 164 ، 165 ) .(1/571)
النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة وقد يدعيه كل منهما على صاحبه :
أما نشوز الزوج على امرأته : فقد قال الله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن خافت امرأة من بعلها يقول : علمت من زوجها { نُشُوزًا } (2) يعني : استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها ، أثرة عليها وارتفاعا بها عنها ، إما لبغضة ، وإما لكراهة منه بعض أسبابها : إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها ، { أَوْ إِعْرَاضًا } (3) يعني : انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (4) يقول : فلا حرج عليهما
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128(1/571)
يعني : على المرأة الخائفة - نشوز بعلها أو إعراضه عنها { أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1) وهو : أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه ، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح ، يقول : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (2) يعني : والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والطلاق . . .
ثم قال : وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ثم ذكر رحمه الله مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعائشة ، وابن عباس ، ورافع بن خديج ، وعبيدة ، وإبراهيم ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) انظر : [ جامع البيان ] ( 9 \ 267 ، 278 ) ( تحقيق \ محمود وأحمد شاكر ) .(1/572)
باب مصالحة المرأة زوجها
قال الجصاص : قال الله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1)
قيل في معنى النشوز : إنه الترفع عليها لبغضه إياها ، مأخوذ من نشز الأرض ، وهي : المرتفعة ، وقوله { أَوْ إِعْرَاضًا } (2) يعني : لموجدة أو أثرة ، فأباح الله لهما الصلح .
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128(1/572)
مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها . وقال عمر : ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : « خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، فنزلت هذه الآية : الآية ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز » (2) .
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها ، فتقول : أمسكني ولا تطلقني ، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي ، فذلك قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } (3) إلى قوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (4)
وعن عائشة من طرق كثيرة : « أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها » (5) ، قال أبو بكر : فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة ، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة .
وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة ، وأباح الله أن تترك حقها من القسم ، وأن تجعله لغيرها من نسائه ، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية ، إلا أنه إنما يجوز لها
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(2) سورة النساء الآية 128 (1) { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا }
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2454),صحيح مسلم التوبة (2770),سنن أبو داود النكاح (2138),سنن ابن ماجه النكاح (1970),مسند أحمد بن حنبل (6/198),سنن الدارمي الجهاد (2423).(1/573)
إسقاط ما وجب من النفقة للماضي ، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه ، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه ، وإنما يجوز بطيب نفسها شرك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها .
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ، ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء ؟ لأن ذلك أكل مال بالباطل ، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه ؛ لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح ، وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر ، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد .
فإن قيل : فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها ، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة ، قيل له : لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة ، والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها .
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه ، أو بعضه أو على الزيادة عليه ؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه ، وقوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال بعض أهل العلم : يعني : خير من الإعراض والنشوز ، وقال آخرون : من الفرقة ، وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر
__________
(1) سورة النساء الآية 128(1/574)
الأشياء إلا ما خصه الدليل . اهـ (1) .
وقال القرطبي : قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (2) فيه مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } (3) رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده ، و { خَافَتْ } (4) بمعنى : توقعت ، وقول من قال : { خَافَتْ } (5) تيقنت خطأ . قال الزجاج : المعنى : وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز ، قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز : التباعد ، والإعراض : أن لا يكلمها ولا يأنس بها .
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة ، روى الترمذي عن ابن عباس قال : « خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة ، ففعل فنزلت : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز » (7) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة ، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره ،
__________
(1) [ أحكام القرآن ] ، ( 2 \ 345 ، 346 ) المطبعة البهية بمصر .
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) سورة النساء الآية 128
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(7) سورة النساء الآية 128 (6) { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }(1/575)
فأراد أن يطلقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (1)
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (2) قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل ، فنزلت هذه الآية ، وقراءة العامة أن يصالحا .
وقرأ أكثر الكوفيين { أَنْ يُصْلِحَا } (3)
وقرأ الجحدري وعثمان البتي { أَنْ يُصْلِحَا } (4) والمعنى : يصطلحا ثم أدغم .
الثانية : في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ سباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها .
قال ابن أبي مليكة : « إن سودة بنت زمعة لما أسنت ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها ، فآثرت الكون معه ، فقالت له : أمسكني واجعل يومي لعائشة ، ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه » (5) .
قلت : وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة : روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية ، فكانت عنده حتى كبرت ، فتزوج عليها فتاة شابة ، فآثر الشابة عليها ، فناشدته الطلاق ، فطلقها واحدة ، ثم أهملها ، حتى إذا كانت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة ، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال : ما شئت : إنما بقيت
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).(1/576)
واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، قالت : بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة . رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه ، وزاد : فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال أبو عمر بن عبد البر : قوله والله أعلم : ( فآثر الشابة عليها ) : يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها ، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت ؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع . والله أعلم . .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .
وقال الضحاك : لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه .
وقال مقاتل بن حيان : هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة ، فيقول لهذه الكبيرة : أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه ،
__________
(1) سورة النساء الآية 128(1/577)
وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم .
الثالثة : قال علماؤنا : وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء - فهذا كله مباح ، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها ، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية ، فقالت لعائشة : أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهبت يومي لك » (1) ، ذكره ابن خويز منداد عن عائشة اهـ (2)
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين ، فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فلا جناح عليهما فيما افتدت به ، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ ، عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها ، قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (3)
قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بقوله : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } (4)
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4602),مسند أحمد بن حنبل (6/338).
(2) [ تفسير القرطبي ] ( 5 \ 403 وما بعده ) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229(1/578)
ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن -لطلاقكم وفراقكم إياهن- شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان ، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة ، وغير ذلك مما يجب لهن عليكم { إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (1)
إلى أن قال : فإن قال قائل : وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل يأخذ حينئذ منها ما آتاها ؟
قيل : حال نشوزها وإظهارها له بغضته حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ، ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه ، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه ، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له . . .
ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها ، ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها .
ومن ذلك قوله : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : « نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة ، قال : وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم . فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : ويطيب
__________
(1) سورة البقرة الآية 229(1/579)
لي ذلك ؟ قال : نعم ، قال ثابت : قد فعلت فنزلت : » (2) اهـ (3) .
وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (4)
وذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها : أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج .
ومنها : أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة ومنها : أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم .
ومنها : أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين .
ثم قال : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (5) قول من قال : نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق ، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين ؛ إما
__________
(1) سنن ابن ماجه الطلاق (2057).
(2) سورة البقرة الآية 229 (1) { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا }
(3) [جامع البيان] ( 4\ 549 ) وما بعدها .
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19(1/580)
لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره ، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك ، أو لوليها الذي إليه إنكاحها ، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما ، وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا ، فيقال : إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه . . .
إلى أن قال : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1) يعني بذلك جل ثناؤه : لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19(1/581)
ثم ذكر رحمه الله أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة :
فذكر آثارا بأسانيدها إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي : أن المقصود بالفاحشة : الزنا .
وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم ، والضحاك بن مزاحم ، وقتادة وعطاء بن أبي رباح ، أن المقصود بالفاحشة النشوز ، ثم قال : وأولى ما قيل في تأويل قوله : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1) أنه معني به : كل فاحشة ، من بذاء باللسان على زوجها ، وأذى له ، وزنا بفرجها ، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) كل فاحشة متبينة ظاهرة ، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19(1/581)
الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت ، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي حدثني يونس بن سليمان البصري قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » (1) .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا يزيد بن الحباب قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يعصينكم في المعروف ، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف » .
فأخبر صلى الله عليه وسلم : أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا ، وأن لا تعصيه في معروف ، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف .
ومعلوم : أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حقكم عليهن أن لا يوطئن
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).(1/582)
فرشكم أحدا » (1) إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم .
وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه -أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف ، وإذا كان ذلك له ، فمعلوم أنه غير مانع لها -بمنعه إياها ما له منعها- حقا لها واجبا عليه ، وإذا كان ذلك كذلك ، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها ، فأخذ منها زوجها ما أعطته ، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2)
وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3) منسوخ بالحدود ؛ لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا ، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه ، حق له ، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : لا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا ، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (4) من صدقاتكم { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } (5)
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19(1/583)
من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم -مبينة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص (2) وأبو بكر بن العربي (3) ، والقرطبي (4) ، نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع .
وقال تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (5)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ } (6) أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (7) يقول : وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر { قِنْطَارًا } (8) { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (9) يقول : فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن . . . . . { أَتَأْخُذُونَهُ } (10) أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن { بُهْتَانًا } (11) يقول : ظلما بغير حق { وَإِثْمًا مُبِينًا } (12) يعني : وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم . . { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } (13) وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } (14)
__________
(1) [تفسير ابن جرير الطبري] ( 8\ 110 ) وما بعدها . ( تحقيق\ محمود وأحمد شاكر ) .
(2) [أحكام القرآن] للجصاص ( 1\ 109- 111 ) .
(3) [أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\ 151- 154 ) .
(4) [أحكام القرآن] للقرطبي ( 5\ 99- 101 ) .
(5) سورة النساء الآية 20
(6) سورة النساء الآية 20
(7) سورة النساء الآية 20
(8) سورة النساء الآية 20
(9) سورة النساء الآية 20
(10) سورة النساء الآية 20
(11) سورة النساء الآية 20
(12) سورة النساء الآية 20
(13) سورة النساء الآية 21
(14) سورة النساء الآية 21(1/584)
فتباشرتم وتلامستم .
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ ، كما يقول الرجل لآخر : كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به ؟ على معنى التهديد والوعيد .
ثم قال بعد ذلك : واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ .
فقال بعضهم : محكم ، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها ، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق .
وقال آخرون : هي محكمة ، وغير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال ، كانت هي المريدة للطلاق أو هو ، وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء . قال : سألت بكرا عن المختلعة ، أيأخذ منها شيئا ؟ قال : لا ، { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (1)
وقال آخرون : بل هي منسوخة ، نسخها قوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2)
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) سورة النساء الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 229(1/585)
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (1) إلى قوله تعالى : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (2) قال : ثم رخص بعد فقال : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (3) قال : فنسخت هذه تلك .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك : قول من قال : إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها ، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها ، ولا ريبة أتت بها .
وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفى خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا ، وليس في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (4) نفي حكم قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5) ؛ لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (6) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها . وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (7) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره ، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع .
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة النساء الآية 20
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة النساء الآية 20
(7) سورة البقرة الآية 229(1/586)
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى ، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لإحداها بأنها ناسخة وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها ، وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني -من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره- فليس بصواب ؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إذ طلبت فراقه ، وكان النشوز من قبلها . اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية (2) .
وقال السمرقندي : إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها ، بل له أن يطلقها بلا عوض ؛ لقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (3) (4) .
__________
(1) [تفسير ابن جرير] الطبري ( 8\123-132 ) تحقيق\ محمود وأحمد شاكر .
(2) [أحكام القرآن] للجصاص ( 2\ 109- 111 ) و[أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\ 151- 154 ) و[تفسير القرطبي] ( 5\ 99 ، 100 ) .
(3) سورة النساء الآية 20
(4) [تحفة الفقهاء] ( 2\ 301 ) .(1/587)
في معرض الكلام عن الخلع :
وقال محمد بن رشد في معرض الكلام على الخلع :(1/587)
وإن كرهها فارقها ، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ، وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء ؛ لقول الله عز وجل : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (2)
هذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه ، لا اختلاف بينهم فيه .
ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ؛ لقول الله عز وجل : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3) وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا ، وجعل الاستثناء متصلا .
ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة : البغض والنشوز والبذاء باللسان ، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها ، عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم ، فأباح ذلك للزوج ، سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت .
والصحيح : ما ذهب إليه مالك رحمه الله ؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه ، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها ، ولم يبح الله ذلك إلا عن
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 21
(3) سورة النساء الآية 19(1/588)
طيب نفسها ، فقال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1)
والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها ؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه ، وتشتم عرضه ، وتخالف أمره ؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة ، فهي من جهة النطق ، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا ، والاستثناء المذكور فيها منفصل ، فمعنى الآية : لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن ، معناه : إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن ، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق ، فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض ، وقد قيل في تأويل الآية غير هذا ، وهذا أحسن ، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز ، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها ، وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به . وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى : من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك ؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها ، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع ما إذا كره كل واحد منهما صاحبه ، وخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها ، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة بها نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها .
__________
(1) سورة النساء الآية 4(1/589)
وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء ، فقال : تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالهما وفرقتم بينهما ، فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية ، لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه لا اختلاف في المذهب : أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها ، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه ؛ لقول الله عز وجل : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (1) وإنما له أن يعظها ، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع ، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا ؛ لقول الله عز وجل : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (2) فإن هي بذلت له على ألف حل له أن يقبله ، إذا لم يتعد أمر الله فيها (3) . اهـ المقصود (4) .
وقال الشيرازي : وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 34
(3) الموجود في المطبوع المنقول عنه ( إذا لم يتعد أمر فيها الله ) وهو ظاهر الخطأ .
(4) [المقدمات] لابن رشد ( 2\ 428- 430 ) الطبعة المصورة بالأوفست عن الطبعة الأولى المطبوعة بمطبعة السعادة بمصر .(1/590)
كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز ؛ لقوله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1) قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بعضه ، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه . اهـ (3) .
أما إذا كان النشوز من الزوجة ، فإن لزوجها حق وعظها ، فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها ، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح ، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها ؛ لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه ، قال تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (4) وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) [المهذب] ( 2\ 70 ) مطبعة الحلبي .
(3) [مختصر الفتاوى المصرية] ص 446 .
(4) سورة النساء الآية 34
(5) سورة النساء الآية 19(1/591)
قال ابن العربي : من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية : قول سعيد بن جبير قال : يعظها ، فإن هي قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع . اهـ (1) .
وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه ، وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) وبقوله : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (3) على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه .
وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل التأويل في معنى الخوف ألا يقيما حدود الله :
الأول : أن المراد بذلك : أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها ، فإذا ظهر ذلك منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها .
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم .
الثاني : أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسما ولا تطيع له أمرا وتقول : لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا ، فحينئذ يحل له عندهم
__________
(1) [أحكام القرآن] ( 1\ 175 ، 176 ) الطبعة الأولى .
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة البقرة الآية 229(1/592)
أخذ ما آتاها على فراقه إياها ، ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد .
الثالث : أن المراد بالخوف من ذلك : أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة ، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح .
والرابع : أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر .
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاووس والحسن ، ثم اختار هذا القول ، وذكر توجيه اختياره إياه (1) .
فصل : وقال الكاساني : ومنها : التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب ، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها : كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب ، ولا تكوني من كذا وكذا ، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز ، فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها ، وقيل : يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة ، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر .
__________
(1) [تفسير ابن جرير الطبري] ( 4\ 549 ) وما بعدها .(1/593)
ثم اختلف في كيفية الهجر :
قيل : يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه .(1/593)
وقيل : يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها ؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه .
وقيل : يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها ؛ لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع .
وقيل : يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها ؛ لأن هذا للتأديب والزجر ، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها .
فإذا هجرها فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأصل فيه قوله عز وجل : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } (1) وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب ، والواو تحتمل ، فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين ، حكما من أهله وحكما من أهلها ، كما قال الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2) وسبيل هذا سبيل الأمر بالمعروف والنهي
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35(1/594)
عن المنكر في حق سائر الناس ، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول ، فإن قبلت وإلا غلظ القول به ، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه ، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر ، فللزوج أن يؤدبها تعزيرا ؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه (1) .
وقال الشافعي : وأشبه ما سمعت - والله أعلم- في قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) أن لخوف النشوز دلائل ، فإذا كانت { فَعِظُوهُنَّ } (3) لأن العظة مباحة ، فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل فاهجروهن في المضاجع ، فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن ، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما . . . قال : ويحتمل في { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (4) إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب .
قال : ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه . . . قال : ويهجرها في المضجع ، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا ؛ لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع ، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا ، قال : ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها .
__________
(1) [بدائع الصنائع] ( 2\ 334 ) .
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النساء الآية 34(1/595)
قال : وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة ؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز ، والامتناع نشوز . . . قال : ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها ، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز . اهـ (1) .
وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز : فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها ، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها ، فيخوفها الله سبحانه ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة ، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة ، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) فإن أظهرت النشوز - وهو : أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه- فله أن يهجرها في المضجع ؛ لقول الله تعالى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } (3)
قال ابن عباس : لا تضاجعها في فراشك ، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام ؛ لما روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام » (4) وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أولى مرة .
وقد روي عن أحمد : إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير
__________
(1) [الأم] ( 5\ 194 ) الطبعة الأولى .
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565),سنن الترمذي البر والصلة (2023),سنن أبو داود الأدب (4916),مسند أحمد بن حنبل (2/268),موطأ مالك الجامع (1686).(1/596)
مبرح ، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت ، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود ، ووجه قول الخرقي المقصود : زجرها عن المعصية في المستقبل ، وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل ، كمن هجم منزله فأراد إخراجه ، وأما قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) الآية ، ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع ، فإن أصررن فاضربوهن ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (2) والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ، ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره ، وللشافعي قولان كهذين .
فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر ، فله ضربها ؛ لقوله تعالى : { وَاضْرِبُوهُنَّ } (3) وقال صلى الله عليه وسلم : « إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح » (4) رواه مسلم . معنى " غير مبرح " : غير موجع ولا شديد .
وقال الخلال : سألت أحمد بن يحيى عن قوله : « غير مبرح » (5) قال : غير شديد ، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة ؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف ، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة النساء الآية 34
(4) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218),سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود كتاب المناسك (1905),سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1851),مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).(1/597)
أبيه قال : « قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت » (1) ، وروى عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم » (2) ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله » (3) متفق عليه . اهـ (4) .
مسألة : وقال ابن قدامة أيضا : ( والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه -فلا بأس أن تفتدي نفسها منه ) .
وجملة الأمر : أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك ، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته -جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه ؛ لقول الله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5)
وروي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنك ؟ قالت : لا أنا ولا ثابت لزوجها ، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره ، وقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس : خذ منها ، فأخذ منها وجلست
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2142),سنن ابن ماجه النكاح (1850).
(2) صحيح البخاري النكاح (4908),صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855),سنن الترمذي تفسير القرآن (3343),سنن ابن ماجه النكاح (1983),مسند أحمد بن حنبل (4/17),سنن الدارمي النكاح (2220).
(3) صحيح البخاري الحدود (6458),صحيح مسلم الحدود (1708),سنن الترمذي الحدود (1463),سنن أبو داود الحدود (4491),سنن ابن ماجه الحدود (2601),مسند أحمد بن حنبل (4/45),سنن الدارمي الحدود (2314).
(4) [المغني والشرح الكبير] ( 8\ 162 ، 163 ) الطبعة الأولى .
(5) سورة البقرة الآية 229(1/598)
في أهلها » (1) ، وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد ، رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما ، وفي رواية البخاري قال : « جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم ، فردتها عليه ، وأمره ففارقها » (2) .
وفي رواية فقال : « اقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة » (3) وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام ، قال ابن عبد البر : ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه ، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (4) الآية .
وروي عن ابن سيرين وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا ؛ لقول الله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5)
ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر ، وعثمان ، وعلي ، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا ، ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك ، إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعا ؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها ، قال الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (6)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3462),سنن أبو داود الطلاق (2227),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الطلاق (1198),سنن الدارمي الطلاق (2271).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4973),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) سورة النساء الآية 20
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة البقرة الآية 187(1/599)
ويسمى : افتداء ؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله ، قال الله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ، اهـ . (2) .
وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتداءها منه - فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها ، واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك ؟
قال ابن مفلح : يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه ، وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء ، فقال أبو طالب : إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتردين عليه حديقته ؟ » (3) اهـ (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) [المغني والشرح الكبير] ( 6\ 173- 174 ) الطبعة الأولى .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) [الفروع] ( 5\ 343 ) .(1/600)
وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد : إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع ؟
فأجاب : إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب ، ولا يجبر الزوج على الخلع (1) . اهـ .
وقال الشوكاني رحمه الله : قوله : « اقبل الحديقة » (2) قال في [الفتح] : هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب ، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته (3) . اهـ .
__________
(1) [الدرر السنية] ( 6\ 367 ) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [نيل الأوطار] ( 6\ 263 ) .(1/600)
وقال في [حاشية المقنع] على قوله : وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله - فلا بأس أن تفتدي نفسها منه : أي : فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب ، وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه ، وعليه الأصحاب ، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه ، والأصل فيه قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما : « جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، فأمرها بردها وأمره ففارقها » (2) . رواه البخاري ، وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه (3) . اهـ .
وقال الجصاص : ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع .
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاووس وسعيد بن جبير ، وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها .
وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : إذا كان النشوز من قبلها حل
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [المقنع مع حاشيته] ( 3\ 113 ، 114 ) منشورات المؤسسة السعيدية ، الرياض .(1/601)
له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد ، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا ، فإن فعل جاز في القضاء ، وقال ابن شبرمة : تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه ، وإن كانت على إضرار منه لم تجز ، وقال ابن وهب عن مالك : إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها ، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له ، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك .
وقال الثوري : إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا ، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا .
وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة : إن كانت ناشزة كان في ثلثها ، إن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة ، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها -فلا أرى بذلك بأسا .
وقال الحسن بن حيي : إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه ، وكذلك قول عثمان البتي ، وقال الشافعي : إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج ، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا ، وتأخذ الفراق به .
قال أبو بكر : قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات ، منها : قوله تعالى :(1/602)
{ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله ، فلذلك قال أصحابنا : لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا ، وقال تعالى في آية أخرى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله ، وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما ، فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد ، والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ، ولكن ما زاد مخصوص بالسنة ، وقال تعالى في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3)
قيل فيه : إنه خطاب للزوج ، وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة ، قيل فيها : إنها هي الزنا ، وقيل : إنها النشوز من قبلها ، وهذه نظير قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (4) وقال تعالى في آية أخرى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (5) وسنذكر حكمها في
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة النساء الآية 35(1/603)
مواضعها إن شاء الله تعالى ، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) وقال تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (2) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها .
فقلنا : إذا كان النشوز من قبله لم يحل أخذ شيء منها ؛ لقوله تعالى : { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (3) وقوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (4)
وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما -جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد ، وكذلك { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5) وقد قيل فيه : إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (6) فهذا في غير حال الخلع ، بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به ، وقول من قال : إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 237
(3) سورة النساء الآية 20
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة النساء الآية 4(1/604)
الخلع خطأ ؛ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين ، في أحدهما بالحظر ، وهو قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (1) وقوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2) وفي الآخر بالإباحة ، وهو قوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (3) فقول القائل : لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية : « أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذه ؟ فقالت : أنا حبيبة بنت سهل ، قال : ما شأنك ؟ قالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها ، فلما جاءه ثابت بن قيس قال له : هذه حبيبة بنت سهل ، فذكرت ما شاء الله أن تذكره ، فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت : خذ منها ، فأخذ منها ، وجلست هي في أهلها » (4) .
وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها : « خل سبيلها » وفي بعضها : « فارقها » ، وإنما قالوا : إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال : حدثنا
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 4
(4) سنن النسائي الطلاق (3462),سنن أبو داود الطلاق (2227),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الطلاق (1198),سنن الدارمي الطلاق (2271).(1/605)
محمد بن يحيى بن أبي سمينة : قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : « أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تردين إليه ما أخذت منه " ؟ قالت : نعم وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة فلا » وقال أصحابنا : لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر ، وخصوا به ظاهر الآية ، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) لفظ محتمل لمعان ، والاجتهاد سائغ فيه ، وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة ، وكذلك قوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد ، وهو كقوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } (3) وقوله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } (4) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به -جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به ، وإنما قال أصحابنا : إذا خلعها على أكثر مما أعطاها ، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (5) .
وأيضا : فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد ، وإنما تعلق بمعنى
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 43
(4) سورة البقرة الآية 237
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).(1/606)
في غيره ، وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ، ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها ، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة ، وبيع حاضر لباد ، وتلقي الركبان ونحو ذلك ، وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره ، وكذلك الصلح عن دم العمد . كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل ، وهو بدل البضع - كذلك جائز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها ؛ لأنه بدل من البضع في الحالين . .
فإن قيل : لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن .
قيل له : قولك : إن الخلع فسخ للعقد ، خطأ ، وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل ، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة ؛ لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق ، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ، ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء ، وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان ، فروي عن الحسن وابن سيرين : أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان ، وقال سعيد بن جبير : لا يكون الخلع حتى يعظها ، فإن اتعظت وإلا هجرها ، فإن اتعظت إلا ضربها ، فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان ، فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق ، وإن رأى أن يجمع جمع .
وروي عن علي ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وشريح ، وطاووس ، والزهري في آخرين : أن الخلع جائز دون السلطان ، وروى سعيد عن قتادة(1/607)
قال : كان زياد أول من رد الخلع دون السلطان ، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان .
وكتاب الله يوجب جوازه ، وهو قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس : « أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، فقال للزوج : " خذها وفارقها » (3) يدل على ذلك أيضا ؛ لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله : اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما ، كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها ، بل فرق بينهما ، كما روى سهل بن سعد : « أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين » (4) ، كما قال في حديث آخر : « لا سبيل لك عليها » (5) . ولم يرجع ذلك إلى الزوج ، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه » (6) انتهى المقصود (7) .
وقال ابن حجر رحمه الله على قول البخاري في صحيحه : وقول الله عز وجل : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (8)
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) صحيح البخاري الطلاق (5003),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2251),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),مسند أحمد بن حنبل (5/337),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(5) صحيح البخاري الطلاق (5006),صحيح مسلم اللعان (1493),سنن الترمذي الطلاق (1203),سنن النسائي الطلاق (3473),سنن أبو داود الطلاق (2257),سنن ابن ماجه الطلاق (2069),مسند أحمد بن حنبل (2/11),موطأ مالك الطلاق (1202),سنن الدارمي النكاح (2231).
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(7) [أحكام القرآن ] ( 1\462- 468 ) من المطبعة البهية ( 1\393-396 ) من مطبعة الأوقاف الإسلامية عام 1335 هـ .
(8) سورة البقرة الآية 229(1/608)
وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها : العقاص : بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة : جمع عقصة ، وهو : ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه .
وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت : اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان ، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا ، وقال في آخره : فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه .
وهذا يدل على أن معنى ( دون ) : سوى ، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها ، وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال : الخلع ما دون عقاص رأسها .
وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها ، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، ثم تلا : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) وسنده صحيح .
ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء قال : أنبأنا يحيى بن عباد ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت : كان بيني وبين ابن عمي كلام - وكان زوجها- قالت : فقلت له : لك كل شيء
__________
(1) سورة البقرة الآية 229(1/609)
وفارقني ، قال : قد فعلت ، فأخذ كل شيء حتى فراشي ، فجئت عثمان وهو محصور فقال : الشرط أملك ، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها .
قال ابن بطال : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها ، وقال مالك : لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك ، لكنه ليس من مكارم الأخلاق . . . ثم ساق شرح باقي الحديث ، وقال بعد ذلك :
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم (1) : أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية ، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا ، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها .
وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين : لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وكأنهما لم يبلغهما الحديث ، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك ، مع ما دل عليه الحديث ، ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه : وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه ، فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها ، فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها
__________
(1) أي : من [ فتح الباري] .
(2) سورة النساء الآية 19(1/610)
فليس في ذلك مخالفة للحديث ؛ لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها .
واختار ابن المنذر : أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا ، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم ، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين ، ولا يخالف ما ورد فيه ، وبه قال طاووس والشعبي وجماعة من التابعين .
وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية : بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا ، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك ، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا . انتهى المقصود (1) .
وقال محمود العيني : أي : هذا باب في بيان الخلع -بضم الخاء المعجمة وسكون اللام- مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما ، وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (2) وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني ، يقال : خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء ، وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم .
وأما حقيقته الشرعية فهو : فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له ، هكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي ، وقال : هو الصواب ، وقال كثير من
__________
(1) [ فتح الباري] ( 9\394, 397, 401 ) المطبعة السلفية .
(2) سورة البقرة الآية 187(1/611)
الفقهاء : هو مفارقة الرجل امرأته على مال ليس بجيد ، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا ، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح ، وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا ، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخذ .
قلت : قال أصحابنا : الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال ، وقال النسفي : الخلع : الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن ، وهو من جهته يمين ، ومن جهتها معاوضة ، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور ، حكاه ابن عبد البر في [التمهيد] ، وقال عقبة بن أبي الصهباء : سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أدنى يخالع امرأته ، فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا . قلت : فأين قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ؟ قال : هي منسوخة . قلت : وما نسخها ؟ قال : ما في سورة النساء ، قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (2) الآية .
قال ابن عبد البر : قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل ، وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام . انتهى .
وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة ، فكانا يقولان :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 20(1/612)
لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلا ؛ لأن الله تعالى يقول : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1)
قال أبو قلابة : فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه ، قال أبو عمر : ليس هذا بشيء ؛ لأن له أن يطلقها ، أو يلاعنها ، وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك . اهـ (2) .
قال في حاشية [المقنع] على قوله : ( ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح ) : إذا تراضيا على الخلع بشيء صح وإن كان أكثر من الصداق ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ، وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا ، وقال عطاء وطاووس والزهري وعمرو بن شعيب : لا يأخذ أكثر مما أعطاها . وروي ذلك عن علي بإسناد منقطع ، واختاره أبو بكر ، فإن فعل رد الزيادة .
واحتجوا بما روي : « أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد » (3) ، رواه ابن ماجه .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) [عمدة القاري] ( 20\260 ) .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).(1/613)
ولنا قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولأنه قول من سمينا من الصحابة .
وقالت الربيع بنت معوذ : « اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي » (2) ، لكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وهذا المذهب ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد ، ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي (3) . اهـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سنن النسائي الطلاق (3498),سنن ابن ماجه الطلاق (2058).
(3) [المقنع مع حاشيته] ( 3\119 ، 120 ) منشورات السعيدية .(1/614)
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع
في [صحيح البخاري ] : عن ابن عباس ، « أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة » (1) .
وفي [سنن النسائي ] : عن الربيع بنت معوذ ، « أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها - وهي : جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول - فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فقال : خذ الذي لها عليك وخل سبيلها . قال : نعم ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها » (2) .
وفي [سنن أبي داود ] : عن ابن عباس : « أن امرأة ثابت بن قيس بن
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(2) سنن النسائي الطلاق (3497).(1/614)
شماس اختلعت من زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة » (1) (2) ، وفي [سنن الدارقطني ] في هذه القصة : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتردين عليه حديقته التي أعطاك ؟ قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الزيادة فلا ، ولكن حديقته . قالت : نعم ، فأخذ ماله ، وخلى سبيلها ، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، » (3) قال الدارقطني : إسناده صحيح .
فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام ، أحدها : جواز الخلع ، كما دل عليه القرآن ، قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (4)
ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس ، خالفت النص والإجماع ، وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره .
ومنعه طائفة بدون إذنه .
والأئمة الأربعة ، والجمهور : على خلافه ، وفي الآية دليل على حصول البينونة ؛ لأنه سبحانه وتعالى سماه ( فدية ) ولو كان رجعيا - كما قال بعض الناس - لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له ، ودل قوله سبحانه وتعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5) على جوازه بما قل أو كثر ، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1185),سنن أبو داود الطلاق (2229).
(2) قال المنذري ( 3 : 144حديث 2137 ) وذكر أنه روي مرسلا, وأخرجه الترمذي مسندا, وقال : حسن غريب .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة البقرة الآية 229(1/615)
وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته : أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه ، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجازه ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه .
وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع ، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها ، وكل ثوب لها حتى نقبتها . ورفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه امرأة نشزت عن زوجها فقال : ( اخلعها ولو من قرطها ) ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه ، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : ( لا يأخذ منها فوق ما أعطاها ) .
وقال طاووس : ( لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) ، وقال عطاء : ( إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها ) ، وقال الزهري : ( لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) .
وقال ميمون بن مهران : ( إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان ) .
وقال الأوزاعي : ( كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها ) .
والذين جوزوه : احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة .
والذين منعوه : احتجوا بحديث أبي الزبير : أن ثابت بن قيس بن(1/616)
شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتردين عليه حديقته " قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة فلا » (1) قال الدارقطني : سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح .
قالوا : والآثار من الصحابة مختلفة .
فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة .
ومنهم من روي عنه إباحتها .
ومنهم من روي عنه كراهتها .
كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي : ( أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) والإمام أحمد أخذ بهذا القول ، ونص على الكراهة ، وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال : ترد عليها . . وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عطاء : « أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أبغض زوجي ، وأحب فراقه قال : " أفتردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ " قالت : نعم ، وزيادة من مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة من مالك فلا ، ولكن الحديقة " قالت : نعم ، فقضى بذلك على الزوج » (2) وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له ، وقد رواه ابن جريج عنهما اهـ . (3) .
أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (4)
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [ زاد المعاد] ( 4\63-67 ) مطبعة السنة المحمدية .
(4) سورة النساء الآية 35(1/617)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين ، وما صفتهما ، وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين ، أو أنهما ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما ، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما ؟
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسيره هذه الآية :
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (1) وشاقته بقول عادته . . . ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين .
فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه .
وذكر أثرا بسنده إلى السدي : أن المأمور بذلك الرجل والمرأة .
وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتادة : أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما .
ثم ذكر رحمه الله اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان ، وما
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/618)
الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما ، وكيف وجه بعثهما بينهما ؟
فقال بعضهم : يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه ، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك .
وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين وكيلان ليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به .
وقال آخرون : إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما ، ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتادة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك .
وذكر رأيا ثالثا : في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق .
وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك .
ثم قال بعد ذلك : وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) أن الله سبحانه خاطب المسلمين
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/619)
بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض .
وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه .(1/620)
واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك : الزوجان أو السلطان ؟
ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة فيه مختلفة .
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها ، وإذ كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) إذ كان مختلفا بينهما ، هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا ؟ - وكان ظاهر الآية قد عمهما- فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال : إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه ، وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/620)
وعليه أو بما له أو بما عليه إلا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما ، وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما - لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك ، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك . انتهى المقصود . . (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص : أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه ، وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم ، وأن الخطاب في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } (2) للحاكم الناظر بين الخصمين ؛ لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها ، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما ، فقال . . . باب : الحكمين كيف يعملان ، قال الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (3)
وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم ؟
فروي عن سعيد بن جبير والضحاك : أنه السلطان الذي يترافعان إليه .
وقال السدي : الرجل والمرأة .
__________
(1) [ جامع البيان لأحكام القرآن ] ( 8\318- 330 ) .
(2) سورة النساء الآية 35
(3) سورة النساء الآية 35(1/621)
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) هو خطاب للأزواج ؛ لما في نسق الآية من الدلالة عليه ، وهو قوله تعالى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } (2) وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (3) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم ؛ وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها ، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما ، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال : سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب ، وقال : ما ولدت إذ ذاك ، فقلت : إنما أعني حكمي شقاق قال : إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (4) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر ، فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما ، فما حكما من شيء فهو جائز .
وروى عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان ؛ فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها : يفعل كذا ويفعل كذا ، ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا وتفعل به كذا ، فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 35
(4) قوله ( درء . . . إلخ ) الدرء : الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ ( المصححة ) .(1/622)
فوق يده ، وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع .
قال أبو بكر : وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء ، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله ، فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما ، وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما ، فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله .
ويدل أيضا قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال : فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها ، فهذا يدل على بطلان قول من يقول : إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا ، وإن شاءا فرقا بغير أمرهما ، وزعم إسماعيل بن إسحاق : أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين .
قال أبو بكر : هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء ، قال الله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه ، وأمر
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة ق الآية 18(1/623)
الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب ، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ؟ ! ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما ، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج .
وكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال علي : ما شأن هذين ؟ قالوا : بينهما شقاق ، قال : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) فقال علي : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت ، فأخبر علي : أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين ، فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج ، وذلك أن لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها .
فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضا الزوج وتوكيله ، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها ؛ فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضا الزوجين .
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/624)
فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين ؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ، وإنما الحكمان وكيلان لهما ، أحدهما وكيل المرأة ، والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك .
قال إسماعيل : الوكيل ليس بحكم ، ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره وإن أبى ، وهذا غلط منه ؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة ؛ لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به ، فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة ، وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما ، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا .
وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ، ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا ، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات .
قال إسماعيل : والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن ؛ لأنه إنما سمي هاهنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه .
وأما قوله : إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا ، فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا ؛ لأنهما وكيلان ، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ، ويعرف أمور المانع من الحق منهما(1/625)
حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما ، فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا ، وينهى الظالم منهما عن ظلمه ، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما ، وجائز أن يكونا سميا بذلك ؛ لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكلا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح -سميا حكمين ؛ لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل ، فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق - مضى ما أنفذاه ، فسميا حكمين من هذا الوجه .
فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح -سميا حكمين ، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما ، إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما ، وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج ؛ لأنه لم يرض بكتاب الله . قال : ولم يأخذه بالتوكيل ، وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله .
وليس هذا على ما ذكر ؛ لأن الرجل لما قال : أما الفرقة فلا ، قال علي : كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت ، فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة ، وأمره بأن يوكل بالفرقة ، وما قال الرجل : لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه ، وإنما قال : لا أرضى بالفرقة بعد رضا المرأة بالتحكيم ، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها ، قال : ولما قال : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/626)
الحكم ، قال : وهذا لا يقال للوكيلين ؛ لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به ، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة ؛ لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك .
وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما ، فلا فرق بين الوكيل والحكم ؛ إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح ، فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به .
قال : وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاووس وإبراهيم قالوا : ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ، وهذا عندنا كذلك أيضا ، ولا دلالة فيه على موافقة قوله ؛ لأنهم لم يقولوا : إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضا الزوجين ، بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضا الزوجين بالتوكيل ، ولا يكونان حكمين إلا بذلك ، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز ، وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ، ويخرجا المال عن ملكها ، وقد قال الله تعالى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) وقال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 229(1/627)
وهذا الخوف المذكور هاهنا هو المعني بقوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله ، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه ، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما ، وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به ؟ ! فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب ، وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (2) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه ، وقال الله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } (3) فأخبر تعالى : أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار » (5) .
فثبت بذلك : أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه ، وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 188
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(5) صحيح البخاري الحيل (6566),صحيح مسلم الأقضية (1713),سنن النسائي آداب القضاة (5401),سنن أبو داود الأقضية (3583),سنن ابن ماجه الأحكام (2317),مسند أحمد بن حنبل (6/320),موطأ مالك الأقضية (1424).(1/628)
ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له ، فالحكمان إنما يبعثان بينهما وليشهدا على الظالم منهما ، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ } (1) الآية ، قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه ، وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك ، وكذلك روي عن عطاء .
قال أبو بكر : في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا ، وهو قوله تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2) ولم يقل : إن يريدا فرقة ، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما ، وينكرا عليه ظلمه ، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده ، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه ، وقالا له : لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك ، وإن كانت هي الظالمة قالا لها : قد حلت لك الفدية ، وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها ، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع - كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا ، وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا ، فهما في حال شاهدان ، وفي حال مصلحان ، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق ، وأما قول من قال : إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم بالصواب . اهـ . (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 35
(3) [أحكام القرآن] ( 2\230-235 ) المطبعة البهية عام 1347هـ .(1/629)
وذكر أبو بكر بن العربي : بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان ، وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان ، وناقشه ، ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال : قال الشافعي ما نصه :
الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أني وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ، ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين .
قال القاضي أبو بكر : هذا منتهى كلام الشافعي ، وأصحابه يفرحون به ، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر .(1/630)
والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول : أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح ، بل هو نصه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ، فإن الله تعالى قال : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 34(1/630)
ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها ، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع ، فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما ، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان ، ودعه لا يكون نصا ، يكون ظاهرا .
فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر ، وكيف يقول الله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) ؟ فنص عليهما جميعا ويقول هو : يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه ، ثم قال : فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية ، وأما قوله : لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح ، وأما قوله : برضا الزوجين بتوكيلهما ، فخطأ صراح ، فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين .
وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه ، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن هاهنا .
المسألة الأولى : قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } (2) قال السدي : يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته ، تقول المرأة لحكمها : قد وليتك أمري وحالي
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 35(1/631)
كذا ، ويبعث الرجل حكما من أهله ، ويقول له : حالي كذا ، قاله ابن عباس ومال إليه الشافعي ، وقال سعيد بن جبير : المخاطب السلطان ، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين ، وقال مالك : قد يكون السلطان ، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين ، فأما من قال : إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا ، وأما من قال : إنه السلطان فهو الحق .
وأما قول مالك : إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى ، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان ، وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال : جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بما في كتاب الله لي وعلي ، وقال الزوج : أما الفرقة فلا ؛ فقال : لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت .
قال القاضي أبو إسحاق : فبين علي أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي ، فقالت المرأة بعدما مضيا من عند علي : رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي ، وقال الزوج : لا أرضى ، فرد عليه تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى ، وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب ، فلو كانا وكيلين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما(1/632)
وكلتما ، ويسأل الزوجين : ما قالا لهما ؟
المسألة الثانية : قوله تعالى : { حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ ، فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر ، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت ، فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما ، كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : اصبر لي وأنفق عليك ، وكان إذا دخل عليها قالت : يا بني هاشم ، لا يحبكم قلبي أبدا ، أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم ؟ أين عتبة بن ربيعة ؟ أين شيبة بن ربيعة ؟ فيسكت ، حتى دخل عليها يوما وهو برم ، فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ، فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ، وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما .
وفي رواية : أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت ، فقال له معاوية : ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا ، وقال ابن عباس : أفلا نمضي فننظر أمرهما ، فقال معاوية : فتفعل ماذا ؟ فقال ابن عباس : أقسم
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/633)
بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما .
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة ، وذكرا بالله تعالى وبالصحبة ، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي ، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما ، وقاله جماعة منهم : علي وابن عباس والشعبي ومالك وهي :
المسألة الثالثة : وقال الحسن وابن زيد : هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ، ويشهدان بما ظهر إليهما ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان ، فإذا فرقا بينهما وهي :
المسألة الرابعة : تكون الفرقة ، كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة ، فإن قيل : إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح ، بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد ، قلنا : هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال .
فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، وبأي وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة وهي :
المسألة الخامسة : جاز ونفذ عند علمائنا ، وقال الطبري والشافعي : لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه ، وبه قال كل من جعلهما(1/634)
شاهدين ، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان ، وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها . اهـ (1) .
قال ابن رشد : باب في بعث الحكمين :
اتفق العلماء على جواز بحث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني : المحق من المبطل ؛ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (2) الآية .
وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين : أحدهما : من قبل الزوج ، والآخر : من قبل المرأة ، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما .
وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما .
وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل .
واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك ؟
فقال مالك وأصحابه : يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك .
__________
(1) [ أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\176 ) وما بعدها .
(2) سورة النساء الآية 35(1/635)
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما : ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق .
وحجة مالك : ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الحكمين : إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع .
وحجة الشافعي وأبي حنيفة : أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج .
واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا .
فقال ابن القاسم : تكون واحدة ، وقال أشهب والمغيرة : تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا .
والأصل : أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك .
وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة ، قال : فاعتبر في ذلك إذنه ، ومالك يشبه الحكمين بالسلطان ، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين . اهـ (1) .
وذهب الشافعي : إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما
__________
(1) [ بداية المجتهد] ( 2\98, 99 ) الطبعة الثالثة, 1379هـ \1960م .(1/636)
وكلا فيه .
ففي كتاب [الأم] للشافعي ما نصه : قال الله تبارك وتعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (1) الآية, قال : الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، والذي يشبه (2) ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأذن في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما ، وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ما له من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق .
والتباين هو : ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن ، ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما ، ولا يعطيان حقا لا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) في حاشية [الأم] ( 5\115 ) قال مصححه : [قوله : ( والذي يشبه ) إلى قوله : ( والتباين ) كذا في الأصل . . . ] ( الناشر ) .(1/637)
الأزواج غيرهما ، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى ، قال : أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي رضي الله تعالى عنه : ( كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، قال : فقول علي رضي الله تعالى عنه يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما ، وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة .
فإن قال قائل : ما دل على ذلك ؟
قلنا : لو كان الحكم إلى علي رضي الله تعالى عنه دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين ، ولم يقل : ابعثوا حكمين .
فإن قال قائل : فقد يحتمل أن يقول : ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين ، كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام ،
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/638)
فمن سماه الله تبارك وتعالى حاكما أكثر معنى ، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما ، أو يقول : ابعثوا حكمين ، أي : دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود .
قلنا : الظاهر ما وصفنا ، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي رضي الله عنه للزوج : ( كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما ، وذلك أن المرأة فوضت ، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي رضي الله تعالى عنه : ( كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه ، ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له : لا أبالي أقررت أم سكت ، وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه ، اهـ . (1) .
وذكر الشيرازي قولين في المذهب :
أحدهما : أنهما وكيلان .
والثاني : أنهما حاكمان ، فقال : فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم ، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2)
__________
(1) [ الأم] ( 5\115, 116 ) .
(2) سورة النساء الآية 35(1/639)
واختلف قوله في الحكمين :
فقال في أحد القولين : هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما ؛ لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما .
وقال في القول الآخر : هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض ؛ لقوله عز وجل : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) فسماهما حكمين ، ولم يعتبر رضا الزوجين .
وروى أبو عبيدة : أن عليا رضي الله تعالى عنه بعث رجلين فقال لهما : أتدريان ما عليكما ؟ ! عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ) ، فقال الرجل : أما هذا فلا ، فقال : كذبت ، لا والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي .
ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا ، والمستحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية ، لأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية ، فبعث عثمان رضي الله تعالى عنه حكما من أهله ، وهو : ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وحكما من أهلها ، وهو : معاوية رضي الله تعالى عنه ، ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال ، وإن كان من غير أهلهما جاز ؛ لأنهما في أحد القولين حاكمان ، وفي الآخر
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/640)
وكيلان ، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق ، لا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان ، فإن قلنا : إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين ، وإن قلنا : إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة . اهـ (1) .
والمشهور لدى الحنابلة : أنهما وكيلان لا حاكمان .
قال المرداوي : اعلم أن الصحيح من المذهب : أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما ، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه ، قال الزركشي : هذا هو المشهور عند الأصحاب ، حتى إن القاضي في [ الجامع الصغير ] ، والشريف أبا جعفر وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا ، ورضيه أبو الخطاب ، قال في [ تجريد العناية ] : هذا أشهر ، وقطع به في [ الوجيز ] و [ المنور ] و [ منتخب الأزجي ] وغيرهم . . . وقدمه في [ الهداية ] ، و [ المذهب ] ، و [ مسبوك الذهب ] ، و [ المستوعب ] ، و [ الخلاصة ] ، و [ الهادي ] ، و [ المحرر ] ، و [ الرعايتين ] ، و [ الحاوي الصغير ] ، و [ النظم ] ، و [ الفروع ] ، وغيرهم .
وعنه : أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره ، أو وكلت المرأة في بذل العوض برضاها ، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين .
قال الزركشي : وهو ظاهر الآية الكريمة . انتهى .
__________
(1) [ المهذب ] ، ( 2\70 ) .(1/641)
واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين رحمه الله . . . وهو ظاهر كلام الخرقي ، قاله في [ الفروع ] ، وأطلقهما في [ الكافي ] و [ الشرح ] ، اهـ (1) .
وقال ابن القيم : حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما .
روى أبو داود في [ سننه ] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر بعضها ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : خذ بعض مالها وفارقها ، فقال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ ! قال : نعم ، قال : فإني أصدقتها حديقتين ، وهما بيدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم - : خذهما فارقها ، ففعل » (2) .
وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } (3)
وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين : هل هما حاكمان أو وكيلان ؟ على قولين :
أحدهما : أنهما وكيلان ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول ، وأحمد في رواية .
الثاني : أنهما حاكمان ، وهذا قول أهل المدينة ، ومالك ، وأحمد في
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 8\380 ، 381 ) الطبعة الأولى .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2228).
(3) سورة النساء الآية 35(1/642)
الرواية الأخرى ، والشافعي في القول الآخر ، وهذا هو الصحيح .
والعجب كل العجب ممن يقول : هما وكيلان ، لا حاكمان ، والله تعالى قد نصبهما حكمين ، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ، ولو كانا وكيلين لقال : فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها .
وأيضا : فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل .
وأيضا : فإنه جعل الحكم إليهما ، فقال تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) والوكيلان لا إرادة لهما ، إنما يتصرفان بإرادة موكليهما .
وأيضا : فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ، ولا في لسان الشارع ، ولا في العرف العام ولا الخاص .
وأيضا : فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام ، وليس للوكيل شيء من ذلك .
وأيضا : فإن الحكم أبلغ من حاكم ؛ لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك .
فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه ؟ !
وأيضا : فإنه سبحانه وتعالى خاطب بذلك غير المتزوجين ، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما ؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : وإن خفتم شقاق بينهما فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ، ووكيلا من أهلها . ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير ، وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه ، وهذا بحمد الله واضح .
وبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/643)
بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقيل لهما : ( إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ) وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال للحكمين بين الزوجين : ( عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما ) فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم . والله أعلم .
وإذا قلنا : إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره ، وتوكيل الزوجة في بذل العوض ، أو لا يجبران ؟ على روايتين :
فإن قلنا : يجبران ، فلم يوكلا ، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين .
وإن قلنا : إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين ، وعلى هذا النزاع : ينبغي ما لو غاب الزوجان أو أحدهما .
فإن قيل : إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين .
وإن قيل : حكمان انقطع نظرهما ، لعدم الحكم على الغائب .
وقيل : يبقى نظرهما على قولين ؛ لأنهما يتصرفان بحظهما ، فهما كالناظرين ، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين .
وإن قيل : إنهما وكيلان ؛ لأنهما فرع الموكلين ، ولم ينقطع إن قيل : إنهما حكمان ؛ لأن الحاكم يلي على المجنون .(1/644)
وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما ، فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان ، فيهما شائبة الوكالة ، ووكيلان منصوبان للحكم ، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة ، ومنهم من اعتبر الأمرين . اهـ (1)
__________
(1) [ زاد المعاد ] ( 4\63 ) وما بعدها .(1/645)
الخلاصة
معنى كل من النشوز والخلع لغة وشرعا
أولا : ( أ ) النشوز : مصدر نشز ينشز ، بضم الشين وكسرها في المضارع ، معناه : ارتفع ، وهو مأخوذ من النشز بسكون الشين وفتحها ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ويطلق أيضا على ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض ، وليس بالغليظ ، وقال أبو عبيد : النشز : الغليظ الشديد ، ويجمع النشز مطلقا عن أنشاز ونشوز ، وقيل : يجمع ساكن الشين على نشوز ومفتوحها عن أنشاز ، ونشاز بكسر النون ، ويتعدى بالهمزة ، فيقال : أنشز عظام الميت إنشازا إذا رفعها إلى مواضعها ، وركب بعضها على بعض ، ومنه قوله تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } (1) ويطلق النشوز على النهوض إلى الشيء بقوة ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (2) ويقال للدابة : نشزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها ولا السرج على ظهرها ، ونشوز الزوجين : كراهية كل منهما الآخر ، وسوء عشرته له ، يقال : نشزت الزوجة بزوجها وعلى زوجها فهي ناشز أبغضته ، وترفعت عليه وخرجت عن طاعته واستعصت عليه ، ونشز الزوج على امرأته جفاها ، وترفع عليها لبغضه إياها ، وقد يفضي هذا إلى طلاقها ، أو منعها حقها في المبيت أو النفقة مثلا .
__________
(1) سورة البقرة الآية 259
(2) سورة المجادلة الآية 11(1/646)
( ب ) الخلع : مصدر خلع يخلع على وزن منع يمنع ، ويطلق لغة على معان : منها : فصل القبيلة لرجل منها لسوء حاله حتى لا تتحمل جريرته ، وهو خليع ومخلوع ، ويطلق على التواء العرقوب وانتقاله عن محله ، ويطلق على خلع الملابس ، ويطلق بمعنى : النزع ، إلا أنه أقل منه شدة ، ويطلق على فصم عروة النكاح وإنهاء الحياة الزوجية ، وكلها تدور على معنى الفصل ، وخص في الشرع بفصم عقدة النكاح ومفارقة الرجل زوجته بعوض منها أو من غيرها .
ثانيا : إذا لم يعاشر الرجل زوجته بالمعروف بأن جفاها أو ترفع عليها ، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلا ، أو توقع من نفسه حصول ما يسوءها فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه ، فعليه أن يمسك عن ذلك ، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان ، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها ؛ لقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) وقوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (2) وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها ، أو توقعت ذلك منه ، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها : أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه ، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته ؛ لقوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 128(1/647)
ولقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقر ذلك ، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها .
ثالثا : إذا نشزت المرأة فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوءها وعظها ثم هجرها ثم أدبها ، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف ، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه فيطلقها أو يخالعها على عوض ، سواء كان نشوزها ترفعا عليه أم امتناعها من فراشه أم قولها له : لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أطأ لك فراشا ، ولا أبر لك قسما ، أم كان خروجا من بيته بغير إذنه ، أم تمكينا لأحد من فراشه ، أم زناها ، إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة ، وقال أبو قلابة وابن سيرين : لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا .
ومنشأ الخلاف بينهما وبين الجمهور : الخلاف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) هل المراد بها خصوص الزنا ، أو كل ما يدل على سوء العشرة وترك الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها . وقال بكر بن عبد الله وعطاء والمالكية : لا يحل له أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 19(1/648)
أتت بفاحشة من زنا أو بذاء أو نشوز لعموم قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) الآيتين ، وقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2) وادعوا أن الإذن في العضل إذا أتت بفاحشة منسوخ بهذه النصوص .
وأجاب الجمهور عن ذلك : بمنع النسخ ، لإمكان الجمع بحمل الإذن في العضل والمضارة على ما إذا أتت بفاحشة ، وحمل النهي عن المضارة وأخذ العوض على ما إذا لم يحصل منها نشوز .
وقيل : لا يجوز أخذ الزوج العوض منها إلا إذا خافا جميعا ألا يقيما حدود الله ، لكراهية كل منهما الآخر ؛ لقوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (3) و [ هو ] اختيار ابن جرير ، واعترض عليه بأنه يلزمه ألا يحل للزوج أخذ الفدية إذا كان سوء العشرة من قبلها فقط .
وأجاب عنه : بأن الأمر ليس كما ظن ، فإن سوء عشرتها يقتضي كراهيته إياها وذلك يقتضي الخوف ألا يقيما حدود الله .
رابعا : اتفق العلماء على بعث حكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين ولم يعلم الناشز منهما ، أو كان كل منهما ناشزا فأبى الزوج أن يمسك بمعروف
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة البقرة الآية 229(1/649)
أو يسرح بإحسان ، وأبت الزوجة أن تؤدي الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها .
واتفقوا : على أن أحد الحكمين يكون من أهل الزوج والآخر من أهلها إن أمكن ، وإلا فمن غيرهما حسب ما تقضتيه المصلحة .
واتفقوا : على أن الحكمين ينفذ ما رأياه في الصلح بينهما ، وعلى أنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما .
واختلفوا بعد ذلك في مسائل :
الأولى : اختلافهم في المخاطب ببعث الحكمين في قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) فقيل : السلطان أو نائبه ؛ لأنه هو الذي إليه الفصل في الخصومات والأخذ على يد الظالم ، وقيل المخاطب بذلك : الزوجان ؛ لأن الشأن شأنهما ، وكل منهما أدرى بمن يحرص على استيفاء حقه والدفاع عنه ، وقيل : أولياء الزوجين .
ويمكن أن يقال : إن الأمر ببعث الحكمين مطلق فإن قام به الزوجان فبها ، وإلا بعث أولياؤهما من يقوم بالواجب ، فإن لم يتم البعث من قبل أوليائهما تعين على السلطان أو نائبه بعثهما .
الثانية : اختلافهم في الحكمين ، هل هما وكيلان أو بمنزلة القضاة ؟
فقيل : هما وكيلان ينفذ قولهما فيما وكلا فيه فقط ؛ لأن الطلاق بيد
__________
(1) سورة النساء الآية 35(1/650)
الزوج لا يملكه غيره إلا بتوكيل منه ؛ ولأن التعويض عن الطلاق لا يكون إلا برضا الزوجة وطيب نفسها ، ولحديث علي وفيه : فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : ( والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة ) فاعتبر بذلك إذنه كما أذنت .
وقيل : هما حاكمان فينفذ قولهما إذ هما بمنزلة السلطان ، والسلطان يطلق بالضرر إذا تبين كما في مسألة العنين ، ولحديث علي ، فإنه قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، ولتسمية الله المبعوثين حكمين ، والحكم كالقاضي ينفذ ما حكم به من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض ، رضي الزوجان بذلك أم كرها .
وقال بعض العلماء : إذا بعث السلطان أو نائبه حكمين فليس لهما إلا النظر لمعرفة المسيء منهما والنصح لهما والإصلاح بينهما ، فإن تم الصلح فبها ، وإلا رفعا الأمر للسلطان أو نائبه ، كانا بمنزلة الشاهدين ، أما الحكم فإلى السلطان أو نائبه دونهما .
الثالثة : هل الخلع طلاق أو فسخ ؟ وهل ينفذ طلاق الحكمين إذا طلقا ثلاثا دون تفويض في ذلك من الزوج ؟ وهل للزوج الرجعة بعد الخلع ما دامت المخالعة في العدة ؟ وهل يجوز الخلع دون السلطان أو لا يكون إلا عن طريقه ؟ وهل الخلع خاص بحال الشقاق بين الزوجين أو عام فيها وفي غيرها ؟ في كل هذه المسائل خلاف .
خامسا : اختلف العلماء في مقدار ما يؤخذ من العوض في الخلع :(1/651)
فقيل : لا يأخذ الزوج أكثر مما أعطاها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن أرادت فراق زوجها : « تردين إليه ما أخذت منه . قالت : نعم ، وزيادة ، فقال صلى الله عليه وسلم : أما الزيادة فلا » ، ويمكن أن يخصص عموم نصوص الافتداء بهذا الحديث ؛ لما فيها من الاحتمال . وقيل : يجوز بأكثر مما أعطاها ؛ لعموم قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : « تردين عليه حديقته ويطلقك قالت : نعم ، وأزيده . قال : ردي عليه حديقته وزيديه » .
ويمكن أن يقال : إن هذا الحديث مقابل لحديث منع الزيادة على ما أعطاها ، وعلى هذا يتم الاستدلال بعموم الآية على جواز أخذه ما تراضيا عليه أو حكم به حاكم ، ولو كان أزيد مما دفع لها أو يقال : في كل من الحديثين مقال : فيتم الاستدلال بعموم الآية على ما ذكر .
سادسا : لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز ، عقوبة لها وتأديبا أو زجرا لها عن النشوز عسى أن ترجع عن تقصيرها في حقوق زوجها ، وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعا ، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير ، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال ، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه ، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به ، وما يخشى من سوء
__________
(1) سورة البقرة الآية 229(1/652)
عاقبة الزيادة في التعزير من توتر العلاقات بين أسر المجتمع ، وما قد يحدث عن شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته .
سابعا : ذهب بعض العلماء إلى أن حكم ولي الأمر أو نائبه بما يراه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض نافذ ، سواء رضي الزوج بالطلاق أم أبى ، ورضيت الزوجة بدفع العوض أم كرهت رعاية لمصلحة الأسرة خاصة ومصلحة المجتمع الإسلامي عامة ، ورأوا أن هذا نظير التفريق باللعنة والإيلاء والعسر بالنفقة وطول الغيبة ، وغير ذلك مما يلجأ فيه إلى التفريق لدفع المضرة والقضاء على مادة الفساد وذارئعه .
وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز التفريق إلا برضا الزوج ؛ لأن الطلاق جعل بيده شرعا فلا يكون إلا منه أو بتوكيله ، ولا يجوز أخذ عوض من الزوجة عن الفراق إلا برضاها وعن طيب نفس منها ؛ لعموم قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1) ولحديث : « إن أموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » (2) ولحديث : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (3) .
ويمكن أن يقال : إن هذه النصوص عامة دخلها التخصيص والاستثناء منها بالأدلة التفصيلية فليكن التفريق بالطلاق أو الفسخ من غير رضا الزوج ، وكذا أخذ العوض من الزوجة مستثنى من عموم هذه النصوص كذلك بما ذكر من أدلة الرأي الأول ؛ جمعا بين الأدلة بدلا من ضرب
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) صحيح البخاري الحج (1652),سنن الترمذي الفتن (2193),مسند أحمد بن حنبل (1/230).
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).(1/653)
بعضها ببعض ومن وقوف المسلمين منها موقف الحيرة أو الاختلاف .
هذا ما تيسر إيراده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/654)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 26 ) وتاريخ 21\8\1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا بني بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من اختيار موضوع النشوز ليكون من جملة الموضوعات التي تعد فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثا أعدت في ذلك بحثا ، وعرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين الخامس من شهر شعبان عام 1394 هـ والثاني والعشرين منه .
وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها ، وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي :
أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة ، وترغيبها في الانقياد لزوجها ، وطاعته ، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته ، وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه ، ولا كسوة ، ولا سكنى ، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة الزوجة إلى العودة لزوجها ، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها ، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح ، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها ، وبين له أن عودتها إليه أمر بعيد ، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها ، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها ، واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك ، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن ، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على(1/655)
أيديهما فبها ، وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها ، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها ، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض ، فإن لم يتفق الحكمان ، أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما ، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا بعوض أو بغير عوض .
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } (1) ويدخل في هذا العموم الزوجان في حالة النشوز ، والقاضي إذا تولى النظر في دعواهما .
وقوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) الآية ، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز يكون من القاضي ؛ لما فيه من تحقيق المصلحة .
وقوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (3) فكما أن الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج ، فهو مشروع إذا كان من الزوجة أو منهما .
وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (4) الآية ، وهذه
__________
(1) سورة النساء الآية 114
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 35(1/656)
الآية عامة في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض .
وقوله تعالي : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1)
وأما السنة : فما روى البخاري في [ الصحيح ] عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال : « جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق ، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، فردت عليه ، فأمره ففارقها » (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (3) فهذا يدل بعمومه على مشروعية الخلع عند عدم الوئام بين الزوجين وخشية الضرر .
وأما الأثر : فما رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ، ورواه النسائي أيضا .
وما رواه الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهم ، فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح البخاري الطلاق (4973),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).(1/657)
المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، وقال الزوج : أما الفرقة فلا ، فقال علي : ( كذبت والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) .
ورواه النسائي في [ السنن الكبرى ] ورواه الشافعي والبيهقي ، وقال ابن حجر : إسناده صحيح .
وما أخرجه الطبري في [ تفسيره ] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحكمين أنه قال : ( فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ) .
وأما المعنى : فإن بقاءها ناشزا مع طول المدة أمر غير محمود شرعا ؛ لأنه ينافي المودة والإخاء ، وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ، مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم ، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر ، وتوليد العداوة والبغضاء .
وصلى الله وسلم على محمد ، وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع(1/658)
( 7 )
حكم الشفعة بالمرافق الخاصة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(1/659)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الشفعة بالمرافق الخاصة (1) .
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد وآله وصحبه ، وبعد :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة مسألة ( الشفعة بالمرافق الخاصة ) وقد قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس هذا نصه :
الحمد لله وحده ، وبعد : فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة المتقرر انعقادها في أول ربيع الثاني عام 1396 هـ .
وحيث إن دراسة أي موضوع يستلزم إعداد بحث فيه ، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على تعريف الشفعة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي ، وعلى مستند
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الثالث ، ص 229 - 264 ، لعام 1397 هـ .(1/661)
مشروعيتها ، وحكمة ذلك ، وعلى مجموعة من مسائل الشفعة مما هي موضع خلاف بين أهل العلم ، وفي مقدمة ذلك الشفعة بالمرافق الخاصة ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(1/662)
تعريف الشفعة :
الشفعة في اللغة :
الشفعة : من شفع يشفع شفعا ، كمنع بمعنى : الضم والزيادة ، وتطلق أيضا فيراد بها المال المشفوع فيه ، وتطلق ويراد بها : تملك ذلك المال ، قال في [ المصباح المنير ] : شفعت الشيء شفعا من باب نفع ضممته إلى الفرد ، وشفعت الركعة جعلتها ثنتين ، ومن هنا اشتقت الشفعة ، وهي مثال غرفة ؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها ، وهي اسم للملك المشفوع ، مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم ، وتستعمل بمعنى التملك لذلك الملك ، ومنه قولهم : من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر بطلت شفعته ، ففي هذا المثال جمع بين المعنيين ، فإن الأولى للمال والثانية للتملك . اهـ .
وفي [ لسان العرب ] : الشفع من الأعداد : ما كان زوجا ، تقول : كان وترا فشفعته بآخر ، وشفعة الضحى : ركعتا الضحى . إلى أن قال : وسئل أبو العباس عن اشتقاقها في اللغة ، قال : الشفعة : الزيادة ، وهو أن يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده ، وتشفعه بها : أي أن تزيده بها ، أي إنه كان وترا واحدا فضم إليه ما زاده وشفعه به . اهـ .(1/662)
الشفعة في الاصطلاح الشرعي :
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في تعريف الشفعة تبعا لاختلافهم في موجباتها ، ولشروطها وفيمن لهم حق الشفعة :
فذهب الحنفية : إلى أن الشفعة حق تملك المرء ما بيع من عقار أو ما هو في حكم العقار مما هو متصل بعقاره من شركة أو جوار بمثل الثمن الذي قام عليه المشتري ؛ وذلك لدفع ضرر الشراكة أو الجوار (1) .
وذهب المالكية : إلى أن الشفعة استحقاق لشريك أخذ مبيع شريكه بثمنه . قوله : ( شريك ) قيد أخرج به الجار والشريك في حق المبيع .
وقوله : ( مبيع ) قيد أخرج الموهوب بلا عوض ، وكذا الموروث (2) .
وذهب الشافعية : إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه بمثل العوض المسمى (3)
وذهب الحنابلة : إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة لشريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد ، فقوله : ( الشريك ) قيد خرج به الجار والشريك في حق المبيع . وقوله : ( إن كان مثله أو دونه ) قيد خرج به الكافر فلا شفعة له على مسلم ، وقوله : ( بثمنه الذي استقر عليه العقد ) خرج به الموهوب والموروث وما
__________
(1) [ الفتاوى الهندية ] ( 5\160 ) ، و [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\216 ) ، و [ شرح العدلية ] ( 4\591 ) ، و [ شرح العناية على الهداية ] ، و [ حاشية السعدي ] ( 7\406 ) .
(2) [ مواهب الجليل شرح مختصر خليل ] ( 3\377 ) .
(3) [ مغني المحتاج ] ( 2\296 ) .(1/663)
كان صداقا أو عوض خلع أو نحوهما (1) .
مما تقدم : تتضح العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي ، فإذا كانت الشفعة لغة بمعنى : الضم والزيادة ، فإن الشفيع بانتزاعه حصة شريكه من يد من انتقلت إليه بضم تلك الحصة إلى ما عنده فيزيد بها تملكه ، فالضم والزيادة موجودان في المعنيين اللغوي والشرعي ، غير أن الشفعة في عرف الشرع اعتبر فيها قيود جعلتها أخص من معناها في اللغة .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\255 ) ، حاشية المقنع ( 2\256 ) .(1/664)
مشروعية الشفعة
الشفعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1)
وأما السنة فقد ورد بمشروعيتها جملة أحاديث وآثار نذكر منها ما يلي :
1 - قد ثبت في [ الصحيحين ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم » (2) .
2 - روى البخاري في [ صحيحه ] وأبو داود والترمذي في [ سننهما ] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (3) ولمسلم بسنده إلى جابر قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي البيوع (1312),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),موطأ مالك الشفعة (1420),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/664)
ما لم تقسم ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (1) وفي رواية أخرى لمسلم قال : « الشفعة في كل شرك من أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع ، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه » (2) وفي رواية للترمذي : « من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه » (3) .
3 - ولأبي داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعة فيها » (4) قال الشوكاني في [ النيل ] : ورجال إسناده ثقات ، ورواه ابن ماجه بمعناه .
4 - وللترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (5) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال كما قال الترمذي . وفي رواية للطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شيء » ، قال الشوكاني في [ النيل ] : إسناد حديث جابر لا بأس برواته ، كما قاله الحافظ .
5 - وللبخاري وأبي داود والنسائي ، واللفظ للبخاري بإسناده إلى عمرو بن الشريد قال : وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي ، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا سعد ، ابتع مني بيتي في دارك ، فقال سعد : والله ما أبتاعهما ، فقال المسور : والله لتبتاعنهما ، فقال سعد : والله لا أزيدك على .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي البيوع (1312),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/357),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(5) سنن الترمذي الأحكام (1371).(1/665)
منجمة أو مقطعة ، فقال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الجار أحق بسقبه » (1) ما أعطيتكها بأربعة آلاف ، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها .
6 - ولأحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا » (2) قال في [ البلوغ ] : ورجاله ثقات . قال الصنعاني في [ شرحه ] : أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله ، وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله : « إذا كان طريقهما واحدا » (3) عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي . قلت : وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده ، كما عرف في الأصول وعلوم الحديث .
7 - وفي [ الموطأ ] أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : ( إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ، ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل ) . قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا .
8 - ولابن ماجه بسند ضعيف إلى ابن عمر رضي الله عنهما : ( الشفعة كحل العقال ) ورواه ابن حزم وزاد : ( فإن قيدها مكانه ثبت حقه ، وإلا فاللوم عليه ) . وأخرج عبد الرزاق عن شريح : إنما الشفعة لمن واثبها .
وأما الإجماع : فقد أجمع أهل العلم على القول بها ، ولم يعرف فيها مخالف إلا ما نقل عن أبي بكر بن الأصم من إنكارها ، بحجة : أن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك ، حيث إن المشتري يحجم عن الشراء إذا علم أن ما يشتريه سينتزع منه فيتضرر الملاك بذلك .
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).(1/666)
وقد رد ابن قدامة رحمه الله شبهته في معرض بحثه إجماع الأمة على القول بالشفعة ، فقال : وأما الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط ، والمعنى في ذلك : أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والاستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر ، فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه ، ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم ، فإنه قال : لا تثبت الشفعة ؛ لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك ، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه ، ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك . وهذا ليس بشيء ؛ لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله . والجواب عما ذكره من وجهين :
أحدهما : أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ، ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء .
الثاني : أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة . اهـ (1) .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\255 ) .(1/667)
دفع شبه القول بمنافاتها للقياس
لقد تكلم بعض أهل العلم في الشفعة من حيث زعم بعضهم منافاتها لبعض الأصول والمبادئ الشرعية :
فقال السرخسي : وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله : أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة ؛ لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه ، وذلك لا يجوز ، فإنه من نوع الأكل بالباطل ، وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه » (1) ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه ، وليس لأحد أن يدفع الضرر على نفسه بالإضرار بغيره . (2) .
وأورد ابن القيم رحمه الله شبهة لنفاة الحكم والتعليل والقياس فقال : وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة .
وقد رد رحمه الله على هذه الشبهة وعلى دعوى منافاة مشروعية الشفعة لأصول الشريعة ومبادئها ، فقال : من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ، ولا يليق بها غير ذلك ، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن ، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله ، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به .
ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2145),مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(2) [ المبسوط ] ( 14\90 ) .(1/668)
بعضهم على بعض : شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة ، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه ، وبالشفعة تارة ، وانفراد أحد الشريكين بالجملة ، إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك ، فإن أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي ، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان ، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ، ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع ؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن ، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد . اهـ (1) .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\111 ) .(1/669)
الحكمة في مشروعية الشفعة
لا شك أن الشريعة الإسلامية تهدف بتشريعاتها إلى تحقيق العدل ، وتعميم الرخاء ، وتحصيل المصالح ، ودرء المفاسد ، فهي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه .
والشفعة شرع الله ، شرعها تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أن لمشروعيتها حكمة اقتضاها عدله تعالى بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، ولا شك أن من الحكمة في مشروعيتها : إزالة الضرر بين الشركاء ، أو الضرر مطلقا ، فإن الشركات في الغالب تعتبر موطنا للخصومات ومحلا للتضرر والتعديات ، قال تعالى : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } (1)
قال ابن القيم رحمه الله : ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن
__________
(1) سورة ص الآية 24(1/669)
الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض ، شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة ، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه ، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة . اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الشفعة : فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع ؛ لما في الشركة من التضرر . اهـ (2) .
ونقل علي حيدر عن [ مجمع الأنهر ] : أن الحكمة في مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار من الضرر على وجه التأبيد ، كإيقاد النار ، وإعلاء الجدار ، وإثارة الغبار ، ومنع ضوء النهار ، وإقامة الدواب والصغار .اهـ (3) .
وباستعراض ما تقدم من تعاريف الشفعة لدى أهل العلم وحكمة مشروعيتها يتضح ما يلي :
1 - اتفاقهم على القول بالشفعة على وجه الإجمال .
2 - اتفاقهم على ثبوت الشفعة للشريك المسلم بشرطه .
3 - اتفاقهم على عدم اعتبار رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع الشفيع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه .
4 - اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\111 ) .
(2) [ مجموع فتاوى ابن تيمية ] ( 29\178 ) .
(3) [ درر الأحكام شرح مجلة الأحكام ] ( 4\672 ) .(1/670)
5 - اختلافهم في سبب الشفعة ، حيث اتفق الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، على أن الشفعة خاصة للشريك ، فلا شفعة بجوار ولا بمرفق خاص مشترك كطريق وبئر ومسيل ، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة ، حيث أثبت الشفعة بالجوار وبالمرافق الخاصة ، ووافقه في ذلك الإمام أحمد في رواية عنه في الشفعة بالمرافق الخاصة .
6 - اختلافهم في الشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار ؛ كالحمام الصغير والحانوت .
7 - اختلافهم في الشركة في المنقولات هل فيها شفعة ؟
8 - اختلافهم في الكافر : هل له حق الشفعة على المسلم ؟ حيث اتفق الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي على إثبات الشفعة له على المسلم ، وخالفهم في ذلك الإمام أحمد ، حيث منعها عنه بحجة أنه ليس له مثل حق المسلم .
9 - اختلافهم فيما إذا انتقلت الحصة إلى الغير بعوض غير مسمى .
10 - اختلافهم في الوقف هل تثبت فيه وبه الشفعة ؟
11 - اختلافهم في شفعة غير المكلف ؛ كالصبي والمجنون .
12 - اختلافهم في شفعة الغائب .
13 - اختلافهم في إرث الحق في الشفعة .(1/671)
وفيما يلي ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر :
1 - الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار
اختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة بالشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار، كالحمام الصغير والحانوت :
فذهب جمهور الشافعية والحنابلة : إلى أن الشركة في ذلك لا تعتبر سببا للأخذ بالشفعة ؛ لأن الشفعة مشروعة لدفع ضرر مئونة القسمة ، واستحداث المرافق ، وهذا غير موجود فيما لا يقبل القسمة ، فانتفت الشفعة .
قال في [ المنهاج ] : وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لا لشفعة فيه على الأصح . اهـ (1) .
وقال في[ المجموع ] : ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب ، فأما ما لا تجب قسمته ؛ كالرحى ، والبئر الصغيرة ، والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة ، وقال أبو العباس : تثبت فيه الشفعة ؛ لأنه عقار ، فتثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته ، والمذهب الأول ؛ لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا شفعة في بئر ، والأرف تقطع كل شفعة ، ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة ، وذلك لا يوجد فيما لا يقسم . اهـ (2) .
__________
(1) [ المنهاج ] ومعه شرحه [ المغني ] ( 2\297 ) .
(2) [ المجموع ] ( 14\132 ) والأرف : جمع أرفة ، كغرفة ، وهي الحد بين الشيئين .(1/672)
وذكر الشربيني وجه الخلاف في المذهب في ذلك فقال : هذا الخلاف مبني على ما مر من أن علة ثبوت الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة واستحداث المرافق . . إلخ .
والثاني : مبني على أن العلة دفع ضرر الشركة فيما يدوم ، وكل من المسلمين حاصل قبل البيع ، ومن حق الراغب فيه من الشريكين أن يخلص صاحبه منهما بالبيع له فإذا باع لغيره سلطه الشرع على أخذه منه ؛ لما روى مسلم عن جابر : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (1) اهـ (2) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : الشرط الثالث : أن يكون المبيع مما يمكن قسمته ، فأما ما لا يمكن قسمته من العقار ؛ كالحمام الصغير ، والرحى الصغيرة ، والعضادة ، والطريق الضيقة ، والعراص الضيقة ، فعن أحمد روايتان .
إحداهما : لا شفعة فيه ، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي .
والثانية : فيها الشفعة .
إلى أن قال : والأول ظاهر المذهب ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة » والمنقبة : الطريق الضيقة ، رواه أبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] ، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ( لا شفعة في بئر ولا فحل ) ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع ؛ لأنه لا
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) [ مغني المحتاج ] ( 2\297 ) .(1/673)
يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة ، وقد يمنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع ، وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها .
ويمكن أن يقال : إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ، ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم .
وقولهم : إن الضرر هاهنا أكثر لتأبده .
قلنا : إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر ، وهو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية ، وفي الشفعة هاهنا ضرر غير موجود في محل الوفاق ، وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق . اهـ (1) .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك :
قال أبو عبد الله المواق : قال ابن رشد : الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم ، وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في [ المدونة ] :
قال مالك : إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته فلا شفعة لصاحبه فيها ، وفي [ المدونة ] أيضا ، قال مالك : في الحمام الشفعة ، وهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض ؛ لما في قسم ذلك من الضرر ، وقاله
__________
(1) [ المغني ] ( 5\259 ، 260 ) .(1/674)
مالك وأصحابه أجمع . اهـ (1) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من الشافعية والمالكية والحنابلة : إلى ثبوت الشفعة في العقار مطلقا ، سواء أمكن قسمته أم لم تمكن .
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أصحابه ، كما اختاره بعض أصحاب الشافعي ؛ كأبي العباس بن سريج ، وهو رواية [ المهذب ] عن الإمام مالك رحمه الله .
قال السرخسي : واستحقاق الشفعة في الحمام والرحى قولنا ، وذكر توجيه ذلك بأنه لدفع ضرر البادئ بسوء المجاورة على الدوام ، وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد المالكين بالآخر على وجه التأبيد والقرار .
وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشفعة في كل شيء ، ربع أو حائط » (2) ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة ، وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا ، كالشقص من الجدار .
ثم أجاب عن القول : بأن علة الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة ، وأنه لا قسمة فيما لا يقبلها فقال : وبهذا يتبين أن مئونة المقاسمة إن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني ، وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة
__________
(1) [ التاج والإكليل على شرح مختصر خليل ] ( 5\315 ) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/675)
الأرض بينهما . اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار ؛ كالقرية ، والبستان ، ونحو ذلك ، وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار ، وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي ، هل تثبت فيه الشفعة ؟ على قولين :
أحدهما : تثبت ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واختاره بعض أصحاب الشافعي ؛ كابن سريج ، وطائفة من أصحاب أحمد ؛ كأبي الوفاء بن عقيل ، وهي رواية [ المهذب ] عن مالك ، وهذا القول هو الصواب ، كما سنبينه إن شاء الله .
والثاني : لا تثبت فيه الشفعة .
تم قال : والقول الأول : أصح ، فإنه قد ثبت في [ الصحيح ] عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : « من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (2) ، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض والربعة والحائط أن يكون مما يقبل القسمة ، فلا يجوز تقييد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير دلالة من كلامه ، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة ، وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا ، ففي [ الصحيحين ] ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\135 ) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/676)
شفعة » (1) فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق ، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر ، وفي [ السنن ] عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (2) فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى .
إلى أن قال : وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة ، فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه ، فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة ، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد ، وظن من ظن أنها تثبت لرفع ضرر المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان ، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة . ولو كان ضرر المشاركة (3) أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما ، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل ، فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا .
وأما قولهم : هذا يستلزم ضرر الشريك البائع .
فجوابه : أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين ، فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما ، وهذا مذهب جمهور العلماء ؛ كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد . اهـ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) سنن أبو داود البيوع (3518),مسند أحمد بن حنبل (3/310).
(3) هكذا في المطبوع ، ولعل الصواب : ضرر المقاسمة .
(4) [ المجموع ] ( 30\381 - 384 ) .(1/677)
وقال ابن قدامة رحمه الله في معرض توجيه القول بثبوت الشفعة فيما لا تمكن قسمته بعد أن ذكر أنه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله : ووجه هذا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) وسائر الألفاظ العامة ، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة ، والضرر في هذا النوع أكثر ؛ لأنه يتأبد ضرره . اهـ (2) .
وسئل الشيخ حمد بن ناصر والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا .
فأجابا : هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها وفيها قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد .
الأولى : أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته ، فأما ما لا تمكن قسمته من العقار ؛ كالحمام الصغير ، والعضادة ، والطريق الضيقة ، فلا شفعة فيه ، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي .
وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة .
قال الموفق في [ المغني ] : وهو ظاهر المذهب ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا شفعة في فناء ، ولا في طريق ، ولا في منقبة » والمنقبة : الطريق الضيق ، رواه أبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] .
والرواية الثانية : تثبت الشفعة فيه ، وهو قول : أبي حنيفة ، والثوري ،
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ المغني ] ( 5\259 ) .(1/678)
وابن سريج ، ورواية عن مالك ، واختاره ابن عقيل ، وأبو محمد الجوزي ، والشيخ تقي الدين .
قال الحارثي : وهو الحق ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) وسائر الألفاظ ، ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة ، والضرر في هذا النوع أكثر ؛ لأنه يتأبد ضرره ، وهذا هو المفتى به عندنا ، وهو الراجح . اهـ (2) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله إجابة لسؤال وجه إليه عن رأيه في اشتراط أن تكون الشفعة في أرض تجب قسمتها ما نصه :
وأما المسألة الثانية وهي : أنهم رحمهم الله لم يثبتوا الشفعة إلا في العقار الذي يمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته فهذا ضعيف أيضا ؛ لأن حديث جابر المرفوع « قضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم » (3) وهو في [ الصحيح ] صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم ، سواء أمكنت قسمته بلا ضرر أم لا .
ومن جهة المعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك لإزالة ضرر الشركة ، وهذا المعنى موجود في الأرض التي لا يمكن قسمتها أكثر من غيرها لتمكنه في غيرها بإزالة ضرر الشركة في القسمة فيما يقسم بلا ضرر ، وأما ما لا يمكن قسمته إلا بضرر فهو أعظم ضررا من غيره فكيف لا تثبت به ؟ ! وهذا هو الصحيح ، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد . اهـ (4) .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ الدرر السنية ] ( 5\226 ) .
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) [ الفتاوى السعدية ] ص 437 .(1/679)
2 - الاشتراك في المنقولات
لا يخلو أمر المنقول من حالين : إما أن يكون متصلا بالأرض ؛ كالبناء ، والغراس مما يباع مع الأرض فهذا يؤخذ بالشفعة تبعا لأصله .
قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن حكاه قولا واحدا في المذهب بغير خلاف : ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا . اهـ (1) .
وإما أن يكون منفصلا عنه : كالزرع والثمرة وغيرهما من المنقولات : فذهب الشافعية والحنابلة : إلى أن الشفعة لا تثبت فيه تبعا ولا منفردا ؛ لأن الشفعة بيع في الحقيقة ، وما كان منفصلا لا يدخل في البيع تبعا .
قال الشربيني في شرحه قول صاحب [ المنهاج ] : ( لا تثبت في منقول ) .
ما نصه : لا تثبت الشفعة في منقول كالحيوان والثياب ، سواء أبيعت وحدها أم مضمومة إلى أرض للحديث المار (2) فإنه يخصها بما تدخله القسمة والحدود والطرق ، وهذا لا يكون في المنقولات ، ولأن المنقول لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة ، والشفعة تملك بالقهر فناسب مشروعيتها عند شدة الضرر ، والمراد بالمنقول : ابتداء لتخرج الدار إذا انهدمت بعد ثبوت الشفعة ، فإن نقضها يؤخذ بالشفعة . اهـ .
وقال أيضا في شرحه قول صاحب [ المنهاج ] : وكذا ثمر لم يؤبر في الأصح . ما نصه : ويأخذ الشفيع الشجر بثمرة حدثت بعد البيع ولم تؤبر
__________
(1) [ المعني ] ( 5\258 ) .
(2) أي الحديث الذي مر في [ مغني المحتاج ] . اهـ . الناشر .(1/680)
عند الأخذ ؛ لأنها قد تعبت الأصل في البيع فتبعته في الأخذ بخلاف ما إذا أبرت عنده فلا يأخذها لانتفاء التبعية .
أما المؤبرة عند البيع إذا دخلت بالشرط فلا تؤخذ ؛ لما سبق من انتفاء التبعية ، فتخرج بحصتها من الثمن . اهـ (1) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : القسم الثاني : ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا ، وهو : الزرع ، والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض ، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل ، ثم ذكر توجيه ذلك بقوله : لأنه لا يدخل في البيع تبعا فلا يؤخذ بالشفعة ؛ كقماش الدار ، وعكسه البناء ، والغراس ، وتحقيقه : أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضا المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة ؛ لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض .
وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه ، سواء كان مما ينقل ؛ كالحيوان ، والثياب ، والسفن ، والحجارة ، والزرع ، والثمار ، أو لا ينقل ؛ كالبناء ، والغراس ، إذا بيع مفردا ، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي . اهـ (2) .
وذهب الحنفية : إلى أن الثمرة في الأرض تابعة للأرض في استحقاق الشفعة استحسانا إذا شرطها المبتاع ، وأما القياس فإن الشفيع لا يأخذها ؛
__________
(1) [ مغني المحتاج ] ( 2\296 ، 297 ) .
(2) [ المغني ] ( 5\258 ) .(1/681)
لأنها في حكم المنفصل أشبه المتاع في الدار .
قال في[ الهداية ] : ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها ، ومعناها : إذا ذكر الثمر في البيع ؛ لأنه لا يدخل مع غير ذكر ، وهذا الذي ذكره استحسان .
وفي القياس : لا يأخذه ؛ لأنه ليس يتبع ، ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار ، وجه الاستحسان : أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع . اهـ (1) .
وأما ما كان منفصلا عن الأرض ؛ كأثاث الدار ، والعروض ، والسفن ، والحيوانات ، وغير ذلك من المنقولات فلا شفعة فيها ؛ لأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام ، والملك في المنقول لا يدوم مثل دوامه في العقار فلا تلحق به . (2)
واختلفت الروايات عن الإمام مالك رحمه الله في الثمرة على الأرض هل تؤخذ بالشفعة أم لا ؟
قال ابن رشد : فتحصيل مذهب مالك : أنها في ثلاثة أنواع :
أحدها : مقصود ، وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين .
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\34 ) .
(2) [فتح القدير] لابن الهمام (7 \ 434 ).(1/682)
والثاني : ما يعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول كالبئر .
والثالث : ما تعلق بهذه كالثمار ، وفيها عنه خلاف . اهـ (1) .
وقد ذكر ابن رشد في [ مقدماته ] :
أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه :
الأول : ألا يكون فيها ثمرة أصلا ، أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر ، وهذه الحال لا خلاف في أن الشفيع يأخذ النخل بثمرته .
الثاني : أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مؤبرة .
وقد ذكر الخلاف في استحقاق الثمرة تبعا للأصل ، فذكر أن قول المدنيين في [ المدونة ] وهو قول أشهب وأكثر الرواة : أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت ، وأصل الخلاف في ذلك هل الأخذ بالشفعة كالأخذ بالبيع أو أن الثمرة تصير غلة بالإبار .
الثالث : أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت ، وهذا الوجه كالوجه الثاني فيه الخلاف بين أصحاب مالك ، وقد قال ابن القاسم في [ المدونة ] : أن الشفيع أحق بها ما لم تجذ ويأخذها الشفيع بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة (2) .
وأما المنقولات المفصلة ؛ كالسفن ، والحيوانات ، والأثاث وغيرها
__________
(1) [ بداية المجتهد ، ( 2\254 ) .
(2) [ مقدمات ابن رشد ] ( 2\586 - 589 ) .(1/683)
فلا شفعة فيها .
قال في [ المدونة ] : قلت : ولا شفعة في دين ولا حيوان ولا سفن ولا بر ولا طعام ولا في شيء من العروض ولا سارية ولا حجر ولا في شيء من الأشياء سوى ما ذكرت لي كان مما يقسم أو لا يقسم في قول مالك ؟ قال : نعم ، لا شفعة في ذلك ولا شفعة فيما ذكرت لك . (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في الثوب ؛ لما روى الترمذي بسند جيد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (2) ورواه مرسلا وصحح المرسل . قال الحافظ : ورواه الطحاوي بلفظ : « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء » ورجاله ثقات (3) . لأن الشفعة شرعت لدفع ضررا لمشاركة . وهذا القول رواية عن الإمام أحمد .
قال ابن قدامة رحمه الله في معرض كلامه على الشفعة في المنقولات ما نصه : واختلف عن مالك وعطاء ، فقالا مرة كذلك ، ومرة قالا : الشفعة في كل شيء حتى في الثوب ، قال ابن أبي موسى : وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى : أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك . اهـ (4) .
وقال في [ حاشية الروض المربع ] للشيخ عبد الله العنقري على قول
__________
(1) [ المدونة ] ( 5\402 ) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1371).
(3) [ بلوغ المرام ] ومعه شرحه [ السبل ] ( 3\62 ) .
(4) [ المغني ] (5\258 ) .(1/684)
الشارح : ( فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه ) ما نصه :
قوله : فلا شفعة في منقول ، إلى قوله : ونحوها . قال في [ الإنصاف ] : والرواية الثانية فيه الشفعة ، اختاره ابن عقيل ، وأبو محمد الجوزي ، والشيخ تقي الدين . قال الحارثي : وهو الحق ، وعنه يجب في كل مال ، حاشا منقولا ينقسم . اهـ (1) .
وممن قال بذلك ابن حزم ، ففي [ المحلى ] ما نصه : الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم : من أرض أو شجرة واحدة فأكثر ، أو عبد ، أو ثوب ، أو أمة ، أو من سيف ، أو من طعام ، أو من حيوان ، أو من أي شيء بيع . اهـ (2) .
__________
(1) [ الروض المربع ] ( 2\402 ) .
(2) [ المحلى ] ( 10\3 ) .(1/685)
3 - الجوار
لا يخلو أمر الجار من حالين : إما أن يكون شريكا لجاره في مرافق خاصة كشرب ومسيل وطريق غير نافذ ونحو ذلك ، وإما ألا يشاركه في شيء من ذلك .
فإن كان شريكا لجاره في المرافق الخاصة فقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة : إلى القول بعدم الشفعة في ذلك ؛ لما في [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : « إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق(1/685)
فلا شفعة » (1) ولما روى مسلم في [ صحيحه ] عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط » (2) حيث دل الحديثان على حصر الشفعة فيما هو مشترك ولم يقسم ، فإذا قسم فلا شفعة ؛ ولأن الشفعة مشروعة لرفع ضرر الاشتراك والمقاسمة ، ولما في المقاسمة من احتمال نقص قيمة حصة الشريك بعد المقاسمة لما تستلزمه المقاسمة في الغالب من إحداث مرافق خاصة لما يقتسم .
قال في [ المدونة ] : قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما اقتسموا دارا بينهم فعرف كل رجل منهم بيوته ومقاصيره إلا أن المساحة بينهم لم يقتسموها أتكون الشفعة بينهم أم لا في قول مالك ؟ قال : قال مالك : لا شفعة بينهم إذا اقتسموا ، قلت : وإن لم يقتسموا المساحة وقد اقتسموا البيوت فلا شفعة بينهم في قول مالك ؟ قال : نعم . قلت : أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم فباع بعضهم داره ، أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك ؟ قال : لا لشفعة لهم عند مالك . قلت : ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق ؟ قال : نعم ، لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق . ألا ترى أن مالكا قال : لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار اهـ (3) .
وقال ابن رشد في معرض تعداد ما لا شفعة فيه : وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار . اهـ (4) .
وقال الشربيني على قول صاحب [ المنهاج ] : ( ولا شفعة إلا لشريك ) .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) [ المدونة ] (5\402) .
(4) [ بداية المجتهد ] (2\255) .(1/686)
ما نصه : ولا شفعة إلا لشريك في رقبة العقار ، فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار (1) ، ولا للشريك في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط . ولو باع دارا وله شريك في ممرها فقط التابع لها ، فإن كان دربا غير نافذ فلا شفعة له فيها ؛ لانتماء الشركة فيها . اهـ (2) .
وقال النووي : وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجوار ، فيه خلاف : فذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار ، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، وأبي الزناد ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، والمغيرة بن عبد الرحمن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، اهـ (3) .
وذكر ابن قدامة رحمه الله : أن الشفعة لا تثبت إلا بشروط أربعة : أحدها : أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم ، فأما الجار فلا شفعة له .
ثم ذكر من اختار هذا القول من أهل العلم ومن خالفه ، كأبي حنيفة وغيره ، ثم وجه القول بحصر الشفعة في الملك غير المقسوم ، فقال : ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (4) وروى ابن جريج عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلمة أو عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قسمت الأرض وحددت فلا
__________
(1) أي : للحديث المار في كتاب [ مغني المحتاج ] اهـ . الناشر .
(2) [ مغني المحتاج ] ( 2\298 ) .
(3) [ شرح النووي لصحيح مسلم ] ( 11\46 ) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).(1/687)
شفعة » (1) رواه أبو داود .
ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه ، وبيان انتفاء المعنى هو : أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق ، وهذا لا يوجد في المقسوم . . . إلى أن قال : إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة . قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب ، إذا وقعت الحدود فلا شفعة . اهـ (2) .
وقال البهوتي رحمه الله : ومن أرضه بجوار أرض لآخر ويشربان من نهر أو بئر واحدة فلا شفعة بذلك . اهـ (3) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم : إلى أن الشفعة تثبت للخليط في حق المبيع إذا لم يكن ثم من يحجبه عنه ، كوجود خليط في المبيع نفسه ؛ وذلك لما روى الحسن عن سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدار أحق بالدار » (4) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وعن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (5) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .
وقال الحافظ في [ البلوغ ] : رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات ، ولأن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ المغني ] ( 5\256 ، 257 ) .
(3) [ شرح المنتهى ] ( 2\434 ، 435 ) .
(4) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).
(5) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).(1/688)
اتصال ملكه به يدوم ويتأبد فهو مظنة التضرر بالاختلاط في حقوق المبيع كالشركة . قال في [ الهداية ] في معرض توجيهه القول بثبوت الشفعة للخليط في حق المبيع تم للجار ما نصه : ولنا ما روينا ، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع ؛ وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار ، إذ هو مادة المضار على ما عرف ، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى . اهـ (1) .
وقد قال بثبوت الشفعة بالشركة في مصالح العقار بعض الحنابلة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وصاحب [ الفائق ] وهو اختيار الحارثي . قال أبو الحسن المرداوي : وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب ، وقد سأله عن الشفعة . فقال : إذا كان طريقهما واحدا لم يقتسموا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهذا هو الذي اختاره الحارثي . وذكر ظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم ، ثم قال : وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه ، ثم ذكر أدلته ، وقال في هذا المذهب جمعا بين الأخبار دون غيره فيكون أولى بالصواب . اهـ (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال ، أعدلها هذا القول : أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا . اهـ (3)
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\24 ، 25 ) .
(2) [ الإنصاف ] ( 6\255 ) .
(3) [ مجموع الفتاوى ] ( 30\383 ) .(1/689)
وقال ابن القيم رحمه الله : والصواب : القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه ، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث : أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة ، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة ، بل كان كل واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة ، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي ؟ فقال : إذا كان طريقهما واحدا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين : سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري . . . إلى أن قال : والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك ، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه ، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري ، فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه ، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة ، وأقربها إلى العدل ، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه حيث قال : لا شفعة فيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطريق ، وحيث أثبتها فيما إذا لم تصرف الطرق ، فإنه قد روي عنه هذا وهذا . وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه ، فإنه قال : ( إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ) ومن تأمل أحاديث شفعة الجار رآها صريحة في ذلك ، وتبين له بطلان حملها على الشريك ، وعلى حق الجوار غير الشفعة ، وأجاب رحمه الله عن حديث أبي(1/690)
هريرة : « فإذا وقعت الحدود فلا شفعة » (1) بأن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود ، فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة ؛ بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (2) .
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر والشركة في السيل ؟
فأجاب : تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر ، ولا تثبت الشفعة بالشركة بالجدار ، ولا بالشركة في السيل .
وأجاب ابنه عبد الله بما نصه : قولك : هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء ؟
فالمفتى به عندنا : أنها تثبت بذلك ، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء . اهـ .
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل ؟
فأجاب : المذهب : عدم ثبوت الشفعة بالطريق والسيل مثله ، واختيار الشيخ . التشفيع بمرافق الأملاك من الطريق والبئر والسيل ، وهو الذي عليه الفتوى عند أئمة الدعوة ؛ لحديث : « الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (3) ولمفهوم حديث : « فإذا وقعت
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ إعلام الموقعين ] ( 2\126 - 135 ) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/691)
الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) وهو الذي نفتي به . اهـ (2) .
وقال ابن حزم : والشفعة واجبة ، وإن كانت الأجزاء مقسومة ، إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم ، فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ ، كان ملاصقا أو لم يكن .
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ، فلا شفعة » (3) فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين معا : وقوع الحدود ، وصرف الطرق ، لا بأحدهما دون الآخر . اهـ (4) .
وأما الجار غير الشريك :
فقد ذهب الحنفية إلى القول بحقه في الأخذ بالشفعة على شرط انتفاء من هو أحق منه بها ؛ كالخليط في المبيع أو في حقه ، وذهب إلى القول بذلك : ابن شبرمة ، والثوري ، وابن أبي ليلى .
قال في [ الهداية ] : الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ، ثم للخليط في حق المبيع ؛ كالشرب ، والطريق ، ثم للجار . أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب .
أما الثبوت : فلقوله عليه الصلاة والسلام : « الشفعة لشريك لم يقاسم » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « جار الدار أحق بالدار ، ينتظر له ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (5) ولقوله عليه الصلاة والسلام : « الجار أحق
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) [ الدرر السنية ] ( 5\224 ، 225 ) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(4) [ المحلى ] ( 10\33 ) .
(5) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).(1/692)
بسقبه قيل : يا رسول الله ، ما سقبه ؟ قال : شفعته » (1) . ويروى « الجار أحق بشفعته » (2) .
إلى أن قال : وأما الترتيب : فلقوله عليه الصلاة والسلام : « الشريك أحق من الخليط ، والخليط أحق من الشفيع » فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار . اهـ (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).
(3) [ الهداية ] ( 2\24 ) .(1/693)
أ - أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها :
استدل القائلون بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الشريك في حق المبيع أو الجار بما يأتي :
1 - ما في [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) وفي لفظ : « إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم » (2) إلخ .
2 - ما في [ صحيح مسلم ] من حديث أبي الزبير عن جابر قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه » (3) إلى آخر الحديث .
3 - ما روى الشافعي بإسناده إلى أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2101),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/693)
« الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة » (1) .
4 - ما في [ سنن أبي داود ] بإسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها » (2) .
5 - ما في [ الموطأ ] بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة » (3) .
6 - ما ذكره سعيد بن منصور بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - قال : ( إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم ) .
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن الشفعة مشروعة فيما هو مشاع غير مقسوم ، ولأن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والأحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة الملك بالقسمة . أما إذا قسمت الأرض فوقعت الحدود وصرفت الطرق ، فلا شفعة حينئذ لانتفاء الضرر بذلك .
ووجه القائلون بذلك القول : حصر الشفعة للشريك دون غيره ، وأجابوا عن الأحاديث الوارثة بالشفعة للجار .
فقال ابن القيم رحمه الله :
قالوا : وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ، ففي الشركة
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(3) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/694)
حقوق لا توجد في الجوار ، فإن الملك في الشركة مختلط ، وفي الجوار متميز ، ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي ؛ أما المطالبة ففي القسمة ، وأما المنع فمن التصرف ، فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار ؛ فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف ، والمعنى الذي وجبت به الشفعة : رفع مئونة المقاسمة ، وهي مئونة كثيرة ، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمئونة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع ؛ لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه ، فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيلا ، فرجح جانبه ، وثبت له الاستحقاق ، قالوا :
وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري ، فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله ، وإذا سلط الجار على إخراجه وانتزع داره منه أضر به إضرارا بينا . وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جوار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر ، فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق ؛ لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده ، وهذا بخلاف الشريك وأن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به . قالوا : وحينئذ تعين حمل أحاديث(1/695)
شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك .
ووجه هذا الإطلاق : المعنى ، والاستعمال : أما المعنى : فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه ، فهما جاران حقيقة ، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ؛ ولذا سميت الزوجة جارة ، كما قال الأعشى :
أجارتنا بيني فإنك طالقة
. . . . . . . . . . . .
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى . وقال حمل بن مالك : كنت بين جارتين لي . . هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة ، فأما إن كان المراد بالحق فيها : حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة ، وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع ، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ، ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع . اهـ (1) .
وقد ناقش القائلون بثبوت الشفعة للجار هذه الأدلة بما يأتي :
1 - بالنسبة لحديث جابر : فإن قوله : « فإن وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) . . فقد ذكر أبو حاتم بأنه مدرج من قول جابر ، قالوا : ويؤيد ذلك أن مسلما لم يخرج هذه الزيادة .
وأجيب عن ذلك : بأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\122 - 124 ) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/696)
الإدراج بدليل ، فضلا عن أن هذه الزيادة قد وردت في حديث آخر ، كحديث أبي هريرة .
2 - وأما القول : بأن العقار إذا كان مقسوما معروف الحدود مصرفة طرقه فلا ضرر على مالكه بتداول الأيدي المجاورة فغير صحيح . ذلك أن في الضرر الذي قصد الشارع رفعه ضرر سوء الجوار ، فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا ، فيعلي الجدار ، ويتتبع العثار ، ويمنع الضوء ، ويشرف على العورة ، ويطلع على العثرة ، ويؤذي جاره بأنواع الأذى ، وقد أجمعت الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك لدفع الضرر الناشئ عنه اشتراك في الغالب ، فإذا ثبتت الشفعة في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها .
3 - وأما الاحتجاج بما في [ صحيح البخاري ] : « فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) فعلى فرض انتفاء الإدراج من جابر فإن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما ، مثل : أن يكون طريقهما واحدا ، أو أدنى يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية ، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه ، إذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (2) .
4 - وأما القول بأن الشفعة شرعت للشريك لدفع ضرر المقاسمة فغير
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) انظر [ إعلام الموقعين ] ( 2\116 -126 ) و [ نيل الأوطار ] ( 5\352 ، 353 ) .(1/697)
مسلم به ، فمشروعيتها لرفع الضرر مطلقا ، سواء كان الضرر ناتجا عن المقاسمة أم عن الاشتراك . وتخصيص الشفعة برفع ضرر معين دون غيره من الأضرار تخصيص يحتاج إلى ما يسنده شرعا ، وأيضا فلو كانت الشفعة مشروعة لدفع ضرر المقاسمة فقط ؛ لثبتت مشروعيتها في المنقولات المشتركة لرفع ضرر المقاسمة فيها .(1/698)
ب - أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها :
استدل القائلون بثبوت الشفعة بالمرافق الخاصة وبالجوار بما يأتي :
1 - ما روى البخاري في [ صحيحه ] عن عمرو بن الشريد ، قال : وقفت على سعد بن أبي وقاص ، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي ، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا سعد ، ابتع مني بيتي في دارك ، فقال سعد : والله ما أبتاعهما ، فقال المسور : والله لتبتاعنها فقال سعد : والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة ، فقال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الجار أحق بسقبه » (1) ما أعطيتكها بأربعة آلاف ، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار ، فأعطاه إياها .
وجه الدلالة من ذلك قوله : « الجار أحق بسقبه » (2) أي : بقربه ، أي : إن الجار أحق بالدار من غيره لقربه ، ويدل على أن المقصود بأحقية الجار شفعته الأحاديث الآتية :
2 - روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بإسناده إلى جابر بن
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).(1/698)
عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحد » (1) وقد حسنه الترمذي .
3 - روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدار أحق بالدار من غيره » (2) .
4 - روى أحمد والنسائي وابن ماجه « عن الشريد بن سويد قال : قلت : يا رسول الله ، أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال : الجار أحق بسقبه ما كان » (3) .
كما استدلوا من جهة المعنى :
بقولهم : واللفظ لابن القيم رحمه الله : إن حق الأصيل - وهو الجار - أسبق من حق الدخيل ، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار ، فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ، ويتأذى بعضهم ببعض ، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود ، والضرر بذلك دائم متأبد ، ولا يندفع ذلك إلا برضا الجار ، إن شاء أقر الدخيل على جواره ، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مئونة المجاورة ومفسدتها ، وإذا كان الجار يخاف التأذي على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم ؛ فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع . اهـ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).
(3) سنن النسائي البيوع (4703),سنن ابن ماجه الأحكام (2496).
(4) [ إعلام الموقعين ] ( 2\120 ، 121 ) .(1/699)
المناقشة
أجاب القائلون بحصر الشفعة في الشريك دون غيره بما يأتي :
1 - بالنسبة لحديث أبي رافع رضي الله عنه : فقد ذكر الحافظ ابن حجر في معرض شرحه هذا الحديث ، وإيراده وجه استدلال الحنفية به على ثبوت الشفعة للجار ، وإلزام الشافعية بالقول به ؛ لكون الجار حقيقة في المجاورة ، مجازا في الشريك ، قال ما نصه : إن محل ذلك عند التجرد وقد قامت القرينة هنا على المجاز ، فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع ، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك ، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا ؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك ، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا ، ثم المشارك في الطريق ، ثم الجار على من ليس بمجاور ، فعلى هذا يتعين تأويل قوله : ( « أحق » (1) بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك . اهـ (2) .
2 - بالنسبة لحديث جابر « الجار أحق بشفعة جاره » (3) إلخ ، فقال الترمذي : لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر ، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث ، ثم قال : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به ، ويروى عن جابر خلاف هذا . اهـ . قال شعبة : سها فيه عبد الملك ، فإن روى حديثا مثله طرحت
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2572),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).
(2) [ فتح الباري ] (4\438) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/700)
حديثه ، ثم ترك شعبة التحديث عنه ، وقال أحمد : هذا الحديث منكر . وقال ابن معين : لم يروه غير عبد الملك ، وقد أنكروه عليه . اهـ (1) .
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن الطعن في حديث جابر فقال : إن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ، ولم يتعرض له أحد بجرح ألبتة ، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم ، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) .
ولا تحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري ، وقد صح هذا من رواية جابر عن الزهري عن أبي سلمة عنه ، ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه ، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه ، فخالفه العرزمي ؛ ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ، ولم يقدموه على حديث هؤلاء . . إلى أن قال : وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه ، فإنه قال : « الجار أحق بسقبه ينتظر به ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (3) فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله : « فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة » (4) فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة ، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه ، وجابر روى اللفظين . . . إلى أن قال : وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن
__________
(1) [ نيل الأوطار ] ( 3\355 ) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(4) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).(1/701)
البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب . اهـ (1) .
3 - وأما حديث الشريد بن سويد ، فقال الخطابي : قد تكلم أهل الحديث في إسناده ، واضطراب الرواة عنه ، فقال بعضه : عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع ، وقال بعضهم : عن أبيه عن أبي رافع ، وأرسله بعضهم . وذكر ابن قدامة رحمه الله عن ابن المنذر قوله : الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه ، وما عداه من الأحاديث فيها مقال (2) .
وأجيب عن ذلك : بما ذكره ابن القيم رحمه الله عن البخاري بخصوص حديث الشريد بن سويد ، أو عمرو بن الشريد قال : قال البخاري : وهو أصح عندي من رواية عمرو عن أبي رافع - يعني : حديث أبي رافع مع سعد ابن أبي وقاص - وقال أيضا : كلا الحديثين عندي صحيح (3) .
وقال ابن حزم في معرض مناقشته الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل هذا القول ما نصه : ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به ؛ لأنه ليس فيه إلا « الجار أحق بسقبه » (4) وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر ، وقد حدثنا همام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال : سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\119 - 125 ) .
(2) [ المغني ] ( 5\257 ) .
(3) [ إعلام الموقعين ] ( 2\117 ) .
(4) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).(1/702)
« المرء أحق وأولى بصقبه » (1) ، قلت لعمرو : ما صقبه ؟ قال : الشفعة ، قلت : زعم الناس أنها الجوار ، قال : الناس يقولون ذلك ، فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار ، ولا يرى لفظ ما روى يقتضي ذلك ، فبطل كل ما موهوا به . ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه عليه الصلاة والسلام ، وقوله وقضاؤه : « فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) يقضي على ذلك كله ويرفع ، فكيف ولا بيان في شيء منها . اهـ (3) .
4 - وأما حديث سمرة : ففي سماع الحسن من سمرة ، مقال معروف لدى علماء الحديث ، قال يحيى بن معين : لم يسمع الحسن من سمرة ، وإنما هي صحيفة وقعت إليه ، وقال غيره : لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة .
وقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله حيث قال : قد صح سماع الحسن من سمرة ، وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا ، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب ، وكذلك الخلفاء بعدهم ، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب ، فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ، ولا يقول هذا كتاب ، وكذلك خلفاؤه من بعده والناس إلى اليوم ، فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل ، والحفظ
__________
(1) صحيح البخاري الحيل (6580),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/390).
(2) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(3) [ المحلى ] ( 10\42 ) ] .(1/703)
يخون ، والكتاب لا يخون . اهـ (1) .
ويمكن أن يجاب عن قول ابن القيم رحمه الله : بأن الغالب على طالب العلم أن يسجل كل ما عن له من صحيح وضعيف ، وما له وجه وما لا وجه له ، على أمل أن يتم له النظر لإبعاد ما لا وجه له ولا صحة ، ويحمل أن يعجله الأجل قبل ذلك بخلاف ما يؤلفه طالب العلم وينشره بين الناس فإنه بنشره يعتبر في حكم المقتنع بوجاهته وصحة ما فيه مما يراه ، وكذا ما يكتبه الوالي إلى عماله أو غيرهم ، فإنه يكتب ما يكتب عن اقتناع بوجاهة ما كتبه .
5 - وأما الاحتجاج على مشروعية الشفعة للجار بالمعنى ، فقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله ، وسبق نقل ذلك عنه (2) .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\117 )
(2) انظر [ إعلام الموقعين ] (2\122 - 124) .(1/704)
4 - الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى
إذا انتقل ما يجب فيه الشفعة إلى الغير بعوض غير مسمى :
فقد ذهب الحنفية إلى نفي الشفعة فيه .
قال في [ الهداية ] : ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا ؛ لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مجادلة المال بالمال لما بينا ، وهذه الأعواض ليست بأموال ، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع ،(1/704)
وقلب الموضوع . . . إلى أن قال : أو يصالح عنها بإنكار ؛ لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه كما إذا أنكر صريحا . اهـ (1) .
وذهب المالكية إلى إثباتها :
قال في [ المدونة ] : قلت : أرأيت إن تزوجت على شقص من دار ، أو خالعت امرأتي على شقص من دار ، أيكون في ذلك الشفعة في قول مالك ؟ قال : نعم ، مثل : النكاح والخلع ، وقلت : فبماذا يأخذ الشفيع في الخلع والنكاح والصلح في دم العمد الشقص ؟ قال : أما في النكاح والخلع ، فقال لي مالك : يأخذ الشفيع الشقص بقيمته ، وأرى الدم العمد مثله يأخذه بقيمته اهـ (2) .
وذهب الشافعية إلى ثبوت الشفعة فيما أخذ بعوض غير مالي :
قال الشربيني على قول صاحب [ المنهاج ] : وإنما تثبت في ملك بمعاوضة ملكا لازما متأخرا عن ملك الشفيع ، كمبيع ومهر وعوض خلع وصلح دم ونجوم وأجرة ورأس مال مسلم . قال : بمعاوضة محضة كالبيع ، أو غير محضة كالمهر ، أما البيع فبالنص والباقي بالقياس عليه ، بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر . اهـ (3) .
وأما الحنابلة : فالصحيح من المذهب : أنه لا شفعه فيه ؛ لأنه مملوك بلا مال أشبه الموهوب والموروث ، ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل وبقيمته ؛
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\35 ، 36 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\441 ) .
(3) [ مغني المحتاج ] ( 2\298 ) .(1/705)
لأنها ليست عوض الشقص .
قال المرداوي : قوله : ولا شفعة فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين ، وأطلقهما في [ الهداية ] و [ المذهب ] و [ المستوعب ] و [ التلخيص ] و [ المحرر ] و [ الرعاية الكبرى ] و [ الفروع ] و [ الفائق ] وظاهر [ شرح ] : الإطلاق :
أحدهما : لا شفعة في ذلك ، وهو الصحيح من المذهب ، قال في [ الكافي ] : لا شفعة فيه في ظاهر المذهب ، قال الزركشي : هذا أشهر الوجهين عند القاضي وأكثر أصحابه ، قال ابن منجى : هذا أولى ، قال الحارثي : أكثر الأصحاب قال بانتفاء الشفعة ، منهم : أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وأبو علي بن شهاب ، والقاضي ، وأبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] وابن عقيل والقاضي يعقوب ، والشريفان : أبو جعفر وأبو القاسم الزبدي ، والعكبري ، وابن بكروس ، والمصنف ، وهذا هو المذهب ؛ ولذلك قدمه في المتن . اهـ .
وهو ظاهر كلام الخرقي ، وصححه في [ التصحيح ] و [ النظم ] وجزم به في [ العمدة ] و [ الوجيز ] و [ المنور ] و [ الحاوي الصغير ] وغيرهم ، وقدمه في [ المغني ] و [ الشرح ] وفى شرح الحارثي ، وغيرهم .
والوجه الثاني : فيه الشفعة ، اختاره ابن حامد ، وأبو الخطاب في [ الانتصار ] وابن حمدان في [ الرعاية الصغرى ] وقدمه ابن رزين في [ شرحه ] . فعلى هذا القول يأخذه بقيمته على الصحيح . اهـ (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 6\252 ، 253 ) .(1/706)
5 - الشفعة بشركة الوقف
اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الشفعة في الوقف :
فذهب الحنفية إلى أن لا شفعة للوقف ولا في الوقف ؛ لأنه لا مالك له معين :
قال في [ الدر المختار ] ما نصه :
ولا شفعة في الوقف ، ولا له نوازل ، ولا بجواره ، قال المصنف : قلت : وحمل شيخنا الرملي الأول على الأخذ به ، والثاني على أخذه بنفسه إذا بيع ، وأما إذا بيع بجواره أو كان بعض المبيع ملكا وبعضه وقفا وبيع الملك فلا شفعة للوقف .
وقال في [ الحاشية ] : قوله : أو كان بعض المبيع ملكا . . . إلخ ، حاصله : أنه لا شفعة له بجوار ولا بشركة ، فهو صريح بالقسمين ، كما أشار الشارح بنقل عبارة النوازل ، ونبهنا عليه ، قوله : فلا شفعة للوقف إذ لا مالك له . اهـ (1) .
وقال الكاساني في معرض تعداده شروط الأخذ بالشفعة ما نصه :
ومنها : ملك الشفيع وقت الشراء في الدار التي يأخذها بالشفعة ؛ لأن سبب الاستحقاق جوار الملك ، والسبب إنما ينعقد سببا عند وجود الشرط ، والانعقاد أمر زائد على الوجود ، فإذا لم يوجد عند البيع كيف
__________
(1) [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\223 )(1/707)
ينعقد سببا ، فلا شفعة له بدار يسكنها بالآجار والإعارة ، ولا بدار باعها قبل الشراء ، ولا بدار جعلها مسجدا ، ولا بدار جعلها وقفا ، وقضى القاضي بجوازه أو لم يقض على قول من يجيز الوقف ؛ لأنه زال ملكه عنها لا إلى أحد . اهـ (1) .
وذهب المالكية إلى أنه لا شفعة بالوقف إلا للواقف نفسه بشرط أن يضيف ما يأخذ بالشفعة إلى ما أوقفه ، أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة ليضاف إلى الوقف ، أو أن يئول الوقف إلى الموقوف عليهم ، فلهم حق الأخذ بالشفعة ولو لم يوقفوا ، أو أن يئول النظر أو الاستحقاق إلى بيت المال فللسلطان الأخذ له بالشفعة .
قال أبو البركات أحمد الدردير في معرض تعداد من يجوز لهم الأخذ بالشفعة ما نصه :
أو كان الشفيع محبسا لحصته قبل بيع شريكه فله الأخذ بالشفعة ليحبس الشقص المأخوذ أيضا ، قال : منها : دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده ، وولد ولده ، فباع شريكه في الدار نصيبه ، فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذ بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول . انتهى .
وهذا إذا لم يكن مرجعها له ، وإلا فله الأخذ ولو لم يحبس . كأنه يوقف على عشرة مدة حياتهم ، أو يوقف مدة معينة فله الأخذ مطلقا ، كسلطان له
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 6\2704 ) .(1/708)
الأخذ بالشفعة لبيت المال ، قال سحنون في المرتد : يقتل ، وقد وجبت له شفعة : أن للسلطان أن يأخذها إن شاء لبيت المال . اهـ (1) .
وذهب الشافعية إلى أن الوقف إن كان كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ونحو ذلك فلا شفعة به وإن كان خاصا فلا شفعة لواقفه لزوال ملكه عنه .
وقد اختلف علماء الشافعية في ثبوت للموقوف عليه العين لاختلاف ما نقل عن الشافعي رحمه الله : هل يملك الموقوف عليه رقبة الوقف أم لا ؟
قال في [ المجموع ] : وأما إذا كان حصة الخليط وقفا نظر في الوقف : فإن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع - فلا يستحق به شفعة في المبيع ، وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم - فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه من الوقف .
فأما الموقف عليه فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا ؟
على قولين :
أحدهما : يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة .
والوجه الثاني : لا شفعة له ؛ لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف . اهـ (2) .
__________
(1) [ الشرح الكبير ] ومعه [ حاشية الدسوقي ] ( 3\425 ) .
(2) [ المجموع ] ( 14\141 )(1/709)
وذهب جمهور الحنابلة إلى القول بنفي الشفعة عن الخلطة بالوقف : لأن من شروط الأخذ بالشفعة : أن يكون الشفيع مالكا لما يشفع به ، والوقف لا يعتبر ملكا تماما لمن هو بيده ، سواء كان ناظرا أو موقوفا عليه ؛ لأنه ليس مطلق التصرف فيه .
قال ابن قدامة رحمه الله : ولا شفعة بشركة الوقف ، ذكره القاضيان : ابن أبي موسى ، وأبو يعلى ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ؛ لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم ؛ ولأننا إن قلنا : هو غير مملوك ، فالموقوف عليه غير مالك ، وإن قلنا : هو مملوك فملكه غير تام ؛ لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة ، فلا يملك به ملكا تاما . وقال أبو الخطاب : إن قلنا : هو مملوك وجبت به الشفعة ؛ لأنه مملوك بيع في شركة شقص فوجبت الشفعة كالطلق ، ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق ، فوجبت فيه كوجوبها في الطلق ، وإنما لم يستحق بالشفعة ؛ لأن الأخذ بها بيع ، وهو مما لا يجوز بيعه . اهـ (1) .
وللشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رأي في ثبوت الشفعة به فقد قال ما نصه :
فلو باع الشريك الذي ملكه طلق فلشريكه الذي نصيبه وقف الشفعة ؛ لعموم الحديث المذكور ووجود المعنى ، بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررا من صاحب الطلق ؛ لتمكن المالك من البيع ،
__________
(1) [ المغني ] ( 5\284 ) .(1/710)
بخلاف مستحق الوقف فإنه يضطر إلى بقاء الشركة ، وأما استدلال الأصحاب بقولهم : إن ملكه ناقص ، فالحديث لم يفرق بين الذي ملكه ناقص أو كامل ، ومنعنا إياه من البيع لتعلق حقوق من بعده به ، فالصواب إثبات الشفعة إذا باع الشريك ، سواء كان شريكه صاحب ملك طلق أو مستحقا للوقف . اهـ (1) .
وقال المنقور نقلا عن [ جمع الجوامع ] : للوقف ثلاث صور :
الأولى : إذا كان البعض وقفا والبعض ملكا ، فبيع الملك هل يأخذ رب الوقف بالشفعة ؟ على وجهين .
والثانية : إذا كان كذلك وبيع الوقف حيث جاز بيعه هل يأخذ الشريك بالملك ؟ على وجهين : المختار : نعم .
الثالثة : إذا كان الكل وقفا وبيع البعض حيث جاز بيعه فهل يجوز لرب الوقف الآخر الأخذ بها ؟ على وجهين : الصحيح : لا يجوز . اهـ (2) .
ولعل مصدر الاختلاف في ذلك الخلاف ، هل لجهات الوقف شخصية اعتبارية تكون أهلا للإلزام والالتزام كالحال في جماعة المسلمين حيث يتكافئون ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، فيكون الوقف ملكا لهم ، فإذا تصرف بعضهم أو النائب عنهم - وهو : الناظر - تصرفا فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهاته كان كتصرفهم جميعا ، أم أن الوقف لا مالك له في الحقيقة ، وأن الشخصية الاعتبارية وهم وخيال لا مجال لها في واقع الأمر وحقيقته ؟
__________
(1) [ الفتاوى السعدية ] ص 438 .
(2) [ الفواكه العديدة في المسائل المفيدة ] ( 1\397 ) .(1/711)
6 - شفعة غير المسلم
اتفق الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم على المسلم .
قال السرخسي : والذكر والأنثى ، والحر والمملوك ، والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء ؛ لأنه من المعاملات ، وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء . وثبوت الحكم بثبوت سببه . اهـ (1) .
وفي [ المدونة ] ما نصه : قيل لابن القاسم : هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك ؟ فقال : سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار بينهما فيبيع المسلم نصيبه ، هل للنصراني فيه شفعة ؟ قال : نعم ، أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما . اهـ (2) .
وقال النووي : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « فمن كان له شريك » فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي ، فتثبت للذمي الشفعة على المسلم ، كما تثبت للمسلم على الذمي ، هذا قول الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، والجمهور . اهـ (3) .
وانفراد الإمام أحمد رحمه الله عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم؛ لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه ، قال تعالى :
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\99 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\399 ) .
(3) [ شرح صحيح مسلم ] ( 11\46 ) .(1/712)
{ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (1)
قال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( ولا شفعة لكافر على مسلم ) : وجملة ذلك : أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه ، روي ذلك عن الحسن والشعبي ، وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز : أن له الشفعة ، وبه قال النخعي ، وإياس بن معاوية ، وحماد بن أبي سليمان ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، والعنبري ، وأصحاب الرأي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به » (2) ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب .
ولنا : ما روى الدارقطني في كتاب[ العلل ] بإسناده عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا شفعة لنصراني » وهذا يخص عموم ما احتجوا به ، ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص ، فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة ، ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان ، يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه ، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي ، فإن حق المسلم أرجح ، ورعايته أولى ؛ ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم ، وليس الذمي في معنى المسلم ، فيبقى فيه على مقتضى
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/713)
الأصل اهـ (1) .
وقد نصر ابن القيم رحمه الله القول بنفي شفعة الكافر على المسلم ، وناقش القائلين بثبوتها ، ورد عليهم قولهم ، فقال ما نصه : ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم ، وأخذ بذلك الإمام أحمد ، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم ، وهذا خلاف الأصول .
والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم ؛ كإجابة الدعوة ، وعيادة المريض ، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه ، أو يخطب على خطبته ، قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال : لا . وكذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه : ليس للذمي شفعة ، زاد أبو الحارث : مع المسلم ، قال الأثرم : قيل له : لم ؟ قال : لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه .
قال الأثرم : ثنا الطباع ، ثنا هشيم ، أخبرنا الشيباني عن الشعبي : أنه كان يقول : ليس لذمي شفعة . وقال سفيان عن حميد عن أبيه : إنما الشفعة لمسلم ، ولا شفعة لذمي . وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن زيد ، عن ليث ، عن مجاهد أنه قال : ليس ليهودي ولا لنصراني
__________
(1) [ المغني ] ( 5\320، 321 ) .(1/714)
شفعة . وقال الخلال : أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال : سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي ، قال : ليس لذمي شفعة ، ليس له حق المسلم . أخبرني عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة ، إنما ذلك للمسلمين بينهم . وقال في رواية إسحاق بن منصور : ليس لليهودي والنصراني شفعة ، قيل : ولم ؟ قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (1) وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي .
واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج :
إحداها : أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض ، فلا حق للذمي فيها . ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك .
الحجة الثانية : قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » (2) وتقرير الاستدلال من هذا : أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين ، فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا ؟! بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه ، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا .
الدليل الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (3) .
ووجه الاستدلال من هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651).
(2) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700),سنن أبو داود الأدب (5205).
(3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651).(1/715)
ونقلها إلى المسلمين ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها!؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان ، يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به ، فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم ؟! فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا ؟! وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري ، فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم ، وهذا ممتنع ، وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه ، وهذا خلاف قواعد الشرع ؛ ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ، ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف ، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم ، وقد قال الله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (1) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا ، وقد قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } (2) .
إلى أن قال : وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(2) سورة الحشر الآية 20(1/716)
بإخراجهم من جزيرة العرب ، وقال : « لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب » (1) هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له ، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا ؛ ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم .
إلى أن قال : وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ، ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من الأمة ، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات ، كقوله ( « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم » (2) وقوله : « من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه » (3) ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق ، وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (4) من أهل الملة وغيرهم ، وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم ، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس ، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا .
ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر .
ثم قال : وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط ، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة ، وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته ، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه ؟ إلى آخر ما ذكره (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767),سنن الترمذي السير (1606),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/29).
(2) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) كذا في المطبوع ، ولعل الصواب : الملاك .
(5) [ أحكام أهل الذمة ] ( 1\291 -299 ) .(1/717)
7 - شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون
ذهب جمهور أهل العلم منهم الحسن وعطاء وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وسوار والعنبري إلى القول بثبوت الشفعة للصبي والمجنون يتولاها وليه إن رأى له في ذلك مصلحة وغبطة .
قال السرخسي : والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة .
ثم ذكر توجيه ذلك فقال : ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير ، وهو الشركة ، أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به .
ثم قال : ثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه ، فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك ؛ لأن الحق قد ثبت له ، ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك . اهـ (1) .
وفي [ المدونة ] : قلت : أرأيت لو أن صبيا وجبت له الشفعة من يأخذ له بشفعته ؟ قال : الوالد ، قيل : فإن لم يكن له والد ؟ قال : فالوصي ، قيل : فإن لم يكن له وصي ؟ قال : فالسلطان ، قلت : فإن كان في موضع لا سلطان فيه ، ولا أب له ولا وصي ؟ قال : فهو على شفعته إذا بلغ ، قال : وهذا كله قول مالك . اهـ (2) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( وللصغير إذا كبر المطالبة
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\98، 99 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\403 ) .(1/718)
بالشفعة ) ما نصه :
وجملة ذلك : أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء ، منهم : الحسن ، وعطاء ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسوار ، والعنبري ، وأصحاب الرأي .
ثم قال بعد مناقشة القائلين بمنع شفعة الصبي : إذا ثبت هذا ، فإن ظاهر قول الخرقي : أن للصغير إذا كبر الأخذ بها ، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف ، وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق ، وهذا قول الأوزاعي ، وزفر ، ومحمد بن الحسن ، وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه ؛ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها ، سواء كان الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها .
إلى أن قال : والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصغير سواء ؛ لأنه محجور عليه لحظه، وكذلك السفيه لذلك .
وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه ، وحكمه حكم الغائب والمجنون ، ينتظر إفاقته . اهـ (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الصغير من الشفعة حيث لا يمكنه أخذها في الحال ولا يمكن الانتظار بها حتى يبلغ لما في ذلك من الإضرار بالمشتري ، وليس لوليه أخذها ؛ لأنه لا يملك العفو عنها فهو لا
__________
(1) [ المغني ] ( 5\280 - 283 ) .(1/719)
يملك الأخذ بها . ويروى هذا القول عن النخعي ، والحارث العكلي ، وابن أبي ليلى .
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أهل هذا القول ، فقال ما نصه :
قولهم : لا يمكن الأخذ غير صحيح ؛ فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب ، وقولهم : لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها ، وبالرد بالعيب ، فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو، ويمكنه الرد ؛ ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له ، وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ، ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه التضييع ، ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له . . . إلى أن قال : وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب . اهـ (1) .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\281 ) .(1/720)
8 - شفعة الغائب
ذهب جمهور أهل العلم إلى : أن الغائب على حقه في الشفعة وإن طالت غيبته ، روى ذلك شريح والحسن وعطاء ، وبه قال الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والثوري والأوزاعي والعنبري ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) .
قال ابن رشد : فإن الذي له الشفعة رجلان : حاضر ، أو غائب ، فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه .
واختلفوا إذا علم وهو غائب .
فقال قوم : تسقط شفعته .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).(1/720)
وقال قوم : لا تسقط ، وهو مذهب مالك ، والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر : أنه قال : « الجار أحق بصقبه » أو قال : « بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا » (1) وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره .
وعمدة الفريق الثاني : أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها . اهـ (2) .
وفي [ المدونة ] : قلت : أرأيت الغائب إذا علم بالشراء وهو شفيع ولم يقدم يطلب الشفعة حتى متى تكون له الشفعة ؟ قال : قال مالك : لا تقطع عن الغائب الشفعة بغيبته . قلت : علم أو لم يعلم ؟ قال : ليس ذلك عندي إلا فيما علم ، وأما فيما لم يعلم فليس فيه كلام ولو كان حاضرا . اهـ (3) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( ومن كان غائبا وعلم بالبيع وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته ) . ما نصه :
وجملة ذلك : أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم . وذكر توجيه القول بذلك فقال : ولنا عموم قوله عليه السلام : « الشفعة فيما لم يقسم » (4) وسائر الأحاديث ، ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ؛ ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة . اهـ (5) .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).
(2) [ بداية المجتهد ] ( 2\259 ) .
(3) [ المدونة ] ( 5\418 ) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(5) [ المغني ] ( 5\274 ) .(1/721)
وذهب بعض أهل العلم : إلى القول بمنع الغائب من الشفعة ؛ لما فيه من الإضرار بالمشتري بامتناعه عن التصرف في ملكه حسب اختياره خشية انتزاعه منه ، وهذا القول مروي عن النخعي والحارث العكلي والبتي .
ورد ابن قدامة القول بتضرر المشتري بأن ضرره يندفع بإيجاب القيمة له ، وقد يرد على ذلك بأن غيبته ما دامت غير محددة بحيث تصل إلى عشر سنين أو أكثر ، فإن تضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا حتى يحضر فيقرر رغبته في الشفعة من عدمها لا يقابل برد القيمة إليه ؛ لما في ذلك من تعطل هذه القيمة عن الإدارة ، فضلا عما في ذلك من تعطيل هذا العقار عن التعمير لتكون منفعته العامة والخاصة أكثر .(1/722)
9 - شفعة الوارث
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز شفعة الوارث من عدمه تبعا لاختلافهم في متعلق حق الشفعة : هل هو متعلق بالملك فيورث ، أم بالمالك فيمتنع إرثه لموت صاحبه ، وقد تحصل من اختلافهم في المسألة ثلاثة أقوال :
أحدهما : إذا لم يأخذها الشفيع قبل موته فلا يجوز لوارثه أخذها مطلقا ، سواء طالب بها مورثه أم لم يطالب بها ؛ لأن سبب أخذه الشفعة زال بموته وهو الملك ، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت الحق في ذلك ، وقد قال بهذا القول جمهور أهل الرأي .
قال السرخسي : وإذا مات الشفيع بعد البيع ، وقبل أن يأخذ بالشفعة لم(1/722)
يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا ، ثم علل ذلك بقوله : ونحن نقول : مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث ؛ لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه ، والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك ، ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة يزول بموته وهو ملكه ، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له . اهـ (1) .
وقال في [ الدر المختار ] : ويبطلها موت الشفيع قبل الأخذ بعد الطلب أو قبله ، ولا تورث خلافا للشافعي . قال في الحاشية : قوله : ( ويبطلها موت الشفيع . . إلخ ) لأنها مجرد حق التملك ، وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث ؟! اهـ (2) .
القول الثاني : أن حق الشفعة لا يورث إلا إذا طالب بها الشفيع قبل موته ؛ لأنه متعلق بالمالك ، دون الملك ، فحيث مات قبل طلب حقه في الشفعة فإن موته مسقط لذلك الحق ، وهذا قول جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم .
قال ابن قدامة رحمه الله في كلامه على قول الخرقي : ( والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها ) ما نصه :
وجملة ذلك : أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من حالين : أحدهما : أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة .
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\116 ) .
(2) [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\241 ) .(1/723)
وقال أحمد : الموت يبطل به ثلاثة أشياء : الشفعة ، والحد إذا مات المقذوف ، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار ، لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب ، فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا ، وأني قد طلبته ، فإذا مات بعده كان لوارثه الطلب به .
وروي بسقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، ثم ذكر المستند لذلك فقال : ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث ، كالرجوع في الهبة ، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول .
الحال الثاني : إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا ، ذكره أبو الخطاب ، وقد ذكرنا نص أحمد عليه ؛ لأن الحق يتقرر بالطلب ، ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده ، وقبله يسقط .
وقال القاضي : يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة ، وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا ، فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها ، كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها . فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم ؛ لأنه حق مالي موروث ، فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية . اهـ (1) .
القول الثالث : ثبوت الشفعة للورثة إذا مات مورثهم قبل العفو والأخذ
__________
(1) [ المغني ] ( 5\310 ، 311 ) .(1/724)
لكون الشفعة حقا متعلقا بالملك الموروث فهي حق من حقوقه ، وقد قال بهذا القول : مالك ، والشافعي ، والعنبري ، وغيرهم ، وذكر أبو الخطاب من الحنابلة أن هذا القول يمكن تخريجه ؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب .
قال الشيرازي : وإذا مات الشفيع قبل الأخذ والعفو انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته ؛ لأنه قبض استحقه بعقد البيع ، فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب (1) .
وقال ابن رشد في معرض ذكره جملة من أحكام الشفعة هي موضع خلاف بين أهل العلم ما نصه :
فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة :
فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث ، كما أنه لا يباع .
وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة ، قياسا على الأموال (2) .
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أبي الخطاب في قياسه الشفعة على خيار الرد بالعيب فقال : ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث ؛ كالرجوع في الهبة ، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول ، فأما
__________
(1) [ المجموع ومعه المهذب ] ( 14\176 ) .
(2) [ المدونة ] ( 2\260 ) .(1/725)
خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع . اهـ (1) .
هذا ما تيسر ذكره ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) [ المغني ] ( 5\310 ) .(1/726)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 44 ) وتاريخ 13\4\1396 هـ
المتعلق بمسألة الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس هيئة كبار العلماء ، المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ من إدراج مسألة الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة فقد جرى دراسة المسألة المذكورة في دورة المجلس الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر في مدينة الرياض .
كما جرى دراسة مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار .
وبعد الاطلاع على البحث المعد في ( مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار ) من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء ، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية :
أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة ؛ كالبئر ، والطريق ، والمسيل ، ونحوها .
كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار ؛ كالبيت ، والحانوت ،(1/727)
الصغيرين ونحوهما ؛ لعموم الأدلة في ذلك ؛ ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة ، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع ، وفي حق المبيع ، ولأن النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك ، ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (1) وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم : « قضى بالشفعة في كل شيء » . قال الحافظ : حديث جابر لا بأس برواته ، ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (2) قال في [ البلوغ ] : ورجاله ثقات ، ولما روى البخاري في [ صحيحه ] وأبو داود والترمذي في [ سننهما ] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (3) .
ووجه الاستدلال بذلك : ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه : [ إعلام الموقعين ] : أن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما ، مثل : أن يكون طريقهما واحدا ، أو أن يشتركا في شرب أو مسيل ، أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية ، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه ، وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق . اهـ .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1371).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).(1/728)
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان لي وجهة نظر ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
محمد بن جبير لي وجهة نظر مرفقة ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع(1/729)
وجهة نظر المخالفين
بالنسبة إلى الشفعة بالشركة في المرافق هو : أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار المشترك شركة مشاعة ، ولا تثبت بالاشتراك في المرافق ، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وبالله التوفيق .
عضو المجلس ... عضو المجلس
محمد بن إبراهيم بن جبير ... محمد بن علي الحركان(1/730)
(1)
حكم تشريح جثة المسلم
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية(2/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم تشريح جثة المسلم (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد ... فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396هـ موضوع (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية ) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
حكم تشريح جثة المسلم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد :
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثامنة المنعقدة بالرياض في شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ من إعداد بحث في (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) وإدراج ذلك في جدول أعمال الدورة التاسعة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص35 - 81، سنة 1398هـ.(2/9)
والإفتاء بحثا في ذلك، وضمنته ما يأتي :
أولا: بيان حرمة المسلم، ووجوب تكريمه حيا وميتا، وعصمة دمه حيا.
ثانيا: بيان أقسام التشريح والحاجة الداعية إلى كل قسم منها، وما يترتب على ذلك من مصالح .
ثالثا: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم، واقتضت شق جسمه أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا.
رابعا: المقارنة بين ما أباحه علماء الإسلام من ذلك بدافع الضرورة وتحقيق المصلحة وما يجريه الأطباء على جثث الأموات لمصالح طبية أو مصالح عامة، كإثبات الحقوق وحفظ الأمن وتحقيق السلام والاطمئنان، ثم بيان ما يترتب على ذلك من منع التشريح أو إباحته.
والله الموفق.(2/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع الأول : بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا وعصمة دمه ووجوب حقنه حيا :
ثبتت عصمة دم المسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا يحل لأحد أن يسفك دم مسلم أو يجني على بشرته أو عضو من أعضائه إلا إذا ارتكب من الجرائم ما يبيح ذلك منه أو يوجبه شرعا، كأن يقتل مؤمنا عمدا عدوانا، أو يزني وهو محصن، أو يترك دينه ويفارق الجماعة، أو يحارب الله ورسوله, ويسعى في الأرض فسادا، أو نحو ذلك مما أوجبت الشريعة فيه قصاصا أو حدا أو تعزيرا، قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } (1) إلى قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (2) وقال تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } (3)
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: « خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: أتدرون أي يوم هذا ؟
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة الإسراء الآية 33(2/11)
قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر ؟ قلنا: بلي. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال : أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا, إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت ؟! قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) (2) .
وعن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك الجماعة » (3) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/49),سنن الدارمي المناسك (1916).
(2) [صحيح البخاري بشرح فتح الباري] (3\453) طبع \ عبد الرحمن محمد.
(3) صحيح البخاري الديات (6484),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676),سنن الترمذي الديات (1402),سنن النسائي تحريم الدم (4016),سنن أبو داود الحدود (4352),سنن ابن ماجه الحدود (2534),مسند أحمد بن حنبل (1/444),سنن الدارمي الحدود (2298).
(4) [صحيح البخاري] (8\ 38).(2/12)
كما وردت نصوص كثيرة في تكريمه ورعاية حرمته بعد موته : ففي [سنن أبي داود ] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كسر عظم الميت ككسره حيا » (1) وثبت « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على القبور » .
إلى غير ذلك مما تدل على عصمة دم المسلم، ووجوب تكريمه حيا أو ميتا، حتى صار ذلك معلوما من الدين بالضرورة، فأغنى عن الاستدلال عليه .
ويلتحق بالمسلم في عصمة دمه وحرمته في الجملة من كان معاهدا، سواء كان عهده عن صلح أو أمان أو اتفاق على جزية، فلا يحل دمه ولا إيذاؤه ما دام في عهده، ولا تحل إهانته بعد وفاته ؛ لعموم قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (2) { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (3)
وقوله: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } (4) ولما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة » (5) (6) .
وقال: « من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما » (7) (8)
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
(2) سورة النحل الآية 91
(3) سورة النحل الآية 92
(4) سورة الإسراء الآية 34
(5) سنن النسائي القسامة (4747),سنن أبو داود الجهاد (2760),مسند أحمد بن حنبل (5/36),سنن الدارمي السير (2504).
(6) [سنن أبي داود] (3\191) رقم الحديث (2760).
(7) صحيح البخاري الديات (6516),سنن النسائي القسامة (4750),سنن ابن ماجه الديات (2686),مسند أحمد بن حنبل (2/186).
(8) [فتح الباري بشرح صحيح البخاري] (12\259) رقم الحديث (6914).(2/13)
وما ثبت في حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (1) .
وما رواه أبو داود في [سننه] عن سليم بن عامر -رجل من حمير - أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية، فسأله , فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء » (2) فرجع معاوية (3) .
بل جاء الإسلام بحقن دماء أولاد الكفار المحاربين ونسائهم، وتحريم التمثيل بقتلاهم في الجملة عدلا منه ورحمة، كما هو معروف في حديث بريدة بن الحصيب وغيره في ذلك.
وفي [سنن أبي داود] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كسر عظم الميت ككسره حيا! » (4) (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6870),صحيح مسلم الحج (1370),سنن الترمذي الولاء والهبة (2127),سنن النسائي القسامة (4734),سنن أبو داود الديات (4530),سنن ابن ماجه الديات (2658),مسند أحمد بن حنبل (1/119),سنن الدارمي الديات (2356).
(2) سنن الترمذي السير (1580),سنن أبو داود الجهاد (2759),مسند أحمد بن حنبل (4/113).
(3) [ سنن أبي داود] ( 3\190, 191) رقم الحديث ( 2759).
(4) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
(5) [سنن أبي داود] ( 3\543, 544) رقم الحديث (3207).(2/14)
الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها وما يترتب على ذلك من مصالح :
ينقسم التشريح من حيث الغرض منه إلى ثلاثة أقسام:
(أ) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عند الاشتباه في جريمة، ويسمى الطب الشرعي.
(ب) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عموما، ويسمى التشريح المرضي.
(ج) التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه وغير ذلك من أجل تعلم الطب عموما.
وليس المقصود من البحث الاستقصاء في معرفة تفاصيل ما كتب عن هذه الأقسام، إذ ليس الغرض تعلم أنواع التشريح أو نوع منه، وإنما المقصود معرفة الحاجة إليه ومداها، وما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة تخول الحكم عليه بالمنع والجواز، فكان من المناسب الوقوف بالبيان عند الحد الذي يمكن معه الحكم.
ففي القسم الأول: يقوم الطبيب الشرعي بتشريح الجثة عند الاشتباه في جريمة؛ ليعرف ما إذا كانت الوفاة نتيجة اعتداء بخنق، أو وخز، أو ضرب بمحدد، أو سقي سم، أو غير ذلك من ألوان الاعتداء، فتثبت الجريمة في نفسها, ثم يبحث في المتهم عن أمارات قد تصله بالجريمة أو تنتهي إلى اعترافه بها، وفي هذا إثبات للحق والحد من الاعتداء، وردع من تسول له نفسه أن يقتل خفية أو بوسائل يرى فيها الخلاص من ضبطه وعقوبته، وبهذا تحقن الدماء وتحفظ النفوس, ويعم الأمن والاطمئنان.(2/15)
وقد ينتهي التشريح بإثبات الوفاة بسبب عادي لا اعتداء فيه أو باعتداء من الشخص على نفسه، ويتأكد ذلك بمعرفة أحواله والأمور الملابسة له مما قد يحدث له أزمات ومضايقات نفسية، وبهذا تذهب الظنون والأوهام، ويخلى سبيل المتهم. وربما يعثر على بعض الجثة، بالبحث عن باقيها يعثر على أجزاء أخرى قد تكون منها وقد تكون من غيرها، فيعرف الطبيب الشرعي بالتشريح أوصاف كل جزء ومميزاته من حيث السن، والذكورة والأنوثة، وطول العظام وقصرها وخواص الجلد، وما إلى ذلك من الأوصاف المميزة، وقد يتوصل بذلك إلى أن الأجزاء من جثة واحدة أو أكثر، وربما انتهى الأمر بالبحث والاستقصاء إلى نتيجة تعود على أولياء الدم بالخير، وعلى الأمة بالأمن والاطمئنان.
وفي القسم الثاني: من التشريح يعرف الطبيب المرض الذي سبب الوفاة، وقد تكثر الوفاة بسبب هذا المرض, ويخشى على الأمة انتشار الوباء فيها، فيبلغ الطبيب أولياء الأمور ليقوموا بما يلزم للحد من انتشار هذا المرض أو القضاء عليه.
وفي القسم الثالث: يقوم الطلاب بتشريح أجسام الموتى تحت إشراف الأطباء لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة ومفاصلها، ومعرفة أجهزته ومكان كل جهاز منها ووظيفته وحجمه، ومقاسه صحيحا أو مريضا، وعلامة مرضه، وكيفية علاجه، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته طلاب كلية الطب في مراحل الدراسة للنهوض بهم علميا وعمليا، وإعدادهم لخدمة الأمة في مختلف الجوانب الصحية - وقاية منها، وتشخيصا وعلاجا لها.(2/16)
هذه وغيرها هي الدواعي التي دعت المسئولين عامة وعلماء الطب خاصة إلى الإقدام على تشريح جثث الموتى، وترخص للمسلمين منهم في ذلك مع اعتقادهم حرمة المسلم ومن في حكمه ووجوب تكريمه، لكن هل يكفي ذلك مبررا للتشريح ومرخصا فيه أو موجبا له؟ هذا مما يتبين إن شاء الله بعد بحث الموضوعات التالية.(2/17)
الموضوع الثالث: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق جسمه حيا أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا :
تمهيد:
نظرا إلى أن من أقدم على التشريح من علماء الطب والمسئولين في الأمم قد بنوا ذلك على ما شعروا به من الحاجة إليه، وما اعتقدوه من المصالح الخاصة والعامة المترتبة عليه، ونظرا إلى أن علماء الإسلام قد بنوا ما استثنوه من القاعدة العامة في عصمة دم المسلم ومن في حكمه, ووجوب رعاية حرمته على الحاجة والمصلحة - كان لزاما علينا أن نمهد بكلمة في أنواع المصلحة ومراتبها، ثم نتبع ذلك بأقوال علماء الإسلام في المسائل المستثناة؛ ليتبين بذلك ما ينهض من المصالح للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما ينزل منها عن درجة الاعتبار، فلا تبنى عليه الأحكام. فسر العلماء المصلحة: بجلب المنفعة أو دفع المضرة.
وقسموها من حيث شهادة نص معين لها بالاعتبار، أو عليها بالإلغاء،(2/17)
أو عدم شهادته لها أو عليها ثلاثة أقسام:
الأول: مصلحة شهد لها نص معين بالاعتبار: كالحدود التي شرعت نصا لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهذه مصلحة معتبرة شرعا.
والثاني: مصلحة شهد النص المعين بإلغائها: كإيجاب صيام شهرين متتابعين كفارة على من جامع من الملوك ومن في حكمهم عمدا في نهار رمضان وهو صائم، ولم ير العتق مجزئا، لكونه غير رادع لمثله؛ لسهولته بالنسبة له، فهذه مصلحة ملغاة.
والثالث: مصلحة لم يشهد نص معين باعتبارها ولا بإلغائها: ومثلوا لها بإلزام الولاة رعيتهم بدفع ضرائب عند شدة الحاجة إليها، ويسمى هذا القسم بـ: (المصلحة المرسلة)، وفي الاحتجاج بها خلاف مشهور بين أئمة الفقهاء: فمنهم من اعتبرها، ومنهم من ألغاها، ومنهم من اعتبرها إذا كانت واقعة في رتبة الضرورات دون الحاجات والتحسينات.
وذلك أنها تقسم من حيث القوة إلى ثلاث مراتب: واقعة في رتبة الضرورات، وواقعة في رتبة الحاجات، وواقعة في رتبة التحسينات. فأقواها الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة.
وقد ذكر الغزالي تفصيل ذلك، وفيما يلي نصه:
الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح:
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها، فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:(2/18)
(أ) قسم شهد الشرع لاعتبارها.
(ب) وقسم شهد لبطلانها.
(ج) وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
القسم الأول: أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو: اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع (1) ، فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة، ومثاله: حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة (2) اهـ.
القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها، مثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.
__________
(1) انظر[ المستصفى] 02\101).
(2) [ المستصفى] (1\139).(2/19)
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات, وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها.
ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها:
أما المصلحة فهي: عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب ؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال(2/20)
التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة: فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر إنما حرم؛ لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول؛ ولذلك اختلفت فيه الشرائع، أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة؛ لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد.
الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه يحتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكتفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المأكل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر، والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها.
أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا: لا تزوج الصغيرة إلا من كفء بمهر مثل، فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح؛ ولهذا اختلف العلماء فيه.
الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع(2/21)
التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد, ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث إن العبد نازل القدر والرتبة, ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة.
أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات؛ لأن ذلك مناسب للمصلحة، إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل: سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله: سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا , وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع.
ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك، أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء، فهو في الرتبة الثالثة؛ لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد؛ لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج.
وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة. وعلى الجملة فيلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه(2/22)
الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، كأن يجري مجرى الضرورات فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس.
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين, ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال.
فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل, وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذ بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف كلها ضرورية قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة وفينا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها؛ لأنها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا(2/23)
بجملتهم؛ لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين؛ لأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها. وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به لمصلحته, وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع لسبب ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه؛ لأنه ليس فيه يقين الخلاص, فلا تكون المصلحة قطعية.
وبعد أن ذكر حكم الضرب في التهمة وقتل الزنديق ولو تاب، والساعي في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة وإغراء الظلمة بالناس وأموالهم وحرماتهم ودمائهم وإثارة الفتن... قال: (فإن قيل): فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس, بل يدرك ذلك بغلبة الظن (قلنا): لا جرم ، ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو الظن القريب من القطع (1) ، والظن القريب من القطع إذا صار كليا, وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه. (فإن قيل): إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من
__________
(1) والظن: القريب من القطع.(2/24)
طبيعته وعادته المجربة طول عمره (قلنا): لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية؛ لما عرف من طبيعته وسجيته (فإن قيل): كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس, وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } (1) وقوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } (2) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر؟
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها حظر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى (قلنا): لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمسألة السفينة, وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة؛ إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا, وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة الأنعام الآية 151(2/25)
هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم، وإن كان التحريم عاما، ولكن نخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك هاهنا التخصيص ممكن.
وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي, فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل. اهـ.
وبعد ما تقدم من التهميد بالحديث عن المصالح، وبيان ما يصلح منها للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما لا يصلح لذلك نذكر مسائل فقهية لا تعدو أن تكون نظرية اجتهادية، وقد بنى الفقهاء حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصلحة.
ومن هذه المسائل ضرب من تترس به الكفار من أسارى المسلمين مثلا في الحرب، وشق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي بالأمارات، ورمي أحد ركاب سفينة خشي عليهم الغرق، فيرمى أحدهم بقرعة لينجو الباقون، وأكل مضطر من جثة إنسان ميت إنقاذا لنفسه من الهلاك، وتبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والصبيان.
وفيما يلي بيان أقوال فقهاء الإسلام في هذه المسائل، وما بنوه عليه من الدليل والمصلحة.(2/26)
المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين
سبق في التمهيد أن ذكر الغزالي هذه المسألة، وبين أنها مبنية على مصلحة واقعة في رتبة الضرورات، حيث إن رمي الكفار وقتلهم بما يستتبع قتل أسارى المسلمين أو إصابتهم فيه نصر المسلمين وحفظ دينهم وديارهم, ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وهذه من الضرورات التي اتفقت الشرائع على حفظها، وفيه أيضا تقديم المصلحة العامة للإسلام وللأمة على المصلحة الخاصة، وهي حفظ دماء المسلمين الذين تترس بهم الكفار، وهذا يتفق مع قاعدة تقديم أقوى المصلحتين عند تعارضهما، وارتكاب أدنى المفسدتين وأخفهما تفاديا لأشدهما، فكان رمي الكفار قصدا بما يستتبع قتل متترسهم من المسلمين متفقا مع مقاصد الشريعة، لكن لما تعارضت مصلحة حفظ دماء أسرى المسلمين أو من بين الكفار من المسلمين حين الحرب, ومصلحة الجهاد وما يترتب عليه من منافع, وما يترتب على تركه من مضار - كانت المسألة مثار خلاف بين الفقهاء, فرأى بعضهم قتال الكفار بما يعم كالرمي بالمنجنيق والإغراق والغازات الخانقة وأمثالها إن لم يتغلب عليهم إلا بذلك ؛ رعاية للمصلحة العامة، ورأى آخرون: أنه لا يجوز رميهم بما يعم.
وفيما يلي نصوص يتبين منها خلاف الفقهاء في ذلك وما استند إليه كل منهم من دليل أو تعليل:
أ - قال السرخسي : ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق, وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسرى أو تجار.
وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إذا علم أن(2/27)
فيهم مسلما, وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك؛ لأن الإقدام على قتل المسلم حرام، وترك قتل الكافر جائز، ألا ترى أن للإمام ألا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه، ولكنا نقول: أمرنا بقتالهم، فلو اعتبرنا هذا المعنى لأدى إلى سد باب القتال معهم, فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة، ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم، ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم : نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن زيد رضي الله عنه بأن يحرق، وحرق حصن عوف بن مالك .
وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم, وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم، وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك، وهو قول الشافعي ؛ لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض، وترك الرمي إليهم جائز.
ولكنا نقول: القتال معهم فرض، وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم، ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترئون بذلك على المسلمين, وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع، إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي ؛ لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه، فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده؛ لأنه وسع مثله اهـ.
ب- وفي كتاب الجهاد من [بداية المجتهد] لابن رشد : اتفق عوام(2/28)
الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمنجنيق، سواء كان فيها نساء وذرية أم لم يكن؛ لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين ) فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي، وقال الليث : وذلك جائز، ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (1) وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة.
ج- وقال في [الأم] قال الشافعي رضي الله عنه: ( إذا كان في حصن المشركين نساء وأطفال وأسرى مسلمون, فلا بأس بأن ينصب المنجنيق على الحصن دون البيوت التي فيها السكان إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصن، فلا بأس أن ترمى بيوته وجدرانه، فإذا كان في الحصن مقاتلة محصنون رميت البيوت والحصون، وإذا تترسوا بالصبيان المسلمين أو غير المسلمين والمسلمون ملتحمون - فلا بأس أن يعمدوا المقاتلة دون المسلمين والصبيان، وإن كانوا غير ملتحمين أحببت له الكف عنهم حتى يمكنهم أن يقاتلوهم غير متترسين، وهكذا إن أبرزوهم فقالوا: إن رميتمونا وقاتلتمونا قتلناهم، والنفط والنار مثل المنجنيق، وكذا الماء والدخان ) (2) اهـ.
د- وقال محمد الشربيني الخطيب الشافعي : (فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر أو نحوه جاز ذلك، أي: الرمي بما ذكر وغيره [على المذهب]؛ لئلا
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) [ الأم] (4\287) ط 1 عام 1381 هـ.(2/29)
يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم، وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة).
تنبيه: تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة، سواء اضطروا إلى ذلك أم لا. وملخص ما في [الروضة] ثلاثة طرق: المذهب: إن لم يكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم، ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة كخوف ضررهم, أو لم يحصل فتح القلعة إلا به - جاز قطعا، وكالمسلم الطائفة من المسلمين، كما قاله الرافعي، وقضيته عدم الجواز إذا كان في المسلمين كثرة وهو كذلك (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء) وخناثي (وصبيان) ومجانين منهم (جاز) حينئذ (رميهم) إذا دعت الضرورة إليه، ونتوقى من ذكر؛ لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد، وطريقا إلى الظفر بالمسلمين؛ لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا، فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر (وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم) وجوبا ؛ لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة، وقد نهينا عن قتلهم، وهذا ما رجحه في [المحرر].
والثاني: وهو المعتمد كما صححه في [زوائد الروضة] جواز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد, أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، واحترز المصنف بقوله: دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من قتل نسائهم وذراريهم، فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم، وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا. قاله الماوردي . قال في [البحر]: وشرط جواز الرمي أن يقصد(2/30)
بذلك التوصل إلى رجالهم .
(وإن تترسوا بمسلمين) ولو واحدا أو ذميين كذلك (فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة، وفارق النساء والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد, فلم يجز رميهم بلا ضرورة, والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين، فجاز رميهم بلا ضرورة.
(وإلا) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام القتال بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم (جاز رميهم) حينئذ (في الأصح) المنصوص، ونقصد بذلك قتال المشركين, ونتوقى المسلمين وأهل الذمة بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية.
والثاني: المنع إذا لم يتأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي، وكالذمي المستأمن. اهـ (1) .
هـ - وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله: (2) وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان، ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
__________
(1) [مغني المحتاج] (4\223, 224) ط \ الحلبي.
(2) [المغني] (9\276, 277).(2/31)
يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب.
فصل: ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا؛ لما روى سعيد : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: « لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها، فقال: ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها » .
ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها؛ لأن ذلك من ضرورة رميها، وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال؛ لأنها في حكم المقاتل، وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع قتله منهم.
وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم؛ لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه, أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم؛ لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار، وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي والليث : لا يجوز رميهم؛ لقول الله تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ } (1) الآية . قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق، وقال الأوزاعي : كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين، وقال القاضي والشافعي : يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة؛ لأن تركه
__________
(1) سورة الفتح الآية 25(2/32)
يفضي إلى تعطيل الجهاد . اهـ .
( و ) وقال المرداوي في [ الإنصاف ] : قوله : ( وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار ، وهذا بلا نزاع ، وظاهر كلامه : أنه إذا لم يخف على المسلمين ، ولكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي : عدم الجواز . وهذا المذهب نص عليه ، وقدمه في [ الفروع ] وجزم به في [ الوجيز ] ، وقال القاضي : يجوز رميهم حال قيام الحرب ؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد . وجزم به في [ الرعاية الكبرى ] (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 4 \ 129 ) .(2/33)
المسألة الثانية : شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي : شق بطن الميتة لإخراج ولدها الحي فيه انتهاك لحرمتها ، ومخالفة للأدلة التي دلت على وجوب تكريمها وحرمة إيذائها ، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل المعصوم ، وترك شق بطنها فيه تكريمها والمحافظة على حرمتها ، لكن يلزمه القضاء على حياته ، ومخالفة للأدلة الدالة على ذلك ، فكان هذا التعارض منشأ اختلاف بين الفقهاء : فمنهم من منع شق بطنها رعاية لمصلحة تكريمها ، ورأى أنها لا تهان لمصلحة غيرها ، ومنهم من أجاز أو أوجب شق بطنها إن لم يمكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك ؛ إيثارا لجانب الحي على جانب الميت ، ويمكن أن يقال : إن رعاية عصمة الدم آكد من رعاية حرمة الميت ، فإن الاعتداء على الميت بقطع رقبته ، أو عضو من أعضائه مثلا لا يوجب قصاصا ولا دية ، وإنما يوجب تعمده(2/33)
تعزيرا ، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب في الجملة قصاصا أو دية ، والمسألة على كل حال اجتهادية . ويلتحق بذلك شق بطن من مات لإخراج ما قد بلعه من الدنانير أو الدراهم أو نحوهما ، حيث وقع فيه الخلاف أيضا ، فمنهم من منعه رعاية لحرمة الميت ، ومنهم من أجازه رعاية لحق المال .
وفيما يلي أقوال بعض الفقهاء في ذلك :
أ - قال ابن المواق : ( وبقر عن مال كثر ولو بشاهد ويمين ) . سحنون : يبقر عن دنانير في بطن الميت إلا على ما قل ، عبد الحق : في كون ما قل دون ربع دينار أو نصاب الزكاة خلاف . وأجاب أبو عمران عن مقيم شاهد على ميت لم يدفن أنه بلع دنانير يحلف ليبقر بطنه قائلا : اختلف في القصاص بشاهد واحد [ لا عن جنين ] من [ المدونة ] .
قال مالك : لا يبقر بطن الميتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها .
وقال سحنون : إن كملت حياته ورجي خلاصه بقر . وقال ابن عبد الحكم : رأيت رجلا مبقورا على ناقة مبقورة ، قال سند : وإذا بقر فمن خاصرتها اليسرى ، ابن يونس : الصواب عندي البقر ، لأن الميت لا يؤلمه . وقد رأى أهل العلم قطع الصلاة خوف وقوع صبي أو أعمى في بئر ، وقطع الصلاة فيه إثم ، ولكن أبيح لإحياء نفس ، فكذلك يباح بقر الميتة لإحياء ولدها الذي يتحقق موته إن ترك ، والواقع في البئر قد يحيا فكان البقر أولى ، ويحمل قول عائشة : كسر عظام الميت ككسرها حيا : إذا فعل ذلك عبثا ، وأما لأمر هو واجب فلا ، ألا ترى الحي لو أصابه أمر في جوفه يتحقق أن حياته باستخراجه لبقر عليه ، ولم يكن آثما في فعل ذلك(2/34)
بنفسه أو بولده أو عبده مع أن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت ؟ قال اللخمي : إن كان الجنين في وقت لو أسقطته وهي حية لم يعش لم يبقر ، وإن كان في شهر يعيش فيه الولد إذا وضعته كالتي دخلت في السابع أو التاسع أو العاشر ، وكان متى بقر عليه رجيت حياته ، فقال مالك : لا يبقر عليه ، وقال أشهب وسحنون : يبقر عليه وهو أحسن ، وإحياء نفس أولى من صيانة ميت ( وتؤولت أيضا على البقر إن رجي ) .
أما اللخمي وابن يونس فقد اختارا البقر كما تقدم ، مصرحين بأنه خلاف قول مالك ، وذكر ابن عرفة في المسألة ثلاثة أقوال ( وإن قدر على إخراجه من محله فعل ) قال مالك : إن قدر على أن يستخرج الولد من حيث يخرج في الحياة فعل . اهـ (1) .
ب - قال أحمد الدردير : و ( بقر ) أي : شق بطن ميت ( عن مال ) له أو لغيره ابتلعه حيا ( كثر ) بأن كان نصابا ( ولو ) ثبت ( بشاهد ويمين ) ومحل التقييد بالكثير إذا ابتلعه لخوف عليه أو لمداواة ، أما لقصد حرمان الوارث فيبقر ولو قل ( لا ) يبقر ( عن جنين ) رجي لإخراجه ولا تدفن به إلا بعد تحقق موته ولو تغيرت ( وتؤولت أيضا على البقر ) وهو قول سحنون ، وقد تأولها عليه عبد الوهاب ( إن رجي ) خلاصه حيا وكان في السابع أو التاسع فأكثر ( وإن - قدر على إخراجه من محله ) بحيلة ( فعل ) اللخمي : وهو مما لا يستطاع . اهـ (2) .
__________
(1) [ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، لأبي عبد الله محمد المغربي المعروف بالحطاب الرعيني ، وبأسفله [ التاج والإكليل لمختصر خليل ] لأبي عبد الله محمد بن يوسف المواق ( 3 \ 76 ، 77 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 1 \ 429 ) .(2/35)
وقال النووي في [ المجمع ] على قول الشيرازي في المذهب : ( وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها ؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت ) .
( الشرح ) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب وذكر صاحب الحاوي أنه ليس للشافعي فيها نص ، قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وابن الصباغ وخلائق من الأصحاب : قال ابن سريج : إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها وأخرج ، فأطلق ابن سريج المسألة ، قال أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن الصباغ : قال بعض أصحابنا : ليس هو كما أطلقها ابن سريج ، بل يعرض على القوابل ، فإن قلن : هذا الولد إذا أخرج يرجى حياته ، وهو أن يكون له ستة أشهر فصاعدا شق جوفها وأخرج ، وإن قلن : لا يرجى بأن يكون له دون ستة أشهر لم يشق ؛ لأنه لا معنى لانتهاك حرمتها فيما لا فائدة فيه . قال الماوردي : وقول ابن سريج هو قول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء ( قلت ) : وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والعبدري في [ الكفاية ] وذكر القاضي حسين والفوراني والمتولي والبغوي وغيرهم في الذي لا يرجى حياته وجهين : ( أحدهما ) يشق ( والثاني ) لا يشق ، قال البغوي : وهو الأصح ، قال جمهور الأصحاب : فإذا قلنا : لا نشق لم تدفن حتى تسكن حركة الجنين ويعلم أنه قد مات ، هكذا صرح به الأصحاب في جميع الطرق . . . ومختصر المسألة : إن رجي حياة الجنين وجب شق جوفها وإخراجه وإلا فثلاثة أوجه ( أصحها ) لا تشق ولا تدفن حتى يموت ( والثاني ) تشق ويخرج ( والثالث ) يثقل بطنها بشيء ليموت وهو غلط ، وإذا(2/36)
قلنا : يشق جوفها شق في الوقت الذي يقال : إنه أمكن له ، هكذا قال الشيخ أبو حامد (1) . اهـ .
ج - قال النووي في [ الروضة ] : ولو ابتلع في حياته مالا ثم مات وطلب صاحبه الرد شق جوفه ويرد ، قال في [ العدة ] : إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته فلا ينبش على الأصح ، وقال القاضي أبو الطيب : لا ينبش بكل حال ، ويجب الغرم في تركته ، ولو ابتلع مال نفسه ومات فهل يخرج ؟ وجهان : قال الجرجاني : الأصح يخرج . قلت : وصححه أيضا العبدري ، وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في [ كتاب المجرد ] ، عدم الإخراج ، وقطع به المحاملي في [ المقنع ] ، وهو مفهوم كلام صاحب [ التنبيه ] ، وهو الأصح . والله أعلم . وحيث قلنا : يشق جوفه ويخرج فلو دفن قبل الشق ينبش كذلك (2) اهـ .
د - وقال أبو محمد بن قدامة : قال : ( والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ، فلا يشق بطنها عليه ، ويسطو عليه القوابل فيخرجنه ) .
معنى ( يسطو القوابل ) : أن يدخلن أيديهن في فرجها ، فيخرجن الولد من مخرجه ، والمذهب : أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها ، مسلمة كانت أو ذمية ، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركته ، وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه ، وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن ، ومذهب مالك وإسحاق قريب من هذا ، ويحتمل أن يشق بطن الأم ، إن غلب على
__________
(1) [ المجموع ] للنووي ( 1 \ 301 ) .
(2) [ الروضة ] للنووي ( 2 \ 140 ، 141 ) .(2/37)
الظن أن الجنين يحيا ، وهو مذهب الشافعي ؛ لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء حي ، فجاز ، كما لو خرج بعضه حيا ، ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق ، ولأنه يشق لإخراج المال منه ، فلإبقاء الحي أولى .
ولنا : أن هذا الولد لا يعيش عادة ، ولا يتحقق أنه يحيا ، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم ، وقد قال عليه السلام : « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي » (1) رواه أبو داود ، وفيه مثلة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وفارق الأصل ، فإن حياته منتفية ، وبقاءه مظنون ، فعلى هذا إن خرج بعض الولد حيا ولم يمكن إخراجه إلا بشق ، شق المحل ؛ وأخرج لما ذكرنا ، وإن مات على تلك الحال فأمكن إخراجه أخرج وغسل ، وإن تعذر غسله ترك ، وغسلت الأم وما ظهر من الولد ، وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله ؛ لأن الجميع كان في حكم الباطن ، فظهر البعض ، فتعلق به الحكم ، وما بقي فهو على ما كان عليه ، ذكر هذا ابن عقيل ، وقال : هي حادثة سئلت عنها ، فأفتيت فيها .
فصل : وإن بلع الميت مالا ، لم يخل من أن يكون له أو لغيره ، فإن كان له لم يشق بطنه ، لأنه استهلكه في حياته ، ويحتمل أنه إن كان يسيرا ترك ، وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج ، لأن فيه حفظ المال عن الضياع ، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه ، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله ، لأن صاحبه أذن في إتلافه ، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان :
أحدهما : لا يشق بطنه ، ويغرم من تركته ؛ لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى .
والثاني : يشق إن كان كثيرا ؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617).(2/38)
إليه ، وعن الميت بإبراء ذمته ، وعن الورثة بحفظ التركة لهم ، ويفارق الجنين من وجهين :
أحدهما : أنه لا يتحقق حياته ، والثاني : أنه ما حصل بجنايته ، فعلى هذا الوجه إذا بلي جسده ، وغلب على الظن ظهور المال ، وتخلصه من أعضاء الميت - جاز نبشه وإخراجه ، وقد روى أبو داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هذا قبر أبي رغال ، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس ، فاستخرجوا الغصن » (1) ، ولو كان في أذن الميت حلق أو في إصبعه خاتم أخذ ، فإن صعب أخذه ، برد ، وأخذ ؛ لأن تركه تضييع للمال (2) اهـ .
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3088).
(2) [ المغني ] ، لابن قدامة ( 3 \ 497 - 499 ) .(2/39)
هـ - وقال المرداوي في [ الإنصاف ] : قوله : ( وإن ماتت حامل لم يشق بطنها ) وهذا المذهب نص عليه ، وعليه أكثر الأصحاب ، قال الزركشي : هذا المنصوص ، وعليه الأصحاب . وقوله : ( ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيا ) وهو وجه في ابن تميم وغيره . فعلى المذهب ( تسطو عليه القوابل فيخرجنه ) إذا احتمل حياته على الصحيح من المذهب ، وقال القاضي في الخلاف : إن لم يوجد أمارات الظهور بانتفاخ المخارج وقوة الحركة فلا تسطو القوابل .
فعلى الأول : إن تعذر إخراجه بالقوابل : فالمذهب : أنه لا يشق بطنها ، قاله في [ المغني ] و [ الشرح ] و [ الفروع ] وغيرها . وعليه أكثر الأصحاب ، واختار ابن هبيرة : أنه يشق ويخرج الولد . قلت : وهو أولى . فعلى المذهب : يترك ولا تدفن حتى يموت . قال في [ الفروع ] : هذا الأشهر ،(2/39)
واختاره القاضي ، والمصنف ، وصاحب [ التلخيص ] ، وغيرهم وقدمه في [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] ، وعنه : يسطو عليه الرجال ، والأولى بذلك المحارم ، اختاره أبو بكر ، والمجد : كمداواة الحي ، وصححه في [ مجمع البحرين ] ، وهو أقوى من الذي قبله . وأطلقهما ابن تميم ولم يقيده الإمام أحمد بالمحرم ، وقيده ابن حمدان بذلك . اهـ (1) .
و - وقال ابن حزم في [ المحلى ] :
مسألة : ومن بلع درهما أو دينارا أو لؤلؤة شق بطنه عنها ؛ لصحة نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، ولا يجوز أن يجبر صاحب المال على أخذ غير عين ماله ، ما دام عين ماله ممكنا ؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام » (2) فلو بلعه وهو حي حبس حتى يرميه ، فإن رماه ناقصا ضمن ما نقص ، فإن لم يرمه ضمن ما بلع ، ولا يجوز شق بطن الحي ؛ لأن فيه قتله ، ولا ضرر في ذلك على الميت ولا يحل شق بطن الميت بلا معنى ، لأنه تعد ، وقد قال تعالى : { وَلَا تَعْتَدُوا } (3) اهـ المقصود (4) .
وقال أيضا (5) :
مسألة : ولو ماتت امرأة حامل والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولا ويخرج الولد ؛ لقول الله تعالى : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } (6)
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 2 \ 556 ) .
(2) صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/37),سنن الدارمي المناسك (1916).
(3) سورة البقرة الآية 190
(4) [ المحلى ] لابن حزم ( 5 \ 166 ، 167 ) ط . منيرية .
(5) [ المحلى ] لابن حزم ( 5 \ 166 ، 167 ) ط . منيرية .
(6) سورة المائدة الآية 32(2/40)
ومن تركه عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس ، ولا معنى لقول أحمد رحمه الله : تدخل القابلة يدها فتخرجه ، لوجهين :
أحدهما : أنه محال لا يمكن ولو فعل ذلك لمات الجنين بيقين قبل أن يخرج ، ولولا دفع الطبيعة المخلوقة المقدرة له وجر ، ليخرج لهلك بلا شك .
والثاني : أن مس فرجها لغير ضرورة حرام . اهـ .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على ذلك : أما إخراج الولد الحي من بطن الحامل إذا ماتت فإنه واجب ، وأما كيف يخرج فهذا من شأن أهل هذه الصناعة من الأطباء والقوابل .(2/41)
المسألة الثالثة : أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره : ثبت بالأدلة الصحيحة أن للمسلم ومن في حكمه حرمة ، وأنه يجب تكريمه حيا وميتا ، ومقتضى ذلك أنه لا يباح للمضطر أن يأكل من جسمه حيا ولا من جثته ميتا ، ولو لم يجد غيره ، ولو أدى ذلك إلى هلاكه ؛ لما في ذلك من انتهاك حرمته لمصلحة غيره ، وثبت بالأدلة الصحيحة أيضا أنه يجب على الإنسان أن يحافظ على حياته ، حتى إنه يجوز له أن يأكل حال الضرورة ما هو محرم عليه حال عدمها من ميتة الأنعام والدم ولحم الخنزير . . . إلخ ، بل يجب عليه أن يأكل من ذلك إذا خشي على نفسه الهلاك ، ومقتضى ذلك أنه يجوز له أو يجب أن يأكل ميتة الآدمي إبقاء على(2/41)
حياته ، وعلى هذا نجد بين الأمرين تعارضا ، وهو مثار الخلاف بين الفقهاء في حكم هذه المسألة ، حيث منع بعضهم أكل المضطر من ميتة آدمي ولو كانت ميتة ذمي ، ترجيحا لحرمة الميت وإعمالا لأدلتها ، وأجاز آخرون له الأكل منها إذا لم يجد غيرها ؛ إيثارا لحق الحي على حق الميت .
وتقدم ما يمكن أن يعتبر مرجحا لهذا الجانب .
وفيما يلي ذكر بعض أقوالهم في حكم المسألة ، مع توجيه كل منهم لما ذهب إليه : ( والنص عدم جواز أكله ) ابن القصار : المضطر إلى أكل لحم الميتة لا يجد إلا لحم آدمي لا يأكله وإن خاف التلف ، ابن رشد : الصحيح : أن الميت من بني آدم ليس بنجس . . . ثم قال : والميت من بني آدم لا يسمى ميتة ، فليس برجس ولا نجس ، ولا حرم أكله لنجاسته ، وإنما حرم أكله إكراما له ، ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله له أن أكل الميتة على الصحيح من الأقوال . ( وصحح أكله ) ابن عرفة تعقب عبد الحق قول ابن القصار : المضطر لا يأكل ميتة آدمي . اهـ المقصود منه (1) .
أ - وقال أحمد الدردير في الشرح الكبير على مختصر خليل : النص المعول عليه ( عدم جواز أكله ) أي : أكل الآدمي الميت ولو كافرا ( لمضطر ) ولو مسلما لم يجد غيره ، إذ لا تنتهك حرمة مسلم لآخر ( وصحح أكله ) ابن عرفة : أي : صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر (2) . اهـ .
__________
(1) [ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ] ( 3 \ 77 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 1 \ 429 ) .(2/42)
ب - وقال النووي في [ الروضة ] : ثبت المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان : مسكر ، وغيره ، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم ، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا ، وكذا الزاني المحصن ، والمحارب ، وتارك الصلاة على الأصح منهم . ولو كان له قصاص على غيره ، ووجده في حالة اضطرار ، فله قتله قصاصا وأكله ، وإن لم يحضره السلطان ، وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب ففي [ التهذيب ] : أنه لا يجوز قتلهم للأكل ، وجوزه الإمام ، والغزالي ؛ لأنهم ليسوا بمعصومين ، والمنع من قتلهم ليس لحرمة أرواحهم ؛ ولهذا لا كفارة فيهم .
قلت : الأصح : قول الإمام ، والله أعلم .
والذمي ، والمعاهد ، والمستأمن معصومون ، فيحرم أكلهم ، ولا يجوز للوالد قتل ولده للأكل ، ولا للسيد قتل عبده ، ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا ، فالصحيح حل أكله ، قال الشيخ إبراهيم المروذي إلا إذا كان الميت نبيا ، فلا يجوز قطعا . قال في [ الحاوي ] : فإذا جوزنا لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق ؛ حفظا للحرمتين ، قال : وليس له طبخه وشيه ، بل يأكله نيئا ؛ لأن الضرورة تندفع بذلك ، وطبخه هتك لحرمته ، فلا يجوز الإقدام عليه ، بخلاف سائر الميتات ، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة ، ولو كان المضطر ذميا ، والميت مسلما ، فهل له أكله ؟
حكى فيه صاحب [ التهذيب ] وجهين .
قلت : القياس تحريمه ، والله أعلم .
ولو وجد ميتة ولحم آدمي أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير ، وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي أكل الصيد ، ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من(2/43)
فخذه أو غيرها ليأكلها ، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم ، وإلا جاز على الأصح ، بشرط أن لا يجد غيره ، فإن وجد حرم قطعا ، ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا ، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر . اهـ (1) .
ج - وقال ابن قدامة في [ المغني ] : ( فصل ) : وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه ، مسلما كان أو كافرا ؛ لأنه مثله ، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه ، وهذا لا خلاف فيه ، وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله ؛ لأن قتله مباح ، وهكذا قال أصحاب الشافعي ؛ لأنه لا حرمة له ، فهو بمنزلة السباع ، وإن وجده ميتا أبيح أكله ؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته ، وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا ، وقال الشافعي وبعض الحنفية : يباح ، وهو أولى ؛ لأن حرمة الحي أعظم ، قال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء ، واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي » (2) .
واختار أبو الخطاب أن له أكله ، قال : لا حجة في الحديث ههنا ؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم . اهـ (3)
د - وقال المرداوي في [ الإنصاف ] : فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي والزاني المحصن - حل قتله وأكله ، هذا المذهب وعليه جماهير
__________
(1) [ روضة الطالبين ] ( 3 \ 284 ، 285 ) .
(2) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617).
(3) المغني ، للإمام موفق الدين ابن قدامة ، ط \ عام 1392 هـ . ويليه [ الشرح الكبير ] للإمام شمس الدين ابن قدامة ، ط \ دار الكتاب العربي - بيروت لبنان ، ( 11 \ 79 ، 80 ) .(2/44)
الأصحاب ، وقال في [ الترغيب ] : يحرم أكله وما هو ببعيد . قوله : وإن وجد معصوما ميتا ففي جواز أكله وجهان ، وأطلقها في المذهب و [ المحرر ] و [ النظم ] :
أحدهما : لا يجوز ، وعليه جماهير الأصحاب ، قال المصنف والشارح : اختاره الأكثر ، كذا قال في [ الفروع ] وجزم به في [ الإفصاح ] وغيره . قال في [ الخلاصة ] ، و [ الرعايتين ] ، و[ الحاويين ] : لم يأكله في الأصح ، قال في [ الكافي ] : هذا اختيار غير أبي الخطاب ، قال في [ المغني ] : اختاره الأصحاب .
الثاني : يجوز أكله ، وهو المذهب على ما اصطلحناه ، صححه في [ التصحيح ] ، واختاره أبو الخطاب في [ الهداية ] ، و [ المصنف ] أو [ الشارح ] ، قال في الكافي : هذا أولى . وجزم به في [ الوجيز ] و [ المنور ] ومنتخب الآدمي ، وقدمه في [ الفروع ] .
فائدتان :
إحداهما : يحرم عليه أكل عضو من أعضائه على الصحيح من المذهب ، وعليه أكثر الأصحاب وقطعوا به ، وقال في [ الفنون ] عن حنبل : إنه لا يحرم ، انتهى (1) .
هـ - وقال ابن حزم في [ المحلى ] : مسألة : وكل ما حرم الله من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام أو ميتة أو دم أو لحم سبع طائر أو ذي أربع أو حشرة أو خمر أو غير ذلك - فهو كله عند الضرورة حلال ، حاشا
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 10 \ 376 ) ، وانظر الفائدة الثانية في نفس الصفحة المذكورة ( الناشر ) .(2/45)
لحوم بني آدم وما يقتل من تناوله ، فلا يحل شيء من ذلك أصلا ، لا بضرورة ولا بغيرها . . . وبعد أن ذكر وجه حل ذلك للمضطر قال : وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها فلا يحل غير ذلك . اهـ (1) .
__________
(1) [ المحلى ] ( 5 \ 426 ) .(2/46)
المسألة الرابعة : إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون :
الأصل في المسلمين أنهم سواء في عصمة الدم ووجوب المحافظة على حياتهم ، فإذا ركب منهم جماعة سفينة ثم أحدق بها الخطر وخشي من فيها على أنفسهم الغرق وعلموا أو غلب على ظنهم أن لا نجاة لهم إلا بتخفيف السفينة بإلقاء واحد منهم بالقرعة ، فهل يجوز لهم ذلك أو لا ؟
هذا محل نظر واجتهاد :
لذا اختلف فيه العلماء : فبعضهم لا يرى القرعة في مثل هذه المسألة ؛ لاستواء الركاب في عصمة الدم ، ووجوب محافظة كل منهم على حياته ، فيحرم على كل منهم أن يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين ، ويحرم عليهم جميعا أن يلقوا واحدا منهم بقرعة أو بدونها ؛ لأن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية ، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية ، وبعضهم يرى إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين ؛ لأن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى المصلحتين ، وهو إنقاذ الجماعة التي لم تلق في اليم بتفويت مصلحة من ألقي فيه ، وهذا مستلزم لارتكاب أخف المفسدتين وهو إلقاء أحدهم في اليم تفاديا لأشدهما ، وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة ، وكون نجاة(2/46)
من بقي ظنية لا تأثير له في منع إلقاء واحد ما دام ظنا غالبا لا وهما ، فإن الظن الغالب تبنى عليه الأحكام ، فإن القتل العمد العدوان يثبت به حق القصاص بشهادة عدلين ، وشهادتهما إنما تفيد غلبة الظن ، وكذا شهادة عدلين بالسرقة ، وأربعة بزنا البكر والمحصن إلى غير هذا مما يفيد غلبة الظن وتثبت به الأحكام في الضروريات الخمس المعروفة .
أما اعتبار القرعة أصلا تبنى عليه الأحكام فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه بعد ثبوته وبناء الأحكام عليه في الكتاب والسنة في مسائل كثيرة متنوعة ، قد يفيد استقراؤها القطع بثبوت هذا الأصل .
وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في العمل بالقرعة في مواضع كثيرة منها هذه المسألة .
أ - وقال في [ نتائج الأفكار ] : قوله : والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل . قال الشراح : هذا جواب الاستحسان ، والقياس يأباها ؛ لأن استعمال القرعة تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وهو في معنى القمار ، والقمار حرام ؛ ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق أو المطلقة ، ولكنا تركنا القياس ههنا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ، وليس هذا في معنى القمار ؛ لأن أصل الاستحقاق في القمار ، يتعلق بما يستعمل فيه ، أو فيما نحن فيه لا يتعلق أصل الاستحقاق بخروج القرعة ؛ لأن القاسم لو قال : أنا عدلت في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت ذاك الجانب كان مستقيما ، إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه ، وذلك جائز ، ألا يرى أن يونس(2/47)
عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة ، كما قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } (1) ؛ وذلك لأنه علم أنه هو المقصود ، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق بالأنبياء ، فاستعمل القرعة ، كذلك زكريا عليه السلام ، استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم ؛ لكون خالتها عنده تطييبا لقلوبهم ، كما قال الله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد السفر تطييبا لقلوبهن . انتهى كلامهم .
وعزى في [ النهاية ] و [ معراج الدراية ] هذا التفصيل إلى [ المبسوط ] .
أقول : بين أول كلامهم هذا وآخره تدافع ؛ لأنهم صرحوا أولا بأن مشروعية استعمال القرعة ههنا جواب الاستحسان ، والقياس يأبى ذلك ؛ لكونه في معنى القمار ، وقالوا آخرا : إن هذا ليس في معنى القمار ، وبينوا الفرق بينه وبين القمار ، وذكروا : ورود نظائر له في الكتاب والسنة فقد دل ذلك على أنه ليس مما يأباه القياس أصلا ، بل هو مما يقتضيه القياس أيضا فتدافعا . اهـ .
ب - وقال في [ كتاب الأم ] ( كتاب القرعة ) : أخبرنا الربيع بن سليمان قال : أخبرنا الشافعي قال : قال الله تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (3) إلى قوله : { يَخْتَصِمُونَ } (4) وقال الله عز وجل : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } (5) { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } (6) { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } (7) ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى :
__________
(1) سورة الصافات الآية 141
(2) سورة آل عمران الآية 44
(3) سورة آل عمران الآية 44
(4) سورة آل عمران الآية 44
(5) سورة الصافات الآية 139
(6) سورة الصافات الآية 140
(7) سورة الصافات الآية 141(2/48)
فأصل القرعة في كتاب الله في قصة المقترعين على مريم والمقارعي يونس مجتمعة ، فلا تكون القرعة - والله أعلم - إلا بين قوم مستوين في الحجة ولا يعدو - والله تعالى أعلم - المقترعون على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها . ثم قال : فالقرعة تلزم أحدهما ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه وتقطع ذلك عن غيره ممن هو مثل حاله ، ( قال ) : وهكذا معنى قرعة يونس لما وقفت بهم السفينة فقالوا : ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها ، وما علتها إلا ذو ذنب فيها فتعالوا نقترع ، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأخرجوه منها وأقاموا فيها ، وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم ؛ لأن حال الركبان كانت مستوية وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزم قبل القرعة ، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه ، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه ، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم ، ( قال الشافعي ) : وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه ، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا فجعل العتق تاما لثلثهم وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة ، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره ، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم ، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر ، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن ، فأقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وسقط حق غيرها في غيبته بها ، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها ولم يحسب عليها أيام(2/49)
سفرها ، وكذلك قسم خيبر ، فكان أربعة أخماسها لمن حضر ثم أقرع ، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره وانقطع حقه عن غيره . أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب ، « أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت ليس لها مال غيرهم ، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة » (1) . أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين : « أن رجلا من الأنصار إما قال : أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم ، وإما قال : أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة » (2) . إلى أن قال : ( أخبرنا ) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد : أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير ، فاستشار عمر رجالا منهم خارجة بن زيد بن ثابت فأقرع بينهم . ثم قال أبو الزناد : حدثني رجل عن الحسن : « أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم . . . » (3) ثم ساق كلاما ، وقال بعده : ( قال الشافعي ) وبهذا كله نأخذ . وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما ، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم ، وإن كان أعتقهم عتق بتات في حياته فهكذا فيما أرى الحديث ، فقد دلت السنة على معاني منها : إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت ، فلما أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فأعتق الثلث وأرق الثلثين ، استدللنا
__________
(1) سنن أبو داود العتق (3958),مسند أحمد بن حنبل (5/341).
(2) صحيح مسلم الأيمان (1668),سنن الترمذي الأحكام (1364),سنن النسائي الجنائز (1958),سنن أبو داود العتق (3958),سنن ابن ماجه الأحكام (2345),مسند أحمد بن حنبل (4/428).
(3) صحيح مسلم الأيمان (1668),سنن الترمذي الأحكام (1364),سنن النسائي الجنائز (1958),سنن أبو داود العتق (3958),سنن ابن ماجه الأحكام (2345),مسند أحمد بن حنبل (4/446),موطأ مالك العتق والولاء (1506).(2/50)
على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره ، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ماله ورد مال غيره . اهـ المقصود (1) .
ج - وقال ابن حجر في [فتح الباري] (2) عند تفسير قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (3) الآية : أشار البخاري بذكر هذه الآية إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة ، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، ولا سيما إذا ورد في شرعنا ما يقرره ، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله ، وهذا منه . اهـ .
وقال في تفسير قوله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } (4) والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وهذه المسألة من هذا القبيل ؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض ، وليس ذلك في شرعنا ؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها . اهـ .
وقال (5) : والمشهور عند الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة ، قال عياض : هو مشهور عند مالك وأصحابه ؛ لأنه من باب الخطر والقمار ،
__________
(1) [ الأم ] للشافعي ( 8 \ 3 ، 4 ) الطبعة الأولى 1381هـ
(2) [فتح الباري] (5\292).
(3) سورة آل عمران الآية 44
(4) سورة الصافات الآية 141
(5) [ فتح الباري ] ( 9 \ 311 )(2/51)
وحكي عن الحنفية إجازتها . اهـ . وقد قالوا به في مسألة الباب ، واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها ، فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل ، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى . وقال القرطبي : ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء ، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح . اهـ . وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص ، فكأنه خصص العموم بالمعنى .(2/52)
وقال ابن حجر في [فتح الباري]: مشروعية القرعة مما اختلف فيه : والجمهور على القول بها في الجملة ، وأنكرها بعض الحنفية ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها ، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل ، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر ، وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع ، وقال إسماعيل القاضي : ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق ، كما زعم بعض الكوفيين ، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا ، فيضم في موضع بعينه ، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه ، لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة ، وإنما أفادت القرعة ألا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الآخر فيقطع التنازع ، وهي إما في الحقوق المتساوية ، وإما في تعيين الملك ، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة ، وكذا بين الأئمة في الصلوات(2/52)
والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم ، والحاضنات إذا كن في درجة ، والأولياء في التزويج ، والاستباق إلى الصف الأول ، وفي إحياء الموات ، وفي نقل المعدن ، ومقاعد الأسواق ، والتقديم بالدعوى عند الحاكم ، والتزاحم على أخذ اللقيط ، والنزول في الخان المسبل ونحوه ، وفي السفر ببعض الزوجات ، وفي ابتداء القسم ، والدخول في ابتداء النكاح ، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصى بعتقهم ولم يسعهم الثلث ، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا ، وهو تعيين الملك ، ومن صور تعيين الملك : الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة . اهـ (1) .
د - قال ابن القيم في [ الطرق الحكمية ] فصل القرعة : ومن طرق الأحكام الحكم بالقرعة ، قال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (2) قال قتادة : ( كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها ، فقرع زكريا ، وكان زوج خالتها ، فضمها إليه ) ، وروي نحوه عن مجاهد ، وقال ابن عباس : ( لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها ) وهذا متفق عليه بين أهل التفسير .
وقال تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } (3) { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } (4) { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } (5)
__________
(1) [ فتح الباري ] ( 5 \ 293 ، 294 ) .
(2) سورة آل عمران الآية 44
(3) سورة الصافات الآية 139
(4) سورة الصافات الآية 140
(5) سورة الصافات الآية 141(2/53)
أي : ( فقارع فكان من المغلوبين ) .
فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة ، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم .
وفي [ الصحيحين ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا » (1) .
وفي [ الصحيحين ] أيضا عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم : « كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه » (2) .
وفي [ صحيح مسلم ] عن عمران بن حصين : « أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وقال له قولا شديدا » (3) .
وفي [ صحيح البخاري ] عن أبي هريرة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين ، فسارعوا إليه ، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين : أيهم يحلف » (4) . وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها ، فليستهما عليها » (5) ، وفي رواية أحمد : « إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها » (6) ، وفيه أيضا . « أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لواحد منهما بينة ، فقال : استهما على اليمين ما كان ، أحبا ذلك أو كرها » (7) .
وفي [ الصحيحين ] عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، يختصمان في مواريث لهما ، لم تكن
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (590),صحيح مسلم الصلاة (437),سنن الترمذي الصلاة (225),سنن النسائي الأذان (671),سنن أبو داود الأدب (5245),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797),مسند أحمد بن حنبل (2/303),موطأ مالك النداء للصلاة (295).
(2) صحيح البخاري المغازي (3910),صحيح مسلم التوبة (2770),سنن الترمذي تفسير القرآن (3180),سنن أبو داود الأدب (5219),سنن ابن ماجه الحدود (2567),مسند أحمد بن حنبل (6/198),سنن الدارمي النكاح (2208).
(3) صحيح مسلم الأيمان (1668),سنن الترمذي الأحكام (1364),سنن النسائي الجنائز (1958),سنن أبو داود العتق (3958),سنن ابن ماجه الأحكام (2345),مسند أحمد بن حنبل (4/431),موطأ مالك العتق والولاء (1506).
(4) صحيح البخاري الشهادات (2529),سنن أبو داود الأقضية (3616),سنن ابن ماجه الأحكام (2329),مسند أحمد بن حنبل (2/489).
(5) صحيح البخاري الشهادات (2529),سنن أبو داود الأقضية (3617),سنن ابن ماجه الأحكام (2329),مسند أحمد بن حنبل (2/524).
(6) صحيح البخاري الشهادات (2529),سنن أبو داود الأقضية (3617),سنن ابن ماجه الأحكام (2329),مسند أحمد بن حنبل (2/524).
(7) صحيح البخاري الشهادات (2529),سنن أبو داود الأقضية (3616),سنن ابن ماجه الأحكام (2329),مسند أحمد بن حنبل (2/524).(2/54)
لهما بينة إلا دعواهما ، فقال : " إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من النار » (1) رواه أبو داود في السنن ، وفيه : « فبكى الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقي لك ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما ، وتوخيا الحق ، ثم استهما ، ثم تحالا . » (2)
فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة ، كما جاء بها الكتاب ، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده . قال البخاري في [صحيحه] : ( ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد ) وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة ، وهو في جامعه ، فذكر مقاصده . قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد : القرعة جائزة . وقال يعقوب بن بختان : سئل أبو عبد الله عن القرعة ومن قال : إنها قمار ؟ قال : إن كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل له خبر يزعم أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار .
وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله : إن ابن أكثم يقول : إن القرعة قمار ، قال : هذا قول رديء خبيث ، ثم قال : كيف ؛ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار ولم يرضوا قالوا : يقرع بينهم ، وهو يقول : لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن وتزوج الخامسة ولم يدر أيتهن التي طلق ، قال : يورثهن جميعا ، ويأمرهن أن يعتددن جميعا ، وقد ورث من لا ميراث لها . وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها ، والقرعة تصيب الحق ، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو الحارث : كتبت إلى أبي عبد الله أسأله ، فقلت : إن بعض الناس ينكر القرعة ويقول : هي قمار اليوم ، ويقول : هي
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2326),صحيح مسلم الأقضية (1713),سنن الترمذي الأحكام (1339),سنن النسائي آداب القضاة (5422),سنن أبو داود الأقضية (3583),سنن ابن ماجه الأحكام (2317),مسند أحمد بن حنبل (6/320),موطأ مالك الأقضية (1424).
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2326),صحيح مسلم الأقضية (1713),سنن الترمذي الأحكام (1339),سنن النسائي آداب القضاة (5422),سنن أبو داود الأقضية (3583),سنن ابن ماجه الأحكام (2317),مسند أحمد بن حنبل (6/320),موطأ مالك الأقضية (1424).(2/55)
منسوخة ؟ فقال أبو عبد الله : من ادعى أنها منسوخة فقد كذب ، وقال الزور ، القرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع في ثلاثة مواضع : أقرع بين الأعبد الستة ، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر ، وأقرع بين رجلين تدارأا في دابة ، وهي في القرآن في موضعين .
قلت : يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع ، وإلا فأحاديث القرعة أكثر ، وقد تقدم ذكرها . قال : وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين أقرع بين القوم ، فأيهم أصابته القرعة كان له ما أصاب من ذلك يجبر عليه .
وقال الأثرم . إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها وبينها وقال : إن قوما يقولون : القرعة قمار ، ثم قال أبو عبد الله : هؤلاء قوم جهلوا ، فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن ، قال الأثرم : وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن فقال : حديث أبي الزناد ؛ فقلت : نعم ، قال أبو عبد الله : قال أبو الزناد يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه . وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } (1) أي : أقرع فوقعت القرعة عليه ، قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : القرعة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه ، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءه وفعله ، ثم قال : سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه ، قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) وقال : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (3) قال حنبل : وقال عبد الله بن الزبير
__________
(1) سورة الصافات الآية 141
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة المائدة الآية 92(2/56)
الحميدي : من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته التي قضى بها ، وقضى بها أصحابه بعده . وقال في رواية الميموني : في القرعة خمس سنن : حديث أم سلمة : « أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء درست بينهم فأقرع بينهم » (1) ، وحديث أبي هريرة حين تدارأا في دابة فأقرع بينهما ، وحديث الأعبد الستة ، وحديث : أقرع بين نسائه ، وحديث علي ، وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ابن الزبير وابن المسيب ، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك .
قال الميموني : وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة - فقال : أرى أنها من أمر النبوة ، وذكر قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (2) وقوله : { فَسَاهَمَ } (3)
وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد : القرعة في كتاب الله ، والذين يقولون : القرعة قمار قوم جهال ، ثم ذكر أنها في السنة ، وكذلك قال في رواية ابنه صالح : أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع ، وهي في القرآن في موضعين .
وقال أحمد في رواية المروزي : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عروة ، قال : أخبرني ابن الزبير : « أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى قال : فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم ، فقال : المرأة ، المرأة
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2326),صحيح مسلم الأقضية (1713),سنن الترمذي الأحكام (1339),سنن النسائي آداب القضاة (5422),سنن أبو داود الأقضية (3583),سنن ابن ماجه الأحكام (2317),مسند أحمد بن حنبل (6/320),موطأ مالك الأقضية (1424).
(2) سورة آل عمران الآية 44
(3) سورة الصافات الآية 141(2/57)
قال الزبير : فتوهمت أنها أمي صفية ، قال : فخرجت أسعى ، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى ، قال : فلهدت في صدري وكانت امرأة جلدة ، وقالت : إليك عني لا أم لك ، قال : فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك ، فرجعت وأخرجت ثوبين معها فقالت : هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما ، قال : فجئت بالثوبين ليكفن فيهما حمزة ، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة ، قال : فوجدنا غضاضة أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، قلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فقدرناهما ، فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد في الثوب الذي صار له . » (1) وقال في رواية صالح وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم : وهو مختلف فيه . اهـ . وقد ذكر كيفية القرعة ومواضعها [ (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/165).
(2) الطرق الحكمية ] لابن قيم الجوزية ، تحقيق محمد حامد الفقي ، مطبعة السنة المحمدية بمصر عام 1372 هـ ص 287 - 291 .(2/58)
المسألة الخامسة : تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والأطفال
الكفار بالنسبة للمسلمين ، إما أهل حرب ، أو أهل ذمة ، فأهل الذمة يعاملون في الجملة معاملة المسلمين في عصمة الدم ورعاية حرمتهم أحياء وأمواتا ، وإن كان ذلك في المسلمين للإسلام وفي الذميين للوفاء بالعهد . وقد سبق الكلام عنهم في المسألة الأولى والثانية والثالثة تبعا للحديث عن المسلمين .
أما الكفار المحاربون فدمهم هدر ، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل من لا(2/58)
شأن لهم في الحرب منهم كالنساء والصبيان ، وقد سبق الكلام على تبييت المحاربين من الكفار وقتالهم بما يعم إهلاكه وفيهم نساؤهم وصبيانهم في المسألة الأولى تبعا لقتالهم بما يعم وفيهم مسلمون أسارى أو تجار فأغنى عن إعادته هنا .(2/59)
وقد كتب إلى فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا سؤال عن حكم الطب المرضي : فأجاب بجوازه بناء على المصلحة .
وفيما يلي نص السؤال والجواب .
السؤال : ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية الشرقية لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر واكتشاف سبب الموت حتى لا يدفن الإنسان حيا ، ولا يخفى المرض المعدي ، وفي ذلك مما يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى ، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز مطلقا ، ولو كان الحكيم مسلما ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة ، أو يسوغ مطلقا أم المقام فيه تفصيل ، أفيدونا تؤجروا وترحموا ؟ .
الجواب : ليس في هذه المسألة نص عن الشارع ، وهي من المسائل الدنيوية التي تتبع فيها قاعدة : درء المفاسد وجلب المصالح ، وحينئذ يختلف الحكم باختلاف الأموات ، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى وعلم أن الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه - فإن الكشف عليه يكون متعينا ، ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقائه عرضة للخطر ، ويختار الطبيب الذي يوثق به للعلم ببراعته وأمانته(2/59)
على غيره ؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة ، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يوثق به ووجد غيره اعتمد عليه ، بل إذا وجد طبيب مسلم غير موثوق به وطبيب غير مسلم موثوق به بتكرار التجربة يرجح الاعتماد على الثاني ؛ لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين ، بل أقول : إن من اشترط من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل والوضوء إلى التيمم ليس لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة ، وقد صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن الماء يؤذيه في مرضه كان له أن يعمل بقوله ، وإذا كان من اشتبه في موته امرأة ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتما ، فإن لم توجد كشف عليها الطبيب ، كما هو الشأن في جميع الأمراض ، ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة ما تفعله ( مصلحة الصحة ) بمصر وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية ، ومن أعمالهم ما هو مفيد قطعا ، ومنه ما تظن فائدته ، فإذا علم أن في الكشف على الميت لمعرفة سبب مرضه مصلحة عامة - لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعا من ذلك ، نعم ، إن إهانة الميت محظورة ، ولكن الإهانة تكون بالقصد ، وهو منتف هنا على أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات ، والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها أو مصلحة يجب حفظها ، فإذا علم أولو الأمر ذلك عملوا به والشرع عون لهم عليه .(2/60)
وقد سئل فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف عن حكم إحراق جثث الموتى وتشريحهم ؟ فأجاب جوابا مستفيضا بين فيه المصالح التي تدعو إلى(2/60)
التشريح وتبرره .
وفيما يلي نص السؤال والجواب :
السؤال : طلبت إحدى المصالح الحكومية بيان حكم الشريعة الغراء في إحراق جثث الموتى من المسلمين في زمن الأوبئة وفي حالة الوصية بذلك من المتوفى ؟ .
الجواب : اعلم أن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع حفظا للنوع الإنساني حتى يبقى إلى الأمد المقدر له ، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه ، وأمر به من أصابه مرض من أهله وأصحابه ، وقال : « تداووا ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء » (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله » (2) ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج .
فكان الطب تعلما وتعليما مشروعا بقول الرسول وفعله ، بل بدلالة الآيات الواردة بالترخيص للمريض بالفطر تمكينا له من العلاج ، وبعدا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك ، والترخيص لمن به أذى في رأسه في الإحرام ، وهو علاج للعلة وسبب للبرء ، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده ، في ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذي الإنسان من الداخل أو الخارج ، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في زاد المعاد ، فكان فن الطب علما وعملا من فروض الكفاية التي يجب على الأمة قيام طائفة منها بها ، وتأثم الأمة جميعها بتركه وعدم النهوض به ، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2038),سنن أبو داود الطب (3855),سنن ابن ماجه الطب (3436).
(2) سنن ابن ماجه الطب (3438),مسند أحمد بن حنبل (1/443).(2/61)
فروض الكفاية التي أمر بها الشارع ، وحث عليها ، وحذر من التهاون فيها . ومن مقدمات فن الطب ، بل من مقوماته تشريح الأجسام ، فلا يمكن الطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرا بتشريح جسم الإنسان علما وعملا ، وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك ، فهو من الأمور التي لا بد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضى وعلاج الأمراض ، ولا يمتري في ذلك أحد ، ولا يقال : قد كان فيما سلف طب ، ولم يكن هناك تشريح ؛ لأنه كان طبا بدائيا لعلل ظاهرة ، وكلامنا في طب واف لشتى الأمراض والعلل ، والعلوم تتزايد ، والوسائل تنمو وتكثر .
وإذا كان شأن التشريح ما ذكر كان واجبا بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وتعليمه ومباشرته بالعمل على الأمة لتقوم طائفة منها به ، فإن من القواعد الأصولية : أن الشارع إذا أوجب شيئا يتضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء ، فإذا أوجب الصلاة كان ذلك إيجابا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها ، وإذا أوجب بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة تعلم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته ، فقد أوجب بذلك عليهم تعلم التشريح وتعليمه ومزاولته عملا .
هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يدرس وعملا يمارس ، بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض ، أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها ، والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل(2/62)
أو نفيها عن متهم - فلا شبهة في جوازه أيضا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية ؛ للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يظلم بريء ، ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم .
وكم كان التشريح فيصلا بين حق وباطل ، وعدل وظلم ، فقد يتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السم له في الطعام ، ويشهد شهود الزور بذلك ، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسم في الجسم ، وإنما مات الميت بسبب طبيعي فيبرأ المتهم ، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين ، وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير ، فيثبت التشريح : أن الموت جنائي ، والإحراق إنما كان ستارا أسدل على الجريمة فيقتص من المجرم ، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد . وهنا قد يثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كانت بواعثه ، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح والمفاسد ، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به وما كان فيه مفسدة راجحة ينهى عنه ، فلا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من مصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة ، وإنقاذ البريء من العقاب ، وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادي برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة .(2/63)
ثم أتبع فتواه بفتوى في موضوع التشريح لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي : قال : وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله قال فيها ما نصه :(2/63)
وليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع ، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه وأمرت بعدم إيذائه ، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات - يعلم أنها توازن دائما بين المصلحة والمفسدة فتجعل الحكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح ، فيجب إذا أن يكون نظرنا بعيدا متمشيا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة .
وإذن نقول : من نظر إلى أن التشريح قد يكون ضروريا في بعض الظروف ؛ كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريع أن ذلك الآخر غير مجني عليه ، وقد يجنى على رجل ثم يلقى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف ، فضلا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه فهو يأتيه الموت في كل مكان وما هو بميت إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه - نقول : من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديما للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيا لإكرامه ، على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم من أن الميت إذا ابتلع مالا شق بطنه لإخراجه منه ولو كان مالا قليلا ، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة ، أي : ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، وكلام الشافعية قريب من هذا ، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في(2/64)
تقدير المال الذي يبتلعه ، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل فهو قياس أولوي فيما نراه . انتهى .
غير أنا نرى أنه لا بد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة ، وليتق الله الأطباء وأولو الأمر الذين يتولون ذلك ، وليعلموا أن الناقد بصير ، والمهيمن قدير ، والله يتولى هدى الجميع ، والله أعلم .(2/65)
ثم كتبت فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء :
قامت بمصر مؤسسة علمية اجتماعية تسمى : دار الإبصار تأسست في شهر يناير سنة 1951م ، ومن أغراضها إيجاد مركز لجمع العيون التي تصلح لعملية ترقيع القرنية وتوفيرها وإيجاد المواد الأخرى اللازمة لهذه العملية الخاصة باسترداد البصر وتحسينه وتوزيع العيون الواردة إلى الدار على الأعضاء ، وطلبت الدار من مصلحة الطب الشرعي بتاريخ 31 أكتوبر 1951 م السماح لها بالحصول على العيون اللازمة لهذه العملية من دار فحص الموتى الملحقة بمصلحة الطب الشرعي ، ونظرا إلى أن الجثث التي تنقل إلى دار فحص الموتى للتشريح لمعرفة أسباب الوفاة كلها خاصة بحوادث جنائية - طلبت المصلحة بكتابها المؤرخ 18 \ 2 \ 1952 م من قسم الرأي المختص إبداء الرأي في هذا الطلب من الوجهة القانونية ، فأرسل إلينا مستشار الدولة كتاب القسم المؤرخ 3 أبريل 1952م برقم ( 103 ) المتضمن طلب بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع وأضاف إلى ذلك أن بالولايات المتحدة معاهد مؤسسة دار الإبصار المصرية تقوم بجمع(2/65)
عيون الموتى وتوزيعها على من يطلبها من الأطباء بعد التأكد من صلاحيتها فنيا لعملية الترقيع القرني ، وكذلك في إنجلترا وفرنسا وجنوب إفريقيا وبعض بلدان أوربا تشريعات خاصة لتسهيل الحصول على هذه العيون ، وقد اطلعنا على قانون دار الإبصار ، وعلى الكتب المشار إليها ، وعلى بحث ضاف في هذا الموضوع لسعادة الدكتور محمد صبحي باشا طبيب العيون الشهير .
الجواب : إنه واضح مما ذكر أن الباعث على طلب هذه المؤسسة للحصول على عيون بعض الموتى إنما هو التوصل بها فنيا إلى دفع الضرر الفادح عن الأحياء المصابين في أبصارهم وذلك مقصد عظيم تقره الشريعة الإسلامية ، بل تحث عليه ، فإذن المحافظة على النفس من المقاصد الكلية الضرورية للشريعة الغراء ، فإذا ثبت علميا أن ترقيع القرنية لهذه العيون هو الوسيلة الفنية لدرء خطر العمى أو ضعف البصر عند الإنسان - يجوز شرعا نزع عيون بعض الموتى لذلك بقدر ما تستدعيه الضرورة ؛ لوجوب المحافظة على النفس ؛ ولذا تقررت مشروعية التداوي من الأمراض ؛ محافظة على النفس من الآفات ، فقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألم به من الأمراض ، وأمر الناس بالتداوي لإزالة العلل والآلام فيما هو أقل شأنا مما نحن بصدده ، وذلك يستلزم مشروعية وسائله وجواز استعمال ما تقتضيه ضرورة التداوي والعلاج ، ولو كان محظورا شرعا إذا لم يقم غيره مما ليس بمحظور مقامه في نفعه ، بأن تعين التداوي به ، على أن الواجب شرعا على الأمة أن تختص منها طائفة بالطب والعلاج بقدر ما تستدعيه حاجتها ، وبحسب تنوع أمراضها ، فيجب أن يكون فيها أطباء في كل فروع الطب ،(2/66)
ومنهم أطباء العيون ، سدا لحاجة الأمة في هذا الفرع بحيث إذا قصرت الأمة في ذلك كانت آثمة شرعا ، وهذا الواجب هو المعروف في الأصول بالواجب الكفائي أو الفرض الكفائي ، ويجب عليهم أن يحذقوا الفن حتى يؤدوا وظائفهم أكمل أداء ، فإذا هدوا إلى علاج نافع لأمراض العيون يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقدان وجب عليهم أن ينفعوا الناس به ، ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة ، وللوسائل في الشرع حكم المقاصد ؛ ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به ، وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر ، بل لا يعد طبيبا من لا يعرف فن التشريح علما وعملا ، كما قرر ذلك جميع الأطباء .
فيجب أن يمكن أطباء هذه المؤسسة من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك كشفا للضر عنهم ، ولا يمنع من ذلك ما يرى فيه من انتهاك حرمة الموتى ، فإن علاج الأحياء من الضروريات التي يباح فيها شرعا بارتكاب هذا المحظور ، هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى ، ولكن من القواعد الشرعية أن الضروريات تبيح المحظورات ؛ ولذا أبيح عند المخمصة أكل الميتة المحرمة ، وعند الغصة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يحل ، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله ، وجاز شق بطن الميتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته ترجى ، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره ، وإباحة المحظورات تقديرا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع ، وفي الحديث : « لا ضرر ولا(2/67)
ضرار » (1) وقد بني عليها كثير من الأحكام ؛ ولذا قال الفقهاء : الضرر يزال ، فعملا بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى - مع ما فيه من المساس بحرمتهم - لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد .
ومن القواعد العامة : أن الحاجة تنزل منزل الضرورة عامة كانت أو خاصة ؛ ولذا أجاز الفقهاء بيع السلم مع كونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفلسين ، وأجازوا بيع الوفاء دفعا لحاجة المدينين ، ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعا ، والدين يسر لا حرج فيه ، قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2)
على أنه إذا قارنا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حرمة الموتى - نجد الثانية أخف ضررا من الأولى ، ومن المبادئ الشرعية : أنه ( إذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ضررا ، ولا شك أن الإضرار بالميت أخف من الإضرار بالحي ، ويجب أن يعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيدة بقدر ما تستدعيه الضرورة ؛ لما تقرر شرعا أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها فقط ؛ ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قدر ما يسد الرمق ، وللمضطر لإزالة الغصة بالخمر إلا الجرعة المزيلة لها فقط ، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها ، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية ، وغير خاف أن ابتناء الأحكام
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).
(2) سورة الحج الآية 78(2/68)
على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تعريف الأحكام الجزئية للحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع ، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعا بحادث جديد ، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة .
وإذ قد علم من هذا : أنه يجوز شرعا ، بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني بقدر ما تستدعيه الضرورة - يعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك بقانون عام يخضع له جميع الموتى على السواء ؛ لأن ذلك - فضلا عن أنه لا تقتضيه الضرورة كما هو ظاهر - مفض إلى مفسدة عامة لا وزن بجانبها لمصلحة علاج مريض أو مرضى ، مظهرها ثورة أولياء الموتى وأهليهم إذا أريد انتزاع عيون موتاهم قهرا ثورة جامحة عامة ، فيجب أن يقتصر في ذلك على عيون بعض الموتى ممن ليس لهم أولياء ولا يعرف لهم أهل ، ومن الجناة الذين يحكم عليهم بالإعدام قصاصا ، والتحديد بهذا واف بالغرض دون اعتراض أحد أو مساس بحقه . والله أعلم .(2/69)
ولفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي فتوى تتعلق بالموضوع رأينا إثباتها . وفيما يلي نصها (1) :
سؤال : هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضا من أخذ منه ؟ .
جواب : جميع المسائل التي تحدث في كل وقت ، سواء حدثت
__________
(1) [ الفتاوى السعدية ] للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ، ص 143 - 148 .(2/69)
أجناسها أو أفرادها - يجب أن تتصور قبل كل شيء ، فإذا عرفت حقيقتها ، وشخصت صفاتها ، وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها - طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية ، فإن الشرع يحل جميع المشكلات : مشكلات الجماعات والأفراد ، ويحل المسائل الكلية والجزئية ، يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة ، والفطر المستقيمة ، ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية ، فنحن في هذه المسألة قبل كل شيء نقف على الحياد ، حتى يتضح لنا اتضاحا تاما للجزم بأحد القولين .
فنقول : من الناس من يقول : هذه الأشياء لا تجوز ؛ لأن الأصل أن الإنسان ليس له التصرف في بدنه بإتلاف أو قطع شيء منه أو التمثيل به ؛ لأنه أمانة عنده لله ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (1)
والمسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه .
أما المال : فإنه يباح بإباحة صاحبه ، وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات .
وأما الدم : فلا يباح بوجه من الوجوه ، ولو أباحه صاحبه لغيره ، سواء كان نفسا أو عضوا أو دما أو غيره ، إلا على وجه القصاص بشروطه ، أو في الحالة التي أباحها الشارع ، وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسئول عنه .
ثم إن ما زعموه من المصالح للغير ، معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء ، فكم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195(2/70)
ويؤيد هذا قول الفقهاء : من ماتت وهي حامل بحمل حي لم يحل شق بطنها لإخراجه ، ولو غلب الظن ، أو لو تيقنا خروجه حيا ، إلا إذا خرج بعضه حيا فيشق للباقي ، فإذا كان هذا في الميتة فكيف حال الحي ؛ فالمؤمن بدنه محترم حيا وميتا .
ويؤخذ من هذا أيضا أن الدم نجس خبيث ، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به ، مع ما يخشى عند أخذ دم الإنسان من هلاك أو مرض ، فهذا من حجج هذا القول .
ومن الناس من يقول : لا بأس بذلك ؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي - صارت من أوائل ما يدخل فيه ، وأن ذلك مباح ، بل ربما يكون مستحبا ، وذلك أن الأصل : إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، والمنافع والمضار ، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه ، وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المصالح ، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة . وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة ، ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة .
ويؤيد هذا : أن حجة القول الأول ، وهي : أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة ، متى اعتبرنا فيه هذا الأصل ، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به ، فإنه يباح لمن وقعت فيه الآكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه ، يجوز قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي ، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها ، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره ؛ للتمكن من علاج(2/71)
المرض ، ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير ، وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة . وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها ، يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث ، فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه ، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه ، ومنه قوله عن الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (1)
فمفهوم الآية : أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه ، فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه ، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء ، وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير ، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة ، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون ، بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه ، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك ، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف ، بل ولا مرض ، وربما كان في ذلك نفع له ، إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا ، أو صاحب حق كبير ، أو أخذ عليه نفعا دنيويا ينفعه ، أو ينفع من بعده .
ويؤيد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات ، وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار .
__________
(1) سورة البقرة الآية 219(2/72)
ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور ، كما هو معلوم مشاهد ، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء ، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما ، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا ، ووضعه في الآخر ، من غير ضرر يلحق المأخوذ منه - فهو داخل فيما أباحه الشارع ، وإن كان قبل ذلك ، وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر ، فيراعى كل وقت بحسبه ؛ ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين : بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها ، وتحريم التمثيل بها ، فيقال : هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا ، أو ربما أدى إلى الهلاك ، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته ، فأما في هذا الوقت ، فالأمران مفقودان : الضرر مفقود ، وانتهاك الحرمة مفقود ، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك ، واختاره مطمئنا مختارا ، لا ضرر عليه ، ولا يسقط شيء من حرمته ، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما ، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة .
ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا ، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر ، فبهذا يزول المحذور .
ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم ، منهم : شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم : أنه إذا أشكل عليك شيء ، هل هو حلال أم حرام ، أو مأمور به أو منهي عنه ؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة ، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة ، كان من قسم المباح أو المأمور به ، وإذا كان بالعكس ، كانت بعكس ذلك .
طبق هذه المسألة على هذا الأصل ، وانظر أسبابها وثمراتها ، تجدها(2/73)
أسبابا لا محذور فيها ، وثمراتها خير الثمرات .
وإذ قال الأولون : أما ثمراتها - ( غير متيقنة ) فنحن نوافق عليها ، ولا يمكننا إلا الاعتراف بها ، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي : التحريم ، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث ، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي ، ودفع الانتهاك الفظيع ، وهذا مفقود هنا .
وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول : إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة ، وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه ، وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه ، فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها ، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه ، وإنما هو إيثار لغيره ، وبذل من قوته لقوة مخيره ، وبهذا يخف خبثه في ذاته ، وتلطفه في آثاره الحميدة ؛ ولهذا حرم الله الدم المسفوح ، وجعله خبيثا ، فيدل ( هذا ) على أن الدماء في اللحم والعروق ، وفي معدنها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث .
فقال الأولون : هذا من الدم المسفوح ، فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها ، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم ، فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث ، فكيف تجيزونه ، ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان ، أو سفحه لأكل ، أو سفحه للتداوي به ، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل .
فقال هؤلاء المجيزون : هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة(2/74)
أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره ، إذا لم يكن فيه ضرر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » (1) و « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد » (2) .
فعموم هذا يدل على هذه المسألة ، وأن ذلك جائز .
فإذا قلتم : إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف ، كما ذكره النبي لا في وصل أعضائه بأعضائه .
قلنا : إذا لم يكن ضرر ، ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا ، وهل هذا إلا فرد من أفراده ؛ كما أنه داخل في الإيثار ، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله - فهذه المسألة من باب أولى وأحرى ، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه ، وإن طالت المشقة ، وعظمت الشقة ، فهذه كذلك وأولى .
ونهاية الأمر : أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن ، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر ، فلم لا يجوز ؛ ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة .
ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل ، ومجاراة الأحوال ، إذا لم تخالف نصا شرعيا ؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون ، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزم .
فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر ، ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك ؛ لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير ، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس : أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة ، بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (467),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585),سنن الترمذي البر والصلة (1928),سنن النسائي الزكاة (2560),سنن أبو داود الأدب (5131),مسند أحمد بن حنبل (4/405).
(2) صحيح البخاري الأدب (5665),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586),مسند أحمد بن حنبل (4/270).(2/75)
والمصالح الكلية والجزئية ، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة ، وهم في ذلك مفترون ، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه ، الكلي والجزئي ، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة ، وغير قاصر من جميع الوجوه .(2/76)
الموضوع الرابع : المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم ووجوب تكريمهم ورعاية حرمتهم :
إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد ، عليم بما كان وما سيكون ، وأنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين ، وجعلها قواعد كلية ، ومقاصد سامية شاملة ، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان .
إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة ، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم ، لكن يتبين لبحث علماء الإسلام عنها أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة ، ومن ثم يعرف حكمها ، ومسألة تشريح جثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص ، فشأنها شأن الوقائع التي جدت ، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة ، وراجعة لمقصد عام من مقاصدها العالية : ( ضرورة كمال الشريعة وشمولها ، وصلاحيتها لجميع الخلق ، وختمها(2/76)
بمن أرسل رحمة للعالمين ) قال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (1) وقال : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (2) وقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (3) وثبت في الحديث « لا أحد أحب إليه العذر من الله » (4) .
من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، وبالبحث عن مسألة التشريح تبين أنها مندرجة تحت قواعد الشريعة العامة ، وراجعة إلى المصالح المعتبرة شرعا ، وأن لها نظائر من المسائل التي حكم فيها الفقهاء مع اختلاف نظرهم واجتهادهم فيها ، وهذا مما ينير الطريق ، ويهدي الباحث في مسألة التشريح ويساعده على الوصول إلى ما قد يكون صوابا إن شاء الله .
إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة : أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما ، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما ، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال ، فإن مصلحة حرمة الميت مسلما كان أو ذميا تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه ، فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه ، وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت ، وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن ، وردع لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) صحيح البخاري التوحيد (6980),صحيح مسلم اللعان (1499),مسند أحمد بن حنبل (4/248),سنن الدارمي النكاح (2227).(2/77)
الجريمة خفية ، وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتا عاديا ، وفي ذلك براءة المتهم ، كما أن في التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء ، ومعرفة نوعه ، فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة ، وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض ، وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها ، وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جريا على ما اقتضت به سنة الله شرعا وقدرا .
وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة ، وتدريبهم على ذلك عمليا وتعريفهم بإصاباتها وطرق علاجها - في هذا وغيره مما تقدم بيانه في الموضوع الثاني ، وما ذكر في فتوى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف وما ذكره الأطباء - مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم ، فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعا أو إباحة ، وقد يقال : إن مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كلية عامة ، ولكونها قطعية ، كما دل على ذلك الواقع والتجربة ، وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس وحفظها من الضروريات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء ، وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام ، منها : المسائل الخمس التي تقدم ذكرها ، فقد بحثوها وبينوا الحكم فيها على ما ظهر لهم ، فمسألة تترس الكفار بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب رجح كثير منهم رمي الترس إيثارا للمصلحة العامة ، وكذا رجح كثير منهم شق بطن(2/78)
من ماتت وفي بطنها جنين حي ، وأكل المضطر لحم آدمي ميت ؛ إبقاء على حياته ، وإيثار الجانب الحي على الجانب الميت ، وبإلقاء أحد ركاب سفينة خيف عليهم الغرق ولا نجاة لهم إلا بإلقاء واحد منهم ، إيثارا لمصلحة الجماعة على مصلحة الواحد ، وقد سبق تفصيل ذلك ، فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقا له بهذه النظائر في الحكم .
وقد يقال : إن الحوادث كانت منذ كان الناس ، والطب قديم ، والحاجة إلى تشخيص الأمراض ومعرفة أسبابها وطرق علاجها كان في العهود الأولى ، ولم يتوقف شيء من ذلك على التشريح ؛ ولهذا لم يقدم الأطباء قديما على التشريح ، فلم نقدم عليه اليوم ؟ وقد أورد فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف هذا السؤال على نفسه وأوضحه ثم أجاب عنه في فتواه التي سبق ذكرها .
وقد يقال أيضا : إن اقتضت المصلحة - ولا بد - تشريح إنسان ميت فليقتصر على تشريح المحاربين فإن دمهم هدر ، ويستثنى منهم من نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم كنسائهم وصبيانهم ، ولا ينافي ذلك ما ورد عنه من النهي عن التمثيل بقتلاهم فإن نهيه عنه مقيد بما إذا لم يوجد ما يقتضي التمثيل بهم ، وهنا قد وجدت الضرورة ، وبهذا يجمع بين مصلحة حرمة الميت المسلم والذمي ومصلحة الخدمات الطبية . وربما نوقش ذلك باحتمال عدم الكفاية بتشريح المحاربين أو عدم تيسر الحصول عليهم فيعود الأمر إلى البحث في تشريح جثث موتى المسلمين ومن في حكمهم ، قد يقال : لا ضرورة تلجئ إلى تشريح جثث الموتى مطلقا ، إذا يمكن أن يستغنى عن ذلك بتشريح الحيوانات بعد ذبح ما يذبح منها ذبحا شرعيا محافظة على المال .(2/79)
ففي ذلك غنية عن تشريح جثث بني آدم وجمع بين مصلحة موتى الآدميين ومصلحة الخدمات الطبية ، فإن لم يتيسر الاكتفاء بتشريحها فلا أقل من أن لا تشرح جثث بني آدم ، إلا فيما لا يمكن الاكتفاء فيه بتشريح جثث الحيوانات ، تقليلا للمفسدة ومحافظة على حرمة الموتى بقدر الإمكان .
وللدكتور محمد عبد الفتاح هدارة كلمة بين فيها أوجه الشبه والخلاف بين جسم الإنسان وجسم الحيوانات الأخرى القريبة الشبه به قد تعتبر جوابا عن ذلك من مختص في علم التشريح المقارن وفيما يلي نصها :
أوجه الشبه والخلاف
يستلزم تدريب الطبيب للممارسة الصحيحة للطب والجراحة أن يعرف حجم وشكل ومكان وتركيب كل عضو وما يجاوره من الأعضاء الأخرى في الجسم السليم ، إذ يمكنه بعدئذ أن يعرف ما قد يطرأ من تغييرات على حجم وشكل ومكان وتركيب أي من هذه الأعضاء بسبب المرض .
فالمعرفة المذكورة المطلوبة معرفة تفصيلية دقيقة يصعب تصورها أو الحصول عليها دون تشريح الأجسام البشرية ، ولا يمكن الاستعاضة في هذا المضمار عن الجسم البشري بجسم حيوان آخر .
فأقرب الحيوانات إلى شكل الإنسان هي مجموعة الأنواع التي تعرف بذوات الثدي أو الثدييات ، وهي التي تلد وترضع أولادها ، والشبه بينها وبين الإنسان عام ، ولكن هناك الاختلافات الكثيرة ، ولا تفيد دراسة تفاصيل جسم حيوان ثديي في فهم تفاصيل الجسم البشري التي تعين على تشخيص الأمراض في أحوال كثيرة .(2/80)
فالاعتماد على تشريح الحيوانات الثديية وحدها ، حتى أقربها إلى الإنسان شكلا لا يعطي فكرة صادقة عن تفاصيل الجسم البشري ، وقد يزرع في ذهن الأطباء عامة صورة غير صادقة عن تركيب الجسم البشري تكون سببا في ارتكاب الأطباء للأخطاء الفنية . وخير ما يدل هو إبراز بعض أوجه الخلاف .
الهيكل العظمي وما يتصل به من مفاصل وعضلات :
يختلف هيكل الإنسان عن هيكل الثدييات الأخرى في مقاييس العظام المكونة له واعتداله ، وتقوسات العمود الفقري ، وشكل الحوض والقفص الصدري ، كما تختلف نسب وأشكال عظام الأطراف والمفاصل التي بينها وخاصة اليد والقدم ، وعظام العضوين المذكورين تختلف في عددها وطرق تفصيلها والعضلات المتصلة بها ، وأما اليد فعضو إنساني بلغ في الإنسان مبلغا من الدقة لا يوجد في سائر الثدييات .
أما الرأس فنسب الأعضاء فيه مختلفة اختلافا كبيرا في سائر الثدييات فهيكل الفكين في الثدييات يكون جزءا كبيرا من الجمجمة في حين أن صندوق الدماغ فيها صغير نسبيا ، ووضع تجاويف الأنف وحجاج العين يختلف في الثدييات عن الإنسان .
الأحشاء الداخلية : الأحشاء الداخلية سواء كانت في الصدر أم في البطن - تختلف في نسبها وشكلها العام في الإنسان عن سائر الثدييات ، فمعدة الإنسان بسيطة ، وقد تكون متعددة الأجزاء في الحيوانات المجترة ، وأمعاؤه تخالف في الطول وفي الوضع أمعاء الثدييات الأخرى .
ورحم الإنسان بسيط ، وقد يكون ذا قرنين معقدين في كثير من(2/81)