باب ما جاء في الحجامة وأوقاتها (9/79)
1 - عن جابر قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار توافق الداء وما أحي أن أكتوى "
- متفق عليه (9/80)
2 - وعن قتادة عن أنس قال " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين "
- رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (9/80)
3 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء "
- رواه أبو داود (9/80)
4 - وعن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن خير ما تحتجمون به يوم سبع عشرة ووتسع عشرة وإحدى وعشرين "
- رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (9/81)
5 - وعن أبي بكرة " أنه كان ينهي أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ "
- رواه أبو داود (9/81)
6 - وروى عن معقل بن يسار قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجحامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة "
- رواه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وليس إسناده بذاك (9/81)
7 - وروى الزهري " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من احتجم يوم السبت أو يوم الأربعاء فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه "
- ذكره أحمد وأحتج به قال أبو داود وقد أسند ولا يصح وكره إسحاق بن راهويه الحجامة يوم الجمعة والأربعاء والثلاثاء إلا إذا كان يوم الثلاثاء سبع عشرة من الشهر أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين (9/82)
- حديث أنس أخرجه أيضا ابن ماجه من وجه آخر وسنده ضعيف . والطريق التي رواها الترمذي منها هي ما في سننه قال حدثنا عبد القدوس بن محمد حدثنا عمرو ابن عاصم حدثنا همام وجرير بن حازم قالا حدثنا قتادة عن أنس فذكره وقال النووي عند الكلام على هذا الحديث رواه أبوا داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه الحاكم أيضا ولكن ليس في حديث أبي داود المذكور الزيادة وهي قوله وكان يحتجم لسبع عشرة الخ . وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن عوف الجمحي عن سهيل بن أبي صالح وسعيد وثقه الأكثر . لينه بعضهم من قبل حفظه وله شاهد مذكور في الباب بعده . وحديث ابن عباس أخرجه أيضا أحمد قال الحافظ ورجاله ثقات لكنه معلول انتهى . وإسناده في سنن الترمذي هكذا حدثنا عبد بن حميد أخبره النضر بن شميل حدثنا عباد بن منصور قال سمعت عكرمة فذكره . وحديث أبي بكرة في إسناده أبو بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة قال يحيى بن معين ضعيف ليس حديثه بشيء وقال ابن عدي أرجوانه لا بأس به وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم وحديث معقل بن يسار أشار إليه الترمذي وقد ضعف المصنف إسناده ولكن شهد له ما قبله وقد أخرجه أيضا رزين ( وفي الباب ) عن ابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه " فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء وأجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد " أخرجه من طريقين ضعيفتين وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند الدارقطني في الأفراد وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفا . ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وإن كان الحديث لم يثبت . وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص لكونه تهاون بالحديث قال في الفتح ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن أسحق كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت
( ومن أحاديث الباب ) في الحجامة حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة " أخرجه أبو داود وابن ماجه . وعن سلمى خادمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت " ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله وجعا في رأسه إلا قال احتجم ولا وجعا في رجليه إلا قال اخضبها " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث غريب إنما يعرف من حديث قائد . وقائد هذا هو مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع وثقه يحيى بن معين وقال أحمد وأبو حاتم الرازي لا بأس به وفي إسناده أيضا عبيد الله بن علي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن معين لا بأس به وقال أبو حاتز الرازي لا يحتج بحديثه وقد أخرجه الترمذي من حديث علي بن عبيد الله عن جدته وقال وعبيد الله بن علي أصح وقال غيره علي ابن عبيد الله بن أبي رافع لا يعف بحال ولم يذكره أحد من الأئمة في كتاب وذكر بعده حديث عبيد الله بن علي بن أبي رافع هذا الذي ذكرناه وقال فأنظر في اختلاف إسناده وتغير لفظه هل يجوز لمن يدعي السنة أو ينسب إلى العلم أن يحتج بهذا الحديث على هذا الحال ويتخده سنة وحجة في خضاب اليد والرجل . وعن جابر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم على وركيه من وثء كان به " أخرجه أبو داود والنسائي والوثء والمثلثة الوجع قوله " أو لذعة بنار " بذال معجمة ساكنة وعين مهملة . اللذع هو الخفيف من حرف النار
وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم
وقد تقدم الكلام على حديث جابر هذا قريبا
قوله : " في الأخدعين " قال أهل اللغة الأخدعان عرقان في جانبي العنق بحجم منه والكاهل ما بي الكتفين وهو مقدم الظهر
قال ابن القيم في الهدى الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف إذا كان حدوث ذلك من كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعا قال والحجامة لأهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة ففي الفصد لهم خطر
قوله : " كان شفاء من كل داء " هذا من العام المراد به الخصوص والمراد كان شفاء من كل داء سببه غلبة الدم
وهذا الحديث موافق لما أجمعت عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر أنفع مما قبله وفي الربع الرابع أنفع مما قبله " قال صاحب القانون أوقاتها في النهار الساعة الثانية أو الثالثة وتكره عندهم الحجامة على الشبع فربما أورثت سددا وأمراضا رديئة لا سيما كان الغذاء رديئا غليظا والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الأحتراز من الأذى وحفظا للصحة وأما في مداوة الأمراض فحيثما وجد الأحتياج إليها وجب استعمالها
قوله : " أن يوم الثلاثاء يوم الدم " أي يوم يكثر فيه الدم في الجسم
قوله " وفيه ساعة لا يرقأ " بهمز أي لا ينقطع فيها دم من احتجم أو أفتصد أو لا يسكن وربما يهلك الأنسان فيها بسبب عدم انقطاع الدم وأخفيت هذه الساعة لتترك الحجامة في هذه اليوم خوفا من مصادفة تلك الساعة كما اخفيت ليلة القدر في أوتارها العشر الأواخر ليجتهد المتعبد في جميع أوتاره ليصادف ليلة القدر وكما أخفيت ساعة الإجابة في يوم الجمعة
وفي رواية رواها رزين " لا تفتحوا الدم في سلطانه ولا تستعملوا الحديد في يوم سلطانه " وزاد أيضا " إذا صادف يوم سبع عشرة يوم الثلاثاء كان دواء السنة لمن احتجم " فيه وفي الحجامة منافع
قال في الفتح والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق وتنوب عن قصد الباسليق والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه الحلقوم وتنقي الرأس والحجامة على القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق تحت الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الظهر ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادف وقت الأحتياج إليه والحجامة على المعدة تنفع الأمعاء وفساد الحيض انتهى
قال أهل العلم بالفصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك وفصد الأكحل ينفع الأمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان قد فسد وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد وفصد الودجين لوجع الطحال والربو
قال أهل المعرفة إن المخاطب بأحاديث الحجامة غير الشيوخ لقلة الحرارة في أبدانهم
وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم قال الطبري وذلك لأنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوة جسده فلا ينبغي أن يزيده وهنا بأخراج الدم انتهى . وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه وعلى من لم يعتده وقد قال ابن سينا في أرجوزته
ومن يكن تعود الفصادة فلا يكن يقطع تلك العاده
ثم أشار إلى أنه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين
وقال ابن سينا في أبيات أخرى
ووفر على الجسم الدماء فإنها لصحة جسم من أجل الدعائم
قال الموفق البغدادي بعد أن ذكر أن الحجامة في نصف الشهر الآخر ثم في ربعه الرابع أنفع من أوله وأخره وذلك أن الأخلاط في أول الشهر وفي أخره تسكن فأولى ما يكون الأستفراغ في أثنائه . ( والحاصل ) أن أحاديث التوقيب وإن لم يكن شيء منها على شرط الصحيح إلا أن المحكوم عليه بعدم الصحة إنما هو في ظاهر الأمر لا في الواقع فيمكن أن يكون الصحيح ضعيف والضعيف صحيحا لأن الكذوب قد يصدق والصدوق قد يكذب فأجتناب ما أرشد الحديث الضعيف إلى اجتنابه واتباع ما أرشد إلى اتباعه من مثل هذه الأمور ينبغي لكل عارف وإنما الممنوع إثباب الأحكام التكليفية أو الوضعية أو نفيها بما هو كذلك (9/82)
باب ما جاء في الرقي والتمائم (9/82)
1 - عن ابن مسعود قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أن الرقي والتمائم والتولة شرك "
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه . والتولة ضرب من السحر قال أصمعي هو تحبيب المرأة إلى زوجها (9/83)
2 - وعن عقبة من عامر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له "
- رواه أحمد (9/83)
3 - وعن عبد الله عمرو قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما أبالي ما ركبت أو ما أتيت إذا أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي "
- رواه أحمد وأبو داود وقال هذا كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقد رخص فيه قوم يعني الترياق (9/83)
4 - وعن أنس " رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة "
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه . والنملة قروح تخرج في الجنب (9/84)
5 - وعن الشفا بنت عبد الله قالت " دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة "
- رواه أحمد وأبو داود . وهو دليل على جواز تعليم النساء الكتابة (9/84)
6 - وعن عوف بن مالك قال " كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال أعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك "
- رواه مسلم وأبو داود (9/84)
7 - وعن جابر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرقي فجاء آل عمر بن حزم فقالوا يا رسول الله إنها كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقي قال فعرضوها عليه فقال ما أرى بأس فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل "
- رواه مسلم (9/85)
6 - وعن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها أعظم بركة من يدي "
- متفق عليه (9/85)
- حديث ابن مسعود أخرجه أيضا الحاكم وصححه وصححه أيضا ابن حبان وهو من رواية ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود
قال المنذري والراوي عن زينب مجهول وحديث عقبة بن عامر قال في مجمع الزوائد أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات . وحديث عبد الله بن عمرو في إسناد عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي افريقيا قال البخاري في حديثه مناكير . وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه نحو هذا . وحديث الشفا سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي وهو ثقة
وقد أخرج النسائي عن إبراهيم ابن يعقوب عن علي بن المدني عن محمد بن بشر ثم بإسناد أبي داود
قوله : " أن الرقي " بضم الراء وتخفيف القاف مع القصر جمع رقية كدمى جمع دمية
قوله : " والتمائم " جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يمنعون بها العين في زعمهم فأبطله الإسلام
قوله : " والتولة " بكسر التاء المثناة فوق وبفتح الواو المخففة
قال الخليل التولة بكسر التاء وضمها شبيه بالسحر وقد جاء تفسير التولة عن ابن مسعود كما أخرجه الحاكم وابن حبان وصححاه أنه دخل على امرأته و في عنقها شيء معقود فجذبه فقطعه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أن الرقي والتمائم والتولة شرك قالوا يا أبا عبد الله هذه التمائم والرقي عرفناها فما التولة قال شيء يصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن يعني من السحر . قيل هي خيط يقرأ فيه السحر أو قرطاس يكتب فيه شيء منه يتحبب به النساء إلى قلوب الرجال أول الرجال إلى قلوب النساء فأما ما تحبب به المرأة إلى زوجها من كلام مباح كما يسمى الغنج وكما تلبسه للزينة أو تطعمه من عقار مباح أكله أو أجزاء حيوان مأكول مما يعتقد أنه سبب إلى محبة زوجها لما أودع الله تعالى فيه من الخصيصة بتقدير الله لا أنه يفعل ذلك بذاته
قال ابن رسلان فالظاهر أن هذا جائز لا أعرف الأن ما يمنعه في الشرع قوله " شرك " جعل هذه الثلاثة من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر بنفسه
قوله : " فلا أتم الله له " فيه الدعاء على من أعتقد في التمائم وعلقها على نفسه بضد قصده وهو عدم التمام لما قصده من التعليق . وكذلك قوله " فلا ودع الله له " فإنه دعاء على من فعل ذلك وودع ماضي يدع مثل وذر ماضي يذر
قوله " أو ما أتيت بفتح الهمزة والتاء الأولى أي لا أكترث بشيء من أمر ديني ولا أهتم بما فعلته إن أنا فعلت هذه الثلاثة أو شيئا منها وهذه المبالغة عظيمة وتهديد شديد في فعل شيء من هذه الثلاثة أي من فعل شيئا منها فهو غير مكترث بما يفعله ولا يبالي هل هو حرام أو حلال وهذا إن اضافه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفسه فالمراد به أعلام غيره بالحكم وقد سئل عن تعليق فقال ذلك شرك قوله " ترياقا " بالتاء أو الدال أو الطاء في أوله مكسورات أو مضمومات فهذه ست لغات أرجحهن بمثناة مكسورة رومي معرب . والمراد به هنا ما كان مختلطا بلحوم الأفاعي يطرح منها رأسها وأذنابها ويستعمل أوساطها في الترياق وهو محرم لأنه نجس وإن أتخذ الترياق من أشياء طاهرة فهو طاهر لا بأس بأكله وشربه ورخص مالك فيما فيه شيء من لحوم الأفاعي لأنه يرى إباحة لحوم الحيات وأما إذا كان الترياق نباتا أو حجرا فلا مانع منه
قوله : " أو قلت الشعر من قبل نفسي " أي من جهة نفسي فخرج به ما قاله لاعن نفسه بل حاكيا له من غيره كما في الصحيح " خير كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد " ويخرج منه أيضا ما قاله لا على قصد الشعر فجاء موزونا
قوله : " كان للنبي خاصة " يعني وأما في حق الأمة فالتماءم وإنشاء الشعر غير حرام
قوله " في الرقية من العين " أي من إصابة العين . قوله " والحمة " بضم الحاء المهملة وفتح الميم المخففة واصلها حمو أو حمى بوزن صرد والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة أو الياء مثل سمة من الوسم وهذا على تخفيف الميم أما من شدد فالأصل عنده حممة ثم أدغم كما في الحديث " العالم مثل الحمة " وهي عين ماء حلر ببلاد الشام يستشفي بها المرضى وأنكر الأزهري تشديد الميم والمراد بالحمة السم من ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور ونحوهما حمة لأن السم يخرج منها فهو من المجاز والعلاقة المجاورة
قوله : " ألا تعلمين " بضم أوله وتشديد اللام المكسورة هذه يعني حفصة رقية النملة بفتح النون وكسر الميم وهي قروح تخرج من الجنب أو الجنبين ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تستعمله يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع . ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس تحتفل ةتختضب وتكتحل وكل شيء يفتعل غير أن لا تعصى الرجل فأراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا لأنه ألقى إليها سرا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى { وإذا أسر النبي إلى بعض } الآية
قوله : " كما علمتها الكتابة " فيه دليل على جواز تعلم النساء الكتابة وأما حديث " لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف وعلموهن سورة النور " فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد
قوله : لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شيء من الشرك المحرم وفيه دليل على جواز الرقي والتطيب بمالا ضرر فيه ولا منع من جهة الشرع وإن كان بغير أسماء الله وكلامه لكن إذا كان مفهوما لأن ما لم يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شيء من الشرك
قوله " من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل " قد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها لكن دل حديث عوف أنه يمنع ما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطا وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين والحمة كما في حديث عمران بن حصين لا رقية إلا من عين أو حمة وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل محتاج إلى الرقية فيلحق بالعين جواز رقية من به مس أو نحوه لاشتراك ذلك من كونه كل واحد ينشأ عن أحوال شيطانية من أنسي أو جني ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد أو دم وكذلك حديث أنس المذكور في الباب زاد فيه النملة وقال قوم المنهي عنه من الرقي ما يكون قبل وقوع البلاء والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما وفيه نظر وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقي كما في حديث ابن مسعود المذكور في الباب
قوله : " نفث " النفث نفخ لطيف بلا ريق وفيه استحباب الفث في الرقية
قال النووي وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
قال القاضي وأنكر جماعة النفث في الررقي وأجازوا فيها النفخ بلا ريق قال وهذا هو المذهب قال وقد اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكون إلا بريق وقال أبو عبيد يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه قال وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك وقد جاء في حديث الذي رقي بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل
قوله : " بالمعوذات " قال ابن التين الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقية المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له يأتي بأمور مشبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني ىدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت فلذلك كره من الرقي مالم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من شوب الشرك وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة
وقال القرطبي الرقي ثلاثة أقسام أحدها ما كان يرقي به الجاهلية ولا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك . الثاني ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز فإن كان مأثور فيستحب . الثالث ما كان بأسناء غير الله من ملك أو صالح أو معطم من المخلوقات كالعرش قال فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله قال الربيع سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن ترقى بكتاب الله وبما تعرف من ذكر الله قلت أيرقي أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله
قوله : " وأمسحه بيد نفسه " في رواية وأمسح بيده نفسه (9/85)
باب الرقية من العين والاستغسال منها (9/86)
1 - عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرني أن أسترقيمن العين "
- متفق عليه (9/86)
2 - وعن أسماء بنت عميس " أنها قالت يا رسول الله إن بني جعفر نصيبهم العين أفنسترقي لهم قال نعم فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين "
- رواه أحمد والترمذي وصححه (9/86)
3 - وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا "
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه (9/87)
4 - وعن عائشة قالت " كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين "
- رواه أبو داود (9/87)
5 - وعن سهل بن حنيف " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد فنطر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل يا رسول الله هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه قال هل تتهمون فيه من أحد قالوا نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامرا فتغيط عليه وقال على م يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت ثم قال له اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة أزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس "
- رواه أحمد (9/87)
- حديث أسماء بنت عميس أخرجه أيضا النسائي ويشهد له حديث جابر المتقدم في الباب الأول وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات لأنه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عنها . وحديث سهل أخرجه أيضا في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر الحديث
قوله : " يأمرني أن استرقي من العين " أي من الأصابة بالعين قال المازري أخذ الجمهور بظاهر الحديث وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى لأن كل شيء ليس محلا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا فساد دليل فهو من مجوزات العقول فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبريه في الآخرة من الأمور
قوله : " فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين " فيه رد على من زعم من المتصوفة إن قوله العين حق يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام فإن عين الشيء حقيقته والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا شيء يحدثه الناظر في المنظور ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب أما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه إياها وأما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر إذ القدر عبارة عن سابق علم الله وهو لا راد لأمره أشار إلى ذلك القرطبي وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس " قال الراوي يعني بالعين
قوله : " العين حق " أي شيء ثابت موجود من جملة ما تحقق كونه
قوله : " وإذا استغسلتم فاغسلوا " أي إذا طلبتم للاغتسال فأغسلوا أطرافكم عند طلب المعيون ذل من العائن وهذا كان أمرا معلوما عندهم فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم وأدنى ما في ذلك رفع الوهم وظاهر الأمر الوجوب وحكى المازري فيه خلاف وصحح الوجوب وقال متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء فيه فإنه يتعين وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الأغتسال
قوله " بشعب الخرار " بمعجمة ثم مهملتين قال في القاموس هو موضع قرب الجحفة
قوله : " فلبط " بضم اللام وكسر الموحدة لبط الرجل فهو ملبوط أي صرع وسقط إلى الأرض
قوله : " وداخلة أزاره " يحتمل أن يريد بذلك الفرج ويحتمل أن يريد طرف الأزار الذي يلي جسده من الجانب الأيمن وقد اختلف في ذلك على قولين ذكرهما في الهدى وقد بين في الحديث صفة الغسل
قوله : " ثم يكفأ القدح وراءه " زاد في رواية على الأرض
قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه
وقال ابن العربي ان توقف فيه متشرع قلنا يهل الله ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة
قال ابن القيم هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعليها مجربا غير معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما يفعل بالخاصة فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة بالأغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج النفس توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن فكأن أثر تلك العين شعلة نار وقعت على جسد المعيون ففي الأغتسال اطفاء لتلك العلة ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شيء أرق من العين فكان في غسلها ابطال لعملها ولا سيما للأرواح الشيطانية في تلك المواضع
وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الغسل المأمور به ينفع بعد استحكام النظرة فأما عند الأصابة وقبل الأستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة " إلا بركت عليه " وفي رواية ابن ماجه فليدع بالبركة ومثله عند ابن السنى من حديث عامر ابن ربيعة
وأخرج البزار وابن السنى من حديث أنس رفعه من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره وقد اختلف في القصاص بذلك فقال القرطبي لو أتلف العائن شيئا ضمنه ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر
قال الحافظ ولم تتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه وقالوا أنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا
وقال النووي في الروضة ولا دية فيه ولا كفارة لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال ممالا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلا وإنما غايته حسد وثمن لزوال نعمة وأيضا فالذي ينشأ عن الأصابة يحصل له مكروه لذلك الشخص ولا يتعين المكروه في زوال الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين . ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وإن يلزم بيته فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة
قال النووي هذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه (9/88)
أبواب الأيمان وكفارتها (9/88)
باب الرجوع في الأيمان وغيرها من الكلام إلى النية (9/88)
1 - عن سويد بن حنظلة قال " خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا وائل ابن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلى عنه فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم " . د
- رواه أحمد وابن ماجه
وفي حديث الأسراء المتفق عليه " مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح " (9/89)
2 - وعن أنس قال " أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف قال فيلقي الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك فيقول هذا الرجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير "
- رواه أحمد والبخاري (9/89)
3 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمينك على ما يصدقك به صاحبك "
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي
وفي لفظ " اليمين على ينة المستحلف " رواه مسلم وابن ماجه وهو محمول على المستحلف المظلوم (9/89)
- حديث سويد بن حنظلة أخرجه أيضا أبو داود وسكت عنه ورجاله ثقات وله طريق وهو من رواية إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة وعزاه المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك
قال المنذري أيضا وسويد بن حنظلة لم ينسب ولا يعرف له غير هذا الحديث انتهى . وآخره الذي هو محل الحجة وهو قوله " المسلم أخو المسلم " هو متفق عليه بلفظ " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " وكذلك حديث " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " فإنه متفق عليه وليس المراد بهذه الأخوة إلا أخوة الإسلام فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة ويشترك في ذلك الحر والعبد ويبر الحالف إذا حلف أن هذا المسلم أخوه ولا سيما إذا كان في ذلك قربة كما في حديث الباب . ولهذا استحسن ذلك صلى الله عليه وآله وسلم من الحالف وقال أنت كنت أبرهم وأصدقهم ولهذا قيل أن في المعاريض لمندوحة
وقد أخرج ذلك البخاري في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن حصين
وأخرجه الطبري في التهذيب والطبراني في الكبير قال الحافظت ورجاله ثقات
وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه أبو بكر بن كامل في فوائده
وأخرجه البيهقي في الشعب من طريقه كذلك
وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي
قال الحافظ وسنده واه أيضا
وأخرج البخاري في الأدب من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب قال الجوهري المعاريض هي خلاف التصريح وهي التورية بالشيء عن الشيء وقال الراغب التعريض له وجهان في صدق وكذب أو باطن وظاهر . والمندوحة السعة وقد جعل البخاري في صحيحه هذه المقالة ترجمة باب فقال باب المعاريض مندوحة قال ابن بطال ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه
وقال الكوفيون يحنث
قوله : " مرحبا بالأخ الصالح " فيه دليل على صحة إطلاق الأخوة على بعض الأنبياء من بعض منهم والجهة الجامعة هي النبوة
قوله : " ونبي الله شاب " فيه جواز إطلاق اسم الشاب على من كان في نحو الخمسين السنة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند مهاجره قد كان مناهزا للخمسين إن لم يكن قد جاوزها وفي إثبات الشيخوخة لأبي بكر والشباب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إشكال لأن أبا بكر أصغر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه عاش بعده ومات في السن التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن أن يقال أن أبا بكر ظهرت عليه هيئة الشيخوخة من الشيب والنحول في ذلك الوقت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يظهر عليه ذلك ولهذا وقع الخلاف بين الرواة في وجود الشيب فيه عند موته صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا التعريض الواقع من أبي بكر غاية اللطافة
قوله : " على ما يصدقك به صاحبك " فيه دليل على أن الأعتبار بقصد المحلف من غير فرق أن يكون المحلف هو الحاكم أو الغريم وبين أن يكون المحلف ظالما أو مظلوما صادقا أو كاذبا
وقيل هو مقيد بصدق المحلف فيما أدعاه أما لو كان كاذبا كان الأعتبار بنية الحالف وقد ذهبت الشافعية إلى أن تخصيص الحديث بكون المحلف هو الحاكم ولفظ صاحبك في الحديث يرد عليهم وكذلك ما ثبت في رواية لمسلم بلفظ " اليمين على نية المستحلف " قال النووي أما إذا حلف بغير استحلاف وورى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك ولا اعتبار بنية المستحلف بكسر اللام غير القاضي وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه
قال والتورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه انتهى
وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته ويقبل قوله وأما إذا كان لغيره حق عليه فلا خلاف أنه يحكم بظاهر يمينه سواء حلف متبرعا أو باستحلاف انتهى ملخصا . وإذا صح الإجماع على خلاف ما يقضي به ظاهر الحديث كان الاعتماد عليه ويمكن التمسك لذلك بحديث سويد بن حنظلة المذكور في الباب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم له بالبر في يمينه مع أنه لا يكون بارا إلا باعتبار نية نفسه لأنه قصد الأخوة المجازية والمستحلف له قصد الأخوة الحقيقية ولعل هذا هو مستند الإجماع (9/90)
باب من حلف فقال إن شاء الله (9/90)
1 - عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث "
- رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال فله ثنياه والنسائي وقال فقد استثنى (9/90)
2 - وعن ابن عمر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه "
- رواه الخمسة إلا أبا داود (9/91)
3 - وعن عكرمة عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأغزون قريشا ثم قال إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا ثم قال إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله ثم لم يغزهم "
- أخرجه أبو داود (9/91)
- حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان وهو من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة
قال البخاري فيما حكاه الترمذي أخطأ فيه عبد الرزاق واختصره عن معمر من حديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال لأطوفي الليلة على سبعين امرأة الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال إن شاء الله لم يحنث . وهو في الصحيح وله طرق أخرى رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر كما ذكره المصنف في الباب
قال الترمذي لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني
وقال ابن علية كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه قال ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفا
قال الحافظ هو في الموطأ كما قال البيهقي
وقال لا يصح رفعه إلا عن أيوب مع أنه شك فيه وتابعه على لفظه العمري عبد الله وموسى بن عقبة وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى وقد صححه ابن حبان . وحديث ابن عمر رجاله رجال الصحيح وله طرق كما ذكره صاحب الأطراف وهو أيضا في سنن أبي داود في الأيمان والنذور لا كما قال المصنف . وحديث عكرمة قال أبو داود أنه قد أسنده غير واحد عن عكرمة عن ابن عباس وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا
قال ابن أبي حاتم في الغلل الأشبه إرساله
وقال ابن حبان في الضعفاء رواه مسعر وشريك أرسله مرة ووصله أخرى
قوله : " لم يحنث " فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وأدعى عليه ابن العربي الإجماع قال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا
قال ولو جاز منفصلا كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة
قال واختلفوا في الإتصال فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة النفس . وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء أبدا ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الإنعقاد وغلى ذلك ذهب الجمهور وبعضهم فصل . واستثنى أحمد العتاق قال لحديث " إذا قال أنت طالق إن شاء الله لم تطلق وإن قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر " وقد تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول كما قال البيهقي . وذهبت الهادوية إلى أن التقييد بالمشيئة يعتبر فيه مشيئة الله في تلك الحال باعتبار ما يطهر من الشريعة فإن كان ذلك الأمر الذي حلف على تركه وقيد الحلف بالمشيئة محبوبا لله فعله لم يحنث بالفعل وإن كان محبوبا لله تركه لم يحنث بالترك فإذا قال والله ليتصدقن إن شاء الله حنث بترك الصدقة لأن الله يشاء التصدق في الحال وإن حلف ليقطعن رحمه إن شاء الله لم يحنث بترك القطع لأن الله يشاء ذلك الترك
وقال المؤيد بالله معنى التقييد بالمشيئة بقاء الحالف في الحياة وقتا يمكنه الفعل فإذا بقيذلك القدر حنث الحالف على الفعل بالترك وحنث الفاعل على الترك بالفعل . والظاهر من أحاديث الباب أن التقييد إنما يفيد إذا وقع بالقول كما ذهب إليه الجمهور لا بمجرد النية إلا ما زعمه بعض المالكية عن مالك أن قياس قوله صحة الاستثناء بالنية وعند الهادوية في ذلك تفصيل معروف وقد بوب البخاري على ذلك فقال باب النية في الأيماة
قوله : " ثم سكت ثم قال إن شاء الله " لم يقيد هذا السكوت بالعذر بل ظاهره السكوت اختيارا لا اضطرارا فيدل على جواز ذلك (9/91)
باب من حلف لا يهدي هدية فتصدق (9/92)
1 - عن أبي هريرة قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده وأكل معهم " (9/92)
2 - وعن أنس قال " أهدت بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحما تصدق به عليها فقال هو لها صدقة ولنا هدية "
- متفق عليهما (9/92)
- قد تقدم الكلام على معنى الحديثين في كتاب الزكاة والمقصود من إيرادهما ههنا بأن الحالف بأنه لا يهدي لا يحنث إذا تصدق لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسال عن الطعام الذي يقرب إليه هل هو صدقة أو هدية وكذلك قال في لحم بريرة هو لها صدقة ولنا هدية كما في حديث الباب فدل ذلك على تغاير مفهومي الهدية والصدقة فإذا حلف من إحداهما لم يحنث بالأخرى كسائر المفهومات المتغايرة
قال ابن بطال إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس ولأن أخذ الصدقة منزلة ضهة والأنبياء منزهون عن ذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كما وصفه الله { ووجدك عاءلا فأغنى } والصدقة لا تحل للأغنياء وهذا بخلاف الهدية فإن العادة جارية بالإثابة عليها وكذلك كان شأنه
وفي حديث أنس دليل على أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة وجاز لمن حرمت عليه الصدقة أن يتناول منها إذا أهديت له أو بيعت (9/93)
باب من حلف لا يأكل إداما بماذا يحنث (9/93)
1 - عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " نعم الأدم الخل "
- رواه الجماعة إلا البخاري . ولأحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي من حديث عائشة مثله (9/93)
2 - وعن ابن عمر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ائتدموا بالزيت وأدهنوا به فإنه من شجرة مباركة " (9/94)
3 - وعن أنس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد أدامكم الملح "
- رواهما ابن ماجه (9/94)
4 - وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال " رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال هذه إدام هذه "
- رواه أبو داود والبخاري (9/94)
5 - وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " سيد أدام أهل الدنيا والآخرة اللحم "
- رواه ابن قتيبة في غريبه فقال حدثنا القومسي حدثنا الأصمعي عن أبي هلال الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه فذكره (9/95)
6 - وعن أبي سعيد قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا قاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة قال بلى قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواخذه ثم قال ألا أخبرك بأدامهم قال بلى أدامهم بالام ونون قال ما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبد هما سبعون ألفا "
- متفق عليه والنون الحوت (9/95)
حديث ابن عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه ثقات إلا الحسين بن مهدي شيخ ابن ماجه فقال في التقريب أنه صدوق وعزاه السيوطي في الجامع الصغير أيضا إلى الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب
وأخرج أيضا الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا " ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة " وحديث أنس في إسناده عند ابن ماجه رجل مجهول فإنه قال عن رجل أراه موسى عن أنس وقد أخرجه أيضا الحكيم الترمذي . وحديث بريدة أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الطب من حديث علي بإسناد ضعيف
قوله : " نعم الإدم " قال النووي الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الأدام بضم الهمزة كأهاب واهب وكتاب وكتب والأدم بإسكان الدال مفرد كالأدام قال الخطابي والقاضي عياض معنى الحديث مدح الاقتصار في المآكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا بالشهوات فإنها مفسدة للدين مقسمة للبدن
قال النووي والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر
وأما قول جابر فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء وهذا مما يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أن المدح للخل نفسه وتأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده
قوله : " ائتدموا بالزيت " فيه ترغيب بالإتدام بالزيت معللا ذلك بكونه من شجرة مباركة
قوله : " سيد أدامكم الملح " قد تقدم أن الأدام اسم لما يؤتدم به أي يؤكل به الخبز مما يطيب سواء كان مما يصطبغ به كالأمراق والمائعات أو مما لا يصطبغ به كالجامدات من الجبن والبيض والزيتون وغير ذلك قال ابن رسلان هذا معنى الأدام عند الجمهور من السلف والخلف انتهى . ولعل تسمية الملح بسيد الأدام لكونه مما يحتاج إليه في كل طعام ولا يمكن أن يساغ بدونه فمع كونه لا يزال مخالطا لكل طعام محتاج إليه لا يغني عنه من أنواع الأدام شيء وهو يغني عنها بل ربما لا يصلح بعض الدم إلا بالملح فلما كان بهذا المحل أطلق عليه اسم السيد وإن لم يكن سيدا بالنسبة إلى ذاته لكونه خاليه عن الحلاوة والدسومة ونحوهما
قوله : " فوضع عليها تمرة " فيه أن وضع التمرة على الكسرة جائز ليس بمكروه وإن كان البزار روى حديث " أكرموا الخبز " مع ما في الحديث من المقال فمثل هذا لا ينافي الكرامة
قوله : " هذه أدم هذه " فيه دليل على أن الجوامد تكون إداما كالجبن والزيتون والبيض والتمر وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة ما لا يصطبغ به فليس بأدام لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا
قوله : " سيد أدام أهل الدنيا " الخ فيه تصريح بأن اللحم حقيق بأن يطلق عليه اسم السيادة المطلقة في الدنيا والآخرة ولا جرم فهو بمنزلة لا يبلغها شيء من الأدم كائنا ما كان فإطلاق السيادة عليه لذاته لا لمجرد الاحتياج إليه كما تقدم في الملح
قوله : " خبزة واحدة " بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي هي في أصل اللغة الطلمة والمراد بها هنا المصنوع من الطعام
قال النووي معنى الحديث إن شاء الله يجعل الأرض كالظلمة والرغيف العظيم ويكون ذلك طعاما نزلا لأهل الجنة والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير
قوله : " بالام والنون " الحرف الأول باء موحدة وبعدها لام مخففة بعده ميم مرفوعة غير منونة كذا قال النووي
قال وفي معناها أقوال مضطربة الصحيح منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور ولهذا فسر ذلك به ووقع السؤال لليهود عن تفسيرها ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة
قال وأما النون فهو الحوت باتفاق العلماء . والمراد بقوله يتكفؤها أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها . والنزل بضم النون والزاي ويجوز إمكان الزاي وهو ما يعد للضعيف عند نزوله
قال الخطابي لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء بريد لأي وزن لعا وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء المثناة فجعلها موحدة
قال الخطابي هذا أقرب ما يقع لي فيه والمراد بزائدة الكبد قطعة منفردة متعلقة بالكبد وهي أطيبها . قوله " يأكل منها سبعون ألفا " قال القاضي يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فخصوا بأطيب النزل . ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن عدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر وهذا معروف من كلام العرب (9/95)
باب أن من حلف أنه لا مال له يتناوله الزكاتي وغيره (9/96)
1 - عن أبي الأحوص عن أبيه قال " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى شملة أو شملتان فقال هل لك من مال فقلت نعم قد آتاني الله من كل ماله من خيله وإبله وغنمه ورقيقه فقال فإذا آتاك الله مالا فلير عليك نعمه فرحت إليه في حلة " (9/96)
2 - وعن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " خير مال امرء له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة "
- رواهما أحمد . المأمورة الكثيرة النسل والسكة الطريق من النخل المصطفة . والمأبورة هي المفلحة
وقد سبق أن عمر قال " يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه " وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم " أحب أموالي إلى بيرحاء لحائط له مستقبلة المسجد "
- متفق عليه (9/96)
- حديث أبي الأحوص أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم في المستدرك ورجال إسناده رجال الصحيح . وحديث سويد بن هبيرة أخرجه أيضا أخرجه أيضا أبو سعيد والبغوي وابن قانع والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن والضياء المقدسي في المختارة وصححه وأخرجه أيضا عنه من طريق أخرى العسكري . وحديث عمر قد سبق في أول كتاب الوقف
قوله : " فإذا آتاك الله مالا " ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتيان المال مع أمره بأظهار النعمة عليه يدل على أنه علة لأنه لو لم يمكن التعليل لما كان لإعادة ذكره فائدة وكان ذكره عبثا وكلام الشارع منزه عنه
قوله : " فلير " بسكون لام الأمر والياء المثناة التحتية مضموية ويجوز بالمثناة من فوق باعتبار النعم المذكورة ويجوز أيضا بالمثناة من تحت المفتوحة
وفيه أنه يستحب للغني أن يلبس من الثياب ما يليق به ليكون ذلك إظهارا لنعمة الله عليه إذ الملبوس هو أعظم ما يظهر فيه الفرق بين الأغنياء والفقراء فمن ليس من الأغنياء ثياب الفقراء صار مماثلا لهم في ايهام الناظر له أنه منهم وذلك ربما كان كفران نعمة الله عليه وليس الزهد والتزاضع في لزوم ثياب الفقر والمسكنة لأن الله سبحانه أحل لعباده الطيبات ولم يخلق لهم جيد الثياب إلا لتلبس ما لم يرد نص على تحريمه ومن فوائد إظهار أثر الغني أن يعرفه ذوو الحاجات فيقصدونه لقضاء حوائجهم وقد أخرج الترمذي حديث " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته بالخير على عبده " وقال حسن فدل هذا على أن إظهار النعمة من محبوبات المنعم ويدل على ذلك قوله تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث } فإن الأمر منه جل جلاله إذا لم يكن للوجوب كان للندب وكلا القسمين مما يحبه الله فمن أنعم الله عليه بنعمة من نعمه الظاهرة أو الباطنة فليبالغ في إظهارها بكل ممكن ما لم يصحب ذلك الإظهار وياء أو عجب أو مكاثرة للغير وليس من الزهد والتواضع أن يكون الرجل وسخ الثياب شعث الشعر . فقد أخرج أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله قال " أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال أما كان هذا يجد ما يغسل له ثوبه ( والحاصل ) إن الله جميل يحب الجمال فمن زعم أن رضاه في لبس الخلقان والمرقعات وما أفرط في الغلظ من الثياب فقد خالف ما أرشد إليه الكتاب والسنة
قوله : " مهرة مأمورة " قال في القاموس وأمر كفرح أمرا وأمرة كثرو تم فهو أمر والأمر اشتد والرجل كثرت ماشيته وأمره الله وأمره كنصره لغية كثر نسله وماشيته
قوله : " سكة " قال في القاموس السك والسكة بالكسر حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم والسطر من الشجر وحديدة الفدان والطريق المستوي وضربوا بيتهم سكاكا بالكسر صفا واحدا
قوله : " مأبورة " قال في القاموس وأبر كفرح صلح وذكر أن تأبير النخل اصلاحه
وقد تقدم الكلام على ماقاله عمر وما قاله أبو طلحة في الوقف (9/97)
باب من حلف عند رأس الهلال لا يفعل شيئا شهرا فكان ناقصا (9/97)
1 - عن أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلف لا يدخل على بعض أهله شهرا " وفي لفظ " آلي من نسائه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهم أو راح فقيل له يا رسول الله حلفت أن لا تدخل عليهم شهرا فقال إن الشهر يكون تسعا وعشرين "
- متفق عليه (9/97)
2 - وعن ابن عباس قال " هجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون أتى جبريل عليه السلام فقال قد برت يمينك وقد تم الشهر "
- رواه أحمد (9/98)
- قوله " فقيل له يا رسول الله حلفت " الخ فيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها لا سيما ممن له تعلق بذلك والقائل له بذلك عائشة كما تدل عليه الروايات الآخرة فإنها لما خشيت أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم نسي مقدار ما حلف عليه وهو شهر والشهر ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر أن الشهر لم يهل فأعلمها أن الشهر استهل وإن الذي كان الحلف وقع فيه تسع وعشرون وفيه تقوية لقول من قال أن يمينه صلى الله عليه وآله وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين . وذهبت طائفة إلى الأكتفاء بتسعة وعشرين أخذا بأقل ما ينطلق عليه الاسم
قال ابن بطال يؤخذب منه أن من حلف على شيء بر يفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلا وخرج به فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين وافية
قوله : " إن الشهر يكون تسعا وعشرين " هذه الرواية تدل على المراد من الرواية الأخرى بلفظ " الشهر تسع وعشرون " كما في لفظ ابن عمر فإن ظاهر ذلك الحصر وهذا الظاهر غير مرادون وهم وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة إن الشهر تسع وعشرون قال فذكروا ذلك لعائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما قال الشهر قد يكون تسعا وعشرين وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن عمر بهذا اللفظ الأخير الذي جزمت به عائشة ويدل أيضا على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من يمينه بمجرد مضى ذلك العدد بل للخير الواقع من جبريل كم في حديث ابن عباس المذكور (9/98)
باب الحلف بأسماء الله وصفاته والنهي عن الحلف بغير الله تعالى (9/98)
1 - عن ابن عمر قال " كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحلف لا ومقلب القلوب "
- رواه الجماعة إلا مسلما (9/99)
2 - وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال أنظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فرجع فقال لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها " (9/99)
3 - وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " يبقى رجل بين الجنة النار فيقول يا رب أصرف وجهي عن النار لا وعزتك لا أسألك غيرها "
- متفق عليهما (9/99)
4 - وفي حديث اغتسال أيوب " بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك " (9/100)
5 - وعن قتيلة بن صيفي " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنكم تنددون وأنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقول أحدهم ما شاء الله ثم شئت "
- رواه أحمد والنسائي (9/100)
6 - وعن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال إن الله ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم فمن كان حالفا فيلحف بالله أو ليصمت "
- متفق عليه
وفي لفظ قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله فكانت قريش تحلف بآبائها فقال لا تحلفوا بآبائكم " . رواه أحمد ومسلم والنسائي (9/100)
7 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون "
- رواه النسائي (9/101)
- حديث قتيلة أخرجه أيضا ابن ماجه وصححه النسائي . وحديث أبي هريرة الأخر أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي
وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه " من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " ( وفي الباب ) عن ابن عمر رفعه " من حلف بغير الله فقد كفر " أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه . ويروى أنه قال فقد أشرك وهو عند أحمد من هذا الوجه وكذا عند الحاكم ورواه الترمذي وابن حبان من هذا الوجه أيضا بلفظ " فقد كفر وأشرك " قال البيهقي لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر قال الحافظ قد رواه شعبة عن المنصور عنه قال كنت عند ابن عمر ورواه الأعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر
قوله : " لا ومقلب القلوب " لا تقي للكلام السابق ومقلب القلوب هو المقسم به والمراد بتقليب القلوب تقليب أحوالها لا ذواتها وفيه جواز تسمية الله بما ثبت من صفاته على وجه يليق به
قال القاضي أبو بكر بن العربي في الحديث جواز الحلف بأفعال الله تعالى إذا وصف بها ولم يذكر اسم الله تعالى . وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا إن حلف بقدرة الله انعقدت يمينه وإن حلف بعلم الله لم تنعقد لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم والكلام أنما هو في الحقيقة
قال الراغب تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رآي إلى رآي قال وعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة
قوله : " فقال وعزتك " هذا طرف من الحديث الذي فيه " إن الجنة حفت بالمكاره والنار بالشهوات " وذكره المصنف رحمه الله هنا للاستدلال به على الحلف بعزة الله
قال ابن بطال يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم ولذلك صحت الأضافة قال ويظهر الفرق بين الحالف بعزة الله أي التي هو صفة لذاته والحالف بعزة الله التي هو صفة لفعلة بأنه يحنث في الأول دون الثاني
قال الحافظ وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وأنعقدت اليمين قوله " لا وعزتك لا أسألك غير هذا " هذا طرف من الحديث الطويل في صفة الحشر ومحل الحجة منه هذا اللفظ المذكور فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ذلك مقررا له فكان دليلا على جواز الحلف بذلك
قوله " بلى وعزتك " هو طرف من حديث طويل وأوله " أن أيوب كان يغتسل فخر عيله جراد من ذهب " ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عنه وأقره
قوله : " ولكن لا غنى لي عن بركتك " بكسر الغين المعجمة والقصر كذا للأكثر . ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني بفتح أوله والمد والأول أولى فإن معنى الغناء بالفتح والمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي ما يغتني به
قوله : " تنددون " أي تجعلون لله أندادا وتشركون أي تجعلون لله شركاء وفيه النهي عن الحلف بالكعبة وعن قول الرجل ما شاء الله وشئت ثم أمرهم أن يأتوا بما لا تنديد فيه ولا شرك فيقولون ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت . وحكى ابن التين عن ابن جعفر الداودي أن قال ليس في الحديث نهي عن القول المذكور وقد قال الله تعالى { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } وقال تعالى { وإذا تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } وغير ذلك وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله " ماشاء الله وشئت " تشريك في مشيئته تعالى وأما الآية فإنما أخبر الله أنهم أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل . وكذا الأنعام أنعم الله على زيد بن حارثة بالإسلام وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعتق وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منفردة لله سبحانه وتعالى بالحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز
قوله : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم " في رواية للترمذي من حديث ابن عمر " أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك " قال الترمذي حسن وصححه الحاكم التعبير بقوله كفر أو شرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك وقد تمسك به من قال بالتحريم
قوله " فليحلف بالله أو ليصمت " قال العلماء السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته وعلى ذلك اتفق الفقهاء . واختلف هل الحلف بغير الله حرام أو مكروه للمالكية والحنابلة قولان ويحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على عدم جواز الحلف بغير الله على أن مراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه وقد صرح بذلك في موضع آخر . وجمهور الشافعية على أنه مكروه تنزيها وجزم ابن حزم بالتحريم
قال إمام الحرمين المذهب القطع بالكراهة وجزم غيره بالتفصيل فإن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافر أو مذهب الهادوية أنه لا أثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم أو كان الحلف متضمنا كفرا أو فسقا وسيأتي الكلام على من يكفر بحلفه
قال في الفتح وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي أفلح وأبيه أن صدق فقد أجيب عنه بأجوبة الأول الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال ابن عبد البر إنها غير محفوظة وزعم أن أصل الرواية أفلح والله فصحفها بعضهم . والثاني أن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف قاله البيهقي وقال النووي أنه الجواب المرضي . والثالث أنه كان يقع في كلامهم على وجهين للتعطيم والتأكيد والنهي إنما وقع عن الأول . والرابع أن ذلك كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي
وقال السهيلي أكثر الشراح عليه
قال ابن العربي وروى " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك " قال السهيلي ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يحلف بغير الله ويجاب بأنه قبل النهي عنه غير ممتنع عليه ولا سيما الأقسام القرآنية على ذلك النمط
وقال المنذري دعوى النسخ ضعيفة لا مكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ . والخامس أنه كان في ذلك حذف والتقدير أفلح ورب أبيه قاله البيهقي . والسادس أنه للتعجيب قاله السهيلي . والسابع أنه خاص به صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأت الخصائص لا تثبت بالاحتمال ( وأحاديث الباب ) تدل على أن الحلف بغير الله لا ينعقد لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه وإليه ذهب الجمهور وقال بعض الخنابلة إن الحلف بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ينعقد وتجب الكفارة (9/101)
باب ما جاء في وأيم الله ولعمر الله وأقسم بالله وغير ذلك (9/101)
1 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة فجاءت بشق رجل وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " وه حجة في أن الحاق الأستثناء ما لم يطل الفصل ينفع وإن لم ينوه وقت الكلام الأول (9/102)
2 - وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في زيد بن حارثة " وايم الله إن كان لخليقا للإمارة "
- متفق عليهما
وفي حديث متفق عليه لما وضع عمر على سريره جاء أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فترحم عليه وقال وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الل مع صاحبيك وقد سبق في حديث المخزومية وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها . وقول عمر لغيلان بن سلمة وايم الله لتراجعن نساءك
وفي حديث الأفك فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي فقام أسيد بن حضير فقال لسعد بن عبادة لعمر الله لنقتلنه وهو متفق عليه (9/102)
3 - وعن عبد الرحمن بن صفوان وكان صديقا للعباس " أنه ما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال أنها لا هجرة فأنطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا هجرة فقال العباس أقسمت عليك لتبايعنه قال فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال هات أبرره عمى ولا هجرة "
- رواه أحمد وابن ماجه (9/102)
4 - وعن أبي الزاهرية عن عائشة " أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت أقسمت عليك ألا أكلت بقيته فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبريها فإن الأثم على المحنث "
- رواه أحمد (9/103)
5 - وعن بريدة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس منا من حلف بالأمانة "
- رواه أبو داود (9/103)
- حديث المخزومية تقدم في باب ما جاء في السارق يوهب السرقة بعد وجوب القطع أو يشفع فيه وقول عمر لغيلان تقدم في باب من أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع . وحديث عبد الرحمن بن صفوان قال ابن ماجه في إسناده حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا ابن ادريس جميعا عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان فذكره ثم قال حدثنا محمد بن يحيى الحسن بن الربيع عن عبد الله ابن ادريس عن يزيد بن أبي زياد بإسناده نحوه
وقال يزيد بن أبي زياد يعني لا هجرة من دار من قد أسلم أهلها اه . وحديث أبي الزاهرية قال في مجمع الزوائد رجال أحمد رجال الصحيح ويشهد لصحته الأحاديث الآتية في أبرار القسم وحديث بريدة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يحلف بالأمانة فقال ألست الذي يحلف بالأمانة " . قوله " لا طوفن " اللام جواب القسم كأنه قال والله لاطوفن ويرشد إلى ذلك ذكر الحنث في قوله لم يحنث كما في رواية
قوله : " على تسعين " بتقديم التاء الفوقية على السين
قوله : " وايم الله " بكسر الهمزة وفتحها والميم مضمومة . وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج وهمزته همزة وصل عند الأكثر وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لأنه عندهم جمع يمين وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه
قال ابن مالك فلو كان جمعا لم تكسر همزته وقد ذكر في فتح الباري فيها لغات عديدة وقال غيره أصله يمين الله ويجمع على أيمن فيقال وأيمن الله حكاه أبو عبيدة وأنشد لزهي ابن أبي سلمى
فيجمع أيمن منا ومنكم لمقسمة نمور بها الدماء
فقالوا عند القسم وأيمن الله ثم كثر فحذفوا النون كما حذفوها من لم يكن فقالوا لم يك ثم حذفوا الياء فقالوا أم الله ثم حذفوا الألف فأقتصروا على الميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة وقالوا أيضا م الله بكسر الميم وضمها وأجازوا في أيمن فتح المي وضمها وكذا في أيم الله ومنهم من وصل الألف وجعل الهمزة زائدة ومسهلة وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين
قال الجوهري قالوا أيم الله وربما حذفوا الياء فقالوا أم الله أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م الله وربما كسروها لأنها صارت حرفا واحدا فشبهوها بالباء قال وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجيء ألف وصل مفتوحة غيرها وقد يدخل اللام للتأكيد فيقال ليمن الله قال الشاعر
فقال فريق القوم لما شهدتهم نعم وفريق ليمن الله ما ندري
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الأستعمال . وحكى ابن التين عن الداوودي أنه قال أيم الله معناه اسم الله بأبدال السين ياء وهو غلط فاحش لأن السين لا تبدل ياء . وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم وإن معنى قوله وأيم الله والله لأفعلن . ونقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله ومنه قوله امرئ القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومن ثم قالت المالكية والحنفية أنه يمين وعند الشافعية أن نوى اليمين انعقدت وإن نوى غير اليمين لم تنعقد يمينا وإن أطلق فوجهان أصحهما لا تنعقد إلا أن نوى . وعن أحمد روايتان أصحهما الأنعقاد . وحكى الغزالي في معناه وجهين أحدهما أنه كقوله بالله والثاني أنه كقوله أحلف بالله وهو الراجح ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله . وفرق الماوردي بأن لعمر الله شاع في استعمالهم عرفا بخلاف أيم الله واحتج بعض من قال منهم بالإنعقاد مطلقا بأن معناه يمين الله ويمين الله من صفاته وصفاته قديمة . وجزم النووي في التهذيب أن قوله وأيم الله كقوله وحق الله وقال أنه ينعقد به اليمين عند الأطلاق وقد استغربوه
قوله : " لعمر الله " بفتح العين المهملة وسكون الميم هو العمر بضم العين قال في النهاية ولا يقال في القسم إلا بالفتح
وقال الراغب العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني
قال الشاعر " عمرك الله كيف يلتقيان " أي سألت الله أن يطيل عمرك وقال أبو القاسم الزجاجي العمر الحياة فمن قال لعمر الله فكأنه قال أحلف ببقاء الله واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به . ومن ثم قالت المالكية والحنفية تنعقد بها اليمين لأن بقاء الله تعالى من صفة ذاته وعن الإمام مالك لا يعجبني الحالف بذلك وقد أخرج إسحاق بن راهوية في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري
وقال الأمام الشافعي وإسحاق لا يكون يمينا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوحبه الله تعالى وعن أحمد كالمذهبين والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية التي فيها بالعمر بأن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس ذلك لغيره لثبوت النهي عن الحلف بغير الله وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله تعالى أقسم به حيث قال { لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون } وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء وقد ثبت عند البخاري في كتاب الرقاق من حديث لقيط بن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر الأهل وكررها " وهو عند عبد الله بن أحمد وعند غيره
قوله : " أقسمت عليك " قال ابن المنذر اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردا فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد وممن روى عنه ذلك ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون
وقال الأكثرون لا يكون يمينا إلا ان نوى وقال الإمام مالك أقسمت بالله يمين وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا أن نوى وقال الشافعي المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى وأقسمت بالله إن نوى يكون يمينا وكذا لو قال أقسم بالله وقال سحنون لا يكون يمينا أصلا وعن الأمام أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لأن التقدير أقسمت بالله قسما وكذا لو قال آليت بالله
قال ابن المنير لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه اليمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل قال وفي ذلك نظر
قوله : " ليس منا من حلف بالأمانة " قال في النهاية يشبه أن تكون الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله وصفاته والأمانة أمر من أموره فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء الله كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم قال وإذا قال الحالف وأمانة الله كانت يمينا عند أبي حنيفة والشافعي لا يعدها يمينا قال والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والنقد والأمان قد جاء في كل منها حديث (9/103)
باب الأمر بابرار القسم والرخصة في تركه للعذر (9/104)
1 - عن البراء بن عازب قال " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أم المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام " (9/104)
2 - وعن ابن عباس في حديث رؤيا قصها أبو بكر " أن أبا بكر قال أخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي أصبت أم أخطأت فقال أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال فوالله لتحدثني بالذي أخطأت قال لا تقسم "
- متفق عليهما (9/104)
- قوله " وإبرار القسم " أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك بارا
قوله : " والمقسم اختلف في ضبط السين فالمشهور إنها بالكسر وضم الميم على أنه اسم فاعل وقيل بفتح السين أي الأقسام والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الأدخال وكذا أخرجته
قوله : " في حديث رؤيا قصها " هذا من كلام المصنف
قوله : " لا تقسم " أي لا تحلف وهذا طرف من حديث طويل قد ساقه البخاري مستوفي في كتاب التعبير
قوله : " وإبرار القسم " ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كأفشاء السلام قرينة صارفة عن الوجوب وعدم إبراره صلى الله عليه وآله وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكنه صلى الله عليه وآله وسلم فعله لبيان عدم الوجوب ويمكن أن يقال أن الفعل منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض الأمر الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول وما نحن وبقية ما اشتمل عليه الحديث موضعه غير هذا (9/105)
باب ما يذكر فيمن قالو هو يهودي أو نصراني أن فعل كذا (9/105)
1 - عن ثابت بن الضحاك " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال "
- رواه الجماعة إلا أبا داود (9/105)
2 - وعن بريدة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قال أني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما "
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (9/106)
- حديث بريدة هو من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وقد صححه النسائي
قوله : " بملة غير الإسلام " الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ونحوهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهوير والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم
قال ابن المنذر اختلف فيمن قال أكفر بالله ونحوه إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار لاكفارة عليه ولا يكون كافرا إلا إن اضمر ذلك بقلبه وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد إسحاق هو يمين وعليه كفارة
قال ابن المنذر والأول أصح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم من حلف باللات والعزى فليقل لا إلا الله ولم يذكر كفارة زاد غيره وكذا قال من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال فأراد التغليظ في ذلك حتى لا تجرئ أحد عليه . ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا الإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للإسلام وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الإسلام إذا حنث لا يجب عليه كفارة فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لم يصرح
قال ابن دقيق العيد الحلف بالشيء حقيقة هو القسم وأدخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء الحنث أو المنع وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبا والكذب يدخل القضية الأخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى وهذا بخلاف قولنا والله ما أشبهه فليس الأخبار بها عن أمر خارجي بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين . أحدهما أن تتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي والثاني تتعلق بالماضي كقوله إن كان كاذبا فهو يهودي وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه
قوله : " فهو كما قال " قال ولا يكفر في صورة الماضي إلا أن قصد التعظيم وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى فصار كما لو قال هو يهودي ومنهم من قال إذا كان لا يعلم إنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم إنه يكفر بالحنث كفر لكونه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل
وقال بعض الشافعية ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا والتحيقيق التفصيل فإن أعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها الثاني هو المشهور
قوله : " كاذبا " زاد في البخاري ومسلم متعمدا
قال عياض تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها إن الحالف متعمدا كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم مالا يعتقد تعظيمه لم يكفر وإن قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونها حقا كفر وإن قالها لمجرد التعظيم لها أحتمل
قال الحافظ وينقدح بأن يقال أن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا قال ودعواه إن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة إلى رواية مسلم فعسى فإنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبي قلابة
قوله : " في الحديث الآخر " فهو كما قال قال في الفتح يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأن يقال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره من ترك الصلاة فقد كفر أي استوجب عقوبة من كفر
وقال ابن المنذر ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر بل المراد إنه كاذب كذب المعظم لتلك الجهة (9/106)
باب ما جاء في اليمين الغموس ولغو اليمين (9/106)
1 - عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق " (9/107)
2 - وعن ابن عمر " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل فعلت كذا قال لا والذي لا إله إلا هو مافعلت قال فقال له جبريل عليه السلام قد فعل ولكن الله عز و جل غفر له بقوله لا والذي لا إله إلا هو " (9/107)
3 - وعن ابن عباس قال " اختصم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلان فوقعت اليمين على أحدهما فلحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عند شيء قال فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إنه كذب إن له عند حقه فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته إن لا إله إلا الله أو شهادته "
- رواهن أحمد ولأبي داود الثالث بنحوه (9/107)
4 - وعن عائشة قالت " أنزلت هذه الآية { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } في قوله الرجل لا والله وبلى والله "
- أخرج البخاري (9/108)
- حديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو الشيخ ويشهد له ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمرو قال جاء اعرابي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وقد تكلم فيه غير واحد
وأخرج له البخاري حديثا مقرونا بابن بشر
قوله : " ليس لهن كفارة " أي لا يمحو الأثم الحاصل بسببهن شيء من الطاعات أما الشرك بالله فلقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وأما قتل النفس فعلى الخلاف في قبول توبة التائب عنه وقد تقدم الكلام فيه . والمراد ببهت المؤمن إن يغتأ به بما ليس فيه واليمين الصابرة أي التي ألزم بها وصبر عليها وكانت لا زمة لصاحبها من جهة الحكم والظاهر أن هذه الأمور لا كفارة لها إلا التوبة منها ولا توبة في مثل القتل إلا بتسليم النفس للقود
قوله : " وكفارة يمينه " الخ هذا يعارض حديث أبي هريرة لأنه قد نفى الكفارة عن الخمس التي من جملتها اليمين الفاجة في اقتطاع حق وهذا أثبت له كفارة وهي التكلم بكلمة الشهادة ومعرفته لها ويجمع بينهما بأن النفي عام والأثبات خاص
قوله : " باللغو " الآية قال الراغب هو في الأصل مالا يعتد به من الكلام والمراد في الإيمان ما يورد عن غير روية فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير
قوله : " لا والله " أخرجه أبو داود عنها مرفوعا بلفظ " قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله " وأخرجه أيضا البيهقي وابن حبان وصحح الدار قطني الوقف ورواه البخاري والشافعي ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفا . ورواه الشافعي من حديث عطاء أيضا موقوفا
قال أبو داود ورواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف إنه أصاب فيظهر إنه أخطأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة
قال الحافظ وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد وقد تمسك بتفسير عائشة المذكور في الباب الشافعي وقال إنها جزمت بأن الآية نزلت في قول الرجل لا والله وبلى والله وهي قد شهدت التنزيل وذهبت الحنفية والهادوية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي واليث . وعن أحمد روايتان قال في الفتح ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة عن أبي قلابة لا والله وبلى والله من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام ونقل إسماعيل القاضي عن طاوس أن لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان ونقل أقوالا أخر عن بعض التابعين ( وجملة ) ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قوله إبراهيم النخعي إن اللغو هو أن يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن مثله وعنه هو كقول الرجل والله لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك
وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يرحم ما أحل الله له
وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية
قال ابن العربي القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية ينعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه
قال ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني المذكورة في الباب ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه . ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا متعلق له فإن الله تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا أثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة
وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة " لغو اليمين ما كان في المراء والهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب " وهذا موقوف . ورواية يونس تقارب الزبيدي ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول
وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه وهذا يوافق القول الثاني لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفته من هو أوثق منه وأكثر عددا ( والحاصل ) في المسألة إن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو وذلك يعم الأثم والكفارة فلا يجب أيهما والمتوجه الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية وأهل عصره صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب الله تعالى لأنهم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع ومن المشاهدين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحاضرين في أيام النزول فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللغظ لأنه يمكن أن يكون المعنى الذي نقله إليه شرعيا لا لغويا والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الأصول فكان الحق فيما نحن بصدده هو أن اللغو ما قالته عائشة رضي الله عنها وفي ( حديث الباب ) تعرض لذكر بعض الكبائر والكلام في شأنها طويل الذيول لا يتسع لبسطه إلا مؤلف حافل وقد ألف ابن حجر في ذلك مجلدا ضخما سماه الزواجر في الكبائر فمن رام الأستقصاء رجع إليه وأما حصرها في عدد معين فليس ذلك إلا باعتبار الأستقراء لا باعتبار الواقع فمن جعل عددها أوسع فلكثرة ما استقراه منها (9/108)
باب اليمين على المستقبل وتكفيرها قبل الحنث وبعده (9/108)
1 - عن عبد الرحمن بن سمرة قال " قال صلى الله عليه وآله وسلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وفي لفظ " فكفر عن يمينك وآت الذي هو خير "
- رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم الكفارة (9/109)
2 - وعن عدي بن حاتم " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير "
- رواه مسلم
وفي لفظ " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (9/109)
3 - وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من حلف على يمين فراى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير "
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه
وفي لفظ " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " رواه مسلم (9/109)
4 - وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا أحلف على يمين فارى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " وفي لفظ " ألا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير " وفي لفظ " ألا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني "
- متفق عليهن (9/110)
5 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا نذر ولا يمين فيما تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم "
- رواه النسائي وأبو داود وهو محمول على نفي الوفاء بها (9/110)
6 - وعن ابن عباس قال " كان الرجل يقوت أهله قوتا في شدة فنزلت من أوسط ما تطعمون أهليكم "
- رواه ابن ماجه (9/110)
7 - وعن أبي بن كعب وابن مسعود " أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات "
- حكاه أحمد ورواه الأثرم بإسناده (9/111)
- حديث عمرو بن شعيب ذكر البيهقي أنه لم يثبت وتمامه ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها " قال أبو داود الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به قال الحافظ في الفتح ورواته لابأس بهم لكن اختلف في سنده على عمرو وفي بعض طرقه عند أبي داوود ولا في معصية . وأثر ابن عباس رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح إلا سليمان بن أبي المغيرة العبسي ولكنه قد وثقه ابن معين وقال في التقريب صدوق وأثر أبي بن كعب أخرجه الدارقطني وصححه قوله " فات الذي هو خير " فيه دليل أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة ويختلف بأختلاف حكم المحلوف عليه فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث معصية وعكسه بالعكس وإن حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه وإن حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله وإن حلف على مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك كما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما ففيه عند الشافعية خلاف وقال ابن الصباغ وصوبه المتأخرون أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال وإن كان مستوي الطرفين فالأصح أن التمادي أولى لأنه قال فليأت الذي هو خير قوله " فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير " هذه الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها وأخرج أيضا الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ " فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير "
وفيه دليل على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث ولا يعارض ذلك الرواية المذكورة في الباب قبلها بلفظ " فات الذي هو خير وكفر " لأن الواو لا تدل على ترتيب إنما هي لمطلق الجمع على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي بعدها بلفظ " فكفر عن يمينك وأئت الذي هو خير " تخالفها وكذلك بقية الروايات المذكورة في الباب
قال ابن المنذر رأي ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزي قبل الحنث إلا أن الشافعي أستثني الصيام فقال لا يجزي إلا بعد الحنث وقال أصحاب الراي لا تجزي الكفارة قبل الحنث وعن مالك روايتان ووافق الحنفية أشهب من مالك وداود الظاهري وخالفه ابن حزم واحتج له الطحاوي بقوله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم ورده مخالفوه فقالوا بل التقدير فأردتم الحنث
قال الحافظ وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر
واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين ورده من أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا
واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها بعد تطوع فلا يقوم التطوع مقام المفروض . وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا تجزئ كما في تقديم الزكاة
وقال عياض اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث واستحب الإمام مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث قال عياض ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية ورده الجمهور
قال ابن المنذر واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ الأحديث لا يدل على تعيين أحد الأمرين والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهي فعل مالي أو بدني أولى ويرجح قولهم أيضا بالكثرة . وذكر عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة
وقد عرفت مما سلف أن المتوجه العمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم ولولا الإجماع المحكى سابقا على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم الكفارة واجب كما سلف
قال المازري للكفارة ثلاثة حالات : أحدها قبل الحلف فلا تجزي اتفاقا . ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزى اتفاقا ثالثهابعد الحلف وقبل الحنث ففيها خلاف ( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على وجوب الكفارة مع إتيان الذي هو خير
وفي حديث عمرو بن شعيب المذكور بعضه في الباب ما يدل على أن ترك اليمين وإتيان الذي هو خير هو الكفارة وقد ذكرنا ذلك وذكرنا ذكرنا أن أبا داود قال أنه ما ورد من ذلك إلا ما لا يعبأ به قال الحافظ كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته ويحيى ضعيف جدا وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك فإنه أخرجه عنه بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه " هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ " فرأى غيرها خيرامنها فليكفرها وليأت هو خير " ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد قوله " كان الرجل يقوت أهله " الخ فيه أن الأوسط المنصوص عليه في الآية الكريمة هو المتوسط ما بين قوت الشدة والسعة
قوله : " أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات قراءة الآحاد منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الأصول وخالف في وجوب التتابع عطاء ومالك والشافعي والمحاملي (9/111)
كتاب النذر (9/111)
باب نذر الطاعة مطلقا ومعلقا بشرط (9/112)
1 - عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه "
- رواه الجماعة إلا مسلما (9/112)
2 - وعن ابن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النذر وقال إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل "
- رواه الجماعة إلا الترمذي . وللجماعة إلا أبا داود مثل معناه من رواية أبي هريرة (9/112)
- لفظ حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج الله فيؤتني عليه ما لم يكن يؤتني عليه من قبل " أي يعطيني
قوله : " فليعطه " الطاعة أعم من أن تكون واجبة أو غير واجبة ويتصور النذر في الواجب بأن يؤقته كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته وأما المستحبمن جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيد به الناذر والخبر صريح في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية وهل تجب في الثاني كفارة يمين أولا فيه خلاف يأتي إن شاء الله
قوله : " أنه لا يرد شيئا " فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من حمله على ظاهره ومنهم من تأوله قال ابن الأثير في النهاية تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك غبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذا يصير بالنهي معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر إليهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يغير قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدر الله لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم فإذا نذرتم فأخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى
وقال أبو عبيد النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ولو كان كذلك ما أمر الله تعالى أن يوفى به ولأحمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به . ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة وغلى ذلك أشار المازري بقوله ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر قال وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب قال ويشير إلى هذا التأويل قوله " أنه لا يأتي بخير " وقوله " أنه لا يقرب من ابن آدمشيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى . والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازاة وزاد القاضي عياض فقال أن الأخبار بذلك وقع على سبيل الأعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة قال ومحصل مذهب الإمام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤيدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية
قوله " أنه لا يرد شيئا " يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعا له وأعم من هذه الرواية ما في البخاري وغيره بلفظ " أنه لا يأتي بخير " فإنه قد ينظر استجلابا لنفع أو استدفاعا لضرور النذر لا يأتي بذلك المطلوب وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في إندفاع الضرر قال الخطابي في الأعلام هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص الشافعي أن النذر مكروه وكذا عن المالكية وجزم الحنابلة بالكراهة
وقال النووي أنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب وروى ذلك عن القاضي حسين والمتولي والغزالي وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة . ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرجه غالبا وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله " وإنما يستخرج به من البخيل " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر وإليهما الإشارة في الحديث بقوله " فإنه لا يريد شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح
قال الحافظ بل تقرب من الكفر ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة قال والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك
قال الحافظ وهو تفصيل حسن ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة
وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى { يوفون بالنذر } قال كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله تعالى أبرارا وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي " أخرجه النسائي وصححه ابن حبان أشار إلى ذلك العراقي في شرح الترمذي وقد نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله " من نذر أن يطع الله فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره
قال الحافظ والاتفاق الذي ذكره مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر قلت لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد لأن إخراج المال في القرب طاعة والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على بخله ولم يتم الاستخراج المذكور (9/113)
باب ما جاء في نذر المباح والمعصية وما أخرج مخرج اليمين (9/113)
1 - عن ابن عباس قال " بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب غذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وإن يصوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه "
- رواه البخاري وابن ماجه وأبو داود (9/113)
2 - وعن ثابت بن الضحاك " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ليس على الرجل نذر فيما لا يملك "
- متفق عليه (9/114)
3 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله تعالى "
- رواه أحمد وأبو داود
وفي رواية " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى أعرابي قائما في الشمس وهو يخطب ( 1 ) [ قوله وهو يخطب جملة حالية من فاعل نظر وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ] فقال ما شأنك قال نذرت يا رسول الله أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس هذا نذرا إنما النذر ما ابتغى به وجه الله "
- رواه أحمد (9/114)
4 - وعن سعيد بن المسيب " أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسالني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمران الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك "
- رواه أبو داود (9/114)
5 - وعن ثابن بن الضحاك " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم "
- رواه أبو داود (9/115)
6 - وعن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين "
- رواه الخمسة واحتج به أحمد وإسحاق (9/115)
7 - وعن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين "
- رواه أبو داود (9/115)
8 - وعن عقبة بن عامر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفارة النذر كفارة يمين "
- رواه أحمد ومسلم (9/116)
- حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا البيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه
وقد أخرجه بلفظ أحمد الطبراني قال في مجمع الزوائد فيه عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف ولم يكن في إسناده أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وحديث سعيد بن المسيب حديث صالح سكت عنه أبو داود والحافظ وهو من طريق عمرو بن شعيب ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع
وروي نحوه عن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة فقالت يكفر عن اليمين أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن . وحديث ثابت بن الضحاك أخرجه أيضا الطبراني وصحح الحافظ إسناده وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده مرفوعا ورواه ابن ماجه من من حديث ابن عباس ورواه أحمد في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن ابنه كردم عن أبيها بنحوه
وفي لفظ لابن ماجه عن ميمونة بنت كردم . وحديث عائشة قال الترمذي بعد إخراجه لا يصح لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة وكذلك قال غيره قالوا وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك
وقال أحمد ليس بشيء ولا يساوي فلسا
وقال البخاري تركوه وتكلم فيه جماعة أيضا فيهم عمرو بن علي وأبو داود وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والدارقطني
وقال الخطابي ولو صح هذا الحديث لكان القول به واجبا والمصير إليه لازما إلا أ أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن الأرقم ورواه النسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمران بن حصين ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عنه ومحمد ليس بالقوي وقد اختلف عليه فيه . ورواه ابن المبارك عن عبد الوارث عن أبيه أن رجلا حدثه أنه سال عمران بن الحصين فذكره وفيه رجل مجهول . ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الحافظ وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع وذلك لأن الزهري لم يروه عن أبي سلمة . ورواه ابن ماجه من حديث سليمان بن بلال عن حرشي بن عتبة ومحمد بن عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع إلى الرواية الأولى ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وأبي سلمة كلاهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع كونه مرسلا فالحنفي هو محمد بن الزبير المتقدم قاله الحاكم
وقال أن قوله من بني حنيفة تصحيف وإنما هو من بني حنظلة وله طريق أخرى عن عائشة عند الدارقطني من رواية غالب بن عبد الله الجزري عن عطاء عن عائشة مرفوعا بلفظ " من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين " وغالب متروك وله طريق أخرى عن أبي داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسنادها حسن بن طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه
وقال أبو داود موقوفا يعني وهو أصح
وقال النووي في الروضة حديث " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ضعيف باتفاق المحدثين
قال الحافظ قلت قد صححه الطحاوي وأبو علي بن السكن فأين الاتفاق . وحديث ابن عباس قد تقدمت الإشارة إليه أنه من طريق كريب عنه ولفظه في سنن أبي داود عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به " وسيأتي وثد تقدم أنه موقوف على ابن عباس وأن الموقوف أصح
وأخرجه ابن ماجه وفي إسناد ابن ماجه من لا يعتمد عليه وليس فيه من نذر نذرا في معصية
قوله : " أبو إسرائيل " قال الخطيب هو رجل من قريش ولا يشاركه أحد من الصحابة في كنيته . واختلف في إسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغرا
وقيل بسير بمهملة مصغرا وقيل قيصر باسم ملك الروم
وقيل بالسين المهملة بدل الصاد
وقد جزم ابن الأثير وغيره بأنه من الصحابة وفيه دليل على أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعية كتاب ولا سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس من طاعة الله تعالى فلا ينعقد النذر به فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه
قال القرطبي في قصة أبي إسرائيل هذا أعظم حجة للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه
قال مالك لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بكفارة
قوله : " ليس على الرجل نذر فيما لا يملك " فيه دليل على أن من نذر بما لا يملك لا ينفذ نذره وكذلك من نذر بمعصية كما في بقية أحاديث الباب واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا فقال الجمهور لا وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة واحتج من أوجبها بحديث عائشة المذكور في الباب وما ورد في معناه وأجيب بأن ذلك لا ينتهض للاحتجاج لما سبق في المقال
واحتج أيضا بما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ " كفارة النذر كفارة اليمين " لأن عمومه يشمل نذر المعصية وأجيب بأن فيه زيادة تمنع العموم وهي أن الترمذي وابن ماجه أخرجا حديث عقبة بلفظ " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " هذا لفظ الترمذي ولفظ ابن ماجه " من نذر نذرا لم يسمه " وحديث ابن عباس المذكور في الباب أيضا قد سبق ما فيه من المقال ( واستدل بأحاديث الباب ) على أنه يصح النذر في المباح لأنه لما نفي النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتا . ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح الحديث المذكور في أول الباب عن ابن عباس والحديث الذي فيه " إنما النذر ما يبتغى به وجه الله " ومن جملة ما استدل به على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح قصة التي نذرت الضرب بالدف وأجاب البيهقي بأنه يمكن أن يقال إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالما معنى مقصود ويحصل به الثواب
قوله : " في رتاج الكعبة " بمهملة فمثناة فوقية فجيم بعد ألف هو في اللغة الباب وكني به هنا عن الكعبة نفسها قوله " ببوانة " بضم الموحدة وبعد الألف نون قال في التلخيص موضع بين الشام وديار بكر قاله أبو عبيد وقال البغوي أسفل مكة دون يلملم
وقال المنذري هضبة من وراء نبع ومثله في النهاية وسيأتي الكلام على حديث ثابت بن الضحاك (9/116)
باب من نذر نذرا لم يسمه ولا يطيقه (9/116)
1 - عن عقبة بن عامر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفارة النذر إن لم يسم كفارة اليمين "
- رواه ابن ماجه والترمذي وصححه (9/117)
2 - وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين "
- رواه أبو داود وابن ماجه وزاد " ومن نذر نذرا أطاقه فليف به " (9/117)
3 - وعن أنس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال ما هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب "
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه . وللنسائي في رواية " نذر أن يمشي إلى بيت الله " (9/117)
4 - وعن عقبة بن عامر قال " نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فقال لتمش ولتركب "
- متفق عليه . ولمسلم فيه حافية غير مختمرة
وفي رواية " نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنة " رواه أحمد
وفي رواية " أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " رواه الخمسة (9/118)
5 - وعن كريب عن ابن عباس قال " جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله إن أختي نذرت أن تخج ماشية فقال إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لنخرج راكبة ولتكفر عن يمينها "
- رواه أحمد وأبو داود (9/118)
6 - وعن عكرمة عن ابن عباس " إن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة "
- رواه أحمد
وفي لفظ " إن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت وإنها لا تطيق ذلك فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تركب وتهدي هديا "
- رواه أبو داود (9/118)
- حديث عقبة الأول هو في صحيح مسلم بدون زيادة إذا لم يسم وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي . وحديث ابن عباس الأول قال الحافظ في بلوغ المرام إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه وقد تقدم الكلام عليه والرواية الأخرى من حديث عقبة التي فيها ولتصم ثلاثة أيام حسنها الترمذي ولكن في إسنادها عبد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة . وحديث كريب عن ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح . وحديث عكرمة عن ابن عباس سكت أيضا عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح
قال الحافظ في التلخيص إسناده صحيح والرواية الأخرى أوردها أبو داود وسكت عنها هو والمنذري
قوله : " لم يسم " فيه دليل على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى
قال النووي اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله على نذر وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى . والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لأن حمل المطلق على المقيد واجب
وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد ولا يلزم فيها الكفارة وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الإنعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الأمر بها في أحاديث الباب في قصة الناذرة بالمشي وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم ومن نذر نذرا لم يطقه هذا خلاصة ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة
وقال ابن رشد في نهاية المجتهد ما حاصله إنه وقع الأتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر وإن كان على جهة الشرط فقال مالك يلزم كالخبر ولا كفارة يمين في ذلك إلا أنه إذا نذر يجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقا وإن كان معينا لزمه وإن كان جميع ماله أو أكثر من الثلث وسيأتي الخلاف فيمن نذر بجميع ماله
قال وإذا كان النذر مطلقا أي غير مسمى ففيه الكفارة عند كثير من العلماء
وقال قوم فيه كفارة الظهار وقال قوم فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين
قوله : " ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين " ظاهره سواء كان المنذور به طاعة أو معصية أو مباحا إذا كان غير مقدور ففيه الكفارة إلا أنه يخص من هذا العموم ما كان معصية بما تقدم ويبقى ما كان طاعة أو مباحا وسواء كان غير مقدور شرعا أو عقلا أو عادة
قوله : " ومن نذر نذرا أطاقه " الخ ظاهره العموم ولكنه يخص منه نذر المعصية بما سلف وكذلك نذر المباح بلزوم الكفارة وأما النذر الذي لم يسم فغير داخل في عموم الطاقة وعدمها لأن أتصاف النذر بأحد الوصفين فرع معرفته وما لم يسم لم يعرف
قوله : " لتمش ولتركب " فيه أن النذر بالمشي ولو إلى مكان المشي إليه طاعة فإنه لا يجب الوفاء به بل يجوز الركوب لأن المشي نفسه غير طاعة إنما الطاعة الوصول إلى ذلك المكان كالبيت العتيق من غير فرق بين المشي والركوب ولهذا سوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركوب للناذرة بالمشي فكان ذلك دالا على عدم لزوم النذر بالمشي وإن دخل تحت الطاقة : قال في الفتح وإنما أمر الناذرة في حديث أنس أن تركب جزم وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب لأن الناذر في حديث أنس كان شيخا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت وبهذا ترجم البيهقي للحديث وأورد في بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس ما ذكره المصنف رحمه الله
وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ " جاء رجل فقال يا رسول الله إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وإنه يشق عليها المشي فقال مرها فتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى الله يشق على أختك " وأحاديث الباب مصرحة بوجوب الكفارة . ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدى
وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة نذرت أن تمشي على الكعبة حافية حاسرة وفيه لتركب ولتلبس ولتصم . وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلى عن عقبة نحوه وأخرج البيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة " بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال ففرت منه الأبل فإذا امرأة عريانة ناقضة شعرها فقالت نذرت أن أحج عريانة ناقضة شعري فقال مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دما " وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه " إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب " وفي سنده إنقطاع
وقد استدل بهذه الأحاديث على صحة النذر بإتيان البيت الحرام لغير حج ولا عمرة . وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجا ولا عمرة لم ينعقد ثم أن نذره راكبا لزمه فلو مشى لزمه دم لتوفر مؤنة الركوب وإن نذر ماشيا لزمه من حيث أحرم إلى أن ينتهي الحج أو العمرة ووافقه صاحباه فإن ركب لعذر أجزأه ولزم دم
وفي أحد القولين عن الشافعي مثله واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة وإن ركب بلا عذر لزمه الدم . وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا أن يعجز مطلقا فيلزمه الهدى . وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقا
قال القرطبي زيادة الأمر بالهدى رواتها ثقات . وعن الهادوية أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم قالوا لأن الرواية وإن جاءت مطلقة فقد قيدت برواية العجز ولا يخفى ما في أكثر هذه التفاصيل من المخالفة لصريح الدليل ويرد قول من قال بأنه لا كفار مع المعجز وتلزم مع عدمه ما وقع في حديث عكرمة عن ابن عباس وفي الرواية التي بعده فإنهما مصرحان بوجوب الهدى مع ذكر ما يدل على العجز من الضعف وعدم الطاقة والرجل المذكور في حديث أنه يهادي بين ابنيه قيل هو أبو اسرائيل المذكور في الباب الأول روى ذلك عن الخطيب حكى ذلك عنه مغلطاي
قال الحافظ وهو تركيب منه وإنما ذكر الخطيب ذلك في رجل آخر مذكور في حديث لابن عباس (9/119)
باب من نذر وهو مشرك ثم أسلم أو نذر ذبحا في موضع معين (9/119)
1 - عن عمر قال " نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرت أن أوفي بنذري "
- رواه ابن ماجه (9/119)
2 - وعن كردم بن سفيان " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نذر نذره في الجاهلية فقال له ألوئن أو لنصب قال لا ولكن لله فقال أوف لله ما جعلت له أنحر على بوانة وأوف بنذرك "
- رواه أحمد (9/120)
3 - وعن ميمونة بنت كردم قالت " كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أني نذرت أن أنحر ببوانة قال " أيها وثن أو طاغية قال لا قال أوف بنذرك "
- رواه أحمد وابن ماجه
وفي لفظ لأحمد " أني نذرت أن أنحر عددا من الغنم وذكر معناه وفيه دلالة على جواز نحو ما يذبح " (9/120)
4 - نعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك "
- رواه أبو داود (9/120)
- حديث عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وهذا اللفظ لعله أحد روايات حديثه الصحيح المتفق عليه بلفظ أنه قال " قلت يا رسول الله أني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك " وزاد البخاري في رواية " فاعتكف " وحديث ميمونة بنت كردم رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وعبد الله بن عبد الرحمن الطائفي قد أخرج له مسلم وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال في التقريب صدوق يخطئ وقد أخرجه ابن ماجه من طريق أخرى من حديث ابن عباس وبقية أحاديث الباب قد تقدم تخريج بعضها في باب ما جاء في نذر المباح عند ذكر المصنف رحمه الله لحديث ثابت بن الضحاك الذي بمعناها هنالك
وفي حديث عمر دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي . وعند الجمهور لا ينعقد النذر من الكافر وحديث عمر حجة عليهم وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا عرف أن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الأعتكاف طاعة ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفى الصواب . وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالوفاء استحبابا لا وجوبا ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن أدعى عدم الأنعقاد
وقد تقدم الكلام على حديث عمر في باب الأعتكاف
قوله : " كردم " بفتح الكاف والدال وفيه دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر في المكان المعين إذا لم يكن في التعيين معصية ولا مفسدة من اعتقاد تعظيم جاهلية أو نحوه وبوانة قد تقدم ضبطه وتفسيره
قوله : " قال لصنم قالت لا قال لوثن " قال في النهاية الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ماله جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد والصنم الصورة بلا جثة ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين وقد يطلق الوثن على غير الصورة ومنه حديث عدي بن حاتم " قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك " انتهى (9/121)
باب ما يذكر فيمن نذر الصدقة بماله كله (9/121)
1 - عن كعب بن مالك أنه قال " يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال قلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر "
- متفق عليه (9/121)
2 - وفي لفظ قال " قلت يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال لا قلت فنصفه قل لا قلت فثلثه قال نعم قلت فإني سأمسك سهمي من خيبر "
- رواه أبو داود (9/122)
3 - وعن الحسين بن السائب ابن أبي لبابة " أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز و جل ولرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجزي عنك الثلث "
- رواه أحمد (9/122)
- رواية أبي داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيها مقال . معروف . وحديث أبي لبابة أورده الحافظ في الفتح وعزاه إلى أحمد وأبي داود من طريق أبي عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث وفيه وأن أنخلع من مالي كله صدقة قال يجزي عنك الثلث
قوله : " أن أنخلع " بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب : الأول أن يلزمه الثلث فقط لهذا الحديث قاله مالك ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه بل يحتمل أنه نجز النذر ويحتمل أن يكون أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه قال ابن المنير لم يبتت كعب الإنخلاع بل استشار هل يفعل أم لا
قال الحافظ ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام . ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء ممن التزم أن يتصدق بجميع ماله إذا كان على سبيل القربة وقيل إن كان مليا لزمه وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله . والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة . وعن الشعبي وابن أبي ليلى لا يلزمه شيء أصلا . وعن قتادة يلزم الغني العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس
وقيل يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارة اليمين . وعن سحنون يلزمه أن يخرج مالا يضر به . وعن الثوري والأوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بدون تفصيل . وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل وإذا تقرر ذلك فقد دل حديث كعب أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله أن يمسك بعضه ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ وقيل أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل لاصدقة إلا عن ظهر غنى وفي لفظ أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى (9/122)
باب ما يجزي من عليه عتق رقبة مؤمنة بنذر أو غيره (9/123)
1 - عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار " أنه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت نعم قال أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت نعم قال فأعتقها " (9/123)
2 - وعن أبي هريرة " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين الله فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها من أنا فأشارت بإصبعها إلى رسول الله وغلى السماء أي أنت رسول الله فقال أعتقها "
- رواهما أحمد (9/123)
- حديث عبيد الله بن عبد الله رواه أحمد بن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار وهذا إسناد رجاله أئمة وجهالة الصحابى مغتفرة كما تقرر في الأصول . وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو داود من حديث عون بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء " الحديث
وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عون بن عبد الله بن عتبة حدثني أبي عن جدي فذكره وفي اللفظ مخالفة كثيرة وسياق أبي داود أقرب إلى السياق الذي في الباب
وروى نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث الشريد بن سويد وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال والحكم عن سعيد بن عباس بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب . ومن ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي المشهور
قوله : " إن كنت ترى هذه مؤمنة فأعتقها " إلى آخر ما في الحديثين استدل بالحديثين على أنه لا يجزي في كفارة اليمين إلا رقبة مؤمنة وإن كانت الآية الواردة في كفارة اليمين لم تدل على ذلك لأنه قال تعالى { أو تحرير رقبة } بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان
قال ابن بطال حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى { وأشهدوا إن تبايعتم } على المقيد في قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وخالف الكوفيون فقالوا يجوز إعتاق الكافر ووافقهم أبو ثور وابن المنذر واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين ومما يؤيد القول الأول أن المعتق للرقبة المؤمنة بالأحوط بخلاف المكفر بغير المؤمنة فإنه في شك من براءة الذمة (9/124)
باب أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزاه أن يصلي مسجد مكة والمدينة (9/124)
1 - عن جابر " أن رجلا قال يوم الفتح يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس فقال صل ههنا فسأله فقال شأنك إذن "
- رواه أحمد وأبو داود ولهما عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخبر وزاد فقال " النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا لقضي عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس " (9/124)
2 - وعن ابن عباس " أن امرأة شكت شكوى فقالت إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في بيت لمقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها فأخبرتها بذلك فقالت إجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة "
- رواه أحمد ومسلم (9/125)
3 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة في مسجدي خير من الف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام "
- رواه الجماعة إلا أبا داود . ولإحمد وأبي داود من حديث جابر مثله وزاد " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه " وكذلك لأحمد من حديث من حديث عبد الله بن الزبير مثل حديث أبي هريرة وزاد " وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا " (9/125)
4 - وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى "
- متفق عليه . ولمسلم في رواية " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد " (9/125)
- حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه . وصححه أيضا ابن دقيق العيد في الاقتراح . وحديث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سكت عنه أبو داود والمنذري وله طرق رجال بعضها ثقات وقد تقرر أن جهالة الصحابي لا تضر
وقيل أنه روى الحديث عن عبد الرحمن بن عوف وعن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وحديث جابر الآخر رواه أحمد من حديث أحمد بن عبد الملك حدثنا عبد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه " صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه " قال الحافظ وإسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء . وحديث عبد الله بن الزبير أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي ولفظه " صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي " وفي الباب عن جابر أيضا عند ابن عدي بلفظ " الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة " وإسناده ضعيف لأنه من حديث يحيى بن أبي حية عن عثمان بن الأسود عن مجاهد عن جابر وفي الباب أيضا من حديث أبي الدرداء مرفوعا عند الطبراني في الكبير " الصلاة في المسجد الحرام بمائة الف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة " وعن أبي ذر عند الدار قطني في العلل والحاكم في المستدرك " صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس " وعند ابن ماجه من حديث ميمونة ينت سعد بأن الصلاة في بيت المقدس كألف صلاة في غيره
وروى ابن ماجه من حديث أنس فصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وإسناده ضعيف وروى ابن عبد البر في التمهيد من حديث الأرقم صلاة هذا خير خير من الف صلاة ثمة يعني بيت المقدس
قال ابن عبد البر هذا حديث ثابت وحديث أبي هريرة الآخر أيضا هو متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وغير قوله " صل ههنا " فيه دليل على أن من نذر بصلاة أو صدقة أو نحوهما في مكان ليس بأفضل من مكان الناذر فإنه لا يجب عيه الوفاء بإيقاع المنذور به في ذلك المكان بل يكون الوفاؤ بالفعل في مكان الناذر وقد تقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناذر أن ينحر ببوانة يفي بنذره بعد أن سأله هل كانت كذا هل كانت كذا فدل ذلك على أن يتعين مكان النذر إذا كان مساويا للمكان الذي فيه الناذر أو أفضل منه لا إذا كان المكان الذي فيه الناذر فوقه في الفضيلة ويشعر بهذا ما في حديث ميمونة من تعليل ما افتت به ببيان أفضلية المكان الذي فيه الناذرة في الشيء المنذور به وهو الصلاة
قوله : " إلا المسجد الحرام هذا " فيه دليل على أفضلية الصلاة في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه استثناه فاقتضى ذلك أنه ليس بمفضول بالنسبة إلى مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن أن يكون مساويا أو أفضل وسائر الأحاديث دلت على أنه أفضل باعتبار الصلاة فيه بذلك المقدار
قوله : " لا تشد الرحال " الخ دليل على أنه يتعين مكان النذر إذا كان أحد الثلاثة المذكورة وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة لا يلزم وله أن يصلي في أي محل شاء وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان بحج أو عمرة وما عدا إلا مكنة الثلاثة فلا يتعين مكان للنذر ولا يجب الوفاء عند الجمهور
وقد تمسك بهذا الحديث من منع السفر وشد الرحل إلى غيرها من غير فرق بين جميع البقاع
وقد وقع لحفيد المصنف في ذلك وقائع بينه وبين أهل عصره لا يتسع المقام لبسطها (9/126)
باب قضاء كل المنذورات عن الميت (9/126)
1 - عن ابن عباس " أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقضه عنها "
- رواه أبو داود والنسائي وهو على شرط الصحيح قال البخاري وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال صلى عنها قال وقال ابن عباس نحوه (9/126)
- حديث ابن عباس قي قصة سعد بن عبادة أصله في الصحيحين . وقول ابن عباس الذي أشار البخاري بأنه نحو ما قاله ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح " أن امرأة جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها " وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد
وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن ابن أبي رباح عن ابن عباس قال لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب قال الحافظ ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي قال ثم وجدت عن ابن عباس ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال يصام عنه النذر
وقال ابن المنبر يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله صلي عنها العمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره فمعنى أن صل عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك كذا قال ولا يخفى تكلفه . وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد وإلى ذلك ذهب ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك وفيه تعقب عن ابن بطال حديث نقل الإجماع أنه لا يصل أحد عن أحد فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت . ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه . ولما نهى عن الاستغفار لعمه ولبطل معنى قوله " ولا تكسب كل نفس إلا ما عليها " قال الحافظ وجميع ما قاله لا يخفي وجه تعقبه خصوصا ما ذكره في حق الشارع صلى الله عليه وآله وسلم
وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقا وقد ذهب ابن حزم ومن وافقه إلى أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم الحديث وأجيب بأنه لم يكن فيه أن الرجل سعد
وقال ابن عبد البر كان عتقا واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها قال نعم وقيل كان صدقة لما رواه في الموطأ وغيره أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لأمه أوصي قالت المال مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم فقال يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها قال نعم وليس في هذا والذي قبله نذرت
قال عياض والذي يظهر أنه كان نذرها في مال أو مبهما . وظاهر حديث الباب أنه كان معينا عند سعد ( وفي الحديث ) قضاء الحقوق الواجبة عن الميت وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي فإنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا أن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا (9/127)
كتاب الأقضية والأحكام (9/127)
باب وجوب نصبه ولاية القضاء والإمارة وغيرهما (9/127)
1 - عن عبد الله بن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم "
- رواه أحمد (9/128)
2 - وعن أبي سعيد " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم "
- رواه أبو داود . وله م حديث أبي هريرة مثله (9/128)
- حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد قد أخرج نحوهما البزار بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب بلفظ إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم ذاك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأخرج البزار أيضا بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ " إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح وهذه الأحاديث يشهد بعضها لبعض وقد سكت أبو داود والمنذري عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة وكلاهما رجالهما رجال الصحيح الأعلى بن بحر وهو ثقة . ولفظ حديث أبي هريرة " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف فمع عدد التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى وفي ذلك دليل لقول من قال أنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام وقد ذهب الأكثر إلى أن الإمامة واجبة لكنهم اختلفوا هل الوجوب عقلا أو شرعا فعند العترة وأكثرر المعتزلة والأشعرية تجب شرعا . وعند الإمامية تجب عقلا فقط وعند الجاحظ والبلخي والحسن البصري تجب عقلا وشرعا . وعند ضرار والأصم وهشام الفوطي والنجدات لا تجب (9/128)
باب كراهية الحرص على الولاية وطلبها (9/129)
1 - عن أبي موسى قال " دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما يا رسول الله أمرنا علي بعض ما ولاك الله عز و جل وقال الآخر مثل ذلك فقال أنا والله لان ولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه " (9/129)
2 - وعن عبد الرحمن بن سمرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها "
- متفق عليهما (9/129)
3 - وعن أنس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده "
- رواه الخمسة إلا النسائي (9/130)
4 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة "
- رواه أحمد والبخاري والنسائي (9/130)
5 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار "
- رواه أبو داود وقد حمل على ما إذا لم يوجد غيره (9/130)
- حديث أنس أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط من رواية عبد الأعلى التغلبي عن بلال بن أبي بردة الأشعري عن أنس مرفوعا بلفظ " من طلب وأستعان عليه وكل إلى نفسه ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " قال لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد تفرد به عبد الأعلى وأخرجه البزار من طريق عبد الأعلى عن بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس قال ولا يعلم عن أنس إلا من هذا الوجه
وأخرجه الترمذي من طريقتين جميعا وقال حسن غريب وقال في الرواية الثانية أصح وأخرجه الحاكم من طريق اسرائيل عن عبد الأعلى عن بلال عن خيثمة وصححه وتعقب أن خيثمة لينه يحيى بن معين وعبد الأعلى ضعفه الجمهور
وأخرج الحديث ابن المنذر بلفظ " من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله ملكا يسدده " وحديث أبي هريرة الثاين سكت عنه أبو داود والمنذري وسنده لا مطعن فيه فإن أبا داود قال حدثنا عباس العنبري يعني ابن عبد العظيم أبا الفضل شيخ الشيخين حدثنا عمر بن يونس يعني اليمامي حدثنا ملازم بن عمرو يعني ابن عبد الله بن بدر اليمامي وثقه أحمد وابن معين والنسائي حدثني محمد بن نجدة يعني اليمامي عن جده يزيد بن عبد الرحمن يعني الذي يقال له أبو كثير السحيمي عن أبي هريرة فذكره
قوله : " أو أحدا حرص عليه " بفتح المهملة والراء
قال العلماء والحكمة في أنه لا يولى من يسأله الولاية أنه يوكل إليها ولا يكون معه اعانة كما في الحديث الذي بعده وإذا لم يكن معه اعانة لا يكون كفؤا ولا يولى غير الكفء لأن فيه تهمة
قوله : " لا تسأل الإمارة " هكذا في أكثر طرق الحديث ووقع في رواية بلفظ " لا تتمنين الإمارة " بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة
قال ابن حجر النهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب
قوله : " عن غير مسألة " أي سؤال
قوله : " وكلت إليها " بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام ومعنى المخفف أي صرفت إليها وكل الأمر إلى فلان صرفه إليه ووكله بالتشديد استحفظه . ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت اعانته عليه من أجل حرصه ويستفاد من هذا أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك وإن من حرص على ذلك لا يعان ويعارض ذلك في الظاهر حديث أبي هريرة المذكور في آخر الباب
قال الحافظ ويجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولى أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية وبالجملة فإذا كان الطالب مسلوب الإعانة تورط فيما دخل فيه وخسر الدنيا والآخرة فلا تحل تولية من كان كذلك ربما كان الطالب للإمارة مريدا بها الظهور على الأعداء والتنكيل بهم فيكون في توليته مفسدة عظيمة
قال ابن التين محمول على الغالب والافقد قال يوسف عليه السلام " اجعلني على خزائن الأرض " وقال سليمان " وهب لي ملكا " قال ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء عليهم السلام انتهى . قلت ذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العصمة من الذنوب وأيضا لا يعارض الثابت في شرعنا ما كان في شرع غيرنا فيمكن أن يكون الطالب في شرع يوسف عليه السلام سائغا وأما سؤال سليمان فخارج عن محل النزاع إذ محله سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق وسليمان عليه السلام إنما سأل الخالق
قوله : " إنكم ستحرصون " بكسر الراء ويجوز فتحها ويدخل في لفظ الإمارة الإمارة العظمى وهي الخلافة والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد وهذا إخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بالشيء قبل وقوعه كما أخبر
قوله : " وستكون ندامة يوم القيامة " أي لمن يعمل فيها بما ينبغي ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ " أو لها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل " وفي الأوسط للطبراني من رواية شريك عن عبد الله بن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك لا أدري رفعه أم لا قال الإمارة أو لها ندامة وأوسطها غرامة وآخرها عذاب يوم القيامة . وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ " أو لها ملامة وثانهيا ندامة " أخرجه الطبراني
وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها وتكون عليه حسرة يوم القيامة
قال الحافظ وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله ويقيد أيضا ما أخرجه مسلم عن أبي ذر قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال إنك ضعيف وإنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها قال النووي هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف وهو من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزى بالخذي يوم القيامة وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار ولكن الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها انتهى . وسيأتي حديث أبي ذر هذا
قوله : " فنعم المرضعة وبئست الفاطمة "
قال الداودي نعمت المرضع أي الدنيا وبئست الفاطمة أي بعد الموب لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه
وقال غيره نعمت المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها وبئست الفاطمة عند الأنفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة
قوله : " ثم غلب عدله جوره " أي كان عدله في حكمة أكثرمن ظلمة كما يقال غلب على فلان الكرم أي هو أكثر خصاله وظاهره أنه ليس من شرط الأجر الذي هو الجنة أن لا يحصل من القاضي جور أصلا بل المراد أن يكون جوره مغلوبا بعده فلا يضر صدور الجور المغلوب بالعدل إنما الذي يضر ويودب النار أن يكون الجور غالبا للعدل قيل هذا الحديث محمول على ما إذا لم يوجد غيره هذا القاضي الذي طلب القضاء جمعا بينه وبين أحاديث الباب
وقد تقدم طرف من الجمع وبقي الكلام في استحقاق الأمير للإعانة هل يكون بمجرد إعطئه لها من غير مسألة كما يدل عليه حديث عبد الرحمن بن سمرة المذكور في الباب أم لا يستحقها إلا بالأكراه والأجبار كما يدل عليه حديث أنس المذكور أيضا فقال ابن رسلان أن المطلق مقيد بما إذا أكره على الولاية وأجبر على قبولها فلا ينزل الله إليه الملك يسدده إلا إذا أكره على ذلك جبرا ولا يحصل هذا لمن عرضت عليه الولاية فقبلها من دون أكراه كما في لفظ الترمذي من رواية بلال بن مرداس ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده
وقال حسن غريب ولا يخفى ما في حديث أنس من المقال الذي قدمناه مع اضطراب ألفاظه التي أشرنا إلى بعضها وأكثر ألفاظه بدون ذكر الأجبار والأكراه في سنن أبي داود وغيرها على أنه على فرض صحته وصلاحيته لا معارضة بينه وبين حديث عبد الرحمن بن سمرة لأن حديث عبد الرحمن فيه أن من أعطي الإمارة من غير مسألة أعين عليها وليس فيها نزول الملك للتسديد . وحديث أنس فيه أن من أجبر نزل عليه ملك يسدده فغايته أن الإعانة تحصل بمجرد إعطاء الإمارة من غير مسألة بخلاف نزول الملك فلا يحصل إلا بالأجبار فلا معارضة ولا إطلاق ولا تقييد إلا في حديث أنس نفسه فيمكن أن يحمل المطلق من ألفاظه عن الأجبار والأكراه بالمقيد بهما إذا انتهض لذلك لا يقال أن إنزال الملك للتسديد نوع من الإعانة فثبت المعارضة لأنا نقول بعض أنواع الإعانة لا يعارض البعض الآخر (9/131)
باب التشديد في الولايات وما يخشى على من لم يقم بحقها دون القائم به (9/131)
1 - عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين "
- رواه الخمسة إلا النسائي (9/131)
2 - وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز و جل فإن قال ألقه ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفا "
- رواه أحمد وابن ماجه بمعناه (9/132)
3 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت متعلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء " (9/132)
4 - وعن عائشة قالت " سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لتأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط " (9/132)
5 - وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز و جل يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره أواو بقه أثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة " (9/133)
6 - وعن عبادة بن الصامت " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من أمير عشرة إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوبقه ومن تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجزم "
- رواهن أحمد (9/133)
7 - وعن عبد الله بن أبي أوفى قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه "
- رواه ابن ماجه
وفي لفظ " الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان "
- رواه الترمذي (9/133)
8 - وعن عبد الله بن عمر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدولون في حكمهم وأهليهم وما ولوا "
- رواه أحمد ومسلم والنسائي (9/134)
- حديث أبي هريرة الأول أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وله طرق وقد أعله ابن الجوزي فقال هذا حديث لا يصح
قال الحافظ ابن حجر وليس كما قال وكفاه قوة تخريج النسائي له
وقد ذكر الدارقطني الخلاف فيه على سعيد المقبري قال والمحفوظ عن سيد المقبري عن أبي هريرة قال المنذري وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي
قال النسائي ليس بذاك القوي قال وإنما ذكرناه لئلا يخرج من الوسط ويجعل عن ابن أبي ذئب عن سعيد انتهى . فلا تتم التقوية بإخراج النسائي للحديث كما زعم الحافظ . وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا البيهقي في شعب الإيمان والبزار وفي إسناده مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه جماعة وحديث أبي هريرة الثاني حسنه السيوطي . وحديث عائشة أيضا أخرجه العقيلي وابن حبان والبيهقي
قال البيهقي عمران بن الحطان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه ولا يتبين سماعه منها . ووقع في رواية الإمام أحمد من طريقه قال دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي فذكره فقال في مجمع الزوائد وإسناده حسن . وحديث أبي أمامة حسنه السيوطي وفي معناه أحاديث منها حديث عبادة المذكو بعده . ومنها حديث أبي هريرة عند البيهقي في السنن بلفظ " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفكه العدل أو يوبقه الجوز " ومنها حديث ابن عباس " ما من أمير يؤمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة " أخرجه الطبراني في الكبير وأخرج البيهقي حديث آخر عن أبي هريرة بمعنى حديثه هذا . وحديث عبادة أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبيهقي في السعب من حديث سعد بن عبادة . وحديث عبد الله بن أبي أو في أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وابن حبان وحسنه الترمذي
قوله : " قد ذبح بغير سكين " بضم الذال المعجمة مبني للمجهول قال ابن الصلاح المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد وبين عذاب الآخرة إن فسد
وقال الخطابي ومن تبعه إنما عدل عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين والثاني أن الذبح بالسكين فيه راحة للمذبوح وبغير السكين كالخنق أو غيره يكون الألم فيه أكثر فذكر ليكون أبلغ في التحذير
قال الحافظ في التلخيص ومن الناس من فتن بحب القضاء فأخرجه عما يتبادر إليه الفهم من سياقه فقال إنما قال ذبح بغير سكين إشارة إلى الرفق به ولو ذبح بالسكين لكان أشق عليه ولا يخفى فساده انتهى . وحكى ابن رسلان في شرح السنن عن أبي العباس أحمد بن القاص أنه قال ليس في هذا الحديث عندي كراهية القضاء وذمه إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس وترك الهوى والله تعالى يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يا أبا هريرة عليك بطريق قوم إذا فزع الناس أمنوا قلت من هم يا رسول الله قال هم قوم تركوا الدنيا فلم يكن في قلوبهم ما يشغلهم عن الله قد أجهدوا أبدانهم وذبحوا أنفسهم في طلب رضا الله فناهيك به فضيلة وزلفى لمن قضى بالحق في عباده إذ جعله ذبيح الحق امتحانا لتعظظ له الثوبة امتنانا وقد ذكر الله قصة إبراهيم خليله عليه السلامز وقوله " يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك " فإذا جعل الله إبراهيم في تسليمه لذبح ولده مصدقا فقد جعل ابنه لاستسلامه للذبح ذبيحا ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم " أنا ابن الذبيحين " يعني إسماعيل وعبد الله فكذلك القاضي عندنا لما استسلم لحكم الله واصطبر على مخالفة الأباعد والقارب في خصوماتهم لم تأخذه في الله لومة لائم حتى قاده إلى مر الحق جعله ذبيحا للحق وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله وقد ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا ومعاذا ومعقل بن يسار فنعم الذابح ونعم المذبوح
وفي كتاب الله الدليل على الترغيب فيه بقول { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } إلى آخر الآيات انتهى . وحديث أبي هريرة الذي ذكره لا أدري من أخرجه فيبحث عنه وعلى كل حال فحديث الباب وارد في ترهيب القضاة لا في ترغيبهم وهذا هو الذي فهمه السلف والخلف من جعله من الترغيب فقد ابعد وقد استروح كثير من القضاة إلى ما ذكره أبو العباس وأنا وإن كنت حال تحرير هذه الأحرف منهم ولكن الله يحب الإنصاف وقد ورد في الترغيب في القضاة ما يغني عن مثل ذلك التكلف فأخرج الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران " ورواه الحاكم والدار قطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور " وفي إسناده فرج بن فضاله وهو ضعيف وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه ورواه أحمد من طريق عمرو بن العاص بلفظ " إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة " وإسناده ضعيف أيضا
وأخرج أحمد في مسنده وابو نعيم في الحلية عن عائشة " أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال السابقون إلى ظل الله يوم القيامة الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه وغذا حكموا بين الناس حكموا كحكمهم لأنفسهم " وهو من رواية ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عنها قال أبو نعيم تفرد به ابن لهيعة عن خالد
قال الحافظ وتابعه يحيى ابن أيوب عن عبد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم وهو ابن عبد الرحمن عن عائشة ورواه أبو العباس ابن القاص في كتاب آداب القضاء له . ومن الأحاديث الواردة في الترغيب حديث عبد الله بن عمر المذكور في الباب . ومنها حديث ابن عباس " إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسدد أنه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار عرجا وتركاه " أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن زيد الأشعري عن ابن جريح عن عطاء عنه وإسناده ضعيف قال صالح جزرة هذا الحديث ليس له أصل وروى الطبراني معناه من حديث وائلة بن الأسقع
وفي البزار من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا " من ولي من أمور المسلمين شيئا وكل الله به ملكا عن يمينه وأحسبه قال وملكا عن شماله يوفقانه ويسدد أنه إذا أريد به خير ومن ولى من أمور المسلمين شيئا فأريد به غير ذلك وكل إلى نفسه " قال ولا نعلمه يروي بهن اللفظ إلا من حديث عراك وإبراهيم ليس بالقوب . ومن أحاديث الترغيب حديث عبد الله بن أبي أو في المذكور في الباب . ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل الذي لم يسال القضاء ولا استعان به على بالشفعاء وكان لديه من العلم لكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل بعد إحراز مقدار من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد في إبراده وإصداره
وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه لأن كل عاقل يعلم أن من تسلق للقشاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلا بسيطا أو جهلا مركبا أو من كان قاصرا عن رتبة الاجتهاد فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين لأن الله لم يوجب على من لم يتمكمن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين فإياك والاغترار بأقوال قوم يقولون بالسنتهم ما ليس في قلوبهم فإذا
لبسوا لك أثواب الرياء والتصنع وأطهروا شعار التغرير والتدليس والتلبيس وقالوا مالهم بغير الحق حاجة ولا أرادوا إلا تحصيل الثواب الأخروي فقيل لهم دعوا الكذب على أنفسكم يا قضاة النار بنص المختار فلو كنتم تخشون الله وتتقونه حق تقاته لما أقدمتم على المخاطرة بادئ بدء بدون إيجاب من الله ولا إكراه من سلطان ولا حاجة من المسلمين وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى جميع الأقطار اليمنية
قوله " فهوى أربعين خريفا " قال في النهاية هو الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة فإذا انقضى أربعون خريفا انقضت أريعون سنة
قوله : " ويل للعرفاء " بضم العين المهملة وفتح الراء والفاء جمع عريف
قال في النهاية وهو القيم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم فعيل بمعنى فاعل والعرافة عمله . وسبب الوعيد لهذه الطوائف الثلاث وهم الأمراء والعرفاء والأمناء أنهم يقبلون ويطاعون فيما يأتون به فإذا جاروا الرعايا جاروا وهم قادرون فيكون ذلك سببا لتشديد العقوبة عليهم لأن حق شكر النعمة التي امتازوا بها على غيرهم أن يعدلوا ويستعملوا الشفقة والرأفة
قوله : " أو أوبقه أئمة " بالباء الموحدة والقاف قال في النهاية يقال وبق يبق ووبق يوبقإذا هلك وأوبقه غير فهو موبق
قوله : " كلتا يديه يمين " قال في النهاية أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن الشمال تنقص عن يمين . وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجواره إلى الله فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة والله منزه عن التشبيه والتجسيم (9/134)
باب المنع من ولاية المرأة والصبي ومن لا يحسن القضاء أو يضعف عن القيام بحقه (9/134)
1 - عن أبي بكرة قال " لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسري قال لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
- رواه أحمد والبخارى والنسائي والترمذي وصححه (9/135)
2 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان "
- رواه أحمد (9/135)
3 - وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " القضاء ثلاثة واحدة في الجنة وإثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضي به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار "
- رواه ابن ماجه وأبو داود وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلا (9/135)
4 - وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه "
- رواه أحمد وابن ماجه وفي لفظ " من أفتى بفتيا بغير علم كان أثم ذلك على الذي أفتاه " . رواه أحمد وابو داود (9/136)
5 - وعن أبي ذر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " (9/136)
6 - وعن أبي ذر قال " قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها "
- رواهما أحمد ومسلم (9/136)
7 - وعن أم الحصين الأحمسية " أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله عز و جل "
- رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود (9/137)
8 - وعن أنس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة "
- رواه أحمد والبخاري . وهذا عند أهل العلم محمول على غير ولاية الحكم أو على من كان عبدا (9/137)
- حديث أبي هريرة الأول قد أخرج ما شهد له أحمد من حديث قيس الغفاري مرفوعا وفيه التحذير من إمارة السفهاء ورجاله رجال الصحيح ومثله أخرجه الطبراني عن عوف بن مالك مرفوعا وفي إسناده النهاس بن قهم وهو ضعيف . وحديث بريدة أخرجه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم وصححه
قال الحاكم في علوم الحديث تفر به الخراسانيون ورواته مراوزة قال الحافظ له طرق غير هذه جمعتها في جزء مفرد . وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده أئمة أكثرهم من رجال الصحيح وزاد أبو داود ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خان وحديث أنس لفظ البخاري " أطيعوا السلطان وإن عبدا حبشيا كالزبيبة "
قوله " لن يفلح قوم " الخ فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات ولا يحل لقوم توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب
قال في الفتح ةقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلا عن الحنفية واستثنوا الحدود . وأطلق ابن جرير ويؤيد ما قاله الجمهور إن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولا سيما في محافل الرجال . واستدل المصنف أيضا على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل ورجل فدل بمفهومه على خروج المرأة
قوله : " وإمارة الصبيان " فيه دليل على أنه لا يصح أن يكون الصبي قاضيا
قال في البحر جماعا وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتعوذ من رأس السبعين لعله لما ظهر فيها من الفتن العظيمة منها قتل الحسين رضي الله عنه ووقعة الحرة وغير ذلك مما وقع في عشر السبعين
قوله : " القضاة ثلاثة " الخ في هذا الحديث أعظم وازع للجهلة عن الدخول في هذا المنصب الذي ينتهي بالجاهل والجائر إلى النار وبالجملة فما صنع أحد بنفسه ما صنعه من ضاقت عليه المعايش فزج بنفسه في القضاء لينال من الحطام وأموال الأرامل والأيتام ما يحول بينه وبين دار الإسلام مع جهله بالأحكام أو جوره على من قعد بين يديه للخصام من أهل الإسلام قوله من أفتى بضم الهمزة وكسر المثناة مبني لما لم يسم فاعله فيكون المعنى من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة والاستدلال كان أثمة على من أفتاه بغير الصواب لا على المستفتي المقلد
وقد روى بفتح الهمزة والمثناة فيكون المعنى من أفتى الناس بغير علم كان أثمة على الذي سوغ له ذلك وأفتاه بجواز الفتيا من مثله مع جهله وأذن له في الفتوى ورخص له فيها
قوله : " أراك ضعيفا " فيه دليل على أن من كان ضعيفا لا يصلح لتولى القضاء بين المسلمين قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب أدب القضاء له لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه وأن يكون عارف بكتاب الله عالما بأكثر أحكامه عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حافظا لأكثرها وكذا أقوال الصحابة عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من السقيم يتتبع النوازل من الكتاب فإن لم يجد ففي السنة فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة الصحابة فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع ويكون حاقظا للسانه ونطقه وفرجه فهما لكلام الخصوم ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى ثم قال وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم
وقال المهلب لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك بل أن يراه الناس أهلا له
وقال ابن حبيب عن مالك لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا قال ابن حبيب فإن لم يكن علم فعقل وورع لأنه بالورع يقف وبالعقل يسأل وهو إذا طلب العلم وجده فإذا طلب العقل لم يجده انتهى . قلت يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كل خصومة ترد عليه وملازمة سؤال أهل العلم عنها والأخذ بأقوالهم مع عدم المعرفة لحقها من باطلها وما بهذا أمر الله عباده فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق وبالعدل وبالقسط وبما أنزل ومن أين لمثل هذا العاقل العاطي عن حيلة الدلائل أن يعرف حقية هذه الأمور بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته من كتاب أو سنة حتى يحكم بمدلولها ثم قد عرف اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور والإنصاف والاعتساف والتثبت والاستعجال والطيش والوقار والتعويل على الدليل والقنوع بالتقليد فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من السافل حتى يأخذ عنه أحكامه وينيط به حله وأبرامه فهذا شيء لا يعرف بالعقل بأتفاق العقلاء فما حال هذا القاضي الاكحال من قال فيه من قال :
كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر
قوله " لا تأمرن على اثنين " الخ في هذا النهي بعد إمحاض النصح بقوله صلى الله عليه وآله وسلم إني أحب لك ما أحب لنفسي أرشاد للعباد إلى ترك تحمل أعباء الإمارة مع الضعف عن القيام بحقها من أي جهة من الجهات التي يصدق على صاحبها أنه ضعيف فيها وقد قدمنا كلام النووي على هذا الحديث في باب كراهية الحرص الإمارة
قوله : " وإن أمر عليكم عبد حبشي " بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة
قوله : " كأن رأسه زبيبة " هي واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف وإنما شبه رأس العبد بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود وهو التمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتذار بها
وقد حكى الحافظ في الفتح عن ابن بطال عن المهلب أنها لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان المستعمل له إماما قرشيا لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش قال وأجمعت الأمة على أنها لا تكون في العبيد . وحكى في البحر عن العترة أنه يصح أن يكون العبد قاضيا وعن الشافعية والحنفية أن لا يصح أن يكون العبد قاضيا (9/137)
باب تعليق الولاية بالشرط (9/138)
1 - عن ابن عمر قال " أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة موتة زيد بن حارثة وقال إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة "
- رواه البخاري . ولأحمد من حديث أبي قتادة وعبد الله بن جعفر نحوه (9/138)
- حديث ابن عمر هو طرف من حديث طويل في ذكر غزوة موتة وكذلك حديث أبي قتادة وعبد الله بن جعفر هما في وصف الغزوة المذكورة وقد اشتمل على جميع ذلك كتب الحديث والسير فلا نطول بذكره
وقد استدل المصنف رحمه الله بالحديث على جواز تعليق الولايات بالشرط المستقبل كما في ولاية جعفر فإنها مشروطة بقتل زيد وكذلك ولاية عبد الله ين رواحة فإنها مشروطة بقتل جعفر ولا أعرف الآن دليلا يدل على المنع من تعليق الولاية بالشرط فلعل خلاف من خالف في ذلك مستند إلى قاعدة فقهية كما يقع ذلك في كثير من المسائل (9/138)
باب نهي الحاكم عن الرشوة واتخاذ حاجب لبابه في مجلس حكمه (9/139)
1 - عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم "
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي (9/139)
2 - وعن عبد الله بن عمرو قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعنة الله على الراشي والمرتشي "
- رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي (9/139)
3 - وعن ثوبان قال " لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش " يعني الذي يمشي بينهما
- رواه أحمد (9/140)
4 - وعن عمرو بن مرة قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا غلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته "
- رواه أحمد والترمذي (9/140)
- حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي قد عزاه الحافظ في بلوغ المرام إلى أحمد والأربعة وهو وهم فإنه ليس في سنن أبي داود غير حديث ابن عمرو المذكور ووهم أيضا بعض الشراح فقال إن أبا داود زاد في روايته لحديث ابن عمرو لفظ في الحكم وليست تلك الزيادة عند أبي داود بل لفظه لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي
قال ابن رسلان في شرح السنن وزاد الترمذي والطبراني بإسناد جيد بالحكم . وحديث ابن عمرو أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والدار قطني قال الترمذي وقواه الدارمي اه . وإسناده لا مطعن فيه فإن أبا داود قال حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي حدثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن يعني الققرشي العامري خال ابن أبي ذئب ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي سلمة يعني ابن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وحديث ثوبان أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال البزار أنه تفرد به
وقال في مجمع الزوائد أنه أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول اه وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي قال في التلخيص ينظر من خرجهما . وحديث عمرو بن مرة أخرجه أيضا الحاكم والبزار وفي الباب عن أبي مريم الأزدي مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ " من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته " قال الحافظ في الفتح أن سنده جيد . وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير بلفظ " أيما أمير أجتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة " قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر
قوله : " على الراشي " هو دافع الرشوة والمرتشي القابض لها والرائش هو ما ذكره في الرواية التي في الباب قال ابن رسلان ويدخل في إطلاق الرشوة والرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات وهي حرام بالإجماع اه
قال الإمام المهدي في البحر في كتاب الإجارات منه مسألة وتحرم رشوة الحاكم إجماعا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لعن الله الراشي والمرتشي " قال الإمام يحيى ويفسق للوعيد . والراشي أن طلب باطلا عنه الخبر قال المنصور بالله وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي وإن طلب بذلك حقا مجمعا عليه جاز
قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر وإن كان مختلفا فيه فكالباطل إذ لا تأثير لحكمه اه قلت والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص فالحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث ومن زعم الجواز في صورة من لصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه فإن الأصل في مال المسلم التحريم ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقد انضم إلى هذا الأصل كون الدافع إنما دفعه لأحد أمرين إما لينال به حكم الله إن كان محقا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله عز و جل على الحاكم الصدع به فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع إلى البغي فالتوصل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به وهو أيضا ذنب بين العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله وبين الأمرين بون بعيد . ومن الأدلة الدالة على تحريم الرشوة ما حكاه ابن رسلان في شرح السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله تعالى { أكالون للسحت } بالرشوة
وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال لا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل
وقال أبو وائل شقيق بن مسلمة أحد أئمة التابعين القاضي إذا أخذ الهدية بلغت به الكفر . ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح اه . ما حكاه ابن رسلان . ويدل على المنع من القبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " وفي إسناده القاسم بن عبد لرحمن أبو عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال . ويدل على تحريم قبول مطلق الهدية على الحاكم وغيره من الأمرء حديث هدايا الأمراء غلول أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد
قال الحافظ وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل ابن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال الحافظ وإسناده أشد ضعفا
وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سلمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص التشابه من حديث أنس بلفظ هدايا العمال سحت وقد تقدم في كتاب الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول أخرجه أبو داود وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتبية المشهور والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة لأن المهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض وهو إما التقوى به على باطله أو التوصل لهديته له إلى حق والكل حرام كما تقدم وأقل الأحوال أن يكون طالبا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه ويخافه ما لا يخافه قبل ذلك وهذه الأغراض كلها تؤل إلى ما آلت إليه الرشوة فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء فإن للإحسان تأثير في طبع الإنسان والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه والرشوة لا تفعل زيادة على هذا ومن هذه ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه
وقد ذكر المغربي في شرح بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط فقال ما معناه أنه يجوزأن يرشى من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل وكذلك يجوز للمرتشي أن يرشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله وهذا أعم مما قاله المنصور بالله ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا عممه في الراشي والمرتشي وهو تخصيص مخصص ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال والقائل رحمه الله كان قاضيا
قوله : " والخلة " في النهاية الخلة بالفتح الحاجة والفقر فيكون العطف على ما قبله من عطف العام على الخاص ( وفي الحديث ) دليل على أنه لا يحل احتجاب أولى الأمر عن أهل الحاجات قال الشافعي وجماعة أنه ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبا قال في الفتح وذهب آخرون إلى جوازه وحمل الأول على زمن سكون [ ؟ ؟ ] الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم وقال آخرون بل يستحب الأحتجاب حينئذ لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشر . ونقل ابن التين عن الداودي قال الذي أحدثه القضاة من شدة الأحتجاب وادخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل السلف اه قلت صدق لم يكن من فعل السلف ولكن من لنا بمثل رجال السلف في آخر الزمان فإن الناس اشتغلوا بالخصومة لبعضهم بعضا فلو لم يحتجب الحاكم لدخل الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوه بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله ونهاره وهذا مما لم يتعبد الله به أحدا من خلقه ولا جعله في وسع عبد من عباده وقد كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سحتجب في بعض أوقاته وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جلس على قف البئر في القصة المشهورة وإذا جعل لنفسه بوابا في ذلك المكان وهو منفرد عن أهله خارج عن بيته فبالأولى اتخاذه في مثل البيت وبين الأهل
وقد ثبت أيضا في الصحيح في قصة حلفه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي فذلك دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخذ لنفسه بوابا ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله استأذن لي وقد ورد ما يخالف هذا في الظاهر وهو ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة التي وجدها تبكي قند قبر فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا والجمع ممكن أما أولا فلأن النساء لا يحتجبن عن الدخول في الغالب لأن الأمر الأهم من اتخاذ الحاجب هو منع دخول من يخشى الإنسان من اطلاعه على مالا يحل الأطلاع عليه وأما ثانيا فلأن النفي للحاجب في بعض الأوقات لا يستلزم النفي مطلقا وغاية ذلك أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم حاجب راتب
قال ابن بطال الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد بشيء من أمره رفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة وبمثله قال الكرماني
وقد ثبت في قصة عمر في منازعة أمير المؤمنين علي والعباس في فدك أنه كان له حاجب يقال له يرفا
قال ابن التين متعقبا لما نقله عن الداودي في كلامه المتقدم أن كان مراده البطائق التي فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم اه قلت ومن العدل والتثبت في الحكم أن لا يدخل الحاكم جميع من كان ببابه من المتخاصمين إلى مجلس حكمه دفعة واحدة إذا كانوا جمعا كثيرا ولا سيما إذا كانوا مثل أهل هذه الديار اليمنية فإنهم إذا وصلوا إلى مجلس القاضي صرخوا جميعا فيتشوش فهمه ويتغير ذهنه فيقل تدبره وتثبته بل يجعل ببابه من يرقم الواصلين من الخصوم الأول فالأول ثم يدعوهم إلى مجلس حكمه كل خصمين على حدة فالتخصيص لعموم المنع بمثل ما ذكرناه معلوم من كليات الشريعة وجزئياتها مثل حديث نهي الحاكم عن القضاء حال الغضب والتأذي بأمر من الأمور كما سيأتي وكذلك أمره بالتثتب والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين وكذلك أمره باجتهاد الرأي في الخصومة التي تعرض
قال بعض أهل العلم وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما الأعيان لاحتمال أن يجيء مخاصما والحاكم يظن أنه جاء زائرا فيعطيه حقه من الأكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصما انتهى . ولا شك في أنه يكره دوام الأحتجاب إن لم يكن محرما لما في حديث الباب
قال في الفتح واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي فوات الرفقة وأن من اتخذ بوابا أو حاجبا أن يتخذه أمينا ثقة عفيفا عارفا حسن الأخلاق وعارفا بمقادير الناس انتهى (9/140)
باب ما يلزم اعتماده في أمانة الوكلاء والأعوان (9/141)
1 - عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال من خاصم باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع "
وفي لفظ " من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله "
- رواهما أبو داود (9/141)
2 - وعن أنس قال " إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير "
- رواه البخاري (9/141)
- حديث ابن عمر أخرجه أبو داود بإسنادين الأول لا مطعن فيه لأنه قال حدثنا أحمد يونس يعني اليربوعي حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد يعني الدمشقي الطويل وهو ثقة قال جلسنا لعبد الله بن عمر فذكره والإسناد الثاني قال حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم يعني العامري وثقة النسائي حدثنا عمر بن يونس يعني اليمامي وهو ثقة حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري يعني ابن عبد الله بن عمر حدثنا المثني بن يزيد قال المنذري هو مجهول انتهى
وقد أخرج النسائي في عمل اليوم والليلة عن مطر يعني بن طمهان الخراساني الوراق قال المنذري ضعفه غير واحد انتهى
وقد أخرج له مسلم في مواضع عن نافع عن ابن عمر فذكره بمعناه
قوله : " من خاصم " قال الغزالي الخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود وتارة تكون ابتداء وتارة تكون اعتراضا والمراء لا يكون إلا اعتراضا على كلام سابق قال بعضهم إياك والخصومة فإنها تمحق الدين ويقال ما خاصم قط ورع
قوله : " لم يزل في سخط الله " هذا ذم شديد له شرطان أحدهما أن تكون المخاصمة في باطل والثاني أن يعلم أنه باطل فإن أختل أحد الشرطين فلا وعيد وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلا
قوله : " من أعان على خصومة بظلم " في معنى ذلك ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس ين شرحبيل " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام " وأما ما ورد في الحديث الصحيح بلفظ " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " فقد ورد تفسيره في آخر الحديث " أن نصر الظالم كفه عن الظلم " : قوله " فقد باء بغضب من الله " أي انقلب ورجع بغضب لا زم له ومعنى الغضب في صفات الله أرادة العقوبة . ( وفي الحديث ) دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصما أو معينا على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه لينتهي عن غيه
قوله : " إن قبس بن سعد " يعني ابن عبادة الأنصاري الخزرجي
قوله : " كان يكون " قال الكرماني فائدة تكرار لفظ الكو أرادة بيان الدوام والاستمرار
وقد وقع في رواية الترمذي وابن حبان والإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم بلفظ " كان قيس بن سعد " الخ
قوله : " بمنزلة صاحب الشرط " زاد الترمذي " لما يلي من أموره " وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث فقال " احتراز المصطفى من المشركين في مجلسه إذا دخلوا " وقد روى الإسماعيلي " أن سعداسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قيس أن يصرفه عن الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك " والشرط بضم المعجمة والراء والنسبة إليها شرطي بضمتين وقد يفتح الراء فيهما أعوان الأمير . والمراد بصاحب الشرط كبيرهم فقيل سموا بذلك لأنهم رذالة الجند . ومنه من حديث الزكاة المتقدم " ولا الشرط اللئيمة " أي رديء المال وقيل لأنهم الأشداء الأقوياء من الجند . ومنه في حديث الملاحم " ويتشرط شرطة للموت " أي يتعاقدون على أن لا يفروا ولو ماتوا
قال الأزهري شرطة كل شيء خياره ومنه الشرط لأنهم نجبة الجند وقيل هم أول طائفة تتقدم الجيش
وقيل سموا شرطا لأن لهم علامات يعرفون بها في اللباس والهيئة وهو اختيار الأصمعي
وقيل لأنهم أعدوا أنفسهم لذلك يقال أشرط فلان نفسه لأمر كذا إذا أعدها قاله أبو عبيد
وقيل مأخوذ من الشريطة وهو الحبل المبروم لما فيهم من الشدة
وفي الحديث جواز إتخاذ الأعوان لدفع ما يرد على الإمام والحاكم (9/142)
باب النهي عن الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيرا لا يشغل (9/142)
1 - عن أبي بكرة قال " سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان "
- رواه الجماعة (9/142)
2 - وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه " أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير أسق يا زبير ثم ارسل إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فقال الزبير والله إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم } الآية "
- رواه الجماعة لكنه للخمسة إلا النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه . وللبخاري في رواية قال " خاضم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللإنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم " قال عروة قال الزبير " فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك } الآية " رواه أحمد كذلك لكن قال عن عروة بن الزبير " أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره " جعله من مسنده . وزاد البخاري في رواية " قال ابن شهاب فقدرت الأنصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فكان ذلك إلى الكعبين
وفي الخبر من الفقه جواز الشفاعة للخصم والعفو عن التعزير (9/143)
- قوله " لا يقضين " الخ قال المهلب سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحكم إلى غير الحق فمنع وبذلك قال فقهاء الأمصار
وقال ابن دقيق العيد النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يحتل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه قال وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر وهو قياس مظنة وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان " انتهى . وسبب ضعفه أن في إسناده القاسم العمري وهو متهم بالوضع . وظاهر النهي التحريم ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة فلو خالف الحاكم فحكم في حال الغضب فذهب الجمهور إلى أنه يصح أن صادف الحق لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى للزبير بعد أن أغبضه كما في حديث الباب فكأنهم جعلوا ذلك قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وآله وسلم به في مثل ذلك لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف
قال الحافظ ابن حجر وهو تفصيل معتبر وقيد إمام الحرمين والبغوي الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله وأستغرب الروياني هذا وأستعبده غيره لمخالفته لظاهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال الغضب وذكر ابن المنير أن الجمع بين حديثي الباب بأن يجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود العصمة في حقه وإلا من التعدي أو إن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع وقد تعقب القول بالتحريم وعدم إنعقاد الحكم لأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه وهو ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا المفارق كما هنا وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة وهذه قاعدة مقررة في الأصول مع اضطراب فيها وطول نزاع وعدم اطراد
قوله : " إن رجلا من الأنصار اسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد وقيل حاطب ابن أبي بلتعة ولا يصح لأنه ليس بأنصاري وقيل أنه ثابت بن قيس بن شماس وإنما ترك صلى الله عليه وآله وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم جار في الحكم لأجل القرابة لأن ذلك كان في أوائل الإسلام وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتألف الناس إذ ذاك كم ترك قتل عبد الله بن أبي بعد أن جاء بما يسوغ به قتله وقال القرطبي يحتمل أنه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد كم أتفق لحاطب بن أبي بلتعة مسطح وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانة بدرة شيطانية
قوله : " في شراج " بكسر الشين المعجمة وراء مهملة بعد الألف جسم وهي مسايل النخل والشجر واحدتها شرجة واضافتها إلى الحرة لكونها فيها والحرة بفتح الحاء المهملة هي أرض ذات حجارة سود
قوله : " سرح الماء " بفتح السين المهملة وتشديد الراء المكسورة ثم حاء مهملة أي أرسله
قوله : " ثم أرسل إلى جارك " كان ذلك على سبيل الصلح
قوله : " إن كان ابن عمتك " بفتح الهمزة لأنه استفهام للأستكثار أي حكمت بهذا لكونه ابن عمتك
قوله : " حتى يرجع الماء إلى الجدر " بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو الجدار والمراد به أصل الحائط وقيل أصول الشجر والصحيح الأول وفي الفتح أن المراد به هنا المسناة وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار ويروي الجدر بضم الجيم والدال جمع جدار . وحكى الخطابي الجذر بسكون الذال المعجمة وهو جذر الحساب والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب
وفي بعض طرق الحديث " حتى يبلغ الماء الكعبين " رواه أبو داود
قوله : " فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحاء المهملة أي أثار حفيظته
قال في الفتح احفظه بالمهملة والظاء المشالة أي أغضبه
قوله : " فاستوعى " أي أستوفى وهو من الوعاء كأنه جمعه له في وعائه
قوله : " فقدرت الأنصار والناس " وهو من عطف العام على الخاص
قوله : " فكان ذلك إلى الكعبين " يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسموا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيار الاستحقاق الأول فالأول والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الناس شركاء في ثلاث من كتاب إحياء الموات (9/143)
باب جلوس الخصمين بين يدي الحاكم والتسوية بينهما (9/143)
1 - عن عبد الله بن الزبير قال " قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم "
- رواه أحمد وأبو داود (9/144)
2 - وعن علي عليه السلام " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الأخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء "
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي (9/144)
- حديث عبد الله بن الزبير أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف كما قال ابن معين وابن حبان وبين الذهبي ذلك الضعف فقال فيه لين لغلطه
وقال أبو حاتم صدوق كثير الغلط وقال النسائي ليس بالقوي وقال المنذري لا يحتج بحديثه وقد صحح الحديث الحاكم كما حكاه الحافظ في بلوغ المرام . وحديث أمير المؤمنين علي عليه السلام أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي وله طرق منها عند البزار وفيها عمرو بن أبي المقدام وفيها أيضا اختلاف على عمرو بن مرة ففي رواية أبي يعلى أنه رواه عنه شعبة عن أبي البختري قال حدثني من سمع أمير المؤمنين عليا ومنهم من أخرجه عن أبي البختري عن أمير المؤمنين علي عليه السلام . ومنهم من رواه عن حارثة بن مضرب عن أمير المؤمنين علي . ومنهم من رواه عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن أمير المؤمنين علي ومنهم من رواه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن أمير المؤمنين علي عليه السلام . ورواه أبو يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة بلفظ " من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فاليعدل بينهم في لحظه وأشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الأخر " وفي إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف وفي الباب عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا تساووهم في المجالس . أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكني في ترجمة أبي سمية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال عرف على درعا مع يهودي فذكره مطولا وقال منكر . وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال لا يصح تفرد به سمية ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي قال خرج أمير المؤمنين على السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف أمير المؤمنين علي عليه السلام الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان قال ابن الصلاح في كلامه على الوسيط لم أجد له إسنادا يثبت
قوله : " إن الخصمين يقعدان " الخ هذا فيه دليل لمشروعية قعود الخصمين بين يدي الحاكم ولعل هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد التسوية بين الخصمين فإنها ممكنة بدون القعود بين يدي الحاكم بأن يقعد أحدهما عن يمينه و الآخر على شماله أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في جانب يقابله ويساويه أو نحو ذلك والوجه في مشروعية هذه الهيئة إن ذلك هو مقعد الاهانة والاصغار وموقف من لا يعتد بشأنه من الخدم ونحوهم لقصد الأعزاز للشريعة المطهرة والرفع من منارها وتواضع المتكبرين لها وكثيرا ما ترى من كان متمسكا بأذيال الكبر يعظم عليه قعوده في ذلك المقعد فلعل هذه هي الحكمة والله أعلم ( ويؤخذ ) من الحديث أيضا مشروعية التسوية بين الخصمين لأنهما لما أمرا بالقعود جميعا على تلك الصفة كان الأستواء في الموقف لازما لها وأوضح من ذلك حديث أم سلمة وقصة أمير المؤمنين علي عليه السلام مع خصمه عند شريح كما تقدم وفيها تخصيص المسلم إذا كان خصمه كافرا فلا يساويه في الموقف بل يرفع موقف المؤمن على موقف الكافر لأن الإسلام يعلو ويستفاد من الحديث أن الخصمين لا يتنازعان قائمين أن مضطجعين أو أحدهما
قوله : " حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من الخصمين واستفصال ما لديه والأحاطة بجميعه والنهي يدل على قبح المنهى عنه والقبح يستلزم الفساد فإذا قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلا فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه ويعيده على وجه الصحة أو يعيده حاكم آخر فإن امتنع أحد الخصمين من الإجابة لخصمه جاز القضاء عليه لتمرده ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في الغائب على خلاف فيه معروف (9/144)
باب ملازمة الغريم إذا ثبت عليه الحق وإإعداء الذمي على المسلم (9/145)
1 - عن هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه قال " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغريم ليفقال لي الزمه ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك "
- رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه " ثم مر بي آخر النهار فقال ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم " وقال في مسنده عن أبيه عن جده وعن ابن أبي حدرد الأسلمي " أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا محمد إن لي على هذا أربع دراهم وقد غلبني عليها فقال أعطه حقه قال والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قال أعطه حقه قال والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد أخبرته إنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئأ فأرجع فأقضيه قال أعطه حقه قال وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال ثلاثا لم يراجع فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة ثم قال اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة دراهم فمرت عجوز فقالت مالك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرها فقالت نا ؟ ؟ دونك هذا البرد عليها طرحته عليه "
- رواه أحمد
وفي أن الحاكم يكرر على الناكل وغيره ثلاثا (9/145)
2 - ومثله ما روى أنس " قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم سلم ثلاثا وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا "
- رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه (9/145)
- حديث هرماس أخرجه البخاري في تاريخه الكبير عن أبيه عن جده وقال ابن أبي حاتم هرماس ابن حبيب العنبري روى عن أبيه عن جده ولجده صحبة وذكر أنه سأل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن الهرماس بن حبيب العنبري فقالا لا نعرفه
وقال سألت أبي عن هرماس بن حبيب فقال هوشيخ اعرابي لم يرو عنه غير النضر بن شميل ولا يعرف أبوه ولا جده . وحديث ابن أبي حدرد قال في مجمع الزوائد رواه أحمد والطبراني في الصغير والأوسط ورجاله ثقات إلا أن محمد بن أبي يحيى لم أجد له رواية عن الصحابة فيكون مرسلا صحيحا انتهى
قوله : " الزمه " بفتح الزاي فيه دليل على جواز ملازمة من له الدين لمن هو عليه بعد تقرره بحكم الشرع وقد حكاه في البحر عن أبي حنيفة وأحد وجهي أصحاب الشافعي فقالوا أنه يسير حيث سار ويجلس حيث جلس غسر مانع له من الأكتساب ويدخل معه داره وذهب أحمد إلى أن الغريم إذا طلب ملازمة غريمه حتى يحضر ببينته القريبة أجيب إلى ذلك لأنه لو لم يمكن من ملازمته ذهب من مجلس الحاكم وهذا بخلاف البينة البعيدة وذهب الجمهور إلى أن الملازمة غير معمول بها إذا قال لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه أو آخره حتى تحضر بينتك وحمل الحديث على أن المراد ألزم غريمك بمراقبتك له بالنظر من بعد ولعل الاعتذار عن الحديث بما فيه من المقال أولى من هذا التأويل المتعسف وأما حديث أبي حدرد فليس فيه دليل على الملازمة بل فيه التشديد على المديون بإيجاب القضاء وعدم قبول دعواه الإعسار لمجردها من دون بينة وعدم الاعتداد بيمينه من غير فرق بين أن يكون صاحب المال مسسلما أو كافرا
قوله : " ما تريد أن تفعل بأسيرك " سماه أسيرا باعتبار ما يحصل له من المذلة بالملازمة له وكثرة تدلله عند المطالبة وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يعرض بالشفاعة وقد زاد رزين بعد قوله ما تريد أن تفعل بأسيرك فأطلقه
قوله : " وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا " لعل هذا في الأمور التي يريد صلى الله عليه وآله وسلم أن تحفظ عنه وتنقلها الناس إلى بعضهم بعضا بخلاف الكلام في المحاورات التي تجري من دون قصد إلى حفظها لكونها ليست من الأمور الشرعية فلعل التكرار فيها لم يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لعدم الفائدة في ذلك مثلا لو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يخبر رجلا بأنه خرج إلى المسجد وصلى ورجع إلى بيته فكرر كل كلمة من هذا الخبر ثلاث مرات لم يكن ذلك بمكان من الحسن والقبول
وأما تكرير التسليم فلعله التسليم المراد به الاستئذان وقد ثبتت مشروعية تكريره لإيقاظ رب المنزل الذي وقع الاستئذان عليه لا أنه كان يكرر السلام الواقع لمحض التحية مثلا لا يلقي رجلا في طريق فيقوم بين يديه ويسلم عليه ثلاث مرات (9/146)
باب الحاكم يشفع للخصم ويستوضع له (9/146)
1 - عن كعب بن مالك " أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقال لبيك يا رسول الله قال ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه "
- رواه الجماعة إلا الترمذي
وفيه من الفقه جواز الحكم في المسجد وأن من قيل له بع أو هب أو أبر فقال قد فعلت صح ذلك منه وأن الإيماء المفهوم يقوم مقام النطق (9/146)
- قوله " سجف حجرته " بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الجيم وهو الستر وقيل الرقيق منه يكون في مقدم البيت ولا يسمى سجفا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين والحجرة ما يجعل عليه الرجل حاجرا في بيته
قوله : " ضع من دينك هذا وأومأ إليه " فيه دليل على أن الأشارة المفهمة بمنزلة الكلام لأنها تدل كما تدل عليه الحروف والأصوات فيصح بيع الأخرس وشراؤه واجارته وسائر عقوده إذا فهم ذلك عنه
قوله : " أي الشطر " هو النصف على المشهور ووقع في حديث الأسراء ما يدل على أن الشطر يطلق على الجزء والمراد بهذا الأمر الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم الأرشاد على الصلح والشفاعة في ترك بعض الدين وفيه فضيلة الصلح وحسن التوسط بين المتخاصمين
قوله : " قد فعلت الخ " يحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين كأن يدعى صاحب الدين مقدارا زائدا على ما يقر به المديون فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع الشطر من المقدار الذي ادعاه فيكون الصلح حينئذ عن أنكار ويدل الحديث على جوازه . ويحتمل أن يكون النزاع بينهما في التقاضي باعتبار حلول الأجل وعدمه مع الأتفاق على مقدار أصل الدين فلا يكون في الحديث دليل على جواز الصلح عن انكار وقد ذهب إلى بطلان الصلح عن انكار الشافعي ومالك وأبوحنيفة والهادوية
قوله : " قم فاقضه " قيل هذا الأمر على جهة الوجوب لأن رب الدين لما طاوع بوضع الشطر تعين على المديون أن يعجل إليه دينه لئلا يجمع على رب المال بين الوضعية والمطل (9/147)
باب أن حكم الحاكم ظاهرا لا باطنا (9/147)
1 - عن أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار "
- رواه الجماعة وقد احتج به من لم ير أن يحكم بعلمه (9/147)
- قوله " إنما أنا بشر " البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي أختص بها في ذاته وصفاته والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب لأنه أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من الظالم وقد أطال الكلام على بيان معنى هذا الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى ذلك
قوله : " ألحن " بالنصب على أنه خبر كان أن أفطن بها ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل . والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين أي أحسن ايرادا للكلام ولا بد في هذا التركيت من تقدير محذوف لتصحيح معناه أي وهو كاذب ويسمى هذا عند الأصوليين دلالة اقتضاء لأن هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر بعده
وقال في النهاية اللحن الميل عن جهة الأستقامة يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد أن بعضهم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره ويقال لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه ويخفي على غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم انتهى
قوله : " فإنما أقطع له قطعة من النار " أي الذي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يؤل به إلى النار وهو تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاظ الحديث في كتاب الصلح فوقع تكرار البعض هنا لتكرار الفائدة ( وفي الحديث ) دليل على أثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطن حرام عليه وأن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الأثم بالحكم وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر كما في الحديث الصحيح وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقضي بالأجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك
قال الحافظ لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وآله وسلم لثبوت عصمته واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية وبأن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك وأجيب عن الأول بأن الأمر إذا استلزم الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ وأجيب عن الثاني برد الملازمة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرجع الأتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع
قال الحافظ وفي الحديث أيضا أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه الأثم بالحكم والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم صلى الله عليه وآله وسلم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولا نقلا وأجاب من منع بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية إقرار أو البينة ولا مانع من وقوع الخطأ فيه أن يخبر عن أمر بإن الحكم على الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده فإنه لا يكون إلا حقا لقوله تعلى { وما ينطق عن الهوى } وأجيب أن ذلك يستلم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان والمقام يحتاج إلى بسط طويل ومحله الأصول فليرجع إليها قال الطحاوي ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزاله ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها وهو قول الجمهور ومعهم أبو يوسف
وذهب آخرون إلى أن الحمكم إن كان في مال وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك موجبا لحله للحكومة له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ ظاهرا وباطنا وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به قالوا فيؤخذ من هذا إن كان قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه وإن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس عليهز وقال بعض الحنفية مجيبا على من استدل بالديث لما تقدم بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن من في قوله " فمن قضيت له " شرطية وهي لا تستلزم الوقوع فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة وهو وإن كان جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضي به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأوإلا فمتى فوض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه
وظاهر الحديث يخالفه ذلك فأما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر بل من التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني والجواب عن الثالث إن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاد فيما لم يوح إليه فليس النزاع فيه إنما النزاع في الحكم الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للأتفاق على العمل بالشهادة وبالأيمان وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك لما في حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم " فيحكم بإسلام من بلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك ولما في حديث المتلاعنين حيث قال " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن " فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه . وكذلك حديث أني لم أومر بالتنقيب عن قلوب الناس فالحجة من حديث الباب شاملة للأموال والعقود والفسوخ وقد حكي الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام
قال النووي والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل المذكور وهي إن الابضاع أولى بالأحتياط من الأموال وفي المقام مقاولات ومطاولات ومع وضوح الصواب لا فائدة في الأطناب
وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على أن الحاكم لا يحكم بعلمه وسيأتي الكلام على ذلك في باب مستقل إن شاء الله تعالى وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها ووجه الرد عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك فإنه أعلم أنه تجري الأحكام على ظاهرها مع أنه يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية وسبب ذلك إن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك نعم لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه مشاهدة أو سماعا أو ظنا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة
قال الحافظ ونقل بعضهم فيه الأتفاق وإن وقع الأختلاف فيه في القضاء بالعلم كما سيأتي (9/148)
باب ما يذكر في ترجمة الواحد (9/148)
1 - في حديث زيد بن ثابت " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره فتعلم كتاب اليهود وقال حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه واقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه "
- رواه أحمد والبخاري
قال البخاري عمر بن الخطاب وعند أمير المؤمنين علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ماذا تقول هذه فقال عبد الرحمن بن حاطب فقلت تخبرك بالذي صنع بها قال وقال أبو جمرة كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس (9/148)
- قوله " حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه " يعني إليهم هذا الحديث من الأحاديث المعلقة في البخاري وقد وصله في تاريخه بلفظ " إن زيد بن ثابت قال أتى بي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمه المدينة فاعجب بي فقيل له هذا غلام النجار قد قرأ مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت ق فقال لي تعلم كتاب يهود فإني ما آمن يهود على كتابي فتعلمه في نصف شهر حتى كتبت له إلى يهود واقرأ له إذا كتبوا إليه " وأخرجه أيضا موصولا أبو داود والترمذي وصححه وأخرجه أحمد وإسحاق وأخرجه أيضا أبو يعلى بلفظ " أني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا على وينقصوا فتعلم السريانية " وظاهره أن اللغة السريانية كانت معروفة يومئذ وهي غير العبرانية فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يتعلم اللغتين
قوله : " ماذا تقول هذه " أي المرأة التي وجدت حبلى
قوله : " وقال أبو جمرة " بالجيم المفتوحة الميم الساكنة والراء المهملة ( وفي الحديث ) جواز ترجمة واحد قال ابن بطال أجاز الأكثر ترجمة واحد
وقال محمد بن الحسن لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين وقال الشافعي هو كالبينة وعن مالك روايتان ونقل الكرابيسي عن مالك والشافعي الأكتفاء بترجمان واحد . وعن أبي حنيفة الأكتفاء بواحد وعن أبي يوسف باثنين وعن زفر لا يجوز أقل من اثنين وقال الكرماني لا نزاع لأحد أنه يكفي ترجمان واحد عند الأخبار وأنه لابد من اثنين عند الشهادة فيرجع الخلاف إلى أنها أخبار أو شهادة فلوسلم الشافعي أنها أخبار لم يشترط العدد ولو سلم الحنفي أنها شهادة لقال بالعدد
وقال الحاكم لا تقبل فيه إلا البينة الكاملة والواحد ليس بينة كاملة حتى يضم إليه كمال النصاب غير أن الحديث إذا صح سقط النظر
وفي الأكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى . وتعقبه الحافظ فقال يمكن أن يجاب بأنه ليس غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحكام في ذلك مثله لامكان اطلاعه على ماغاب عنه بالوحي بخلاف غيره بل لا بد له من أكثر من واحد فمهما كان طريقه الأخبار يكتفي فيه الواحد ومهما كان طريقة الشهادة لابد فيه من استيفاء النصاب وقد نقل الكرابيسي أن الخلفاء الراشدين والملوك بعدهم لم يكن لهم إلا (9/149)
1 - عن ابن عمر قال " أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة موتة زيد بن حارثة وقال إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة "
واحد
وقد نقل ابن التين من رواية ابن عبد الحكم لا يترجم الأحر عدل وإذا أقر المترجم بشيء وجب أن يسمع ذلك منه شاهدان ويرفعان ذلك إلى الحاكم (9/149)
باب الحكم بالشاهد واليمين (9/149)
1 - عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد "
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه
وفي رواية لأحمد إنما كان ذلك في الأموال (9/150)
2 - وعن جابر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين مع الشاهد "
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي ولأحمد من حديث عمارة بن حزم وحديث سعد بن عبادة مثله (9/150)
3 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بشهادة واحد ويمين صاحب الحق وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق "
- رواه أحمد والدارقطني وذكره الترمذي (9/150)
4 - وعن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة " قال قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باليمين مع الشاهد الواحد "
- رواه ابن ماجه والترمذي وابو داود وزاد قال عبد العزيز الداروردي فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبد العزيز وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقلة ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدثة عن ربيعة عنه عن أبيه (9/151)
5 - وعن سرق " أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب "
- رواه ابن ماجه (9/151)
- حديث ابن عباس قال في التلخيص قال فيه لشافعي وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره مع أن معه غيره مما يشده وقال النسائي إسناده جيد
وقال البزار في الباب أحاديث حسانأصحها حديث ابن عباس وقال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في إسناده
وقال عباس الدوي في تاريخ يحيى بن معين ليس بمحفوظ
وقال البيهقي أعله الطحاوي بانه . لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم ثم قال وليس من شرط قبول رواية الأخبار كثيرة رواية الراوي عمن روى عنه ثم إذا روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثا واحدا وجب قبول وإن لم يكن يروي عنه غيره على أن قيسا قد توبع عليه رواه عبد الرزاق عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار أخرجه أبو داود وتابع عبد الرزاق أبو حذيفة وقال الترمذي في العلل سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال لم يسمعه عندي عمرو من ابن عباس
قال الحاكم قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث وسمع من جماعة من أصحابه فلا ينكر أن يكون سمع منه حديثا وسمعه من بعض أصحابه عنه وأما رواية عصام البلخي وغيره ممن زاد بين عمرو وابن عباس طاوس فهم ضعفاء
قال البيهقي ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء انتهى . ما في التلخيص على الحديث . وحديث جابر أخرجه ايضا البيهقي وهو من حديث جعفر بم محمد عن أبيه عن جابر قال الترمذي رواه الثوري وغيره عن جعفر عن أبيه مرسلا وهو أصح وقيل عن أبيه عن أمير المؤمنين على انتهى
وقد ذكر المصنف رحمه الله الطريقين كما ترى
وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وأبي زرعة وهو مرسل وقال الدارقطني كان جعفر ربما أرسله وربما وصله وقال الشافعي والبيهقي عبد الوهاب وصله وهو ثقة قال البيهقي روى إبراهيم بن أبي هند عن جعفر عن أبيه عن جابر رفعه أتاني جبريل وأمرني أن أقضي باليمين مع الشاهد وإبراهيم ضعيف جدا رواه ابن عدي وابن حبان في ترجمة وقد صحح حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة وحديث عمارة قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات ولفظه " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد " وحديث سعد بن عبادة لفظه في مسند أحمد عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه " أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد " انتهى وإسماعيل بن عمرو قال الحافظ الحسيني شيخ محله الصدق وأبوه لم يذكر بشيء وسائر الإسناد رجال الصحيح وأخرجه البيهقي وأبو عوانة في صحيحه من حديثه بسند آخر . وحديث أبي هريرة قال الحافظ في الفتح رجال مدينون ثقات ولا يضره إن سهيل بن أبي صاح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لأنه كان بعد ذلك يروبه عن ربيعة عن نفسه انتهى
وأخرجه أيضا الشافعي وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنه صحيح ورواه البيهقي من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال الترمذي بعد أخراج الطريق الأولى حسن غريب
قال ابن ارسلان في شرح السنن أنه صحح حديث الشاهد واليمين الحافظان أبو زرعة وأبو حاتم من حديث أبي هريرة وزيد بن ثابت وحديث سرق في إسناده رجل مجهول وهو الراوي له عنه فإنه قال ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هرون حدثنا جويرة بن أسماء حدثنا عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق فذكره ورجال إسناده رجال الصحيح لولا الرجل المجهول وقد أخرجه أيضا أحمد
قال في التلخيص فائدة ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من رواه فزاد على عشرين صحابيا وأصح طرقه حديث ابن عباس ثم حديث أبي هريرة
وأخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا قال استشرت جبريل في القضاء باليمين والشاهد فأشار علي بالأموال لانعد ذلك وإسناده ضعيف وفي الباب عن الزبيب بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة وهو ابن ثعلبة فذكر قصة وفيها أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم هل لك بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام قلت نعم قال من بينتك قلت سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبي سمرة أن يشهد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر قلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا ثم ذكر تمام القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل بالشاهد واليمين أخرجه أبو داود مطولا
قال الخطابي إسناده ليس بذاك
وقال أبو عمر النمري أنه حديث حسن قال المنذري وقد روى القضاء بالشاهد واليمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وسعد بن عبادة والمغيرة بن شعبة وجماعة من الصحابة انتهى فجملة عدد من ذكره المصنف رحمه الله سبعة وزبيب وعمر بن الخطاب والمغيرة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري وبلاب بن الحرث ومسلمة بن قيس وعامر بن ربيعة وسهل بن سعد وتميم الداري وأم سلمة وانس هؤلاء أحد وعشرون رجلا من الصحابة وهو المشار إليهم بقول ابن الجوزي فزاد عددهم على عشرين
وقد استدل بأحاديث الباب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا يجوز الحكم بشاهد ويمين المدعي وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أمير المؤمنين علي وأبي بكر وعمر وعثمان وأبي وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وشريح والشعبي وربيعة وفقهاء المدينة والناصر والهادوية ومالك والشافعي وحكى أيضا عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والإمام يحيى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين
وقد حكى البخاري وقوع المراجعة في ذلك ما بين أبي الزناد وابن شبرمة فاحتج أبو الزناد على جواز القضاء بشاهد ويمين بالخبر والوارد في ذلك فأجاب عليه ابن شبرمة بقوله تعالى { استشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } قال الحافظ وإنما تتم له الحجة بذلك على أصلمختلف فيه بين الفريقين يعني الكوفيين والحجازيين وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا الزيادة على ما في القرآن هل يمون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به والأول مذهب الكوفيين والثاني مذهب الحجازيين ومع قطع النظر عن ذلك لا تنهض حجة ابن شبرمة لأنها تصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتد به وقد أجاب عنه الإسماعيلي فقال الحجة إلى إذكار إحداهما الأخرى إنما هو فيما إذا شهدتا فإن لم تشهدا قامت مقامها يمين الطالب ببيان السنة الثابتة واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء فلذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها مضافة إلى الشاهد الواحد قال ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين لأنه ليس في القرآن للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لأنهما ليستا في السنة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال شاهداك أو يمينه وحاصله أنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه لكن مقتضى ما بحثه أنه لا يقضي باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من الشاهد والمرأتين وهو وجه للشافعية وصححه الحنابلة ويؤيده ما روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإن جاء بشاهد واحد مع شاهده وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا وأيضا فالناسخ والمنسوخ لابد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على النص
وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح ولا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية ونحو ذلك وقد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على ما في القرآن ترك العمل بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء واستبراء المسبية وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد وشهادة المرأة الواحدة في الولادة ولا قود إلا بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع الأيدي في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب وأجابوا بأن الأحاديث الواردة في هذه المواضع المذكورة أحاديث شهيرة فوجب العمل بها لشهرتها فيقال لهم وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نيف وعشرون نفسا كما قدمنا وفيها ما هو صحيح كما سلف فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة
قال الشافعي القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه لا يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم أصلا فضلا عن مفهوم العدد
قال ابن العربي أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين أمران أحدهما أن المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطالب والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحق فتجب اليمين على المدعى عليه فهذا المراد بقوله قضى بالشاهد واليمين . وتعقبه ابن العربي بأنه جهل باللغة لأن لمعية تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادين ثانيهما حمله على صورة مخصوصة وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا فادعى المشتري أن به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع بعته بالبراءة فيحلف المشتري أنه ما اشتراه بالبراءة ويرد العبد بنحو ما تقدم وبندور ذلك فلا يحمل الخبر على النادر وأقول جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى المام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من أنصاف فالحق أن أحاديث العمل بشاهد زيادة على ما دل عليه قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين } الآية وعلى ما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " شاهداك أو يمينه " غير منافية للأصل فقبولها متحتم وغاية ما يقال على فرض التعارض وإن كان فرضا فاسدا أن الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين على أنه يقال العمل بشهادة المرأتين مع الرجل مخالف لمفهوم حديث شاهداك أو يمينه ( فإن قالوا ) قدمنا على هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة قلنا ونحن قدمنا على ذلك المفهوم منطوق أحاديث الباب هذا على فرض أن الخصم يعمل بمفهوم العدد فإن كان لا يعمل به أصلا فالحجة عليه أوضح وأتم
قوله : " وعن سرق " بضم السين المهملة وتشديد الراء بعدها قاف وهو ابن أسد صحابي مصري لم يرو عنه إلا رجل واحد (9/151)
باب ما جاء في امتناع الحاكم من الحكم بعلمه (9/152)
1 - عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاحه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا القود يا رسول الله فقال لكم كذا وكذا فلم يرضوا فقال لكم كذا وكذا فرضوا فقال أني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا نعم فخطب فقال أن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا افرضيتم قالوا لافهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال أفضيتم قالوا نعم قال أني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا نعم فخطب فقال أرضيتم فقالوا نعم "
- رواه الخمسة إلا الترمذي (9/152)
2 - وعن جابر " قال أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال يا محمد أعدل فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق فقال معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية "
- رواه أحمد ومسلم
قال أبوبكر الصديق لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري . حكاه أحمد (9/152)
- حديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري قال المنذري ورواه يونس بن يزيد عن الزهري منقطعا
قال البيهقي ومعمر بن راشد حافظ قد اقام إسناده فقامت به الحجة . وأثر أبي بكر قال الحافظ في الفتح رواه ابن شهاب عن زيد بن الصلت أن أبا بكر فذكره وصحح إسناده ( وقد اختلف ) أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه فروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف مثل ما ذكره المصنف عن أبي بكر واستدل البخاري أيضا على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه بما قاله عمر لولا أن يقول الناس زاد عمر ىية في كتاب الله لكتبت آية الرجم
قال المهلب وأفصح بالعلة في ذلك بقوله لولا أن يقول الناس الخ فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء قال البخاري وقال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها
قال الكرابيسي لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة قال ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رىه يزني أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه سطلقها أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب ومن ثم قال الشافعي لولا قضاة السوء لقلت أن للحاكم أن يحكم بعلمه
قال ابن التين ما ذكره البخاري عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه
وقال بعض أصحابه يحكم بما علم فيما أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم
وقال ابن القاسم وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد له عنده
وقال ابن المنير مذهب مالك أن من حكم بعلمه نقض على المشهور إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع بعد المحاكم فقولان وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا وقال ابن الماجشون يحكم بعلمه قال البخاري وقال بعض أهل العراق ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضي به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره قال في الفتح وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه ووافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية
قال ابن التين وجرى به العمل وروى عبد الرزاق نحوه من شريح
قال البخاري وقال آخرون منهم يعني أهل العراق بل يقضي به لأنه مؤتمن قال في الفتح وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي فيما بلغني عنه أنه قال إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل ان يلي القضاء أو بعد ما ولي فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل قال البخاري وقال بعضهم يعني أهل العراق يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي بغيرها
قال في الفتح هو قول أبي حنيفة القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه ولكن ادع القياس واستحسن أن لا يقضي بعلمه في كل شيء إلا في الحدود قال وهذا هو الراجح عند الشافعية وقال ابن العربي لا يقضي بعلمه والصل فيه عندنا افجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود قال ثم أحدث بعض الشافعية قولا أنه يجوز فيها ايضا حين رأوا أنها لازمة لهم
قال الحافظ كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف وق حكى في البحر القول بأن الحاكم يحكم بعلمه عن العترة والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وحكى المنع عن شريح والشعبي والأوزاعي ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي والأقوال في المسألة فيها طول ذكر البخاري وشراح كتابه بعضا منها في باب الشهادة تكون عند الحاكم وبعضا في باب من رأي للقاضي ان يحكم بعلمه : وذكر البخاري في البابين أحاديث يستدل بها على الجواز وعدمه وهي في غاية البعد عن الدلالة على المقصود وكذلك ما ذكره المصنف في هذا الباب فإن حديث عائشة ليس فيه إلا مجرد وقوع الأخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع به الرضا من الطالبين للقود وإن كان الاحتجاج بعدم القضاء منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بما رضوا به المرة الأولي فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم
وكذلك حديث جابر المذكور لا يدل على المطلوب بوجه وغاية ما فيه الامتناع عن القتل لمن كان في الظاهر من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة والأخبار للحاضرين بما يكون من أمر الخوارج وترك أخذهم بذلك لتلك العلة ومن جملة ما استدل به البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس على ذلك بينة وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي اه فإن قيل أن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب فيجاب بأن الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الافتاء فإنه يصح لمجهول فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الافتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة وقد تعقب الحافظ كلام ابن منير فقال وما أدعى تفيه بعيد فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ وإطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بد من سبق علم ويجاب عن هذا بأن الأمر لا يستلزم الحكم لأن المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شيء ومن جملة ما استدل به على المنع الحديث المتقدم عن أم سلمة " فأقضي بنحو ما أسمع " ولم يقل بما أعلم
ويجاب بأن التنصيص على السماع لا ينفي كون غيره طرقا للحكم على أنه يمكن أن يقال أن الاحتجاج بهذا الحديث للمجوزين أظهر فإن العلم أقوى من السماع لأنه يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه ففحوى الخطاب تقتضي جواز القضاء بالعلم ومن جملة ما استدل به المانعون حديث شاهداك أو يمينه وفي لفظ وليس لك إلا ذلك ويجاب بالعلم ومن جملة ما استدل به المانعون حديث شاهداك أو يمينه وفي لفظ ليس لك إلا ذلك ويجاب بما تقدم من التنصيص على ما ذكره لا ينفي ما عداه
وأما قوله " وليس لك إلا ذلك " فلم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد علم بالحق منهما من المبطل حتى يكون دليلا على عدم حكم الحاكم بعلمه بل المراد أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرا حيث لم يكن للمدعي برهان . والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه لأن شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة أو ما يجري مجراها فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين . ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم " فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة من نار " فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقين ولا يخفي رجحان هذا وقوته لأن الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى
ويؤيد هذا ما سيأتي في باب استحلاف المنكر حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم للكندي ألك بينة فإن البينة في الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح ولا يرد على هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها لأنا نقول إذا كان القضاء بأحد الأسباب المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد
وقد قال تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال صلى الله عليه وآله وسلم " شاهداك " وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم . واستدل المستثني للحدود بما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " وفي لفظ " لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها " أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة . وظاهره أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد علم وقوع الزنا منها ولم يحكم بعلمه
ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن المتقدمان . ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن وهو أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه وقد تقدم في اللعان ما يزيد هذا وضوحا . ومن الأدلة الدالة على جواز الحكم بالعلم ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن الأعرج عن أبي هريرة قال " جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها فقال للآخر أحلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فعلت ولكن غفر لك بأخلاص لا إله إلا الله " وفي رواية للحاكم " بل هو عند أدفع إليه حقه ثم قال شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك " وفي رواية لأحمد " فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله " وأعله ابن جزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب كذا قال ابن عساكر وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد كذا اسمه عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث واعله أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البختري بن عبيد عن أبي الزبير مختصرا " أن رجلا حلف بالله وغفر له " قال وشعبة أقدم سماعا من غيره
وفي الباب عن أنس من طريق الحارث بن عبيد عن ثابت وعن ابن عمر
قال الحافظ أخرجهما البيهقي والحارث بن عبيد هو أبو قدامة . فهذا الحديث فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين فبالأولى جواز القضاء بالعلم قبل وقوعه
وقد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في الحدود وغيرها واستدل لهم بأنه لم يفصل الدليل . وحكى عن ابن حنيفة ومحمد أنه إن علم الحد قبل ولايته أو في غير بلد ولايته لم يحكم به إذ ذلك شبهة وإن علم به في بلد ولايته أو بعد ولايته حكم بعلمه (9/153)
باب من لا يجوز الحكم بشهادته (9/153)
1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادتة القانع لأهل البيت والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت "
- رواه أحمد وأبو داود
وقال شهادة الخائن والخائنة إلى آخره ولم يذكر تفسير القانع . ولأبي داود في رواية " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه " (9/153)
2 - وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " لاتجوز شهادة بدوى على صاحب قرية "
- رواه أبو داود وابن ماجه (9/154)
- حديث عمرو بن شعيب أخرجه البيهقي وابن دقيق العيد قال في التلخيص وسنده قوي اه وقد ساقه أبو داود بإسنادين . الإسناد الأول قال حتدثنا حفص ابن عمر حدثنا محمد بن راشد يعني المكحولي الدمشقي نزيل البصرة وثقه أحمد وابن معين حدثنا سليمان بن موسى يعني القرشي الأموس فقيه أهل الشام وكان أوثق أصحاب مكحول وأعلاهم من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا إسناد لا مطعن فيه . ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يخرج بها الحديث عن الحسن والصلاحية للاحتجاج . والسند الثاني قال حدثنا محمد بن خلف ابن طارق الرازي حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد يعني الدمشقي الخزاعي وهو ثقة حدثنا سعيد بن عبد العزيز يعني ابن يحيى التنوخي الدمشقي ورى له البخاري في الأدب وسائر الجماعة عن سليمان بن موسى المتقدم عن عمرو بن شعيب بالإسناد المتقدم وهذا كالإسناد الأول
وفي الباب من حديث عائشة مرفوعا بلفظ " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولاقرابة " أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي وفيه يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف قال الترمذي لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده
وقال أبو زرعة في العلل منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي وفي الباب أيضا من حديث عبد الله ابن عمر بن الخطاب نحوه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عبد الأعلى وهو ضعيف وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو أيضا ضعيف قال البيهقي لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الباب أيضا عن عمر " لا تقبل شهادة ظنين ولاخصم " أخرجه مالك في الموطأ موقوفا وهو منقطع قال الإمام في النهاية واعتمد الشافعي خبرا صحيحا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تقبل شهادة خصم على خصم قال الحافظ ليس له إسناد صحيح لكن له طرق يتقوى بعضها بعض فروى أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله ابن عوف إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله
وفي إسناده نظر
وحديث الباب عن أبي هريرة أخرجه البيهقي وقال هذا الحديث مما تفرد به محمد ابن عمر وبن عطاء عن عطاء بن يسار وقال المنذري رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه اه وسياقه في سنن أبي داود قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد الكلاعي عن أبي الهاد يعني يزيد بن عبد الله بن الهاد الليثي عن محمد بن عمرو بن عطاء يعني القرشي العامري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة
قوله : " لاتجوز شهادة خائن ولا خائنة " صرح أبو عبيد بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص
قوله : " ولا ذي غمر " قال ابن رسلان بكسر الغين المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة قال أبو داود الغمر الحنة والسحناء والحنة بكسر الحاء المهملة وتخفيف النون المفتوحة لغة في احنة وهي الحقد قال الجوهري يقال في صدره عى ؟ ؟ احنة ولا يقال حنة والواحنة المعاداة والصحيح أنها لغة كما ذكره أبو داود وجمعها حنات
قال ابن الأثير وهي لغة قليلة في الاحنة وقال الهروي هي لغة رديئة والشحناء بالمد العداوة وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة وتخالف الصداقة فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا فإن قيل لم قبلته شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة قال ابن رسلان قلنا العداوة ههنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور بخلاف العداوة الدنيوية قال وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخلب العدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة اه . وإلى الأول ذهبت الهادوية وإلى الثاني ذهب المؤيد بالله أيضا والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك والأدلة لا تعارض بمحض الآراء وليس للقائل بالقبول دليل قبول قال في البحر مسألة العداوة لأجل الدين لا تمنع كالعدلى على القدرى والعكس ولأجل الدنيا تمنع
قوله " ولا تجوز شهادة القانه لأهل البيت " هو الخادم المنقطع إلى الخدمة فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع إلى نفسه وذلك كالأجير الخاص وقد ذهب إلى عدم قبول شهادته للمؤجر له الهادي والقاسم والناصر والشافعي قالوا لأن منافعه قد صارت مستغرقة فأشبه العبد وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده
قوله : " ولا زان ولا زانية " المانع من قبول شهادتهما الفسق الصريح
وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح الشهادة من فاسق لصريح قوله تعالى { واشهدوا ذوي عدل } وقوله { إن جائكم فاسق } اه واختلف في شهادة الولد لوالده والعكس فمنع من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي والمؤيد بالله ووالإمام يحيى والالثوري ومالك والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان القانع
وقال عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في قوله له أنها تقبل لعموم قوله تعالى { ذوي عدل } وهكذا وقع الخلاف في شهادة أحد الزوجين للآخر لتلك العلة ولا ريب أن القرابة والزووجية مظنة للتهمة لأن الغالب فيهما المحاباة . وحديث ولا ظنين المتقدم يمنع من قبول شهادة المتهم فمن كان معروفا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين البابغة إلى خد لا يؤثر معها محبة القرابة فقد زالت حينئذ وظنة التهمة ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم القبول لشهادته لأنه مظنة للتهمة
قوله " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " البدوي هو الذي يسكن البادية في المضارب والخيام ولا يقيم في موضع خاص بل يرتحل من مكان إلى مكان وصاحب القرية هو الذي يسكن القرى وهي المصر الجامع
قال في النهاية إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبظون الشهادة على وجهها
قال الخطابي يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها وكذلك قال أحمد وذهب إلى العمل بالحديث جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغلب أنهم لا تعرف عدالتهم اه وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويا غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطا شرعيا ولعدم إنضباطه فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما يحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل صلى الله عليه وآله وسلم في الهلال شهادة بدوي (9/154)
باب ما جاء في شهادة أهل الذمة بالوصية في السفر (9/154)
1 - عن الشعبي " أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فاشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركه ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله ؟ ؟ ؟ ؟ فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما "
- رواه أبو داود والدارقطني بمعناه (9/155)
2 - وعن جبير بن نفير قال " دخلت على عائشة فقالت هل تفرأ سورة المائدة قلت نعم قالت فإنها آخر سورة أنزلت فما وجدتم فيها من حلال فاحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه "
- رواه أحمد (9/155)
3 - وعن ابن عباس قال " خرج رجل من بني سهم مع تميم الدارى وعدي ابن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدموا بتركه فقدوا جاما من فضة مخوصا بذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي بن بداء فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وابن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "
- رواه البخاري وأبو داود (9/155)
- حديث أبي موسى سكت عنه أبو دداود والمنذري قال الحافظ في الفتح أن رجال إسناده ثقات اه وسياقه عند أي داود قال حدثنا زياد بن أيوب يعني الطاوسي شيخ البخاري حددثنا هشيم أخبرنا زكريا يعني ابن أبي زائدة عن الشعبي وأثر عائشة رجاله في المسند رجال الصحيح وأخرجه أيضا الجحاكم قال في الفتح صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف أن سورة المائدة محكمة . وحديث ابن عباس قال البخاري في صحيحه وقال لي على المديني فذكره قال المنذري وهذه عادته فيما لم يكن على شرطه وقد لي على ابن المديني على هذا الحديث وقال لا أعرف ابن أبي القاسم وقال وهو حديث حسن اه وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم قال يحيى بن معين ثقة قد كتبت عنه وكذلك وثقة أبو حاتم وتوقف فيه البخاري وأخرج هذا الحديث الترمذي وقال حسن غريب وقد أشار في الفتح إلى مثل كلام المنذري فقال على قول البخاري وقا لي علي بن المديني وهذا مما يقوى مما قررته غير مرة أنه يعبر بقوله وقال لي في الأحاديث التي سمعها لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر أو حيث تكون موقوفة
وأما من زعم أنه يعبر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس عليه دليل
قوله : " بدقوقا " بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو بعدها قاف مقصورة وقد مدها بعضهم وهي بلد بين بغداد واربل
قوله : " من أهل الكتاب " يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن الرجل من خثعم ولفظه عن الشعبي توفي رجل من خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان نصرانيانز قوله " فاحلفهما " يقال في المتعدي أحلفته احلافا وحلفته بالتشديد تحليفا واستحلفته
قوله : " بعد العصر " هذا يدل على جواز التغليظ بزمان من الأزمنة
قوله : " ولا بدلا " بتشديد الدال
قوله : " من بني سهم " هو بديل بضم الموحدة وفتح الدال مصغرا وقيل بريل بالراء المهملة
قوله : " وعدى بن بداء " بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد
قوله : " فقدوا جاما " بالجيم وتخفيف الميم أي اناء
قوله : " مخوصا " بخاء معجمة وواو ثقيلة بعدها مهملة أي منقوشا فيه صفة الخوص . ووقع في رواية مخوضا بالضاد المعجمة أي مموها والأول أشهر
قوله " فقام رجلان " الخ وقع في رواية الكلبي فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم قال مقاتل بن سليمان هو المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي ولكنه سمي الأول عبد الله بن عمرو بن العاص واستدل بهذا الحديث على جواز رد اليمين على المدعى فيحلف ويستحق واستدل به ابن سريج الشافعي على الحكم بالشاهد واليمين وتكلف في انتزاعه فقال قوله تعالى { فإن عثر على انهما استحقا اثما " لا يخلو أما أن يقرا أو يشهد عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أوشاهد واحد قال وقد اجمعوا على أن الأقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالب وكذلك مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم يبق إلا شاهد واحد فلذلك استحقه الطالبان بيمينيهما مع الشاهد الواحد وتعقبه الحافظ بأن القصة وردت من طرق متعددة في سبب النزول وليس في شيء منها أنه كان هناك من يشهد بل في رواية الكلبي فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم ان يستحلفوه أي عديا بما يعظم على أهل دينه واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار
والمعنى منكم أن من أهل دينكم أو آخران من غيركم أي من غير أهل دينكم وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على المسلمين وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة الكافر على المسلم وبايمائها على قبول شهادة الكافر بطريق الأولى ثم دل الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فبقيت شهادة الكافر على الكافر على حالها وهذا الجواب على التعقب في غير محله لأن التعقب هو باعتبار ما يقوله أبو حنيفة لا باعتبار استدلاله وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ ومنهم ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والأوزاعي والثوري وأبو عبيدة وأحمد وأخذوا بظاهر الآية وحديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية وقيل المراد بالغير غير العشيرة والمعنى منكم أي من عشيرتكم أو أخران من غيركم أي من غير عشيرتكم وهو قول الحسن البصري واستدل له النحاس بأن لفظ آخر لا بد أن يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ أن يقول مررت برجل كريم ولئيم آخر فعلى هذا فقد وصف الأثنان بالعدالة فتعين أن يكون الآخران كذلك وتعقب بأن هذا وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل على خلاف ذلك والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع
قال في الفتح اتفاقا وأيضا ففيما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه لأن اتصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه وهو فرع قبول شهادته فمن قبلها وصفه بها ومن لا فلا واعترض أبو حبان على المنال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق فلو قلت جاءني رجل مسلم وآخر كافر صح بخلاف ما لو قلت جاءني رجل مسلم وكافر آخر والآية من قبيل الأول لا الثاني لأن قوله آخران من جنس قوله اثنان لأن كلا منهما صفة رجلان فكأنه قال فرجلان اثنان ورجلان آخران . وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق والكافر شر من الفاسق . وأجاب الأولون أن النسخ لا يثبت بالاحتمال وإن الجمع بين الدليلين أولى من ألغاء أحدهما وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وأنها محكمة كما تقدم وأخرج الطبري عن ابن عباس بإسناد رجاله ثقات أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عند أحد من المسلمين وأنكر أحمد على من قال أن هذه الآية منسوخة وقد صح عن أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك كما في حديث الباب وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين قالوا وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد بالله وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق قالوا فالمراد بالشهادة اليمين لقوله " فيقسمان بالله " أي يحلفان فإن عرف أنهما حلفا على الأثم رجعت اليمين على الأولياء وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولاعدالة بخلاف الشهادة . قد اشترط في القصة فقوى حملها على أنها شهادة وأما عتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياص والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعى لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه عن نظيره وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب وليس المراد بالحبس السجن وإنما المراد الأمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه السورة عند قيام الريبة وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور الوصيين فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا كما يشرع لمدعي القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعى لنفسه بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم وظهوره في صحة الدعوى بالمال وحكى الطبري أن بعضهم قال المراد بقوله " اثنان ذوا عدل منكم " الوصيان قال والمراد بقوله " شهادة بينكم " معنى الحضور بما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي وأما الكافر الذي ليس بذمي فقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادته على المسلم مطلقا (9/156)
باب الثناء على من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة (9/156)
1 - عن زيد بن خالد الجهني " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا اخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها "
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه
وفي لفظ " الذين يبدؤن بشهادتهم من غير أن يسئلوا عنها " رواه أحمد (9/156)
2 - وعن عمر أن بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنة قرنين أو ثلاثة ثن أن من بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن "
- متفق عليه (9/157)
3 - وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم والله أعلم اذكر الثالث أم لا قال ثم يحلف بقوم يشهدون قبل أن يستسهدوا "
- رواه أحمد ومسلم (9/157)
- قوله " ألا أخبركم بخير الشهداء " جمع شهيد كظرفاء جمع ظريف ويجمع أيضا على شهود . والمراد بخير الشهداء أكملهم في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابا عند الله
قوله : " قبل أن يسئلها " في رواية قبل أن يستشهد وهذه هي شهادة الحسبة فشاهدها خير الشهداء لأنه لو لم يظهرها لضاع حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد الشرع
وقيل أن ذلك في الأمانة والوديعة ليتيم لا يعلم مكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك
وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد فلا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال الجواد يعطي قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله
قوله : " خير أمتي قرني " قال في القاموس القرن يطلق من عشرة إلى مائة ووعشرين سنة ورجح الإطلاق على المائة وقال صاحب المطالع القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد
قال في النهاية القرن أهل كل زمان وهو مقدار المتوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم . قيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق من الزمان وهو مصدر قرن يقرن اه
قال الحافظ لم نر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل . والمراد بقرنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث هم الصحابة كما في حديث أبي هريرة المذكور بلفظ " الذي بعثت فيه " والمراد بالذين يلونهم التابعون والذين يلونهم تابعوا التابعين
وفيه دليل على أن الصحابة أفضل الأمة والتابعين أفضل من الذين بعدهم وتابعي التابعين أفضل ممن بعدهم . وثم أحاديث معارضة في الظاهر لهذا الحديث وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في باب ذكر من حلف قبل أن يستحلف وهو آخر أبواب الكتاب
قوله : " يخونون " بالخاء المعجمة مشتق من الخيانة . وزعم ابن حزم أنه وقع في نسة " يحربون " بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة قال فإن كان محفوظا فهو من قولهم حربة يحربه إذا أخذ مله وتركه بلا شيء ورجل محروب أي مسلوب المال
قوله : " ولا يؤتمنون " من الأمانة أي لا يثق بهم لخيانتهم
وقال النووي وقع في نسخ مسلم " ولا يتمنون " بتشديد الفوقية
قال غيره هو نظير قوله " يتزر " بالتشديد موضع يأتزر
قوله : " ويظهر فيهم السمن " يكسر المهملة وفتح الميم بهدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن
وقال ابن التين المراد ذم محبته وتعاصيه لا من يخلق كذلك
وقيل المراد يظهر فيهم كثرة المال
وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لم من الشرف
قال في القتح ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا
وقد ورد في لفظ من حديث عمران عند الترمذي بلفظ " ثم يجيء قوم متسمنون ويحبون السمن " قال الحافظ وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب وإنما كان ذلك مذموما لأن السمين غالبا يكون بليد الفهم ثقيلا عن العبادة كما هو مشهور
قوله : " ويشهدزن وولا يستشهدون " يحتمل أن يكون التحمل بدون تحميل أو الأداء بدون طلب
قال الحافظ والثاني أقرب وأحاديث الباب متعارضة فحديث زيد بن خالد الجهني يدل على استحباب شهادة الشاهد قبل أن يستشهد . وحديث عمران وأبي هريرة يدلان على كراهة ذلك
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم جنح إلى الترجيح فرجح ابن عبد البر حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على حديث عمران لكونه من رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران المذكور لا أصل له وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفرد مسلم بإخراج حديث زيد وذهب آخرون إلى الجمع فمنهم من قال أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لأنسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إلى وريته فيعلمهم بذلك قال الحافظ وهذا أحسن الأجوبة وبه أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما ثانيها أن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك ( وحاصله ) أن المراد بحديث زيد الشهادة في حقوق الله وبحديث عمران وأبي الإجابة إلى الأداء فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسئلها وهذه الأجوبة مبينة على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أنه لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادته ولا يعلم بها صاحبها وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد وتأولوا حديث عمران بتأويلات . أحدها أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم . ثانيها المراد بها الشهادة في الحلف يدل عليه ما في البخاري من حديث ابن مسعود بلفظ " كانوا يضربوننا على الشهادة " أي قول الرجل أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف واليمين قد تسمى شهادة كما تقدم وهذا جواب الطحاوي . ثالثها المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي . رابعها المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة . خامسها المراد مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح فلا يصار إلى الترجيح في أحاديث الباب وقد أمكن الجمع بهذه الأمور (9/157)
باب التشديد في شهادة الزور (9/158)
1 - عن أنس قال " ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور " (9/158)
2 - وعن أبي بكرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت "
- متفق عليهما (9/158)
3 - وعن ابن عمر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار "
- رواه ابن ماجه (9/159)
- حديث ابن عمر انفرد ابن ماجه بإخراجه كما في الجامع وغيره وسياق إسناده . في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن الفرات عن محارب ابن دثار عن ابن عمر فذكره ومحمد بن الفرات هو كوفي كذبه أحمد قال في التقريب كذبوه
قوله : " ذكر الكبائر أو سئل عنها " هذه رواية محمد بن جعفر ورواية في البخاري سئل عن الكبائر . ورواية أحمد أو ذكرها قال في الفتح وكأن المراد بالكبائر أكبرها لما في حديث أبي بكرة المذكور وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكره وقد ذكر الله الثلاث المذكورة في الحديث في آيتين الأولى { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } والثانية { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور }
قوله : " وكان متكئا فجلس " هذا يشعر باهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعا بل لكونه مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الاشراك فإن مفسدته مقصورة عليه غالبا وقول الزور أعم من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا على الأطلاق لزم أن تكون الكذبتة والواحدة كبيرة وليس كذلك قال ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى { ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريأ فقد احتمل بهتانا واثما مبينا } قوله حتى قلنا " حتى قلنا ليته سكت " أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة عليه ( وفي الحديث ) إنقسام الذنوب إلى كبير وأكبر وليس هذا موضع بسط الكلام على الكبائر وستأتي إشارة إلى طرف من ذلك في باب التشديد في اليمين الكاذبة ويؤخذ من الحديث ثبوت الصغائر لأن الكبائر بالنسبة إليها أكبر منها والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر الله ونهبه فالمخالفة بالنسبة إلى جلالة الله كبيرة لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع ويدل على ثبوت الصغائر قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم } فلا ريب أن السيآت المكفرة ههنا هي غير الكبائر المجتنبة لأنه لا يكفر إلا ذنب قد فعله المذنب لا ما كان مجتنبا من الذنوب فإنه لا معنى لتفكيره والكبائر المرادة في الآية مجتنبة فالسيآت المكفرة غيرها وليست إلا الصغائر لأنها المقابلة لها وكذلك يؤيد ثبوت الصغائر حديث تفكير الذنوب الوارد في الصلاة والوضوء مقيدا باجتناب الكبائر فثبت أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات ومنها ما لا يكفر وذلك عين المدعي . ولهذا قال الغزالي إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه . ثم أن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب تفاوت مفاسدها
قوله : " حتى يوجب الله له النار " في هذا وعيد شديد لشاهد الزور حيث أوجب الله له النار قبل أن ينتقل من مكانه . ولعل ذلك مع عدم التوبة . أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فالله يقبل التوبة عن عباده (9/159)
باب تعارض البينتين والدعوتين (9/159)
1 - عن أبي موسى " أن رجلين أدعيا بعيرا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين "
- رواه أبو داود (9/160)
2 - وعن أبي مزسى " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دابة ليست لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين "
- رواه الخمسة إلا الترمذي (9/160)
3 - وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف "
- رواه البخاري
وفي رواية " أن رجلين تدارآ في دابة ليست لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها " رواه أحمدد وأبو داود وابن ماجه
وفي رواية " تدارآ في بيع "
وفي رواية " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا كره الإثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها " رواه أحمد وأبو داود (9/160)
- حديث أبي موسى أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وذكر الخلاف فيه علي قتادة وقال هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة . ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه واختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى
وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال " أنبئت أن رجلين " قال البخاري قال سماك بن حرب أنا بردة بهذا الحديث . فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه وروا ه أبو كامل عن أبيه . ورواه أبو كامل مطهر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلا
قال حماد فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت به أبا بردة
وقال الدارقطني والبيهي والخطيب الصحيح أنه عن سماك مرسلا . ورواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة " أن رجلين أدعيا بعيرا فأقام فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقضى به صلى الله عليه وآله وسلم ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة فيه إسنادين في أحدهما حجاج بن أرطأ والراوي عنه سويد بن عبد العزيز
وفي الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء كذا قال الحافظ قال المنذري في مختصر السنن حاكيا عن النسائي أنه قال هذا خطأ . ومحمد بن كثير المصيصي هو صدوق إلا أنه كثير الخطأ . وذكر أنه خولف في إسناده ومتنه
قال المنذري ولم يخرج أبو داود لحديث أبي موسى ثلاثة أسانيد ليس في واحد منها محمد بن كثير . وحديث أبي هريرة أخرج الرواية الثانية عنه النسائي أيضا . والرواية الثاثة عزاها المنذري إلى البخاري
قوله : " فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين " فيه أنه لو تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم يكن بينهما بينة وكانت العين في يديهما فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف أو أقاما البينة كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم به الحاكم نصفين بينهما لاستوائهما في اليد . وكذا إذا لم يقيما بينة كما في الرواية الثانية . وكذا إذا حلفا أو نكلا
قال ابن رسلان يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الأول والثاني واحدة إلا أن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم . ويحتمل أن يكون أحدهما في عين كانت في يديهما . والآخر كانت العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في رواية للنسائي " إدعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما " قال وهذا أظهر لأن حمل الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد لأن القاعدة ترجيح ما فيه زيادة علم على غيره
قوله : " أحبا أو كرها " قال الخطابي الإكراه هنا لا يراد به حقيقته لأن الإنسان لا يكره على اليمين وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الإكراه أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى المحبة وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة وهو المراد بقوله فليستهما أي فليقترعا وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع إثنان عينا ليست في يد أحدهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها ويدل على ذلك الرواية الثانية من حديث أبي هريرة ويحتمل أن تكون قصة أخرى فيكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا ولا بينة للمدعي عليهم فتوجهت عليهم اليمين فسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع معتبرا إلا في بيان معنى الحديث أن القرعة في أيهما تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما وذلك أنه يحلف واحد ثم يحلف الآخر فإن لم يحلف الثاني بعد حلف الأول فقضى بالعين كلها للحالف أولا وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون العين بينهما كما كانت قبل أن يحلفا وهذا يشهد له الرواية الثالثة في حديث أبي هريرة المذكور في الباب وقد حمل ابن الأثير في جامع الأصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد القسمة وهو بعيد ويرده الرواية الثالثة فإنها بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين
قوله : " فليستهما عليها " وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم وقد طول أئمة الفقه الكلام على قسمة الشيء المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم مقربة لهم وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله واليمين عليه والبينة على خصمه وأما القرعة في تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية إن الحاكم يعين لليمين منهما نت ؟ ؟ شاء على ما يراه قال البرماوي لكن الذي ينبغي العمل به هو القرعة للحديث وقد قدمنا في كتاب الصلح في العمل بالقرعة كلاما مفيدا (9/161)
باب استحلاف المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع بينهما (9/161)
1 - عن الأشعث بن قيس قال " كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال شاهداك أو يمينه فقلت أنه إذا يحلف ولا يبالي فقال من حلف على يمين يقتطع بها من مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان "
- متفق عليه
واحتج به من لم ير الشاهد واليمين ومن رأى العهد يمينا
وفي لفظ " خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه قلت مالي بينة وإن يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان " رواه أحمد (9/161)
2 - وعن وائل بن حجر قال " جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا قد غلبني علي أرض كانت لأبي قال الكندي هي ارضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء قال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أدبر الرجل أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض "
- رواه مسلم والترمذي وصححه وهو حجة على عدم الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين (9/162)
- قوله كان بيني وبين رجل خصومة قد تقدم في كتاب الغصب أن الأشعث بن قيس قال إن رجلا م كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وقع في رواية أبي داود وذلك يقتضي أن الخصومة بين رجلين غيره ورواية حديث الباب تقتضي أنه أحد الخصمين ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة فإن في رواية لأبي داود في حديث الأشعث هذا بلفظ " كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها " ففي هذا تصريح بأن خصمه كان يهوديا بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه قال إن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت والكندي هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر والحضري هو ربيعة بن عبدان بكسر العين وكذلك حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين الكندي والحضري وهما المذكوران في حديث الأشعث المتقدم فلعل الرواية لقصة الكندي والحضري من طريق الأشعث ومن طريق وائل
وأما المخاصمة بين الأشعث وغريمه فقصة أخرى رواها الأشعث والله أعلم
قوله : " في بئر " في رواية أبي داود في أرض ولا امتناع أن يكون المجموع صحيحا فتارة ذكرت الأرض لأن البئر داخله فيها وتارة ذكرت البئر لأنها المقصودة
قوله : " يقتطع بها مال امرئ مسلم " التقييد بالمسلم ليس بأخراج غير المسلم بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون الخطاب معهم ويحتمل أن يكون العقوبة العظيمة مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازما في حق الكفار
قوله : " لقي الله وهو عليه غضبان " هذا وعيد شديد لأن غضب الله سبب لانتقامه وانتقامه بالنار فالغضب منه عز و جل يستلزم دخول المغضوب عليه بالنار ولهذا وقع عليه في رواية مسلم " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار " ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب التشديد في اليمين الكاذبة
قوله : " ليس يتورع من شيء " أصل الورع الكف عن الحرام والمضارع بمعنى النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس له ورع عن شيء قوله " ليس لك منه إلا ذلك " في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة ولا يلزمه التكفيل ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد ورد ما يخصص هذه الأمور عن عموم هذا النفي وقد تقدم بعض ذلك ولنذكر ههنا ما ورد في جواز الحبس لمن استحقه فاخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة قال الترمذي حسن وزاد هو والنسائي ثم خلى عنه وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولكنه قد روى هذا الحديث الحاكم وقال صحيح الإسناد وله شاهد من حديث أبي هريرة ثم أخرجه ولعله ما رواه ابن القاص بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس في تهمة يوما في وليلة استظهارا وطلبا لإظهار الحق بالاعتراف
وأخرج أبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال جيراني بما أخذوا فاعرض عنهم مرتين لكونه كلمه في حال الخطبة ثم ذكر شيئا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلوا له عن جيرانه فهذا يدل على أنهم كانوا محبوسين يدل أيضا على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم فإن تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من الحبس وكذلك يدل على الجواز حديث " مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته " لأن العقوبة مطلقة والحبس من جملة ما يصدق عليه المطلق وقد تقدم الحديث في كتاب التفليس وحكى أبو داود عن ابن المبارك أنه قال في تفسير الحديث يحل عرضه أي يغلظ عليه عقوبته يحبس له
وروى البيهقي أن عبدا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فحبسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى باع غنيمة له وفيه انقطاع وقد روي من طريق أخرى عن عبد الله بن مسعود مرفوعا وقد بوب البخاري في صحيحه فقال في الأبواب التي قبل كتاب اللقطة ما لفظه باب الربط والحبس في الحرم قال في الفتح كأنه أشار في هذا التبويب إلى رد ما نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة . وأورد البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحرث اشترى دارا للسجن بمكة وكان نافع عاملا لعمر على مكة
وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن محمد ابن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن سليمان عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحرث الخزاعي كان عاملا لعمر على مكة فابتاع له سجن عارم بمهملتين قال البخاري وسجن ابن الزبير بمكة انتهى ( والحاصل ) إن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الاعصار والأمصار من دون انكار وفيه من المصالح ما لا يخفى لولم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الاضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولاقصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح العباد والبلاد فهؤلاء إن تركوا وخلى بينهم وبين المسلمين بلغوا من الاضرار بهم إلى كل غاية وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره وقد أمرنا الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدون الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس
وقد استدل البخاري على جواز الرط بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في الصحيح (9/162)
باب استحلاف المدعي عليه في الأموال والدماء وغيرهما (9/162)
1 - عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين على المدعى عليه "
- متفق عليه
وفي رواية " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " . رواه أحمد ومسلم (9/163)
- قوله " قضى باليمين على المدعى عليه " اختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه
قال في الفتح والمشهور فيه تعريفان الأول أن المدعي من تخالف دعواه الظاهر والمدعى عليه بخلافه والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت . والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الردأ والتلف فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك فالقول قوله ( واستدل بالحديث ) على أن اليمين على المدعى عليه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحملوه على عمومه في حق كل أحد سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا . وعن مالك لا تتوجه اليمين الأعلى من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا وقريب من مذهب مالك قول الاصطخري من الشافعية ان قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه
قوله : " لو يعطي الناس " الخ هذا هو وجه الحكمة في جعل اليمين على المدعى عليه وقال جماعة من أهل العلم الحكمة في ذلك جانب المدعي ضعيف لأنه يقول بخلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعى وأما جانب المدعى عليه فهولأن الأصل فراغ ذمته فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة
وقد أخرج الحديث البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ البينة على المدعي واليمين على من أنكر . وزعم الأصيلي أن قوله البينة الخ ادراج في الحديث
وأخرج ابن حبان عن ابن عمر نحوه
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه
وأخرجه أيضا الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف . وظاهر أحاديث الباب إن اليمين على المنكر والبينة على المدعي ومن كانت اليمين عليه فالقول قوله مع يمينه ولكنه ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع فأخرج أبو داود والنسائي من حديث الأشعث سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان
وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال الترمذي هذا مرسل عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود انتهى
قال المنذري في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا يحتج به وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه فهو منقطع وقد روى هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود كلها لا تصح قال البيهقي وأصح إسناد روى في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب البيوع في باب ما جاء في اختلاف المتبايعين بما هو أبسط من هذا وبين أحاديث الباب وهذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه فيكون القول قوله من غير فرق بين كونه بائعا أم لا مالم يكن مدعيا فإن كان كذلك فعليه البينة فلا يكون القول قوله . وظاهر الأحاديث المتقدمة في كتاب البيع أن القول قول البائع وذلك يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط سواء كان مدعيا أو مدعى عليه وقد وقع التصريح باستحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع فمادة التعرض حيث كان البائع مدعيا والواجب في مثل ذلك الرجوع إلى الترجيح وأحاديث الباب أرجح فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن مدعيا ( فإن قيل ) الجمع ممكن يجعل الأحاديث الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث الباب فيبنى العام على الخاص ويكون القول قول البائع مطلقا سواء كان مدعيا أو مدعى عليه إذا كان التنازع بينه وبين المشتري وماعدا البائع فإن كان مدعيا فعليه البينة وإن كان مدعى عليه فالقول قوله مع يمينه قلت هذا متوقف على أمرين أحدهما إن أحاديث الباب أعم مطلقا من أحاديث اختلاف المتبايعين والثاني إن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها منتهضة لتخصيص أحاديث الباب وفي كلا الأمرين نظر أما الأول فلأن التخصيص إنما يكون بأخراج فرد من العام عن الأمر المحكوم به عليه والعام ههنا هو المدعى عليه والمحكوم به عليه هو وجوب اليمين عليه . وحديث اختلاف البيعين له صورتان أحداهما أن يكون البائع مدعى عليه والثانية أن يكون مدعيا والأولى موافقة للعام داخلة تحت حكمه غير مستثاة منه والثانية مخالفة للعام لأن العام هو باعتبار المدعى عليه وهذا مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له فلا يصح أن يقال بأنه مخصص له وإن كان التخصيص بالنسبة إلى عموم الأحاديث الدالة على وجوب البينة على المدعى . ووجه التخصيص أن يقال هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن لم يدعه القائل بالتخصيص ولكن حديث فالقول ما يقول البائع مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم في البيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالبائع أن يستحلف هو أعم من الأحاديث القاضية بوجوب البينة على المدعي من وجه لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى عليه فالأظهر العموم والخصوص من وجه لا مطلقا وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الأحاديث المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال (9/163)
باب التشديد في اليمين الكاذبة (9/163)
1 - عن أبي أمامة الحارثي " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمنيه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك "
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي (9/164)
2 - وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال الكبائر الاشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس "
- رواه أحمد والبخاري والنسائي (9/164)
3 - وعن عبد الله بن أنيس الجهني قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن من الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر فادخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة "
- رواه أحمد والترمذي (9/164)
- حديث عبد الله بن أنيس أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده وقال له شاهد من حديث عبد الله بن عمر
وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن
قوله : " وإن كان قضيبا من أراك " هذا مبالغة في القلة وإن استحقاق النار يكون بمجرد اليمين في اقتطاع الحق وإن كان شيئا يسيرا لا قيمة له
قوله : " الكبائر " الخ قد اختلف السلف في انقسام الذنوب إلى صغيرة وكبيرة فذهب إلى ذلك الجمهور ومنعهم جماعة منهم الاسفرايني ونقله ابن عباس وحكاه القاضي عياض عن المحققين ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية وقد تقدم قريبا وجه القولين وبيان الراجح منهما
قال الطيبي الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر يضافان إليه هو أحد ثلاثة أشياء الطاعة والمعصية والثواب . فأما الطاعة فكل ماتكفره الصلاة مثلا فهو من الصغائر وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أوعقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة
وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية انتهى
قال الحافظ وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب تخصيص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة وإن ورد الوعيد فيه والعقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد . فالصواب ما قاله الجمهور وإن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر
قال النووي واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذب
قال وجاء نحو هذا عن الحسن البصري
وقال أخرون هي ما أوعد الله عليه بنار في الأخرة أو أوجب فيه جزاء في الدنيا ( قلت ) وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى . ومن الشافعية الماوردي ولفظه الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد . والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به إلا أن فيه انقطاع
وأخرج من وجه أخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال ما توعد الله عليه بالنار كبيرة
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر منها قول إمام الحرمين كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة
وقال الحليمي كل محرم لعينه منهى عنه لمعنى في نفسه
وقال الرافعي هي ما أوجب الحد
وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة هذا ما أكثر ما يوجد للاصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى
وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبية لا حد فيه كالعقوق . وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة
وقال ابن عبد السلام في القواعد لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه اشعارا دون الكبائر المنصوص عليها
قال الحافظ وهو ضابط جيد
وقال القرطبي في المفهم الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو اشتد النكير عليه فهو كبيرة . وكلان ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد وعلى هذا يكثر عدد الكبائر . وهذا الكلام في غير ما قد ورد النص الصريح فيه أنه كبيرة أو من الكبائر أو أكبر الكبائر وقال الواحدي ما لم ينص الشارع على كونه فالحكمة في اخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم قوله " يمين صبر " أي ألزم بها حبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم إنما أطلق الصبر عليها وإن كان صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي حبس فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازا كذا في النهاية والنكتة الأثر (9/165)
باب الأكتفاء في اليمين بالحلف بالله وجواز تغليظها باللفظ والمكان والزمان (9/165)
1 - عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله "
- رواه ابن ماجه (9/165)
2 - وعن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل حلفه أحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء يعني المدعي "
- رواه أبو داود (9/166)
3 - وعن عكرمة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له يعني ابن صوريا أذكركم بالل الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل التوراة على موسى أتجدون في كتابكم الرجم قال ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن اكذبك وساق الحديث "
- رواه أبو داود (9/166)
4 - وعن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا أوجب الله له النار " (9/166)
5 - وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا يحلف أحد على منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار "
- رواهما أحمد وابن ماجه (9/167)
6 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا بزكيهم ولهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع الإمام لا يبايعه إلا للدنيا لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك "
- رواه الجماعة إلا الترمذي
وفي رواية " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقطتع بها مال امرئ مسلم ورجل منع فضل ماء فيقول الله له اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعلم يداك " رواه أحمد والبخاري (9/167)
- حديث ابن عمر قال ابن ماجه في سننه حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر فذكره ومحمد بن إسماعيل المذكور ثقة وبقية إسنلاده رجال الصحيح . وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وفيه مقال وقد أخرج له البخاري مقرونا بآخر وحديث عكرمة هو مرسل وقد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح ويؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال " قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني لليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى وفي إسناده مجهول لأن الزهري قال أخبرنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة . وحديث أبي هريرة الأول المذكورة في الباب أخرجه ايضا الحاكم في المستدرك . وحديث جابر أخرجه أيضا مالك وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كذا في الفتح ورجال إسناده عند ابن ماجه كلهم ثقات
وفي الباب عن أبي أمامة بن ثعلبة عند النسائي بإسناد رجاله ثقات رفعه من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا
قوله : " من حلف بالله " فيه دليل على أنه يكفي مجرد الحلف بالله تعالى من دون أن ينضم إليه وصف من أوصافه ومن دون تغليظ بزمان أو مكان
قوله : " قال له " يعني ابن صوريا بضم الصاد المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة ممدودا . أصل القصة أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا فقال أئتونب بأعلم رجل منكم فأتوه بابن صوريا
قوله : " وأنزل عليكم المن والسلوى " أكثر المفسرين على أن المن هو الترنجبين وهو شيء أبيض كالثلج والسلوى طير يقال السماني فيه دليل على جواز تغليظ اليمين على أهل الذمة فيقال لليهودي بمثل ما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن أراد الاختصار قال قل والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قال له قل والله الذي أنزل الأنجيل على عيسى
قوله : " ذكرتني " بتشديد الكاف المفتوحة
قوله : " أن أكذبك " بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة يعني فيما ذكرته لي
قوله : " عبد ولا أمة " أي ذكر وأنثى
قوله : " ولو على سواك رطب " إنما خص الرطب لأنه كثيرا الوجود لا يباع بالثمن وهو لا يكون كذلك إلا في مواطن نباته بخلاف اليابس فإنه قد يحمل من بلد إلى بلد فيباع
قوله : " ثلاثة لا يكلمهم الله " الخ فيه دليل على أن حالهم يوم القيامة حال المغضوب عليهم لأن هذه الأمور لا تكون إلا عند الغضب فهي كناية عن حلول العذاب بهم قوله " رجل على فضل ماء بالفلاة " قد تقدم الكلام على منع فضل الماء وحكم مانعه
قوله : " بعد العصر " خصه لمشرفه بسبب اجتماع مائكة الليل والنهار
قوله : " لقد أعطى بها " الخ قال في الفتح وقع مضبوطا بضم الهمزة وفتح الطاء على البناء للمجهول وفي بعضها بفتح الهمزة والطاء على البناء للفاعل والضمير للحالف وهي أرجح ومعنى لا خذها بكذا أي لقد أخذها وقد استدل بأحاديث الباب على جواز التغليض على الحالف بمكان معين كالحرم والمسجد ومنبره صلى الله عليه وآله وسلم وبالزمان كبعد العصر ويوم الجمعة ونحو ذلك وقد ذهب إلى هذا الجمهور كما حكاه صاحب الفتح . وذهبت الحنفية إلى عدم جواز التغليظ بذلك . وعليه دلت ترجمة البخاري فإنه قال في الصحيح ( باب يحلف المدعي عليه حيثما وجبت عليه اليمين ) وذهبت العترة إلى مثل ما ذهبت إليه الحنفية كما حكى ذلك عنهم صاحب البحر . وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك موضع اجتهاد للحاكم
وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على خصومهم في الأيمان بالحلف بين الركن والمقام وعلى منبره صلى الله عليه وآله وسلم . وورد عن بعضهم الامتناع من الإجابة إلى ذلك
وروى عن بعض الصحابة التحليف على المصحف . والحاصل أنه لم يكن في أحاديث الباب ما يدل على مطلوب القائل بجواز التغليظ لأن الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف على منبره صلى الله عليه وآله وسلم . وكذلك الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف بعد العصر لا تدل على أنها تجب إجابة الطالب للحلف في ذلك المكان أو ذلك الزمان
وقد علمنا صلى الله عليه وآله وسلم كيف اليمين فقال للرجل الذي حلفه " احلف بالله الذي لا إله إلا هو " كما في حديث ابن عباس
وقال في حديث ابن عمر المذكور في الباب " ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله " وهذا أمر منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرضا لمن حلف له بالله ووعيد لمن لم يرض بأنه ليس من الله ففيه أعظم دلالة على عدم وجور الإجابة إلى التغليظ بما ذكر وعدم جواز طلب ذلك ممن لا يساعد عليه
وقد كان الغالب من تحليفه صلى الله عليه وآله وسلم لغيره وحلفه هو الأقتصار على اسم الله مجردا عن الوصف كما في قوله " والله لا أحلف على شيء فأرى غيره خيرا منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " وكما في تحليفه صلى الله عليه وآله وسلم لركانة فإنه اقتصر على اسم الله . وتارة كان يحلف صلى الله عليه وآله وسلم فيقول " لا والذي نفسي بيده . لا ومقلب القلوب " وقال تعالى ( فيقسمان بالله ) ومن جملة ما استدل به البخاري على عدم وجوب التغليظ حديث " شاهداك أو يمينه " ووجه ذلك أن الذي أوجبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مطلق اليمين وهي تصدق على من حلف في أي زمان وأي مكان فمن بذلك لخصمه أن يحلف له حنث هو ولم يجبه إلى مكان مخصوص ولا إلى زمان مخصوص فقد بذل ما أوجبه عليه الشارف ولا يلزمه الزيادة على ذلك لأن الذي تعبد به هو اليمين على أي صفة كانت ولم يتعبد بأشد الأيمان جرما وأعظمها ذنبا . على أنه قد ورد في اليمين التي يقتطع بها حق امرئ مسلم من الوعيد ماليس عليه من مزيد كما في الباب الذي قيل هذا أنها من الكبائر ومن موجبات النار وليس في الحلف على منبره صلى الله عليه وآله وسلم وبعد العصر زيادة على هذا فالحق عدم وجوب إجابة الحالف لمن أراد تحليفه في زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو بألفاظ مخصوصة
وقد روى ابن رسلان أنهم لم يختلفوا في جواز التغليظ على الذمي فإن صح الإجماع فذاك عند من يقول بحجيته وإن لم يصح فغاية ما يجوز به هو ما ورد في حديث الباب وما يشابهه من التغليظ باللفظ وأما التغليظ بزمان معين أو مكان معين على أهل الذمة مثل أن يطلب منه أن يحلف في الكنائس أو نحوها فلا دليل على ذلك (9/167)
باب ذم من حلف قبل أن يستحلف (9/168)
1 - عن ابن عمر " قال خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس أني قمت فيكم كقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد . من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة . من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن "
- رواه أحمد والترمذي (9/168)
- قال الترمذي بعد اخراج هذا الحديث هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى
وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه
قوله : " أوصيكم بأصحابي " قد وقع الأختلاف فيمن يستحق إطلاق اسم الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم الأصطلاع
قوله : " الجابية " بالجيم قال في القاموس هو حوض ضخم والجماعة وقرية بدمشق وباب الجابية من أبوابها انتهى . والمراد هنا القرية
قوله : " ثم يفشو الكذب " رتب صلى الله عليه وآله وسلم فشو الكذب على انقراض الثالث . فالقرن الذي بعده ثم من بعده إلى القيامة قد فشا فيهم الكذب بهذا النص . فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن يبالغ في تعريف أحوال الشهادة والمخبرين وأن لا يجعل الأصل في ذلك الصدق لأن كل شهادة وكل خبر قد دخله الاحتمال ومع دخول الاحتمال يمتنع القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي دليل . وأقل الأحوال أنه ليس ممن يتجارأ على الكذب ويجازف في أقواله . ومن هذه الحيثية لم يقبل المجهول عند علماء المنقول لأن العدالة ملكة والملكات مسبوقة بالعدم فمن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه . وكذلك الكذب مانع فلا بد من تحقق عدمه كما تقرر في الأصول
وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وقد وعدنا أن نذكر ههنا طرقا من الكلام على ما ورد من معارضة الأحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران ابن حصين وحديث أبي هريرة أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر خيرا منهم وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد وقال ابن عبد البر إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم
وقد أخرج الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس مرفوعا " مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره " وأخرجه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن حبان من حديث عمار وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير بإسناد حسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليدركن المسيح أقواما أنهم لمثلكم أو خير ثلاثا ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها ولكنه مرسل لأن عبد الرحمن تابعي وأخرج الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمرو رفعه أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا يروني
وأخرج أحمد والدارمي والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك قال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني وقد صححه الحاكم وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه بدا الإسلام غيبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء
وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا يا رسول الله قال بل منكم وجمع الجمهور بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الصحبة وإن قصر في الأعمال وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور فحاصل هذا الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أعمالا منهم أو من بعضهم فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر فكان أفضل من هذه الحيثية ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحابة بلفظ " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " فإن هذا التفضيل باعتبار خصوص أجور الأعمال لا باعتبار فضيلة الصحبة ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال للعامل فيهن أجر خمسين رجلا ثم بين أن الخمسين من الصحابة وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الأعمال فاقتضى الأول أفضيلة الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا واقتضى الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة وفي بعض ألفاظ حديث ثعلبة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر أجر العامل فيهن أجر خمسين رجلا فقال بعض الصحابة منا يا رسول الله أو منهم فقال بل منكم فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور وقال النووي في حديث " أمتي كالمطر " أنه يشبته على الدين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير أي الزمانين أفضل قال وهذا الأشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وآله وسلم خير القرون ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري فحمله على هذا وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه ولمن بعده مزية لا يشاركه الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت عليه الشقاوة وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد لحالة مخصوصة كما يدل عليه لو أنفق أحدكم ومثل أحد الحديث . إلا أن هذه المزية للسابقين منهم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب وفيه قصة مذكورة في كتب الحديث فالذين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم فكان بين منزلة أول الصحابة وأخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبا من متأخيرهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغلبة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ومثل حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل وبانضمام أفضلية الأعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون ويكون قوله لا يدري خير أوله أم أخره باعتبار أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون أجر خمسين هذا باعتبار أجور الأعمال وأما باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقة باعتبار مجموع القرن لحديث خير القرون قرني فإذا اعتبرت كل قرن قرن ووازنت بين مجموع القرن الأول مثلا ثم الثاني ثم كذلك إلى إنقراض العالم فالصحابة خير القرون ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن أخر فإن قلت ظاهر الحديث المتقدم أن أبي عبيدة قال يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك فقال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولا يروني يقتضي تفضيل مجموع قرن هؤلاء على مجموع قرن الصحابة قلت ليس هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على المجموع وإن سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع ولا شك أن حديث خير القرون قرني ارجح من هذا الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في الصحيحين وكونه ثابتا من طرق وكونه متلقي بالقبول فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من غير نظر إلى الأعمال كما ظهر وجه الجمع باعتبار الأعمال على ما تقدم تقريره فلم يبق ههنا إشكال والله أعلم
قوله : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة لما جبل عليه من الميل إليها لما ركب فيه من شهوة النكاح وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل لذلك فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل واحد منهما إلى الآخر فتقع المعصية
قوله : " بحبوحة الجنة " قال في النهاية بحبوحة الدار وسطها يقال بحبح إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين والمراد أن لزوم الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة لأن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار كما ثبت في الحديث قوله " من سره حسنته " الخ فيه دليل على أن السرور لأجل الحسنة والحزن لأجل السيئة من خصال الإيمان لأن من ليس من أهل الإيمان لا يبالي أحسن أم أساء وأما من كان صحيح الإيمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم لعلمه بأنه مأخوذ بها محاسب عليها ولا يزال من حسنته في سرور لأنه يعلم أنها مدخرة له في صحائفه فلا يزال حريصا على ذلك حتى يوفقه الله عز و جل لحسن الخاتمة . وإلى هنا انتهى الشرح الموسوم بنيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار بعناية مؤلفة ( محمد بن علي بن محمد الشوكاني ) غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه وتقبل أعماله وأصلح أقواله وأفعاله وختم له بخير ودفع عنه كل بؤس وضير . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم (9/168)