تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : من فقه الأقليات المسلمة (كتاب الأمة)
المؤلف: خالد محمد عبدالقادر
الطبعة::العدد : 61 - رمضان 1418 هـ - السنة السابعة عشرة
الطبعة: الأولى رمضان 1418هـ كانون الأول(ديسمبر)1997م كانون الثاني(يناير)1998م
مِنْ فِقْهِ الْأَقَلِّيَّاتِ الْمُسْلِمَةِ
كتاب الأمة العدد : 61 - رمضان 1418 هـ -
السنة السابعة عشرة
حقوق الطبع محفوظة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر
موقعنا على الإنترنت: www.islam.gov.qa
خالد محمد عبدالقادر
(1/1)
---
المؤلف في سطور
* ولد في شمالي لبنان ، سنة 1961م.
* درس في المعهد الشرعي بمدينة حمص السورية.
* حصل على الثانوية الشرعية من المعهد الديني بدولة قطر، سنة 1981م.
* حصل على البكالوريوس في الشريعة من جامعة قطر، سنة 1985م.
* نال درجة الماجستير في الشريعة من كلية الامام الاوزاعي في بيروت ، سنة 1994م، عن رسالته :"الأحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الإسلامية".
* أنهى إعداد رسالة لنيل درجة الدكتوراة في الشريعة بعنوان : "ابن تيمية بين المذهب والاجتهاد".
* له تحت الطبع :
- ابن تيمية ..رد مفتريات ومناقشة شبهات
(1/1)
---
قال تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة :8- 9}
(1/8)
---
ص:9
تقديم
بقلم : عمر عبيد حسنه(1/1)
الحمد لله الذي جعل مقوم بناء الأمة المسلمة، آصرة الأخوة، فقال :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات : 10}، وجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : 71}.
وسما برابطة الإيمان على جميع روابط اللون، والجنس، والأرض، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والجغرافيا...إلخ، قال تعالى :{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة : 24}
وبذلك أصبح كل مسلم حيثما كان، عضوًا في أمة الإسلام العالمية، وأصبح بمقدور كل إنسان أن يختار هذا الدين، وبذلك يتمتع بالولاية الإسلامية أو بموالاة المسلمين جميعًا، أينما كانوا، كما يتمتع بحقوق
(1/9)
---
ص:10
الأخوة الإسلامية، الأمر الذي يحقق خلود هذا الدين وامتداده وعالميته، ويحول دون التعصب والانغلاق والتمييز بكل أشكاله.. ويجعل هذا الدين بخصائصه وقيمه ا لذاتية، مؤهلاً لقيادة العالم، والعطاء الحضاري والإنساني المستمر.. كما يجعل كل مسلم مسؤولاً عن حمل الأمانة، والقيام بمهمة الترقي الذاتي وأداء مسؤولية الدعوة والبلاغ المبين لهذا الدين.(1/2)
والصلاة والسلام على من كانت سيرته وسنته تجسيدًا عمليًا لمبادئ الإسلام، وتحقيقًا واقعيًا لمجتمع الأخوة، نواة المجتمع الإسلامي العالمي الكبير، الذي ضم الفقير والغني، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وبيَّن حقوق الأخوة الإسلامية، ليجيء المجتمع قويًا متماسكًا، يتحقق بالولاء والبراء، شعاره قول الله تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات : 10} وممارساته بيانُ الرسول صلى الله عليه و سلم : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كُلُّ المسلم على المسلم حرام، دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه) (رواه مسلم عن أبي هريرة).
وقوله : (المسلمون تتكافأُ دِماؤهم، وهُم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويُرَدُّ على أقصَاهم) (رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد، من حديث ابن عباس).
وبعد، فهذا كتاب الأمة الحادي والستون : (من فقه الأقليات المسلمة) للأستاذ خالد محمد عبد القادر، في سلسلة (كتاب الأمة)،
(1/10)
---
ص:11
التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة الإحياء للقيم الإسلامية في النفوس، والاستيعاب النضيج لقضية الولاء والبراء، وتجديد مفهوم الأخوة الإسلامية الشاملة، بعيدًا عن تضييق مفهومها بسببٍ من التعصب والتحزب والتمذهب، وتغيبب حقوقها تحت شتى الذرائع والمعاذير والفلسفات والتلبيسات، حيث أصبح من المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، التخلص من حالة الوَهْن والركود والتخاذل الثقافي، وتأسيس الرؤية الثقافية على معرفة الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، واستئناف دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري لقضايا الأمة ومشكلاتها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي، ومكتسبات العقل وإبداعاته.(1/3)
كما هو مطلوب أيضًا، محاولة التدليل على خلود القيم الإسلامية وتجردها عن حدود الزمان والمكان، وذلك بقدرتها على إنتاج النماذج الإسلامية المتميزة في كل عصر، وقدرتها على إيجاد الحلول والأوعية الشرعية لحركة الأمة ومشكلاتها، في النظر إلى الواقع وتقويمه بقيم الوحي المعصوم، والاجتهاد في تنزيل القيم الإسلامية على الواقع، بحيث ينطلق النظر والاجتهاد، من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته ومعاناته.
إن تحقيق هذا الخلود لا يمكن أن يتحصل إلا بإشاعة روح التخصص في فروع المعرفة المختلفة، وإحياء مفهوم الفروض الكفائية، والتأكيد على أن
(1/11)
---
ص:12
العصر بثورته المعلوماتية وضخه الإعلامي والمعرفي، لم يعد يسمح بوجود الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على الاجتهاد والفتوى في كل شيء، وإنما لابد من التخصص وتقسيم العمل الذي يؤدي إلى تكامله وإتقانه، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، أو النسيج الاجتماعي للأمة بشكل متماسك كالبنيان المرصوص، الذي يشدّ بعضه بعضًا.
إن إشاعة روح الاختصاص، وإحياء مفهوم فروض الكفاية، يستلزم شحذ فاعلية المسلم في المواقع المختلفة، ليستأنف دوره في حمل الأمانة وإلحاق الرحمة بالناس، مستثمرًا طاقاته الروحية والمادية والتخصصية المعرفية، لنصرة الحق والدعوة إليه، وإثارة الاقتداء، والتدليل على أن المسلم ليس جسمًا غريبًا في أي مجتمع، وإنما هو عنصر خير وعطاء وتخصص، قادر على التكيف والاندماج لمصلحة الدعوة، مستعص على الذوبان والانحلال.
ومن القضايا الأساسية في هذا المجال، إحياء مفهوم الارتكاز الحضاري، والانتماء الثقافي لرسالة الإسلام والأمة الأم، وعلى الأخص بالنسبة للمسلمين المهاجرين، لسبب أو لآخر، إلى مجتمعات غير إسلامية، قد تكون مشبعة بأحقاد تاريخية وعداوات عنصرية ضد الإسلام والمسلمين، والمساهمة بطرح رؤية واقعية لكيفيات التعامل معها، وإيصال الخير لها.(1/4)
ولعل القضية التي تستدعي التأمل والنظر باستمرار -نظرًا لتبدل الظروف وتطور الأحوال- قضية الاجتهاد، التي تعني فيما تعني خلود
(1/12)
---
ص:13
هذا الدين، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة المتجددة، ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وإنتاج النماذج التي تحمل الرسالة، وتحول دون الفراغ الذي يعني تمدد (الآخر).
الاجتهاد بمفهومه العام هو محاولة لتنزيل النص الشرعي، مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.. ومحله دائمًا المكلف وفعله، وهذا يتطلب أول ما يتطلب -بعد فقه النص- النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص، وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري.
وهذه الأحكام المستنبطة من النص لتقويم الواقع والحكم عليه، هي أحكام اجتهادية، قد تخطئ وقد تصيب، حسبها أنها اجتهادات بشرية يجري عليها الخطأ والصواب، لا قدسية لها، ومهما بلغت من الدقة والتحري لا ترقى إلى مستوى النص المقدس في الكتاب والسنة، ولا تتحول لتحل محل النص، فتصبح معيارًا للحكم.. هي حكم مستنبط يعاير ويقوّم بالنص، ويستدل عليه بالنص.
وقد نقول : إن دقة وتحري الحكم وصوابيته في عصر معين، له مشكلاته وقضاياه، أو في واقع معين أثناء تنزيله عليه، لا يعني بالضرورة صوابيته لكل واقع متغير، ذلك أن فقه المحل (الواقع) بكل مكوناته وتعقيداته واستطاعاته هو أحد أركان العملية الاجتهادية، إلى جانب فقه النص المراد تنزيله على هذا الواقع.
(1/13)
---
ص:14
فتغير الواقع وتبدل الحال، يقتضي بالضرورة إعادة النظر بالاجتهاد أو بالحكم الاجتهادي، ولا ضير في ذلك، بل الضرر والضير في الجمود على الأحكام الاجتهادية، مهما تغيرت وتبدلت الظروف، وبذلك تتحول الأحكام الاجتهادية من كونها حلاً للمشكلات، ليصبح تطبيقها وتنزيلها على غير محلها هو المشكل الحقيقي.(1/5)
ومن هنا نقول : إن الكثير من الأحكام الاجتهادية التي وردت لمعالجة مشكلات عصر معين، ليست ملزمة لسائر العصور، إذا تبدلت تلك المشكلات، وأنها في معظمها قابلة للفحص والاختبار، والنظر في مدى ملائمتها للواقع الذي عليه الناس، حيث لابد من العود ة والتلقي من النص الأصلي الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والنظر في كيفية تنزيله على الواقع والحال.. وهذا الذي نقوله هو من سنن التطور الاجتماعي والفقه الشرعي، حيث غيّر الكثير من الفقهاء من أحكامهم نفسها، وليس من حكم غيرهم، عندما تغير الزمان أو تغير المكان، فكان لهم جديد، وكان لهم قديم، أو عندما اطلع على نصوص ووقائع جديدة لم يكن يعرفها مسبقًا، أو عندما أدرك حكمة الحكم وعلته الدقيقة، وعدم انطباقها على الحالات المتشابهة، أو أن الامتداد في تطبيقها بشكل آلي وصارم قد يؤدي إلى فوات مصلحة شرعية وحصول مفسدة محققة، بما أُطلق عليه مصطلح : (الاستحسان)، وكيف أن الأحكام في الكتاب والسنة تتعدد بتعدد الحالات والاستطاعات، ولا تجمد
(1/14)
---
ص:15
على حال واحدة، فكيف يكون ذلك، والواقع خاضع لسنة التغيير، سقوطًا ونهوضًا، ولكل حالة حكمها؟
وقد كنتُ أشرتُ -فيما كتبتُ سابقًا- إلى أن القرآن الكريم مصدر التشريع والمعرفة، لم يأت ترتيبه في ضوء أزمنة النزول -على أهمية معرفة أزمنة النزول وأسبابه، لإدراك أبعاد النص الزمانية والمكانية والتطبيقية- حتى لا يتجمد الاجتهاد على حال ووتيرة واحدة، وإنما جاء ترتيبه توقيفيًا، ليمنح مرونة اجتهادية، فيكون لكل حالة حكمها، ولو كان ذلك من أواخر أو أوائل ما نزل من القرآن، فالقرآن كله خالد، ولكل حالة حكمها الملائم، ولا يخرج البيان النبوي عن هذا الإطار القرآني، وإنما هو تنزيل له، وبيان ميداني بتحويل الفكر إلى فعل.(1/6)
وقولنا : بأن الاجتهادات الكثيرة التاريخية، والتي يمكن تصنيفها في إطار الموروث أو التراث هي اجتهادات لزمانها ومشكلاته وأنها غير ملزمة، لا يعني إلغاءها أو القفز من فوقها، أو عدم معاودة الإفادة منها عند تشابه الحال، وإنما يعني استصحابها والاستئناس بها، والفقه بنظرها الدقيق وآليتها الاجتهادية، لتكون معوانًا لنا على النظر الذي يقتضيه تبدل العصر وتغير مشكلاته.
ومن هنا نرى : أن الكثير مما ورد من الفقه الاجتماعي والدولي والاقتصادي والمالي والإداري والدستوري، ليس ملزمًا إذا تبيّن أن الزمن قد تجاوزه -وهذا بطبيعة الحال لا يرد على الاجتهاد في أحكام العبادات
(1/15)
---
ص:16
بنفس القدر- وأننا مدعوون لإعادة النظر والاجتهاد الفقهي والفكري بشكل عام، في ضوء تبدل الواقع الذي نعيشه، أو تبدل المجتمعات من حولنا، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في أحكام الفقه في ضوء معطيات النص الخالد.
لذلك فالموضوع الذي نعرض له -فقه الأقليات- يقع في بؤرة العمل الاجتهادي، لأنه يشكل محلاً لتنزيل الأحكام، مختلفًا كثيرًا عما كان عليه الحال مسبقًا.
والقضية الأخرى التي نريد أن نتوقف عندها بما يتسع له المجال، ونحاول أن نلقي عليها بعض الأضواء التي نراها ضرورية لاستجلاء الحقيقة أو شيء من أبعادها هي : مصطلح الأقلية، أو مفهوم الأقلية والأكثرية.
ذلك أن هذه القضية هي في حقيقتها قضية نسبية، تختلف فيها معايير النظر والحكم والتقويم والنتائج.. وابتداءً نرى أن الأمر لا يمكن أن يحكمه عدد الرؤوس، الكم المهمل، أو ما يمكن أن يُسمَّى (الكَلّ المعطل) الذي لا يأتي بخير أينما توجهه، بمقدار ما يحكمه الكيف والنوعية والفاعلية، أو ما أطلق عليه القرآن الكريم (الإنسان العدل).. ولذا نرى على مستوى القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، والعطاء الحضاري الإسلامي التاريخي، أن معيار التفاضل والكرامة
(1/16)
---
ص:17(1/7)
والإنجاز، لم يكن أبدًا منوطًا بالكم من حيث الكثرة والقلة، وإنما يتحقق بمقدار العطاء ونوعية العطاء، فالأكرم هو الأتقى، وليس الأكرم الأقل ولا الأكرم الأكثر.. والتقوى المقصودة في الآية كمعيار للتفاضل، هي جماع الأمر كله، ذلك أن التقوى بأبعادها المتعددة، تعني امتلاك الميزان الحق، والتحلي بالقيم الصحيحة، لاستيعاب الحياة بكل مجالاتها، وكيفيات التعامل معها.. فقد تكون المحصلة فردًا يعدل أمة كاملة، ويكون أمة فعلاً بما يمثل وما يحقق، قال تعالى :{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً[النحل :120}والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (تجدون الناسَ كإبلٍ مائة، لا يجدُ الرَّجُلُ فيها راحلة) (رواه مسلم عن ابن عمر).
ويحذر القرآن الكريم من الانخداع بالغثاء والكثرة القائمة على غير الحق والعدل، التي يمكن أن تشكل عبئًا يسوده مناخ القطيع، الذي يحرك الإنسان دون دراية وإرادة، فيقول :{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[الأنعام : 116} والضلال يعني الضياع، وعدمية الحياة، وغياب المقاصد، والانسلاك في القطيع دون فحص واختبار ومعرفة للوجهة.. والرسول صلى الله عليه و سلم حذّر من الوَهْن الذي يصيب الأمة المسلمة، بسبب من الحالة الغثائية، المؤدية بها إلى مرحلة القصعة، التي تسود مراحل النكوص والتخلف، فيتحول الناس إلى مستهلكين بدل أن يكونوا منتجين، فيقول : (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها)، فقال قائل : ومن قلةٍ نحن
(1/17)
---
ص:18
يومئذٍ؟ قال : (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ لكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهْن) فقال قائل : يا رسول الله! وما الوَهْن؟ قال : (حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) (رواه أبو داود عن ثوبان).(1/8)
والشاعر العربي حاول معالجة الانخداع بالكثرة التي لا عطاء لها ولا فاعلية، كما حاول تصويب المعيار عندما قال :
تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا فقلت لها : إن الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
فالمعيار يبقى دائمًا هو الكرامة، المتولدة عن التقوى، والعطاء والفاعلية، وليس عدد الرؤوس، أو مساحة القطيع المتحرك بلا رؤوس، أو ذي الرأس الواحد.
ولعلي ألمح من قوله تعالى :{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة : 249} عدم الاقتصار في الغلبة على المعركة العسكرية، ذلك أن ميدان الغلبة والظهور والصراع والحوار الحضاري، الحياة بكل أصعدتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية، وإن كان سبب نزول النص معركة طالوت مع جالوت التي قصّها الله علينا، لتحقيق العبرة من تاريخ النبوة، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقرر علماؤنا
(1/18)
---
ص:19
في أصول الفقه والنظر والاجتهاد. حيث لا عبرة إذا لم نستطع تجريد النص من ظرف الزمان والمكان والمناسبة، وتوليده في المجالات المشابهة.
وكذلك نرى الحقيقة تستمر تاريخيًا، فالذي يدرس واقع المسلمين قبيل بدر، وواقع المشركين، من زواياه المتعددة، يدرك أن كل مؤهلات الغلبة العسكرية والحضارية كانت إلى جانب المسلمين، الفئة القليلة، بمؤهلاتهم وطبيعتهم النوعية وعقيدتهم المميزة، لذلك نستطيع أن نقول : إن الغلبة الحضارية والظهور الثقافي، أو إظهار الإسلام على الدين كله، لا يمكن أن تحدده القلة والكثرة، وإنما تحدده المؤهلات والخصائص والنوعية.(1/9)
وقد يكون من المفيد أن نذكّر بهذه المناسبة، بالنص القرآني الحاسم لهذه القضية في سورة التوبة -وهي من أواخر ما نزل- الذي نزل بمناسبة التحضير لغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، التي سميت بغزوة العسرة، وسمي جيشها بجيش العسرة، وكان في أشد الظروف الطبيعية قسوة، عندما تخاذل الكم الهائل عن الذهاب، وبدأت صناعة فلسفات الهزيمة تستميل النفوس الضعيفة، وتحركت الفئة القليلة لممارسة الإنجاز الكبير، عندها قال الرسول صلى الله عليه و سلم في مجال التبرع والعطاء : (سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم)، قالوا : يا رسول الله! وكيف؟ قال : (رجل له درهمان فأخذ أحدَهما فتصدّق به، ورجل له مالٌ كثيرٌ فأخذ من عُرْضِ ماله مائة ألف فتصدّقَ به) (رواه النسائي، عن أبي هريرة)، فالأمر لا يُعَايَر بالقلة والكثرة.
(1/19)
---
ص:20
نعود للنص القرآني المجرد عن حدود الزمان والمكان، لننظر له من زاوية أخرى.. هذا النص الذي يتلوه المسلم، ويتعبد به صباح مساء، والذي نزل لمعالجة حالة التخاذل وتصويب المعيار، وتقرير الحقيقة التاريخية التي ما تزال تعيش في عقول المسلمين ووجدانهم، قال تعالى :{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا[التوبة : 40}.(1/10)
لقد تحقق النصر الكبير في طريق الهجرة، كما هو معلوم ومعروف للجميع، بواحد أولاً وبثاني اثنين، وكان ما نعلم جميعًا من إقامة الدولة المسلمة النواة، قبل أن تكون هذه الجموع المتخاذلة عن الذهاب إلى تبوك، فلم تكن القلة تعني الهزيمة، ولا الكثرة تعني النصر.. وهذه الوقائع التاريخية من تجارب النبوة، ما تزال ماثلة للعيون، فإذا أضفنا إلى ذلك اليوم أن الإبداعات التكنولوجية، التي جاءت ثمرة للعقول القليلة، قد ألغت قيمة الكثرة في المجالات الحياتية المتعددة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتنموية والاجتماعية، نتأكد أن القضايا الحضارية لا تحكمها موازين القلة والكثرة.
وحسبنا في هذا الموضوع دليلاً من واقع عدونا، بعد أن نسينا تاريخنا، ودخلنا مرحلة (القَصْعَة)، وحالة (الغُثَاء)، و(الوَهْن) الحضاري، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما ذكرنا آنفًا.
(1/20)
---
ص:21
فاليهود في العالم لا يتجاوزون الثلاثين مليونًا، حتى في الحسابات المبالغ فيها، ومع ذلك هم يحكمون أو يتحكمون بالعالم، بكل ملياراته وأعداده الضخمة، وليس في ذلك مبالغة، ولا الانطلاق من مركب نقص، لأنه حقيقة ماثلة أمام الجميع، سواء في ذلك من قَبِلَها أو رفضها، ومَن تجاهلها أو جهلها.(1/11)
فالقضية وما فيها كما يقولون، تحكمها القدرة على استيعاب سنن التدافع الحضاري، والقدرة على التفكير الاستراتيجي، وإمكانية الاستنبات في كل الظروف، وحسن التقدير والتسخير للمواقع المتاحة.. هي في حقيقة الأمر، في التحقق بالتقوى بمعناها الأعم، وانبعاث الفاعلية، واكتشاف المواقع والمنابر المؤثرة، وتوفر عنصري الإخلاص والصواب معًا، ليجيء العمل حسنًا، كما فهم الفضيل بن عياض رحمه الله قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[هود :7 } بأن العمل لا يبلغ مرتبة الحسن ما لم يتوفر له الإخلاص في النية، والصواب، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإرادة والقوة، الحماس والاختصاص، أو بمعنى آخر العمل للوصول إلى بناء الإنسان العدل، والتخلص من الإنسان الكَلّ.
وهنا نقول : كم من الحالات والشدائد، التي نصبح أحوج ما نكون فيها إلى النماذج المتكررة لنعيم بن مسعود رضي الله عنه، الذي قام بالدور العظيم في معركة الأحزاب، وهو كما قال عنه الرسول صلى الله عليه و سلم : (إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت).
(1/21)
---
ص:22
من هنا أقول : إن الكلام عن قضية الأقلية والأكثرية، أو عن فقه الأقلية والأكثرية، يحتاج إلى الكثير من الدقة، فكم من أكثرية لا قيمة لها ولا نفوذ ولا قرار، وكم من أقلية تمتلك إدارة الأمور والتشريع لها.
فالقضية قضية واقع، أو حالة حضارية أو ثقافية، يمكن أن تلحق بالأكثرية أو بالأقلية، تحتاج إلى فقه ونظر واجتهاد، وليست قضية محصورة بفقه الأقلية بالشكل المطلق.(1/12)
والأمر الذي نرى أنه من المفيد لفت النظر إليه في هذا المجال، أن الوجود الإسلامي العالمي هو من طبيعة هذا الدين، الذي ابتعث رسوله رحمة للعالمين، ومن مقتضيات رسالته، قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 107} : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ : 28} .. وخطابه بدأ عالميًا منذ اللحظات أو الخطوات الأولى في مكة، فمعظم الآيات بدأت خطابها بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ[البقرة : 21} لتستبين السبيل، وتتضح الرؤية، وتدرك أبعاد المهمة من أول الطريق.
وأكثر من ذلك، فقد اعتبرت جذور هذا الدين ممتدة حتى النبوة الأولى، قال تعالى :{ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى : 18-19} .
وقال :{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
(1/22)
---
ص:23
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى : 13} .
كما اعتبر الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ أمة واحدة، حتى لو اختلفت المواقع الجغرافية والأزمنة التاريخية، قال تعالى :{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 92} وإن صورة الكمال والاكتمال التاريخي لرحلة النبوة تحققت في الرسالة الخاتمة :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً[المائدة : 3}.(1/13)
وكانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، القيام بمهمة البلاغ المبين، وإظهار الدين، واستيعاب رحلة النبوة وإكمالها، قال صلى الله عليه و سلم : (مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء من قبلي كَمَثَل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأَجْمَلَهُ إلا موضع لبنةٍ، من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون : هلاَّ وُضعت هذه اللبنة، قال : فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة).
ولقد تعهد الله سبحانه وتعالى بإظهار هذا الدين على الدين كله، فقال تعالى :{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة : 33}.
والإظهار يعني فيما يعني الامتداد والبلوغ لسائر المواقع الجغرافية، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَر ولا وَبَر، إلا أدخله اللهُ هذا الدين، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ
(1/23)
---
ص:24
ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر) (رواه الإمام أحمد عن تميم الداري)، حيث سيعم البلاغ الحواضر والبوادي، وهذا يعني تحقيق الوجود الإسلامي في كل المواقع الجغرافية.. ووجود المسلمين يعني إقامة أحكام الشرع الإسلامي، والانضباط بالقيم الإسلامية على الأصعدة المتعددة المتاحة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وإداريًا، وتربويًا، في ضوء الاستطاعات المتاحة.(1/14)
لذلك كان فهم الصحابة لأبعاد المهمة واستجابتهم، منسجمًا مع التكليف الشرعي، فحملوا الإسلام صوب العالم كله، لإخراجه من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، واستطاعوا العيش والتكيف مع كل الظروف، شأنهم في ذلك شأن الإسلام بمبادئه العالمية والإنسانية، واستوطنوا البلاد، وعاشوا إسلامهم بمقدار استطاعاتهم، استجابة لقوله تعالى :{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن : 16} ولم يحسوا بعقدة الاغتراب، أو أن يميزوا في مجال الدعوة بين أرض وأرض، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، أو بين شعب وشعب، وجنس وجنس، فالأكرم الأتقى، أو بين أقلية وأكثرية، وإنما هي قدرات واستطاعات قد تتوفر في إطار الأقلية العددية، فيكون الواحد بمائة أو بألف :{إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ [الأنفال : 65}.
والغلبة هنا لا تقتصر على الغلبة العسكرية، وإنما تتجاوز إلى أبعاد أخرى، حتى تستوعب الغلبة والظهور الحضاري والثقافي، كما أسلفنا،
(1/24)
---
ص:25
وتغيب في مجال الأكثرية العددية، وقد يكون العكس هو الصحيح، ولكل حالة فقهها ومتطلباتها.
ولعل مما ساعد الإسلام على الظهور والانتشار، وجعل للإسلام وجودًا في كل المواقع، أنه اعتبر اعتناقه أو الإيمان به خيارًا إنسانيًا، وجاء هذا الخيار ليكون عنوانًا لكرامة وإرادة وحرية الإنسان، قال تعالى :{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية : 22} .
وقال :{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ [ق:45}(1/15)
وقال :{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[البقرة : 256} بدون سيطرة أو جبروت أو إكراه، وجعل الأمة المسلمة أو المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا لكل الأجناس والأعراق والألوان، وبذلك نفى عن هذا الدين العنصرية والتعصب والانغلاق على لون أو جنس أو جغرافيا، كما هو حال كل الحضارات التاريخية، فليس أحد بأحق به من أحد، فـ (سلمان منّا آل البيت)، و(أبو جهل فرعون هذه الأمة).. وأي إنسان يعتنق الإسلام، يتمتع بالأخوة الإسلامية وحقوقها، ويكون له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على كل مسلم.
لذلك يمكن القول : بأن هذا مكّن من الانتشار والوجود في كل المواقع، وكسر كل أسوار التعصب والانغلاق، وأدى إلى الاندماج والانفتاح والتعاون وإنتاج المسلم -حيثما وجد الإنسان- الذي لا يعاني من عقدة اللون أو الجنس أو العرق أو الاغتراب، وأنه يمكن له أن يكون مسلمًا يمارس التكاليف الشرعية، في حدود ما يمتلك من استطاعة،
(1/25)
---
ص:26
قال تعالى :{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة : 286} وهذا يعني أن يطبق الإسلام في كل أحواله طالما استفرغ استطاعته.
ومن القضايا ذات الصلة المباشرة بموضوع الوجود الإسلامي في البلاد التي توصف بأنها غير إسلامية، قضية الهجرة، التي تعتبر من الجهاد ومن لوازم مهمة البلاغ المبين ومراغمة أعداء الله، وقد سبق أن أشرنا إلى عالمية الرسالة الإسلامية، ومهمة البلاغ المبين.
إن إظهار دين الحق، الإسلام، على الدين كله، يقتضي حمل الدعوة والتبشير بها إلى كل المواقع والأماكن، حتى يخرج المسلم من عهدة التكليف.. وسبق أن أشرنا إلى البشائر النبوية بأن هذا الدين سوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وينتشر في الحواضر والبوادي على حدٍّ سواء، وهذا يعني الوجود والانتشار الإسلامي بشكل أو بآخر في كل المواقع، سواءً كانت البلاد إسلامية بأغلبية سكانها، أو كانت غير إسلامية من حيث أغلبية السكان.(1/16)
لذلك يمكن القول : بأن الهجرة دعوة وحركة، والهجرة جهاد، والهجرة محاولة لتجاوز الواقع الراكد المستنقع، وتحول إلى موقع أجدى، وتحرف لمدافعة أكثر عطاءً، ولا أعتقد أن للهجرة أحكامًا شرعية واحدة ثابتة لكل الحالات، بل لكل حالة أحكامها بحسب الظروف والملابسات والتغييرات السكانية والإدارية والدستورية، شريطة أن تبقى الهجرة
(1/26)
---
ص:27
مرتبطة بمقاصدها ومنطلقاتها الشرعية، ولا تتحول إلى مهارب سلبية تسودها فلسفات ومسوغات الانسحاب والهزيمة، شأنها في ذلك شأن الجهاد، حيث لا يجوز التولي عن الزحف والفرار من الموقع، إلا في حالة التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، يقول تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ(15)وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال : 16}.
والمقصد الشرعي الأساس في الهجرة، أن تكون فرارًا إلى الله، سواءً كان ذلك على مستوى النفس أو على مستوى المكان. فالرسول صلى الله عليه و سلم يعرّف المهاجر بقوله : (إنَّ المهاجر مَن هَجَرَ ما نهى الله عنه) (رواه أحمد عن ابن عمرو)، حتى ولو لم يغير موقعه، لأنه مارس هجرة نفسية وذلك بالانخلاع من الواقع الثقافي الجاهلي والوثني الذي تسوده العبودية لغير الله، مصداقًا لقوله تعالى :{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدّثر : 5}.(1/17)
ولحكمة يريدها الله، ولبيان دور الهجرة في إظهار الدين، وعدم ركون المسلم إلى الدعة والاسترخاء والسقوط في الرفه، أو السقوط أمام الظالمين، ولأن الهجرة حالة مستمرة استمرار الحياة، جعلها الرسول صلى الله عليه و سلم المثال والأنموذج لإخلاص النية، فقال : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه) (رواه الجماعة عن عمر، واللفظ لأبي داود).
(1/27)
---
ص:28
والمقصد المتبادر للهجرة والمشروع : هو الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام، أو الفرار بالدين من الفتن إلى محل يأمن فيه المسلم من الإثم، أو من بلد يفتن فيه المسلم عن دينه ويؤذى بسبب اعتقاده...إلخ. يقول تعالى :{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت : 56}
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيرها : (هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين) (تفسير ابن كثير، 3-419).
حتى إن الإسلام جعل الهجرة القاصدة سبب الولاء وآصرته، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ [الأنفال:72}.(1/18)
والهجرة، حركة دعوة وجهاد، كما أسلفنا، وليست حركة سلبية هروبية انسحابية من الموقع، وإنما يتحدد حكمها بحسب الظروف، فقد تقتضي الظروف الثبات في الموقع وتحمل الأذى، والصبر على الافتتان، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، ومن ذلك أن يكون أمر الإسلام قد توجه بالانتشار والانتصار، ولا يعيقه فتنة فلان أو إيذاء فلان، أو عندما تكون فتنة فلان إيقاظًا لأمة وإشهارًا للاستبداد، عند ذلك يصبح التشبث بالأرض وعدم إخلائها لصالح أعداء الله في الداخل والخارج واجبًا شرعيًا، فتكون الهجرة الداخلية بهجر ما نهى الله عنه،
(1/28)
---
ص:29
والثبات، وتقديم أنموذج الاقتداء، ويحكم هذه الحالة من بعض الوجوه، قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) (رواه مسلم من حديث عائشة).
وتصبح الهجرة واجبة عند المحاصرة الكاملة، وانسداد قنوات الحركة، واستحالة الاستجابة والدعوة، عندها لابد من التفكير بمواقع أخرى، حتى ولو كانت في الخروج إلى بلاد الكفر، إذا كانت فيها أقدار من الحرية تمكّن من إظهار الدين.
ولقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا البعد للهجرة، فقال : (المقيم بها -أي في غير بلاد الإسلام- إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه) (الفتاوى، 28-240). وعند الماوردي أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فالإقامة فيها أفضل، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.
والهجرة اليوم أصبحت خاضعة إلى نوع من تحكم الأقوياء، الذين ضيّقوا أرض الله الواسعة، بما شرّعوا من قوانين الهجرة والإقامة، جعلت لهم إمكانية السيطرة، والقدرة على امتصاص الأدمغة وإغرائها بالهجرة، ليقيموا حضارتهم على إنتاجها، ويمارسون في الوقت نفسه إقامة أنظمة الاستبداد السياسي، التي تساهم بالطرد لكل خبرة وإمكانية واختصاص، إلى مواقع الجذب للإفادة من ذلك كله.. وليس ذلك فقط، وإنما إيجاد
(1/29)
---
ص:30(1/19)
هوامش من الحرية المنضبطة في محاولة للاستلاب الحضاري، وتبقى الصورة غير الحقيقة.. ذلك أن الذين يمنحون الحرية هناك في بلادهم للمهاجر والمقيم، هم نفسهم الذين يمنعونها في بعض بلاد العالم الإسلامي، ويشيعون أنظمة الاستبداد السياسي بكل أشكالها ويساندونها، ويقفون وراءها، وهذا من الفتن، حيث افتتن الكثير من أبناء المسلمين بذلك، وذابوا فيه دون أن يدركوا أن الذي يمنحهم هذه الحرية هو الذي يمنعهم، ويساند الاستبداد، ويطارد الحرية في بلادهم، لينتهوا إليه.
لذلك نقول : إن الذي يحاول أن يضع بعض الأحكام والفتاوى الشرعية لقضية الهجرة، لابد أن يكون على دراية بالمسألة من جميع وجوهها، وحسن تقدير لمعرفة تداعياتها المستقبلية على أكثر من مستوى، وأن ما يصلح من الأحكام لعصر أو مكان، قد لا يصلح لعصر أو مكان آخر.. وإطلاق الأحكام بعيدًا عن أرض الميدان وعدم استيعاب الصورة، يحمل الكثير من المضاعفات.
فقد تقتضي الظروف التشبث بالأرض، وعدم الهجرة وإخلاء البلاد لامتداد أعداء الله وتمكينهم من مقادير الأمور، حتى في حالات الاستضعاف، لأن ذلك قد يشكل فراغًا أو تفريغًا لصالح (الآخر).. وقد تصبح الهجرة واجبة ومفروضة في حالات الانسداد الاجتماعي والثقافي، وقد يجد المسلم في البلاد غير الإسلامية فسحة لممارسة عقيدته ودعوته،
(1/30)
---
ص:31
وتقديم نماذج حضارية وإنسانية تثير الاقتداء. وكم يتأكد دور الهجرة وفاعليتها في إطار الدعوة، إذا علمنا أن انتشار الإسلام في العالم والإقبال عليه، كان بسبب إثارة الاقتداء، أو الدعوة بالقدوة من قِبَل التجار والمهاجرين.(1/20)
وعلى العموم يمكن القول : إن لكل حالة حكمها، ولكل هجرة دواعيها وأسبابها، ولا يمكن أن يكون حكمًا واحدًا لكل الحالات ولكل الظروف والملابسات، فالأرض كلها لله.. وواجب الدعوة وإيصال الإسلام وإظهاره، مهمة كل مسلم، بحسب استطاعته.. والوجود الإسلامي وإظهار الدين، أصبح -جغرافيًا وثقافيًا وإعلاميًا، على المستوى العالمي- أمرًا قائمًا ومستقرًّا ومستمرًّا، وقد تتمتع الأقلية السكانية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، في ممارسة عبادتها وحريتها، أكثر بكثير مما تتمتع به في بعض البلاد الإسلامية، وهذا من الفتن، كما أسلفنا.
وأعتقد أن هذا الأمر يقتضي شيئًا من التوقف عند مصطلح دار الحرب ودار الإسلام، وبعض الأحكام الفقهية الجاهزة للتطبيق في المواقع المتعددة والحالات المختلفة، دون القدرة على النظر والاجتهاد في محل التطبيق، ومدى ملاءمته، وتوفر استطاعته لهذا التطبيق أو التنزيل، مع الأخذ بعين الاعتبار تجدد الأعراف والتشريعات، والتغيير الذي طرأ على طبيعة المجتمعات، ومواصفات المواطنة والقوانين الناظمة لحقوقها وواجباتها، والقوانين الناظمة للهجرة والإقامة.
(1/31)
---
ص:32
والقضية فيما أرى تقتضي قدرًا من المراجعة وإعادة النظر في مدلول هذه المصطلحات أو مفهوم هذه المصطلحات، ولعل من الأمور البدهية والمسلمة أيضًا، أن رسالة الإسلام رسالة عالمية، كما أسلفنا، يمكن أن نصفها بأنها خطاب الإنسان حيثما كان، وأن جغرافية الرسالة هي أرض الله الواسعة وأزمنته الممتدة إلى يوم القيامة، ومحل خطابها الإنسان المخلوق، وأنها من حق كل إنسان وليست وقفًا على أحد، وأن الإنسان بمجرد اعتناق الإسلام يتمتع بحقوق المسلم العضو في أمة الإسلام، ويكتسب صفة الأخوة، وتترتب عليه حقوقها.(1/21)
هذا في مجال الدعوة أو الفكرة والعقيدة، وهو المجال المستمر في كل حالات الاستضعاف والتمكين على سواء، ولعل انتشار الإسلام اليوم، أو اعتناق الإسلام المستمر في أرقى المجتمعات المادية، وفي أكثرها تخلفًا، على الرغم من واقع المسلمين الذي لا يحسدون عليه، دليل على أن خطاب الدعوة مستمر، ومجاله مفتوح، وعطاءه متجدد، وهذا من الخلود.
ولكن الإسلام كما هو متيقن وواقع تاريخي، ليس دعوة مجردة فقط، وليس أمة منتشرة متفرقة في أرجاء الأرض، في الحواضر والبوادي فقط، وإنما هو دعوة ودولة، بحيث تكون الدولة دولة الدعوة والفكرة، وتشكل إحدى وسائل نشر الدعوة وحمايتها.. والإسلام أمة وحكومة تبسط سلطتها، وتشرف على إنفاذ القوانين وتطبيق الأحكام في الأمة،
(1/32)
---
ص:33
وليس مجرد وصايا أخلاقية تعيش في ضمير الفرد دون أن تحكم واقعه وتضبط تصرفاته بضوابط الشرع، وتعالج انحرافاته بعقوبات رادعة.
وهذا الواقع سوف يتولد عنه بطبيعة الحال جغرافيا سياسية، وموقع على الخارطة الدولية، ومواصفات ثقافية، ونمط اجتماعي، وتميز تربوي وقانوني، وسوف يترتب عليه علاقات ومعاهدات ومواجهات ومدافعات، شأن الواقع الدستوري للدول جميعًا، ومن هنا كان لابد أن ينشأ مصطلح يُطلق على هذه المنطقة الجغرافية، سواء أطلق عليه دار الإسلام أو غير ذلك من المصطلحات ذات الدلالة الكافية.. فنشأ مصطلح دار الإسلام، وترتب على نشوئه مصطلح دار الحرب، والدار المعاهدة، بحسب طبيعة الدول وعلاقاتها الدولية ومواقفها من الدولة المسلمة أو من دار الإسلام.(1/22)
والقضية الأهم هنا أن دار الحرب والدار المعاهدة، إنما تتحدد في ضوء وجود دار الإسلام، بكل مواصفاتها ومقوماتها، ولعل من أهم المقومات قيام دولة الفكرة، أو دولة الرسالة الإسلامية التي تقيم شرع الله على الأرض، وقد وضع الفقهاء خصائص ومواصفات لدولة الإسلام أو للمجتمع الإسلامي، وبذلك يوصف المجتمع بأنه مجتمع إسلامي، وتوصف الأرض التي بسطت عليها الدولة الإسلامية سلطانها وشرعها بأنها دار إسلام، بالمصطلح الدستوري الذي كان شائعًا، أو بمصطلح القانون الدولي، وعلى مستوى الدولة وليس على مستوى الأمة المسلمة
(1/33)
---
ص:34
الممتدة في سائر أنحاء الأرض، فإذا لم يتوفر الكيان الإسلامي أو الدولة التي تقيم الإسلام وتطبق شرعه، وتنطلق من قيمه في التشريع والتربية والسياسة والاقتصاد...إلخ، أو المجتمع الإسلامي بتعبير آخر، فإن المجتمع حينئذ يسمى مجتمع مسلمين، يمارس الأفراد فيه من الإسلام ما استطاعوا، ويعملون على إقامة الدولة المسلمة، وعلى ذلك -أي عند غياب المجتمع الإسلامي بمواصفاته المعروفة- لا يمكن عندها تحديد دار الحرب أو الدار المعاهدة، التي تُحَدَّد وتُميَّز في ضوء وجود دار الإسلام.
أما على مستوى الأمة فيصعب الانضباط بهذا المصطلح، والالتزام بما يترتب عليه، فقد يكون المسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية لهم من الحرية السياسية والممارسة والحقوق ما هو مفقود في كثير من مجتمعات مسلمين آخرين، ولو كانوا أكثرية، لكنها أكثرية مغلوبة على أمرها ومضطهدة.
والجانب الآخر الذي نرى أنه بحاجة إلى إيضاح، أن تسمية المصطلحات التي تخص الجغرافيا السياسية، إن صح التعبير، هي اجتهادات بشرية، اقتضتها ظروف الحال والواقع الدولي في ذلك الوقت، غير ملزمة، فقد يقتضي تطور العصر، وتغير طبيعة المجتمعات، وتقدم القوانين الدولية، وقيام المعاهدات والمؤسسات الدولية المشتركة، توليد مصطلحات أخرى ذات دلالة أكثر دقة ومعاصرة.
(1/34)
---(1/23)
ص:35
وهنا قضية قد تكون غابت عن بعض الباحثين، حتى من الذين يدّعون التخصص والاجتهاد، ويقيمون مؤسسات ومعاهد الاجتهاد والنظر والتجديد، ويطلقون دعاوى ومشاريع التجديد، وهي أن مصطلح دار الحرب ودار الإسلام هو مصطلح اجتهادي، وهذا صحيح أيضًا، وأن الأفضل أن يستبدل بدار الإسلام أمة الإجابة، لمن آمنوا واستجابوا، وبدار الحرب أمة الدعوة، لمن لايزالون على الكفر، ومحلاً للدعوة، كما نقل ذلك الرازي في تفسيره، وهذا وإن كان صحيحًا ودقيقًا ومقبولاً من حيث المضمون العام، وعلى مستوى الأمة، إلا أنه غير دقيق ولا صحيح ولا معبر على مستوى الدولة أو القانون الدولي والجغرافيا السياسية ،كما أسلفنا، لوجود أقليات مسلمة في مجتمعات غير مسلمة من أمة الدعوة هي من أمة الإجابة، فكيف يمتد إليهم سلطان الدولة المسلمة جغرافيًا؟!
وأعتقد أن الخطاب التكليفي والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالأمة كأفراد، غير الخطاب والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالدولة، كمؤسسة ذات سلطات.
لذلك فالأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، تعتبر من الأمة المسلمة، بما يمكن أن نطلق عليه الجغرافيا الثقافية، وليس من الدولة المسلمة، أو من دار الإسلام، حال وجود الدولة المسلمة فيما يمكن أن نسميه الجغرافيا السياسية.
(1/35)
---
ص:36(1/24)
وأعتقد أن الكثير من أحكام الهجرة الشرعية، أو الأحكام الفقهية لما يطلق عليه : الإقامة في بلاد الكفر، بحاجة إلى إعادة النظر في ضوء المتغيرات الاجتماعية والإعلامية والثقافية، حيث أصبح العالم دولة إعلامية واحدة تقريبًا، وأصبح بإمكان الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، أن تعايش ثقافة وقضايا ومشكلات العالم الإسلامي، كما يمكنها أن تتعلم الأحكام الشرعية والثقافة الإسلامية بأكثر من وسيلة، بل قد يكون وجودها في تلك البلاد ضروريًا لقضية الدعوة ونشر الإسلام وإعطاء الأنموذج الذي يثير الاقتداء، وقد يراغم الأعداء، وقد تتاح لهم فرص غير متوفرة في بلاد المسلمين.
والهجرات الإسلامية القاصدة تاريخيًا، كلها كانت ذات عطاء، سواءً في نشر الدين، أو إقامة الدولة المسلمة، وقد لا نحتاج لإيراد الأمثلة من أكثر من موقع، ولكن حسبنا أن نقول : إن الهجرة الأنموذج من مكة إلى المدينة، هي التي شكلت المنعطف التاريخي البشري وإقامة دولة الإسلام.. ولأمر يريده الله، أن دولة الإسلام الأنموذج كتب لها أن تقوم في معقل يهود في المدينة المنورة، ولم تقم بمكة حول البيت الذي بُني على التوحيد، ليكون ذلك دليلاً وهاديًا وحافزًا لكل الهجرات القادمة على الطريق حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وأن الضعف بتقدير الله، سوف يتحول إلى قوة.. وأن أوهن البيوت، وهو بيت العنكبوت، كان
(1/36)
---
ص:37
بحسب الظاهر سببًا في حماية الرسول صلى الله عليه و سلم في هجرته لإقامة دولة الإسلام.(1/25)
فما على المسلم إلا أن يعرف إسلامه، ويعرف كيف يدعو إليه، وسوف يكون مؤثرًا وفاعلاً أينما كان، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (اتق الله حيثما كنت) (رواه الترمذي، من حديث أبي ذر)، والأرض لله يورثها من يشاء، ومسؤولية المسلم مسؤولية عالمية لاستنقاذ الناس وإلحاق الرحمة بهم، والفرد قد يكون أمة، كما أسلفنا، فلا تقاس الأمور بالأكثرية والأقلية، فكم من أكثرية لا قيمة لها، وكم من أقلية تمتلك القيمة الكبرى، إذا أحسنت التعامل مع سنن التدافع الحضاري.
وبعد :
فالكتاب الذي نقدمه اليوم هو في أصله دراسة علمية أكاديمية لموضوع فقه الأقليات المسلمة، عرض المؤلف من خلالها للأحكام الفقهية الشرعية، والاجتهادات المتعددة، بقدر غير قليل من الاستقصاء، وحاول الترجيح ما أمكن لبعض الاجتهادات، سواء في مجال العبادات أو المعاملات، والعلاقات الاجتماعية، وقضية الولاء والبراء، بحسب ما أمكن من استقراء الظروف والأحوال للواقع الدولي اليوم.
وقد لا يكون المطلوب الاقتصار على النظر والاجتهاد في مجال الفقه التشريعي -على ضرورته وأهميته- وإنما لابد من التفكير في المناهج
(1/37)
---
ص:38
التربوية، وبناء الأنظمة المعرفية وموارد التشكيل والتحصين الثقافي، وبيان موقع الثقافة الإسلامية من الثقافات القائمة، والقدرة على استيعاب الحالات المتعددة، فما يصلح لأقلية في مجتمع ما من الأحكام والمناهج، قد لا يصلح لأقلية في مجتمع ذي طبيعة أخرى، وما يصلح للمسلم في بلاد العالم الإسلامي، قد لا يصلح للمسلم في مجتمعات غير إسلامية.
ولعل من الأهمية بمكان التفكير بتوطين الدعوة، ليأتي الفقه التربوي والتشريعي والثقافي ثمرة للواقع الميداني، فيتحقق بذلك مدلول قوله تعالى:{ رَسُولاً مِّنْهُمْ[الجمعة:2} بعيدًا عن مخاطبتهم من وراء الحدود ومن خارج المعاناة.(1/26)
ويبقى ملف الأقلية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، مفتوحًا لمزيد من البحث والدرس والاجتهاد والمتابعة، على المستوى الفكري والفقهي والثقافي، في ضوء التطورات الاجتماعية والمعاهدات والمؤسسات الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان، والمعطيات الحضارية في مجال الإعلام، وشبكة المعلومات، والقنوات الفضائية التي احتلت الأثير، واخترقت الحدود السياسية للدول، فجعلت من الأقلية أكثرية في القدرة والتأثير، وجعلت من الأكثرية أقلية حيث العجز والتخاذل وصور التحكم، وأتاحت إمكانات علمية وتعليمية تصل إلى كل المواقع. لذلك فالقضية محتاجة إلى الكثير من التأمل والنظر والاجتهاد والتخطيط.
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
(1/38)
---
المقدمة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا فَمَنْ يَهْدِِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ!
فالإسلام منهج حياة متكامل، تناول كل جوانب الحياة ونظم العلاقات الإنسانية كلها، ووضع لها أحكاما وقواعد على مقتضى الحق والعدل.
فلم يقتصر على بيان علاقة الأفراد بخالقهم، والتي هي أساس كل علاقة، بل اتسع ليستوعب شؤون العلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم مع بعض ، و بين المسلمين و مخالفيهم، على نحو لم تعرف البشرية شبيها و لا مثيلا له.
ولم يكتف كذلك بالتنظير، بل ربط بين المعرفة والعمل برباط متين، في كثير من النصوص، و طلب من أتباعه أن يكيفوا سلوكهم وفق
(1/39)
---
40
قواعده و تعاليمه، و أن يحكموا الرباط بين الفكر والمسلك كارتباط القاعدة بالبناء،ليكونوا- بحق- خير أمة هادية للحقيقة التي ضل عنها كثير من الناس.(1/27)
والإسلام هو الدين المهيمن على الدين كله، و معتنقوه شهداء عل الناس.. و لكي يصدق على المسلم وصف الشاهد، لا بد أن يكون على مستوى إسلامه، منهجا و فكرًا، و تصورا وسلوكا.
وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بالعبودية لله ، وبالاستقامة على طريقة الشرع، و عندئذ يصبح داعية بسلوكه في بيئته، و سفيرا للإسلام في مجتمعه، و كم من مجتمع أسلم أهله لما رأوه و لمسوه من مكارم أخلاق الدعاة، و مواقفهم الطيبة مع الآخرين،و برهم بهم، و قسطهم إليهم، فلم يملكوا إلا أن أخضعوا عقولهم و مداركهم لما يحمله هؤلاء من عقيدة و فكر، و بهذا يتحقق المقصد الأسمى من خلق الناس و إرسال الرسل و إنزال الكتب.
و لما كان سبحانه و تعالى وعد بإظهار دينه و إدخاله كل بيت بعز عزيز أو بذل ذليل، كان قطعيا أن يوجد مسلمون في ديار غيرهم، إما بحكم النشأة أو الهجرة.
(1/40)
---
41
و هؤلآء المسلمون في الغالب أحد رجلين:
إما متشدد يعتزل أهل الملل الأخرى،و يعاملهم بغلظة، بل قد وصل الأمر إلى حد استباحة أموالهم.
و إما متساهل مع المخالفين إلى حد التوادد والرضا، بل والذوبان التام، وفقدان الشخصية الدينية.
و من هنا جاءت هذه الدراسة، إسهاما في جهود ترشيد الصحوة، ليستعيد المسلم دوره في الريادة، و لتكون شعلة تضيء الطريق، و تجعل المسلم على هدى ونور،معتمدا فيها على نصوص الكتاب وما صح من السنة و إجماع الأمة، مسترشدا بأقوال الصحابة والتابعين، و أئمة المذاهب، وغيرهم، مبتعدا عن التعصب والتقليد لإمام بعينه، سائرا مع الدليل حيث سار، لأن الله تعبدنا به دون سواه.
جاءت هذه الدراسة على فصلين، كل فصل حوى عدة مباحث، ومطالب،ومسائل،وفروع منتقاة، مما يتطلع المسلمون في ديارغير المسلمين ِإلى معرفته،لتصحيح سلوكهم مع مخالفيهم، وضبط تعاملهم مع غيرهم، بحكم الخلطة والجوار، على أساس قويم.
و لايفوتني أن أنبه إلى أن هذه الأحكام إنما اختيرت من رسالة
(1/41)
---
ص:42(1/28)
ضخمة(حوالي 700صفحة) حوت الأحكام التي يفتقر إلى معرفتها المسلم في ديارالمخالفين، في شتى مجالات الحياة، على وجه التفصيل.
وهي في الأصل رسالة علمية نلت بها درجة الماجستير من "كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية"في بيروت،في ربيع الأول من سنة1415هـ
بعنوان: الأحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الإسلامية" وهي قيد الطبع والنشر إن شاء الله.
و ما تم اختياره هنا من أحكام إنما كان ثمرة مناقشات و محاورات مع عدد كبير من المختصين، الذين سبق أن أقاموا في ديار غير المسلمين لفترة طويلة.
والله ولي التوفيق.
خالد محمد عبد القادر
(1/42)
---
ص:43
الفصل الأول : مجتمعات غير المسلمين، وموقف الشريعة منها
((المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله))
تقسيم المجتمعات البشرية على أساس العقيدة، ليس بالأمر النظري الذي لا أثر له في مسيرة الحياة بالنسبة لنا، أو لا تترتب عليه أحكام، بل إن بحثنا هذا بأكمله ما هو إلا نتاج هذا التقسيم، لما ينشأ عنه من آثار بالغة الأهمية، تمس المرء المسلم في دنياه وأخراه، إذ أن الشرع الحنيف شرَّع الكثير من الأحكام التي تبين للمسلم كيفية التعامل مع غير المسلمين، وما يجب أن يكون عليه موقفه منهم في شؤون الحياة المتنوعة، وطبيعة الصلة بهم، وموقعه بالنسبة لحكوماتهم التي يقيم تحت ظل قوانينها. ومجتمعات غير المسلمين تتباين بحسب أصول عقائدها، فهي ليست سواء، وليست على درجة واحدة، وفي مستوى واحد في نظر الشرع.
المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
البشر في نظر الشريعة الإسلامية، ينقسمون بحسب الديانة، إلى طائفتين كبيرتين :
أ - طائفة المسلمين.
ب - طائفة الكافرين.
(1/43)
---
ص:44(1/29)
والذي نبغي بيانه هنا هو طوائف الكافرين المشهورة منها، وذائعة الصيت، وهؤلاء أصناف وملل شتى، يجمعهم وصف واحد وهو الكفر، وإن كان لكل صنف منهم اسم خاص يميزه عن الآخر.
(والكافر هو من لم يؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى، أو بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، أو بشريعته، أو بثلاثتها) (1).
وبعبارة موجزة : هو من لم يعتنق دين الله الحق (الإسلام).
وهم أصناف :
أولاً : أهل الكتاب :
اختلف الفقهاء في تحديد الكتابي، وفيمن ينطبق عليه هذا الوصف، إلى فريقين :
الفريق الأول : الحنفية :
فقد ذهبوا في تعريفه إلى أنه : (هو كل من اعتقد دينًا سماويًا، وله كتاب منزل، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وشيث، وزبور داود) (2)، ونص على ذلك الشافعي (3).
فأهل الكتاب عند هؤلاء ليسوا هم اليهود والنصارى كما هو مشهور فحسب، بل هم من لهم كتاب ذو أصل سماوي.
__________
(1)المعجم الوسيط2/791
(2) انظر: تبيين الحقائق3/110 الفتاوى الهندية1/263
(3)الأم 4/281
(1/44)
---
ص:45
ويظهر أن الحنفية ومن وافقهم، نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية (أهل الكتاب)، أي أصحاب أي كتاب سماوي، وبه قال أبو يعلى، من الحنابلة (1).
الفريق الآخر، وهم جمهور الأمة من العلماء والفقهاء :
فقد قالوا : (إن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى فقط)، ولا يدخل غيرهم في هذا المسمى، لقوله تعالى : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (الأنعام : 156).
ووجه الدلالة، أن أهل الكتاب لو كانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بهما (أي بالطائفتين).
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : إن المقصود بالطائفتين هم اليهود والنصارى، وذهب ابن عطية إلى إضافة القول : (بإجماع من أهل التأويل).
وقال أصحاب هذا القول : وأما أصحاب الصحف فلا يدخلون تحت مسمى (أهل الكتاب)، لأنها كانت مواعظ، وأمثالاً لا أحكام فيها ولا شرائع، فلا يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الأحكام.
__________(1/30)
(1)المغني والشرح الكبير7/501. و أبو يعلى هو: محمد بن الحسين بن الفراء، إمام الحنابلة، عالم عصره في الأصول والفروع،من أهل بغداد، ولد سنة380هـ وتوفي سنة 458هـ، له تصانيف كثيرة.طبقات الحنابلة 2/193 الأعلام 6/331
(1/45)
---
ولا يشترط في الكتابي أن يلتزم بدينه عقيدة وسلوكًا، فقد ذهب جمهور الأمة (1) إلى أنه تكفي العقيدة، فبمجرد أن يعتقد شخص دينًا من أديان أهل الكتاب فإنه يصبح به كتابيًا، ولو لم يلتزم بالعمل بأحكامه، أو لم يكيّف منهجه وفق منهج دينه.
وأما ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اعتراضه على الصحابة لما اعتبروا عرب بني تغلب المتنصّرين من أهل الكتاب، أنه قال : (إنهم ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر)، فأجابه جميع الصحابة : (حسبنا أنهم صاروا نصارى).
وردّ ابن عباس رضي الله عنهما فقال : قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة : 51}.
فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية في نصرهم، وتوليتهم إياهم في الحرب لكانوا منهم (2)، واتفق الصحابة على ذلك ما عدا عليًا رضي الله عنه (3)، وصالحهم عمر رضي الله عنه على الجزية (4).
__________
(1)انظر:الطبري 6/65-179 تبيين الحقائق3/110 ورسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود1/372
(2)انظر:الطبري 6/179، المنار6/179
(3)انظر: مجموعة رسائل الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود1/372
(4)الأموال لأبي عبيد،ص:38
(1/46)
---
ص:47
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره ذبائحهم ونساءهم، ولم يحرمهما (1).
ثانيًا : المجوس :
المجوس قوم يعظمون الأنوار، والنيران، والماء، والأرض، ويقرون بنبوة زرادُشت(2)، وقيل : كان له كتاب، ولهم شرائع يقرون بها، وهم فرق شتى (3).
واختلف الفقهاء : هل المجوس أهل كتاب أم لا؟ على قولين :(1/31)
القول الأول : وهو قول جماهير الأمة، أنهم ليسوا بأهل كتاب (4).
القول الثاني : وهو قول الشافعي، أنهم أهل كتاب.
فقد قال في الأم (5) : (والمجوس كانوا أهل الكتاب، يجمعهم اسم أنهم أهل كتاب مع اليهود والنصارى). وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان للمجوس كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه، ولكنه رفع (6).
__________
(1)الطبري6/65
(2)زرادشت هو ابن يورشب"ولد في شمال غربي إيران، واختلف في تاريخ وجوده،فقيل: إنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد..اعتبر نبي الفرس الأقدمين"المنجد في الأعلام ص:320
(3)إغاثة اللهفان2/247،والمدخل إلى دراسة الأديان1/32
(4)انظر: سبل السلام4/1273،كشاف القناع3/117
(5)الأم 4/173
(6)حسّن إسناده ابن حجر والقسطلاني، وضعّفه أحمد والهيثمي وابن القيم لأن فيه أباسعد البقال وهو متروك.انظر: إرشاد الساري5/273 زاد المعاد3/224، طبعة المؤسسة العربية،بيروت.
(1/47)
---
ص:48
وقال الصنعاني : (ولا يخفى أن في قول النبي صلى الله عليه و سلم :(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) (1)، ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب) (2).
قلت : ومما يؤيد رأي الجمهور، عدم حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، باتفاق أهل العلم إلا (أبا ثور) (3). ومن جهة أخرى، فإن قول علي رضي الله عنه والشافعي رحمه الله خلاف ما تدل عليه آية : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) (الأنعام : 156)، إذا نحن أخذنا بظاهرها، لتصبح لدينا ثلاث طوائف بدل اثنتين.
أماكن وجودهم : توجد في إيران في الوقت الحاضر طائفة من المجوس، يبلغ عددها المليون تقريبًا، ولهم معابد ونيران (4) لا يدعونها تخمد لحظة واحدة (5).
__________(1/32)
(1)رواه مالك في المؤطأ،188 بسند منقطع، والشافعي والطبراني بلفظ: سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" كمأخرجه عبد الرزاق والبيهقي و أبو يعلى ، وهو حديث مرسل(والحديث المرسل: قول من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)وقال الهيثمي في المجمع:رواه الطراني وفيه من لم أعرفه، وقال ابن كثير في تفسيره 3/80: لم يثبت بهذا اللفظ، و ضعفه الألباني في إرواء الغليل،فإنه يغني عنه الحديث الذي رواه البخاري و غيره عن بجالة بن عبدة قال: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر"
(2) سبل السلام 4/1373
(3)موسوعة الإجماع2/974
(4)أحكام الذميين والمستأمنين ص:16
(5)مجلة كلية أصول الدين عدد4،ص:225
(1/48)
---
ص:49
ثالثًا : الدهريون :
الدهريون ينكرون الخالق، ويقولون : لا إله ولا صانع للعالَم، وأن هذه الأشياء وجدت بلا خالق.. فهم قد عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاه الله عنهم : (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (الجاثية : 24).
وقال تعالى عنهم أيضًا : (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) (الأنعام : 29).
والدهر هو مر الزمان الطويل، وطول العمر، واختلاف الليل والنهار.
وقالت فرقة منهم : إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، وإن العالَمَ دائمٌ لم يزل ولا يزال (1).
وهؤلاء قديمًا، يتفق معهم حديثًا -في أصل نظرتهم للكون والحياة- الشيوعيون.
والشيوعية : مذهب فكري يقوم على الإلحاد -أي إنكار وجود الله سبحانه، والغيبيات كلها- وأن المادة هي أساس كل شيء.
وتُفسِّر الشيوعيةُ التاريخَ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي.
__________
(1)إغاثة اللهفان2/256
(1/49)
---
ص:50(1/33)
وشعارهم : نؤمن بثلاثة : ماركس (1)، ولينين (2)، وستالين (3)، ونكفر بثلاثة : الله، والدين، والملكية الخاصة!
وينكرون الآخرة، ويؤمنون بأزلية المادة، ويحاربون الأديان (4)، والملكية الخاصة (5)، ومن شعاراتهم العسكرية : بالحديد والنار تنتصر الثورة.
عُرفت الشيوعية بالقسوة والعنف والإبادة الوحشية للمخالفين لها، لكن التطورات الأخيرة فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي حملت انفراجًا للأديان.
رابعًا : المشركون :
سمي هؤلاء بالمشركين نسبة إلى الشرك.. والشرك : هو أن يتخذ المرء من دون الله ندًا (أي مثلاً ونظيرًا) يحبه كحبه، ويعظمه كتعظيمه، ويعبده كعبادته، وهذا هو حال مشركي العالم، إذ يسوون آلهتهم برب العالمين (6).
__________
(1)ماركس: هو كارل ماركس اليهودي،ولد سنة 1818م في ألمانياو توفي سنة 1883م واضع الأسس الفكرية النظرية للشيوعية، كان أنانيا متقلب المزاجحاقدًا،.التضليل الماركسي ص: 59
(2)لينين: هو فلاديمير أليتش،ولد سنة 1870م و توفي سنة 1924م يهودي الأصل،قائد الثورة البلشفية في روسيا، عام 1917م.الموسوعة الميسرة ص:309
(3)ستالين: هو جوزيف فاديونوفتش، ولد سنة 1879م و توفي سنة1954م سكرتير الحزب الشيوعي.الموسوعة الميسرة ص:310
(4)بالرغم من أنهم يعلنون محاربة الأديان و ينكرون وجودإله، فإنهم يقولون بشأن اليهودو فلسطين: إننا لا نؤمن بالله حقا،و لكننا مقتنعون بأنه(أي الرب)خصص أرض فلسطين لشعب إسرائيل"جريدة الشرق القطرية بتاريخ 5/6/1991م
(5) انظر: الموسوعة الميسرة ص:309 التضليل الماركسي ص:184
(6)مدارج السالكين 2/339
(1/50)
---
ص:51
وقد سُئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) (1).(1/34)
فهؤلاء المشركون يقرون بربوبية الله تعالى في الجملة، وأنه الخالق المالك، ولكنهم لا يفردونه -سبحانه- وحده بالعبادة والتوجه، بل يجعلون معه غيره -ليقربهم إلى الله- مما يستحسنونه من الأصنام والأوثان والشمس والملائكة والنيران والأنَاسِيّ، وغير ذلك.
ومن ملل أهل الشرك ذوات النفوذ والانتشار والأغلبية في ديارها، نذكر : الهندوسية، الكونفوشيوسية، البوذية، السيخية.
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
مما هو في نطاق اليقين، بإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، لقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء : 107). وقوله : (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرًا لكم) (النساء : 170). وقوله : (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف : 158).
__________
(1)رواه البخاري8/207في كتاب التوحيد، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/51)
---
ص:52
وفي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي) .. وذكر منها : (وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة) (1).
فشريعة محمد صلى الله عليه و سلم ناسخة لجميع الشرائع السماوية والملل الأرضية، ومهيمنة عليها، لها صفة الدوام والخلود، فهي المرحلة النهائية لدين الله، وكلمته الأخيرة للبشرية، لذا فإن الناس جميعًا مخاطبون بها على سبيل الوجوب، وعليهم جميعًا الاستجابة لتعاليمها. فهي دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعًا، وهي منهاج حياة فاضلة تبتغي رقي الإنسان، عقلاً ووجدانًا وأخلاقًا.
جاءت هذه الشريعة لتستوعب الحياة كلها، واتسعت لتخاطب الجن أيضًا وتدعوهم إليها، فهي إذن ليست بإقليمية ولا عنصرية، بل عالمية عامة، وبناءً عليه فهي تعترف بمجتمعات المخالفين اعترافًا واقعيًا بطبيعتهم الإنسانية.(1/35)
ومادامت هذه هي طبيعتهم، فأساس العلاقة بينها وبين أهل الملل الأخرى هي علاقة دعوة، وهداية بالحجة، وبيان بالمنطق والبرهان، وتعتبر المخالفين لها في ضلال وعلى أباطيل، قال تعالى :{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[الحج : 62}.
__________
(1)رواه البخاري،في كتاب التيمم1/86
(1/52)
---
ص:53
وقد اختلف فقهاؤنا حول توصيل هذه الدعوة إلى المخالفين على فريقين :
الفريق الأول : وهم جمهور الأقدمين، يرى أن تعدّ القوة، وتجهز الجيوش، ثم تسير إلى ديار المخالفين، وقبل البدء بالقتال يخيّرون بين الإسلام والجزية (1) -إن كانوا من أهلها- والحرب (2).
كما يرى أن أصل العلاقة بين الإسلام والكفر هو الحرب، وأما السَّلْم (3) فهو أمر استثنائي ولظروف طارئة، وسبب هذه الحرب هو الكفر، كقوله تعالى :{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ[البقرة : 193].
وقوله :{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ[التوبة :5}
وقوله :{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً[التوبة : 36}.
وفسّروا (الفتنة) الواردة في الآية الأولى بمعنى الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يبقى شرك، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
__________
(1)اختلف الأئمة فيمن تؤخذ منه الجزية، فمذهب الحنفية أنها تؤخذ من جميع الكفار ماعدا عبدة الأوثان من العرب، وهو رواية عن أحمد،ورجحه أبوعبيد. و مذهب المالكية أنها تؤخذ من كل كافر، و رجحه الأوزاعي. و مذهب الشافعية والحنابلة أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب،و من له شبهة كتاب، و لكنهم أجمعوا على أنها لا تؤخذ من المرتد.انظر: الهداية 2/160.المدونة 2/46 الأموال لأبي عبيد:40 الأم ص:17314 المغني 10/388 اختلاف الفقهاء للطبري ص:200
(2)انظر: المبسوط 10/30، المهذب 2/231، الكافي 1/446، المغني10/386، موسوعة الإجماع1/280(1/36)
(3)كلمة السلم تذكر وتؤنث.
(1/53)
---
ص:54
واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : (أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...) (1) الحديث.
الفريق الآخر : وهم جمهور الباحثين من المعاصرين، وقلة من المتقدمين : يرى أن أصل العلاقة مع المخالفين هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ مستثنى.
وقالوا : إن على الدولة إعداد الدعاة وتأهيلهم، لبثهم في ديار المخالفين لنشر نعمة الله (الإسلام) بينهم، ودعمهم بكل ما يقتضيه العمل في حقل الدعوة، مع بقاء علاقات المسلمين بغيرهم على أساس الأمن والمسالمة، لا على أساس الحرب والقتال، إلا إذا أرادت دار الكفر بالدعاة سوءًا، لتفتنهم عن دينهم، وتصدهم عن الدعوة إليه، فعندئذ يجب قتالهم، لأن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثَمَّ فهي أشد من القتل، لأنه يجب أن تُتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تُدعى إليه.
ولا يجوز بدء الكافرين بقتال إلا في حالة اعتدائهم على الدين، أو على الدولة الإسلامية، أو في حالة نقضهم للعهود، أو لنصرة المستضعفين.
فالحرب ما هي إلا أداة لإزالة الطواغيت، التي تحول بين الناس وبين سماع الدعوة، والتي تريد الانفراد بالضمير البشري وتدّعي حق الألوهية وخصائصها، ولتقرير سلطان الله في الأرض وكلمة الله وعدله.
__________
(1)رواه البخاري عن ابن عمر، في باب الإيمان1/11-12
(1/54)
---
ص:55
فالحرب إذن هي سياج لفكرة الحق والعدل، وعدم البغي والعدوان، التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة (1).
يقول سيد قطب رحمه الله، عند قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لله) : (استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، أو يستجيب له، وأن يبقى عليه.إنه الجهاد للعقيدة لحمايتها من الحصار،وحمايتها من الفتنة) (2).(1/37)
واستدلوا على ذلك بما يلي :
من القرآن قوله تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ [البقرة : 190} .
وقوله تعالى :{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[البقرة : 256} .
فأفادت أن وسائل القهر والإكراه، ليست من طرق الدعوة إلى الدين، لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد، وهذا الأساس تكوّنه الحجة لا السيف.
وقوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال : 61).
وقالوا : إن المأثور المتواتر من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وخلفائه الذين ساروا
__________
(1)من المتقدمين القائلين بذلك:سفيان الثوري، وابن تيمية.آثار الحرب ص:84 و غيرهما، و من المعاصرين: محمد رشيد رضا، المنار10/666 و شلتوت في :الإسلام شريعة وعقيدة ص: 453 و أبوزهرة في : العلاقات الدولية ص:47 و عبد الوهاب خلاف في: السياسة الشرعية ص:77 و محمد عزة في: التفسير الحديث 8/50 و مصطفى زيد في: النسخ في القرآن ص:510 ووهبة الزحيلي،آثار الحرب ص: 84
(2)الظلال 1/268
(1/55)
---
ص:56
على هداه، أنهم لم يقاتلوا إلا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا، أو نكثًا بعد عهد.
ورد الفريق الأول بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف.
وقالوا : وقد عمت الآية جميع المشركين، وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة (1).
والحقيقة أن القول بالنسخ (2) فيه خلاف واسع بين الفقهاء والمفسرين، مع اتفاقهم على أن لا نسخ إلا بدليل (3). فالقضية إذًا خلافية، والفيصل في ذلك سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وهديه في الغزو والجهاد.
يقول محمد عزة دروزة رحمه الله (4) : (من الثابت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل إلا الأعداء المعتدين، والناكثين لعهودهم) (5).(1/38)
ويقول محمد أبو زهرة رحمه الله : (إن الإسلام ما سلَّ سيفًا على طالب حق، وما اعتدى على أحد، ولكن كان اعتداء غاشم، وكان ملوك أرهقوا رعاياهم، وضيّقوا عليهم، ومنعوهم من أن يصل إليهم نور الحق،
__________
(1)انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 10/115 و شرح فتح القدير لابن الهمام5/292
(2) النسخ: هو رفع الشارع حكما شرعيا بدليل شرعي متراخ عنه.أصول التشريع الإسلامي علي حسب الله ص: 212
(3)إرشاد الفحول ص: 193
(4) هو المجاهد البحاثة محمد عزة دروزة، ولد في نابلس سنة 1305هـ عمل في مدرسة النجاح ثم أصبح رئيسا لها،ثم أصبح مديرا للأوقاف في فلسطين، توفي في دمشق في شوال سنة 1404هـ انظر: مجلة الأمة، عدد :51 ص:61 لسنة 1405هـ
(5)التفسير الحديث 12/81 وانظر: آثار الحرب ص:123 هداية الحيارى ص:14 العلاقات الدولية محمد أبوزهرة ص:89
(1/56)
---
ص:57
وقتلوا مَن آمنوا بالحق الذي أدركوا، والدين الذي ارتضوا، فكان قانون التعاون أن يرد كيد الظلم، وأن يرفع عن تلك الشعوب المنكوبة بحكم الطغاة نير العبودية والاسترقاق، وقد كانت -أي الحرب- لذلك، وأن السكوت في هذه الحال ليس من التعاون، بل والحرب العادلة هي التعاون، لأنها منع للفتنة في الدين) (1).
قلت : هذا القول لا يخرج عن دائرة الصواب.(1/39)
فالناظر في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم والمتمعن فيها، تتأكد في قرارة نفسه هذه المقولة (2). فمشركو قريش كانوا أشد الناس عداوة لمحمد صلى الله عليه و سلم، فلم يتركوا وسيلة ولا سبيلاً يُضعفه أو يضعف من شأن دعوته بل يقضي عليه إلا سلكوه، بدءا بتكذيبه في مكة واضطهاده مع أتباعه، وانتهاءً بغزوة الأحزاب، تلك الغزوة التي حشدت لها قريش كل ما تملك، وجاءت بقَضِّها وقَضِيضِها، يؤازرها في ذلك من يواليها من القبائل العربية المشركة، ويتفق معها في العقيدة، بتحريض من أعداء الله يهود بني قريظة لوأد ذلك الحق الذي قلب الموازين، وغيّر نظام المجتمع السائد، وبعد أن انجلى الأحزاب عن المدينة، قال النبي صلى الله عليه و سلم : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (3)..
لماذا؟
__________
(1)تنظيم الإسلام للمجتمع ص:47وانظر: كتاب الجهاد لرؤوف شلبي ص:222 ومجلة" هذه سبيلي" العدد الأول ص:74
(2)انظر: السيرة النبوية محمد أبوزهرة، وفقه السيرة لمحمد الغزالي.
(3)رواه البخاري في كتاب المغازي،5/48 عن سليمان بن صرد رضي الله عنه
(1/57)
---
ص:58
لرد الاعتداء وظلم الظالمين، الذين ما برحوا يثيرون مخاوف المسلمين، ويفتنونهم عن دينهم بشتى صنوف التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويستولون على أموالهم!
وأما القبائل العربية الأخرى، فكانت منقسمة في ولائها بين فارس والروم، وقد بلغ تهديد تلك القبائل وتخويفهم للمسلمين مبلغه بتحريض من متبوعيهم.
اقرأ ما قاله عمر رضي الله عنه : (...وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر، وإذا غاب كنتُ آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكًا من ملوك غسان، ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه...) (1).(1/40)
وأما الفرس والروم، فيكفي منهما أنهما كانا يؤلبان القبائل التابعة لهما للقضاء على أي قوة، أو عقيدة تجمع الناس من جديد، وتنافسهم في المنطقة الموالية لهما للانفراد بالتسلط والسيطرة، ولم يكتفوا بذلك، بل إن (هرقل) أخذ يضطهد من أسلم من عرب الشام، ويقتلهم، وكان (كسرى) (قد أرسل من يأتي برأس الرسول الأمين) (2)، حين أرسل إليه كتابه يدعوه فيه إلى الإسلام، ورَفْعِ الحجب عن عقول وضمائر رعيته، بالإضافة إلى تهديدهما الفعلي للدولة الإسلامية.
__________
(1)رواه البخاري في كتاب التفسير6/69
(2)انظر: أبوزهرة ، العلاقات الدولية ص: 92
(1/58)
---
ص:59
وتكفي هذه الجرائم لتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من بعده للخلاص من هاتين القوتين الباغيتين، اللتين وقفتا من الدعوة وأصحابها موقف الجبار العنيد، لما أصبح للمسلمين من قوة ضاربة قادرة على دك عروش القياصرة والأكاسرة.
فالحرب في الإسلام ليست هجومية لدك أبواب الكافرين، المسالمين منهم والمعاندين، والله سبحانه ما أراد إفناء الكفار ولا خلقهم ليُقتلوا كما قال ابن الصلاح.. وليست هي دفاعية تنتظر من يغزو ديار المسلمين، ثم تهب لتقاتلهم بعد أن يصبح زمام المعركة في يد المعتدين، وإنما هي دفاعية عن الإسلام ودعوته وأهله، تحريرية هجومية تهجم على مَن يقف في وجه الدعوة، بحسب ما يقتضيه الموقف، بلا بغي ولا عدوان.
يقول صاحب كتاب : (علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى) : (وهذه الصلة القائمة -بين المسلمين والمخالفين- على العقيدة لتتخذ شكل منهج متكامل العناصر، ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحة الدعوة وجودًا وعدمًا، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها، أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه الدعوة به مختلف الاحتمالات والظروف) (1).(1/41)
وكنت أتمنى على مَن كتب من المعاصرين عن دوافع الجهاد، واعتبره هجوميًا، وشنّع على المخالفين لمذهبه تشنيعًا قاسيًا عنيفًا -أخرجه من دائرة الباحث المنصف الملتزم بأخلاقيات وآداب البحث العلمي- واعترض
__________
(1)د. أحمد محمود الأحمد ص: 33 في علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى
(1/59)
---
ص:60
عليهم بأنهم لم يعولوا على تفاسير السلف الصالح للآيات المتعلقة بالقتال وأحكامه، التي احتجوا بها، تمنيت على هؤلاء المعترضين أن لو اطلعوا على تفسير الطبري، الذي هو قِبلة المفسرين من بعده وشيخهم، وهم عيال عليه في هذا الفن، وتفسيره تفسير بالمأثور، وهو أسبق من تفسير ابن كثير والشوكاني وغيرهم، من الذين اعتمد عليهم القائلون بأن الجهاد في الإسلام للهجوم، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى(1).
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله
جرت عادة فقهائنا الأقدمين على تقسيم الدنيا إلى دارين رئيسين هما : دار الإسلام ودار الكفر. واشتقوا وصف كل دار من عقيدة أهلها، وطبيعة النظم السياسية الحاكمة، والقواعد القانونية المسيطرة فيها.
وتأسيسًا على هذا الاعتبار سُميت بلاد غير المسلمين بدار الكفر.
فماذا قال فقهاؤنا في تعريفها، وما هي أقسامها؟
قالوا : (هي الدار التي تكون فيها الغلبة لغير المسلمين، أو التي تظهر أحكام الكفر، ولا يمكن إظهار أحكام الإسلام فيها) (2).
__________
(1)انظر: كتاب " أهمية الجهاد في نشر الدعوة" للدكتور علي بن نفيع العلياني ص: 221، 374، 389 حيث شن هجومًا قاسيا على القائلين بأن الجهاد دفاعي، ووصفهم بأوصاف شنيعة.
(2)انظر: المبسوط10/144 شرح روض الطالب 4/204 المعتمد في أصول الفقه ص:276
(1/60)
---
ص:61
ودار الكفر تنقسم إلى دارين : دار حرب، ودار عهد.
أولاً : دار الحرب :
(هي الدار التي يكون بينها وبين ديار المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، ولا يربطنا معها عهد ولا صلح).(1/42)
فهذه الدار ليست في حالة سلم مع المسلمين بسبب موقفها العدائي الصارخ، كاعتداء عسكري فعلي، أو صد عن دين الله، أو عدوان على الدعاة، أو إعانة من يحاربنا ويسلب أرضنا، وما شابه ذلك.
ومن هنا أوجب الله على المؤمنين اتخاذ الحيطة والحذر للذَود عن حِياض الإسلام وأهله في أي بقعة من بقاعه، التي تتحدد بوجوده فيها، فنظرة الشعوب غير المسلمة إلى هذا الدين وأتباعه، نظرة عدائية ماكرة حاقدة. ودار الحرب دار إباحة بإجماع الفقهاء (1).
ثانيًا : دار العهد :
الفرع الأول : تعريف المعاهدة :
المعاهدة هي موادعة المسلمين وأهل الحرب مدة معلومة على ترك القتال -بعوض وبغير عوض- وعلى شروط يلتزمونها(2).
وأجمع الفقهاء على أن أهل الهدنة هم الذين صالحوا المسلمين على
__________
(1) انظر: مادة جهاد في موسوعة الإجماع
(2)تفسير المنار 5/185 المغني والشرح 10/517 إعانة الطالبين 4/207
(1/61)
---
ص:62
أن يكونوا في دارهم -سواء أكان الصلح على مال أو بدونه- لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة (1).
وعلى هذا التعريف، فلا تعتبر دار العهد من دار الإسلام إذا لم يستول المسلمون عليها ويتمكنوا من إقامة شعائر دينهم فيها باتفاق (2)، سواء أكان الاستيلاء قد تمّ عنوة وقهرًا أم صلحًا، وسواء أكان الصلح على أن تبقى الأرضون لنا أم لهم، مقابل خراج (3) أو جزية (4)، وتبقى من دار الكفر لعدم التزام حكم الإسلام فيها، ولعدم ظهوره.
وإذا ما تحققت شروط الصلح وتوفرت أصوله العامة، فحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وعلى هذا إجماع العلماء(5).(1/43)
ومن شرط الوفاء بالعهد، محافظة العدو -المعاهد لنا- عليه بحذافيره من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه (6). قال تعالى :{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ [التوبة : 7}
وهنا يجب التنبه إلى نقطة هامة وبالغة الخطورة، قد يغفل
__________
(1)أحكام أهل الذمة 2/476 مواهب الجليل2/337
(2)انظر: فتح القدير مع العناية5/462 السير الكبير5/1893والمغني 9/289
(3) الخراج:ما وضع على رقاب الأرض المفتوحة من أجرة تؤدى عنها ممن عومل به من مسلم أو معاهد.
(4)الجزية: هي المال المأخوذ من بعض الكفار لسكنانا إياهم في ديارنا و كفنا عن قتالهم.
(5)انظر: موسوعة الإجماع 1/418 الخرشي 3/151 وزادالمحتاج 4/363
(6) تفسير المنار10/154
(1/62)
---
ص:63
عنها بعض الباحثين هي : فمع وجوب مراعاة العهود والاستقامة عليها، فإنه يلزم الإمام الحيطة والحذر والترقب الدائم لحركات العدو المعاهد، ورصد سلوكياته، وعدم أمن جانبه وترك الثغور رهوًا. إن الحقد لا ينمحي بمجرد حبر على ورق، وهم لا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة، فيحرم علينا أن نترك الإعداد لمجرد العهد، فيطمع فينا كل وضيع وحقير، وخاصة أننا مستهدفون بالقتل والرد عن الدين، قال تعالى :{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ[البقرة : 217}.
الفرع الثاني : موجبات عقد الموادعة والأمان :
قال المفكر السياسي الإسلامي الماوردي : (وعقد الهدنة موجب لثلاثة أمور)(1) :
الأول : الموادعة في الظاهر : وهو الكف عن القتال، وترك التعرض للنفوس والأموال.. (وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، أو بموادعة، حرم تعرضه لشيء من دمٍ ومالٍ وفرجٍ منهم، إذ المسلمون على شروطهم) (2).
والمعروف أن الدول اليوم لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا على أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي
__________(1/44)
(1) الحاوي الكبير، انظر: آثار الحرب ص: 688
(2)جزء من حديث رواه الترمذي،وابن حبان و صححاه بكثرة طرقه، انظر: سبل السلام 3/883
(1/63)
---
ص:64
بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك، وهذا العرف مقارن لحصول الشيء بل سابق عليه.
(وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك، ما لم يتضمن شرطًا فاسدًا فيه معصية لله) (58)، وعليه يحرم كذلك قتل نفوسهم، أو إزهاق أرواحهم أو خطفهم والتنكيل بهم، عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذي هو (قاعدة العبادة لله وتقواه) (59).
الثاني(60) : (ترك الخيانة في الباطن، وهو ألا يُسِرُّوا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه، وهذا يستوي الفريقان في التزامه).
الثالث : المجاملة في الأقوال والأفعال، فعليهم أن يكفوا عن القبيح من القول أو الفعل، ويبذلوا للمسلمين (أحسن) القول والفعل، ولهم علينا الأول (القول) دون الثاني (الفعل) أ.هـ.
قلت : مجاملة المعاهدين لنا بالأفعال لا يوجد في الشرع ما يمنعه، بل قد يكون دافعًا لتقبل الإسلام لدى الكثيرين واعتناقه، وهذا هو غاية الجهاد الأولى في الإسلام(61).
__________
(1)الأم1 /185
(2)العلاقات الدولية ، كامل الدقس ص: 91
(3)مما توجبه الموادعة وهو تكملة لكلام الماوردي
(4)انظر: مبحث العادات والحياة اليومية
(1/64)
---
الفصل الثاني : من أحكام الأقليات المسلمة
((* المبحث الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
* المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها
* المبحث الثالث : من أحكام العبادات
* المبحث الرابع : المعاملات
* المبحث الخامس : النكاح
* المبحث السادس : العادات والحياة اليومية))
نقرر هنا قاعدة عظيمة من أهم قواعد الشرع وهي :(1/45)
أن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين يتبع المسلم أينما حل وأقام، وأن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، فما وجب في ديار المسلمين وجب في ديار غيرهم، وما حرم فهو كذلك، وكذا ما أبيح طالما أن المرء يعتنق مبادئ الدين.
وقدوقع اختيارنا في هذا الفصل على ستة مباحث كانت على النحوالتالي:
المبحث الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
لما كان الأصل في دار الإسلام، أن المسلم فيها يَقْدِر أن يمارس عبوديته لخالقه، ويُعان عليها، وتُوفَّر له وسائلها، ويُذكّر إن قصر فيها، مع شعوره بالأمن والطمأنينة، شرعت الهجرة إليها، بل أُمر بها.
(1/65)
---
والهجرة في الأصل : (الترك، فعلاً كان أو قولاً) (1). وتأتي بمعنى : (الخروج من أرض إلى أرض) (2) حسًا.
وفي الاصطلاح : هي هجر المقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى :{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدّثر : 5} (3).
أو هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام (4).
وأقول بداية:الأصل أن المسلم لا يقيم إلا في دار المسلمين، وإذا أقام في غيرها فلعذر مع بقاء نية الخروج منها متى رفع السبب، وتهيأت الظروف (لأن نية الاستمرار في دار الكفر لا تحل بلا مبرر شرعي) (5).
حكم الهجرة :
حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى إمكانية المسلم ومقدرته على إقامة شعائر دينه بأمان تام، وبعدم خشية الفتنة في دينه ودين أهله وعياله، فإن كان لا يقدر على إظهار دينه ويخاف الفتنة والاضطهاد فيه أو في دين أسرته، ففي هذه الحالة تجب
__________
(1) عون الباري6/166
(2)المعجم الوسيط2/973
(3)مجموع فتاوى ابن تيمية28/204
(4) قاله ابن العربي: فتح العلي المالك 1/378
(5)من مقابلة شخصية مع الدكتور وهبة الزحيلي
(1/66)
---
ص:67
عليه الهجرة متى استطاع عليها، بالإجماع (1).. واستدل لذلك بما يلي :(1/46)
أولاً : قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً(97)إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء : 97-99}.
ففي هذه الآية أوجب الله على المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين، وليسوا متمكنين من إقامة الدين، أوجب عليهم الهجرة بشرط المقدرة والطاقة. وقالوا : إن الآية عامة في كل مسلم، فقوله تعالى :{ظَالِمِي أَنْفُسِهِم} أي بترك الهجرة وبارتكاب الحرام بالإقامة بين الكافرين، من غير أن يتمكن من أداء واجباته الدينية، إن كان قادرًا بأي وجه وبأي حيلة، لأنه غير معذور.
وقوله تعالى : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِيْنَ} وهذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وهم مَن كان استضعافه على حقيقة من زَمَنَةِ الرجال، وضَعَفَة النساء والولدان، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين بأي سبب، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق.
__________
(1)انظر: أحكام القرآن للجصاص2/305 عمدة القاري 14/80 المقدمات الممهدات 2/153المعيار المعرب 2/121 تفسير ابن كثير1/542 المغني والشرح 10/514سبل السلام 4/1335 الإسلام خارج أرضه محمد الغزالي ص:155 موسوعة الإجماع 2/1168
(1/67)
---
ص:68
يقول القرطبي : (يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة) (1).
قلت : ومفهوم الزاد والراحلة اليوم، توفر السيولة المالية لديه، والوسيلة التي تنقله.
يقول ابن عباس : (كنتُ أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله، هي من النساء وأنا من الولدان) (2).(1/47)
فإن حمل العاجز على نفسه وتكلّف الخروج أُجر، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لهؤلاء المستضعفين في صلاته (3).
وقال العلماء : (إن هذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة في حق من أسلم في دار الكفر وفتن في دينه، وقدر على الخروج منها) (4).
ثانيًا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى(5) نارهما) (6).
__________
(1)انظر: شذرات الذهب 5/335
(2)انظر: صحيح البخاري5/183باب تفسير سورة النساء والمحرر الوجيز 4/193تفسير القرطبي 5/346وابن كثير1/542
(3)انظر: صحيح البخاري 5/183 باب تفسير سورة النساء
(4) انظر: فتح العلي المالك 1/317 والأم 4/161 والمجموع 19/262و فتح الباري 6/530 والمغني والشرح 10/514 و تحفة الأحوذي5/125 سبيل النجاة والإنفكاك ص:72
(5)الترائي: تفاعل من الرؤية يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا، وهو كناية عن التباعد بين المسلم و المشرك و أنه لا ينبغي للمسلم أن يساكن المشركين و يقيم بينهم .النهاية في غريب الحديث مادة:رأى" 2/177 و معالم السنن 2/272
(6)رواه الثلاثة و إسناده صحيح.
(1/68)
---
ص:69
وحديث معاوية وغيره مرفوعًا، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (1).
فحملَ العلماءُ الهجرة في هذين الحديثين على مَن خاف الفتنة واضطهد، وقالوا : (أُمر المسلمون بالانتقال إلى حضرة النبي صلى الله عليه و سلم، ليكونوا معه فيتعاونوا، ويتظاهروا إن حَزَبَهم أمر، وينضموا إلى المؤمنين في القيام بنُصرة الرسول، ويتعلموا منه أحكام الدين ويتفقّهوا فيها، ويحفظوا عنه، وينقلوه) (2).
وكانت فرضًا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم على الأعيان، واستمرت بعده لمن خاف (3) الاضطهاد في حريته الدينية.(1/48)
ومما هو جدير بالذكر أن الهجرة ليست عملية انسحابية هروبية، ولكنها انتقالية من دار الباطل الجبار العنيد إلى دار الحق للالتزام به علانية، وتكثير سواد أهله، والاستعداد معهم للكر على تلك الدار التي حالت دون إسماع الناس دعوة الإسلام.
فالهجرة بالمفهوم القرآني هي تحيز إلى فئة، وهي جماعة المسلمين.
ومن شروط وجوب الهجرة، توفر حرية الانتقال، والدار التي يفر إليها المسلم بدينه.. وبإلقاء نظرة على واقع دار الإسلام المعاصرة، نجد أن
__________
(1)رواه أبوداود، عون المعبود 7/156وقال الألباني: حديث صحيح" إرواء الغليل 5/33
(2)انظر: المبسوط 10/6 المقدمات الممهدات 2/152معالم السنن 2/234
(3) تفسير القرطبي 5/350 فتح العلي المالك 1/387
(1/69)
---
ص:70
هذه الدار غير مؤمنة وغير مهيئة تهيئة كاملة تمكّنها من استقبال عشرات الملايين من المسلمين المضطهدين في العالم. هذا إذا سمحت لهم السلطات بدخولها أصلاً، أو أذنت لهم سلطات بلادهم بالرحيل عنها (1).
ويمكن القول : إن المسلمين الذين يُفتنون في ديارهم من أجل عقيدتهم، وهم غير قادرين على الهجرة، هم معافون إن شاء الله من الإثم، وسوف يُسأل عنهم دينًا مَن تسبب في حدوث هذه الشقاوة والتعاسة لهم، مع قدرته على رفع هذا الحرج عنهم.
ولكن يجب التذكير أن أي جماعة مسلمة في أي بلد من البلاد غير الإسلامية تقدر أن تحمي دينها ونفسها ومالها، فإنه يحرم الخروج منه، ويجب البقاء فيه.
يقول صاحب نهاية المحتاج : (من قدر على الامتناع والاعتزال في دار الكفر، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة، كان مقامه واجبًا، لأن محله دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، ثم إن قدر على قتالهم ودعائهم للإسلام لزمه وإلا فلا) (2).
وفي الجملة، إذا كان المسلمون في ديار المشركين ضعفاء لا يرجون ببقائهم ظهور الإسلام، ويُمنعون من إظهار شعائرهم الدينية والقيام
__________(1/49)
(1)مازالت الصين و بورما و غيرهما يمنعون المسلمين من الخروج من بلادهم خوفا من أن يتصلوا بإخوانهم في العقيدة و مازالت مساجدهم و كتبهم الإسلامية تتعرض للحرق والهدم، وقادتهم للاغتيالات، و فتياتهم للاغتصاب.
(2)نهاية المحتاج 8/78 وانظر: تحفة المحتاج 9/268مغني المحتاج 4/239فتح الباري 7/229
(1/70)
---
ص:71
بواجباتها، وجبت عليهم الهجرة متى توفرت شروطها وإلا فلا، مع بقاء نية الهجرة قائمة في القلب، والعمل على قدر وسع النفس لتحقيقها، قال تعالى :{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت : 56}.
وأما من وجبت عليه وهو قادر عليها ولم يهاجر، فإنه يرتكب إثمًا قد يؤدي إلى الردة والكفر، لأن الإقامة على هذه الحال، وترك الدين مع التزام إجابتهم إلى الكفر المقام عليه وارتكاب المحرمات، وترك الفرائض والواجبات، وفعل المحظورات والمنكرات وهو قادر على هجرانها، فظاهر حاله المصير إلى الكفر الحقيقي، والانسلاخ من الدين الحنفي، والانخراط في سلك الملحدين.. فالواجب وقتئذ الفرار من تلك الدار التي غلب عليها أهل الشرك والخسران، إلى دار الأمن والأمان (1).
وأما إذا كان المسلمون يتمكنون من إظهار دينهم بحرية، ولا يخشون فتنة فيه على أنفسهم، أو على أسرهم، فمذهب الجمهور إلى أن هذه الهجرة غير واجبة.
والجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر، وإن استطاع إظهار دينه، حتى لا يكثر سوادهم (2)، ويميل إليهم في الرسوم والخُلُق، والعادة، والهيئة، لتأثير الجوار والصحبة.
__________
(1)المغني 8/562
(2)انظر: المبسوط 10/74. المعيار المعرب 2/132.المجموع19/262.المغني والشرح 10/515.فتح الباري 6/530-570
(1/71)
---
ص:72(1/50)
ويتأكد هذا الاستحباب في زماننا، لشيوع الفواحش في دار الكفر، وضعف السلطة الأبوية.. صحيح أن الزمان قد فسد، وأن البلاد كلها يُجاهَر فيها بالمعاصي، ولكن ينبغي على المسلم في مثل هذه الحالة، أن يختار أقل البلاد إثمًا إن استطاع.
قال البغوي : (يجب على من كان ببلد يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، الهجرة إلى حيث تُهيأ له العبادة، فإن استوت جميع البلاد في إظهار ذلك -كما في زماننا- فلا وجوب بلا خلاف) (81).
ويقول ابن تيمية : (أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلمًا وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا وتارة منافقًا، وتارة برًا تقيًا وتارة فاجرًا شقيًا، وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة) (82).
وما يتعرض له المسلمون اليوم في بلدان العالم غير الإسلامي من عدم احترام مشاعرهم الدينية، إلى محاولات الدمج في المجتمعات التي يقيمون فيها، سواء من قِبَل سلطات البلاد أو رغبة من أبناء المسلمين في عملية الاندماج، والتي يترتب عليها رفض للمبادئ التربوية والعادات الإسلامية، وقطع للصلة بينهم وبين عقيدتهم، وتراثهم الديني،
__________
(1)مغني المحتاج 1/238
(2)مجموع الفتاوى، ابن تيمية 18/284
(1/72)
---
ص:73(1/51)
(وفرنجة) فكرهم وسلوكهم، والتخلق بأخلاق القوم هناك (1)، إلى التأثر بمناهج تلك البلاد التربوية، والتعليمية في التكوين الفكري والنفسي والاجتماعي، والتي تناقض أخلاقياتنا، وتعاليم ديننا وحقائقه، بالإضافة إلى البيئة، وعلاقة أبناء المسلمين بغيرهم وأثرها عليهم في تكوين شخصياتهم، وطريقة تفكيرهم، مع فقدان جهاز الرقابة في الأسرة، وضعف المؤسسات التعليمية المسلمة في تقديم الخدمات الاجتماعية، وعدم وجودها بالقدر الكافي وبالفعالية المطلوبة، في مقابل ما تقدمه النوادي ووسائل الإعلام من الشرور والفساد والرذيلة (2)، ما يكفي لهدم ما لدى المسلم من قيم إسلامية ومُثُل عليا.. يضاف إلى ذلك ما تضطلع به المدارس والمؤسسات الكنسية النشطة وغيرها، والتي تعمل ليل نهار، لإخراج الناشئة المسلمة من الإسلام إلى النصرانية وغيرها من الأديان، أو الاكتفاء بدمجها وتذويبها في المجتمعات هناك.
كل ذلك يفرض علينا أن نقول : (إن من لم يستطع مقاومة تلك المحاولات والمؤثرات ومجانبتها، وطأطأ لها رأسه -من أبناء المسلمين- وعاشها بما فيها، فإن قول من قال بحرمة الإقامة في تلك البلاد -والحال هكذا- صائب، وإن توفرت له الحرية الدينية، التي تسمح بإظهار شعائر دينه إن أراد، فإن ما كان ذريعة وسببًا إلى إسقاط عبادة الله بمفهومها
__________
(1)انظر: هجرة العلماء ص:169-177
(2)انظر: مجلة "الرائد" العددين 119-120 لتتعرف على مشاكل الأقليات الاجتماعية
(1/73)
---
ص:74(1/52)
الرحب وإلى موالاة المشركين فهو حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام) (1). إلا إن كان في إقامته مصلحة معتبرة للمسلمين، (وذلك لأن ما يترتب على بقائه من الخير، سيتضاعف على ما يمكن أن يجعل له من الشر والضرر، على أن يكون قادرًا على إظهار دعوته، وشعائر دينه وهكذا الحكم في إقامته من أجل مصلحة تهم المسلمين، كتعلم نوع من العلوم، أو صنعة من الصنائع أو نحوهما مما تحتاجه الأمة الإسلامية ولا يوجد في ديارهم، أو ليكون سفيرًا لدولة الإسلام عندهم) (2).
المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها
لا يخفى على كل مطلع ومهتم بأخبار المسلمين في البلدان غير المسلمة، ما يتعرضون له من فتن ومحن، وصد عن سبيل الله، بالقتل جهارًا وغيلة، وبالسلب الصارخ لأموالهم وممتلكاتهم، وبالاعتداء على مساجدهم وكتبهم الدينية، وعلى أنفسهم وأعراضهم، تحت شعارات مكذوبة لا يحتاج الأمر إلى دحضها وردها، ولكنه الحقد الدفين في أغوار النفوس، والصراع الدائم بين فكرتي الحق والباطل.
__________
(1)انظر: الخرشي 1/147
(2)الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي ص:78-79
(1/74)
---
ص:75
وبما أن الكفر ملة واحدة من حيث الموقف من الإسلام، والنظرة إليه، فهي لا تتورع عن تقريع المسلمين، وطردهم، وسفك دمائهم، وتخويفهم، فقد رمت الإسلام والمسلمين عن قوس واحدة، حكامًا وشعوبًا، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.
وتعاني بعض الأقليات المسلمة في العالم الكثير من صور الاضطهاد والقمع، الذي يصل إلى حد ذبحهم، وانتهاك أعراضهم، وحرق منازلهم ومتاجرهم، وهدم مساجدهم يومًا بعد يوم، ومحاصرة لغتهم وثقافتهم، لاستبدالهما بلغة وثقافة المخالفين لهم، وخفض نسبتهم في تولي الوظائف الحكومية، بل إغلاق المناصب العليا أمامهم تمامًا.. كل ذلك على مرأى من حكومات الدول التي يعيشون في ظلها.(1/53)
وقد أدى ذلك إلى أن تتفشى بينهم الأمية والخرافات والجهل والفقر، مع عدم العناية بمناطقهم ثقافيًا، واجتماعيًا، وصحيًا، ويمكن أن نذكر مثالاً على ذلك : مسلمي الهند والفلبين.
فإذا كان الحال كهذا، ما الذي يجب على المسلمين في تلك الديار؟ هل يصبرون أم يقاتلون من يقاتلهم فقط؟ أم يقاتلون مخالفيهم كافة؟ أم ماذا يفعلون؟
لقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم على المسلم التعرض لدماء الكافرين وأموالهم إن كان بينه وبينهم عهد وأمان، لأنه يقتضي وجوب أمان المسلمين منهم وحمايتهم، وأمانهم من المسلمين.
(1/75)
---
ص:76
ولكنهم أجازوا للمسلم التعرض لأموالهم وأنفسهم، في حال ما إذا غدر بهم ملكهم فأخذ مالهم وديارهم وحبسهم بغير وجه حق، أو فتنهم في دينهم ليرتدوا عنه فعذبهم وقتل منهم، أو فعل هذا غيره بعلمه، ولم يمنعه ورضي به هو وباقي رعيته.. ففي هذه الحالات ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين المواطنين، ويكون أهل الكفر هم أول من نقضه، وهذا الحل عام في مال جميعهم، ودم جميعهم.
أما إذا نقض العهد الأتباع ولم يعلم الرئيس بذلك، ففي انتقاض العهد بحق جميعهم وجهان. وكذا إن اغتال حاكمهم بعض أفراد المسلمين، أو فعل ذلك بعض رعيته بموافقته فينتقض العهد بذلك عند الجمهور خلافًا للحنفية (1).
قال الماوردي : إن نقض الأتباع فرضي إمامهم أو باقيهم، انتقض عهدهم. وإن نقضه إمامهم انتقض أيضًا، لأنه لم يبق في حق المتبوع فلا يبقى في حق التابع. فإن نقض الأتباع ولم يعلم الرئيس والأشراف بذلك ففي انتقاض العهد في حق الرعية وجهان :
وجه القول بعدم النقض أنه لا اعتبار بعقدهم، فلذلك لا اعتبار بنقضهم، مع اتفاق الكل على أن العهد ينتقض في حق الطائفة المعتدية إن لم ينتقض في حق الجميع.
__________
(1) انظر: الأم 4/268. المبسوط 10/98. وانظر: موجبات نقض الأمان من هذا الفصل
(1/76)
---
ص:77(1/54)
وعليه فإن أمام المسلمين الذين يُعتدى عليهم ثلاثة مسالك مختلفة بحسب مقدرتهم وإمكاناتهم وتقديرهم للظروف المعاصرة لهم.
المسلك الأول : إما أن يصبروا على الأذى والاضطهاد لاستضعافهم، ويتحملوا المشاق مع التمسك بعقيدتهم، وهم معذورن في ذلك لأنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولو عرفوا ما استطاعوا لأنهم يفتقدون الزاد والراحلة.
وقد يفضلون الصبر على غيره لحاجة في نفوس أئمتهم، كرجاء تحقيق مصلحة كبرى ودرء مفسدة عظمى، فولاة الأمر هناك من علماء ودعاة أعلم بأحوالهم، وأكثر معرفة وإلمامًا بطبيعة المجتمع، ومصلحة الدعوة، ووضع السلطة القائمة، فقد يكون الصبر أجدى وأنجع علاجًا لحالات دون أخرى، وقد قيل قديمًا : (أهل مكة أدرى بشعابها).
ثم إن هناك أحكامًا شرعية تختلف باختلاف حال الإنسان صحة ومرضًا، قوة وضعفًا، فما يصلح في بلد قد لا يصلح في آخر، فقد يفضلون الالتزام بالآيات-في تلك المرحلة-الآمرة بالصبر والمغفرة والإعراض، بالرغم من أن جماهير الأمة يرون بأنها قد نسختها (1) آية السيف.
المسلك الثاني : وإما أن يكتفوا بصد العدوان، وقتل من يشهر عليهم سلاحًا يبتغي إماتتهم والسطو على أموالهم وأعراضهم، والوقوف في موقع المدافع عن دينه ونفسه وما يتعلق بها، ولا يتجاوزون في ذلك
__________
(1) النسخ:"رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي آخر متأخر" إرشاد الفحول ص: 184
(1/77)
---
ص:78
إلى من لم يشارك في الإيذاء فعلاً، بالرغم من ظهور ما يؤكد رضاه على ذلك، لظروف يفقهها ويقدرها مسلمو ذلك الإقليم.
وهم في مسلكهم هذا يلتزمون قوله تعالى :{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة :194} كما هو موقف الكثير من الأقليات المسلمة في العالم، وهو موقف شرعي يلتقي مع روح التدرج في الأحكام، ونرى أنه لا حرج في العمل به.(1/55)
المسلك الأخير : وإما أن يتميز المسلمون عن مخالفيهم، ويعلنوها حربًا عامة، لأن العهد قد انتقض في حق الجميع لتحقق ما يوجب ذلك، ويقاتلوا الحربيين كافة كما يقاتلونهم كافة.
وهم في ذلك ملتزمون قوله تعالى :{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [التوبة : 36}
ويصبح قتال الحربيين واجبًا على المسلمين ثَمَّ، لتحقق الاستطاعة، وتبقى دار المعتدين بالنسبة لهؤلاء المسلمين دار حرب مباحة إلى حين إنشاء صلح جديد.
قال تعالى :{فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً [النساء : 91}.
ويصبح ما تحت يد المسلمين من دار الإسلام، إن أظهروا فيه شعائر الدين وأقاموا أحكامه، بإجماع الفقهاء.
(1/78)
---
ص:79
المبحث الثالث : من أحكام العبادات
((- المطلب الأول : الطهارة
- المطلب الثاني : الصلاة
- المطلب الثالث : الصيام))
المطلب الأول : الطهارة
يحتوي هذا المطلب على ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : هل الكافر طاهر الذات أم نجس الذات؟
الفرع الأول : هل الكافر نجس؟
الأصل في ذلك قوله تعالى :{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة:28}.
فما المراد بالشرك؟ وما المراد بالنجاسة هنا؟
اختلف الفقهاء في المشرك على فريقين :
الأول : وهم الجمهور، قالوا : المراد بالمشرك في الآية هو : كل عابد وثن أو صنم. قال الإمام مالك : ولكن يُقاس عليه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
الثاني : وهو مذهب الشافعي، أن الآية عامة في جميع الكفار، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد الله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونصره ابن حزم الظاهري(1).
__________
(1)انظر:المحررالوجيز 6/452،وابن كثير 2/346، والمحلى 1/183 و روح المعاني10/76
(1/79)
---
ص:80(1/56)
وأما النجاسة، فقد ذهبت جماهير العلماء إلى أن المقصود بقوله تعالى : (نجس)، إنما هي النجاسة المعنوية، أي نجس في الاعتقاد، والدين، أو أنهم أشرار خبثاء، أو هي من باب التشبيه البليغ(1).
وذهب الإمام مالك(2)، والرازي(3)، والألوسي(4)، وأهل الظاهر(5)، إلى أن الكافر (كل كافر) نجس العين.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح، لما يلي :
أولاً : إباحة الله نكاح الكتابيات للمسلمين، ومعلوم أن ملامستهن وعرقهن لا يسلم منه أزواجهن، وكذا أثاث المنزل ولباس الزوج وغيره. ومع ذلك لم يوجب الشرع من غسلٍ إلا ما أوجبه من غسل من كانت تحته مسلمة.
ثانيًا : إباحة طعام أهل الكفر قاطبة إلا الذبائح، فإنها مقتصرة على أهل الكتاب، ومعلوم أن الطعام لا يسلم من مسهم ومعالجتهم إياه، فلو كانت أعيانهم نجسة حسية للزم منه أن ينجس كل ما يلمسونه، ولاستحال طعامهم إلى خبيث مستقذر فيحرم.
__________
(1)انظر: الهداية وشروحها1/109و حاشية الدسوقي1/53 والمجموع1/264 وتفسير ابن كثير 2/346 وتفسير الواضح 10/42
(2)انظر: المدونة 1/14 ونيل الأوطار1/25
(3)التفسير الكبير 16/25
(4)روح المعاني 10/76
(5)المحلى 1/183
(1/80)
---
ص:81
وقد قال تعالى :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ[الأعراف : 157}.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم أكل طعامهم، واستعمل أوانيهم، وقبل هداياهم(1) فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه استعملوا مزادة امرأة مشركة(2).
فالحديث يدل على طهارة المشرك، لأن المرأة قد باشرت المزادة، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه توضأ من بيت نصرانية، وقيل من جرة، بدل بيت(3). وكذلك فإن حذيفة استسقى فسقاه مجوسي(4).(1/57)
ثالثًا : لو صحت نجاستهم لاستفاض بين الصحابة نقل ذلك. والعادة في مثل ذلك تقضي بالاستفاضة، فإذا علمنا هذا، قلت : لم يصح -مما وقفت عليه- عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن صحابته خبر واحد من القول بنجاسة المشركين، على المعنى الذي قال به الإمام مالك ومن وافقه.
نخلص من هذا كله إلى أن الكافر طاهر العين والبدن (إن لم تكن عليه نجاسة حسية)، نجس في الاعتقاد والدين، وقد ورد في ذلك إجماع(5).
__________
(1)انظر: صحيح البخاري،كتاب الهبة3/141
(2) متفق عليه، سبل السلام 1/46
(3)صحيح البخاري،كتاب الوضوء1/56والمجموع1/262
(4)صحيح البخاري،كتاب الأطعمة 6/207
(5)انظر: موسوعة الإجماع 1/149
(1/81)
---
ص:82
ويترتب على ذلك :
أولاً : طهارة سؤره، وهو الماء الذي يبقيه الشارب في الإناء، وجمعها (أسآر).
ثانيًا : طهارة ثيابه وما ينسجه.
الفرع الثاني : هل على الكافر إذا أسلم من غسل؟
الأصل في ذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم لثمامة بن أثال عندما أسلم أن يغتسل(1).
وكذلك ما رواه قيس بن عاصم عن أبيه : أنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتسل بماء وسدر(2).
الفرع الثالث : هل يجب الختان على من أسلم؟
الختان : هو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة عند الرجال.
والحكمة في ذلك لئلا يجتمع فيها الوسخ، وليتمكّن من الاستنزاه من البول(3).
__________
(1)متفق عليه.سبل السلام 1/139
(2)صحيح سنن النسائي 1/40
(3)جاء في ص:44 من كتاب:إنجاب البنين" ما نصه: إن بقاء الرجل من غير ختان مع عدم العناية بنظافة القلفة قد يتسبب في إصابة رحم زوجته بالسرطان". طبعة شركة مكدونلد، الشرق الأوسط ،وانظر: الحلال والحرام للشيخ عساف ص:580
(1/82)
---
ص:83
حكمه : ذهب الجمهور إلى أن الختان سنة وليس بواجب، لعدم ورود دليل في ذلك يدل على وجوبه، وهو المشهور وعليه العمل(1)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (الفطرة(2) خمس : وذكر منها الختان) (3).(1/58)
وذهب الشافعي إلى القول بوجوبه على الرجال(4) والنساء(5) جميعًا.
وذهب الحنابلة(6) إلى القول بوجوبه في حق الرجال دون النساء، فإنه في حقهن مكرمة، وقالوا : وهو من شعار المسلمين فكان واجبًا.
واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لواثلة بن الأسقع لما أسلم : (ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن) (7).
وسئل أحمد عن الكافر إذا أسلم : ترى له أن يطهر بالختان؟ قال : لابد له من ذلك. قلت (القول للسائل) : إن كان كبيرًا؟ قال : أحب إليّ أن يتطهر، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام اختتن بعد ثمانين سنة(8).
__________
(1)انظر: المجموع 1/301 نيل الأوطار1/112فتاوى محمد رشيد2/246
(2) من الفطرة: أي تلائمها، والفطرة هنا بمعنى السنة.
(3)البخاري،في كتاب الاستئذان1/143 ومسلم بشرح النووي3/147
(4) المجموع 2/300
(5)ويكون بقطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج" البظر" و يظهر هذا الخير للمرأة في البلاد الحارة حيث إن بقاءه طويلا قد يسبب هيجانا جنسيا، ثم إنه أحظى لها عند الزوج
(6)المغني والشرح 1/80-81
(7)رواه أبوداود وقال عنه الهيثمي:فيه انقطاع" انظر: مجمع الزوائد 1/283 فتاوى محمد رضا 1/146 وحسنه الألباني في الإرواء 1/120
(8) المغني والشرح1/70-71 والحديث في البخاري،كتاب الاستئذان 1/144
(1/83)
---
ص:84
وهو قول الأوزاعي وربيعة الرأي، واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية(1).
المسألة الثانية : هل الخمر طاهرة أم نجسة؟
الأصل في ذلك قوله تعالى :{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة:90}.
وقد فَهِمَ جمهور أهل العلم من قوله تعالى : {رِجْسٌ} أن الخمر نجس حسًا ومعنى(2). وقالوا : رجس : أي نجس.
وقال ابن عباس : أي سخط.
وقال مجاهد : ما لا خير فيه.
وقال ابن جبير : إثم.(1/59)
وقال الطبري : إثم ونتن.
وقال ابن أسلم : عذاب وشر(3).
وقال الألوسي : (ليس معقولاً في معنى الآية إرادة الرجس بمعنى النجس، فالميسر مثلاً هو لعب القمار لا يعقل فيه نجاسة من طهارة) (4).
قلت : بل أجمع الفقهاء على طهارة الميسر والأنصاب والأزلام(5)، بالرغم من أن وصف (الرجس) عائد إلى الجميع، كما هو السياق لا إلى الخمر وحده.
__________
(1)تحفة المودود ص:12 مجلة البحوث الإسلامية عدد:25
(2)انظر: تحفة الفقهاء 1/104 بداية المجتهد2/125 القرطبي6/588 المحلى 1/192
(3)الطبري7/21
(4)روح المعاني 7/15
(5) المجموع 2/570
(1/84)
---
ص:85
قال الصنعاني : (والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة. وأن التحريم لا يلازم النجاسة. فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة، ولا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم. فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع من ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم. فإن لبس الحرير يحرم (على الرجال) وكذلك الذهب(1)، وهما طاهران، ضرورة شرعية وإجماعًا. فإذا عرفت هذا فتحريم الخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسة، بل لابد من دليل آخر عليه وإلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولا دليل من الشريعة صريحًا أصلاً يدل على نجاستها، فتبقى على الأصل وهو الطهارة) (2).
وبهذا الرأي قال ربيعة الرأي، والمزني من أصحاب الشافعي(3)، والشوكاني ومحمد صديق خان.
وأضاف الشيخ محمد رضا(4) : (وإنما كان يصح إلحاق الشرع بالنجاسات الحسية، لو ورد الأمر الصريح بغسل ما أصابه شيء من الخمر، ولم يرد حديث صحيح أو حسن في ذلك).
__________
(1)أي على الرجال فقط دون النساء
(2)سبل السلام 1/50
(3)القرطبي 6/588
(4)فتاوى محمد رضا 4/1591
(1/85)
---
ص:86(1/60)
وكان الصحابة يشربونها، ولا يسلمون من إصابة أيديهم وثيابهم بشيء منها، ولو كانت نجسة لأمروا بالتنزه عنها قبل تحريمها.. ولا يقال :(إنها صارت نجسة بالتحريم، لأن النجاسة لا تختلف باختلاف الحكم، فهي إذًا طاهرة حسًا وشرعًا) (1).
وأما الإمام النووي فلم يسلّم لأدلة الجمهور في نجاستها، وقال : (وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي، أنه يحكم بنجاستها تغليظًا وزجرًا) (2).
قلت : وهذا أيضًا لا يسلم له، فالأزلام محرمة، ولم يقل أحد بنجاستها حتى ولو على سبيل التغليظ.
وأما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإراقتها فليس لنجاستها -والله أعلم- بل سدًّا للذرائع. فوجودها بصحبة شخص وقد ثمل واعتاد عليها سابقًا، قد يكون سبيلاً لشربها أو بيعها لعمق صلته وارتباطه بها، وكلاهما محرم بالإجماع.
أما الكحول : (وهو سائل عديم اللون، له رائحة خاصة، ينتج عن تخمر السكر والنشاء (وغير ذلك)، وهو روح الخمر، والجمع كحولات) (3).
حكمه : ما قيل في الخمر يقال فيه باعتباره خمرًا، لأنه مسكر، وكل
__________
(1)فتاوى محمد رضا4/1591
(2)المجموع 2/564
(3)المعجم الوسيط 2/778. وانظر: فتاوى محمد رضا 5/1729-1731
(1/86)
---
ص:87
مسكر حرام. وقد أفتت لجنة الأزهر بطهارته، واعتبرت الأشياء التي تضاف إليه لا تنجس به(1). وفي فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا : (الكحول طاهرة مطهرة، ولا وجه لتحريمها ولا يحرم منها شيء) (2).
وعليه فيجوز التعطر بالعطور الإفرنجية التي تضاف إليها مادة الكحول (وهي نسبة قليلة) والادهان بها، باعتبارها طاهرة غير نجسة.
(وكذا بعض أنواع الصابون، والشامبو، وكريم الحلاقة، وغيرها، مما يدخل الكحول في صناعتها) (3).
وجاز شراؤها وبيعها باعتبار أن نسبة الكحول المسكرة في العطور وغيرها تتحلل بالمواد الأخرى، ولا تظهر وتنقلب إلى حقيقة أخرى(4).
المسألة الثالثة : طهارة الكلب(5) :
للفقهاء في طهارة عين الكلب ونجاسته ثلاثة أقوال :(1/61)
أولاً : أنه نجس حتى شعره، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في إحدى الراويتين عنه.
__________
(1)يسألونك في الدين والحياة 2/30
(2)فتاوى محمد رشيد4/1603-1631
(3)انظر كتاب:الصناعات الكيمائية الحديثة، عبد الكريم درويش،ص:22ت:48، 140، 167دار المعرفة دمشق. الطبعة الأولى 1408هـ
(4)انظر: البحر الرائق1/239 وقال: وفي الظهيرية إذا صب الماء في الخمر ثم صارت خلا، تطهر وهو الصحيح.
(5) تنتشر في بلاد الغرب عادة تربية الكلاب وانتشارها و معلوم أنهم يهتمون بها اهتماما يصل إلى حد الإكرام والمساواة بالإنسان بل قد يزيد، فلذا احتجنا إلى بيان بعض أحكامها من حيث طهارتها، أما حكم اقتنائها فانظره في مبحث:العادات والحياة اليومية"
(1/87)
---
ص:88
ثانيًا : أنه طاهر حتى لعابه، وهو المشهور من قول مالك والمالكية.
ثالثًا : أنه طاهر عدا ريقه ولعابه، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنفية، والرواية الأخرى عن أحمد(1).
قلت : وأولى الأقوال بالصواب، قول من قال : إنه طاهر عدا لعابه، فإنه نجس دون سائر بدنه، وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل.
ولم يأت ما يدل على نجاسة شيء من الكلب، إلا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا(2) وزاد مسلم : (أولاهنّ بالتراب) (3).
فدل الحديث على نجاسة لعاب الكلب وفمه، إذ هو محل استعمال النجاسات بحسب الأغلب، ومكان اللهاث(4) يتنجس باللعاب دون سائر بدنه، وأنه يغسل الإناء سبعًا. وبوجوب غسل الإناء سبعًا قول الجماهير(5).
__________
(1)انظر: تحفة الفقهاء 1/101 البحر الرائق 1/244 المقنع 1/80 المسائل الماردينية ص:33 فتاوى محمد رشيد رضا1/280
(2)رواه البخاري في كتاب الوضوء1/51(1/62)
(3)انظر: شرح النووي 3/183ورجح ابن حجر والصنعاني هذه الرواية انظر: سبل السلام 1/28 إرواء الغليل1/62وقال محمد صديق خان: والمراد:(إحداهن) انظر: السراج الوهاج له 1/459
(4)لهث الكلب:أخرج لسانه من شدة الحر أو العطش، وولغ الكلب: إذا شرب بطرف لسانه.
(5)انظر: المقدمات 1/88 ت، المغني والشرح 1/46معالم السنن 1/85 السراج الوهاج 1/459
(1/88)
---
ص:89
وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب العدد في إزالة شيء من النجاسات، وقال : إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه منها. واستدل الحنفية بما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء : (يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا). وقالوا : فدل الحديث على التخيير.
وأجيب بأن الحديث ضعيف(1).
ورجح ابن رشد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأنه للندب والإرشاد مخافة أن يكون الكلب كَلِبًا(2)، يدخل على شارب سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عما يضر الناس في دينهم ودنياهم، لا لنجاسة، إذ هو محمول على الطهارة.
فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام، ووجب أن يُتوقى من شربه، أو أكله، أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة الضرر(3).
وقد ثبت طبيًا أن لعابه يحوي جراثيم ضارة، تحتاج إلى مطهر قوي لإزالتها(4). وهذا يقوّي نوعًا ما، ما ذهب إليه ابن رشد.
__________
(1)سبل السلام 1/29 عون الباري1/380
(2)كلب الكلب: أصابه الكلب وهو مرض معدٍ، ينتقل فيروسه في اللعاب بالعض من الفصيلة الكلبية إلى الإنسان و غيره،من ظواهره تقلصات في عضلات التنفس، والبلع، وجنون واضطرابات شديدة في الجهاز العصبي. المعجم الوسيط2/794
(3)المقدمات 1/90 وانظر: المدونة 1/5حاشية الدسوقي1/83
(4)يسألونك في الدين والحياة 2/26
(1/89)
---
ص:90
المطلب الثاني : الصلاة(1/63)
لا يخفى على كل مسلم أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، وأن الله تعالى قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنها تجب على المسلم العاقل البالغ العالم بها، وأن من أنكرها فقد خرج من الملة.
ولمنزلتها العظمى في الإسلام، فقد حذّر الشرع، وتوعّد المضيعين لها، فقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (مريم : 59).
وجعل النبي صلى الله عليه و سلم : (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (1).
وفي هذا المطلب عدة مسائل يحتاج المسلم في ديار غير المسلمين إلى معرفتها، وهي :
المسألة الأولى : مواقيت الصلاة :
وهذه المسألة تنقسم إلى عدة أقسام، وتشمل : تعريف الميقات، ومواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة، وكذا غير المعتدلة.
__________
(1)رواه مسلم، في كتاب الصلاة،باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة
(1/90)
---
ص:91
أولاً : في تعريفها لغة وشرعًا :
في اللغة : يقال وقت الله (بتشديد القاف وتخفيفها) الصلاة، أي : حدد لها وقتًا، والميقات : الوقت المضروب للفعل، والجمع مواقيت(1).
في الشرع : المراد به (الوقت الذي عيّنه الله لأداء هذه العبادة (الصلاة)، وهو القدر المحدود للفصل من الزمان(2).
ثانيًا : في مواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة :
وأعني بالبلاد المعتدلة : البلاد التي يحل فيها ليل ونهار، ويتمايزان عن بعضهما في كل أربع وعشرين ساعة.(1/64)
والأصل في مواقيت تلك البلاد، ما رواه مسلم في صحيحه أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئًا (باللفظ والقول)، وفي رواية بريدة، فقال له : (صل معنا هذين (اليومين)). قال (راوي الحديث وهو أبو موسى الأشعري) : فأقام الفجر (أي النبي صلى الله عليه و سلم) حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره (أي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بلالاً) فأقام الظهر حين زالت(3) الشمس، والقائل يقول : قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت (أي غربت)
__________
(1)المعجم الوسيط2/1048 وعون الباري2/1
(2) سبل السلام 1/174
(3)زالت الشمس: أي مالت عن منتصف السماء.
(1/91)
---
ص:92
الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد احمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول (وفي رواية : أن وقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط) (1).
ثم أصبح فدعا السائل، فقال : (الوقت بين هذين)، يعني أن وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما.
ثالثًا:في ضبط الصلاة في البلادغير المعتدلةكالقطبين ومايدخل في حكمهما:(1/65)
إن ما ورد في الأحاديث الصحيحة من تحديد مواقيت الصلاة وضبطها، إنما هو للبلاد المعتدلة التي كان يقيم فيها النبي صلى الله عليه و سلم، وما يأخذ حكمها، ولكن ما الطريقة لضبط مواقيت الصلاة في البلاد التي لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل قد تكون السنة في البلاد المعتدلة يومًا، كالجهات القطبية والإسكندنافية التي يطول نهارها صيفًا ويقصر شتاءً، أو البلاد الشمالية التي لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا صيفًا وعكسه شتاءً، أو البلاد التي يتداخل ويتحد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض
__________
(1)متفق عليه.البخاري،كتاب مواقيت الصلاة 1/143. ومسلم ،باب مواقيت الصلاة 4/115
(1/92)
---
ص:93
أشهر السنة وهي البلاد التي يتجاوز موقعها خط العرض 84 شمالاً أو جنوبًا(1).
سأعرض هنا أقوال الفقهاء في بيان تحديد وضبط أوقات الصلاة فيها، كما هي من كتبهم ثم أناقش وأرجح.
1- أقوال الحنفية :
جاء في فتح القدير ما نصه :
(ومن لا يوجد عندهم وقت للعشاء، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم، فقد أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب وهو مختار صاحب الكنز (الزيلعي) (2)، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين). ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض (وهو هنا اليدان المقطوعتان من المرفقين)، وبين عدم سببه الجعلي (وهو هنا انتفاء علامة وقت العشاء) الذي جُعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرّفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرّف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر.
__________
(1)يحدث في بعض أشهر السنة في لندن و باريس و موسكو و غيرها أن يتحد غياب الشفق مع طلوع الفجر،مما يؤدي إلى عدم التمييز بينهما في الشهر الرابع والخامس والسادس الميلادي، . من مقابلة مع الدكتور محمد قطبة.وانظر: مجلة الأمة عدد:58 صفحة:86
(2)الكنز1/81
(1/93)
---
ص:94(1/66)
معنى كلام ابن الهمام : (أنه إذا عدمت علامة دخول وقت العشاء، وهي غياب الشفق وعدم طلوع الفجر معه، باعتبارها علامة معرّفة له، ليس معناه أن الصلاة تسقط بعدمها، لوجود دليل آخر يدل على وجوبها، وإن لم توجد العلامة الدالة على الوقت). ثم قال : وقد وجد (أي الدليل الآخر الدال على وجوب صلاة العشاء، بالرغم من عدم وجود علامتها) وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله سبحانه خمسًا (أي الصلاة)، بعدما أمروا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعًا(1) عامًا لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قُطر وقُطر.
ثم ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر الدجال فقلنا (أي الصحابة) : وما لبثه في الأرض؟ فقال (أي النبي صلى الله عليه و سلم) : (أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم). فقيل : يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (2). فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مِثْلاً أو مِثْلين، وقس عليه.
فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها، فلا يقسط بعدمها الوجوب
__________
(1)انظر:البخاري،باب المعراج1/249 ومسلم بشرح النووي2/214
(2)رواه مسلم،انظر: شرح النووي 17/65 طبعة دار إحياء التراث العربي
(1/94)
---
ص:95
وكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : (خمس صلوات كتبهن الله على العباد(1)) (2).
2- أقوال المالكية :
جاء في مواهب الجليل ما نصه : ورد في صحيح مسلم أن مدة الدجال أربعون يومًا، وأن فيها يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة : يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (3).(1/67)
قال القاضي عياض : (في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع) وقال : (لو وُكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام)، ومعنى (اقدروا له قدره)، أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها.
وأما اليوم الثاني كشهر، والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول.
__________
(1)انظر: البخاري،كتاب الحيل 8/60
(2)فتح القدير1/156
(3)رواه مسلم ، انظر: شرح النووي 17/65
(1/95)
---
ص:96
3-أقوال الشافعية :
جاء في روضة الطالبين : أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق، في أقراب البلاد إليهم(1). أي فإن كان شفقهم (شفق أقرب البلاد) يغيب عند ربع ليلهم مثلاً، اعتبر من ليل هؤلاء بالنسبة، لا أنهم يصيرون بقدر ما يمضي من ليلهم، لأنه ربما استغرق ذاك ليلهم(2).
4- أقوال الحنابلة :
جاء في غاية المنتهى : ويُقدّر للصلاة أيام (الدجال) قدر المعتاد من نحو ليل أو شتاء ويتجه، وكذا حج وزكاة وصوم(3)، وبمثله قال صاحب الإقناع(4).
ولم أجد من تعرّض لمسألة فاقد وقت العشاء من الحنابلة.
ويتضح لنا من خلال سرد تلك النقول، أن جماهير العلماء يقولون بوجوب صلاة العشاء على أهل البلاد التي ينعدم فيها وقتها، وهو غياب الشفق، معتمدين في ذلك على عموم النصوص الآمرة بإقامة الصلوات
__________
(1)1/182
(2)زاد المحتاج 1/129.روض الطالب، 1/117. المجموع2/47
(3)1/93
(4)1/84
(1/96)
---
ص:97
الخمس، من غير تفريق بين إقليم وآخر، على سبيل الوجوب، وعلى حديث (الدجال) الآمر بالتقدير للصلوات، والمبيّن وجوبها، وإن لم يوجد سببها على وجه العموم.(1/68)
رابعًا : أقسام البلاد غير المعتدلة، وكيفية ضبط المواقيت فيها :
تنقسم هذه البلاد إلى قسمين :
القسم الأول : قسم لا تغيب عنه الشمس لفترة ستة أشهر تقريبًا، ثم تغيب مطلقًا بقية السنة.
وهذه ينسحب عليها حديث (الدجال)، فيقدر أهلها للصلوات الخمس، حيث يؤدونها كاملة في كل أربع وعشرين ساعة، معتمدين في ذلك على أقرب البلاد إليهم، والتي تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، وعليهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارًا بالأبعاد الزمنية التي بين كل صلاتين.
ويقاس على ذلك سائر الأحكام المتعلقة بالأيام والأهلّة، من عدة وصوم وزكاة.
يقول الشيخ محمد رضا : (أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين، وما يقرب، أن يصلي في يومه وهو سنة، أو عدة أشهر خمس صلوات فقط؟ كلا، إن الآيات الكبرى على كون هذا القرآن
(1/97)
---
ص:98
من عند الله المحيط علمه بكل شيء، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه).
فأطلق الأمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه و سلم بيّن أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة، التي هي القسم الأعظم في الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل تلك البلاد التي أشرنا إليها، يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم، والقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه و سلم من أمر الله المطلق، فيقدروا لها قدرها.. ولكن على أي البلاد يكون التقدير؟ قيل : على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل : على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهما جائز، فإنه اجتهادي لا نص فيه (1).
وقد أفتت هيئة كبار العلماء في السعودية، في دورتها الثانية عشرة، بالتقدير على أقرب البلاد التي تتمايز فيها أوقات الصلاة المفروضة(2).(1/69)
قلت : وفي كلٍّ خير، ولكن بشرط أن يتفق مسلمو تلك البلاد، ومراكزها على بلد معين، حتى لا تختلف صلواتهم في البلد الواحد، فتصلي جماعة بتوقيت مكة، وتصلي الأخرى بتوقيت أقرب البلاد، فيحصل الشقاق والاختلاف، وكل محرم منهي عنه.
__________
(1)فتاوى محمد رشيد رضا6/2577-2578
(2)قرار رقم:61 لسنة 1398هـ انظر: مجلة البحوث الإسلامية عدد:25 ص:31
(1/98)
---
ص:99
القسم الثاني : قسم تتميز فيه الأوقات عدا العشاء، فإنه يتحد مع الفجر.
فالراجح من أقوال جماهير أهل العلم، وجوب صلاة العشاء على تلك البلاد وحُرمة تركها. ولكنهم اختلفوا في وقت أدائها، وفي النية لها، هل تؤدى أداء أم قضاء؟
قلت : الأظهر والأقرب إلى النص (حديث الدجال)، أن يقدر المسلمون في تلك البلاد لوقت العشاء بأقرب البلاد، فتكون صلاة العشاء فيها أداءً، وصلاة المغرب فيه قضاء، لانتهاء وقتها حسب التقدير، وهو قول المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، حيث حدد درجة 45ْ للقياس عليها، وهي درجة إحدى المناطق في فرنسا، يغيب الشفق فيها قبل طلوع الفجر(1). وفي هذا التقدير رفع حرج، وفيه يسر، ويصلح لبريطانيا وما جاورها.
المسألة الثانية : حكم الصلاة في معابد أهل الكفر :
ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة الصلاة في الكنائس وغيرها من معابد أهل الشرك، وعللوا الكراهة بوجود الصور فيها، ولأنها ملعونة، ولأنه لا يتعبد الله في بيوت أعدائه، ولأنها مأوى الشياطين كالحمّام.
__________
(1)من مقابلة مع د. محمد قطبة . رئيس الجمعية الإسلامية في "دارم" بريطانيا سابقًا و قد تمكن باحثان مسلمان من تصميم آلة حاسبة لتعيين مواقيت الصلاة في المنطقة مابين خطي عرض"60ْ" ْ درجة شمالي وجنوبي خط الاستواء، اسمها:"المؤذن" انظر:مجلة الأمة العدد:57 ص: 86
(1/99)
---
ص:100(1/70)
وقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور)، ولا فرق بين أن تكون المعابد عامرة أو دارسة (أي تقادم عهدها).
وذهب الإمام مالك إلى القول بالمنع مطلقًا، وهو رواية عن أحمد.
وذهب بعض أصحاب أحمد إلى الجواز مطلقًا(1).
قال ابن تيمية : (والصحيح أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها، لأن الملائكة (ملائكة الرحمة لا الحفظة، لا تدخل بيتًا فيه صورة(2)، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة) (3).
وإذا جازت الصلاة في كنيسة مع خلوها عن الصور، جازت في أي معبد آخر لا يوجد فيه صور.
ويظهر من كلام الجمهور أن من صلى فيها مع وجود التماثيل فصلاته صحيحة مع الكراهة(4)، وإن كان الأَولى أن ينأى المسلم في صلاته عن مثل هذه الأماكن إذا توفرت له أماكن أخرى ولم يحتج إليها.. أما إذا اضطر إلى الصلاة فيها كخوف برد، أو عدم توفر محل
__________
(1)انظر: رد المحتار1/254 الخرشي1/226 زاد المحتاج 1/220-228 الإنصاف1/496مجموع الفتاوى22/162أحكام أهل الذمة2/712
(2) أصله حديث متفق عليه عون الباري 6/123
(3)مجموع الفتاوى 22/162 أحكام أهل الذمة 2/268
(4)عون الباري6/123
(1/100)
---
ص:101
آخر، جازت بلا كراهة، ولا إعادة عليه(1)، فكل أرض مصلى للمسلمين (إلا ما تيقنا نجاسته) (2)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) (3).
ولقدأجاز المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، استئجار الكنائس للصلاة، ولكن أوصى بتجنّب استقبال التماثيل، فإن لم يمكن فإنها تستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة(4).
وهنا أهيب بالمسلمين أن يوفروا ما يحتاجون إليه من مساجد ليستغنوا عن معابد أهل الشرك، وأن يبذلوا في سبيل ذلك ما يقدرون عليه. وأنبه إلى أن معابد أهل الكفر يحرم إطلاق (بيت الله) عليها بالإجماع.(1/71)
وأما الصلاة في المقابر فقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أن المقابر ليست بموضوع للصلاة، وأما الصلاة على الثلج فقد صح عن ابن عمر أنه صلى عليه(5).
__________
(1)
الخرشي 1/226فتاوى معاصرة للقرضاوي ص:199
(2)السراج الوهاج 2/268
(3)رواه البخاري في كتاب التيمم1/86
(4)مجلة المجمع العدد الثالث 2/1404هـ
(5)رواه البخاري كتاب الصلاة1/99
(1/101)
---
المسألة الثالثة : الجمع للحاجة :
لا أقصد به جمع السفر، أو المطر، أو المرض، وإنما الجمع الذي يرفع الحرج والمشقة في غير الأعذار السابقة.
فمثلاً هناك بعض البلاد يتأخر فيها غياب الشفق إلى ما بعد منتصف الليل في بعض أيام السنة، وهناك بلاد يطول فيها بعض أشهر السنة، ويقصر الليل إلى أربع ساعات، وهناك الموظف والطالب الذي لا يتمكن من أداء الصلوات في أوقاتها لتتابع العمل وضيق الوقت المخصص للراحة، وهناك الشيخ العجوز والصبي.
فجميع هؤلاء يجدون حرجًا وعسرًا ومشقة في أداء بعض الصلوات في أوقاتها المحددة شرعًا، وخاصة أنهم في بلاد غير إسلامية، لا تراعي شعور المسلم في ذلك ولا تقيم لعبادته وزنًا ولا اعتبارًا(165).
فهل يجب على من يغيب الشفق عنده بعد منتصف الليل، أن ينتظر وقت العشاء ليؤديها في وقتها، وهو ملتزم في صبيحة ذلك اليوم بعمل؟ مع احتياجه للنوم والراحة؟
وهل يجب على مَن ليله أربع ساعات أن يؤدي ثلاث صلوات فيها مع هجران النوم انتظارًا للصلاة، وهو أيضًا مرتبط بعمل، وكل الأعمال
__________
(1) أخبرني الدكتور محمد عزيز رئيس الجالية العربية في النمسا أن مكاتب التشغيل فيها تسأل كل من أراد العمل:هل أنت ملتزم بعبادات دينك.فإن أجاب بنعم ففرصة توظيفه صعبة جدا بل تنعدم.
(1/102)
---
ص:103(1/72)
تتطلب ذهنًا صافيًا، وبدنًا معافىً، وهذا بدوره متوقف على مدى ما يحصل عليه الإنسان من راحة وسبات، أم أن هناك رخصة يمكن أن يلجأ إليها المسلم عند الحرج والمشقة، باعتبار (أن المشقة تجلب التيسير)، وأن الحرج مرفوع في ديننا لقوله تعالى : (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج : 78)، وأن الأمر إذا ضاق اتسع؟
انعقد الإجماع على أنه لا يجوز في الحضر أن تصلى الصلاتان معًا في وقت واحد لغير عذر(1). ثم اختلفوا في هذه الأعذار.
فاتفقوا على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء بمزدلفة، سنة للحجاج، وعلى ذلك اقتصر الحنفية(2).
وجوّز المالكية الجمع للمقيم بسبب المطر، والطين، والمرض، رخصة توسعة بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء(3).
وجوّزه الشافعية بسبب المطر الذي يبلّ الثياب، وذهب جماعة منهم إلى جوازه بسبب المرض، والطين، والخوف(4).
__________
(1)موسوعة الإجماع 2/621
(2)مقارنة المذاهب في الفقه ص:38
(3)المقدمات الممهدات 1/185و ما بعدها
(4)انظر: الأم 1/76 والمنهاج للنووي في شرحه زاد المحتاج 1/311 وكفاية الأخيار1/377 وما بعدها
(1/103)
---
ص:104
وزاد الحنابلة في رواية : الثلج، والبرد، والريح الشديد البارد، والمرضع، والمستحاضة، وما في معناها، والمعذور والعاجز عن الطهارة لكل صلاة، وعن معرفة الوقت، ولمن خاف على نفسه، أو ماله، أو عرضه، ولمن خاف ضررًا يلحقه في معيشته بترك الجمع، وقالوا : يفعل الأرفق به، من تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إليها(170).
وليس هناك -فيما وقفت عليه- أدلة صحيحة صريحة تدل على جواز الجمع لكل عذر مما ذكره الحنابلة.(1/73)
قال الإمام الشافعي : (والجمع في المطر رخصة لعذر، وإن كان عذر غيره لم يجمع فيه، لأن العذر في غيره خاص وذلك كالمرض والخوف، وما أشبهه، وقد كانت أمراض وخوف فلم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع. والعذر بالمطر عام، ويجمع بالسفر للخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا رخصة في الجمع إلا حيث رخّص النبي) (171).
ولكن يمكن أن يستدل للحنابلة (الذين هم أوسع المذاهب الأربعة في الجمع)، بما رواه مسلم وغيره، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر.
__________
(1)انظر: المغني والشرح2/112 وما بعدها الإنصاف 2/336 وما بعدها المقنع 1/227 وما بعدها
(2)الأم1/76
(1/104)
---
ص:105
قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال : أراد ألا يحرج أمته(1).
وهو مروي أيضًا عن ابن مسعود من طريق ضعيف كما قال الهيثمي، ولكن خالفه الشوكاني وصحح تلك الرواية(2).
فدلّ الحديث على جواز الجمع الحقيقي، بشرط تحقق الحرج والمشقة عند عدم الجمع، لقوله : (أراد أن لا يحرج أمته).
ومن هذا الحديث استنتج الجمهور جواز الجمع للمرض وما في معناه. وقالوا : (إن مشقة المرض فيه أشد من المطر) (3).
قلت : فإذا جاز الجمع بسبب المرض لما في الصلاة بوقتها معه من المشقة، جاز بأي عذر يترتب على ترك الجمع ضيق وحرج لا يحتمل، ويشترط ألا يتخذ ذلك عادة، وألا يتوسع فيه.
وممن قال بهذا : ربيعة، وابن المنذر، وأشهب، وابن سيرين، وعبد الملك من أصحاب مالك، والظاهرية(4). وبه قال الشيخ محمد أبو زهرة(5)، والشيخ يوسف القرضاوي، الذي يرى جواز (الجمع بين الصلاتين في حالات نادرة، وعلى قلةٍ، لرفع الحرج والمشقة)(6).
__________
(1)رواه مسلم وغيره انظر: شرح النووي 5/216
(2)نيل الأوطار3/264
(3)شرح النووي على مسلم5/218 ومعالم السنن1/264
(4)القوانين الفقهية لابن جزي ص:87طبعة تونس 1982م(1/74)
(5)انظر:مجلة لواء الإسلام العددالتاسع لسنة 1966م ص: 591
(6)فتاوى معاصرة ص:216
(1/105)
---
ص:106
وبالنسبة لمن يتأخر عندهم غياب الشفق، أو يقصر ليلهم، فليأت من الصلوات في أوقاتها ما يقدر عليه(1)، فإن غلبه النعاس فنام وفاتته الصلاة فليصل ما فاته عند استيقاظه -فإنه ليس في النوم تفريط- على الترتيب.
وأما من وجد مشقة معتبرة في انتظار الصلاة، وخاف إن نام ألا يقوم للصلاة، وذلك يعرف بالعادة، فهناك رواية عند الحنابلة فقط بجواز الجمع بغلبة النعاس(2).
وهنا يجب التنبيه إلى أمر جد خطير وهو : أن إساءة استعمال هذه الرخصة التي ترفع المشقة والحرج، وذلك باتخاذها عادة لتحقيق غاية الراحة، وبالتوسع فيها من غير عذر معتبر، يبطل الصلاة.
فإن العلماء قد أجمعوا على أن الصلاة في غير وقتها بغير عذر شرعي باطلة، وكأنه لم يصلها، لأن الوقت لها شرط صحة.
المسألة الرابعة : صلاة الجمعة :
(أجمع العلماء على أن الجمعة واجبة، وفرض عين، وأن تركها إثم بلا خلاف) (3)، لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة
__________
(1)مجموع فتاوى ابن تيمية 22/27
(2)الإنصاف 2/336
(3)الإجماع لابن المنذر ص:38 موسوعة الإجماع 2/671
(1/106)
---
ص:107
من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (الجمعة : 9).
وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (لينتهين أقوام عن وَدْعِهِم (تركهم) الجُمُعات أو ليَخْتِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين) (1).
وقتها :
ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت الجمعة هو بعد الزوال(2).
وإن وقعت قبله فلا تجوز، إلا عند أحمد وابن راهويه وعطاء لما رواه مسلم : (كنا نصلي مع رسول الله الجمعة ثم نرجع فنريح نواضحنا (أي إبلنا) حين تزول الشمس).
قلت : ومجموع الأحاديث يدل على أنها تصح حال الزوال وقبله(3).(1/75)
وفي المغني والشرح(4) : المستحب إقامتها بعد الزوال للأدلة وفي ذلك خروج من الخلاف.
__________
(1)رواه مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة كتاب الجمعة،باب التغليظ في ترك الجمعة الحديث:1432
(2)انظر: الاختيار1/82والمجموع 4/512ومواهب الجليل للشنقيطي 1/293
(3) السراج الوهاج 3/129والسيل الجرار1/297
(4)2/143
(1/107)
---
ص:108
قلت : إن اضطرت جماعة في دار الكفر إلى تقديمها على الزوال بدافع المشقة والظروف الحرجة فيمكن أن يعملوا بقول أحمد ومن معه، وهو قول ابن عباس والشوكاني(1)، على ألا تتقدم عن الزوال بوقت طويل، لأن الحديث الذي استدل به أحمد يدل على أن الزوال يبدأ بعد الانتهاء من الخطبة والصلاة حسب ظاهره.
وإن لم تكن هناك مشقة، أقيمت بعد الزوال وهو عمل السلف.
وقد أجاز الإمام مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة(2).
وأما عن آخر وقتها، فالجمهور على أنه آخر وقت الظهر.
ثالثًا : هل تصح الخطبة بغير العربية؟
أجمع العلماء على أن الخطبة شرط(3). فهل تصح بغير العربية؟
أقول بداية : إن توفر إمام يحسن إقامة الجمعة، لهو من فروض الكفايات، بحيث لو قصرت جماعة أثموا جميعًا بالتقصير، لقوله تعالى : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) (التوبة : 39).
وأما عن صحة الخطبة بغير العربية، فقد ذهب الجمهور إلى أنها
__________
(1)المجموع 4/511والسيل الجرار1/297
(2)انظر: سبل السلام 2/456
(3)الاختيار1/82 والمجموع4/514،وقد حكي عن الحسن البصري والجويني أنها تصح بدون الخطبة وهو قول غير مقبول، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده.
(1/108)
---
ص:109
تشترط بالعربية، لأنه ذكر مفروض، فشرط فيه العربية كالتشهد، وتكبيرة الإحرام، ولأنه فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان لا يخطب إلا بالعربية.(1/76)
وذهب أبو حنيفة إلى جوازها بغير العربية، بعذر وبغير عذر، وأجازها صاحباه بعذر، وكذا الحنابلة. وعندهم رواية توافق رأي أبي حنيفة ولكنها مرجوحة في المذهب(1).
وإذا قيل : ما فائدة الخطبة بالعربية إذا كان المستمعون لا يفهمونها؟
قيل : (فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، قاله القاضي حسين من الشافعية)(2).
قلت : وما فائدة العلم بالوعظ الإجمالي مادام المستمع لا يعقل ولا يدري ما يقال له؟ وهل الخطبة بالعربية مقصودة لذاتها حتى يقال بأنها لا تصح بغيرها، وإن كان القوم لا يفهمون منها شيئًا؟ أم لما تحويه من تعليم وتوعية؟
وللخروج من الخلاف، وليطمئن كل مسلم إلى أن صلاته صحيحة، يمكن اتباع إحدى الطريقتين الآتيتين :
__________
(1)انظر في ذلك: المجموع4/522 الفواعد لابن رجب ص:13 الجمعة ومكانتها في الدين ص:127
(2)كفاية الأخيار 1/288
(1/109)
---
ص:110
الأولى : أن يأتي الخطيب بأركان الخطبة -التي قال بها الموجبون للعربية- بالعربية، ثم يأتي بالوعظ بلغة السامعين للحاجة والعذر.
والأركان هي : الابتداء بحمد الله، قراءة آية أو أكثر من القرآن، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم، الوصية بتقوى الله، والدعاء للمسلمين.
الثانية : أن تلقى الخطبة بالعربية ثم تترجم، سواء في أثنائها، أم بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، سواء من قِبل الخطيب نفسه، أم من آخر يقوم مقامه.
ونستطيع أن نقول : إنه يجوز إقامة الخطبة بغير العربية إن كان هناك عذر وحاجة وإلا فلا، مع مراعاة قراءة الآيات كما أنزلت ثم تُتَرجم(1).
ويستحب في الخطبة أن تكون قصيرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه) (2)، أي دليل وعلامة عليه، ولما رواه جابر بن سمرة : (أن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كانت قصدًا وكذلك خطبته) (3).(1/77)
ويجب لها الإنصات على قول الجمهور لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي
__________
(1)هذا ما رجحته اللجنة الدائمة لإفتاء السعودية انظر: الفتاوى الإسلامية للجنة 1/405
(2)رواه مسلم،انظر: شرح النووي 2/517طبعة كتاب الشعب،مصر
(3)رواه مسلم،انظر: شرح النووي 2/517طبعة كتاب الشعب
(1/110)
---
ص:111
يقول : أنصت ليست له جمعة) (1). أي بالقياس على غيره الصامت، ولكن صلاة من تكلم صحيحة بالإجماع(2). ولا يشترط لها أن تكون في المسجد(3). فلو أقيمت في أماكن عامة أو ساحات صحت، وكذا في معابد أهل الكفر للضرورة(4).
ويستحب في خطيب الجمعة أن يكون متخصصًا بدراسة الفقه والفكر الإسلاميين، وأن يكون ملمًّا بثقافة القوم ومشكلاتهم المتنوعة، من أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وغير ذلك، ليكون أقدر على طرح الحلول ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية.
وأن يتطرق إلى المواضيع التي تهم حديثي العهد بالإسلام، من عقيدة، وعبادة، وتركيز على عالمية الإسلام، وخلوده وصلاحه.
وأن يعرفهم بموقف الإسلام من الحركات المنتشرة في بلاد الكفر ليكون المسلم على بينة منها. وأن يشعرهم بأن لهم إخوة من ورائهم يهتمون بمشاكلهم، ويفكرون بحاضرهم ومستقبلهم. وأن يبتعد عن الخلافيات قدر الإمكان، وأن يراعي أوقات المصلين.
__________
(1)رواه أحمد،وقال ابن حجر في بلوغ المرام:إسناده لا بأس به" ص:80
(2)سبل السلام 2/465
(3)وهو قول عامة الفقهاء انظر: موسوعة الإجماع 2/673
(4)انظر: ص:99 من هذا البحث: حكم الصلاة في معابد أهل الكفر
(1/111)
---
خامسًا : فيمن يعذر بتركها :(1/78)
يعذر بترك الجمعة : المرأة، والصبي، والمسافر، والمريض الذي يشق عليه حضورها، وأيام الوحل والمطر الذي يبل الثياب، والريح الشديدة، والحر والبرد الشديدين، والزَّمِن، والأعمى الذي ليس له قائد، ومن له مريض يخاف ضياعه، لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة، ومن بحضرة طعام وهو محتاج إليه، والعريان، والذي يخاف من ظالم على نفسه أو ماله، ومن هو بعيد عن مكان إقامتها، بحيث لو حضر لشق عليه الأمر(1).. ولا يدخل ضمن الأعذار طلاب العلم في تلك الديار، ولو اقتضت بعض المواد الدراسية حضوره، لأن الجمعة من العبادات التي لا تتكرر، ولا تقع إلا مرة في الأسبوع، فوجب تداركها، وعلى الطالب أن يهيء أحواله للمحافظة عليها في وقتها.
وأجمع أهل العلم على أن من فاتته الجمعة لزمه الظهر(2). وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن صلى أصحاب الأعذار قبل صلاة الإمام فلهم ذلك، ولهم أن يصلوا الظهر جماعة.
__________
(1)انظر: الهداية وشروحها2/32-33 المقدمات الممهدات 1/219و مابعدها المجموع4/489 ومابعدها المغني والشرح2/193من الشرح
(2)الهداية وشروحها2/33 المجموع 4/509
(1/112)
---
المسألة الخامسة : الجنازة وبعض أحكامها :
أولاً : حكم غسل الميت :
أجمع الفقهاء على وجوب غسل الميت على الأحياء(1)، من حيث الجملة.. فإن لم يوجد الغاسل المسلم، فهل يصح غسل الكافر للميت المسلم؟
ذهب الجمهور إلى جواز غسل المرأة الكتابية لزوجها المسلم، وغسل الرجل لزوجته الكتابية، ونص الشافعي على أن غسل الكافر للمسلم صحيح، ولا يجب على المسلمين إعادته، وبه قال العراقيون(2)، لأن الغسل لا يحتاج إلى نية الحي هنا.
قلت : لم يرد نهي عن ذلك، وغاية ما في الأمر أن الكافر قد يطلع على عيب المسلم أثناء غسله، فلا يؤمن من جانبه أن يشهر به، ويظهره على رؤوس الناس، فأما إذا وجد المسلم ابتداءً فلا يغسله غيره.
ثانيًا : حكم الصلاة عليه :(1/79)
أجمع الفقهاء على أن الصلاة على الميت المسلم فرض كفاية(3).
ولو حدث أن مُنع أولياء الميت من المسلمين من الصلاة عليه، وجب
__________
(1) الروضة الندية 1/243
(2)المجموع 5/145سبل السلام2/550كفاية الأخيار1/315
(3)السراج الوهاج3/338وقارن بالمقدمات لابن رشد1/234
(1/113)
---
ص:114
عليهم وجوبًا كفائيًا أن يصلوا على قبره، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم : صلى على ميت وهو في قبره(1)، ولم ينبشه.
وأما إن تركوا الصلاة عليه عمدًا فيأثموا جميعًا، للإجماع السابق.
ثالثًا : هل يصح الدفن في التابوت؟
أجمع الفقهاء على أن الدفن في التابوت مكروه(2)، ولا يستعمل إلا في حالة العذر فقط(3). واعتمدوا في ذلك على أنه لم يصح أن أحدًا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم أو أن النبي نفسه قد دفن في تابوت، بل كانوا يوضعون على التراب، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص فيه أيضًا أو منع منه.
وقد أجاز الفقهاء اتخاذ التابوت إذا كانت التربة رخوة وغير متماسكة، أو كان جسد الميت مهترئًا بالاحتراق، أو مقطعًا، أو أشلاء بحيث لا يضبطه إلا الصندوق.
وقالوا : والسنة أن يفترش في التابوت التراب(4).
وعليه فمن أجبرته سلطات بلاده(5)، على أن يضع متوفاه في
__________
(1)صحيح البخاري،باب الجنائز2/72
(2)موسوعة الإجماع 1/413
(3)الفقه الإسلامي و أدلته 2/538
(4)الهداية وشروحها2/100شرح روض الطالب 1/327
(5)أخبرني د. محمد قطبة أن بريطانيا تجبر المسلمين على وضع جثمان الميت في تابوت.
(1/114)
---
ص:115
صندوق خشبي أو حديدي، فلا شيء في ذلك -إن شاء الله تعالى- للعذر، وإلا فلا يفعله.
رابعًا : هل يصح دفن مسلم في مقابر الكفار؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم بمقابر الكفار، ولا كافر في مقابر المسلمين، وإذا دفن أحدهما في مقبرة الآخر نبش وجوبًا ما لم يتغير(1)، لأن الكفار يُعذبون في قبورهم، والمسلم يتأذى بمجاورتهم.(1/80)
فإذا لم تكن في بعض البلاد التي يسكنها مسلمون مقابر خاصة بهم، فإنه يُنقل وجوبًا(2) إلى بلاد المسلمين، إن أمكن ذلك ماديًا وسمحت سلطات بلاد المسلمين، ولم يخف تغير جثة الميت، وإلا جاز دفنه في مقابر الكفار على أن يخصص للمسلمين جانب منها لهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. فإن لم يمكن جاز دفنه للضرورة، وبه أفتى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي(3). واقترح أحد أعضاء المجمع(4) أن تراعى عند دفنه في مقابر الكفار درجات الكفر،
__________
(1)البيان والتحصيل 2/256-283 المجموع 5/275 مجلة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي العدد الثالث2/1104-1113-1193
(2) ومن هنا وجب العمل من أجل إقامة مقبرة خاصة بالمسلمين هناك،
(3)مجلة المجمع، العدد الثالث،2/1104-1161-1193-1400
(4)وهو الشيخ أحمد الخليلي ص:1120
(1/115)
---
ص:116
فمقابر النصارى عند الضرورة أولى من مقابر اليهود، ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملحدين، وهكذا.
خامسًا : هل يصح أن يحمل كافر في جنازة مسلم؟
لم يرد نهي في ذلك، والأولى ألا يسمح بذلك لأنها قربة من القرب العظيمة، إلا إذا احتيج لذلك قياسًا على قول الشافعي في جواز غسل الكفار للميت المسلم.
سادسًا : الصلاة على الغائب :
لو أن مسلمًا بدار الكفر توفي له مسلم قريب، أم صاحب، أم غير ذلك (في بلد آخر) فهل يصح أن يصلي عليه صلاة الغائب ويصلي معه المسلمون؟
ذهب الجمهور إلى جواز ذ لك، مستدلين بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي ومعه المسلمون(1). وقالوا : لا دليل على أن ذلك خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها لا تشرع.
وقال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه(2).
__________
(1) انظر: صحيح البخاري،باب في الجنائز 2/72(1/81)
(2)انظر: فتح الباري 3/431 وانظر البيان والتحصيل 2/281و شرح روض الطالب 1/322 و المغني والشرح 2/391
(1/116)
---
ص:117
وقال العيني : (إذا مات المسلم في بلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه، فإنه لا يُصلي عليه من كان ببلد آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لم يصلَّ عليه لعائق أو مانع عذر، كان السنة أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة لا جهة بلد الميت) (1).
قلت : والراجح هو قول الجمهور، لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الدال على مشروعيتها، وما أضيف من قيود على جوازها لا يصح، إذ لو كان الأمر كما قالوا لما أخّره النبي عليه الصلاة والسلام ولبيّنه للناس.
سابعًا : في بعض أحكام الميت الكافر ومدى علاقة المسلم بها :
وصورة هذه الجزئية : لو توفي كافر وهو جار لمسلم أو قريب له.. فهل يجب عليه أن يغسله ويكفنه، أم هل يجوز ذلك ويصح منه؟ وما حكم تشييع جنازته؟ وتعزية أهله؟
أجمع الفقهاء على أنه تحرم الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، لكفره(2)، ولأنه لا تقبل فيه شفاعة ولا يستجاب فيه دعاء، وقد نهينا عن الاستغفار له، لقوله تعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (التوبة : 84).
__________
(1) عمدة القاري 8/21-22
(2)موسوعة الإجماع 2/181 المجموع5/144
(1/117)
---
ص:118(1/82)
والذي نطمئن إليه، أن الكافر البعيد إذا لم يكن له مَن يقوم بأمره من الكفار، للمسلمين غسله وتكفينه، ودفنه، ومواراته.. أما الكافر القريب، فللمسلم غسله وتكفينه ودفنه، وجد من يقوم بذلك أو لم يوجد، من باب صلة الرحم، ومراعاةً لمشاعر القرابة، إذ لا نص يمنع من ذلك. وخاصة إذا كان مسالمًا غير حربي، بل لقد صح أن عليًّا غسل أباه ودفنه بإذن من النبي(1) عليه الصلاة والسلام.. أما الغريب فالأولى والأسلم للمسلم أن ينأى عن ذلك، إلا إذا كانت هناك مصلحة شرعية، أو لم يكن من يقوم من الكفار بذلك، احترامًا لإنسانيته.
فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كفّن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول (رأس الكفر والنفاق)، بناءً على طلب ولده عبد الله(2).
قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك تطييبًا لقلب ولده، وإكرامًا له (وهو صحابي).
أما اتباع جنازة غير المسلم، فإن كان قريبًا وليس له مَن يقوم فيه، اتفقوا على أن للمسلم تشييع جنازته واتباعها.
وقال الحنابلة : يركب المسلم دابته ويسير أمامه(3).
__________
(1)حديث صحيح رواه أبوداود والنسائي.انظر: مصنف عبدالرزاق6/39إرواء الغليل2/270
(2) هو عبد الله بن عبدالله بن أبي الأنصاري، من فضلاء الصحابة وخيارهم قتل في اليمامة،سنة 12هـ الإصابة والاستيعاب بهامشه 2/335
(3)المغني والشرح 2/315 وانظر: البيان والتحصيل2/248
(1/118)
---
ص:119
قلت : إذا صح القول به في دار الإسلام -فيما إذا سلمنا به- فلا يصح أن يقولوا به في دار الكفر، حيث إن المسلمين هناك قليلون مستضعفون، وقد يصيبهم من جراء ذلك ضرر.(1/83)
وقد قال ابن تيمية : (لو أن مسلمًا بدار حرب، أو بدار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة) (1). أما إذا لم يترتب على ذلك ضرر فيتعين.
وقال ابن عباس : وما عليه لو اتبعها(2).
فإذا كان في اتباع جنائزهم مصلحة دينية، أو درء مفسدة، فلا شك في جوازه، سواءً أكان الميت قريبًا أم بعيدًا، ويسلك المسلم عندئذ في تشييعها من حيث المشي أمامها أم خلفها ما يراه مناسبًا.
أما إذا لم يكن قريبًا، ولم تكن هناك مصلحة دينية مرجوة، أو دفع ضرر عن نفسه أو ماله، أو عياله، فذهب الحنفية والشافعية إلى صحة اتباع المسلم لجنازة الكافر(3)، وذهب المالكية والحنابلة إلى خلاف ذلك.
__________
(1) مهذب اقتضاء الصراط المستقيم ص:315باختصار
(2)مصنف عبد الرزاق 6/40
(3)الفتاوى الهندية 1/163 المجموع5/153
(1/119)
---
ص:120
ويمكن أن يُعزي أهله على ما أجازه الجمهور(1). واستحبوا أن يقال في تعزية المسلم بالكافر : (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك).
وفي تعزية الكافر بالمسلم : (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك).
وفي تعزية الكافر بالكافر : (أخلف الله عليك) (2).
ثامنًا : القيام لجنازة غير المسلم :
أما القيام لجنازة الكافر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قام لجنازة يهودي مرت به حتى توارت، وقام معه أصحابه.
فقال الصحابة : يا رسول الله! إنها يهودية. فقال : (إن الموت فَزَع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا). وفي رواية أخرى : (أليست نفسًا) (3).
قال بعض السلف : يجب القيام للجنازة إذا مرت.(1/84)
وقال القرطبي : (ومعنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن الموت فزع)، أي يفزع منه، إشارة إلى استعظامه.. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت. فمن ثَمَّ يستوي فيه كون الميت مسلمًا أو غير مسلم؟)
__________
(1)الفتاوى الهندية1/167شرح روض الطالب 1/335 الوسيط في المذهب2/827 المغني والشرح 2/410
(2)المراجع السابقة نفسها وانظر: الأذكار للنووي ص:127
(3)متفق عليه، البخاري،باب الجنائز2/87ومسلم بشرح النووي7/28
(1/120)
---
ص:121
وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها، ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال واللامبالاة.
وذهب جماعة من العلماء(1) إلى أن القيام مستحب غير واجب.
وعند المالكية جائز لا واجب.
وهناك مسألة : إذا مات كافر فشهد عدل بأنه أسلم قبل موته، ولم يشهد غيره، فهل يحكم بشهادته في توريث المسلم ومنع الكافر؟ وهل تقبل شهادته في الصلاة عليه؟
قال النووي في المجموع : لا خلاف أنه لا يحكم بشهادته في توريث قريبه المسلم وحرمان قريبه الكافر.
(وأما في الصلاة عليه فوجهان) (2).
رجح القاضي حسين من الشافعية عدم قبولها في الصلاة عليه(3).
قلت : صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه ليبلّغ عنه القبائل والأصحاب في العقائد وغيرها.
وعليه فلا يصح أن يترك لمن شهد له مسلم عدل بأنه أسلم، للمخالفين ليجروا عليه ما يسمى (بمراسيم الدفن) على حسب دينهم.
__________
(1)منهم النووي، وابن حجر، والقرطبي، والمتولي.
(2)5/259
(3)المجموع6/281
(1/121)
---
ص:122
المطلب الثالث : الصيام
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في إثبات رؤية الهلال، وهل يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية؟(1/85)
نقل إلينا فقهاؤنا إجماع السلف على عدم الاعتبار بقول الحسّاب، والمؤقِّتين في الأهلّة، ووجوب اعتماد الرؤية البصرية لإثبات الأهلّة(1)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (2). وقوله : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) (3).
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا المجال فقال : (يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد، مراعاةً للحديث : (صوموا لرؤيته)، وللحقائق العلمية) (4).
وذهب ابن الشخير من التابعين، والقرافي وابن الشاط من المالكية، والسبكي من الشافعية، وجماعة من العلماء المعاصرين(5) إلى القول
__________
(1)انظر: رد المحتار2/92ومواهب الجليل للحطاب2/388 وبداية المجتهد1/284 والمجموع6/273
(2)متفق عليه، البخاري،في كتاب الصوم،2/229ومسلم في كتاب الصوم 3/122
(3)متفق عليه، انظر:المرجعين السابقين
(4)انظر:مجلة المجمع العدد الثالث،2/1405 و 1085 وانظر:المناقشات والأبحاث في ذلك فيما قبل ص:1085
(5)منهم الشيخ مصطفى المراغي والشيخ مصطفى الزرقاء، انظر: كتاب: كيف نتعامل مع السنة ص:145-147 وانظر: أوائل الشهور العربية لأحمد شاكر مكتبة ابن تيمية ص:7-17
(1/122)
---
ص:123
بالحسابات الفلكية في إثبات الأهلة. وقالوا : (إن الحساب يفيد القطع، وإن الحكم باعتبار الرؤية معلل بأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، وقد انتفى ذلك، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا).
والذي أميل إليه بالنسبة للاعتماد على الحسابات الفلكية، أنه لا يعمل بها إذا تفردت، عملاً بالنصوص والحقائق العلمية التي أفادت أن اختلاف المطالع أمر مقرر.
ويرى الشيخ القرضاوي : (أنه يؤخذ بها في النفي، بأن نظل على إثبات الهلال بالرؤية، ولكن إذا نفى الحُسّاب إمكان الرؤية كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال) (1).
وهنا تساؤل : هل يصح الاعتماد على الحسابات إذا كان الحُسّاب من الكافرين؟(1/86)
تم الإجماع على عدم قبول شهادة المخالف في العبادات، والحاسب شاهد، فلو جاء كفار وشهدوا أمام المسلمين أنهم رأوا الهلال، فلا يُلتفت لشهادتهم، لأنهم ليسوا من أهل الرواية؟ ولأنهم لا يلتزمون الحكم(2). وعلى ذلك فلا يقبل قولهم في الحساب.
__________
(1)كيف نتعامل مع السنة ص:152 وللشيخ محمد الفرفوررأي آخر فيقول: نستطيع الأخذ بقول الفلكيين إذا كانت السماء غير مصحية، واحتمل ولادة الهلال ولم تحدث رؤية معتبرة، لاسيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعا وعشرين" بلغة المطالع ص:65
(2)انظر: أحكام القرآن للجصاص3/398بداية المجتهد2/462نهاية المحتاج1/266 منار السبيل 2/486
(1/123)
---
ص:124
تنبيه لابد منه :
عندما يحدّد ولاة أمر المسلمين في ديار المشركين الجهة التي تثبت الهلال لديها، ويعلنون الأخذ برؤيتها، لا يحل للمسلمين هناك أن يخالفوا، بحيث يصوم البعض على رؤية هذا البلد، وآخرون على رؤية بلد غيره، وآخرون على رؤية بلد ثالث، وهكذا.. والجميع يقيم في إقليم واحد مما يجعلك ترى في البلدة الواحدة الصائم المتبع للهند، والمفطر المتبع للسعودية أو ما شابه ذلك.
فإن في ذلك من الاختلاف المذموم بما لا يخفى، وهو أمر يمقته الله تعالى، فلا يستقيم شرعًا ولا عقلاً أن ينقسم المسلمون في منطقة واحدة على الجهة التي يعتمدون عليها في الصيام والإفطار، كما هي حالهم اليوم، فهذا ما يحرم ارتكابه وممارسته.
فإما أن يصوموا على رؤيتهم الخاصة، وإما أن يأخذوا برؤية أول بلد إسلامي، وإلا كان الاختلاف، وكان الشر.
المسألة الثانية : صيام أهل القطبين :
تقدم أثناء الكلام عن صلاة هؤلاء، أن الراجح في مواقيت الصلاة عندهم أنهم يعملون بالتقدير، إما على أقرب البلاد اعتدالاً إليهم،
(1/124)
---
ص:125
وإما على مكة أو المدينة، ولكن كيف يصومون والشمس لا تغيب عندهم إلا بعد ستة أشهر من طلوعها، ثم تغرب ستة أشهر وهكذا؟(1/87)
الحكم في صيامهم كالحكم في صلاتهم، بمعنى أنهم يقدرون يومهم وليلهم بأقرب البلاد التي يشهد أهلها الشهر، ويعرفون وقت الإمساك والإفطار، والتي تتميز فيها الأوقات، ويتسع ليلها ونهارها لما فرض الله من صوم وقيام، على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق، أو بمكة بعد أن يأخذوا برؤية أول بلد قريب، أو بمن يثقون بها من البلدان الإسلامية، ويكون صومهم أداء. ولم يخالف أحد في وجوب الصيام عليهم أبدًا.
المسألة الثالثة : صيام من يطول نهارهم جدًا :
يحدث في بعض الفصول أن يطول نهار بعض دول أوروبا(1)، ويصل إلى عشرين ساعة أو يزيد. وقد يتفق أن يأتي رمضان في ذلك الوقت على أهل تلك البلاد، وغالبًا ما يشكو المسلمون هناك من جراء الصيام من الضيق والحرج.
فهل يرخص لهم بالفطر؟ أم يعملون بالتقدير على البلاد المعتدلة وقتئذ؟
__________
(1)كألمانيا و النرويج وغيرها
(1/125)
---
ص:126
لم تناقش هذه القضية قديمًا، وإنما ناقشها فقهاء معاصرون يمكننا من خلال اجتهاداتهم أن نقول : إن هناك فريقين إزاء هذه القضية :
الفريق الأول : تمثله دار الإفتاء المصرية :
فقد أجازت لمسلمي النرويج، وغيرهم ممن شاكلهم في وضعهم، أن يصوموا على قدر الساعات التي يصومها أهل مكة أو المدينة في حال طول نهارهم وقصر ليلهم، أو أن يقدروا بأقرب البلاد المعتدلة إليهم، وأن يبدأوا بالصوم من طلوع الفجر، ويفطرون مع ميعاد البلاد التي يقدرون بها، من حيث عدد الساعات، ولا يتوقفون على غروب الشمس.
وقال الشيخ شلتوت : (صيام ثلاث وعشرين ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة، تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين، والرحمة من أرحم الراحمين) (1).
الفريق الآخر : تمثله لجنة الإفتاء في السعودية، والشيخ حسنين مخلوف.
فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بخصوص ذلك ما يلي :
(إذا تميز النهار والليل في مكان ما وجب على المكلفين من سكانه
__________(1/88)
(1)فتاوى شلتوت ص:146 و فقه ذوي الأعذار ص:65
(1/126)
---
ص:127
في رمضان أن يصوموا ويمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب شمس ذلك اليوم طال النهار أم قصر) (1).
وقال الشيخ حسنين مخلوف ما يلي :
(أما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصوم، يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى ذلك الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصيام الهلاك، أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات، أو التجربة، أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك، أو المرض الشديد، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة، وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر) (2).
والذي يترجح عندي قول الفريق الآخر، لأنه يتفق مع النصوص الآمرة بالصيام على سبيل الإطلاق بمجرد شهود الشهر، وتميز الليل
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية العدد:16ص:109-110 فتوى برقم:1108
(2)فتاوى الشيخ مخلوف 1/272 وانظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد:25 ص:32
(1/127)
---
ص:128
والنهار،فمن ذلك قوله تعالى :{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة : 185}.
فهذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو الصحيح في بدنه، أن يصوم لا محالة (1).
وقوله أيضًا :{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ[البقرة : 187}.
وهؤلاء يتميز عندهم الليل والنهار، ويتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي ضياء الصباح من سواد الليل.(1/89)
ويلاحظ أن هذه الآيات جاءت على سبيل الإطلاق فشملت كل مسلم لا فرق بين إقليم وآخر، ولا بين من كان نهاره طويلاً أم قصيرًا.
ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) (2). وهؤلاء يتميز ليلهم ونهارهم بحيث يقبل ليلهم، ويدبر نهارهم، وتغرب شمسهم كل أربع وعشرين ساعة، والحكم منوط بذلك.
__________
(1) ابن كثير 1/381 دار الأندلس
(2)متفق عليه ،البخاري، في كتاب الصوم 2/240 واللفظ له، و مسلم، 2/132 و كلاهما عن ابن عمر
(1/128)
---
ص:129
المبحث الرابع : المعاملات
((المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات))
إن الإسلام دين استوعب الحياة كلها بتشريعاته، فنظّم علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، أفرادًا وجماعات.
ولما كان الإنسان لا تسعه العزلة، ولا يمكنه أن يحقق أمور معاشه إلا من خلال تبادل المنافع مع الآخرين، فقد وضع الشرع ضوابط تحكم أمور التعامل، وبناها على أسس سليمة قائمة على الحق والعدل، دونما حرج أو عنت.
المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المعاملات : هي الأحكام الشرعية المتعلقة بأمر الدنيا، لتصريفها وصيانتها، كالبيع والشراء والإجارة ونحوهما.
وهناك نصوص وقواعد تجيز التعامل مع غير المسلمين :
من القرآن : قوله تعالى :{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران : 75}.
(1/129)
---
ص:130(1/90)
ومن السنة : ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعه(1).. وثبت أنه اشترى سلعة من يهودي إلى الميسرة(2).
وما رواه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال : (كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم جاء رجل مشرك بغنم يسوقها فاشترى منه النبي صلى الله عليه و سلم شاة(3)). وغير ذلك من النصوص.
ومن عمل الصحابة : أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : (كاتبت أمية بن خلف(4) كتابًا بأن يحفظني في صياغتي (أي أهلي ومالي) بمكة، وأحفظه في صياغته بالمدينة) (5).
ومن الإجماع : (أجمع المسلمون على جواز معاملة المسلمين الكفارَ إذا وقع ذلك على ما يحل) (6).
ومن أقوال العلماء : جاء في كشف الأسرار على أصول البزدوي : (ولهذا كان الكافر أهلاً لأحكام لا يراد بها وجه الله (أي لا تحتاج إلى نية
__________
(1)رواه البخاري في كتاب الرهن،3/116 سنن النسائي/303
(2)أحكام أهل الذمة 1/269
(3)رواه البخاري،في كتاب البيوع،باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب 3/38
(4)ابن وهب من بني لؤي ، أحد جبابرة قريش،أدرك الإسلام ولم يسلم، قتل يوم بدر.الأعلام 2/22
(5)رواه البخاري، في كتاب الوكالة3/60
(6)موسوعة الإجماع 1/445
(1/130)
---
ص:131
كالعبادات)، مثل المعاملات... لأنه أهل لأدائها، إذ المطلوب من المعاملات مصالح الدنيا، وهم (أي الكفار) أليق بأمور الدنيا من المسلمين، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة) (1).
قال ابن بطال : (معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين).
وقال ابن حجر : (تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم) (2).
فدلت الآيات والأحاديث والآثار وأقوال العلماء بمجموعها، على جواز التعامل مع الكتابي والوثني.
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات(1/91)
المسألة الأولى : حكم التعامل بالربا في دار غير المسلمين :
ذهبت جماهير العلماء إلى أن الربا حرام، قليله وكثيره سواء، لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْن، أو مسلم وحربي، وسواء
__________
(1)4/1362 وانظر المبسوط 10/84 المنثور في القواعد للزركشي3/99 الأشباه للسيوطي ص:254
(2)فتح الباري 9/280
(1/131)
---
ص:132
دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغيره، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وأبو يوسف وغيرهم، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة(1).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عموم الأخبار القاضية بتحريم الزيادة والتفاضل، والتي لم تقيد التحريم بمكان دون مكان، أو بزمان دون زمان، بل جاءت مطلقة وعامة، ومن هذه الأدلة العامة قوله تعالى :{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة : 275}.
وقوله :{وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[البقرة:278}.
ومن الأخبار قول النبي صلى الله عليه و سلم : (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منهن الربا(2).
فكل هذه النصوص تفيد تحريم الربا على سبيل العموم، من غير تفصيل ولا تخصيص.
2- ما كان محرمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالربا بين المسلمين وسائر المعاصي.
3- القياس على المستأمن الحربي الذي يدخل دارنا بأمان، فقد
__________
(1)انظر: البحر الرائق 6/147 الرد على سير الأوزاعي ص:96 المجموع 9/290 الإنصاف 5/52 روضة الطالبين 3/395 المغني والشرح 4/ 162
(2) رواه البخاري ومسلم و أبوداود والنسائي، الترغيب 3/3
(1/132)
---
ص:133
أجمعوا على حرمة التعامل معه بالربا، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب فلا يجوز التعامل معهم بالربا.(1/92)
قال الشافعي : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة) (1). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر) (2).
وقال الشوكاني : (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية) (3).
المسألة الثانية : هل للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر فيما هو معصية عندنا؟
صورة هذا التساؤل : أن يؤجر المسلم نفسه لكافر، لبناء معبد للشرك، أو حمل محرم كخمر، أو ميتة، أو خنزير، أو بيعه، أو أن يعمل عنده في معاملات ربوية، أو في مصانع تنتج محرمات، أو ما شاكل ذلك.
فقد ذهب الجمهور إلى حُرمة أن يؤجر المسلم نفسه لكافر في عمل كهذا. فقد سئل الإمام مالك : المسلم يؤجر نفسه للكافر يحمل له خمرًا، فقال : (لا تصلح هذه الإجارة). وقال : (بل لا يعطى عليها إجارة).
__________
(1)الأم 4/248
(2)انظر: الأم 7/355
(3)السيل الجرار 4/552
(1/133)
---
ص:134
والقول بأنه لا يعطى عليها الأجر، رواية عن أحمد(1).
وفي المدونة عن ابن القاسم فيمن رعى خنازير لكافر، قال : تؤخذ الإجارة من الكافر، ويتصدق بها على المساكين أدبًا للكافر، ولا يعطاها المسلم بل ويضرب أدبًا له(2).
وسئل الإمام أحمد : أيبني مسلم للمجوس ناووسًا؟ فقال : لا يبني لهم. وقاله الآمدي، وكرهه الشافعي(3)، ومثله الكنيسة، وما يماثلها عند أهل الكفر(4).
وأما العمل في معاملات ربوية فمحرم، لحديث جابر : (لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال : (وهم فيه سواء) (5).
قال النووي : (هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المرابين والشهادة عليهما) (6). وفي الحديث أيضًا تحريم الإعانة على الباطل أيًّا كان نوعه(7).
__________
(1)أحكام أهل الذمة 1/279
(2)المدونة 4/465-466
(3)كفاية الأخيار1/585 أحكام أهل الذمة 1/275الآداب الشرعية 2/273-274
(4)مغني المحتاج4/254(1/93)
(5)متفق عليه ، سبل السلام3/842
(6)شرح النووي لمسلم 11/26
(7)السراج الوهاج6/53
(1/134)
---
ص:135
والنص هنا عام مطلق، بلا فرق بين من عمل بذلك في دار الإسلام أم في دار الكفر.
نخرج من هذا إلى أنه يحرم على المسلم أن يبني للمشركين دارًا للكفر، أو أن يعمل لديهم ببيع خمر، أو بيع خنزير أو أي محرم آخر، لأنها أفعال محرمة.
فإذا اضطر لذلك جاز، ولكن فليعمل بقاعدة : (الضرورة تقدر بقدرها) فلا يتجاوز قدر الحاجة، ولا يتوسع في ذلك، وليكتف بالكفاف، وليعمل جاهدًا للخروج من هذا الواقع.
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بحرمة العمل في المطاعم من غير ضرورة (أي المطاعم التي تقدم الخمر والخنزير)، وبحرمة تصميم معابد شركية، أو الإسهام فيها.
وأما إذا اضطر للعمل في تلك المطاعم فيجوز، بشرط ألا يباشر نفسه سقي الخمر أو حملها، أو صناعتها، أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير، ونحوها من المحرمات(1).
وعلى ذلك يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر بشروط منها :
1- أن يكون عمله مباحًا.
__________
(1)مجلة المجمع العددالثالث 2: 1401-1406
(1/135)
---
ص:136
2- أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين.
3- ألا يشتمل على مذلة وإهانة.
المسألة الثالثة : حكم استقراضهم، واستيداعهم، والاستعارة منهم :
أولاً : استقراضهم :
الاستقراض هو طلب القرض، والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره(1) أنه لما توفي والد جابر بن عبد الله، ترك على جابر ثلاثين وسقًا(2) لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشفع له إليه...الحديث.
فدل عدم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الاستقراض من المخالفين، على جواز استقراضهم، وأنه لا حرج في ذلك.(1/94)
ولكن لابد من الإشارة إلى أنه إذا جر الاستقراض إلى الركون إليهم، وموالاتهم والتذلل لهم، فإن : (ما أدى إلى الحرام فهو حرام)، وكذلك إذا تضمن عقد الاستقراض شرطًا محرمًا(3).
__________
(1)في كتاب الاستقراض 3/84
(2)الوسق:بفتح الواو وكسرها: مكيلة تساوي ستين صاعًا، والصاع قدر بنحو:5 .2كلغ وجمعها: أوسق، و:أوساق،ووسوق.
(3)انظر: الاستعانة بغير المسلمين ص:227
(1/136)
---
ص:137
ثانيًا : استئمانهم واستيداعهم :
الأصل في ذلك قوله تعالى :{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران : 75}.
قال الشوكاني : معنى الآية أن أهل الكتاب منهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، ومنهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة.. ومن كان أمينًا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنًا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى(1).
قال بدر الدين العيني عند كلامه على استئجار النبي صلى الله عليه و سلم رجلاً من بني الدَّيل هاديًا يوم الهجرة : (فيه ائتمان أهل الشرك على السر والمال، إذا عُهد منهم الوفاء والمروءة، كما استأمن رسول الله هذا المشرك) (2).
وفي الآداب الشرعية : (إذا احتاج المسلم إلى ائتمان كافر، فله ذلك) (3).
__________
(1) تفسير الشوكاني 1/353
(2)عمدة القاري 12/82
(3)2/463
(1/137)
---
ص:138
ثالثًا : الاستعارة منهم :(1/95)
الاستعارة طلب الإعارة.. والعارية : ما تعطيه غيرك لينتفع به، على أن يعيده نفسه إليك. والأصل في ذلك ما رواه أبو داود وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعار من صفوان درعًا يوم حنين، فقال صفوان : أغصبًا يا محمد؟ فقال : (لا، بل عارية مضمونة) (1).
فدلت الواقعة على جواز الاستعارة من الكفار، لأنها من جملة العقود، والإسلام ليس شرطًا في العاقدين، ثم الأصل في المعاملات الإذن والإباحة، إلا ما دل الدليل على التحريم، ولا دليل هنا. (ولأنه ليس فيها ولاية، ولا تسلط على المسلم، بل هما كالبيع والشراء ونحوهما) (2).
المبحث الخامس : النكاح
((- المطلب الأول : حكم نكاح الكتابية في دار الكفر
- المطلب الثاني : حكم النكاح المؤقت نية دون إظهاره))
المطلب الأول : حكم نكاح الكتابية في دار الكفر
لقد أحل الله نكاح المحصنات من أهل الكتاب مطلقًا، سواء كن في دار الإسلام أم في دار الكفر.
قال ابن المنذر : (ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك) (3).
__________
(1)أبوداود،كتاب البيوع،باب تضمين العارية3/396والنسائي وأحمد، وصححه الحاكم،سبل السلام3/902
(2)الاستعانة بغير المسلمين ص:227
(3)المغني والشرح 7/500وقارن بما في فتح القدير لابن الهمام3/229وزروق والتنوخي2/41 تفسير المنار6/208-217
(1/138)
---
ص:139
وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (ينكح المسلم النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة) (1).
وقول عمر هذا أصح سندًا من نهيه عن تزويجهن(2).
والآية التي تحل للمسلمين نكاح المحصنات من أهل الكتاب هي :{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ[المائدة : 5}.(1/96)
والإحصان في كلام العرب وتصريف الشرع، مأخوذ من المنعة، ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء : الإسلام، والعفة، والنكاح، والحرية.
ويمتنع الإحصان أن يكون بمعنى الإسلام في هذا الموضع، لأن الآية قد نصت على نساء أهل الكتاب (من قبلكم).
ويمتنع أيضًا أن يكون النكاح، لأن ذات الزوج لا تحل، فلم تبق إلا الحرية، والعفة. فاللفظة تحتملهما.
وقد اختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال إلى فريقين :
الفريق الأول : وهم المذاهب الثلاثة الأوائل فقد قالوا :
__________
(1)سنن البيهقي 7/127موسوعة فقه عمر ص:645
(2)الطبري 2/222 وابن كثير1/265
(1/139)
---
ص:140
إن المراد بالآية الحرائر دون الإماء، وأجازوا نكاح كل كتابية حرة، عفيفة كانت أو فاجرة.
قال الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : عَنى بقوله تعالى : (والمحصنات من الذين أتوا الكتاب) حرائر أهل الكتاب... فنكاحهن حل للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية) (1).
وقال الحنفية : (وحل تزويج الكتابية العفيفة عن الزنا، بيانًا للندب لا أن العفة فيهن شرط) (2).
الفريق الثاني : ذهب إلى أن المراد بـ (المحصنات) العفيفات، وحرموا نكاح البغايا من الكتابيات.
وهو قول عمر، وابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، والثوري، والسدي، والحسن، والنخعي، وهو قول الحنابلة، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي(3)، وجماعة من المعاصرين(4).
__________
(1)الطبري 6/69بتصرف،وانظر:فتح القدير3/229 المحرر الوجيز4/359 المقدمات 1/465 الأم4/269،نظم الدرر 6/25تفسير البغوي2/13زاد المسير 2/296الدر المنثور 2/261
(2)البحر الرائق 3/110
(3)انظر:ابن كثير2/20 و أحكام أهل الذمة2/419ومحاسن التأويل4/83(1/97)
(4) انظر: في ظلال القرآن2/848فقه السنة 2/93 الحلال والحرام للقرضاوي ص:153 مجموع رسائل ابن محمود 1/423 فتاوى إسلامية لمجموعة من علماء السعودية2/359 نظرية الضرورة جميل بن مبارك ص:398
(1/140)
---
ص:141
ويترجح لديّ القول الأخير، وهو أن المراد بالمحصنات : العفيفات، لعدة أدلة :
أولاً : لأن الله تعالى أباح لمن لم يجد الطَوْل (اليسار والغنى)، أن ينكح الأَمَة المؤمنة المحصنة، بقوله : (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات (الحرائر) المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتيكم المؤمنات)، ثم قيّد سبحانه تلك الفتيات المؤمنات بقوله : (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) (النساء : 25).
ومعنى الإحصان هنا العفة، إذ غير ذلك من معاني الإحصان بعيد. والمسافحات هنا : الزانيات اللواتي هن سوق للزنا.
ثانيًا : أن الله تعالى شنّع على ناكحي الزانيات بقوله : (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (النور : 3).
حتى إن ثلة من العلماء ذهبوا إلى القول بحرمة نكاح الزانية ولو مسلمة، قبل إعلان توبتها. فكيف إذا كانت تلك المومس الفاجرة من أهل الكتاب؟
ثالثًا : صح أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر أن خلّ سبيلها، فكتب إليه حذيفة : إن كان حرامًا خليتُ سبيلها. فكتب إليه
(1/141)
---
ص:142
عمر : إني لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات (الفاجرات) منهن(1).
رابعًا : أن الله سبحانه وتعالى ذكر الطيبات في المطاعم، والطيبات في المناكح في الآية (المائدة : 5). والزانية خبيثة بنص القرآن.(1/98)
ويمكن القول : إنه على الرغم من أن إجماع الأمة قد تمّ على حل الكتابية من حيث الجملة، إلا أن الإجماع أيضًا قد وقع على أن نكاح المسلمة أفضل بكثير من نكاح الكتابية، بل هي أولى لتمام الألفة من كل وجه، إذ أنها تشاركه عقيدته، وفكره، ومنهجه، فتعينه على طاعة ربه، تذكّره إذا نسي، وتشحذ همته إذا قصر، وتخوّفه بالله إذا همّ بمعصية، وتكون له نعم الشريك في إعداد الجيل، فإذا بنى أكملت وحسّنت، وإذا غاب عن بيته اطمأن له ولأسرته، وقامت هي بالمهمة كاملة.
وفي أفضلية نكاح المسلمة يقول الله تعالى : (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) (البقرة : 221). ويقول : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة : 71). ويقول النبي صلى الله عليه و سلم : (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (2).
__________
(1)رواه البيهقي في السنن الكبرى 7/127، وابن أبي شيبة 4/158و سعيد بن منصور الجزء الأول من المجلد الثالث ص:224 وإسناده صحيح"إرواء الغليل 6/301
(2)متفق عليه، سبل السلام 3/976 ومعني تربت يداك: أي التصقت بالتراب، وهي كلمة جاءت في كلام العرب على صورة الدعاء، و لا يراد بها الدعاء، بل يراد بها الحث والتحريض.
(1/142)
---
ص:143
ولن نجد غالبا امرأة غير مسلمة ملتزمة، تستشعر قول النبي صلى الله عليه و سلّم:" والمرأة راعية في بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم"(1)
والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وماهو تحت نظره..وهل تستطيع الكتابية ولو أمينة أن تصلح ما تقدم عليه، وفق معايير الشرع الإسلامي؟
ومن هنا نهى كثير من العلماء عن الزواج بالكتابيات، "لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني"(2).(1/99)
وهذه الكراهة أساسها اختلاف الدين، لما يترتب عليه من ضياع دين الأولاد وأخلاقهم، ولما تقيم من شعائرها الدينية أمامهم، ثم إنها تشرب الخمر و تتغذى بالخنزير و تغذي ولدها من لبنها و يقبلها زوجها و يضاجعها، وهي على ما تقدم، بالإضافة إلى الحيف الذي يقع على المسلمات في تلك الديار من الإعراض عنهن، والإقبال على غيرهن.
فإذا كان الزواج من الكتابية وهي تحت سلطاننا لا يخلو من مفاسد في الغالب،فبديهي أن الزواج بها في بلاد الكفر أشد خطراو أكثر ضررا.
و يزيد الوضع تفاقما و فسادا من جراء الزواج من كتابيات في دار المخالفين، انشغال الأب طوال يومه، و بُعده عن ذريته الضعفاء، وبالتالي تتولى الأم الكتابية القيام بتربيتهم و مسؤولياتهم، وعندئذ ماذا سننتظر من ذلك النشء؟.
__________
(1)انظر:البخاري،كتاب الإمارة، ومسلم أيضًا في كتاب الإمارة
(2)تفسير ابن كثير1/257
(1/143)
---
ص:144
المطلب الثاني : حكم النكاح المؤقت نية دون إظهاره
وصورة هذا النوع : أن رجلاً تغرّب عن دياره ولم ينو إقامة طويلة في تلك الديرة، وفي الوقت ذاته خاف على نفسه من المغريات الجنسية، فنكح امرأة بنية الأجل، ولم يصرح لها بذلك، فما حكم هذا النكاح؟
جاء في شرح الموطأ للزرقاني : (وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، أنه جائز ليس بنكاح متعة). وقال الأوزاعي : (هو نكاح متعة ولا خير فيه.. قاله عياض) (1).
وفي المغني:" و إن تزوجه بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد،فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم و أنه لا بأس به، و لا تضر نيته(2).
وقد ذهب إلى القول بالكراهية المالكية والشافعية.قال مالك:" ليس هذا من الجميل و لا من أخلاق الناس".(3)(1/100)
قلتُ : ويؤكد هذه الكراهة ما يترتب على العقد من غش للمرأة التي جهلت نية الرجل، وخداعها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : (من غش فليس مني) (4)، وكان سفيان بن عُيينة يكره تفسير الحديث، ويقول : (نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر) (5).
((وردت في نسخة الشبكة زيادة ليست في المطبوع وهي كما يلي:
وقول الجماهير فيما إذا لم تفهم المرأة المراد نكاحها مقصود الرجل، فإن فهمت مراده فعند المالكية قول بالبطلان().
قلت : لا يضر علمها بالنية، سواء كان قبل النكاح أم بعده، بشرط ألا يصرح لها، لأن الرجل قد ينكح ونيته أن يفارقها، ثم يبدو له فلا يفارقها.
وعند الشافعية : (وإن قدم رجل بلدًا، وأحب أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يومًا أو اثنين أو ثلاثة، كانت على هذا نيته دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معًا دون نية الولي، غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقًا لا شرط فيه، فالنكاح ثابت ولا تُفسد النية من النكاح شيئًا، لأن النية حديثُ نفسٍ، وقد وُضع عن الناس ما حدّثوا به أنفسهم) ().
وفي المذهب عند الشافعية : كراهة ذلك، لأنه لو صرح لبطل النكاح().))
__________
(1)الزرقاني على الموطأ3/136
(2)المغني والشرح 7/573
(3)البيان والتحصيل4/309
(4)رواه مسلم في صحيحه شرح النووي2/109
(5)سبل السلام 3/830 السراج الوهاج 6/35
(1/144)
---
ص:145
فهل يرضى هذا العمل أحدٌ لبناته أو أخواته أو... فإذا كنا لا نقبله لأنفسنا فكيف نقبله لغيرنا، وقد جاء لفظ النبي صلى الله عليه و سلم : (من غش) على سبيل العموم، فشمل كل غش، وقد أجمع العلماء على تحريم الغش(1).
ثم إن عملاً كهذا يضر بسمعة الإسلام في مجتمعات مخالفيه، فيُشاع عن المسلمين أنهم قوم لا أخلاق لهم، وفي هذا من الضرر بالدعوة ما لا يخفى على كل ذي لب.(1/101)
وإذا خشي المرء على نفسه الضياع، فلينو الدوام وهذا الأصل، فإن طرأ بعد ذلك طارئ شرعي فليلجأ إلى التسريح بإحسان.
المبحث السادس : العادات والحياة اليومية
((- حكم صلة المشركين
- حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
- حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم
- حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وتعزيتهم
- حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم
- حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم
- عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها الكفار
- حكم اقتناء الكلب))
الإنسان مدني بطبعه، ينزع بفطرته إلى العيش ضمن جماعة يتفاعل معها، فينشأ عن ذلك ألوان من المواقف الاجتماعية.
ولما كان التشريع الإسلامي شاملاً مستوعبًا لشؤون الحياة كلها، فقد حوى طائفة من التشريعات في هذا المجال، ليكيف المسلم حركته بها، ويضبط سلوكه وِفْقَهَا.
__________
(1)سبل السلام 3/830
(1/145)
---
ص:146
والمسلم يتعامل مع غيره وفق عقيدته، وقيمه، وتصوراته المستمدة من دينه. وأن ما يحمله، أو يجب أن يكون عليه من قيم عالية، وأخلاق سامية، وفكر إصلاحي، هو المنبّه لسلوك الآخرين وتصوراتهم، والذي قد يتبعه تأثير في مواقفهم، أو صدور استجابة منهم، ولا سيما أنه يعيش في مجتمعات لا تستمد تشريعاتها من وحي السماء المعصوم، بل من اجتهادات البشر التي لا تنفك عن التناقض والاضطراب وسطحية النظر.
ونحن في هذا المبحث المهم قد اقتصرنا على أهم مسائله، وعليه فقد جاء على شكل فروع وتساؤلات.
الفرع الأول : حكم صلة المشركين
الأصل في ذلك قوله تعالى :{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة : 8}.
ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وقالوا في تفسيرها ما يلي :(1/102)
ففي الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عنى بذلك جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، أن الله عمّ
(1/146)
---
ص:147
بقوله مَن كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال ذلك منسوخ) (1).
وفي القرطبي : (هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، أن يبروهم ويقسطوا إليهم، أي يعطونهم قسطًا من أموالهم على وجه الصلة) (2).
وفي ابن كثير : (لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، وتحسنوا إليهم) (3).
يؤخذ من مجموع ما قيل في تفسير الآية، أن صلة الكافر وبره والإحسان إليه جائز، شرط أن يكون مسالمًا غير محارب، وصِلة غير المسلم والإحسان إليه من مكارم الأخلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (4)، (فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعًا) (5).
وتتأكد هذه الصلة إذا كانت لرحم، فقد جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه و سلم (أذن لأسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها وهي مشركة) (6).
__________
(1)المحرر الوجيز14/406التفسير الكبير29/304
(2)القرطبي18/59 وانظر: أحكام القرآن لابن العربي4/1785
(3)4/373 وانظر:تفسير أبي السعود8/238روح المعاني28/74
(4)أورده مالك في الموطأ بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الجامع، باب ماجاء في حسن الخلق. وقال ابن عبدالبر:هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، مرفوعا" تمييز الطيب من الخبيث ص:34
(5)شرح السير الكبير1/97 البحر الرائق8/232
(6)انظر: عمدة القاري13/174
(1/147)
---
ص:148
الفرع الثاني:حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
أولاً : حكم إلقاء السلام :(1/103)
ذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام على المخالفين من أهل الكتاب والمشركين، وقد فعله ابن مسعود وقال : إنه حق الصحبة. وكان أبو أمامة لا يمر بمسلم ولا كافر إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك، فقال : (أمرنا أن نفشي السلام) (1). وبمثله كان يفعل أبو الدرداء.
وكتب ابن عباس لرجل من أهل الكتاب : (السلام عليك) (2)، وكان عمر بن عبد العزيز يقول : (لا بأس أن نبدأهم بالسلام).
وذهب جمع آخر إلى المنع من إلقاء السلام على الكافرين، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه و سلم : (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام) (3).
وقالوا : في الحديث دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهود والنصارى بالسلام، لأن ذلك أصل النهي، وهو قول جمهور أهل العلم(4).
__________
(1)يعني بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: و أفشوا السلام" انظر: صحيح البخاري،كتاب الاستئذان7/128
(2)الآداب الشرعية 1/412 مصنف ابن أبي شيبة 8/628أحكام أهل الذمة 2/770
(3)رواه مسلم، سبل السلام 4/1377
(4)انظر:الهداية وشروحها6/60 روح المعاني16/99 ت:القرطبي11/112 التفسير الكبير 10/214سبل السلام4/1377
(1/148)
---
ص:149
قال ابن حجر : (والأرجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختص بأهل الكتاب) (1).
قلت : لكن النهي عن مبادرة أهل الكتاب بالسلام، معلل بكونهم يردون بـ (وعليكم السام) يعني الموت.
يؤخذ هذا التعليل مما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن رهطًا (جماعة) من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : (السام عليك)، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام : (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم)، وفي رواية أخرى : (فإن أحدهم يقول : (السام عليك) (2).
وعليه فإذا غيّر أهل الكتاب من أسلوب ردهم وألفاظهم الخبيثة، فلا مانع من السلام عليهم، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.(1/104)
فقد نهانا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك حتى لا يكون هناك مقابل (إلقاء السلام) دعاء علينا بالموت، فإذا انتفى ذلك فلا أرى وجهًا للمنع.
وهذا ما فهمه جمع من الأئمة، فقد سئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلّم عليه، فقال : إن سلمتَ فقد سلّم الصالحون، وإن تركتَ فقد ترك الصالحون قبلك.
__________
(1)فتح الباري13/283 طبعة الحلبي
(2)صحيح البخاري،كتاب الاستئذان7/133
(1/149)
---
ص:150
كل ما تقدّم من خلاف فإنه إذا كانت تحيتنا لهم (بالسلام عليكم)، أما إذا كانت بعبارة أخرى (كصباح الخير، أو مساء الخير، أو مرحبًا)، وما شابه ذلك، فلا أرى أن النهي يتناوله، وقد قال بذلك السدي، ومقاتل، وأحمد وغيرهم(1).
ثانيًا : حكم رد السلام :
اتفق أهل العلم على أنه يرد على أهل الكتاب بـ : (وعليكم) (2)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم) (3).
ولكن هل يزاد على ذلك؟
ذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز الرد على الكفار بـ (وعليكم السلام)، كما يرد على المسلم، وهو قول ابن عباس، والأشعري، والشعبي، وقتادة، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية، ولكن لا يقول : (ورحمة الله)، وقيل يجوز مطلقًا وتكون الرحمة بمعنى الهداية.
وذهب الجمهور إلى المنع من الرد بـ(وعليكم السلام). ولم يأتوا بدليل على ما ذهبوا إليه إلا بالحديث السابق.
قلت : ولكنه مقيّد بسبب، فإذا زال فلا مانع من الرد بـ (وعليكم السلام).
__________
(1)الآداب الشرعية 1/412-413
(2)موسوعة الإجماع1/154
(3)سبق تخريجه
(1/150)
---
ص:151
فيترجح قول القائلين بفرضية الرد كاملاً بالصيغة التي تصلح ردًا لتحيته.(1/105)
قال ابن القيم : (فإذا تحقق السامع أن الكافر قال له : (السلام عليكم)، فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له : (وعليكم السلام)، فإن هذا من باب العدل والإحسان، وقد قال تعالى :{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء : 86}.
الفرع الثالث : حكم القيام لهم :
ذهب جمع من العلماء إلى جواز القيام للكافر إذا كان يُقصد من ورائه مصلحة دينية كترغيبه في الإسلام، وميله إليه، بشرط ألا يقصد القائم تعظيمًا.
ومنهم من جعل القيام جائزًا لغير مصلحة، لأنه من البر والإحسان إلى الكافر، ولم ننه عنه(1).
وأما القيام للكافر بقصد دينه وما عليه من الكفر فحرام باتفاق. وأما إذا كان عرفًا ومعاملة بالمثل فلا بأس. وتقدير ذلك يرجع إلى المسلم نفسه في ديار المخالفين، فهو أدرى بعادات ذلك المجتمع وأعلم.
__________
(1) انظر: البحر الرائق 8/231 روح المعاني 28/75
(1/151)
---
ص:152
الفرع الرابع:حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم
أولا : حكم مصافحتهم :
ذهب جماعة من الأئمة إلى كراهية مصافحة الكفار(1)، منهم النخعي وأحمد وأبو يوسف.
قال النخعي : (كانوا يكرهون أن يصافحوا اليهود(2))، يقصد بذلك السلف الصالح.
وذهب آخرون وعلى رأسهم الثوري وعبد الرزاق الصنعاني، إلى أنه لا بأس بأن يصافح المسلمُ اليهوديَ والنصرانيَ(3).
وهو الراجح، الذي يقتضيه قوله تعالى:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة : 8}.
ثانيًا: حكم معانقتهم(1/106)
أما معانقتهم فلم أرَ مَن صرّح بجوازها ولا بمنعها، مع أنني أميل إلى القول بكراهتها، لأنها تعبير عن الرضا التام، والمحبة الفياضة، وهذا الشعور لا ينبغي أن يُعامل به الكافر، إلا أن يكون الكافر أبًا أو ابنًا أو جَدًّا، أو ما شابه ذلك، فلا بأس به، وليكن في المناسبات فقط.
__________
(1)المغني والشرح10/627
(2)مصنف عبد الرزاق10/372
(3)المصنف 6/117
(1/152)
---
ص:153
ثالثًا: حكم تقبيلهم
أما تقبيلهم فقد كره الحنابلة ذلك(1)، وبه أقول للسبب الذي ذكر في كراهية معانقتهم. وإن حدث ذلك فلا إثم إن شاء الله لعدم النص، إن لم يترتب عليه المحبة والرضا، التي قد تجر إلى الموالاة المحظورة.
الفرع الخامس: حكم تهنئتهم :
إذا كانت التهنئة في الأمور المشتركة كزواج، أو قدوم مولود، أو غائب، أو عافية ونحوها، لم أرَ أحدًا قد صرّح بالمنع إلا رواية عن أحمد، ولكن لما جازت عيادتهم (على ما سيأتي)، جازت تهنئتهم. قال ابن القيم : (ولكن فليحذر الوقوع في الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، مثل (أعزك الله)، وما قاربها.. أما إذا كانت التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول : (عيد مبارك)).
الفرع السادس: حكم شهود أعيادهم ومشاركتهم فيها :
لا يجوز للمسلم ممالأة الكفار على أعيادهم، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم، باتفاق أهل العلم، لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم، كانوا كالراضين المؤثرين له، فيخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع.
__________
(1)انظر: المغني والشرح7/464
(1/153)
---
ص:154
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة (اللعنة) تنزل عليهم).
وروى البخاري عنه قوله : (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم).(1/107)
وروى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو قوله : (من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتى يموت وهو على ذلك، حشر معهم).
ومن هنا أجمع العلماء على حرمة أن يُباع لهم شيء من مصلحة دينهم في يوم عيدهم، أو الإهداء إليهم(1).
قلت : لكن إذا خاف المسلم أن يترتب على عدم تهنئتهم ضرر عليه لا يمكن تحمله عادة، رخص له في مجاملتهم في الظاهر مع الإنكار القلبي.
الفرع السابع:حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم
الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أنه كان للنبي صلى الله عليه و سلم غلام يهودي يخدمه فمرض فأتاه فعاده... الحديث(2).
__________
(1)انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص:195-221 وأحكام أهل الذمة 2/722 و شرح الزرقاني على مختصرخليل3/7
(2)كتاب المرضى 7/6
(1/154)
---
ص:155
قال ابن حجر : (وفي الحديث جواز عيادة المشرك إذا مرض) (1).
وقال الماوردي : (عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة) (2). قلت : أو صحبة.
وقد عاد النبي صلى الله عليه و سلم أيضًا عمه أبا طالب في مرض وفاته، وعرض عليه الإسلام(3).
كل ذلك دل على جواز عيادة مرضى المشركين، لأنها نوع من البر، وهي من محاسن الإسلام ولا بأس بها(4).
وسئل الإمام أحمد عن عيادة الكفار، فقال : (أليس قد عاد النبي صلى الله عليه و سلم اليهودي، ودعاه إلى الإسلام) (5).
وذهب قوم إلى أن عيادة مرضى المشركين جائزة بشرط دعوتهم إلى الإسلام وإلا فلا.
قال ابن بطال : (إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فإذا لم يطمع في ذلك فلا).
__________
(1)فتح الباري3/262
(2)عمدة القاري21/218
(3)صحيح البخاري،كتاب المرضى7/6
(4)البحر الرائق 8/232
(5)أحكام أهل الذمة 1/200 وقارن بالمغني والشرح2/409
(1/155)
---
ص:156
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد تقع بعيادته مصلحة أخرى(1).(1/108)
الفرع الثامن : حكم تشييع جنائزهم، وتعزيتهم :
أولاً : حكم تشييع جنائزهم :
تقدم القول عنه عند الكلام عن الجنائز فانظره.
ثانيًا : حكم تعزيتهم :
ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أن يعزّي المسلم الكافر، وكان الثوري يقول : يعزي المسلم الكافر ويقول له : (لله السلطان والعظمة).. وكان الحسن يقول : إذا عزيت الكافر فقل : (لا يصيبك إلا خير).. وكان أبو عبد الله بن بطة يقول : يقال في تعزية الكافر : (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدًا من أهل دينك) (2).
والصحيح عندي أن للمسلم أن يختار من الأدعية ما يراه مناسبًا مما ليس فيه دعاء للميت ولا قوة للحي.
__________
(1)عمدة القاري21/218 فتح الباري10/125
(2)المغني والشرح 2/409
(1/156)
---
ص:157
وهناك قول للشافعية، ورواية عن أحمد(1) بالمنع من تعزية الكافر إلا إذا رجي إسلامهم(2).
ولا أجد دليلاً على هذا المنع، فإذا جازت عيادة مرضاهم، واعتبرناها من البر ومحاسن الإسلام، فلئن تجوز تعزيتهم أولى، سواء رجونا بذلك إسلام القوم أو بعضهم أو لا. قال تعالى:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ[الممتحنة : 8}.
الفرع التاسع:حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم
غالبًا ما تكون الزيارات بين الأسر المسلمة والمخالفة للمجاملة أو المصلحة، أو مكافأة على زيارة، فكل هذا لا مانع منه، وخاصة إذا كانت زيارة في ظاهرها، ودعوة إلى الإسلام في باطنها، فهنا يتأكد جوازها ويطلب تعميق الصلة، لتحقيق تلك الغاية الشريفة، إذ الأعمال تشرف بشرف غاياتها.
وأما إذا كانت لمجرد تفقد الأحوال، فأرى عدم كراهيتها، إلا إذا زادت عن وضعها الطبيعي، وتجاوزت الحد المعقول، لأنه يجب أن يكون
__________
(1)شرح روض الطالب 1/335 المغني والشرح2/409
(2)انظر:البحر الرائق 8/232 المجموع 5/305مصنف عبد الرزاق6/42
(1/157)
---
ص:158(1/109)
هناك حواجز نفسية وشعورية في نفس المؤمن تجاه مخالفه، فلا يتداخل معه ذاك التداخل المؤدي إلى التوادد والتحابب والتراضي المنهي عنه.
والدليل على جواز زيارة المشركين قوله تعالى :{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة : 8}.
الفرع العاشر:حكم تكنيتهم
الأصل في ذلك ما رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر عبد الله ابن أبيّ بن سلول رأس المنافقين بكنيته وهي : (أبو حُباب) (1).
قال العيني : وقول النبي عليه الصلاة والسلام ذاك لم يكن للتكرمة، بل قد تكون للشهرة(2).. وعن الثوري أن عمر كنى (الفرافصة) وهو نصراني بأبي حسّان(3). وقال أحمد لطبيب نصراني : يا أبا إسحاق(4).
فدل ذلك على جواز أن يُكنى المشرك بما يُعرف به من كنيته فقط، ولا يتعدى ذلك، كأن يكنيه كنية شريفة تشعره بالعزة، فهذا يكره.
__________
(1)صحيح البخاري،كتاب الأدب7/120
(2)عمدة القاري18/156 وفتح الباري9/300طبعة الحلبي
(3)مصنف عبد الرزاق10/373
(4)المغني والشرح 10/610
(1/158)
---
ص:159
الفرع الحادي عشر: حكم قبول هديتهم والإهداء إليهم :
الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها(1). وقد قَبِلَ هدية ملك إيله(2)، وهي بغلة بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه و سلم بردة(3).. وأن (أكيدر دومة) (4) أهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام جبة سندس(5)، وأهدى له (المقوقوس) جارية.
وهناك من أهل العلم من كره قبول هدية المشركين.
وعليه فلو أهدى كافر لمسلم هدية فلا حرج عليه من قبولها، وكان عليه أن يثيبه عليها قدر الإمكان، حتى لا تبقى للكافر على المسلم يد ونعمة.(1/110)
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم في أسرى بدر : (لو كان المطعم بن عدي حيًا، وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (6)، مكافأة له على جهده في نقض الصحيفة، وقيل : مكافأة له على حماية النبي صلى الله عليه و سلم يوم عودته من الطائف.
__________
(1)صحيح البخاري،كتاب الهبة 3/133
(2)إيله: بلد على ساحل البحر الأحمرمما يلي الشام
(3)رواه الشيخان،عمدة القاري13/168
(4)دومة الجندل: بلدة في شمالي الجزيرة العربية قرب تبوك، و أكيدر ملكها وهو من كندة. فتح الباري5/231
(5) رواه مسلم والنسائي. عمدة القاري13/168
(6)رواه البخاري. سبل السلام 4/1357
(1/159)
---
ص:160
نخرج من هذا إلى القول بجواز قبول هدية المشركين، والإثابة عليها، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه و سلم، وأنه لا مانع من قبول هداياهم في يوم عيدهم، وإنما المحظور باتفاق، الإهداء لهم كما سبق.
أما قبول هدية مَن كان غالب ماله الحرام، فرخص فيها قوم منهم الزهري ومكحول، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعامل أهل الكتاب والمشركين، ويقبل هداياهم مع علمه بأنهم لا يجتنبون الحرام، وكرهته طائفة مطلقًا(1).
أما مَن علم أن ما أُهدي إليه هو من الحرام بعينه، فهو محرم بالإجماع(2).
الفرع الثاني عشر:عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة
الأصل في ذلك قوله تعالى :{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ[النور : 31}.
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المراد من قوله تعالى :{أَوْ نِسَائِهِنَّ} أنهن المؤمنات المختصات بالصحبة والخدمة، وكأنه تعالى قال : أو صنفهن.(1/111)
__________
(1)عمدةالقاري12/18 جامع العلوم والحِكَم ص:66-67
(2)جامع العلوم والحِكَم ص:67
(1/160)
---
ص:161
وعليه فليس للمؤمنة أن تتجرد عن بعض زينتها بين يدي مشركة، لئلا تصفها لزوجها، فإنها أي المشركة لا يمنعها من أن تصفها لزوجها مانع بخلاف المسلمة، وقالوا : إن المرأة الكافرة ليست من نسائنا وأجنبية في الدين، وهو قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، ومكحول، وابن جريج وغيرهم.
والمعتمد عند الشافعية أن للمسلمة أن تكشف أمام المشركة ما يبدو عند المهنة عادة، أي الرأس والعنق واليدين إلى العضدين والرجلين إلى الركبتين(1). وهو مذهب الحنابلة(2).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما صح من أن نساء كوافر قد كنّ يدخلن على أمهات المؤمنين، ولم يكنّ يحتجبن ولا أمرن بحجاب.
2- ما رواه عطاء أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لما قدموا بيت المقدس، كان قوابل (جمع قابلة، وهي المرأة التي تساعد الوالدة عند الولادة وتتلقى الولد) نسائهن اليهوديات والنصرانيات.
3- أن الحجاب إنما يجب بنصّ أو قياس، ولم يوجد واحد منهما.
__________
(1)الجمل على شرح المنهج 4/124 التفسير الكبير23/208 محاسن التأويل12/196
(2)الغني والشرح 7/464
(1/161)
---
ص:162
وقال الألوسي : (وهذا القول أرفق بالناس اليوم، فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الكافرات) (1).
وأما قوله تعالى : {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فيحتمل أن يكون المراد جملة النساء.. وقول السلف محمول على الاستحباب، وهو الراجح إن شاء الله، لسلامة الأدلة ورجحانها.
الفرع الثالث عشر : عورة المسلمة بالنسبة لأقاربها الكفار :(1/112)
القريب الكافر إما أن يكون مَحْرما وإما أن يكون غير مَحرم، فإن كان محرمًا كأخيها وأبيها وجدّها وعمها، وما شاكل ذلك، فلها أن تُبدي زينتها أمامه، وإن كانوا كفارًا، لعموم قوله تعالى :{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ[النور : 31} إن لم يكونوا إباحيين، وإلا فلا، لأن الإباحي لا يفرق بين من تحل له ومن تحرم عليه.
وكذلك للمسلم أن ينظر إلى زينة النساء اللاتي يعتبرن من محارمه الكافرات لعموم الآية السابقة، لاتحاد مشاعر الرجال تجاه محارمهم، ودون تفريق بين كونها مسلمة أو غير مسلمة.
__________
(1)روح المعاني18/143
(1/162)
---
ص:163
وأما إن كان القريب غير محرم لها، فيحرم عليها أن تبدي شيئًا من زينتها وعورتها أمامه، لعموم الأدلة.
الفرع الرابع عشر:حكم اقتناء الكلاب
مما لا يخفى على مَن زار بلاد الكفر، وخاصة ديار الغرب منها، أن الكلاب توجد هناك بكثرة، على مختلف أشكالها وألوانها وأنواعها، حتى أنهم من شدة ولوعهم في هذه الطائفة من البهائم أقاموا لها جمعيات ترعى أحوالها وتدافع عن حقوقها، وتؤمن لها الرعاية والعناية الكاملة(1)، حتى إنك لا تكاد تجد بيتًا يخلو من كلب أو قطة.
فما حكم اقتناء الكلب؟
الأصل في ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (من أمسك كلبًا، فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط (والقيراط قدر معلوم عند الله)، إلا كلب غنم، أو حرث، أو صيد).. وعند مسلم : (ينقص كل يوم من عمله قيراطان)(2). فدل الحديث على عدم جواز
__________
(1)بلغ استهلاك الكلاب والقطط في أمريكا عام 1989م ثلاثة مليارات من الدولارات. انظر: مجلة "الخيرية" العدد الثامن ص:47
(2) متفق عليه، البخاري،كتاب المزارعة 3/66 ومسلم،كتاب المساقاة،شرح النووي 10/234
(1/163)
---
ص:164(1/113)
اقتناء الكلاب لغير الماشية أو الزرع أو الصيد(1)، إذا لم يكن عقورًا (أي يعضّ)، أو كَلَبًا(2)، لأن العلماء قد أجمعوا على قتل هذين النوعين من الكلاب(3)، وأجمعوا أيضًا على أن من اقتنى الكلب إعجابًا بصورته، أو للمفاخرة، فهو حرام بلا خلاف(4).
وذهب ابن عبد البر إلى أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : (ينقص من عمله)، أي من أجر عمله، ما يشير إلى أن اتخاذه ليس بمحرم، لأن ما كان اتخاذه محرمًا امتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أو لم ينقص، فدل ذلك على أن اتخاذه مكروه لا حرام.
قلت : هو محجوج بالإجماع.
وقال ابن حجر : (بأن ما ادعاه (ابن عبد البر) من عدم التحريم ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط عما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب، ويحتمل أن يكون حرامًا) (5).
__________
(1)انظر: شرح النووي لمسلم10/236 فتح الباري5/9 عارضة الأحوذي 6/248 والمغني والشرح4/326
(2)الكَلَب:مرض معدٍ، ينتقل فيروسه في اللعاب بالعض من الفصيلة الكلبية إلى الإنسان، ومن ظواهره تقلصات في عضلات التنفس، والبلع،وجنون واضطرابات في الجهاز العصبي.
(3)شرح النووي 10/235
(4)موسوعة الإجماع 1/374
(5)فتح الباري5/9
(1/164)
---
ص:165
والمراد بالنقص، أو الإثم الحاصل باتخاذه، يوازي قدر قيراط، أو قيراطين من أجر، فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه، وهو قيراط أو قيراطان.
قلت : وهذا التعليل يدل على حرمة اتخاذ الكلب لغير ما ذكر الحديث لا كراهيته.
وأما سبب نقصان الأجر، فقيل : لامتناع الملائكة من دخول بيته، أو لما يلحق المارين من الأذى، أو عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه، أو لكثرة أكله النجاسات، أو لأن بعضها شيطان، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها، فربما تنجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر، أو لكراهة رائحتها(1).(1/114)
قلت : وأقربها إلى ظاهر الحديث، أن نقصان الأجر عقوبة لمخالفة النهي. أما سبب النهي فلجميع ما ذُكر، ويزاد عليها ما يترتب على اقتنائها من أمراض خطيرة.
وأما أن هذه المساوئ السالفة موجودة في الكلب المباح اقتناؤه، فقال صديق خان : (فيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة، لوقوع استثناء
__________
(1)انظر: شرح النووي 10/239 فتح الباري 5/9 عمدة القاري 12/158
(1/165)
---
ص:166
ما ينتفع به مما حرم اتخاذه) (1).
أما اتخاذ الكلاب لحفظ الدور والدروب، قياسًا على الثلاثة، عملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة، فقد صحح الشافعية ذلك(2).
يقول ابن عبد البر من المالكية : (... إلا أن يدخل في معنى الصيد وغيره، مما ذكر اتخاذه لجلب المنافع ودفع المضار قياسًا) (3).
نخلص من هذا إلى القول بحرمة اقتناء الكلاب لغير حاجة، وجواز اقتنائها للحاجات الثلاث المذكورة في الحديث، كما جُوّز اقتناؤها لغير ذلك من الحاجات، بناء على القياس.
كما أن تربية الكلاب للهواية، لهي من العادات السيئة، بالإضافة إلى كون ذلك محرمًا، فإن فيها إسرافًا بالإنفاق عليها ومعالجتها، وأمراضًا خطيرة حذّر منها الأطباء.
__________
(1)عون الباري4/59
(2)شرح النووي 10/236
(3)فتح الباري5/9-10
(1/166)
---
الخاتمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله صلى الله عليه و سلم.
*بعد هذه الرحلة العلمية التي حاولنا من خلالها التأكيد على شمولية الأحكام الشرعية وعمقها، وبعد أن قررنا جواز الإقامة بين ظهراني غير المسلمين بشرط توفر الحرية الدينية، وأن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين السلم، وأما الحرب فهي طارئة تزول بزوال أسبابها، نود التذكير بضرورة ما يلي :
1- أن يستغل المسلمون وجودهم في ديار غير المسلمين في الدعوة إلى الله، من خلال تصحيح المفاهيم عن الإسلام، بالفكر والسلوك، وبشتى الطرق المتاحة والممكنة.(1/115)
2- أن يستثمروا أي مناسبة في تقديم الحل الإسلامي لمشاكل القوم في مختلف النواحي، حسب الرصيد الفكري، والمخزون الثقافي لدى كل مسلم، وذلك لإقامة الحجة عليهم، وإبراء الذمة من تبعة تبليغ الدعوة.
3- أن يعملوا بشكل دائب قبل كل شيء على وحدة الصف الإسلامي، ونبذ التفرق والتشتت، فإن في ذلك قوة وظهورًا، وخروجًا من الظل إلى معترك الحياة، وإثباتًا للوجود المسلم هناك، وبالتالي الحصول على كثير من الحقوق.
(1/167)
---
*وبعد أن قررنا أن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، نذكر بما يلي :
1- وجوب اجتناب المحرمات بكل صورها وأشكالها، إلا حال الضرورة، التي تُقدر بقدرها.
2- وجوب أداء الفرائض الدينية المختلفة، وذلك حسب الطاقة.
3- الاعتزاز بالدين وبما جاء به من تكاليف، وأن المسلم هو الأعلى بما يحمله من قيم وأفكار ومناهج، وبما يقوم به من سلوكيات موافقة لمعتقده، وأن يتجنب الاعتزاز بالدنيا وزينتها، فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع الغرور.
*وبعد أن قررنا جواز بِر غير المسلمين من المسالمين لنا، نذكر بما يلي :
1- المحافظة على الشخصية الإسلامية من الذوبان في ذلك المحيط الكبير.
2- الحرص على إبقاء حواجز نفسية تجاه غير المسلمين وعقائدهم.
3- عدم الركون والرضا بما هم عليه من شرك ومعاصي، فإن أقل أحوال تغيير المنكر إنكاره بالقلب، وليس بعد ذلك مثقال ذرة من إيمان. وليعلم المسلم أن حسن الخلق مع المخالفين، ليس في الموالاة المحرمة، وأن قيمة الإنسان بقيمة عقيدته.
والحمد لله رب العالمين.
(1/168)
---(1/116)