نوازل الحج
دروس ألقاها
د/ عبد الله بن حمد السكاكر
ضمن الدورة العلمية الشاملة المقامة بجامع الراجحي ببريدة في شوال 1427هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينة ونستغفره ونستهدية ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد إلا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة حديثنا في هذه المجالس عن بعضِ النوازل في الحج وقبل أن نبدأ الحديث في النازلة الأولى من النوازل أحب أن أنبه عن أمرين :(1/1)
الأمر الأول هو أن النازلة في اصطلاح أهل العلم هي القضية الفقهية الحادثة التي لم تكن فيما سبق بحيث أنها تحتاج إلى اجتهاد جديد ونظر جديد وإعمال ذهن وتبيّن لحكم الله سبحانه وتعالى فيها وبموجب هذا التعريف للنازلة فإن ما سأطرحه في المجالس ليس بالضرورة مما ينطبق علية هذا التعريف فإن ثمة مسائل ليست من النوازل ولكنها تحتاج إلى إعادة نظر وتحتاج إلى إعادة بحث وتحتاج إلى اجتهادً وفق ما استجد في هذه الأزمنة فأنتم تعرفون أحوال الناس في الحج والمناسك والمشاعر قبل مئة سنة ومئتي سنه وأحوال الناس في الحج في هذه الأيام فما حصل من أحوال وظروف ومتغيراتً وسهولةً في وسائل الاتصال ووسائل النقل وما وسع الله سبحانه وتعالى به من الخيرات جعل الأعداد التي تتدفق لهذا البيت الحرام أعدادا يضيق عن استيعابها المسجد الحرام والحرم والمشاعر المقدسة والمناسك ولهذا كان لزاماً أن يعاد بحث هذه المسائل وفق هذه الظروف الجديدة ولهذا قد يقول قائل هذه ليست بنازلة هذه موجودة في كتب الفقه قبل ألف سنة أقول نعم لكنها بحثت في زمن ونحن الآن في زمن آخر وظروف أخرى وأحوال مستجدة فتحتاج إلى إعادة نظر وإلى تمعن وأنتم تعرفون على مدى ثلاثين وأربعين سنة أن أهل العلم تغيرت اجتهاداتهم في مسائل فقهية عما كانوا قبل مئةِ سنة أو ستين أو سبعين سنة فهذا التغير هو بسبب هذه الظروف وما سنبحثه من المسائل ربما يكون مثل هذه المسائل تحتاج إلى نظر جديد وفق الظروف الجديدة(1/2)
الأمر الثاني أيها الأخوة فهو أن المسائل التي تعد من النوازل والوقائع الجديدة ليست من السهولة بمكان بحيث أن أحد طلاب العلم يجلس فيها وينبري للإفتاء فيها والقطع وبيان حكم الله سبحانه وتعالى والتوقيع عنه بمفرده . لا . المسائل الجديدة تحتاج إلى إعمال نظر وإلى جهد من عدد كبير من طلاب العلم ومن العلماء ومن الفقهاء للنظر فيه والإنسان لاشك قليل بنفسه كثير بإخوانه وبأهل العلم وربما يخفى على العالم الكبير شيء يورده عليه أحد طلابه وهذا معروف . ولهذا فأني أقول إن ما سنبحثه إن شاء الله تعالى في هذه المجالس إنما هو من المباحثات ومن طرح المسائل العلمية بين طلاب العلم وأهل العلم وتداول النظر فيها و الاجتهاد ولا نزعم أن هذا إفتاء وقطع رأي فيها ولكننا ندلي فيها بدلونا وأهل العلم في كل مكان يبحثونها والمجامع الفقهية تبحث وهيئة كبار العلماء تبحث وطلبة العلم والأساتذة في الجامعات كلهم يشتغلون و يبحثون وفي النهاية تتبين هذه النازلة ويظهر فيها حكم الله سبحانه وتعالى الذي يوقع عنه عزوجل .
بعد هذه المقدمة نبدأ بالنازلة الأولى من هذه النوازل وهي :
النازلة الأولى : العجز عن الحصول على تصريح الحج .(1/3)
انتم تعرفون أيها الإخوة أن المشاعر المقدسة لها طاقة استيعابية محدودة وانتم تشاهدون الآن منى قد استغلت بالكامل ومزدلفة في ليلة جمع تمتلئ بالكامل وعرفات ليست منها ببعيد والمسجد الحرام في يوم الثاني عشر والثالث عشر لا يحتمل المزيد ومن أجل ذلك نظر الفقهاء والعلماء وولاة الأمر في تحديد نسب الحجيج في كل بلد إسلامي وإلا فإن الذين يرغبون تأدية الحج أضعاف هذه الأعداد عشرات المرات وكل الناس تهفو نفسه للوصول إلى بيت الله الحرام والوفود على الله عزوجل والطواف في بيته ولكن هذه هي طاقة هذه المشاعر وتلك الأماكن ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن هذا النسك وهذه الشعيرة وهذه الفريضة أن الله سبحانه وتعالى ربطها بالاستطاعة فقال عزوجل(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فهذا الركن وهذه الشعيرة إنما هي فيمن يطيق ويستطيع فانتم تعرفون في البلاد الإسلامية أنها حددت نسبة بنظر أهل العلم وبنظر أهل الحل والعقد والرأي نسبة معينة من كل بلد إسلامي فمثلاً إذا قلنا إن النسبة واحد بالمئة وكنت أنت مثلاً في مصر أو في نيجيريا أو في اندونيسيا أو في الباكستان أو في غيرها وترغب الحج وعندك القدرة المالية والبدنية على حج بيت الله الحرام ولكنك حينما تقدمت لطلب الحج فوجئت بأن التصريح لا يمكن أن يصل إليك إلا بعد عشر سنوات أو عشرين سنة فحينئذ ماذا نقول بالنسبة لك هل أنت معذور أمام الله عزوجل بحيث أن الإنسان لو مات ولم يحج بسبب عدم حصوله على التصريح أنه لايسأل أمام الله عزوجل ولا يجب أن يحج عنه من تركته وماله. أم أنه مؤاخذ و يجب أن يحج عنه من ماله وتركته . هذه هي المسائلة التي بين أيدينا هذه المسألة والتصريح كما تعرفون أنها حادثة وليست قديمة . لكن أهل العلم قبل ذلك بحثوا مسألة نظيرة هذه المسألة النظيرة هي . تخلية الطريق فقد بحث أهل العلم في شروط وجوب الحج مسألة تخلية الطريق هل هي شرط(1/4)
في وجوب الحج أم شرط للزوم أداء الحج . ومعنى تخليت الطريق يعني أن الطريق إلى بيت الله الحرام يكون متاحاً مفتوحاً سائغاً ليس هناك عدو يمنع أو سلطان يحول بين الإنسان وبين بيت الله الحرام هذا هو المقصود بتخلية الطريق فعدم الحصول على التصريح لاشك أنه من عدم تخلية الطريق فالطريق لم تكن خالية لمن لم يكن معه تصريح فإذا لم يكن معك تصريح لن تستطيع أن تسجل في الحج ولن تستطيع أن تركب الطائرة ولن تستطيع أن تدخل إلى المشاعر المقدسة ولا إلى هذه البلاد فاأهل العلم اختلفوا في مسألة تخلية الطريق على قولين:
ــ فمن أهل العلم من قال إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج. فما لم يكن الطريق خالياً من الموانع والأعداء الذين يمنعون فإن الحج لا يجب على هذا الإنسان ولو وجد مالاً ولو كان صحيحاً سليماً معافى فإذا كان الطريق غير مخلى ولم يحصل الإنسان على تصريح فإنه عاجز عن الحج ولذلك يقولون إن الحج غير واجب عليه . هذا هو القول الأول
ــ القول الثاني من أقوال أهل العلم يقولون إن تخلية الطريق ليست شرطاً في وجوب الحج لكنها شرط في لزوم الأداء . بمعنى أن الإنسان إذا كان قادر مالياً وبدنياً فإن الحج يجب عليه. لكن لا يجب عليه الأداء في الحال حتى يخلى بينه وبين الطريق ويستطيع .
والفرق بين القولين يا إخوة هو أن القول الأول الذي يقول إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج يقول إذا مات فإنه لا يحج عنه من تركته ولا يسأله الله سبحانه تعالى عن ذلك لأن الله عزوجل قال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). هذا الذي لم يخلى بينه وبين الطريق ومنع من الإتيان إلى المشاعر المقدسة وإلى بيت الله الحرام ولم يستطع الحصول على التصريح . هل استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلا؟ ما استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلا ولهذا لا يجب عليه الحج وإذا مات على هذه الحال فإنه لا يقضى عنه ولا يحجج عنه من تركته.(1/5)
أما الذين يقولون إنه شرط للأداء. فإنهم يقولون إنه لا يأثم ولكن الحج يبقى في ذمته فإذا مات يُخرج من تركته ويدفع لمن يحج عنه. فإذا مات يحجج عنه من تركته . لان الحج وجب عليه لكن سقط عنه الأداء في الحال لعدم القدرة على الوصول إلى بيت الله الحرام .
الذين قالوا إن الحج من شروط وجوبه تخلية الطريق هؤلاء استدلوا بظاهر قول الله سبحانه وتعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).وقالوا هذا لم يستطع إلى بيت الله الحرام سبيلا وبتالي فإنه عاجز فلا يجب عليه الحج .(1/6)
والذين قالوا إنه شرط للأداء وإذا مات على هذه الحال يحج عنه من تركته استدلوا على ما يقولون بأنه لما نزل قول الله سبحانه وتعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) . قال رجل يا رسول الله ما السبيل _ يعني ما السبيل في قول الله عزوجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)_ قال صلى الله علية وسلم الزاد والراحلة. فهؤلاء يقولون شروط الوجوب هي الزاد والراحلة فإذا وجدت وجب الحج و ماعدا ذلك فهي شروط أداء فإذا مات ولم توجد فإنه يخرج عنه من تركته. ولكن هذا القول يمكن مناقشة دليله فإن هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه وابن ماجه وهو حديث ضعيف عند أكثر أهل العلم بالحديث هذا الحديث ضعيف وممن ضعفه الحافظ الزيلعي وابن حجر والبيهقي والالباني _ رحمة الله تعالى عليهم جميعاً _ بل إن الالباني _ رحمه الله تعالى _ قال إن هذا الحديث ليس بحسن ولا ضعيف ضعفا ينجبر وإنما هو ضعيف جدا. وبالتالي فالاستدلال به لا يستقيم وإنما هو من الآثار المروية عن بعض التابعين كالحسن وغيره وإذا كان كذلك فإنه لا حجة فيه وبناء على هذا فالراجح إنشاء الله تعالى هو القول الأول بأن تصريح الحج شرط في وجوب الحج وبناء على هذا الترجيح الذي أختاره العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز _ رحمة الله تعالى عليه _ والعلامة الشيخ محمد العثيمين _ رحمة الله تعالى عليه _ بناء على هذا الترجيح فإننا نقول لعموم إخواننا المسلمين الذين تهفو نفوسهم وتتعلق أفئدتهم بهذا البيت العتيق ويجدون الزاد والراحلة ولكنهم لا يستطيعون الحصول على التصريح نقول لهم إن الله سبحانه وتعالى قد عذركم ولم يوجب عليكم الحج فمن حصل على التصريح بعد ذلك وجب عليه الحج ومن مات قبل أن يحصل على التصريح فإنه غير آثم عند الله سبحانه وتعالى وغير مسئول عن ذلك والله عزوجل ارحم من أن يكلف عباده ما لا يستطيعون .(1/7)
النازلة الثانية : هل جدة ميقات أو لا ؟
وهذه المسألة قد تكون نازلة باعتبار أن جدة لم تكن على عهد النبي _صلى الله علية وسلم_ كما هي الآن مدينة مأهولة وعامره وباعتبار أيضا أن الناس إلى عهد قريب كان كثير منهم يأتي إلى الحج عن طريق البر وحتى الذين يأتون عن طريق البحر كانوا ربما نزلوا عن طريق ينبع أو عن طريق الشعيبه وهذه كلها لا إشكال فالذي يأتي من ينبع يحرم من ذي الحليفة أو من الجحفة والذي يأتي من الشعيبه يحرم من يلملم. أما في هذه الأزمنة فأنتم تعرفون أن أكثر من نصف الحجاج يأتي عن طريق جدة إما عن طريق الطيران أو عن طريق البحر فبالنسبة إلى هؤلاء هل نقول لهم إن جدة ميقات بحيث أن الواحد منهم لا يحرم حتى يصل إلى جدة وينزل فيها ثم بعد ذلك يحرم أم نقول إن الإحرام واجب عليهم قبل أن يصلوا إلى جدة. قبل أن نبحث هذه المسألة يحسن بنا أن نحرر محل النزاع حتى نعرف ما هو متفق علية وما هو مختلف فيه من هذه المسألة. فنقول إن أهل العلم أجمعوا على أن أهل جدة والمقيمين في جدة وحتى الطارئين على جدة لكنهم ماأنشؤا نية النسك من حج أو عمرة إلا وهم في جدة أن هؤلاء جدة بالنسبة لهم ميقات فأهل جدة مثلاً إذا اراد الواحد منهم أن يعتمر فبإجماع أهل العلم أنه يحرم من بيته في جدة وحتى القادمين عليها من الآفاق افترض أن إنسانا من مصر وضيفته في جدة فسكن جدة فإنه إذا أراد أن يعتمر أو يحج يحرم من جدة. هذا يإجماع أهل العلم حتى غير المقيم فيها إذا جاء إليها ثم أنشأ النية في جدة فإن ميقاته جدة بإجماع أهل العلم .إذاً هؤلاء لا يدخلون في محل النزاع فجدة بالنسبة لهم ميقات بالإجماع .(1/8)
إذاً محل النزاع الذي نريد أن نبحثه أيها الاخوه هو من يأتي إلى جدة وهو في نيته أن يحج أو يعتمر قبل أن يصل إلى جدة كمن يسافر مثلاً من بريده إلى جدة وهو ينوي الحج أو العمرة أو يأتي من مصر أو يأتي من العراق أو من الباكستان أو من المغرب أو من أي بلد يأتي إلى جدة وهو من حين انشأ السفر ينوي الإحرام بالحج أو العمرة فهذا من أين يحرم وهل تعد جدة بالنسبة له ميقات أو لا ؟
الذي يأتي إلى جدة وهو في نيته الإحرام إذا مر فوق أحد المواقيت كأن يمر فوق قرن المنازل أو السيل الكبير الآن أو فوق ذي الحليفة أو فوق الجحفة أو فوق يلملم فإذا أحرم فوق الميقات أو من محاذات الميقات الذي يمر عليه فهذا لاشك أنه ابرأ لذمته واسلم له لانه يكون قد خرج من الخلاف
الذي يمر على ميقات من المواقيت في الجو أو في البر أوفي البحر فيحرم من الميقات الذي يمر عليه قبل أن يصل إلى جدة فإن هذا يخرج من خلاف أهل العلم ومن النزاع ويسلم من التأثم على قول بعض أهل العلم لكن نأتي إلى أحد رجلين إما شخص يأتي إلى جدة ولم يمر بميقات من المواقيت ولا بما يحاذيه أو انه مر بميقات ولكنه أراد أن يحرم من جدة. أفترض أن إنسانا خرج من عندنا من هنا من بريدة وهو يريد أن يذهب إلى العمرة وقال أنا اريد أن احرم من جدة فهل يجوز لي ذلك أم لا يجوز؟ هذه هي مسألتنا فهذا بالتأكيد أنه سيمر فوق ذي الحليفة أو قرن المنازل أو الجحفة لكنه يريد أن لا يحرم إلا من جده. فهل يجوز له أن يحرم من جدة أم لا ؟ أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على أربعة أقوال :(1/9)
# القول الأول : قالوا إن جدة ليست ميقاتا لاحد. ليست ميقاتا إلا لمن ذكرناهم في المسألة المجمع عليها قبل ذلك وهم أهلها والمقيمون فيها أو من لم ينو العمرة أو الحج إلا فيها. أما القادم عليها بنية العمرة فإنها ليست ميقاتا له وبالتالي فإن من تجاوز الميقات قبل أن يحرم فإنه آثم وهل عليه فدية أو لا ؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم ، واستدلوا بأن جدة لم يوقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست محاذية لأقرب المواقيت إليها فإن يلملم أقرب المواقيت إليها ويلملم تبعد عن مكة أكثر من تسعين كيلا وجدة لاتبعد أكثر من سبعين كيلا.
# القول الثاني : قالوا إن جدة ميقات لمن يأتي من جهة الغرب عنها وهم الذين يأتون من شمال السودان او من جنوب مصر فهؤلاء الذين يأتون من هذا الاتجاه يعني من جهة الغرب لا يمرون بميقات من المواقيت وبالتالي فإن جدة تعتبر ميقاتا لهم أما من عدا هؤلاء فليست ميقاتا لهُ وبالتالي إذا تجاوز الميقات ولم يحرم منه فإنه آثم .
# القول الثالث: قالوا إن جدة ميقات لمن قدم إليها عن طريق الجو أو عن طريق البحر أما من جاء عن طريق البر فليست ميقاتا له وإنما ميقاته ما قبلها من المواقيت أما الذي يأتي من البحر أو من الجو فجدة تعتبر ميقاتا له .هذا هو القول الثالث في هذه المسألة وحجة أصحابه أن جدة ليست محاذية ولكن لمشقة إحرام الناس في الطائرة والباخرة ولأن الحرج مرفوع فيجوز لهم الإحرام من جدة.(1/10)
# القول الرابع : يقول إن جدة ميقات فرعي لكل من أتى إليها من الجو أو البحر أو حتى من البر فهي ميقات فرعي وحينما نقول ميقات فرعي لأن المواقيت التي وقتها النبي _صلى الله عليه وسلم_ معروفه أربعة وزاد عمر _رضي الله عنه_ خامسا وما عدا ذلك فهو ميقات فرعي كما سنبينه الآن . هذا هو القول الرابع في هذه المسألة وهو أوسع هذه الأقوال أن جدة ميقات لكل من أتى إليها . لو أردنا أيها الإخوة أن نستعرض أدلة كل قول من هذه الأقوال لطال بنا المقام واتسع ولكننا سننظر في هذه المسألة باعتبار أن ملايين من المسلمين يأتون إلى جدة عن طريق البحر أو عن طريق الجو وهؤلاء منهم الجاهل ومنهم من له أحد يفتيه ومنهم من لم يعلم حتى وصل.فهؤلاء إذا جاؤا إلى جدة واحرمُوا منها أو قيل لهم لا تحرمُوا إلا من جدة أو وصلوا إلى جدة وقيل لهم ليست ميقاتا أو نحو ذلك.هؤلاء ما حكمهم؟ الذين يقولون بأن جدة ميقات لكل من اتى إليها عن طريق البر أو البحر أو الجو هؤلاء قالوا إن جدة تعتبر محاذية لميقات يلملم وإذا كانت محاذية لهذا الميقات فإنها تكون ميقاتا فرعيا فمن أتى إليها فإنها ميقاته لان النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " فمن أتى عليها من غير أهلها أصبحت ميقاتا له وقبل أن نتبين هل جدة فعلاً محاذية ليلملم نتبين بعض الأمور أولها ما معنى المحاذاة ؟ المحاذاة هي التي وردت في حديث عمربن الخطاب _رضي الله عنه_ في صحيح البخاري فإن أهل العراق لما فتح العراق جاؤا إلى عمر_رضي الله عنه_ فقالوا يا أمير المؤمنين إن قرناً جور عن طريقنا _ يعني قرن المنازل الذي هو السيل الكبير الآن بعيد عن طريقنا ويشق علينا وإن ذهبنا إليه شق علينا _ فقال عمر _رضي الله تعالى عنه_ أنظروا ُ حذوهُ من طريقكم _ يعني أنظرواُ ما يحاذي قرن المنازل من طريقكم _ ثم وقت لهم رضي الله تعالى عنه ذات عرق. وذات عرق تقع تقريباً إلى جهة الشمال من قرن(1/11)
المنازل على طريق الحاج العراقي قديماً. أخذ من ذلك أهل العلم أن كل إنسان يأتي إلى الحرم من طريق لا تمر بإحدى النقاط التي وقتها الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وهي ذو الحليفة والجحفة ويلملم وقرن المنازل أن كل من أتى من غير هذه الطرق أنه يحرم إذا حاذى أقرب هذه المواقيت.
فما معنى المحاذاة ؟ كثير من الناس يتبادر إلى ذهنه أن المحاذاة هي أن الإنسان يخط خطوطا بين المواقيت الأربعة ثم إذا وصل إلى هذا الخط يعتبر محاذيا للميقات الذي يليه ويكون هذا محل إحرامه والحقيقة أن المحاذاة ليست بهذا المفهوم فالمحاذاة عند عامة أهل العلم هي أن الإنسان إذا أتى من طريق لا يمر على ميقات من المواقيت التي وقتها رسول _صلى الله عليه وسلم_ فإنه ينظر إلى أقرب ميقات من المواقيت التي وقتها رسول _صلى الله علية وسلم_ إليه فإذا كان مثلا أقربها ذو الحليفة ينتقل إلى الخطوة التالية وهي أنه ينظر كم المسافة بين الميقات القريب وهو ذو الحليفة وبين الحرم فإذا كان في نقطة بينه وبين الحرم مثلها فإن هذا هو ميقاته فإذا قلنا مثلاً ان ذا الحليفة بينه وبين مكة أربعمائة كم فجاء إنسان مثلاً من جهة مهد الذهب قلنا أقرب المواقيت إليك ما هو ؟ قال أقرب المواقيت ألي هو ذو الحليفة نقول له أنظر إذا كنت في نقطة بينك وبين مكة أربع مئة كيلو فهذا هو ميقاتك هذا هو معنى المحاذاة. المحاذاة كما قلت لكم أن تنظر إلى أقرب المواقيت الأصلية التي وقتها النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث إليك فتنظر المسافة بين هذا الميقات وبين مكة فإذا كنت أنت في مكان بينك وبين مكة مثل المسافة التي بين هذا الميقات وبين مكة فأنت حينئذ في المحاذاة فلو نظرت مثلاً إلى ذات عرق لوجدت أن المسافة التي بينها وبين قرن المنازل أقرب من المسافة التي بينها وبين ذي الحليفة إذاً هي محاذية لقرن المنازل. ثم تنظر المسافة بين قرن المنازل ومكة هي نفس المسافة التي بين ذات عرق وبين مكة هذا(1/12)
معنى المحاذاة نرجع الآن إلى جدة . فنقول العملية الأولى ما هي أقرب المواقيت إلى جدة ؟ جدة بين ميقاتين بين الجحفة وبين يلملم . الجحفة ميقات أهل الشام ومصر ويلملم ميقات أهل اليمن. فجدة بين هذين الميقاتين لكنها كما هو معروف أقرب إلى يلملم وإذن إذا أردنا أن ننظر هل تكون جدة محاذية ليلملم نقول يجب أن ننظر كم المسافة التي تكون بين يلملم وبين مكة فإذا كانت المسافة بين جدة وبين مكة هي نفس المسافة قلنا أن جدة ميقات . يلملم في موقع الميقات الموجود الآن الذي يسمى السعدية أو الذي على طريق الساحل المسافة بينه وبين الحرم مسافة كبيرة المسافة بحدود ست وتسعين كيلو متر(96كم) وجدة بينها وبين مكة ما يصل إلى ستين (60) أو خمسة وستين كيلو متر (65كم) إذن كيف قال أصحاب هذا القول إن جدة ميقات وأنها محاذية ليلملم . أقول لكم أولاً ما هي يلملم ؟ ثبت كما في الصحيحين أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقت لأهل اليمن يلملم فما هي يلملم ؟ أختلف أهل العلم في يلملم . قد رجعت إلى كثير من كتب البلدان والأماكن والبقاع واللغة فوجدت أن من أهل اللغة من يقول أن يلملم جبل ومنهم من يقول إنها وادي . والذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن يلملم جبل ووادي جميعا ولهذا تجد بعض أهل العلم يقول إنها جبل وبعضهم يقول إنها وادي والذين قالوا إنها وادي كثيرون من أهل العلم فقد ذكر ذلك في معجم البلدان وفي كتاب ألف حديثا تكلم عن المواقع التي وردت في السيرة كلهم قالوا يلملم عبارة عن وادي فإذا نظرنا إلى هذا الوادي الذي هو يلملم نجد أن هذا الوادي تمتد أصوله وأعاليه من أعلى جبال تهامة أعلى جبال السر وات فهو في أعلاه يكون تقريباً على شكل سبعة له أصلان احدهما ينحدر تقريباً من منطقة الشفا بالطائف والثانية تقع شمالا عنها بحدود عشرة كيلو مترات في بلاد هذيل ثم ينزل هذا الوادي ثم يجتمع هذان الواديان في وادي واحد فيمر في يلملم التي كانت ميقاتًا(1/13)
عصورًا طويلة ثم تقريباً بحدود الأربع مئة والألف هجرية خرج طريق الساحل مما يلي الليث والشعيبة تقريباً وكان قريبا من الساحل فنقل الميقات أو انتقل الناس وبدؤا يحرمون من مسجد أقيم على هذا الطريق في أسفل هذا الوادي. الوادي هذا ينطلق تقريباً من الشمال الشرقي ويتجه إلى الجنوب الغربي بهذا الشكل ولهذا حتى الذين نقلو الميقات من موقعه الأول إلى موقعه الجديد على الطريق الساحلي نظروا إلى الوادي فإنك لو تأملت الميقات الجديد ابعد من الميقات القديم فلو كانت في المحاذاة لوضعوه في موضع تكون المسافة واحدة لكنهم نظروا إلى الوادي فالوادي ينزل حتى يقطع الطريق الجديد طريق الساحل فجعلوا الميقات على تقاطع طريق الساحل مع هذا الوادي . وهذا الوادي ممتد كأن النبي _النبي صلى الله عليه وسلم_ جعله ميقاتا لكل من أتى من أهل اليمن عن طريق تهامة إن أتى من أسفل فهو من طريق الساحل الآن أو من أعلا فمن الذي كان الناس يحرمون منه سابقا ومن أتى من أعلا فإنه يحرم من أصول هذا الوادي ومن أعاليه. فهذا الوادي الذي هو يلملم لاشك أنه أقرب المواقيت إلى جدة فإذا نظرنا إلى أعالي هذا الوادي كما قلت لكم أعلا هذا الوادي واديان أحدهما قريب من منطقة الشفا بالطائف وهذه المنطقة التي هي طرف الوادي من هنا بينها وبين مكة بحدود ستين كيلو متر(60كم) وإذا أتينا إلى الفرع الشمالي منه الذي في بلاد هذيل فإن المسافة بينه وبين الحرم لا تزيد على خمسين كيلو متر(50كم) فأهل العلم الذين قالوا بأن جدة ميقات وأنها محاذية ليلملم نظروا إلى أقرب نقطة من يلملم وقاسوا المسافة بينها وبين الحرم ثم نظروا إلى المسافة بين جدة وبين الحرم فوجدُوا أن المسافتين متساويتان بل إن أوسط جدة وغرب جدة أبعد من أصول و أعالي وادي يلملم عن الحرم وبناء على ذلك قالوا إنها تعدُ محاذية ليلملم وبالتالي فإنها ميقات من المواقيت. إذا قلنا إنها ميقات من المواقيت وهذا القول هو الذي(1/14)
يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى أنها ميقات فرعي لمحاذاتها لوادي يلملم في أعاليه . فننتقل إلى مسألتين هما آخر المسألة .
* المسألة الأولى هي : إذا قلنا أن جدة ميقات فرعي. فالذي يأتي من جهة البحر مثلاً من السودان أومن مصر أو نحو ذلك. يأتي إلى جدة هذا لا إشكال فيه لان هذا الميقات هو أول ميقات يصل إليه فحينئذ يحرم منه ولا خلاف بين من يقول هذا القول في انه قد احرم من الميقات وانه ليس عليه شيء أمام الله سبحانه وتعالى وانه احرم من الميقات الفرعي المقيس على الميقات الذي وقته رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لكن الإشكال هو في أمثالنا مثلاً من يأتي مثلاً من القصيم أو من الرياض أو من الشام أو من اليمن فيأتي عن طريق الطائرة مثلاً أو عن طريق السيارة فيتجاوز قرن المنازل ويذهب إلى جدة أو يتجاوز ذا الحليفة أو يتجاوز الجحفة ويذهب إلى جدة ويقول لن احرم إلا من جدة فما حكم هذا؟ أهل العلم يبحثون هذه المسألة في مسألة حكم تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. يعني افترض أنك أنت من أهل المدينة وأردت أنك تعتمر وقلت لن احرم من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة وسأذهب إلى الجحفة فتعتمر من هناك ما حكم هذا عند أهل العلم ؟ المسألة فيها قولان عند أهل العلم : أكثر أهل العلم يقولون لا يجوز أن يتجاوز الإنسان ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وهذا يقول به كثير من أهل العلم وعلى هذا من يذهب من هنا على الطائرة لا يجوز له أن يحرم من جدة بل يجب عليه أن يحرم إذا حاذى السيل أو حاذى ذا الحليفة أو حاذى الجحفة ولا يجوز له أن يتجاوز ذلك إلى الميقات الآخر وهو جدة هذا هو القول الأول . واستدلوا لذلك بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ _ عن هذه المواقيت _" هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" فإن من يأتي على أي ميقات من المواقيت سواء كان من أهله أو من غير أهله فأنه لا يجوز له أن يتجاوز إلا بإحرام . ومن أهل العلم وهو منسوب إلى الإمام مالك وأبي(1/15)
حنيفة و أبي ثور وهو قبل ذلك مروي عن عائشة _رضي الله عنها_ من يقول أنه يجوز تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. فإنه قد ذكر أهل العلم أن عائشة _رضي الله عنها _كانت مقيمه في المدينة فكانت إذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة وإذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة فإذا أرادت أن تعتمر فلا شك أنها تجاوزت ذا الحليفة إلى الجحفه وثبت أيضا في الصحيحين من حديث أبي قتادة _رضي الله عنه_ أنه خرج مع المسلمين عام الحديبية فالمسلمون أحرموا من ذي الحليفة وأبو قتادة _رضي الله تعالى عنه_ ما احرم من ذي الحليفة فالموفق ابن قدامة يقول إنه أحرم من الجحفة فيكون أبو قتادة _رضي الله تعالى عنه_ أيضاً مثل عائشة تجاوز ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وأيضا يمكن أن يُستدل لأ صحاب هذا القول بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_" هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" فإذا أتيت إلى جدة وإن كانت جدة ليست ميقاتا لك إلا أنك إذا أتيت من جهتها تصبح ميقاتا لك والذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن هذا القول هو الراجح .لأنه بالنظر إلى هذه المواقيت نلاحظ أن هذه المواقيت جعلها الله سبحانه وتعالى حرمة للبيت الحرام تعظيم لهذا البيت فإن الله عز وجل جعل لبيته الحرام وللكعبة المشرفة ثلاث حرمات "حرمة المسجد وحرمة الحرم وحرمة المواقيت"فأنت لو وضعت نقاطا على كل منطقة سواء كانت ميقاتًا أصليًا أو فرعيا لوجدت أنها تحيط بالحرم من كل جوانبه فهي كما إذا أتيت هذا المسجد فإذا دخلت مع هذا الباب وتريد أن تخرج مع هذا الباب ثم ترجع مرة أُخرى هل نقول صل تحية المسجد الآن أم إذا رجعت . نقول صل تحية المسجد إذا أردت أن تجلس ولو مررت بالمسجد. فنحن نقول لمن دخل في حدود المواقيت ثم خرج أنه لم يرد الحج والعمرة في هذا الدخول وبالتالي فأنه لا يجب عليه الإحرام حتى يدخله مرة أُخرى بنيةً الحج أو العمرة تمامًا كما لو أن إنسانا ذهب من هنا وهو يريد أن يمر بالمدينة ويصطاف(1/16)
بالطائف لمدة أسبوع ثم يرجع ويعتمر ومن حين خرج من هنا وهو يريد العمرة لكنه ما أرادها في الدخول الأول دخل حدود المواقيت ثم خرج ثم يريد أن يرجع مرة أُخرى فهذا والعلم عند الله سبحانه وتعالى يجوز أن يتجاوز الميقات الأول إلى الميقات الثاني لأنه لا يعتبر مُخلاً بهذا البيت أن دخل وخرج ولا شك أن تأثيم ملايين المسلمين ليس من مقاصد الدين ولا من أهداف الشريعة فمادام أن الأمر يحتمل وأن المسألة ليس فيها تجاوز لكتاب الله ولا لسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ تجاوزً صريحا وأن هذا له مسوغ من كلام أهل العلم فانه لا معنى أن نذهب للقول الأشد أو حتى الأحوط لان الأحوط أحياناً يكون فيه حرج على مئات الملايين من المسلمين الذين يأتون في كل عام للحج والعمرة .(1/17)
* المسألة الثانية هي : هل جدة كلها ميقات أم لا ؟ تعرفون أن جزءا كبيرا من الحجاج الآن ينزل في مطار الملك عبد العزيز فهل نقول أن مطار الملك عبد العزيز ميقات ؟ وجزء كبير ينزل في ميناء جدة الإسلامي .مدينة جدة واسعة جداً وطويلة تمتد على البحر ما يقرب من سبعين كيلو متر وبناء على هذا القول الذي أراه والعلم عند الله سبحانه وتعالى راجحا فإن جدة ليست كلها ميقاتا فمطار الملك عبد العزيز ليس ميقاتا ولا يجوز لمن ذهب إلى جدة أن يحرم من المطار. لأنه بالنظر إلى مطار جدة نجد أن بينه وبين الجحفة أقرب من المسافة بينه وبين يلملم وقد قلنا في المحاذاة أن المحاذاة أن تنظر إلى أقرب الميقاتين إليك فبالنسبة إلى شمال جدة والمطار فإن الجحفة أقرب من يلملم وبالتالي لا تكون محاذية حتى تكون المسافة بينها وبين الحرم كالمسافة بين الجحفة وبين الحرم وإذا فبناء على هذا القول الذي يعتبر ميقاتا هو وسط وجنوب جدة هذا هو الذي يعتبر ويعد ميقاتا بناء على هذا القول فالميناء الإسلامي و أوسط جدة وجنوب جدة وغرب جدة هذا كله يعد ميقاتا. وقبل أن اختم هذه المسألة فإني أقول إن هذه المسألة من المسائل الكبيرة والهامة والتي تعم بها البلوى والتي وردت فيها فتاوى كثيرة ودرسها مجمع الفقه الإسلامي وبحثها غير واحد من أهل العلم وطلابه ومن أحسن من بحث هذه المسألة هو الشيخ عدنان العرعور _حفظة الله تعالى_ في كتاب أو رسالة سماها (أدلة إثبات أن جدة ميقات ) لكنيِ أقول إن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث والذي أراه و أشير به وأدعو إليه هو أن الجهات المختصة وولاة الأمر يكلفون عددا من طلبة العلم ممن يرى هذا الرأي ويرى أن جدة ميقات ويكلفون معهم عددا من المختصين بعلم الجغرافيا والذين عندهم القدرة والخبرة على قراءة الخرائط وقراءة الصور الجوية وأن يجتمع هؤلاء ثم يبحثوا هذه المسألة بحثا شرعيا وينزلونها على الواقع ويضعون المعالم لما يعد من جدة ميقاتا(1/18)
ومالا يعد منها ميقاتا ثم تعرض هذه المسألة وهذا البحث على هيئة كبار العلماء للنظر فيه فإذا أقر فإنه ينزل على الواقع وتوضع علامات في جدة للمواقيت وأيضا يستحسن أن يوضع في جدة كما وضع في سائر المواقيت مسجدا يكون علامة على الميقات بحيث أن الناس يحرمون منه من أتى من طريق المطار أو من البحر أو من غيرة فيكون هذا معلما وميقاتا مثل المساجد التي أقامتها الدولة بارك الله فيها في بقية المواقيت هذا مايسر الله سبحانه وتعالى وفتح به في هذة المسألة أسأل الله سبحانه وتعالى السداد والتوفيق .
فهذا هو المجلس الثاني من المجالس التي تعقد من الدورة المباركة للحديث عن بعض نوازل الحج وكنا تكلمنا في المجلس السابق عن نازلتين.....
وفي هذا اليوم نتحدث عما ييسره الله من هذه النوازل
النازلة الثالثة : الإحرام بالإزار المخيط أو ما يسمى في اللغة بالنقبة
الإزار المخيط هو ما ظهر في هذا الوقت وأفتى به مجموعه من أهل العلم وطلابه وهو الإزار الذي يخاط جانباه ويوضع في أعلاه تكة إما من خيط أو مطاط أو سير أو نحو ذلك و في اللغة يسمى النقبة وهو يشبه تماماً ما تلبسه النساء في هذا الزمن ويسمى التنورة فهذا هو الإزار الذي نريد أن نتحدث عنه.
ما حكم لبس هذا الإزار بالنسبة للمحرم من الرجال ؟ أولاً قبل الحديث عن حكم هذه النازلة أو هذا الإزار نريد أن نتحدث عن بعض الأمور التي هي مقدمة وتوطئه حتى نصل إلى حكم لبس هذا الإزار.(1/19)
فأولاً ماذا يلبس المحرم ؟ فقد ورد في السنة عدد من الأحاديث كلها تتحدث عما يلبسه المحرم في إحرامه ففي الصحيحين عن ابن عمر_رضي الله تعالى عنهما _ أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ في بعض الروايات أنه كان في المدينة فسأله سائل فقال يا رسول الله ما يلبس المحرم ؟ فقال النبي_صلى الله عليه وسلم_ لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف . في هذا الحديث سأل هذا الرجل عما يلبسه المحرم فأجاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ بما لا يلبسه المحرم . قال ابن حجر وهذا قمة في البلاغة والجزالة فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما علم أن الممنوع محدود والمباح مطلق أعرض عما سأل عنه السائل وبين المحصور المحدود فقال " لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات ولا ثوب مسه ورس أو زعفران ....الحديث". فهذا هو الحديث الأول في مسألة ما يلبسه المحرم .
الحديث الثاني هو ما في الصحيحين أيضا من حديث يعلى بن أمية _رضي الله تعالى عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان في الجعرانة في مرجعه من الطائف فجاءه إعرابي فقال :يا رسول الله ما تقول في رجل أحرم في جبة وتضمخ بطيب _ يعني تلطخ بطيب _ فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_ أما الطيب فاغسله ثلاثا وأما الجبة فانزعها. فا أمره النبي _صلى الله عليه وسلم أن ينزع الجبة.(1/20)
الحديث الثالث الذي ورد في مسألة ما يلبسه المحرم حال إحرامه هو ما رواه البخاري من حديث ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال وهو يخطب بعرفات ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين . ففي هذا الحديث أخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ ورخص لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويلات وبالمناسبة السراويل هذا هو المفرد لا على ما هو شائع في لهجتنا أنهم يسمونه السروال لا. في اللغة العربية المفرد السراويل من خلال هذه الأحاديث الثلاثة قال أهل العلم أن المحرم ممنوع من لبس ما يفصل على قدر الأعضاء وعبر بعض الأئمة عما يفصل على قدر الأعضاء بالمخيط فقالوا لا يلبس المحرم المخيط ومقصودهم بالمخيط ليس ما يخاط بالإبرة أو بالمكينة أو نحو ذلك لا وإنما قصدهم بالمخيط مايخاط ويفصل على قدر أعضاء البدن كالفنيلة والسراويل والثوب ونحوها وهذه اللفظة لم ترد في السنة لا في حديث ابن عمر ولا حديث يعلى ولا حديث ابن عباس ولا في شيء من كتب الحديث كما أعلم .فالتعبير بأن المحرم لا يلبس المخيط إنما ورد عن بعض السلف فانتشر وتداولته كتب الفقه وتناقله الفقهاء بعضهم عن بعض و من خلال هذا النقل التبس هذا الأمر على كثير من الناس فظن أن المقصود بالمخيط هو ما يخاط في الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك . وهذا ليس مقصودا للفقهاء على الإطلاق فإنه بإجماع أهل العلم لو أن الإنسان عنده إزار ثم شق هذا الإزار فخاطه ثم لبسه أن ذلك جائز بإجماع أهل العلم . فليس المقصود بالمخيط هو الذي جرت به الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك وإنما المقصود بالمخيط هو ما يخاط ويفصل على قدر الأعضاء كما قلت لكم مثل الفنيلة والثوب والمشلح والبنطال والسراويل ...الخ . هذا هو المقصود بالمخيط في لغة الفقهاء. ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسألة التي نحن بصددها وهي حكم لبس الإزار المخيط الذي وضع في أعلاء هذه التكة أو الربطة(1/21)
وبعض الناس وضع له جيب يوضع فيه المال أو الجوال أو نحو ذلك . حكم لبس هذا الإزار ؟ قبل أن ننتقل إلى الحكم أحب أن أبين أن اختلاف أهل العلم المعاصرين في حكم لبس هذا الإزار أو هذه النقبة له سببان :
السبب الأول : هو أنه اختلفوا في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه يعني من الحقوين أو من الإزار أو من السرة. والذين اختلفوا في الإزار اختلفوا فيما يلبسه المحرم على أسفل بدنه هل هو محدود أو غير محدود فمن أهل العلم من قال إن ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه غير محدود فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث ابن عمر _رضي الله تعالى عنهما لما سئل ما يلبس المحرم أعرض عن سؤال السائل وانتقل إلى ما يلبس قال كثير من أهل العلو كالحافظ ابن حجر وغيره قالوا إن هذا النكتة البلاغية هي أن ما يلبسه المحرم مطلق واسع لا حد له إنما الممنوع هو المقيد فترك النبي _صلى الله عليه وسلم _ المطلق الواسع غير محصور لأنه لا مطمع في حده ولا حصره وانتقل إلى ما يمنع منه فذكره وهو السراويلات .فما لا يلبس على أسفل البدن هو السراويلات فهؤلاء قالوا إن الممنوع محدود وهو السراويلات وما كان في حكمها وأما المباح المسموح فإنه غير محدود
فيلبس المحرم إزارا أو غيره مما شاء المهم أن لا يكون من السراويل ولا ما في حكمها . هذا هو القول الأول .(1/22)
القول الثاني . الذين قالوا إن هذا الإزار الذي قد خيط طرفاه ووضع فيه تُكة إنه لا يجوز. قالوا العكس من ذلك قالوا إن المباح في السنة لبسه على أسفل بدن المحرم محدود فقد حدده النبي _صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال وهو بعرفة ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل فقالوا هذا دليل على أن المباح فقط هو الإزار وبالتالي فإنه لا يجوز أن يلبس على أسفل البدن إلا الإزار وما كان في حكمه .واضح هذا الخلاف القول الأول :يقول المحرم والممنوع محدود والمباح واسع . والقول الثاني: يقول بل المباح هو المحدود والممنوع واسع فالمباح فقط هو الإزار وما في حكمه . والحقيقة أن الذي يظهر لي رجحانه والله سبحانه وتعالى أعلم هو القول الأول فإن الممنوع هو المحدود والمباح مطلق فالممنوع هو السراويلات وما كان في حكمها .والدليل على أن هذا القول هو الراجح هو أن حديث ابن عمر _رضي الله تعالى عنهما_ الذي سئل فيه النبي _صلى الله عليه وسلم _ عما يلبس المحرم فأجاب بأنه لا يلبس القمص و لا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات أن هذا بالمدينة قبل أن يتلبس الناس في النسك .قاله النبي _صلى الله عليه وسلم_ لهم قبل أن يحرموا أما حديث ابن عباس _رضي الله عنه_ قي قول النبي _صلى الله عليه وسلم _ ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات فهذا قاله النبي _صلى الله عليه وسلم _ وهو بعرفات . وانتم تعرفون أن الحاج في عرفات إما أن يكون متمتعاً فيكون قد أحرم مرتين أحرم بالعمرة ثم تحلل ثم أحرم بالحج وإما أن يكون مفردا أو قارنا ويكون قد أحرم منذ أيام وأهل العلم يقولون إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فلو قلنا بأن المباح هو الإزار فقط وما كان في حكمه فمعنى ذلك أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أخر البيان حتى أحرم المتمتع مرتين وأحرم المفرد والقارن منذ أيام ولكن يحمل حديث ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما _ في عرفات(1/23)
على أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أراد أن يرخص للناس من شق عليه أن يجد ما يلبسه أو يتزر به أن يلبس السراويل لان من عجز عن لبس الإزار جاز له أن يلبس السراويل. فهذا هو الذي يظهر لي رجحانه بهذا التعليل. هذا هو السبب الأول من الخلاف في هذه المسألة وهو الخلاف في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه هل هو محدود أو مطلق ؟
السبب الثاني من أسباب الخلاف في المسألة هو اختلاف أهل العلم المعاصرين في هذا الإزار الذي نتكلم عنه المخيط في جوانبه والذي عقد بتكة في أعلاه . اختلافهم هل هو مما يشبه المباح فنقول مباح أو يشبه المحرم فنقول محرم ؟ فالذين قالوا إنه مباح قالوا يشبه المباحات . والذين قالوا إنه محرم قالوا إنه يشبه المحرم والممنوع وهو السراويل . والحقيقة أن هذا السؤال قد صغته لكم كما هو في كثير من البحوث التي بحثها طلاب العلم في هذا الزمان فإنهم يقارنون هذا الإزار أو هذا اللباس الذي يسمى النقبة يقارنونه بالإزار أو السراويل فمن شبهه بالإزار أو قال إن لا يزال يسمى إزارا قال إنه مباح . ومن قال إنه يشبه السراويل قال إنه محرم. والذي يظهر لي أن هذا السؤال يجب أن يصاغ بطريقة أُخرى . فإننا رجحنا في المسألة السابقة أن المحرّم محدود وهوالسراويل وما في حكمها والمباح مطلق ولهذا من يقول إنه مباح لا يحتاج أن يقيم الدليل على أنه إزار أو على أنه يسمى في اللغة إزارا سمي إزارا أو لم يسم إزارا المهم أن لا يشبه الممنوع . ولهذا ينبغي أن نصوغ هذا السؤال بصيغة أُخرى فنقول : هذا الإزار الذي يسمى لغةً بالنقبة هل يشبه الممنوع وهو السراويل أو لا يشبهها ؟ فإن أشبهها فهو ممنوع وإن لم يشبهها فإنه مباح . سمي إزارً أو لم يسم كان شبيها بالإزار أو ليس بشبيه لأن المباح مطلق. والذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن هذا اللباس لا يشبه السراويلات التي منعها النبي _صلى الله عليه وسلم_ فإننا لو تأملنا في جميع الألبسة التي منعها(1/24)
النبي_صلى الله عليه وسلم_ كالبرانس والقمص والسراويلات والجبة لوجدنا أنها كلها تجتمع في صفة واحدة هي أنها فصلت على قدر الأعضاء وحينما تتأمل هذا الإزار تجد وتلاحظ أنه ليس من هذا القبيل. وبناء على ذلك نقول والعلم عند الله سبحانه وتعالى أن هذا الإزار يجوز لبسه لأنه ليس مما نص النبي _صلى الله عليه وسلم_على تحريمه ولا يشبهه وقد كانت عائشة_رضي الله تعالى عنها_ تذهب إلى الحج وإلى العمرة فكان غلمانها إذا أرادو أن يحملوا هودجها على البعير أو ينزلوه ربما بدا منهم شيء من عوراتهم فأمرتهم عائشة _رضي الله عنها_ أن يلبسوا تحت الإزار شيئا يقال له التُبان . والتبان هذا بإختصار شديد هو الإزار المنتشر في هذا الزمن إلا أنه قصير إلى حدود أنصاف الفخذين _ يعني هو مثل السراويل القصيرة إلى نصف الفخذ لكنه لا أكمام له وإنما له تكة في أعلاه_ فكانت عائشة _رضي الله عنها _ تأمر غلمانها بأن يلبسوا هذا التُبان تحت أزرِهم ليسترُ عوراتِهم . فالذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن الممنوع هو السراويل وما في حكمها وان هذا الإزار لا يشبه السراويل وبتالي فإنه يجوز لبسه سواءً سمي إزارا أو لم يسم .
بعض الباحثين وبعض طلبة العلم يقول إن هذا خرج عن مسمى الإزار وإن كتب اللغة لا تسمي هذا إزارا ونحن نقول إن المباح مطلق ولم يحدد بالإزار فالمباح سواء كان إزارً أو غير إزار المهم ألا يكون سراويل ولا ما في معناها هذا هو الذي ظهر لي رجحانه في هذا المسألة والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
النازلة الرابعة : لبس الكمامات حال الإحرام .(1/25)
والكمامات هي ما يوضع على الأنف والفم من قطن أو قماش أو نحو ذلك ليمنع دخول الدخان والغبار والروائح الكريهة وغيرها وقد أنتشر استعماله في هذه الأزمنة في أوقات الحج بسبب كثرة السيارات وعوادمها والغبار وغير ذلك فأصبح كثير من الناس خاصة رجال الأمن والذين يكثر وجودهم في الشوارع أصبحوا يلبسونها بكثرة فما حكم لبس هذه الكمامات على الوجه ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال ونبين حكم لبس هذه الكمامات لا بد أن نجيب على سؤالين :
السؤال الأول هو هل الكمامات من جنس ما نهي عنه من الألبسة في حال الإحرام ؟ قد ذكرنا في المسألة السابقة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ نهى عن القمص والسراويلات والعمائم والبرانس ونهى عن الجبة كما في مجموع الأحاديث. حديث ابن عباس وحديث يعلى وابن عمر _ رضي الله تعالى عنهم أجمعين_ وقلنا إن أهل العلم قالوا إن هذه الأحاديث بمجملها تدل على إن المحرم ممنوع مما فصل على قدر الأعضاء. فهل الكمام الذي يوضع على والوجه من قماش أو نحوه يأخذ حكم هذه الألبسة مثل الفنيلة التي فصلت على قدر الجسم واليدين أو مثل السراويل الذي فصل على قدر الرجلين أو مثل القميص أو نحو ذلك. هذا الكمام لم يفصل على قدر الأعضاء خاصة ما يكون منه على شكل قماش فإن هذا إنما يوضع على الفم ويربط خلف العنق فهذا لم يفصل على قدر أعضاء الوجه . وبتالي فإننا نقول إن الكمامات ليست من الألبسة التي نص النبي _صلى الله عليه وسلم _ على تحريمها ولا من جنس هذه الألبسة التي نص النبي_صلى الله عليه وسلم _ على تحريمها هذا هو جواب السؤال الأول. نأتي إلى سؤال أخر يتعلق بهذه المسألة فإذا لم تكن من المخيط فهل يجوز لبسها ؟ لا بد أن نجيب على(1/26)
السؤال الثاني الذي يقول هل المحرم ممنوع من تغطية وجهه ؟ انتم تعرفون أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه وتغطية الرأس لا يشترط فيها أن يكون ما يوضع على الرأس مما يلبس عادةً فإذا غطى الإنسان رأسه بطاقية أو عمامة أو برنس أو نحو ذلك فإن ذلك كله ممنوع فهل المحرم ممنوع من تغطية وجهه أيضا لأننا إذا قلنا أن المحرم ممنوع من تغطية وجهه فالكمام تغطية وجه فإنه يكون حينئذ ممنوعا من لبس الكمامات ؟ للجواب على هذا السؤال أقول روا الجماعة عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ من حديث ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما _أن رجلاً كان واقفا بعرفات فوقع عن راحلته فمات فقال النبي _صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تُحنطوه ولا تُخمروا رأسهُ ـــ ما هي العلة ؟ ـــ قال النبي _صلى الله عليه وسلم _ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا إذا العلة فيما أمر به النبي _صلى الله عليه وسلم_ وما نهى عنه في حق هذا المحرم الذي مات هوانه يبعث يوم القيامة ملبيا إذاً هو وإن مات إلا أنه لا يزال باقيا على إحرامه .فالنبي _صلى الله عليه وسلم _قال ولا تخمروا رأسهُ ــ ومعنى لا تخمروا رأسه أي لا تغطوه ومنه الخمار لغطاء الرأس ـــ ولا تخمروا رأسه هذه رواية الجماعة . لكن ورد في رواية عند مسلم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال ولا تخمروا رأسه ولا وجهه . وهذه الرواية أيها الإخوة هي التي من خلال ثبوتها وعدمه يمكن أن نجيب على هذا السؤال . فنقول هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أو لا ؟ . هذه الزيادة التي رواها مسلم في صحيحة أختلف أهل العلم فيها . فذهب جماعة من أهل العلم كالإمام البيهقي والحاكم وابن حجر وجماعة من أهل العلم إلى أن هذه الزيادة غير محفوظة وأنها شاذة حتى وإن وردت في صحيح الإمام مسلم فإن من رواها من الثقات خالفوا من هو أوثق منهم وبتالي فإنها شاذة معلولة لا تصح ولا يصلح الاحتجاج بها . وذهب فريق أخر من أهل العلم إلى أن هذه(1/27)
الرواية التي وردت في صحيح مسلم زيادة مقبولة محفوظة وأظن أن ممن قال بذلك الإمام النووي _رحمه الله تعالى_ كما في شرحهِ لصحيح مسلم فإنه ما أنكر هذه الرواية أو هذه الزيادة وممن أيضا قال أنها محفوظة وصححها الشيخ الألباني فإنه حكم عليها بالصحة فهذه الزيادة هي مدار الخلاف فإذا رجحنا ما ذهب إليه البيهقي والحاكم وابن حجر من أنها شاذة غير محفوظة فإننا نقول إن الحديث الصحيح هو ولا تخمروا رأسه ويبقى الوجه على الأصل . فيكون مما يباح ويجوز تغطيتهُ وإذا رجحنا ما ذهب إليه النووي _رحمه الله تعالى _والألباني عليه رحمة الله فإننا نقول لا يجوز تغطية الوجه . وبناء على ذلك أختلف أهل العلم في تغطية الوجه . فذهب أبو حنيفة ومالك _عليهما رحمة الله _ إلى أن المحرم ممنوع من تغطية وجهه وهو قول ابن عمر _رضي الله تعالى عنهما_ .(1/28)
وذهب جمهور أهل العلم وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان _رضي الله تعالى عنه_ وعن جابر وعن جمع من فقهاء التابعين مثل عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي وغيرهم . ذهبوا إلى أن المحرم يجوز له أن يغطي وجهه وعثمان _رضي الله عنه_ توفي له ولد وهو محرم فغطى وجهه وكفنه ولم يغط رأسه. وأيضاً روا ابن أبي شيبة أن عثمان _رضي الله عنه_ خمر وجهه بقطيفة وهو محرم والذي يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى هو أن هذه الزيادة وقد سألت بعض طلبة العلم المعاصرين المتخصصين في علم الحديث فقال إن هذه الزيادة الراجح فيها أنها شاذة غير محفوظة وبالتالي لا تثبت فيبقى الوجه على الأصل وحينئذ نقول إن المحرم غير ممنوع من تغطية وجهه إذا أجبنا على هذين السؤالين فقلنا إن الكمام الذي يوضع على الوجه ليس من جنس المخيط الذي نهى عنه النبي _صلى الله عليه وسلم _ وان المحرم غير ممنوع من تغطية وجهه فإننا نقول حينئذ إنه لا بأس على المحرم أن يلبس الكمامات التي توضع على الأنف والفم للوقاية من الغبار والدخان ونحو ذلك . وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى .والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
النازلة الخامسة: استعمال المنظفات المعطرة للمحرم .
أنواع الصابون الموجود في السوق والشامبوهات ونحوها أكثرها يكون معطراً حتى أنه يكتب عليه صابون معطر معطر بالورد معطر بالياسمين إلى أخره . فما الحكم بالنسبة للمحرم هل يجوز له أن يستعمل هذه المنظفات في رأسه أو في يديه أو في جسمه أو نحو ذلك حال إحرامه ؟ وقبل أن نتحدث عن حكم استعمال هذه المنظفات نريد أن نقدم لذلك بأمور.(1/29)
أولها:أن المحرم ممنوع من استعمال الطيب وقد وردت في ذلك أحاديث عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمن ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين الذي مر معنا وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال ولا ثوب مسه ورس أو زعفران .ـــ والزعفران نوع من أنواع الطيب يوضع مع الطيب والخلوق ونحو ذلك . ومن ذلك حديث يعلى بن أمية في الصحيحين الذي مر معنا قبل قليل أيضا وفيه أن ذلك الأعرابي قال يا رسول الله ما تقول في رجلا أحرم في جبه وتضمخ بطيب فقال النبي _صلى الله عليه وسلم أما الطيب فأغسله ثلاثا. ومن الأحاديث الدالة على أن المحرم ممنوع من الطيب حديث ابن عباس في الصحيحين في قصة الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفات فإن النبي _صلى الله عليه وسلم قال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا . فقوله ولا تحنطوه يعني لا تضعوا فيه الحنوط . والحنوط هو أخلاط من الطيب توضع على أجزاء الميت ومنافذه ونحو ذلك. فأمر النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن يجنب الحنوط وعلل ذلك _صلى الله عليه وسلم_ بأنه يبعث يوم القيامة ملبيا فمن خلال هذه الأحاديث قال أهل العلم أن المحرم ممنوع من الطيب. وهذا كله بعد الإحرام أما قبل الإحرام فإن من السنة كما هو معروف أن يتطيب الإنسان في بدنه لا في ثوبه فإن عائشة _رضي الله عنها _ تقول كنت أطيب رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وكانت تقول _رضي الله عنها_كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ . متفق عليه(1/30)
يعني المسك الذي يذر ترى لمعانه على مفارق النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وعلى شعر رأسه فقبل الإحرام يسن أن يتطيب الإنسان في بدنه حتى لو بقي الطيب إلى ما بعد الإحرام لكن الممنوع هو أن يتطيب الإنسان بعد الإحرام بطيب سواء في بدنه أو في ثوبه لمجموع هذه الأحاديث. الأمر الثاني الذي ينبغي أن نشير إليه قبل أن نصل إلى مسألتنا هو . هل المحرم ممنوع حال إحرامه من كل رائحة طيبة ؟ أو أنه ممنوع من الطيب الذي يتخذه الناس طيبا ؟ الأصل أن المحرم يباح له كل شيء ولا يمنع إلا بما وردت الأدلة بمنعه منهُ هذا هو الأصل . فالأدلة وردت بمنع المحرم من أشياء معينه من الطيب فالنبي _صلى الله عليه وسلم _ نهى عن ثوب مسه الزعفران وقال لمن تضمخ بطيب اغسله ثلاثاً وقال في الميت المحرم ولا تُحنطوه وهذه كلها مما يتخذها الناس طيباً وعطراً فنتوقف عند النصوص ولا نتجاوزها نقول إن المحرم ممنوع من الطيب الذي يتخذه الناس طيباً. وليس ممنوعا من كل رائحة طيبة لا يتخذها الناس طيباً. فا انتم تعرفون مثلاً أن النعناع رائحته طيبه والريحان رائحته طيبة والفواكه رائحتها طبية والأترج رائحته طيبه أشياء كثيرة جداً لها راحة طيبة من المأكولات والمشروبات وغيرها لها روائح طيبة فالمحرم ليس ممنوعا من كل رائحة طيبة إنما هو ممنوع بموجب هذه الأحاديث من الطيب الذي يتخذه الناس طيباً . إذاً الآن عرفنا أن المحرم ممنوع من الطيب وليس ممنوعا من الروائح الطيبة التي لا تعد طيباً ولا يتخذها الناس طيبا.
الأمر الثالث الذي نريد أن نتحدث عنه قبل أن نصل إلى المسألة التي نحن بصددها هو.(1/31)
الحكمة من تحريم الطيب على المحرم ؟ ما هي الحكمة التي من أجلها حرم الشارع الطيب على المحرم ؟ الحكمة والله سبحانه وتعالى أعلم كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم هي أن الطيب من دواعي النكاح والمحرم ممنوع من النكاح ودواعيه. فإن الله سبحانه وتعالى يقول {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }. قال أهل العلم الرفث هو النكاح ومقدماته . كل ما يدعوا إلى النكاح فإنه من الرفث لو جلس اثنان يتكلمان في حال الإحرام في أمر النساء قلنا قد رفثتما . الحديث في شأن النساء رفث لو أن إنسان مس زوجته حال الإحرام بشهوة قلنا هذا من الرفث. لو قبلها قلنا هذا من الرفث فا الطيب من دواعي النكاح ولهذا نقول إنه من الرفث ومما يدل على أن هذه هي الحكمة و الله سبحانه وتعالى أعلم أن المرأة تمنع من المرور على الرجال إذا تطيبت كقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _" أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ " رواه مسلم فالمرأة إذا تطيبت منعت من المرور أو القرب من الرجال لأن هذا مما يدعو أو يفتن الرجال بها . فالطيب في حال الإحرام هو مما يدعو للنكاح ويذكر به ويهيج الشهوة ويجعل الإنسان أقرب إلى طلب المتعة واللذة والحياة الدنيا والإنسان في حال الحج مأمور بالانقطاع عن كل ما يدعوه إلى الدنيا وبالإقبال على الله سبحانه وتعالى ومن المعروف أن من أعظم دواعي الدنيا وشهواتها النساء ومن أجل ذلك فإن الجماع هو أعظم محظورات الإحرام ولا يبطل الحج و العمرة محظور من المحظورات إلا الجماع . لان الجماع يخالف تماماً حال العبودية التي ينبغي أن يكون عليها الحاج في أثناء التلبس بالنسك كما أن الإنسان في(1/32)
حال الصلاة إذا ضحك قلنا بطلت صلاته . لماذا ؟ لأن الضحك ينافي ماينبغي أن يكون عليه المصلي تماما . فالمصلي مأمور بأن يكون خاشعاً مقبلاً على الله عز وجل متصلاً به فإذا ضحك قلنا إن هذا أبعد ما يكون عن هذه الحالة فحينئذ تبطل صلاته فالجماع في حال الحج هو من أعظم الشهوات التي تجعل الحاج أبعد ما يكون عن حال المتلبس بالنسك ومن أجل ذلك حرم الجماع وحرمت دواعيه ومن دواعيه الطيب.
بعد ذلك نرجع إلى حكم هذه المسألة وهي حكم استعمال المنظفات المعطرة ؟ فنقول المنظفات المعطرة تنقسم إلى قسمين :القسم الأول : منظفات معطرة بروائح طيبه ولكن هذه الروائح ليست مما يتخذه الناس طيباً مثل الصابون بنكهة الليمون أو التفاح أو السفرجل أو النعناع مثلاً هذه كلها روائح طيبة لكن هل الإنسان يذهب إلى دكان العُطُور ويقول أُريد عطراً برائحة التفاح أو طيبا برائحة الليمون هذا ليس مما يتخذه الناس طيباً فالمنظفات التي تكون رائحتها من الروائح الطيبة الزكية ولكنها ليست مما يتخذ طيباً. ـــ كما قلت لكم في الفواكه والنعناع والليمون ونحو ذلك أو حتى بعض الروائح المصنعة المهم أنها ليست مما يتخذه الناس طيباً .فهذه لابأس باستعمالها فقد قلنا قبل قليل أن المحرم ليس ممنوعا من الروائح الطيبة التي لا تعد من العُطُورات ولا من الطيب إنما هو ممنوع فقط عن الطيب والعطور التي وردت في السنة أو ما في حكمها أما الروائح الطيبة التي لا تسمى طيباً فإنه غير ممنوع منها وبتالي فإننا نقول لا بأس باستعمال الشامبو أو الصابون المعطر بالليمون أو التفاح أو بالفواكه أو بالرائحة الأصلية مثلاً أو ببعض الروائح المركبة المهم أنها ليست من العطورات نقول هذا لابأس به .(1/33)
القسم الثاني : الصابون أو المنظفات المعطرة بروائح عطريه مما يتخذه الناس طيباً وعطرا . هناك صابون برائحة الورد و عند محل العطورات دهن الورد هذا من أغلى العطورات .إذن معنى هذا أن هذا الصابون قد عطر بما يتخذه الناس طيباً أو تجد صابونا معطرا برائحة العود أو برائحة الياسمين أو برائحة المسك هذه كلها عطورات يذهب الإنسان إلى محل العطورات ويقول له أعطني عوداً أعطني بخوراً أعطني مسكًا أعطني عنبرا أعطني وردا هذه كلها عطورات فالمنظفات التي عطرت بهذا النوع من الروائح الطيبة إذا قلنا إن المحرم ممنوع من الطيب وإن الطيب حرم على المحرم لأنه من دواعي النكاح . فأي فرق بين أن الإنسان يأخذ شيئا من دهن الورد ويضعه في إزاره أو في لحيته وبين أن يأخذ صابونا أو منظفا من المنظفات برائحة الورد فيغسل يديه ثم يظل هذا الورد يعبق من يديه لمدة ساعة أو ساعتين أو أكثر. هل الأنف يفرق بين الطيب الذي اشتري من بائع المسك وبين الطيب الذي جاء عن طريق المنظف أو الصابون . إن القول بأن هذه المنظفات أنها ليست مما يتخذ طيباً وبتالي يجوز اتخاذها لا شك أن هذه والعلم عند الله ظاهرية بعيدة فإن الحكمة التي من اجلها منع الطيب موجودة فيما أخذته من الطيب فوضعته في لحيتك أو في إزارك أو في هذا الصابون أو المنظف أو الشامبو الذي تضعه في شعرك أو في بدنك فيضل جسمك ينتعش ويعبق وكل ما مررت من عند أُناس شمُوا رائحة الطيب أنت أحيانا يمر بك إنسان فتشم منه رائحة الطيب ما تدري هذا الإنسان هل تطيب بالمسك أو بالعنبر أو بالورد أو بالعود أو أنه استعمل صابونا أو منظفا أو شامبوا معطراً _ احد منكم يفرق ؟. مايفرق , إذن هل نقول أن الطيب يحرم على المحرم والمنظفات هذه تجوز للمحرم ؟ لان الإنسان ما يذهب إلى محل العطورات ويقول أعطني صابونا . نقول لا ليس بشرط أن يكون الإنسان يتعطر بالصابون لكن ما في الصابون هذا يتخذه الناس عطراً . ولا شك أن هذا يحصل فيه(1/34)
ما يحصل في الطيب من النشوة والرغبة في النكاح وتذكر الحياة الزوجية والمرأة ونحو ذلك . والمحرم ممنوع من ذلك ولهذا أقول والعلم عند الله سبحانه وتعالى إن المحرم ممنوع من هذه المنظفات بهذه الروائح وهذا القول هو الذي رجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين _ رحمه الله تعالى _ وأنا انقل لكم الآن نص كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه فإنه قال في إحدى خطبه :" فلا يجوز للمحرم أن يدّهن بالطيب ويتبخر به ويضعه في أكله أو شرابه أو يتنظف بصابون فيه طيب يعد للتطيب" إذن هو يقول إذا كان الطيب الذي في الصابون يعد بمفرده للتطيب فإنه ممنوع منه فهذا القول هو الذي اختاره الشيخ محمد .وهو الذي أراه راجحا والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
هذا هو المجلس الثالث من هذه المجالس التي تنعقد لبيان أحكام بعض النوازل المعاصرة في الحج.
النازلة السادسة: الطواف والسعي في الدورين الأول والسطح .
فإن البيت الحرام كما هو معلوم ومعروف لم يكن يرقى على سطحه أو من أدوار إلا في هذا الزمن المتأخر تقريبا في البناية السعودية التي تمت في عهد الملك سعود في الثمانينات الهجرية فلما بني المسجد بهذه الطريقة حدثت هذه المسألة أو هذه النازلة وعرضت على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وبحثوها و قد ذهبت هيئة كبار العلماء في هذه الدراسة وتلك الفتوى التي تمت بحدود سنة ـ 1393هـ ـ إلى جواز الطواف في الدور الأول أو في السطح وكان هذا القرار بالأغلبية مع تحفظ بعض الأعضاء ومعارضة عضو واحد وقد استدل من قال بجواز الطواف في الدور الأول أو في السطح بعدد من الأدلة منها :(1/35)
أولاً: أن الهواء تابع للأرض وللقرار كما هو معروف عند الفقهاء وأهل العلم يقولون لو أن الإنسان صلى إلى هواء الكعبة لصحت صلاته . لو كان الإنسان مثلاً فوق جبل أبي قبيس ثم استقبل الكعبة فإنه لا يستقبل البناء وإنما يستقبل الهواء أو لو أن الكعبة مثلاً هدمت للبناء فإن الإنسان إنما يستقبل هوائها فالهواء تابع للقرار فهواء المطاف وهواء المسعى تابع لقراره ولأصله ولهذا فالإنسان إذا طاف على الأرض أو طاف في الدور الأول أو طاف في السطح فإنه يصدق عليه أنه طاف في المسعى بين الصفا والمروة .
ومما احتجوا به على هذا الأمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ثبت عنه أنه طاف وسعى على بعيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ والطواف أو السعي على البعير أو في الدور الثاني فوق البناء الأمر فيهما سواء فإن الإنسان سواء كان على البعير أو على الدور الأول أو الدور الثاني كله قد أرتفع عن الأرض على شيء متصل بهذه الأرض ثم أن من طاف في الدور الأول أو سعى في الدور الأول أو في السطح يصدق عليه أنه طاف أو سعى طاف بالبيت أو سعى بين الصفا والمروة و بناء على ذلك أفتى المجلس في جلسته تلك بأنه يجوز الطواف أو السعي في الدور الأول أو في السطح وقد تحفظ كما قلت لكم بعض الأعضاء وعارض القرار شخص واحد هو العلامة الشيخ : محمد الأمين الشنقيطي ـ عليه رحمة الله تعالى ـ
ثم إن هذا الأمر أصبح فيما بعد إجماع عمل من الأمة الإسلامية فتلقاه الناس بالقبول وأصبحوا يعملون به ولا ينكره أحد من علمائهم ولا من طلاب العلم فيهم فأصبح إجماع عمل بحمد الله سبحانه وتعالى وتوفيقه ولا شك أن الأمة في هذا الزمن تحتاج إلى مثل هذه الحلول حتى تتسع المشاعر ومنها بيت الله الحرام لعدد أكبر من المسلمين حتى يؤدوا مناسكهم والشعيرة العظيمة التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام .(1/36)
الحقيقة أن هذا الأمر أو هذه النازلة أصبحت كما قلت لكم إجماع عمل وما كنت لأبحث هذه المسألة أو أعرض لها فإن هذا إلى التشويش أقرب منه إلى بيان الحكم فإن الناس لا يشكون فيه ولا يختلفون فيه وإنما أردت أن أنتقل من هذه المسألة إلى المسألة التي تليها وهي تابعة لها ألا وهي :
الطواف في المسعى . فما معنى الطواف في المسعى أو ماذا نقصد بالطواف في المسعى .
من المعروف أن الإنسان إذا أراد أن يطوف في الدور الأول أو في السطح أن المطاف يكون متسعا حتى يصل الإنسان إلى الناحية الشرقية من المطاف فيقرب المسعى من المطاف حتى يضيق المطاف جداً. في الجهة الشرقية التي هي جهة المسعى من المطاف إذا كان الإنسان يطوف في الدور الأول أو في السطح فإنه إذا وصل إلى هذه الجهة ضاق المطاف في الدور الأول أو في السطح وقرب منه المسعى فضيق عليه وأصبحت المسافة قليلة مع زحام الناس في رمضان أو في الحج أو نحو ذلك يجد الناس حرجا شديدا في أن يدخلوا إلى المسعى فيطوفوا جزءا من الطواف داخل المسعى . فهذا محل حرج وكلفة ومشقة عند كثير من الناس أنهم وهم يطوفون يضطرون إلى الدخول في المسعى فهم يسألون ويقولون ما حكم أن يكون جزء من الطواف داخل المسعى . قبل أن أجيب على هذه المسألة أو أذكر الحكم عليها أحب أن أقدم بمسألة أخرى مهمة لها علاقة في الحكم على هذه المسألة . هذه المسألة : هي هل المسعى _ مابين الصفا والمروة _ هل هو داخل المسجد الحرام ويعتبر جزءا من المسجد أم أنه خارج المسجد ؟ .(1/37)
المسعى إلى بدايات الثمانينات الهجرية كان خارج المسجد الحرام تماماً ولو أن بعضكم اطلع على بعض الصور القديمة للمسعى بين الصفا والمروة لوجد أن الناس يسعون بين الصفا والمروة وعلى جنباتهم من اليمين والشمال الدكاكين المشرعة على المسعى فكان المسعى مستقلا وخارج المسجد الحرام تماما ولهذا كان العلماء في كتب الفقه قديماً يقولون إن المسعى خارج المسجد الحرام ولا تتحرج المرأة إذا كانت حائضاً أن تجلس فيه بسبب أنه خارج المسجد الحرام لكن حينما قامت الدولة السعودية ـ وفقها الله لكل خيرـ في الثمانينات الهجرية ببناء المسجد الحرام وتوسعته أصبح المسجد كما تشاهدونه الآن بحيث أنه الصق المسعى بالمسجد الحرام وأصبح البناء واحداً كما نشاهده الآن هذا بحدود الثمانينات الهجرية فأصبح المسعى ملاصقا وجداره مع المسجد جداراً واحداً وأبوابه مشرعة على المسجد الحرام بعد ذلك وتقريبا بعد الأربعمائة هجرية قامت الدولة السعودية في عهد الملك فهد ـ رحمه الله تعالى ـ بتوسعة أخرى للمسجد الحرام فأضيف من الجهة الجنوبية الغربية أضيفت البناية والتوسعة المعروفة الآن بتوسعة الملك فهد وفي المقابل في الجهة الشرقية أزيلت البنايات وكان هناك شارع وجسر فأزيل هذا الجسر وأزيلت البنايات التي في الجهة الشرقية مما يكون خلف المسعى فأزيلت هذه كلها ثم وضعت ساحات وبلطت بإشكال دائرية متوافقة مع اتجاه القبلة ووضعت عليها السياجات والجدران وأدخلت في المسجد الحرام وأصبح الناس يصلون خلف المسعى كما يشاهده كل أحد ولهذا فمما يظهر لي أنه لا إشكال فيه أن المسعى الآن مابين الصفا والمروة أنه جزء من المسجد الحرام فلا معنى لما كان يقوله الفقهاء قديماً من أن المسعى خارج المسجد فإن المسعى أدخل في المسجد ثم أدخل ما وراء المسعى في المسجد فالمسعى كان ملصقاً بالمسجد والآن يكاد يكون وسط المسجد أو قريباً من ذلك فالآن لامعنى لأن نقول إن المسعى خارج المسجد الحرام(1/38)
كما هو موجود في كثير من كتب الفقه هذا كان في الزمن السابق أما الآن فهو جزء من المسجد .
نرجع الآن إلى بيان حكم المسألة وهي حكم الطواف في المسعى ؟ بمعنى أن الطائف كما مر علينا في الدور الأول أو في السطح يطوف جزءا من طوافه داخل المسعى فأقول إن جماعة من أهل العلم وطلابه قد تحرجوا في هذا الأمر ورأو أن الإنسان لا يجوز أن يطوف داخل المسعى . وعللوا ذلك بأن المسعى خارج المسجد الحرام و رخص بعضهم من أمثال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز _رحمة الله عليه _ والشيخ محمد بن عثيمين _رحمه الله تعالى _في أن الإنسان إذا اضطر اضطراراً وزحمه الناس وأخرجوه إلى المسعى أنه يصح طوافه إن شاء الله . وبعض أهل لم يرخص ولا في حال ازدحام وقال إنه إذا طاف جزءا من الطواف داخل المسعى فإن طوافه لا يصح . هذا هو قول عدد ليس بالقليل من أهل العلم وطلابه في هذا الزمن وكما قلت لكم لم أطلع على تعليل لمن قال بهذا القول إلا أنه قال إن المسعى خارج الحرم وقد مر معنا قبل قليل أن المسعى كان خارج المسجد الحرام في الزمن السابق أما الآن فأصبح داخل المسجد الحرام وبالتالي فإن هذا التعليل لا يستقيم والذي أراه والله سبحانه وتعالى أعلم هو أن طواف جزء من الطواف داخل المسعى أنه جائز سوى كان هناك ضرورة بحيث أن الإنسان زحمه الناس أو حتى لو لم يكن هناك ضرورة فإن الإنسان إذا كان في السطح أو كان في الدور الأول وكان يطوف فإذا جاء إلى جهة المسعى لو أنه دخل من أحد أبوابه وخرج من الأخر بحيث انه يكمل جزءا من الطواف داخل المسعى أن طوافه صحيح وذلك لأنه لا يخرج عن كونه طاف بالبيت الحرام(1/39)
فخروجه في هذا الجزء إلى جهة المسعى هل يخرجه عن أن يكون طاف بالكعبة أو طاف بالبيت الحرام لم يخرج من المسجد هو داخل المسجد ويطوف على الكعبة المشرفة وعلى بيت الله الحرام فهو يسمى طائفا . وما ذكره بعض أهل العلم من تعليل بأن المسعى خارج المسجد قلنا عن هذا التعليل إنه لا يستقيم الآن بعد التوسعة الأولى والتوسعة الثانية والذي أراه راجحا أنه إذا طاف الطائف جزءا من طوافه داخل المسعى فإن طوافه صحيح ولا إشكال فيه زحمه الناس أو لم يزحمُوه . هذا هو الذي ظهر لي رجحانه والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
النازلة السابعة : المبيت بعرفه ليلة عرفة.(1/40)
فأولاً قبل أن نبحث هذه المسألة من المشهور والمعروف والمتفق عليه بين من نقل صفة حجة النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن النبي _صلى الله علية وسلم _ بات ليلة التاسع بمنى . فإن النبي_صلى الله عليه وسلم _ قدم إلى منى من مكة يوم التروية يوم الثامن وبات تلك الليلة بمنى ولم يخرج من منى إلى عرفات إلى بعد أن طلعت الشمس يوم عرفة فهذا هو هدي النبي_صلى الله علية وسلم_ ولهذا فإن جماهير أهل العلم على أن المبيت ليلة التاسع أن السنة فيه أن يبيته الإنسان بمنى . لكن في هذه الأزمنه أنتم تعرفون أن الحجاج يصل عددهم أحيانا إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين والحملات أحياناً تكون عبارة عن سلسلة من السيارات الكبيرة والأوتوبيسات حتى أن بعض الحملات ربما يصل عددها إلى ثلاثين أو أربعين باصا فأصبح هؤلاء الحجاج والقائمون على العناية بأمورهم وترتيب أحوالهم إذا طبقوا هذه السنة وهي المبيت ليلة التاسع بمنى والانصراف أو الدفع من منى إلى عرفات بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يجدون مشقة وعسراً شديداً وربما بعض الحملات وقد مررت بشيء من ذلك ربما ما يصلون إلى عرفات إلا بحدود الساعة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة ظهراً أو بعد الظهر فما يصل الحجاج إلى عرفات إلى وهم في حاله لا تخفى على أمثالكم من التعب والإجهاد والمشقة ثم يصل إلى عرفات فا إذا جاء وقت الدعاء والتضرع الذي هو أعظم المواقف التي يقول فيها النبي _صلى الله عله وسلم_"خير الدعاء دعاء يوم عرفة "إذا جاء هذا الوقت وإذا بهذا الحاج في قمة الإنهاك والتعب والمشقة وإذا هو يبحث عن الراحة ولو انه جاهد نفسه ودعاء فإنه لا يكون في حالة من الإقبال على الله سبحانه وتعالى واستحضار التضرع والخشوع والإنابة إلى الله عز وجل والطمع فيما عنده فمن أجل ذلك بدأت بعض الحملات يسألون عن مسألة لو أننا في اليوم الثامن انصرفنا عصراً أو بعد العشاء إلى عرفات وبتنا فيها هل في ذلك حرج؟ فا أقول لا أعلم(1/41)
أحدا من أهل العلم قال إن المبيت بمنى ليلة التاسع واجب ,فهم يقولون إن المبيت بمنى ليلة التاسع سنه وبالتالي فإن الذين يتركون هذا المبيت يتركون سنه بحمد الله تعالى على أن بعض الناس يقول إنا ذهبنا نطلب الخير ونطلب ما عند الله سبحانه وتعالى ونقتفي آثار محمد _صلى الله عليه وسلم _ فا أقول وأنت على خير ولكن إذا تعارضت سنة مع مجموعة من السنن فلا شك أن الإتيان بمجموعة من السنن أولى من الإتيان بسنة واحدة وإذا تعارضت سنتان إحداهما آكد من الأُخرى فإن ترجيح السنة الآكد من الفقه فإذا كان الحاج إذا أتى ليلة عرفه وبات فيها ثم قام الصبح وإذا هو بكامل الراحة وحضور القلب والإقبال على الله سبحانه وتعالى فإنه إذا جاء وقت الدعاء الذي هو من أعظم المواقف فإن من أعظم المواقف هو موقف عرفة ولهذا ما رُئي الشيطان أذل ولا أحقر منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة من الله سبحانه وتعالى والتجاوز عن الذنوب العظام . فإن استغلال مثل هذه الساعات في حالة يكون الإنسان فيها في قمة النشاط والحيويةً والإقبال على الله سبحانه وتعالى لا شك أنها من أعظم وأكد سنن الحج ولهذا الذي يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى أنه إذا تعارض الأمران فإن الأولى للإنسان أن يترك المبيت بمنى ليلة التاسع من أجل أن يحصل الإقبال والدعاء والتضرع والإخبات إلى الله سبحانه وتعالى في يوم عرفه وإذا كان الإنسان مثلاً يحج بسيارته ويمكنه أن يجمع الأمرين جميعاً فلاشك أن هذا نور على نور وخير الهدي هدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ كما لا يخفى على أحد لكن من ذهب وأخذ بما ذكرناه فإنه لاشك أنه لا يحرج عليه بأنه أنما ترك سنة وقد يكون هذا أفضل له وهو الفقه بالنسبة له إذا كان سيحصل شيئا أعظم مما تركه . هذه هي النازلة السابعة من نوازل الحج .
النازلة الثامنة : الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس لمن وقف نهارا.(1/42)
قبل أن نبحث حكم هذه النازلة أحب أن أُنبه على أمور :
الأمر الأول حكم حج من وقف بعرفة نهاراً فقط ؟ لو أن إنسانا وقف بعرفة بعد الظهر أو بعد العصر ثم انصرف إلى مزدلفة ولم يبق إلى غروب الشمس ولم يرجع في الليل فما حكم حجهِ؟ حكم حجه كما يقول الموفق ابن قدامه _رحمه الله تعالى _ أنه صحيح في قول جماعة العلماء ولم يخالف من أهل العلم أحد في صحة الحج إلا الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ وقد قال ابن عبد البر وهو مالكي أيضا قال :إنه لم يتابع مالكاً في هذا القول أحد يعني أن مالكا _رحمه الله تعالى_ انفرد بهذا القول ولا شك أن قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى _ في هذه المسألة شاذ لأنه قول مخالف لحديث النبي _ صلى الله عليه وسلم_ فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث عروة ابن مضرس عند الخمسة بسند صحيح لما جاء إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو في صلاة الفجر بمزدلفة قال: يا رسول الله قدمت من جبلي طي أتعبت راحلتي وأنهكت بدني وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفه ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفتهُ " فهذا نص صريح من النبي _صلى الله عليه وسلم_في أن من وقف بعرفه ليلاً أو نهاراً فقد تم حجهُ . وإذا فقول الإمام مالك _رحمه الله تعالى _في هذه المسألة قول شاذ _عليه رحمة الله تعالى_ .(1/43)
الأمر الثاني الذي أُريد أن ابحثه قبل أن نصل إلى مسألتنا هو : حكم حج من وقف بعرفة ليلاً فقط ؟ إنسان لم يصل إلى عرفات إلا بعد العشاء أو في منتصف الليل ثم وقف فيها ساعة ثم انصرف إلى مزدلفة فما حكم حجهِ ؟ حجه صحيح يقول الموفق ابن قدامه _رحمه الله تعالى_: لا أعلم في صحته خلافا . فهذا الحج حج صحيح ولو لم يقف إلا في الليل لحديث عروه بن مضرس _رضي الله تعالى عنه_ الذي مر معنا قبل قليل وفيه قال النبي _صلى الله عليه وسلم _وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارا.(1/44)
الأمر الثالث بين يدي نازِلتنا هو : هدي النبي _صلى الله عليه وسلم _ في وقوفه بعرفه . النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث جابر_رضي الله عنه_ في صفة حجة النبي _صلى لله عليه وسلم _ انه لما طلعت الشمس من اليوم التاسع أمر أن تضرب له قبة بنمره ثم ركب من منى حتى أتى نمرة _ ونمرة هذه كانت قرية تقع تقريباً إلى الجهة الشمالية الغربية من عرفات تقريباً قبلة المسجد الآن. مسجد نمرة المعروف وهي خارج عرفة _ فلما وصل إليها نزل _صلى الله عليه وسلم حتى زالت الشمس فلما زالت الشمس ركب راحلته حتى أتى الوادي _ الذي هو بطن عرنة وبطن عرنة أيضا خارج عرفات _ فنزل _صلى الله عليه وسلم _وخطب الناس خطبةً عظيمة وصلى بهم الظهر والعصر جمعاً وقصراً ثم ركب راحلته _صلى الله عليه وسلم _ وأتى الموقف ووقف عند الجبل المعروف بجبل ( إيلال ) أو المعروف الآن بجبل الرحمة ولم يرقه _صلى الله عليه وسلم_ أو يصعدهُ وإنما وقف أسفل الجبل واستقبل القبلة ورفع يديه يتضرع ويدعوا الله سبحانه وتعالى حتى غربت الشمس .فلما سقط قرص الشمس وذهبت الصفرة دفع _صلى الله عليه وسلم _من عرفات إلى مزدلفة هذا هو هدي النبي_صلى الله عليه وسلم_ ولا شك أن هذا هو أكمل الهدي وخير الهدي وأن الإنسان إذا حرص على أن يقتفي آثار محمد _صلى الله عليه وسلم_ أنه على خير عظيم وأن هذه هي أكمل الأحوال . فأكمل الأحول أن يفعل الإنسان كما فعل النبي _صلى الله عليه وسلم_ بأن يقف نهاراً ويمكث حتى تغرب الشمس ثم بعد ذلك ينصرف إلى مزدلفة ولا ينصرف حتى تغرب الشمس.بعد هذه المقدمات نرجع إلى نازلتنا وهي من وقف نهاراً فما حكم بقائه إلى أن تغرب الشمس بعرفات بحيث أنه لا ينصرف من عرفات حتى تغرب الشمس ؟ أختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :(1/45)
القول الأول : هو قول جماهير أهل العلم كما يقول الموفق ابن قدامه _رحمه الله تعالى _ وغيره فقد قال بهذا القول أبو حنيفة والشافعي في أحدى الروايتين والإمام أحمد وجمع من الأئمة والعلماء قديماً وحديثاً قالوا : من وقف نهاراً يجب عليه أن يبقى بعرفات حتى تغرب عليه الشمس . فإن خرج من عرفات قبل أن تغرب الشمس ولم يرجع إليها فإنهُ آثم لأنه ترك واجبا. وهل يجب عليه دم أو لا يجب ؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم بناء على اختلافهم فيمن ترك واجباً هل عليه دم أم عليه التوبة فقط ؟ إذن قول جماهير أهل العلم أن من وقف بعرفات نهاراً يجب عليه أن يبقى فيها حتى تغرب عليه الشمس .
القول الثاني : هو الرواية الثانية عن الإمام الشافعي وهي المذهب عند الشافعية و أختارها الإمام النووي _رحمه الله تعالى _ وهذا القول هو قول ابن حزم الظاهري قال هؤلاء إن من وقف نهاراً فإن البقاء إلى غروب الشمس سنة في حقه . إن بقي حتى تغرب الشمس فقد أتى هذه السنة واقتدى بالنبي _صلى الله عليه وسلم _ وإن تركها فليس عليه شيء لأنه إنما ترك سنة من السنن . نرجع إلى قول جماهير أهل العلم الذين قالوا إن هذا واجب من واجبات الحج فنذكر أدلتهم واحداً واحدا .
استدل هؤلاء بعدد من الأدلة .(1/46)
الدليل الأول : أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقف بعرفه نهاراً واستمر واقفاً فيها حتى غربت الشمس ولم يدفع حتى غربت الشمس وكان _صلى الله عليه وسلم_يقول في حجه لتأخذُوا عني مناسككم فهذا أمر من النبي _صلى الله عليه وسلم _ بأن يقتدي الناس بهِ في مناسك الحج فنحن مأمورون بالاقتداء بهِ والأمر للوجوب إذاً البقاء حتى تغرب الشمس واجب . لفعله _صلى الله عليه وسلم_ ولأمره بالاقتداء به _صلى الله عليه وسلم_ . هذا هو الدليل الأول ولكن هذا الدليل يمكن مناقشته فإن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كان في كل أفعال الحج يقول لتأخذوا ُ عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ومع هذا فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يقول بأن كل ما فعله النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حجه أنه واجب مع أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ فعله وقال لتأخذُ عني مناسككم .وإذا فمجرد هذا الدليل لا يكفي لإيجاب الوقوف بعرفه حتى تغرب الشمس فالذين قالوا إنه واجب بهذا الدليل لم يقولوا بأن المبيت بمنى ليلة التاسع واجب مع أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ بات فيها وقال لتأخذُوا عني مناسككم . ولم يقولوا بأن الدعاء عند الجمرات واجب مع أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ دعاء عند الجمرة الأولى والثانية وقال لتأخذُوا عني مناسككم . إذاً مجرد هذا الدليل بمفرده لا ينتج الوجوب بإجماع عمل الأئمة بخلاف هذا الدليل .إذا هذا الدليل لا يستقيم .(1/47)
الدليل الثاني : من أدلة أصحاب هذا القول : أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقف بعرفه نهاراً واستمر بها حتى غربت الشمس وذلك منه _صلى الله عليه وسلم_ مخالفة لهدي المشركين. فإن المشركين _ عدا قريشا _ كانوا في الجاهلية يقفون بعرفات وكان هديهم أنه إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال مثل العمائم على رؤوس الرجال دفعوا من عرفه إلى مزدلفة فأراد النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن يخالف هديه هديهم فبقي _صلى الله عليه وسلم_ حتى غربت الشمس ولا شك أن من أعظم مقاصد حج النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن يبطل عقائد الجاهلية وما كان عليه أهل الجاهلية في ذلك الزمان ولهذا كان _صلى الله علين وسلم_ يخالف الجاهلية في أفعال كثيرة كما خالفهم _صلى الله عليه وسلم _ في الوقوف بعرفه فإن قريشاً ما كانت تقف بعرفه ويقولون نحنُ الحمس _يعني المتحمسون لدينهم _ فكانوا يقفون بمزدلفة وبقية الكفار يقفون بعرفات فخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأفاض من حيث أفاض الناس ووقف بعرفه و النبي _صلى الله عليه وسلم _ خالفهم بمزدلفة فإن المشركين في مزدلفة كانوا يقفون فيها حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس دفعوا إلى منى وكانوا يقولون "أشرق ثبير كي ما نغير" ثبير جبل مطل على مزدلفة فكانوا إذا رأو الشمس في أعلى الجبل دفعوا من مزدلفة إلى منى فخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ ودفع حين اسفر جدا قبل أن تطلع الشمس وخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ حينما مر بوادي مُحسر فإن المشركين كانوا إذا أتوا إلى وادي محسر يقفون و يتفاخرون بشجعانهم وكرمائهم وشعرائهم إلى آخر ذلك فأ مر الله سبحانه وتعالى نبيه _صلى الله عليه وسلم_ في الحج وأمر المؤمنين أن يذكروه كذكرهم آباءهم أو أشد ذكرا فلما وصل النبي _صلى الله عليه وسلم_ إلى وادي محسر أسرع مخالفة للمشركين .فالنبي _صلى الله عليه وسلم في بقائه في بعرفات حتى غربت الشمس قصد مخالفة المشركين , ومخالفة المشركين واجبه(1/48)
فعلى من وقف نهاراً أن يبقى حتى تغرب الشمس مخالفةً للمشركين . ولكن حتى هذا الدليل لا ينتج الوجوب في نظري. فقد ذكرت لكم آنفا أن المشركين يبقون بمزدلفة حتى تطلع الشمس ثم يدفعون منها إلى منى فخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ ودفع قبل أن تطلع الشمس ولم يقل أحد من أهل العلم أن الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس واجب بل قالوا يسن للإنسان أن يدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس لكنه ليس بواجب مع أن هذا مخالف لهدي المشركين وأيضا الإسراع في وادي محسر ما أعرف أحدا من أهل العلم قال إن الإسراع في وادي محسر واجب . لكنه سنه من السنن لكنه في حق النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد يكون متعيناً من أجل أنه _صلى الله عليه وسلم_ كان من مقاصد حجه أن يهدم ما كان عليه المشركون من عقائد فاسدة لكن بالنسة للأمة من بعده بعد أن انهدمت عقائد المشركين فإن هذا الأمر لا يصل إلى درجة الوجوب وإذاً الاستدلال بهذا الدليل في نظري أنه لا ينتج الوجوب .(1/49)
الدليل الثالث : من أدلة الجمهور على أن من وقف نهاراً يجب عليه أن يبقى في عرفات حتى تغرب الشمس :أنه قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنهُ _صلى الله عليه وسلم_ .فالنبي صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفات أيهما أيسر على المسلمين أن يدفع من عرفات قبل غروب الشمس حتى يصلوا إلى مزدلفة بنهار ووقت إسفار . أم أن يبقى في عرفات حتى تغرب الشمس ثم يدفعون بليل إلى أن يصلوا مزدلفة ؟ وأنتم تعرفون في ذلك الوقت كان الناس ينتقلون على الإبل وعلى الحمر وعلى أرجُلهم والمسافة بين عرفات ومزدلفة تحتاج إلى وقت فقد يمضي عامة الليل قبل أن يصل الإنسان إلى مزدلفة بل إن الناس في ذلك الزمن كان الواحد منهم ربما خرج من عرفات ولم يصل إلى مزدلفة ويتيه عنها ولهذا كان الخلافاء وأُمراء الحج يوقدون نارً في المشعر الحرام في مكان مرتفع يسمى (المِيقدة) من أجل ألا يضل الحجاج يميناً أو شِمالا. إذاً أيهما أيسر على المسلمين الذين حجّوا مع محمد _صلى الله عليه وسلم_ أن يدفع رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ من عرفات إلى مزدلفة نهاراً أو ليلاً ؟ لا شك أن الأيسر لهم في نظرنا هو أن يدفع نهاراً حتى يصلوا إلى مزدلفة في وقت إسفار. قالوا فلما ترك النبي _صلى الله عليه وسلم_ الأمر الأيسر وأخذ بالأمر الأشق دل على أن الأمر الأيسر لا يجوز لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما.(1/50)
وفي نظري أيضا أن هذا الدليل لا يستقيم ولا ينتج الوجوب فإن ثمة أكثر من احتمال لعلها هي التي حملت النبي _صلى الله عليه وسلم _ على اختيار الأخر بل قد يكون بقاء النبي _صلى الله عليه وسلم_ إلى أن غربت الشمس هو الأرفق بالمسلمين. كيف يكون هذا ؟ نقول قد يكون النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما ترك الأيسر وهو الدفع نهاراً إلى الأشق وهو الدفع ليلاً إلا ليهدم عقيدة من عقائد المشركين وأنتم تعرفون أن من أعظم مقاصد حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ هدم عقائد المشركين وإذا لم يهدمها النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمن يهدمها إذاً كان من المقاصد العظيمة للنبي _صلى الله عليه وسلم_في ذلك الوقت أن يهدم هذه العقيدة فبقي لأنه لو لم يفعل ذلك ما انهدمت فهذا يحتمل أنه هو الذي جعل النبي _صلى الله عليه وسلم_يختار هذا الأمر على الأيسر . أيضا هناك احتمال آخر هو أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ إنما بقي حتى غربت الشمس ليعلم الناس أن الوقوف بعرفه يصح ليلاً ويستمر حتى الليل .خاصة إذا علمنا أن الليلة في الإسلام تتبع اليوم الذي بعدها وإذاً الأصل أن يوم عرفه ينتهي بغروب الشمس . الأصل في الإسلام أن اليوم ينتهي بغروب الشمس فإذا غربت الشمس دخل يوم جديد فمعنى ذلك أن الوقوف في الليل يحتاج إلى دليل من النبي _صلى الله عليه وسلم _ حتى يعرف الناس أن ليلة العيد تابعة ليوم عرفه وليست تابعة ليوم العيد. إذاً هذه مصلحه و إذً كون النبي _صلى الله عليه وسلم _ يخبر الأمة ويشرع لهم أن هذه الليلة وإن كانت في الأصل تابعة لليوم الذي بعدها إلا أنها في هذا اليوم تابعة لليوم الذي قبلها هذا أرفق بالأمة لأن وقت الوقوف سيطول وإذاً هناك أكثر من احتمال كلها تدل على أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ما ترك الأيسر على أُمتهِ إلا لمصالح عظيمة هي أعظم من الرفق بهم في هذا الجانب وإذا فهذا الاستدلال في نظري لا يستقيم للقول بوجوب البقاء حتى تغرب الشمس .(1/51)
ننتقل بعد ذلك إلى :
القول الثاني في هذه المسألة وهو: قول الشافعية في اصح القولين عندهم وهو اختيار الإمام النووي وابن حزم الظاهري أن من وقف نهاراً فالبقاء إلى الليل سنة في حقه . فإن تركه فليس عليه شيء والشافعية يقولون إن تركه فإنه يسن له أن يذبح شاة يسن له ويستحب استحبابا لكنه لا يجب عليه لأنه إنما ترك سنةً وهؤلاء يستدلون بما رواه الخمسة بسند صحيح عن عروه بن مضرس الطائي _رضي الله عنه _قال جئت إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو في صلاة الفجر بمزدلفة فقلت يا رسول الله أتعبت راحلتي وأجهدت بدني وما تركت جبلاً _وفي بعض الروايات حبلاً _ إلا وقفت عليه هل لي من حج ؟ فقال النبي _صلى الله عليه وسلم _ "من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفه ليلاً أو نهاراً فقد تم حجهُ وقضى تفثه " قال أصحاب هذا القول يا من تقولون إن الوقوف واجب وان من تركه عليه دم هذا الدم من أجل ماذا؟ هذا الدم دم جبران لما حصل في النسك من النقص لأن هذا الحاج قد ترك واجباً فيجبر هذا النقص الذي حصل في حجه بترك هذا الواجب يجبره بالدم . الجبران يكون للنقص أليس كذلك ؟ طيب النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول فقد تم حجهُ كيف تقولون إنه ناقص ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فقد تم حجه. وهل الحج التام يحتاج إلى جبران ؟ لا يحتاج إلى جبران .(1/52)
ثم إنه قد ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله تعالى عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال من صلى صلاتنا هذه ووقفا معنا حتى ندفع وكان قد أفاض من عرفات ليلاً أو نهاراً فقد تم حجهُ وقضى تفثهُ. فإذا كانت هذه الرواية وهي عند النسائي والإمام أحمد محفوظة فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول : كان قد أفاض من عرفات ليلاً أو نهاراً. يعني وقف ثم دفع ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثهُ وليس بعد التمام نقص وليس مع التمام نقص. وهذا الدليل لا أعرف أن جمهور أهل العلم أجابوا عنه بإجابة تبطل الاستدلال به. ولهذا الذي يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى هو القول الثاني في هذه المسألة وأن من وقف بعرفة نهاراً يسن له أن يبقى فيها حتى تغرب الشمس. ولكن لو دفع منها قبل غروب الشمس فهو إنما ترك سنة من السنن وليس عليه شيء وحجه تام بنص حديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي مر معنا في حديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله عنه_ وهذا القول تلاحظون أنه يعضده دليل قوي ثابت حتى يقول الترمذي حديث عروة بن مضرس حديث صحيح والحاكم _رحمه الله تعالى_ يقول هذا الحديث على شرط كافة الأئمة . إذاً هذا القول يعضده الدليل واستدلالات الجمهور الذين قالوا بالوجوب كما مر معنا أنها مناقشة. فهذا هو الراجح والعلم عند الله سبحانه وتعالى وهذا هو المتوافق بإذن الله عز وجل . مع حاجة المسلمين وما يعانونه من مشقة وعسر وضيق بسبب كثرة الأعداد وتأخر وقت الانصراف وأنتم تعرفون أنه قبل سنوات قريبه وسنعرض لهذا إن شاء الله في نازلة قادمة أن الناس لم يصلوا إلى مزدلفة إلى بعد طلوع الشمس . لماذا ؟ لأنهم ما انصرفوا إلا بعد غروب الشمس فحينما ينصرف ثلاثة ملايين حاج في وقت واحد مع طرق محدودة مسافة سبعة كيلو مترات فمتى سيصل آخر الحجاج ؟ وسنعرض المسألة إن شاء الله تعالى في مجلس آخر لم يصلوا إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس وبعض أهل(1/53)
العلم يقول إن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج فكيف نجبر الناس على أن يقفوا حتى تغرب الشمس مع أن الأدلة التي استدل بها من قال بهذا القول كما تلاحظون ضعيفة ومن قال بأن الوقوف والبقاء إلى غروب الشمس سنه أدلتهم قوية. هذا الذي يظهر لي في هذه المسألة والعلم عند الله .
النازلة التاسعة : العجز عن المبيت بمزدلفة .
أعداد الحجيج في هذه السنوات تصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين و السيارات الكبيرة والصغيرة تصل إلى الآلاف و الطرق محدودة ولهذا يظهر بعض المشاكل في خطة السير فيتعرقل جزء كبير من الحجيج وفي بعض السنوات تعرقل بعض الحجاج فلم يبلغُوا مزدلفة إلى بعد طلوع الشمس وهذه لا شك أنها نازلة وكثير من الحجاج أقلقهم هذا الأمر وسألوا عنه كثيراً ولذلك كان من المناسب أن نبحثها في هذا المجلس خاصةً وأن الأمر ليس نادراً أو شاذا فمع كثرة الحجيج وكثرة السيارات ربما هذا يحصل كل سنة لكنه في سنة واحدة ظهر واستفاض لوجود مشكلة كبيرة لكن في بعض السنوات ربما يكون العدد اقل ولهذا ما تظهر على السطح فنريد أن نتحدث عن هذه النازلة.
وقبل أن نبحث الحكم فيمن فاته الوقوف بمزدلفة بهذا السبب ونحوه نقدم ببعض المقدمات المهمة في هذا الباب .(1/54)
أول هذه المقدمات هي بيان هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مزدلفة فإن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كما في حديث جابر وغيرة من الأحاديث التي نقلت صفة حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما غربت الشمس من يوم عرفة وسقط قرص الشمس وذهبت الصفرة دفع _صلى الله عليه وسلم_ من عرفات إلى مزدلفة وكان يسير وعليه السكينة والوقار ويقول أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل ومازال _صلى الله عليه وسلم _ في طريقه عليه السكينة حتى بلغ جمعاً يعني بلغ مزدلفة. ومزدلفة تسمى مزدلفة وتسمى جمعاً وتسمى المشعر الحرام هذه كلها أسماء لبقعة واحدة ومنسك واحد من مناسك الحج وهي المزدلفة فلما بلغها النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يبدأ بشيء قبل الصلاة حتى إن الأحمال ما أنزلت من على ظهور الإبل فأمر المؤذن فأذن ثم أقام ثم صلى _صلى الله عليه وسلم_ بالناس صلاة المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيرهُ ثم أقيمت الصلاة وصلى بهم _صلى الله عليه وسلم _ صلاة العشاء ركعتين ثم إن النبي _صلى الله عليه وسلم _ أضطجع أو رقد في تلك الليلة ولما كان من أخر الليل أمر ضعفة أهله _صلى الله عليه وسلم _ فدفعوا إلى منى وكان معهم عدد من الشباب من بني عبد المطلب من أمثال ابن عباس ونحوه في السن فدفعوا من آخر الليل إلى منى وأما النبي _صلى الله عليه وسلم _ فإنه بقي في مزدلفة حتى إذا بزغ الفجر قائل يقول إنه طلع الفجر وقائل يقول إنه لم يطلع أذن لصلاة الفجر ثم أقيمت الصلاة ثم صلى النبي _صلى الله عليه وسلم _ بالمسلمين صلاة الفجر في المزدلفة فلما صلى صلاة الفجر ركب بعيره وأتى إلى المشعر الحرام. والمشعر الحرام اسم لكل مزدلفة واسم لجبل في مزدلفة يسمى جبل المشعر الحرام هذا الجبل أزيل الآن وأقيم عليه المسجد المعروف الآن بمسجد المشعر الحرام فأتى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ حتى وقف عند المشعر الحرام فقال وقفت هاهنا وجمع كلها موقف وارفعوا عن بطن(1/55)
محسر ثم استقبل القبلة _صلى الله عليه وسلم _ فوحد الله وهلله وكبره ورفع يديه يدعو ويتضرع _صلى الله عليه وسلم _ حتى أسفر جدا . يعني قبيل شروق الشمس ثم ركب ناقته ودفع إلى منى _عليه الصلاة والسلام _ عليه السكينة والوقار. هذا هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم _ في مزدلفة وكان المشركون لا يدفعون من مزدلفة حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون "أشرق ثبير كي ما نغير" ثبير جيل يطل على مزدلفة هو أرفع الجبال كانوا ما ينصرفون من مزدلفة حتى تطلع الشمس على هذا الجبل فخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ ودفع قبل طلوع الشمس هذا هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مزدلفة ولا شك أن خير الهدي وأكمل الهدي هو هدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ بعد ذلك ننتقل إلى :
مقدمة ثانية قبل الحديث عن مسألتنا التي بين أيدينا هذه المقدمة هي :(1/56)
ما حكم المبيت بمزدلفة ليلة العيد؟ فأقول إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال فمن أهل العلم من قال إن المبيت بمزدلفة ليلة العيد ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به فمن فاته فقد فاته الحج . ومن أهل العلم من قال أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج وليس ركناً . وهذا القول هو قول جماهير أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة . والقول الثالث من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد سنه . والذي لا ريب فيه ولا شك والعلم عند الله هو رجحان قول من قال أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج. يجب على الحاج لكنه لو فاته فإن حجه صحيح . والذين قالوا بأنه واجب من واجبات الحج استدلوا بعدد من الأدلة لكن من أظهر هذه الأدلة قول الله سبحانه وتعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] والمشعر الحرام كما قلت لكم قبل قليل هو أسم من أسماء مزدلفة كما أن مما استدل به هؤلاء على وجوب المبيت بمزدلفة حديث عروة بن مضرس الذي مر معنا في المجلس الماضي وقد رواه الخمسة وهو حديث صحيح وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لعروة بن مضرس من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثهُ . فقيد النبي _صلى الله عليه وسلم _ تمام الحج بالوقوف بمزدلفة يعني قال من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع.ومن أدلتهم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقف بجمع أو بات بمزدلفة وقال لتأخذوا عني مناسككم . هذا هو ما استدل به أصحاب هذا القول على أن المبيت بمزدلفة وأجب من واجبات الحج كما أن مما استدل به أصحاب هذا القول أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رخص للضعفة من آخر الليل ...الخ والرخصة لا تكون إلا في مقابل الواجب . فانه لا يقال رخص لهم في ترك السنة وإنما يقال رخص لهم في ترك الواجب أو جزء من الواجب . أما من قال أن المبيت بمزدلفة ركن في(1/57)
الحج فإن هؤلاء أظهر دليل لهم هو ما ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله تعالى عنه _ كما عند النسائي فانه ورد في رواية عند النسائي أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال " من أدرك الإمام والناس وأفاض معنا فقد أدرك ومن فاته الناس والإمام فلم يدرك" يعني من أدرك الوقوف مع الإمام والناس وأفاض معهم فقد أردك الحج ومن فاته الوقوف مع الناس والإفاضة معهم فقد فاته الحج . لكن هذه الرواية كما عليه أكثر أهل العلم أنها رواية غير محفوظة لا تصح عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر _رحمه الله تعالى_ والشنقيطي كما في أضواء البيان. فهذه الرواية لا تصح عن النبي_صلى الله عليه وسلم _ أنما حديث عروة بن الضرس روايته المحفوظة هي الرواية التي كررناها مراراً أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثهُ" أيضا مما يدل على أن المبيت بمزدلفة ليس ركنا في الحج حديث عبد الرحمن بن يعمر_رضي الله تعالى عنه_ الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد بسند صحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال " الحج عرفة " فمن أردك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد أدرك . وفي بعض الروايات فقد تم حجهُ . في هذا الحديث يخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن من أدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة قبل طلوع الفجر من ليلة مزدلفة فقد تم حجه وأدرك الحج فالإنسان الذي لا يقف بعرفة إلا في أخر لحظة من ليلة مزدلفة متى سيقف في مزدلفة ؟ إذا كان جمهور أهل العلم يقولون إن الوقوف قبل طلوع الفجر فهذا بالتأكيد سيفوته الوقوف بمزدلفة ولو كان إذا فاته الوقوف بمزدلفة لا يصح حجه لا أخبر بذلك النبي _صلى الله عليه وسلم_ لكنه قال "فقد تم حجهُ" فهذه الأدلة بمجموعها تدل على أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج .يأثم الإنسان بتركه متعمداً ولكنه لا يبطل حجه بل(1/58)
حجه صحيح هذا هو أعدل الأقوال في مسألة حكم المبيت بمزدلفة. أما قول من يقول أنه سنه فهذا قول ضعيف ومستنده ضعيف فإنهم يقيسونه على المبيت بمنى ليلة التاسع ولا شك أن هذا قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابل النص.
المقدمة الثالثة المقدار الواجب من المبيت في مزدلفة .
قلنا ان المبيت بمزدلفة واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم وهو الذي عليه جماهير أهل العلم فما هو المقدار الواجب من هذا المبيت؟ يعني كم يجزئ الإنسان من هذا المبيت ؟ بحيث يقال له قد أتيت بالواجب. في مسألة الوقوف بعرفة من حديث عروة بن مضرس الطائي ومن حديث عبد الرحمن بن يعمر عرفنا أن الوقوف بعرفة يكفي فيه لو دقيقة واحدة وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً. أيّ وقوف بعرفة حتى ولو مرور فانه يكفي ويصدق على هذا الإنسان أنه وقف بعرفة وانه أدرك الحج . فالمبيت بمزدلفة الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وأمر به النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حديث عروة بن مضرس وغيره ماهو المقدار الذي نقول أن الإنسان إذا أتى به فقد أتى بالواجب وما زاد على ذلك فهو سنه ؟ لا شك أن أكمل الهدي وخيره هو هدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأن أكمل ما يفعله الحاج أنه إذا جاء إلى مزدلفة يصلي بها المغرب والعشاء ويبيت بها ويصلى الفجر ويقف الموقف ويدعو حتى يسفر جدا ثم يدفع منها هذا لا شك أنه هو الكمال بالنسبة لهذه الشعيرة. لكن ما نريد أن نتحدث عنه هو المقدار الواجب الذي إذا أتى به الإنسان فقد برأت ذمته وخرج من العهدة وإذا لم يأت به أثم لتفريطه وتركه واجبا من واجبات الحج . وعلى الخلاف فيما يترتب عليه بعد ذلك. فما هو هذا المقدار ؟
أختلف أهل العلم في المقدار الواجب من المبيت بمزدلفة على أقوال:(1/59)
القول الأول : فذهب الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ إلى أنه يكفي الحاج أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء ويتعشى فإذا وقف بمزدلفة هذا المقدار فإنه قد أتى بالواجب. يعني إذا قلنا مثلا صلاة المغرب والعشاء تحتاج إلى ربع ساعة والعشاء يحتاج مثلاً إلى ربع ساعة فمعنى ذلك أن الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ يقول أنه إذا وقف بمزدلفة مقدار نصف ساعة فإنه يجزئه ذلك ولو دفع بعد ذلك ، فلو وصلت إلى مزدلفة الساعة التاسعة مساءً ثم بقيت فيها نصف ساعة ثم انصرفت فإنك عند الإمام مالك تكون قد أتيت بالواجب . وما زاد على ذلك فهو تطوع وهو سنه. بل إن من المالكية من قال يكفي من الوقوف بمقدار ما ينزل الإنسان رحلهُ . هذا هو القول الأول في هذه المسألة .
القول الثاني : وهو الذي ذهب إليه الشافعي والإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قالوا إن المقدار الواجب لمن وقف قبل منتصف الليل أن يقف حتى منتصف الليل. ومن وقف بعد منتصف الليل فإنه يجزئه أيّ وقوف فإذا أردنا أن ننصف الليل إلى نصفين فإنا نحسب المسافة الزمنية من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وليس كما يتبادر للأذهان أنه من غروب الشمس إلى طلوعها . الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر فإننا إذا قلنا هذا المقدار ثمان ساعات مثلاً فالمنتصف هو أربع ساعات من غروب الشمس فعند الشافعي وأحمد _عليهما رحمة الله_ يجب من الوقوف بمزدلفة إذا وقف الإنسان قبل منتصف الليل أن يبقى فيها حتى ينتصف الليل . وإن وقف بعد منتصف الليل أجزأه أيّ وقوف . هذا هو قول الشافعي وأحمد وجماعة من أهل العلم .
القول الثالث : قول أبي حنيفة _عليه رحمة الله تعالى_ والإمام أبو حنيفة يختلف عن الأئمة الثلاثة فإنه يرى أن الوقوف بمزدلفة من بعد طلوع الفجر فمن وقف أول الليل فإنه يجب عليه أن يبقى عند الإمام أبي حنيفة حتى يطلع الفجر لان الوقوف عنده من بعد طلوع الفجر هذه هي أقوال أهل العلم في هذه المسألة .(1/60)
أما أبو حنيفة _رحمه الله تعالى_ الذي يقول يجب الوقوف إلى طلوع الفجر وأن الوقوف المشروع بعد الصلاة فإنه يستدل على ذلك بحديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله عنه_ وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضاء تفثهُ . هذا هو مستند الإمام أبي حنيفة_رحمه الله تعالى _ في أن الوقوف بعد صلاة الفجر ولكن الحقيقة أن هذا الحديث ليس على ظاهره في أن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر بدليل أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ كما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنهما_ ومن حديث ابن عمر وحديث ابن عباس و حديث عائشة رضي الله عنهم أنه _صلى الله عليه وسلم_ قدم ضعفة أهله بليل للدفع إلى منى ولا يمكن أ، يرخص لهم النبي_صلى الله عليه وسلم _ في ترك الواجب فهذه الأدلة تدل على أن، هؤلاء الضعفة من النساء ومن يرافقهم أنهم أتوا بجزء من الواجب ثم رخص لهم النبي_صلى الله عليه وسلم _ في باقية وفي الدفع إلى منى فهذا دليل على أن الوقوف يجب قبل طلوع الفجر لا كما يقول أبو حنيفة _رحمة الله تعالى عليه_ أن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر هذا هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه في هذه المسألة.(1/61)
أما قول الأئمة الشافعي وأحمد في أن، المقدار الواجب إلى منتصف الليل فإذا انتصف الليل فإن الباقي سنه ولا يجب فإنهم يستدلون على ذلك بأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما ثبت في أحاديث كثيرة أذن للضعفة من أهلهِ أن يدفعوا بليل كما في حديث ابن عمر وحديث ابن عباس وحديث عائشة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أذن لهم أن يدفعُوا بليل فقالوا إذا رخص للضعفة ومن يرافقهم فهذا دليل على أنه قد أُتي بالواجب فإذا انتصف الليل وذهب أول الليل وأتى آخرهُ جاز للضعفة أن يدفعُوا وهذا دليل على أن الواجب قد أُتي به وما عدا ذلك فإنه ليس بواجب فنقول إن هذا المقدار هو الواجب إلى منتصف الليل وما زاد على ذلك فهو غير واجب ولهذا الشافعي وأحمد _عليهما رحمة الله _ يرخصان بعد منتصف الليل للضعفة وللأقوياء جميعاً فمن بقي إلى منتصف الليل فقد أتى بالواجب وما بقي فهو سنه في حقه .
أما القول الأول وهو قول الإمام مالك_رحمه الله تعالى_ وهو أن الواجب من المبيت بمزدلفة بمقدار ما يصلي الحاج المغرب والعشاء ويتعشى أو قول بعض أصحابه أنه يكفي بمقدار ما ينزل الإنسان رحلهُ فإن حجة هؤلاء هي ظاهر الآية فإن الله سبحانه وتعالى يقول {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }فإذا وقف الإنسان بمزدلفة وصلى المغرب والعشاء وذكر الله فقد وقف عند المشعر الحرام. وأنتم تعرفون أن الصلاة من أعظم الذكر كما قال الله عزوجل{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.(1/62)
يعني اسعوا إلى الصلاة وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }قال الضحاك رحمه الله : ذكر الله:الصلوات الخمس . فإذا أتى بهذا فقد أتى بالمأمور به في كتاب الله سبحانه وتعالى وما زاد على ذلك فإنه مستحب وكمال ولكنه غير واجب. وما أستدل به الشافعية والحنابلة في قول النبي _صلى الله عليه وسلم _ في حديث عروة بن مضرس " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضاء تفثهُ" فإن هذا كما يقول الموفق ابن قدامة _رحمه الله تعالى_ بإجماع أهل العم أن الحاج لو أنه وقف حتى طلع الفجر ولم يصل الفجر بمزدلفة ولم يذكر الله سبحانه وتعالى في مزدلفة ودفع قبل ذلك أن وقوفه صحيح وإذا كان المأمور به صريحا في الحديث ليس بواجب فلازمه غير واجب من باب أولى(1/63)
والذي يظهر والعلم عند الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة هو وجاهة ما ذهب إليه الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ في هذه المسألة وأن هذا هو المقدار الواجب من المبيت وما ورد من أدلة في هذا الباب كقول النبي _صلى الله علبه وسلم _ كما في حديث عروة بن مضرس " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع أو أنه أذن للضعفة آخر الليل أو بليل ..الخ . فإن هذه كلها تدل على أن المبيت بمزدلفة منه قدر واجب ومنه قدر كمال واستحباب. فالواجب هو ما أمر به في كتاب الله سبحانه وتعالى وما زاد على ذلك يكون كمالاً ولا شك أن هذا القول له وجاهته إلا أن قول أكثر أهل العلم في هذه المسألة له أدلة قوية وهو محل اعتبار ولكن بالنظر إلى أحوال الناس في هذه الأزمنة فالازدحام الشديد وكثرة الحجاج وكثرة السيارات وكثير من الناس ربما يأتي إلى مزدلفة فيدخل من طرف ويخرج من الطرف الأخر ما يستطيع أن ينزل بها وأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ راعى الضعفاء من أهله ومن كان معهم وأن الناس في مثل هذه الأزمنة في حاجه شديدة ولا تقوم الأدلة قيام وجيهاً بحيث لا يتوجه عليها مناقشة بأنه يجب المبيت إلى طلوع الفجر أو إلى آخر الليل أو إلى منتصف الليل. فالذي يظهر والعلم عند الله سبحانه وتعالى وأن قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى _ في هذه المسألة له وجاهه وله حظ من النظر. الأولى بالإنسان ألا يتعرض لخلاف أهل العلم ويدخل بمسألة هل أتى بالواجب أو لم يأت به، ويحتاط لنفسه لكن لو أن الإنسان حصل له مثل ما يحصل كثيرا في أيامنا هذه من أنه دخل متأخر في مزدلفة وما استطاع أن يبقى فيها بعد امتلاء مواقفها وساحاتها ونحو ذلك أننا نقول : مجرد دخوله إلى مزدلفة من طريق وخروجه من الطريق الآخر وبقاءه فيها مدة من الزمن أنه يصدق عليه أنه أتى بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه وأن هذا القدر يكفي في رفع الإثم عنه ولكن كما قلت قبل ذلك الأكمل ما كان عليه النبي _صلى الله عليه(1/64)
وسلم _ وصحابته الكرام .
نأتي الآن إلى المسألة التي بين أيدينا وهي :
حكم من عجز عن المبيت الواجب بمزدلفة ؟
حصل في بعض السنوات أن بعض الحجاج ما وصل إلى مزدلفة الإ بعد طلوع الشمس وانتهاء وقت الوقوف بمزدلفة تماماً
فأولاً على ما رجحناه في حكم المبيت بمزدلفة وأنه واجب وليس بركن فإننا نقول إن حجه صحيح. لان الراجح من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد واجب من واجبات الحج والواجب إذا تركه الحاج فإن حجه صحيح ومسألة ماذا يترتب على ذلك نبحثها الآن المهم أن نعرف أن الحاج الذي يفوته الوقوف بمزدلفة ويعجز عنه أن حجه صحيح . نأتي بعد ذلك إلى حكم المسألة التي بين أيدينا في جزئها
الثاني. إذا كان الحج صحيحا فماذا يلزمهُ ؟ الكلام عمن عجز عن المبيت بمزدلفة ، لا عمن ترك المبيت بمزدلفة مختاراً. يعني إنسان خرج من عرفات وذهب إلى منى مباشرةً وجلس فيها بدون عذر . هذا ما نتكلم عنه هذا ترك الواجب مختاراً ويلزمه ما يلزم من ترك الواجب مختاراً من الإثم ووجوب التوبة والجبران عند من يقول به. نحن نتكلم عما يحصل لبعض الحجاج في هذه الأزمنة وهي أنه ربما عجز عن الوصول إلى مزدلفة حتى فات وقتها أحياناً كأن يكون في باص مثلاً وفي الطريق يتوقف السير ما يستطيع أنك يذهب لأن أهله معه في السيارة وإذا جلس انتهى وقت الوقوف بمزدلفة قبل أن يصل إليها إذاً هذا عاجز عن الوقوف بها وتركه الوقوف بها عذره العجز. فماذا يلزم هذا العاجز ؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من أحصر عن الواجب فإن عليه دم . من أحصر يعني منع حيل بينه وبين الواجب . مثل من حيل بينه وبين الوقوف بمزدلفة أن عليه دم يعني يجبره بدم ، وجبران الدم مبني على أثر أبن عباس _رضي الله تعالى عنهما_ وهو قوله _رضي الله عنه_ من ترك نسكا من غير الفريضة فليهرق دما . هذا قولٌ في هذه المسألة(1/65)
القول الثاني في هذه المسألة: وهو الذي أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد العثيمين _رحمهما الله تعالى _ أفتيا به الحجاج الذين عجزوا عن المبيت بمزدلفة وأنه لا يلزمهم شيء فمدام أنهم تركوا المبيت عجزاً فإنه لا يلزمهم شيء .
ماحجة من قال بهذا القول ؟
استدلوا بدليلين :
الأول : حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي _رضي الله تعالى عنه _ وقد رواه الخمسة وهو حديث صحيح وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال " الحج عرفه ". فمن جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجهُ هذا هو الشاهد فمن وقف ولو للحظة قبل طلوع الفجر بعرفات فقد تم حجهُ. ومن المعروف أن من وقف في هذا الوقت لن يقف في مزدلفة يعني في آخر لحظة من الليل فإنه عند جمهور أهل العلم قد انتهى لان وقت المبيت الواجب عندهم ينتهي بطلوع الفجر .فمن وقف في آخر لحظة في عرفة وهو طلوع الفجر فإنه بالتأكيد لن يستطيع أن يقف بمزدلفة. والنبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول " فقد تم حجهُ " وهذا دلالته أن من وقف بآخر لحظة من وقت الوقوف بعرفة بعرفه ففاته الوقوف بمزدلفة وفواته ذلك بعذر لأنه ما وقف بعرفة إلا في آخر وقتها فقد تم حجه وما على من تم حجه من شيء هذا هو الحجة الأولى لمن قال بهذا القول(1/66)
الدليل الثاني : قالوا إن كل ما عجز عنه المكلف من الواجبات ومن شرائط العبادات فإنه يسقط. كما قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في أن ما عجز عنه المكلف من شرائط العبادات ومن واجباتها فإنه يسقط. كما لو أن الإنسان مثلاً عجز عن ستر العورة أو غير ذلك كالسجود ونحوه فإن من عجز عن شيء من الواجبات وشرائط العبادات فإنه يسقط عنه بالعجز لعموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف الإنسان إلا وسعهُ . (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وهذا القول هو اختيار الشيخين ابن باز والعثيمين _رحمهما الله تعالى_ كما سبق وهذا هو الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة والعلم عند الله. بقية مسألة ليس من النازلة التي نريد أن نتحدث عنها لكن من المهم أن ننبه عليها لان الترجيح في مسألة سابقة قد يترتب علية إشكال فقد ذكرت لكم قبل قليل في مسألة المقدار الواجب من الوقوف بمزدلفة أن قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ في هذه المسألة وجيه وأن الإنسان لو وقف في مزدلفة ربع ساعة أو نصف ساعة أو مر بها مروراً فإن هذا يجزئه على قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ وهو قول وجيه له حظ من النظر. لكن قد يترتب على هذا أمر آخر وهو أن يأتي إنسان مثلاً من عرفات فيصل إلى مزدلفة الساعة التاسعة ثم يقف فيها لمدة ساعة ثم يركب سيارته ويذهب إلى جمرة العقبة ويرميها فحتى لا نقع في هذا الإشكال أردت أن أنبه على هذه المسألة التي أمامكم وهي مسألة حتى لو قلنا بقول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ ووقف الإنسان بمزدلفة مقدار الواجب ثم دفع قبل منتصف الليل.
متى يبدأ وقت رمي جمرة العقبة ؟(1/67)
لاشك أن رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو أكمل الأحوال وهو صحيح بإجماع أهل العلم لكن قبل هذا الوقت متى يجوز له أن يرمي جمرة العقبة ؟ متى يبدأُ وقتها ؟ لا أعلم أحد من أهل العلم قال يجوز أن ترمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل حتى الإمام مالك _رحمه الله تعالى _ الذي يقول أنه يجزئه أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي بها المغرب والعشاء ويتعشى يقول لا يجوز له أن يرمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس . وإنما اختلفوا فيما بين منتصف الليل إلى طلوع الشمس . فقال الشافعي وأحمد إذا انتصف الليل جاز لمن بمزدلفة أن يدفع وجاز له أن يرمي جمرة العقبة وقال بعض أهل العلم لا يرميها حتى يطلع الفجر. وقال بعض أهل العلم لا يرميها حتى تطلع الشمس. هذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة وهي بداية وقت رمي جمرة العقبة من قال بأن وقت الرمي يبدأ بعد منتصف الليل هم الشافعي وأحمد ومن قال بقولهم وهؤلاء استدلوا بأدلةٍ من أظهرها وأقواها ما رواه أبو داود عن عائشة _رضي الله عنها_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أرسل أم سلمه بليل فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم أفاضت إلى البيت وصلت الصبح في مكة " فأم سلمه _رضي الله تعالى عنها _ رخص لها النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن تدفع بليل فذهبت ورمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم ذهبت من جمرة العقبة إلى المسجد الحرام وأفاضت وصلت الفجر هناك فهذا نص صريح أنها رمت قبل الفجر. ومن أدلة أصحاب هذا القول .ما في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر_رضي الله عنها_ أنها وقفت بمزدلفة ثم أخذت تصلي ثم قالت لمولاها يا بني هل غاب القمر؟ قال لا فرجعت فصلت ثم قالت هل غاب القمر؟ قال نعم فأمرت أن يرتحلوا فارتحلوا حتى أتوا منى ثم رموا جمرة العقبة قال مولاها فرجعنا إلى منزلها يعني بمنى ثم صلت الصبح فقلت يا هنتاه لقد غلسنا _يعني صلينا الفجر بغلس _ فقالت يابني قد أذن رسول(1/68)
الله _صلى الله عليه وسلم _ للضعن . والضعن جمع ضعينة وهي : المرأة التي تركب على البعير فالشاهد في هذا أن سياق الدليل يدل على أنها رمت قبل طلوع الفجر لأنها رمت ثم رجعت إلى منزلها ثم صلت الفجر بغلس. هذا حجة من قال إنه يجوز الرمي بعد منتصف الليل إذا جاز الدفع جاز الرمي . وأما الذين قالوا أنه لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الفجر فقد احتجوا بحديث أسماء نفسه وقالوا إن حديث أسماء ظاهره أنها مارمت حتى طلع الفجر. والذي يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى أن أسماء رمت قبل طلوع الفجر لأنها رمت ثم ذهبت إلى منزلها فصلت فقالت ياهنتاه لقد غلسنا فبعد رميها ذهبت إلى بيتها ثم صلت الفجر فالذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن حديث أسماء يدل على أن الرمي قبل طلوع الفجر. أما الذين قالوا أن الرمي لا يجوز إلا بعد صلاة الفجر وبعد طلوع الشمس فا استدلوا بما رواه أهل السنن عن ابن عباس _رضي الله عنهما _ أنه قال قدمنا رسول الله _صلى لله عله وسلم _ ليلة جمع أُغيلمة بني عبد المطلب فأخذ رسول الله _صلى الله عليه ويلم _ يلطحُ أفخاذنا ويقول أُبيني لا ترموا حتى تطلع الشمس . أوبيني بمعني أي أبنائي وهذا نوع من الملاطفة لهم منهُ _صلى الله عليه وسلم _ لا ترموا حتى تطلع الشمس والحديث صحيح.وهذا قد يشكل فعلا كيف تقولون يرمي بعد منتصف الليل والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول لهؤلاء لا ترموا حتى تطلع الشمس. لكن أقول لكم إن حديث ابن عباس يدل على عدم الرمي حتى تطلع الشمس وحديث أسماء يدل على الرمي قبل طلوع الفجر في الدلالة الصحيحة وحديث عائشة دلالته أكيدة وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أمر أم سلمه أن تدفع فدفعت قالت عائشة فرمت جمرة العقبة قبل الفجر. فهذا فيه لا ترموا حتى تطلع الشمس وهذا فيه أن أم سلمه _رضي الله تعالى عنها_ رمت قبل الفجر. فهذه متعارضة وأحسن ما يقال في الجمع بينها هو ما قاله الشنقيطي _رحمه الله تعالى _(1/69)
أن حديث أسماء وحديث عائشة في قصة أم سلمه يحمل على الجواز. وحديث ابن عباس يحمل على الاستحباب. والذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم هو قول الشافعي وأحمد في هذه المسألة وهو أنه إذا انتصف الليل فقد جاز رمي جمرة العقبة .
تنبيه يسير قبل أن نختم هذا وهو أن الأحاديث كثيرة في أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رخص لضعفة أهله وللنساء وللضعن من أخر الليل فأقول إن هذه الرخصة التي ثبتت لهؤلاء في عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_ تثبت لأكثر الناس أو لكل الناس مع هذه الأعداد الهائلة فإنهم يستحقون مثل هذه الرخصة والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
النازلة العاشرة : العجز عن المبيت بمنى ليالي التشريق .
وقبل أن نتحدث عن هذه النازلة نتحدث عن حكم المبيت بمنى ليالي التشريق(1/70)
ليلة الحادي عشر والثاني عشر للمتعجل و الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للمتأخر. فأقول ذهب جماهير أهل العلم بمن فيهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أن المبيت بمنى تلك الليالي واجب من واجبات الحج واستدلوا على وجوب المبيت بمنى بأدلة منها ما في الصحيحين أن العباس بن عبد المطلب_ رضي الله تعالى عنه_ أستأذن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في ترك المبيت بمنى ليالي التشريق من أجل سقايته. لانه كان يقوم على سقاية الحاج من زمزم فأذن له النبي _صلى الله عليه وسلم _ ووجه الدلالة من الحديث ظاهره فإن الرخصة إنما تكون في مقابل العزيمة فلو لم يكن مستقرا عند العباس _رضي الله عنه_ أن المبيت في منى تلك الليالي واجب لما طلب الرخصة من النبي _صلى الله عليه وسلم _ في تركه للعذر، ومن أدلة الجمهور على وجوب المبيت بمنى تلك الليالي ما رواه أصحاب السنن والإمام احمد وصححه الترمذي أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ رخص للرعاة في البيتوتة .يعني في ترك المبيت بمنى تلك الليالي وذلك أن الرعاة يحتاجون أن يخرجوا مع الإبل إلى المرعى فيشق عليهم أن يرجعوا في الليل فرخص لهم النبي_صلى الله عليه وسلم_ في ترك المبيت والدلالة من هذا الحديث كالدلالة من السابق أن الرخصة لا تكون الا في مقابل العزيمة ومن أدلة الجمهور على وجوب المبيت بمنى تلك الليالي . ما رواه مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب _رضي الله تعالى عنهم _ كان يقول لا يبيتن أحد من الحاج من وراء العقبة. لأن العقبة هي حد منى من الجهة الغربية وكان _رضي الله تعالى عنه _ يرسل رجالاً يدخلون من كان من الأعراب والحجاج خارج العقبة أو من وراء العقبة يدخلونهم في منى تلك الليالي فهذه الأدلة بمجموعها تدل على أن المبيت بمنى تلك الليالي واجب من واجبات الحج ولو كان سنة كالمبيت بمنى ليلة التاسع لما طلب الرعاة والسقاة الرخصة ولما كان عمر_رضي الله تعالى عنه_ يأمر(1/71)
الناس بأن يدخلوا إلى منى في تلك الليالي فلما كانت ليالي التشريق تختلف عن ليلة التاسع ترخص الرعاة والسقاة وأمر عمر_رضي الله عنه_ رجاله أن يدخلوا الناس إلى منى تلك الليالي .
وذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أن المبيت بمنى تلك الليالي سنة لما روي عن ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما_ أنه كان يقول إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت . ولكن لا شك في رجحان قول الجمهور في هذه المسألة وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل فحديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ لا يقدم عليه شيء. فالراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن المبيت بمنى في تلك الليالي واجب. إذا كان واجبا فهل يرخص لأحد في ترك المبيت بمنى تلك الليالي ؟ نعم فقد ثبتت الرخصة كما مر آنفاً للعباس ابن عبد المطلب _رضي الله عنه _ ومن كان معه من بني هاشم من أجل سقايتهم وثبتت الرخصة للرعاة من أجل رعيهم وكان ابن عمر _رضي الله عنهما_ يقول من كان له متاع في مكة يخشى عليه الضيعة فليس علية بأس أن يترك المبيت. ومن أجل ذلك قال أهل العلم إن من كانت له حاجة أو عذر يمنعه من المبيت بمنى في معنى عذر أصحاب الأعذار الذين رخص لهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ فإنه يعذر في ترك المبيت بمنى . كأصحاب الحوائج العامة الذين يقومون على مصالح المسلمين سواءً كانت هذه المصلحة مصلحة عامة لجميع المسلمين مثل رجال الأمن والدفاع المدني والصحة والجوازات ونحوهم.أو حتى لو كانت المصلحة مصلحة خاصة لمجموعة من المسلمين فإن الرعاة ما كانوا يرعون ابل المسلمين كلهم. وإنما كان الرجل يرعى ابل رفاقه ومن كان معه في الحج. ولهذا نقول سواءٌ كان الرجل يقوم على مصلحة عامة من مصالح المسلمين كرجال الأمن والدفاع المدني ونحوهم. أو كان يقوم على مصلحة مجموعة من المسلمين مثل أصحاب الحملات الذين يقومون على مصالح مجموعة من المسلمين فإذا أحتاج هؤلاء أن يذهبون إلى مكة أو إلى العزيزية أو العدل أو نحو ذلك. وقد يتأخرون عن(1/72)
المبيت فإنهم في معنى من رخص لهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ في ترك المبيت فيقال لهم لا حرج عليكم في ترك المبيت وليس عليكم في ذلك شيء.
نأتي بعد ذلك إلى المسألة التي بين أيدينا وهي :
العجز عن المبيت بمنى . كما هي حال عدد ليس بقليل من المسلمين في هذه الأزمنة فإن الإنسان الذي يذهب إلى الحج هذه الأيام إذا لم يكن منظما إلى حملة لها مخيمات في منى فإنه يجد مشقة عظيمة وعسرا في المبيت بمنى ليالي التشريق. فما حكم هؤلاء ؟ الكلام الذي قلناه في حكم من عجز عن إدراك المبيت بمزدلفة يتكرر هاهنا .فإنا قلنا إن مزدلفة على الصحيح من أقوال أهل العلم أنها واجب من واجبات الحج وأن من عجز عن المبيت بمزدلفة كمن منعه الزحام ومشاكل السير من الوصول إلى مزدلفة حتى طلعت الشمس فإنه معذور وهذا الواجب يجب مع القدرة عليه. أما مع عدم القدرة عليه فإنه يعذر بتركه وليس عليه شيء. وقد رجحنا هذا القول وذكرنا له أدلة في ذلك الموضع. فهذا الكلام الذي قلناه في مزدلفة يجري على المبيت في منى ليالي التشريق. فإن المبيت بمنى ليالي التشريق واجب. ولا شك أن المبيت بمزدلفة آكد من المبيت بمنى فإني لا أعلم أحد من أهل العلم قال إن المبيت بمنى ليالي التشريق ركن. وأما المبيت بمزدلفة فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه ركن في الحج كما سبق. إذن المبيت بمنى ليالي التشريق لا شك أنه أقل تأكيداً ولزوماً من المبيت بمزدلفة ليلة العيد. فإذا سقط المبيت بمزدلفة بالعجز عنه فلئن يسقط المبيت بمنى ليالي التشريق بالعجز عنه من باب أولى. وهذا القول الذي هو إذا عجز عن المبيت بمنى ليالي التشريق يسقط عنه كما أعرف هو قول كثير من أهل العلم في هذا الزمن. فقد أفتى به الشيخ عبد االعزيز بن باز والشيخ محمد العثيمين _رحمهما الله _ وكذالشيخ ابن جبرين و الشيخ عبد الكريم الخضير والدكتور القرضاوي و جمع من أهل العلم المعاصرين فمن عجز عن المبيت بمنى تلك الليالي سقط عنه(1/73)
إلى غير شيء. بمعنى أنه لا يجب عليه أن يجبره بدم. لكن يرد عندنا بعض المسائل المتعلقة بهذه المسألة :
أولها إذا قلنا لا يجب عليه المبيت بمنى ليالي التشريق ويسقط عنه وجوب المبيت بمنى فهل يسقط وجوب المبيت إلى بدل أو إلى غير بدل؟ _ما معنى هذا الكلام_ معناه أنه إذا سقط عنه وجوب المبيت بمنى. هل نقول له نم حيث شئت. ام نقول إنك تعذر في ترك المبيت بمنى لكنك لا تعذر في ترك المبيت فيما يجاور منى ويلاصقها. هذا هو المقصود بهذه المسألة. فالذين أطلعت على أقوالهم من أهل العلم ذهبوا فيها إلى ثلاثة مذاهب :
القول الأول :قال أصحابه إن هذا واجب سقط بالعجز عنه وبالتالي فإنه يسقط إلى غير بدل فيبيت حيث شاء.سواء بات في مزدلفة أو في العدل أو في العزيزية أو في مكة أو في عرفات أو في أي مكان فإذا عجز عن المبيت بمنى فهذا هو الواجب فليس له بدل وممن قال بهذا القول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز_رحمة الله عليه_ وجماعة من أهل العلم .
القول الثاني قال أصحابه إنه إذا عجز عن المبيت قي تلك الليالي فإن هذا الوجوب يسقط إلى بدل وهو أنه يجلس في أدنى الحاج حتى ولو كان خارج منى.
فالآن مثلاً يجلس في المخيمات الملاصقة بمزدلفة فإن عجز عنها انتقل إلى ما يليها مما ليس به مخيمات أو من جهة العقبة مثلاً أو من جهة المجازر ونحوها من الجهة الشمالية المهم أن يكون في أدنى الحجاج. بمعنى أنه إذا ما استطاع أن يجلس في منى يجلس مما يليها ملاصقا للحجاج وهذا قال به جماعة من أهل العلم منهم الشيخ محمد العثيمين _رحمة الله تعالى عليه_ وهذا على سبيل الوجوب يعني أنه إذا سقط عنه وجوب المبيت بمنى فلا يسقط عنه وجوب المبيت فيما يليها وليس له عذر في أن يذهب إلى مكة مثلاً أو إلى العدل أو نحو ذلك. الواجب أنه إذا عجز عن المبيت في منى فيبيت فيما يليها .(1/74)
القول الثالث في المسألة : قال إنه يسقط عنه وجوب المبيت بمنى لكن يندب له ويستحب له أن يكون ملاصقا للحجاج مما يليهم كأن يكون مثلاً في مزدلفة أو يكون في جهة العقبة أو نحو ذلك مما يلي الحجاج ملاصقا لهم .
هذه هي أقوال أهل العلم في هذه المسألة . وهذا الخلاف مبني على الخلاف في المقصود من المبيت بمنى . هل المقصود البقعة يعني بقعة منى فقط أم أن المقصود البقعة واجتماع الحجيج ؟ _ هل المقصود البقعة فقط يعني أن الإنسان يؤمر بالمبيت بمنى لذات منى لان هذه مشعر جعل الله سبحانه وتعالى المبيت به تلك الليالي شعيرة من شعائر الحج.فهذا هو المقصود فالمقصود أرض منى أو أن المقصود أرض منى ومعه اجتماع الحجاج في صعيد واحد ؟
فمن نظر إلى أن المقصود في المبيت هو البقعة وذات منى قال إنه إذا تعذر على الحاج أن يبيت في هذه البقعة فغيرها من الأماكن سواء. سواء بات في عرفات أو في مزدلفة أو في العدل أوفي العزيزية أو عند العقبة أو حتى بمكة فلا معنى لأن نوجب عليه مكانا آخر لان المقصود هي البقعة .(1/75)
ومن نظر إلى أن المقصود بالمبيت في تلك الليالي البقعة واجتماع الحجيج في صعيد واحد. كان له نظر آخر ولهذا قال إنه إذا عجز عن المبيت بمنى جلس مما يلي الحجاج ملاصقا لهم متصلاً بهم حتى إن من أهل العلم من قال إنه إذا عجز عن المبيت بمنى وجب أنه يكون ملاصقا للحجاج كالمسجد إذا امتلأ واتصلت الصفوف خارج المسجد جازت الصلاة خارج المسجد لكن بشرط أن تكون الصفوف متصلةً.فهو نظر إلى هذا الأمر وهو اجتماع الناس ولهذا شبه الحجاج بمنى بالجماعة في الصلاة. فإذا امتلأ المسجد واتصلت الصفوف جاز للناس أن يصلوا خارج المسجد بشرط أن تتصل هذه الصفوف. هذا هو أصل الخلاف في هذه المسألة . والذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم هو أن البقعة مقصودة بلا شك وهذا محل إجماع من أهل العلم أنها مقصودة في الحج ولكن مما لا شك فيه أن اجتماع الناس في تلك الأيام وفي تلك المشاعر أنه أيضا مقصود. ولا شك أن من أعظم المقاصد التي من أجلها خلق الله سبحانه وتعالى بل هي أعظم المقاصد التي من أجلها خلق الله سبحانه وتعالى الخلق عبادة الله سبحانه وتعالى وإن من ما يحبه الله سبحانه وتعالى أن يجتمع عباده وأن يظهروا له الفقر والفاقة والامتثال والاستسلام والطاعة ولا شك أن اجتماع الناس حالة تلبسهم بالعبادة من مقاصد الشريعة ومما يدل على ذلك ماروى البخاري ومسلم من حديث أم عطية _رضي الله عنها _ أنها قالت أمرنا _تعني في صلاة العيد_ أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين. فمن المقاصد التي من أجلها أمرت المرأة وهي حائض أن تخرج إلى صلاة العيد والجارية الصغيرة أن يشهدن الخير ودعوة المؤمنين. يعني أن المؤمنين إذا اجتمعوا فإن دعوتهم حينئذ ترجى بركتها ولهذا قالت يشهدن الخير ودعوة المؤمنين وفي رواية للبخاري (كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ(1/76)
خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ
) فهذا مما يدل على أن الاجتماع في أثناء العبادة أنه من مظان نزول رحمة الله تعالى واستجابة الدعاء ومما يدل على ذلك أيضا ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ قال في حديث طويل "إن لله ملائكةً سياحين يسيحون في الطرقات يطلبون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً تنادوا أن هلموا إلى حاجتكم فذكر النبي_صلى الله عليه وسلم_ الحديث ثم في آخر الحديث قال فيقول الله سبحانه وتعالى لملائكته أُشهدكم أني قد غفرت لهم قال فيقول ملك من الملائكة يارب فيهم فلان عبد خطاء إنما جاء لحاجة_ هذا الرجل ليس منهم إنما جاء لحاجة وهو خطاء يعني كثير الخطايا_ قال فيقول الله سبحانه وتعالى وله قد غفرت هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " . إذاً اجتماع الناس والتصاق الإنسان بالحجاج وقربه منهم لا شك أنه من المقاصد العظيمة لله سبحانه وتعالى بحيث أن الله يحب ذلك ولهذا جعله مظنة إجابة الدعاء وهو مقصود ولا شك للإنسان وللعبد من اجل أن يتعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى لان هذا من مظان إجابة الدعاء. يقول أبن قاسم _رحمة الله عليه_في حاشيته على الروض المربع وهو يتحدث عن الوقوف بعرفة يقول فإذا اجتمعت الهمم و تساعدت القلوب وعظم الجمع كان ذلك مظنة نزول الخير والبركة فإن الله سبحانه وتعالى قد نصب ذلك علامة على القبول . إذاً من أسباب قبول الدعاء وتنزل رحمة الله سبحانه وتعالى أن الناس يجتمعون في مكان واحد مظهرين الفقر والفاقة والذل لله سبحانه وتعالى رافعين اكفهم بالدعاء ولهذا لاشك أنه من الحرمان أن الإنسان يذهب إلى الحج ثم إذا تعذر عليه المبيت بمنى تلك الليالي أخذ شقة في مكان ناء ثم جلس فيها بعيدا عن الحجاج وبعيدا عن التعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى في تلك المواقف العظام إن هذا(1/77)
أمر لا شك أنه مخالف لمقصود الحج بالإضافة إلى أن من مقاصد الحج العظيمة أن يجتمع الحجاج في مكان واحد يتعلم جاهلهم من عالمهم ويواسي غنيهم فقيرهم ويساعد قويهم ضعيفهم وهذا لا يحصل حينما يكون الإنسان بعيداً كما أن من أعظم مقاصد الحج تساوي الناس وإظهار الذل والفاقة ولا شك أن كون الإنسان يجلس ملاصقا للناس في خيمة أو في صعيد ليس فيه خيام ولا بناء أنه في مثل هذه الحالة يكون أقرب إلى الذل والعبودية واستشعار الحج مما إذا كان بعيدا في مكان مهيأً لا يقرب من الحجاج ولا يشعر بهم ولا ينتفعون منه ولا ينتفع منهم ومن أعظم المقاصد في الحج للأقوياء وللأغنياء والمتعلمين أن يحسوا في هذا الموقف العظيم بالقرب من إخوانهم الفقراء والضعفاء والمعوزين والجهلاء وأن ينفعوا إخوانهم ويعلموهم ويرشدوهم وإلا فما معنى أن يحج الإنسان خمس مرات أو عشر مرات ثم يجلس في مكان بعيد لا يعلم جاهلاً ولا يرشد ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يذل لله سبحانه وتعالى بحيث يجلس بين إخوانه المسلمين لا يشعر بتميز ولا يشعر بعلو لا شك أن هذه من المقاصد العظيمة في الحج ولهذا فإن لم يكن القول الثاني وهو وجوب أن يكون الإنسان ملاصقا للحجاج راجحا فلاشك أن القول الثالث هو الراجح في هذه المسألة. وأنا أستبعد أن يكون الإنسان في نزوله في أدنى الحجاج كنزوله في مكة أوفي العدل أو في مكان بعيد. لاشك أن هذا بعيد في نظري و لا أعتقد أن الإنسان لو تأمل النصوص في هذا المقام ونظر في مقاصد الحج أنه يقول بهذا القول والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
أيضا من المسائل المتعلقة بهذه المسألة ،(1/78)
مسألة بما يحصل العجز ؟ متى نقول إن الحاج عجز عن المبيت بمنى ؟ فبعض الناس يسمع مثل هذه الفتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الشيخ محمد أو غيرهم من أهل العلم وهي أن من عجز عن المبيت بمنى يسقط عنه لكنه يتحرج متى يقال إنه عجز ؟ ولهذا كثير من الناس إذا صلى العشاء مثلاً دخل بسيارته إلى منى وأخذ يبحث عن مكان وأنتم تعرفون ازدحام منى وأن الناس في هذا الوقت وفي تلك الليالي إذا دخل الواحد إلى منى فإنه لا يريد أن يخرج فربما جلس في طرقات منى أربع ساعات أو خمس ساعات أو ست ساعات معه النساء ومعه الضعفاء وبين عوادم هذه السيارات ويضيّق على المسلمين وإذا أرادت سيارات الإسعاف أن تمر ما استطاعت.(1/79)
فهل نقول إنه لا يحصل العجز حتى تدخل منى وتحاول أن تجد مكانا فإذا لم تجد أصبحت عاجز وسقط عنك المبيت. هذا عندي أنه أشق من أن نقول إنه لا عذر لأحد ويجب المبيت على كل حال ، الصحيح أنه يكفي من هذا أن يعرف الإنسان أو يغلب على ظنه أنه لن يجد مكاناً مناسباً يبيت فيه بمنى تلك الليالي وأنتم تعرفون أن منى الآن أصبحت الأماكن المتاحة فيها محدودة جداً لأنها غطيت تقريباً بالكامل بهذه الخيام فلم يبق إلا الطرقات وشعف الجبال هذا أمر معروف فلن يجد الإنسان إذا لم تكن هناك خيمة مهيأة يأوي إليها لن يجد إلا هذه الشوارع التي جُعلت طريقً للحجاج وطريقاً لسيارات الخدمة والإسعاف ونحو ذلك. فإذا غلب على الإنسان أنه لن يجد مكاناً وليس له مكان يأوي إليه من خيمة ونحوها فإنه يعتبر عاجزا ويعذر في ترك المبيت ، والأرصفة المعدة لمرور المشاة ليست مكاناً للجلوس و لا يعتبر الحصول عليها قدرة على المبيت بمنى. فإن هذه الأرصفة إذا جلس فيها الإنسان فإنه يؤذي ويؤذى وهذا أمر مشاهد لا إشكال فيه. فإن الإنسان إذا جلس فيها ضيق على الحجاج الذين يمرون ويأتون ويذهبون وربما جلس تحت الأرصفة فجلس في ممرات السيارات وضيق على سيارات الخدمة والإسعاف ونحو ذلك. فهو يؤذي الناس بلا شك في جلوسه بتلك الأماكن وأيضا هو يتعرض للأذى. فأنتم تعرفون أن هذه الأماكن ليست أماكن للمبيت صحياً على الإطلاق فهي ملوثة بعوادم السيارات والأتربة والغبار وغير ذلك مما لا يناسب أن يجلس الإنسان فيه تلك الليالي فهو يعرض نفسه لضرر عظيم وربما أيضا عرض أهله ومن معه لدهس ونحو ذلك. وربما كان معه نساء فتكشفن فهذه الأماكن بلا شك أن الحصول عليها لا يعتبر قدرة على المبيت بمنى فإذا لم يكن هناك ساحات أو أماكن مهيأة للجلوس فيها وليست ممرات للسيارات ولا للناس أو خيام معدة فإن الإنسان يكون عاجزا وبالتالي نقول إنه سقط عنه المبيت و رخص له بترك المبيت إلى البدل الذي مر معنا قبل(1/80)
قليل. هذه هي المسألة التي بين أيدينا وعندنا مسألة أخرى ليست نازلة جديدة ولكنها تتعلق بهذه النازلة التي بين أيدينا.
هذه المسألة هي :بعض الناس وهو في بلده إذا أراد أن يحج ثم ذهب إلى حملات الحج وجد حملة لها مخيمات في منى وسعر هذه الحملة مثلاً أربعة آلاف ريال. ووجد حملة أخرى مخيماتها في مزدلفة قيمتها مثلاً ثلاثة آلاف ريال. فهل نقول إنه إذا كان قادرا على قيمة الحملة الأعلى التي مخيماتها بمنى لا يجوز له أن يحج مع الحملة الأرخص ؟ _هذه مسألة مهمة _ فكثير ممن يريد الحج يسأل هل يجوز لي أن أحج بحملة بثلاثة آلاف ريال ومخيماتها في مزدلفة مع أني أجد أربعة آلاف ريال قيمة الحملة التي مخيماتها بمنى. فهل يجوز له أن يذهب مع الحملة الأرخص ؟ هذه هي المسألة وهي متعلقة بالمسألة السابقة كما رأيتم. والحقيقة أن الحديث عن هذه المسألة يجرنا للحديث عن سبب هذه المشكلة. و هو تأجير المخيمات بمنى أو تأجير منى. فلما كان التأجير بمنى أغلى كانت الحملات في منى أغلى فلهذا تجد الحملة الذي مخيمها من فئة ( أ ) قيمتها مثلا خمسة آلاف ريال لماذا ؟قال لأنها قريبة من الجمرات والسعر الذي تستأجر به أغلى. بينما الحملة التي في مخيم (ب)أرخص . (ج) أرخص. (د) أرخص. (هـ) أرخص.
لماذا؟ لأن هذه المخيمات شرائح بحسب قربها من الجمرات تكون أغلى وبحسب بعدها تكون أرخص. فهذا التأجير لمخيمات منى ما حكمهُ ؟لننتقل بعد ذلك إلى مسألتنا التي نتحدث فيها.فأقول :(1/81)
تأجير أراضي المشاعر سواء كانت عرفات أو منى أو المسجد الحرام و ما جعله الله سبحانه وتعالى مشعرا لإقامة هذه الأنساك ؟ لا يجوز وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم كما أعرف وممن قال بهذا القول ونصره وعضده شيخ الإسلام أبن تيمية _رحمه الله تعالى _ وابن القيم والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد العثيمين وغيرهم من أهل العلم. ويستدلون على أنه لا يجوز تأجير الأراضي التي جعلها الله تعالى أماكن للمناسك بأدلة كثيرة منها مثلاً قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) العاكف فيه يعني المقيم بمكة. والباد يعني القادم إليه. فهذا المسجد الحرام للناس سواء وإذا كان للناس سواء فإنه ليس لأحد أن يستقل بشيء منه ثم يبيعه على الناس أو يؤجره أو نحو ذلك وأهل العلم متفقون على إنه إنما يؤجِر من ملك وأن الذي لا يملِك لا يؤجر. فليس لك أن تؤجر أرض جارك أو بيته أو دكانه. الأجرة ثمرة للملك والله سبحانه وتعالى يقول (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)ومما يدل على تحريم تأجير أراضي المشاعر والمناسك ما روى أبو داود والترمذي وأبن ماجه وغيرهم بسند صححهُ الترمذي وجود إسناده الإمام النووي _رحمة الله تعالى على الجميع_وفيه أن عائشة_رضي الله تعالى عنها قالت للنبي_صلى الله عليه وسلم_ في حجة الوداع ألا نبني لك بيتاً يظللك غداً بمنى فقال النبي_صلى الله عليه وسلم_ لا هو مناخ من سبق إليه . وفي بعض الروايات لا منى مناخُ من سبق . إذاً من سبق إليها فهي مناخهُ فإذا قضى حاجتهُ تركها. وليس لأحد أن يضع يده عليها أو يملكها و الشيخ عبد العزيز بن باز_رحمه الله تعالى _ يقول :(1/82)
تأجير المخيمات بمنى سحت. والشيخ محمد بن عثيمين _رحمه الله _ يقول : أراضي المشاعر كالمساجد لا يجوز لأحد أن يبني عليها أو أن يؤجرها. هذا هو كلام أهل العلم في مسألة تأجير أراضي المشاعر في منى أو في عرفات أو مزدلفة أو نحوها.
بعد ذلك نأتي إلى الواقع الموجود بمنى. منى كانت أزمنة طويلة كما تعرفون أو تذكرون يستغل منها الكثير وجزء منها لا يستغل وكان الناس يضعون الخيام بشكل عشوائي بحيث إنه في حالة وجود حرائق يتعذر على رجال الدفاع المدني الوصول إلى الحرائق أو إخمادها وأحياناً يكون اتصال الخيام سببا لانتشار الحرائق وكانت الخيام أيضا من مواد سريعة الاشتعال ولهذا كنا في الزمن السابق لا نكاد نفتقد الحرائق في منى في موسم من المواسم كل سنه يكون فيه حرائق فكان من المصلحة العظيمة المتحتمة أن يقام مثل هذا المشروع العظيم في منى لاستغلال جميع أراضي منى بخيام غير قابلة للاشتعال أو أنها بطيئة الاشتعال تضرب هذه الخيام بشكل جيد التهوية مكيفة فيها ممرات للخدمات والطوارئ وتكون بارتفاعات ومقاسات مناسبة والناس لا يمكن أن يقوموا بمثل هذه المشاريع.فكان هذا المشروع من أعظم الخير والنفع والبركة لعموم المسلمين في أنحاء الأرض حيث جعلت منى بهذه الطريقة ولله الحمد لا اعرف أنه حصلت حرائق منذ وجد هذا المشروع .(1/83)
نبقى الآن في حكم تأجير منى بعد وجود هذا المشروع ؟ فا أما تأجير أرض منى فلا شك في تحريمه وقد سبق أن اشرنا إليه. أما الحديث عن تأجير هذه الخيام الموجودة في منى . فإن هذه الخيام ضربت للحجاج وأنت بدل ما تأتي وتجلس في العراء أو تجلس في خيام أنت تنصبها دون أن تتقيد بشروط السلامة ودون أن توفر الخدمات جعلت لك هذه الخيام بهذه الطريقة المتحضرة. أما تأجير الخيام بهذه الصفات فإن الذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم هو جوازه ، أن تؤجر الخيام على أنها خيام فقط بقطع النظر عن مكانها بحيث أنها تؤجر بسعر مثلها تماما لو أن هذه الخيمة وضعت في صحراء ليست من المناسك ولا من المشاعر ولا من الأماكن المقدسة. يعني الذي يؤجر هو فقط البناء "الخيمة" وما فيها من الخدمات وإذا كان الأمر بهذه الطريقة فإن الذي أراه والله أعلم هو جوازهُ. وإذا قلنا بهذا القول فمعنى ذلك أن تأجير المخيمات سيستوي فيه المخيم الذي في مزدلفة والمخيم الذي بجوار الجمرة لأن الإيجار للخيمة بقطع النظر عن المكان فهذا هو الذي يجوز أن تسوى أجرة الخيام في أدنى منى وأقصاها شمالها وجنوبها لأن التأجير إنما هو للخيام. فهذا هو الذي أرى رجحانه في هذه المسألة وأن لا يزاد في تأجير هذه الخيام عن قيمة تأجير الخيام بقطع النظر عن الأراضي.(1/84)
نرجع الآن إلى المسألة وهي إذا وجدت حملتان إحداهما في منى والأخرى بمزدلفة هذه أغلى وهذه أرخص وأنت غني قادر على الحملتين جميعاً هل يجب عليك أن تذهب إلى الأغلى بحيث يقال إنك قادر على المبيت بمنى فإذا لم تدفع الأغلى فقد تركت المبيت وأنت قادر عليه. الذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم وقد أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز _رحمه الله تعالى_ أنه لا يجب ذلك ولو أن الإنسان ذهب إلى الأرخص ولم يدفع أجرة المكان الأغلى أن ذلك جائز في حقهِ و لا يعد قادر على المبيت حينئذ لأن القدر الزائد من الأجرة الذي هو في مقابل الأرض لا يجب عليه ولا يجوز أصلاً أن يؤخذ فلا يجب عليه أن يدفعه وبهذا نقول لو أن الإنسان وهو قادر ذهب إلى مخيم في مزدلفة وذهب مع حملة في أحدى مخيمات مزدلفة فإننا نقول إنه لا يعد قادرا على المبيت بمنى ليالي التشريق إذا لم يكن مكان يبيت فيه ويسقط عنه هذا الذي يظهر والله تعالى أعلم رجحانه في هذه المسألة.
النازلة الحادية عشره : الرمي قبل الزوال أيام التشريق.
وهذه النازلة كما تكلمنا في أول مجلس ليست من النوازل بمعنى أنها ليست من القضايا المستجدة التي حدثت في هذا الزمن ولكنها من المسائل التي كما قلت لكم تحتاج إلى إعادة بحث ونظر وتمحيص وترجيح وفق ما تغير من أحوال الناس في هذا الزمن المسألة هي حكم الرمي قبل الزوال أيام التشريق ؟ قد تكلمنا عن بداية وقت رمي جمرة العقبة في مجلس سابق واليوم الحديث عن رمي الجمار في الأيام الثلاثة الباقية للمتأخر وفي اليومين الحادي عشر والثاني عشر للمتعجل قبل أن نبحث حكم الرمي قبل الزوال نعرج على :(1/85)
هدي النبي_صلى الله عليه وسلم_ في رميه في هذه الأيام الثلاثة فأقول قد ثبت كما في الأحاديث الكثيرة كما في حديث جابر_رضي الله عنه_في صحيح الإمام مسلم وحديث عائشة عند الترمذي وحديث ابن عباس عند أبي داود وحديث ابن عمر عند البخاري أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ كان لا يرمي الجمار في أيام التشريق حتى تزول الشمس وكان _صلى الله عليه وسلم_ يقدم رمي الجمار إذا زالت الشمس على صلاة الظهر فيرمي الجمار ثم يرجع_صلى الله عليه وسلم_ ويصلي الظهر هذا هو هدي النبي_صلى الله عليه وسلم_في رمي الجمار في تلك الأيام ولهذا اجمع أهل العلم على أن من رمى الجمار في أيام التشريق بعد زوال الشمس أن رميه صحيح. لا يختلفون في ذلك لأن هذا هو الموافق لهدي النبي _صلى الله عليه وسلم_
أما مسألتنا وهي حكم الرمي قبل هذا الوقت _الرمي قبل زوال الشمس _ فهذه محل خلاف بين أهل العلم وأشهر الأقوال في هذه المسألة أربعة أقوال :
القول الأول : أن رمي الجمار في أيام التشريق لا يجوز قبل زوال الشمس ومن رمى قبل الزوال لم يصح رميهُ وعليه أن يعيد الرمي مرة أخرى . وهو قول جماهير أهل العلم قال به من الصحابة ابن عمر _رضي الله تعالى عنهما_ وهو قول الأئمة الأربعة في الصحيح من مذاهبهم وخلق من التابعين و الأئمة المتبوعين والعلماء إلى هذا الزمن فهو قول أكثر أهل العلم . أن الرمي قبل الزوال لا يصح ولا يجزئ ومن رمى فعلية الإعادة.
القول الثاني : قال إن الرمي قبل الزوال لا يصح ولا يجزئ إلا في يوم النفر الآخر وهو اليوم الثالث عشر للمتأخر فمن تأخر إلى اليوم الثالث عشر جاز له أن يرمي قبل زوال الشمس وهذا القول رواية في مذهب الإمامين أبي حنيفة واحمد _عليهما رحمة الله تعالى_ أما بقية الأيام الحادي عشر والثاني عشر فلا يجوز ولا يصح الرمي قبل الزوال .(1/86)
القول الثالث : يقول أصحابه إنه يجوز الرمي قبل الزوال في اليوم الذي ينفر فيه الإنسان فإن نفر في اليوم الثالث عشر جاز له أن يرمي قبل الزوال وإن نفر في اليوم الثاني عشر وتعجل جاز له أن يرمي قبل الزوال أما في اليوم الحادي عشر فلا يصح الرمي قبل الزوال وأما في اليوم الثاني عشر للمتأخر فلا يصح قبل الزوال إنما يصح الرمي قبل الزوال في اليوم الذي ينفر الإنسان فيه من منى ويخرج . وهو رواية عن الإمامين أبي حنيفة وأحمد _عليهما رحمة الله تعالى _ ورجح هذا القول من العلماء المعاصرين الشيخ ابن جبرين حفظه الله فإنه قال بهذا القول إذا احتاج الإنسان إليه وكذلك الشيخ ناصر العمر قال بهذا القول.
القول الرابع : قال أصحابه إنه يجوز الرمي قبل الزوال مطاقا في جميع أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثلث عشر لمن تأخر وهذا القول قال به من الصحابة ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما_ كما رواه عنه ابن أبي شيبة وقال به ابن الزبير وهو قول أبي جعفر الباقر و ابن طاووس ابن كيسان التابعي المشهور وابنه هذا من الفقهاء المعتبرين الذين اشتهروا بالفتوى وعكرمة تلميذ ابن عباس وهو رواية أيضا عن الإمام أبي حنيفة وقال به جمع من الأئمة من المذاهب فقد قال به من الشافعية الإمام الرافعي وإمام الحرمين الجويني والإمام الإسنوي وقال به من الحنابلة ابن عقيل وابن الزاغوني وابن الجوزي وقال به أيضا من العلماء المعاصرين الشيخ صالح البليهي والشيخ عبد الله بن محمود فقيه قطر والشيخ مصطفى الزرقا و الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء وقواه أيضا الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي _رحمة الله تعالى عليهم أجمعين_ هذه هي أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
أدلة المذاهب في هذه المسألة :
أستدل أصحاب القول الأول بعدد من الأدلة فمن هذه الأدلة.(1/87)
أولاً ما أسلفنا قبل قليل وهو أنه قد ثبت عن النبي_صلى الله عليه وسلم_أنه رمى الجمار أيام التشريق بعد زوال الشمس وقال : لتأخذوا عني مناسككم .
وقالوا إن النبي_صلى الله عليه وسلم_ كان ينتظر الزوال حتى إنه_صلى الله عليه وسلم_ يرمي الجمار قبل صلاة الظهر وما كان النبي_صلى الله عليه وسلم_ ليؤخر الصلاة عن أول وقتها لو كان يجوز رمي الجمار قبل الزوال فلو كان يجوز قبل الزوال لرمى قبل الزوال وصلى صلاة الظهر في وقتها لكنه أخر الرمي حتى زالت الشمس ثم أيضا النبي_صلى الله عليه وسلم_ داوم على هذا الأمر ثلاثة أيام فإنه رمى في الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد الزوال ولو جاز قبل الزوال لرمى ولو يوما واحدا حتى يُعلِمَ الناس بأنه يجوز الرمي قبل هذا الوقت هذا هو الدليل الأول من أدلة الجمهور في هذه المسألة وهو أقوى دليل في هذه المسألة. و هذا الدليل وإن كان إسنادهُ ثابتا لا مطعن فيه إلا أن دلالته على أن وقت الرمي لا يبدأ إلا بزوال الشمس ليست صريحة كما لا يغالط في ذلك أحد فاقتصار هذا الدليل على أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ رمى بعد الزوال. قد ذكرنا مراراً أن فعل النبي_صلى الله عليه وسلم_ المجرد لا يفهم منه الوجوب أو التحديد إلا بأدلة أخرى تضاف علية أما مجرد الفعل من النبي_صلى الله عليه وسلم_ فإنه لا يدل على التحديد فإن كان ثمة أدلة أخرى تدل على التحديد أخذ بها أما الدليل فدلالته ليست قوية أو ظاهرة في أن الرمي لا يبدأ إلا بزوال الشمس كون النبي_صلى الله عليه وسلم_ يداوم عليه ثلاثة أيام أيضا لا يدل على أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال فإن النبي_صلى الله عليه وسلم_ قد يداوم على المستحب قد يداوم على الأمر الأفضل وحتى كون النبي_صلى الله عليه وسلم_ يتحين إذا زالت الشمس ولو أنه يجوز قبل الزوال لرمى قبل الزوال وصلى الصلاة لأول وقتها هذا أيضا ليس فيه دلالة على التحديد بالوقت فكان يمكن أن يقدم النبي_صلى الله(1/88)
عليه وسلم_ الصلاة في أول وقتها ثم يرمي بعد ذلك وليس هناك أحد من أهل العلم يقول إن الرمي لا يجوز بعد صلاة الظهر فالأخذ من هذه الأدلة أن الرمي قبل الزوال لا يجوز يحتاج إلى شيء من التكلف هذا فعل النبي_صلى الله عليه وسلم_ وهديه ولا إشكال في ذلك لكن أن نأخذ من هذا أنه لا يجوز الرمي لهذه الأدلة التي هي مجرد فعل فإن هذا لا ينتج الدعوى فيما يظهر لي ومما يدل على ذلك وأن هذا لا يدل على التحديد مثلاً أن الحنابلة يقولون بأن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة جمع مع أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ ما وقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس ومع ذلك قالوا إنه يجوز أن يقف الإنسان ضحى في عرفة ولو دفع وخرج منها قبل الزوال فإن وقوفه صحيح وحجه صحيح مع أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ ما وقف فيها إلا بعد زوال الشمس فمجرد فعل النبي_صلى الله عليه وسلم_ وأنه رمى بعد الزوال لا يدل على أن الرمي قبل الزوال لا يجوز أو لا يصح.(1/89)
ثانيا من أدلة الجمهور أيضا على أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال ما روى البخاري في صحيحه أن رجلاً سأل ابن عمر _رضي الله عنهما_ متى أرمي أيام التشريق فقال ابن عمر إذا رمى إمامك فارم _ كان في الزمن السابق يكون على الحج أمير هو الذي يقود الناس ويتولى أمورهم _ فكرر السائل السؤال عليه مراراً فقال : كنا نتحين زوال الشمس فإذا زالت رمينا _يعني كنا نتحرى ننتظر مثل ما يحصل الآن عند المرمى في اليوم الثاني عشر تجد أن الناس متأهبين معهم الحجارة ينتظرون زوال الشمس كل واحد ينظر في ساعته حتى إذا زالت الشمس رمى فهذا هو التحين يعني انتظار هذا الحين_ وهذا فعل الصحابة_رضوان الله عليهم_ وهو دليل على أن الرمي لا يجوز قبل الزوال ولو جاز قبل الزوال ما جلسوا ينتظرون الزوال ويتحينونه. وهذا أيضا دلالته وإن كان صحيحاً ثابتا كما في صحيح البخاري لكن دلالتهُ على عدم صحة الرمي قبل الزوال ليست صريحة كما أسلفنا.
ثالثا : ومما استدل به الجمهور في هذه المسألة وهو دليل صريح وصحيح لكن يرد عليه إشكال آخر فقد روى مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر _رضي الله تعالى عنهم _ أنه قال لا ترم أيام التشريق قبل أن تزول الشمس. وهذا من كلام ابن عمر_رضي الله عنهما_ وليس مرفوعاً إلى النبي_صلى الله عليه وسلم_ وهذا دلالته صريحة لكن الإشكال أنه من كلام ابن عمر_رضي الله عنهما_ وأهل العلم يختلفون في قول الصحابي هل هو حجة إذا لم يخالفه صحابي آخر ولكن ابن عمر_رضي الله تعالى عنهما_ قد خالفه صحابيان كما أسلفنا في الأقوال أنه قد ثبت عن ابن عباس وابن الزبير_رضي الله تعالى عنهما_ أنهما رميا قبل الزوال. فقول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر لا يختلف أهل العلم في أنه تجوز مخالفته ولا يجب إتباعه في هذا القول هذه هي أبرز أدلة الجمهور على أن الرمي لا يجوز ولا يصح قبل زوال الشمس .(1/90)
أما القول الثاني الذي قال أصحابه إن الرمي قبل الزوال يجوز في يوم النفر الآخر الذي هو اليوم الثالث عشر للمتأخر. فقد استدل أصحاب هذا القول بدليلين :
الدليل الأول : مارواه البيهقي في سننه عن ابن عباس_رضي الله عنهما_ مرفوعاً إلى النبي_صلى الله عليه وسلم_ انه قال إذا انتفخ النهار من يوم النفر الآخر فقد حل الرمي والصدر. إذا أنتفخ النهار يعني إذا ارتفعت الشمس. من يوم النفر الآخر النفر له يومان يوم النفر الأول هو يوم الثاني عشر للمتعجل ويوم النفر الآخر هو اليوم الثالث عشر. فقد حل الرمي والصدر.الرمي معروف والصدر أن الإنسان ينفر ويخرج. هذا هو أبرز أدلة أصحاب هذا القول ولكن هذا الدليل لا يصح عن النبي_صلى الله عليه وسلم_ فإنه من رواية طلحة بن عمر المكي وقد ضعفه الأئمة قال الإمام احمد : متروك وقال النسائي : هو متروك الحديث وقال يحيى بن معين وعلي ابن المديني ليس بشيء وقال البيهقي ضعيف وانتم تعرفون أن المتروك حديثه لا ينجبر بحال ولا يصح وإذا فالاستدلال بهذا الدليل لا يستقيم.(1/91)
الدليل الثاني من أدلة أصحاب هذا القول.أنه يجوز للإنسان أن يتعجل في يومين، بمعنى أن ينفر من منى في اليوم الثاني عشر وإذا تعجل في يومين يسقط عنه الرمي في اليوم الثالث عشر بالكلية فإذا كان يسقط عنه الرمي بالكلية فلأن يجوز تقديمه قبل الزوال من باب أولى ولكن هذا التعليل لا يستقيم لأن العبادة قد تكون مندوبة لكن إذا دخل بها الإنسان وجب عليه أن يلتزم بها، فمثلاً حج التطوع إذا دخله الإنسان فهل نقول إن هذا الحج تطوع بمعنى أن أعماله تختلف عن حج الفرض أو أنه يرخص له في أشياء لأن حجه تطوع لا فإن الله عز وجل يقول " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " فإذا دخل الإنسان في هذا النسك وجب أن يلتزم فيه بهدي النبي_صلى الله عليه وسلم_ وبصفة العبادة كما أمر الله سبحانه وتعالى بها وكما أمر بها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ .هذه هي أدلة أصحاب القول الثاني في هذه المسألة .
أما أصحاب القول الثالث وهم الذين قالوا انه يجوز الرمي قبل الزوال في اليوم الذي ينفر فيه الإنسان سواءً اليوم الثاني عشر أو اليوم الثالث عشر فإن هؤلاء استدلوا بأدلةٍ منها.(1/92)
الدليل الأول قول الله سبحانه وتعالى" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " فرخص الله سبحانه وتعالى لمن تعجل في الحج في يومين وهو الذي ينفر من منى في اليوم الثاني عشر في ثاني أيام التشريق . وجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه وتعالى جعل اليومين ظرفا للتعجل ، فالتعجل النفر في اليوم الثاني عشر فإذا كان اليوم الثاني عشر ظرف للتعجل دل على جواز الرمي في جميع اليوم الثاني عشر لأن الله عز وجل جعل هذا اليوم كله وقتاً للتعجل ولا يمكن أن يتعجل الإنسان إلا بعد الرمي ولا يمكن أن يكون اليوم الثاني عشر كله وقتا للتعجل إلا إذا قلنا إن اليوم الثاني عشر كله وقت للرمي فبهذا نقول إن اليوم الثاني عشر وقت للتعجل فيكون وقت الرمي في جميع هذا اليوم.(1/93)
الدليل الثاني مما استدل به أصحاب أن الله سبحانه وتعالى رخص للحجاج في التعجل في اليوم الثاني عشر وإذا قلنا لا يجوز الرمي إلا بعد زوال الشمس فمعنى ذلك أن بداية الرمي محددة بزوال الشمس والمتعجل لا بد أن يخرج من منى قبل غروب الشمس فمعنى ذلك أن وقت الرمي بالنسبة للمتعجل ما بين زوال الشمس إلى غروبها فإذا علمنا أن الله سبحانه وتعالى في علمه السابق يعلم أعداد الحجيج في عهد محمد _صلى الله عليه وسلم_ وبعدهُ إلى يوم الناس هذا وإلى يوم القيامة وأدركنا أن المتعجلين في مثل هذه الأزمنة يضيق هذا الزمن على الرمي بالنسبة لهم فإذا قلنا أن الرمي لا يكون إلا في هذا الوقت المحدود مع هذه الأعداد الهائلة من الحجاج وممن يريد أن يتعجل فيشبه هذا أن يكون من الترخيص بما لا يمكن . يعني كيف يقال مثلاً لمليوني حاج أو ثلاثة ملايين حاج كلهم يريد أن يتعجل لا ترموا إلا ما بين زوال الشمس إلى غروبها فإذا عرفنا أن هذا الوقت لا يتسع وأن الله عز وجل رخص لهم في الرمي في هذا الوقت وفي الدفع فإن هذا يكون من الترخيص بما لا يمكن كما لو قيل لك مثلاً صل صلاة الظهر من زوال الشمس إلى ما بعد الزوال بدقيقتين والصلاة أربع ركعات فلا يمكن أن تصلي الصلاة في هذا الوقت فهم يقولون إن تحديد وقت الرمي للمتعجلين بما بين الزوال إلى الغروب إبطال لرخصة الله سبحانه وتعالى في التعجل لمن لا يستطيع إيقاع الرمي في هذا الوقت
ولئلا نبطل رخصة الله سبحانه وتعالى يجوز الرمي قبل الزوال لأنه لا يمكن أن يرمي هؤلاء المتعجلون ويخرجُوا من منى قبل الغروب إلا إذا قلنا يجوز الرمي قبل الزوال هذا هو دليل من قال بهذا القول .(1/94)
وقد يناقش هذا الاستدلال بأن ما بين الزوال إلى غروب الشمس قد لا يضيق لكن الناس يتزاحمون على الرمي في أول الوقت ولكن الوقت كله لا يضيق عن هذه الأعداد ولكن هذه المناقشة أيضا فيها نظر فإنه بلا شك لو أن كل الحجيج تعجلوا والتعجل جائز لهم فإن هذا الوقت يضيق عن أن يستوعبهم الرمي.
أدلة القول الرابع في هذه المسألة وهو قول من قال أنه يجوز الرمي قبل الزوال مطلقاً . استدل أصحابه بعدد من الأدلة من ابرز أدلتهم وأظهرها :
الدليل الأول عدم الدليل الدال على التحديد قالوا إنه ليس هناك دليل يدل على التحديد بزوال الشمس والأصل أن أيام التشريق كلها أيام للرمي فإن النبي_صلى الله عليه وسلم_ رخص للرعاة أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد يرموا جمرة العقبة ثم يرموا الحادي عشر والثاني عشر في أحدهما فدل ذلك على أن كل أيام التشريق وقت لي الرمي فإذا لم يقم دليل على التحديد وكانت أيام التشريق كلها أيام رمي فمعنى ذلك أنه يجوز الرمي قبل الزوال.
الدليل الثاني من أدلة أصحاب هذا القول القياس على جمرة العقبة فكما أن جمرة العقبة تجوز من طلوع الشمس ولأهل الأعذار من قبل ذلك فإن الجمار في أيام التشريق تجوز قياسا على جمرة العقبة لكن هذا الدليل يمكن أن يناقش فإن جمرة العقبة رخص في وقتها وقدم لأن يوم العيد فيه أعمال كثيرة ولهذا سمي يوم الحج الأكبر إذ فيه رمي جمرة العقبة وفيه الطواف والسعي والحلق والنحر فا أعمال يوم العيد كثيرة ولهذا وسع في وقته أما أيام التشريق فليس هناك للحاج إلا رمي الجمار فقياس أيام التشريق على جمرة العقبة أو يوم النحر قياس مع الفارق .(1/95)
الدليل الثالث من أدلة أصحاب هذا القول ما مر في مناقشة أدلة الجمهور وهو القياس خاصة عند الحنابلة الذين يقولون بأن الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الفجر القياس على الوقوف بعرفة فكما أن الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الفجر مع أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ لم يقف إلا بعد الزوال فكذلك رمي الجمار يجوز قبل الزوال مع أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ لم يرم إلا بعد الزوال .
ويذكر أصحاب هذا القول أدلة كثيرة تدور حول معنى التخفيف والتيسير ولكن التخفيف المطلق دون الاعتبار بالنصوص الشرعية ليس له اعتبار ولا نظر فإن العبادات والفرائض وواجبات الدين كلها لا تخلو من مشقة لهذا كان النبي_صلى الله عليه وسلم_ من أقواله من صلى البردين دخل الجنة . بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة.إسباغ الوضوء على المكاره. كثرة الخطاء إلى المساجد. ليس فيه عمل من الأعمال الشرعية لا يكون فيه مشقة كثرت أو قلت فمجرد المشقة في هذا الأمر ليس كافيا للاستدلال على جواز الرمي قبل الزوال. ولكن الاعتبار في هذا المعنى هو أن هذه الأيام أيام للرمي والأصل في الرمي أنه يبدأ بطلوع الشمس كما في حديث الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لبني عبد المطلب أبيني لا ترموا حتى تطلع الشمس وأن هذه الأيام كلها أيام للرمي وأن النبي_صلى الله عليه وسلم_ رخص للرعاة أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد فإذا كانت هذه الأيام بمثابة يوم واحد وأعمال الحج فيها على السواء فإن الرمي يصح فيها قبل الزوال كما يصح بعده ومما استدل به أصحاب هذا القول أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ طاف للإفاضة يوم النحر ومع ذلك لا أحد يقول إن طواف الإفاضة ما يجوز إلا يوم النحر بل يجوز أن يوقعه الإنسان يوم الحادي عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر ومن أدلة أصحاب هذا القول أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ ما كان يسأل في هذه الأيام عن شيء قدم ولا أُخر إلا قال لا حرج لا حرج لا حرج في أدلةٍ(1/96)
كثيرة ومما استدل به أصحاب هذا القول أيضا وقواه الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي _رحمة الله تعالى عليه_ أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ سؤل يوم العيد فقال له قائل يا رسول الله رميتُ بعدما أمسيت فقال النبي_صلى الله عليه وسلم_ أفعل ولا حرج . فهذا كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي دلالته قوية على ان الرمي قبل الزوال انه جائز لأن هذا تحرج في الرمي بعد الزوال وهذا بالطبع في يوم النحر الذي هو جمرة العقبة فإذا جاز بعد المساء فمعنى ذلك أن الليل وقت للرمي أما النهار فكالمتقرر عندهم أنه وقت للرمي قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : أيام التشريق كلها ليلها ونهارها أيام أكل وشرب وذكر لله وكلها أوقات ذبح ليلها ونهارها وكلها _ على الصحيح _ أوقات حلق وكلها يتعلق بها على القول المختار طواف الحج وسعيه في حق غير المعذور وإنما يتفاوت بعض هذه المسائل في الفضيلة فكذلك الرمي ا.هـ. هذه هي أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة.
وبعد استعراض هذه الأقوال وأدلتِها وما ورد عليها من مناقشات ننتقل بعد ذلك إلى :(1/97)
الترجيح في المسألة . فا أقول والعلم عند الله سبحانه وتعالى إن قول جمهور أهل العلم في هذه المسألة واستدلالهم بفعل النبي_صلى الله عليه وسلم_ لا شك في أنه يدل دلالة واضحة وجلية على أن الأفضل والأولى والمجزئ إجماعاً أن لا يرمي الإنسان حتى تزول الشمس. وأما دلالته على عدم صحة الرمي قبل زوال الشمس فإنها في نظري ليست صريحة وإذا كانت هذه الأدلة لا تدل دلالة صريحة على منع الرمي قبل زوال الشمس ثم وجدنا أدلة أخرى تدل دلالة صحيحة أو إيماءً على جواز الرمي قبل الزوال مثل رمي ابن عباس _رضي الله عنهما_ قبل الزوال ورمي ابن الزبير_رضي الله عنهما _ قبل الزوال ومثل ظاهر قول الله تعالى "فمن تعجل في يومين فلا أثم عليه" فإنه لا شك عندي والله سبحانه وتعالى أعلم في أن الرمي في اليوم الذي ينفر فيه الإنسان أنه يجوز إن شاء الله تعالى ويصح قبل الزوال. أخذاًً بفعل ابن عباس وابن الزبير_رضي الله تعالى عنهم_ وبظاهر قول الله تعالى :" فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ "ولعدم صراحة الأدلة الدالة على المنع من الرمي قبل الزوال وإذا كانت المسألة والأقوال فيها بهذه القوة والاعتبار فلا شك أن النظر إلى أحوال الناس وما يحصل في هذه الأزمنة من ازدحام شديد وكثرة للحجيج في هذه الأماكن ومن تكرر للحوادث و الوفيات لا شك أن هذا يؤثر على الترجيح ومن يتجاهل مثل هذه الحوادث وحاجة الناس الملحة والمشقة الشديدة والعسر في هذه المسألة مع أن الأدلة ليست صريحة في المنع لا شك أنه يبعد النجعة فإذا كانت الأدلة متقاربة ومحتملة وأحوال الناس كما تشاهدون من المشقة والعسر وما يكاد يخلو موسم من المواسم من وفيات تحصل عند تحين الناس لزوال الشمس في اليوم الثاني عشر فإن القول بترجيح المنع مع عدم صراحة الأدلة هذا في نظري ضعيف والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/98)
فأما الرمي قبل الزوال في اليوم الذي ينفر فيه الإنسان فلا شك عندي في جوازه وفي صحته. وأما في اليوم الذي لا ينفر فيه الإنسان مثل اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر للمتأخر وإن كانت الأدلة ليست صريحة في المنع إلا أن مخالفة قول الجمهور في هذه المسألة والخروج من الخلاف مستحب كما هو مقرر فا الأولى للإنسان أن لا يرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر ولا في اليوم الثاني عشر إذا لم يكن يريد التعجل لكن إذا كان يريد الخروج يجوز له أن يرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر هذا الذي أراه راجحا في هذه المسألة والعلم عند الله سبحانه وتعالى. هذه هي المسألة التي بين أيدينا بقيت مسألة تابعة لهذه المسألة.
وهي إذا قلنا يجوز الرمي قبل الزوال قد يقول قائل متى يبدأ الرمي ؟
أقول الذين قالوا يجوز الرمي قبل الزوال اختلفوا متى يبدأ وقت الرمي على قولين:
القول الأول : أن وقت الرمي يبدأ بطلوع الفجر فإذا طلع الفجر انتهى وقت رمي جمرة الأمس وبدأ وقت جمرة اليوم .
القول الثاني : إن وقت الرمي يبدأ بطلوع الشمس .
هما قولا ن في هذه المسألة فا أما الذين قالوا يبدأ بطلوع الفجر فقالوا إن هذه الأيام كما أسلفنا كلها وقت للرمي. فإذا قلنا إن الرمي ينتهي بطلوع الفجر فمعنى ذلك أنه إذا انتهى ابتدأ وقت رمي الجمرة التالية . وأيضا يقيسون بداية الرمي ببداية رمي جمرة العقبة وقد ذكرنا أن من أقوال أهل العلم في رمي جمرة العقبة أن من أهل العلم يقول يبدأ وقتها بطلوع الفجر هذا هو القول الأول في هذه المسألة .(1/99)
القول الثاني في هذه المسألة. أن الرمي يبدأ بطلوع الشمس قال أبو جعفر محمد بن على الباقر _رحمه الله تعالى_ ورحم آباءه : أرم من طلوع الشمس إلى غروبها و الذين حددوا الرمي بطلوع الشمس يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم أنهم اعتمدوا في ذلك على القياس على جمرة العقبة فإن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال في جمرة العقبة حينما قدم ضعفه أهله مع بني عبد المطلب أُبيني_يعني أي بَنيا_ لا ترموا حتى تطلع الشمس والحديث مخرج عند الخمسة قالوا هذا دليل على أن الأصل أن وقت رمي الجمرة إنما يكون بطلوع الشمس فإذا قلنا في جمرة العقبة يجوز رميها قبل ذلك لما ثبت في حديث أسماء وأم سلمه_رضي الله عنهما_ في رميهن قبل الفجر أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس فإن الرخصة التي تثبت في جمرة العقبة لا تثبت في أيام التشريق.لأن جمرة العقبة عمل من خمسة أعمال في يوم النحر الرمي والحلق والنحر والطواف والسعي فهي خمسة أعمال
فيحتاج الحاج إلى أن يطول الوقت حتى يستطيع أن يأتي بهذه الأعمال كلها أما في أيام التشريق فالعمل الوحيد الذي يقوم به الحاج في نهارها هو رمي جمرة العقبة فلم يحتج لهذه الرخصة هذه هي الأقوال في هذه المسألة .
والذي يظهر لي والله أعلم هو القول الثاني أن الرمي إنما يكون بعد طلوع الشمس ولو كان حديث بن عباس عند البيهقي إذا انتفخ النهار من يوم النفر الآخر فقد حل الرمي والصدر.لو كان صحيح أو يقبل أن يحتج به لكان دليلاً لهذه المسألة لكنه لا يصح كما قلنا وضعفه لا ينجبر فإن فيه متروكا وبتالي لا يصح الاحتجاج به والذي يظهر والله تعالى أعلم في هذه المسألة أنه لا يبدأ وقت الرمي إلا بطلوع الشمس.
هذا هو المجلس السابع من المجالس التي تعقد في هذه الدورة لبيان بعض أحكام نوازل الحج وفي هذا المجلس سوف نتحدث بإذن الله تعالى عن نازلتين .
النازلة الثانية عشرة : رمي حمرة العقبة من الجهة الشمالية .(1/100)
جمرة العقبة أيها الأخوة كانت إلى عهد قريب قبل مايقرب من نحو أربعين سنة كانت على هيئتها حينما رماها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت في عرض جبل كان في موضع العقبة هذا جبل صغير وكانت العقبة في عرض الجبل فكان الناس لا يستطيعون رميها إلا من جهة الوادي بحيث أن الجمرة والجبل يكونان أمام الذي يرمي فيأتي الإنسان من الجهة الجنوبية ويستقبل الشمال يستقبل الجمرة تكون مكة عن يساره ومنى عن يمينه والجمرة تلقاء وجهه جهة الشمال والجنوب خلفه فكان يرميها وهذا هو المكان الذي رماها منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه رماها من بطن الوادي استقبلها وجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ورماها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما تزايدت أعداد الحجاج في السنوات الأخيرة زيادة هائلة تطلب الأمر تعديل وتحسين منطقة العقبة فأزيل هذا الجبل وأبقيت هذه الجمرة بمفردها في مكانها بعد أن أزيل الجبل الذي في جهتها الشمالية فأصبحت هذه الجمرة في هذا الزمن مثل بقيت الجمرات مثل الجمرة الصغرى والجمرة الوسطى.في السابق لما كانت العقبة موجودة ولما كان الجبل موجودا ما كان أحد يستطيع أن يرمي هذه الجمرة من الجهة الشمالية لوجود الجبل .أما وقد أزيل هذا الجبل وبرزت الجمرة من جميع الجوانب فقد وجدت هذه المسألة وهي " حكم رمي جمرة العقبة من الجهة الشمالية" التي كانت هي جهة الجبل .(1/101)
فما حكم أن يأتي الإنسان إلى الجمرة من خلفها يعني من الجهة الشمالية . ولو أنكم دققتم أو تذكرتم حال الجمرة الآن لوجدتم أنها تأخذ شكل نصف دائرة النصف المقوس هذا هو جهة الوادي الذي رماها منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والجهة المقطوعة المستقيمة هذه هي جهة الجبل فما حكم أن يأتي الإنسان من خلف الجمرة ويرميها ؟ هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم وربما أنكم تذكرون أنها كانت بهذا الشكل ثم في يوم من الأيام جعل عليها دائرة كاملة وحوض ثم بعد ذلك أزيل هذا الحوض مرة أخرى وجعل على شكل نصف دائرة وهذا كله يدل على أن المسألة كانت محل خلاف بين أهل العلم في هذا الزمن فمنهم من يرى جواز رميها من جميع الجهات ومنهم من يرى أنه لا يجوز إلا أن ترمى من الجهة التي كانت ترمى منها على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي جهة الوادي . هذا هو مجمل هذه المسألة . فالذين يمنعون حجتهم هي أن جهة الجبل ليس جهة رمي على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم ترم منها وبالتالي فإنه لا يصح أن ترمى من هذه الجهة التي لم تكن ترمى منها على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا ليس بمرمى وإنما المرمى الجهات الأخرى التي كانت ترمى منها على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذين يقولون بجواز رميها من جميع الجهات يقولون إن هذا المرمى وهذه الجمرة كان الجبل هو الذي يحول دون رميها من الجهة الشمالية أما وقد أزيل فقد ظهر المرمى من جميع الجهات وبالتالي فإنه ليس هناك ما يمنع شرعا من رميها وقد روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ " رمى الجمرة من أعلى الجبل " ولو أنكم رأيتم بعض الصور لجمرة العقبة قديما قبل أن تزال عنها هذه العقبة لوجدتم أن الجمرة كما قلت لكم قبل قليل في عرض الجبل فكان الناس يرمونها من بطن الوادي .و يروى أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ رماها من فوق الجبل يعني رمى الجمرة من أعلاها وهذا يدل على أن الجهة ليست مقصودة(1/102)
إنما المقصود هو رمي هذا المكان فحيث كان الجبل يحول دون رميه من هذه الجهة لم تكن ترمى أما وقد أزيل هذا الجبل وبرز هذا المكان فإنه يرمى من أي جهة بدليل أن الجمرة كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرميها من جهة ومع ذلك الناس يرمونها من قبل مرمى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن بعده ومن جميع الجهات البارزة وهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ رماها من مرمى لم يرمها منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أنه رماها من فوق الجبل ولهذا الذي أرى رجحانه والله سبحانه وتعالى أعلم هو أنه يجوز رمي جمرة العقبة من جميع النواحي . جهة الوادي التي كانت ترمى منها والجهة الشمالية التي أزيل منها الجبل .
النازلة الثالثة عشرة : التعجل قبل الثاني عشر لعذر .(1/103)
يقول الله سبحانه وتعالى" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ". في هذه الآية خير الله سبحانه وتعالى عباده الحجاج بين التعجل والتأخر. والتعجل هو: أن يتعجل الحاج في يومين بمعنى أن ينفر من منى ويخرج منها في اليوم الثاني عشر اليوم الثاني من أيام التشريق بعد أن يرمي الجمرات ذلك اليوم . والتأخر هو أن يتأخر فيبيت بمنى ليلة الثالث عشر ويرمي الجمرات في اليوم الثالث عشر ثم بعد ذلك يطوف للوداع . هذا هو التأخر فلا يجوز لأحد أن يتعجل قبل ما جعله الله سبحانه وتعالى حدا للتعجل . فلا يجوز لأحد أن يتعجل في اليوم العاشر أوفي اليوم الحادي عشر فإن الله سبحانه وتعالى قال" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " فأمر الله سبحانه وتعالى كل من أحرم بحج أو عمرة حتى ولو كانا نفلين بإتمامهما على سبيل الوجوب. فأنت في دخولك لحج التطوع أو لعمرة التطوع بالخيار لكنك إذا دخلت فإتمامهما أمر واجب بإيجاب الله سبحانه وتعالى وهذا هو ما ينفرد به الحج والعمرة عن سائر العبادات . فلو أن إنسانا أصبح صائما تطوعا ثم بدا له أن يفطر فإن ذلك جائز . وفي الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " جاء إلى عائشة فقالت : أهدي لنا حيس . فقال قربيه فإني أصبحت صائما . كان صائما فلم أتي بهذا الطعام أفطر صلى الله عليه وسلم وهكذا بقية العبادات الإنسان إذا دخل في شي منها على سبيل التطوع فإن له أن يقطعه و يخرج منه مع أن الأفضل أن يتمه ويأتي به كله لكن لو قطعه فليس عليه بأس . أما الحج والعمرة فإنهما ينفردان عن بقية العبادات بأن من دخل فيهما حتى ولو كانا تطوعا فإنه يجب عليها إتمامهما فبمجرد ما تحرم بالحج أو بالعمرة تكون أنت ومن يحج الفريضة سواء في وجوب(1/104)
الإتيان بجميع أعمال الحج لقول الله سبحانه وتعالى " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " .
نأتي إلى مسألتنا وهي من تعجل قبل الوقت الذي جعله الله سبحانه وتعالى حدا للتعجل . الله عز وجل جعل حد التعجل أن يرمي الإنسان الجمار من اليوم الثاني عشر فإذا رمى الجمار في اليوم الثاني عشر جاز له حينها أن يتعجل لقوله سبحانه وتعالى " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ " يأتي إنسان يريد أن ينفر من مكة في اليوم الحادي عشر أو في اليوم العاشر مثلا فنقول إن من يتعجل قبل الحد الذي جعله الله سبحانه وتعالى حدا للتعجل له حالتان :
الحالة الأولى: أن يتعجل بلا عذر . إنسان مستعجل يريد أن يغادر مكة بأي طريقة ويرجع إلى بلده مل سئم أو أنه رتب هذا الأمر وهو في بلده فحجز مثلا طيران أو نحوه في اليوم الحادي عشر كما يفعل بعض الحجاج أحيانا ربما تجد إنسانا في اليوم الحادي عشر راجع من الحج فيترك المبيت ليلة الثاني عشر ويترك رمي الجمار ويرجع إلى بلده فإن هذا لاشك أنه أرتكب إثما وخالف أمر الله سبحانه وتعالى وترك عددا من أعمال الحج وفي تركه لهذه الأعمال بلا عذر فإنه يترتب عليه ما يترتب على من ترك نسكا من الأنساك دون عذر.
فيترتب على ذلك أولا الإثم فإنه يأثم لأنه خالف أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب إتمام الحج وخالف أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب المبيت بمنى ليلة الثاني عشر ورمي الجمار في اليوم الثاني عشر فهذا المتعجل قد خالف أمر الله سبحانه وتعالى فهو يستحق الإثم لمخالفته أوامر الله سبحانه وتعالى ولأنه لم يأت بالعبادة كما أمر الله عز وجل بقولة " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " فأول ما يترتب على ذلك أنه يأثم لتركه المبيت ورمي الجمار إلى آخره من أعمال الحج .(1/105)
الأمر الثاني أنه يترتب على هذا الحاج ما يترتب على من ترك نسكا من هذه الأنساك . فإذا ترك المبيت بمنى ليلة الثاني عشر قلنا إنه ترك واجبا مع القدرة عليه فيترتب عليه ما يترتب على من ترك واجبا عند أهل العلم . فمن أهل العلم من يقول عليه دم ونهم من يقول يطعم مسكينا ويترتب عليه ما يترتب على من ترك رمي الجمار في اليوم الثاني عشر وهذا واجب من الواجبات كما هو معروف فيترتب عليه ما رتبه أهل العلم من ترك رمي الجمار في اليوم الثاني عشر وأنه يجب عليه دم لترك هذا الواجب . هذا فيمن تعجل قبل اليوم الثاني عشر بلا عذر .
النوع الثاني من المتعجلين : هم محل النازلة التي نريد أن نتحدث عنها وهم أولئك الذين يتعجلون قبل اليوم الثاني عشر بأعذار . وهذه النازلة حدثت قبل عدة سنوات نازلة وترتب عليها أن عددا ليس بالقليل من الحجاج أضطر إلى أنه يغادر مكة في اليوم الحادي عشر. فتذكرون أنه قبل عدة سنوات بعد أن تقرر أن الوقوف بعرفة اليوم الفلاني موافقا للتقويم ورتب الناس وأصحاب الحملات والحجاج حجوزاتهم في المطارات وفي البواخر على ذلك و في اليوم الرابع تقريبا من شهر ذي الحجة أو في اليوم الخامس أصدر مجلس القضاء الأعلى قرارا بأن يوم عرفة في اليوم العاشر بالنسبة للتقويم بمعنى أن الرؤية خالفت التقويم فأخر الوقوف بعرفة يوما فأصبح اليوم العاشر في التقويم هو التاسع حسب الرؤية فما الذي حدث .(1/106)
الذي حدث أن الكثير من الحجاج وأصحاب الحملات رتبوا حجوزاتهم خاصة الحجاج الذي نريد أن نتحدث عن حالهم الذين كان في نيتهم أن يتعجلوا في اليوم الثاني عشر فقد كانوا حجزوا على الطائرات في اليوم الثاني عشر حسب التقويم وحسب ما كان أول الأمر فلما عدل الموعد تأخر الوقوف بعرفة يوما وأصبح اليوم العاشر هو الحادي عشر والحادي عشر هو الثاني عشر فالذي نتج عن ذلك أن حجز هؤلاء أصبح في اليوم الحادي عشر . الحجاج الذين كانوا من الداخل مثلا من مناطق المملكة أو من المناطق القريبة ونحو ذلك هؤلاء لا إشكال فيهم فإنه إن لم يذهب بالطائرة وجد سيارة وجد النقل هذا لا إشكال فيه لكن بعض الحجاج مثلا كانوا يأتون على رحلات دولية من بلاد بعيدة والواحد منهم الذي حجز اليوم الثاني عشر وأصبح اليوم الثاني عشر هو اليوم الحادي عشر إذا ترك هذه الرحلة فقد لا يتمكن من الحجز على رحلة أخرى إلى بلده إلا بعد أسبوعين أو أكثر وبعض هؤلاء الحجاج فقراء ومرتبط بحملات ويحتاج إلى سكن وإلى إعاشة وإلى أمور كثيرة وهو لا يستطيع هذه الأمور فمثل هؤلاء الحجاج الآن أصبح من المتعذر عليهم البقاء إلى اليوم الثاني عشر بسبب هذه الحجوزات فأصبح تعجلهم قبل الوقت الذي جعله الله سبحانه وتعالى وقتا للتعجل بعذر فما حكم هؤلاء؟(1/107)
فنقول أولا: أما بالنسبة للإثم الذي قلنا إنه يترتب على من تعجل بلا عذر فإن هؤلاء معذورون بسبب أنهم تعجلوا بأعذار خارجة عن إرادتهم ولم يحصل منهم تفريط و بالتالي فإن المؤاخذة على أمر خارج عن إرادة الإنسان لم تأت به الشريعة فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عما أكرهت عليه ولم يؤاخذ الإنسان إلا بما يطيق قال سبحانه وتعالى " رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ " و قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ أخرجه ابن ماجه
فمن ناحية الإثم فهو مرفوع عنهم في هذا الأمر وهم معذورون في تعجلهم .
نأتي إلى الأمر الثاني وهو : ما يترتب على من ترك نسكا من الأنساك . لأن هؤلاء سوف يتركون المبيت ليلة الثاني عشر وسوف يتركون أيضا رمي الجمار في اليوم الثاني عشر فماذا يجب على هؤلاء في تركهم لهذه الأنساك ؟
لعلكم تذكرون أننا قلنا فيمن عجز عن الوقوف بمزدلفة أنه لا يجب عليه شيء لأنه عاجز لم يستطع الوقوف بمزدلفة وقلنا فيمن عجز عن المبيت بمنى أنه يسقط عنه المبيت بمنى . فهل هؤلاء في حكم من حبس عن مزدلفة فلم يستطع الوصول إليها ؟ أو فيمن حبس عن منى فلم يستطع دخولها ولم يجد مكانا يبيت فيه؟
حينما نتأمل نجد أن بين الفريقين فرقا. فالذي حبس عن مزدلفة أو عن منى عاجز عن الوقوف بها أما هؤلاء فليسوا عاجزين عن الوقوف ما حبسوا عنها يستطيع الواحد منهم أن يترك هذه الرحلة ويبقى ويبيت ويقف لم يحصر فهذا فرق بين الأمرين . الآخر نقول إنه غير قادر والله عز وجل يقول " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا "(1/108)
ولهذا قلنا إنه يسقط عنه إلى غير بدل . أما هؤلاء فإن الواحد منهم قادر على الوقوف وقادر على المبيت ولكن يترتب عليه ضرر . ولهذا أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية والشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ عليهم جميعا رحمة الله تعالى ـ أفتوا بأن من كانت هذه حاله فإنه يلزمه ما يلزم من ترك هذه الأعمال . فمن ترك المبيت ليلة الثاني عشر فقد ترك واجبا من واجبات الحج فيلزمه ما يترتب على هذا الترك عند أهل العلم ويلزمه على ترك الرمي اليوم الثاني عشر ما يلزم من ترك هذا الواجب على خلاف بين أهل العلم فيما يجب على من ترك المبيت أو ترك الرمي فمن أهل العلم من يجعل في ترك المبيت عن كل ليلة دم وإذا ترك المبيت كل الليالي عليه دم واحد ومن أهل العلم من يقول إن الليلة الواحدة فيها إطعام مسكين فإذا ترك الليالي كلها فعليه دم واحد ولهذا اختلفت فتواهم فمرة يقولون عليه في ترك المبيت إطعام مسكين واللجنة الدائمة تقول : عليه في ترك المبيت دم ، وكذلك رمي الجمار اليوم الثاني عشر من أهل العلم من يجعل فيه إطعام مسكين وأكثر أهل العلم يوجبون دما لترك رمي الجمار في هذا اليوم . المهم أنه يترتب عليه في ترك المبيت ورمي الجمار في اليوم الثاني عشر ما يترتب على من ترك هذين النسكين .
يأتي عندنا إشكال هذا الإشكال هو في طواف الوداع . افترض أن هذا الحاج لما علم أن رحلته في اليوم الحادي عشر ولا يستطيع البقاء استفتى فقيل له كل واجب تتركه عليك كذا وكذا قال طيب أنا سوف اترك المبيت مضطرا واترك رمي الجمار مضطرا لكن طواف الوداع أنا ما عندي مانع أطوف في اليوم الحادي عشر .
فالإشكال هو في هذا الوداع هل يصح أن يطوف الوداع في اليوم الحادي عشر أم لا يصح ؟(1/109)
فمن أهل العلم وهو الذي أفتت به اللجنة الدائمة والشيخ عبد العزيز بن باز ـ عليه رحمة الله ـ من يقول إن طواف الوداع في اليوم الحادي عشر ولو كان المتعجل معذورا لا يصح ولو أتى به الإنسان وبالتالي يجب عليه على ترك الوداع دم لأنه ترك واجبا . هذا هو القول الأول في هذه المسألة .
ماحجة هؤلاء على أن طواف الوداع لا يصح في اليوم الحادي عشر ؟ قالوا : لأن طواف الوداع إنما يكون بعد انتهاء أفعال الحج هذا الإنسان الذي يريد أن يتعجل في اليوم الحادي عشر هل تعجل بعد انتهاء أفعال الحج ؟ لا. تعجل قبل انتهاء أعمال الحج لأن الله عز وجل إنما جعل التعجل في يومين فيقولون : إن هذا بقي على أعمال الحج بالنسبة له مبيت ورمي ولهذا فلو طاف للوادع في اليوم الحادي عشر فيكون أتى بالعبادة قبل وقتها فلا تصح منه فهو تماما مثل ما لو صلى الظهر قبل وقتها ولهذا يقولون عليه أيضا دم لترك طواف الوداع ولو طاف لأنه لا يصح منه في هذا الوقت لأن هذا الوقت ليس وقتا لطواف الوداع . هذا قول في هذه المسألة .
القول الثاني : إن طواف الوداع يصح منه في اليوم الحادي عشر إذا كان معذورا بخروجه . فإذا أتى بطواف الوداع فإنه لا يبقى عليه إلا المبيت ورمي الجمار في اليوم الثاني عشر فيكون عليه جزاء المبيت وعليه جزاء رمي الجمار أما الوداع فيكون قد أتى به . ما حجتكم على أنه يجوز طواف الوداع في اليوم الحادي عشر؟(1/110)
قالوا إن هذا الحاج لما تعذر عليه المبيت ورمي الجمار في اليوم الثاني عشر انتقل الحكم من المبيت ورمي الجمار في اليوم الثاني عشر إلى جبران هذا النقص فعند من يقول عليه في ترك المبيت ليلة الثاني عشر دم وعليه بترك الرمي في اليوم الثاني عشر دم عليه دمان فلما عجز عن المبيت والرمي انتقل الحكم من المبيت والرمي إلى بدلهما أو إلى جبرانهما والجزاء المترتب على تركهما فنقول أيها الحاج عليك مثلا دم بترك المبيت وعليك دم بترك رمي اليوم الثاني عشر فإذا ذبح كبشين في اليوم الحادي عشر فقد أتى بجبران المبيت وبجبران الرمي فأصبحت الأعمال في حقه الآن انتهت . انتهت الأعمال بالنسبة له كان الأصل هو المبيت والرمي عجز عنهما انتقل الأمر إلى الجبران لأن هذا الدم يسميه أهل العلم دم جبران ـ جبران للنقص ـ نقص المبيت ونقص الرمي فيأتي بهذا الدم وذلك الدم فينجبر هذا النقص ويكون النسك في حقه قد انتهى. فإذا انتهى جاز حينئذ أن يطوف للوداع لأن طواف الوداع يكون بعد انتهاء أعمال الحج وهذا انتهت أعمال الحج بالنسبة له . ومما يؤيد هذا القول ويقويه القول بأن طواف الوداع ليس من أعمال الحج فطواف الوداع محل خلاف بين أهل العلم فمن أهل العلم من يجعل طواف الوداع واجبا من واجبات الحج وعملا من أعمال الحج ومن أهل العلم من يقول إن طواف الوداع لحق البيت وليس من أعمال النسك في شيء فالإنسان إذا أراد التعجل إذا رمى الجمرة من اليوم الثاني عشر فقد انتهى الحج بالنسبة له . طواف الوداع واجب لكنه ليس من أعمال الحج وإنما هو واجب لحق البيت يؤيد ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول " حتى يكون آخر عهده بالبيت " ومما يؤيد أن طواف الوداع ليس من أعمال الحج وإنما هو عمل واجب استقلالا لا على أنه جزء من النسك ماروى أصحاب السنن والإمام أحمد بسند قال عنه الترمذي ـ رحمه الله تعالى ـ إنه حسن صحيح وصححه الألباني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال "(1/111)
إذا فرغ المهاجر من نسكه فلا يجلس فوق ثلاث " المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة لما فرغوا من الحج قال لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إذا فرغ المهاجر من نسكه فلا يجلس في مكة فوق ثلاث" ما وجه الدلالة من هذا الحديث ؟
وجه الدلالة من هذا الحديث : المهاجر الذي يأتي إلى الحج مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما يفرغ من الحج يعني يرمي الجمرة من اليوم الثاني عشر ثم ينزل إلى مكة متى يطوف للوداع ؟ يطوف للوداع إذا أراد أن يخرج إلى المدينة فلو جلس مثلا ثلاثة أيام لن يطوف للوداع إلا بعد ثلاثة أيام . النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " لا يجلس المهاجر بعد فراغه من النسك " فهذا دليل دلالة صريحة على أن النسك ينتهي برمي الجمرة وأن طواف الوداع بعد النسك لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " لا يجلس بعد فراغه من النسك فوق ثلاث " وطواف الوداع سيكون بعد الثلاث . والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر أن هذا الجلوس بعد الفراغ من النسك إذن النسك ينتهي ويفرغ منه الحاج برمي الجمرة من اليوم الثاني عشر أو اليوم الثالث عشر وحينئذ يكون الوداع أمرا خارجا عن النسك ليس من أعمال الحج وإنما هو واجب مستقل لحق البيت . فإذا قررنا هذا الأمر وهو : أن الطواف واجب مستقل عن النسك فحينئذ لا معنى لأن نقول أنه لا يصح في اليوم الحادي عشر لأنه تقدم على وقته لأن طواف الوداع لا يكون بينه وبين أعمال الحج ارتباط بل يشترط في الوداع ألا يبقى بعده في البيت . وهذا الذي يريد أن ينفر من مكة في اليوم الحادي عشر يصدق عليه انه كان آخر عهده بالبيت حتى ولو كان لم يصل إلى الوقت الذي ضربه الله سبحانه وتعالى حدا للمتعجلين وبناء على هذين التعليلين لأصحاب القول الثاني فالذي يظهر لي ـ والله سبحانه وتعالى أعلم ـ أن من تعجل في اليوم الحادي عشر بعذر أنه إن طاف للوادع أن طوافه يصح وبالتالي لا يجب عليه(1/112)
إلا جزاء ترك المبيت ليلة الثاني عشر وترك الرمي في اليوم الثاني عشر و يكون قد صح منه طواف الوداع وسقط الإثم وموجب طواف الوادع من الدم أو غيره عند أهل العلم . هذا هو الذي يظهر لي ـ والله سبحانه وتعالى أعلم ـ رجحانه في هذه المسألة وأنه إن طاف للوداع صح وسقط عنه ولم يبق عليه إلا ترك المبيت وترك رمي الجمار في اليوم الثاني عشر .
هذا هو المجلس الثامن من هذه المجالس التي انعقدت في هذه الدورة المباركة لبيان أحكام بعض النوازل في الحج . وفي هذا المجلس لن نتحدث عن نازلة من النوازل ولكننا سنتحدث عن أمر يهم طالب العلم فيما يتعلق بأحكام المناسك
ألا وهو : فقه التيسير في الحج(1/113)
الحج كما لا يخفى عليكم أنه من العبادات التي اختلفت فيها أحوال الناس في هذا الزمن اختلافا كثيرا وذلك بسهولة المواصلات وتقارب البلدان ويسر الانتقال مما أدى إلى أن يصل إلى البيت الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة أعداد غفيرة هائلة لم تكن في عصر من العصور السابقة . فالحج مر عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا أو قريبا من هذا والحجاج يتراوحون بين أعداد محدودة يسعها المسجد الحرام و المشاعر المقدسة لكن الحجاج إلى عهد قريب كانوا إذا نزلوا بمنى ينزلون في ناحية منها بسبب قلتهم ثم تغيرت الحال بفضل الله سبحانه وتعالى وأصبح كثير من المسلمين في أصقاع الأرض يستطيعون أداء هذه الفريضة فتوافدوا وتقاطروا إلى هذا البيت وعظم العدد وترتب على ذلك أمور من أعظمها وأهمها وأشدها إلحاحا ما يترتب على وجود هذه الأعداد الغفيرة في هذه المناطق المحدودة الأتساع يؤدون مناسك واحدة وأحيانا في نقاط صغيرة ومحدودة كما في رمي الجمار والطواف ونحو ذلك ما يترتب على ذلك من المشقة العظيمة وهذا ما جعل أهل العلم يراجعون بحث كثير من المسائل وإن لم تكن من النوازل يبحثونها ويعيدون النظر في الأدلة كل ذلك بسبب كثرة الحجاج وما نتج عن هذه الكثرة من ازدحام شديد ومشاق عظيمة ووفيات وأمور لا تخفى على أمثالكم(1/114)
إن أرواح الحجيج ونفوسهم ودمائهم لها حرمة عظيمة هي أعظم عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ من حرمة البيت الحرام فإن المسلم أعظم حرمة عند الله عز وجل من البيت الحرام الذي هو أقدس البقاع وأطهرها وأشرفها في الأرض وبالتالي فإنه لابد من النظر في مسائل الحج وفي أعماله وفي مناسكه وفق هذه الظروف وهذه الأحوال بما لا يخل بأداء هذه الشعيرة العظيمة وفي المقابل لا يلزم الناس بما لم يلزمهم به الشارع الكريم مما يترتب عليه إزهاق الأرواح والضرر العظيم الذي يلحق بالمسلمين رجالا ونساء أقوياء وضعفاء مما لا يخفى عليكم . و حديثنا في هذه الدقائق عن فقه التيسير في الحج إنما هو بسبب ما يثور من إشكالات في أذهان كثير من طلاب العلم وهو أنه كيف أن طلاب العلم والعلماء في هذا العصر كل يوم يقدمون شيئا من التنازلات الرمي يجوز في الليل , الرمي يجوز قبل الزوال , يجوز الدفع من عرفات قبل غروب الشمس , يجوز البقاء في مزدلفة بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء , ما هذه التنازلات؟ حتى إن بعض الناس بدأ بالتندر بالعلماء وطلاب العلم بسبب هذه الفتاوى وهذا ما عاد بالإشكال على طلاب العلم عن سبب هذه التنازلات . هذا الفقه الذي وسع الأمة أربعة عشر قرنا ألا يسعنا في هذا الزمن ؟ لماذا تراجع العلماء وطلاب العلم لماذا أفتوا بكذا لماذا أفتوا بكذا هذا هو ما حملني على أن أطرق هذا الموضوع في هذه الدقائق حتى يتبين لطالب العلم أن على العالم وطالب العلم والباحث أن يعيد النظر في أعمال الحج ومناسكه وشعائره وأعماله وواجباته وأركانه وسننه وفق الأدلة الشرعية لا وفق نظرة معينة لعالم سبق أو فقيه سبق وإنما وفق الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستنيرا بفهم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا معه في حجة الوداع فأول ما نريد أن نتحدث عنه في هذا الموضوع هو الأدلة أو الدلائل على أن من مقاصد الشرع التيسير في الحج فإن من(1/115)
الإشكالات التي قد ترد في أذهان بعض الناس وبعض طلاب العلم تلك الفهُوم الخاطئة أن الحج شعيرة مبنية على المشقة والعسر و من لم يجد ذلك فما حج فأنا أقول إن الحج عبادة من العبادات التي جاء بها الإسلام فاليسر الذي جاء به الإسلام في جميع شعائره ينطبق على الشعائر كلها وعلى العبادات كلها بما في ذلك الحج فا الأدلة العامة التي تدل على يسر هذا الدين وسماحته ورفع الآصار والأغلال عن أهله عموماً تدل على جميع العبادات وتدل على الحج عموماً كما أن ثمة أدلة خاصة تدل على أن هذا الركن مبني أيضا على التيسير و السماحة فمن هذه الأدلة :
(1) قول الله سبحانه وتعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) وفي هذا أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لم يجعل على عباده في هذا الدين من حرج و أن هذا الدين و الحنيفية السمحة التي بعث بها إبراهيم _عليه السلام _ والحج من أعظم الميراث الذي ورثته هذه الأمة المسلمة عن إبراهيم الخليل فقد صح عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كما في الحديث الذي رواه الخمسة وقال عنه الترمذي إنه حديث حسن صحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم _بعث مناديا ينادي على الناس وهم في المشاعر : أيها الناس كونوا على مشاعركم فإنكم على أرث من أرث إبراهيم ـ عليه السلام ـ . فهذه الشعيرة وهذا النسك وهذا الحج من أعظم ما ورثتهُ هذا الأمة عن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من الدين والحنيفية السمحة التي يسرها الله سبحانه وتعالى لعبادة .(1/116)
(2) ومن الأدلة الدالة على أن هذا الركن وهذه الشعيرة بنيت على التيسير الأدلة الدالة على فرضية هذا الحج فإن الله سبحانه وتعالى جعل فرض الحج مشروطا بالاستطاعة ولو تأملت فإن الصلاة مشروطة بالاستطاعة والزكاة مشروطة بالاستطاعة والصوم مشروط بالاستطاعة ولكنك لا تجد هذا الشروط مقارنة لفرضية الصيام أو الصلاة أو الزكاة بخلاف الحج فإنك تجد اشتراط الاستطاعة في الدليل الدال على الفرضية كما قال الله سبحانه وتعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) و النبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول بني الإسلام على خمسة : ... وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا . فالاستطاعة هنا مؤكد عليها في فرضية الحج وفي وجوب الحج كما لم يؤكد عليها في غيره مع أنها شرط في الصيام والزكاة لماذا؟ لأن هذه الشعيرة شعيرة يرد فيها أنها يمكن أن يكون فيها مشقة وعسر وعدم قدرة فناسب أن يؤكد على شرط الاستطاعة فيها وأن الحج لا يجبُ إلا على من استطاع إليه سبيلا فإذا كانت الاستطاعة شرطا في الحج والعسر مرفوع في أصل فرضية الحج فرفعه في أجزاءهِ وفي أعماله من باب أولى.(1/117)
(3) ومن الأدلة الدالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير أنه في كثير من أعمال الحج تجد أنها مبنية على التخيير ، والتخيير نوع من التيسير فمثلاً أول ما تصل إلى الميقات تريد أن تحج يقال لك أنت بالخيار بين ثلاثة أنساك هذا أول التيسير ثم إذا دخلت النسك فإذا أتيت محظوراً من محظورات الإحرام قيل لك (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) على التخيير هذا نوع من التيسير لو أنك قتلت الصيد وأنت محرم لقيل لك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) فجزاء الصيد مبني على التخيير. يوم العيد عندك مجموعة من الأعمال رمي جمرة العقبة والطواف والسعي والحلق والنحر بأي شيء أبدا أو أقدم أنت بالخيار إذا كان في اليوم الثاني عشر أنت بالخيار إن شئت أن تتعجل أو شئت أن تتأخر كل هذه أدلة دالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير وانتم تعرفون أنه في امتحانات المدارس أن من التيسير على الطالب أن تكون الأسئلة اختيارية فهذا دليل على التيسير فهذا التخيير الذي يوجد في الحج هو نوع من أنواع التيسير على حجاج بيت الله الحرام وإذاً فالمشقة ليست مقصودةً في هذه الشعيرة .(1/118)
(4) ومن الأدلة أيها الأخوة الدالة على أن هذا النسك مبني على التيسير والسماحة أنه في أكثر من موضع كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ يرخص للضعفة وذوي الحاجات والأعذار في أشياء وفي أعمال من أعمال الحج فمثلاً في ليلة جمع يقدم النبي _صلى الله عليه وسلم _ ضعفة أهله هذه رخصة والرخصة لا شك أنها تيسير وتسهيل ، في ليالي منى رخص النبي _صلى الله عليه وسلم _ للرعاة في البيتوتة ألا يبيتوا ورخص للرعاة أيضا في أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد ورخص _صلى الله عليه وسلم _ للسقاة في ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق كل هذه الرخص مظاهر ودلائل تدل على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير والسماحة والتسهيل فيما لا يخرج عن دائرة ما أمر الله سبحانه وتعالى به أو أمر به رسوله_صلى الله عليه وسلم _ .(1/119)
(5) ومن الدلائل التي تدل على أن الحج مبني على التيسير أيضا أن المحرم مرخص له في أشياء كثيرة كلها من التيسير فللمحرم أن يغير ملابسه وله أن يغتسل وله أن ينظف شعره وبدنه وفي المتفق عليه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ أغتسل وهو محرم وغسل رأسهُ وأقبل بيديه وأدبر. _يعني حرك شعرهُ _ وعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ غسل شعرهُ وهو محرم وقال لا يزيد الماء الشعر إلا شعثا و يقول ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ربما دعاني عمر ابن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ ونحن في الجحفة أن نتباقا. ما معنى هذا الأمر أو هذه الكلمة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمير المؤمنين يدعوا ابن عباس وهما يغتسلان أو يسبحان في البحر أن يتطاولا نفساً أيهما يبقى أكثر تحت الماء. عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قيل لها إن فلاناً يقول إن المحرم لا يحك شعره فقالت لو ربطت يدي لحككتهُ برجلي . إذاً الحج ليس كما يفهم كثير من الناس أنك إذا أتيت إلى هذه الشعيرة فالمقصود هو أن تلقى المشقة والعنت والعسر لا. هذه كلها أدلة ومظاهر تدل على أن المقصود من الحج هو إقامة العبادة لله سبحانه وتعالى .(1/120)
(6) مما يدل أيضا على أن الحج مبني على التيسير ما رواهُ أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنها ذكرت قصة حجة الوداع وأن زاملة النبي _صلى الله عليه وسلم _ كانت مع زاملة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بمعنى أن متاعهما ورحلهما كانا جميعاً. تقول فنزلنا بالعرج _ موضع بين مكة والمدينة _ فكانت الزامله أو المتاع على بعيرٍ مع غلام لأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فجلس أبو بكر ينتظر هذا الغلام حتى طلع عليه هذا الغلام وليس معه بعير. فقال أين بعيرك ؟ فقال ضاع.فأخذ أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يضربه ويقول بعير واحد تضيعهُ قالت و رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ ينظر إليه ولا يزيد على أن يقول أنظروا إلى هذا المحرم ما يصنع . استنكار من النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول : انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ، مع أنا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يضرب غُلامه تأديباً على تفريطه لأن هذا الغلام ما معه إلا بعير واحد، ما معه رعية أضاع شيئا منها إنما معه بعير واحد أضاعهُ فهذا نوع من التفريط وأبو بكر يؤدبه و النبي _صلى الله عليه وسلم _ يستنكر ذلك ويقول انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع. إذاً من لوازم الإحرام أن الإنسان يبتعد عن الأذى حتى ولو كان له ما يوجب وهذا ما سنشير إليه في الدليل الأخير الذي هو من أشهر الأدلة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير والسماحة .(1/121)
(7) فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي _ صلى الله عليه وسلم_ ما سئل يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر إلى قال أفعل ولا حرج أفعل ولا حرج . لا حرج هذه الكلمة معناها أن النسك ما بني على الحرج وإنما بني على اليسر والسماحة وعلى التسهيل فإن الله عز وجل في غنىً عن مشقتنا وعنتنا وما نلقاه من الأذى والعنت ، إنما بعثنا الله سبحانه وتعالى إلى هذا البيت وأرسلنا وأمرنا وحثنا لأمر آخر ليس للمشقة ، افعل ولا حرج يعني لا مشقة لا كلفه لا تبعة قدم وأخر ما شئت روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أسامه بن شريك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال حججت مع النبي _صلى الله عليه وسلم _ فكان الناس يسألونهُ فمن قائل يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت أو أخرت ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لا حرج لا حرج إلا على رجلٍ مسلم أقترض عرض رجلٍ مسلمٍ وهو ظالم له فذلك الذي حرج وهلك. الله أكبر أنظروا إلى هذا الحديث إلى أسلوب النبي _صلى الله عليه وسلم _ في هذا الحديث فإنهُ أسلوب يشبه أسلوب الحكيم عند أهل البلاغة فأسلوب الحكيم هو أن يسأل السائل عن شيء فيُعرِض المجيب إلى ما هو أنفع للسائلِ من سؤاله فيجيبهُ عنه وتذكرون في حديث أبن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ سئل ما يلبس المحرم ؟ قال : لا يلبس البرانس ولا القمص ولا السراويلات ولا العمائم . ضرب صفحا عما يلبس وذكر ما لا يلبس لأنه محصور محدود و في حديث أسامه بن شريك النبي _صلى الله عليه وسلم _ يسألونه فمن قائل يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت أو أخرت فيقول النبي _صلى الله عليه وسلم _ لا حرج لا حرج هذا كله لا حرج فيه ثم إن النبي _صلى الله عليه وسلم _ الرحيم الرءوف الشفيق بالأمة يبين للسائل وللناس أين الحرج. لا حرج لا حرج لكن الحرج أين ؟ إلا على رجلٍ مسلم اقترض عرض رجلٍ مسلم وهو ظالم له فذلك الذي حرج وهلك . ليس الحرج في التقديم والتأخير(1/122)
ولكن الحرج في أن تقترض عرض أخيك المسلم وأنت ظالم له فتبهته أو تغتابه. هذا أسلوب الحكيم إخبار الناس أن الحرج ليس في التقديم والتأخير في أعمال الحج وإنما الحرج أن يتكلف الإنسان و يكلف نفسه الظلم و المشقة والإثم العظيم بأذى المسلمين، أنظروا أيها الأخوة إلى الفهم المقلوب لهذا الحديث فالنبي _صلى الله عليه وسلم _ يرفع الحرج عن الأمة في قضية التقديم والتأخير في أعمال يوم العيد ويخبر أن الحرج هو في أذى المسلمين في أعراضهم وإذا كان الحرج و الهلاك في أذى المسلمين في أعراض فكيف بأذاهم في أبدانهم بالضرب والدفع فالنبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول التقديم والتأخير لا حرج فيه ولكن الحرج في أذى المسلمين ما الذي يحصل الآن ؟ الذي يحصل الآن من كثير من المسلمين أن الحاج يريد أن يطبق سنةً رُفع الحرج عنه في تطبيقها ويتقحم في سبيل ذلك الحرج والإثم والهلاك تأتي إلى إنسان في الطواف أو في رمي الجمار أو في المسعى أو في غيرها من الأنساك فتجد أنه في سبيل أن يطبق سنةً من السنن في هذه المناسك وهذه الأعمال يرتكب حراماً حرمه الله سبحانه وتعالى ففي سبيل مثلاً أن يرمل أو أن يقبل الحجر الأسود أو أن يسعى بين الميلين أو في سبيل أن يرمي الجمرة في وقت بعينه أو نحو ذلك تجد أن هذا المسلم في سبيل تطيق هذه السنة التي قال النبي _صلى الله عليه وسلم _ لا حرج لا حرج تجد بعض الحجاج يجتمع الأربعة الخمسة العشرة الأشداء الأشاوس ثم يندفعون وقد أحمرت وجوههم وانتفخت أوداجهم و علت زمجرتهم وأصواتهم قد تهيجوا وبعضهم قد رفع ثيابه وربط وسطه وكأنه دخل بين الصفين لا يلوي على شيء أمامهُ امرأة ضعيفة أو شيخ فان أو ضعفاء الناس أو مساكينهم المهم أن يصل عند الجمرة حتى يقف على الحوض ويرميه في وقت معين. انظروا كيف قلبنا مفهوم هذا الحديث ما قال النبي _صلى الله عليه وسلم _ عنه لا حرج حرجنا فيه وما قال النبي _صلى الله عليه وسلم _ عنه فقد حرج وهلك(1/123)
تقحمناه وانتهكناه هذه الشعيرة وهذا النسك بني على اليسر وليس من مقاصد الإسلام في فرضية الحج والأمر بهذه الشعيرة وإيجابها على عباد الله سبحانه وتعالى أن يشق على الناس أو يضيق عليهم أو يحملوا ملا يطيقون أو يكلفوا ما ليس في وسعهم كلا إن الحج عبادة عظيمه فرضها الله عز وجل وأمر بها وجعلها ركنا من أركان الإسلام العظام أعظم مقاصده تحقيق التوحيد وتحقيق كمال العبودية لله سبحانه وتعالى وإقامة ذكر الله وشكره والوقوف بهذه المواقف العظام التي وقفها الأنبياء وتعظيم هذه المشاعر التي عظمها الله سبحانه وتعالى ومن يأتي إلى الحج ولا يرجع إلا بزحام الجمرات وزحام المطاف وضجيج السيارات فإن هذا ما شم بأنفه ولا وجد بقلبه ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجده في الحج إنما فرض الله عز وجل هذا الحج وتأملوا آيات الحج في سورة البقرة وفي سورة الحج تجدُوا أن أعظم مقاصد الحج تحقيق التوحيد ،أعظم مقاصد الحج تعظيم مشاعر الله سبحانه وتعالى وتلك البقاع التي قدسها الله عز وجل وأمر بتقديسها وتعظيمها، من أعظم مقاصد الحج إقامة ذكر الله سبحانه وتعالى فإنما شرع الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله لا ما يضنه كثير من الناس أو يجده أو يرجع به أن هذا الحج إنما هو معركة مصغرة يأتي ويدخلها ليؤذي نفسه ويؤذي أخوانه المسلمين فمن فهم الحج بهذا الفهم فما فهم الحج وما ذاق طعم الحج، فالمشقة والعسر ليست مقصودة في الحج يروى أن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ سئل هل يغتسل المحرم أو يغسل شعرهُ ؟ فقال ما يصنع الله بنتنِنا . يعني ليس لله عز وجل حاجة في الرائحة الخبيثة أو النتن الذي يكون عليه المحرم إذا لم يتنظف . ما يصنع الله بنتنِنا الله عزوجل ما استقدمنا من بلادنا إلى بيته من أجل أن نلقى في هذا البيت المشقة والعنت وتخرج منا الروائح الكريهة ونحو ذلك. إنما استقدما سبحانه وتعالى وأمرنا بحج بيته لتعظيم هذا البيت(1/124)
وتعظيم الله سبحانه وتعالى بتعظيم هذا البيت وإقامة التوحيد والعبودية وذكر الله سبحانه وتعالى. لو تأملنا أكثر الأسباب التي تٌعلق عليها كثير من الفتاوى التي تشق على المسلمين لوجدنا أنها التعليل بأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ فعل هذا الأمر وقال لتأخذوا عني مناسككم . فحينما يقال يجب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس يعلل بأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ فعله وقال لتأخذوا عني مناسككم البقاء في مزدلفة حتى يسفر جدا يقال لأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ فعله وقال لتأخذوا عني مناسككم ، المبيت بمنى كل ما تجد من الفتاوى التي يكون على المسلمين أحياً فيها مشقة تجد أن أول دليل يستدل به من يفتي بهذا القول هو أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ فعله وقال لتأخذوا عني مناسككم .ولو سألنا من هم أكثر الناس فقهاً عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ وفهما لكتاب الله سبحانه وتعالى ؟ فالجواب هم صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ الذين أختارهم الله عز وجل من الأمة واصطفاهم لصحبة نبيه _صلى الله عليه وسلم _ ولحمل هذا الدين كانوا مع النبي _صلى الله عليه وسلم _ ويسمعونه وهو يقول _صلى الله عليه وسلم _ لتأخذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا.فكيف فهموا هذا الدليل ؟ لو فهموا هذا الدليل كما فهمه كثير من طلاب العلم لما حج عروة بن مضرس هذا الذي ما جاء إلا ليلة الجمع لأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قدم إلى مكة في اليوم الرابع وهذا ما جاء إلا في اليوم التاسع من ذي الحجة فالنبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول لتأخذوا عني مناسككم و هذا ما تمتع ولا طاف للقدوم ولا سعى وإنما أتى مباشرة إلى عرفات ، في أعمال يوم العيد قبل قليل ذكرت لكم الحديث المتفق عليه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كان في يوم العيد يأتيه الإنسان ويقول لم أشعر حتى حلقت قبل أن أرمي أو حتى سعيت قبل أن أطوف أو نحرت قبل أن أرمي و النبي _صلى الله عليه وسلم _(1/125)
يقول لا حرج لا حرج. الصحابة مع النبي _صلى الله عليه وسلم _ ويقول لهم لتأخذوا عني مناسككم ومع ذلك النبي _صلى الله عليه وسلم _ يبدأ بجمرة العقبة وجزء من الصحابة يذهب إلى المنحر ويذبحون الهدي هؤلاء الصحابة الذين هم أفهم الناس لرسول الله_صلى الله عليه وسلم _ ولكتاب الله سبحانه وتعالى الذين نزل القرآن عليهم واصطفاهم الله عز وجل لصحبة نبيه _صلى الله عليه وسلم _ فهموا قول النبي _صلى الله عليه وسلم _ لتأخذوا عني مناسككم بهذا الفهم النبي _صلى الله عليه وسلم _ يرتب أعمال يوم العيد و جزءٌ منهم يذهب إلى المنحر وينحر وجزء منهم يذهب إلى البيت فيطوف وجزء منهم يذهب إلى الصفا والمروة . أين الفهم ، أن لتأخذوا عني مناسككم يقتضي أن كل ما فعله النبي _صلى الله عليه وسلم _ وكل صفة أتى بها النبي _صلى الله عليه وسلم _ على سبيل الوجوب هذا من أكثر الأشياء التي يتعلق بها أو التي تجد أن كثيراً من الفتاوى التي تشق على الناس أنها مبنية فالنبي _صلى الله عليه وسلم _ أتى بالحج على أكمل صفة وعلى أكمل هيئة وقال لتأخذوا عني مناسككم والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كل واحد أتى بالحج مع الاحتفاظ بما لا يصح الحج إلا به تجد أن منهم من قدم شيئا على شيء أو أخر شيئا عن شيء وكل ذلك رفقاً به وهذه هي الحكمة فإن الله عز وجل ما رخص في هذه الأمور إلا من أجل رفع الحرج فالذين حجوا مع النبي _صلى الله عليه وسلم _ يزيدون على مئة ألف لو ذهبوا كلهم إلى جمرة العقبة في وقت واحد مع النبي _صلى الله عليه وسلم _ في لحظة واحدة لقتل بعضهم بعضا فهذا هو فهم صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ لهذا الحديث الذي نتعلق به كثيراً في التشديد على المسلمين في بعض الفتاوى ونجبرهم بما لا يلزم. بعد أن عرفنا أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير وأن المشقة فيها ليست مقصودة و عرفنا أن أكثر ما يتعلق به بعض أهل العلم في التشديد هو هذا الحديث الذي فهمه الصحابة(1/126)
ـ رضوان الله عليهم ـ الذين هم أعظم الأمة وأحسن الأمة فهماً على خلاف فهم كثير من الفقهاء نأتي إلى مسألة التيسير لأننا ندعو إلى التيسير ونقول به ونقول إن الإنسان جاء إلى هذا البيت لتعظيم الله سبحانه وتعالى ولإقامة شعائر دينه و الإتيان بهذا النسك العظيم لكن هذا التيسير له حدود هذا التيسير له نطاق فإنه ليس كما يتبادر إلى ذهن بعض طلاب العلم في هذا الزمن أن التيسير التسهيل في كل شيء لا. كل عبادة فرضها الله سبحانه وتعالى فيها نوع من المشقة وهذا أمر معروف فإن كل عبادة كلف بها الإنسان فيها نوع من المشقة وقد ذكرت لكم قبل هذا المجلس وأنا أذكر لكم الآن أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ مثلاً قال "من صلى البردين دخل الجنة" لماذا لأن هذين الوقتين في أدائهما في وقتهما مشقة وفي الحديث الآخر "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" الخروج في وقت الظلام إلى الصلاة فيه مشقة وإسباغ الوضوء على المكاره مثل هذه الأيام الباردة حينما يتوضاء الإنسان بماء بارد هذا من إسباغ الوضوء على المكاره. حينما يقوم الإنسان من فراشه لصلاة الفجر حينما يحبس الإنسان نفسهُ عن الطعام والشراب والشهوات في الصيام فإن كل عبادة لا تخلو من المشقة وليس المقصود أن العبادة لا يكون فيها مشقة البتة لا. هذا نوع من الابتلاء و الامتحان لعباد الله سبحانه وتعالى من منهم يستقيم على طاعة الله ويؤثر محبوبات الله على محبوباته يقول الله عز وجل " فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " لا بد في العبادات أن تنهى نفسك عن هواها(1/127)
لا بد أن تترك ما تشتهيه نفسك وتأتي أشياء تكرهها حفت الجنة بالمكارة فمطلق المشقة لا بد أن توجد في التكاليف الشرعية ولكن المشقة الزائدة هي التي رفعها الله سبحانه وتعالى في هذا الدين وعن عباد الله المؤمنين وأما مطلق المشقة فإن هذا مما لا يكاد يخلو منه عمل من الأعمال وأين من عباد الله من يصل إلى مرحلة أنه تكون الصلاة عليه لذة بعد أن كانت مشقة ويكون الصيام له لذة ، هذه مرحلة سامقة وعالية و إنما ينالها أفراد من الأمة ممن تذوقوا طعم العبادة ولذة المناجاة وكانوا أشباها برسول الله _صلى الله عليه وسلم _ حينما قال وجعلت قرة عيني في الصلاة لكن الأصل أننا وسائر عباد الله نجد مشقة في التكاليف الشرعية فمطلق المشقة ليس منفيا ولكن المشقة الزائدة التي يجد فيها الإنسان مشقةً وعُسراًً في الإتيان بهذه التكاليف الشرعية هي المرفوعة فما هي حدود التيسير ؟ من الإشكالات التي وجدت في هذا الزمن ووجدت حينما وجد هذا الزحام الشديد في مشاعر الحج أنه ظهرت بعض الفتاوى التي بزعم التيسير على الحجاج والتسهيل عليهم نسفت كلام أهل العلم و نسفت الأصول التي بني عليها فهم الأدلة الشرعية والترجيح بين الأقوال وهذا ما قد يلتبس على الإنسان بالتيسير الذي نقول إنه موجود في هذه الشعيرة وفي هذه العبادة فنحن نقول إن الحج مبني على التيسير ولكن ليس التيسير هو الذي يفهمه بعض طلاب العلم أو من ينتسبون إلى العلم فمن طلاب العلم من تجد أنه في كل مسألة من مسائل الحج وأنت تقرأ له بحثا أو فتوى أو نحو ذلك. يبحث في أقوال أهل العلم في المسألة من أهل العلم من قال يجوز الرمي قبل الزوال ومنهم من قال لا يجوز الرمي قبل الزوال يصل إلى هذه الدرجة ولا ينظر في الأدلة مطلقاً يقول قال بالرمي قبل الزوال عطاء وابن طاووس وأبو جعفر الباقر والإسلام دين يسر وسماحة وسهولة والمشقة تجلب التيسير ويأتي بأدلة عامة في المشقة والتيسير ثم يقول ولا حرج على من رمى(1/128)
قبل الزوال. ويأتي إلى مسألة أخرى وهكذا فتجد أن هذا العالم أو طالب العلم أو الباحث لم يعرج على الأدلة ولم ينظر فيها وإنما نظر في شيء واحد هل هناك أحد من أهل العلم قال بهذا القول فإذا قال به وهو أيسر وأسهل أفتى به. هذا في الحقيقة ليس عمل العلماء وطلاب العلم هذا عمل العوام _ عند بعض أهل العلم _ وإلا فالأصل عند أهل العلم أن العامي إنما يقلد من يثق بعلمه ودينه وليس على الإطلاق أن العامي مخير بين أقوال أهل العلم فلان يفتي بهذا وفلان يفتي بهذا ويأخذ ما شاء لكن على القول أنه مخير نقول إن هذا هو فقه العوام أن الإنسان ينظر في الفتاوى ويختار ما شاء أما طالب العلم فليس هذا هو عمل طالب العلم. عمل طالب العلم أن ينظر في الأقوال ثم ينظر في الأدلة ثم يوازن بينها ثم يرجح وفق الأدلة الشرعية وتكون مراعاة المشقة والعنت الذي يلحق المسلمين من أسباب الترجيح أما أن يضرب عن الأدلة صفحاً ويكتفي بأن هذا القول قال به فلان ، فإنك لن تجد مسألة من مسائل الفروع إلا و فيها أقوال متعددة وأهل العلم يقولون إن هذا القول شاذ . القول إذا كان بخلاف الدليل يكون شاذاً فلو أن الإنسان بحث في كل مسألة لن يعدم في كل مسألة أن يجد قولا ربما يكزن شاذا وتذكرون فيما سبق أننا تحدثنا عن الوقوف بعرفة وقلنا إن عامة أهل العلم يقولون إن من وقف بعرفة نهاراً ولم يقف ليلاً فإن حجهُ صحيح لم يخالف في ذلك إلا الإمام مالك ـ رحمة الله تعالى عليه ـ قول الإمام مالك في هذه المسألة شاذ لأنه بخلاف الأدلة حتى قال ابن عبد البر وهو مالكي : لم يوافق مالكاً على ذلك أحد. أنفرد مالك ـ رحمه الله تعالى ـ بهذا القول المخالف للحديث الصريح حديث عروة بن مضرس ( وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً ) إذاً مجرد أن المسألة فيها قول لأهل العلم ليس هذا مسوغا لطالب العلم أن يتخير من الأقوال دون النظر إلى الأدلة لا. طالب العلم مطالب بأن ينظر في الأدلة ويرجح ما يراه(1/129)
راجحا بالدليل بعض طلاب العلم يأخذ منحى آخر في الفهم للتيسير ما هو هذا الفهم ؟ يذكر للمستفتي أو العامي أقوال أهل العلم في المسألة ويقول : أنت بالخيار. وأذكر أني قرأت لأحد المفتين أن رجلاً سأله قال عندي حساب في البنك وأخذت عليه فوائد هل أحج بهذه الفوائد أم لا ؟ فقال له المفتي: بعض أهل العلم يرى أن هذه الفوائد ربا وبعض أهل العلم يرى أنها ليست بربا. وعلى القول بأنها ليست من الربا يجوز لك أن تحج وأنت بالخيار بين القولين. خذ ما تشاء . طيب هو بالخيار باعتبار أنه عامي مخير بين هذين الأمرين لكن أنت كعالم هل يسعك أمام الله عز وجل أن تقول بحل الفوائد البنكية الربوية. هذا فهم خاطئ للتيسير، أحد طلاب العلم كان في حملة مثلاً فقال لأصحاب الحملة لا تطوفوا للوداع لماذا ؟ قال لأن المالكية يقولون إن طواف الوداع سنة. نظر إلى أن هناك من أهل العلم من قال بأن طواف الوداع سنة وما نظر في الدليل ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال لا ينفرن أحد حتى يكون آخرُ عهده بالبيت" وفي رواية لمسلم أن الناس كانوا ينصرفون في كل وجه فأمر النبي _صلى الله عليه وسلم _ مناديا أن ينادي لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ يقول لا ينفرن أحد و من القواعد والأصول أن هذا نهي عن أن ينفر الإنسان قبل الوداع وأمر بطواف الوداع والنبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول لا ينفرن أحد. أحد هنا نكرة ، ولا ينفرن هذا نهي وأهل العلم يقولون النكرة في سياق النهي تعم، يعني لا ينفر أحد من الناس أي حاج لا ينفر حتى يطوف للوداع إلا أنه رخص للحائض. فطالب العلم هذا ألا يسعه أن يقول لأصحاب الحملة لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت أو يقول قال النبي _صلى الله عليه وسلم _ إذاً هناك فهوم خاطئة لمعنى التيسير في الحج. التيسير في الحج أيها الأخوة هو الأخذ بأيسر الأقوال التي تحتملها الأدلة(1/130)
وليس كل خلاف جاء معتبرا * * * إلا خلاف له حظ من النظرِ
أما أنه هذا القول قول شاذ لا تحتمله الأدلة ولا مساغ له في الدين ثم لمجرد أن هذا القول قال به بعض أهل العلم يقول هذا قال به أحد الأئمة المعتبرين ، الأئمة كلهم مجمعون على أنه ليس أحد منهم معصوما كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعالم قد يكون من الصحابةـ رضوان الله عليهم ـ ولكن خفيت عليه سنة من السنن أو أمر من الأوامر فخالفهُ. فنحن نعتذر له لكن لا نوافقه على الخطأ ولا نوافقه على مخالفة الدليل إنما الدين كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالتيسير هو الأخذ بما يناسب أحوال الناس وما يرفع الحرج والمشقة عنهم مما تحتمله الأدلة، مما له حظ من النظر،مما له مساغ ، وليس التيسير هو أن تضيع أوامر الله سبحانه وتعالى وتضيع أوامر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا. أحياناً تكون المشقة هي اليسر والراحة هي العسر وهذا في كل العبادات فإن الأيسر للإنسان ألا يعمل شيئا. الأيسر للإنسان ألا يصلي الأيسر للإنسان ألا يصوم شهراً كاملاً والأيسر للإنسان أن لا يخسر ماله ويتعب بدنه ويذهب إلى الحج لا و لكن الأرفق و الأيسر للإنسان هو أن يطيع الله سبحانه وتعالى فهذه هي الرحمة وهذه هي الشفقة و هذه هي النصح للأمة النصح للناس أن تدلهم على أوامر الله وعلى أوامر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن هذا هو الخير لهم وهذه هي الرحمة بهم وهذا هو سبيل النجاة والفوز ولست الرحمة واليسر أن تخرجهم من أوامر الله و أوامر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجرد أن هذا القول قال به فلان أو قال به علان. ففي مسألة الفهم لمعنى التيسير في الحج هذه أمور مهمة ولو أن أحدكم ذهب إلى بعض الفتاوى التي تصدر لوجد أن بعض تلك الفتوى ليس فيها استعراض للأدلة الواردة في المسألة البتة تجد أن هذا العالم أو المفتي أو طالب العلم ما ذكر في فتواه إلا أن هذا القول قال به(1/131)
فلان ثم يأتيك بالأدلة التي تدل على رفع الحرج والمشقة وأن هذا الدين يسر وسماحة وسهولة وأنه افعل ولا حرج. وفهم افعل ولا حرج على غير مساقها وعلى غير ما أريد بها لا شك أن هذا من الجرأة على الفتوى والجرأة على دين الله سبحانه وتعالى و الناس قد يعذرون بأخذ هذه الفتوى ولكن المفتي لا يعذر بما خرج منه وما صدر منه نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا من فتنة القول والعمل و أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه وأن لا يجعله ملتبسا علينا فنضل إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين ....
??
??
??
??
15(1/132)