كلام الإمام ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد والاستذكار فيما يتعلق بحديث أم سلمةل عند مسلم في نهي المضحي عن الأخذ من شعره وبشرته وظفره مع نقولات كثيرة لغيره من أئمة الإسلام والتعليق عليها.
جمعه وعلق عليه : أبوعبدالله عمر صبحي قاسم
26/ذو القعدة/1426هـ
الموافق28/12/2005م
ملاحظة: خلاصة هذه النقولات والتعليق عليها في آخر البحث .
قال مسلم بن الحجاج القشيري( المتوفى بنيسابور 261هـ) - ح 1977 - :
{ حدثنا ابنُ أبي عمر المكي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع سعيد بن المسيب يحدِّثُ عن أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئا))،قيل لسفيان - أي ابن عيينة -:فإن بعضهم لا يرفعه،قال:لكني أرفعه.
وحدَّثَناه إسحق بن إبراهيم أخبرنا سفيان حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل ترفعه، قال:((إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً)).
و حدثني حجاج بن الشاعر حدثني يحيى بن كثير العنبري أبو غسان حدثنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمر بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) .
و حدثنا أحمد بن عبد الله بن الحكم الهاشمي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمر أو عمرو بن مسلم بهذا الإسناد نحوه .
و حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو الليثي عن عمر بن مسلم بن عمار بن أكيمة الليثي قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول:سمعت أم سلمة ل زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من كان له ذِبْحٌ يذبحه فإذا أهل هلالُ ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحيَ)).(1/1)
حدثني الحسن بن علي الحلواني حدثنا أبو أسامة حدثني محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى فاطَّلى فيه ناسٌ فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه،فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال:يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة ل زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث معاذ عن محمد بن عمرو .
وحدثني حرملة بن يحيى وأحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب قالا حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة أخبرني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمر بن مسلم الجندعي أن ابن المسيب أخبره أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديثهم } .
قال ابن عبد البر في التمهيد(17/234-239) :
(((1/2)
ففي هذا الحديث(1)إنه لا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يحلق شعرا ولا يقص ظفرا وفي حديث عائشة ل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم حين قلَّد هديه وبعث به ، وهو يردُّ حديث أم سلمة ل ويدفعه، ومما يدل على ضعفه ووهنه أن مالكاً روى عن عمارة بن عبدالله(2)عن سعيد بن المسيب قال:(لابأس بالإطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة)،فترك سعيد لاستعمال هذا الحديث وهو راويته دليل على أنه عنده غير ثابت أو منسوخ،وقد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي؛فما دونه أحرى أن يكون مباحا،ومذهب مالك أنه لا بأس بحلق الرأس
__________
(1) أي حديث أم سلمة عند مسلم المتقدم .
(2) عمارة بن عبد الله بن صياد الأنصارى، وهوحفيد ابن صياد الذي قيل عنه أنه الدجال، و قال ابن سعد : كان مالك لا يقدم عليه فى الفضل أحد، وفي التقريب : ثقة فاضل - أي عمارة -، فالسند صحيح على ما علَّقه ابن عبد البر، وسيذكر ابن عبد البر إسناده منه إلى ابن المسيب كما سيأتي نقلاً عن الاستذكار ، وهو إسناد صحيح جليل ، وليس في الأثر دلالة ظاهرة على أن سعيد بن المسيب لم ير العمل بحديث أم سلمة ل وإنما هو احتمال ، فإن الأثر بالجواز فيه إطلاق فهو غير مقيَّدٌ بمن أراد التضحية، فيحمل قوله بالجواز على من لم يرد التضحية ، وحديث أم سلمة ل فيمن أراد التضحية وهذا الاحتمال ذكره ابن عبد البر في الاستذكار فقال:(( إلا أنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك من لم يرد أن يضحي)) - وسيأتي ذكرُ كلامه - ، وقد روى النسائي بسند صحيح في الكبرى(4/335) عن عثمان بن سعيد الأحلافي وهو من تلاميذ ابن المسيب الثقات أن ابن المسيب كان يفتي فيقول:(من أراد الثجَّ فدخلت أيام العشر فلا يأخذ من شعره وأظفاره)،فذكرته لعكرمة،فقال:(ألا يعتزل النساء والطيب؟) ، ورواه ابن أبي شيبة (4/434) بسند جيد من طريق عبدالرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب من فتياه مثل الأحلافي(1/3)
وتقليم الأظفار وقص الشارب في عشر ذي الحجة،وهو مذهب سائر الفقهاء بالمدينة والكوفة،وقال الليث بن سعد وقد ذُكر له حديث سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من أهلَّ عليه منكم هلالُ ذي الحجة وأراد أن يضحيَ فلا يأخذْ من شعرِه وأظفارِه حتى يضحي))، فقال الليث:(قد رُوِي هذا والناس على غير هذا)،وقال الأوزاعي:(إذا اشترى أضحيتَه بعد ما دخل العشر فإنه يكفُّ عن قص شاربه وأظفاره،وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس)(1)،
__________
(1) وقول الأوزاعي هذا لعله لما جاء في الزيادة الواردة عند مسلم:( وعنده أضحيته ) من حديث إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة، ومن طريق محمد بن عمرو الليثي عن عمرو بن مسلم، فقوله:(وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس) فهذا محتمل أنه لا بأس أن يأخذ من شعره ومن ظفره ولو اشترى الأضحية لأنه لم يدخل عليه العشر فيستمر بالأخذ إلى دخول العشر - أي فلا بأس حتى يدخل العشر من ذي الحجة - ، ويحتمل أنه طالما اشتراها قبل العشر فإنه له أن يأخذ من ظفره وشعره حتى ولو دخل العشر، والاحتمال الأول أقرب لأنه على الاحتمال الثاني سنعلق الحكم على الشراء وهذا بعيد ولا وجه له ولاينضبط بوقت وكذا هو لم يقل به أحد من سلف الأمة وأئمتها، وعلى هذا فالأوزاعي يعلِّقُ النهي على مجموع الأمرين وهما شراء الأضحية ودخول العشر وهذا ما تدل عليه رواية مسلم بالزيادة المتقدمة، فلا نهي على مذهب الأوزاعي لمجرد الإرادة ولو دخل العشر، وعلى هذا فقول الأوزاعي: (وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس)، أي فلا بأس إلى أن يدخل العشر ..- والله أعلم -(1/4)
واختلف قول الشافعي في ذلك،فمرة قال:(من أراد أن يضحي لم يمس في العشر من شعره شيئا ولا من أظفاره)،وقال في موضع آخر:(أُحِبُ لمن أراد أن يضحي أن لا يمس في العشر من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي لحديث أم سلمة ل فإن أخذ من شعره وأظفاره فلا بأس،لأن عائشة ل قالت:(كنت أفلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث)،وذكر الأثرم أن أحمد بن حنبل كان يأخذ بحديث أم سلمة لهذا، فقيل له: (فإن أراد غيره أن يضحي وهو لا يريد أن يضحي؟ فقال:إذا لم يرد أن يضحي لم يمسك عن شيء إنما قال: إذا أراد أحدكم أن يضحي،وقال(1):ذكرت لعبدالرحمن بن مهدي حديث عائشة ل:كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث بالهدي وحديث أم سلمةل:إذا دخل العشر ،فبقي عبدالرحمن ولم يأت بجواب،فذكرته ليحيى بن سعيد فقال يحيى:ذاك له وجه وهذا له وجه،حديث عائشةلإذا بعث بالهدي وأقام،وحديث أم سلمة ل إذا أراد أن يضحي بالمصر،قال أحمد: (وهكذا أقول)،قيل له:فيمسك عن شعره وأظفاره؟قال :(نعم ،كل من أراد أن يضحي)، فقيل له:هذا على الذي بمكة؟ فقال: (لا بل على المقيم) ،وقال :(هذا الحديث رواه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،ورواه ابن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة لرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: وقد رواه يحيى بن سعيد القطان عن عبدالرحمن بن حميد هكذا ولكنه وقفه على أم سلمة ل ،قال:وقد رواه محمد بن عمرو عن شيخ مالك) ،قيل له(2):
__________
(1) القائل هنا هو الإمام أحمد كما هو ظاهر السياق، وكما سيصرح ابن عبد البر في الاستذكار في النقل التالي.
(2) أي للإمام أحمد..(1/5)
إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب:(أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر)،فقال:(هذا يقوي هذا) - ولم يره خلافا ولا ضعفه -، قال أبو عمر:حديث قتادة هذا اختلف فيه على قتادة،وكذلك حديث أم سلمة مختلف فيه، وفي رواته من لا تقوم به حجة، وأكثر أهل العلم يضعفون هذين الحديثين، وقد ذكر عمران بن أنس أنه سأل مالكا عن حديث أم سلمة هذا،فقال:(ليس من حديثي) ،قال:فقلت لجلسائه(1):(قد رواه عنه شعبة وحدث به عنه وهو يقول: ليس من حديثي، فقالوا لي:(إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال فيه ليس من حديثي)،قال أبو عمر: إن ابن أنس هذا مدني في سن مالك بن أنس يكنى أبا أنس وليس هو عمران بن أبي أنس أبو شعيب المدني وعمران بن أبي أنس أوثق من عمران بن أنس فقف على ذلك(2).
__________
(1) القائل هو عمران بن أنس ، وسيأتي بيان حاله .
(2) هذا التفريق بين عمران بن أنس وعمران بن أبي أنس من ابن عبد البر صحيح وظاهر، وابن أبي أنس تابعي يروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو عامري مدني مصر نزل الاسكندرية وتوفي سنة 117هـ، وهو من شيوخ الليث بن سعد، وهو ثقة جليل وثقه أحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن إسحاق والعجلي وغيرهم، وروى له مسلم في صحيحه، وأما عمران بن أنس فهو أبو أنس المكي روى عن عبد الله بن أبي مليكة وعطاء بن أبي رباح، وهو من كبار أتباع التابعين من طبقة مالك ، قال عنه البخاري : منكر الحديث ، وقال عنه العقيلي : لا يتابع على حديثه، وقال عنه أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بمعروف، وإنما وثقه ابن حبان ، وفي التقريب :ضعيف ، ولم أر من ذكر أنه مدني – كما قال ابن عبد البر - أو ترجم لرجل آخر يقال له عمران بن أنس المدني ، فالصواب أنه مكي، ومثل هذا النقل منه عن مالك في ثبوته نظر.(1/6)
حدثنا عبدالوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا معاذ بن معاذ العنبري حدثنا محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة الليثي،قال سمعت سعيد بن المسيب: يقول: سمعت أم سلمة ل تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((من كان له ذِبْحٌ يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا))(1)، وبه(2)عن أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن عبدالله بن محمد بن عقيل(3)عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال:(إذا دخل الرجل في العشر وابتاع أضحيته فليمسك عن شعره وأظفاره)،قلت:النساء؟قال:(أما النساء فلا)،لم يذكر ابن عقيل في حديثه أم سلمة ل،قال(4)
__________
(1) هو بهذا اللفظ عند مسلم (7/153- نووي، ح1977/42) من طريق عبيدالله بن معاذ العنبري عن أبيه به.
(2) أي بالسند السابق إلى أحمد بن زهير المعروف بابن أبي خيثمة صاحب التاريخ.
(3) وهو حفيد عقيل بن أبي طالب،وحديثه لا يصل إلى درجة الاحتجاج كما عليه مالك والقطان وابن خزيمة وغيرهم، فمثل هذا السند لا يُعِل المرفوع المسند الذي رواه مسلم وغيره، ثم رواية عثمان الأحلافي عن ابن المسيب وفتواه أصح من غيرها ، وليس في فتواه التقييد بشراء الأضحية.
(4) والقائل هنا هو أحمد بن زهير بن حرب ، وهذا اختصار في السند معروف عند أهل العلم وليس هو من التعليق، كما نبه ابن حجر على هذا في مواضع كثيرة من الفتح وغيره من أهل العلم..(1/7)
وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن كثير بن أبي كثير مولى عبدالرحمن بن سمرة(1)عن يحيى بن يعمر أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:(إذا دخل العشر واشترى أضحيته أمسك عن شعره وأظفاره)،قال قتادة :فأخبرت بذلك سعيد بن المسيب فقال كذلك كانوا يقولون))اهـ النقل من التمهيد .
وفي الاستذكار لابن عبد البر(4/85-87):
((
__________
(1) وكثير بن أبي كثير هذا بصري روى عنه منصور بن المعتمر وأيوب السختياني وعبدالله بن القاسم وقتادة والبصريون كما قال ابن حبان، وهو من التابعين يروي عن جماعة من الصحابة كابن عباس ومولاه عبد الرحمن بن سمرة وأبي هريرة ويروي عن التابعين كابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن ووثقه العجلي وابن حبان وابن القطان ورد على تجهيل ابن حزم له ،وذكره العقيلى فى " الضعفاء " ، قال ابن حجر في التهذيب: (وما قال فيه شيئا)،وفي التقريب : مقبول، قلت :مثل هذا لا ينزل عن رتبة الحسن وجهالته مرتفعة وتضعيفه غير مفسر، والشيخ الألباني صرح بتوثيقه في الصحيحة، وأما ابن يعمر فهو من ثقات أهل البصرة الأثبات ومن رجال الجماعة ويروي عن عليِّ بن أبي طالب وغيره من الصحابة ، فالسند حسن.(1/8)
وقد رواه شعبة(1)عن مالك،حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن العسكري قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق بن دينار البصري بمصر قال حدثنا بشر بن عمر قال أخبرنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من رأى منكم هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي،فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا))(2)، قال أبو عمر: ترك مالك أن يحدث بهذا الحديث في آخر عمره وقاله عنه عمران بن أنس(3)فقال:(ليس من حديثي)، قال:فقلت لجلسائه:فقد رواه عنه شعبة،وهو يقول:(ليس من حديثي).
__________
(1) أي حديث أم سلمة ل.
(2) هو عند مسلم كما رواه في صحيحه( 7/153- نووي /ح1977/41)، رواه من طريق غندر وأبي غسان يحيى بن كثير عن شعبة به
(3) تقدم التعليق على هذا في الحاشية الرابعة ص/2(1/9)
وقد اختلف العلماء في القول بهذا الحديث فقال مالك:(لا بأس بحلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة في عشر ذي الحجة)، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري، واختلف في ذلك قول الشافعي فمرة قال:(من أراد الضحية لم يمس في عشر ذي الحجة من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي)،ومرة قال:(أحب إليَّ أن لا يفعل ذلك،فإن أخذ من شعره أو أظفاره شيئا فلا بأس،لحديث عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث)، وقال الأوزاعي:(إذا اشترى أضحيته بعد ما دخل العشر فإنه يكف عن قص شاربه وأظفاره وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس)،وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه بظاهر حديث أم سلمة(1)،واختلف عن سعيد بن المسيب في ذلك وروي عنه أنه أفتى بما روي عن أم سلمة في ذلك(2)، وروى مالك عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب قال:(لا بأس بالاطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة)(3)،وهو أترك لما رواه عن أم سلمة،وقد أجمعوا على أنه لا بأس بالجماع في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي وأن ذلك مباح،فحلق الشعر والأظفار أحرى أن يكون مباحا.
__________
(1) وهو قول ابن سيرين من التابعين فروى مسدد في مسنده (المطالب العالية لابن حجر 3/31) حدَّثنا المعتمر بن سليمان ، قال :سمعت أبي يقول:((كان ابن سيرين إذا دخل العشر يكره أن يأخذ الرجل من شعره،حتى كان يكره أن يحلق الصبيان من الشعر))، وهذا السند بصري صحيح مسلسل بالأئمة الأعلام.
(2) كما عند النسائي في الكبرى بسند صحيح عنه، وتقدم ص/1،حاشية 2.
(3) وإسناده صحيح عنه، وتقدم ص/1،حاشية 2.(1/10)
قال أبو عمر:من الاختلاف في حديث أم سلمة أن ابن عيينة رواه عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورواه يحيى بن سعيد القطان عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة موقوفا عليها(1)، وكذلك رواه ابن وهب قال أنس بن عياض عن الليث(2)عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت سعيد بن المسيب قال:قالت أم سلمة:.. فذكره موقوفا على أم سلمة، فضعفت طائفة من أهل الحديث هذا، وأما أحمد بن حنبل فقال: (هو صحيح من رواية مالك)، قال(3): (وقد رواه محمد بن عمرو عن شيخ مالك كما رواه مالك).
__________
(1) ولكن رفعه سفيان بن عيينة وروجع في رفعه فأصر على رفعه، فرواه عنه ابن أبي عمر كما عند مسلم (7/152- نووي/ح1977/39)، والحميدي في مسنده (1/140) ، وفيه لما روى ابن عيينة الحديث مرفوعا قيل له:فإن بعضهم لا يرفعه،فقال:لكني أرفعه.
(2) ذكر الليث خطأٌ ظاهر ، إذ أنس بن عياض يروي عنه ابنُ وهب مباشرة، وأنس من تلاميذ عبدالرحمن بن حميد ولم يُذكر في تلاميذ الليث، وكذا لم يُذْكَر الليث في تلاميذ عبدالرحمن بن حميد، فالصواب (ابن وهب عن أنس بن عياض الليثي عن عبدالرحمن بن حميد به )، وأنس بن عياض وثقه أكثر أهل العلم ، وهو من رجال الجماعة ؛ فالسند صحيح إلى أم المؤمنين أم سلمة ل ،والأظهر في طريق عبدالرحمن بن حميد الوقف لأن الذين ذكروا الوقف أنس بن عياض والقطان وجماعة آخرون كما سيأتي من كلام الدارقطني في العلل ورجح وقفه في طريق عبدالرحمن بن حميد، والله يحب الإنصاف فهؤلاء أكثر عددا ووقْفُهم أقوى في القلب من رفع ابن عيينة وحده عن ابن حميد، وسيأتي ذكرُ الخلاف في حديث مالك عن عمرو بن مسلم في وقفه ورفعه كما ذكره الطحاوي في شرح المعاني.
(3) أي الإمام أحمد رحمه الله.(1/11)
قد ذكرنا أن سعيد بن أبي هلال رواه عنه كما رواه مالك ومحمد بن عمرو إلا أنهم اختلفوا في عمرو بن مسلم بن أكيمة الليثي ، وهو ابن أخي الذي روى عنه بن شهاب(1).
قال أحمد:(ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديث أم سلمة وحديث عائشة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء فبقي ساكتا ولم يجب،وذكرته ليحيى بن سعيد فقال:ذاك له وجه وهذا له وجه وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر،وحديث عائشة لمن بعث بهديه وأقام).
__________
(1) قال ابن حبان في صحيحه :((وهم فيه مالك، حيث قال: عمرو بن مسلم، وإنما هو عمر بن مسلم بن عمار بن أكيمة، وأخوه عمرو بن مسلم لم يدركه مالك، وهو تابعي، روى عنه الزهري)) .(1/12)
قال أحمد:(وهكذا أقول:حديث عائشة هو على المقيم الذي يرسل بهديه ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي الذي بعث به(1)،
__________
(1) وعلى هذا فلو جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي كان يرسل بهديه في العشر من ذي الحجة لكان فيه نوع قوة وقرينة على حمل حديث أم سلمة على الكراهة أو على خلاف الأولى، أما ولم يقع هذا في شيء من الروايات فيبقى حديث أم سلمة على التحريم فهو محمول على وجه وحديث عائشة محمول على وجه آخر، ثم استدركت فقلت:قد وقع في حديث عائشة كما عند الشيخين من رواية عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة م أنه بعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه، وهذا إنما كان في حجته التي حجها في العام التاسع ، ووقع عند البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم يبقى حلالاً حتى يرجع الناس، وتقدم في كلام ابن عبد البر أنه ما أرسل هديه - صلى الله عليه وسلم - مع الصديق إلا في السنة التاسعة بعد أن فتحت مكة، فعلى ما تبين فحديث عائشة م فيه قوة على ما استدل به الشافعي من صرف النهي عن التحريم،ويؤيد ذلك المعنى كما قال الشافعي :((البعث بالهدى أكثر من إرادة التضحية))- نقله النووي في المجموع8/286-،ولكن قد يخفى على أم المؤمنين عائشة م دقيق أمره كامتناعه الأخذ من شعره وظفره،كما قال ابن قدامة في المغني - وسيأتي - :(( ولأن عائشة ل تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها، وإن احتمل إرادتها إياه فهو احتمال بعيد))اهـ .
هذا وقد وقع في بعض ألفاظ حديث عائشة ل عند مسلم(ح1321) :(( فأصبح فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا يأتي ما يأتي الحلال من أهله أو يأتي ما يأتي الرجل من أهله))، فهذا ظاهر في أن قولها:(( فما حرم عليه شيء كان له حلاً))، إنما المراد به النساء لا أخذ الأظفار والشعر ، ولكن حملَ قولها:((حلالاً))،وقولها:((فما حرم عليه شيء كان له حلاً)) على العموم قوي خاصة أن هذه الزيادة التي عند مسلم:((يأتي ما يأتي الحلال من أهله أو يأتي ما يأتي الرجل من أهله))،تفرد بها بعض الرواة عن القاسم عن عائشة ل وقد روى الحديث عند مسلم جمع عن أم المؤمنين عائشة ل من غير ذكر هذه الزيادة كعروة وعمرة وأبي قلابة والأسود ومسروق وكذا رواه جمع عند مسلم عن القاسم وهم أكثر وأوثق من غير هذه الزيادة فهي غير محفوظة أو هي من قبيل ذكر الغالب الظاهر فرواه بعضهم على التجوز .(1/13)
فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن يضحي في مصره حكى ذلك كله عنه الأثرم).
قال أبو عمر:قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ بعث بهديه لم يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم وصح أنه كان يضحي - صلى الله عليه وسلم - ويحض على الضحية ولم يصح عندنا أنه - صلى الله عليه وسلم - في العام الذي بعث فيه بهديه ولم يبعث بهديه لينحر عنه بمكة إلا سنة تسع مع أبي بكر ولا يوجد أنه لم يضح في ذلك العام والله أعلم.
والقياس على ما أجمعوا عليه من جواز الجماع أن يجوز ما دونه من حلاق الشعر وقطع الظفر وبالله التوفيق.(1/14)
قال أبو عمر: صحح الطحاوي حديث أم سلمة هذا وقال به، وخالف أصحابه فيه بعد أن ذكر طرقه والاختلاف فيها وقال:بعضها يشد بعضا،وقال: (ليس شيخ مالك بمجهول لأنه قد روى عنه ثلاثة أئمة مالك ومحمد بن عمرو وسعيد بن أبي هلال، وقد تابعه على روايته مالك عن سعيد بن المسيب عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ولا يضره توقيف من وقفه إذا رفعه ثقات ولا يضره أن يكون اسمه عمر) ،ومال الطحاوي إلى القول بحديث أم سلمة هذا واحتج له وخالف فيه أصحابه الكوفيين ومالكا(1)
__________
(1) هذا النقل عن الطحاوي رحمه الله خلاف ما قرره الطحاوي في شرح المعاني - وسيأتي ذكره - حيث قرر الوقف في حديث أم سلمة ل ..(1/15)
ومما ذكره فمن ذلك قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود(1)
__________
(1) وهو الشامي الصوري المولد،ويُعرفُ بالبَرَلُّسيِّ، ثقة جليل له ترجمة حافلة في السير (13/393) من شيوخ الطحاوي، وبقية رجال السند ثقات، ورواه مسدد في مسنده من هذا الطريق( المطالب العالية3/31) فالسند صحيح إلى يحيى بن يعمر وإلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وفي هذا السند متابعة سعيد بن أبي عروبة لحماد بن سلمة عن قتادة وتقدم طريق حماد عن ابن عبد البر في النقل المتقدم عن الاستذكار ، ولكن مع اختلاف على قتادة، ففي طريق حماد أن يحيى بن يعمر يرويه عن عليٍّ، وأما في طريق ابن أبي عروبة فهو من فتوى ابن يعمر دون ذكر عليٍّ رضي الله عنه، ولذا عدَّ ابن عبد البر في التمهيد – كما تقدم – هذا الاختلاف مما يقدح في حديث قتادة، والصواب أنه غير قادح بل هو مؤيد لحديث أم سلمة ل، وما كان من اختلاف ظاهر بين طريق حماد وطريق سعيد بن أبي عروبة فإنه يقدم لفظ سعيد بن أبي عروبة لأنه أوثق في قتادة من حماد بن سلمة خاصة أنه من رواية يزيد بن زريع عنه وهو من أثبت الناس - إن لم يكن أثبتهم - في سعيد بن أبي عروبة ،وقال ابن حزم في المحلى(6/26):(( وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم ، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم))اهـ، ويبقى البحث هنا الآن هل النهي معلق بإرادة التضحية مع دخول العشر، أو بشراء الأضحية وتعيينها مع دخول العشر ؟ فالنصوص محتملة وأكثر كلام أهل العلم ممن عمل بحديث أم سلمة ل على الأول، وهو قول سعيد بن المسيب نفسه وكذا قول ابن سيرين كما عند مسدد، والأوزاعي على الثاني وهو وجه للشافعية حكاه النووي في المجموع - وسيأتي - وأبو بكر الشاشي في حلية العلماء(1/458)، ونص النووي على شذوذ هذا القول - وهو يريد شذوذه في المذهب - كما في المجموع(8/285) فقال : ((وحكى الرافعي وجهاً ضعيفاً شاذاً:أن الحلق والقلم لا يكرهان إلا إذا دخل العشر واشترى أضحية أو عيَّن شاة أو غيرها من مواشيه للتضحية، وحكى قولاً:أنه لا يكره القلم، وهذه الأوجه كلها شاذة والصحيح: كراهة الحلق والقلم من حين تدخل العشر)) اهـ ، فالأظهر هو الأول وهو تعليق النهي على إرادة التضحية مع دخول العشر، ولو لم يشترها ويعينها، ويبقى الجواب 1 - عن الزيادتين الواردتين عند مسلم(7/152-154،ح1977) ((وعنده أضحيته))،((من كان له ذبح يذبحه))، وجوابها : أن الأظهر الشذوذ فيهما من حديث أم سلمة ل، فالأولى تفرد بها ابن راهويه بين كل من روى الحديث عن ابن عيينة فخالف ابنَ أبي عمر عند مسلم، وأحمدَ في مسنده (6/289)،والشافعيَ في مسنده (1/175)، والحميديَ في مسنده(1/140) وعبدَالله بن محمد بن عبدالرحمن عند النسائي في الكبرى(4/336)، وغيرَهم كثير ممن لم أتتبعهم ، وأما الزيادة الثانية فقد تفرد بها محمدُ بن عمرو الليثي عن عمرو بن مسلم فخالف مالكاً الإمام وسعيدَ بن أبي هلال، فلا تصح هذه الزيادة من حديث أم سلمة . 2- وأما الجواب عن رواية ابن أبي عروبة عن قتادة عن كثير بن أبي كثير أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان:((في الرجل إذا اشترى أضحية وسماها ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره فلا يمس منها شيء)، قال كثير: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب،فقال:(نعم قد أحسن)،قلت: عمن يا أبا محمد؟ قال:(عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون أو كانوا يفعلون ذلك -)) فهذا الأظهر فيه أنهم كانوا يشترون الأضاحي قبل دخول العشر، فلذلك يمسكون عن شعرهم وظفرهم بدخول العشر، ولعله يقال: أثر أم سلمة على الصحيح عنها من غير ذكر :تملك الأضحية، وأثر ابن المسيب عن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما هو بذكر الأمرين معاً: 1- امتلاك الأضحية أو امتلاكها مع التعيين 2- دخول العشر من ذي الحجة، ويكون هذا من الاختلاف السائغ وقول أم المؤمنين أم سلمة ل فيه احتياط وتحرز أبلغ، ويمكن أن يقال: - وهذا الوجه صرح به الطحاوي في شرح المعاني - إن اختلافهم يبيِّن أن الأمر بالإمساك من مجموع الآثار عنهم إنما يتعلق بدخول العشر للمضحي العازم على التضحية سواء كان قد اشتراها أو لم يشترها بعدُ ، فإن دخل العشر ولا أضحية عنده فإنه يمسك عن ظفره وشعره بمجرد إرادته أن يضحي وعزمه على هذا مع القدرة الظاهرة عليه، وإن دخل العشر وعنده أضحيته كان قد أعدها قبل هلال ذي الحجة فإنه يمسك بمجرد دخول العشر وبهذا تجتمع النصوص وتأتلف - والله أعلم -(1/16)
قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال حدثنا قتادة عن كثير بن أبي كثير أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان:(في الرجل إذا اشترى أضحية وسماها ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره فلا يمس منها شيء)،قال كثير: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب،فقال:(نعم قد أحسن)،قلت: عمن يا أبا محمد؟ قال:(عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون أو كانوا يفعلون ذلك -(1)))اهـ
وفي الاستذكار(4/316):
(( وممن قال بهذا الحديث الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وطائفة من التابعين قد تقدم ذكرهم في هذا الكتاب لأنا أوضحنا القول فيهم في باب ما لا يوجب الإحرام من تقليد الهدي،وكان مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يقولون بهذا الحديث وقد بينا وجوه أقوالهم في الباب المذكور، وهنالك بيَّنا مذهب الشافعي أيضا))اهـ.
وقال أيضا في الاستذكار(5/229) – في معرض رده على القائلين بوجوب الأضحية -:
(( ومما احتج به أيضا من أوجبها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،ومنهم من يجعله من قول أبي هريرة على ما بينا في كتاب(التمهيد) ، قال:((من كان له سعة ولم يضح فلا يشهد مصلانا)).
قال أبو عمر : ليس في اللفظ تصريح بإيجابها لو كان مرفوعا ، فكيف والأكثر يجعلونه من قول أبي هريرة - رضي الله عنه - وقد عارضه حديث أم سلمةل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره و لا من أظفاره))،ولا شيء يقال في الواجب من أراد فعله .
__________
(1) كأن هذه الزيادة زيادة توضيحية من إبراهيم بن أبي داوود لأنها غير موجودة عند مسدد في مسنده.(1/17)
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني يحيى بن أيوب قال حدثني عبيد الله بن معاذ قال حدثني معاذ بن معاذ العنبري قال حدثني محمد بن عمرو قال حدثني عمر بن مسلم بن عمار بن كيمة الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : سمعت أم سلمة ل تقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من كان له ذِبْحٌ يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا))، قال أحمد بن زهير:سمعت يحيى بن معين يقول:(محمد بن عمرو ثقة) ،قال:وفي كتاب علي بن المديني قال:سمعت يحيى بن سعيد يقول:(محمد بن عمرو أعلى من سهيل بن أبي صالح)،وقد كان سعيد بن المسيب يفتي:(بأنه لا بأس بالإطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة)،(1)وهذا منه ترك للعمل من حديثه عن أم سلمةل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، إلا أنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك من لم يرد أن يضحي.
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثني معن بن عيسى قال حدثني مالك عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب :(أنه كان لا يرى بأسا بالإطلاء في العشر)(2).
وقد روى مالكٌ حديثَ أم سلمة عن عمرو بن مسلم بن أكيمة كما رواه محمد بن عمرو بإسناده عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم))اهـ.
وفي شرح المعاني للطحاوي(4/181-183):
(
__________
(1) تقدم التعليق على هذا فليراجع.
(2) وهذا إسناد صحيح جليل ، رجاله أئمة ثقات أعلام .(1/18)
باب: من أوجب أضحية في أيام العشر أو عزم على أن يضحي هل له أن يقص شعره أو أظفاره) حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال ثنا بشر بن ثابت البزاز قال ثنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي))، حدثنا ربيع الجيزي قال ثنا أبو صالح قال ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمرو بن مسلم أنه قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أم سلمةلزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله، قال الليث: (قد جاء هذا وأكثر الناس على غيره)،قال أبو جعفر:فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه وجعلوه أصلا وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا:لا بأس بقص الأظفار والشعر في أيام العشر لمن عزم على أن يضحي ولمن لم يعزم على ذلك، واحتجوا في ذلك بما قد ذكرناه في كتاب الحج عن عائشة ل أنها قالت: ((كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها ثم يقيم فينا حلالا لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم حتى يرجع الناس))، ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول ومجيء حديث عائشة ل أحسن من مجيء حديث أم سلمة ل لأنه جاء مجيئا متواترا وحديث أم سلمة ل فلم يجئ كذلك بل قد طُعن في إسناد حديث مالك، فقيل: (إنه موقوف على أم سلمة ل).(1/19)
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال ثنا عثمان بن عمر بن فارس قال أخبرنا مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل ولم ترفعه قالت: (من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي) ،حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل مثله ولم ترفعه، فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة ل فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار(1).
__________
(1) فالطحاوي ذكر طريقين عن مالك رحمه الله كلاهما أوقف الحديث على أم سلمة وهما طريق إبراهيم بن مرزوق عن عثمان بن عمر، وهذا السند جيد وابن مرزوق تغير في آخره ، والطريق الآخر هو طريق ابن وهب عن مالك وهذا إسناد صحيح جليل لا مطعن فيه ،وقال الطحاوي كما سيأتي في مختصر اختلاف العلماء(3/230):(( فلم يرفعه عن مالك [غير]شعبة))، وقال البيهقي في السنن بعد ذكر رواية شعبة عن مالك وعزاها لمسلم(9/266): ((ورواه بن وهب وعثمان بن عمر وغيرهما عن مالك عن عمر بن مسلم موقوفا على أم سلمة ورواه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي وسعيد بن أبي هلال عن عمر بن مسلم الجندعي مرفوعا))اهـ، وهذا من البيهقي إشارة إلى تقوية المرفوع، لأن شعبة رفعه ووافقه على الرفع سعيد بن أبي هلال ومحمد بن عمرو الليثي،ورفعه ابن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد وأصر على رفعه، مع مخالفة أنس بن عياض والقطان له وقد تقدم، وممن رجح الرفع أيضا الإمام أحمد والإمام مسلم كما هو ظاهر صنيعه في الصحيح، والترمذي في السنن (ح1523)، وقال:(( وقد روي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبي سلمة- كذا في المطبوع والصواب أم سلمة- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه نحو هذا))اهـ، وكذا الطحاوي في مواضع كما ذكره عنه ابن عبد البر في الاستذكار وتقدم ،وكذا ممن قوى الرفع ورجحه ابن القيم في تهذيب السنن (7/346) فقال :((قال الدارقطني في كتاب العلل:(ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو ضمرة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد،ووقفه عقيل على سعيد قوله،ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة قولها، ووقفه ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبدالرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة قولها [ قلت -عمر-: هذا الطريق عن أبي سلمة عن أم سلمة يرويه الحاكم في مستدركه بسند صحيح رجاله ثقات وشيخ الحاكم وشيخ شيخه تنظر ترجمتهما في كتاب الشيخ مقبل رحمه الله (رجال الحاكم) والأثر صححه الحاكم ولكنه جعله شاهدا للمرفوع، والصواب أنه من أقوى ما يؤكد صحة الوقف دون الرفع] ، ووقفه عبدالرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قوله، والمحفوظ عن مالك موقوف،قال الدارقطني:والصحيح عندي قول من وقفه)،ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم : مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعا ، ومنهم أبو عيسى الترمذي قال:هذا حديث حسن صحيح
ومنهم ابن حبان خرجه في صحيحه، ومنهم أبو بكر البيهقي قال: "هذا حديث قد ثبت مرفوعا من أوجه لا يكون مثلها غلطا وأودعه مسلم في كتابه" وصححه غير هؤلاء،وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس شعبة وسفيان يدون هؤلاء الذين وقفوه،ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله:(لا يؤمن أحدكم..)، (أيعجز أحدكم ..)، (أيحب أحدكم..)، (إذا أتى أحدكم الغائط...)، (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه...)، ونحو ذلك))اهـ كلام ابن القيم، وكذا رجح رفعه عبيد الله المباركفوري في مرعاة المفاتيح وقبله المباركفوري شارح الترمذي، وكذا جزم العلامة الألباني بصحته مرفوعا في الإرواء وأن مثله لا يقال من قبيل الرأي والاجتهاد(4/378)، قلت: ولعله لِما وقع فيه من الاختلاف أعرض عنه البخاري فما ذكره في صحيحه، ومما يقوي الوقف ترك مالك العمل بالحديث وإعراضه عن ذكره في موطئه ، وكذا رواية الأحلافي عند النسائي في الكبرى كما تقدم وقتادة عند مسدد في مسنده والطحاوي عن ابن المسيب فبعضهم جعله من فتوى ابن المسيب كعثمان الأحلافي وبعضهم أوقفه عن ابن المسيب عن الصحابة كقتادة ، ورجح ابن عبد البر الوقف في الحديث وأنه لا يصح رفعه وعزا ذلك لأكثر أهل العلم كما تقدم في التمهيد ، وكذا رجح الوقف الطحاوي كما هو ظاهر كلامه في شرح المعاني، ورجح الوقف الدارقطني وأعل المرفوعَ بالموقوف - كما نقله الحافظ في التلخيص 4/138، و ابن القيم في زاد المعاد2/320 - قلت : وكلا القولين قوي ومحتمل، وأحمد اعتمد على الرفع على رواية مالك عن عمرو بن مسلم ، وقواها برواية محمد بن عمرو الليثي، فيقال : إنه لو سُلِّم برفْعِ الحديث من طريق عمرو بن مسلم عن ابن المسيب كما قرر الإمام أحمد ؛فليس هو بمرتبة من أوقفه ممن رواه عن ابن المسيب كالأحلافي وقتادة وعبدالرحمن بن حميد فالوقف قوي والقرائن تدل عليه، وأما ما وقع عند أبي عوانة في مسنده المستخرج على صحيح مسلم(5/61) حيث قال:(( حدثنا ابن أبي ميسرة قال ثنا إبراهيم بن عمرو بن أبي صالح قال ثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره إذا دخلت العشر))، فهذا لايصح والنكارة عليه ظاهرة فهو يرويه إبراهيم بن عمرو عن مسلم بن خالد وكلاهما كثير الخطأ لايُحتمل منهما هذا التفرد عن الزهري، وراويه عن الزهري هو ابن جريج وقد عنعن وقد قال عنه الإمام أحمد:(( إذا قال ابن جريج " قال فلان "و "قال فلان" و "أخبرت" جاء بمناكير ، و إذا قال :"أخبرنى" و "سمعت" فحسبك به))اهـ ، وفي رواية ذكر عنعنته فقال:((فاحذره))، وقال ابن معين عن ابن جريج:((ليس بشىء فى الزهرى))، فهذا الحديث معلل منكر، وعلله كثيرة فلا يصح أن يُقوَّى به المرفوع.
ولكن ولو رجحنا الوقف - وهو الأظهر عندي حتى الآن - فالنهي يبقى ثابتاً محفوظا لآثار الصحابة - رضي الله عنهم - ولكنه لا يفيد التحريم، بل هو إما محمول على خلاف الأولى أو للكراهة وهو قول طائفة من الحنابلة، وهو المذهب عند الشافعية كما نص عليه النووي في المجموع (8/285)، ويقوِّي القول بالكراهة دون التحريم أن الحكمة من النهي كما هو المختار ورجحه الشافعية هي أن يبقى كامل الأجزاء بجميع شعره وبشره وظفره ليُعتق كل جزء منه من النار بكل جزء من أضحيته فالأضحية بمنزلة الفداء، وقد يقوِّي الكراهة أيضاً دون التحريم حديث عائشة في الصحيحين، والتحريم قوي بقدر قوة المرفوع - والله أعلم - .(1/20)
وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا الإحرام ينحظر به أشياء مما قد كانت كلها قبله حلالا منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر وقتل الصيد فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكام ذلك مختلفة، فأما الجماع فمن أصابه في إحرامه فسد إحرامه وما سوى ذلك لا يفسد إصابته الإحرام فكان الجماع أغلظ الأشياء التي يحرمها الإحرام ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر وهو يريد أن يضحي أن ذلك لا يمنعه من الجماع، فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع وهو أغلظ ما يحرم بالإحرام كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك فهذا هو النظر في هذا الباب(1)
__________
(1) وهذا النظر لا يُسَلَّمُ به وإنما يلزم به من قال:(إن المضحي نُهيَ عن ذلك تشبيهاً له بالمحرم من كل وجه)،وقد ردَّ بعضُ أهل العلم هذا الأمر وبينوا أنه إنما منع من أخذ الشعر ونحوه لأن أضحيته بمثابة الفداء له فاستُحِبَ له أن يفديَ نفسه وهو على أكمل خِلْقَةٍ وحال، قال النووي في شرح مسلم(7/154):(( قال أصحابنا:والحكمة فى النهيِ أن يبقى كامل الأجزاء ليُعتق من النار،وقيل:التشبه بالمحرم، قال أصحابنا:هذا غلط لأنه لايعتزل النساء ولايترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم))اهـ، وذكر النووي هذا في المجموع أيضا(8/285)، وسيأتي نحوٌ من هذا في نقل المناوي في فيض القدير، وذكر الشوكاني في النيل - كما سيأتي - قولي الشافعية وأقرهم على تخطئة الثاني ، ومما قال الشيخ صالح آل الشيخ في محاضرته أحكام الهدي والأضحية/مادة مفرغة:(( أصل مشروعية الأضاحي ما قصَّ الله جل وعلا علينا من خبر إبراهيم عليه السلام مع ابنه حيث قال جل وعلا:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:102]، إلى أن قال جل وعلا :{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ(105)[إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ المُبِينُ(106)]( )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:103-107]، فَفُدِي إسماعيل عليه السلام بكبش أمَرَ الله جل وعلا إبراهيم أن يذبحه بدل ذبح نَفْسِ إسماعيل، وإبراهيم عليه السلام إمام الموحدين وإمام الحنفاء، وإسماعيل عليه السلام كذلك إمام الموحدين وإمام الحنفاء وأبٌ للعرب، وإبراهيم أب للعرب ولغيرهم، فدلّ هذا على أن هذه السنة مضت بفعل إبراهيم عليه السلام حيث إن أصل الذبح كان فداءً لإسماعيل عليه السلام من الذبح ، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم: إن أصل مشروعية الذبح في الأضاحي والهدي إن أصل مشروعيته هو فداء النفس، والمقصود من ذلك المنة بما عوّض الله جل وعلا إبراهيم عليه السلام عن ذبح ولده وقرة عينه بذبح الكبش، وما اختص الله جل وعلا إسماعيل أيضا به من الامتنان والفضل))اهـ.(1/21)
أيضا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من المتقدمين، حدثنا يونس قال ثنا ابن وهب قال أخبرني بن أبي ذئب ح وحدثنا إبراهيم بن مرزوق قال ثنا بشر بن عمر قال ثنا بن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط:((أن عطاء بن يسار وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبا بكر بن سليمان كانوا لا يرون بأسا أن يأخذ الرجل من شعره ويقلم أظفاره في عشر ذي الحجة))(1)،وقد احتج في ذلك أيضا بعض أصحابنا بما حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني بن أبي ذئب عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع عن عبد الرحمن بن هرمز عن محمد بن ربيعة قال: ((رآني عمر بن الخطاب طويل الشارب وذلك بذي الحليفة وأنا على ناقتي وأنا أريد الحج فأمرني أن أقص من شعري ففعلت(2)
__________
(1) وإسناده صحيح عن هؤلاء الأئمة التابعين من فقهاء المدينة، وكلهم من تلاميذ الصحابة الفقهاء كابن عمر وأبي هريرة وأبي رافع وعائشة ، بل أبو بكر بن سليمان وهو ابن سليمان بن أبي حثمة من تلاميذ أم المؤمنين أم سلمة ل، وحمله على غير مريد التضحية محتمل ولكنه خلاف الظاهر من الإطلاق في فتواهم ، وأما أثر عمارة بن عبدالله عن ابن المسيب في جواز الإطلاء بالنورة في العشر من ذي الحجة، إنما حُمل على غير مريد التضحية لتجتمع الآثار عنه وتأتلف .
(2) وهذا إسناد حسن وقد رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/20) عن معن بن عيسى القزاز عن ابن أبي ذئب به ، وفيه اختلاف يسير :(( وهو طويل الشعر ....فأمرني أن أقصر من رأسي ففعلت))، وعثمان بن عبيدالله بن أبي رافع له ترجمة في التاريخ الكبير والجرح والتعديل ،ولم يُذكر فيه جرح ولا تعديل، وذكره ابن حبان في الثقات(7/190) وقد رأى جماعة من الصحابة وروى عنه ثقتان هما محمد بن جعفر بن أبي كثير المدني ثقة من رجال الجماعة وابن أبي ذئب،وتراجع ترجمة عثمان بن عبيدالله بن أبي رافع في التاريخ الكبير (6/232) والجرح والتعديل (6/156)، وأما عبدالرحمن بن هرمز فهو الإمام الحافظ الثقة الأعرج صاحب أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وأما محمد بن ربيعة فقد ذكره ابن حجر في الإصابة (6/248) ووهَّم ابن شاهين إذ ذكره من الصحابة وقال: ((ذكره ابن حبان في ثقات التابعين،وقال البخاري في التاريخ:سمع عمر))،ولكن هذا الأثر لا علاقة له بمسألتنا كما قال الطحاوي لأنه لا أضحية على الحاج،فهذا الأثر إنما هو من باب التنظف قبل الإحرام فيستدرك هناك على من اكتفى بذكر القياس على الاغتسال كدليل لحلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب لمريد الإحرام - والله أعلم -.(1/22)
)، ولا حجة عندنا في هذا لأنه لا يريد أن يضحي إذا كان يريد الحج فلا حجة في هذا على أهل المقالة الأولى لأنهم إنما يمنعون من ذلك من أراد أن يضحي،وحجة أخرى تدفع هذا الحديث أن يكون فيه حجة عليهم،وذلك أنه لم يذكر أن ذلك كان في عشر ذي الحجة أو قبل ذلك)) اهـ.
وفي مختصر اختلاف العلماء(اختصار الجصاص على كتاب الطحاوي)(3/230):
(((1/23)
فيمن يريد أن يضحي هل يمسك عن حلق رأسه:قال أصحابنا:لا بأس لمن يريد أن يضحي أن يحلق شعره ويقص أظفاره في عشر ذي الحجة وهو قول مالك والليث، قال الليث - وذكر حديث سعيد بن المسيب عن أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:((من دخل عليه منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي)) - قال الليث:(قد رُوِىَ هذا [و]الناس على غيره)،وقال الأوزاعي:(إن اشتراها بعدما دخل العشر يكفُّ عن قص شاربه وأظفاره وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس)، وقال الشافعي رضي الله عنه:(من أراد أن يضحي لم يمسَّ من شعره شيئا)،قال أبو جعفر:حديث أم سلمةلهذا رواية مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمةلرواه ابن وهب وعثمان بن عمر عن مالك موقوفا على أم سلمة ل، ورواه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمةلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفعه عن مالك [غير]شعبة،وقال يحيى بن معين: يقال له عمرو بن مسلم وعمرو بن عمارة وهو ابن مسلم بن عبد الله بن أكيمة وزعموا أنه كان خليفة محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف ليس هو عمرو بن مسلم الجَنَدي، فكان مالك لمَّا لم يرض ابن مسلم هذا لم يدخله في موطئه ولم يعمل به، وقد روى ابن وهب عن مالك قال حدثني عمارة بن عبد الله عن سعيد بن المسيب قال: (لا بأس بالاطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة)، وتركه العمل به يدل على أنه غير ثابت، أو منسوخ، وروى عن عائشة ل قالت:((كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فيبعث بها إلى مكة ويقيم،فما يترك شيئا يصنعه الحلال حتى يرجع الناس))،واتفقوا أيضا أنه لا بأس بالجماع في أيام العشر لمن أراد الأضحية فما دونه أحرى أن يكون مباحا والله أعلم))اهـ.
وفي المهذب للشيرازي(1/74):
(((1/24)
فصل: ومن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فالمستحب أن لا يحلق شعره ولا يقلم أظفاره حتى يضحي لما روت أم سلمة ل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظافره شيء حتى يضحي))،ولا يجب عليه ذلك لأنه ليس بمحرم فلا يحرم عليه حلق الشعر ولا تقليم الظفر))اهـ.
وفي المغني لابن قدامة(11/96):
(((1/25)
مسألة:حكم من أراد أن يضحي فدخل العشر: ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا ،ظاهر هذا تحريم قص الشعر وهو قول بعض أصحابنا وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق و سعيد بن المسيب(1)،
__________
(1) والتحريم هو ظاهر كلام أبي عوانة كما في صحيحه المستخرج على مسلم فقال (5/59):(( وجوب من أراد أن يضحي الإمساك عن أخذ الشعر والظفر والنورة في أيام العشر))، وهو مذهب ابن حزم كما في المحلى(7/355):(( ومن أراد أن يضحي ففرض عليه إذا أهل هلال ذي الحجة أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي لا بحلق ولا بقص ولا بنورة ولا بغير ذلك ومن لم يرد أن يضحي لم يلزمه ذلك)) اهـ ، وهو وجه للشافعية ، ولكن الأظهر والله أعلم هو الكراهة كما سيأتي في كلام القاضي وهو المذهب عند الشافعية واختاره النووي رحمه الله في شرح المهذب - وتقدم تقرير ذلك لأن الأصح الوقف في حديث أم سلمة ل، ولأن النهي لعلة الفداء بكل جزء وهذا الأظهر فيه عدم العزم في النهي - ..(1/26)
وقال القاضي وجماعة من أصحابنا:هو مكروه غير محرم،وبه قال مالك(1)والشافعي؛ لقول عائشةل:((كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي)) متفق عليه،وقال أبو حنيفة:لا يكره ذلك،لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي.
__________
(1) المعروف عن مالك في هذه المسألة كأبي حنيفة رحمهما الله أنهما لا يريان الكراهة ،وهذا ما نقله عنهما الطحاوي وابن عبدالبر، ولكن سيأتي في كلام العيني نقله عن الشافعي ومالك استحباب ترك الشعر والظفر وعزا هذا النقل إلى ابن المنذر، ونقل النووي في المجموع شرح المهذب(8/285) أن المشهور عن مالك أنه لا يُكره ونقل عنه قولا بالكراهة، قلت: وكلا القولين لا يتعارض مع نقل ابن المنذر، والمشهور في كتب المتأخرين من المالكية القول باستحباب ترك الأظفار والشعر بل كراهة القص من الشعر والأظفار كما قال أبو عبدالله الحطاب المغربي في مواهب الجليل (3/244) - في معرض ذكره المندوبات في الأضحية:((وترك حلقٍ وقلمٍ لمضي عشر ذي الحجة،ودليلنا على الاستحباب حديث أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي)) رواه مسلم والترمذي وأبو داود وهو حديث حسن صحيح،وهذا نهي والنهي إذا لم يقتض التحريم حمل على الكراهة))اهـ ، ، ومانقله المتقدمون عن مالك أظهر عنه وهو ما عليه جماعة من فقهاء المدينة، فلعله عنده على خلاف الأولى، والغالب أن مالكا رحمه الله كان يقدم حديث عائشة ل على حديث أم سلمة ل ولا يرى الاحتجاج بحديث أم سلمة ل وإلا لما سهل في المسألة هذا التسهيل - والله أعلم - .(1/27)
ولنا:ما روت أم سلمةل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي)) رواه مسلم،ومقتضى النهي التحريم وهذا يرد القياس ويبطله،وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص،ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليفعل مانهى عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى إخبارا عن شعيب - صلى الله عليه وسلم - :((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (هود:من الآية88)،ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفعله؛ فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشةل على غيره ولأن عائشةل تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها، وإن احتمل إرادتها إياه فهو احتمال بعيد،وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل،وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص،ولأن عائشةلتخبر عن فعله وأم سلمةلعن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له،إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية فيه إجماعا سواء فعله عمدا أو نسيانا))اهـ.
وفي المجموع للنووي(8/284):
(((1/28)
حديث أم سلمة ل رواه مسلم، وسبق بيان طرقه،وقوله «ذِبح» بكسر الذال أي ذبيحة وقوله «يقلم ظفره» يجوز أن يقرأ:بفتح الياء وإسكان القاف وضم اللام، ويجوز بضم الياء وفتح القاف وتشديد اللام المكسورة والأول أجود،ولكن ظاهر كلام المصنف إرادته الثاني، ولهذا قال وتقليم الأظفار أما الأحكام:فقال أصحابنا من أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة كره أن يقلم شيئاً من أظفاره وأن يحلق شيئاً من شعر رأسه ووجهه أو بدنه حتى يضحي، لحديث أم سلمة ل هذا هو المذهب أنه مكروه كراهة تنزيه، وفيه وجه:أنه حرام، حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث،وأما قول أبو حامد والدارمي والعبدري ومن وافقهم أن المستحب تركه، ولم يقولوا:إنه مكروه فشاذ ضعيف مخالف لنص هذا الحديث، وحكى الرافعي وجهاً ضعيفاً شاذاً أن الحلق والقلم لا يكرهان إلا إذا دخل العشر واشترى أضحية،أو عين شاة أو غيرها من مواشيه للتضحية،وحكى قولاً أنه لا يُكره القلم، وهذه الأوجه كلها شاذة ضعيفة،والصحيح:كراهة الحلق والقلم من حين تدخل العشر، فالحاصل في المسألة أوجه: الصحيح كراهة الحلق والقلم من أول العشر كراهة تنزيه، والثاني: كراهة تحريم، والثالث: المكروه الحلق دون القلم، والرابع: لا كراهة إنما هو خلاف الأولى، الخامس: لا يكره إلا لمن دخل عليه العشر وعيَّن أضحية، والمذهب الأول،والمراد بالنهي عن الحلق والقلم المنع من إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره، والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو بنورة وغير ذلك، وسواء شعر العانة والإبط والشارب وغير ذلك، وقال إبراهيم المروروذي في كتابه «التعليق»:وحكم سائر أجزاء البدن حكم الشعر والظفر، ودليله حديث أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً )) رواه مسلم . والله تعالى أعلم.(1/29)
قال أصحابنا: الحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار،وقيل: التشبه بالمحرم ، قال أصحابنا: وهذا غلط لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم.
فرع: مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية مكروه كراهة تنزيه حتى يضحى، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره، وقال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود: يحرم، وعن مالك: أنه يكره، وحكى عنه الدارمي: يحرم في التطوع ولا يحرم في الواجب،واحتج القائلون بالتحريم بحديث أم سلمة ل،واحتج الشافعي والأصحاب عليهم بحديث عائشة ل أنها قالت:((كنت أفتل قلائد هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلِّده ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر هديه)) رواه البخاري ومسلم، قال الشافعي: البعث بالهدى أكثر من إرادة التضحية(1)، فدل على أنه لا يحرم ذلك والله أعلم))اهـ.
وقال العيني كما في عمدة القاري (21/158):
((
__________
(1) وقال الماوردي في الحاوي(15/ 166):(( فكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضحاياه ، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع أبي بكر - رضي الله عنه - سنة تسع ، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم ، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم))اهـ.(1/30)
وقال ابن بطال: هذا الحديث يرد ما روي عن أم سلمةل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي) رواه مسلم في صحيحه مرفوعا ، وبه قال سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق،وقال الليث:(قد جاء هذا الحديث وأكثر الناس على خلافه)، وقال الطحاوي:(حديث عائشةل أحسن مجيئا من حديث أم سلمةل لأنه قد جاء مجيئاً متواترا وحديث أم سلمة ل قد طُعن في إسناده فقيل:إنه موقوف على أم سلمةل ولم يرفعه ،وفي (التوضيح) ذهب إليه الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر فمن دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئا ونقل ابن المنذر عن مالك والشافعي أنهما كانا يرخصان في أخذ الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي ما لم يحرم غير أنهما يستحبان الوقوف عن ذلك عند دخول العشر إذا أراد أن يضحي ورأى الشافعي أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر اختيار)) اهـ.
وفي فيض القدير للمناوي(1/363):
(( (إذا رأيتم هلال ذي الحجة) بكسر الحاء أفصح من فتحها أي:علمتم بدخوله، (وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) أي:فليجتنب المضحي إزالة شعر نفسه ليبقى كامل الجزاء فيعتق كله من النار،قال التوربيشي:كأن سر ذلك أن المضحي يجعل أضحيته فدية لنفسه من العذاب حيث رأى نفسه مستوجبة العقاب وهو القتل ولم يؤذن فيه ففداها وصار كل جزء منها فداء كل جزء منه، فلذلك نهُِيَ عن إزالة الشعر والبشر لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي لتتم له الفضائل وينزه عن النقائص والرذائل، وأخذ بظاهره أحمد فحرَّم إزالة ذلك حتى يضحي وخالفه الأئمة الثلاثة لخبر عائشة لأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجتنب ذلك وهو متواتر وأما خبر أم سلمة ل هذا فقيل بوقفه))اهـ.
وفي الدراري المضية للشوكاني(1/388):
(((1/31)
وأما كون المضحى لا يأخذ شعره وظفره بعد دخول عشر ذى الحجة حتى يضحي فلحديث أم سلمة ل عند مسلم رحمه الله وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((إذا رأيتم هلال ذى الحجة وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك عن شعره وأظفاره))،وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى وغيره أيضا ((من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهل هلال ذى الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي ))،وقد اختلف العلماء في ذلك، فدهب سعيد ابن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعى(1)إلى أنه يحرم عليه أخذ شئ من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية، وقال الشافعى وأصحابه: مكروه كراهة تنزيه، وحَكى المهدى في البحر عن الإمام يحيى والهادوية والشافعى أن ترك الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب وقال أبو حنيفة:لا يكره))اهـ. ونحوه في الروضة الندية(2/214).
وفي نيل الأوطار للشوكاني(5/172):
((
__________
(1) حكاه الرافعي والنووي عن بعض الشافعية (شرح المهذب8/285).(1/32)
فَجَعل هذا الحديث - أي حديث عائشة في الصحيحين - مقتضيا لحمل حديث الباب على كراهة التنزيه ولا يخفى أن حديث الباب أخص منه مطلقا فيبنى العام على الخاص،ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم(1)ولكن على من أراد التضحية، قال أصحاب الشافعي:والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك من شعور بدنه، وقال إبراهيم المروزي وغيره من أصحاب الشافعي:حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر ودليله ما ثبت في رواية لمسلم:"فلا يمسن من شعره وبشره شيئا" والحكمة في النهي:أن يبقى كامل الأجزاء للعتق من النار، وقيل:للتشبه بالمحرم،حكي هذين الوجهين النووي وحكي عن أصحاب الشافعي أن الوجه الثاني غلط لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم))اهـ.
وفي سنن الترمذي(ح1532):
قال أبو عيسى الترمذي:(( حدثنا أحمد بن الحكم البصري حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو أو عمر بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمةل:عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره)).
__________
(1) وهذا الذي استظهره الشوكاني هو اختيار الشنقيطي في أضواء البيان والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين .(1/33)
قال أبو عيسى:هذا حديث صحيح،والصحيح هو عمرو بن مسلم قد روى عنه محمد بن عمرو بن علقمة وغير واحد،وقد روي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه نحو هذا وهو قول بعض أهل العلم وبه كان يقول سعيد بن المسيب وإلى هذا الحديث ذهب أحمد و إسحاق،ورخص بعض أهل العلم في ذلك فقالوا:لا بأس أن يأخذ من شعره وأظفاره،وهو قول الشافعي،واحتج بحديث عائشة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :((كان يبعث بالهدي من المدينة فلا يجتنب شيئاً مما يجتنبُ منه المحرم))اهـ.
وقال صاحب تحفة الأحوذي(5/98) – شارحاً -:
(((1/34)
قوله ( عن عمرو ) بالواو أو ( عمر بن مسلم ) أي بغير الواو وأو للشك وصحح الترمذي فيما بعد أنه هو عمرو بن مسلم بالواو ( فلا يأخذن ) بنون التأكيد ( من شعره ولا من أظفاره ) وفي رواية لمسلم:(إذا دخل العشر وأراد بعضكم أن يضحي فلا يمسن من شعره وبشره شيئا)،وفي رواية له أخرى: (فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا)،قوله:( هذا حديث حسن ) وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (والصحيح هو عمرو بن مسلم) أي بالواو، قال أبو داود في سننه:واختلفوا على مالك وعلى محمد بن عمرو في عمرو بن مسلم فقال بعضهم عمر وأكثرهم قال:عمرو، قال أبو داود:(وهو عمرو بن مسلم بن أكيمة الليثي الجندعي) انتهى - أي النقل عن أبي داوود- ، قال في التقريب: (عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة بالتصغير الليثي المدني وقيل اسمه عمر، صدوق من السادسة) ، (قد روى ) بصيغة المجهول ( هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه نحو هذا ) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما ( وبه كان يقول سعيد بن المسيب ) رواه عنه مسلم في صحيحه ( وإلى هذا الحديث ذهب أحمد وإسحاق ) قال النووي في شرح مسلم اختلف أهل العلم في ذلك:فقال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية،وقال الشافعي وأصحابه:هو مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام،وقال أبو حنيفة: لا يكره، وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره،وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب، واحتج من حرم بهذه الأحاديث، واحتج الشافعي وآخرون بحديث عائشةل قالت:((كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شيء أحله الله حتى ينحر هديه)) رواه البخاري ومسلم، وقال:البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية فدل على أنه لا يحرم ذلك،وحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه) انتهى كلام النووي ،((1/35)
ورخص بعض أهل العلم في ذلك فقالوا لا بأس أن يأخذ من شعره وأظفاره وهو قول الشافعي) ،وحكى النووي أن الشافعي وأصحابه قالوا:إن ذلك مكروه كراهة التنزيه كما عرفت،فالظاهر أن المراد بقوله: لا بأس أن يأخذ...الخ ، أي جائز مع الكراهة ( واحتج ) أي الشافعي ( بحديث عائشةل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث ) الخ أخرجه الجماعة،وحمل النهي في حديث أم سلمةل المذكور في الباب على كراهة التنزيه جمعا بين هذين الحديثين المختلفين، وأجاب الطحاوي عن حديث أم سلمةل بأنه موقوف، قال في شرح الآثار بعد رواية حديث أم سلمةل موقوفا ما لفظه: فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة ل انتهى، قلت:لا شك في أن بعض الرواة روى حديث أم سلمة موقوفا لكن أكثرهم رووه بأسانيد صحيحة مرفوعا، فمنها:ما رواه الطحاوي في شرح الاثار من طريق شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من رأى منكم هلال ذي الحجة... الحديث))، ومنها:ما رواه الطحاوي أيضا من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمرو بن مسلم أنه قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أم سلمةل زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله، ومنها:ما رواه مسلم في صحيحه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمةل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا دخلت العشر.. الحديث) قيل لسفيان:فإنَّ بعضهم لا يرفعه،فقال:لكني أرفعه،ومنها ما رواه مسلم من طريق محمد بن عمرو الليثي عن عمر بن مسلم عن عمار بن أكيمة الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمةل زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من كان له ذبح....(1/36)
الحديث)،وقد أخرج مسلم أيضا في صحيحه من الطريقين اللذين ذكرناهما عن شرح الاثار،وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث هو المرفوع، وقد أفتت أم سلمة على وفق حديثها المرفوع فروى بعضهم عنها موقوفا عليها من قولها، والحاصل:أن حديث أم سلمة وحديث عائشة م كليهما مرفوعان صحيحان ولحديث أم سلمة ترجيح لأنه قولي أو يقال كما قال الشافعي رحمه الله من أن حديثها محمول على كراهة التنزيه والله تعالى أعلم))اهـ.
خلاصة البحث وأهم النتائج :(1/37)
1- قد وقع الخلاف في حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهل الأصح في حديثها هذا الرفع أم الوقف؟ والصواب أن الأصح في حديثها هو الوقف كما رجحه الطحاوي والدارقطني، وخلاصته أنه حديث يرويه سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ورواه عن سعيد بن المسيب جماعة منهم: قتادة وعثمان الأحلافي وعبدالرحمن بن حرملة وعبدالرحمن بن حميد وعمرو بن مسلم والزهري، فأما قتادة فجعله من رواية ابن المسيب عن الصحابة رضي الله نهم موقوفاً عليهم، وأما الأحلافي وعبدالرحمن بن حرملة فجعلاه من قول ابن المسيب وفتياه، وأما عبدالرحمن بن حميد فاختلف عليه في الرفع والوقف؛ والوقف أصح ولم يرفعه عنه غير ابن عيينة، وأما عمرو بن مسلم فرواه عنه ثلاثة من الثقات أثبتهم بلا نزاع مالك إمام دار الهجرة واختُلِفَ عليه في الرفع والوقف اختلافاً ظاهراً ، وكلاهما وجهٌ قويٌ عنه ولكن يترجح الوقف بأنَّ مالكاً رحمه الله بل وسائر أهل المدينة لم يروا العمل بهذا الحديث كما ذكره عنهم ابن عبدالبر في التمهيد، وعلى التسليم بأن رواية عمرو بن مسلم محفوظة على الرفع فمخالفة قتادة والأحلافي وعبدالرحمن بن حميد وروايتهم الخبر على الوقف أو الإرسال توهن رواية الرفع، وأما حديث الزهري فيُروى مرفوعاً وهو منكرٌ ظاهر النكارة غير محفوظ عن الزهري والعهدة من تلميذه أو تلميذ تلميذه، ولم أذكره إلا لأنبه عليه ، ثم لا ننس بعض الروايات التي ذكرها الدارقطني في العلل ونقلها ابن القيم في حاشية السنن -وتقدم- والتي تقوي الوقف، وأهمها رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف عن أم سلمة موقوفاً عليها عند الحاكم بسند صحيح.(1/38)
2- قد بالغ الإمام ابن عبدالبر رحمه فرأى أن الخبر لا يصح مطلقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام، وأنه إن صحَّ فإنما يصح عن التابعين، والصواب أن هذا الخبر محفوظ عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وكذا عن جمع من الصحابة أبهم ذكرهم ابن المسيب كما عند مسدد في مسنده، ولذا ذكر ابن حزم أن الفتيا بهذا الخبر إجماع من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا الخبر صحيح عن بعض التابعين أيضاً كابن المسيب وابن سيرين ويحيى بن يعمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وينظر آثارهم بأسانيد صحيحة في المصنف لابن أبي شيبة(4/434) وغيره وخالفهم آخرون من التابعين كعطاء بن يسار وجماعة .
3- طالما قد صح هذا الخبر عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم ولا يُعلم لهم مخالف، فقولهم حجة وعلى هذا فمن دخل عليه هلال ذي الحجة فإنه يمسك من شعره وبشره وظفره فلا يأخذ منه شيء، ولكن أمرهم بالإمساك إنما هو أمر إرشاد وفضيلة لهذا المضحي ليحصل له كمال الفداء، وليس هو أمر تحتم وإيجاب لخبر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في فتلها قلائد هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تلحظ شيئاً من إمساكه عما يمسك عنه المحرم، ثم باعث الهدي أولى بالإمساك كما قال الشافعي:"البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية"، لأن من يبعث الهدي اجتمع فيه أمران يقويان إمساكه عن الشعر والظفر، وهما:1- مشابهة المحرم 2- حصول الافتداء ، وعلى هذا فمن أخذ من شعره وظفره ممن أراد الأضحية فلا فدية عليه من باب أولى وهو محل إجماع .
4- هذا الإمساك عن الشعر والظفر والبشرة لا يتعلق بعامة المكلفين ولا بكل وقت، وإنما هو يبتديء بدخول هلال ذي الحجة على كل من له إرادة وعزم ظاهر على الأضحية مع القدرة على ذلك؛ وسواء في هذا من دخل عليه الشهر وهو مالك للأضحية أو غير متملك لها بعدُ .(1/39)
5- هذا الإمساك عن الشعر والظفر والبشرة إنما يتناول من أراد أن يضحي وهو كذلك متناول لأهل بيته الذين أشركهم في ثواب أضحيته لأن المعنى من الإمساك ظاهر في حقهم ولأثر ابن سيرين الصحيح المتقدم عند مسدد في مسنده، ولكنه متأكد في حق المضحي أكثر من غيره لظاهر آثار الصحابة رضي الله عنهم، وقصده من ثواب الأضحية والإمساك أعظم من غيره .
والحمد لله رب العالمين(1/40)