فأمَّا مصالحة من صولح من العدو على مالٍ يُؤدّونه، وإقرارهم هناك على حالِ مملكتهم ومنعتهم؛ فليس هذا من باب الجزية في شيء، وهي مهادنة، ولا تجوز إلا لضرورة كما قدَّمنا في ذلك.
والجزيةُ مشروعةٌ، مأمورٌ بقبولها، والكفُّ عنهم إذا بَذلوها على شروطها، فأمرها مختلف في الوجوب والحظر.
قال عبد الملك بن حبيب (1) : إذا نزل جيش المسلمين على حصنٍ، فحاصروه الأيام، فدعا أهله إلى المصالحة على مالٍ يدفعونه ويُرحلُ عنهم، فلا يجوز قبوله إنْ رجَا المسلمون افتتاحَه، وليمضوا على محاصرتهم، وإن يئسوا من افتتاحه، بما عسى أن يَتَسنَّ ذلك لهم، فلهم أن يقبلوا ذلك، ولهم أن يحاصروا إن كانت بهم قوة على ذلك، قال: وإنْ دَعَوْا إلى الجزية، فإن كانوا بالموضع الذي يكون عليهم فيه سلطان الإسلام، ويتولاّهم من المسلمين والٍ تتأَدَّى إليهِ جِزيتهم، ويخالطهم المسلمون، وتكون قوتهم مُنبسِطة، كما هي على المعاهدين وأهل الذمة؛ لقربهم من دار الإسلام، فلازمٌ لوالي الجيش أن يقبل ذلك منهم، وإن لم يكونوا عنده بهذه (2) الصفة، وكانوا في بُعْدٍ من دار الإسلام، وبحيث
إن شاؤوا بعد قفول الجيش عنهم مَنعوا جِزيتهم، وعادوا حرباً؛ فلا يقبل ذلك منهم، حتى ينتقلوا من دارهم تِلك إلى دار الإسلام، فإن أجابوا إلى ذلك وإلا فالسَّيْف.
قال: وهكذا سمعت مُطرِّفاً، وابنَ الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصْبَغَ يقولون.
قال عبد الملك: وهذا تفسير قول مالكٍ؛ قد قال مالك محمّلاً كل قومٍ من العدوّ دعوا إلى الجزية حين أحيط بهم، فإنهم إن كانوا بموضعٍ يقدر عليهم المسلمون إنْ نزعوا، قُبِلَ ذلك منهم، وأُقِرُّوا في بلادهم، وإن كانوا بموضعٍ إن
_________
(1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/341) .
وانظر: «البيان والتحصيل» (3/64) ، فقد ذكر نحو الكلام الآتي عن ابن وهب.
(2) وضعت كلمة (بهذه) في المنسوخ بين معكوفتين، وكتب الناسخ في الهامش: ليست في الأصل.(1/564)
نزعوا لا يُقدرُ عليهم إلا بمؤنة، فإنه لا يُقبلُ منهم ما دَعوا إليه، إلاَّ على الارتحال مع المسلمين، وتَخْلِيَةِ بلادهم.
ومن الشروط على أهل الجزية: أخذهم السنة (1) بالمنع والكفِّ عن تناول شريعة المسلمين ومِلَّتهم، وتوَقِّي ما يقدح في شيءٍ من أمور دينهم بشيءٍ من المَعابةِ والطَّعن والاستخفاف، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير ما يحِقُّ له، ولو لم يُقرُّوا بصحة ذلك، ومنعهم (2) من الدعاء لدينهم، والإعلان بمعالم شرعهم في أمصار المسلمين: من ضربِ النواقيس، وبناء الكنائس، ومجتمع الصلوات، وإظهار الصَّليب ونحو ذلك.
ومن ذلك: منعهم من الإفصَاحِ والإعلان بشرْكِهم، وما يَنحلُون لله من الصاحبة والولد، تعالى الله عن قولهم عُلوّاً كبيراً.
ومن ذلك: منعهم من إظهار ما يستبيحونه من شرب الخمور، ومواقعة الفجور، وغير ذلك، مِمَّا لا يحل للمسلمين -مع الاطلاع عليه- إقراره.
ومن ذلك: أن تجري عليهم أحكام المسلمين متى دعاهم إلى ذلك خَصْمٌ، أو متى ظهَرَ منهم ظلم.
هذه كلها شروطٌ واجبةٌ لا ينبغي إسقاطُها، ولا تَرْكُ العمل بشيءٍ منها، ولا تحلُّ إجابةُ الكفار إلى أن يشترطوا إسقاط ذلك عنهم أو
شيءٍ منه، ولا يجب الوفاء لهم به إن التزمه لهم من يَعقد على المسلمين، مِمَّن لعلَّه يجهل ذلك. والدليل على صحة هذه الجُمْلة: قولُ الله -عز وجل-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ، وقوله -تعالى-: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ، وقوله -تعالى-: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] ، وقوله -تعالى-: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
_________
(1) فوق كلمة (السنة) علامة استفهام، وكأن الناسخ شك في صحة رسمها على هذا الوجه!.
(2) في هامش المنسوخ بعدها: «التبشير» . فتصبح العبارة: «ومنعهم التبشير من الدعاء لدينهم» .(1/565)
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وقوله -تعالى-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] . وفي حديث ابن عباس المتقدم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلحِ قبلتان في أرضٍ واحدة» (1) ، فهو يتضمَّن منعهم من إظهار دينهم بحضرة المسلمين، وفي أمصارهم.
وأيضاً: فقد أوجب الله -تعالى- قتل الكفار وقتالهم؛ لإعلاء كلمة الله، وحتَّى يدخلوا في الإسلام، فإنما (2) استثنى -تعالى- في الجزية الكفَّ عن قتالهم على الإسلام، فهم بأداء الجزية يُكفُّ عنهم في ذلك خاصة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 39] ، كما قال -تعالى-.
وأمَّا أن يباح لهم الاعتلاء بإظهار كفرهم وباطلهم، والتَّبسُّط بما ينافي كتاب الله -تعالى- ودينَه الحق، فذلك لم يستثْنِه الله -تعالى- لهم قط (3) . {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] .
وقال قوم من أهل العلم (4) في قوله -تعالى-: { ... وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] : أن يُجْرَى عليهم حُكمُ الإسلام، وأن لا يُظهروا شيئاً من كفرهم، ولا مِمَّا يَحْرُمُ في دين الإسلام (5) .
_________
(1) مضى تخريجه.
(2) كذا، ولعلّ صوابها: وإنّما.
(3) أثبتها الناسخ: «فقط» ، ووضع فوقها علامةً تشير إلى أنها هكذا في الأصل.
(4) هو الإمام الشافعي -رحمه الله- فيما نقله عنه البغوي في «معالم التنزيل» (3/33) ، وقبله السمعاني في «تفسيره» (2/301-302- ط. دار الوطن) ، وقال: وهذا معنىً حسن، وذكر هذا القول -ضمن عدَّة أقوال-: ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» (3/286) ، ولم ينسبه، ثم وجدته في «الأم» للشافعي -رحمه الله- (4/219) .
(5) وسيأتي -قريباً- الاختلاف في معنى الصَّغار.(1/566)
وفي كتاب عمر -رضي الله عنه- الذي كتبه له عبد الرحمن بن غنم، حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه: أن لا يُحدثُوا في مدينتهم، ولا ما حولها دَيْراً، ولا كنيسةً، ولا صومعةَ راهبٍ، ولا يُجَدِّدوا ما خربَ منها، ولا يُعلِّموا أولادهم القرآن، ولا يُظهروا شِرْكاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن لا يُظهروا صليباً، ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيّاً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيءٍ من حضرة المسلمين، ولا يبيعوا الخمور، في أشياء غير هذه، مما شرط عليهم في كتابه ذلك، وقال في آخرها: فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه؛ فلا ذمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحلُّ من أهل المعاندة والشِّقاق (1) .
_________
(1) أخرجه الخلال في «الجامع» (رقم 1000) بإسناد ضعيف.
ولكن للشروط العمرية طرقٌ كثيرة مشتهرة، جمعها القاضي أبو محمد بن زبْر في «جزء» جمعه في هذه الشروط. وقد نقلها عنه الحافظ ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/488- وما بعدها) بأسانيد صحيحة.
وأخرجه ابن حزم في «المحلّى» (7/346) من طريق سفيان الثوري، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، به.
وقال الونشريسي في «المعيار المعرب» (2/238) : «وقد ذكر -أيضاً- هذه القضية من أئمة الحديث أبو عبيد، واعتمد عليها الفقهاء من أهل كل مذهب في الأحكام المتعلقة بأهل الذمة؛ فقد ذكرها من المالكية شيخ الإسلام أبو بكر الطرطوشي في «سراج الملوك» ، والشيخ الإمام أبو عبد الله بن المناصف في كتابه «الإنجاد» ، والحافظ ابن خلف الغرناطي في «تنبيه ذوي الألباب على أحكام خطة الاحتساب» ، وذكر بعضها المحدث أبو الربيع بن سالم الكلاعي في كتابه «الاكتفاء» ، وذكرها من الشافعية: ابن المنذر وابن بدران، ومن الظاهرية ابن حزم، وغيرهم» .
قال: «وسُقناها تامّةً لاعتماد العلماء عليها، حيثما تكلموا على فصل من فصولها» .
وقال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (3/1164) : «إن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها» . وقد فصّل -رحمه الله- في شرحها شرحاً وافياً شافياً. فليراجع هناك.
وانظر: «مجموع الفتاوى» (28/652) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، و «تفسير ابن كثير» (4/91-92-ط. المكتبة التوفيقية) .(1/567)
قال عبد الملك بن حبيب (1) : قال لي مُطرِّفٌ وابنُ الماجشون وأصبغُ: إذا كان أهل ذمةٍ منقطعين عن دار الإسلام وحريمه، ولم يكن المسلمون معهم في موضعهم ذلك، فلهم إحداث الكنائس، ورَمُّ كنائسهم القديمة، والزيادةُ فيها، اشترطوا ذلك أو لم يشترطوه، ولا يُمنعوا من إدخال الخمر إليهم، ولا مِن كَسْب الخنازير عندهم، وإن كانوا في بلد المسلمين، أو في حريمه وعمله، أو في قريةٍ من قراهم، قد سكنها المسلمون معهم؛ مُنِعُوا من ذلك كُلِّه، فإن زعموا أنهم لا يريدون بيع الخمر من مسلم؛ لم يكن لهم إدخالها، لا سِرّاً ولا جهراً، ولا أن يحملوها من قرية إلى قرية، وما ظهر للإمام من خمرهم، فعليه أن يُهريقَها، ويَضْرِبَ حاملها، كان منهم أو من غيرهم، وإن خرج منهم سكران في جماعة المسلمين؛ كان عليه أن يضربه على ذلك، وكذلك إن أظهروا الخنازير في مواضع المسلمين؛ فعلى الإمام أن يأمرهم بعقرها، ويضربَ مُظهرها،
ويُغَيِّب جيفهَا عنهم إذا عقرها، وكذلك يُمنعون من إظهار صليبهم في أعيادهم، أو في استسقائهم في جماعة المسلمين، فإن أظهروا؛ فعلى الإمام أن يأمر بكسرها، ويضربهم على إظهارها، قالوا: ولو اشترطوا في صلحهم رَمَّ كنائسهم القديمة، وُفِّيَ لهم به، ومُنِعُوا من الزيادة فيها، كانت ظاهرةً أو باطنة. قالوا: ولا ينبغي لإمام المسلمين أن يشترط لهم إحداث الكنائس، فإن جهل فَفَعل؛ مُنِعوا من إحداثها، ولا عَهدَ لأحدٍ في معصية الله -عز وجل-.
قال ابن الماجشون (2) : إنما لهم بالشرط الرَّمُّ فقط. قال: وأما أهل العنوة فلا تترك لهم -عندما تُضْربُ عليهم الجزية- كنيسةٌ قائمةٌ إلاَّ هُدِّمت، ولا يُتركوا أن يحدثوا كنيسة، وإن كانوا معتزلين عن جماعة الإسلام؛ لأنهم كعبيد المسلمين، ولا شرط لهم يُوفَّى به، وإنما صار لهم عهدٌ حُرِّمت به دماؤهم حين أُخذت منهم الجزية.
_________
(1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/376) ، «الذخيرة» (3/458-459) ، «المعيار المعرب» (2/ 241-242) ، وذكر أن المصنف -رحمه الله- أورده في «الإنجاد» .
(2) نحوه في «النوادر والزيادات» (3/376) .(1/568)
وقال الشافعي (1) : «ينبغي للإمام أن يُحدِّد بينه وبين أهل الذمة جميع ما يعطيهم ويأخذ منهم، فيسمي الجزية، وأن يؤدوها على ما وُصِفت -يعني: من الصَّغار- وعلى أن يُجرى عليهم حكم الإسلام إذا طالبهم به طالبٌ، أو أظهروا ظلماً لأحد، وعلى أن لا يُذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما هو أَهلُه، ولا يطعنوا في دين الإسلام، ولا يعيبوا من حكمه شيئاً، فإن فعلوا؛ فلا ذِمَّة لهم، ويأخذ عليهم أن لا يُسْمِعوا المسلمين شركهم، وقولهم في عُزيرٍ وعيسى، فإن وجدهم فعلوا بعد التقدّم في عزيرٍ وعيسى إليهم، عاقبهم على ذلك عقوبة لا تبلغ حدّاً، وأن لا يُكرهوا أحداً على دينهم، إذا لم يُرِدْه من أبنائهم ولا رقيقهم ولا غيرهم، وعلى أن لا يُحدثوا في مصرٍ من أمصار المسلمين كنيسةً، ولا مُجتمعاً لصلاتهم، ولا ضرب ناقوسٍ، ولا حملَ خَمْرٍ، ولا إدخال خنزير، ولا يُعذِّبوا بهيمة، ولا يقتلوها صبراً -يعني: إلاّ ما كان ذبحاً مما يوافق الشرع-، وأنْ لا يدخلوا مسجداً، ولا يبايعوا مسلماً بَيْعاً يحرم في الإسلام، ولا يُسقوا مسلماً خمراً، ولا يطعموه محرماً: من لحمِ خنزيرٍ ولا غيره، ولا
يُظهروا الصليب، ولا الجماعات في أمصار المسلمين» . قال: «وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين، لم يمنعهم إحداث كنيسةٍ، ولا يَعرض لهم في خنازيرهم وخمرهم وأعيادهم وجماعتهم» .
قلت: وأمَّا ما يشترط بعد ذلك عليهم من تغيير الزِّيِّ والملبس، والهيئة في المركب، والمنع من التشبه بالمسلمين في مثل ذلك، فقد يكون هذا من المُستحبِّ غير الواجب؛ لأن ذلك كلَّه ليس فيه قدحٌ في الدين، ولا تَنَقُّصٌ على المسلمين، لكن في أخذهم بذلك زيادة الإعظامِ، والحرمة لأهل الإسلام.
فمما روي من هذا النوع عن عمر -رضي الله عنه-، أنه كان في شروط كتابه في صُلح نصارى الشام، وكتب به إلى أمراء الأجناد، يأمرهم أن يختموا في
_________
(1) في كتابه «الأم» (4/218-ط. دار الفكر، أو 5/493- ط. دار الوفاء) (باب تحديد الإمام ما يأخذ من أهل الذمة في الأمصار) ، ونقله عنه برمّته: ابن المنذر في «الأوسط» (11/18-20) .(1/569)
رقاب أهل الجزية بالرصاص، ويصلحوا مناطقهم، ويجزُّوا نواصيهم، ويركبوا على الأُكُفِ عَرْضاً، ولا يدعوهم يتشبهوا بالمسلمين في ركوبهم (1) .
قال أبو عبيد (2) في قوله: «مناطقهم» ، يعني: الزنانير.
قلت: وإنما يريد: أن يُظهروها، ويَشُدُّوا أوساطهم بها؛ ليتبيَّن الذِّمِّي من غيره. وكذلك وقع مفسراً في الكتاب الذي كتبه عبد الرحمن بن غَنم: وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم (3) .
وأما قوله: «ويركبوا على الأُكُفِ عَرْضاً» ، والأكُف جمع إكاف، ويقال: وِكافٌ -أيضاً-: وهو الأداة التي يركب عليها غيرُ السَّرج (4) .
ومعنى قوله: «عَرضْاً» : هو أن يردَّ وجهه في ركوبِه إلى جانب الدَّابَّة، ولا
_________
(1) رواه أبو عبيد في «الأموال» (ص 66-67 رقم 137) -وعنه ابن زنجويه في «الأموال» (رقم 214) - عن عبد الرحمن، والخلال في «جامعه» (رقم 992- «أحكام أهل الملل» ) من طريق يحيى بن السّكن؛ كلاهما عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم -مولى عمر-، عن عمر -رضي الله عنه-، وسقط من مطبوع «الأموال» لأبي عبيد ذكر (عبد الرحمن) .
وأخرجه عبد الرزاق -بأطول منه- في «المصنف» (6/85 رقم 10090 و10/331 رقم 19273) عن عبد الله بن عمر، به.
وأخرجه البيهقي (9/195) من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر (وفي نسخة: عبد الله بن عمر) به، نحوه.
وأخرجه (9/198) من طريق عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، به، نحوه.
ولعلَّ (عبيد الله) تصحيف من (عبد الله) ، لأن من أخرج أصل الحديث بهذا اللفظ نصَّص على (عبد الله) ، وعبد الله ضعيف. انظر: «التقريب» .
وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (11/16-17) لكن من طريق عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمرو، عن عمر، نحوه.
(2) في «الأموال» (ص 67) ؛ ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/17) .
(3) كما عند ابن حزم في «المحلّى» (7/346) ، وقد مضى تخريجه قريباً.
(4) انظر: «القاموس المحيط» (3/174- ط. دار إحياء التراث العربي) ، «لسان العرب» (9/8) .(1/570)
يستقبلها في جلوسه عليها، فتكون رجلاه كلاهما في شِقٍّ، والله أعلم.
وقد روي عن جماعة من أهل العلم (1) نحو ما رُوي عن عمر -رضي الله تعالى عنه-، في أخذهم بما يتميزون به عن المسلمين في الهيئات والأحوال (2) .
_________
(1) روي -أيضاً- عن عمر بن عبد العزيز. انظر: «الأوسط» (11/17) ، «الأموال» لأبي عبيد (ص 67) .
(2) ذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين» : (6/97-98 - بتحقيقي) (فيما يجب على المفتي عند الجواب) تحت (الفائدة الثامنة عشرة) من عدم إطلاق الجواب إذا كان في المسألة تفصيل، ومثّل على ذلك بما وقع في زمانهم. وذكر هذه المسألة، قال -رحمه الله تعالى-:
«فلا إله إلا الله، كم هاهنا من مزلة أقدام، ومحل أوهام، وما دعا محقٌّ إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاء العقول، وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب مزيّف مزخرف يستخفُّ به عقولَ ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له، وأكثر الناس نظرهم قاصر على الصور، لا يتجاوزها إلى الحقائق، فهم محبوسون في سجن الألفاظ، مقيّدون بقيود العبارات، كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112-113] .
وأذكر لك من هذا مثالاً وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وَعَظُمَ عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإسلام وإذلال الكفرة ما قرّت به عيون المسلمين، فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات، وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع، وآذوهم غاية الأذى، فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة للشرع أم لا؟ فأجابهم من مُنِع التوفيق، وصُدّ عن الطريق بجواز ذلك، وأن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلت: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه، ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المَعْنِيَّة، إن خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم ولله الحمد. =(1/571)
مسألة
اختلف أهل العلم في الجزية كيف تُجبى؟ لقوله تعالى: { ... عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فروي عن ابن عباس أنه قال: يمشون بها مُلَبَّبين (1) ، وقال قتادة: عن يدٍ: عَن قَهْرٍ، وعنه
-أيضاً-: يعطونها نقداً، يقول: عن ظهر يدٍ،
_________
= ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوّروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع، وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان الله! كم تُوصِّل بهذه الطريق إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال، وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم، ولا قريباً من ذلك، فالله المستعان» . ا. هـ كلامه -رحمه الله تعالى-.
وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (14/16) أحداث سنة (700 هـ) ما نصه: «وفي يوم الإثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة، وألزموا بها، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد، وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصّفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير، وتميّزوا عن المسلمين» ، وانظر: «أحكام أهل الذمة» (3/1295- 1299- ط. الرمادي) ، و «تشبيه الخسيس» للذهبي (ص 191- ضمن مجلة «الحكمة» العدد الرابع- بتحقيقي) .
(1) ذكره ابن الجوزي في «تفسيره» (3/286) . وقال: رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
قلت: أخرج روايته: ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن أبي بكر، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وهذا إسناد ضعيف. فأبو صالح اسمه: باذام، أو: باذان. مولى أم هانئ، ضعَّفه جماهير أهل العلم، وقال الحافظ في «التقريب» (634) : ضعيف يرسل.
ومروان بن معاوية، مع أنه ثقة حافظ، إلاّ أنه كان يدلِّس أسماء الشيوخ. كما في «التقريب» (6575) . ولم يتبيّن لي اسم شيخه.
ويحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن، الحِمَّاني -بكسر المهملة، وتشديد الميم- قال الحافظ في «التقريب» (7591) : حافظ. إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث.
أما شيخ ابن المنذر، فهو موسى بن هارون بن عبد الله الحمَّال، أبو عمران البزَّاز: ثقة، حافظ كبير، بغدادي. كما في «التقريب» (7022) .
فالأثر ضعيف. وأشار إلى ذلك الطبري عند تفسير الآية، قال: «أي: عن أنفسهم بأيديهم، يمشون بها، وهم كارهون» ، ثم قال: «وذلك قول روي عن ابن عباس من وجهٍ فيه نَظَر» .(1/572)
ليس بنسيئة (1) . وقال أبو عبيدة (2) : كل من انطاع لمن قد قهره، فأعطاه عن غير طيب نفس؛ فقد أعطاه عن يدٍ.
وقال الشافعي (3) : سمعتُ عدداً من أهل العلم يقولون: الصَّغار:
أن يُجْرَى عليهم حكم الإسلام. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يعجبه أن يَتْعَبَ أهل
_________
(1) تفسير قتادة لمعنى {عَن يَدٍ} ، أي: قهر. أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1780 رقم 10036) من طريق معمر، عن قتادة.
وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/168) إلى أبي الشيخ في «تفسيره» ، وقال به السُّدِّي. وقال الزجاج: عن قهر وذل.
وذكر ابن الجوزي في «تفسيره» (3/286) القول بأنهم يعطونها نقداً عاجلاً، ونسب هذا القول إلى شريك، وعثمان بن مقسم، وذكر أبو عبيد هذا القول، ولم ينسبه.
وانظر: «معالم التنزيل» للبغوي (3/32) ، «تفسير السمعاني» (2/301) ، «الأموال» (67-68) .
(2) في كتابه «مجاز القرآن» (1/256) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) .
وانظر: «المعيار المعرب» (2/250) فقد ذكر أن المصنف ذكره عن الشافعي -رحمه الله-.
(3) في كتابه «الأم» (4/219) (باب ما يعطيهم الإمام من المنع من العدو) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) . وذهب إليه ابن حزم في «المحلّى» (7/346 المسألة رقم 959) .
ولذا، لما ذكر ابن القيم -رحمه الله- في «أحكام أهل الذمة» (1/120-121) الاختلاف في معنى الصَّغار الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية، وقال عن عكرمة: يدفعها وهو قائم، ويكون الآخذ جالساً، وذكر عن غيره: أنه يأتي بها بنفسه ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويُجَرُّ إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف، ثم تُجَرُّ يده ويُمْتَهن.
قال بعد هذا كله: «وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك» .
ثم قال: «والصواب في الآية أن الصَّغار: هو التزامهم بجريان أحكام الملَّة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار» .
قلت: وقد بوّب أبو عبيد في كتابه «الأموال» (ص 53) لهذه المسألة باباً خاصاً، سمّاه (باب اجتباء الجزية والخراج، وما يؤمر به من الرفق بأهلها، وينهى عنه من العنف عليهم فيها) . ثم ساق أحد عشر حديثاً؛ مدلِّلاً على قوله هذا. انظر الأحاديث (110-120) .(1/573)
الجزية إذا أخذت منهم (1) ، قال أبو عبيد (2) : «لم يُرِدْ سعيدٌ فيما نرى بالإتعاب تَعْذيبَهم، ولا تَحْميلَهم فوق طاقتهم، ولكنه أراد أن لا يعاملوا عند طلبها منهم بالإكرام لهم، ولكن بالاستخفاف بهم» ، قال: «وأحسبه تأوَّل قول الله -تعالى-: { ... حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] » .
واتفق أهل العلم على أنه لا ينبغي إرهاقهم وجهدهم، وأنَّ الرِّفق بهم -إذا وفَّوا بشروط الجزية- أَوْلَى. قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] .
وخرَّج مسلم (3) ، عن عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يعطي على [ما] سواه» .
وخرَّج أبو داود (4) عن عائشة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عائشة، ارفقي! فإن الرِّفقَ لم يكن قطُّ في شيءٍ إلا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ قطُّ إلا شانَه» .
وفي البخاري ومسلم (5) ، عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جده، أن
_________
(1) أخرجه أبو عبيد في «كتاب الأموال» (ص 67 رقم 140) عن علي بن معبد، عن عبيد الله ابن عمرو الرَّقي، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد، به، ورجاله ثقات.
(2) في كتابه «الأموال» (ص 67) .
(3) في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب فضل الرِّفق) (2593) (77) .
(4) في «سننه» في كتاب الأدب (باب في الرفق) (رقم 4808) ، وفي أوله: أن شريحاً سأل عائشة -رضي الله عنها- عن البداوة؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرَّةً، فأرسل إليَّ ناقةً محرَّمةً من إبل الصدقة، فقال لي: يا عائشة، ... الحديث.
وأخرج الشقَّ الثاني منه: مسلم في «صحيحه» (2594) (78) .
قال أبو داود: قال ابن الصبَّاح [وهو أحد رواة الحديث] في حديثه: مُحرَّمة: يعني: لم تُرْكَبْ.
(5) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يكره من التنازع، والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه) (رقم 3038) .
وأخرج نحوه في عدة مواطن (رقم 4341، 4344، 4345، 6124، 7172) .
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير) (1733) (7) .(1/574)
النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، فقال: «يَسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» .
مسألة
بوَّب الترمذي (باب: ما يحل من أموال أهل الذمة) ، وأسند إلى عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، إنّا نَمُرُّ بقومٍ، فلا هم مضيفوننا، ولا هُم يؤدّون ما لنا عليهم من الحق، ولا نأخذ منهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ أبوا إلا أن تأخذوا كرهاً فخذوا» (1) . قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن.
قال: «وإنَّما معنى هذا الحديث: أنهم كانوا يخرجون في الغزو، فيمرُّون بقومٍ، ولا يجدون من الطعام ما يشترون بالثمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبوا أن يبيعوا، إلاَّ أن تأخذوا كرهاً فخذوا» . قال: «وهكذا رُوي في بعض الحديث مُفسَّراً (2) ، وروي عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأمر نحو هذا» (3) .
_________
(1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 1589) من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، به، بهذا اللفظ.
قلت: في هذا الإسناد ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ. خَلَّطَ بعد احتراق كتبه -كما قال الحافظ في «التقريب» -. فحديثه ضعيف، لا سيما وقد خالف في سياقه الليث بن سعد -وهو ثقة حافظ-. فقد أخرج حديثه البخاري في «صحيحه» في كتاب المظالم والغصب (باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه) رقم (2461) ، وفي كتاب الأدب (باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه) (رقم 6137) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب اللقطة (باب الضيافة ونحوها) (1727) (17) ، وغيرهما.
وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن نزلتم بقومٍ، فَأُمِرَ لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حقَّ الضيف» .
فأصل الحديث صحيح. انظر: «الإرواء» (رقم 2524) .
(2) ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» (5/108) كلام الترمذي هذا، وحمله على من طلب الشراء محتاجاً، فامتنع صاحب الطعام، فله أن يأخذه منه كرهاً. ولم يتعقبه.
ولم يذكر من أخرج الرواية التي فيها الامتناع عن البيع.
(3) أخرجه ابن زنجويه في كتاب «الأموال» (1/370 رقم 597) من طريق موسى بن عقبة، =(1/575)
وفي كتاب «الأموال» (1) لأبي عبيدٍ، مسنداً إلى صعصَعة، قال: سألت ابن عباسٍ فقلت: إنّا نسير في أرض أهل الذِّمَّة، فنُصيب منهم؟ قال: بغير ثمن؟ قلت: نعم، بغير ثمن، قال: فما تقولون؟ قال: قلت: حلالٌ لا بأس به، فقال: أنتم تقولون كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} !! [آل عمران: 75] .
ففي قول ابن عباسٍ هذا بيانٌ أنه لم يُرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوه بغير ثمن، لكن إذا منعوهم البيع، وبالناس حاجة إليه، أخذوا ذلك كَرْهاً بقيمته، والله أعلم.
فصل
والواجب لأهلِ الذِّمَّة إذا التزموا ما وجب عليهم من ذلك: الوفاءُ بالأمان، والحمايةُ ممن أرادهم بِعُدوان، ولهم بذلك على المسلمين عهدُ الله وذمَّتُه؛ لا تَحِلُّ دماؤهم، ولا أموالهم، ولا أبشارهم، ولابغيٌ عليهم في وجه من الوجوه، ما لم يُحْدِثوا حَدَثاً، ويحملون في مالهم، وعليهم من الحقوق على القسط والعدل الذي كتبه الله -تعالى- على المسلمين. قال الله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91] ، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن
_________
= عن نافع قال: سمعت أسلم يحدث ابن عمر: أن أهل الذمة من أهل السواد أتوا عمر، فقالوا: إن المسلمين يكلّفونا في ضيافتهم؛ إذا نزلوا ذبح الغنم والدجاج! فقال عمر: أطعموهم من طعامكم الذي تأكلون أنتم، لا تزيدوهم عليه.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
وأخرجه -أيضاً- (رقم 155) من طريق أيوب، عن نافع به، مطولاً.
وأخرجه عبد الرزاق (6/88 و10/329- مطولاً) ، وأبو عبيد (رقم 45- مختصراً) ؛ كلاهما من طريق أيوب، به.
وانظر: «أنساب الأشراف» (ص 265- ترجمة الشيخين) .
(1) «الأموال» (ص 197 رقم 415) .(1/576)
تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً
بَصِيراً} [النساء: 58] ، وقال -تعالى-: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، وقال
-تعالى-: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] .
القاسط: الجائر. وقد قَسَطَ يُقْسِطُ: إذا جار. والمُقْسِطَ: العادل. وقد أقسط، يُقْسِطُ: إذا عَدَل.
وأسند أبو بكر بن المنذر (1) إلى عمر بن الخطاب أنه قال (2) في وصيته عند موته: «أوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا، وأوصيه بذمة الله -عز وجل-، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - خيراً: أن يُقاتل من ورائهم، وأن لا يُكَلَّفُوا فوق طاقتهم» .
وذكره البخاري (3) بنحو ذلك، وزاد: أن يوفى لهم بعهدهم.
وخرَّج أبو داود (4) عن صفوان بن سُليم، أخبرَ عن عِدَّةٍ من
أبناء أصحاب
_________
(1) في «الأوسط» (باب ذكر ما يجب من حياطة أهل الذمة، ومنعهم مما يجب منه منع المسلمين (11/240 رقم الأثر 6642) ، وأخرجه أبو عبيد في «الأموال» (168 رقم 334) ؛ كلاهما من طريق عمرو بن ميمون، عن عمر.
وقوله: «أوصي الخليفة بكذا وكذا» ، قد جاء مفسراً في بعض الروايات:
فقد أخرج البلاذري في «أنساب الأشراف» (264- «أخبار الشيخين» ) من طريق أخرى، عن عمرو بن ميمون، به، قال: «أوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار، فإنهم جباة المال، وغيظ العدو، وردء المسلمين، أن يقسم فيهم بالعدل، ولا يحمل من عندهم فضل، إلا أن تطيب به أنفسهم ... » .
وانظر: «الخراج» ليحيى بن آدم (رقم 232، 236) ، «الخراج» لأبي يوسف (21، 72- ط. بولاق، أو 44، 105- ط. سلفية) ، «طبقات ابن سعد» (3/336، 339) ، «تاريخ المدينة» لابن شبَّة (3/937) ، مناقب عمر (220) .
(2) في الأصل: كان، وكتب الناسخ فوقها: كذا.
(3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يُسترَقُّون) (رقم 3052) .
وأخرجه في عدة مواطن (رقم 1392، 3700، 4888) من حديث عمرو بن ميمون، عن عمر.
(4) في «سننه» في كتاب الخراج (باب في الذمي يسلم في بعض السَّنة، هل عليه جزية؟) (رقم 3052) من طريق ابن وهب: حدثني أبو صخر المديني، عن صفوان بن سليم، به.
قلت: أبو صخر المديني، وهو: حُميد بن زياد، وهو من رجال مسلم، تكلِّم فيه، ولا ينزل =(1/577)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن آبائهم -دِنْيَةً- (1) ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصهُ، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذَ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» .
مسألة
إذا أحدث أهل الذمة حدثاً يخالف شيئاً مما أخذ عليهم في عهدهم من كافة ما ذكرنا، أنهم يؤخذون به، ويُشترط عليهم في العقد؛ فذلك على ضربين:
منه ما يُعَدُّ نقضاً لعهدهم، ومنه ما يستوجبون به عقوبة دون نقض العهد. فالذي يُنتقضُ به عهدُهم على وجهين:
منه ما يستباحون به في النفوس والأموال، من غير تقدمٍ في ذلك إليهم، إلا مواثبةً واغتيالاً، وذلك مثل أن يبتدئوا بقتال، هذا ما لا خلاف فيه، ومنه ما فيه خلاف: هل يغتالون؟ أو يُنبَذُ إليهم عهدهم، ويلحقون بمَأْمنهم، ثم يحاربون؟ وذلك بعد (2) أن يمنعوا الجزية، أو يتمردوا عن الأحكام، ويمتنعوا من الإجابة إليها، لا خلاف في هذه الثلاثة: أن لكلِّ واحد منها حكم النقض؛ لأنها تنافي عقد الذمة، فلا يصح مع واحدٍ منها.
_________
= حديثه عن مرتبة الحسن.
وقال شخينا الألباني -رحمه الله-: «وهذا إسناد حسن، رجاله موثوقون، غير أبناء الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم لم يُسَمَّوا، ولكنهم جمع تنجبر به جهالتهم. كما قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 392 رقم 1044) . ولذلك قال: «لا بأس بسنده» . وسبقه إلى ذلك الحافظ العراقي، فقال: «وإسناده جيد، وإن كان فيهم من لم يُسمَّ، فإنهم عدَّة من أبناء الصحابة، يبلغون حدّ التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة» .
نقله ابن عرَّاق في «تنزيه الشريعة» ؛ وأقره» . ا. هـ كلام الشيخ -رحمه الله-.
وأخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/205) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، به. وفيه: عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... وقال السخاوي: «وله شواهد أفردتها في «جزء» » .
(1) دِنيَةً، قال السيوطي: «بكسر الدال المهملة، وسكون النون، وفتح الياء المثناة التحتية» . والمعنى: لاصقي النَّسَب. وانظر: «عون المعبود» (8/304) .
(2) كتب الناسخ في الهامش: «بالأصل غير واضحة، فلعلها كذلك، أو: دون أن ... » .(1/578)
واخْتُلِفَ إنْ ذكروا الله -عز وجل- أو كتابه، أو رسوله، أو دينَه بما لا ينبغي؛ فقيل: حكم ذلك في انتقاض العهد به حكم الثلاثة المتقدمة؛ لأنه طعن في الدين، وقيل: حكمه حكم ما فيه ضرر على المسلمين، كما لو زنى بمسلمة، أو أصابها باسم نكاح، أو فتَنَ مسلماً عن دينه، أو قطع عليه الطريق، أو دَلَّ على عورات
المسلمين، أو آوى عيناً لأهل الحرب، أو قتل مسلماً؛ هذه سبعةٌ في كلها خلاف: هل يُنتقضُ به العهدُ أو لا يُنتقض؟ فقيل فيمن زنى بمسلمة، أو دلَّ على عورات المسلمين، أو فتن مسلماً عن دينه ودعاه إلى كفره: أنَّ كل واحدٍ من هذه الثلاثة انتقاض عهد؛ لأنه إضرار بالمسلمين، وقيل: لا يُعَدُّ انتقاضاً؛ لأنه لا ينافي عقد الذِّمَّة، ولا يتَضمَّنُ طعناً في الدِّين، وهو من الحدث الذي يعاقبون عليه.
وفرَّق قوم بين أن يكون شرطَ عليهم في العقد الانتقاض بفعل هذا ونحوه، أو أن لا يكون اشترط وقوعه نقضاً، فلا يلزم، ويُعاقبُ فاعله. وفرَّق بعضهم في الزِّنى بين أن يغْتَصِبَ المسلمة، فيُعدُّ ذلك نَقْضاً، أو يكون طوعاً منها، فَيُضرب ضرباً موجعاً.
وروي عن عمر بن الخطاب، أن نصرانياً نَخَس بغلاً عليه امرأةٌ مسلمةٌ، فوقعت، فانكشفت عورتها، فكتَبَ: أن يُصلب في ذلك الموضع، وقال: إنما عاهدناهم على إعطاء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (1) . وإنما فعل ذلك عمر؛ لأنَّ الذِّمِّيَّ كان
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/114 رقم 10167 و10/314 رقم 19216، و363 رقم 19378) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/201) ، وأبو يوسف في «كتاب الخراج» (178) ، وأبو عبيد في «الأموال» (235 -236 رقم 486 و487) ، وابن زنجويه في «كتاب الأموال» (1/435 رقم 708) ، والخلال في «أحكام أهل الملل» (267 رقم 764) ، من طرقٍ عن مجالد عن الشعبي، عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رجلاً يهودياً أو نصرانياً، نخس بامرأة مسلمة ... وفيه قصَّة.
وفي بعض طرقه ذكر سويد بن غفلة بين الشعبي وعوف بن مالك، وقال البيهقي -وقد أخرجه من طريق مجالدٍ عن الشعبي- قال: تابعه ابن أشوع عن الشعبي، عن عوف بن مالك.
قلت: ومجالد وهو ابن سعيد بن عمير الهَمداني، أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في «التقريب» (6478) : ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. =(1/579)
تعمَّد إيقاعها والتكشف عليها؛ رُوي ذلك مفسراً في بعض القصة. وكذلك قال قومٌ في قطع الطريق، وفي القتل الموجب
مثله للقصاص بين المسلمين: أنَّ كل ذلك يُعَدُّ نقضاً من فاعله. وقال قوم (1) : لا يُعدُّ نَقْضاً، وإنما فيه إجراء حكم المسلمين عليه في حَدِّ الحرابة والقتل.
وقال الأوزاعيُّ (2) فيمن آوى عيون أهل الحرب، أو خبَّر بعورة المسلمين: ذلك نقضٌ، فإن شاء الوالي قتَلَهُ، وإن شاءَ صلبَه. ونحوه يُروى عن بعض المالكية (3) ، ولم يره الشافعي وأبو حنيفة (4) نقضاً، وقال الشافعي (5) : يُعَزَّرُ ويُحبسُ عقوبة.
_________
= وابن أشوع، اسمه: سعيد بن عمرو بن أشْوعَ الهَمداني.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2368) : ثقة، رمي بالتشيع.
ومتابعة ابن أشوع -هذه - من طريق إسماعيل ابن علية، عن خالد الحذاء، عنه، ذكرها الخلال في «أحكام أهل الملل» (رقم 763) عن أحمد.
وأخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (1/434 رقم 707) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عمر.
وهذا إسناد ضعيف. فالشعبي لم يدرك عمر، فهو منقطع.
وانظر: «أحكام أهل الذمة» (3/1351، 1367)
(1) وهم الحنفية. انظر: «الهداية» (2/456) ، «اللباب» (4/148) ، «البناية» (5/842) .
قالوا: لأن الغاية التي ينتهي بها القتال: التزام الجزية، لا أداؤها، والالتزام باق.
(2) نقل مذهبه ابن المنذر في «الأوسط» (11/283، 285، 328) .
(3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/536-537) ، «النوادر والزيادات» (3/352- 353) ، «أحكام أهل الذمة» (3/1374) .
(4) وذلك على أصول مذهب الحنفية -كما مضى- أن غاية عدم قتالهم إلتزامهم الجزية، والالتزام باقٍ.
انظر: «الهداية» (2/456) ، «اللباب» (4/148) ، «البناية» (5/842) .
وانظر: «الأوسط» (11/286) .
(5) في «الأم» في كتاب الحكم في قتال المشركين، ومسألة مال الحربي (باب المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين) (4/265-ط. دار الفكر) .
ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/283، 285) . =(1/580)
وكلُّ ما ذكرنا مما فيه الخلافُ، هل يُعَدّ نقضاً أو لا؟ فالخلاف فيه إذا عُدُّ نقضاً: هل يُغتالُ، أو يُرَدُّ إلى مأمنه؟
والأرجح -إن شاء الله- في كل ما كان فيه طعنٌ في الدِّين، وكان مما لا يَدينون به في مِلَّتهم؛ أن يُعَدَّ ذلك نقضاً يُستباح فاعله، قال الله تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12] .
فأمَّا إن كان مما يدينون باعتقاده، كقولهم في المسيح
وعزيرٍ ونحو ذلك، فلم يجرِ مَجرى قصد الطّعن؛ فلا يدخل في ذلك، والله أعلم.
وكذلك الأرجح فيمن فعلَ ما يُعدُّ نَقضاً أن يُغتال، ولا يجب رَدُّهُ إلى مأمنه؛ لأنه بعد نقضه العهد لمْ تَبقَ له حُرمةٌ فيه، ولا شُبْهَةُ حُرمةٍ يتعلَّقُ بها أمان، بخلاف من يتوقع منه خيانة وهو لم يفعل بعد، فذلك هو الذي يُنبذُ إليه، ويردُّ إلى مأمنِه، أوما كان في معناه، وكذلك فِعلُ عُمَرَ حين أمر بصَلبِ العلْج الذي تعمَّد كشف المرأة المسلمة، ورُوي مِثلهُ عن أبي عبيدة بن الجراح، أنّه قتل نصرانياً استكره مسلمة على الزِّنى، ولم يَردَّه إلى مأمنه (1) . ورُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلح أهل خيبر على أموالهم، وأن لا يكتموا منها شيئاً: أن الربيع وكنانة ابني أبي الحُقيق (2) كتماه بعضَ ذلك، قال ابن عباس: فقدمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضرب أعناقهما، قال:
_________
= وعدَّه العمراني -من الشافعية- في «البيان» (12/324) نقضاً للعهد.
وذكر في موطن آخر (12/387) الاشتراطَ في ذلك، فإن لم يُشْترط على أهل الذمة ذلك، فلا ينتقض. وانظر: «المجموع» (21/412، 413) .
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/115-116 رقم 10170 و10/364 رقم 19381) عن ابن جريج، قال: أخبرت أنّ أبا عبيدة بن الجراح، قتل كذلك رجلاً أراد امرأةً عن نفسها. والإسناد فيه مجهول، وهو الذي أخبر ابن جريج بهذه الحادثة. فهو ضعيف.
وأخرج مثله عن أبي هريرة. ويغني عنه أثر عمر، وهو صحيح بطرقه.
وانظر: «أحكام أهل الملل» (266 رقم 763) ، و «أحكام أهل الذمة» (3/1349) .
(2) سقطت كلمة (أبي) من منسوخ أبي خبزة.(1/581)
ثم بعث إلى ذريتهما، وأُتِيَ بصفيّة، ذكره ابن المنذر (1) .
ورواه أبو عبيد في كتابه «الأموال» (2) ، عن علي بن مَعبد، عن
أبي المليح،
_________
(1) في «الأوسط» (11/329 رقم 6694) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقسم، عن ابن عباس، به، مطولاً، وفيه قصة.
وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/106-ط. مكتبة الخانجي) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (6/152- 153) ، ثم قال: رواه الطبراني. وفيه محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
وللحديث أصل صحيح، أخرجه البخاري في عدة مواطن من «صحيحه» (رقم 4213) وغيرها، مطولاً، ومختصراً من حديث أنس -رضي الله عنه-، وليس فيه ذكر قتل ابني أبي الحُقَيْق. ووقع ذكر قتلهما عند أبي داود (رقم 3006) ، والبيهقي (9/137) بإسناد حسن، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وانظر: «دلائل النبوة» للبيهقي (4/229) ، «سيرة ابن هشام» (3/336- مؤسسة علوم القرآن) ، «مغازي الواقدي» (2/683، 4/208) ، «السيرة النبوية» لابن كثير (3/377) ، «شرح المواهب اللدنية» (2/139) ، «زاد المعاد» (3/325-326) .
(2) في «الأموال» (ص 216 رقم 458) .
وأخرجه عنه: ابن زنجويه في «كتاب الأموال» (1/410 رقم 676) ، والبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 40) .
وأخرجه البلاذري (ص 39) عن أبي عبيد به، مختصراً، مقتصراً على الخبر إلى قوله: «ثلاثين ليلة» .
وهذا إسناد ضعيف؛ لإرساله. فميمون بن مهران مات سنة (117هـ) كما في «التقريب» (2/292) .
وأخرجه أبو عبيد (ص 217 رقم 259) -وعنه ابن زنجويه (1/411 رقم 679) -، عن حجاج بن محمد، والبلاذري (ص 40) ، عن إسحاق بن أبي إسرائيل؛ كلاهما عن ابن جريج، عن رجل من أهل المدينة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح ابني أبي الحقيق على أن لا يكتموه كنزاً، فكتموه، فاستحلّ بذلك دماءهم.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، ففيه مجهول، ويستبعد كونه صحابياً؛ لأن ابن جريج من أتباع التابعين، ثم إنه مدلس، وقد عنعن هنا.
وأخرجه ابن زنجويه (1/411 رقم 678) من طريق عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم أمكني من بني أبي الحقيق في غير عهد ولا عقد ... » وفيه قصّة.
وهو مرسل ضعيف. وعبيد الله بن أبي زياد -وهو القداح-، قال الحافظ في «التقريب» =(1/582)
عن ميمون بن مهران، قال: حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر، ما بين عشرين ليلة إلى ثلاثين ليلةً، وإنَّ أهل الحصن أخذوا الأمان على أنفسهم، وعَلى ذراريهم، وعلى أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل شيءٍ في الحصن، قال: وكان في الحصن أهلُ بيتٍ، فيهم شدّةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفُحشٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني الحُقيق (1) ، قَد عرفتم (2) عداوتكم لله ولرسوله، ثم لم يمنعني ذلك من أن أعطيكم ما أعطيت أصحابكم، وقد أعطيتموني أنكم إن كتمتم شيئاً، حَلَّت لنا دماؤكم. ما فَعَلت آنيتكم: فلان وفلان؟» . قالوا:
استهلكناها في حربنا. قال: فأمر أصحابه، فأتوا المكان الذي فيه الآنية، فاستثاروها. قال: ثم ضُرِبت أعناقهم.
فهذا كلُّه ليس في شيءٍ منه الرَّدُّ إلى المأمن، فلا يجب ذلك، والله سبحانه أعلم.
وأما الضرب الثاني: وهو ما لا يُعدُّ من أفعال أهل الذِّمَّة نقضاً، وإنما يستوجبون به التعزير والعقوبة، فمثل: إظهار الخمر والناقوس، والإعلان بمعتقدهم في المسيح، وغير ذلك مما لا يباح لهم، وليس من أقسام الضرب الأول، التي هي مُنحصرة في ثلاثة معانٍ: ما يرجع إلى منافاةِ العقد، والطَّعنِ في الدِّين، والإضرارِ بالمسلمين.
وزعمت الشافعية: أنّ هذا الضرب الثاني لا يُعدُّ نقضاً، وسواءٌ شُرِطَ عليهم الانتقاضُ بفِعله أو لم يُشترط، قالوا: وإنما يُحملُ اشتراطُ النَّقْضِ بمثل هذا على
_________
= (4292) : ليس بالقوي.
وأصل القصة صحيحة، ثابتة في «صحيح البخاري» (2328، 2329، 2331) ، ومسلم (1551) مختصرة، وهي مطولة عند ابن حبان (5199) ، والبيهقي (6/114) ، وفي «الدلائل» (4/ 229-231) بإسنادٍ رجاله ثقات، وقاله ابن حجر في «الفتح» (7/479) ، وصححه شيخنا الألباني في «تخريج أحاديث فقه السيرة» (273) .
(1) كذا في الأصل، وفوقها علامة (صح) ، وفي هامش المنسوخ: «كذا قال الراوي، وإنما هم: بنو أبي الحُقيق» . وهو الموافق لما عند أبي عبيد في «الأموال» .
(2) كذا في الأصل والمنسوخ، وفي مطبوع «الأموال» : عَرَفْتُ.(1/583)
الإرهاب والتخويف، فلا يجب في ذلك على كلِّ حالٍ إلا التعزير (1) .
فأقول: أما إذا لم يشترط عليهم الانتقاض به فهو ظاهر، وأما إن كان اشترط عليهم في عهدهم أنهم إن أظهروا شيئاً من ذلك؛ فلا ذِمَّة لهم، وقد عادوا بذلك حرباً، فالوجه: أنَّ ذلك على ما شُرِطَ، وهو ظاهر ما في كتاب عُمَر -رضي الله تعالى عنه- في عَقْدِهِ الذِّمة لنصارى الشام؛ لأنه قال في آخره، بعد أن ذكر فيه هذه الشروطَ المعدودةَ في الضَّربِ الثَّاني وغيرها: «فإن خالفوا شيئاً ممَّا شرطوه، فلا ذِمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشِّقاق» (2) .
ومما يدل على صحة هذا المذهب: ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل ابني أبي الحُقيق، وسَبي ذريتهما، حين شرط عليهما استباحة ذلك منهما إن كتماه (3) .
وأيضاً؛ فإنَّ العهد الذي به حرم ذلك منهم، لم يتناول إلا ما وافق صفته وشَرْطَه، فإذا خالفوا شيئاً من ذلك، وقد كان اشترط عليهم
أنْ لا عهدَ لهم إذا خالفوا شيئاً من ذلك؛ فلم يبقَ لهم عهدٌ كالحربي، والله أعلم.
مسألة
إذا نبذَ أهل الذِّمَّة العهد إلى المسلمين، فإنهم لا يغتالون، ويلحقون بالمأمن عند الشافعي قولاً واحداً (4) ، فإن خرجوا من غير أن يُعلموا بذلك، وهربوا إلى بلاد الحرب، فقد قيل: إن كان ذلك من ظلمٍ أو جورٍ رَكِبَهم مما يُعرفُ عُذْرهم فيه لم يُعدَّ ذلك نقضاً، ولم يُستباحوا في نفسٍ ولا مال، وهو إمّا أن يُخلَّى سبيلُهُم، أو يُعادوا إلى
_________
(1) انظر: «الأم» (4/198-199) ، «مختصر المزني» (ص 280) ، «روضة الطالبين» (10/ 330) ، «منهاج الطالبين» (3/300) ، «الحاوي الكبير» (18/448) ، «البيان» (12/288) ، «المجموع» (21/413) .
(2) مضى تخريجه.
(3) مضى تخريجه قريباً.
(4) انظر: «الأم» (4/196) ، «مختصر المزني» (ص 280) ، «روضة الطالبين» (10/338) ، «منهاج الطالبين» (3/306) ، «الحاوي الكبير» (18/442) ، «البيان» (12/328) ، «المجموع» (21/406) .(1/584)
ذمتهم، ويُزال الظلم عنهم، وكذلك لو أُشكِلَ أمرهم، ولم يُعرفْ صدقهم مِنْ كذبهم إذا ادَّعَوا ذلك؛ فلا يُستباحوا، حتى يتبيَّنَ أنهم نَقَضُوا أَشَراً، على غير شيءٍ من تحت إمام عادل.
رُوِي ذلك عن ابن القاسم وأصبغ (1) . قال أبو الوليد بن رشد (2) : وذلك صحيحٌ على مذهب مالكٍ وأصحابهِ، وقال غيره (3) : بل لا عُذرَ لهم إذا خرجوا إلى بلاد الحرب ونقضوا، وإن كان ذلك من جور أو غيره؛ لأنهم لم يعاهدوا على مثل ذلك، كأنه يعني: أنَّ عليهم أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام إن رَجوا عنده زوالَ ذلك، أو ليأذن لهم في التحول. قال اللخمي: لأنهم رَضُوا بِطرح ما عُقِدَ لهم، وإسقاطِ حَقِّهم فيه.
مسألة
إذا نقض أهل الذمة العهد وقاتلوا، فظفر بهم المسلمون، ففي استباحة نسائهم وذراريهم بالسبي خلاف، فعن مالكٍ وجميع أصحابه: أن أهل
الذمة قد صاروا بذلك حرباً: يسبون ويقتلون، إذا لم يكن عذر من ظَلامَةٍ أو جَوْرٍ، وخالفهم أشهب؛ فمنع السِّباء، قال: لا يعود الحرُّ إلى الرِّقِّ أبداً، قال أبو الوليد بن رشد في «شرح مسائل العتبية» (4) : «ما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر؛ لأن الحرية لم تثبت لهم بعتاقةٍ من رقٍّ متقدم، فلا ينتقض، إنما تركوا على حالهم من الحرية التي كانوا عليها آمنين؛ بما بذلوه من الجزيةِ على شرطها ما بذلوها، فإذا منعوا الجزية، لم يَصِحَّ لهم العوض، وكان للمسلمين الرجوع فيه، وذلك -أيضاً- كالصلح بين المسلمين وأهل الحرب على شروط، فإذا لم يَفُوا بها، انتقض
_________
(1) انظر: «البيان والتحصيل» (2/609، 3/12) ، «النوادر والزيادات» (3/344، 347) .
(2) في «البيان والتحصيل» (3/12) .
(3) هو أشهب -من أصحاب مالك- كما في «البيان والتحصيل» (3/12) .
(4) «البيان والتحصيل» (2/610) . والكلام السابق منه -أيضاً-.(1/585)
الصلح» . وذكر احتجاج ابن الماجشون لذلك بما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبي قريظة وغيرهم، فزعم أن لا حجة في ذلك؛ لأن الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبني قريظة وغيرهم من اليهود، إنما كان مهادنةً وهم في بلادهم، لم يكونوا كأهل الذمة الذين غُلِبوا، فأقِرُّوا تحت ملكة المسلمين على أداء الجزية (1) .
فأقول: أمّا ما احتج به أبو الوليد على أشهب في أول كلامه فصحيح، وأما ردُّه على ابن الماجشون فيما احتج به ابن الماجشون من سبي قريظة، فغير مستقيم، بل هوحجةٌ بيِّنةٌ كما ذكر ابن الماجشون وغيره.
خرَّج مسلم (2) عن ابن عمر، أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأَقَرَّ قريظة، وَمَنَّ عليهم، حتى حاربته قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقَسَم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين.
وإذا ثبت أن أهل الذمة الذين ضربت عليهم الجزية لم يكونوا عبيداً أُعتقوا، كما أقرَّ به أبو الوليد (3) ، وجعله حجته في الرَّد على
أشهب؛ فأيُّ فرقٍ بينهم وبين كلِّ من له عهد سواهم في (باب: النقض، وما يستحقه الناقض للعهد من العقوبة والقتل والسبي) ، وهم سواء في أصل الكفر ونكث العهد؟! ثم هو -أيضاً- قد سوَّى بينهم في كلامه في (باب: النقض) وقاسهم على أهل الصلح، حيثُ قال (4) : «وذلك
-أيضاً- كالصلح بين المسلمين وأهل الحرب على شروط، فإذا لم يفُوا بها، انتقض
_________
(1) إلى هنا انتهى الكلام من «البيان والتحصيل» . بتصرف يسير.
وانظر: «المدونة» (1/510) ، «جامع الأمهات» (254) ، «الكافي» (1/483) ، «النوادر والزيادات» (3/343) ، وما فعله - صلى الله عليه وسلم - في سبي قريظة يأتي تخريجه -قريباً-.
(2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب إجلاء اليهود من الحجاز) (1766) (62) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (رقم 4028) .
(3) في «البيان والتحصيل» (2/610-611) .
(4) نقل كلامه -أيضاً-: ابن رشد في «البيان والتحصيل» (2/610) .(1/586)
الصُّلح» . فكيف يُفرِّقُ بينهما في الحكم بعد أن ساوى في المعنى وهو النكث؟! هذا ما لا خَفَاءَ باستوائهما فيه؛ لأنه بالنَّكثِ يعود الجميعُ حَرْباً، وإنما يختلفون في حكم الجزية من الأداء المحدود على الشروط المشروعة، كما أنَّ المهادنة -أيضاً- قد تختلف الشروط فيها -أيضاً-، وأصلُ العهد واحدٌ، وإنما الكلام في حكم النَّقض الذي هو واحدٌ في جميع ذلك؛ فسَبيُ قُريظةَ في هذا الباب أصلٌ، كما ذهبَ إليه ابن الماجشون (1) وغيره (2) .
وكان أحمد بن حنبل يقول في ذراري أهل العهد إذا نَقَضوا: كلُّ مَنْ وُلِدَ بعد النَّقْضِ يُسْبَوْن، ومن كان قبل ذلك لا يُسْبون (3) . وهذه التفرقة منه وإن أدَّى إليها نَظرٌ يُستشعرُ صوابه، فالقاضي عليه: ما ثَبتَ من فِعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسَبيه جميعَ ذُرِّيةِ النَّاقضين، مِمَّن تقدم منهم على النقضِ أو
تأخر، وكان الذي يظهر من معنى ذلك -والله أعلم-: أنَّ السَّبْيَ من النِّساء والذرية لمَّا لم يكن حُكمهم القَتْل، صاروا في باب عَقْد الأمان تَبَعاً للرجال كالمال، فإذا اسْتُحِقَّ دِماءُ رجالهم فقتلوا، سقط الوجه الذي كان وجبَت به الحرمة لهم، فاسْتبيحَ ما كان تحت أيدي رجالهم من أهلٍ ومال. وقال ابن القاسم في أهل الذمة إذا نقضوا وحاربوا: إنَّ مَنْ عُلِمَ منهم أنه مغلوبٌ على أمره، وأنه لم يُعنْ، مثل الضعيف والشيخ الكبير
_________
(1) نقل كلام ابن الماجشون -أيضاً-: ابن رشد في «البيان والتحصيل» (6/611) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/346) .
(2) كالأوزاعي، وأصبغ -من أصحاب مالك-؛ نقل ذلك عنهما القيرواني في «النوادر» .
(3) انظر: «المغني» (13/153) ، «المقنع» لابن البنا (3/1184) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/575) ، «شرح الزركشي» (6/533) ، «الواضح شرح مختصر الخرقي» (2/272) ، «الإنصاف» (6/ 256) ، «المبدع» (3/434) ، «الفروع» (6/288) ، «المحرر» (2/188) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/ 255- رواية الكوسج، 1/311-312- رواية ابنه صالح، 3/846-847- رواية ابنه عبد الله) .
وقد نقل المصنف مذهب الإمام أحمد عن ابن المنذر في «الأوسط» (11/330) .
وهو مذهب الحسن البصري، فيما نقله عنه ابن قدامة في «المغني» .(1/587)
الزمن، فلا أرى أن يستباحوا بقتلٍ ولا استرقاق، وأما الذرية -يعني ذرية الناقضين منهم- فيُسْتَرَقُّون (1) .
ففرَّق ابن القاسم بين الذُّرِّيَّة، وإن كانوا لا يوجد منهم قتال، ولا إعانة في نقض، وبين من علم أنه مغلوب من الرجال، إنما أرى (2) ذلك -والله أعلم- لأنَّ الذريةَ تَبَعٌ في الحكم لرجالهم الذين نقضوا كما تقدم، وليس كذلك من له حكم نفسه من الرجال، فإنَّ أحداً لا يؤخذ بجريرة أحد، وكذلك يجب أن يكون الحكم في ذراري هؤلاء المستضعفين من رجالهم، الذين عُلِمَ أنهم لم يكن منهم في ذلك النقض عملٌ ولا رِضىً، فلا يباح سَبْيُ ذراريهم؛ لأنهم تَبعٌ في الحكم لهم، وإنما تكلَّم ابن القاسم على ذراري الناقضين دونهم، وقال غيره من أصحاب مالك، منهم ابن الماجشون (3) وغيره (4) : «إنَّ نَقْضَ كبارهم يُعَدُّ نقضاً عليهم، كما أن صُلحَهم صُلحٌ عليهم» ، فلم يفرقوا بين المستضعفين وغيرهم، وحملوهم في ذلك محمل الذرية. قال أبو الوليد بن رشد (5) : لا ينبغي أن يختلف فيهم إذا عُلم أنهم مغلوبون ومُكْرَهون غير راضين؛ لقوله -تعالى-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] ، ويحمل الخلاف على من
جُهِل أمره، وادَّعى الإكراه.
وقال الأوزاعي (6) : أهل العهد لا تؤخذ العامة منهم بنقض الخاصة، وقاله
_________
(1) نقله عنه ابن رشد في «البيان والتحصيل» (6/609) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/346) .
(2) كذا في الأصل والمنسوخ، وفي هامش المنسوخ: «كذا. ولعلها: رأى» .
(3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/611) .
(4) مثل أصبغ، وابن حبيب. كما في «البيان والتحصيل» .
(5) المصدر السابق. وانظر: «النوادر والزيادات» (3/346) .
(6) مقالة الأوزاعي هذه ضمن رسالة طويلة كتبها إلى صالح بن علي، أورد أبو عبيد في كتابه «الأموال» (ص 222- 223 رقم 467) قطعةً منها، فيها هذه العبارة.(1/588)
أبو عبيد (1) ، وجماعةٌ من أهل العلم (2) ، قال أبوعبيد: «إلاَّ أن يكون ذلك بممالأةٍ منهم، ورضىً بما صنعت الخاصة؛ فهناك تحل دماؤهم» . وقال سفيان بن عيينة (3) : «الذي انتهى إلينا من العلم أنَّ من نقض شيئاً مما عوهدوا عليه، ثم أجمع القوم على نقضه، فلا ذمة لهم» . وَذَكَر أهلَ مكةَ ونَقْضَهم، وقال: «لا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاهد قوماً فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم، غير أهل مكة: فإنه مَنَّ عليهم، وإنما كان نَقضُهم الذي استحلَّ به غزوهم: أن قاتلت حلفاؤهم مِنْ بني بكر، حلفاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خزاعة، فنَصَر أهلُ مكةَ بني بكر علىحلفائه؛ فاستحلَّ بذلك غَزوهم» (4) .
_________
(1) في كتابه «الأموال» (ص 228) .
(2) وعلى رأسهم علي -رضي الله عنه-.
أخرج أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 228-229 رقم 476) -واللفظ له-، وابن زنجويه في «الأموال» (رقم 692) ، والدارقطني في «السنن» (3/131) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/184) : حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز: أن عليّاً نهى أصحابه أن يبسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثاً. قال: فأخذوا عبد الله بن خباب فانطلقوا به، فمروا على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها بعضهم، فألقاها في فيه، فقال له بعضهم: تمرة معاهد، فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا بخنزير، فنفحه أحدهم بسيفه، فقال له بعضهم: خنزير معاهد، فبم استحللته؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: ألا أدلكم على ما هو أعظم حرمة من هذا؟ قالوا: بلى. قال: فقتلوه. فبلغ ذلك عليّاً، فأرسل إليهم: أن أقيدونا بعبد الله بن خباب. فقالوا: كيف نقيدك بعبد الله، وكلنا قتله؟ فقال علي: أَوَكُلُّكُم قتله؟ قالوا: نعم. قال: الله أكبر. ثم أمر أن يبسطوا عليهم. وإسناده صحيح.
قال أبو عبيد: أفلا ترى أن علياً -عليه السلام- لم يستجز قتال عوامهم بما أحدثت الخاصة، حتى انتحلوه جميعاً، وتواطؤوا عليه؟ فكذلك أمر النكث، وكذلك لو أن بلاداً افتتحت فكان بعضها عنوة؛ وبعضها صلحاً، لا يُعرف هذا من هذا؛ أُمْضِي كله على الصلح، مخافة التقدم على الشبهة.
(3) نقله عنه أبو عبيد في «الأموال» (ص 224 رقم 470) .
(4) انظر قصة غزوة فتح مكة وسببها بالتفصيل في:
«طبقات ابن سعد» (2/134) ، «سيرة ابن هشام» (4/3) ، «مغازي الواقدي» (2/780) ، «أنساب الأشراف» (1/170) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/126) ، «تاريخ الطبري» (3/ 42) ، «عيون الأثر» (2/212) ، «البداية والنهاية» (4/278) ، «نهاية الأرب» (17/287) ، «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني (2/288) ، «السيرة الحلبية» (3/81) ، «السيرة الشامية» (5/304) ، «سبل الهدى والرشاد» (5/200) .(1/589)
فإذا تقرر ذلك، فالناقضون على ثلاثة أحوال: إمّا أن يُعلم تمالؤهم ورضاهم به، فهؤلاء يستباح جميعهم بلا خلاف، وإما أن يُعلمَ من نَقَضَ بعينه، وأنَّ من سواه -أو قوماً بأعيانهم- لم يعاون، ولم يَرْضَ بفعل من نقض؛ فلا ينبغي أن يُستباح من لم يرض منهم بحال. قال الله -تعالى-: {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] . وقال -تعالى-: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] .
والثالث: أن يُشكل الأمر: فلا يُعرف من نَقَضَ منهم مِمَّن لم يَنْقُضْ، فهذا موضع النظر ومحلُّ الخلاف، والله أعلم.
مسألة
اختلف أهل العلم في الواجب في حكم من قتل ذمياً ظلماً،
فذهب أبو حنيفة وأصحابه وابنُ أبي ليلى وعثمانُ البَتِّيُّ إلى أن
المسلم يُقتلُ بالذِّمِّي (1) ، وهو قول الشعبي وإبراهيم النخعي (2) . وذهب
_________
(1) وهو أحد قولي أبي يوسف في المشهور عنه. انظر: «المحلى» (10/348) ، «حلية العلماء» (7/449) .
وانظر في مذهب الحنفية: «شرح معاني الآثار» (3/192-196) ، «مختصر الطحاوي» (230) ، «القدوري» (89) ، «اللباب» (3/144) ، «الجوهر النقي» (8/34) ، «الهداية» (4/504) ، «عمدة القاري» (24/40) ، «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) ، «الاختيار» (5/27) ، «رد المحتار» (6/ 534) ، «البناية» (10/23، 27) ، «فتح القدير» (10/217) ، «تبيين الحقائق» (6/103) ، «المبسوط» (26/ 131) ، «رؤوس المسائل» (454) ، «تحفة الفقهاء» (3/145) ، «مجمع الأنهر» (2/619) ، «حاشية ابن عابدين» (6/527) ، «البحر الرائق» (8/337) ، «أحكام القرآن» للجصاص (1/173) ، «ملتقى الأبحر» (2/286) .
(2) قالا: المسلم الحر يقتل باليهودي والنصراني.
وروي عنهما أنه يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي.
انظر: «المحلَّى» (10/347-348) ، «المجموع» (17/197) ، «المغني» (11/466) ، «عون =(1/590)
الأوزاعي (1) ، ومالك (2) ، والشافعي (3) ، والليث، والثوري، وأحمد (4) ، وإسحاق،
_________
= المعبود» (4/304) ، «نيل الأوطار» (7/11-12) .
واعتمد أصحاب هذا القول على أحاديث لم تصح. انظر ذلك بتفصيل في: «بيان الوهم والإيهام» (2/330-331) ، «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيم (6/330) ، «تنقيح التحقيق» (3/ 254-257) ، تعليقي على «سنن الدارقطني» (رقم 3213-3216) ، «نصب الراية» (3/335-336) ، «معالم السنن» (4/37-38) ، «فتح الباري» (12/262) ، «الدراية» (2/262) ، «نيل الأوطار» (7/11) ، «سبل السلام» (3/285) ، «أحكام الجناية» (160-165) .
وانظر -أيضاً-: «الإشراف» لابن المنذر (رقم 1257) ، «المغني» (11/469- وما بعدها) ، «المحلَّى» (10/347- وما بعدها) ، «نوادر الفقهاء» (ص 207) ، «الإفصاح» (2/190) .
(1) نقل ذلك عن الأوزاعي والثوري: الجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) .
وانظر: «المغني» (11/466) ، «المحلّى» (10/350) ، «الاعتبار» (190) ، «شرح السنة» (10/ 175) ، «تحفة الأحوذي» (2/312) ، «فقه الأوزاعي» (2/271) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (295) .
وحكى القرطبي في «تفسيره» (2/246) عن الكوفيين وسفيان الثوري: أن المسلم يقتل بالكافر.
(2) انظر: «الموطأ» (2/872) ، «المنتقى» (7/97) ، «المدونة» (4/444) ، «التفريع» (2/ 216) ، «الرسالة» (238-239) ، «الكافي» (587) ، «مقدمات ابن رشد» (3/337) ، «المعونة» (2/ 1302) ، «جامع الأمهات» (ص 491) ، «عارضة الأحوذي» (6/180-183) ، «بداية المجتهد» (2/ 399) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي (4/81 المسألة رقم 1427- بتحقيقي) ، «أسهل المدارك» (3/115) ، «مواهب الجليل» (6/233) ، «حاشية ابن شاط على الفروق» (4/190) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/231) ، «الموافقات» (1/300، 324- بتحقيقي) ، «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/3) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (1/61) .
(3) انظر: «الأم» (6/40) ، «المهذب» (2/174) ، «الوجيز» (2/125) ، «حلية العلماء» (7/449) ، «المنهاج» (ص 123) ، «معرفة السنن والآثار» (12/191 رقم 16429) ، «مختصر الخلافيات» (4/323 المسألة رقم 263) .
(4) انظر: «المغني» (11/465- 467- ط. هجر) ، «شرح الزركشي» (6/63) ، «المقنع» (3/ 1051) ، «الواضح» (2/167) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/341) ، «مسائل الإمام أحمد» (68، 80، 89- رواية الكوسج، 1/483 و3/60، 81- رواية صالح، 227- رواية أبي داود، 2/87-88- رواية ابن هانئ، 3/1227-1228- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/417 المسألة رقم 1669) ، «رؤوس المسائل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1079) .(1/591)
وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود (1) ، وغيرهم (2) ، إلى
أنه لا يُقْتَلُ مؤمن بكافر، إلا أن مالكاً والليث قالا (3) : إن قتله قَتْلَ غِيلةٍ قُتِلَ به، وقَتلُ الغيلة عندهم: أن يقتله على ماله، لا يقتله لنائرة (4) ، ولا عداوة؛ كأنهم رأوا فِعله ذلك كفعل المحارب، فرأوا قتله واجباً كحدٍّ الحرابة، ولهذا لم يرَ مالكٌ (5) لوليِّ دَمِ مَنْ قُتِلَ غيلةً أن يَعْفُو عنه، وجعل قتله لازماً على كل حال.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور: أن لا يقتل المؤمن بالكافر؛ لأن دماء
_________
(1) انظر مذاهب المذكورين في: «المحلّى» (10/349-350) ، «حلية العلماء» (7/449) ، «المغني» (11/466) ، «الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي» (ص 461) .
(2) روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية -رضي الله عنهم-.
وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، وابن المنذر. فيما نقل ذلك عنهم: ابن قدامة في «المغني» (11/466) .
وانظر: «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) ، «معالم السنن» (6/329) ، حلية العلماء» (7/449) ، «المحلّى» (10/349-350) .
وإليه رجع زفر بن الهذيل -من أصحاب أبي حنيفة-؛ قال ابن حزم (10/350) : روينا ذلك من طريق أبي عبيد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عنه.
وصحح ابن حزم (10/349) عن عمر بن عبد العزيز أنه إن شاء قتله، وإن شاء عَفَى عنه.
وذكره من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن ميمون، عن عمر، وذكر أيضاً عنه خلافه؛ الذي هو مذهب الجمهور.
(3) نقله عنهما: الجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (5/158) .
وانظر: «بداية المجتهد» (2/514) ، «المهذب» (2/173) ، «مغني ذوي الأفهام» (204) .
(4) النائرة هي الشحناء والعداوة.
(5) انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/233) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/345) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/188 مسألة 1545- بتحقيقي) .
وذهب الشافعية -ورواية عند الحنابلة- أن عفو ولي الأمر جائز، انظر: «الأم» (6/165) ، «المجموع» (19/78) ، «الأحكام السلطانية» (64) للماوردي، «الأحكام السلطانية» (ص 59) لأبي يعلى، «سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي» (3/188) .(1/592)
المسلمين معصومةٌ بيقين، فلا يُقْدَمُ عليها إلا بيقين، ولم يأذن الله -تعالى- في القَودِ من المسلم إلاّ بمسلم، قال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله -
تعالى-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ، فإثبات الأخوة بين القاتل والمقتول، أو القاتل والوليّ -على الخلاف في تأويل عود ذلك- دليل لا يُشْكِلُ أن كليهما من المسلمين، وكذلك ذكر القصاص ظاهر في ذلك؛ لأنه يقتضي المساواةَ في الدِّين، فالقَود من المسلم لا يستباح بغير المسلم، وقد جاء ذلك
-أيضاً- نصّاً.
خرَّج أبو داود (1) عن عمرو بن شعيب؛ عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويردُّ مُشِدُّهم على مُضعفهم، ومُتسرِّيهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده» .
وفي كتاب البخاري (2) ، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا ما في كتاب الله -عز وجل-؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه، إلا فهم يعطيه الله -عز وجل- رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة (3) . قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
_________
(1) في «سننه» في كتاب الديات (باب إيقاد المسلم بالكافر) (رقم 4531) . وقد مضى تخريجه مطولاً.
(2) في «صحيحه» في كتاب الديات (باب لا يقتل المسلم بكافر) (رقم 6915) .
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب فضل المدينة) (رقم 1370) .
(3) وقد جمع هذه الصحيفة في جزءٍ مفرد، وما فيها، مع تخريج وتوثيق، وشرح: الدكتور: رفعت عبد المطلب -رحمه الله تعالى-، في كتاب مفرد، طبع عن دار السلام بعنوان: «صحيفة علي ابن أبي طالب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دراسة توثيقية فقهية» (انظر منها ص 81-89) .
وانظر: «نصب الراية» (4/334-335) ، «التلخيص الحبير» (4/131) ، «نيل الأوطار» (7/ 10-11) .(1/593)
فهذا نصٌّ في ذلك. ولأبي حنيفة وأصحابه في ذلك تأويلات ليس هذا موضع النظر فيها، وربما تعلَّقوا فيما ذهبوا إليه برواية لا تثبت، وأقيسة فاسدة (1) .
قال ابن المنذر: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر يعارض ما ثبت من قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» . وكان مما احتج به الشافعي عليه من طريق النظر: أنه لا خلاف في أن المسلم لا يقتل بالحربي المستأمن، فكذلك الذمي؛ لأنهما في تحريم القتل سواء. وأما قول مالك في أنه يقتل المسلم إذا قتله غِيلَةً؛ فيأتي (2) عليه عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مؤمن بكافر» .
فالأرجح: أنه لا يقتل؛ للأدلة المتقدمة؛ ولأنه لم يأت في ذلك تخصيصُ غِيلَةٍ ولا غيرها، وليس حمله على حكم المحارب بشيء؛ لأنَّ المحارِبَ له شروط لا يستحق اسمَ الحرابة إلا بوجودها، وهذا لم يوجد ذلك منه، فلم يكن له حكم المحارِب، وقد كان يلزم من جَعَلَ له حكم المحارب -وكان من مذهبه التخيير في عقوبات المحارب- أن يجيز ذلك منه، وهو ما لا يقول به.
فإن قيل: لا يكون التخيير في محارب قتل في حرابته؛ لأنه يُقتل باتفاق؛ فسقط ما عداه! قيل: الساقط بانحتام القتل شيئان: القطع والنَّفي، فيبقى التخيير بين القتل والصلب، وذلك يلزمهم لا محالة (3) .
_________
(1) ومن جملة تأويلاتهم: استدلالهم بقول الله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] قالوا: فهذا من غير تفصيل بين المسلم والذمي.
ومنها: استدلالهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أقاد مسلماً بذميّ.
قالوا: هذا نص.
قلت: أما الآية، فإن هذا مما كتبه الله -عز وجل- في التوراة، ولا يلزمنا شرائع من قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الحديث فضعيف، لا تقوم به حجة. وانظر: «نصب الراية» (4/335، 336) .
وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله- في «المحلّى» (10/350- وما بعدها) جميع استدلالات الحنفية النقلية والعقلية، وردّ عليهم بكلام نفيسٍ غايةً. فانظره هناك.
(2) كذا في الأصل والمنسوخ، وتحتمل: «فيأبى» .
(3) قال ابن حزم في «المحلى» (10/350) في قول المالكية، أنهم يقتلون المسلم بالذمي =(1/594)
وإذا تقرر أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلا خلاف في أن فعله ذلك كبيرة من الكبائر.
خرّج البخاري (1) ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً» .
وأوجب العلماء الذين لم يروا قتل المسلم بالذمي على قاتله المسلم دِيَّتَه، واختُلِف في دِيّتِه؛ فقال قوم: دية الكافر المعاهد إذا وجبت كدية المسلم سواء، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه (2) ، وقاله الشعبي والنخعي وسفيان (3) ، وسواء كان
_________
= للحرابة. قال: «أنتم لا تقولون بالترتيب في حدِّ الحرابة، ولو قلتموه لكنتم متناقضين -أيضاً-؛ لأنه لا خلاف بين أحدٍ ممَّن قال بالترتيب في أنه لا يُقتل المحارب إن قتل في حرابة من لا يُقتل به إن قتله في غير الحرابة، وأنتم لا تقتلون المسلم بالذمي في غير الحرابة، فظهر فساد هذا التقسيم بيقين.
وأما المشهور من قول المالكيين أنهم يقولون بتخيير الإمام في قتل المحارب أو صلبه أو قطعه أو نفيه، فمن أين أوجبوا قتل المسلم بالذمي -ولا بُدَّ- في الحرابة، وتركوا قولهم في تخيير الإمام فيه، فوضح فساد قولهم بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا حجَّة لهم أصلاً. وبالله تعالى التوفيق» ا. هـ كلامه -رحمه الله-.
(1) في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب إثم من قتلَ معاهداً بغير جُرم) (رقم 3166) ، وأخرجه في كتاب الديات (باب إثم من قتل ذِميّاً بغير جرم) (رقم 6914) .
(2) انظر: «مختصر الطحاوي» (240) ، «القدوري» (90) ، «اللباب» (3/154) ، «مختصر اختلاف العلماء» (5/155 المسألة رقم 2270) ، «الهداية» (4/178) ، «المبسوط» (26/84) ، «بدائع الصنائع» (10/4664) ، «الدرر الحكام» (2/104) ، «الجوهر النقي» (8/103) ، «تحفة الفقهاء» (3/ 155) ، «روضة القضاة» (3/1170) ، «النتف في الفتاوى» (2/670-671) ، «أدب القضاء» (ص 427) ، «رؤوس المسائل» (475) .
(3) وهذا مذهب الزهري - كما سيأتي-، وروي عن عليٍّ وابن مسعود.
وذكر ابن قدامة في «المغني» (12/51-52) أنه مذهب علقمة ومجاهد، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية.
قال: وقال ابن عبد البر: هو قول سعيد بن المسيب والزهري.
انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/94-98) ، «سنن الدارقطني» (3/129) ، «جامع الترمذي» (تحت رقم 1413/م) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/238) ، «تفسير القرطبي» (5/327) ، «شرح السنة» (10/204) ، «أحكام أهل الذمة» (2/61) ، «نيل الأوطار» (7/222) .(1/595)
عندهم يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً (1) . وقال مالك (2) وأحمد بن حنبل (3) ، في
اليهودي والنصراني: ديته نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور وإسحاق (4) : ديته ثلث دية المسلم.
واتفق مالك والشافعي وأحمد وإسحاق على أن دية المجوسي ثمان مئة
_________
(1) قد ورد بذلك حديث: «دية ذميٍّ دية مسلم» .
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/45-46 رقم 780) ، والدارقطني (ص 343، 349- ط. هندية) ، والبيهقي (8/102) من طريق أبي كرز القرشي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.
وقال الدارقطني: «لم يرفعه عن نافع، غير أبي كرز، وهو متروك، واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري» ، وانظر تمام تخريجه في «السلسلة الضعيفة» (رقم 458) .
(2) انظر: «المدونة» (4/472، 479) ، «التفريع» (2/216) ، «بداية المجتهد» (2/411) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/258) ، «الرسالة» (237) ، «الكافي» (597) ، «جامع الأمهات» (ص 501) ، «المنتقى» (7/97) ، «الشرح الكبير» (4/267-268) ، «أسهل المدارك» (3/132) ، «قوانين الأحكام» (297) ، «الإشراف» (4/129 مسألة رقم 1475- بتحقيقي) ، «جواهر الإكليل» (2/266) ، «الخرشي» (8/31) .
(3) مذهب الحنابلة: أن ديته مثل دية المسلم في العمد، وإن قتله خطأً، ففيه روايتان: الصحيح من المذهب أنها على النصف من دية المسلم.
انظر: «المغني» (12/51، 54) ، «الإنصاف» (10/64-65) ، «الفروع» (6/17) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/385، 387) ، «الواضح» (2/189) ، «المقنع» لابن البنا (3/1073، 1074) ، «شرح الزركشي» (6/138، 140) ، «مسائل الإمام أحمد» (116- رواية الكوسج، 3/59، 172- رواية صالح، 2/1241- رواية عبد الله) ، «الروايتين والوجهين» (2/182-184) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1109) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/507-508 المسألة رقم 1751) .
(4) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (6/105) ، «الإقناع» للماوردي (164) ، «المجموع» (17/ 278) ، «المهذب» (2/ 198) ، «روضة الطالبين» (9/257) ، «عمدة السالك» (ص 175) ، «التنبيه» (137) ، «حلية العلماء» (7/543) ، «مختصر الخلافيات» (4/381 رقم 279) ، «سنن البيهقي» (8/ 102-103) ، «الوجيز» (2/141) ، «المنهاج» (126) ، «نهاية المحتاج» (7/303) ، «مغني المحتاج» (4/57) .
وقال ابن المنذر في «الإشراف» (3/93) : «وقالت فرقة: دية الكتابي ثلث دية المسلم، روي هذا القول عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما-، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة، وعمرو بن دينار، والشافعي، وأبو ثور، وإسحاق» . وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 691) .(1/596)
درهم (1) . واحتج الزهري على أن دية المعاهد كدية المسلم بقوله -تعالى-:
{ ... وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة} [النساء: 92] (2) .
قال الكوفيون: فَذِكْرُهُ بعد ذكر دية المؤمن يجعلهما سواء في الدية والكفارة، واستدلوا على أنه يراد به من كان له عهدٌ من الكفار: أنه لو أريد به المؤمن، لَوَصَفَهُ الله -تعالى- بذلك، كما قال -سبحانه-: { ... فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ ... } [النساء: 92] (3) .
وخرّج الترمذي (4) ، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَدَى العامريين بدية المُسلمين، وكان لهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال فيه: حديث غريب.
ومستند مَنْ رأى أن دية الكافر على النصف من دية المسلم: ما خرجه الترمذي (5) -أيضاً- من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) انظر: المراجع في الهامشين السابقين.
(2) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/95 رقم 18491) ، والطبري في «التفسير» (5/122) .
(3) وذهب ابن حزم في «المحلى» (10/347- وما بعدها) : أن من قتل من المسلمين البالغين ذمياً أو مستأمناً، عمداً أو خطأً؛ فلا قود عليه ولا دية، ولا كفارة، ولكن يؤدب في العمد خاصة، ويسجن حتى يتوب؛ كفّاً لضرره.
(4) في «جامعه» في أبواب الديات (باب (رقم 1404)) من طريق أبي سعد -هو البقَّال- عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/1221) من طريق أبي سعد البقال، سعيد بن المَرْزُبان، به.
وأبو سعيد: ضعيف مدلس، وانظر: «ضعيف سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(5) في «جامعه» في أبواب الديات (باب ما جاء في دية الكفار) (رقم 1413/م، 1885) . وقال: حديث عبد الله بن عمروٍ في هذا الباب حديث حسن.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (570) ، وابن أبي شيبة (9/294) ، وأحمد (2/180 و205 و215 و216) ، وأبو داود (1591 و2751، 4531) ، وابن ماجه (2659 و2685) ، وابن =(1/597)
قال: «دية عقل الكافر نصف دِيةِ (1) عَقلِ المؤمن» (2) .
*****
_________
= الجارود (1073) ، وابن خزيمة (2280) ، والبيهقي (8/28) .
وهو جزء من حديث خطبة الفتح. وقد ورد الحديث عن جمعٍ من الصحابة مطولاً. ومنه ما هو في «الصحيحين» ، وانظر: «نصب الراية» (4/341) .
وورد الحديث بلفظ: «دية المعاهد نصف دية المسلم» ، وفي لفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» ، وانظر: «إرواء الغليل» (7/307 رقم 2251) .
(1) كلمة (دية) سقطت من الأصل والمنسوخ، وهي مثبتة في «جامع الترمذي» .
(2) قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/364) : «حديث حسن، يصحح مثله أكثر أهل الحديث» ، وقال في «تهذيب السنن» (6/374) : «هذا الحديث صحيح إلى عمرو بن شعيب، والجمهور يحتجون به، وقد احتج به الشافعي في غير موضع، واحتج به الأئمة كلهم في الديات» .
وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/385) : «وهذا هو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما رواه أهل «السنن» : أبو داود وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» .
وقال الخطابي في «معالم السنن» (6/375- مع «مختصر سنن أبي داود» ) : «ليس في دية أهل الكتاب شيء أَبْيَن من هذا» .
وانظر لرجحان هذا القول: «شرح السنة» (10/204) ، «أحكام أهل الذمة» (2/61) ، «تهذيب السنن» (6/374-377) ، «نيل الأوطار» (7/68-70) -وفيه: «والراجح العَمَلُ بالحديث الصحيح، وطَرْحُ ما يقابله مما لا أصل له في الصحة» -، «أحكام الجناية على النفس وما دونها» (243-244) .(1/598)
الباب العاشر
في المرتدين، والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل
أحكامهم، وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم
قال الله -تبارك وتعالى- في الحد المنتَهَى إليه من قتل الكفار وقتالهم: { ... فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5] ، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] ، وقال -تعالى-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] .
وخرّج مسلم (1) ، عن عبد الله بن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه؛ عصموا منِّي دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله -عز وجل-» .
وخرَّج -أيضاً- (2) عن أبي بَكْرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ
الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ... » الحديث. وفيه قال: «فإن دماءكم
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ... ) (رقم 22) ، وفيه: «إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ) (رقم 25س) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.
(2) أي: مسلم، في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) (رقم 1679) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب حجة الوداع) (رقم 4406) .
وأخرجه في عدة مواطن -مطولاً ومختصراً- (رقم 67، 105، 1741، 3197، 4662، 5550، 7447، 8078) .(1/601)
وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفاراً -أو: ضلالاً- يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلّغ الشاهدُ الغائب» .
فالكتاب والسنة والإجماع على عصمة دم المسلم وتحريمه، لا خلاف في ذلك بين الأمة، إلا أن يأذنَ الشرع في شيء من ذلك؛ لحقٍّ أوجبه؛ فيكون ذلك مستثنىً من عموم ما تقدم. وقد جاء من تخصيص ذلك في الكتاب والسنة ما أوجب المصير إليه، والاقتصار عليه.
قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151، الإسراء: 33] .
وخرَّج مسلم (1) في حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . ففي قوله -تعالى-: {إِلاَّ بِالْحَقِّ} ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا بحقِّها» بيانٌ أن هناك أشياء تبيح ذلك منه، إذا هو ارتكبها بعد الإيمان، وإن كان لفظ الحق ها هنا مجملاً؛ فقد جاء مفسراً: منه في القرآن، ومنه في السُّنة الصحيحة. قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وبيَّن -تعالى- وجه الحكمة، وموقع النعمة في ذلك بقوله -عز وجل-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] .
وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيجاب قتل الزاني المحصن، رَجْماً بالحجارة (2) ، والأمر بقتل من رجع عن الإسلام (3) ؛ فكان ذلك كله مبيِّناً
للحق الذي استثناه الله
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ... ) (35) (21) .
(2) انظر -على سبيل المثال-: «صحيح البخاري» . كتاب الحدود (باب رجم المحصن) .
(3) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا يعذب بعذاب الله) (رقم 3017) من طريق عكرمة، أن عليّاً -رضي الله عنه- حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنت أنا، لم =(1/602)
-عز وجل-.
وخرَّج مسلم (1) ، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي لا إله غيره! لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا ثلاثة نفر: التارك للإسلام، المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس» . ورواه -أيضاً- عن عائشة (1) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمثله.
فكان ظاهرُ هذا الحديث حصْرَ الحق المستثنى في الثلاث، فتعلَّق بذلك قوم، وأَلْحَق آخرون بهذه ما أوجبه نصٌّ آخر ودليلٌ بيّن، واحتمل أن يكون تعيين هذه الثلاث بالحصر؛ لأنها أمهاتٌ، وقواعدُ في الشرع بَيِّنات في حفظ الدين والدماء والأنساب، وقد تقرر في الشرع تقرر التواتر بيان حكمها، وتمييز أنواعها، فلم يكن إقدام الحاكم في تنفيذ الحكم فيها يفتقر إلى نظرٍ وكشفٍ واستفسار، فكأنه قال: الحلُّ البيِّنُ الذي لا يخفى عليكم، ولا يشكل على نظركم، ونحو هذا مما يقع فيه الفرق بين هذه الثلاث وغيرها، وإلا فقد رويت آثار صحاح بإيجاب القتل في أحداثٍ غير هذه؛ من ذلك: ما خرَّجه مسلم (2) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما» . وخرَّج -أيضاً- (3) عن عرفجة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد أن يُفَرِّقَ أَمْرَ هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف، كائناً من كان» .
وقاتل أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- مانعي الزكاة بمحضرِ الصحابة وموافقتهم (4) ، فكان كالإجماع.
_________
= أحرقهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» . ولَقَتَلْتُهُمْ؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» .
وأخرجه في كتاب استتابة المرتدين (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 2922) .
(1) في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (26) (1676) .
(2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب إذا بويع لخليفتين) (61) (1853) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب حكم من فرَّق أمر المسلمين وهو مجتمع) (59) (1852) .
(4) وهذه القصة معروفة مشهورة، فقد أخرجها البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب وجوب الزكاة) (رقم 1399 و1400) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال =(1/603)
فدلَّ ذلك كلُّه على أنه تفسير للحق الذي استثناه الله -تعالى-
في كتابه، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحيث ما وجد دليل من الشرع، وجب الانتهاء إليه، ما لم يدل دليل آخر على نَسْخِه وتخصيصه، وما أشبه ذلك من الوجوه التي يجب المصير إليها. وعند تصفح هذه الأحداث الأُخر، التي جاء وجوب القتل فيها
-أيضاً-؛ يتبين لك الفرق في الوضوح، والتمييز للناظر بينها وبين الثلاث التي أفردت عنها في الحديث الذي ظاهره الحصر؛ وذلك: أن قتل الذي بويع له ثانياً يفتقر إلى نظر وتأمل: هل كان قصد بذلك الخلاف على الأول، أو لم يكن علم ببيعة الأول، أو كان هو أحقَّ من الأول، أو كان بينهما من المسافةِ في الأرض وبُعْدِ البلاد ما لا يدركه نظر الأول، أو لم يعثر عليه حتى مات الأول؟
وكذلك من خرج على الناس، وأمرهم جميع، يحتمل أن يكون متأوِّلاً، فيجب أن يُبيَّنَ له، أو يكون مظلوماً، فيجب أن ترفع ظلامته، وما كان من نحو هذا، وكذلك ما وقع من النظر والاجتهاد في مانعي الزكاة، وكذلك فيمن ترك الصلاة، فكل واحدٍ من هذه يفتقر في تمييز نوعه الذي يجب القتل به، من غيره الذي لا يجب فيه إلى حالات واجتهادات يغمض معها دَرْكُ الثقة باستحلال القتل، فبذلك فارقت معنى الثلاث الأول، فكان حصر الحِلِّيَّةِ فيها مُشعراً بوجوب النظر والتثبت فيما عداها مما أحله الشارع -أيضاً-؛ لافتراق وجوه التمييز في الاستحلال، والله أعلم.
ولما كان هذا الباب مختصّاً بقتال المرتدين، والمحاربين، وأهل البغي، وكلهم إمَّا مسلم في الحال، أو قد تقدم له اعتصام بالإسلام، وجب تقديم هذا الأصل، وتمهيد هذه القاعدة، ثم نعود إلى تفصيل القول في ذلك، بحسب ما وضع له هذا الباب، وهو يشتمل على ثلاثة أصناف: المرتدين، والمحاربين، وأهل البغي. فلنُقَسِّم القول فيه على ثلاثة فصول:
_________
= الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) (رقم 20) .
وأخرجه البخاري -أيضاً- في عدة مواطن من «صحيحه» (الأرقام: 1456، 6925، 7285) .(1/604)
الفصل الأول: في أحكام المرتدين
قال الله -عز وجل-: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] .
ففيه دليل على وجوب قتلهم، ورفع احترام ما كان أوجبه الإيمان لهم. وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (1) .
خرَّج البخاري، عن عكرمة، أن عليًّا حرَّق قوماً، فبلغ ابنَ عباس، فقال: لو كنت أنا، لم أُحرِّقْهُم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (2) .
وخرَّجه الترمذي (3) ، وقال فيه: إن عليّاً حرَّق قوماً ارتدوا عن الإسلام ... بمثله (4) . وزاد في آخره: فبلغ ذلك عليّاً، فقال: صدق ابن عباس.
وهو إجماع المسلمين: أن الرجل البالغ العاقل، إذا كان ممن اتصف بالإيمان، ثم ارتدَّ مختاراً، غير مكره، فاستُتيب فلم يتب، واسْتُؤْنِيَ به فلم يُقْلع؛ أنه مباح الدم (5) .
_________
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا يعذَّب بعذاب الله) (رقم 3017) . وفي كتاب استتابة المرتدين (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 6922) .
(2) هو الحديث السابق.
(3) في «جامعه» . أبواب الحدود (باب ما جاء في المرتد) (رقم 1458) .
وقال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(4) وفي «صحيح البخاري» (رقم 6922) : أتي علي -رضي الله عنه- بزنادقة ... الحديث.
(5) قال ابن حزم في «مراتب الإجماع» (146) : واتفقوا أنَّ من كان رجلاً، مسلماً، حُرًّا، باختياره، وبإسلام أبويه كليهما، أو تمادى على الإسلام بعد بلوغه ذلك، ثم ارتدَّ إلى دين كفر، كتابي أو غيره، وأعلن ردَّته، واستتيب في ثلاثين يوماً مئة مرة، فتمادى على كفره، وهو عاقل غير سكران، أنه قد حلَّ دمه، إلا شيئاً رويناه عن عمر، وعن سفيان، وعن إبراهيم النخعي أنه يستتاب أبداً.(1/605)
واخلتفوا من ذلك في ثلاثة مواضع:
أحدها: هل يستتاب المرتد قبل القتل، أو يقتل بنفس الردَّة؟
والثاني: هل حكم المرأة في القتل بالردَّة حكم الرجل أو لا؟
والثالث: في لواحق أحكامه: في ميراثه، وأولاده، وجناياته حال ارتداده.
فصل
فأما اختلافهم في استتابة المرتد، فلأهل العلم في ذلك قولان مشهوران:
قول: إنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن عمر (1) ،
_________
(1) أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (10/165 رقم 18696) ، من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في «سننه» (3 رقم 2573) من طريق خالد بن عبد الله، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 207) من طريق علي بن عاصم، جميعهم عن داود، عن الشعبي، عن أنس قال: بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر -رضي الله عنه-، فسألني عمر -وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين- فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: فأخذت في حديث آخر لأُشغله عنهم، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين! قوم ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل، فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلماً أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس من صفراءَ أو بيضاءَ، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! وما كنت صانعاً بهم لو أخذتهم؟ قال: كُنْت عارضاً عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلتُ منهم، وإلا استودعتهم السجن.
فعلى هذا، فليس مذهب عمر قتل المرتد إذا لم يتب.
وأخرج مالك في «الموطأ» في كتاب الأقضية (باب القضاء فيمن ارتد عن الإسلام) (ص 454 رقم 794- ط. دار إحياء التراث) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/207) -، وعبد الرزاق (10/ 164-165 رقم 18695) ، وابن أبي شيبة (10/138 رقم 9035) في «مصنفيهما» ، وابن عبد البر في «التمهيد» (5/306-307) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس، فأخبره، ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مُغَرِّبةٍ خَبَرٌ؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قرّبناه، فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتوه كل يومٍ رغيفاً، واستتبتموه، لعلَّه يتوب، ويراجع أمر الله؟! ثم قال عمر: اللهم إني لم أَحْضُر، ولم آمر، ولم أَرْضَ إذْ بلغني.
وهذا لفظ مالك. واسم الرجل الذي خاطبه عمر: مجزأة بن ثور. كما عند عبد الرزاق. =(1/606)
وعثمان (1) ، وعلي (2) -رضي الله عنهم-، وبه قال عطاء والنخعي (3) ،
وإليه ذهب مالك (4) ،
_________
= قال البيهقي في «مختصر الخلافيات» (4/405) ، و «الكبرى» (8/207) : ليس بثابت. ونقل تضعيف الشافعي له. ونقل عنه قوله: لا نعلمه متصلاً.
ورواه معمر -كما في إسناد عبد الرزاق- عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبيه.
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/164 رقم 18692) ، والبيهقي في «السنن» (8/ 206) ، وأبو يوسف في «كتاب الخراج» (ص 180) ، عن سليمان بن موسى، أنه بلغه عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه كَفَر إنسانٌ بعد إيمانه، فدعاه إلى الإسلام -ثلاثاً-، فأبى، فقتله.
وهذا لفظ عبد الرزاق، ولفظ البيهقي: عن سليمان بن موسى قال: كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يدعو المرتد ثلاث مرات، ثم يقتله.
ولفظ أبي يوسف: عن عثمان قال: «يستتاب المرتد ثلاثاً» . قال: حدثنا أشعث عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يستتاب المرتد ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل» . وهذا مرسل ضعيف.
وانظر: «المحلَّى» (11/190) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/238) .
(2) أثر علي: رواه عبد الرزاق (10/164 رقم 18691) ، وابن أبي شيبة (10/138 رقم 9035) في «مصنفيهما» ، والبيهقي في «الكبرى» (8/207) ، من طريقين: الأول: عند عبد الرزاق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن أبي العلاء، عن أبي عثمان النهدي، عن علي موقوفاً.
والثاني: عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي موقوفاً. وإسناده صحيح.
(3) مذهب النخعي، أخرجه عنه: عبد الرزاق في «المصنف» (10/166 رقم 18697) قال: يستتاب أبداً، قال: قال سفيان: هذا الذي نأخذ به.
وكذا أخرج مذهب عطاء في «المصنف» (10/164 رقم 18690) عن ابن جريج، قال: قال لي عطاءٌ في إنسان يكفر بعد إيمانه: يدعى إلى الإسلام، فإن أبى قُتل، قال: قلت: كم يُدْعَى؟ قال: لا أدري، قلت: عمَّن؟ قال: لا أدري، ولكِنّا قد سمعنا ذلك.
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/238) ، «المغني» (12/268) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/203) .
(4) انظر: «الموطأ» (459) ، «التفريع» (2/231) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «الكافي» (1/485) ، «بداية المجتهد» (2/459) ، «المعونة» (3/1361) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/298) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (5/658) ، «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/65) ، «مواهب الجليل» (6/281) ، «القوانين الفقهية» (ص 356) ، «الإشراف» (4/174 رقم =(1/607)
والشافعي (1) ، وأصحاب الرأي (2) ، والثوري (3) ،
والأوزاعي (4) ، وأحمد (5) ، وإسحاق، وغيرهم (6) .
_________
= 1528- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/65) ، «الشرح الكبير» (4/304) ، «تفسير القرطبي» (3/47) ، «النوازل الجديدة الكبرى» لأبي عيسى الوزّاني (ت 1342) (3/45) .
(1) واختلف القول عن الشافعي في أن استتابة المرتد على الوجوب أو على الاستحباب، والمعتمد عندهم أنها على الوجوب. انظر: «الأم» (6/148، 149) ، «مختصر المزني» (ص 259) ، «الإقناع» للماوردي (174) ، «روضة الطالبين» (7/296) ، «المهذب» (2/223) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «المجموع» (19/ 226، 229) ، «التهذيب» (7/288) ، «البيان» (12/47) ، «حلية العلماء» (7/624) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) .
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/238) .
(2) المشهور عند الحنفية أنّ استتابة المرتد ليست على الوجوب. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 258) ، «الهداية» (2/458) ، «اللباب» (4/148) ، «تحفة الفقهاء» (3/308) ، «بدائع الصنائع» (7/134) ، «شرح السير الكبير» (5/166) ، «الجامع الصغير» (ص 25) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/501 رقم 1651) ، «أحكام القرآن» له (2/286) ، «مجمع الأنهر» (1/680) ، «حاشية ابن عابدين» (4/225-226) .
(3) رواه عنه عبد الرزاق (10/166 رقم 18697) . ونقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (2/ 238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/266) .
(4) نقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/266) .
(5) انظر: «المغني» (12/266- ط. هجر) ، «المقنع» لابن البنا (3/1108) ، «شرح الزركشي» (6/246) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/574 رقم 1822) ، «الإفصاح» (2/400) ، «مسائل الإمام أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 2/473-475، 3/ 131- رواية صالح، 3/1290، 1291- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1135) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) . وهو أصح الروايتين عن أحمد: أنه يجب استتابة المرتد، وعنه قول آخر: أنه لا تجب استتابة المرتد لكن تستحب.
ذكره عنه ابن قدامة في «المغني» (12/266-267) .
وانظر: «كتاب التمام» لابن أبي يعلى (2/199) .
(6) كابن عمر -رضي الله عنه-. رواه ابن أبي شيبة (10/138 رقم 9036) ، والبيهقي (8/ 207) من طريق وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عمّن سمع ابن عمر، عن ابن عمر موقوفاً. =(1/608)
وقول: إنه يقتل بنفس الردة، ولا يستتاب، روي ذلك عن طاوس، وعبيد بن عمير، وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة (1) ، وقال أبو محمد بن حزم (2) : تضرب عنقه، سواء رجع إلى الإسلام أو لم يرجع، سواءٌ أعلن بالردة أو أَسَرَّ بها وجحدها، متى قامت عليه بذلك بيِّنةُ عدلٍ، إلا أنه إن رجع إلى الإسلام؛ غُسِّل وكُفِّنَ وصَلَّى
_________
= وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة من سمع من ابن عمر.
وكذلك أبو موسى الأشعري. رواه البخاري في «صحيحه» (رقم 6923) . وسيذكره عنه المصنف.
والزهري -أيضاً-، أخرجه عنه عبد الرزاق (10/164 رقم 18693) ، وابن أبي شيبة (6/ 584) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/203) .
وكذلك هو مذهب الحسن البصري، فيما نقله عنه الشاشي في «حلية العلماء» (7/625) . وقال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عن الحسن.
وهو مذهب أهل الظاهر، كما سينقله المصنف عن ابن حزم.
انظر: «البناية» (5/850-853) ، «فتح الباري» (12/237) ، «اللباب في الجمع بين السنة والكتاب» (2/778) ، «الحاوي الكبير» (57- حكم المرتد) ، «نوادر الفقهاء» (ص 173) ، «الإفصاح» (2/228) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/238) ، «شرح السنة» (10/239) ، «المغني» (12/267) ، «تفسير القرطبي» (3/47) ، «نيل الأوطار» (8/7-8) .
(1) أخرج مذهب عبيد بن عمير: عبد الرزاق (10/164 رقم 18694) ، وابن أبي شيبة (6/ 580- ط. دار الفكر) ، قال في الرجل يكفر بعد إيمانه: يقتل.
ومذهب طاوس، أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/166 رقم 18700) قال: لا يقبل منه دون دمه، الذي يرجع عن دينه.
ونقله عنهما: ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/267) ، وقال: ويُروى ذلك عن الحسن.
ومذهب عبد العزيز بن أبي سلمة رواه عنه سحنون. ذكر ذلك الباجي في «المنتقى» (5/282) .
وقال أبو يوسف: أقتله ولا أستتيبه، إلا أنه إن بدرني بالتوبة خلَّيتُ سبيله، ووكلتُ أمره إلى الله.
نقله عنه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/210) ، والجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (3/501 رقم 1651) .
وانظر: «بدائع الصنائع» (7/134-135) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/286) ، «مجمع الأنهر» (1/680) ، «حاشية ابن عابدين» (4/225-226) .
(2) وقد ذكر هذه المسألة، وبسط أدلتها وأقوال أهل العلم فيها في «المحلّى» (11/188-197) .(1/609)
عليه المسلمون.
وفيه قول ثالث يعزى إلى عطاء -أيضاً-: أنه إن كان مسلماً ممن ولد في الإسلام ثم ارتد؛ قتل ولم يستتب، وإن كان مشركاً، ثم أسلم، ثم ارتد، استتيب (1) .
فدليل من رأى استتابته، ولم يَرَ قتله بمجرَّد الرِّدة: قوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] مع ما دلَّ عليه مفهوم الخبر، وأنّ القتل إنما وجب بحال، فإذا تاب وراجع الإسلام؛ ارتفع حكم القتل، كالكافر الأصلي، وقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وهو يَعُمُّ
كلَّ كافر كان منه إيمان قبل ذلك، أو لم يكن.
ودليل من أوجب القتل بنفس الارتداد: ظاهر الخبر في تعليق حكم القتل على وجود الردة، فإذا وجب القتل؛ لم يندفع إلا بحكم الشرع وتوقيفه في ذلك.
خرَّج مسلم (2) ، عن أبي موسى، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديثاً طويلاً في كراهية طلب العمل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نسْتعمل على عملنا مَنْ أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس-، فبعثه إلى (3) اليمن، ثم أتبعه معاذ ابن جبل، فلمّا قدم عليه، قال: إنزل، وألقى له وسادة، وإذا رجل عنده موثوق (4) ،
_________
(1) قال ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) بعد ذكره هذا القول عن عطاء، قال: والرواية الأولى عن عطاء أثبت. ونقله عنه الشاشي في «حلية العلماء» (7/625) .
قلت: وهو القول الأول الذي ذكره المصنّف.
(2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها) (3/ 1456- ط. عبد الباقي) ، أو (1824) (15) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم) (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 6923) ، وأخرجه في عدة مواطن (2261، 3038، 4341، 4343، 4344، 6124، 7149، 7156، 7157، 7172) .
(3) في الأصل المنسوخ: «إلى» ، وفي مطبوع «صحيح مسلم» : «على» .
(4) في هامش المنسوخ: «كذا الأصل، والوجه: موثق» . قلت: وهو الموافق لما في «الصحيح» .(1/610)
قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديّاً فأسلم، ثم رجع إلى دينه (1) دينِ السَّوْءِ فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقْتَل! قضاء الله ورسوله -ثلاث مرات-» ، فأمر به فقتل.
فكان ظاهر قوله: «حتى يقتل، قضاء الله ورسوله» ، وقول أبي موسى له: «نعم» ، ثم أمر به فقتل، ولم يعرض لاستتابته، أنه كذلك قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه الرَّد على من فرَّق بين المرتدِّ الذي كان كافراً ثم أسلم، والمرتدِّ الذي ولد على الإسلام (2) . وكأنَّ القولَ بالاستتابة أرجح؛ لعموم قوله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، ولم
يفرِّق بين كافر وكافر، وقوله -تعالى- في المنافقين: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً. مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 146-147] . والمنافقون: ممن آمن ثم كفر.
وأمَّا حديث أبي موسى فليس بذلك الظهور فيما يُدَّعى من سقوط الاستتابة (3) .
ثم اختلف القائلون بالاستتابة في مدة التربص به، فقيل يستتاب مرة،
فإن تاب وإلا قتل مكانه، وإليه ذهب الشافعي والمزني (4) ، وقاله أبو بكر بن
_________
(1) كذا في الأصل والمنسوخ: «رجع إلى دينه» ، وفي مطبوع «صحيح مسلم» : «راجَعَ دينه» .
(2) هو مذهب الحنفية، انظر وجه التفريق عند الكرابيسي في كتابه «الفروق» (2/335-336) .
(3) وذلك أنه ثبت في بعض روايات الحديث أن الرجل استتيب فلم يتب. وسيأتي تخريجه قريباً.
(4) اختلف قول الشافعي في هذا الباب، فقال في (كتاب المرتد) من «الأم» (6/148) : يقتل مكانه. وقال في موطن آخر (1/228) : يحبس ثلاثاً -كما هو القول الثاني الآتي-، ومال المزني إلى القول الأول، وهو الاستتابة مرةً واحدة.
فمذهبهما أنه لا يُمهل أكثر من أن يناظر، ويكشف عما اشتبه عليه.
وانظر: «مختصر المزني» (260) ، «الحاوي الكبير» (16/415) ، «روضة الطالبين» (10/75-76) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) ، «المجموع» (19/ 226) ، «حلية العلماء» (7/625) ، «مختصر الخلافيات» (4/404 رقم 288) ، «البيان» (12/47) ، «التهذيب» (7/288) ، «السنن الكبرى» (8/206-207) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 231) ، «رحمة الأمة» (ص 269) .(1/611)
المنذر (1) ، وغيره (2) ، وقيل: يستتاب ثلاثة أيام (3) ، فإن تاب وإلا قتل بعدها، روي ذلك عن عمر (4) ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق (5) ، واستحسنه
مالك (6) وأصحاب الرأي (7) ، وقيل: يتَرَبَّصُ به شهراً، رُوي ذلك عن علي (8) ، وقد قيل: إنه
_________
(1) في «الإشراف» له (2/239) .
(2) كالحسن بن حيي. فيما ذكره عنه ابن حزم في «المحلّى» (11/191) .
(3) من يوم ثبوت الردَّة، لا من الكفر والرِّدَّة.
(4) مضى -قريباً- مع تخريجه.
ويروى كذلك عن ابن عمر. فيما أخرجه ابن أبي شيبة (6/584- ط. دار الفكر) . بإسنادٍ مظلم.
(5) انظر: «المغني» (12/266) ، «المقنع» لابن البنَّا (3/1108) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) ، «شرح الزركشي» (6/232، 248) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1136) ، «مسائل أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 2/473-475 و3/131- رواية صالح، 3/1290-1291- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/575 رقم 1823) .
(6) انظر: «المعونة» (3/1361) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «المنتقى» للباجي (5/ 284) ، «الشرح الكبير» (4/304) ، «الإشراف» (4/175 المسألة رقم 1529- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/65) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/304) ، «القوانين الفقهية» (ص 356) ، «عيون المجالس» (5/2084 رقم 1505) .
وذهب ابن القاسم أن المرتد يستتاب ثلاث مرات، ولو في يومٍ واحد. انظر: «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/65) .
وهو مذهب الزهري -أيضاً-، فيما أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/164/18693) عن ابن جريج، أخبرني حيان، عنه قال: إذا أشرك المسلم؛ دُعي إلى الإسلام ثلاث مرار، فإن أبى ضُربت عُنقه. ونقله عنه: ابن قدامة في «المغني» (12/268) .
(7) ومذهبهم أنه إنْ طلب ذلك؛ أجِّل ثلاثاً؛ ليُنْظَر في أمره، وإن لم يطلب؛ قتل في الحال.
انظر: «شرح معاني الآثار» (3/210) ، «تحفة الفقهاء» (3/308-309) ، «الهداية» (2/ 458) ، «البناية» (5/850) ، «بدائع الصنائع» (7/134) ، «اللباب» (4/148) ، «إعلاء السنن» (12/562) .
(8) مضى تخريجه دون ذكر لفظه، وهو: أن علياً استتاب رجلاً كفر بعد إسلامه شهراً، فأبى فقتله، وذكره عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/239) ، وابن قدامة في «المغني» (12/268) ، وانظر: «المحلَّى» (11/191) .(1/612)
يستتاب أبداً، رُوي ذلك عن النخعي (1) ، وليس
لشيءٍ من ذلك دليل يوجد، إلا أن من تربص به، ومن مَدَّ في أَجَلِ التربص فبحسب الإعذار إليه، والاجتهاد في أمره، وما يرجوه من معاودته الإسلام.
وأمَّا من زعم أنه يُستتاب أبداً؛ فخطأٌ ظاهر؛ لأنَّ فيه إبطالَ حكم الخبر الثابت، والأرجح أنْ يقتل مكانه إن لم يتب؛ لأن الخبر لا يقتضي التربص بظاهرٍ ولا مفهوم، والاستتابة نفسها إنما انتزعت من دليلٍ آخر، فإذا استتيب مرةً؛ فإن التربصَ فوق ذلك لا دليل عليه، فلم يلزم (2) .
فصل
وأما اختلافهم في المرأة ترتد، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
قول: إنها كالرجل في ذلك، إن راجعت الإسلام وإلا قتلت،
وإليه ذهب الجمهور: مالكٌ (3) ،.............................................
_________
(1) وقاله سفيان الثوري. وقد مضى تخريجه في المسألة السابقة.
وقال ابن قدامة في «المغني» (12/268) معلقاً على قول النخعي: «وهذا يفضي إلى أن لا يُقتل أبداً، وهو مخالف للسنة والإجماع» . وذكر ابن قدامة عن سفيان: أنه يستتاب ثلاثاً.
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/239) .
(2) مدًّة الاستتابة تحتاج إلى توقيف، والعبرة بالإمهال حتى تزول الشبهة، يدل عليه: ما أخرجه أبو داود في «السنن» (4356) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/206) عن أبي بردة -رضي الله عنه- قال: أُتِيَ أبو موسى برجل ارتدّ عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلةً أو قريباً منها، فجاء معاذ فدعاه، فأبى، فضرب عنقه.
قال المنذري في «مختصر سنن أبي داود» (6/197) : «ورواه البخاري في «صحيحه» معلَّقاً عن أبي بردة، ومسلم في «صحيحه» عنه» .
وانظر: «المحلَّى» (11/229-231) ، «أثر الشبهات» (509) .
(3) انظر: «التفريع» (2/231) ، «الكافي» (1/485) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «بداية المجتهد» (2/459) ، «المعونة» (3/1362) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 297) ، «عيون المجالس» (5/ 2081 رقم 1503) ، «الإشراف» (4/174 المسألة رقم 1527- بتحقيقي) ، «حاشية الدسوقي» (4/ 401) ، «أسهل المدارك» (3/160) .(1/613)
والشافعي (1) ، والليثُ، والأوزاعي (2) ، وأحمد (3) ، وإسحاق.
ومذهب أهل الظاهر أنها تقتل من غير استتابة، كالرجل عندهم (4) .
وقول: إنها تجبر على الإسلام ولا تقتل، وإليه ذهب أبو حنيفة (5) .
_________
(1) «الأم» (6/156) ، «مختصر المزني» (ص 273) ، «الإقناع» للماوردي (ص 175) ، «المهذب» (2/223) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/241) ، «روضة الطالبين» (10/75) ، «الحاوي الكبير» (13/155- ط. دار الكتب العلمية) ، «مختصر الخلافيات» (4/406) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) ، «البيان» للعمراني (12/44) ، «التهذيب» (7/288) ، «نهاية المحتاج» (7/413) .
(2) ذكر مذهب الليث والأوزاعي وإسحاق: ابن المنذر في «الإشراف» (2/240) ، وابن قدامة في «المغني» (12/264) .
وهو مذهب الحسن، والزهري، ومكحول، وحماد، وإبراهيم النخعي.
وروي عن الحسن -أيضاً- أنها تسترق، ولا تقتل.
وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/176) ، «شرح السنة» (10/239) ، «الإشراف» (2/240) ، «المغني» (12/264) ، «سنن البيهقي» (8/203) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/342) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (ص 264) ، «أثر الشبهات في درء الحدود» (ص 520-523) .
(3) «المقنع» لابن البنا (3/1108) ، «المغني» (12/264) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1134) ، «تنقيح التحقيق» (3/327-329) ، «الإنصاف» (10/328) ، «كشاف القناع» (6/174) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) ، «مسائل أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 3/1290-1291- رواية عبد الله، 2/473-475، 3/131- رواية صالح) ، «شرح الزركشي» (6/ 232، 248) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «منتهى الإرادات» (3/396) .
وهذا القول هو الراجح -إن شاء الله-؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه؛ فاقتلوه» . فعمّ الرجال والنساء والعبيد والإماء.
(4) مضى ذكر كلام ابن حزم في استتابة المرتد. وانظر: «المحلّى» (11/196- وما بعدها) .
(5) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 259) ، «الهداية» (2/458) ، «البناية» (5/854) ، «تحفة الفقهاء» (3/309) ، «المبسوط» (10/108) ، «بدائع الصنائع» (9/4385) ، «القدوري» (ص 117) ، «اللباب» (4/149) ، «شرح السير الكبير» (5/166) ، «فتح القدير» (6/71) ، «رؤوس المسائل» (361 رقم 240) ، «ملتقى الأبحر» (1/376) ، «الجامع الصغير» (251) ، «الاختيار» (4/149) ، «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى» (199) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/471 رقم 1624) ، «تبيين الحقائق» =(1/614)
وروي -أيضاً- عن ابن عباس: تُجبر. وفي روايةٍ: أنها تحبس ولا تقتل، ذكر ذلك الدارقطني مسنداً إليه من طرق (1) .
_________
= (3/284-285) ، «البحر الرائق» (5/139) ، «تحفة الملوك» (ص 193) ، «جمل الأحكام» (305) ، «إعلاء السنن» (12/573) .
وهو قول سفيان الثوري. انظر: «شرح السنة» (10/ 239) ، «تفسير القرطبي» (3/48) .
(1) أخرجه الدارقطني في «سننه» (3/117 رقم 118) حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا عبد الله ابن عيسى الجزري، نا عفان، نا شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» .
قال الدارقطني: عبد الله بن عيسى هذا كذاب، يضع الحديث على عفان وغيره، وهذا لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا رواه شعبة.
ثم أسند (رقم 119 و354) إلىعبد الرزاق، عن سفيان، عن أبي حنيفة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن ابن عباس، في المرأة ترتد، قال: «تجبر ولا تقتل» .
قلت: أخرجه عبد الرزاق (10/177 رقم 1873) عن سفيان الثوري، عن عاصم، به.
وأسند الدارقطني -كذلك- (رقم 120) ، وابن أبي شيبة (6/585- ط. دار الفكر) إلىعاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: «المرتدة عن الإسلام تحبس ولا تقتل» .
وأسند الدارقطني -أيضاً- (رقم 352، 356) إلى ابن عباس في المرأة ترتد، قال: «تُستحيا» .
وكل أسانيدها ليّنة، ومدارها على عاصم بن أبي النجود المقرئ. قال الحافظ في «التقريب» (3054) : «صدوق له أوهام» .
وأسند الدارقطني إلى يحيى بن معين قال: كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثاً كان يرويه، ولم يروه غير أبي حنيفة، عن عاصم، عن أبي رزين.
وأسند البيهقي إلى الإمام أحمد قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة؟ فقال: أما من ثقة فلا.
ونقل البيهقي في «الكبرى» (8/203-204) عن الشافعي في قول ابن عباس: «تحبس ولا تقتل» . قال الشافعي: فكلمني بعض من يذهب هذا المذهب، وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث؟ فما علمتُ منهم واحداً سَكَتَ، أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل الحديث حديثه. ا. هـ. وردَّ التركماني هذا كله. فانظر: «السنن» (8/203-204) .
وذكر ابن المنذر قول ابن عباس هذا، وقال: ولا يصح ذلك عنه.(1/615)
وقول: إنها تُسترقُّ ولا تُقتل. يروى ذلك عن علي (1) ، وبه قال قتادة والحسن البصري (2) .
فدليل الجمهور في وجوب قتلها كالرجل: عموم الخبر في قتل من بدل دينه، وهو لفظ يعمّ الرجل والمرأة. ومستند أبي حنيفة في أنها تجبر على الإسلام ولا تقتل: حمله على ما وقع النهي عنه من قتل نساء أهل الحرب بعلَّة الكفر، وهذا بعينه هو مستند القول الآخر في استرقاقها؛ لأن نساء أهل الحرب اللائي نُهي عن قتلهن، أبيح استرقاقهن بعلة الكفر، فمن ساوى بينهن (3) من غير فرقٍ؛ قال بالاسترقاق، ومن رأى لموقع الإسلام المتقدم أثراً في تعلُّق الأحكام بمنع معاودة الكفر؛ قال: تُجبر على الإسلام، ولا تقتل، ولا تسترق.
والأرجح أن لا فرق في شيء من ذلك بينها وبين الرجل، وأنها تقتل كما يقتل؛ لعموم الخبر، واستوائهما في الكفر بالردة.
وأما النهي عن قتل النساء فشيء خاص في نساء أهل الحرب، إذا لم يكن
_________
(1) ذكره ابن المنذر في «الإشراف» (2/240) . ونقل ابن قدامة في «المغني» (12/264) عنه أنه لا فرق بينها وبين الرجل.
وأشار (12/282) إلى أثر علي هذا في أن المرتدة، تُسبى. ونقل تضعيف الإمام أحمد له.
قلت: أخرجه عبد الرزاق (10/171 رقم 18715) ، وابن أبي شيبة (2/267) في «مصنفيهما» ، والبيهقي (8/208) من طريق عمار الدهني، عن أبي الطفيل، عن علي، في بَعْثِهِ معقل السُّلمي إلى بني ناجية، فوجدهم ثلاثة أصناف ... وفيه: وصِنْفٌ أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام إلى النصرانية ... قال: فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم.. إلخ.
(2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/176 رقم 18728) عن معمر، عن قتادة قال: تُسبى وتباع، وكذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة، باعهم، وذكر قبله قول الحسن في المرتدة: تُسبى وتكره.
وأخرجه -أيضاً- عن الحسن: ابن أبي شيبة (6/585- ط. دار الفكر) قال: لا تقتلوا النساء إذا هُنَّ ارتددن عن الإسلام، ولكن يُدْعَيْن إلى الإسلام، فإن هنَّ أبين سُبين، فيجعلن إماء المسلمين، لا يقتلن.
وأخرج عنه قوله: لا تقتل، تُحبس.
(3) كذا في الأصل، ومصحّحة في هامش المنسوخ: «بهنَّ» ، والمثبت أصوب.(1/616)
منهن حدثٌ يوجب قتلهن: من قتال، أو قَتلِ أحدٍ من المسلمين، وغير ذلك مما أثبته الشرع.
فأما إنْ تعدَّيْنَ في مثل ذلك؛ فلا يمتنع القتل.
خرَّج أبو داود (1) عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم -يعني
بني قريظة- إلا امرأة، إنها لعندي تُحَدِّثُ، تضحك ظهراً وبَطْناً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق، إذْ هَتَفَ هاتفٌ باسمها: أين فُلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حَدَثٌ أحدثته. قالت: فانطُلِق بها فضربت عنقها.
فليس النهي عن قتل النساء يراد به العموم والإطلاق؛ ألا ترى إلى قتل المرأة قوداً بالنفس؛ وحدّاً في الزنا؟ وكذلك الردّةُ، والله أعلم.
فصل
وأما اختلافهم في ميراث المرتد إذا قُتِل أو مات على رِدّته، ففي ذلك قولان
_________
(1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في قتل النساء) (رقم 2671) من طريق محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة.
قلت: وهذا إسناد حسن؛ من أجل محمد بن إسحاق. وبقية رجاله ثقات، رجال الشيخين.
وأخرجه أحمد (6/277) ، والحاكم (3/35-36) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/82) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (18018) من طريقين، عن ابن إسحاق، به.
وهو في «السيرة النبوية» لابن هشام (2/242) من حديث ابن إسحاق بهذا الإسناد.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
قلت: لم يحتج مسلم بمحمد بن إسحاق، إنما أخرج له في المتابعات.
ونقل البيهقي عن الشافعي قوله: فحدثني أصحابنا أنها كانت دلَّت على محمود بن مسلمة رحًى، فقتلته، فقتلت بذلك.
ونقل -أيضاً- قوله: قد جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل القرظية، ولم يصحَّ خبر على أيّ معنىً قتلها، وقد يحتمل أن تكون أسلمت، ثم ارتدت ولحقت بقومها، فقتلها لذلك، ويحتمل غيره.
وقد مضى ذكر حديث هذه المرأة، وأنها دلَّت على خلاد بن سويد حَجَراً فقتلته، وليس على محمد بن مسلمة.
وقولها: «ظهراً وبطناً» ، أي: تنقلب من كثرة الضحك ظهراً لبطن، وبطناً لظهر.(1/617)
مشهوران:
ذهبت طائفة إلى أنه يرثه ورثته من المسلمين، رُوي عن علي (1) ، والحسن البصري (2) ،
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/106 رقم 10143) عن عبد الله بن أبي كثير، عن شعبة، عن الحكم، أن عليّاً قال: «ميراث المرتد لولده» .
وأخرجه ابن حزم في «المحلّى» (11/197) من طريق دثار بن يزيد عن عبيد بن الأبرص الأسدي، عن علي، مثله.
وقال البيهقي في «مختصر الخلافيات» (4/31) : «وروي عن حجاج بن أرطاة، عن الحكم: أن عليّاً -رضي الله عنه- قضى في ميراث المرتد أنه لأهله من المسلمين» . ثم قال: «وهذا منقطع. والحجاج غير محتج به» . قال: «ورواه شريك، عن المغيرة، عن علي» . وقال: «وهو -أيضاً- منقطع» . وانظر: «السنن الكبرى» (6/254) .
وروى عبد الرزاق (6/104 و10/169، 339) ، وابن حزم في «المحلّى» (11/197) عن أبي عمرو الشيباني، أنّ عليّاً -رضي الله عنه- استتاب رجلاً مرتدّاً، فقال: «أما حتى ألقى المسيح فلا» ، فأمر به فضربت عنقه، ودفع ميراثه إلى ولده من المسلمين.
وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/105) ، «شرح معاني الآثار» (3/266) ، «الخراج» لأبي يوسف (216) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249) .
ونقل ابن المنذر في «الإشراف» (3/164) والبيهقي تضعيف أحمد لحديث علي -رضي الله عنه-.
وروي عنه -رضي الله عنه-، أن مال المرتد لبيت مال المسلمين.
ولا يثبت هذا عن علي؛ فالأثر ذكره مسنداً: ابن حزم في «المحلّى» (9/305) من طريق الحارث الأعور، عن علي. والحارث، قال المغيرة فيه: لم يكن الحارث يصدق عن علي في الحديث. وانظر: «ميزان الاعتدال» (رقم 1627) .
وحكى ابن حزم أن مذهب ابن مسعود: أنه لورثته من المسلمين، قال: «ولم يصح» .
قلت: أخرجه عبد الرزاق (6/105 رقم 10140) بسنده إلى الحكم بن عتيبة، عن ابن مسعود. وفيه رجل مبهم.
(2) كان -رحمه الله- يقول: ميراث المرتد للمسلمين، وقد كانوا يُطيِّبونه لورثته.
أخرجه عنه: عبد الرزاق في «المصنف» (6/107 رقم 10146) وفيه رجل مجهول.
وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (2/186 ب) ، «شرح معاني الآثار» (3/267) ، «سنن سعيد بن منصور» (3/1/81) ، «تفسير القرطبي» (3/49) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/102) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249 أو 3/163 ط. الباز) ، «شرح السنة» (8/365) ، «المغني» (9/162) .(1/618)
والشعبي (1) ، وهو قول أبي حنيفة (2) ، والليث
وإسحاق (3) .
وذهبت طائفة إلى أنه لا حق لورثته في ميراثه، وإنما ماله
فيءٌ لجماعة المسلمين، وهو قول مالكٍ (4) ، والشافعي (5) ،
_________
(1) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/249، أو 3/163- ط. الباز) ، «المحلّى» (11/197) ، «المغني» (9/162) .
(2) مذهب أبي حنيفة أنه إن مات أو قتل على ردَّته؛ انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين، وكان ما اكتسبه في حال ردّته فيئاً. وقال أبو يوسف ومحمد: كلاهما لورثته.
وانظر: «الرد على سير الأوزاعي» (ص 111) ، «الخراج» لأبي يوسف (216) ، «شرح السير الكبير» (5/149، 197) ، «الأصل» . كتاب الولاء (باب ولاء المرتد) (4/267) ، «مختصر الطحاوي» (258) ، «اللباب» (4/150، 197) ، «الهداية» (2/459) ، «المبسوط» (10/104) ، «بدائع الصنائع» (7/138) ، «الاختيار» (4/232-233) ، «عمدة القاري» (23/260) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/ 472 رقم 1625 و4/440 رقم 2131) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/123) ، «ملتقى الأبحر» (1/375) ، «تحفة الملوك» (193) ، «إعلاء السنن» (12/585) ، «جمل الأحكام» (307) .
(3) وهو مذهب الحكم بن عتيبة. حكاه ابن المنذر عنه وعن الليث وإسحاق في «الإشراف» (2/249 أو 3/163-ط. الباز) .
وفرَّق الأوزاعي بين ما إذا كان المرتد في دار الإسلام أو لا، قال: إذا كان في دار الإسلام؛ قُتل وقسم ماله بين ورثته؛ حكاه ابن المنذر في «الإشراف» (2/249 أو 3/163- ط. الباز) ، وحكى غيره عنه أن مذهبه التوريث مطلقاً.
وانظر: «المحلّى» (11/197) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (4/440 رقم 2131) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/510) .
(4) انظر: «المدونة» (3/87) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «الكافي» (582) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «الإشراف» (4/179 رقم 1535- بتحقيقي) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «عيون المجالس» (4/1902 رقم 347) ، «تفسير القرطبي» (3/49) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/306) ، «الخرشي» (8/66) ، «الشامل» (2/ق 171) لبهرام.
(5) انظر: «الأم» (4/87-88، 310 و6/174) ، «مختصر المزني» (ص 140) ، «الإقناع» للماوردي (ص 128، 175) ، «مختصر الخلافيات» (4/29) ، «مغني المحتاج» (3/25) ، «منهاج الطالبين» (2/344) ، «روضة الطالبين» (6/30) ، «البيان» للعمراني (9/18 و12/53) ، «المجموع» (19/ 235) ، «التهذيب» للبغوي (7/289-290) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249 أو 3/163- ط. الباز) .(1/619)
وأبي ثور (1) ، وغيرهم (2) ، وهو الأرجح، لما خرَّجه مسلم (3) عن أسامة بن زيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرث المسلم الكافر» . وهذا نص في ذلك.
وفي المسألة قول ثالث: قال أبو محمد بن حزم (4) : كل ما ظفر به من مال المرتد، فسواءٌ رجع إلى الإسلام أو لم يرجع؛ هو لجماعة المسلمين، وأما ما لم يظفر به من ماله قبل قتله؛ فهو باقٍ على ملكه: إن رجع إلى الإسلام؛ وَرِثه ورثته من المسلمين، وإن لم يرجع؛ ورثه ورثته من الكفار، إن كان له ورثة كفار، فإن لم يكونوا (5) له؛ فهو لجماعة المسلمين.
مسألة
واختلفوا في حكم ولد المرتد، فقال الشافعي (6) : ولد المرتد على
حكم
_________
(1) واختاره ابن المنذر، ونقله عن أبي ثور في «الإشراف» (2/249) ، وابن قدامة في «المغني» (9/162) .
(2) كربيعة شيخ مالك، وابن أبي ليلى. انظر: «الإشراف» (2/249) ، «المحلّى» (11/197) ، «المغني» (9/162) ، «عيون المجالس» (4/1902) .
واختلف فيه عن أحمد: فحكى إسحاق بن منصور عنه أنه قال: ماله للمسلمين. وهو مشهور المذهب.
وحكى الأثرم عنه أنه قال: كنت أقول به، ثم جَبنْتُ عنه، قال: هو كما ترى، قُتل على الكفر، فكيف يرثه المسلمون؟ وقال: هو في بيت المال، أفاده ابن المنذر.
وانظر: «المغني» (9/162 و12/272) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/ 1137) ، «الواضح شرح مختصر الخرقي» (1/218) ، «الإنصاف» (7/352 و10/339) ، «شرح الزركشي» (6/ 2725) ، «المقنع» لابن البنا (2/847) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/577) ، «كشاف القناع» (6/ 182-183) ، «الإقناع» (4/305) ، «الكافي» (3/161) ، «منتهى الإرادات» (2/503) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الفرائض (رقم 1614) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفرائض (باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) (رقم 6764) .
(4) في «المحلّى» (9/304 المسألة رقم 1744) .
(5) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «يكن» .
(6) فرّق الشافعية بين أن يكون الولد انعقد بين الزوجين قبل الردة أو بعدها، فإن انعقد قبل =(1/620)
الإسلام، فإن بلغوا فأبوا من الإسلام؛ قتلوا بعد أن يستتابوا، ولا تُسبى للمرتد ذرية، وقال الأوزاعي (1) : «إن كان تزوج في دار الحرب، ووُلد له، ثم راجع الإسلام؛ أُلحقت به ذريته، وَوُضِعَت امرأته في المقاسم، [وإن أبى أن يُسلم؛ وضعت امرأته وولدها في المقاسم] » . وقال أبوحنيفة (2) : «إن ارتد رجل وامرأته عن الإسلام معاً؛ فهما على النكاح، فإن لحقا بدار الحرب، فحملت في دار الحرب فولدت، ثم ظُهر على ولدها؛ فهو فيء (3) ، ويجبر على الإسلام إذا سُبي صغيراً، وإن وُلد لولدهما ولد، ثم ظُهر على ولد الولد؛ كان فيئاً، ولم يجبر على
_________
= الردة؛ فمسلم، حتى لو ارتدت حامل؛ فلا يحكم بردَّة الولد، فإن بلغ وأعرب بالكفر، كان مرتداً بنفسه، وإن حدث الولد بعد الردة، وكانا مرتدين، فهو كافر تبع لهما. وهو المشهور الصحيح من المذهب.
فعلى القول بإسلامه؛ فلا يُسترق بحال، وإن بلغ وأعرب بالكفر: فمرتد.
انظر: «الأم» (6/172) ، «مختصر المزني» (260) ، «الإقناع» للماوردي (ص 175) ، «الحاوي الكبير» (16/425) ، «حلية العلماء» (7/630) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/252) ، «مغني المحتاج» (4/ 135، 136، 141) ، «معالم السنن» (2/202) ، «البيان» للعمراني (12/59) ، «روضة الطالبين» (10/ 77) ، «المجموع» (21/76) ، «فتح الباري» (12/280) ، «السراج الوهاج» (519) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 231) .
قال الخطابي: «لم ينقرض العصر -أي: عصر الصحابة- حتى أجمعوا أنه لا يُسبى ولد المرتد» .
(1) ذكره عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/252) ، وما بين المعقوفتين منه، وعليه في الأصل إلحاق، ولم يظهر في المصورة، وأُثبت في المنسوخ إلا أن فيه: «أبى أن يُسبى» .
(2) نقل صاحب «الهداية» عن أبي حنيفة: أن ولد الولد يجبر على الإسلام تبعاً للجد، وأصله التبعيَّة في الإسلام.
قال: وهي رابعة أربع مسائل كلها على الروايتين -أي: عن أبي حنيفة-، والثانية: صدقة الفطر، والثالثة: جرّ الولاء، والأخرى: الوصية للقرابة.
انظر: «شرح السير الكبير» (5/197) ، «مختصر الطحاوي» (ص 259) ، «الهداية» (2/463) ، «تحفة الفقهاء» (3/309) ، «بدائع الصنائع» (7/139-140) ، «البناية» (5/882) .
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/252-253) .
(3) في فتاوى البرزلي (2/29) : «ولد المرتدة في دار الحرب من مرتدٍّ أو حربيٍّ فيءٌ مطلقاً؛ للحكم لهم بالدار، كأولاد أهل الحرب، ومثله أولاد الحربية من حربيٍّ أو مرتد» ، والعبارة المنقولة عند المصنف عن أبي حنيفة هي عبارة ابن المنذر في «الإشراف» (3/166) ، وعنده: «فإنه فيء» .(1/621)
الإسلام، إنما يجبر على الإسلام المرتدون وأبناؤهم (1) لأصلابهم، وأما ولد ولدهم الذين ولدوا في دار الحرب، فهم فيء لا يجبرون على الإسلام» .
قال أبو محمد بن حزم (2) : «كل من نالته ولادة مسلم أو مسلمة،
بأي وجه كان، لم يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، وإن بَعُدَ إلى ألف أم، أو ألف أب وأكثر، وسواء بانَ المرتدون بدارهم أو لم يَبيِنوا، دافعوا عن أنفسهم أو لم يدافعوا؛ لحقوا بأرض الحرب أو لم يلحقوا؛ حكمهم في كل شيءٍ كما ذكرنا» . يعني ما تقدم من قوله في وجوب القتل وأحكام الوراثة وغير ذلك. قال: «إلا أنهم إن دافعوا، غُنِمت أموالهم وقسمت، كأموال أهل الحرب ولا فرق، والمرأة المرتدة في كل ما ذكرنا من قتل وغيره كالرجل، والعبد والأَمَة كذلك فلم يَجُزْ سباؤهم، ولا استحياؤهم، إلا أن يكونوا أصاغر فيستحيون حتى يبلغوا؛ فإن أسلموا؛ وإلا قتلوا» .
والأرجح ما توافق عليه قوله وقول الشافعي، ونحوه من مذهب مالك في إجبار ولد المرتد على الإسلام (3) ، فإن كانوا أصاغر فبلغوا فأبوا دين الإسلام قتلوا، ولا تسبى للمرتد ذرية، وقد تقدم من القول في وجه الدليل على صحة
_________
(1) عبارة ابن المنذر: «وأولادهم» .
(2) أسهب القول في ميراث المرتد: لمن هو بعده؟، في «المحلّى» (11/197- وما بعدها) ، ولم أجد العبارة التي نقلها المصنف هنا.
(3) انظر: «عقد الجواهر الثمينة» (3/300) ، «المفهم» (1/186) -وفيه: «وكان أبو بكر يرى سَبْي أولاد المرتدين، وبذلك قال أصبغ بن الفرج من أصحابنا، وكان عمر يرى أنهم لا يُسبون، ولذلك ردَّ سبيهم، وبهذا قال جمهور العلماء وأئمة الفتوى» -، «إكمال المعلم» (1/244) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/178 رقم 1533- بتحقيقي) ، «حاشية الدسوقي» (4/305) .
قلت: وهو مذهب الحنابلة أنه لا يجري على أولاد المرتدين ممن كانوا قبل الردَّة رقٌّ، بخلاف ما لو ولد حال الردّة، فإنه يسترق.
انظر: «المغني» (12/282) ، «رؤوس المسائل» (3/1137) ، «المقنع» (3/1111) ، «شرح الزركشي» (6/256، 258) ، «الواضح» (2/219) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/452) ، «مسائل الإمام أحمد» (2/93- رواية ابن هانئ) ، «الإنصاف» (10/344) ، «الروايتين والوجهين» (2/310) .(1/622)
الأصل الذي يشتمل على هذا وأمثاله في (فصل: المفاداة بأبنائه المشركين) ، من (الباب الخامس) ما فيه غُنْية لمن تأمله.
قال أبو الوليد بن رشد (1) في ارتداد أهل بلد أو حصن: «الذي ذهب إليه جمهور العلماء وأئمة السلف: أن يُقتالوا؛ فيقتل رجالهم، ولا تسبى ذراريهم، وأما أموالهم فهي فيءٌ للمسلمين. قال: وقال أصبغ:
تُسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم، ويقتل كبارهم على حكم الناقضين من أهل الذمة؛ لأنهم جماعة، وإنما يكون الارتداد في الواحد وشبهه، وهو الذي خالفت فيه سيرةُ عمر بن الخطاب سيرةَ أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنهما- في الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سار فيهم أبو بكر سيرة الناقضين، فقتَلَ الكبارَ، وسبَى النساءَ والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، فلما وُلِّيَ عمر بعده نقض ذلك، وسارَ فيهم سيرة المرتدين: رَدَّ نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وإلى الحرية، وأخرجهم من الرقّ والسِّباء، وحملهم محمل ذرية المرتدين: أنهم على الإسلام، إلاّ من أباهُ منهم بعد بلوغه، وما أَباه (2) أحد منهم على عمر، ولا قبل ذلك، بل أَقَرَّ كلُّهم بالإسلام ساعة سُبُوا» .
قلت: فذهب أصبغ في سباء ذرية المرتدين إذا كانوا جماعة مذهباً شاذّاً؛ حيث فرَّق بين حكم الجماعة والآحاد من غير دليل، كما ذهب أشهب في أهل الذمة إذا نقضوا مذهباً شاذّاً: أن لا يُسبوا، وكلا القولين غير سديد، وقد تقدم الرَّدُّ على أشهب.
مسألة
واختلفوا في حكم ما أصاب المرتدُّ حال ارتداده من دمٍ ومال، فقيل: حالهم في ذلك كلِّه، والحكمُ عليهم بما أصابوه كحال المسلمين، لا يختلف في
_________
(1) في «البيان والتحصيل» (3/58) .
(2) في منسوخ أبي خبزة: «أباهم» .(1/623)
العقل والقود والضمان، وإليه ذهب الشافعي (1) ، قال: وسواءٌ قبل يقهرون (2) وبعدما قهروا، فتابوا أو لم يتوبوا، لا يختلف ذلك.
وقيل: إنهم إذا حاربوا أو نابذوا المسلمين، لم يؤخذوا بشيءٍ من ذلك، وهم فيه كالمشركين، رُوي ذلك في قولٍ عن الشافعي -أيضاً- (3) . وحكى أبو الوليد بن رشد (4) : أنه لا اختلاف -يعني: بين
المالكية- في أن المرتدَّ إذا لحق بدار الشرك فتَنَصَّرَ، وأصاب الدماء والأموال، ثم أُخِذ فأسلم؛ أنه يُهدر عنه جميع ما أصاب (5) ، كالحربي إذا أسلم سواء، وهذا إذا صحَّ ارتداده بكونه على بصيرةٍ منه في الكفر، وأنه لم يفعل ذلك مُجوناً وفسقاً. قال: «ولو ارتدَّ وأصاب الدماء في بلد الإسلام، ثم أسلم» ؛ فَذَكَرَ ما ظاهره: أن لا خلاف بين المالكية في أنَّ الارتداد لا يُسْقِطُ عن المرتد شيئاً من حقوق الناس، في الدماء والأموال والجراح.
واختلف في حقوق الله -تعالى- من الزنى، والسرقة، وحد الحرابة؛ فعن ابن القاسم: أن ذلك يُهدر عنه، وحكى ابن حبيب عن أصبغ، واختاره (6) هو: أن
_________
(1) انظر: «الأم» (6/39- ط. دار الفكر) ، «مختصر المزني» (259، 267) ، «الإقناع» (174) ، «المهذب» (2/221) ، «روضة الطالبين» (10/81) ، «المنهاج» (131) ، «حلية العلماء» (7/629) ، «البيان» للعمراني (12/62) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/254-255) ، «المجموع» (19/239) .
(2) كذا في الأصل والمنسوخ، ومطبوع «الأم» ، ولعلَّ الصواب: قبل أن يقهروا.
انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/255) .
(3) انظر: «الأم» (4/228-229 و6/176) .
وفرَّق الشافعية بين أن يكون المرتد أتلف شيئاً في غير القتال، أو في القتال. ففي غير القتال: يضمن، وفي القتال: لا يضمن. انظر: «روضة الطالبين» (10/55، 81) .
(4) في «البيان والتحصيل» (2/601) .
(5) انظر في مذهب المالكية: «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «المعونة» (3/1361) ، «القوانين الفقهية» (ص 355) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 300) ، «جامع الأمهات» (ص 254) ، «الإشراف» (4/177 رقم 1532- بتحقيقي) ، «عيون المجالس» (2/921 رقم 641) ، وذكر ابن عبد البر في «الكافي» (1/485) أنهم يطالبون بذلك كلِّه.
(6) كذا في الأصل، وفي مطبوع «البيان والتحصيل» (2/601) ، وفي المنسوخ: «واختار» !!(1/624)
الرِّدَّة لا تُسْقِطُ شيئاً من ذلك؛ لأنه يتهم أن (1) يرتد في الظاهر؛ ليُسْقِطَ ذلك عن نفسه، وقال أبو حنيفة (2) : ما جَنَى في
رِدَّته؛ فهو عليه في ماله (3) .
فصل: في الزِّنديق (4)
_________
(1) كذا في الأصل، وفي مطبوع «البيان والتحصيل» ، وفي المنسوخ: (من) بدل (أن) .
(2) قال محمد بن الحسن الشيباني في «السير الكبير» (5/212- 213) في المرتد:
«ولو أصاب ذلك بعدما لحق بدار الحرب مرتداً، ثم أسلم؛ فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدٍّ لله في زنىً أو سرقة أو قطع طريق، ثم ارتدَّ، أو أصابه بعد الردّة، ثم لحق بدار الحرب، ثم جاء تائباً، فذلك كله موضوع عنه، وإن أصاب دماً في قطع الطريق؛ فعليه القصاص» .
وقال الكاساني في «بدائع الصنائع» (7/137) : «ولو جنى المرتد جناية، ثم لحق بدار الحرب، ثم عاد إلينا ثانياً، فما كان من حقوق العباد كالقتل والغصب والقذف يؤخذ به، وما كان من حقوق الله -تبارك وتعالى- كالزنى والسرقة وشرب الخمر يسقط عنه» .
ففرق الحنفية بين الجناية في حق الله، وفي حقوق العباد، كما حكى ابن رشد الخلاف المذكور من كلام ابن القاسم وأصبغ.
وانظر: «مختصر الطحاوي» (ص 261) ، «الهداية» (2/460) ، «اللباب» (4/150) ، «البناية» (5/865، 867) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/508 رقم 1655) .
(3) وذهب الحنابلة -أيضاً- إلى أنهم يؤخذون بذلك، إن أتلفوا نفوساً أو أموالاً. وهو أحد قولي الشافعي الماضي ذكرهما، قالوا: لأنه كفر بعد إيمان، فلا يسقط الضمان في الأنفس والأموال.
انظر: «المغني» (12/284) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1139) ، «الإنصاف» (10/342) ، «المبدع» (9/185) ، «الفروع» (6/175) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/582 رقم 1834) ، «المحرر» (2/168-169) ، «كتاب التمام» (2/201) .
والراجح من هذا كلِّه -والله أعلم- قول من قال: إنهم لا يؤخذون بشيءٍ من ذلك كلِّه؛ وذلك بما ثبت أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- والصحابة لم يؤاخذوا من رجع من أهل الردَّة بشيءٍ مما قتلوا أو أتلفوا؛ لأنهم فئة ممتنعة، قاتلت على تأويلٍ بدينٍ كأهل الحرب.
وانظر حول خبر المرتدين: «تاريخ ابن جرير» (3/250-251، 259-260، 261) ، «الردّة» للواقدي (86، 95، 96، 97، 100، 101) ، «الفتوح» (1/15) لابن أعثم، «فتوح البلدان» للبلاذري (1/113-ط. المنجد) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/206) .
(4) الزنديق: هذا اللفظ ليس من كلام العرب، وهو فارسي معرَّب، معناه: من يقول بدوام =(1/625)
يُقتل (1) على كل حال؟ فقالت طائفة: يُكَفُّ عنه إذا أظهر الإسلام؛ لأن ما أظهره من ذلك عصمةٌ لدمه، وإليه ذهب الشافعي (2) ، وقالت طائفة:
يقتل أبداً
ولا يستتاب، ولا يقبل منه ما أظهره من الإسلام، وهو قول مالك (3) ، والليث،
_________
= الدهر. وإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة قالوا: ملحد، ودَهري (بفتح الدال) ، وإذا أرادوا معنى السن قالوا: دُهري (بضم الدال) .
قال ابن حجر في «فتح الباري» (12/270-271) :
«وأصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مَزْدك، وحاصل مقالتهم: إن النور والظلمة قديمان، وإنهما امتزجا. فحدث العالم كله منهما. فمن كان من أهل الشر فهو من أهل الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور. وكان بهرام جد كسرى قد قتل ماني وأصحابه، وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك. وقام الإسلام والزنديق يُطْلقُ على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل، ومن ثَمَّ أُطلِقَ الاسم على كل من أسَرَّ الكفر وأظهر الإسلام، وعلى من لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بوحدانية الخالق.
حتى قال مالك: الزندقة ما كان عليه المنافقون، وكذا أطلق الشافعية وغيرهم لفظ (الزنديق) على كل من يُظهر الإسلام ويُخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك، وإلا فأصلهم ما ذكرت» . انتهى بتصرف.
وانظر: «تهذيب اللغة» للأزهري (9/400) ، «المعرَّب» للجواليقي (166) ، «المغرب» (1/ 235) ، «القاموس المحيط» (3/235) ، «مشارق الأنوار» للقاضي عياض (1/311) ، «الأم» (6/156) .
(1) في منسوخ أبي خبزة: «تُقْبل» ، وكتب فوقها: «كذا» . أي: كذا هي.
(2) انظر: «الأم» (6/39) ، «مختصر المزني» (259) ، «الحاوي الكبير» (16/408) ، «روضة الطالبين» (10/75-76) ، «المهذب» (2/223) ، «مغني المحتاج» (4/140-141) ، «السراج الوهاج» (520) ، «نهاية المحتاج» (7/399) ، «المجموع» (19/232) .
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/248) ، «حلية العلماء» (7/626، 635) ، «فتح الباري» (12/272، 273) ، «إرشاد الساري» (10/75) .
وهو مذهب الحنفية في إحدى الروايتين، والثاني: لا تقبل توبته.
انظر: «أحكام القرآن» (3/274- ط. إحياء التراث) للجصاص، «شرح معاني الآثار» (3/ 210- ط. دار الكتب العلمية) ، «شرح فتح القدير» (6/98) ، «حاشية ابن عابدين» (3/296) .
(3) انظر: «المعونة» (3/1363) ، «التفريع» (2/231) ، «الرسالة» (240) ، «الكافي» (585) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/298) ، «الإشراف» (4/172 رقم 1526- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/67) ، =(1/626)
وأحمد (1) ، وإسحاق (2) ، وكذلك أهل الظاهر (3) : يرون قتله من حيث أصلهم في المرتد: أنه لا تعتبر مراجعته الإسلام في إسقاط ما ثبت عليه من القتل، وليس هذا هو مسلك مالك ومن ذكر معه في قتل الزنديق من غير استتابة؛ لأنهم يرون استتابة المرتد دون الزنديق، وإنما فرقوا
بينهما في ذلك من حيث أن الزنديق ليس على دينٍ يعتقده، فيرى التزامَه وإظهارَه عبادةً، حتى لا يسمح بالرجوع عنه إلا بعد أن ينتقل عن ذلك الاعتقاد، ويعتقد ما يظهره من الإسلام، وإنما الزنديق جاحدٌ مبطل لا يعتقد شيئاً دِيناً، فتظاهره بالإسلام خداعٌ ودفاع، وليس مَبْنيّاً على صحة اعتقاد، هذا وجه ما ذهبوا إليه.
قال مالك في «الموطأ» (4) : «معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - -فيما نرى والله أعلم-:
_________
= «الشرح الكبير» (4/306) ، «جواهر الإكليل» (2/281) ، «حاشية الدسوقي» (4/302) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (5/647) .
وهو مذهب الليث بن سعد -كما ذكر ذلك المصنف-.
انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/247) ، «المغني» لابن قدامة (12/269) ، «إعلام الموقعين» (4/549- بتحقيقي) .
(1) في إحدى الروايات عنه، ونصرها كثير من أصحابه، بل هي أنصُّ الروايات عنه. قاله
ابن القيم في «الإعلام» (4/549- بتحقيقي) .
انظر: «المقنع» لابن قدامة (ص 307) ، «الإنصاف» (10/232-233) ، «المغني» (12/269) ، «شرح الزركشي» (6/236) ، «الهداية» لأبي الخطاب (2/109) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/576 رقم 1824) ، «المحرر» (2/168) ، «الروايتين والوجهين» (2/305) ، «الفروع» (6/170) ، «كتاب التمام» (2/200) ، «كشاف القناع» (6/180) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1136) ، «الإفصاح» لابن هبيرة (2/229) .
وانظر: «الصارم المسلول» (ص 340- وما بعدها أو 3/651- ط. ابن حزم) ، «عمدة القاري» (24/77) ، «أدب القضاء» (425) ، «نيل الأوطار» (7/204-205) .
(2) مذهبه في «الإشراف» لابن المنذر (2/247- ط. محمد نجيب) ، و «الصارم المسلول» (2/16- ط. رمادي) ، و «إعلام الموقعين» (4/549- بتحقيقي) .
(3) انظر في مسألة المرتد واستتابته في مذهب الظاهرية: «المحلَّى» (11/188- وما بعدها) .
(4) في كتاب الأقضية (باب القضاء فيمن ارتدَّ عن الإسلام) (بعد رقم 603- ط. دار إحياء التراث) .(1/627)
«من غيَّر دينه فاضربوا عنقه» (1) : أنه من خرج من الإسلام إلى غيره: مثل الزنادقة وأشباههم، فأولئك إذا ظُهِرَ عليهم قتلوا ولم يُسْتَأْنوا؛ لأنه لا تعرف توبتهم، وأنهم كانوا يُسِرُّون الكفر، ويعلنون الإسلام، فلا أرى أن يستتاب هؤلاء، ولا يقبل منهم قولهم. وأما من خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك فإنَّه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل» .
ودليل ما ذهب إليه الشافعي: ما خرَّجه مسلم (2) ، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» . ثم قرأ: {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] .
وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة، فصبَّحنا الحُرقاتِ من جُهينة، فأدركتُ رجلاً فقال: لا إله إلا
الله، فَطَعَنْتُهُ، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أقال: لا إله إلا الله وقَتَلْتَهُ» ؟! قال: [قلت] (4) : يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: «أفلا شَقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» ؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمتُ يومئذٍ.
واحتجَّ الشافعيُّ بقوله -تعالى- في المنافقين: {اتَّخَذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16، المنافقون: 2] . قال (5) : «فهذا يدل على أن إظهار الإيمان جُنَّةٌ من
_________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (رقم 603) بهذا اللفظ مرسلاً. من حديث زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحديث وصله البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب لا يعذب بعذاب الله) (رقم 3017) من طريق أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس.
(2) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... ) (رقم 21) . وقد مضى.
(3) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله) (رقم 96) .
(4) ساقطة من المنسوخ.
(5) في «الأم» (باب ما يحرم به الدم في الإسلام) (6/156، 158) ، وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/248) ، «الإقناع» له -أيضاً- (2/586) .(1/628)
القتل» . وهذه كلها أدلةٌ واضحة، وحجج قوية فيما ذهب إليه الشافعي، والله أعلم (1) .
فصل: فيمن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
الذي عليه الجماعة من أهل العلم: أنًّ من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قتله،
وممن قال بذلك: مالك (2) ، والشافعي (3) ، والليث بن سعد (4) ،
_________
(1) الخلاف بين الأئمة في قبول توبة الزنديق في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله -تعالى- لها في الباطن وغفران الله -تعالى- لمن تاب وأقلع ظاهراً وباطناً؛ فلا خلاف فيه. أفاده ابن قدامة في «المغني» (10/80) .
نعم، لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام، وعلى التوبة النصوح، وتكرر ذلك منه، لم يقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة. قاله بحروفه ابن القيم في «الإعلام» (4/550- بتحقيقي) .
وانظر في بسط المسألة مع أدلتها: «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 444- 454) ، «أحكام المرتد في الشريعة» (ص 206-207) ، «أثر الشهبات في درء الحدود» (ص 513-519) .
(2) انظر: «التفريع» (2/232) ، «الإشراف» (4/257 المسألة رقم 1601- بتحقيقي) ، «الرسالة» (240) ، «الكافي» (585) ، «البيان والتحصيل» (16/396- 399، 413- 414) ، «الذخيرة» (12/18-27) ، «شرح زروق على الرسالة» (2/253) ، «حاشية الدسوقي» (4/309) ، «القوانين الفقهية» (ص 395) ، «منح الجليل» (4/476) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك» (5/654) .
وانظر: «الشفا» للقاضي عياض (2/215-ط. دار الكتب العلمية) ، «نهاية السول في خصائص الرسول» لابن دحية (ص 261) ، «المعيار المعرب» للونشريسي (2/326- 327) .
وقد استوعب شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (3/573-575) الأقوال والتصورات عن مالك.
(3) «الأم» (4/208) ، «مختصر المزني» (277) ، «روضة الطالبين» (10/332) ، «معالم السنن» (6/199-200- مع «مختصر المنذري» ) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 239) ، «الحاوي الكبير» (18/367) ، «مغني المحتاج» (4/141) للشربيني، «الأوسط» ، كتاب الحدود (2/682 رقم 285) (رسالة علمية) ، «الإجماع» (ص 153 رقم 722) ، «الإشراف» (2/244) ، «الإقناع» (2/584) ؛ جميعها لابن المنذر، «زاد المحتاج» (4/358) ، «حواشي الشرواني وابن القاسم» (9/302) ، «الإعلام بقواطع الإسلام» (144) .
(4) انظر في مذهب الليث بن سعد: «الشفا» للقاضي عياض (2/393- مع شرحه لعلي القاري. ط. دار الكتب العلمية) ، «المحلّى» لابن حزم. مسائل التعزير وما لا حدّ فيه (11/415 المسألة =(1/629)
وأحمد (1) ، وإسحاق (2) ، وأهل الظاهر.
قال أبو محمد بن حزم (3) : كل من سبَّ الله -عز وجل-، أو مَلَكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء، وهو يدري أنه مَلَكٌ أو نبيٌّ، أو سبَّ القرآن، أو سورةً منه، أو آية، أو شيئاً من شرائع الإسلام، أو استهزأ بشيء مما ذكرنا، أو استخفّ به، فإن كان مسلماً قتل على الرِّدَّة على ما قدمنا -يعني في أنه لا تقبل
توبته، وفي غير ذلك من أحكام ماله ووراثته وسائر أحواله-. قال: وإن كان ذميّاً قتل، وأخذ ماله، إلا أن يُبادر فيسلم؛ فلا شيء عليه، ومالُه الذي لم يؤخذ بَعْدُ لَهُ، وأما الذي أخذ فلجماعة المسلمين.
_________
= رقم 2308) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/244) .
(1) انظر: «المغني» (12/405) ، «شرح الزركشي» (4/7-12) ، «الفروع» (6/287) ، «المبدع» (9/97) ، «الإنصاف» (10/332) ، «مسائل أحمد» لأبي داود (ص 226) ، «السنن» له بعد حديث رقم (4363) ، «مسائل أحمد» (3/1292- رواية عبد الله) ، «الهداية» لأبي الخطاب (2/110) ، «أحكام أهل الملل» للخلاَّل (ص 255-256 رقم 724) ، «كشاف القناع» (6/168) ، «الشافي» لغلام الخلال -كما في «الصارم المسلول» (2/18-19) -، «معونة أُولي النهى» لابن النجار (8/544-558) ، «المعتمد» للقاضي أبي يعلى -كما في «الصارم المسلول» (3/957- ط. رمادي والمؤتمن) ، «مسائل أحمد» - رواية حرب الكرماني -كما في «السيف المسلول» للسبكي (ص 285- ط. دار الفتح) ، «الإنصاف» (4/257) ، «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى (ص 159) ، «المحرر» (2/188) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصارم المسلول» (3/620) -في الذمي إذا سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - -: «فيه ثلاثة أقوال: أحدها يقتل بكل حال، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه، وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي ... » .
(2) قال: «أجمع المسلمون أنَّ من سب الله، أو سبَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئاً مما أنزل الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله -عز وجل- أنه كافرٌ بذلك، وإن كان مقرّاً بكل ما أنزل الله» .
نقله عنه: ابن عبد البر في «التمهيد» (4/226) ، وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/244) ، «الصارم المسلول» (ص 252- ط. رئاسة الافتاء بالرياض) .
وروى ابن سعد في «الطبقات» (5/379) بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قوله: «لا يقتل أحد في سبِّ أحد، إلا في سبِّ نبيٍّ» . وانظر: «السيف المسلول» للسبكي (119- وما بعدها) .
(3) في «المحلّى» (11/413) .(1/630)
وحُكي عن أبي حنيفة (1) أنه قال: لا يقتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمَّة، ما هم عليه من الشرك أعظم.
والدليل على وجوب قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) : أنه بذلك منتقصٌ له، مستهينٌ بحرمته، وفي ذلك تكذيب بما ورَدَ في القرآن، وثبت بالتواتر والإجماع من علوِّ قدره - صلى الله عليه وسلم -، وكَرَمه (3) ، وما فضَّله الله -تعالى- به، وكذلك القول في جميع الأنبياء -عليهم السلام- وملائكةالله الكرام، وفي القرآن، وشرائع الإسلام كما ذكر أبو محمد؛ لأن كل ذلك مما جاء بالشرع المتواتر: أن الله -تعالى- اصطفاه
_________
(1) فرق الحنفية بين الساب المسلم، والذميِّ، فقالوا بقول الجمهور في ردَّة المسلم ووجوب قتله، وأما الذمي فلا ينتقض عهده بسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 262) ، «القدوري» (ص 117) ، «اللباب» (4/147-148) ، «الخراج» لأبي يوسف (ص 217) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/504 رقم 1652) ، «أحكام القرآن» (3/427) ؛ كلاهما للجصاص، «الهداية» (2/456) ، «البناية» (5/842) ، «النتف في الفتاوى» للسغدي (2/694) ، «إعلاء السنن» (12/604) .
(2) من قواطع الأحكام في الإسلام أنّ من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر مرتدٌّ، وعقوبته القتل.
وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- في «الزاد» (3/214) إجماع المسلمين من الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم.
وهذا إجماع محكيٌّ لدى عامة أهل العلم، وممن حكاه: الخطابي في «معالم السنن» (6/ 199) ، وشيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (3/695-701) ، والسبكي في «فتاويه» (2/573) .
بل قرر ابن سحنون من علماء المالكية: أن من شكَّ في كفر ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعذابه فهو كافر.
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «الصارم المسلول» (2/16-ط. رمادي) :
«وتحرير القول فيها (أي في مسألة سب النبي - صلى الله عليه وسلم -) : أنَّ السابَّ إن كان مسلماً، فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة، مثل: إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً فإنه يقتل -أيضاً- في مذهب مالكٍ وأهل المدينة.. وهو مذهب أحمد، وفقهاء الحديث ... » .
وانظر: «السيف المسلول» للسبكي (ص 119- وما بعدها) .
وقد أفضت الكلام على هذه المسألة في تحقيقي لكتاب «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (4/258-262) ، فانظره غير مأمور.(1/631)
واختاره
وفضّله، فمن وصفَ شيئاً من ذلك بَعْدُ بغير ما وصَفَه الله -عز وجل- مما ينافيه ويضاده؛ فقد كذَّب بما أعلم به الله من ذلك في كتابه وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم من دين الأمة ضرورة، وذلك هو نفس الكفر وصريحه، وهذا مأخذ في الاستدلال على هذا المعنى، وإن لم أقف عليه نصاً على هذا المسلك لأحد، فهو نظر صحيح لا يعترض، بل إن لم يكن هذا هو المستند، فلا يوجد على القتل دليل يُرضَى.
ومما يزيد -عندي- هذا المأخذ -الذي أنا من صحته على يقين- وضوحاً في ذلك: قول الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57] ، فجعل -تعالى- اللعنةَ والوعيد لمن آذى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - مأخذةً، مع اللعنةِ والوعيدِ لمن آذى الله سبحانه وتنزَّهَ، إذا هو وصفه بغير صفته، أو نَسَب إليه ما لا ينبغي في جلاله وعظمته وربوبيته، تعالى الله عما يقول المبطلون علوّاً كبيراً، وهو الكفر الصريح لا محالة.
فلمّا سوَّى اللهُ -تعالى- في ذلك مُؤْذِيَهُ بِمُؤْذي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفرق بينه وبين غيره من كافة المسلمين؛ فقال -تعالى- في الآية بعده: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 58] ، وشتَّان بين هذا الوعيد والأول؛ كان ذلك أدلَّ دليلٍ على أن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقصه وغير ذلك، مما يفضي إلى الاستهزاء والأذى: كفر بما أنزل الله -عز وجل-، وهذا كله دليل صحيح واضح، والحمد لله.
وإذا تقرر هذا؛ فكان يجب أنه متى تاب فاعل ذلك، وراجع الحق: أُقيل، على مذهب من يرى قبول توبة المرتد، وهم أكثر أهل العلم، إلا أني لا أعلم قالوا ذلك فيمن كان مسلماً قَبْلُ: إنما هو القتل بكل حال؟ فلعل ذلك محمول عندهم محمل إقامة الحدود: إذا وجبت أقيمت، ولا تغني التوبة في دفعها شيئاً، لكنه يلزمهم مثل ذلك في القضاء بقتل المرتد على كل حال، كما ذهب إليه أهل الظاهر وغيرهم ممن يقول به، ولذلك لم يلزمهم هنا هذا الاعتراض ولا الانتقاض.(1/632)
قال أبو بكر بن المنذر (1) : ومما يحتج به في هذا الباب -يعني قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - -: قصة كعب بن الأشرف، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله؟» فانتدب له جماعة بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتلوه (2) .
الفصل الثاني: في أحكام المحاربين
قال الله - عز وجل-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33- 34] .
واختلف أهل العلم في المحارب المراد بالآية وأحكامِه في ثلاثة مواضع:
الأول: هل المراد بالآية الكفار أو المسلمون؟
والثاني: في وضع العقوبات المحدودة في الآية عليه: هل ذلك على التخيير أو على الترتيب؟
والثالث: في حكم توبته، وما الذي يُهدر عنه إذا جاء تائباً من جناياته؟
فصل
فأما اختلافهم في المحارب المراد بالآية، ففي ذلك أقوال:
_________
(1) انظر: «الإقناع» لابن المنذر (2/584) .
(2) أخرجه البخاري في عدة مواطن (رقم 2510، 3031، 3032، 4037) ، ومسلم (1801) وغيرهما. وقد مضى تخريجه.
وانظر في قصة قتل كعب بن الأشرف: «السير والمغازي» لابن إسحاق (ص 316-321) ، «مغازي الواقدي» (1/184-193) ، «السيرة النبوية» لابن هشام (2/51-58) ، «طبقات ابن سعد» (2/31) ، «تاريخ الطبري» (2/488) ، «تفسير الطبري» (5/132- وما بعدها) .(1/633)
قالت طائفة: لا يطلق على المسلم أنه محاربُ الله ورسولَه، إنما ذلك في الكفار المعاندين لدين الله -عز وجل-، وأما المسلم الذي يخرج متلصِّصاً، فلا يُسَمَّى بذلك. رُوي هذا القول عن ابن عباس (1) ، ويُعزى كذلك إلى الحسن البصري وعطاء وغيرهم (2) .
واحتج بعض من ذهب إلى هذا بخبر العُرَنيِيِّن (3) ، بما وقع في بعض طرقه:
_________
(1) أخرجه عنه أبو داود في «سننه» (4372) ، والنسائي في «المجتبى» (رقم 4046) ، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه؛ لم يكن عليه سبيل، وليست هذه الآية للرجل المسلم، فمن قَتَل، وأفسد في الأرض، وحارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه؛ لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
قال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال.
وقال الحافظ في «التقريب» (4717) : صدوق يهم.
فحديثه قابل للتحسين. ولذا حسّنه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «صحيح أبي داود» .
وعزاه لابن عباس: ابن المنذر في «الإشراف» (1/529) ، وابن حزم في «المحلّى» (11/300) .
وانظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (2/92) ، «تفسير القرآن» لابن كثير (2/50) ، «لباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي (ص 91) ، «نيل الأوطار» (7/176) .
(2) روى أثر الحسن: ابن جرير في «التفسير» (6/206) ، رواه عن عكرمة وعبد الكريم بن مالك الجزري، مولى بني أمية، عنه.
ورواه ابن حزم (11/300) من طريق أشعث، عن الحسن، به.
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (1/529) ، «المحلّى» (11/301) ، «فتح الباري» (12/109) .
وعن سعيد بن جبير والحسن، قالا: المحاربة لله: الكفر به. نقله عنهما البخاري، ولم يعزه لأحد. انظر: «الفتح» (8/273-274) .
والأثر عن عطاء، رواه ابن حزم في «المحلّى» (11/301) من طريق معمر، عنه وعن قتادة.
وهو مذهب الضحاك بن مزاحم، وابن جريج، كما في «المحلّى» -أيضاً-.
وقد ردّ ابن حزم هذا القول. انظر: «المحلّى» (11/303- وما بعدها) .
(3) الخبر: رواه البخاري في «صحيحه» في عدة مواطن. بالأرقام (233، 1501، 3018، 4192، 4193، 4610، 5685، 5686، 5727، 6802، 6803، 6804، 6805، 6899) .
ومسلم في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (باب حكم المحاربين والمرتدين) (رقم 1671) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.(1/634)
«أنهم كفروا بعد إسلامهم» ، وفيهم نزلت الآية.
وقال أكثر الفقهاء (1) : إن كل من خرج من المسلمين فسوقاً، فشهر السلاح، وحارب المسلمين وأخافهم؛ فيصح عليه أنه حارب الله ورسوله، أي: أهل دين الله؛ فيكون حكمه ما ذكر الله في الآية.
خرّج مسلم (2) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منّا» .
وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وأحمد، وأهل الظاهر، وغيرهم (3) .
واحتج المستدلُّ على صحة هذا المذهب، ردًّا علىمن زعم أن الآية في المشركين بأشياء راجحة، منها:
إجماع العلماء على أن المشرك إذا فعل هذه الأشياء، ثم أسلم قبل أن يتوب منها؛ أنه لا يقام عليه شيء من حدودها؛ لقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ
_________
(1) ويعزى كذلك للحسن البصري، وقتادة، وعطاء، والكلبي. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/108، 111) ، «المحلَّى» (11/302) ، «تفسير ابن جرير» (6/210-211) .
(2) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منّا» ) (رقم 161) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعاً، وفي الأصل: «السلاح علينا» ، والمثبت من المنسوخ و «صحيح مسلم» .
وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري في موطنين من «صحيحه» (رقم 6874، 7070) .
وأخرجه البخاري (رقم 7071) ، ومسلم (رقم 163) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
وأخرجه مسلم (رقم 162) من حديث إياس بن سلمة، عن أبيه، مرفوعاً بلفظ: «مَنْ سَلَّ علينا السلاح فليس مِنّا» .
(3) واختاره ابن جرير في «تفسيره» (6/208) .
انظر: «اختلاف الفقهاء» (243) للطبري، «مختصر الطحاوي» (ص 275) ، «الأم» (6/164- ط. دار الفكر) ، «مغني المحتاج» (4/180) ، «الإنصاف» (10/291) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/92) ، «عيون المجالس» (5/2142) ، «بداية المجتهد» (2/584- ط. دار الكتب الحديثة - القاهرة) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 741- 742) ، وفي المنسوخ: «وقال به مالك ... » .(1/635)
كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
وأيضاً؛ فلو كانت في المشركين؛ لوجب أن يقام ذلك على كل من قُدر عليه منهم قبل أن يتوب، فكان يكون ذلك حكم الأسرى، وهو مما لم يقله أحدٌ بإجماع (1) .
فصل
وأما اختلافهم في وضع العقوبات التي ذكر الله -تعالى- في المحارب: هل ذلك على التخيير أو هو مرتب على قدر جناياته؟.
فالذي ذهب إليه مالك (2) ، وأبو ثور (3) ، وقاله أبو محمد بن حزم (4) : أن الأمر في ذلك إلى الإمام، يجتهد فيه، وينظر على حسب الحال والمصلحة، وموقع الكف والنَّكال، وروي التخيير كذلك عن ابن عباس (5) ، وقاله سعيد بن
_________
(1) قال ابن كثير في «التفسير» -عن هذه الآية-: والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم، ممن ارتكب هذه الصفات. ثم ذكر -رحمه الله- حديث العُرَنِييِّن مستدلاًّ به على صحة هذا المذهب. وانظر: «تفسير الطبري» (6/208-209) .
(2) «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «الكافي» (1/ 487) ، «المنتقى» (7/171) ، «مقدمات ابن رشد» (3/227) ، «المعونة» (3/1366) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) ، «النوادر والزيادات» (14/462) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/188-189) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «بداية المجتهد» (2/526- ط. دار الحمامي بمصر) ، «المنتقى» (7/171) للباجي.
(3) نقل ذلك عنه الطبري وغيره.
انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (246، 247- تحقيق يوسف شخت) ، «فتح القدير» (5/ 423) ، «المغني» (8/289) ، «إرشاد السالك» (3/156) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 743) .
(4) في «المحلّى» (11/318-319) . وانظر: «التشريع الجنائي» (2/647) .
(5) أخرجه عنه: الطبري في «تفسيره» (6/214) . =(1/636)
المسيب (1) ، وعمر بن عبد العزيز (2) ،
ومجاهد (3) ، والضحاك (4) .
وذهب الشافعي (5) ، وأبو حنيفة (6) ، والأوزاعي (7) ، وسفيان
الثوري، وأبو
_________
= وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «تفسير الرازي» (11/215) .
(1) رواه الطبري في «تفسيره» (6/214) ، وابن أبي شيبة (12/286 رقم 12846) .
وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وأبي مجلز، كما رواه عنهم: عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، والطبري في «التفسير» (6/214) ، وأفاده القرطبي في «تفسيره» (6/151) .
وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (12/285 رقم 12844) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/531) .
(2) مذهبه في «الموطأ» (7/171- مع «المنتقى» ) ، ونقله عنه القرطبي في «تفسيره» (6/152) .
(3) رواه عنه الطبري -أيضاً- (6/214) ، وعبد الرزاق (10/110، 111 رقم 18549، 18550) ، وابن أبي شيبة (12/285 رقم 12844) في «مصنفيهما» .
وانظر: «الإشراف» (1/532) .
(4) الضحاك: هو ابن مزاحم.
وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/108-109) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «شرح السنة» للبغوي (10/261) ، «المحلّى» (11/300- وما بعدها) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/283) ، «الدر المنثور» (3/69) .
(5) «الأم» . كتاب الحدود وصفة النفي (حد قاطع الطريق) (6/164) ، «مختصر المزني» (265) ، «روضة الطالبين» (7/366) ، «الحاوي الكبير» (17/234) ، «المهذب» (2/301-302-ط. مصطفى الحلبي) ، «مغني المحتاج» (4/182) ، «حلية العلماء» (8/80) ، «الإقناع» للماوردي (173) ، «الإقناع» لابن المنذر (1/334) ، «الإشراف» له أيضاً (1/531) .
(6) قال أبو حنيفة: الإمام مخير، إن شاء جمع القتل والقطع، وإن شاء جمع القطع والصلب، ثم قتل بعد الصلب. انظر: «الجامع الصغير» (58) ، «مختصر الطحاوي» (275، 276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/423) ، «المبسوط» (9/195، 198) ، «بدائع الصنائع» (7/93) ، «اللباب» (3/212) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 497- ط. المطبعة البهية) .
(7) عن الأوزاعي -رحمه الله- روايتان:
الرواية الأولى: هي التي عزاها له المصنف -رحمه الله-. =(1/637)
يوسف، وأحمد بن حنبل (1) : إلى أنَّ العقوبات مرتبةٌ على مقادير الجنايات، بحسب ما عرف من الشرع في جزاء أمثالها، وليس في شيءٍ من ذلك للإمام اختيار، ورُوي -أيضاً- هذا القول الثاني عن ابن عباس (2) ، إلا أنهم اختلفوا في ترتيب ذلك اختلافاً، نشير منه إلى أشهره -إن شاء الله تعالى-.
فأما مستند من ذهب إلى أن الإمام مخير (3) في عقوبات المحاربين بحسب
_________
(1) انظر: «المغني» (12/476) ، «المقنع» لابن البنا (3/1137-1138) ، «شرح الزركشي» (6/365-366) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/515) ، «الواضح» (2/239) ، «مسائل أحمد» (278- رواية الكوج) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/667 رقم 1923) ، «الرعاية الصغرى» (2/353) .
(2) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/109 رقم 18544) عن إبراهيم [هو ابن محمد ابن أبي يحيى] ، عن داود [هو ابن الحصين القرشي الأموي] ، عن عكرمة، والطبري في «التفسير» (6/213) من طريق حجاج، عن عطية العوفي، كلاهما عن ابن عباس.
وحجَّاج: هو ابن أرطاة: كثير الخطأ والتدليس. وعطية العوفي: ضعيف.
وأخرجه الشافعي في «الأم» (6/164- ط. دار الفكر) ، ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (10/261 رقم 2570) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/283) ، عن إبراهيم، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس.
وإبراهيم: هو ابن محمد بن أبي يحيى: وهو متروك.
وداود بن الحصين: ثقة إلا في عكرمة. قال علي بن المديني: ما روى عن عكرمة، فمنكر الحديث.
وضعفه ابن عدي بإبراهيم بن أبي يحيى. انظر: «تهذيب الكمال» (2/412- ط. الرسالة) .
وصالح مولى التوأمة: اختلط بأخره.
وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (2/496) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «تفسير القرطبي» (6/151-152) ، «التلخيص الحبير» (4/134-135- ط. مؤسسة قرطبة) .
واختار هذا القول: ابن جرير في «التفسير» (6/215) .
(3) بعدها في الأصل والمنسوخ: «تخير» ، وفي هامش المنسوخ: «تخيير» ، وحذفها هو الأليق بالسياق.(1/638)
المصلحة (1) ، فذلك ظاهر الآية؛ لأن عرف اللغة في سياق
(أو) على مثل ذلك: أن يكون بمعنى التخيير، كآية كفارة اليمين، وآية فدية الأذى، لا اختلافَ في ذلك أنه تخيير، فكذلك ها هنا، ولله -تعالى- أن يعاقب من شاء كيف شاء.
ومستند من ذهب إلى وضع العقوبات مرتبةً على الجنايات بحسب ما عهد من إجرائها في الشرع: ما تقرر ووجب من حفظ الدماء والأبشار إجماعاً؛ فلم يكن التصرف في واحدٍ منها إلا بيقين. ولما شرع في عقوبات المحارب أشياء تختلف، وكانت جناياته كذلك تختلف؛ كان الوجه: وضع كل عقوبة منها على ما يقابلها مما تقرر في مثله، أو جنسه بنصِّ الشَّرع؛ لأن التَّخيير هنا ليس نصّاً مقطوعاً عليه، ولا ظاهراً -أيضاً-؛ ألا ترى أن (أو) قد تقع في اللغة هذا الموقع، ثم لا يُراد بها التخيير، وتكون للتفصيل (2) : ترد كل قسم إلى ما يليق به مما عرف قبل ذلك أو معه، بنصٍّ أو قرينة، وذلك مثل قول القائل: حد الزاني: جلد أو رجم، لا يُراد بها التخيير في عقوبة كل زانٍ، بل معناه تفصيلُ العقوبة وتنويعها، بحسب أنواع الزناة، فالزاني البكر يجلد، والثيّب يرجم، فليست (أو) في نحو هذا من التخيير في شيء.
ومن ذلك قول جعفر بن عُلَيَّة الحارثي:
أَلَهْفَى بِقُرَّى سَحْبلٍ حينَ أَجْلَبتْ ... علينا الولايا والعدوُّ المباسِلُ
_________
(1) مذهب المالكية أن له قتله وإن لم يكن قَتْل. انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/ 232) ، «الرسالة» (240-241) ، «المنتقى» (7/174) ، «الكافي» (582-584) ، «مقدمات ابن رشد» (3/ 227) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/188-189) ، «الإشراف» (4/183- بتحقيقي) ، «تفسير القرطبي» (6/152) .
(2) وللتنويع. ورجح الطبري هذا المعنى. انظر: «تفسير الطبري» (6/214-215) ، «بداية المجتهد» (2/526- ط. دار الحمامي) ، «فتح الباري» (12/110) .
وقال ابن المنذر في «الإشراف» (1/533) : وقد رُوينا عن ابن عباس أنه قال: ما كان في القرآن أو، أو؛ فصاحبه بالخيار.(1/639)
فقالوا: لنا ثنتان لا بُدَّ منهما ... صُدورُ رماحٍ أشرعت أو سَلاسِلُ (1)
لم يرد أنَّا نتخير في ذلك واحدة، وإنما أراد أن كلتيهما مفعول، يتنوع بحسب ما يكون منكم، فمن قاتل، أصابته رِماحُنا، ومن ألقى بيده، أَسَرْناه في السلاسل. فيكون على هذا معنى الآية: إنَّ لكل حالةٍ نوعاً من هذه العقوبات على ترتيب أوضاعها بالشرع.
وبالجملة؛ فلكلِّ مذهبٍ مُستندٌ قويٌّ، إلاَّ أنَّ الأولى أن لا يُقدَمَ على دمِ مسلمٍ إلا بيقين، والخطأ في استحيائه أقرب من الخطأ في قتله، والله أعلم.
واتفق القائلون بترتيب العقوبات على أنه لا يُقتلُ المحارب إلا إن قَتَلَ، وأنه إنْ قَتَل يُقْتلُ على كل حال، وليس لولي دم المقتول مَدخلٌ في العقوبات؛ لأنَّ قتله واقعٌ موقع الحدِّ في الحرابة.
ثم اختلفوا في أشياء؛ فقال قوم: إذا شهر السلاح وقَتَل؛ قُتِل، فَإنْ أخذَ المالَ ولم يَقْتُل؛ قُطِع من خلاف، وإن قَتَلَ وأخذ المال؛ قُتِل وصُلِبَ، رُوي ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني (2) ، وإليه ذهب الأوزاعي (3) ، إلا أنه قال في الذي يَقْتُلُ
_________
(1) البيتان -كما قال المصنف- لجعفر بن علية الحارثي.
انظر: «لسان العرب» (11/331- سَحْبَل) ، «تاج العروس» (13/398- قرر، سَحْبَل) ، «المخصَّص» لابن سيده (14/35) ، «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (ص 45) ، «شرح شواهد المغني» للسيوطي (1/303) ، «شرح الأشموني» (2/464) ، «مغني اللبيب» لابن هشام (1/65) ، «همع الهوامع» (2/134) ، «الدرر اللوامع» (6/119) .
(2) رواه عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، وزاد معهما: الكلبي، ومن طريقه الطبري في «التفسير» (6/212) ، ولم يسمّ الكلبي. قالوا في الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } : هذه في اللصّ الذي يقطع الطريق ... وقالوا: فإن أُخِذَ قبل أن يفعل شيئاً من ذلك نُفي. وروى نحوه: البيهقي في «الكبرى» (8/283) .
ونقله عن عطاء وقتادة وأبي مجلز وإبراهيم النخعي: ابن المنذر في «الإشراف» (1/531) .
(3) نقله عنه ابن المنذر في «الإشراف» (1/531، 534) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (244-245-ط. يوسف شخت) ، وابن حزم في «المحلى» (11/315) ، وانظر: «فقه الأوزاعي» (2/ 339-340) .(1/640)
ويأخذ المال: يُصلبُ أوّلاً ثم يقتل مصلوباً. ورُوي عن بعضهم: فيمن قَتلَ وأخذ المال: أنه يُقطع من خلاف، ثم يصلب، فجَمَعَ عليه عقوبتين.
وقال أبو حنيفة (1) : «إذا قَتَل قُتل، وإذا أخذ المال ولم
يَقْتُل، قُطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذَ المال وقَتَل؛ فالسلطان مخير فيه: إن شاء قطع يده ورجله وقَتَله، وإن شاء لم يَقْطَعْ يده ورجله، وقَتَله وصلبه» .
وهذا أبعد من الأول؛ لأنه جعل الخيرة إلى الإمام بغير دليل، وهو لا يرى الآية على التخيير، وجمع عليه عقوبتين.
وقال الشافعي (2) : «إذا أخذ المال؛ قطعت يده اليمنى وحُسمت، ثم قُطعت رجله اليسرى وحُسمت في مكان واحد وخُلِّي، وإذا قَتَل؛ قُتل ودُفع إلى أوليائه يدفنونه، وإذا أخذ المال وقَتل؛ قُتِل وصُلب. ورُوي عنه أنه يُصلبُ ثلاثة أيام» . قال (3) : «وإن حضر وكَثَّر وهَيَّب، وكان رِدْءاً للعدوِّ؛ عُزِّر وحُبس» .
قال أبو محمد بن حزم (4) فيما ذهب إليه، من أن العقوبات في ذلك على التخيير، كما ذهب إليه مالك (5) ومن ذُكر معه: «الإمام مخير
فيه، إن شاء ضربَ
_________
(1) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 275، 276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/ 423) ، «البناية» (5/625-626، 630) ، «الجامع الصغير» (58) ، «اللباب» (3/211-212) ، «بدائع الصنائع» (7/95) ، «المبسوط» (9/195، 198) ، «ملتقى الأبحر» (1/352) .
وقال أبو يوسف في الذَي قتلَ وأخذ المال: «يُصلبُ وهو حيٌّ، ثم يقتل على الخشبة» .
وهو قول الكرخي. وقال الطحاوي: يصلب مقتولاً.
انظر: «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «المبسوط» (9/195- 196) .
(2) انظر: «الأم» (6/164) ، «مختصر المزني» (ص 265) ، «المهذب» (2/285) ، «الحاوي الكبير» (17/241) ، «روضة الطالبين» (10/156- 157) ، «الأحكام السلطانية» (ص 239) ، «مغني المحتاج» (4/181- 182) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/531) ، «حلية العلماء» (8/83- 84) .
(3) الموطن السابق من «الأم» .
(4) في «المحلّى» (11/315، 317-318) .
(5) أي ليس على هوى، وإنما هو مخير في العقوبات المذكورات في الآية على قدر جُرمهم. =(1/641)
عنقه، وأمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وجائز للإمام أن يُصلي عليه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف: اليمنى من جهة، إمَّا مِنْ يدٍ، وإمَّا مِنْ رجل، واليسرى من جهةٍ كذلك، ثم يكويه؛ ليرقأ الدم، ويُطلِقهُ، ولا يحلُّ له أنْ يسجنه، ولا أن يضربه، وإن شاء صلبه حيّاً، وتركه حتى يموت، وَيَجِفَّ وييبس، فإذا يبس جِلده، وسَالَ ودكُه؛ أمر بإنزاله، وغَسْله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. وللإمام أن يصلي عليه، ولا يحل أن يُنْحَرَ برمحٍ، ولا أنْ يُرْمى بِنَبْلٍ ولا حجارة، ولا أن تضرب عنقه ثم يصلبه، ولا أن تُقْطَعَ له يَدٌ ورجل، ثم يُقتلَ أو يصلب، ولا أن يضرب.
_________
= انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «المنتقى» (7/174) ، «مقدمات ابن رشد» (3/227) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الكافي» (1/487) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/187) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) .
وإن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حُسما وخلِّي، وإذا لم يقتل، ولم يأخذ المال نُفي.
ومذهب الحنابلة أنه إذا أخذ المال وقَتَلَ؛ قتِلَ، وصُلب، ولم يُقطع، والصلب يكون بعد القتل.
انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1137- 1138) ، «المغني» (12/477) ، «شرح الزركشي» (6/ 365) ، «مسائل الإمام أحمد» (278- رواية الكوسج) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/515) ، «الواضح» (2/239) .
وما قرره مالك، وأيده ابن حزم قويٌّ ووجيه.
وقال ابن حزم: «للإمام أن يصلب المحارب حيّاً، ويترك حتى ييبس ويجف كله؛ لأن الصلب في كلام العرب يقع على معنيين:
أحدهما: من الأيدي، والربط على الخشبة، قال -تعالى- حاكياً عن فرعون: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] .
والوجه الآخر: التثبيت، قال الشاعر عن فلاة مضلة:
بها جيفُ الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ
يريد: أن جلدها يابس، فوجب جمع الأمرين معاً، حتى إذا أَنْفَذنا أمر الله -تعالى- فيه، وجب به ما افترضه الله -تعالى- للمسلم على المسلم، من الغسل والتكفين والصلاة والدفن» .
وانظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (6/138) ، «حد الحرابة» (73-76) .(1/642)
وإن شاء نفاه. وصِفَةُ نَفْيِهِ أنه كلما حَصَل في بلد نُفي عنه أبداً، هكذا حتى يموت، وسواء قَتل وأخذ المال، أو لم يفعل شيئاً من ذلك، يعني: إذا كان قد أخاف الطريق، وحارب أهله على أموالهم؛ فهو عنده محارب، سواء كان في المصر أو خارج المصر، ليلاً أو نهاراً» . هكذا نصُّ قوله.
وكان مما اختلفوا فيه من هذا الفصل: صفة النفي الذي ذكره الله -تعالى-، فقال الكوفيون (1) : لما قال الله -عز وجل-: {أَوْ يُنفَوا
مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] عُلِم أنهم لا بد لهم أن يستقروا في الأرض؛ لم يكن شيء أولى بهم من الحبس؛ لأنه إذا حُبِس فقد نُفي من الأرض، من موضع استقراره. وقال مالك (2) : «ينفى من البلد الذي أَحْدَثَ فيه هذا إلى غيره، ثم يحبس فيه» ، حَملاً على قولهم في نفي الزاني. وقال الزهري (3) : نَفْيُهُ: أن يُطلبَ فلا يُقْدر عليه، كلما سُمع به في أرض طُلب. وعلى نحو ذلك يجيء ما رُوي عن الشافعي: أنَّ نفيهم: أن يُطلبوا حتَّى يؤخذوا، فتقام عليهم الحدود (4) .
_________
(1) أي الحنفية. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 275) ، «الهداية» (2/423) ، «البناية» (5/ 628) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «بدائع الصنائع» (7/94-95) ، «المبسوط» (9/199) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/214) ، «حاشية رد المحتار» (4/113-114) ، «ملتقى الأبحر» (1/352) .
(2) «المدونة» (6/237- ط. دار صادر) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الذخيرة» (12/ 127، 131) ، «قوانين الأحكام» (311) ، «الكافي» (1/487) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/598) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/184 رقم 1540- بتحقيقي) ، «بداية المجتهد» (2/490) ، «عيون المجالس» (5/2145 رقم 1556) ، «تبصرة الحكام» (2/188) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/343) ، «الشرح الكبير» (4/349) ، «تفسير القرطبي» (6/153) ، «المنتقى» للباجي (7/173) ، «أقضية النبي - صلى الله عليه وسلم -» لابن فرج (12) .
واختار ابن العربي الحبس؛ كالحنفية، واختار مذهب المالكية: ابن جرير في «تفسيره» (6/218) .
(3) نقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/535) .
(4) انظر: «الأم» (6/164- 165) ، «مختصر المزني» (265) ، «السنن الكبرى» (8/283) ، «الحاوي الكبير» (17/239) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 247) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 62) ، «المهذب» (2/284) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/535) ، «أسنى المطالب» (4/154) ، =(1/643)
فصل
وأما اختلافهم في المحارب يجيء تائباً من قبل أن يُقْدَر عليه: ما الذي يُهْدَرُ (1) عنه بالتوبة؟ فقال قتادة والزهري في قوله -تعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] : ذلك لأهل الشرك (2) .
فظاهر هذا القول أن المحارب المسلم لا يُهدر عنه شيءٌ من جناياته، والله أعلم. وقال أكثر أهل العلم: إنه (3) يتناول المحارب المسلم، فإذا تاب قبل أن يُقدر عليه، وكان جَنَى في حرابته جنايات، سقط عنه ما كان من حدٍّ لله، وأُخذ بحقوق الآدميين، فاقتص منه في النفس والجراح، وضمن ما استهلك من الأموال، وأخذ ما وجد من
_________
= «حلية العلماء» (8/80-81) .
وإلى هذا ذهب الإمام أبو ثور. انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (255) .
ومذهب الحنابلة: أن النفي معناه: أن يُشَرَّدوا؛ فلا يتركوا يأوون في بلد.
وحكي عن أحمد رواية أخرى معناها: أنَّ نفيهم: طلب الإمام لهم، فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم. انظر: «المغني» (12/482- ط. دار هجر) ، «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى (ص 263) ، «الإنصاف» (10/298) ، «المقنع» لابن البنا (3/1139-1140) ، «شرح الزركشي» (6/370) «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/520) ، «الواضح» (2/240) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/669 رقم 1927) .
والراجح في هذه المسألة -والله أعلم- ما ذهب إليه مالك، وتبعه ابن حزم: أن نفي المحارب من الأرض يكون بحسب ما يراه الإمام، إما بطرده بحيث لا يأوي في بلد، وإمَّا بحبسه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (15/310) : «وهذا أعدل وأحسن» .
وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/109) ، «المحلّى» (11/318-319) ، «تفسير الألوسي» (6/120) ، «العقوبة في الفقه الإسلامي» لأحمد بهنسي (ص 174) ، «حد الحرابة» (ص 81-83) ، «التشريع الجنائي» (2/649) ، «أحكام السجن ومعاملة السجناء» (ص 43-44) .
(1) كذا في المنسوخ، وفي هامشه: «أو: يهدر» ، والمثبت من الأصل.
(2) قول قتادة أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، ومن طريقه الطبري في «التفسير» (6/212) . وهو قول عطاء -أيضاً-.
ونقله عن قتادة والزهري: ابن المنذر في «الإشراف» (1/536) .
(3) في منسوخ أبي خبزة: «أن» .(1/644)
ذلك عنده، وهذا مذهب مالك (1) ، والشافعي (2) ، وأبي ثور (3) ، وأصحاب الرأي (4) .
وقال أبو محمد بن حزم (5) : إن تاب المحارب قبل أن يُقدر عليه، سقط عنه كل ما ذكرنا -يعني: حد الحرابة-، المختص القيام فيها إلى السلطان. قال: ولا شيء عليه إلا ضمان ما أتلف من مال، والخيار لوليِّ المقتول إن كان قتل أحداً، والقصاص في الأعضاء إلى المجني عليه.
ونقل عن بعض السلف أنهم ذهبوا إلىأن كلَّ ذلك يُهدَرُ عنه، إلاّ مالاً قد وجد بعينه، فهو مردود، وقد يُعزى إلى مالك بعض ذلك في رواية عنه.
فأقول: لما كان حكم الله -عز وجل- فيمن أصاب حدّاً من حدود الله أو حقّاً لذي حق؛ أن يقام ذلك عليه، ولا يسقط شيء من ذلك إلا بيقين، وكان المحارب استحق على حَرابته العقوبة التي سَمَّى الله -تعالى- في قوله: {إِنَّمَا
_________
(1) «الرسالة» (241) ، «التفريع» (2/233) ، «النوادر والزيادات» (14/481) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/344) ، «المعونة» (3/1367) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الذخيرة» (12/ 133) ، «أسهل المدارك» (3/156-157) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/187 رقم 1543- بتحقيقي) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/600) ، «بداية المجتهد» (2/382) ، «تفسير القرطبي» (6/155) ، «المنتقى» (7/174) .
(2) «الأم» (6/152) ، «مختصر المزني» (265) ، «المهذب» (2/285) ، «الحاوي الكبير» (17/255-260) ، «مغني المحتاج» (4/184) ، «حلية العلماء» (7/88) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/536) . وانظر: «سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي» (3/217-218) .
(3) نقل مذهب أبي ثور: ابن المنذر في «الإشراف» (1/536) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (253) ، وابن قدامة في «المغني» (12/483) . وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 744) .
(4) انظر: «مختصر الطحاوي» (276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/424) ، «اللباب» (3/213) ، «المبسوط» (9/198) ، «البناية» (5/636) .
وهو مذهب الحنابلة، انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1140) ، «المغني» (12/483) ، «شرح الزركشي» (6/371) ، «الفروع» (6/140-142) ، «المبدع» (9/151) ، «الإنصاف» (10/297-299) ، «المحرر» (2/ 161) ، «مسائل الإمام أحمد» (277-278- رواية الكوسج) .
(5) في «المحلّى» (11/130-131) .(1/645)
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ؛ وجب أن يكون الاستثناء في قوله -تعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] عائداً على ما سُمِّيَ من عقوبات الحرابة التي لم يَجْرِ إلا ذكرها، واستحال أن يرجع ذلك على ما لم يَجْرِ في الخطاب، لا بصيغةٍ ولا بمفهوم؛ فكان كلُّ جناية جناها المحارب سوى نفس الحرابة باقياً على ما ثبت لها من أحكام الشرع، فوجب بيقينٍ أن يقام على المحارب بعد توبته كلُّ حدٍّ لله أصابه في حرابته، أو قبلها: من زنىً، وسرقةٍ، وشُربٍ، وغيرِ ذلك، وكذلك حقوق الناس في الأموال، والأبدان، والأعراض ولا بُدَّ، إلاَّ أن يُسقِطَ شيئاً من ذلك عنه أحَدٌ مِمَّن وَجَب له ذلك، ولا يندفع عنه بالتوبة إلا حَدُّ الحرابة فقط -والله الموفق-.
مسألة
اختلفوا فيمن شهر السلاحَ، وقطع الطريق في مصرٍ من الأمصار، أو قرية من القرى، فَقَتَلَ وأخذ المال:
فقال قوم: لا تكون المحاربة في المصر، إنما تكون خارجاً من
المصر، قاله أبو حنيفة (1) ، والثوري، وإسحاق (2) .
وقال قوم: حكم ذلك في الصحراء والطرق والمنازل والأمصار واحد، فحدودهم واحدة، قاله الشافعيُّ (3) ،..............................................
_________
(1) «مختصر الطحاوي» (276) ، «المبسوط» (9/201) ، «الاختيار» (3/72) ، «تحفة الفقهاء» (3/247) ، «بدائع الصنائع» (7/90-91) ، «البناية» (5/640) ، «حاشية رد المحتار» (4/113) ، «مجمع الأنهر» (1/629) ، «رؤوس المسائل» (ص 499) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/502) .
(2) نقل مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/537) .
وانظر: «المحلّى» (11/303) .
(3) «الأم» (6/140- ط. بولاق) ، «مختصر المزني» (ص 265) ، «التنبيه» (150) ، «المهذب» (2/285) ، «الوجيز» (2/179) ، «روضة الطالبين» (10/155) ، «المنهاج» (ص 134- ط. مصطفى =(1/646)
وأبو ثور (1) ، وغيرهم (2) . قال أبو محمد بن حزم (3) : سواء ذلك في المصر وخارج المصر، ليلاً أو نهاراً، كل ذلك إذا أخاف الطريق، وحارب أهله على أموالهم؛ فهو المحارب.
واختلف في ذلك عن مالك، فمرةً أثبتَ له حكم المحاربة، ومرةً نَفَى (4) ، والأرجح الإثبات (5) إذا كان منه من المحاربة والفساد الذي ذكره الله -تعالى- ما يكون من فاعل ذلك في الطرق والبراري وغيرها؛ لأن الآية عامةٌ، لا تخصُّ موضعاً دون موضع، ولا وقتاً دون وقت.
قال بعض أهل العلم: وربما كان ذلك في المصر أعظم جرماً (6) .
_________
= الحلبي) ، «أسنى المطالب» (4/154) ، «حلية العلماء» (8/85) ، «مغني المحتاج» (4/181) .
(1) نقل مذهب أبي ثور: ابن المنذر في «الإشراف» (1/537) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (251) ، وابن قدامة في «المغني» (10/303) ، والشوكاني في «النيل» (7/130) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 742) .
(2) وهو الأرجح في مذهب المالكية. انظر: «الكافي» (2/1089) .
وهو -كذلك- مذهب الأوزاعي. انظر: «المغني» (10/303) ، «نيل الأوطار» (7/130) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/338-339) .
(3) انظر: «المحلّى» (11/307) .
(4) نسب ابن رشد في «بداية المجتهد» (2/380) إلى مالك القول بثبوت المحاربة في المِصر، ونسب الباجي في «المنتقى» (7/169) نفي المحاربة في المصر لعبد الملك بن الماجشون.
وانظر: «النوادر والزيادات» (14/478) .
(5) انظر: «المدونة» (4/430) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/341) ، «الذخيرة» (12/123) ، «النوادر والزيادات» (14/478) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «قوانين الأحكام» (311) ، «الشرح الكبير» (4/348) ، «الخرشي» (8/104) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596- 597) ، «تفسير القرطبي» (6/151) .
(6) الراجح أن شهر السلاح في البنيان لأخذ المال: حرابة، ومن فعل ذلك بأي نوع من أنواع القتال؛ فهو محارب قاطع، يحد بحد الحرابة. قاله ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/315، 316) ، وعلّل ذلك بمعنى قويٍّ، قال: «وهذا هو الصواب، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه =(1/647)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله» ، قال: «ولو حاربوا بالعصي والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها؛ فهم محاربون -أيضاً-» .
وفي هذه المسألة صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (رقم 85) بتاريخ (11/ 11/1401هـ) ، المبلغ للمحاكم الشرعية برقم (122/12ت) في (11/10/1402هـ) وخلاصته:
أولاً: إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة، والسعي في الأرض فساداً، المستحقة للعقاب الذي ذكره الله -سبحانه- في آية المائدة، سواء وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض، أو أحدث إخافة السبيل وقطع الطريق، ولا فرق في ذلك بين وقوعه في المدن والقرى أو في الصحارى والقفار.
ثانياً: أن «أو» الواردة في آية المائدة للتخيير، وهذا رأي الأقلية، وعليه العمل، وأكثر أعضاء الهيئة يرونها للترتيب.
ثالثاً: وهذا محل خلاف، والعمل على هذا النص: أن الخيار المقصود في الآية معنيٌّ به الإمام (وليُّ الأمر) ، وليس القاضي، وأن الإمامَ مخيَّرٌ في إيقاع أي العقوبات الأربع شاء: من قتل، أو صلب حتى الموت، أو تقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو نفي من الأرض: بأن يحبس المحارب حتى يموت في السجن، وإسناد الاختيار إلى القضاة سوف يكون له آثار لا تخدم مصلحة الأمة، ولا يحصل معها زجر المفسدين، وأن هذا الاختيار للإمام في أنواع الحرابة كافة، والفساد المنصوص على حكمه في آية المائدة، ولا يستثنى من ذلك كون المحارب قتل أحداً في أثناء حرابته، فإذا تحقق للإمام أن عدم قتله أعظم دفعاً للمفاسد وأكبر جلباً للمصالح؛ فله أن يختار عقوبة غير القتل من العقوبات المنصوص عليها في الآية.
رابعاً: يتولى نواب الإمام القضاة إثبات نوع الجريمة والحكم فيها، فإذا ثبت لديهم أنها من المحاربة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسعي في الأرض فساداً؛ فعليهم أن يقترحوا العقوبة التي يرونها مناسبة حسب اجتهادهم، مراعين واقع الجرم، وظروف الجريمة، وأثرها في المجتمع، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، وللإمام ولي الأمر أن يوافق على العقوبة التي اقترحها القضاة أو يختار عقوبة غيرها من العقوبات المنصوص عليها في آية المائدة.
خامساً: نظراً إلى أن جرائم الخطف والسطو من القضايا المهمة؛ فتختص بنظرها المحاكم العامة من قبل ثلاثة قضاة، كما هو الحال في قضايا القتل والرجم، وترفع للتمييز، ثم لمجلس القضاة الأعلى لمراجعة الأحكام الصادرة بخصوصها براءةً للذمة، واحتياطاً لسفك الدماء.
انظر: «التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل» (2/657-659) بواسطة التعليق على «مختصر الخلافيات» (4/461-462) .(1/648)
فصل: في دفاع الرجل عن نفسه وماله
خرَّج مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» .
وخرّج (2) عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» ، قال: أرأيت (3) إن قَتَلْتُهُ؟ قال: «هو في النار» .
والمحفوظ عن جماعة أهل العلم (4) : أن للرجل أن يقاتل عن نفسه
وماله وأهله إذا أريد ظلماً، وممن قال بذلك: مالك (5) ، والشافعي (6) ،
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حقٍّ كان القاصد مهدر الدم في حقه) (226) (141) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المظالم (باب من قاتل دون ماله) (رقم 2480) .
(2) الكتاب والباب السابقان (225) (140) .
(3) في الأصل: «إن رأيت» . وهو خطأ.
(4) نقله المصنف من «الإشراف» لابن المنذر (1/540) .
(5) في المسألة قولان عند المالكية، وهو أن دفع الصائل عن النفس واجب -وهو أصح القولين في المذهب-.
والقول الثاني: أن الدفع جائز لا واجب؛ فإن شاء أسلم نفسه، وإن شاء دفع عنها.
انظر: «التفريع» (2/233) ، «الكافي» (2/1089) ، «جامع الأمهات» (ص 525) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/353) ؛ «الذخيرة» (12/262) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/ 357) ، «منح الجليل» (4/561) ، «الخرشي» (5/354) ، «المنتقى» للباجي (7/170) .
(6) مذهب الشافعية: أنه يجب الدفع إذا كان المعتدي كافراً، أو بهيمة، أو مسلماً مهدر الدم، فإن كان المعتدي مسلماً محقون الدم، فيجوز الدفاع عن النفس ولا يجب.
وذكر الروياني من الشافعية أنه لا يجب دفع الكافر ولا البهيمة أو المسلم مهدر الدم، بل يستحب.
وقال النووي في «الروضة» (10/188) متعقباً كلام الروياني: «هو غَلَطٌ» .
انظر: «الأم» (6/26-27- ط. بولاق) ، «منهاج الطالبين» (3/248-249) ، «تحفة المحتاج» (9/ =(1/649)
وأبو حنيفة (1) ، وأحمد (2) ، وإسحاق (3) ، وعوام أهل العلم (4) .
قال أبو بكر بن المنذر (5) : «إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين (6) : على أن من لم يُمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة على ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم،
_________
= 181) ، «أسنى المطالب» (4/168) ، «روضة الطالبين» (10/188) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/513- المطبوع بهامش «إرشاد الساري» ) ، «حاشية القليوبي وعميرة» (4/206) ، «مغني المحتاج» (4/ 194) ، «حاشية العبادي على تحفة المحتاج» (9/182) ، «حاشية الرملي» (4/166، 168) .
(1) مذهب الحنفية: أنه يجب على المُعتدَى عليه دفع الاعتداء عن نفسه مطلقاً.
انظر: «الهداية» (4/165- ط. البابي الحلبي) ، «بدائع الصنائع» (7/93) ، «حاشية ابن عابدين» (5/481) ، «البحر الرائق» (8/344) ، «الفتاوى البزازية» (6/433) ، «تبيين الحقائق» (6/110) .
(2) مذهب الحنابلة: أنه يجب عليه الدفع عن نفسه -في أصح الروايتين- في غير الفتنة، أما في وقت الفتنة؛ فلا يجب عليه الدفع عن نفسه. انظر: «المغني» (12/531، 533- ط. دار هجر) ، «كشاف القناع» (4/92 و6/155) ، «المبدع» (9/155) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/541) ، «شرح الزركشي» (6/409، 412، 413) ، «الواضح» (2/245) ، «مسائل الإمام أحمد» (263- رواية الكوسج- رسالة ماجسيتر/تحقيق سليمان بن محمد البلوشي) ، «المقنع» لابن البنا (3/1149) .
(3) نقل مذهبه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/540) .
(4) وهو مذهب ابن عمر، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وغيرهم.
انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/112-117) ، «الإشراف» (1/540) ، «المحلّى» (11/ 308-309) ، «مراتب الإجماع» (ص 144) ، «شرح النووي» (1/513-بهامش «إرشاد الساري» ) ، «المغني» (12/531) ، «تهذيب الآثار» (1/36- مسند ابن عباس) ، «نظرية الدفاع الشرعي» للدكتور يوسف قاسم (ص 78) ، «التدابير الواقية من القتل في الإسلام» لعثمان دوكوري (ص 223- وما بعدها) ، «الجريمة» لأبي زهرة (1/530) ، «الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية» للسرطاوي (ص 63) .
واختلف العلماء في وجوب الدفاع عن المال وعدمه، وكذلك في الدفاع عن الغير.
انظر: «الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية» (ص 76-82) ، «التدابير الواقية من القتل في الإسلام» (ص 227) ، «التشريع الجنائي» (1/576-581) .
(5) في «الإشراف» (1/540) .
(6) في مطبوع «الإشراف» : كالمجمعين.(1/650)
وترك قتالهم والخروج عليهم، ما أقاموا الصلاة» (1) .
خرَّج مسلم (2) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبر، فإنه من يفارق الجماعة شبراً فمات؛ فميتته جاهلية» .
وخرَّج -أيضاً- (3) عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سَلم، ولكن من رضي وتابع» ، قالوا: يا رسول الله: أفلا نقاتلهم؟! قال: «لا! ما صلُّوا» . (أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه) ، كذا في كتاب مسلم متصلاً بالحديث.
وخرَّج -أيضاً- (4) عن عوف بن مالك الأشجعي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خيار أئمتكم: الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟! قال: «لا! ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا مَنْ وَلِيَ عليه والٍ؛ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يداً من طاعة» .
_________
(1) ردَّ ابن حزم في «المحلّى» (11/99) هذا القول، فقال: «لم نجد الله -تعالى- فرَّق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره، بل أمر -تعالى- بقتال من بَغى على أخيه المسلم عموماً، حتى يفيء إلى أمر الله -تعالى-، وما كان ربك نسياً.
وكذلك قوله -عليه السلام-: «من قتل دون ماله فهو شهيد» عموم، لم يخصَّ معه سلطاناً من غيره، ولا فرق في قرآن ولا حديث ولا إجماع ولا قياس بين من أريد ماله، أو أريد دمه، أو أريد فرج امرأته، أو أريد ذلك من جميع المسلمين، وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله، وهذا لا يحلُّ بلا خلاف» . وانظر: «تفسير القرطبي» (6/156) .
(2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن) (رقم 1849) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلُّوا، ونحو ذلك) (1854) (63) .
(4) في كتاب الإمارة (باب خيار الأئمة وشرارهم) (1855) (66) .(1/651)
الفصل الثالث: في حكم قتال أهل البغي
قال الله -عز وجل-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
خرَّج مسلم (1) ، عن أنس بن مالك قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن
أُبَيّ؟ قال: فانطلق (2) إليه، وركب حماراً، وانطلق المسلمون، وهي أرض سَبِخَةٌ (3) ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عَنّي، فوالله لقد آذاني نتن حمارك. قال: فقال رجل من الأنصار: والله! لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابُه. قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنِّعال، فبلغنا أنها أنزلت فيهم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .
قال ابن المنذر (4) : فأمر الله سبحانه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، إذا اقتتل طائفتان من المؤمنين: أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصفَ بعضهم من بعض، فمن أبى منهم فهو باغٍ، وحقٌّ على الإمام والمؤمنين أن يجاهدوهم؛ حتى يفيئوا إلى أمر الله.
وخرَّج مسلم (5) عن أبي هريرة قال: لمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخْلِف
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصبره على أذى المنافقين) (1799) (117) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الصلح (باب ما جاء في الإصلاح بين الناس) (رقم 2691) .
(2) في منسوخ أبي خبزة: «انطلق» .
(3) السَّبِخة: بفتح السين المهملة، وكسر الباء الموحدة بعدها، أي: ذات سباخ، وهي الأرض التي لا تنبت. انظر: «فتح الباري» (298) .
(4) في «الإشراف» (2/385) نحوه.
(5) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله..) (32) (20) . وأخرجه البخاري (1399، 1456، 1457، 6924، 6925، 7284، 7285) .(1/652)
أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصمَ منِّي ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» ؟! فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقَاتَلْتُهُم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شَرَح صدرَ أبي بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق.
قال ابن المنذر (1) : «يقال: إن أبا بكر قاتل الذين منعوا الصدقة، وقاتل قوماً كفروا بعد إسلامهم، ولم يختلف الناس أن قتال الكفار يجب، ولا يجوز أن يظن بعمر بن الخطاب أنه شكَّ في قتال أهل الكفر، وإنما وقف عن قتال من منع الزكاة، إلى أن شرح الله صدره للذي شرح صدر أبي بكر له. وقال الشافعي (2) : أهل الردة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربان: ضربٌ منهم كفروا بعد إسلامهم، وقوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات» (3) .
فقوم ارتدوا بالكفر، وقوم قيل لهم ذلك بمنع الحق، قال (4) : «ومن رجع عن شيء جاز أن يقال: ارتد عن كذا» ، يعني: فلذلك جاز أن يطلق عليهم اسم الردة، وإن كان منهم مسلمون. قال ابن المنذر (5) : «فقاتل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جميع هؤلاء، ولم يُعْلَمْ أَحَدٌ في الوقت الذي رأى عمر مثل ما رأى أبو بكر
-رضي الله عنهما- من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع مِنْ قتالهم، ولا رأى خلافه، فكان هذا -مع دلائل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - كالإجماع من المهاجرين والأنصار
_________
(1) في «الإشراف» (2/387) . وانظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (4/1709) .
(2) في «الأم» (4/227- ط. دار الفكر) .
(3) إلى هنا انتهى كلام ابن المنذر.
(4) أي الشافعي في «الأم» (4/227) .
(5) في «الإشراف» (2/388) .(1/653)
على أن ذلك بحقٍّ وجب عليه القيام به» .
فإذا ثبت ذلك، فمعنى قول أهل العلم: إنه يجب على من اعتزل جماعة المسلمين وإمامهم، ومنعوه حقّاً من الحقوق الواجبة عليهم، وأداء الطاعة فيما افترضه الله له قبلهم، من غير علة يحق على الإمام رفعها عنهم، ثم دعاهم مع ذلك الإمام إلى الإنابة والإقلاع فلم يقبلوا منه، فواجبٌ عليه حربهم وقتالهم، وحقٌّ عليهم وعلى المسلمين القيام في ذلك معه، والنُّصرة على الحق؛ لقيام الأدلة على ذلك، وقال الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وفي حديث عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... إنها تخلف من بعدهم خُلوف: يقولون ما لايفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن ... » الحديث، وقد تقدّم بكماله، خرّجه مسلم (1) .
وكان من خاصِّ ما وردَ في هذا الباب: الآثار الثابتة في أمر الخوارج، ووجوب قتالهم وقتلهم.
خرَّج مسلم (2) ، عن عليٍّ -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم: أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قَتلهم عند الله يوم القيامة» .
وخرّجَ -أيضاً- (3) ، عن أبي سعيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوماً يكونون في أمته، يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التَّحالُقُ، قال: «هم شر الخلق -أو: من شرِّ
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان) (80) (50) .
(2) في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب التحريض على قتل الخوارج) (1066) (154) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب ذكر الخوارج وصفاتهم) (1064) (149) .(1/654)
الخلق-، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» .
وفي الباب عن أبي ذرٍّ (1) ، وجابرٍ (2) ، وسهل بن حنيف (3) ،
وغيرهم.
والنظر في هذا الفصل يتعلق بثلاثة أشياء:
الأول: في تقسيم أهل البغي وأحوالهم، ومتى يجب التعاون على قتالهم أو يحرم؛ لاختلاط الفتن؟
الثاني: معرفة الحدِّ الواجب في قتالهم، ومتى يجب الكفُّ عنهم؟
الثالث: معرفة الحكم في جناياتهم، وما يُسْتَولى عليه من أموالهم.
_________
(1) حديث أبي ذر، أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب الخوارج شرّ الخلق والخليقة) (1067) (158) من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قومٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة» . فقال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري، أخا الحكم الغفاري، قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر: كذا وكذا؟ فذكرت له هذا الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) حديث جابر، أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (باب ذكر الخوارج وصفاتهم) (1063) (142) ، من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، مُنْصَرَفهُ من حُنين، وفي ثوب بلال فضَّةٌ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد! اعدل، قال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» . فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله! فأقتل هذا المنافق، فقال: «معاذ الله! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إذا هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرَّميَّة» . وفيه عنعنة أبي الزبير عن جابر، لكنه صرح بالسماع عند مسلم، في الرواية التي بعدها.
وأخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) (رقم 3138) من حديث عمرو بن دينار، عن جابر، مختصراً.
(3) حديث سهل بن حنيف، أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين (باب من ترك قتال الخوارج للتألف، وأن لا ينفر الناس عنه) (رقم 6934) ، ومسلم في كتاب الزكاة (باب الخوارج شرُّ الخلق والخليقة) (1068) (159) ، من حديث يُسَيْر بن عمرو، قال: سألت سهل بن حنيف: هل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الخوارج؟ فقال: سمعته -وأشار بيده نحو المشرق-: «قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم، لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» .(1/655)
النظر الأول: في تقسيم أهل البغي وأحوالهم
المخالفون على الجماعة ضربان:
* ضرب امتنعوا عن أداء الحقوق، ونزعوا أيديهم من الطاعة؛ فسقاً، ومجوناً، واجتراءً على حدود الله، من غير أن يُنَصِّبوا إماماً، ولا يعتقدوا طاعة، فهؤلاء أهل كبيرةٍ، ومنكرٍ ظاهرٍ يجب تغييره، (فإن لم) (1) تنفع في ذلك موعظتهم وتذكيرهم بالله -تعالى-، وتخويفهم من عقابه، ولم يمكن حملهم على منهج الشرع إلا بقتالهم، ولم يكن قتالهم يؤول إلى فتنة يُتّقى فيها من تفاقم الأمر، والانجرار إلى ما هو أفجر وأنكر من الأول؛ فواجبٌ مقاتلتهم على ذلك؛ حتى يفيئوا إلى أمر الله: يرجعوا إلى الحقِّ، وأداء ما لزمهم، وينزعوا عن باطلهم. والدليل على ذلك ما تقدم من الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله -تعالى-: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: « ... فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن» (2) ، وأما الإجماع: ففي
قتال (3) مانعي الزكاة (4) .
** والضرب الثاني: من خالف على إمام المسلمين، فعقدوا البيعة لآخر، يزعمون أنه أحق، وهذا الضرب له حالتان:
فالواحدة: أن تكون الإمامة قد صَحَّت وانعقدت بتمام البيعة لرجل عَدْلٍ، مستوفٍ شروط الإمامة، فيخرج عليه بعض من بايعه.
_________
(1) في منسوخ أبي خبزة (من لم) ، وكتب في هامش النسخة: «ولعلها: ولم» .
(2) أخرجه مسلم (80) (50) وقد مضى.
(3) في المنسوخ قبلها علامة إلحاق في الهامش، ولكن الكلمة في الهامش غير واضحة.
(4) فمانعوا الزكاة يقاتلون باتفاق الصحابة، حتى يؤدوا حقَّ الله فيها.
انظر: «المغني» (2/476-ط. هرَّاس) ، «المجموع» (5/304) ، «الاستذكار» (رقم 13080- ط. قلعجي) .(1/656)
والأخرى: أن يفترق الناس فرقتين، فيعقد كل فريق الإمامة لرجلٍ منهم، ويدعو كلٌّ إلى حزبه.
فأما الحالة الأولى، حيث يخرج على الإمام العدل بعض من بايعه (1) ، يدَّعي أنه أحق بالأمر منه، أو يزعم أنه أنكر على الإمام أمراً من الباطل والجور، وما أشبه ذلك من ضروب التأويل التي يدعيها أمثال هؤلاء، أو يكون طالبَ دنيا فقط، أو متعصِّباً لباطل، وما أشبه ذلك، فيجب في أهل التأويل على الإمام العادل أن ينظر فيما ذكروا أنهم أنكروا عليه، فإن صحَّ ما زعموه من ظلم وباطل، أو جَوْرٍ، وغير ذلك من شيء أنكروه، مما لعله غفل عنه، أو غلط فيه، ونحو ذلك من وجوه الإمكان التي لا تستحيل على البشر، فها هنا يَتَعيَّنُ عليه الرجوع إلى صواب ما أوجبه الشرع من الحق. قال الله -تعالى-: {يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . فإذا رجع عن ذلك، ووجب عليهم العود فلم يفعلوا، أو كان ما نسبوه إليه، أو أوَّلوه عليه باطلاً، أو كانوا إنما يطلبون المال، أو تعصباً، أو غير ذلك من أنواع الباطل، ثم وعظهم فلم يتعظوا، وخَوَّفهم فلم ينزجروا؛ فواجبٌ عند ذلك قتالهم، وعلى الناس المعونة لإمامهم العدل على هؤلاء، حتى
يراجعوا الحق (2) .
فقال الشافعي (3) : إذا كان لأهل البغي جماعة تكثر، واعتقدوا ونصبوا إماماً، وأظهروا حكماً، وامتنعوا من حكم الإمام العادل، فهذه هي الفئة الباغية، فينبغي إذا فعلوا هذا أن يسألهم: ما نقموا؟ فإن ذكروا مظلمةً بيِّنةً رُدَّت، وإن لم يذكروها، قيل لهم: عودوا. فإن فعلوا قُبِلَ منهم، وإن لم يجيبوا قوتلوا بعد أن يدعوا.
خرَّج مسلم (4) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) في الأصل والمنسوخ: «تابعه» . ومصححة في هامش المنسوخ إلى: «بايعه» .
(2) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/402) .
(3) في «الأم» (4/230- ط. دار الفكر) ، أو (5/524-ط. دار الوفاء) .
(4) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول) (رقم =(1/657)
« ... ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فلْيطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر فنازعه؛ فاضربوا عنق الآخر» .
وخرَّج -أيضاً- (1) ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» .
وخرَّج -أيضاً- (2) ، عن عرفجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنها ستكون هناتٌ وهناتٌ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف، كائناً من كان» .
وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات؛ مات ميتةً جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة (4) ، ويقاتل للعصبة؛ فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب بَرَّها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها؛ فليس منِّي» .
قوله: «تحت راية عميَّة» ، أي: فتنة وجهالة، كأنه مأخوذ من العمى، قال في «مختصر العين» (5) : العُمِّيَّة والعِمِّيَّة: الضلالة، يقال: قتل فلان عمِّياً، وهي فَعيلةٌ وفِعلى: من العمى.
فصل
وأما الحالة الثانية: حيث يفترق الناس على إمامين، ويكثر العدد في كل فريق
_________
= 1844) وهو طرفٌ من حديث طويل.
(1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب إذا بويع لخليفتين) (رقم 1853) .
(2) في كتاب الإمارة (باب حكم من فرَّق أمر المسلمين وهو مجتمع) (رقم 1852) .
(3) كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهرو الفتن ... ) (رقم 1848) (54) .
(4) في المنسوخ: «للعصبية» ، والتصحيح من «صحيح مسلم» .
(5) الذي في «مختصر العين» (1/102) للزُّبيدي: «العَمَهُ: التردد في الضلالة، ورجل عَمِهٌ، وقد عَمِهَ» .(1/658)
من الجهتين، ويُشْكل الأمر، ويجلّ الخطب، فذلك حين قيح الفتن؛ فالواجب عند ذلك الكفُّ، والتوقف عن كل فريق، وطَلبُ السلامة لدينه، بالاعتزال والفرار عن الفتنة، والاستسلام لأمر الله -عز وجل- (1) ، كما صحَّ في مثل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه أمر وأوصى، وكما فعل السلف الصالح، وفي مثل ذلك وشبهه يكون موقعُ قولهِ -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ... } [المائدة: 105] .
خرَّج مسلم (2) عن أبي بَكْرَة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار» ، قال: فقلت -أو قيل-: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه قد أراد قتل صاحبه» .
وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«ستكون فتن، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تَشَرَّف لها تَسْتَشْرِفُهُ، ومن وجد فيها ملجأً فَلْيعُذ به» .
وخرَّج -أيضاً- (4) ، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنٌ، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا، فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبلٌ فليلْحق بإبله، ومن كانت له غنم
_________
(1) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/403) .
(2) في كتاب الفتن (باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) (14) (2888) .
وأخرجه البخاري في كتاب الإيمان (باب {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم المؤمنين) (رقم 31) . وفي كتاب الديات (باب قول الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ) (رقم 6875) . وفي كتاب الفتن (باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما) (رقم 7083) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب نزول الفتن كمواقع القطر) (رقم 2886) .
وأخرجه البخاري في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3601) . وفي كتاب الفتن (باب تكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم) (رقم 7081، 7082) .
(4) في «صحيحه» في الكتاب والباب السابقين (رقم 2887) .(1/659)
فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه» . قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: «يعمد إلى سيفه، فيدقّ على حدِّه بحجر، ثم ليَنْجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلَّغتُ؟ اللهم هل بلَّغت؟ (1) » قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهتُ حتى يُنْطَلَق بي إلى أحد الصَّفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار» .
وخرَّج (2) عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشَّر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم» ، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن» ! قال: قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يُستَنُّون بغير سُنَّتي، ويهتدون بغير هَدْيي، تعرف منهم وتنكر» ، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» ، فقلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا» ، قلت: يا رسول الله، فما ترى إنْ أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامَهم» ، فقلت: فإن لم تكُن لهم
جماعةٌ ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرة، حتى يدركك الموتُ، وأنت على ذلك» .
وخرّج -أيضاً- (3) ، عن أبي سعيد قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا
_________
(1) في مطبوع «صحيح مسلم» مكررة ثلاث مرات.
(2) أي: مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... ) (رقم 1847) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3606، 3607- مختصراً) . وفي كتاب الفتن (باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة) (رقم 7084) .
(3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الجهاد والرباط) (123) (1888) .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب أفضل الناس مؤمن يجاهد =(1/660)
رسول الله؟ قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» ، قال: ثم من؟ قال: «رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه، ويدع الناس من شَره» .
وروَى أبو بكر بن المنذر (1) مسنداً إلى أيوب بن عبد الله اللخمي قال: كنت عند عبد الله بن عمر، وهو يخلط لبعيره عَلَفاً، فجاءه نَفَر، فقالوا: ما تأمرنا يا أبا عبد الرحمن؟ هذا ابن الزبير، وابن مروان، ونَجدة، كلُّ واحدٍ منهم يدعو إلى نفسه! فقال رجل منهم: يقول الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ} [الأنفال: 39] ، فقال ابن عمر: قد قاتلتُ أنا وأصحابي حتى كان الدِّين كلُّه لله، وذهب الشِّرك، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله! فقال رجل: لو فعل الناس مثل ما فَعَلْتَ؛ ما قام لله دين! فقال ابن عمر: لو فعَلَ الناس مثل ما فَعَلْتَ؛ ما أغلقت أمُّك عليها بابها، ولا اتَّكَأتَ في بيتك مضطجعاً!
وأسند إلى ابن عباس، أن سائلاً سأله، قال: إني بايعتُ ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام! قال: فقال: لا تقاتل أهل القبلة، ولكن ابْتعْ بَغْلاً أو بغلين، أو غلاماً أو غلامين، ثم انطلق نحو المشرق، فإنّك إنْ قُتلتَ على ما أنتَ عليه؛ قُتلتَ
_________
= بنفسه وماله في سبيل الله) (2786) ، وفي كتاب الرقاق (باب العزلة راحة من خلاّط السوء) (رقم 6494) ، وخرجته بتفصيل في تعليقي على «العزلة والانفراد» (198) لابن أبي الدنيا.
(1) في كتابه «الأوسط» -الجزء المفقود منه-، وقد أشار في كتابه «الإشراف» (2/403) إلى أنه ذكر الأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وأصل الحديث في «صحيح البخاري» (رقم 4513) من حديث نافعٍ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، دون الزيادة من قوله: «فقال رجل: لو فَعَلَ الناس مثل ما فعلت ... » . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/496) إلى أبي الشيخ وابن مردويه في «تفسيريهما» . وانظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (31/187-188) .
وسيذكر المصنف أخباراً عن السلف في فضل العزلة عند اشتداد الفتنة، ذكرها ابن المنذر في «الأوسط» -الجزء المفقود- مسندة.
وقد أشار إلى ذلك في «الإشراف» (2/405) حيث قال: وقد ذكرت أخباراً تدل على فضل العزلة في الفتن وسائر الأوقات، التي تركت ذكرها ههنا.(1/661)
إن شاء الله شهيداً.
وأسند -أيضاً- إلى عبد الملك بن عمير، قال: رأيت أبا موسى أيام الفتنة يخرج من داره، فيصلِّي مع الإمام، فإذا قال الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله؛ وَثَبَ، فدخل داره، ورأيتُ عليه عمامةً سوداء، وبُرنساً أسود (1) .
وعن طلحة بن عبيد الله، كان يقول: «أقلُّ العيب على المرء أن يجلس في داره» (2) .
وعن أبي الدَّرداء قال: «نِعم صومعة المرء المسلم بيته، يكفُّ سمعه وبصره ودينه وعرضه، وإياكم والجلوس في الأسواق، فإنها تُلهي وتُلغي» (3) .
_________
(1) أسند الخطابي في «العزلة» (ص 91) إلى الأزرقي قال: لما انصرف أبو موسى الأشعري من الحَكمين نزل مكة، فبنى سقيفة من حجارة على فُوَّهة شعب أبي الدّب. وهناك مقبرة، فقال: «أجاور قوماً لا يغدرون» ، يعني: أهل القبور. وإسناده واهٍ. وانظر في عزلته: «العزلة» لابن أبي الدنيا (رقم 183- بتحقيقي) ، و «الزهد» لأبي داود (285) .
(2) أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 254) -ومن طريقه ابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 24- بتحقيقي) - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن طلحة بن عبيد الله، به.
وأخرجه هناد في «الزهد» (رقم 1236) ، وأبو داود في «الزهد» (رقم 117، 118) ، وابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 110، 111) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/221) ، وحنبل في «جزئه» (رقم 17) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 81، 99) ، ونعيم بن حماد في «زيادات الزهد» (رقم 12) ، والخطابي في «العزلة» (ص 70) -ومن طريقه ابن عربي في «محاضرة الأبرار» (1/ 307) -، وابن الأعرابي في «معجمه» (رقم 1241- ط. دار ابن الجوزي) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (2/735 رقم 803، أو رقم 366- منتقى السِّلفي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (25/104- ط. دار الفكر) -، وابن عبد البر في «التمهيد» (17/442-443) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (10/ 118- جمل منه/ ط. دار الفكر) ، من طرقٍ عن إسماعيل، به.
وهو في «المطالب العالية» (3/5) معزوٌ لمسدد في «مسنده» .
وصححه ابن حجر والبوصيري.
وأخرجه الخرائطي في «مكام الأخلاق» (ص 160) من طريق آخر عن طلحة.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 25- بتحقيقي) ، عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، عن يحيى بن سعيد، عن ثور بن يزيد، عن سليم بن عامر، عن أبي الدرداء، به. وإسناده صحيح. =(1/662)
وعن أبي ذرٍّ الغفاري قال: «الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خيرٌ من الوحدة، وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر» (1) .
_________
= وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ق 387) عن حفص ويحيى بن سعيد، عن ثور، به.
وأخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (2/736 رقم 804، أو رقم 367- منتقى السِّلفي) : حدثنا عمر بن شبَّة، نا يحيى بن سعيد القطان، به.
وأخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 251) -ومن طريقه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/309، أو 8/267- ط. دار الفكر) ، وأحمد في «الزهد» (رقم 135) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الحدائق» (3/195) -، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 80) -، وهناد في «الزهد» (رقم 1235) ، والأصبهاني في «الترغيب» (2/912 رقم 2234) ، والبيهقي في «الشعب» (7 رقم 10656) من طريق سفيان، وابن عبد البر في «التمهيد» (17/441-442) ، والبيهقي في «الزهد» (رقم 129) من طريق عيسى بن يونس، والخطابي في «العزلة» (ص 70-71) ، وابن الجوزي في «صفة الصفوة» (1/640) من طريق حفص؛ كلهم عن ثور، به.
وأخرجه نعيم بن حماد في «زياداته على الزهد» (رقم 25) : بلغني عن ثور، به.
وهو عند الديلمي في «الفردوس» (4 رقم 6792) .
وذكره ابن الجوزي في «التبصرة» (2/289) ، والجاحظ في «البيان والتبيين» (3/132) ، والعاملي في «المخلاة» (ص 121) ، وعزاه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/405) لطاوس، وأسنده ابن البناء في «الرسالة المغنية» (رقم 16) بإسناد صالح عن الفضيل بن عياض، وأسنده المزيّ في «تهذيب الكمال» (32/529) عن الحسن البصري قوله.
(1) أخرجه ابن الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 158- بتحقيقي) ، عن محمد بن عثمان العجلي، حدثنا أبو أسامة، أخبرني سفيان، عن أبي المحجَّل، عن ابن عمران بن حطان، عن أبيه، قال أبو ذر: «الصاحب الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، وعمل الخير خير من الصامت، والصامت خير من عمل الشر، والأمانة خير من الخائن، والخائن خير من ظنّ السوء» .
قلت: وهذا إسناد حسن. إلا أني أخشى من علة الانقطاع؛ فعمران سمع ممن تأخرت وفاته من الصحابة، مثل أبي موسى، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، ولم أظفر بنصٍّ فيه إثبات أو نفي السماع من أبي ذر، وأداة التحمل لا تساعد على ذلك.
وأبو المحجل، اسمه: رديني بن مرة -وقيل: ابن مخلد، وقيل: ابن خالد-، البكري، قال أبو حاتم الرازي: «ما علمتُ إلا خيراً» ، وقال ابن معين: «ثقة» . =(1/663)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= انظر: «الجرح والتعديل» (3/516) ، و «التاريخ الكبير» (3/331) ، و «طبقات ابن سعد» (6/ 323) ، و «ثقات ابن حبان» (8/246) .
وابن عمران هو معفس بن عمران بن حطان السدوسي، سكت عنه البخاري في «تاريخه» (8/ 64) ، وبيّض له ابن أبي حاتم (8/433) ، وذكره ابن حبان في «ثقاته» (7/525) ، وروى عنه ثلاثة؛ فيحسّن حديثه -إن شاء الله-.
وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/341) -ومن طريقه ابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 39- مقتصراً على «الساكت خير من قيل الشر» ، ورقم 65- مقتصراً على «الوحدة خير من صاحب السوء» ) ، وابن حبان في «روضة العقلاء» (ص 101) : أنا أبو أسامة، به.
وخالف أبا أسامة: عبد الرزاق؛ فرواه عن سفيان، عن أبي المحجّل، عن رجل، عن أبي ذر، به؛ إلا أنَّ فيه: «الأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير ... » .
أخرجه الخطابي في «العزلة» (ص 146) ، وقال المعلِّق عليه: «يعني: إذا كان لك مال، فختمت عليه حتى لا تسيء الظن بأهلك وخدمك؛ فهو خير أن تتركه غير مختوم وتظن بالناس الظنون» .
ونقله من المعلق على «صفة الصفوة» (1/596) وهو فيه معزوٌّ لعمر، وعزي في مطبوع «روضة العقلاء» إلى أبي الدرداء!
* تنبيه: وقع بدل «سفيان» في «العزلة» للخطابي (ص 49-ط. غير المحققة) : أبو سليمان، وقال محققها الأستاذ ياسين السوّاس (ص 146) : «وفي الأصل: «أبو سليمان» ، ثم شطب على لفظ (أبو) وجعلت «سليمان» : «سفيان» » .
وخالف سفيان: شريك؛ فرواه عن أبي المحجل، عن صدقة بن أبي عمران بن حطان؛ قال: أتيتُ أبا ذر، فوجدتُه في المسجد مُحْتَبِيًا بكساءٍ أسود وَحْدَهُ، فقلتُ: يا أبا ذر! ما هذه الوحدة؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوحدة خير من جليس السوء ... » .
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/343-344) -ومن طريقة البيهقي في «الشعب» (4 رقم 4993- ط. دار الكتب العلمية، و9 رقم 4639-ط. الهندية) و «الزهد» (رقم 235) عن محمد بن الهيثم القاضي، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (1/467 رقم 475، و2/739 رقم 809، أو رقم 372- منتقى السِّلفي) : حدثنا سعدان بن يزيد البزار، عن الهيثم بن جميل الأنطاكي، نا شريك، به.
ووهم فيه شريك وهمين:
الأول: قوله: «صدقة بن أبي عمران» ، وصوابه ما تقدم.
والآخر: رفعه، والصواب أنه موقوف.
ولعل الوهم من الرواة عن شريك، أو أنه اضطرب فيه؛ إذ رواه عنه عون بن سلام وأوقفه، كما =(1/664)
النظر الثاني: في معرفة حدِّ قتال أهل البغي
الفرقة الباغية على الوجوه المتقدِّمة، إذا لم ترجع بوعظ ولا استصلاح إلى الإمام العادل، ولم يُرْجَ إقلاعهم، فإنَهم يقاتلون على ذلك، ما داموا على حالهم من الامتناع والخلاف، حتى يفيئوا إلى أمر الله.
واختلف أهل العلم في قتلهم إذا أدبروا منهزمين، أو أُخذوا مأسورين، أو أُثبتوا مثخنين، فقال الشافعي (1) : «لا يقتل منهم المُدْبِر ولا الأسير ولا الجريح
_________
= عند التيمي في «الترغيب» (رقم 1710) ، وسمى ابن عمران: «معفس» ، وتصحف في المطبوع إلى «معفر» ؛ فليصحح.
قال ابن حجر في «فتح الباري» (11/331 تحت رقم 6494) -بعد عزوه الأثر للحاكم-: «سنده حسن» ، ثم قال: «لكن المحفوظ أنه موقوف عن أبي ذرٍّ أو عن أبي الدرداء، وأخرجه ابن أبي عاصم» .
قلت: وأخرجه الديلمي في «الفردوس» (4 رقم 7262) ، والدولابي في «الكنى» (2/ 107) ، وأبو الشيخ، والعسكري -كما في «المقاصد الحسنة» (رقم 1261) -، وابن عساكر في «تاريخه» -كما في «فيض القدير» (6/373) -، والقضاعي في «الشهاب» (1266) .
وللموقوف طريق آخر، انظره عند الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (1/468 رقم 476، و2/740 رقم 810) ، وأخرجه ابن وهب في «جامعه» (1/457 رقم 342) بلاغاً إلى أبي ذر.
وورد عن جمع، ومن مرسل الحسن، كما عند ابن وهب في «الجامع» (2/ 601-602 رقم 504) .
وانظر: «التمهيد» (17/447) ، «تاريخ دمشق» (17/ق 10) ، «أنساب الأشراف» (13/72) ، «الدرر المنتثرة» (432) ، و «التمييز» (1562) ، و «كشف الخفاء» (رقم 2893) ، و «السلسلة الضعيفة» (رقم 2422) ، و «أسنى المطالب» (رقم 1656) .
وقد نظم الشاعر معنى هذه المقولة:
وحدة الإنسان خير ... من جليس السوء عنده
وجليس الخير خير ... من قعود المرء وحده
قال السَّهرَوَردي في «عوارف المعارف» (430) : «وقد نبه القائل نظماً على حقيقةٍ جامعة لمعاني الصحبة والخلوة، وفائدتهما وما يحذر فيهما بقوله ... » وذكرهما.
وقد ورد نحوه بإسناد ضعيف، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. انظره في «العزلة والانفراد» (رقم 162- بتحقيقي) .
(1) في «الأم» (4/231- ط. دار الفكر) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/389) ، =(1/665)
بحال» ، وهو المرويُّ عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أنه قال يوم الجمل: «لا تقتلوا مدبراً، ولا تذفِّفوا على جريح، ولا تقتلوا أحداً صبراً، ولا توطأ أم
ولد، ولا النساء على عدتهن، والميراث على كتاب الله» (1) .
وروي -أيضاً- أنه قال في يوم الجمل: «لا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يتبع مدبر» (2) . وقد روي نحو ذلك عن عمار بن ياسر (3) .
وقال أصحاب الرأي في الخوارج: إذا هُزموا ولهم فئة يلجؤون إليها، فينبغي لأهل الجماعة أن يقتلوا مدبرهم، وأن يُجهزوا على جريحهم، وأن يقتلوا من أسروا منهم، فإن انهزموا، ولم تكن لهم فئةٌ يلجؤون إليها؛ لم يقتل مدبرهم،
_________
= وفي مطبوعه ومطبوع «الأم» : «ولا الأسير، ولا الجريح بحال» .
وانظر: «المهذب» (2/218) ، «روضة الطالبين» (10/57، 58) ، «المجموع» (19/200) ، «منهاج الطالبين» (3/192) ، «البيان» للعمراني (12/22-23) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 60) ، «مغني المحتاج» (4/127) ، «التهذيب» للبغوي (7/281) ، «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة (ص 243) .
(1) أخرج نحوه سعيد بن منصور في «سننه» (3/389، 390، 391 رقم 2947، 2948، 2950) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/263، 267، 268، 281) ، -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/181) - من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أمر عليٌّ مناديه، فنادى يوم البصرة: «لا يتبع مدبر ... » .
وأخرج نحوه عبد الرزاق في «المصنف» (10/123 رقم 18590) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (11/101) -، وسعيد بن منصور في «سننه» (3/390 رقم 2948) ، وأبو يوسف في «الخراج» (ص 234- ط. المكتبة الأزهرية) من طريق جعفر بن محمد، به.
وانظر: «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 60) ، «البداية والنهاية» (7/245) ، «التلخيص الحبير» (4/89-90) .
وقوله: «ولا يذفف على جريح» (بالدال والذال لغتان) : أي: لا يجهز عليه.
انظر: «تهذيب اللغة» (14/73) ، «الفائق» (1/403) ، «النهاية» (2/64) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (10/124 رقم 18591) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/181) .(1/666)
ولم يجهز على جريحهم، ولم يقتل أسراهم، ولكن يعاقبون، ويضرب من أخذ منهم ضرباً وجيعاً، ويُحبسون حتى يُقلعوا عما هم عليه، ويحدثوا توبة (1) . وإليه ذهب الأوزاعي في قتل من له فئة (2) .
وقال أبو محمد بن حزم (3) : «ومن انهزم منهم، فإن كانت هزيمته إلى حصن، أو إلى جماعة منهم، أو ليبتعدوا عن الطلب، ويبقوا على رأيهم؛ أُتْبِعوا ولا بُدَّ، وإن كانت هزيمتهم افتراقاً، وتركاً لما هم عليه؛ لم يجز أن يُتْبَعُوا، ولا يُجْهَزُ على جريح من أحدِ هذه
الطوائف، ولا يقتل منهم أسير، فمن قتله فعليه القود» . فلم يفرق أبو محمد في الجريح والأسير بين أن تكون له فئةٌ أو لا تكون، لا يحل قتلهم بحال.
وروي عن ابن عباس -وقد سُئل عن أناس من الخوارج قاتلوا فانهزموا: أنقتلهم؟ قال: «اقتلهم ما كانت لهم فئةٌ يرجعون إليها، فإذا لم تكن لهم فئة؛ فلا تقتلوا مقبلاً ولا مدبراً» (4) . لعله إنما يعني مقبلاً في غير قتال، لا على أن يكون مقبلاً في القتال، فإن كل مقاتل على باطل؛ فلا ينبغي تركه، ولا يجب الكَفُّ عنه، والله أعلم.
والأظهر ما قاله الشافعي (5) في وجوب الكفّ عن المدبر والجريح المُثْخَنِ
_________
(1) انظر: «تحفة الفقهاء» (3/313) ، «الهداية» (2/464) ، «بدائع الصنائع» (7/140-141) ، «المبسوط» (10/126) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/283- 284) .
(2) قال: «وما تحلُّ هذه السيرة في الفئة إذا افترقت الأمة، ولا في الطائفتين اللتين نزل فيهما وفي أشباههما القرآن، ولا في الخوارج إذا هزمهم المسلمون: قتل أسيرهم، والإجازة على جريحهم» . انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390) .
(3) في «المحلّى» (11/101) .
(4) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390) ، «المغني» (12/252) .
(5) وهو مذهب المالكية والحنابلة.
انظر في مذهب المالكية: «الذخيرة» (12/7) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/294) ، «جامع الأمهات» (ص 512) ، «المنتقى» للباجي (7/170-171) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/300) . =(1/667)
والأسير، وهو ظاهر فعل عليٍّ -رضي الله عنه-، ولم يفرِّق بين أن تكون لهم فئة أَوْ لا، واحتجَّ الشافعي لذلك قال (1) : «يقول الله -عز وجل- في الفئة الباغية: { ... حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] ، ولم يستثنِ الله -تعالى-، فسواءٌ كانت للذي فاء فئةٌ، أو لم تكن، فمتى فاء -والفيئة: الرجوع-؛ لم يحلَّ دمه» .
قال أبو بكر بن المنذر (2) : «وقد رُوينا في هذا الباب حديثاً مرفوعاً، في إسناده مقال، ولو كان صحيحاً كانت فيه حجة لمن قال هذا القول» ، وذكر بإسناده، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «هل تدري كيف حكم الله فيمن بَغَى من هذه
الأمة؟ قال: لا يُجْهَز على جريحها، ولا يُطْلَب هاربها، ولا يُقْتَل أسيرها» (3) .
_________
= وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (12/252) ، «المقنع» لابن البنا (3/1106) ، «الواضح» (2/214) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1133) ، «شرح الزركشي» (6/225-227) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/442) ، «المبدع» (9/162-163) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/ 571 رقم 1819) .
(1) في «الأم» (4/231) .
(2) لعلّه في «الأوسط» الجزء المفقود منه.
(3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/155) -وعنه البيهقي في «الكبرى» (8/182) -، والبزار في «مسنده» (2/359 رقم 1849- «كشف الأستار» ) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (11/101-102) -، والطبراني في «الأوسط» -كما في «مجمع البحرين» (5/134 رقم 2809) ، و «مجمع الزوائد» (6/243) -، وابن عدي في «الكامل» (6/2096) ، من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن مسعود: ... وذكر الحديث.
وقال البزار: «لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، ولا رواه عن نافع إلا كوثر» .
وسكت عنه الحاكم. وتعقبه الذهبي فقال: «كوثر متروك» . وقال في «المهذب في اختصار السنن الكبير» للبيهقي: «كوثر واهٍ» ، وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال الإمام أحمد: أحاديثه بواطيل، ليس بشيء، وقال الدارقطني وغيره: مجهول، وقال البخاري: منكر الحديث.
انظر: «تاريخ ابن معين» (195) ، «علل أحمد» (1/170، 249، 294) ، «التاريخ الكبير» (7/ 245) ، «الضعفاء الصغير» (102) ، «أحوال الرجال» (200) ، «ضعفاء أبي زرعة» (2/652) ، «ضعفاء =(1/668)
قال: «وقد تُكُلِّم في كوثر؛ كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عنه، وقال محمد بن إسماعيل: كوثر عن نافع: منكر الحديث» .
النظر الثالث: في معرفة أحكام جناياتهم، وما أصابوه
وأصيب منهم
أهل البغي -كما تقدم- ضربان: متأوِّل وطالب دنيا بالفسوق، فأما الفسّاق فلا يختلف أنهم متبعون بكل ما جنوا وأصابوا من دمٍ، ومالٍ، وحقٍّ لذي حق، وكذلك في الحدود إن أصابوا من النساء حراماً، وغير ذلك؛ لأن هؤلاء أصابوا ما أصابوه وهم عالمون بالتَّحريم، متعمّدون لارتكاب المعاصي، غير متأولين، ولا معتقدين لصواب ذلك من دينهم، فوجب أن يُقادَ منهم بمن قتلوا عمداً، ويُقتصَّ لمن جَرَحوا، وتقام عليهم حدود الله فيما ثبت من ذلك منهم، ويغرمون جميع ما استهلكوا من مال، ويرجع جميع ما يوجد في أيديهم
لإنسان.
قال الله -تعالى-: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءِ للَّهِ} [المائدة: 8] ، وقال -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ، وقال -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
وليس في هذا النوع خلافٌ أعلمه، وكذلك ما استولي عليه من أموالهم وأحوالهم (1) هي لهم، وعلى ملكهم، لا يحل لأهل العدل الذين قاتلوهم ولا غيرهم أن يتمسكوا من ذلك بشيء، بل يُرَدُّ كل حق إلى مستحقِّه، وتُستوفى منهم الحقوق
_________
= النسائي» (228) ، «ضعفاء العقيلي» (4/11) ، «الجرح والتعديل» (7/176) ، «المجروحين» (2/ 228) ، «الكامل» (6/2096) ، «ضعفاء الدارقطني» (145) ، «ضعفاء ابن شاهين» (161) ، «المغني من الضعفاء» (2/534) ، «الميزان» (3/416) ، «اللسان» (6/426- ط. أبي غدة) ، «التخليص الحبير» (4/ 83-84) ، «الدراية» (2/139) .
(1) غير واضحة في الأصل والمثبت من منسوخ أبي خبزة.(1/669)
التي وجبت عليهم؛ لأنه لم يكن منهم فيما فعَلوا قول ولا عمل يخرجهم عن الإسلام، ولا يوجب استحلال أموالهم ولا أحوالهم (1) إلا بحقِّها، قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وخرَّج مسلم (2) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» .
وأما ما اختلف أهل العلم في أهل البغي الذين يخرجون متأولين: كالخوارج وأضرابهم؛ ممَّن عرضت لهم شبهة في النظر، فاعْتَقَدَ (3) تكفيرَ من خالف مذهبهم، واستباحوا بذلك الدماء والأموال والفروج بالسِّباء في المسلمين؛ فقالت طائفة: ما أصاب هؤلاء أو أصيب منهم، من دم وجراحة فهو هَدْرٌ، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيب (4) ، وقال ابن القاسم:
بلغني عن مالك أنه قال: الدماء موضوعة عنهم، وأما الأموال: فرأيي إن وَجدوا شيئاً بعينه أخذوه، قال: ولم يُتبعوا بشيء، يعني: مما استهلكوه؛ لأنهم إنما استهلكوها على التأويل (5) .
_________
(1) غير واضحة في الأصل والمثبت من المنسوخ.
(2) في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودَمه وعرضه وماله) (2564) (32) .
(3) كذا في الأصل والمنسوخ، والأصوب أن تكتب: «فاعتقدوا» .
(4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/122 رقم 18587) عن سعيد بن المسيب قال: إذا التقت الفئتان، فما كان بينهما من دمٍ أو جراحة فهو هَدْرٌ، ألا تسمع إلى قول الله -عز وجل-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فتلا الآية حتى فرغ منها، قال: فكلُّ واحدة من الطائفتين ترى الأخرى باغية.
قال ابن حزم في «المحلّى» (11/106) في قول سعيد: ليس بشيء؛ لأن الله -تعالى- لم يكلنا إلى رأي الطائفتين، لكن أمرَ من صحَّ عنه بغيُ إحداهما بقتال الباغية، ولو كان ما قاله سعيد -رحمه الله-؛ لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى، ولبطلت الآية، وهذا لا يجوز.
وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390-391) .
(5) انظر: «المدونة» (1/407- ط. المطبعة الخيرية) .(1/670)
وقال الشافعي (1) : «ما أصاب أهل البغي في حال الامتناع على وجهين:
أحدهما: ما أصابوه من دم ومالٍ [وفَرْج] (2) على التأويل، ثم ظُهِر عليهم بَعْدُ؛ لم يقم عليهم منه شيء، إلا أن يوجد مال بعينه فيؤخذ» .
والوجه الثاني: ما أصابوه على غير وجه التأويل من حدٍّ لله أو للناس، ثم ظُهر عليهم؛ رأيت أن يُقام عليهم، كما يقام على غيرهم، ممَّن هرب من حدٍّ، أو أصابه وهو في بلادٍ لا واليَ
لها، ثم جاءها والٍ» .
وقال أهل الرأي (3) نحواً مما قال الشافعي في الدم والمال يصيبه أهل البغي
_________
(1) في «الأم» (4/231- ط. دار الفكر) .
وانظر: «المهذب» (2/221) ، «منهاج الطالبين» (ص 131-ط. مصطفى الحلبي، أو 3/ 191- ط. دار البشائر الإسلامية) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 230) ، «روضة الطالبين» (7/ 275- ط. دار الكتب العلمية) ، «السنن الكبرى» (8/175) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/391) ، «البيان» للعمراني (12/30) ، «المجموع» (19/207- ط. دار الفكر) .
وعدم الضمان في النفس والمال هو الراجح من مذهب الشافعية.
والوجه الآخر عند الشافعية -وهو المرجوح-: هو رواية عن الإمام أحمد، والأشهر عند الحنابلة -أيضاً- عدم الضمان.
(2) كتب أبو خبزة في هامش نسخته عند هذا الموطن: «أَكَلَتْها الأَرَضَة» .
قلت: وما أثبتناه من مطبوع «الأم» للشافعي.
(3) انظر: «مختصر الطحاوي» (257-258) ، «تحفة الفقهاء» (3/537) ، «المبسوط» (10/ 127-128) ، «الهداية» (2/465) ، «اللباب» (4/156) ، «بدائع الصنائع» (7/141) ، «رؤوس المسائل» للزمخشري (479) ، «تحفة الملوك» (ص 197) ، «جمل الأحكام» (384) ، «إعلاء السنن» (12/633) .
وهو مذهب المالكية فيما سبق نقله عن ابن القاسم.
انظر: «المدونة» (1/407) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/294) ، «جامع الأمهات» (512) ، «الكافي» (582) ، «المعونة» (3/1365) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/181- بتحقيقي) .
وهو -أيضاً- مذهب الحنابلة.
انظر: «المغني» (12/250) ، «المقنع» لابن البنا (3/1106) ، «شرح الزركشي» (6/229) ، =(1/671)
بالتأويل، قالوا: وكذلك لا يؤخذ (1) للخوارج ما أصاب أهل الجماعة منهم، من دمٍ أو جراحٍ، إلا أن يوجد مالٌ بعينه فَيُردُّ عليهم.
فأقول: يحتمل -إن شاء الله- أن يقال: ما أصابه أهل البغي من أموال أهل العدل بالتأويل، فهو على وجهين:
* منه تأويل يشكل مثله، وتكون له شبهةٌ يخفى الخطأ فيه، ومَأخذٌ لا يَبْعدُ أن يؤدَّى إليه سابقٌ من النَّظر عند قوم، وإن كان ذلك خطأ عند أهل التحقيق، فما كانت هذه سبيله؛ أمكن أن يقال: إنهم لا يُتبعون فيما استهلكوه على ذلك بشيء، وعليه أكثر العلماء، وقد قيل -أيضاً-: إنهم يضمنون.
** وما كان مما لا يُشكل، والخطأ فيه ظاهر، وهو لايجري على طريقة أخذِ العلماء ونظرهم وتأويلهم بوجهٍ من الوجوه وإن بَعُد، بل يكون وقوعهم فيه بجهلٍ، وخروجٍ عن طرق العلم بكل حال، وتأويلهم باطل باتفاق؛ فسبيل ما كان هكذا: أن يتبعوا به؛ لأنه -بلا شك- أكلُ مالٍ بالباطل، وقد حرم الله ذلك، وأمر بالقيام بالقسط، وقال -تعالى- في الفئة الباغية: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: 9] ، فمن الإصلاح بالعدل: أن تُردَّ الحقوق والظلامات إلى مستحقّها، ويُعدى المظلوم على الظالم، هذا هو العدل والإقساط كما أمر الله -تعالى-، والكلام إنما هو فيما استهلكوه من الأموال، وأما ما وجد؛ فالاتفاق على أنه مردود لصاحبه، وهذا كله تفصيل في الأموال، وأما في الدماء والجراحات؛ فالأظهر أن لا قودَ في شيء من ذلك على حال، إذا كان إصابتهم ذلك بتأويل، سواءٌ في ذلك ما كان لهم فيه شبهة، أو كان من الخطأ المتفق عليه.
والفرق بين الأموال فيما فَصَّلْتُهُ وحقوقِ الأبدان: أنَّ القصاص لا يثبت إلا
_________
= «الواضح» (2/214) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/444) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1132) ، «الروايتين والوجهين» (2/306) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/569) .
(1) في نسخة أبي خبزة: «يوجد» .(1/672)
بتعمّد التّعدي والظلم، وغُرْمُ المال المتلف ثابتٌ على كل حالٍ من قصد الغَصْب، أو ظنّ الاستباحة والحِلِّيَّة، أو غير ذلك من الأحوال؛ بل يجب ذلك مع الأحوال التي لا يقع عليها التكليف، كالناسي والطفل: جَعَل الشرع ذلك كلَّه أسباباً للتَعَبُّد (1) بالغرم، فلم يتوقف إغرام المتلفات من الأموال على قصد التَعَدِّي فقط.
وأما أمر القود والقصاص: فمن باب العقوبة والعذاب؛ فلم يثبت إلا على من تعمد ظلماً، لكن قد ينبغي أن يقال: فإذا سقط القود من مثل ذلك؛ لكونه لم يتعمد العدوان؛ فكان يجب أن يعقبه العقل والأرش إذا كان التأويل باتفاق، كالحال في جنايات الخطأ، فيكون ذلك فرق ما بين التأويلين في الدماء، كما كان الغرم فرق ما بين التأويلين في الأموال؛ فهو قول صحيح، ووجه ظاهر مستقيم، وهو الأرجح عندي، والله أعلم.
ونحوه يقول أبو محمد بن حزم (2) ، قال في أهل البغي: إن خرجت طائفة، إما بتأويلٍ خطأ: كالخوارج ومن سَلَكَ تلك الطريق، وإما بلا تأويل، لكن طلب رئاسة، أو تعصباً لإنسان بعينه، أو لأهل بيتٍ بعينه، لا لإنكار منكر؛ فإنَّ هاتين الطائفتين هي الطائفة الباغية، ففرضٌ على أهل العدل قتالهم، إمَّا حتى يفيئوا إلى الله، ويتركوا طلبهم للريّاسة (3) ، وتأويلهم الفاسد، فإذا تركوا ذلك؛ فلا شيء عليهم إلا القود في المتعصّبةِ وطالبةِ الدُّنيا فيمن قَتَلوا، أو
الدِّية، يعني: إذا قَبِلَ ذلك منهم أولياءُ المقتول.
قال: وأما المتأولة: فالدية فقط، ولا قودَ في ذلك، وكلهم يضمنون ما أتلفوا من الأموال.
وعند الشافعية قولان: أحدهما ما تقدم من قول الشافعي وتفصيله.
_________
(1) كذا في الأصل والمنسوخ، ويمكن أن يقال: «للتعمّد بالغُرْم» .
(2) في «المحلّى» (11/97، 104، 106، 107) .
(3) أثبتها أبو خبزة: «للدية» . وكتب في الهامش: «كذا، ولعلها: للرياسة» .(1/673)
والثاني: أنه يجب على أهل البغي الضَّمان على كلِّ حالٍ فيما أتلفوا؛ لأنه بعدوان (1) .
ولهم في تأويل هذا القول وجهان:
أحدهما: أنه يراد به الضمان في القصاص وسائر الأحكام.
والثاني: أن ذلك في غير القصاص، وأما القصاص فلا يجب قولاً واحداً؛ لأنه يسقط بالشبهة، وقد كان لأهل البغي شبهةٌ في القتل بتأويلهم، فهذا القول نحوٌ مما ذكرناه.
فصل
واختلف أهل العلم فيما وُجد بعينه من أموال أهل البغي في أيدي فريق العدل؛ فقال الشافعي (2) : «يجب ردُّه على صاحبه؛ لأنه مالُ مسلمٍ، قال: ولا يستمتع من أموالهم بدابة تركب، ولا متاعٍ، ولا سلاحٍ يقاتل به في حربهم، وإن كانت قائمة، ولا بعد تَقَضّيها، ولا غير ذلك من أموالهم، وذلك أن الأموال في القتال إنما تحل من أهل الشرك الذين يتحولون إذا قدر عليهم؛ فأما من أسلم، فلا يؤخذ ماله» . وروي نحو ذلك عن عليٍّ (3) -رضي الله عنه-.
وذهبت طائفة (4) في الخوارج إلى أنهم تُغنم أموالهم، وحملوهم
محمل
_________
(1) انظر: «مختصر المزني» (259، 267) ، «الإقناع» (174) ، «حلية العلماء» (7/619، 629) .
(2) في «الأم» (4/233) ، وانظر: «منهاج الطالبين» (3/192-193) ، «التهذيب» للبغوي (7/281) ، «البيان» للعمراني (12/28) ، «المجموع» (19/205) .
وهو مذهب الحنابلة في المشهور عنهم، انظر: «المقنع» لابن قدامة (3/511) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/571) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1133) .
(3) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/122، 123، 124) ، «الخراج» لأبي يوسف (ص 254، 255) ، «المحلّى» (11/100) ، «الإشراف» (2/392) ، «موسوعة فقه علي بن أبي طالب» (ص 131) .
(4) كالحسن بن حي، قال: أموال اللصوص المحاربين مغنومة مُخَمَّسة، ما كان منها في عسكرهم، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى تخميس سلاح وكراع أهل البغي دون الأموال. =(1/674)
أهل الكفر، واستدل من ذهبَ إلى ذلك بما تضمَّنتهُ ظواهر الآثار في شأنهم، وأنهم: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» ، وأنهم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (1) ، وأنهم: «شرُّ الخليقة» (2) ، إلى غير ذلك مما ورَدَ فيهم، مما ظاهره التكفير (3) ، وفرقوا بينهم وبين غيرهم من أهل البغي.
_________
= وقد ردَّ كلامهما ابن حزم، انظر: «المحلَّى» (11/102، 103) .
وقال ابن المنذر في «الإشراف» (2/393) عن هذا المذهب: هذا قول طائفة من أهل الحديث، ولا أعلم أحداً وافقهم على هذه المقالة.
(1) مضى تخريجه بالتفصيل (ص 654) .
(2) أحاديث ذكر الخوارج وصفاتهم كثيرة مشتهرة، والصفات المذكورة في «الصحيحين» . انظر -على سبيل المثال-: «صحيح البخاري» (الأرقام 3138، 3344، 3610، 3611، 4351، 4667، 5057، 6163، 6930، 6931، 6933، 6934، 7432) . و «صحيح مسلم» (الأرقام 1063-1068) .
(3) وقد فصَّل تفصيلاً حسناً، وجمع بين النصوص التي فيها ذكر الخوارج، وأنهم شر الخلق والخليقة، والنصوص التي فيها تحريم دم ومال المسلم، وكذا الآيات التي فيها ذكر البغاة: ابن حزم في «المحلّى» (11/104-105) . فانظره هناك. والله الموفق.
أما بالنسبة إلى تكفيرهم، فالأصل عدمه، ما لم يقم برهان واضح على ذلك. فمن وصل منهم إلى إنكارِ مُجْمَعٍ عليه معلوم من الدين بالضرورة، كمن يقول ببعث نبيّ، أو ينكر سورة يوسف، فهو كافر، وذهب غير واحد من المحققين إلى هذا، قال الشاطبي في «الموافقات» (5/175- بتحقيقي) : «ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه» ، وأكده بمؤيِّدات، وتعرض للمسألة في كتابه العظيم «الاعتصام» (3/151، 179) ، وأيده بعمل السلف، قال (3/151) : «وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم» ، ثم ذكر صنع عليٍّ في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذا هجر السلف لِمَعْبَدٍ القدَري، ولم يقيموا عليه حدّ الردة، وصنيع عمر بن عبد العزيز مع الحرورية.
ثم قال (2/695- ط. ابن عفان) : «ومن جهة النظر: إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولِمَا تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضناهم كذلك لكانوا كفاراً؛ إذ لا يتأتى ذلك من آخذٍ في الشريعة إلا مع ردّ محكماتها عناداً، وهو كفر، وأما من صدّق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغاً يظن به أنه متّبع للدليل، فمثله لا يقال فيه: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل هو متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يزاحمه الهوى في =(1/675)
وذهب قوم إلى التفريق بين أن يظفر بعسكرهم، ولهم فئة يلجؤون إليها أو لا تكون لهم فئة؛ فمن تاب منهم، رُدَّ إليه ما عُرف أنه له من مالٍ وسلاح وكُراع، دون من كانت له فئة وأَصَرَّ على أمره، وأظنه قول أصحاب الرأي (1) ، قال أبو محمد
_________
= مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات؛ فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضاً؛ فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها؛ فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحدٍ منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً؛ فحصل في هذا الخلاف الشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع.
وأيضاً؛ فقد يعرض الدليل على المخالف منهم؛ فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على عليّ -رضي الله عنه- ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة» . ا. هـ
وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في «منهاج السنة النبوية» (3/19- وما بعدها) ، وفي «الردّ على البكري» (ص 256-260) ، و «مجموعة الرسائل والمسائل» (5/199-204) ؛ فانظر كلامه فإنه من النفائس، وقلّما تعثر على مثله-بالاستطراد والتأصيل والتقعيد- في غيره.
وهذا -أعني: عدم التكفير- ما نَحَى إليه جماهير العلماء والباحثين؛ كما تراه في «الاقتصاد في الاعتقاد» (الباب الرابع: بيان من يجب تكفيره من الفرق) للغزالي، «أصول الدين» للبغدادي (ص 332-333) ، «فتح الباري» (12/283-302) ، و «شرح مشكاة المصابيح» (1/147-148) للشيخ علي القاري، و «حديث افتراق الأمة» للصنعاني.
(1) مذهب الحنفية في أموال أهل البغي من سلاح وكراع، أنه: يجوز الاستعانة بها على حربهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها؛ رُدَّت إليهم، على ما ذكره المصنف في التفريق بين من كانت لهم فئة يلجؤون إليها، ومن لم تكن لهم.
انظر: «تحفة الفقهاء» (3/313) ، «اللباب» (4/155) ، «الهداية» (2/465) ، «البناية» (5/896) ، «بدائع الصنائع» (7/141) ، «إعلاء السنن» (12/631-632) .
وهذا مذهب المالكية، انظر: «جامع الأمهات» (ص 512) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 295) ، «الذخيرة» (12/11-12) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/300) .
ونقل ابن حزم في «المحلّى» (11/102) عن مالك أن مذهبه كمذهب الشافعي، وهذا خطأ على مالك.(1/676)
ابن حزم (1) : ولا يحل أخذ شيءٍ من أموالهم، وهي مضمونة على من أخذها إلا ما عُقر في حال القتال من فرس، أو كسر من سلاح، فلا ضمان فيه؛ وكذلك لا شيء فيمن قتل منهم في القتال. وهذا نحو قول الشافعي في ذلك، وقد احتج له الشافعي حسبما ذكرنا عنه، وهو الصحيح: أن لا يستباح منهم مال بِحال، إلا ما استُهلك في حومة القتال لضرورة دفاعهم، والنظر
في استصلاحهم المأمور به شرعاً، لأن الله -تعالى- يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وهؤلاء إنما أبيح قتالهم لاستصلاح فاسدهم، وردعهم عن الإقبال على باطلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، فلم يؤذن في أموالهم؛ ولا في سِبائهم بالوجه الذي أذن به في الكفار، بل كل ذلك منهم معصوم بحرمة الإسلام، إلا المقدار الذي شرع من قتالهم فقط، وليس كل من وجَبَ قتله أو قتاله يستباح لذلك ماله، وفيما نَبَّه عليه الشافعي -رحمه الله- من ذلك مُقنعٌ، والحمد لله. قال الله ربنا -جل جلاله-: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18] .
باب: من الدعاء والذِّكر المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما
يختم به هذا المجموع بحول الله -تعالى-
مسلم (2) ، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» .
_________
(1) انظر: «المحلّى» (11/103-104) .
(2) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب التعوذ من شرِّ ما عُمل، ومن شرِّ ما لم يُعمل) (73) (2722) .(1/677)
ما يقال إذا خرج من بيته، أو شرع في سفره
الترمذي (1) ، عن أم سلمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: «بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني (2) أعوذ بك من أن نَزِلَّ، أو نَضِلَّ، أو نَظْلِم، أو نُظْلَم، أو نَجْهَل، أو يُجْهَلَ علَينا» .
أبو داود (3) ، عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ
_________
(1) في «جامعه» في أبواب الدعوات (باب رقم 35) .
وأخرجه الحميدي (303) ، وأحمد (6/306، 318، 321) ، وعبد بن حميد (1536) ، وأبو داود (5094) ، وابن ماجه (3884) ، والنسائي في «المجتبى» (8/268، 285) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (86، 87) ، والحاكم (1/519) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/65) ، والبيهقي (5/251) ، والخطيب في «التاريخ» (11/141) ، وهو صحيح.
وانظر: «صحيح الترمذي» (2725) لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(2) كذا في الأصل والمنسوخ: وصوابه: «إنّا نعوذ ... » .
(3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يقول الرجل إذا سافر) (رقم 2598) .
وأخرجه أحمد (2/433) ، والنسائي في «المجتبى» (8/273) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (500) ، والطبراني في «الدعاء» (808) ، والبيهقي في «الدعوات الكبير» (799) ، والمحاملي في «كتاب الدعاء» (رقم 27) من حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وقال شيخنا الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (7/349- 350-ط. غراس) ما نصُّه:
وله طريق أخرى، يرويها شعبة، عن عبد الله بن بِشْرٍ الخثعمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة ... ، به، وزاد في رواية: «اللهم! اصْحَبْنَا بنُصْحِك، واقبَلْنا بذمَّتك» .
أخرجه الترمذي (3434) ، والنسائي في (الاستعاذة) ، وأحمد (2/401) ، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» ، وهو كما قال أو أعلى؛ فإن رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير الخثعمي، وقد وثقه ابن حبان. وقال أبو حاتم: «شيخ» ، وروى عنه جمع من الثقات -غير شعبة- منهم سفيان الثوري.
وله متابع عند الحاكم (2/99) ، وله شاهد من حديث ابن عباس.. أتم منه: أخرجه ابن حبان (969) ، وأحمد (1/256 و299-300) ، وابنه -أيضاً- من طريق أبي الأحوص عن سِماك بن حرب، عنه، وسنده جيد.
ومن حديث عبد الله بن سرجس: أخرجه مسلم (4/105) ، والترمذي (3435) ، والنسائي في «الاستعاذة» ، وابن ماجه (3888) ، والدارمي (2/287) ، والطيالسي (1180) ، وأحمد (5/82) . وقال =(1/678)
أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ
اطْوِ لَنَا الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» .
وفيه (1) ، عن ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بِعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13] ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِن الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، اللَّهُمَّ اطْوِ لَنَا الْبُعْدَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ» ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيه: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» .
ما يقال إذا ودَّع مسافراً أو جيشاً
أبو داود (2) ، عن عبد الله الخطمي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن
يستودع
_________
(1) أي «سنن أبي داود» في كتاب الجهاد (الباب السابق) (رقم 2599) .
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره) (رقم 1342) .
ووقعت زيادة عند أبي داود -بعد هذا- وهي: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا عَلوا الثنايا؛ كبَّروا، وإذا هبطوا، سَبَّحوا، فوضعت الصلاة على ذلك» .
ورواه عبد الرزاق (9232) ، والترمذي (3444) ، والنسائي في «التفسير» ، و «عمل اليوم والليلة» من «الكبرى» -كما في «التحفة» (6/16) -، وابن خزيمة (2542) ، وأحمد (2/144، 150) ، والطيالسي (1931) ، والدارمي (2/287) دون هذه الزيادة.
وهذه الزيادة لا تصح في الحديث المرفوع، فهي مدرجة في الحديث، وسيذكرها المصنف قريباً.
وأيضاً؛ فإن قوله: «فوضعت الصلاة على ذلك» شاذة.
وانظر تفصيل الكلام عليها: «صحيح سنن أبي داود» (7/351-353- ط. غراس) .
(2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الدعاء عند الوداع) (رقم 2601) . =(1/679)
الجيش قال: «أَستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتم أعمالكم» .
ما يقال إذا صَعَّد في سفره أو صوَّب
أبو داود (1) ، من حديث ابن عمر: ... وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا علوا الثنايا؛ كبروا، وإذا هبطوا؛ سبَّحوا، فوضعت الصلاة على ذلك.
البخاري (2) ، عن أبي موسى الأشعري: قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكُنَّا إذا أشرفنا على وادٍ؛ هلَّلْنا وكبَّرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها النَّاس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب» .
مسلم (3) ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلا ثَنِيَّةً؛ نَادَى: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: فَقَالَ
_________
= والذي في مطبوع «السنن» : «وخواتيم» .
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 15) .
وأخرجه النسائي (507) ، وابن السني (498) ؛ كلاهما في «عمل اليوم والليلة» ، وابن أبي شيبة في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (6/302 رقم 5949) -، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/114) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (15/196 رقم 5942) ، والمحاملي في «الدعاء» (90-91) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/1804 رقم 4562) ، والحاكم (2/97-98) ، والبيهقي (7/282) ، وهو صحيح، كما في «الأذكار» (1/553) .
(1) في «سننه» (رقم 2599) ، وقد سبق قريباً الكلام على هذه اللفظة، وأنها مدرجة في الحديث.
(2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير) (رقم 2992) . وتتمته: «تبارك اسمه، وتعالى جدّه» .
وأخرجه البخاري نحوه (رقم 6384، 6409، 6610، 7386) وفيه زيادة.
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب استحباب خفض الصوت بالذكر) (رقم 2704) بالزيادة، وستأتي في الحديث الذي بعده.
(3) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب استحباب خفض الصوت بالذكر) (45) (2704) .
وأخرجه البخاري (رقم 6384، 6409، 7386) .(1/680)
نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ لاَ تُنَادُونَ أَصَمَّ، وَلا غَائِبًا» ، قَالَ: فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ: يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ- أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ
مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ؟ قُلْتُ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» .
ما يقال في السفر إذا أقبل الليل، أو نزل منزلاً
أبو داود (1) ، عن عبد الله بن عمر قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
إِذَا سَافَرَ، فَأَقْبَلَ
_________
(1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل) (رقم 2603) من حديث الزبير بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، به.
وإسناده ضعيف؛ لأجل الزبير بن الوليد هذا، فهو مجهول.
وذكره ابن حبان في «الثقات» (3/76) على قاعدته في توثيق المجاهيل.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10398) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (563) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (2572) ، والحاكم في «المستدرك» (1/441، 2/100) ، وأحمد (2/132، 3/124) ، والبيهقي في «الكبرى» (5/253) .
وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» (10/323-ط. غراس) .
قوله: «يا أرضُ، ربِّي ورَبُّكِ الله» بكسر الكاف؛ لأن الخطاب للأرض، قيل: فيه إشعار بأن للأرض شعور بكلام الداعي، وقيل: خاطب الأرض اتساعاً، والأول هو الصواب بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، فقد كَلَّمَهُ وخاطبه الجمادُ.
ثم شر الأرض نفسها هو الشر الذي لا دخل فيه لشيء معين من صفاتها.
وشر ما فيها من صفاتها كاليبوسة والبرودة وضدهما، هو الشر الذي فيه دخل لغلبة صفاته، وشر ما خلق فيها هو شر ما استقر فيها من الحشرات والبهائم. وشر ما يدب عليها، أي: يتحرك عليها من المؤذيات وإن كان مندرجاً فيه، لكنْ صُرِّحَ به اعتناءً بالاستعاذة منه لعظم شره. وكذا تخصيص الأسود كالأفعى، وهو الحية العظيمة التي فيها سواد، وهوأخبث الحيات لذلك.
قال الخطابي: ساكن البلد هم الجن الذين هم سكان الأرض، فالبلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان، وإن لم يكن فيه بناء ومنزل، وقال: يحتمل أن المراد بالوالد: إبليس، وما وَلَد: الشياطين، قلت: ويحتمل أن المراد كل والد ومولود على عموم النكرة في الإثبات، كما في قوله -تعالى-: {عَلِمَتْ نَفْسٌ ... } ، والله -تعالى- أعلم.
قال ابن علان في «الفتوحات الربانية» (3/167) تعليقاً على قول الخطابي: «ساكن البلد: =(1/681)
الليْل قَالَ: «يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ، وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَدبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ، وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» .
مسلم (1) ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» .
ما يقال في الانتصار بالله إذا غزا، وعند خوف العدو
أبو داود (2) ، عن أنس قال: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ» .
وأسند ابن المنذر (3) إلى أبي موسى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا
خاف قوماً
_________
= الجن» ، أي: بناء على أن المراد بالبلد الأرض، ومنه قوله -تعالى-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} ، وهو الظاهر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قاله في البراري لا في الأبنية، أما إذا أريد بالبلد ما هو المتبادر منه من الأبنية، فُسِّرَ البلد بمأوى الحيوان من الأرض الشامل للأبنية وغيرها، وفُسِّرَ الساكن بالجن.
(1) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب في التعوُّذ من سوء القضاء، ودَرك الشقاء) (54) (2708) .
(2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يُدْعى عند اللقاء) (رقم 2632) .
وأخرجه الترمذي (3578) ، وأبو عوانة (4/86) ، وأحمد (3/184) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (604) ، وابن حبان (1661) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 91) ، وفي «الدعوات الكبير» (425) ، والضياء في «المختارة» (6/238، 239 رقم 2360، 2361، 2362) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/52) من طرقٍ عن أنس -رضي الله عنه-، ووقع عند بعضهم زيادة في أوله، وقال الترمذي: «حسن غريب» .
وانظر: «صحيح سنن أبي داود» (7/383- ط. غراس) لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(3) في «الأوسط» (القسم المفقود) .
والحديث أخرجه: أبو داود (1537) ، والنسائي في «الكبرى» (8631، 10437) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (601) ، وأحمد (4/414-415) ، والطيالسي (524) ، والروياني (461) ، والبزار =(1/682)
قال: «اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» .
مسلم (1) ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيع الحِسَاب، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اللهم اهْزِمْهُمْ وزلزلهم» . وفي بعض طرقه (2) : «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ؛ اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .
ما يقال إذا رأى قريةً يريد دخولها، أو بلداً
أسند ابن المنذر (3) إلى صهيب؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير قرية
قطُّ يريد
_________
= (3136) في «مسانيدهم» ، والحاكم في «المستدرك» (2/142) ، وابن حبان (4765) ، والقضاعي (1482) ، وابن المقرئ في «معجمه» (1358) ، والطبراني في «الأوسط» (2531) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (328) ، والبيهقي في «السنن» (5/253) ، وفي «الدعوات» (420) ، وابن حجر في «الأمالي المطلقة» (ص 127) ، من طرقٍ عن أبي موسى الأشعري، به.
وقال الحاكم: «صحيح على شرطهما» ، ووافقه الذهبي، وصححه العراقي (1/295) ، والنووي في «رياض الصالحين» (رقم 993- تحقيق شيخنا الألباني) ، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، كما في «الفتوحات الربانية» (4/16) .
وانظر: «صحيح سنن أبي داود» (5/263- ط. غراس) .
(1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب استحباب الدعاء بالنَصر عند لقاء العدو) (22) (1742) .
وأخرجه البخاري (2933، 4115، 6392، 7489، 7491) .
(2) في باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء (20) (1742) . وهو طرف من حديث قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو ... » .
وأخرجه البخاري (2818، 2833، 2965، 3024، 7237) .
(3) في القسم المفقود من «الأوسط» .
وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/471-472) ، والنسائي في «المجتبى» (3/73) ، و «السنن الكبرى» (1/400 رقم 1269، و5/256 رقم 8827) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (543، 544، 545) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (2565) ، والطحاوي في «المشكل» (3/215) ، وأبو يعلى في «المسند الكبير» -ومن طريقه الضياء في «المختارة» (8/71-72 رقم 67) -، والخرائطي في =(1/683)
دخولها، إلا قال حين يراها: «اللهم ربَّ السموات السبع وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين السَّبع وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشَّياطين وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما أَذْرَيْنَ؛ أسألك خيرَ هذه القرية، وخيرَ أهلها، وخيرَ ما فيها، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها» .
ما يقال إذا قفل من غزو أو سفر
مسلم (1) ، عن عبد الله بْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَفَلَ مِنْ الْجُيُوشِ أَو السَّرَايَا أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، إِذَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ، أَوْ فَدْفَدٍ؛ كَبَّرَ ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ،
صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» .
_________
= «مكارم الأخلاق» (2/792 رقم 878) ، والمحاملي في «الدعاء» (49، 50) ، والحاكم في «المستدرك» (1/446، 2/100) ، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» (525) ، والطبراني في «الدعاء» (838) ، وفي «المعجم الكبير» (7299) ، وابن حبان في «صحيحه» (6/425- 526 رقم 2709- «الإحسان» ) ، وأبو نعيم (6/46) ، والبيهقي في «الكبرى» (5/252) من طرقٍ عن موسى بن عُقبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن كعب الأحبار، عن صهيب بن سنان، به.
قال الحاكم: «صحيح الإسناد» .
وقال الهيثمي في «المجمع» (10/135) : «رجاله رجال الصحيح، غير عطاء بن أبي مروان وأبيه، وكلاهما ثقة» .
وأبو مروان، ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/659) ، وروى عنه جمع؛ فإسناده حسن.
وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه صاحب «الفتوحات الربانية» .
وله طريق آخر إسناده صحيح عند النسائي في «الكبرى» (5/256 رقم 8826) ، و «عمل اليوم والليلة» (543) ، ومن طريقه الطحاوي في «المشكل» (3/215) .
(1) في «صحيحه» في كتاب الحج (باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره) (428) (1344) .
وأخرجه البخاري (1797، 2995، 3084، 6385، 4116) .(1/684)
البخاري (1) ، عَنْ أَنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ.. الحديث، وفيه: فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، صلى الله عليه وسلم تسليماً.
تم كتاب (الإنجاد) ، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً.
وهذه النسخة المباركة أمر بنسخها سيدنا ومولانا: الخليفة الإمام، الواثق بالله -تعالى-، المعتمد عليه، أمير المؤمنين أبو العُلى، ابن سيدنا ومولانا، الأمير المجاهد في سبيل الله: أبي عبد الله، ابن سيدنا ومولانا المجاهد في سبيل الله: أبي حفص، ابن سيدنا ومولانا الخليفة الإمام أمير المؤمنين، أدام الله -تعالى- أيامهم، وشكر اعتناءهم بالعلم واهتمامهم، وجعل ... (2) إليهم، في وقت تتكامل سعوده، وتتتابع بالمسرة وفُودُه بمنِّه.
وكان كمالها في عشر جمادى الأولى سنة ... .
نقلت هذه النسخة المباركة من الأصل العتيق الذي ... هو أصل المؤلف الذي بخطه ... وذلك على يَدِ عبد الله (وهنا اسم الناسخ داخل شكل عدليٍّ غير واضح) (3) .
انتهت بحمد الله وتوفيقه.
*****
_________
(1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يقول إذا رجع من الغزو) (رقم 3085) .
(2) كتب الناسخ في الهامش بعدها: «مأكولة» .
(3) من كلام أبي خبزة.(1/685)