الحساب الفلكي وإثبات أوائل الشهور
أ.د. يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلةً لإثبات الشهور: يجب أن يقبل من باب "قياس الأولى"، بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى، لما يحيط بها من الشك والاحتمال -وهي الرؤية- لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفى بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي.
إن الشريعة الإسلامية السمحة حين فرضت الصوم في شهر قمري ـ شرعت في إثباته الوسيلة الطبيعية الميسورة والمقدورة لجميع الأمة، والتي لا غموض فيها ولا تعقيد، والأمة في ذلك الوقت أميَّة لا تكتبُ ولا تحسب، وهذه الوسيلة هي رؤية الهلال بالأبصار. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته -أي الهلال- وأفطروا لرؤيته فإن أغبي عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين" [1].
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له" [2]، وكان هذا رحمةً بالأمة، إذ لم يكلفها الله العمل بالحساب، وهي لا تعرفه ولا تحسنه، فلو كلفت ذلك لقلدت فيه أمة أخرى من أهل الكتاب أو غيرهم ممن لا يدينون بدينها.
ثلاث طرق لإثبات دخول رمضان
وقد أثبتت الأحاديث الصحاح أن شهر رمضان يثبت دخوله بواحدة من ثلاث طرق:
1- رؤية الهلال.
2- أو إكمال عدة شعبان ثلاثين.
3- أو التقدير للهلال.
فأما الرؤية: فقد اختلف فيها الفقهاء: أهي رؤية واحد عدل، أم رؤية عدلين اثنين، أم رؤية جم غفير من الناس؟(1/1)
فمَنْ قال: يقبل شهادة عدل واحد، استدلَّ بحديث ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه[3]. وبحديث الأعرابي الذي شهدَ عند النبي أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً فنادى في الناس "أن يقوموا ويصوموا" [4]، كما قالوا: إن الإثبات بعدل واحد أحوط للدخول في العبادة، وصيام يوم من شعبان أخف من إفطار يوم من رمضان.
ومَنْ اشترط في الرؤية عدلين، استدل بما روى الحسين بن حريث الجدلي قال: خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب، فقال: أمرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننسكَ لرؤيته، فإن لم نَرهُ فشَهدَ شاهدان عدلانِ نَسَكْنا بشهادتيهما[5]. وقياسًا على سائر الشهود، فإنها تثبت بشهادة عدلين...
أمّا من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهم الحنفية، وذلك في حالة الصحو، فقد أجازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤيته واحد، إذ قد ينشقُّ عنه الغيم لحظة فيراه واحد، ولا يراه غيره من الناس. ولكن إذا كانت السماءُ مصحة، ولا قَتَر ولا سحابَ ولا علةَ، ولا حائل يحول دون الرؤية، فما الذي يجعل واحدًا من الناس يراه دون الآخرين؟ لهذا قالوا: لا بد من إخبار جمع عظيم؛ لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية ـ مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع، وسلامة الأبصار ـ وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه[6].
وأما خبر ابن عمر والأعرابي ـ وفيهما إثبات الهلال برؤية واحد ـ فقد قال العلامة رشيد رضا في تعليقه على "المغني": "ليس في الخبرين أن الناس تراءوا الهلالَ، فلم يره إلا واحد، فهما في غير محل النزاع، ولا سيما مع أبي حنيفة، وبهذا يبطل كل ما بني عليهما"[7].(1/2)
وأمَّا عدد الجمع العظيم فهو مفوض إلى رأي الإمام أو القاضي من غير تقدير بعدد معين على الصحيح[8]. ومن الواجب على المسلمين التماس الهلال يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاَّ أنه واجب على الكفاية.
والطريقة الثانية: إكمال عدة شعبان ثلاثين، سواء كان الجو صحوًا أم غائمًا، فإذا تراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ولم يره أحد، استكملوا شعبان ثلاثين.
وهنا يلزم أن يكون ثبوت شعبان معروفا منذ بدايته، حتى تعرف ليلة الثلاثين التي يتحرى فيها الهلال، ويستكمل الشهر عند عدم الرؤية. وهذا أمرٌ يقع فيه التقصير؛ لأن الاهتمام بإثبات دخول الشهور لا يحدث إلا في أشهر ثلاثة فقط: رمضان لإثبات الدخول في الصيام، وشوال لإثبات الخروج منه، وذي الحجة لإثبات يوم عرفة وما بعده. وينبغي على الأمةِ، وعلى أولي الأمر فيها التدقيق في إثبات الشهور كلها؛ لأن بعضها مبني على بعض.
والطريقة الثالثة: هي التقدير للهلال عند الغيم، أو كما قال الحديث: "إذا غمَّ عليكم" أو "غمي عليكم" أو "غبي عليكم" أي حال دونه حائل، ففي بعض الروايات الصحيحة، ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وأصَحّ الأسانيد عند البخاري: "إذا غم عليكم فاقدروا له"، فما معنى "اقدروا له"؟
قال النووي في المجموع: (قالَ أحمد بن حنبل وطائفةٌ قليلة: معناه: ضيِّقوا له، وقدروه تحت السحاب، من "قدر" بمعنى ضيق كقوله: (قُدِرَ عليه رِزْقهُ) وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم.
وقال مطرِّف بن عبد الله ـ من كبار التابعين ـ وأبو العباس بن سريج ـ من كبار الشافعيةـ وابن قتيبة وآخرون: معناه: قدروه بحسب المنازل.(1/3)
وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف: معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا. واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة: "فأكملوا العدة ثلاثين"، "فاقدروا له ثلاثين"، وهي مفسرة لرواية: "فاقدروا له" المطلقة)[9].
ولكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخرى، بل نقل عنه ابن العربي أن قوله: "فاقدروا له": خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: "أكملوا العدة" خطاب للعامة[10].
واختلاف الخطاب باختلاف الأحوال أمر وارد، وهو أساس لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.
قال الإمام النووي في المجموع: (ومن قال بحساب المنازل: فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "إنَّا أمةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نكتب ولا نحسب"... الحديث.
قالوا: ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار)[11].
والحديث الذي احتج به الإمام النووي ـ رحمه الله ـ لا حجة فيه؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثته لها عليه الصلاة والسلام، ولكن أميتها ليست أمرًا لازمًا ولا مطلوبًا، وقد اجتهد عليه الصلاة والسلام أن يخرجها من أميتها بتعليم الكتابة، وبدأ بذلك منذ غزوة بدر، فلا مانع أن يأتي طور على الأمة تكون فيه كاتبة حاسبة. والحساب الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون في عصور ازدهار حضارتهم، وبلغ في عصرنا درجة من الرقي تمكن بها البشر من الصعود إلى القمر، هو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع.(1/4)
وأمَّا الاعتبار الآخر الذي ذكره النووي، وهو أن الحساب لا يعرفه إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فقد يكون صحيحًا بالنسبة إلى زمنه ـ رحمه الله ـ ولكنه ليس صحيحًا بالنسبة إلى زمننا، الذي أصبح الفلك يدرس فيه في جامعات شتى، وغدت تخدمه أجهزة ومراصد على مستوى رفيع وهائل من الدقة. وقد أصبح من المقرر المعروف عالميًا اليوم: أن احتمال الخطأ في التقديرات العلمية الفلكية اليوم هو نسبة 1 - 000001 في الثانية!!.
كما أن البلدان الكبار والصغار الآن أصبحت متقاربة، وكأنما هي بلد واحد، بل غدا العالم، كما قيل "قرية كبرى"! ونقل الخبر من قطر إلى آخر، ومن مشرق إلى مغرب، وبالعكس لا يستغرق ثواني معدودة.
وقد ذهب أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية، إلى أن الرجل الذي يعرف الحساب، ومنازل القمر، إذا عرف بالحساب أن غدا من رمضان فإن الصوم يلزمه؛ لأنه عرف الشهر بدليل، فأشْبَهَ ما إذا عرف بالبينة. واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه سبب حصل له به غلبة ظن، فأشبه ما لَوْ أخبره ثقة عن مشاهدة. وقال غيره: يجزئهُ الصوم ولا يلزمه. وبعضهم أجاز تقليده لمن يثق به[12].
وقد ذهب بعض كبار العلماء في عصرنا إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي العلمي القطعي، وكتب في ذلك المحدث الكبير العلامة أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ رسالته، في "أوائل الشهور العربية: هل يجوز إثباتها شرعًا بالحساب الفلكي؟"، وسنعود لنقل رأيه مفصلا.
ومن المنادين بهذا الرأي في عصرنا الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ.
والذي يظهر من الأخبار أن الذي رفضه الفقهاء من علم الهيئة أو الفلك، هو ما كان يسمى "التنجيم" أو "علم النجوم" وهو ما يُدَّعَى فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجوم، وهذا باطل، وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا: "مَنْ اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر" [13].(1/5)
وقال الإمام ابن دقيق العيد: الذي أقول: إن الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذنْ به الله. وأما إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع على وجهٍ يُرَى، لكن وُجِدَ مانع من رؤيته كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي. ا هـ(
وعقب على ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: (لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلا لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذن، والله أعلم)[14].
ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الأجهزة، وعلى الحساب الرياضي القطعي. ومن الخطأ الشائع لدى كثير من علماء الدين في هذا العصر، اعتقاد أن الحساب الفلكي هو حساب أصحاب التقاويم، أو النتائج، التي تطبعُ وتوزع على الناس، وفيها مواقيت الصلاة، وبدايات الشهور القمرية ونهايتها، وينسب هذا التقويم إلى زيد، وذاك إلى عمرو من الناس، الذين يعتمد معظمهم على كتب قديمة ينقلون منها تلك المواقيت، ويصفونها في تقويماتهم.
ومن المعروف أن هذه التقاويم تختلف بين بعضها وبعض، فمنها ما يجعل شعبان (29) يومًا، ومنها ما يجعله (30)، وكذلك رمضان، وذو القعدة وغيرها.(1/6)
ومن أجل هذا الاختلاف رفضوها كلها؛ لأنها لا تقوم على علم يقيني؛ لأن اليقين لا يعارض بعضه بعضًا. وهذا صحيح بلا ريب، ولكن ليس هذا هو الحساب العلمي الفلكي الذي نعنيه. إن الذي نعنيه هو ما يقرره علم الفلك الحديث، القائم على المشاهدة والتجربة، والذي غدا يملك من الإمكانات العلمية والعملية "التكنولوجية" ما جعله يصل بالإنسان إلى سطح القمر، ويبعث بمراكز فضائية إلى الكواكب الأكثر بعدًا، وغدت نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1- 100000) في الثانية. وأصبح من أسهل الأمور عليه أن يخبرنا عن ميلاد الهلال فلكيًا، وعن إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية، لو أردنا.
الرؤية.. وسيلة متغيرة لهدف ثابت
وفي كتابي: "كيف نتعامل مع السنة" عدت إلى الموضوع عند الحديث عن أحد المعالم الأساسية في فهم السنة، وهو: التمييز بين الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة. وضربت لذلك أمثلة، ثم قلت: ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب: ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: "صوموا لرؤيته ـ أي الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" وفي لفظ آخر "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". فهنا يمكن للفقيه أن يقول: إن الحديث الشريف أشار إلى هدف، وعيّن وسيلة.
أما الهدف من الحديث فهو واضح بيّن، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.
وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي ـ والأمة في ذلك الحين أمية لا تقرأ ولا تحسب ـ لأرهقهم من أمرهم عسرا، والله يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: "إن الله بعثني معلمًا ميسرًا، ولم يبعثني معنتًا" [15].(1/7)
فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذج من صخوره وأتربته! فلماذا نجمد على الوسيلة ـ وهي ليست مقصودة لذاتها - ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟!
لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدها هو الصواب والباقي خطأ بلا جدال.
على أن العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ نحا بهذه القضية منحى آخر، فقد ذهب إلى إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناءً على أن الحكم باعتبار الرؤية معلل بعلة نصت عليها السنة نفسها، وقد انتفت الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها، إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارته بنصها لما فيها من قوة ونصاعة، قال رحمه الله في رسالته "أوائل الشهور العربية":(1/8)
(فمما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئًا من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عبادتهم إلى الأمر القطعي المشاهد الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم. وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئًا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلو جعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع إن وصل إليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدًا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب.
ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيرًا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم، ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم.(1/9)
وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب - التنجيم - وكان بعضهم يدعي ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف.
هكذا كان شأنهم، إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء.
وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشئون، فإذا جاء مصداقها فسرت وعلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها.
وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا... " يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين[16].
وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر[17]: المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب الأصلي.(1/10)
ويوضحه قوله في الحديث الماضي: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، ولم يقل: فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء استوى فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض (الإسماعيلية) ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل ا هـ.
فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصوم ـ أي باعتبار الرؤية وحدها ـ لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة "أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وألا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين استعصى عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب.
وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، واطّراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة.(1/11)
وما كان قولي هذا بدعًا من الأقوال: أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم، ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه: أن الحديث: "فإن غم عليكم فاقدروا له" ورد بألفاظ أخر، في بعضها: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" ففسر العلماء الرواية المجملة: "فاقدروا له" بالرواية المفسرة: "فأكملوا العدة" ولكن إمامًا عظيمًا من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالين مختلفين: أن قوله: "فاقدروا له" معناه: قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: "فأكملوا العدة"خطاب للعامة[18].
فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصًا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضي بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر.
ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب)[19].
هذا ما كتبه العلامة شاكر منذ أكثر من نصف قرن ـ ذي الحجة 1357 هـ الموافق يناير 1939م.
ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها بنسبة واحد إلى مائة ألف في الثانية!!(1/12)
كتب هذا الشيخ شاكر وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته -رحمه الله- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه -رحمه الله- لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا من السلف، بل السلفية الحق أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها، وكليات مقاصدها.
هذا وقد قرأت مقالاً مطولاً في شهر رمضان لأحد المشايخ الفضلاء (هو سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية، وقد نشر مقاله في عكاظ وغيرها من الصحف اليومية بالمملكة)، أشار فيه إلى أن الحديث النبوي الصحيح: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" يتضمن نفي الحساب، وإسقاط اعتباره لدى الأمة.
ولو صح هذا لكان الحديث يدل على نفي الكتابة، وإسقاط اعتبارها، فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية الأمة، وهما: الكتابة والحساب.
ولم يقل أحد في القديم ولا في الحديث: إن الكتابة أمر مذموم أو مرغوب عنه بالنسبة للأمة، بل الكتابة أمر مطلوب، دل عليه القرآن والسنة والإجماع.
وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما هو معلوم من سيرته، وموقفه من أسرى بدر.
ومما قيل في هذا الصدد: أن الرسول لم يشرع لنا العمل بالحساب، ولم يأمرنا باعتباره، وإنما أمرنا باعتبار "الرؤية" والأخذ بها في إثبات الشهر. وهذا الكلام فيه شيء من الغلط أو المغالطة، لأمرين:
الأول: أنه لا يعقل أن يأمر الرسول بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية، لا تكتب ولا تحسب، فشرع لها الوسيلة المناسبة لها زمانًا ومكانًا، وهي الرؤية المقدورة لجمهور الناس في عصره، ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عن الغلط والوهم، فليس في السنة ما يمنع اعتبارها.(1/13)
الثاني: أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم، وهو ما رواه البخاري في كتاب الصوم من جامعه الصحيح بسلسلته الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (قدر يقدر - بالضم والكسر - بمعنى قدّر، ومنه قوله تعالى: (فقدرنا فنعم القادرون).
وهذا "القَدْر" له أو "التقدير" المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات، كما هو مقرر معلوم لدى كل من عنده أدنى معرفة بعلوم العصر، وإلى أي مدى ارتقى فيها الإنسان الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم.
وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي ـ على الأقل ـ في النفي لا في الإثبات، تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض. ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال: إنها غير ممكنة، لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي ـ كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال؛ لأن الواقع ـ الذي أثبته العلم الرياضي القطعي ـ يكذبهم. بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً، ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلال
هذا ما اقتنعت به وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة، ثم شاء الله أن أجده مشروحًا مفصلاً لأحد كبار الفقهاء الشافعية، وهو الإمام تقي الدين السبكي (ت 756هـ) الذي قالوا عنه: إنه بلغ مرتبة الاجتهاد.(1/14)
فقد ذكر السبكي في فتاواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود، قال: (لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظني لا يعارض القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه).
وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضية من القضايا، فإن رأى الحس أو العيان يكذبها ردها ولا كرامة. قال: (والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسًا وعقلاً وشرعًا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعًا على عدم الإمكان استحال القول شرعًا، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات. أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب) [20].
فكيف لو عاش السبكي إلى عصرنا ورأى من تقدم علم الفلك ـ أو الهيئة كما كانوا يسمونه ـ ما أشرنا إلى بعضه؟!
وقد ذكر الشيخ شاكر في بحثه أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشهير في وقته، كان له رأي ـ حين كان رئيسًا للمحكمة العليا الشرعية ـ مثل رأي السبكي، برد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، قال الشيخ شاكر: (وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، وأنا أصرح الآن أنه كان على صواب. وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال. إلا لمن استعصى عليه العلم به) [21].ا هـ.
حقائق ينبغي أن يتفق عليها
ومع ترجيحي للعمل بالحساب على الأقل في النفي لا في الإثبات كما ذكرت، يجب أن أؤكد هنا حقائق ثلاثًا، ينبغي ألا يختلف عليها:(1/15)
الأولى: أن في هذا الأمر ـ أعني ما يتعلق بإثبات دخول الشهر ـ سعة ومرونة بالنظر إلى نصوص الشرع وأحكامه، واختلاف العلماء في هذا المقام توسعة ورحمة للأمة. فمَنْ أثبتَ دخول الشهر بعدل أو عدلين، أو اشترط جمًا غفيرًا لم يبعد عما قال به بعض فقهاء الأمة المعتبرين، بل مَنْ قال بالحساب وجد له في السلف قائلاً، منذ عهد التابعين فمَنْ بعدهم. ومن اعتبر اختلاف المطالع، ومَنْ لم يعتبرها له سلفه، وله دليله، فلا يجوز أن ينكر على من أخذ بأحد هذه المذاهب والاجتهادات، وإن رآها هو خطأ، إذ القاعدة: "أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية".
الثانية: أن الخطأ في مثل هذه الأمور مغتفر، فلو أخطأ الشاهد الذي شهد بأنه رأى هلال رمضان، أو شوال، وترتب عليه أن صام الناس يومًا من شعبان أو أفطروا يومًا من رمضان، فإن الله تعالى أهلٌ لأن يغفر لهم خطأهم، وقد علمهم أن يدعوا فيقولوا: (ربنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطأنا) (البقرة : 286).
حتى لو أخطأوا في هلال ذي الحجة، ووقفوا بعرفة يوم الثامن أو العاشر، في الواقع ونفس الأمر، فإن حجهم صحيح ومقبول، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
الثالثة: أن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، وسائر شعائرهم وشرائعهم، أمرٌ مطلوب دائما، ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه، ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد.
فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد، أو المدينة الواحدة، فيصوم فريقٌ اليوم على أنه من رمضان، ويفطر آخرون على أنه من شعبان، وفي آخر الشهر تصومُ جماعة، وتعيد أخرى، فهذا وضع غير مقبول.
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم، أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها.(1/16)
فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسئولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي ـ المحكمة العليا، أو دار الإفتاء، أو رئاسة الشؤون الدينية، أو غيرها ـ قرارها بالصوم أو بالإفطار، فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام؛ لأنها طاعة في المعروف، وإن كان ذلك مخالفا لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إنَّ لكل بلد رؤيته.
وقد ثبتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون"[22]، وفي لفظ "وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون"[23]، وبلفظ: "الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" [24]، وقد روى أبو داود هذا الحديث تحت عنوان "باب إذا أخطأ القوم الهلال".
قال الإمام الخطابي: معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قومًا اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعة وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك هذا في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك، وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده. ا هـ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والله أعلم.
------------------------------------------
[1] متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 656، معنى (أغبى): من الغباء وهو الغبرة في السماء.
[2] نفسه، 653، ومعنى (غم): أي أخفي وغطي بسحاب أو قترة أو غير ذلك.
[3] رواه أبو داود (2342)، والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم، قال الدارقطني: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة، ذكره النووي في المجموع 6/276.
[4] رواه أبو داود (2341)، والترمذي مرسلا ومسندا، وقال : فيه اختلاف (691)، والنسائي، وقال : المرسل أولى بالصواب، وابن ماجه (1652)، وفي سنده مقال.(1/17)
[5] رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، ورجاله رجال الصحيح، إلا الحسين بن حريق وهو صدوق وصححه الدارقطني في نيل الأوطار 4/261 ط دار الجيل بيروت.
[6] ذكره في حاشية ابن عابدين نقلا عن البحر 2/92
[7] انظر التعليق على المغني مع الشرح 3/93.
[8] انظر الاختيار في شرح المختار 1/29
[9] المجموع 6/270.
[10] انظر: فتح الباري 6/23، ط .الحلبي.
[11] المجموع 6/270، ط .المنيرة.
[12] انظر: المجموع 6/279، 280.
[13] رواه أبو داود في الطب (3905) وابن ماجة في الأدب (3726)، وأحمد في المسند (2000) وقال شاكر: إسناده صحيح، وصححه النووي في الرياض، والذهبي في الكبائر كما في فيض القدير 6/80.
[14] تلخيص الحبير مع المجموع 6/ 266، 267.
[15] رواه مسلم وغيره.
[16] رواه البخاري في كتاب الصوم. ورواه مالك في الموطأ (الموطأ 1/ 269). والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ: "الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له".
[17] فتح الباري 4/108، 109.
[18] انظر: شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي 3 /207، 208، وطرح التثريب 4/ 111 - 113 وفتح الباري 4/ 104.
[19] رسالة "أوائل الشهور العربية " ص 7 - 17 نشر مكتبة ابن تيمية.
[20] انظر: فتاوى السبكي 1/219، 220 نشر مكتبة القدس بالقاهرة.
[21] رسالة "أوائل الشهور العربية" للشيخ شاكر ص 15.
[22] الترمذي: وقال: حسن غريب 697.
[23] أبو داود (2324).
[24] رواه ابن ماجة (1660)، من طريق حماد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال الشيخ شاكر: (وهذا إسناد صحيح جدا على شرط الشيخين).
??
??
??
??(1/18)
الحساب أولاً، لا المراصد والأقمار
جبر بن صالح الدوسري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا."
منذ خمسة عشر عاماً نشرت لي جريدة الرياض في شهر رمضان المبارك مقالا مفصلا على صفحة كاملة بشأن الدخول الخاطئ للشهر الكريم . وكان مصدر الخطأ تقويم أم القرى نظرا للطريقة الخاطئة المعمول بها سابقا حين أ دخل يوم من جمادى الآخرة إلى شهر رجب ويوم منه إلى شهر شعبان. وعند التماس الرؤية جاء من يشهد برؤية الهلال يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان الذي كان في حقيقة الأمر اليوم الثامن والعشرين من شعبان مما تسبب في الدخول الخاطئ لشهر رمضان المبارك، غير أن شهر شوال دخل صحيحا والحمد لله بإكمال العدة. وقد طالبت آنذاك بالاستعانة بالحساب لدعم مبدأ تحري الرؤية للتأكد ما إذا كان القمر يغيب قبل الشمس أو بعدها تجنبا للأخطاء والحرج. وكان الرد هو الرفض الشديد لكنه لم يخل أيضا من إسداء النصح للمهتمين بالحساب بأنه من الأفضل أن يدعوا علم الفلك والحساب جانبا ويتجهوا إلى غيره من العلوم النافعة لأن الحساب لا يعتد به وأنه من عمل الكهنة والمنجمين وأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ولأن اؤلئك الذين يرون الهلال يرونه حقا وصدقا بفضل ما يملكون من قدرات خارقة تمكنهم من رؤية ما لا يستطيع غيرهم أن يراه بل إن من بينهم من يستطيع مشاهدة الهلال وهو محاق في رابعة النهار. وبالفعل كان هناك من يزعم هذا الزعم العجيب. وقد أجرت معه جريدة الرياض منذ سنوات لقاء لاستطلاع حقيقة الأمر فقال إنه تعرض في طفولته لحادث فقد على أثره قوة الإبصار فصار لا يستطيع رؤية أشعة الشمس بل كان يرى الشمس كالبدر بدون شعاع مما جعله يرى الهلال بسهولة في أواخر الشهر إلى الجانب الأيمن من الشمس دائما. وقال ذلك الشيخ رحمه الله إنه(2/1)
كان من أبرز من يتحرون رؤية الهلال وأكثرهم شهرة على مدى خمسين عاما! وقال إنه لم يتذكر أنه أخطأ سوى مرتين. وقد عقب على ذلك الأخ الأستاذ عبد العزيز الشمري متسائلا كيف يستطيع مشاهدة القمر وهو جسم معتم عاكس لأشعة الشمس من ليس باستطاعته مشاهدة أشعة الشمس نفسها؟ أضف إلى ذلك أن الهلال قد يكون إلى يمين الشمس أو إلى يسارها بدرجات يتفاوت عددها بين آونة وأخرى أو قد يكون الهلال أمام الشمس. هذا مثال واحد صارخ على الرؤية الوهمية الظنية المجانبة للمنطق والعلم والفهم والصواب التي طال بشأنها الحديث وكتبت حولها المقالات وبحت الأصوات وكثرت التساؤلات عبر سنوات وسنوات. إنه لأمر مبارك وجميل أن نلتزم بمبدأ الرؤية القائمة على أسس من اليقين والفهم والتثبت لا على الرؤية المتسرعة التي طالما عجلت بدخول الشهور ولا على المكانة التي يحتلها شاهد الرؤية بين قومه وعشيرته ولا على أقوال المزكين. إن متوهم الرؤية مخطئ ولو زكاه جميع من في الأرض ولو كان من أكثر الناس عدالة وثقة وصدقا وخلقا. ولا بد من القول بكل وضوح إنه لا أحد يشكك في نزاهة جميع الشهود قديما وحاضرا ولا نزاهة المزكين، فشاهد الرؤية إنسان مجتهد ربما يصيب وربما يخطئ أيضا وبخاصة إذا كانت الرؤية في غير وقتها فهو من الممكن أن يرى على امتداد بصره كوكبا مثل عطارد الذي كان موجودا في الأفق في أواخر شهر رمضان الماضي أو قد يرى نجما مثل قلب العقرب أو السماك الأعزل لأنهما قد يكونان هابطين في الأفق و في موقع مثل موقع القمر لأنهما من منازله، أو قد يرى الشاهد أي شئ آخر فيظن أنه رأى الهلال وهو خطأ إنساني لكنه لا يكتسب قوة اليقين بمجرد أن الشاهد يمتاز بصفات معينة مثل الثقة والأمانة والعدالة والصدق. المهم هو وجود الهلال حقيقة في الأفق عند تحري الرؤية لا تحت الأفق. كيف نعرف ذلك؟ نستطيع أن نعرف ذلك بكل دقة وثقة واطمئنان قبل يوم أو شهر أو عام أو حتى ألف عام أو فما فوق(2/2)
بالحساب ولا شئ غير الحساب على الإطلاق. لنأخذ أبسط صورة يعرفها عباد الله
جميعا على وجه البسيطة منذ بدء الخليقة وهي ظاهرة طلوع الأجرام السماوية وغروبها. ألم نأخذ بعد استخدام الحساب بأوقات مواقع الشمس خلال النهار لنستدل بها على مواقيت الصلاة؟ ألا نكتفي بالحساب بدلا من مراقبة ظهور الفجر الصادق بالنسبة لصلاة الصبح وبدلا من النظرإلى الشمس وهي على خط الزوال لمعرفة وقت أذان الظهر و بدلا من النظر إلى ظل العصا إذا كان مساويا لظلها وقت الظهر مضافا إليه ما يعادل طولها مرة واحدة، أو مرتين عند بعض المذاهب، بالنسبة لصلاة العصر؟ ثم صلاة المغرب وهي معروفة ويضاف إليها ساعة ونصف الساعة لتحديد صلاة العشاء أو عندما تكون الشمس بعد الغروب ثماني عشرة درجة تحت الأفق . ألم توضع هذه الأوقات جميعها في معادلات فلكية رياضية ولا سيما طلوع الفجر الصادق عندما تكون الشمس قبل الشروق ثماني عشرة درجة تحت الأفق وصلاة العصرالقائمة على مبدأ ظل العصا وذلك باستخدام حساب المثلثات الكروية والبرمجة؟ كيف يكون علم الفلك والحسابات الفلكية من الأمور المباحة المقبولة بالنسبة للشمس وتكون مثار ريبة وغير مقبولة، و ربما محرمة ولا يعتد بها إذا تعلق الأمر بالقمر، بل الأدهى والأمر أنها اعتبرت لدى البعض من عمل الكهنة والمنجمين؟! وأتساءل هنا ما الفرق بين حساب الشمس وحساب القمر و العلاقة بينهما وثيقة جدا وحسابهما متشابه جدا فالمولى جل جلاله يقول:"فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا." فبهما عرف الإنسان الوقت والزمن من أيام وشهور وأعوام وعرف عدد أيام الشهر وعدد الأشهر في السنة. كيف يسمح لنا أن نرفع رؤوسنا عاليا لتشق عنان السماء لتمس النجوم في غمرة الزهو والفخار إذا تعلق الأمر بأي تقدم أو رقي لكننا نصبح فجأة أمة أمية جاهلة لا بد أن تلزم الصمت وتتقوقع وتنكفئ على وجهها وتعطل كل قدراتها الخلاقة ليحل لديها العمى والجهل(2/3)
والظلام محل الفهم والعلم والنور إذا تعلق الأمر بالقمر وظهور الأهلة لأن كل ذلك ليس من اختصاص أصحاب البصائر بل من اختصاص ذوي الأبصار الحادة التي ترى القمر في وضح النهار وتنفذ إلى ما تحت الأفق إذا غابت الشمس وخيم الظلام لأن شهادة أحدهم مع تزكية المزكين تضعهم فوق العلم وفوق الفهم وفي منأى عن الخطأ فما أكثر ما فندت رؤيتهم للهلال مزاعم أهل الحساب! ويصدق على كل واحد منهم قول أبي الطيب المتنبي: (له خطرات تفضح الناس والكتبا).
تحاشيا لما أشرت إليه من سلبيات فالحلول سهلة جدا وأبسط مما نتصور. لو أخذنا أيضا بطلوع القمر وغروبه كما هي الحال بالنسبة للشمس لتجنبنا الكثير من العناء والغلو ولكفينا أنفسنا ملاحقة أهلة ليس لها وجود. نعم يكفينا فقط الأخذ بأوقات طلوع القمر وغروبه، ولا شئ غير ذلك، كما نفعل بالنسبة للشمس ليكون باستطاعتنا أن نعرف أن القمر موجود في الأفق أو غير موجود. لو وضعنا التشدد والتوتر والتعنت جانبا ونبذنا الأنانية والأهواء الشخصية السلبية وقبلنا براحة بال وأناة وتسامح وبكل تجرد بهذا المبدأ البسيط لأصبحت مشاكل دخول الشهور في خبر كان.(2/4)
قال جل وعلا : " فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم." تقوم الحسابات الفلكية جميعها على مواقع النجوم ويتعلق الكثير من هذه الحسابات بجانب من علم الفلك هو (علم الفلك الموضعي) الذي يبحث في مواقع الأجرام السماوية ومواقيتها مثل الشمس والقمر والكواكب والنجوم وغيرها وعلاقتها ببعضها البعض وأبعادها وزواياها والخسوف والكسوف وظهور الأهلة وتحديد اتجاه القبلة وأوقات الصلاة وأوقات دخول الفصول ودخول الشمس في البروج وطول السنين وما أخذ يطرأ عليها منذ قرون من تناقص ضئيل مستمر ومعرفة أطوال ظلال الأشياء في أي زمان ومكان والاهتداء بالنجوم ويشمل ذلك علم الملاحة الفلكية برا وبحرا وجوا وغير ذلك أمور كثيرة لا حصر لها. وتأتي نتائج هذه الحسابات دقيقة وفي غاية الإتقان. هذه هي الحسابات الفلكية التي هي علم رائع شامل عظيم يقوم على الرياضيات المتقدمة البحتة
وقوانين الفيزياء لا على الخرافات والتخرص وا لتنجيم والكهانة، وهذا هو علم الفلك الذي هو حصيلة قيمة تضاعفت وتطورت على مدى الوف السنين من المراقبة والملاحظة والدرس والذي هو من أعظم العلوم التي تدعو إلى التأمل في ملكوت السماوات وتعمق الإيمان بالخالق البارئ العظيم، وقد علمه الله الإنسان مصداقا لقوله تعالى: "علم الإنسان مالم يعلم".(2/5)
لو سلطنا الضوء على القمر الذي هو موضوع بحثنا لوجدنا الحسابات الفلكية محيطة إحاطة تامة وشاملة بكل ما نود أن نعرفه عن حركة القمر في مداره حول الأرض مثل سرعته وارتفاعه ودرجات ميلانه عن مدار الأرض وعن خط الاستواء وخط طوله وفترات ابتعاده أو ا قترابه من الأرض واقترانه بالشمس أو بالكواكب والنجوم وأوقات إهلاله واكتماله وجميع مراحل زمن دورته حول الأرض وما يتعلق بأوضاع الخسوف والكسوف وذلك لأي وقت من الأوقات على مدى يوم أو عام أو ألف عام فأكثر. وما ينطبق على القمر فإنه ينطبق أيضا على غيره من الأجرام السماوية. وتأتي نتائج هذه الحسابات المتنوعة دقيقة وصحيحة، وأصدق دليل على ذلك هو تحديد أوقات حدوث ظواهر الخسوف والكسوف واقتران القمر بالأجرام السماوية الأخرى . هل حدث ذات مرة أن جاءت الحسابات خاطئة بالنسبة للطلوع والغروب والخسوف والكسوف وأوقات اقتران القمر بالشمس وبالكواكب والنجوم وعبور كوكب عطارد أو كوكب الزهرة فوق قرص الشمس؟ أقول : كلا. هذه الظواهر الفلكية تنشر أخبارها من وقت لآخر قبل أيام أو أشهر أو أعوام قبل حدوثها وتأتي كما شاء المولى جل وعلا صحيحة ومؤكدة فالخسوف، مثلا، هو وجود القمر زمن اقترانه بالشمس في حيز من القبة السماوية لا يتعدى نصف درجة وهو ما يساوي قطر قرص الشمس وقرص القمر أيضا كما نراهما ظاهريا فهل بقي الآن من يشك بعد كل هذه الشواهد والأدلة القاطعة الدامغة بقدرة الحساب على تحديد موقع القمر آخر الشهر في مساحة واسعة من الأفق الغربي؟ ما زلت أتكلم هنا في مجال علم الفلك الموضعي وفي مجال الظواهر الفلكية المعروفة منذ القدم وما تخضع له هذه الظواهر من معادلات رياضية موضوعة بدقة ومجربة ومؤكدة كل التأكيد ولست أتطرق هنا إلى نظريات علم الفلك في الثقوب السوداء وانفجار النجوم و أصل الكون وشكله وسعته وأغواره السحيقة حيث يقف العقل حائرا والقلب خاشعا إزاء ملكوت الله الشاسع الأبعاد. ورب سائل(2/6)
يقول: من أين تستمد الحسابات الفلكية كل هذه الدقة ؟ وأجيب قائلا: من محاكاة النظام الكوني الإعجازي الدقيق الذي يحكم حركة الأجرام السماوية جميعا الذي أوجده الخلاق العظيم. لولا هذا النظام الرباني المذهل لكانت الحسابات الفلكية ضربا من الظن والتخمين فالعبرة ليست في الحساب بل في دقة هذا النظام الإلهي وعظمته، فمن الممكن بمشيئة الله تعالى حساب ظاهرتي الخسوف والكسوف لبضعة آلاف عام سابقة أو لاحقة لا بفضل الحساب بل بفضل هذا النظام المتناهي الدقة. وباستخدام الحاسوب أو حتى الآلات الصغيرة القابلة للبرمجة تعرف أوقات حدوث هذه الظواهر في ثوان معدودات.
منذ زمن ليس بالقصير والنداءات تتعالى و تتكرر بشأن ايجاد مراصد في مناطق متعددة من المملكة لإثبات ظهور الهلال في الافق او عدم ظهوره. والحقيقة أن الحساب وحده لا بد أن يكفينا هذه المشقة وبخاصة إذا علمنا أن المراصد تحتاج بكل تأكيد الى الحساب لتحديد موقع القمر او اي جرم سماوي آخر لتتجه نحوه تلقائيا وتقع عدساتها عليه. وينطبق هذا الكلام على الاقمار الصناعية التي يقال إنه سيتم استخدامها لإثبات وجود الأهلة. يؤسفني القول إن التفكير في إطلاق أقمار صناعية لتحري رؤية الأهلة وإثبات دخول الأشهر القمرية للعالم الإسلامي هو مضيعة للوقت والمال والجهد وضرب من العبث وأمر ينطوي على الكثير من التهويل والتضخيم ما دامت ثمة وسائل موثوق بها إلى حد بعيد قادرة على القيام بالمهمة على أكمل وجه، وإلا فستكون حالنا كمن يبحث عن بيته بالدوران خارج المدينة! الأقمار الصناعية مربوطة بزمن محدد، ولا بد من(2/7)
اعتمادها ولا شك على الحساب ليحدد لها المواقع كما أشرنا. أما الحساب الفلكي فغير مقيد بلحظة معينة بل هو مفتوح بعون الله تعالي من جميع الجوانب على الزمان والمكان لكل ما فات وكل ما هو حاضر وكل ما سيأتي ونتائجه دقيقة إلى أقصى حدود الدقة إلا إذا كان المراد من الأقمار الصناعية هو محاولة إقناع من يصر دائما وأبدا على الرفض و الإنكار بأن القمر كان أو سيكون في يوم من الأيام تحت الأفق كما يشير الحساب!
وبناء على ما تقدم أرى أن الحساب الفلكي يأتي في المقام الأول ويعتبر الوسيلة المؤكدة التي هي الأسهل والأجدى والأمثل والأكثر يقينا لإثبات أوقات دخول الأهلة سواء أكان ذلك للماضي أم للحاضر أم للمستقبل. والله المستعان.(2/8)
الرؤية أم الحساب ؟ ! الخلاف شر
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
بسم الله الرحمن الرحيم
من المسائل المتفق عليها قديماً وحديثاً : إعذار المجتهد المخالف ؛ فما زال العلماء يخالف بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد ، ولا يمنعهم ذلك من التواد والتحاب ؛ وأقوال الأئمة في ذلك كثيرة جداً ، منها :
قال يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أجلاَّء التابعين : " ما برح المستفتون يُستفتَوْن ، فيُحل هذا ، ويُحرِّم هذا ، فلا يرى المحرِّم أنَّ المحلِّل هلك لتحليله ، ولا يرى المحلِّل أن المحرِّم هلك لتحريمه " [1] .
وقال سفيان الثوري : " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه " [2] .
وقال ابن قدامة المقدسي : " لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه ؛ فإنه لا إنكار على المجتهدات " [3] .
وقال ابن تيمية : " التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه ، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله ، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز ، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح ، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض ، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله ، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله " [4] .
وهذه المسألة على الرغم من وضوحها وجلائها واتفاق الناس عليها إلا أن في تطبيقها عند بعض الناس خللاً ظاهراً ؛ فخلافٌ يسير في مسألة فقهية اجتهادية يسوغ فيها الخلاف يؤدي إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية . نسأل الله السلامة .(3/1)
ومن المسائل الفقهية التي يتجدد حولها الجدل في البلاد الغربية خاصة في مثل هذه الأيام ، مسألة : ( إثبات دخول شهر رمضان وخروجه ) ؛ فمنهم من يرى وجوب الاعتماد على الرؤية ، ومنهم من يرى الاعتماد على الحساب . والقائلون بالقول الأول يختلفون فيما بينهم على أقوال : فمنهم من يرى اعتماد رؤية مكة ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أقرب بلد إسلامي ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أي بلد إسلامي ...
ومثل هذا الخلاف أدى في العام المنصرم في بعض المدن الأوروبية مثلاً إلى جدل عريض ، ثم تطور إلى قيل وقال ، ثم وصل الحال إلى تراشق بالتهم عند بعضهم ، وراح بعض أتباع كل فريق يستدعي خلافات أخرى ، ويستثير كوامن من الاختلافات القديمة .. ! ! ووقع بعضهم فيما أشار إليه العلاَّمة القاسمي بقوله :
" غريبٌ أمر المتعسفين ، والغلاة الجافين ، تراهم سراعاً إلى التكفير والتضليل، والتفسيق والتبديع ، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه الحسد ، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم " [5] .
فالقائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد ردوا النص الشرعي ، وساروا على منهاج أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوص ولا يرعون حرمتها ، وربما عظم بعضهم هذا الخلاف ، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً ، بل هو خلاف منهجي ، وما الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره ! !
والقائلون بالقول الثاني : يرون إخوانهم قد جمدوا في فهم دلالة النص ، فمقصود الشارع أن يتثبت الناس من دخول الشهر ، فإذا استطاعوا معرفة دخوله بأي طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع . والحساب الذي ردَّه المتقدمون من أهل العلم كابن تيمية وغيره هو الحساب الظني الذي يكثر فيه خطأ الحسابيين واختلافهم فيما بينهم ، أما الحساب في هذا العصر فقد تغيرت آلياته وتطورت أدواته ، وأصبحت نسبة الخطأ فيه قليلة جداً ، والشرع لا يأتي بما يخالف العقل .(3/2)
وأحسب أن حسم الخلاف بين الفريقين متعسر جداً إن لم يكن متعذراً ؛ فمن جاء بفتوى من أحد العلماء رُدَّ عليه بفتوى أخرى مخالفة لها من عالم آخر ، وكل عالم لدى صاحبه أوْلى بالاتباع من الآخر .
إذن ما الحل في ظل غياب الولاية الإسلامية التي تجمع الناس على رأي واحد ؟ !
أرى أن أمامنا خيارين :
* الخيار الأول : أن يأخذ كل مركز بما يرى أنه الأرجح ، وعلى الأئمة ومديري المراكز الإسلامية والمساجد أن يتقوا الله تعالى في الترجيح ، ويبذلوا الجهد في الوصول إلى الحق الذي تبرأ به الذمَّة ، ويستشعروا عظم الأمانة المناطة في أعناقهم .
ثم ينبغي لكل مركز ومسجد أن يقدر رأي الآخرين الذين خالفوه ، ويلتمس لهم العذر ، ويذبَّ عنهم ، ولا يسمح بالجدل والمراء .
وهذا الرأي وإن كانت نتيجته تفريق الناس في المدينة الواحدة ، إلا أن فيه قطعاً لمادة الخلاف والتنازع ، وسداً لأبواب الغيبة والنميمة ، قال ابن تيمية :
" .. وإن رجح بعض الناس بعضها [يعني : بعض الاجتهادات] ولو كان أحدهما أفضل ؛ لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا يعاب بإجماع المسلمين ، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين ، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة " [6] .(3/3)
* الخيار الثاني وهو الأوْلى والأرجح : أن يجتمع أهل الرأي من الأئمة ومديري المساجد والمراكز ويتدارسوا المسألة ، ثم يخرجوا باتفاق موحَّد ؛ ويتطلب هذا حرصاً من الجميع على ضرورة التآلف والاتفاق ، والالتزام بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " تطاوعا ولا تختلفا " [7] . فليس المقصود أن ينتصر المرء لرأيه ، بل المقصود هو تحقيق المصلحة الشرعية ؛ فمفسدة التدابر والتنابذ والتقاطع أعظم أثراً وأشد خطراً من الأخذ بأحد القولين ؛ لأن غاية ما في أحدهما أنه اجتهاد مرجوح يثاب عليه صاحبه بأجر واحد ، وأما الاختلاف فكما أنه يزيد من الشرخ المستشري في جسد العمل الإسلامي ، ومدعاة لسخرية غير المسلمين من المسلمين ؛
فهو مخالف لمقصود الشارع الذي أمر بالتعاون على البر والتقوى ، قال الله تعالى : ] وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ [ ( آل عمران : 105 ) .(3/4)
أنا لا أدعو إلى المثالية في إنهاء الخلاف برمته ؛ فهذا أمر غير واقعي على الإطلاق ، ولو سلم منه أحد لسلم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الذي نهى عنه علماء السلف والخلف : هو أن يتحول الخلاف إلى صراع وتصادم وشقاق . قال الإمام الشاطبي نقلاً عن بعض المفسرين : " فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية ، وهي قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً [ ( الأنعام : 159 ) .... فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : ] وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [ ( آل عمران : 103 ) ، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك
لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى . هذا ما قالوه ، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف ؛ فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين " [8] .
وها هنا مسألة جديرة بالاهتمام : فإذا آمنا بأن مسألة ( إثبات دخول الشهر وخروجه ) مسألة خلافية يسع فيها الاجتهاد ، فهل يصح للإنسان أن يترك الرأي الراجح الذي يراه ، ويأخذ بالرأي المرجوح ، من أجل توحيد الكلمة وتأليف القلوب وتجميع الصفوف ودرء النزاع والتدابر ؟ ! أم أن ذلك من التفريط والتمييع والتساهل والاجتماع على أرض هشة ؟ !(3/5)
والحق الذي لاريب فيه أنَّ مصلحة الاجتماع والائتلاف أوْلى ، وترك الرأي الراجح تحقيقاً لهذه المصلحة ممَّا دلَّ عليه الشرع المطهر ، وإذا تعارضت المصالح ، فتحصيل المصلحة الأعلى مقدم على المصلحة الأدنى ، كما هو مقرر في علم الأصول ، قال ابن تيمية : " .. ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله ، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها ، بل الواجبات كذلك .
ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات ، فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً ، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب ، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما :
عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه " [9] . وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها ، ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يُجهَر بالبسملة عند المعارض الراجح ، فقال : يجهر بها إذا كان بالمدينة .
قال القاضي : " لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون ، فيجهر بها للتأليف وليعلمهم أنه يقرأ بها ، وأن قراءتها سنة ، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة " [10] .
إذن فالمسألة تحتاج إلى فقه رشيد يتسع فيه الصدر ، ويسمو فيه المرء عن أهوائه ؛ فليس الفقيه هو الذي يتعصب لرأيه ، أو يشدّد على الناس ، وقديماً قال
الثوري : " إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيحسنه كل أحد " [11] .(3/6)
وكأني بقائل قد يقول : إننا معاشر أهل الحق إذا تنازلنا عن رأينا في مسألة فقهية اجتهادية من أجل اجتماع الصف ؛ قادنا ذلك إلى التنازل في مسائل منهجية وعقيدية أخرى فيكثر الخلط ، وتتميع الصفوف .. !
وهذا تحفُّظ مردود ؛ لأنَّ التنازل في مسائل منهجية وعقيدية انحراف غير سائغ ، وهو مخالف للسبيل الشرعي الذي سلكه سلفنا الصالح ، ولكن الذي ندعو إليه هو التحاور والتطاوع في مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف تحقيقاً لمصلحة أعظم نفعاً بإذن الله ، ومراعاة لقاعدة تعد من أعظم قواعد الإسلام وأصوله ، وهي :
الاعتصام بحبل الله تعالى ، وترك التفرق والاختلاف المذموم ، وها هو ذا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يترك رأيه بقصر الصلاة في الحج ويأخذ بفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه لمَّا رأى الإتمام ؛ فلمَّا سئل عن ذلك قال : " الخلاف شر " [12] ، وفي رواية : " إني أكره الخلاف " [13] . فهذا خلاف في مسألة متعلقة بركن مقدَّم على الصوم ، وقعت في ذاته لا في زمانه ، ومع ذلك فقد تطاوع الصحابة رضي الله عنهم ولم يختلفوا ؛ فللّه دَرُّهُمْ ! وما أحوجنا للاهتداء بهديهم .
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق ، وأعذهم من نزغات الأهواء .
________________________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/903) .
(2) الفقيه والمتفقه (2/69) .
(3) الآداب الشرعية ، لابن مفلح الحنبلي (1/186) .
(4) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة ، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/116) .
(5) الجرح والتعديل ، للقاسمي (ص 37) .
(6) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة ، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124) .
(7) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الجهاد والسير رقم (1733) .
(8) الموافقات (4/186 187) .
(9) أخرجه البخاري ، رقم (26 ، 1583 ، 1584 وغيرها) ، ومسلم (2/968 973) .(3/7)
(10) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124 125) .
(11) جامع بيان العلم وفضله (10/784) .
(12) أخرجه : أبو داود ، رقم (1960) .
(13) أخرجه : البيهقي (3/144) والحديث أصله في صحيح البخاري ، رقم (1084 ، 1657) .
??
??
??
??(3/8)
توحيد رؤية الهلال
سمير بن خليل المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في محكم التنزيل (( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)) الآية .
والقائل (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) .
والصلاة والسلام على النبي القائل [[ إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ]] .
أما بعد ، فقد كثر التساؤل بين الناس في هذا العام عند دخول شهر رمضان عن حكم رؤية الهلال لبلد هل يلزم غيرها من البلاد أم لا ؟
وزاد من حيرة الناس في بلادنا التي تأخر فيها دخول الشهر إلى ليلة الاثنين ، لعدم ثبوت الرؤية من أهل هذه البلاد ، عندما رأوا الهلال في الليلة التالية أكبر مما يكون عليه عادة ، فسألني بعض طلبة العلم عن هذه المسألة وحكم هذا الخلاف ، ورأيت من المناسب أن أكتب هذه الورقات موضحاً ما التبس وأشكل عليهم ، عسى الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها .
فصل : كبر الهلال
وأبدأ الحديث عن مسألة كبر الهلال وصغره ، فإنها مما أثارت عند الناس الريبة ، وهي مسألة قديمة تكلم فيها العلماء وفيها آثار مشهورة .
روى مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي البختري قال (( خرجنا للعمرة ، فلما نزلنا ببطن نخلة قال : تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين . قال : فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين ، فقال أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا : ليلة كذا وكذا .
فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله مدَّه للرؤية ، فهو لليلة رأيتموه )) .
بوب النووي لهذا الحديث بقوله (( باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله تعالى أمدَّه للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون )) . شرح مسلم [ 7 / 198 ] .(4/1)
والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه [ 1919 ] وبوب له بقوله (( باب ذكر الدليل على خلاف ما توهمه العامة والجهال ، أن الهلال إذا كان كبيراً مضيئاً أنه لليلة الماضية لا لليلة المستقبلة ))
وروى الدار قطني في سننه [ 2 / 168 ] بإسناده عن شقيق قال (( جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين ، قال في كتابه : إن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان )) .
وفي معرض جوابه لسؤال سائل عن الهلال ، أجاب سماحة العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله بقوله [ وأما ما زعمه بعض الناس من صغر الهلال وكونه لم ير ليلة السبت فقد قال الإمام النووي ..] ثم ذكر تبويب النووي وأثر شقيق بن سلمة ، ثم قال [ وفي معنى هذا جملة أحاديث تبين أن لا اعتبار للحساب ولا لضعف منازل القمر ولا لكبر الأهلة وصغرها ، وإنما الاعتبار الشرعي بالرؤية الشرعية ..] . انظر الفتاوى [ رقم 1110 ] .
ويشهد لهذا حديث ذكره الألباني وصححه في السلسلة الصحيحة [ 2292 ] وعزاه للطبراني ونصه (( من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة ، وأن يرى الهلال لليلة فيقال : هو ابن ليلتين )) .
قال سمير : وفي هذا جواب لحيرة السائلين عن كبر هلال رمضان في هذا العام حين رأوه واضحاً كبيراً ليلة الثلاثاء ، ليلة الثاني من رمضان ، والله تعالى أعلم .
فصل
ولنرجع إلى مسألتنا ، وهي : إذا رأى أهل بلد الهلال فهل يلزم الناس كلهم حكم تلك الرؤية ؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح [ 4 / 123 ] عند شرحه لحديث (( .. فلا تصوموا حتى تروه )) مانصه [ وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها ، ومن لم يذهب إلى ذلك قال : لأن قوله (( حتى تروه )) خطاب لأناس مخصوصين فلا يلزم غيرهم ، ولكنه مصروف عن ظاهره فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد ، فلا يتقيد بالبلد ] .(4/2)
قال سمير : مراد الحافظ أن حديث (( لا تصوموا حتى تروه )) استدل به من ألزم أهل البلاد الأخرى الصوم لرؤية أهل بلد ، واستدل به الآخرون الذين ذهبوا إلى أن لكل بلد رؤيتهم ، فرد الحافظ على هؤلاء بأن الحديث مصروف عن ظاهره لأنه لا يلزم أن يرى كل من في البلد الواحد الهلال بل يكفي رؤية بعضهم ، فكذلك يقال لأهل البلاد الأخرى .
ثم ساق الحافظ الأقوال في هذه المسألة ، فقال [ وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب :
أحدها : لأهل كل بلد رؤيتهم . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له . وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق ، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه ، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية ] .
قال سمير : حديث ابن عباس الذي أشار إليه الحافظ رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وفيه أن كريباً مولى ابن عباس ذكر لابن عباس بأنه قدم الشام فرأى هلال رمضان ليلة الجمعة ثم قدم المدينة في آخر الشهر ، فسأله ابن عباس (( متى رأيتم الهلال )) ؟
قال كريب (( فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ،ورآه الناس وصاموا ،وصام معاوية ، فقال ( يعني ابن عباس ) : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه .
فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم )) . انظر جامع الأصول [ 6 / 275 ] .
قال الحافظ في الفتح [ ثانيها : مقابله ، إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها ، وهو المشهور عند المالكية ، لكن حكى ابن عبدالبر الإجماع على خلافه وقال : أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُدَ من البلاد كخراسان والأندلس .(4/3)
قال القرطبي : قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم . وقال ابن الماجشون : لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم ، لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع .
وقال بعض الشافعية : إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً ، وإن تباعدت فوجهان : لا يجب عند الأكثر ، واختار أبو الطيب وطائفة : الوجوب ، وحكاه البغوي عن الشافعي .
وفي ضبط البعد أوجه : أحدها : اختلاف المطالع ، قطع به العراقيون والصيدلاني ، وصححه النووي في " الروضة " و " شرح المهذب " .
ثانيها : مسافة القصر ، قطع به الإمام والبغوي ، وصححه الرافعي في " الصغير " والنووي في " شرح مسلم " ..] إلى آخر ما ذكره الحافظ .
قال سمير : ما قاله ابن الماجشون من أن للإمام الأعظم إلزام الناس كلهم ... الخ لا أدري ما دليله ، وحديث ابن عباس يعارضه ، لأن معاوية رضي الله عنه كان الإمام الأعظم إذ ذاك ،ولم يلزم غيره من أهل البلاد برؤيته ، ولم يلتزم ابن عباس رضي الله عنهما ومن معه من أهل المدينة برؤيته في الشام .
بقي النظر في فقه الحديث ، فإما أن يقال باختلاف المطالع أو الأقاليم أو بعد المسافة بين البلدان ، كما ذكر ابن عبدالبر في مثل الأندلس وخراسان .
قال ابن تيمية في الاختيارات [ ص 106 ] (( تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا . فإن اتفقت لزمه الصوم ، وإلا فلا ، وهو الأصح للشافعية وقول في مذهب أحمد )) .
قال سمير : ذهب كثير من الحنابلة إلى توحيد الرؤية واختاره ابن قدامة والمرداوي وصاحب الروض وغيرهم ، كما سيأتي نقله .
قال ابن قدامة في المغني [ 4 / 328 ] (( وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم . وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي .(4/4)
وقال بعضهم : إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها ، كبغداد والبصرة ، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما .
وإن كان بينهما بُعْد ، كالعراق والحجاز والشام ، فلكل أهل بلد رؤيتهم )) .
ثم استدل ابن قدامة على المذهب الذي اختاره بقوله تعالى (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) وبغير ذلك ، إلى أن قال (( ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم ، كما لو تقاربت البلدان )) اهـ .وقال المرداوي في الإنصاف [ 3 / 273 ] [ قوله (( وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم)) . لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه ، وأما من لم يره ، فإن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضاً ، قدَّمه في الفروع والفائق والرعاية . وهو من المفردات . وقال في الفائق : والرؤية ببلد تلزم المكلفين كافة .وقيل : تلزم من قارب مطلعهم ، اختاره شيخنا - يعني به الشيخ تقي الدين - ..)).
وقال صاحب الروض المربع [ص 123 ] [ (( وإذا رآه أهل بلد )) أي : متى ثبتت رؤيته ببلد (( لزم الناس كلهم الصوم )) ، لقوله صلى الله عليه وسلم (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) ، وهو خطاب للأمة كافة .. ] اهـ .
وقال في شرح المنتهى [ 1 / 439 ] [ (( وإذا ثبتت رؤيته )) أي :هلال رمضان (( ببلد لزم الصوم جميع الناس )) لحديث (( صوموا لرؤيته )) ، وهو خطاب للأمة كافة ، ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين ، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام ، كحلول دين ووقوع طلاق وعتق معلقين به ونحوه ، فكذا حكم الصوم .. )) ا هـ .
ولشيخ الإسلام بحث نفيس في هذه المسألة ، قال رحمه الله [ قلت : أحمد اعتمد في الباب على حديث الأعرابي الذي شهد أنه أهل الهلال البارحة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على هذه الرؤية ، مع أنها كانت في غير البلد ، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر ، ولم يستفصله ، وهذا الاستدلال لا ينافي ما ذكره ابن عبدالبر ، لكن ماحد ذلك ؟ ].(4/5)
قال سمير : مراد شيخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأعرابي عن مكان بلده ، وعليه فيمكن أن يكون الأعرابي الذي رأى الهلال ، ببلد تبعد عن المدينة فوق مسافة القصر ، فلما لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن بلده ، عرف أنه لا اعتبار بمسافة القصر في مسألة الرؤية ، والقاعدة الأصولية تقول (( ترك الاستفصال ينزّل منزلة العموم في الأقوال )) .
ثم قال ابن تيمية [ والذين قالوا : لا تكون رؤية لجميعها ، كأكثر أصحاب الشافعي ، منهم من حدد ذلك بمسافة القصر ، ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع ، كالحجاز مع الشام ، والعراق مع خراسان ، وكلاهما ضعيف ، فإن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال . وأما الأقاليم فما حدُّ ذلك ؟
ثم هذان خطأ من وجهين : أحدهما : أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب ، فإنه متى رؤي في المشرق وجب أن يرى في المغرب ، ولا ينعكس ...]
إلى أن قال ابن تيمية [ الوجه الثاني : أنه إذا اعتبرنا حداً ، كمسافة القصر ، أو الأقاليم ، فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك ، وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك ، وهذا ليس من دين المسلمين .
والصواب في هذا - والله أعلم - ما دل عليه قوله (( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون )) .
فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد ، وجب الصوم .
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب ، فعليهم إمساك ما بقي ، سواء كان من إقليم أو إقليمين .(4/6)
والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد ، فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس فالمستقبل يجب صومه بكل حال ، لكن اليوم الماضي هل يجب قضاؤه ؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر ، ولم ير قريباً منهم ، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب ، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول ، فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم .
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول فلا قضاء عليهم ، لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه ، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال ، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه ، فلم يكن يوم صومهم ، وكذلك في الفطر والنسك ..))]
إلى أن قال شيخ الإسلام [ فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله (( صوموا لرؤيته )) فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً ، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبدالبر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر ، فلا فائدة فيه ، بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر ، فإنها محل الاعتبار ...))] .
إلى أن قال [ فتخلَّص : أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدى بتلك الرؤية الصوم أو الفطر أو النسك ، وجب اعتبار ذلك بلا شك ، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك .
ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم فقوله مخالف للعقل والشرع ...] انتهى نقله من مجموع الفتاوى [ 25 / 103 - 111 ].
قال سمير : وإنما أطلت النقل من كلامه رحمه الله لنفاسته ، وهو يخالف ما ذهب إليه في الاختيارات من اعتبار اختلاف المطالع ، بينما نص هنا على أن العبرة هي في بلوغ العلم بالرؤية في الوقت الذي يؤدى فيه الصوم أو الفطر ، بمعنى أنه لو بلغهم خبر الرؤية بعد ذلك لم يلزمهم قضاء ذلك اليوم ، والله أعلم .(4/7)
وعليه فإننا في هذا الزمان ، نرى أن العلم بالرؤية يحصل للجميع في نفس الوقت عبر وسائل الإعلام ، فما المانع من الاعتبار برؤية الآخرين ، خاصة والقائلون بهذا هم من تقدم ذكرهم من الأئمة الأعلام ؟
وليس في ذلك مخالفة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ، إذ ليس فيه أن أهل المدينة بلغتهم رؤية أهل الشام لهلال رمضان قبل الصيام ، فإن ذلك كان متعذراً في تلك الأزمان .
ثم إني أقول : لو نظرنا إلى القول الآخر ، الذي حكى ابن عبدالبر رحمه الله ، الإجماع عليه ، وهو التباعد الكبير بين البلدان ، مثل ما بين خراسان في أقصى الشرق ، والأندلس في أقصى الغرب ، أو ما نقله بعضهم في اختلاف المطالع مثل الشام والحجاز مثلاً ، لوجدنا بأن هذا القول غير معمول به الآن ، لا في هذه البلاد ولا في غيرها ، بل المعمول به هو الحدود المصطنعة التي لا اعتبار بها في شرع ولا عقل .وقد نقلت لك كلام شيخ الإسلام ، وإنكاره على من فرق في حكم الصوم والفطر بين رجلين ، أحدهما في آخر المسافة من الإقليم الأول ، والآخر في أول المسافة من الإقليم الذي يليه ، فصارا متقاربين جداً .
وكذلك نقول فيمن فرق بين أهل نجران ونحوها وبين أهل اليمن ، ومن فرق بين أهل تبوك ونحوها وبين أهل الأردن ، في الصوم والفطر ، بسبب تعدد الولايات واختلاف الأنظمة الحاكمة لهذه البلدان ، في الوقت الذي توحد فيه " الرؤية " بين أقاصي المدن في الشمال والجنوب ، والشرق والغرب ، فبأي اعتبار كان هذا الوفاق وذاك الاختلاف ؟
وحديث ابن عباس حجة على من سوى بين المتباعدين في المسافة لمجرد اتحاد الحكم والنظام ، كما هو ظاهر ، إذ إن ولاية معاوية رضي الله عنه شاملة للبلدان كلها ، وليست خاصة بالشام وحدها .
وأدعو من ولاه الله هذا الأمر من أهل العلم أن ينظر في هذه المسألة من جهتين :(4/8)
الأولى : تحقيق المصلحة في اجتماع كلمة المسلمين وتوحيد عبادتهم في الصوم والفطر والنسك ، وقطع دابر الخلاف الذي يؤدي إلى الحيرة والشك والوساوس لدى العامة .
الثانية : أن مسألة " الرؤية " موكلة إلى أهل العلم والقضاء والفتوى في جميع الأقطار ، والأمراء والرؤساء تبع لهم في ذلك ، ولا أعلم أن أحداً من الرؤساء يعارض في اجتماع الكلمة في ذلك ، بل الذي أظنه أن ذلك سيلقى قبولاً عندهم ، لأنهم كعامة الناس قد يحصل عندهم لبس وحيرة عند اختلاف الرؤية .
فطالما أن مسألة توحيد الرؤية ليس فيها محذور شرعي وقال بها من تقدم ذكره ، وهي المشهورة في كتب الحنابلة ، وفيها مصالح ظاهرة ، فما المانع من الأخذ بها ؟
وممن قال بهذا القول ، سوى ممن تقدم ، من المتأخرين الشوكاني وتبعه صديق حسن خان رحمهما الله .
قال في الروضة الندية شرح الدرر البهية [ 224 - 225 ] .
[ (( وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة )) وجهه الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته وهي خطاب لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لجميعهم ..] إلى آخر ما ذكره . وانظر نيل الأوطار [ 5 / 199 ] .
وللشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين رحمه الله كلام طويل في شرح الزاد [ 6 / 308 - 312 ] على هذه المسألة ، فإنه ذكر أربعة أقوال ، ابتدأ بالقول المشهور في المذهب وهو اتحاد الرؤية ، وذكر ما فيه من مصلحة اجتماع كلمة المسلمين . ثم ذكر الأقوال الأخرى واختار منها القول الثاني وهو الحكم باختلاف المطالع ، وقوَّى القول الثالث وهو أن الناس تبع للإمام في الصوم والإفطار ، وذكر أنه لو وجدت خلافة عامة للمسلمين وثبتت الرؤية في بلد الخليفة لزم من تحت ولايته في مشارق الأرض ومغاربها موافقته . كذا قال الشيخ رحمه الله ، وقوله معارض لحديث ابن عباس معارضة ظاهرة ، ثم إن الأمراء في زماننا تبع لأهل العلم في ذلك ، وهذا ظاهر أيضاً .(4/9)
وأختم كلامي بذكر مسألتين هامتين :
الأولى : أن الاعتبار في دخول الشهر إنما هو بالرؤية الشرعية لا بالحساب الفلكي ، فلو بلغنا أن بلداً أعلن دخول الشهر وفق الحساب وعلم النجوم ، كما هو حاصل اليوم في كثير من البلدان ، فإن هذا غير معتبر شرعاً ، وإنما العبرة بالرؤية وثبوتها حسب القواعد الشرعية ومنها عدالة الرائي للهلال .
وكلام أهل العلم قديماً وحديثاً في إنكار الاعتماد على الحساب الفلكي في دخول الشهر ، مشهور ، انظر على سبيل المثال مجموع فتاوى شيخ الإسلام [ 25 / 125 - ...] وفتح الباري لابن رجب [ 3 / 67 ] والعمدة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب )) متفق عليه .
الثانية : أننا وإن كنا نتطلع إلى اجتماع كلمة المسلمين في مثل هذه المسائل الفرعية ، ونرغب من علمائنا وشيوخنا في أقطار الأرض في الوحدة والاتفاق ، ونبذ الفرقة والاختلاف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فيما لا يكون مخالفاً لكتاب الله ولا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لمنهج وطريقة السلف ، فإننا نرغب قبل ذلك ونتشوف إلى ما هو أعظم من ذلك بكثير ، وهو اجتماع الكلمة على توحيد رب العالمين في العبادة والحكم والطاعة ، وتوحيد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهى عنه وأن نعلن ذلك على الملأ ونقوله في كل محفل ، ولا نكتفي بالقول دون العمل ، ولا بمجرد الشعارات والأعلام المرفوعة ، ولا بمجرد الدعاء في القنوت وغيره بأن يعز الله دينه ويعلي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويحكم في الأرض شرعه ، ثم نخالف ذلك في الواقع ، أو نداهن ونكتم ما أمرنا بتبليغه وبيانه .(4/10)
وتعجبني رسالة قرأتها للإمام العلامة محمد بن إبراهيم قدس الله روحه ، قال رحمه الله جواباً لما طرحته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية حول البحث في موضوع مواقيت أهلة رمضان والفطر والحج : [ وأفيدكم أن هذه مسألة فروعية ، والحق فيها معروف كالشمس . والفصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) . والخلاف في تطبيق مدلول هذا الحديث وغيره بتأويل - اجتهاداً أو تقليداً - مثل نظائره في المسائل الفروعية ، وجنس هذا الاختلاف لابد منه في المسائل الفروعية ، ولا يضر .
إنما الهام : هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه ، وذلك : مسائل توحيد الله تعالى بإثبات ما أثبت لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات ، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل . وكذلك توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وكذا توحيد الاتباع والحكم بين الناس عند النزاع : بأن لا يحاكم إلا إلى الكتاب والسنة ولا يحكم إلا بهما . وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين هما أساس الملة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، بأن لا يعبد إلا الله ولا يعبد إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم .وأن لا يحكَّم عند النزاع إلا ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الحقيق بأن يهتم به وتعقد المجالس والمجتمعات لتحقيقه وتطبيقه . لذا لا أرى ولا أوافق على هذا المجتمع الذي هو بخصوص النظر فيما يتعلق بأهلة الصوم والفطر ونحوهما . وقد درجت القرون السابقة وجنس الخلاف في ذلك موجود ولم يروه من الضار ، ولا مما يحوج إلى الاجتماع للنظر فيه . والسلام عليكم ] الفتاوى [ 1096 ] .(4/11)
قلت : هذا ما أحببت إيضاحه فيما يتعلق برؤية الهلال والمسألة محل اجتهاد ونظر ولا إنكار فيها على من أخذ بقول معتبر من أقوال السلف ، والله تعالى الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد .
وكتب سمير بن خليل المالكي
8 / 9 / 1424هـ(4/12)
?
دخول الشهر القمري بين رؤية الهلال والحساب الفلكي
إعداد :
فهد بن علي الحسون
?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله القائل : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (36) سورة التوبة ، الحمد لله القائل : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (3) سورة المائدة ، الحمد لله الذي أنزل هذا الدين الكامل الصالح لكل زمان ومكان ، الحمد لله الذي أنعم علينا بكوننا منتسبين إلى هذا الدين العظيم ، والصلاة والسلام على النبي الصادق الأمين ، الذي بيّن ما أنزل إليه غاية التبيين عملاً بقول الله الحكيم العليم : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44) سورة النحل ، وقوله جل جلاله : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (67) سورة المائدة ، فبيّن - عليه الصلاة والسلام - للأمة جميع أمور دينها ، وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، ومن جملة ما بيّنه لهم أن بيّن لهم كيف يحسبون الشهور والأعوام ، وكيف يعرفون أن هذا الشهر خرج ، وذاك دخل ، حتى عرف المسلمون ذلك على أكمل وجه ، حتى استغنى المسلمون بما بينه لهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن غيره ؛ لأنه لم يترك موضع نقص ولا خلل ، بل بيّن لهم أمور دينهم على أكمل وجه ، بحيث لا يحتاجون بعد ذلك إلى اختراع في أمور دينهم ؛ لذلك قال الفقهاء : [الأصل في العبادات الحضر] ، وضل المؤمنون الصادقون ما يزيد على أربعة عشر قرناً آخذين بتلك التعليمات ، ولم يشعروا في يوم من الأيام أنها عاجزة عن الإيفاء بالغرض ، فصلاة الله وسلامه على أشرف الأنبياء والمرسلين ، النبي المصطفى الأمين ، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :(5/1)
فقد استعنت بالله سبحانه وتعالى على كتابة هذا البحث ، ولله الحمد على أن أعانني ووفقني لإتمام هذا البحث ، والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وعنوان البحث هو " دخول الشهر القمري بين رؤية الهلال والحساب الفلكي".
ولا تخفى الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع ، حيث يتوقف على إثبات دخول الشهر القمري جميع العبادات المؤقتة ، وعليه فلو أخطأ المسلم في تحديد دخول الشهر القمري فإنه يترتب على ذلك إيقاع العبادة في غير موضعها (1)، يُضاف إلى ذلك كثرة الشوشرة في هذا الموضوع ، وكثرة من خاض فيه من العالم والجاهل ، فلذلك كله اخترت هذا الموضوع.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بالشكر لكل من ساهم معي في إخراج هذا البحث , وأسأل الله لهم الأجر والمثوبة.
خطة البحث :
قد قسمت البحث إلى : مقدمة ، وتمهيد ، وفصلين ، وخاتمة ، وفهارس:
* التمهيد ويتضمن أربعة مباحث :
1- تعريف الشهر القمري.
2- تعريف رؤية الهلال.
3- تعريف الحساب الفلكي.
4- ما يترتب على دخول الشهر القمري.
_______________
(1) لمزيد من الإيضاح عن أهمية هذا الموضوع انظر (صـ 10- 11).
*
الفصل الأول بعنوان " بمَ يثبت دخول الشهر القمري" ويتضمن ثلاثة مباحث :
1- دخول الشهر بثبوت رؤية الهلال..
2- دخول الشهر بإتمام الشهر السابق ثلاثين يوماً.
3- دخول الشهر بالحساب الفلكي.
* الفصل الثاني بعنوان " ثبوت دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي" ، وذكرت فيه الخلاف في هذه المسألة ، وذكرت فيه المطالب التالية :
1- منشأ الخلاف.
2- الأقوال في المسألة.
3- القول الأول.
4- أدلة القول الأول.
5- القول الثاني.
6- أدلة القول الثاني.
7- القول الثالث.
8- أدلة القول الثالث.
9- تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة.
10- الحساب الفلكي في إثباته للشهور القمرية ظني.
11- الترجيح.
* الخاتمة ، وتشتمل على :
1- النتائج.
2- التوصيات.
*
الفهارس وهي :(5/2)
1- فهرس المصادر والمراجع.
2- فهرس الآيات.
3- فهرس الأحاديث.
4- فهرس الأعلام.
5- فهرس الموضوعات.
منهج البحث :
المنهج الذي سرت عليه في هذا البحث هو كما يلي :
1- أوثق الأقوال التي أنقلها من كتب القائلين بها أنفسهم ما استطعت ، وإلا ذكرت الكتب التي ذكرت ذلك النقل.
2- في المذاهب الفقهية الأربعة ، أوثق قول كل مذهب من كتب المذهب نفسه.
3- اذكر الآية القرآنية بين القوسين التاليين : { ... } ، وألتزم ذكر رقم الآية ، والسورة التي وردت فيها تلك الآية.
4- اذكر الحديث النبوي بين القوسين التاليين : " ... " ، وألتزم تخريجه من الكتب السبعة : صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، سنن أبي داود ، سنن الترمذي ، سنن النسائي ، سنن ابن ماجه ، مسند الإمام أحمد ، وإن لم يكن الحديث في الصحيحين بيّنت درجة ذلك الحديث بأقوال الأئمة.
5- إذا نقلت قولا من أقوال العلماء أو غيرهم ، فإن وضعت الإشارتين التاليتين : " ... " فمعنى ذلك أني ألتزم بنقل القول حرفياً ، وأما إن نقلت قولا بدون تلك الإشارتين ، فمعنى ذلك أني سوف أنقله بالمعنى.
6- ما استفدته من عالم أو كاتب أو كتاب فإني أوثق ذلك بذكر الشخص الذي استفدت منه ذلك المعنى ، وما لم اذكر فيه توثيقاً فإني لم استفده من أحد.
هذا هو مضمون البحث ، فما كان فيه من إصابة فهي من الله ، وما كان فيه من خطأ فهو من نفسي والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان.
وفي الختام أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا السداد والإعانة ، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال ، وأن يجعل هذا العمل في موازين حسناتنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه
فهد بن علي الحسون
في يوم الأربعاء 5\10\1425هـ
fahd088@hotmail.com
تمهيد
ويتضمن أربعة مباحث :
* تعريف الشهر القمري.
* تعريف رؤية الهلال.
* تعريف الحساب الفلكي.
* ما يترتب على دخول الشهر القمري.
المبحث الأول
تعريف الشهر(5/3)
الشهر في اللغة : وضوح في الأمر وإضاءة ، قال ابن فارس : " الشين والهاء والراء أصل صحيح يدل على وضوح في الأمر وإضاءة ، من ذلك الشهر ، وهو في كلام العرب الهلال ، ثم سُمي كل ثلاثين يوماً باسم الهلال ، فقيل شهر"(1).
وفي الشرع : يراد بالشهر عند الإطلاق : الشهر الهلالي ، قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (36) سورة التوبة(2).
_______________
(1) [معجم مقاييس اللغة] لابن فارس (3\222).
(2) [الموسوعة الفقهية الكويتية] (26\261).
المبحث الثاني
تعريف رؤية الهلال
الرؤية هي : النظر والإبصار ، بعين أو بصيرة(1).
والهلال هو : غرة القمر ، قال ابن منظور : والهلال غرة القمر حين يُهله الناس في غرة الشهر ، وقيل : يسمى هلالاً لليلتين من الشهر ، ثم لا يسمى به إلى أن يعود في الشهر الثاني ، وقيل : يسمى به ثلاث ليال ٍ ثم يسمى قمراً ، قال أبو إسحاق : الذي عندي وما عليه الأكثر أن يسمى هلالاً ابن ليلتين ، فإنه في الثالثة يتبين ضوءه. والجمع أهلة ، وأهللنا شهر كذا رأينا هلاله ، وأهل الشهر واستهل ظهر هلاله وتبين ، قال أبو العباس : وسمي الهلال هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه(2).
والمراد برؤية الهلال في الشرع : مشاهدته بالعين بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من الشهر السابق ممن يعتمد خبر وتقبل شهادته ، فيثبت دخول الشهر برؤيته(3).
_______________
(1) [معجم مقاييس اللغة] لابن فارس (2\472).
(2) [لسان العرب] لابن منظور (11\703).
(3) [الموسوعة الفقهية الكويتية] (22\23).
المبحث الثالث
تعريف الحساب الفلكي
الحساب هو : العد ، ومنه قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (5) سورة الرحمن(1).(5/4)
والفلك في اللغة هو : مدار النجوم ، قال ابن منظور : الفلك : مدار النجوم ، والجمع أفلاك ، والفلك واحد أفلاك النجوم ، ويجوز أن يجمع على [فُعْل] ، مثل : أَسد وأُسْد ، وخَشَب وخُشْب(2).
واصطلاحاً هو : العلم الذي يبحث عن أحوال الأجرام السماوية ، أو هو العلم الذي يدرس ما في السماء من نجوم وكواكب(3).
وينبغي التنبه إلى أن [علم الفلك] كان يطلق عليه قديماً [علم الهيئة] ، ولا فرق بين الاثنين(4).
وبناءاً على ما سبق ، يكون الحساب الفلكي هو : معرفة مسارات النجوم والكواكب ، وعد أيام سيرها ، ومعرفة مواقيت سيرها ، وغيابها وظهورها.
_______________
(1) [معجم مقاييس اللغة] لابن فارس (2\59).
(2) [لسان العرب] لابن منظور (10\478).
(3) [علم الفلك] ، للدكتور يحيى شامي (صـ 46).
(4) [علم الفلك] ، للدكتور يحيى شامي (صـ 46).
المبحث الرابع
ما يترتب على دخول الشهر القمري
يترتب على دخول الشهر الهجري أحكام كثيرة من أحكام الإسلام ، وكذلك مهمة جداً ، ومنها على سبيل المثال :
1- صيام شهر رمضان ، قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (185) سورة البقرة.
2- الزكاة ، وذلك أن الزكاة تجب في المال الذي قد بلغ النصاب إذا حال عليه الحول ، والمسلم إنما يعرف مُضي الحول على ماله بمضي اثنا عشر شهراً قمرياً.
3- الحج ، قال تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (197) سورة البقرة ، وأشهر الحج هي : شوال ، ذي القعدة ، ذي الحجة.
4- مدة الإيلاء ، قال تعالى : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (226) سورة البقرة.(5/5)
5- صوم الكفارة ، قال تعالى : {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (92) سورة النساء.
6- عدة المتوفى عنها زوجها ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (234) سورة البقرة.
7- عدة اليائسة من الحيض ، وكذلك التي لم تحض ، قال تعالى : {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (4) سورة الطلاق.
8- الأشهر الحرم التي يحرم القتال فيها ، وهي : رجب ، ذي القعدة ، ذي الحجة ، محرم ، قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (36) سورة التوبة.
بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط ، فالهلال ميقات له"(1).
_______________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\134).
بل إن الشرائع السابقة كذلك كانت أحكامها معلقة بالأهلة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضاً إنما علقت الأحكام بالأهلة ، وإنما بدل من بدل من أتباعهم"(2).
فمما مضى تتضح الأهمية الكبيرة للشهر القمري ، خصوصاً أنه تتوقف عليه أحكام ثلاثة أركان من أركان الإسلام هي : (الصيام ، الزكاة ، الحج) وغيرها من الأحكام المهمة في حياة المسلم ، وإذا اتضحت تلك الأهمية اتضحت أيضاً أهمية بحث هذا الموضوع ، وتنقيحه وتوضيحه.
_______________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\134).
الفصل الأول
بمَ يثبت دخول الشهر القمري ؟
ويتضمن ثلاثة مباحث :
* دخول الشهر بثبوت رؤية الهلال.
* دخول الشهر بإتمام الشهر السابق ثلاثين يوماً.
* دخول الشهر بالحساب الفلكي.
المبحث الأول
دخول الشهر برؤية الهلال(5/6)
يثبت دخول الشهر إذا رُؤي هلاله ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "صُوموا لِرُؤْيتهِ وأفطِروا لرُؤيته"(1) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : "إذا رَأيتُموهُ فصوموا، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا. فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له"(2) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حذيفة - رضي الله عنه - : "لاَ تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حتى تَرَوْا الهِلاَلَ أوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حتى تَرَوْا الهِلاَلَ أوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ"(3).
الرؤية التي يثبت بها دخول الشهر :
المطلوب في رؤية الهلال هو رؤيته بالعين المجردة ، أما رؤيته بالآلات الحديثة - كالمكبرات- فظاهر كلام الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - أن الاستعانة بها جائزة ، ولكن العمدة على
________________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصوم / باب قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : "إذا رأيتمُ الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتُموهُ فأفطِروا" (1888) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال ، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما (2468) ، والترمذي في سننه في كتاب الصوم / باب ما جاء لا تقدموا الشهر (678) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم (2118) ، وأحمد في مسنده (9696).(5/7)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم / باب هل يُقالُ رَمضانُ أو شهرُ رمضانَ، ومَن رأَى كلَّهُ وَاسِعاً (1879) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال ، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما (2457) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب ذكر الاختلاف على الزهري في هذا الحديث (2121) ، وابن ماجه في سننه في كتاب الصيام / باب ما جاء في "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"/ (1704) ، وأحمد في مسنده (6307)
(3) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب إذا أغمي الشهر (2327) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب ذكر الاختلاف على منصور في حديث ربعي فيه (2127) ، قال الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\50) رقم الحديث (2326)].
رؤية العين حيث قال حين سئل عن استخدام الدربيل في رؤية الهلال : " إن استعان به فلا بأس ، ولكن العمدة على رؤية العين"(1) ، وقال في موضع آخر : " أما الآلات فظاهر الأدلة الشرعية عدم تكليف الناس بالتماس الهلال بها ، بل تكفي رؤية العين ، ولكن من طالع الهلال بها ، وجزم بأنه رآه بواسطتها بعد غروب الشمس وهو مسلم عدل فلا أعلم مانعاً من العمل برؤيته الهلال ؛ لأنها من رؤية العين لا من الحساب"(2).
العدد المطلوب لرؤية الهلال :
تنقسم الشهور بالنسبة لهذه المسألة إلى قسمين :
1- شهر رمضان : ويكفي في ثبوته شهادة شخص واحد.(5/8)
ويدل لذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : "تَرَاءى النَّاسُ الهِلاَلَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ"(3) ، ويدل له كذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : "جَاءَ أعْرَابِيٌّ إلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ : إنِّي رَأَيْتُ الهِلاَلَ ، فَقالَ : أتَشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله؟ ، قال : نَعَمْ ، قالَ : أتَشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً رَسُولُ الله؟ ، قال : نَعَمْ ، قالَ : يَا بِلاَلُ أذِّنْ في النَّاسِ فَلْيَصُوموا غَداً"(4).
وهذا هو قول الحنابلة(5) والشافعية(6).
وعلى مذهب الحنابلة لا يُشترط كون الشاهد هنا ذكراً ولا حراً ، ولا أن تكون بلفظ
_______________
(1) [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\70).
(2) [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\69).
(3) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2343) ، قال الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\55) رقم الحديث (2342)] ، وقال ابن حجر : صححه ابن حزم [تلخيص الحبير لابن حجر (2\187) رقم الحديث (879)].
(4) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2341) ، والترمذي في سننه في كتاب الصوم / بابُ ما جَاء في الصَّوْمِ بالشَّهَادَة (685) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان وذكر الاختلاف فيه على سفيان في حديث سماك (2113) ، وابن ماجه في سننه في كتاب الصيام / باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1702) ، قال عنه الألباني : ضعيف [ضعيف سنن أبي داود للإمام الألباني (صـ 182) رقم الحديث (2340)].
(5) [الإنصاف] للمرداوي (3\194).
(6) [المجموع] للنووي (6\184).
الشهادة(1).(5/9)
وأما مذهب الشافعية فلا يقبلون هنا شهادة المرأة ولا العبد(2).
وأما مذهب المالكية فلا يقبلون هنا إلا أن يشهد عدلان بذلك(3).
وأما مذهب الحنفية ففيه تفصيل : إن كان بالسماء علة - أي غيم أو قتر أو نحوهما - فشهادة الواحد على هلال رمضان مقبولة ، وفي هذه الحالة لا يشترطون كونه ذكراً ولا حراً ، وإن لم يكن بالسماء علة فلا تقبل إلا شهادة جع كثير يقع العلم بخبرهم ، وتقدير ذلك الجمع مفوّض إلى الإمام(4).
2- الشهور الباقية غير رمضان : لا تثبت إلا بشهادة ذكرين.
ويدل لذلك ما رواه النسائي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ : "أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ ، فَقَالَ : أَلاَّ إنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَاءَلْتُهُمْ ، وَأَنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : صُومُوا لِرُؤيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ فَإنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا"(5) ، ولما رواه أبو داود عن حُسَيْنُ بنُ الحارثِ الْجَدَلِيُّ : "أنَّ أمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ ثُمَّ قال: عَهِدَ إلَيْنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فإنْ لم نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا"(6) ، ولما رواه أبو داود كذلك عن رِبْعِيِّ بنِ حِرَاشٍ عن رَجُلٍ من أصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : "اخْتَلَفَ النَّاسُ في آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدِمَ أعرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّهِ لأَهَلاَّ الهِلاَلَ أمْسِ
_______________
(1) [الإنصاف] للمرداوي (3\194- 195).
(2) [المجموع] للنووي (6\184).
(3) [المدونة الكبرى] للإمام مالك (1\193).(5/10)
(4) [الفتاوى الهندية] للهمام مولانا الشيخ نظام (1\217- 218).
(5) أخرجه النسائي في سننه في كتاب الصيام / باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان وذكر الاختلاف فيه على سفيان في حديث سماك (2117) وأحمد في مسنده (18540) ، قال الألباني : صحيح [أرواء الغليل للإمام الألباني (4\16) رقم الحديث (909)].
(6) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال (2339) ، وقال الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\54) رقم الحديث (2338)] ، وقال الدارقطني : هذا إسناد متصل صحيح [سنن الدارقطني (2\267)]
عَشِيَّةً، فأمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ أن يُفْطرُوا"(1) ، وقد أجمع المسلمون على أن شهور السنة غير رمضان لا تقبل بأقل من شهادة عدلين(2).
الشروط المشترطة فيمن يرى الهلال :
1- أن يكون عدلاً(3)، والعدالة هي : القيام بالوجبات واجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر(4).
ويرى الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - أن الصحيح أن الشهادة تقبل في هذا الموضع إذا ترجح أنها حق وصدق ، حيث قال : " ولو قلنا بقول الفقهاء لم نجد عدلاً ، فمن يسلم من الغيبة والسخرية بالناس والتهاون بالواجبات وأكل المحرم وغير ذلك ، ولهذا كان الصحيح بالنسبة للشهادة أنه يقبل منها ما يترجح أنه حق وصدق ؛ لقوله تعالى : {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} (282) سورة البقرة ، ولأن الله لم يأمرنا برد شهادة الفاسق ، بل أمرنا بالتبين فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (6) سورة الحجرات"(5).
2- أن يكون مكلفاً ، والمكلف هو : البالغ العاقل(6).(5/11)
3- أن يكون قوي البصر ، بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه ، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته ، حتى وإن كان عدلاً ؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل فإننا نعلم أنه متوهم ، وممن قال بذلك الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - وقال : " والدليل على ذلك أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل ، ففي قصة موسى مع صاحب مدين ، قالت إحدى ابنتيه:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ }(26) سورة القصص ،
_______________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال (2340) ، وقال الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\54) رقم الحديث (2339)].
(2) حكى هذا الإجماع ابن رشد ، حيث قال : " وأجمعوا على أنه لا يقبل في الفطر إلا اثنان ، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر" [بداية المجتهد] لابن رشد (2\559) وقول ابن رشد : " إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر" ، يقصد به : أن أبا ثور لم يشترط في الفطر إلا واحداً كما أن الصوم يثبت بواحد كذلك.
(3) [الإنصاف] للمرداوي (3\194).
(4) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\313).
(5) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\314-315).
(6) [الإنصاف] للمرداوي (3\195).
وقال العفريت من الجن الذي التزم أن يأتي بعرش ملكة سبأ : {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (39) سورة النمل ، ومن ذلك الشهادة ، ولابد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة ، ولابد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به"(1).
مسألة : إذا غم على الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فما الحكم ؟
تحرير محل النزاع :(5/12)
اتفقوا على أنه إذا رُؤي الهلال ليلة الثلاثين وجب الصوم ، وعلى أنه إذا لم يُرى الهلال ليلة الثلاثين وكان صحواً لم يجب الصوم ، وإذا لم يُرى الهلال ليلة الثلاثين مع وجود غيم أو قتر فهذا هو موضع الخلاف ، وقد اختلف العلماء على أقوال أشهرها :
القول الأول :
أن صوم يوم الثلاثين هنا منهي عنه ، وقد اختلف أصحاب هذا القول ، فمنهم من قال منهي عنه نهي تحريم ، ومنهم من قال منهي عنه نهي تنزيه ، وهذا هو قول المالكية(2) والشافعية(3) ، ورواية عن أحمد(4) اختارها بعض أصحابه(5).
أدلة القول الأول :
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يَتقدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومَينِ إلاّ أن يكونَ رجُلٌ كان يصومُ صومَهُ فليَصُمْ ذلك
_______________
(1) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\315).
(2) [حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل] للخرشي (3\11).
(3) [الحاوي الكبير] للماوردي (3\109).
(4) [الإنصاف] للمرداوي (3\192).
(5) نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في [مجموع الفتاوى] (25\98-99) هذا القول عن أبي الخطاب ، وابن عقيل ، وأبي القاسم بن منده الاصفهاني ، وقال به من المعاصرين الحنابلة الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - [الشرح الممتع للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\307)].
اليومَ"(1).
وجه الدلالة : أنه إن لم يكن يصوم صوماً ، فصام هذا اليوم الذي فيه شك ، فقد تقدم رمضان بيوم(2).
2- عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال : "من صامَ يومَ الشَّك فقد عَصى? أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -"(3).
وجه الدلالة : أن هذا اليوم هو اليوم الذي يشك فيه ؛ لوجود الغيم والقتر(4).
3- عن عبدِ اللّهِ بنِ عمرَ - رضيَ الله عنهما - أن رسولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : "الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ ليلةً، فلا تصومُوا حتّى تَرَوهُ، فإِنْ غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّةَ ثلاثين"(5).(5/13)
وجه الدلالة : أن قوله : "فأكمِلوا العِدَّةَ ثلاثين" أمر ، والأصل في الأمر الوجوب ، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً حرم صوم يوم الشك(6).
_______________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم / باب لا يُتَقدَّمَنَّ رمضانَ بصومِ يومٍ ولا يومين (1893) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين (2471) ، وأبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب في من يصل شعبان برمضان (2336) ، والترمذي في سننه في كتاب الصوم / بابُ ما جاءَ لا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمٍ (678) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب التقدم قبل شهر رمضان (2173) ، وابن ماجه في سننه في كتاب الصيام / باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصومٍ، إلا من صام صوماً فوافقه (1700) ، وأحمد في مسنده (7740).
(2) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\305).
(3) رواه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في كتاب الصوم / باب قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتمُ الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتُموهُ فأفطِروا" ، ووصله أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب كراهية صوم يوم الشك (2335) ، والترمذي في سننه في كتاب الصوم / بابُ ما جاءَ في كَرَاهَيةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ (680) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب صيام يوم الشك (2189) ، وابن ماجه في سننه في كتاب الصيام / باب ما جاء في صيام يوم الشك (1695).
(4) انظر [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\305).(5/14)
(5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم / باب قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : "إذا رأيتمُ الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتُموهُ فأفطِروا" (1886) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما (2455) ، وأبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2321) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب ذكر الاختلاف على عبيد الله بن عمر في هذا الحديث (2123)، وأحمد مسنده (4483).
(6) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\306)
4- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ"(1).
وجه الدلالة : أن إيجاب صوم هذا اليوم هو من باب التنطع في العبادة ، والاحتياط لها في غير محله(2).
القول الثاني :
وجوب صوم ذلك اليوم ، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة(3) ، وهو قول جمع من الصحابة والتابعين(4).
وهذا القول يقال أنه أشهر الروايات عن أحمد ، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية حقق أن الإمام أحمد كان يرى استحباب صوم هذا اليوم لا الوجوب ، حيث قال : وهذا (5) يقال أنه أشهر الروايات عن أحمد ، لكن الثابت عن أحمد لمن عرف نصوصه ، وألفاظه أنه كان يستحب صيام يوم الغيم ، وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد ، ولا كلام أحد من أصحابه ، لكن كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه ، ونصروا ذلك القول(6).
أدلة القول الثاني :
1- عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى? تَرَوْهُ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى? تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ"(7).(5/15)
قال نافع : فَكَانَ ابنُ عُمَرَ إذَا كان شَعْبَانُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ فَإن رُئِيَ فَذَاكَ وَإن يُرَ وَلَمْ
_______________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب العلم / باب هلك المتنطعون (6735) ، وأبو داود في سننه في كتاب السنة / باب في لزوم السنة (4600) ، وأحمد في مسنده (3656).
(2) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\306).
(3) [الإنصاف] للمرداوي (3\191).
(4) نقله ابن قدامة عن عمر وابنه ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأنس ، ومعاوية ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ، وبكر بن عبد الله ، وأبو عثمان النهدي ، وابن أبي مريم ، ومطرف ، وميمون بن مهران ، وطاووس ، ومجاهد - رحم الله الجميع ورضي عنهم - [المغني لابن قدامة (4\330)]
(5) الإشارة إلى القول بالوجوب.
(6) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\99).
(7) سبق تخريجه في (صـ 18)
يَحُلْ دُون مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلاَ قَتَرَةٌ أصْبَحَ مُفْطِراً، فَإنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أوْ قَتَرَةٌ أصْبَحَ
صَائِماً(1).
وجه الدلالة : من وجهين :
أ - أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فَاقْدِرُوا لَهُ" أي : ضيقوا له العدد من قوله تعالى : {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (7) سورة الطلاق ، أي ضُيق عليه ، وقوله : {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} (26) سورة الرعد ، والتضييق له أن يُجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً.
ب - أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد فسر الحديث بفعله ، وهو راويه وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره(2).
والجواب عن استدلالهم بهذا الحديث ما يأتي :
أولاً : الجواب عن الوجه الأول من وجهي استدلالهم : والجواب عنه من وجهين :(5/16)
أ - لا نسلم لكم أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فَاقْدِرُوا لَهُ" ضيقوا له : بل المراد بالقدر هنا ما فسرته الأحاديث الأخرى ، وهو إكمال شعبان ثلاثين يوماً إن كان الهلال لرمضان وإكمال رمضان ثلاثين يوماً إن كان الهلال لشوال.
ب - وإن سلمنا لكم ما قلتم فلماذا لا نقول القدر أن يجعل رمضان تسعة وعشرين فتجعل التضييق على رمضان لأنه لم يهل هلاله إلى الآن ، فليس له حق في الوجود فيبقى مُضيقاً عليه.
ثانياً : الجواب عن الوجه الثاني من وجهي استدلالهم : أن أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - لا دليل فيه على الوجوب ؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد فعله على سبيل الاستحباب ، أو الاحتياط ؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر الناس به ، ولو أهله على الأقل(3).
2- عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُما - أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ
_______________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2321) ، وأحمد في مسنده (4483) ، قال الألباني عن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : صحيح دون قوله (فكان ابن عمر) [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\49) رقم الحديث (2320)].
(2) [المغني] لابن قدامة (4\331-332).
(3) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\304-305).
أَوْ لآِخَرَ : "أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ؟" ، قَالَ : لاَ ، قَالَ : "فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ"(1).
وجه الدلالة : أن سرر الشهر آخره ، ليالي يستسر الهلال فلا يظهر(2).(5/17)
والجواب عن استدلالهم بالحديث : قيل : أن المراد بسرر الشهر أوله ، وقيل : أن المراد بسرر الشهر آخره ؛ لأن السرر جمع سرة ، وسرة الشيء وسطه ، وهذان القولان فيهما ضعف ؛ لأن الراجح أن المراد بسرر الشهر آخر ، وهذا ما عليه الجمهور والحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تقدم رمضان بيوم أو يومين ، والجمع بين الحديثين ممكن ، وذلك بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك وحمل الأمر على من له عادة بذلك(3).
3- الاحتياط ، وذلك لأن هذا اليوم شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر أنه من غير رمضان ، فوجب الصوم ، قالت عائشة : لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان(4) ، وذلك لأن الصوم يحتاط له ؛ ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ، ولم يفطر إلا بشهادة اثنين(5).
الجواب عن هذا الدليل : قال الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - : " ما كان سبيله الاحتياط فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه ليس بلازم ، وإنما هو على سبيل الورع والاستحباب ؛ وذلك لأننا إذا احتطنا وأوجبنا فإننا وقعنا في غير الاحتياط من حيث تأثيم الناس بالترك ، والاحتياط هو : ألا يؤثم الناس إلا بدليل يكون حجة عند الله تعالى"(6).
_______________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم / باب الصومِ من آخِرِ الشَّهر (1960) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب صوم سرر شعبان (2704) ، وأبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب في التقدم (2329) ، وأحمد في مسنده (19612)
(2) [المغني] لابن قدامة (4\332).
(3) [فتح الباري] لابن حجر (4\294).(5/18)
(4) أخرجه أحمد في مسنده (24552) : عن عبد الله بن أبي موسى قال : أرسلني مُدْرِك أو ابن مدرك إلى عائشة أسألها عن أشياء ... وسألتها عن اليوم الذي يختلف فيه من رمضان ؟ ، فقالت : لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان، قال : فخرجت ، فسألت ابن عمر وأبا هريرة ، فكل واحد منهما قال : أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعلم بذاك منا.
(5) [المغني] لابن قدامة (4\332-333).
(6) [الشرح الممتع] للشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - (6\304-305).
القول الثالث :
أنه يجوز صومه ، ويجوز فطره ، وهذا هو مذهب الحنفية(1) ، وهو رواية عن أحمد(2) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال : " وهو مذهب أحمد المنصوص الصريخ عنه ، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم"(3).
دليل القول الثالث :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر أن هذا اليوم يجوز صومه وفطره : " وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز ، فإن شاء أمسك ، وإن شاء أكل حتى يتقن طلوع الفجر ، وكذلك إذا شك هل أحدث أم لا ، إن شاء توضأ وإن شاء لم يتوضأ ، وكذلك إذا شك هل حال حول الزكاة أو لم يحل ، وإذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة أو مائة وعشرون فأدى الزيادة ، وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم"(4).
القول الرابع :
أن الناس تبع للإمام ، فإن صام صاموا ، وإن أفطر أفطروا ، وهذا القول رواية عن أحمد(5) ، وهو قول الحسن وابن سيرين(6).
دليل القول الرابع :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "َفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ"(7).
_______________
(1) [البحر الرائق] لابن نجيم (2\462) و[الهداية شرح بداية المبتدئ] لبرهان الدين المرغيناني (2\531-532).
(2) [الإنصاف] للمرداوي (3\191).
(3) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\99-100).(5/19)
(4) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\100).
(5) [المغني] لابن قدامة (4\330).
(6) نقل هذا القول عن الحسن وابن سيرين ابن قدامة في [المغني] (4\330).
(7) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصوم / باب إذا أخطأ القوم الهلال (2325) ، وابن ماجه في سننه في كتاب الصيام / باب ما جاء في شهري العيد (1710) ، وقال عنه الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\50) رقم الحديث (2324)].
الترجيح :
بعد استعراض الأقوال والأدلة بدا لي أن الراجح يدور بين القول بالإباحة ، والقول بالتحريم ، أما القول بالوجوب فبعيد ؛ لعدم الدليل الذي ينتهض على تأثيم من لا يصوم ذلك اليوم ، وفي ظني
أن ما جعلهم يقولون بذلك هو احتياطهم للعبادة ، وتقدم معنا أن الاحتياط إنما يفيد الورع والاستحباب ، ولا يقوى على الإيجاب ، الذي يأثم بموجبه من ترك ذلك الفعل ، ففي رأيي أن صيام هذا اليوم إما أنه محرم أو مكروه ؛ لأنه هو يوم الشك ، أو أنه مباح كمن شك في طلوع الفجر مع وجود الحائل ، فله أن يمسك ، وله أن يأكل حتى يتيقن طلوع والفجر ، والله أعلم.
المبحث الثاني
دخول الشهر بإتمام الشهر السابق ثلاثين يوماً(5/20)
إذا لم يرَ الهلال ليلة الثلاثين ، فإن الشهر الحالي يكون تاماً ثلاثين يوماً ثم بعد ذلك يدخل الشهر الذي بعده ؛ لأن الشهر القمري لا يمكن أن يزود في حال من الأحوال عن ثلاثين يوماً ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : "الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ ليلةً، فلا تصومُوا حتّى تَرَوهُ، فإِنْ غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّةَ ثلاثين"(1) ، فيفهم منه أنه لا يزاد في الشهر عن ثلاثين يوماً ، فإما أنهم يروا الهلال ليلة الثلاثين ، فيدخل الشهر في ذلك اليوم ، ويصبح الشهر السابق ناقصاً - أي تسعة وعشرون يوماً - أو ألا يروا الهلال فيكمل الشهر السابق - أي ثلاثين يوماً - ويدخل الشهر بعد يوم الثلاثين ، ويدل على ذلك صراحة ما رواه الحاكم بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الله قد جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فافطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ، واعلموا أن الشهر لا يزيد على ثلاثين"(2) ، وقد أجمع العلماء على ذلك ، حيث قال ابن رشد : " فأما ظرف الزمان فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعاً وعشرين ، ويكون ثلاثين"(3).
_______________
(1) سبق تخريجه في (صـ 18).
(2) أخرجه الحاكم - واللفظ له - في المستدرك كتاب الصوم \ باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر (1579) وقال عن الحديث : " هذا حديث صحيح الإسناد ، على شرطهما ، ولم يخرجها" ، وأخرجه كذلك البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الصيام \ باب الصوم لرؤية الهلال أو استكمال العدد ثلاثين (7931).
(3) [بداية المجتهد] لابن رشد (2\557).
المبحث الثالث
دخول الشهر بالحساب الفلكي(5/21)
هناك من يقول أن الحساب الفلكي طريقاً من طرق ثبوت دخول الشهر القمري ، على اختلاف بينهم هل الأخذ به واجب ، أم جائز ، أم يجوز في حال دون حال ، وهذا كله إنما قال به المتأخرون ، أما المتقدمين والسلف فلم ينقل عن أحد منهم القول بهذا القول ، إلا ما سنبينه في الفصل القادم.
وتحقيق هذه المسألة ، والأقوال فيها ، وقائليها ، وتحقيق نسبة الأقوال إليهم ، وأدلة كل قول هو موضوع الفصل الثاني من هذا البحث ، فالكلام عن هذا كله موجود في الفصل الثاني.
الفصل الثاني
ثبوت دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي
قد اختلف العلماء وغيرهم - من الفلكيين - في هذه المسألة على أقوال سوف يتضح لك أصل الخلاف ووضعه ، ومدى قوة كل قول من خلال النقاط التالية :
منشأ الخلاف :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة : " ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلاً ، ولا خلاف حديث ، إلا بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب ، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا ، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ ، مسبوق بالإجماع على خلافه ، فأما إتباع ذلك في الصحو ، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم"(1).
الأقوال في المسألة :
قُيل في هذه المسألة أقوال أهمها :
القول الأول :
لا يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي في ثبوت دخول الشهر إطلاقاً ، وهذا قول السلف قاطبة - إلا ما حكي عن عدد قليل منهم ، سوف نبين مدى صحة نسبة القول إليهم فيما يأتي(2) - وقد
_______________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\132-133).
(2) انظر (صـ 41-42).
حكى الإجماع على هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية(1) وابن المنذر(2) وابن عابدين(3) ، وابن رشد(4) ، وغيرهم ، وهو قول جمهور المعاصرين.
أدلة القول الأول :(5/22)
الدليل الأول : قول تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (185) سورة البقرة.
وجه الدلالة : قال الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله - : " والمراد بالشهود رؤية الهلال كما هو المتبادر ، وبه فسره أهل العلم العارفون بمدلول لغة القرآن وهم القدوة في ذلك لا من خالف إجماع السلف"(5).
جواب من قال بالحساب عن الاستدلال بهذه الآية : أن (شهد) في اللغة لها أربعة معان ٍ :
1- بمعنى (أخبر) ، مثل : شهد عند الحاكم.
2- بمعنى (اطلع على الأمر وعاينه) ، مثل : شهدت فلاناً يصلي في المصلى.
3- بمعنى (حضر) ، مثل : شهدنا العيد.
4- بمعنى (علم) ، ومنه قوله تعالى {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (18) سورة آل عمران.
وعليه فصوم رمضان وشهوده يصح بهذه المعاني الأربعة مجتمعة ، كما يصح بواحد منها(6).
مناقشة هذا الجواب : حين رجعت إلى كتب التفسير وجدت أن الآية لا تدل على قول من الأقوال المذكورة في المسألة ، وأن الآية لا يمكن أن يستدل بها على شيء مما قيل في المسألة ؛ لأن موضوعها خارج عن محل النزاع أصلاً ، قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - ما ملخصه : " اختلف أهل التأويل في معنى [شهود الشهر] فقال بعضهم هو مقام المقيم في داره ، قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله ، غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح" ، ثم ذكر أن هذا القول قول ابن عباس وجماعة من التابعين وغيرهم ، ثم قال : " وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ما شهد منه" ، ثم ذكر أن هذا قول جماعة من التابعين وغيرهم ، ثم قال : " وقال آخرون : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (185) سورة البقرة ، يعني : فمن شهده عاقلاً بالغاً مكلفاً فليصمه ، وممن قال بذلك أبو حنيفة
_______________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\132).(5/23)
(2) نقله عنه الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\158).
(3) [حاشية ابن عابدين] (3\408).
(4) [بداية المجتهد] لابن رشد (2\557).
(5) [مجلة البحوث العلمية] (صـ 95) ، عدد (27).
(6) انظر ما كتبه الدكتور أمير حسين حسن في [مجلة الأزهر] (صـ 1315) عدد شعبان 1418هـ.
وأصحابه" ، ثم رجح أن المعنى الصحيح هو : فليصم جميع ما شهد منه مقيماً(1).
فمن خلال العرض السابق يتضح أن العلماء والمفسرين لم يذكروا أن الآية لها علاقة برؤية الهلال ، وحتى سياق الآية لا يشعر بذلك : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (185) سورة البقرة ، وبهذا - حسب ما أرى - يسقط الاستدلال بالآية في هذه المسألة ؛ لأنها كما أسلفت موضوعها مغاير لموضوع مسألتنا.
وبناءاً على ذلك لا نناقش الدليل ، ولا الاستدلال به ، ولا الجواب عن الاستدلال به.
الدليل الثاني : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً"(2).
وجه الدلالة : أن الشرع جعل علامة أول الشهر : الهلال لا غير ، وأنه ليس لأول الشهر حد عام سواه(3).
الدليل الثالث : عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رَأيتُموهُ فصوموا ، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا ، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له"(4).(5/24)
وجه الدلالة : أن الشرع حصر طرق ثبوت دخول الشهر بأحد طريقين لا ثالث لهما : رؤية الهلال أو إكمال الشهر ، وإضافة طريقة ثالثة لثبوت دخول الشهر هو استدراك على الشارع الحكيم العليم ، وقد قال تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء.
_______________
(1) [تفسير ابن جرير الطبري] (2\ 193- 198).
(2) سبق تخريجه في (صـ 13).
(3) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\820).
(4) سبق تخريجه في (صـ 13).
الدليل الرابع : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال : "لا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فإنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَابَةٌ فأكْمِلُوا ثلاثين يَوْماً"(1).
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نصوم لرؤية الهلال ، وأن نفطر لرؤيته ، وأمرنا فيما إذا غم علينا أن نكمل الشهر ثلاثين ، ولم يدع لنا خياراً آخر ، ولم يأمرنا بالرجوع إلى علماء الفلك والنجوم ، ولو كان قولهم هو الأصل وحده أو أصلاً آخر مع الرؤية في إثبات الشهر لبين ذلك(2).
الدليل الخامس : عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قال : "كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مالاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ يَصُومُ لرُؤْيَةِ رَمَضَانَ ، فَإِنْ غُمَّ علَيْهِ عَدَّ ثَلاَثِينَ يَوْماً ثُمَّ صام"(3).
وجه الدلالة : نفس وجه الدلالة السابق.
جواب من قال بالحساب عن الاستدلال بهذه الأحاديث السابقة : أن كلمة [الرؤية] في القرآن لها ستة معان ٍ أساسية هي :(5/25)
1- بمعنى العلم بالشيء، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}(1) سورة الفيل.
2- بمعنى التقدير والحساب ، كما في قوله تعالى : {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} (102) سورة الصافات.
3- بمعنى الحسابات العلمية البحتة والتجارب المعملية ، كما في قوله تعالى : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6) سورة سبأ.
4- بمعنى البصر ، كما في قوله تعالى : {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} (31) سورة القصص.
5- بمعنى التذكير ، كما في قوله تعالى : {أَرَأَيْتَ إِذ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} (63) سورة الكهف.
_______________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب من قال فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين (2328) ، والترمذي في سننه في كتاب الصوم / بابُ ما جَاء أنَّ الصَّوْمَ لِرُؤْيَةِ الهلاَلِ والإفْطَارَ لَهُ (682) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار في حديث ابن عباس فيه (2125) ، وأحمد في مسنده (1994) ، قال الألباني : صحيح [صحيح سنن أبي داود للإمام الألباني (2\51) رقم الحديث (2327)].
(2) [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\111).
(3) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب إذا أغمي الشهر (2326) ، وأحمد في مسنده (24764) ، قال الألباني : صحيح [صحيح أبي داود للإمام الألباني (2\50) رقم الحديث (2325)].
6- بمعنى الرؤيا المنامية، كما في قوله تعالى:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}(102) سورة الصافات.(5/26)
قالوا : والمعاني الأربعة الأولى تجمعها وتساويها كلمة [شهد] في قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (185) سورة البقرة ، وعليه فلا تختص كلمة [رأى] الواردة في الحديث بمعنى الرؤية البصرية ، بل تشمل كل المعاني الأربعة ، فمتى حصل واحد منها دخل الشهر(1).
مناقشة هذا الجواب : عند الرجوع إلى أصل كلمة [رأى] في اللغة نرى أنها تطلق على احد معنيين : الرؤية البصرية ، والرؤية العلمية فقط ، قال ابن فارس : " الراء والهمزة والياء أصل يدل على نظر وإبصار بعين وبصيرة"(2) ، وعند تأمل المعاني الستة السابقة نجد أنها ترجع إلى هذين المعنيين - الرؤية البصرية والرؤية العلمية - وأنها تفريعات على هذين المعنيين ، مع أن بعضها لا دليل عليه - كالمعنى الثاني والثالث - كما أن حصر المعاني الأربعة الأولى في اختصاصها بمعنى [رأى] الواردة في الحديث لا دليل عليه أيضاً.
فإذا علمنا أن كلمة [رأى] على الصحيح تنحصر في المعنيين السابقين لزمنا الدليل على تعيين أحدهما دون الآخر.
ونحن نقول أن [رأى] الواردة في الحديث تختص بمعنى الرؤية البصرية والدليل على ذلك ما يلي :
1- أن هذا هو ما دل عليه فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان يتراءى الهلال فإن رآه ليلة الثلاثين وإلا أكمل الشهر ثلاثين يوماً (3) ، وترائيه يدل على أن مقصوده - صلى الله عليه وسلم - بقوله "َصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ"(4) أي : صوموا لرؤيته الرؤية البصرية ، وهو من قال الحديث ، وهو أعلم بمراده.
وهذا ما فعله الصحابة - رضي الله عنهم - من بعده حيث كانوا يتراءونه(5) ، مما يدل على أنهم فهموا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - السابق الرؤية البصرية لا العلمية ، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من غيرهم.(5/27)
2- أن كلمة [رأى] في اللغة العربية إذا كانت متعدية إلى مفعول واحد فهي بصرية ، وإذا كانت متعدية إلى مفعولين فهي علمية(6) ، وكلمة [رأى] متعدية إلى مفعول واحد كما
_______________
(1) الدكتور أمير حسين حسن في [مجلة الأزهر] (صـ 1315- 1316) عدد شعبان 1418هـ.
(2) [معجم مقاييس اللغة] لابن فارس (2\472).
(3) كما سبق معنا في حديث - عائشة - رضي الله عنها - وقد سبق تخريجه في (صـ 29).
(4) سبق تخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في (صـ 13).
(5) كما سبق معنا من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - وقد سبق تخرجه في (صـ 19).
(6) انظر [ضياء السالك إلى أوضح المسالك] لمحمد النجار (1\359-373).
في الحديث "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً"(1) ، فكلمة [رأيتم] قد نصبت مفعولاً واحداً وهو [الهلال] ، ولم تنصب غيره فدل على أن المراد بها الرؤية البصرية(2).
3- قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ"(3) يدل على أن المراد بالرؤية هنا الرؤية البصرية ، ولا يدع مجالاً لأن يكون المراد بالرؤية الرؤية العلمية ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الرؤية العلمية لما قال "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ" ، فإن الإغمام إنما يحجب الرؤية البصرية ، وهذا ظاهر.
الدليل السادس : إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص ، وأنه لا الاعتماد في دخول الشهر على الحساب الفلكي ، وقد حكى الإجماع - كما سبق - شيخ الإسلام ابن تيمية(4) وابن المنذر(5) وابن عابدين(6) ، وابن رشد(7) ، وغيرهم.
فكل من قال بغير هذا القول فهو مسبوق بإجماع المسلمين الذي لا تجوز مخالفته.
الدليل السابع : أن الشرع علّق الأحكام التعبدية الشهرية على الأهلة بطريقي اليقين : الرؤية أو الإكمال وذلك لما يلي :
1- لسهولته ، ويسر يقينيته.
2- لأنه لا يدخله الخطأ.(5/28)
3- لأن كل نظام سواه الأصل فيه الخطأ ، كالحساب فإنه مع عسره وندرة العارف به يدخله الخطأ كثيراً(8) كما سيأتي(9).
_______________
(1) سبق تخرجه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في (صـ 13).
(2) ممن ذكر أن المراد بالرؤية في الحديث الرؤية البصرية الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حيث قال بعد ذكر أن دعوى أن الرؤية في الحديث هي الرؤية العلمية دعوى مردودة : " لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد فكانت بصرية لا علمية" [انظر مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (15\111).
(3) سبق تخرجه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في (صـ 13).
(4) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\132).
(5) نقله عن الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\158).
(6) [حاشية ابن عابدين] (3\408).
(7) [بداية المجتهد] لابن رشد (2\ 557).
(8) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\821).
(9) انظر (صـ 43- 45).
الدليل الثامن : أن اليقين في دخول الشهر يتحقق بأمر محسوس حقيقة أو حكماً ، حقيقة محسوسة بالإهلال ، وفي حكم المحسوسة بالإكمال ، وأنه بأمر لا مدخل للعباد فيه ، بل هو سنة كونية ثابتة ، وصاحب الشرع أشعر بحصر السبب فيهما ولم ينصب سبباً سواهما
ووجه التيقن بالإكمال : أنه استصحاب الأصل ، إذ الأصل بقاء الشهر وكماله ، فلا يترك هذا الأصل إلا ليقين ، بناءاً على أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بمثله(1).
القول الثاني :
يجب الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر مطلقاً ، ومعنى ذلك أن الشهادة إذا خالفت الحساب الفلكي رُدت ، وهذا لم يقل به أحد من المتقدمين إطلاقاً ، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا القول ما قاله مسلم(2) ، وإنما نطق به كثير من الفلكيين ، وتبعهم عدد قليل من الفقهاء المعاصرين(3).
أدلة القول الثاني :(5/29)
الدليل الأول : عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رَأيتُموهُ فصوموا ، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا ، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له"(4).
وجه الدلالة : أن الحديث يشير صراحة إلى التقدير والحساب وإعمال الذهن والعقل "فاقْدُرُوا له" ، وهي الحالة العامة ، فهو يحض صراحة على الأخذ بالحساب والعلم متى توافرت أسبابهما من أدوات رياضية وأجهزة علمية وحاسبين يؤمن بينهم الخطأ(5).
وهذا أقوى ما استدلوا به.
الجواب عن هذا الدليل : أن الأحاديث التي ورد فيها لفظ "فاقْدُرُوا له" جاءت على روايات
_______________
(1) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\821 - 822).
(2) حيث قال في [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\133) : " فأما إتباع ذلك في الصحو ، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم" ، والإشارة في قوله " فأما إتباع ذلك" تعود إلى الحساب الفلكي
(3) من الفقهاء المعاصرين الذين قالوا بذلك اطلعت على قول الشيخ طنطاوي جوهري فقط ، وقد نقل قوله هذا عبد الكريم محمد نصر في كتابه [الفلك العلمي] (صـ 131).
(4) سبق تخريجه في (صـ 13).
(5) انظر ما كاتبه الدكتور أمير حسين حسن في [مجلة الأزهر] (صـ 1318) عدد شعبان 1418هـ.
عدة في لفظ "فاقْدُرُوا له" هي :
1- فأتموا العدة ثلاثين.
2- فأتموا شعبان ثلاثين.
3- فأكملوا ثلاثين.
4- حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة.
5- فصوموا ثلاثين.
6- أحصوا عدة شعبان لرمضان.
7- فأكملوا العدة ثلاثين . من حديث ابن عمر.
8- فأكملوا العدة ثلاثين فإنها ليست تغمى عليكم . أبو هريرة.
9- فعدوا ثلاثين . أبو هريرة ، وابن عمر.
10- فاكلموا العدة . أبو هريرة.
11- فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً . أبو هريرة.
12- فصوموا ثلاثين يوماً . أبو هريرة.
13- فعدوا له ثلاثين يوماً. ابن عمر.
14- فاقدروا له ثلاثين . أبو هريرة ، وابن عمر.(5/30)
15- فاقدروا له . أبو هريرة ، وابن عمر(1).
فإذا نظرنا إلى رواية "فاقْدُرُوا له" وجدناها رواية واحدة مُفسرة بأربع عشرة رواية ، وليس من الفقه إفراد تلك الرواية وبترها عن الروايات الواردة في نفس الحديث.
ومن المتقرر في علم أصول الفقه أن المجمل يحمل على المبين ، وعليه فتكون رواية "فاقْدُرُوا له" رواية مجملة قد بيّنتها الروايات الأخرى الكثيرة ، وعليه فإن جميع مورد الروايات واحد ، وإن اختلفت ألفاظها.
وهذا المعنى الذي ذكرناه هو الذي فهمه الكثرة الغالبة من المحدثين والفقهاء والشرّاح.
" وقد تنبه لذلك الحذاق من المحدثين إلى صنيع الإمام مالك في موطئه ، وصنيع البخاري في الجامع الصحيح ، حيث أورد كل منهما حديث ابن عمر الذي فيه رواية "فاقْدُرُوا له" ، ثم أتبعاه بحديث ابن عمر الآخر والذي نصه : "الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ ليلةً ، فلا تصومُوا حتّى تَرَوهُ ، فإِنْ
_______________
(1) حصر هذه الروايات وذكرها الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\830).
غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّةَ ثلاثين"(1)" (2).
حتى إن من قال بالحساب الفلكي من علماء المسلمين فسّر رواية "فاقْدُرُوا له" بالمعنى الذي ذكرناه ، ومنهم ابن السبكي - وهو من قال بالحساب الفلكي بشروط على وجه الجواز لا الوجوب كما سيأتي - حيث قال : " قوله : "فاقْدُرُوا له" قال بعض من يقول باعتماد الحساب : احسبوا له ، وقالت الحنابلة : ضيقوا ، ولأجل ذلك رأوا جواز صوم يوم الشك ، والصحيح خلاف القولين ، وأن معناه ما رواه البخاري صريحاً : فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"(3).(5/31)
ثم بعد ذلك كله قد روى البيهقي بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت ، فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ، أتموه ثلاثين"(4) ، فهذه الرواية الصحيحة صريحة في تفسير المرفوع بالمرفوع(5).
الدليل الثاني : قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (5) سورة الرحمن ، فالله أوجد هذه الأجرام السماوية بعلم وحساب وحكمة ، فهي لا تسير عشوائياً ، بل إن الله طلب منا صراحة أن نتعلم كيف تسير هذه الأجرام فقال تعالى : {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (12) سورة الإسراء ، وقال : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (5) سورة يونس(6).
الجواب عن هذا الدليل : بعد الرجوع إلى كتب التفسير وُجد ما يلي :
1- أما قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (5) سورة الرحمن ، فقد قال القرطبي - رحمه الله - فيها : " أي يجريان بحساب معلوم ، فأضمر الخبر ، وقال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : أي
_______________
(1) سبق تخريجه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في (صـ 18).
(2) [مسائل في الفقه المقارن] (صـ 161).
(3) [العلم المنشور في إثبات الشهور] لابن السبكي (صـ 11).
(4) أخرجه البيهقي - واللفظ له - في السنن الكبرى في كتاب الصيام \ باب الصوم لرؤية الهلال أو استكمال العدد ثلاثين (7931) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الصوم \ باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر (1579) وقال عن الحديث : " هذا حديث صحيح الإسناد ، على شرطهما ، ولم يخرجها".(5/32)
(5) أشار إلى هذه الرواية الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\832) ، وقال : " ولم أرَ من أشار إليها في النقض ، فالحمد لله على التيسير".
(6) الدكتور أمير حسين حسن في [مجلة الأزهر] (صـ 1318) عدد شعبان 1418هـ.
يجريان بحساب معلوم في منازل لايعدوانها ولا يحيدان عنها ، وقال ابن زيد وكيسان يعني : أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً لو كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً ، وقال السدي : بحسبان تقدير آجالهما ، أي تجري بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} (2) سورة الرعد ، وقال : الضحاك ، بقدر ، مجاهد : بحسبان كحسبان الرحى ، يعني قطبها يدوران في مثل القطب"(1).
فحتى على قول من قال أن المعنى : أن الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في منازل لايعدوانها ولا يحيدان عنها ، حتى على هذا القول ، ما علاقة ذلك برؤية الهلال وإثبات الشهر ؟ هل كون الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم فيه دلالة على جواز - فضلاً عن وجوب - الأخذ بالحساب في إثبات الشهر القمر ؟
نحن نعلم علم اليقين أن كل ما في هذا الكون لا يسير ولا يتحرك ولا يسكن إلا بتقدير من الله الحكيم العليم ، فالله أخبرنا أن كل أمر يحصل إنما يحصل بتقديره ، والله الذي أخبرنا عن ذلك هو الذي أمرنا أن نطيع رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : "َصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ"(2).(5/33)
2- وأما قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (5) سورة يونس ، وقوله : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } (12) سورة الإسراء ، فقد قال القرطبي فيها : " أي لو لم يفعل ذلك لما عُرف الليل من النهار"(3) ، فواضح أن الآيتين الكريمتين لا تدلان على ما ذهب إليه من استدل بهما.
الدليل الثالث : عن ابنَ عمرَ - رضيَ اللّهُ عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قال: "إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ ، الشهرُ هكذا وهكذا. يَعني مرَّةً تسعةً وعشرينَ ومرَّةً ثلاثين"(4).
_______________
(1) [الجامع لأحكام القرآن] للقرطبي (7\134).
(2) سبق تخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في (صـ 17).
(3) [الجامع لأحكام القرآن] للقرطبي (10\200).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم / باب قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : "لا نَكتُبُ ولا نَحسُب" (1892) ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام / باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ، والفطر لرؤية الهلال =
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاعتماد على الرؤية وذلك لعلة عدم معرفة الحساب ، فإذا انتفت هذه العلة ، واستطاعت الأمة معرفة الحساب وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور القمرية(1).(5/34)
الجواب عن هذا الدليل : قدعُلم في اللسان أن بساط المقال كبساط الحال له تأثيرفي الأحكام ، كما عُلم في مسائل من الإيمان والنذور والطلاق، فقوله-صلى الله عليه وسلم- :"إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌلا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ" قرنه بقوله"الشهرُ هكذا..." أي مرة[30] ومرة[29]، فهو خبر من النبي-صلى الله عليه وسلم -لأمته أنها لا تحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولاحساب،إذ هو إما[30] يوماً أو[29] يوماً ومرد معرفته بالرؤية للهلال أو بالإكمال ، كما في الأحاديث المتقدمة المشعرة بالحصر في هذين السبيلين لا بكتاب ولا بحساب ، وهذا الظاهر في خبرية النص هو الذي يتفق مع الحقائق الشرعية والدلائل النصية من الأحاديث السابقة ، إذن فيتعين إبقاء النص على ظاهره في الخبرية ولا يصرف عنها إلى العلية إلا بدليل ، وصرفه يؤدي إلى تعارض النصوص كما هو بين(2).
ثم إنه قد سبق في علم الله أن علم الفلك سوف يتطور ، وسوف يصل إلى ما وصل إليه الآن ، فإن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، ومع ذلك لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر أمته أنهم إذا وصلوا إلى درجة من علم الفلك عالية أنه بإمكانهم أن يُثبتوا دخول الشهر بالحساب ، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع مجالاً لذلك ، وحصر الأسباب التي يثبت بها الشهر في الرؤية والإكمال فقط ، وقد أوتي - عليه الصلاة والسلام - جوامع الكلم.
الدليل الرابع : أن الرؤية البصرية والحساب الفلكي وسيلتان لشيء واحد وسيلتان لدخول الشهر القمري ، وكل منهما يقوم مقام الآخر ، فمتى وُجد أحدهما ثبت دخول الشهر ، ولسنا متعبدين برؤية الهلال ، بل إنما جُعل الهلال وسيلة لدخول الشهر(3).
الجواب عن هذا الدليل : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حصر ثبوت دخول الشهر
_______________(5/35)
= وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما (2464) ، وأبو داود في سننه في كتاب الصيام / باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2320) ، والنسائي في سننه في كتاب الصيام / باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه (2142) ، وأحمد في مسنده (6113).
(1) الدكتور أمير حسين حسن في [مجلة الأزهر] (صـ 1318) عدد شعبان 1418هـ.
(2) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\833).
(3) انظر [الفلك العلمي] لعبد الكريم محمد نصر (صـ 133).
بالرؤية كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لاَ تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حتى تَرَوْا الهِلاَلَ أوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حتى تَرَوْا الهِلاَلَ أوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ"(1) ، وحصر دخول الشهر برؤية الهلال لا يعني أن الرؤية مجرد وسيلة ، بل يفيد منع أي طريقة أخرى غير الرؤية لثبوت الشهر ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم ، فلو أراد أن الرؤية مجرد وسيلة لاتضح ذلك من كلامه جلياً ، كأن يقول : إذا دخل الشهر فصوموا ، أو إذا ثبت عندكم دخول الشهر فصوموا ، كما بُين ذلك في أوقات الصلوات ، فقد بُين أن وقت المغرب - مثلاً - يدخل بغروب الشمس ، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم أن الشمس غربت فصلوا ، فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علق دخول الشهر برؤية الهلال بلفظ يفيد منع طريق آخر غيره وهو - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم ، كل ذلك يرد دعوى أن رؤية الهلال مجرد وسيلة لدخول الشهر.(5/36)
الدليل الخامس : قياس إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب على إثبات أوقات الصلوات بالحساب ، فإن الصلاة أصبحت الآن في جميع بقاع الأرض تعتمد على الحساب فقط ، ولم نرَ من بين علماء المسلمين من يتمسك منهم برؤية الشمس الرؤية البصرية ليرى علامات دخول أوقات الصلاة ويرفض الاعتماد على الحساب ، فإذا كانت علامات الصلاة قد تحولت الآن إلى أزمنة محسوبة وأقرها جميع علماء المسلمين دون أدنى اعتراض من أي عالم منهم ، فما الذي يمنع من تطبيق ذلك في تعيين أوائل الشهور العربية(2).
الجواب عن هذا الدليل : هذا قياس باطل من أصله ؛ لأن المقيس عليه لم يثبت بنص وهو مختلف فيه ، وليس صحيح ما ذُكر من الإجماع عليه ، فهو غير ثابت بنص ولا إجماع ، وثبوته بنص أو اتفاق الخصمين شرط للأصل المقيس عليه ، وشرط ثان ٍ أن يكون الحكم في المقيس عليه معقول المعنى كتحريم الخمر ، أما إن كان تعبدياً كأوقات الصلوات وأعداد الركعات فلا يقاس عليه ؛ لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن تعدية حكمه إلى محل آخر(3).
وعلى التسليم ، فهو قياس فيه قادحان من قوادح القياس هما :
1- فساد الاعتبار ؛ لمخالفة القياس لصرائح النصوص المشعرة بالحصر في نصب الشارع
_______________
(1) سبق تخريجه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - في (صـ 13).
(2) [دورتا الشمس والقمر وتعيين أوائل الشهور العربية باستعمال الحساب] للدكتور حسين كمال الدين (صـ61) ، وكذلك [الفلك العلمي] للدكتور عبد الكريم محمد نصر (صـ 132).
(3) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\834).
الرؤية سبباً للحكم بأول الشهر(1).(5/37)
2- وهو كذلك قياس مع الفارق ، ذلك أن المشرع أناط الصلاة بوجود العلامة لوقتها ، فنفس الوقت هو سبب الصلاة ، فمن علم السبب بأي طريق كان لزمه حكمه ، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات ، وأما الأهلة فلم ينصب الشرع خروجها سبباً للصوم ، بل جعل رؤية الهلال هي السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم ، ويدل على أن الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال سبباً للصوم قوله - صلى الله عليه وسلم - "َصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ"(2)، ولم يقل لخروجه كما قال تعالى : {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (78) سورة الإسراء ، فإن لم تكن رؤية رُد إلى الإكمال الذي يباري الرؤية في الإهلال ، ولم يتعرض لخروج الهلال(3).
الدليل السادس : القياس على المحبوس في المطمورة ؛ وذلك لوجود الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدة ، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم يرَ الهلال ، ولا أخبره من راءه ، فكذلك إذا علمنا بالحساب أن اليوم من رمضان وجب علينا الصوم وإن لم نره ولا أخبرنا من راءه(4).
الجواب عن هذا الدليل : هذا قياس باطل من أصله كذلك ؛ لأن المقيس عليه هنا لم يثبت بنص ولا اتفاق ، ومن شرط القياس توفر ذلك ، وهو هنا مفقود فهو ملغي من أصله.
ثم هو على التسليم مقدوح فيه بقادحين من قوادح القياس هي :
1- فساد الاعتبار ؛ لمخالفة القياس لصرائح النصوص المشعرة بالحصر في نصب الشارع الرؤية سبباً للحكم بأول الشهر.
2- وهو كذلك قياس مع الفارق ؛ إذ المحبوس معذور ، فيجب عليه الاجتهاد في دخول الوقت فإن انكشف له غلط قضى(5).
_______________
(1) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\834).
(2) سبق تخريجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في (صـ 13).(5/38)
(3) ذكر هذا القادح القرافي في [الفروق] (2\178-182) ، وقد بسط الكلام في هذه المسألة في الفرق (102) في خمس صفحات نقلت لك ملخصه ، ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى كلامه - رحمه الله -.
(4) هذا الدليل لم أرَ أحداً ممن قال بالحساب ذكره ، ولكني وجدت الشيخ بكر أبو زيد قد ذكره في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\829) فنقلته.
(5) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\834).
القول الثالث :
جواز الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر القمري ، على اختلاف بين من قال بهذا القول ، فمنهم من قال بالجواز مطلقا ، ومنهم من قيده بحال دون حال ، كمن قيده في حال النفي دون الإثبات ، وكمن قيده بحال الغيم دون الصحو ، ومنهم من قيده بأن يعمل الحساب فيه لنفسه فقط.
ومن قال بهذا القول من المتقدمين : ابن سريج(1)،(2) ، ومطرف بن عبد الله الشخير (3)،(4) ، وابن قتيبة (5)،(6).
ومن المتأخرين ابن السبكي(7)، (8).
وقد حكى ابن سريج هذا القول عن الشافعي ، حيث نقل ابن سريج أن الشافعي قال : من كان
_______________
(1) هو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي القاضي الشافعي ، ولد سنة بضع وأربعين ومائتين ، ولي القضاء بشيراز ، وكان يُفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني ، مات سنة 303 [سير إعلام النبلاء للذهبي (14\201-204)].
(2) نقل هذا القول عنه ابن السبكي في [العلم المنشور في إثبات الشهور] (صـ 8) ، وابن عبد البر في [الاستذكار] (10\18) ، والحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (3\157) ، وقال ابن حجر : " ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله "فاقْدُرُوا له" خطاب لمن خصه الله بهذا العلم ، وأن قوله "فأكملوا العدة" خطاب للعامة ، قال ابن العربي : فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحسب الشمس والقمر ، وعلى آخرين بحساب العدد ، قال : وهذا بعيد عن النبلاء".(5/39)
(3) هو مطرف بن عبد الله الشخير الحرشي العامري أبو عبد الله البصري ، توفي سنة 95 ، أول ولاية الحجاج ، قال العجلي : كان ثقة ، ولم ينج ِ بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان : مطرف وابن سيرين [تهذيب الكمال للمزي (28\67-70)].
(4) نقل هذا القول عنه الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (3\157) ، وابن عبد البر في [الاستذكار] (10\18) ، وابن رشد في [بداية المجتهد] (2\558).
(5) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، وقيل المروزي ، الكاتب ، صاحب التصانيف ، نزل بغداد وصنف وبُعد صيته ، قال أبو بكر الخطيب : كان ثقة ديناً فاضلاً ، ولي قضاء الدينور ، وكان رأساً في علم اللسان العربي والأخبار وأيام الناس ، توفي في رجب سنة 276هـ [سير أعلام النبلاء للذهبي (13\296-302)].
(6) نقل هذا القول عنه الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\157).
(7) هو تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الكبير ، ولد بسبك في مصر عام 687هـ ، قال الحافظ ابن حجر : ولي قضاء دمشق سنة 739هـ بعد وفاة الجلال القزويني ، فباشر القضاء بهمة وصرامة وعفة وديانة ، وأضيفت إليه الخطابة بالجامع الأموي فباشره مدة ، وولي التدريس بدار الحديث الأشرفية بعد وفاة المزي ، وما حفظ عنه في التركات ولا في الوظائف ما يعاب عليه ا.هـ ، توفي في القاهرة عان 756هـ [استفدت هذه الترجمة من مقدمة فتاوى السبكي (1\ 3-5)].
(8) كما في كتابه [العلم المنشور في إثبات الشهور] (صـ 8).
مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصوم ، ويبيته ويجزئه(1).(5/40)
وقد أنكر علماء الشافعية نسبة هذا القول إلى إمامهم الشافعي ، فقال ابن عبد البر - بعد أن ساق النقل السابق عن ابن سريج - : " الذي عندنا في كتبه(2) أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"(3)" (4).
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أن ابن سريج نقل هذا القول الشافعي : " والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور"(5).
وبهذا يُعلم أن ابن سريج - رحمه الله - قد وهم في نسبة هذا القول إلى الإمام الشافعي.
وقد قال بالقول الثالث بعض الفقهاء المعاصرين ، ومنهم : الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -(6) ، والشيخ عبد الله المنيع(7).
أدلة القول الثالث :
لم تخرج أدلة القول الثالث عن أدلة القول الثاني ، بل استدل أصحاب القول الثالث ببعض أدلة القول الثاني ، لكن يبدو أنهم لم يجسروا على القول بالوجوب كما جسر به أصحاب القول الثاني.
_______________
(1) نقل هذا النقل عن ابن سريج الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\157) ، وابن عبد البر في [الاستذكار] (10\18-19) ، وابن رشد في [بداية المجتهد] (2\558).
(2) الضمير يرجع إلى الإمام الشافعي.
(3) سبق تخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(صـ 13).
(4) [الاستذكار] لابن عبد البر (10\19).
(5) [فتح الباري] لابن حجر (4\157).(5/41)
(6) وذلك في رسالته [أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي] ، مع أن الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - قال : " رأيت لدى الشيخ إسماعيل خطاباً من الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - يعتذر فيه إلى الشيخ إسماعيل ، وأنه إنما نشر رسالته لإثارة البحث بين أهل العلم ، وإلا فليس له رأي بات في المسألة" [الشيخ بكر أبو زيد في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثالث لعام 1408هـ (2\834)] ، ويقصد الشيخ بكر أبو زيد بـ[الشيخ إسماعيل] : الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري.
(7) وذلك في بحث له بعنوان [التحديد الفلكي لأوائل الشهور القمرية ( رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال ) لعام 1425 هـ] ، وهذا البحث موجود في موقع [الإسلام اليوم] على العنوان التالي :
www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?catid=71&artid=4067
تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة :
ذكر الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - تحقيقاً قيّماً في الخلاف الحاصل في هذه المسألة ، انقل لك خلاصته حيث قال:
كم رأينا من فرع حُكي فيه الخلاف ثم يتبين عند التحقيق عدم ثبوته عن المخالف ، وهذا كثير في مسائل فرعية ، وذلك مثل ما يروى عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين أنهم خضبوا بالسواد ، وقد أبان الحفاظ ومنهم ابن القيم في [الهدي] أن في الروايات عنهم ضعفاً وانقطاعاً ، وهكذا.
وفي هذه المسألة(1) : لا يعرف فيها خلاف صحابي ، بل حُكي إجماعهم ، وقد حُكي الخلاف فيها عن :
1- الشافعي.
2- ابن سريج.
3- ابن السبكي.
4- مطرف بن عبد الله الشخير.
5- ابن قتيبة.
وسوف نبين أنه حصل الغلط في هذا الخلاف على القائل به وفي نوعه.
وذلك كما يلي :
1- ما حُكي عن الشافعي غلط(2).
2- الأصل في خلاف ابن سريج أنه رأى الأخذ بالحساب جوازاً في حق الحاسب خاصة إذا غم الشهر ولم يره الراءون.
والذي ينجلي أن ابن سريج مع - جلالته - رتب ما ذهب إليه على ما حكاه غلطاً عن الشافعي.(5/42)
فكما مضى أن ابن سريج قال بالأخذ بالحساب جوازاً في حق الحاسب نفسه خاصة إذا غم
الشهر ولم يره الراءون ، وهذا القول هو عين ما حكاه هو غلطاً على الشافعي ، فإذا ثبت أن ابن سريج قد غلط في هذه الحكاية عن الشافعي ، فإن ابن سريج إنما قال ما قال تقليداً منه لإمام المذهب عنده ، وإذا بطلت نسبة القول به إلى الشافعي ، فهذا يفرغ ما بُني عليه ، فلم
_______________
(1) يقصد - حفظه الله - مسألة ثبوت الشهر القمري بالحساب الفلكي.
(2) كما بيّنا ذلك في (صـ 40).
يبقَ ذلك قولاً لابن سريج.
3- ثم إن العلامة تقي الدين السبكي الشافعي - رحمه الله - ألف رسالته [العلم المنشور في إثبات الشهور] ، وانتصر فيها لرأي ابن سريج للجواز لا للوجوب ، مقيداً ذلك بشرطين : أن ينكشف الحساب جلياً من ماهر بالصنعة والعلم ، وأن يكون الجواز في خصوص الصوم لا الفطر.
ثم ألف بعد ذلك الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - رسالة باسم [أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي].
ثم تبعهما من تبعهما من الفقهاء المعاصرين.
وكل هؤلاء الأجلة : السبكي ، فأحمد شاكر ، فمن تبعهما ، ينزعون من قوس واحدة ، من قول ابن سريج ، وقد علمت مدى العمدة في رأيه مذهبياً.
4- وأما مطرف بن عبد الله ، فقد نفى ابن عبد البر صحة الأثر عنه ، فقال : " روى عن مطرف بن الشخير ، وليس بصحيح عنه ، ولو صح عنه ما وجب إتباعه عليه لشذوذه فيه ، ولمخالفة الحجة له" (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء" (2).
5- وأما ابن قتيبة فقد قال ابن عبد البر متعقبا له : " وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا" (3).
وعليه فتبقى حكاية الإجماع إن قبلناها قائمة(4).
_______________
(1) نقله عنه الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\157).
(2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\182).
(3) نقله عنه الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] (4\157).(5/43)
(4) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\824 - 829).
الحساب الفلكي في إثباته للشهور القمرية يفيد الظن لا القطع :
وذلك لما يلي :
1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلا بنتائج فاشية تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته واطرادها ، وإخبار العدول على رسم الشرع من ذوي البصارة به بذلك ، ويبسط طريقته بمحضر من أهل العلم لمعرفة مدة سلامة مقدماته شرعاً ، هذا لو جعل الشرع المصير إليه.
والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليكسب إفادة اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني ، والأدلة المادية تقدح في مؤدى شهادتهم(1) ، ويقوى ذلك بنفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين(2) ، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلا من مبرز في العدالة الشرعية(3).
2- قيام دليل مادي في الساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط والاضطراب ، وذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة شهر كذا ، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة ، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها.
من ذلك ما ذكره الأمين محمد كعورة حيث قال : " والذي حدث في موعد بدء صيام رمضان لعام 1389هـ يستحق الذكر ، ألا وهو أن بعض الدول الإسلامية - أي الجمهورية العربية المتحدة بالذات(4) - اعتمدت على حساب الفلك والأرصاد في أن هلال رمضان لن يولد قبل منتصف ليلة الاثنين - أي لا تمكن رؤيته مساء الأحد - ، ولكن الذي حدث أن رؤية الهلال ثبتت في السعودية وبعض الدول الأخرى في مساء الأحد"(5).
ومن ذلك ما حدث أيضاً في هلال شهر شوال في عام 1406هـ ، فإن الحاسبين أعلنوا النتيجة في الصحف باستحالة رؤية هلال شوال ليلة السبت الثلاثين من رمضان ، فثبت شرعاً بعشرين شاهداً على أرض المملكة العربية السعودية في مناطق مختلفة في عاليتها
_______________(5/44)
(1) كما سيأتي ذلك في الفقرة رقم (2).
(2) كما سيأتي ذلك في الفقرة رقم (5) في (صـ 46).
(3) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\835).
(4) يبدو أن الكاتب يقصد دولتا مصر وسوريا حين اتحدتا في عهد الهالك جمال عبد الناصر.
(5) [مبادئ الكونيات] للأمين محمد كعورة (صـ97).
وشمالها وشرقها ، ورؤي في أقطار أخرى من البلاد الإسلامية(1).
ومن ذلك أيضاً ما حصل في عام 1407هـ حيث أفاد الدكتور علي عبندة - مدير الأرصادات العامة وعضو لجنة المواقيت في وزارة الأوقاف الأردنية - بأن الحقائق العلمية تؤكد عدم إمكانية رؤية هلال رمضان مساء الاثنين مطلقاً ، حيث أفاد أن الهلال يغيب قبل غروب الشمس بحوالي 20 دقيقة ، ومع ذلك فقد ثبتت الرؤية لهلال رمضان في ليلة الثلاثاء لدى مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية(2).(5/45)
وآخر ما حصل في هذا الشأن - حسب وقت كتابة البحث - ما حصل في ثبوت شهر شوال لعام 1425هـ ، حيث أن الفلكيين نُشرت أقوالهم في الأسبوعيّن الأخيرين من رمضان ، ويفيدون أن هلال شوال لا يمكن أن يُرى مساء الجمعة ، وأن شهر رمضان سوف يكمل ، وأن أول أيام العيد هو يوم الأحد ، ومن ذلك ما ذكرته صحيفة الجزيرة السعودية يوم الثلاثاء 19\9\1425هـ عدد [11723] ، تحت عنوان [السبت 30 رمضان متمم لشهر رمضان والعيد الأحد لتعذر رؤية الهلال مساء الجمعة] ، حيث ذكرت الصحيفة أن الدكتور زكي بن عبد الرحمن المصطفى - مساعد المشرف على معهد بحوث الفلك والجيوفيزياء ، ورئيس قسم الفلك بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية - أوضح أن رؤية الهلال مساء يوم الجمعة 29 رمضان 1425هـ متعذرة وغير ممكنة في جميع مناطق المملكة ؛ وذلك لكون القمر يغرب قبل غروب الشمس مساء ذلك اليوم ، وقال الدكتور زكي المصطفى : إن الشمس تغرب عن مكة المكرمة يوم الجمعة [ليلة السبت] الساعة الخامسة وأربعين دقيقة ، ويغرب القمر الساعة الخامسة وإحدى وثلاثين دقيقة ، وعليه فإن يوم السبت 13 نوفمبر 2004م سيكون - بإذن الله تعالى - المتمم لشهر رمضان [ثلاثون يوما] وأن يوم الأحد الموافق 14 نوفمبر 2004م أول أيام عيد الفطر المبارك ا.هـ
وبعد أسبوع من هذا الخبر نشرت نفس الصحيفة- أي في يوم الثلاثاء 26\9\1425هـ عدد [11730] - مقالاً تحت عنوان [الأحد المقبل أول أيام العيد فلكياً] ، نقلت فيه عن المهندس محمد شوكت عودة - نائب رئيس لجنة الأهلة والتقويم والمواقيت في الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك - أن الأحد الموافق 14 تشرين الثاني هو أول أيام عيد
_______________
(1) ذكر هذه الحادثة الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\836).(5/46)
(2) ذكر هذه الحادثة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\127- 134).
الفطر ، وقال : إن الاقتران المركزي لشهر شوال لهذا العام سيكون يوم الجمعة الموافق 12 تشرين الثاني في الساعة 27 : 14 بالتوقيت العالمي ومن المستحيل رؤية الهلال في ذلك اليوم من جميع دول العالم الإسلامي لغروب القمر قبل غروب الشمس ا.هـ
هذا ما اطلعت عليه من أقوال الفلكيين حول دخول شهر شوال ، ويحتمل أنهم قالوا أكثر من ذلك ، وما نقلته لك يفيد أن الفلكيين متفقين على أن هلال شهر شوال لا يمكن أن يُرى مساء يوم الجمعة - حسب حساباتهم الدقيقة كما يذكرون - ، ومع هذا كله فقد رُؤي هلال شهر شوال مساء يوم الجمعة في المملكة العربية السعودية ، وشوهد في أكثر من منطقة ، وشهد برؤية هلال شوال مساء يوم الجمعة أكثر من عشرين شاهداً ، منهم اثنان أتيا إلى نفس مكتب مجلس القضاء الأعلى في الرياض - كما أوضح لي ذلك المسؤول في مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية - وبذلك يكون شهر رمضان ناقص غير تام ، ويكون يوم السبت هو أول أيام العيد ، وليس كما قالوا ، وبذلك يتبين أن حساباتهم ليست دقيقة إطلاقاُ ، وإنما هي ظنية.
ومن الشواهد المعاصرة أيضاً على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم والفطر بموجب الحساب الفلكي ، والفارق بينها وبين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة ، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة.
ومما يدل على اضطرابهم هو التضارب الحاصل بالنتائج والتقاويم المنتشرة بحساب المعاصرين ، فإنها متفاوتة مختلفة في إثبات أوائل الشهور ، وما زال اختلافها حتى في الولاية الواحد ، وهذا يدل على دفع يقينيته أو ظنيته الغالبة(1) ، وعلى اضطرابه ، فكيف نعلق أمورنا التعبدية بحساب مضطرب ؟(5/47)
وهذا كله دليل مادي واضح على أن النتائج الفلكية المعاصرة في هذا ظنية وضعيفة.
3- أن الطب - مثلاً - بلغ في العصر الحاضر من الدقة والترقي ما هو مشاهد لعموم الناس ، ومع هذا فيقع لذوي البصارة فيه ومن دونهم من الخطأ والغلط ما يكون ضحيته نفس معصومة أو منفعة أو عضو محترم ، هذا مع أن لوازمه مدركة بالحواس العاملة فيه من سمع وبصر ولمس ، فكيف بحال الحساب الفلكي الذي ما زال عملة نادرة ولم تكن نتيجته فاشية باليقين ، ولوازمه غير محسوسة ، إذن فكيف يسوغ التحول من المقطوع
_______________
(1) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\836- 837).
بدلاته بحكم الشارع إلى المظنون ، ومن المتيقن إلى المشكوك في نتيجته(1).
4- أن الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة ، والمرصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحية نتائجها أي خلل فني فيها قد لا يشعر به الراصد ، وهذا فيه ظنية من جهة أخرى غير الراصد وهي جهة الآلة(2).
5- مما يدل على ظنية الحساب أنه قد شهد بذلك حتى بعض أرباب هذا الفن - أعني الحساب الفلكي - ، وممن شهد بذلك الأمين محمد كعورة ، حيث قال ما ملخصه :
كثيراً ما اختلفت الدول الإسلامية في بداية ونهاية شهر رمضان ، بل إن رؤية هلال شهر رمضان أصبحت من المشاكل المزمنة التي لم يجد لها العالم الإسلامي حلا بعد ، والسبب الأساسي في ذلك هو ما سبق أن ذكرت من أن حركة القمر معقدة للغاية ، ويكاد يكون في حكم المستحيل وضع تقويم مضبوط للشهور العربية ؛ لأن مواقع الأرض والقمر والشمس لا تتكرر في فترات منتظمة ، إن الحل في رأيي لهذه المشكلة التي أساء الخلاف فيها إلى سمعة العالم الإسلامي هو أن يعتمد المسلمون على الرؤية ، وذلك يتمشى مع الدين كما جاء في الحديث الشريف "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"(3)، (4).(5/48)
6- فإذا علمنا الاضطراب الحاصل لمن يعتمد على الحساب في دخول الشهر وخروجه ، وعلمنا أن هذا الحساب إنما يفيد الظن بدليل الوقائع المادية ، وبشهادة بعض أهل الفن نفسه ، إذا علمنا ذلك كله ، علمنا أن هذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد للمسلمين ، مما يقطع كل عاقل بفساده ، وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية(5) - رحمه الله - ما يدخل على المسلمين من التلاعب في شعائرهم من جنس ما حصل ويحصل من أهل الكتابين وغيرهم ، وقد كانت العرب على ملة إبراهيم ، ثم غيّرت هذه الملة بأمور منها : النسيء الذي ابتدعته ، فزادت به في السنة شهراً جعلتها كبيساً لأغراض لهم ، وغيروا به ميقات
_______________
(1) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\837).
(2) الشيخ بكر أبو زيد في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] العدد الثالث لعام 1408هـ (2\837).
(3) سبق تخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في (صـ 13).
(4) [مبادئ الكونيات] للأمين محمد كعورة (صـ 96- 97) ، وقد ذكر بعد ما نقلناه عنه اقتراحاً مفاده أنه ينبغي على البلاد الإسلامية أن تستخدم في الرؤية للهلال أحدث الوسائل من منظار وغيره ، وأن يكون ذلك من قبيل الرؤية لا الحساب.
(5) وذلك في [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\140 - 141).(5/49)
الحج والأشهر الحرم ، حتى كانوا يحجون تارة في المحرم ، وتارة في صفر ، قال شيخ الإسلام : " فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظاً لهذا الدين عن إدخال المفسدين"(1) ، وقد صدق - رحمه الله - فإن هذا باب إن فُتح كان مجالاً واسعاً للتلاعب في مواسم العبادة وإيقاعها في غير الوقت الذي هي مشروعة فيه ، وهذا مما لا نعذر فيه لو حصل ؛ لأنه لم يؤذن لنا أصلاً في إثبات الشهر بالحساب ، والقاعدة : أن ما ترتب على المأذون غير مضمون ، وما ترتب على غير المأذون مضمون ، وكيف نعذر أمام الله في اعتمادنا في أمورنا التعبدية التي كلفنا الله بها على أمر مضطرب ، وثقنا لك اضطرابه خلال ست وثلاثين سنة أربع مرات ، هذا ما وثقناه ، وما فاتنا - بالتأكيد - أكثر ، فلو فُرض أننا اعتمدنا في حادثة من تلك الحوادث على الحساب الفلكي ، فكيف نعذر أمام الله في تركنا لصوم يوم من رمضان ، أو في صوم يوم العيد الذي يحرم صيامه ، أو في إيقاع يوم عرفة وأمور الحج الأخرى في غير أيامها المشروعة لها أصلاً ، كيف نعذر حين نترك ما شرعه الله لنا من تراءي الهلال ونركن إلى الحساب الفلكي ، ثم نخطئ في إيقاع العبادة في وقتها.
_______________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\140).
الترجيح :
يظهر مما سبق قوة وصراحة وصحة أدلة القول الأول القائلين بتحريم استخدام الحساب الفلكي في إثبات الشهور القمرية ، وأما من قال بالوجوب أو الجواز ، فقولهم مخالف للنص ، وكل ما استدلوا به من النصوص الشرعية إنما استدلوا بمفهومها ، وبعض الأدلة لووا أعناقها لكي تدل على ما قالوا ، وأما التعليلات التي ذكروها فهي في مقابل النصوص فتسقط ، ولما نترك الصريح الواضح المنطوق ، ونذهب إلى المفهوم والمبهم أحياناً ؟
يظهر لنا من كل ما سبق صحة القول الأول.
وديننا دين واضح لا إبهام فيه ، وشرعنا الواضح لا يمكن أن يحيلنا إلى أمر مضطرب غير منضبط.(5/50)
وقد ردنا شرعنا إلى أمر واضح منضبط بإمكان علماء المسلمين وجهالهم معرفته بيسر ، ألا وهو الخروج ليلة الثلاثين من كل شهر لتراءي الهلال ، فإن راءوه فقد ثبت دخول الشهر ، وإلا أتموا شهرهم ثلاثين يوماً ثم يثبت بعد ذلك دخول الشهر الذي بعده ، فلماذا نترك هذا الوضوح والبيان والانضباط ونركن إلى أمر قد شهد بعض علماءه أنه لا يمكن ضبطه ؛ لأن مواقع الشمس والقمر لا تتكرر في فترات منتظمة.
قال تعالى : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) سورة الأنعام.(5/51)
وحتى على فرض وقوعنا في الخطأ بسبب اعتمادنا على رؤية الهلال فنحن غير مؤاخذين - إن شاء الله - ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : " ولو فرضنا أن المسلمين أخطأوا في إثبات الهلال دخولاً أو خروجاً وهم معتمدون في إثباته على ما صحت به السنة عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليهم في ذلك بأس ، بل كانوا مأجورين ومشكورين من أجل اعتمادهم على ما شرعه الله لهم وصحت به الأخبار عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولو تركوا ذلك لأجل قول الحاسبين مع قيام البينة الشرعية برؤية الهلال دخولاً أو خروجاً لكانوا آثمين ، وعلى خطر عظيم من عقوبة الله - عز وجل - ؛ لمخالفتهم ما رسمه لهم نبيهم وإمامهم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - التي حذر الله منها في قوله - عز وجل - : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور ، وفي قوله - عز وجل - : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ، وقوله سبحانه وتعالى : {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (14) سورة النساء"(1).
وإذا ثبت لنا أن القول بتحريم استخدام الحساب الفلكي لإثبات الشهر القمري هو القول الصحيح فإننا نقول كما الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : " أما الحسابون فلا يلتفت إليهم ، ولا يعول على حسابهم ، ولا ينبغي لهم أن ينشروا حسابهم ، وينبغي منعهم من نشر حساباتهم ؛ لأنهم بذلك يشوشون على الناس ، لا في مسألة رؤية الهلال ، ولا في مسألة الكسوفات"(2).
والله أعلم.
_______________
(1) [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\ 133).(5/52)
(2) [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] (15\135-136).
الخاتمة
أولاً : النتائج :
1- أن الشهر القمري لا يمكن أن يدخل إلا بأحد طريقين :
أ - رؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر الذي قبله.
ب - إتمام الشهر السابق ثلاثين يوماً ثم يدخل الشهر الذي بعده.
2- أن الرؤية الشرعية المطلوبة للهلال هي الرؤية بالعين المجردة ، ولا مانع من الاستعانة بالمكبرات ، لكن العمدة على رؤية العين.
3- أن شهر رمضان يثبت بشهادة شخص واحد ، وأما غير رمضان فلا يدخل إلا بشهادة عدلين.
4- أن من يرى الهلال يُشترط فيه أن يكون عدلا - وعلى الراجح للحاكم أن يقبل الشهادة إذا ترجح لديه أنها حق وصدق - ، وأن يكون الشاهد مكلفا ، وأن يكون قوي البصر.
5- إذا كان في السماء ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر فالراجح أن يوم الثلاثين لا يجب وجوبه ، وأن الراجح يدور بين إباحة صوم ذلك اليوم ، أو النهي عنه.
6- في مسألة ثبوت دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي تبين لنا ما يلي :
* أن الخلاف في المسألة حادث ومسبوق بالإجماع.
* القول بتحريم الاعتماد على الحساب الفلكي هو القول الذي يدل عليه الشرع والعقل والحس.
* من قال بوجوب الحساب الفلكي أو جوازه اعتمد في قوله على تعليلات هي مردودة ؛ لأنها في مقابل النصوص الشرعية ، وما ذكروه من نصوص شرعية إنما دلت على قولهم بطريق التأويل الفاسد.
* الحساب الفلكي لا يفيد القطع في إثبات دخول الشهر القمري ، وإنما يفيد الظن.
* وختاماً ، القول الصحيح في هذا المسألة هو : تحريم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات الشهر القمري.
ثانياً : التوصيات :(5/53)
1- بما أن القول الصحيح هو : تحريم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر القمري ، فإني أرى أن يُمنع الفلكيون من الكلام في هذه المسألة ؛ لما يسببونه من شوشرة وبلبلة عند العامة ؛ فإن الغالب أن الفلكيين يثيرون هذا الموضوع عند اقتراب شهور : رمضان وشوال وذي الحجة ؛ لأن معرفة وقت دخول تلك الأشهر يتوقف عليه عبادات عظيمة ، ومن آخر من نُشر في هذا الموضوع - بالنسبة للوقت الذي كتب فيه هذا البحث - ما سبق أن أشرنا إليه في المقالين اللذيّن نشرتهما صحيفة الجزيرة (1).
فإذا أثاروا ذلك الموضوع عند اقتراب تلك الأشهر وقالوا أن الهلال لا يمكن أن يُرى في تلك الليلة ، أو تمكن رؤيته ، فإنهم يحدثون بذلك بلبلة عند العامة ، وقد يصل الأمر إلى أكبر من ذلك ، خصوصاً إذا جاء الأمر على عكس ما قالوا ، وربما وصل الأمر إلى أكبر من ذلك أيضاً ، وذلك أنه إذا قرأ المسلمون أن الهلال لن يخرج في ليلة الثلاثين ، وأن الشهر سوف يكون كاملاً - كما في المقالين الذيّن نشرتهما صحيفة الجزيرة - فربما أدى ذلك إلى ألا يتراءى المسلمون الهلال في تلك الليلة ، ولا يخفى ما في ذلك من مفاسد العظيمة ، وتعطيل لشعيرة من شعائر الإسلام ، فأرى أن يُمنعوا من إثارة البلبلة في هذا الموضوع ، وأن يصرفوا اهتماماتهم في أمور أخرى تكون مصلحة المسلمين فيها بدل كثرة القيل والقال في هذه المسألة ، والله يزع بالسلطان ما لا بزع بالقرآن.
2- اقترح أن تكون هناك حملات ونشرات هدفها توعية المسلمين بأهمية تراءي هلال الشهور القمرية ؛ وخصوصاً هلال شهور : رمضان وشوال وذي الحجة ، والإدلاء بشهادتهم لدى المحاكم ، وبيان أن هذا الأمر يزداد أهمية ومشروعية في حق من رزقه الله البصر القوي.
_______________
(1) انظر (صـ 44-45).(5/54)
3- لابد من التفريق بين علم الفلك الحالي ، وبين علم التنجيم المنهي عنه شرعاً ، ففرق عظيم بينهما ، ونحن إنما ذكرنا تحريم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات الشهر القمري ، وإلا فنفس علم الفلك علم مهم وتتوقف عليه كثير من الأمور التي تهم الناس ، مثل أوقات دخول الفصول السنوية من شتاء وصيف وربيع وغيرها ، وما يترتب على ذلك من أوقات الزراعة وغيرها.
ونحن كما سبق إنما ذكرنا تحريم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات الشهر القمري ، فأرى أنه لا مانع من الاستعانة بحساباتهم ، وما يفيدوننا فيه من وقت خروج القمر ، وأين تمكن رؤيته في الشمال أو الجنوب ، وضابط ذلك أن يكون الاعتماد في دخول الشهر على رؤية الهلال لا على حساباتهم ، فإن رؤي الهلال دخل الشهر ، وإن قالوا بضد ذلك ، وإن لم يرَ الهلال لم يدخل الشهر وإن قالوا بضد ذلك.
والله أعلم.
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
?
الفهارس
وتشتمل على :
* فهرس المصادر والمراجع
* فهرس الآيات القرآنية.
* فهرس الأحاديث والآثار.
* فهرس الأعلام.
* فهرس الموضوعات.
فهرس المصادر والمراجع
أولاً الكتب :
1- [الاستذكار] لابن عبد البر ، تحقيق : الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ، مطبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1414هـ.
2- [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل] لعلاء الدين أبي الحسن على بن سليمان المرداوي ، تحقيق : محمد عبد الرحمن المرعشلي ، مطبعة دار إحياء التراث العربي في لبنان ، الطبعة الأولى 1419هـ.
3- [أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي] للشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - ، مطبعة ابن تيمية في القاهرة ، الطبعة الثانية 1407هـ(5/55)
4- [البحر الرائق شرح كنز الدقائق] لزين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري الحنفي ، تحقيق : زكريا عميرات ، مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، الطبعة الأولى 1418هـ.
5- [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي ، تحقيق : ماجد الحموي ، مطبعة دار ابن حزم ، الطبعة الأولى 1416هـ.
6- [تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير] للحافظ ابن حجر ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم اليماني المدني ، مطبعة دار المعرفة في لبنان ، الطبعة الأولى 1406هـ.
7- [تهذيب الكمال في أسماء الرجال] لجمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي ، تحقيق : الدكتور بشار عواد معروف ، مطبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1422هـ.
8- [جامع البيان عن تأويل آي القرآن] للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، مطبعة دار الأعلام في الأردن ، ومطبعة دار ابن حزم في لبنان ، الطبعة الأولى 1423هـ.
9- [الجامع لأحكام القرآن] لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، تحقيق : عبد الرزاق المهدي ، مطبعة دار الكتاب العربي في لبنان ، الطبعة الرابعة 1422هـ.
10- [حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل] لمحمد بن عبد الله الخرشي ، تحقيق : زكريا عميرات ، مطبعة دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1417هـ.
11- [الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي] لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري ، تحقيق : علي محمد معوض ، وعادل أحمد عبد الموجود ، مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، طبعة عام 1419هـ.
12- [دورتا الشمس والقمر وتعيين أوائل الشهور العربية باستعمال الحساب] للدكتور حسين كمال الدين ، مطبعة دار الفكر العربية في مصر ، طبعة عام 1416هـ.(5/56)
13- [رد المختار على الدر المختار] ، [حاشية ابن عابدين على الشيخ علاء الدين محمد علي المصكفي لمتن تنوير الإبصار] للشيخ شمس الدين النمرتاشي ، تحقيق : عبد المجيد طعمه حلبي ، مطبعة دار المعرفة في لبنان ، الطبعة الأولى 1420هـ.
14- [روضة الطالبين] ليحيى بن شرف النووي ، تحقيق : عادل أحمد عبد الموجود ، وعلي محمد معوض ، مطبعة دار عالم الكتب ، طبعة عام 1423هـ.
15- [سنن ابن ماجه] لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني الشهير بابن ماجه ، مطبعة دار إحياء التراث العربي في لبنان.
16- [سنن أبي داود] لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني ، مطبعة دار أحياء التراث العربي في لبنان.
17- [سنن الترمذي] للأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي البوغي الترمذي ، مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، طبعة عام 1994م.
18- [سنن الدار قطني] لعلي بن عمر الدار قطني ، مع [التعليق المغني على الدار قطني] لأبي الطيب محمد آبادي ، مطبعة عالم الكتب ، الطبعة الثالثة 1413هـ.
19- [السنن الكبرى] لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا ، مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، الطبعة الثالثة 1424هأ.
20- [سنن النسائي - المجتبى -] لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الشهير بالنسائي ، مطبعة دار الفكر.
21- [سير أعلام النبلاء] للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ، تحقيق : شعيب الأرنؤوط ، مطبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة الحادية عشرة 1422هـ.
22- [الشرح الممتع على زاد المستقنع] لفضيلة الشيخ العلامة : محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ، مطبعة دار ابن الجوزي ، الطبعة الأولى 1424هـ.
23- [صحيح أبي داود] للإمام محمد ناصر الدين الألباني ، مطبعة مكتبة المعارف للنشر والتوزيع في الرياض ، الطبعة الثانية 1421هـ.(5/57)
24- [صحيح البخاري] لمحمد بن إسماعيل البخاري ، مطبعة دار إحياء التراث العربي في لبنان.
25- [صحيح مسلم] لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري , مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، طبعة عام 1992م.
26- [ضعيف أبي داود] للإمام محمد ناصر الدين الألباني ، مطبعة مكتبة المعارف للنشر والتوزيع في الرياض ، الطبعة الثانية 1421هـ.
27- [ضياء السالك إلى أوضح المسالك] لمحمد عبد العزيز النجار ، مطبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1420هـ.
28- [علم الفلك] للدكتور يحيى شامي ، مطبعة دار الفكر العربي في لبنان ، الطبعة الأولى 1417هـ.
29- [العلم المنشور في إثبات الشهور] لعلي بن عبد الكافي السبكي ، مطبعة مكتبة الإمام الشافعي في الرياض ، الطبعة الثانية 1410هـ.
30- [فتاوى السبكي] للإمام أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ، مطبعة دار المعرفة في لبنان.
31- [الفتاوى الهندية] المعروفة بـ[الفتاوى العالمكيرية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان] للهمام مولانا الشيخ نِظام ، تحقيق : عبد اللطيف حسن عبد الرحمن ، مطبعة دار الكتب العلمية في لبنان ، الطبعة الأولى 1421هـ.
32- [فتح الباري شرح صحيح البخاري] للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، مطبعة دار السلام في الرياض ، الطبعة الأولى 1421هـ.
33- [الفروق] لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي ، بهامش الكتابين : [تهذيب الفروق] ، و [القواعد السنية في الأسرار الفقهية] ، مطبعة عالم الكتب في لبنان.
34- [الفلك العلمي] لعبد الكريم محمد نصر ، طبعة عام 1407هـ.
35- [لسان العرب] لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ، مطبعة دار صادر في لبنان ، الطبعة الثالثة 1414هـ.
36- [مبادئ الكونيات] للأمين محمد أحمد كعورة ، مطبعة عالم الكتب في لبنان.(5/58)
37- [المجموع شرح المهذب] للشيرازي ، للإمام أبي زكريا يحيى الدين بن شرف النووي ، تحقيق محمد نجيب المطيعي ، مطبعة دار إحياء التراث العربي في لبنان ، الطبعة الأولى 1421هـ.
38- [مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية] ، جمع وترتيب : عبد الرحمن بن قاسم العاصمي ، وساعده ابنه محمد ، طُبع بأمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ابن عبد العزيز ، إشراف الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين.
39- [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -] ، جمع وترتيب وإشراف د.محمد بن سعد الشويعر ، طُبع تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء ، الطبعة الثالثة 1423هـ.
40- [المدونة الكبرى] للإمام مالك بن أنس ، رواية سحنون ، مطبعة السعادة.
41- [مسائل في الفقه المقارن] تأليف : الدكتور عمر سليمان الأشقر ، والدكتور ماجد أبو رخية ، والدكتور محمد عثمان شبير ، والدكتور عبد الناصر أبو البصل ، مطبعة دار النفائس ، الطبعة الأولى 1416هـ.
42- [المستدرك على الصحيحين] لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم ، مطبعة دار المعرفة في لبنان ، الطبعة الأولى 1418هـ.
43- [مسند الإمام أحمد بن حنبل] للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي ، مطبعة دار إحياء التراث العربي.
44- [معجم مقاييس اللغة] لأبي الحسين أحمد بن فارس ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، مطبعة دار الجيل في لبنان ، الطبعة الثانية.
45- [المغني] لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ، تحقيق : الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي ، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو ، مطبعة دار عالم الكتب ، الطبعة الرابعة 1419هـ.
46- [الموسوعة الفقهية] ، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت ، مطبعة دار الصفوة ، الطبعة الأولى 1412هـ.(5/59)
47- [الهداية شرح بداية المبتدئ] لبرهان الدين المرغيناني ، مع [نصب الراية تخريج أحاديث الهداية] لجمال الدين الزيلعي ، تحقيق : أيمن صالح شعبان ، طبعة دار الحديث في القاهرة ، الطبعة الأولى 1415هـ.
ثانياً : المجلات والصحف:
1- [صحيفة الجزيرة السعودية].
2- [مجلة الأزهر] ، الجزء الثامن ، السنة السبعون ، عدد شعبان 1418هـ.
3- [مجلة البحوث الإسلامية] عدد [27] ، عدد : ربيع الأول ، ربيع الآخر ، جمادى الأولى ، جمادى الآخر 1410هـ ، طبعة مطابع الشرق الأوسط.
4- [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] ، الدورة الثالثة لمؤتمر الفقه الإسلامي ، العدد الثالث : 1408هـ.
ثالثاً : المواقع الإلكترونية :
1- موقع [الإسلام اليوم] ، وهو على العنوان التالي :
www.islamtoday.net
فهرس الآيات القرآنية
1- قوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ...} (78) سورة الإسراء ...................... 39
2- قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (1) سورة الفيل ............... 30
3- قوله تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا...} (36) سورة التوبة ...... 2 ، 8، 11
4- قوله تعالى : {...إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ...} (102) سورة الصافات ...... 30 ، 31
5- قوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ...}(197) سورة البقرة.. 11
6- قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (5) سورة الرحمن .............................. 10 ، 35
7- قوله تعالى : {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ...} (18) سورة آل عمران ...................... 28
8- قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ ...} (185) سورة البقرة .... 11 ، 14 ، 28 ، 29 ، 31(5/60)
9- قوله تعالى : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ...} (26) سورة القصص ................. 17
10- قوله تعالى : {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ...} (63) سورة الكهف ................ 30
11- قوله تعالى : {...فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ...} (92) سورة النساء ..................... 11
12- قوله تعالى : {...فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا...} (31) سورة القصص ...... 30
13- قوله تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ...} (63) سورة النور ................ 47
14- قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...}(226) سورة البقرة.. 11
15- قوله تعالى : {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ...} (26) سورة الرعد .............. 21
16- قوله تعالى : {...كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى...} (2) سورة الرعد ......................... 36
17- قوله تعالى : {...مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء...} (282) سورة البقرة ................... 17
18- قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا...} (5) سورة يونس ...... 30 ، 36
19- قوله تعالى : {...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...}(44) سورة النحل... 2
20- قوله تعالى : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ...} (153) سورة الأنعام ............ 47
21- قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ...} (12) سورة الإسراء... 30 ، 36
22- قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...}(7) سورة الحشر..47(5/61)
23- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (234) سورة البقرة ............ 11
24- قوله تعالى : {...وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ...} (7) سورة الطلاق ........................... 21
25- قوله تعالى : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى...} (115) سورة النساء.. 29
26- قوله تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ...} (14) سورة النساء ......... 47
27- قوله تعالى : {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ} (4) سورة الطلاق ............ 11
28- قوله تعالى : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ...} (6) سورة سبأ .......... 30
29- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...} (6) سورة الحجرات ...... 17
30- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...} (67) سورة المائدة .. 2
31- قوله تعالى : {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} (3) سورة المائدة ........................ 2
فهرس الأحاديث والآثار
1- "أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ ، قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ" ................. 21
2- "اخْتَلَفَ النَّاسُ في آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدِمَ أعرَابِيَّانِ فَشَهِدَا ... " ................... 16
3- "إذا رَأيتُموهُ فصوموا، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا ... " .................... 14 ، 29 ، 32 ، 33
4- "إن الله قد جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا ... " .......................... 25 ، 35
5- "إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ ، الشهرُ هكذا وهكذا" ..................................... 36(5/62)
6- "تَرَاءى النَّاسُ الهِلاَلَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ... " ...................... 15
7- "جَاءَ أعْرَابِيٌّ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ : إنِّي رَأَيْتُ الهِلاَلَ ... " .............. 15
8- "صُوموا لِرُؤْيتهِ وأفطِروا لرُؤيته ... " ................... 14 ، 29 ، 31 ، 39 ، 41 ، 46
9- "صُومُوا لِرُؤيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا ... " ...................................... 16
10- "الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ ليلةً، فلا تصومُوا حتّى تَرَوهُ ... " ......... 19 ، 20 ، 25 ، 35
11- "عَهِدَ إلَيْنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فإنْ لم نَرَهُ ... " ......... 16
12- "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّون" ............................................ 23
13- "قال نافع : فَكَانَ ابنُ عُمَرَ إذَا كان شَعْبَانُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ ... " ........... 20 ، 31
14- "قالت عائشة : لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر ... " .................. 22
15- "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ ... " .................... 30 ، 31
16- "لا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ... " ................... 30
17- "لاَ تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حتى تَرَوْا الهِلاَلَ أوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّة" ................................. 14 ، 38
18- "لا يَتقدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومَينِ إلاّ أن يكونَ رجُلٌ ... " .............. 18
19- "من صامَ يومَ الشَّك فقد عَصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " ........................ 19
20- "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" ............................................................................... 20(5/63)
فهرس الأعلام
ابن السبكي ............................................................................................... 40
ابن سريج ................................................................................................. 40
عبد الله بن مطرف بن الشخير ....................................................................... 40
ابن قتيبة .................................................................................................. 40
فهرس الموضوعات
المقدمة ............................................................................ 2
عنوان البحث .............................................................................................. 3
أهمية البحث ............................................................................................... 3
خطة البحث ................................................................................................ 3
منهج البحث ................................................................................................ 5
تمهيد ............................................................................... 7
المبحث الأول : تعريف الشهر ........................................................... 8
تعريف الشهر في اللغة .................................................................................. 8
تعريف الشهر في الشرع ............................................................................... 8
المبحث الثاني : تعريف رؤية الهلال ................................................... 9
تعريف الرؤية ........................................................................................... 9(5/64)
تعريف الهلال ........................................................................................... 9
تعريف رؤية الهلال في الشرع ...................................................................... 9
المبحث الثالث : تعريف الحساب الفلكي .............................................. 10
تعريف الحساب .......................................................................................... 10
تعريف الفلك في اللغة .................................................................................. 10
تعريف الفلك في الاصطلاح .......................................................................... 10
تعريف الحساب الفلكي ................................................................................. 10
المبحث الرابع : ما يترتب على دخول الشهر القمري ............................. 11
الفصل الأول : بمَ يثبت دخول الشهر القمري ............................. 13
المبحث الأول : دخول الشهر برؤية الهلال .......................................... 14
الأدلة على أن رؤية الهلال يثبت بها دخول الشهر القمري ...................................... 14
الرؤية التي يثبت بها دخول الشهر القمري ......................................................... 14
العدد المطلوب لرؤية الهلال ......................................................................... 15
العدد المطلوب لرؤية هلال رمضان ................................................................ 15
العدد المطلوب لرؤية هلال غير رمضان من الشهور القمرية ................................. 16
الشروط المشترطة فيمن يرى الهلال .............................................................. 17(5/65)
الشرط الأول : أن يكون عدلا ........................................................................ 17
الشرط الثاني : أن يكون مكلفا ........................................................................ 17
الشرط الثالث : أن يكون قوي البصر ............................................................... 17
مسألة : إذا غم على إذا غم على الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فما الحكم ؟ ............ 18
تحرير محل النزاع ..................................................................................... 18
القول الأول : يُنهى عن صوم ذلك اليوم ........................................................... 18
أدلة القول الأول ......................................................................................... 18
القول الثاني : يجب صوم ذلك اليوم ................................................................ 20
أدلة القول الثاني ......................................................................................... 20
القول الثالث : يباح صوم ذلك اليوم ................................................................ 23
أدلة القول الثالث ........................................................................................ 23
القول الرابع : أن الناس تبع للإمام في صوم ذلك اليوم ........................................ 23
أدلة القول الرابع ........................................................................................ 23
الترجيح .................................................................................................. 24
المبحث الثاني : دخول الشهر بإتمام الشهر السابق ثلاثين يوماً ................ 25(5/66)
الأدلة على أن الشهر القمري يثبت دخوله إذا تم الشهر الذي قبله ثلاثين يوماً ............... 25
المبحث الثالث : دخول الشهر بالحساب الفلكي .................................... 26
الفصل الثاني : دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي .................. 27
ذكر خلاف العلماء في هذه المسألة .................................................................. 27
منشأ الخلاف ............................................................................................ 27
الأقوال في هذه المسألة ................................................................. 27
القول الأول : تحريم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر القمري ..... 27
أدلة القول الأول ........................................................................................ 28
القول الثاني : وجوب الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر القمري .... 33
أدلة القول الثاني ........................................................................................ 33
القول الثالث : جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر القمري ..... 40
أدلة القول الثالث : ..................................................................................... 41
تفنيد الخلاف الحادث في المسألة ..................................................... 42
الحساب الفلكي في إثباته للشهور القمرية يفيد الظن لا القطع .................. 44
الدلائل الحسية على اضطراب الحساب الفلكي ................................................... 44
الترجيح .................................................................................... 49
الخاتمة ........................................................................... 51(5/67)
النتائج ...................................................................................... 51
التوصيات .................................................................................. 52
الفهارس ........................................................................ 54
فهرس المصادر والمراجع ............................................................. 55
أولاً : الكتب. ........................................................................................... 55
ثانياُ المجلات والصحف ............................................................................. 61
ثالثاً : المواقع الإلكترونية ........................................................................... 61
فهرس الآيات القرآنية .................................................................. 62
فهرس الأحاديث والآثار ................................................................ 64
فهرس الأعلام ............................................................................ 66
فهرس الموضوعات ..................................................................... 67
??
??
??
??
16(5/68)
رؤية الهلال بين الرؤية الشرعية والفلكية
من حوار مجلة الهجرة
مع الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم
بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة : ما هو الحكم الشرعى فى إثبات دخول الشهر القمرى بالحساب الفلكى ؟
الشيخ : من أفضل ما قيل فى هذه القضية مقال كتبه العلامة المستشار عبد المقصود شلتوت - حفظه الله - ملخصه :-
أن فى الإعتماد على الحساب الفلكى لإثبات دخول الشهر القمرى خطآن جسيمان :
أولهما : إسقاط العلة الشرعية الموجبة للصوم والإفطار وهى الرؤية البصرية .
والثانى : إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله وهو الحساب الفلكى وإضفاء الححجية عليها .
أما الأول : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لؤيته ، فإن غُم عليكم فأقدروا له ثلاثين " وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن عم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً " والأحاديث فى هذا كثيرة ، وهى تدل على أن المعتبر فى ذلك هو رؤية الهلال أو كمال العدة .
وليس المقصود من هذه الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه ،وإنما المراد بذلك شهادة البينة العادلة ، فقد صح عن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال : " ترءى الناس الهلال ، فأخبرت النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنى رأيته ، فصام وأمر الناس بالصيام ".
وفى الإعتماد على الحساب الفلكى إهدار للعلة الشرعية ، وإسقاط لحجية الرؤية الشرعية والحجية القضائية لحكم المحاكم الشرعية ، وإعتبار لما ألغاه الشرع وهو الحساب الفلكى ، وشذوذ عن إتفاق من يعتد به من أهل العلم وفقهاء المذاهب الذين حُكى عنهم الإجماع على عدم جواز العمل به ".
ويترتب عليه عند معارضته مع الرؤية الشرعية :
1- إعدام صوم أول رمضان إذا كانت المخالفة بدايته .(6/1)
2- إعدام فطر يوم العيد إذا كانت المخالفة فى نهايته .
وبالتالى : إنتهاك حرمة النص القرآنى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وحرمة نص السنة الشريفة :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته " وإنتهاك حرمة الصوم بمنع الناس من صيام أول رمضان ، وإنتهاك حرمة العيد بمنعهم من إفطار يومه ، مما يؤدى إلى تعطيل أحكام الله ، وإثارة القلاقل والإضطراب ، وزيادة الفرقة والإنقسام بين المسلمين .
وأما بالنسبة للخطأ الثانى : فهو إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله سبحانه وهى الحساب الفلكى وإضفاء الحجية عليها ، وبيان ذلك :
أن الله سبحانه وتعالى ربط أحكامه بعلل وأسباب شرعية فإذا وجدت العلة الشرعية وجد حكم الله ، وإذا إنتفت إنتفى حكم الله ، ولا يملك أحد أن يغير هذه العلل ولأ أن يبدلها .
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن علة وجوب الصوم والفطر هى المشاهدة ورؤية الهلال بصرياً .(6/2)
وليست العلة مجرد وجوده علمياً ، فى السماء من غير رؤية حسية بالعين ، قال تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته " فرتب وجوب الصوم والفطر على رؤية الهلال بالعين ، لا على العلم بوجود الهلال فلكياً دون رؤية بصرية ، فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل " صوموا لوجود الهلال أو ثبوته " حتى يعم الوجود كلاً من الوجودين الفلكى والبصرى ، بل قال : " صوموا لرؤيته " والرؤية أخص من الوجود ، فقد يوجد الهلال فلكياً ولكن لا يُرى لأسباب كثيرة ، فلا يجب الصوم ، أضف إلى هذا أن الشق الأخير من الحديث يدل دلالة قاطعة على أن وجود الهلال ليس هو العلة ، وإنما العلة هى تحقق الرؤية الحسية الملموسة ، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم " فإن غم عليكم " أو حال بينكم وبينه سحاب " كما فى بعض الروايات ، يفيد بأنه عند وجود الهلال وراء الغيم أو غيره يجب عدم الصوم ، وإكمال الشهر ثلاثين يوماً ، مما يقطع بأن العلة ليست هى مجرد وجود الهلال ، وإنما هى أخص من ذلك ، ألا وهى : تحقق الرؤية البصرية ، وبهذا ألغى الشارع الحكيم إعتبار الوجود العلمى للهلال علة للصوم أو الفطر ، وأكد على أن الوجود الحسى البصرى هو العلة ، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكى فى الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية ، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن لأن رحة الله بعباده إقتضت أن يعلق أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين ، دفعاً للحرج والمشقة على الناس ، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة ، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية لا يدركها كل الناس ، ولا كل من يريد أن يلتمسها حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف ، ويسر إدراكها مع يسر أدائه .(6/3)
إن الله سبحانه يعلم ما سيصل إليه علم الفلك من شأن عظيم فى مستقبل الأيام ، لكنه سبحانه ألغى إعتباره فى إثبات علل العبادات ، وذلك فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذى صح عنه قووله " إنا أمة أمية لا نكتب ، ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا ، وأشار بيده " أى : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً ، فهذا دليل واضح على رفض الأخذ بالحساب الفلكى فى إثبات الأهلة ، إذا كلفنا أن نتعامل فى ذلك وكأننا أميون فى الحساب الفلكى ، لا نكتب ولا نحسب ، وليس فى ذلك تنقص أو إزراء بعلم الفلك ، ولكن المقصود أن لعلماء الفلك مجالاً رحباً فى بعض شئون الحياة ، خارج المسائل الشرعية ، فإنه ليس لهم أى دور فى إثبات علل وأسباب العبادات التى ربط الله علل أحكامها بأسباب حسية ملموسة .(6/4)
وقد أجمع الفقهاء على الإلتزام بالعلة الشرعية للصوم وهى الرؤية البصرية للهلال ، وأجمعوا على رفض الأخذ بالحساب الفلكى سواء فى ذلك حالة الصحو أم حالة الغيم (1) إلا من شذ من المتأخرين وأحدث سبباً لم يشرعه الله ، ولا عبرة بهذا الشذوذ مع إنعقاد الإجماع الفقهى قبله (2) والإجماع العملى أيضاً : فقد جرى العمل فى كافة العصور الإسلامية الزاهرة ، حيث تقدم المسلمون فى علم الفلك ، وأنشأوا المراصد الفلكية ، ومع ذلك منعوه من الدخول فى مجال العلل الشرعية للأحكام ، بل لا يكاد يُعرف قاض - منذ عرف الإسلام القضاء إلى اليوم - قضى بالحساب الفلكى (3) ولا زال القضاة يلون إستشراف الهلال بأنفسهم ، أأو ينتظرون الشهود العدول بالمحاكم حتى يجيئوا لهم ، والمحكم الشرعية العليا فى مصر لم تأ×ذ قط فى إثبات الرؤية بالحساب الفلكى منذ أنشئت إلى أن ألغيت ، وكذلك دار الإفتاء من بعدها ، حتى نبغ مفتى أخر الزمان وأحدث هذه البدعة ، ونبذ العلة الشرعية أعنى الرؤية البصرية للهلال - وأحدث علة للصوم لم يشرعها الله وهى العلم الفلكى بوجود الهلال ، وشذ عن إجماع الأمة العلمى والعملى من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا ، وأضفى على الحساب الفلكى الحجية اليقينية مع أنه مبنى على أمور ظنية وحسابية وجبرية ، وأجهزة فلكية ، وكلها ظنية تحتمل الخطأ والصواب ، وليس أدل على ذلك من تعارض تقاويم الفلكيين أنفسهم فى حساباتهم الفلكية ، والذى يبنى على الظن لا يقيم اليقين لقيام شبهة الخطأ ) إنتهى الكلام بتصرف .
لكن يبقى التنبيه إلى ثلاث قضايا :
الأولى : أن ( حقيقة الشهر عند الفلكيين هى المدة بين إجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الإستسرار وقبل الإستهلال ، ومقداره عندهم هو (29) يوماً ، و (12) ساعة و(44) دقيقة .(6/5)
أما حقيقة الشهر الشرعية : فهى الرؤية له عند الغروب ، أى : أول ظهور القمر بعد السواد ، ومقدار الشهر الشرعى هو لا يزيد عن (30) يوماً ، ولا ينقص عن (29) يوماً .
وعليه فأن هناك فروقاً بين الأعتبارات الشرعية والإعتبارات الفلكية فى عدة أمور :
1- أن الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالإعتبار الشرعى ، ونتيجة لذلك فهو ينتهى قبل .
2- أن الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين تختلف عن مدته بالإعتبار الشرعى كما هو مبين آنفاً .
3- أن الشهر يبتدئ بإعتبار الشرع بطريق الحس ، والمشاهدة بالعين الباصرة ، أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة ، أما بإعتبار الفلكيين فهو : يتقدير خروجه لا بخروجه فعلاً .
4- عند الفلكيين : لا ففرق بين أن يتم الإقتران والإنفصال ليلاً أو نهاراً ، فلو حصل الإقتران والإنفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعد الفجر مباشرة ، ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ فى اللحظة التالية له ، أما بإعتبار الشرع : فالمعتبر الرؤية بعد الغروب ، فلو رؤى نهاراً بعد الزوال فهو لليلة المقبلة ، ولا يصام ذلك النهار الذى رؤى فيه ، وهذا بلا نزاع بين أهل العلم ) أ هـ . من " فقه النوازل " (2/174 ) .
الثانية : أنه يجب التفريق بين أمرين متباينين : أحدهما : الخلاف الفقهى السائغ بين العلماء فى قضية إختلاف المطالع ، وثانيهما : عدم جواز الأعتماد على الحساب الفلكى فى تحديد بداية الشهر وإنتهائه لأن الخلاف فيها غير سائغ لشذوذه عن الإجماع، والعلماء مع إختلافهم فى قضية إختلاف المطالع متفقون على أن سبيل تحديد بداية الشهر ونهايته هو الرؤية الشرعية لا الحساب الفلكى ، ولقد رأينا من يخلط بين الأمرين ، ويستدل بكلام العلماء فى القضية الأولى على القضية الثانية فلزم التنبيه .(6/6)
الثالثة : وهى نصيحة لمن يخالف المفتى الرسمى فى بلده إذا ثبت أنه يعتمد على الحساب الفلكى : أن لا يستعلن بالمخالفة لعموم المسلمين فى بلده (4) بل يستسر بالمخالفة ، ويعمل بالرؤية الشرعية فى خاصة نفسه ، ولا يدعو بلسان الحال أو المقال الملاء إليها ، سداً لذريعة التهارج بين المسلمين ، ودرءاً للفتن ، وجمعاً للكلمة ، وتفويتاً لمقاصد العلمانيين والمنافقين من أعداء الدين الذين يعتلون الموجة لتشكيك الناس فى دينهم ، ومحاولة النيل من قدسية الصيام فى نفوس العامة ، وقانا الله وسائر المسلمين شرهم .
-----------------------------------
الهوامش :
(1) ولم يعرف خلاف بين الصحابة - رضى الله عنهم - فى ذلك ، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- اتفاقهم عليه ، وحكاه المهدى فى " البحر " ، ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك ، قال مالك - رحمه الله تعالى - : ( إن من يصوم بالحساب لا يُقتدى به ) ، وقال ابن عرفه : ( لا أعرفه لمالكى) ، وممن حكى الإجماع على موجبه : ابن المنذر فى " الإشراف " ، وسند من المالكية ، والباجى ، واببن رشد القرطبى ، والحافظ ابن حجر ، والسبكى ، والعينى ، وابن عابدين ، والشوكانى ، وصديق حسن خان ، وملا على قارى ، وقال الشيخ أحمد شاكر : ( واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك ) أ .هـ بتصرف من " فقه النوزال " (2/156) .
(2) أنظر تفصيل ذلك فى "فقه النوازل " (2/158 - 169 ) .(6/7)
(3) قال الإمام الحافظ الذهبى - رحمه الله - فى ترجمة الإمام قاضى مدينة برقة محمد بن الحبلى أنه ( أتاه الأمير ، فقال : " غداً العيد " ، قال : " حتى نرى الهلا ، ولا أفطر الناس ، وأتقلد إثمهم " ، فقال : " بهذا جاء كتاب المنصور " - وكان هذا رأى العبيدية يفطرون بالحساب ، ولا يعتبرون رؤية - فلم يُر هلال ،فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد ، فقال القاضى : " لا أخرج ولا أصلى " ، فأمر الأمير رجلاً خطب ، وكتب بما جرى إلى المنصور ، فطلب القاضى إليه ، فأحضر ، فقال له : " تنصل ، وأعفو عنك " فامتنع ، فأمر ، فعُلق فى الشمس إلى أن مات ، وكان يستغيث العطش ، فلم يُسق ، ثم صلبوه على خشبة ، فلعنة الله على الظالمين ) أ هـ .
(4) ومقتضى هذا الكف عن كل ما ينم عن هذه المخالفة كقيام الليل بالمساجد أو الإعتكاف فيها ، فضلاً عن الجهر بالإفطار ، وإقامة صلاة العيد .
??
??
??
??(6/8)
قواطع الأدلة في الرد على من عول على الحساب في الأهلة
الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
فقد رأيت مقالاً لأحمد بن عبد العزيز اللهيب . ، نشرته جريدة الرياض في عددها 7264 ، الصادر في يوم الجمعة ، الموافق للسابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1408هـ ، وعنوان هذا المقال (الشهر الشرعي والتقاويم الهجرية المتداولة) .
وقد اشتمل هذا المقال على عدة أمور عظيمة الضرر على الكاتب وعلى كل من اتبعه على قوله الباطل .
أولها : الابتداع في الدين والشرع فيه بما لم يأذن به الله .
الثاني : مخالفة النصوص الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في اعتبار دخول الشهر وخروجه برؤية الهلال أو إتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ير الهلال .
الثالث : لأخذ بما نفاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمته من العمل بالحساب في دخول الشهر وخروجه .
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن الأخذ بالحساب أو الكتاب قد صرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفيه عن أمته والنهي عنه . قال : وما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في الإسلام ما ليس منه فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابل به أهل البدع . انتهى .
وهو مذكور في صفحة 179 من المجلد الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى . وقال أيضاً في صفحة 182 من المجلد المذكور . إن الأخذ بالحساب من زلات العلماء .(7/1)
وقال أيضاً في صفحة 207 من المجلد المذكور : لا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ، والمعتمد على الحساب في الهلال ؛ كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب ، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي . انتهى .
وقال أيضاً في صفحة 132 ، 133 من المجلد المذكور : إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه لا يرى لا يجوز ، والنصوص المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه ، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث ، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب ، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا . وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه .
فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم . انتهى .
الرابع : مخالفة السنة الثابتة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- في قبول شهادة العدول من المسلمين على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه والعمل بها وقد قال الله تعالى : ] فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك .
الخامس : تقديم العمل بالحساب على العمل بالسنة ، وهذا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله .(7/2)
السادس : بلبلة أفكار العوام وبعض المنتسبين إلى العلم وتشكيكهم في شهادة العدول على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه .
السابع : الطعن في الشهود العدول ورميهم بالتسرع في تأدية الشهادة ، وقد صرح بذلك في قوله : إن الشاهد حينما يرى الشهر في التقويم ناقصاً فإنه يقوى عزمه بالتسرع بتأدية الشهادة ، كذا قال . وهذا من سوء الظن بالشهود الذين يشهدون على رؤية الهلال ، والطعن فيهم بمجرد ظنه أنهم يعتمدون في شهادتهم على التقويم .
الثامن : الطعن في القضاة ورميهم بالتساهل في قبول الشهادة على رؤية الهلال ، وقد صرح بذلك في قوله . وكذلك القاضي تزيد ثقته بالشهادة لأنه يحسب أن ذلك من توافق الرؤية مع الحساب الصحيح والواقع بخلاف ذلك . كذا قال . وهذا من سوء الظن بالقضاة ، وقد قال الله تعالى : ] إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ [ .
التاسع : الطعن في ولاة الأمر الذين - يعملون بحكم القضاة بقبول شهادة العدول على رؤية الهلال ويأمرون الرعية بالعمل بشهادتهم .
العاشر : زعمه أن العمل بالحساب أضبط وأيسر مما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح ومن بعدهم .
والجواب أنه يقال هذا الزعم خطأ مردود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وعقد الإبهام في
الثالثة ، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين " رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .(7/3)
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الرد على الذين يحسبون مسير القمر أنه ليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلاً ، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حساباً مستقيماً ، بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية .. إلى أن قال : اعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض الأوقات . انتهى ، وهو في صفحة 182 ، 183من المجلد الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى .
وقال أيضاً في صفحة 174 من المجلد المذكور : إن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر ، وإنما يقربون ذلك فيصيبون تارة ويخطون أخرى . وقال أيضاً في صفحة 208 من المجلد المذكور : إن طريقة الحساب ليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة ، بل خطؤها كثير وقد جرب . وهم يختلفون كثيراً هل يرى أم لا يرى ، وسبب ذلك أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب فأخطئوا طريق الصواب ، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح . انتهى .
الحادي عشر : إنكار ما هو ثابت بالتواتر من رؤية الهلال في أول النهار في المشرق ثم رؤيته بعد الغروب في ذلك اليوم من المغرب ، وهذا يقع كثيرًا في أيام الصيف الطوال . وقد أخبرنا بعض الثقات برؤيتهم له في أول النهار وبعد الغروب في ذلك اليوم . والأخبار بهذا كثيرة ومستفيضة فلا وجه لإنكارها لأن إنكارها صريح في المكابرة .(7/4)
الثاني عشر : حكايته الاتفاق على القول الشاذ الذي نقله عن ابن قتيبة والمراكشي ومفتي قطر ، وهو زعمهم أنه لا يمكن أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس وبالعشي خلف الشمس في يوم واحد ، وهذا القول الشاذ مردود بما هو ثابت بأخبار كثيرة من الثقات برؤيتهم الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس ثم رؤيتهم له بالعشي خلف الشمس ، ومن أنكر أخبار الثقات فقوله هو المنكر في الحقيقة ، وأما حكاية الاتفاق على القول الشاذ الذي ذكره صاحب المقال الباطل فلا شك أنه من المجازفة والقول بغير علم .
الثالث عشر : اعتماده على ظنه وحسابه في دخول شهر شوال في سنة 1408 هـ فقد زعم أن القمر سيغرب قبل غروب الشمس يوم الأحد الموافق للتاسع والعشرين من رمضان ، وقد ظهر خطؤه في ظنه وحسابه الذي ليس بمنضبط وذلك بثبوت رؤية الهلال في ليلة الاثنين في عدد من المدن والقرى في المملكة العربية السعودية ، ورؤي أيضاً في غير المملكة العربية من البلاد المجاورة لها كما قد ذكر ذلك في بعض الإذاعات .
الرابع عشر : خطؤه في تحديد وقت صلاة الظهر ووقت صلاة العصر حيث جعل آخر وقت الظهر هو أول وقتها وجعل آخر وقت الاختيار لصلاة العصر هو أول وقتها ، ومن كان بهذه المثابة من الجهل بوقت صلاة الظهر ، وصلاة العصر فينبغي(7/5)
له أن يعرف قدر نفسه ولا يتطاول على القضاة والشهود العدول ، ولا يتكلف مالا علم له به من معرفة دخول الشهور وخروجها بمجرد حسابه المبني على الظن والتخرص ، فقد قال الله تعالى : ] ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ وهذا نص عبارته في دخول وقت الظهر ودخول وقت العصر ، قال : وإذا كان ظل الشيء مثله فقد دخل وقت الظهر وإذا كان مثليه فقد دخل وقت العصر . والجواب : أن يقال هذا خطأ مخالف للنص والإجماع على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس . قال الموفق في المغني : أجمع أهل العلم على أن وقت الظهر إذا زالت الشمس . قاله ابن المنذر وابن عبد البر ، وقد تضافرت الأخبار بذلك . انتهى . وقال الخرقي في مختصره : وإذا زالت الشمس وجبت الظهر وإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها . وإذا زادت شيئاً وجبت العصر وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار انتهى .
ويدل لقول الخرقى ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " أمَّني جبريل عند البيت فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت بقدر الشراك . ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله ، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق ، ثم صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، قال : ثم صلى بي الغد الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، ثم صلى بي العشاء في ثلث الليل(7/6)
الأول ، ثم صلى بى الفجر فأسفر ، ثم التفت إلي فقال : يا محمد هذا وقت الأنبياء قبلك ، الوقت فيما بين هذين الوقتين " هذا لفظه عند عبد الرزاق نحوه عند أحمد من طريق عبد الرزاق ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وصححه أيضاً ابن خزيمة والحاكم وأبو بكر بن العربي المالكي ، قال الترمذي . وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو ابن حزم والبراء وأنس ، ثم روى بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " أمني جبريل " فذكر نحو حديث ابن عباس بمعناه ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، قال : وقال محمد-يعني البخاري - أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبى -صلى الله عليه وسلم- انتهى المقصود من كلام الترمذي رحمه الله . وقد روى حديث جابر النسائي وابن
حبان في صحيحه والدارقطني والبيهقي وقد تركت تخريج الأحاديث التي أشار إليها الترمذي إيثاراً للاختصار وبعضها في الصحيح ، وفيها مع حديثي ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أبلغ رد على صاحب المقال الباطل .(7/7)
فصل في ذكر النصوص الدالة على اعتبار رؤية الهلال في دخول الشهر وخروجه ونفي الكتاب والحساب في ذلك وما جاء في قبول الشهادة على رؤية الهلال والعمل بها الحديث الأول : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال : " لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " رواه مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وفي رواية لمسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان فضرب بيديه فقال : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا " ثم عقد إبهامه في الثالثة " فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلالين " وفي رواية لأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا " وعقد الإبهام في الثالثة " والشهر هكذا وهكذا وهكذا " يعني تمام ثلاثين .
ولفظه عند البخاري قال : " إنا أمة لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا "
يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاتين . وقد رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ورواه البخاري من طريق مالك بنحوه أخصر منه . ورواه البيهقي من طرق كثيرة وفي بعضها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله تبارك وتعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له أتموه ثلاثين " وقد رواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه ، وعنده في آخره " فإن غم عليكم فأقدروا له واعلموا أن الشهر لا يزيد على ثلاثين " رواه الحاكم بنحوه وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي على تصحيحه .(7/8)
الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً " رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه ، وفي رواية لمسلم والنسائي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين " وقد رواه الترمذي بنحوه ، وقال في آخره : " فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " ثم قال : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح . ورواه الدارقطني وقال في رجاله كلهم ثقات . ورواه أيضاً من عدة طرق وقال : هذه أسانيد صحاح . وفي رواية لمسلم : " فإن غمي عليكم فأكملوا العدد " .
وقد رواه البخاري ولفظه : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " .
الحديث الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال : " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " رواه مالك وأبو داود والنسائي واللفظ لمالك . وفي رواية أبي داود : " فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا " وفي رواية للنسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " وقد رواه الإمام أحمد ولفظه : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين " . ورواه الترمذي والنسائي بنحوه ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح ، وصححه أيضاً ابن خزيمة والحاكم والذهبي .(7/9)
الحديث الرابع : عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه . ورواه ابن خزيمة في صحيحه مختصراً . وفي رواية للنسائي عن ربعي عن بعض أصحاب النببي -صلى الله عليه وسلم- قال :
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تقدموا الشهر حتى تكملوا العدة أو تروا الهلال ثم صوموا ، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين " وقد رواه الإمام أحمد بنحوه وإسناده صحيح على شرط الشيخين ، ورواه الدارقطني من طرق وقال في رجال أحدها كلهم ثقات .
الحديث الخامس : عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والدارقطني وقال هذا إسناد حسن صحيح . ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه .
الحديث السادس : عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال : ألا إني جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين ، فإن شهد شاهد فصوموا وأفطروا " رواه الإمام أحمد والنسائى والدارقطني . وفي رواية أحمد : " وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا " وفي رواية الدارقطني : " فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وأنسكوا " .(7/10)
الحديث السابع : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي . قال الهيثمي ورجال أحمد رجال الصحيح .
الحديث الثامن : عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً " رواه البزار والطبراني في الكبير والبيهقي قال الهيثمي وفيه عمران بن دوار القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام . قلت : وما تقدم من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه .
الحديث التاسع : عن مسروق والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين " رواه الطبراني في الكبير .
الحديث العاشر : عن طلق بن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " إن الله عز وجل جعل هذه الأهلة مواقيت للناس ، فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين " رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والدارقطني ، ورواه البيهقي مختصراً ولفظه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروا الهلال فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ورواه الإمام أحمد والطبراني أيضاً مختصراً بنحو رواية البيهقي .
قال الهيثمي : وفيه محمد بن جابر اليمامي وهو صدوق ولكنه ضاعت كتبه وقَبِل التلقين ، قلت : وما تقدم من الأحاديث الصحيحة يشهد لحديثه ويقويه .(7/11)
الحديث الحادي عشر : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : " لا تقدموا هذا الشهر صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين " رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي ، قال الهيثمي :
وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ولكنه ثقة . قلت : وما تقدم من الأحاديث يشهد له ويقويه .
الحديث الثاني عشر : عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أحصوا عدة شعبان لرمضان ولا تقدموا الشهر بصوم فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ثم أفطروا " رواه الدارقطني .
الحديث الثالث عشر : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه . رواه أبو داود والدارمي وابن حبان في صحيحه ، والدارقطني والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، وأقره الذهبي .
الحديث الرابع عشر : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : أبصرت الهلال الليلة قال : " أتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله " قال : نعم ، قال : " يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً " رواه أهل السنن وابن أبي شيبة والدارمي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والدارقطني والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد متداول بين الفقهاء ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي على تصحيحه .(7/12)
الحديث الخامس عشر : عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس أن يفطروا . رواه أبو داود عن مسدد وخلف بن هشام المقرئ . قال : وزاد خلف في حديثه وأن يفدوا إلى مصلاهم . إسناده عن مسدد صحيح على شرط الشيخين ، وإسناده عن خلف صحيح على شرط مسلم .
وقد رواه الدارقطني من طريق أبي داود ، وقال : هذا إسناد حسن ثابت . ورواه أيضاً من طريق آخر وقال : هذا صحيح . ورواه الإمام أحمد بإسنادين صحيحين على شرط الشيخين ولفظه عن ربعي بن حراش عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : أصبح الناس صيامًا لتمام ثلاثين قال : فجاء أعرابيان فشهدا أنهما أهلا الهلال بالأمس فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فأفطروا .
ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن ربعي ابن حراش عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : أصبح الناس صياماً لتمام ثلاثين فجاء رجلان فشهدا أنهما رأيا الهلال بالأمس فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فأفطروا ، قال الطبراني : لم يقل أحد في هذا الحديث عن أبي مسعود إلا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، قال الهيثمي : وهو ثقة .
قلت : وقد وثقه ابن معين ويعقوب ابن شيبة وأبو داود والدارقطني وعثمان بن خرزاذ وابن حبان وابن قانع ، وقال الحاكم بعد إيراد الحديث : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه . وقد رواه الدارقطني بنحوه .(7/13)
الحديث السادس عشر : عن أبي عمير بن أنس بن مالك قال : حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفطروا من يومهم ، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة .
وقد رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ، والدارقطني والبيهقي وقال : هذا إسناده صحيح ، وقال الخطابي : حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب .
الحديث السابع عشر : عن أبي مالك الأشجعي عن الحسين بن الحارث الجدلي - جديلة قيس - أن أمير مكة خطب ثم قال : عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما فسألت الحسين بن الحارث : مَن أمير مكة ؟ قال : ??لا أدري ، ثم لقيني بعد فقال :
هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب . ثم قال الأمير : إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأومأ بيده إلى رجل . قال الحسين : فقلت لشيخ إلى جنبي ، مَن هذا الذي أومأ إليه الأمير ؟ قال :
هذا عبد الله بن عمر وصدق ، كان أعلم بالله منا ، فقال : بذلك أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، رواه أبو داود وإسناده حسن . ورواه الدارقطني مطولاً بنحو رواية أبي داود ومختصراً لم يذكر قوله في عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما وقال في إسناد المختصر إسناده متصل صحيح .
قال ابن الأثير في جامع الأصول : النسك العبادة والمراد به ههنا الصوم .
فصل
وقد اشتملت الأحاديث التي تقدم ذكرها على فوائد كثيرة من الأحكام التي تتعلق بصيام رمضان والفطر منه .(7/14)
الأولى : تواتر الأحاديث بالأمر بصيام رمضان لرؤية الهلال ، والفطر منه لرؤية هلال شوال وإتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ير الهلال . وفيها ، بل في كل حديث منها أبلغ رد على صاحب المقال الباطل الذي قد حاول تشكيك الناس في شهادة العدول على رؤية الهلال إذا كانت مخالفة للحساب الذي قد اعتمد عليه وخالف السنة من أجله .
الثانية : النهي عن صيام رمضان والفطر منه حتى يرى الهلال أو تتم العدة ثلاثين يوماً .
الثالثة : نفي الكتاب والحساب عن الأمة المحمدية فيما يتعلق بالأهلة . لاستغنائها عن ذلك بالرؤية أو إتمام العدة ثلاثين يوماً ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النذر اليسير ، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك ، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً . ويوضحه قوله : " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ولم يقل فسلوا أهل الحساب . والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم . وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض . ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم . قال الباجي : وإجماع السلف الصالح حجة عليهم . وقال ابن بزيزة : وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل . وقال ابن بطال : في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ، ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف . انتهى .(7/15)
وقال النووي في شرح المهذب : من قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله -صلى الله عليه وسلم-في الصحيحين . " إنا أمة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا .. " الحديث . قالوا : ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار ، فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث .. انتهى
??
??
??
??(7/16)
لماذا الاختلاف حول الحساب الفلكي؟
الشيخ مصطفى الزرقا **
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أجد في اختلاف علماء الشريعة العصريين ما يدعو إلى الاستغراب أغرب من اختلافهم الشديد فيما لا يجوز فيه الاختلاف حول اعتماد الحساب الفلكي في عصرنا هذا؛ لتحديد حلول الشهر القمري لترتيب أحكامه الشرعية. نعم أؤكد على قصدي عصرنا هذا بالذات، ذلك لأنني لا أستبعد الموقف السلبي لعلماء سلفنا من عدم تعويلهم على الحساب الفلكي في هذا الموضوع، بل إنني لو كنت في عصرهم لقلت بقولهم، ولكني أستبعد كل الاستبعاد موقف السلبيين من رجال الشريعة في هذا العصر؛ الذي ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني، وأصبح أصغر إنجازاتهم النزول إلى القمر، ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محددة حول الأرض لأغراض شتى: علمية وعسكرية وتجسسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأحداث، والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغلاف الجوي الذي يغلف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، ثم سحب بعض الأقمار الصناعية الدوارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء.
إني على يقين أن علماء سلفنا الأولين، الذي لم يقبلوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سأذكرها قريبًا -نقلاً عنهم- لو أنهم وُجدوا اليوم في عصرنا هذا، وشاهدوا ما وصل إليه علم الفلك من تطور وضبط مذهل لغيروا رأيهم، فإن الله قد آتاهم من سعة الأفق الفكري في فهم مقاصد الشريعة ما لم يؤت مثلَه أتباعُهم المتأخرون، فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟(8/1)
ولعل قائلاً يقول: إن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية بلسان رسولها -صلى الله عليه وسلم- قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الثابت عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "صوموا لرؤيته -أي الهلال- وأفطروا لرؤيته، فإذا غمَّ عليكم فاقدروا له". وفي رواية ثابتة أيضًا: "فإن غُمَّ عليكم فأكلموا العدة ثلاثين".
وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين"، وهي تفسير لمعنى التقدير المطلق الوارد في الرواية الأولى.
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا".
فجميع الروايات الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد. وإن القدر أو التقدير عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر، معناه: إكمال الشهر القائم -شعبان أو رمضان- ثلاثين يومًا، فلا يحكم بأنه تسعة وعشرون إلا بالرؤية. وهذا من شؤون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدًا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة.
هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم وسائله العلمية.
تحليل الموضوع وفهمه عقلاً وفقهًا(8/2)
ونحن نقول بدورنا: إن كل ذلك مسلم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات، ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة، فإذا ورد النص نفسه معللاً بعلة جاءت معه من مصدره، فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودًا وعدمًا في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات، ولكي تتضح لنا الرؤية الصحيحة في الموضوع نقول: "إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر ليس هو النص الوحيد في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توضِّح علة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بحلول الشهر الجديد؛ الذي نيطت به التكاليف والأحكام، من صيام وغيره.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة -رضي الله عنها- في كتاب الصيام، باب الصوم لرؤية الهلال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا".
وأخرج أيضًا بعده عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة (أي: طواه) والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين".
ومفاد هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- أشار (أولاً) بكلتا يديه وبأصابعه العشر ثلاث مرات، وطوى في الثالثة إبهامه على راحته لتبقى الأصابع فيها تسعًا، لإفادة أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، ثم كرر الإشارة ذاتها (ثانيًا) دون أن يطوي في المرة الثالثة شيئًا من أصابعه العشر، ليفيد أن الشهر قد يكون أيضًا ثلاثين يومًا؛ أي: أنه يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين.
هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر.(8/3)
وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع، فالرواية التي أكملت الصورة، وأوضحت العلة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن بعضها ببعض، هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم. وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر.
فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة، وبيت القصيد في موضوعنا هذا، فقد علل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين. وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "لا نكتب ولا نحسب" (بالنون فيهما)، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته في تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير.
أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلاً:
"واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً".[1](8/4)
والعيني في "عمدة القاري" قد علل تعليق الشارع الصوم بالرؤية أيضًا بعلة رفع الحرج في معاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر. ونقل العيني عن ابن بطال في هذا المقام قوله: "لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في عرفه ذلك الحساب وغيره". وذكر القسطلاني في "إرشاد الساري شرح البخاري" مثل ما قال ابن بطال.
وقال السندي في "حاشيته على سنن النسائي" يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: "أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية...".
وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك، لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.
ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية، ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل، ولا تختلف، حتى يعرفوا مسبقًا بالحساب متى يهل بالهلال الجديد، فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق، لأمكنهم اعتماد الحساب الفلكي. وكذا كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمئن إلى صحتها.(8/5)
هذا حينئذ -ولا شك- أوثق وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة، مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو -أي طريق الحساب الفلكي- أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجو غير صحو والرؤية عسيرة، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذا الحال.
وقد وجد من علماء السلف -حين كان الحساب الفلكي في حاله القديمة غير منضبط- من قال: إنَّ العالم بالحساب يعمل به لنفسه، قال بهذا مطرف بن عبد الله من التابعين، ونقله عنه الحطاب من المالكية في كتابه "مواهب الجليل".
وقال القشيري: إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلاً، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وأن حقيقة الرؤية ليست مشروطة في اللزوم، فقد اتفقوا على أنَّ المحبوس في المطمورة إذا علم بإتمام العدة، أو بطريق الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم.
ونقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله: "إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته، وترد شهادتهم"، ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومكابرة.(8/6)
وواضح أيضًا لكل ذي علم وفهم أن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإتمام الشهر القائم ثلاثين حين يغم علينا الهلال بسبب ما حاجبٍ للرؤية من غيم أو ضباب أو غيرهما: ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يومًا، بل قد يكون الهلال الجديد متولدًا وقابلاً للرؤية لو كان الجو صحوًا، وحينئذ: يكون اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطر فيه، ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبت، ولا نملك وسيلة سواها فإننا نكون معذورين شرعًا إذا أتممنا شعبان ثلاثين يومًا وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصم أول يوم من رمضان؛ إذ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) بنص القرآن العظيم.
هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلاً وفقهًا، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة واقع الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية اللاحق، وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.
وما دام من البدهيات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام، وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أميتها هي العلة في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعًا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقًا بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب علمنا حينئذٍ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟
سبب رفض المتقدمين اعتماد الحساب(8/7)
من المسلم به أن الفقهاء وشراح الحديث يرفضون التعويل على الحساب لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهايتها للصيام والإفطار، ويقررون أن الشرع لم يكلفنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربط التكليف في كل ذلك بعلامات واضحة يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم، كما نقلناه سابقًا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم. وأن الحكمة في هذا واضحة لاستمرار إمكان تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.
ولكن يحسن أن ننقل تعليلاتهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه، مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي، ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا.
فقد نقل ابن حجر أيضًا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو "مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حَدس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظن غالب".
ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزمن مجرد حدس وتخمين لا قطع فيه، وأن نتائجه مختلفة بين أهله فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع بين المكلفين.
ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ عن النووي قوله: "إن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت"؛ أي أن مواقيت الصلاة فقط يعتبر فيها الحساب.
وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: "وهذا الحديث -أي: حديث "لا نكتب لا نحسب"- ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانًا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه وعن تكلفه".(8/8)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: "إن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا.. ولم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب".
وقال في مكان آخر: "وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة".
وقد أكد هذا المعنى في مواطن عديدة من الفصل الذي عقده في هذا الموضوع.
هذا، ويبدو من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوائل الشهور القمرية من قبيل عمل العرافين، وعمل المنجمين؛ الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقتراناتها. فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: "فالقول بالأحكام النجومية باطل عقلاً ومحرم شرعًا، وذلك أن حركة الفلك -وإن كان لها أثر- ليست مستقلة، بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض...".
ثم قال: "والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظًا وإما معنى، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر[2]" ، فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضًا متعذر في الغالب، وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، فتبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام [مراده أحكام النجوم، أي: تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ] من باب واحدة يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك...".
وقد اشتد شيخ الإسلام -رحمه الله- على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة وشنع عليه، وقال: "فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين".
الرأي الذي أراه في هذا الموضوع
يتضح من مجموع ما تقدم بيانه الأمور الأربعة التالية:(8/9)
أولاً: أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع، وربط بعضها ببعض -وكلها واردة في الصوم والإفطار- يبرز العلة السببية في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤيته الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته، ويبيّن أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، أي: ليس لديهم علم وحساب مضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يومًا، وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه على أنه إذا توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم؛ الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر، وفي أي وقت بعد ولادته تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة؛ إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب، والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة، بل مذهلة، حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما يحصل في بعض الأعوام.(8/10)
ثانيًا: أن الفقهاء الأوائل الذين نصوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار، وسموه حساب التسيير، قالوا: إنه قائم على قانون التعديل، وهو ظني مبني على الحدس والتخمين[3] ، وكلهم قد بنوا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك -الذي كان يسمى علم الهيئة، وعلم النجوم، أو علم التسيير أو التنجيم- قائمًا على رصد دقيق بوسائل محكمة؛ إذ لم تكن آنذاك المراصد المجهزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية العظيمة التي تقرب الأبعاد الشاسعة إلى درجة يصعب على العقل تصورها، والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم، وتسجلها بأجزاء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية الواحدة، وتقارن بين دورتها بهذه الدقة؛ ولذا كانوا يسمونه علم التسيير الذي يقوم على قانون التعديل؛ حيث يأخذ المنجم الذي يحسب سير الكواكب عددًا من المواقيت السابقة، ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها، ويبني عليها حسابه، وهذا معنى قانون التعديل كما يشعر به كلامهم نفسه.
من هنا كان حسابهم حدسيًا وتخمينًا كما وصفه أولئك الفقهاء الذي نفوا جواز الاعتماد عليه، وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم، مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظم خطورة من الصوم بإجماع الفقهاء، وأشد وجوبًا وتأكيدًا.
وقد نقلنا آنفًا كلام ابن بطال بأن "لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانًا أو كالعيان..."، وهذا ما يتسم به ما وصل إليه علم الفلك في عصرنا هذا من الدقة المتناهية الانضباط.(8/11)
ثالثًا: إن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضًا مشكلة خطيرة في عصرهم، وهي الاختلاط والارتباط الوثيق إذ ذاك في الماضي بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة، وبين حساب النجوم (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى. فيبدو أن كثيرًا من أهل حساب النجوم كانوا أيضًا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة، التي نهت عنها الشريعة أشد النهي، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:
الأولى: أنه ظني من باب الحدس والتخمين مبني على طريقة التعديل التي بينّا معناها، فلا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات.
الثانية: وهي الأشد خطورة والأدهى، وهي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم، وترهاتهم، وشعوذاتهم.
وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النكير الشديد الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على من يلجئون إلى الحساب، حساب النجوم في إهلال الأهلة بدلاً من الرؤية، واعتباره إياهم من الذين يتبعون غير سبيل المؤمنين، وذلك بدليل أنه صرح باعتبارهم من قبيل العرافين، والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظهم بحركات النجوم، وسموا من أجل ذلك بالمنجمين، وذكر شاهدًا على ذلك الحديث النبوي الآنف الذكر، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر".
فلا يعقل أن ينهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن علم يبين نظام الكون، وقدرة الله تعالى وحكمته وعلمه المحيط في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل، ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة؛ التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي، الذي لم يكن قد نضج وبلغ في ذلك الوقت مرتبة العلم والثقة.(8/12)
رابعًا: أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة، والكهانة، واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم، وأصبح علم الفلك قائمًا على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة، والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية، وبالحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية، وأقيمت بناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة، وتستقبل مركبات تدور حول الأرض... إلخ.. فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية والتعديل في الماضي زمن أسلافنا -رحمهم الله-؟!
والله أعلم.
-----------------------
** من كبار الفقهاء المعاصرين رحمه الله.
[1] ناقش فضيلة الشيخ هذه العبارة لابن حجر في رسالته "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي".
[2] رواه أبو داود في الطب 3905، وابن ماجه في الأدب (3726)، وصححه النووي في "رياض الصالحين" رقم (1669)، والذهبي في "الكبائر".
[3] كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعيني والقسطلاني.
??
??
??
??(8/13)
التحديد الفلكي لأوائل الشهور القمرية رجب وشعبان ورمضان وشوال وذو الحجة 1426هـ.
معالي الشيخ/ عبد الله بن سليمان المنيع
عضو هيئة كبار العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والشكر لله الذي ميزنا بعقول نستطيع بها التفكر في آيات الله ومخلوقاته، وأشهد ألا إله إلا الله القائل "والشمس والقمر بحسبان"، والقائل: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل: "إن هذا الدين متين ولن يشاده أحد إلا غلبه ولكن يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"، والقائل: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فلقد كان مني المساهمة في تنوير إخواني المسلمين في بلادي خاصة وفي البلدان الإسلامية عامة بمواعيد ولادة أهلة الشهور القمرية القريبة من شهر رمضان المبارك -رجب، وشعبان، وشوال- خدمة لتحديد دخول شهر رمضان وخروجه، ونشر ذلك في بعض الوسائل الإعلامية، وكان لهذه المساهمة أثرها في مضاعفة الجهد في التحري والتحقيق في إثبات رؤية هلال رمضان وهلال شوال.
حيث مضى لنا أكثر من خمس سنوات أخذت فيها الجهة المختصة بإثبات دخول الشهر وخروجه بتضييق دائرة الإشكال في الإثبات مما كان له الأثر في المزيد من التحري في صحة الفتوى بدخول شهر رمضان وخروجه. بالرغم من تضايق تلك الجهة بتلك المساهمة.
(انظر: العدد 27 من مجلة البحوث الإسلامية: ص: 91 -118).(9/1)
ومع ذلك فقد عذرتهم لشعورهم الصادق بمسئوليتهم، ووجوب بذلهم الجهد في تحقيق مقتضاها. فضلاً عما لرئيسها من مكانة خاصة في نفسي، ولكن ما كل مجتهد مصيب، والبحث عن الحق يقتضي البعد عن التعصب كما يقتضي احترام آراء الآخرين واتهام الإنسان لرأيه طالما أن الرأي مبني على الاجتهاد والتحري. وإيماناً مني بجدوى هذه المساهمة التبصيرية وأثرها في الأخذ بالقيود والضوابط ومضاعفة التحقق والتحري في قبول شهادات رؤية هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال لا سيما إذا كانت الحقائق العلمية تؤكد أن ولادة الهلال ستكون بعد غروب شمس اليوم الذي ادعيت فيه الرؤية.
إيماناً مني بذلك فسأختم هذا البحث ببيان مواعيد ولادة أهلة الشهور -رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي الحجة- وبدء أوائل هذه الشهور الخمسة، وكذلك بيان الفوارق الزمنية بين غروب الشمس وغروب القمر لهذه الشهور.
وقبل ذلك فلي في هذا البحث عدة وقفات أوردها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
مع العتب على هذا الاتجاه مني ومن بعض إخواني الذين شعروا بواجبهم نحو التعاون مع إخوانهم جهات مثبتي أوائل الشهور القمرية بما في ذلك شهر رمضان وشهر شوال وشهر ذي الحجة.
العتب على هذا الاتجاه علينا بتدخلنا فيما لا يعنينا وبجهلنا فيما تدخلنا فيه وذلك بما سمعنا وقرأنا عن تلك الجهة.(9/2)
هذا العتب في غير محله، لا سيما وقد صدر ممن هم أهل للتقوى والصلاح والإمامة والبحث عن الحقيقة الشرعية والتمسك بها بعد حصولها نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر المسلمين عامة بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، فحينما يكون منا هذا الإسهام في التوضيح والبيان فنحن نتعاون مع ولاة أمورنا ومنهم الجهة المختصة بالإثبات وذلك فيما نراه محققاً للصواب لا سيما ونحن نرى أن الأمر منهم يحتاج إلى مزيد من التحري والتحقيق والاستفادة من التطور العلمي والتقنية الحديثة، كما يحتاج إلى صيانة سمعة بلادنا وقادتها من القيل والقال والهمز واللمز، وقد كانت مساهمتنا في هذا السبيل مصدر ارتياح وتقدير من أهل العلم والفكر والنظر داخل بلادنا وخارجها -والحمد لله رب العالمين-.
الوقفة الثانية:
مع القول بأن الأخذ بالحساب مطلقاً منافٍ للنصوص الشرعية من كتاب الله -تعالى- ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا القول فيه حق وباطل. أما الحق فصحيح إن القول بالأخذ بالحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر وخروجه دون النظر إلى الرؤية الشرعية للهلال في الإثبات، هذا القول يظهر لنا بطلانه ومنافاته للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ لا شك أن علماء الأمة الإسلامية -إلا من شذ- مجمعون على أن دخول شهر رمضان وخروجه لا يتم إلا برؤية الهلال لا بالحساب الفلكي، قال الله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..". الحديث.(9/3)
وأما الباطل من هذا القول فهو الأخذ بشهادة من يدعي الرؤية -بعد إجراءات تعديله- وذلك قبل ولادة الهلال إذ هي شهادة لم تنفك عما يكذبها، إذ كيف يُرى الهلال متخلفاً عن الشمس بحيث تغيب قبل غيابه والحال أنه لم يولد بعدّ، فهو لا يزال متقدماً على الشمس فهو غربها وهي شرقه، فهي شهادة باطلة لا يجوز سماعها فضلاً عن قبولها، فنحن حينما نقول بالأخذ بالحساب الفلكي نحصر هذا القول في النفي دون الإثبات، فإذا قال علماء الفلك بأن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس وجاء من يشهد برؤيته بعد غروب الشمس والحال أنه لم يولد فهذه الشهادة غير صحيحة وباطلة، وإن كانت من جملة شهود عدول.
فهذا وجه الأخذ بالحساب فيما يتعلق بالنفي.
أما إذا كان الهلال مولوداً قبل غروب الشمس ولم يتقدم بالشهادة على رؤيته شاهد أو أكثر فلا يظهر لنا جواز إثبات دخول الشهر بالحساب والحال أنه لم يتقدم شاهد برؤيته. وقد أحسن مجلس القضاء الأعلى في قراره عدم ثبوت دخول شهر رمضان يوم الأحد الموافق 26/10/2003م فقد كانت ولادة الهلال حاصلة قبل غروب شمس يوم السبت الموافق 29/8/1424هـ إلا أن الهلال لم ير ذلك اليوم بعد غروب الشمس في بلادنا السعودية، فأصدر المجلس قراراً بأن يوم الاثنين هو يوم الثلاثين من شهر شعبان لعام
1424هـ.
وهذا التصرف من المجلس عين الحق، حيث إن المعتمد في الإثبات الرؤية فقط دون الحساب.(9/4)
والقول برد شهادة من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس والحال أن الشمس غربت قبل ولادة الهلال قول صحيح لا يتنافى مع النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله -محمد صلى الله عليه وسلم- ذلك أن الشهادة معتبرة إذا سلمت عما يؤثر على اعتمادها وقبولها، ومعلوم أن للشهادة موانع قبول واعتماد ومن أهم موانع قبول الشهادة ألا تنفك عما يكذبها ولا شك أن غروب الشمس قبل ولادة الهلال يُعَدُّ أقوى مانع لرد شهادة من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس والحال أنها غربت قبل الولادة. فنحن بهذا لم نرد قول الله تعالى: "فمن شهد منك الشهر فليصمه" ولا قول رسولنا -محمد صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وإنما رفضنا شهادة باطلة ممن شهد بشهادة لم تنفك عما يكذبها، فالشاهد هو الواهم أو الكاذب في شهادته. فليس في الأمر رؤية صحيحة للهلال حتى يقال بمصادمة رد هذه الشهادة للنصوص الشرعية فالهلال لم يولد بعدُ. وبهذا يتضح الأمر بأن الأخذ بالحساب فيما يتعلق بالنفي ليس فيه مصادمة لكتاب الله ولا لسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الوقفة الثالثة:
مع قول بعضهم في معرض الرد على القول بالأخذ بمقتضى ولادة الهلال ما نصه: ما الذي نجنيه من الكتابة عن الصيام وتكذيب شهود رؤية الهلال لأن الحساب قد دلنا على أن الشهر لن يهل أو أنه لم يولد؟ هل عندنا بذلك أثارة من علم ممن لا يرد قوله. إلى آخر ما قاله. انظر العدد 27 من مجلة البحوث الإسلامية ص91-118.(9/5)
أتمنى من قائل هذا القول أن يتهم رأيه وعلمه، فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه فيما يتكلم فيه. فعلم الفلك علم له قواعده وأصوله ونتائجه وله علماؤه المختصون به وعلى نظرياته الدقيقة تبنى أدق التطبيقات العلمية في عالم الفضاء والكون ومعرفة أوقات الكسوف والخسوف ابتداءً وانتهاءً، وليس الأمر في ذلك محصوراً في أثارة من علم تنتظر ممن لا يرد قوله، فالأمر في ذلك قطعي لا يحتاج إلى أثارة من علم.
ومن المسائل الفلكية التي لا تقبل جدلاً من أهل الدراية والنظر والاختصاص مسألة ولادة الهلال، فهي مسألة قطعية لا يختلف فيها ولا في تحديد وقتها بالدقيقة -لا بل بالثانية- أحد من علماء الفلك من مسلمين وغير مسلمين ولا يشك في قطعيتها منهم قاطبة إلا من يشك في نتيجة جمع الخمسة مع الثمانية أو ضرب الستة في الأربعة أو طرح الثلاثة من التسعة أو قسمة الثمانية على الاثنين.
وإذا كان المنازع لا يزال في منازعته في أن ولادة الهلال ظنية لا قطعية فعلية أن يأتي بقول واحد من علماء الفلك يقول بظنية الولادة لا قطعيتها. أما أن تُحشر لنا نصوص من أقوال فقهائنا من المذاهب الأربعة فهم علماء شريعة وليسوا علماء فلك. فهل يصح أن ننتقد مسألة طبية في الجراحة مثلاً أو مسألة هندسية من النظريات الهندسية، ثم نأتي بأقوال الفقهاء على انتقاد هذه المسائل العلمية من طب أو هندسة أو فلك أو نحو ذلك؟ لا شك أن لكل جانب علمي علماءه المختصين به، وأما غيرهم ممن ليسوا من أهل هذا العلم فيعتبرون عواماً عليه.
الوقفة الرابعة:(9/6)
مع الاحتجاج لرد العمل بالحساب بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب" إلى آخر الحديث، وتوجيه الاحتجاج لذلك أن وصف أمة الإسلام بالأمية وصف مدح لا وصف ذم. هذا القول بالرغم من صدوره ممن هو في مستوى رفيع من العلم ودقة النظر وعمق التفكير وإمام من أئمتنا ورموز ثوابتنا، هذا القول فيه نظر، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف هذه الأمة بواقعها في عهده فليس الغرض من وصفها بالأمية مدحها أو ذمها وإنما الغرض من ذلك تقرير أن الأمة لا تكلف بما لا تستطيع "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، "ما جعل عليكم في الدين من حرج" ولكن بعد أن تيسر لهذه الأمة الدخول في ميادين العلم ومن ذلك علم الفلك فقد زالت عن هذه الأمة الأمية فصارت تحسب وتكتب وتعلم وتقرأ وتخترع وتدرك ما أدركه الآخرون من آيات الله وعجائب مخلوقاته وأسرار مكنوناته ودقائق صنعه وإتقان إبداعه. وبزوال هذه الأمية يقوم التكليف وتسقط الأعذار ويتعين الأخذ بالأسباب ونتائج المعرفة وطرح التعلل بالجهل بعد زواله وحلول العلم محله.
الوقفة الخامسة:
مع حاشية لبحث لبعض إخواننا نشر في مجلة البحوث الإسلامية (العدد 27) من أنه اطلع على أكثر من عشرة كتب فلكية، وليس في واحد منها ما يشير إلى قطعية الحساب.
ونحن نتساءل هل في هذه الكتب ما ينفي قطعية الحساب؟ وإذا كان كذلك فليت الباحث أتى بنصوص من هذه الكتب تدل على ما ذكره، وبشرط أن تكون هذه الكتب من أهل الاختصاص في الفلك.
وقد جاء في هذه الحاشية ذكر قرار مؤتمر الكويت عام 1409هـ وهو قرار لا يتفق مع موضوع البحث المنشور في هذه المجلة فهو قرار يؤيد القول باعتبار الحساب الفلكي في حال النفي وقد جاء في القرار الفقرة (1) النص على ذلك وأن هذا القول هو قول عدد من فقهاء المسلمين كابن تيمية والقرافي وابن القيم وابن رشد. وفي الفقرة الثالثة من القرار ما يدل على أن الإثبات يجب أن يعتمد على الشهادة.(9/7)
وللشيخ أحمد شاكر أحد علماء مصر والمختصين في علم الحديث ورجاله -رحمه الله- له رسالة بعنوان (أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي) وقد ذكر في رسالته ما نصه: "لقد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي منذ أكثر من عشر سنين حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية رأي في رد شهادة الشهود إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي. وأثار رأيه هذا جدلاً شديداً وكان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. وما كان قولي هذا بدعا من الأقوال أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير يعرفه أهل العلم وغيرهم" ا.هـ.
(ص: 15 من رسالة نشر مكتبة ابن تيمية لطباعة ونشر الكتب السلفية).
ما ذكره فضيلة الشيخ أحمد شاكر وما جاء في قرار مؤتمر الكويت عام 1409هـ يتضح منه أن القول باعتبار الحساب الفلكي في حال النفي ورد الشهادة برؤية الهلال قبل ولادته قول مجموعة من علماء المسلمين قديماً وحديثاً، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والقرافي وابن رشد والسبكي والمراغي وأحمد شاكر والشيخ مصطفى الزرقاء -رحمهم الله- وغيرهم.
الوقفة السادسة:
هذه الوقفة مختصة بحوار قصير مع الجهة المختصة بإثبات الأهلة في بلادنا، فهذه الجهة جهة علمية مشهود لرئيسها وأعضائها بالنصح الخالص للبلاد وأهلها خاصة وللمسلمين عامة وهم أهل لذلك من حيث التقوى والصلاح وبذل الجهد في استبراء الذمة مع ما يتمتعون به من كفاءة شرعية تؤهلهم لممارسة اختصاصهم.(9/8)
وهم يدركون ما قاله مجموعة من فقهاء المسلمين ومحققيهم قديماً وحديثاً من أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة والظروف بشرط أن لا يكون هذا التغير مصادماً لنص شرعي أو أصل من أصول الدين. فعلوم التقنية بمختلف أجناسها وأنواعها قد تطورت تطوراً خدم البشرية خدمة أثرت على أنماط حياتها ونقلتها من عالم محدود الإدراك والتفكير والتحرك إلى عالم يسابق زمنه في الإبداع والعطاء والقدرة على الانتفاع بعوامل الانفتاح الفكري والنظري والتطبيقي. أفلا يجد إخواننا أن واجب عملهم واختصاصهم بإثبات الرؤية يقتضي الأخذ بكل جديد يساعدهم على الدقة في تحقيق ما اختصوا به؟
ومن ذلك إعادتهم النظر في آرائهم السلبية نحو النتائج الفلكية لا سيما وهم في علوم الفلك في صفٍ لا يؤهلهم لهذا الموقف السلبي نحو النتائج الفلكية فلو عملوا على عقد مؤتمر دولي يدعى إليه علماء فلكيون من أجناس فلكية مختلفة ويحضر معهم علماء شرعيون من بلدان إسلامية مختلفة يُبحث في هذا المؤتمر موضوع الاقتران والولادة وإمكان الرؤية وهل النتائج الفلكية في علم هذه المسائل قطعية أو ظنية؟ وهل في ذلك خلاف بين علماء الفلك؟ حتى لا يكون منا رد لقضايا قطعية نقول عنها على سبيل التشكيك والارتياب بل الإنكار: هل لدى أحد أثارة من علم بها ممن لا يرد قوله؟!
فإنكارنا النتائج العلمية القطعية مما هو محل إجماع علماء الاختصاص إنكارنا ذلك يرجع علينا بالنقص والزراية وضيق الأفق والنظر وسوء السمعة وقد سمعنا الكثير من ذلك وتألمنا مما سمعنا. والله حسبنا ونعم الحسيب.
ومن آثار هذا الموقف السلبي من إخوتنا وعدم تسليمهم بنظريات ونتائج علم الفلك ومنها الإجماع من علماء الفلك على تحديد وقت ولادة الهلال.
من آثار ذلك ما حصل من الإشكال في تحديد يوم عيد الفطر لعام 1425هـ، وفي تحديد يوم عرفة، ويوم عيد الأضحى للعام نفسه 1425هـ توضيح ذلك ما يلي:
صورة الواقع:(9/9)
1- ولادة هلال شهر شوال الساعة الخامسة وثمان وعشرون دقيقة من مساء يوم الجمعة 29/9/1425هـ وذلك بتوقيت مكة المكرمة.
2- غروب شمس يوم الجمعة 29/9/1425هـ الساعة الخامسة وأربعون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
3- مكث الهلال بعد غروب الشمس ثلاثون ثانية أي نصف دقيقة فقط.
4- غروب شمس يوم الجمعة 29/9/1425هـ عن أقصى نقطة في نجد من الجهة الغربية الساعة الخامسة وثلاث وعشرون دقيقة، أي قبل ولادة الهلال بخمس دقائق -انظر وقت غروب الشمس في حائل-
5- لم يكن من شهود رؤية الهلال ليلة السبت 30/9/1425هـ أحد من المنطقة الغربية- مكة، الطائف، جدة، المدينة، تبوك، العلا، أبها، جازان- حيث إن الهلال ولد بتوقيت المنطقة الغربية قبل غروب الشمس عن أبعد نقطة فيها من الجهة الغربية بما لا يزيد عن خمس شعرة دقيقة.
6- جميع منطقة نجد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها غربت الشمس عنها قبل ولادة الهلال.
7- الشهود الذين أثبت دخول شهر شوال بشهادتهم بيوم السبت كلهم من نجد ورؤيتهم في سماء نجد فهي رؤية واهمة غير صحيحة، حيث إن الهلال لم يولد قبل غروب الشمس عنهم.
من هذا التصوير يتضح ما يلي:
أ- ليس بين ولادة الهلال وغروب الشمس بعدها في المنطقة الغربية إلا دقائق لا تزيد عن خمس عشرة دقيقة، وهذا يعني أن غروب الشمس قبل الهلال لا تزيد مدته عن نصف دقيقة، فإمكان الرؤية بعيد إن لم يكن متعذراً.
ب- بالتسليم بإمكان الرؤية مطلقاً إذا كان الهلال مولوداً قبل غروب الشمس فلم يتقدم بالشهادة برؤيته مساء يوم الجمعة بعد غروب شمسها أحد من أهل هذه المنطقة -المنطقة الغربية-
ج- الذين شهدوا بالرؤية كلهم في نجد، وشمس نجد يوم الجمعة غربت قبل ولادة الهلال فكيف يرى الهلال قبل ولادته حيث إنه متقدم على الشمس فهو غربها وهي شرقه.(9/10)
وبهذا يتضح وجه الإشكال في تحديد عيد الفطر بيوم السبت لعام 1425هـ حيث إن الشهادة بالرؤية لم تنفك عما يكذبها. وبناء على هذا فقد كان من بعض الإخوة توجه في الفتوى بوجوب قضاء صوم يوم السبت لاعتباره مكملاً لشهر رمضان لولا ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطرون" أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
وقريب من هذا الإشكال حصل إشكال مثله في تحديد يومي عرفة وعيد الأضحى لعام 1425هـ وأوجد ذلك ارتباكاً وإشكالات وخسائر مادية تتعلق بمواعيد سفر الحجاج وتفويجاتهم وترتيب تنقلهم بين مشاعر الحج، وسبَّب ذلك كله الموقف السلبي من القضايا العلمية في علم الفلك.
الوقفة السابعة:
مع القول بعضهم إن علماء الفلك مختلفون فيما بينهم في إمكان الرؤية وفي تحديد أول الشهر وآخره، وهذا يعني أن النتائج الفلكية ظنية وما دامت ظنية والرؤية ظنية وقد اعتبر الشارع الرؤية وأمرنا باعتمادها فلا حاجة لنا بالفلك وعلومه والحال أن الحالين مستويتان في الخبر الظني.
والإجابة على هذا الإيراد تقتضي التمهيد لها بتعريف الاقتران والولادة وإمكان الرؤية.
وفيما يلي تعريفاتها:
الاقتران: هو اجتماع الشمس والقمر في خط طولي واحد، بحيث لا ينعكس ضوء الشمس على القمر ولا على جزء منه.
الولادة: هي انفصال القمر عن الشمس بحيث تكون الشمس أمامه من جهة الغرب، والقمر خلفها من جهة الشرق، فيظهر بالولادة نور الشمس على جزء من القمر.
إمكان الرؤية: هو حصولها بالقدرة البصرية على رؤية الهلال بعد ولادته.
وقد أجمع علماء الفلك على أن ولادة الهلال تتم في وقت محدد بالدقيقة إن لم يكن بالثانية، وأن علماء الفلك قاطبة لا يختلفون في ذلك التحديد إلا إذا اختلف علماء الرياضيات في نتيجة جمع عشرين مع خمسة عشر أو نحو ذلك من النتائج القطعية.(9/11)
وإنما الاختلاف بين الفلكيين في مسألة إمكان رؤية الهلال بعد اتفاقهم وإجماعهم على تحديد وقت ولادته، فبعضهم يقول بولادته قبل غروب الشمس. ولكن لا يمكن رؤيته إلا إذا كان على زاوية أفقية محددة بدرجة معينة وعلى ارتفاع درجات محددة أيضاً بعدد كخمس درجات أو ست أو أقل من ذلك أو أكثر، فهذه المسألة محل اختلاف بينهم مع اتفاقهم جميعاً على تحديد وقت الولادة. وهذا الاختلاف هو الذي أوجد خلطاً بين علماء الشريعة وفقهائها قديماً وحديثاً فلم يفرقوا بين الولادة وبين إمكان
الرؤية من عدمه؛ فظنوا أن الاختلاف في إمكان الرؤية هو اختلاف في تحديد الولادة والذي ندين الله به جمعاً بين النصوص الشرعية والنتائج القطعية للفلك أن الرؤية تثبت بالشهادة بها بعد الولادة وأن دخول الشهر أو خروجه يجب أن ينحصر إثباته بالرؤية بعد الولادة، ولو قال الفلكيون بولادة الهلال قبل غروب الشمس ولم يُرَ الهلال فلا يجوز الأخذ بالإثبات الفلكي وحده، بل يجب أن تنضم إليه الشهادة بالرؤية.
كما لا يجوز تقييد رؤية الهلال بعد ولادته بإمكان الرؤية وتقييد الإمكان بزاوية معينة أو درجة معينة، فمتى ولد الهلال وجاءت الشهادة بالرؤية تعين اعتبار الشهادة بالرؤية من غير اعتبارٍ للإمكان، وأما إذا غربت الشمس قبل الولادة وجاء من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس فيجب رد هذه الرؤية، حيث إن رؤية الهلال منتفية قطعاً في هذه الحال، وعليه فيجب اعتبار الحساب الفلكي في حال النفي دون حال الإثبات.
ولمزيد من توضيح معنى أن الحساب الفلكي يجب أن يُستند عليه في النفي دون الإثبات نذكر الحالات الآتية والحكم على كل حال منها:(9/12)
الحال الأولى: أن يولد الهلال قبل غروب الشمس، ويأتي من يشهد برؤيته بعد غروب الشمس، فهذه الشهادة بالرؤية معتبرة ويثبت بها بعد تعديلها دخول الشهر إن كان شهر رمضان فيكفي لها شاهد عدل وإن كان شهراً غير شهر رمضان فيجب أن تكون الشهادة بالرؤية من شاهدي عدل فأكثر وفي هذه الحال فقد اتفق النظر الشرعي مع الواقع الفلكي على إثبات دخول الشهر.
الحال الثانية: أن يولد الهلال بعد غروب الشمس ولم يتقدم أحد بدعوى الشهادة برؤية الهلال بعد غروب الشمس ففي هذه الحال اتفق النظر الشرعي مع الواقع الفلكي على نفي الرؤية واعتبار هذه الليلة ليلة آخر يوم من الشهر الحالي.
الحال الثالثة: أن يولد الهلال قبل غروب الشمس، ولكن لم يتقدم أي شاهد برؤيته الهلال، فهذه الحال اختلف النظر الشرعي مع الواقع الفلكي حيث إن الواقع الفلكي يثبت دخول الشهر والنظر الشرعي ينفي ذلك، حيث لم يشهد أحد برؤية الهلال ففي هذه الحال يجب علينا الأخذ بالنظر الشرعي في نفي دخول الشهر استجابة للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- "فمن شهد منكم الشهر فليصمه".
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". كما يجب علينا عدم الأخذ بالثبوت الفلكي لانحصار الإثبات الشرعي في الرؤية فقط بعد الولادة.(9/13)
الحال الرابعة: أن يولد الهلال بعد غروب الشمس ويأتي من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس فهذه الحال اختلف الواقع الفلكي مع دعوى الرؤية قبل الولادة حيث إن دعوى الرؤية تقول بدخول الشهر والواقع الفلكي ينفي دخول الشهر، ففي هذه الحال يجب الأخذ بالواقع الفلكي حيث إن الهلال لم يولد إلا بعد غروب الشمس فكيف يُرى بعد غروبها والحال أن الشمس غربت قبل ولادته، فالهلال متقدم عليها نحو الغرب وهي متخلفة عنه نحو الشرق فالرؤية التي تقدم بها أصحابها شهادة ومن شروط قبول الشهادة أن تنفك عما يكذبها وهذه الشهادة لم تنفك عما يكذبها، حيث إن ما يكذبها ملازم لها فيجب رد هذه الشهادة مهما كان الشاهد بها ومهما تعدد شهودها، وهذا معنى قولنا يجب الأخذ بالحساب الفلكي فيما يتعلق بالنفي دون الإثبات.
وهناك إيراد آخر ملخصه أن علماء الفلك قاطبة مجمعون على أن ولادة الهلال لها وقت محدد بلحظة واحدة، ومع ذلك يوجد خلاف بينهم في تحديد أول كل شهر والمثال على ذلك اختلاف العجيري -وهو أحد علماء الفلك- مع تقويم أم القرى في تحديد أول شهر رمضان عام 1421هـ، والسؤال عن وجه هذا الاختلاف والحال أن علماء الفلك مجمعون على تحديد ولادة هلال كل شهر بلحظة معينة.
والجواب عن هذا الإشكال أن غالب علماء الفلك من مسلمين وغير مسلمين أخذوا بتوقيت جرينتش، واتفقوا على الأخذ بنتيجة مقتضاه.
فإن وُلد الهلال قبل الثانية عشرة مساءً بتوقيت جرينتش فالليلة ليلة أول يوم من الشهر. وإن ولد بعد الثانية عشرة مساءً فالليلة آخر يوم من الشهر. والأستاذ العجيري أحد هؤلاء العلماء الذين يأخذون بتوقيت جرينتش وباعتبار هذا الاصطلاح المذكور في أول الشهر وآخره.(9/14)
وأما لجنة تقويم أم القرى فهي تأخذ بقرار مجلس الوزراء السعودي رقم (143) وتاريخ 22/8/1418هـ المقتضي الأخذَ بغروب الشمس في مكة المكرمة، فإن كان غروبها قبل ولادة الهلال فتعتبر هذه الليلة ليلة آخر يوم من الشهر، وإن كان غروبها بعد ولادة الهلال فتعتبر هذه الليلة أول يوم من الشهر، ومستند هذا القول هو النص الشرعي في اعتبار دخول الشهر وخروجه الرؤية الشرعية المعتمدة على الشهادة الصحيحة برؤية الهلال بعد غروب الشمس وبهذا يظهر وجه الاختلاف والجواب عنه، وأن هذا الاختلاف ليس اختلافاً في وقت ولادة الهلال وإنما هو اختلاف في الاصطلاح.
ومثل ما وقع في شهر رمضان عام 1421هـ من الاختلاف في تحديد أول الشهر بين تقويم أم القرى المعتمد على الفلك في تحديد الولادة، وبين مجموعة من علماء الفلك المعتمدين على الفلك أيضاً في تحديد الولادة وهو اختلاف في الاصطلاح لا في التحديد مثل ما وقع في ذلك العام سيقع في تحديد أول شهر شعبان 1426هـ.
فتقويم أم القرى يحدد أول يوم من شهر شعبان بيوم الاثنين الموافق 5/9/2005م لكون شمس يوم السبت غربت قبل ولادة الهلال بأكثر من ثلاث ساعات.
والقائلون باعتبار توقيت جرينتش يقولون بأن أول شهر شعبان هو يوم الأحد 4/9/2005م لأن ولادة الهلال تمت قبل الساعة الثانية عشرة بتوقيت جرينتش، وذلك مساء يوم السبت الساعة السادسة وست وأربعون دقيقة بتوقيت جرينتش.(9/15)
فلو فرضنا أن الهلال ولد بعد غروب الشمس من مكة المكرمة الساعة الحادية عشرة مساء بتوقيت المملكة، والساعة الثامنة مساء بتوقيت جرينتش فعلى حساب الأستاذ العجيري ومن أخذ بهذا الاصطلاح تكون هذه الليلة هي ليلة أول يوم من الشهر، وعلى حساب تقويم أم القرى تكون هذه الليلة هي ليلة آخر يوم من الشهر. ولا شك أن حساب تقويم أم القرى هو الحق المتفق مع المقتضى الشرعي؛ لأن العبرة في دخول الشهر وخروجه بغروب الشمس آخر الشهر قبل غروب القمر، فإن غربت الشمس قبل غروب القمر كانت الليلة ليلة أول يوم من الشهر، وإن غرب القمر قبل الشمس كانت الليلة آخر الشهر، ولا عبرة بولادة الهلال بعد غروب الشمس، سواءً أكان ذلك أول الليلة أو آخرها. وهذا هو المقتضى الشرعي المستند على قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ولما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- موقوفاً: "إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه".
والحمد لله الذي هدانا لهذا فقد صار للجهة المختصة عندنا في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه ومزيد من التأني والتحري والاستئناس بتقويم أم القرى. ونأمل أن تتلوها مرحلة الاعتراف بولادة الهلال حتى تنتفي عنا وعن بلادنا وعن ولاة أمورنا سمعة القيل والقال والهمز واللمز والوصف بالتخلف وضيق الأفق.
الوقفة الثامنة:
مع مدعي رؤية الهلال قبل ولادته.
يمكن تعليل رؤية الهلال قبل ولادته ممن يدعيها بما يلي:
(1) يحتمل أن يكون المرئي نجماً أو كوكباً قريباً من الشمس في حجم نقطة تُظن هلالاً. ويذكر لنا أن أخوين من جماعتنا من (الهدلق) في عهد قضاء الشيخ علي بن عيسى -رحمه الله- تقدم إلى فضيلته بالشهادة برؤية هلال شوال، وحينما ناقشهما -رحمه الله- عن الهلال وصفته وظهر له من ذلك عدم دقتهما في الوصف والرؤية، قال: لعلكما رأيتما نجمةً فقالاً نعم لعلها نجمة فسميت نجمة الهدلق.(9/16)
(2) يحتمل أن تكون الرؤية لطائرة أو مركبة فضائية أو قمرٍ صناعي.
(3) يحتمل أن تكون حالة جوية كعاصفة أو سحابة أو سراب.
(4) يحتمل أن تكون حالة نفسية، حيث إن المتحري يُخيَّل إليه شيء فيعتقده حقيقة.
(5) يحتمل الكذب في ذلك وهذا أبعد الاحتمالات إلا أنه قد يقع. وهناك احتمال آخر يتعلق بحالةٍ للهلال في شهر واحد من شهور العام، حيث يُرى الهلال قبل ولادته إلا أن هذه الرؤية ليست رؤية حقيقية للهلال وإنما هي رؤية لانعكاسه في الأفق خلف الشمس والحال أنه أمام الشمس لم يولد بعدُ، وهذه الحال قد يحتج بها على مخالفة القول بأن ولادة الهلال قطعية.
وبتفسير هذه الحالة يظهر الرد على القول بالمخالفة وتأكيد القول بقطيعة الولادة وعليه فتفسير هذه الحال ما يلي:…
من المعلوم للجميع بالمشاهدة أن الهلال يكون ناقص الاستدارة ومقوساً حتى ليلة تمام القمر يوم خمسة عشر، وفي ليالي هذه الأيام أي في النصف الأول من الشهر يكون نقص الاستدارة -فتحة القوس- من الشرق وتكون استدارة القوس من الغرب وذلك بهذا الشكل:
وفي النصف الثاني من الشهر ينعكس الأمر فتكون فتحة التقويس إلى الغرب وتكون استدارة التقويس إلى الشرق وذلك بهذا الشكل:
ويمكن استخدام هذه الظاهرة الكونية في معرفة الغرب والشرق إذا كان الإنسان في البر في الليل واختلف عليه تعيين القبلة للصلاة. فبمعرفته الجهة يستطيع معرفة القبلة.
فمتى وجدت حالة رؤية الهلال قبل ولادته فهذه حالة انعكاس أفقي للهلال وهو متقدم على الشمس، ولهذا سيكون وضع الهلال بالنسبة للتقويس وفتحة التقويس هو وضعه في النصف الأخير من الشهر، ويكون بهذا الشكل:
ولو لم يكن هذا الهلال انعكاساً لوضعه قبل ولادته وكانت رؤيته حقيقية لا انعكاساً لكان شكله هكذا:(9/17)
وتعليل هذه الظاهرة أن تقويس القمر دائماً يكون إلى قربه من الشمس سواءً أكان أول الشهر أو آخره، ولو وجدت مناقشة لمدعي الرؤية ومنها أين قرنا الهلال؟ هل هما إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لظهرت حقيقة هذه الرؤية هل هي انعكاس أو حقيقة؟ فإن كان قرناه إلى الشرق فهي رؤية حقيقية، وإن كان قرناه إلى الغرب فهي رؤية انعكاسية.
وهذا جواب عن هذا الإيراد وتفسير لهذه الظاهرة من أن الهلال قد يُرى بعد غروب الشمس والحال أنه لم يولد بعدُ، فهذه رؤية سرابية لا رؤية حقيقية. والله أعلم.
الولادة الفلكية للأشهر القمرية لعام 1426هـ (رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذي الحجة).
(1) ولادة شهر رجب:
أ- يولد هلال شهر رجب لعام 1426هـ الساعة السادسة وست دقائق، وذلك صباح يوم الجمعة الموافق 30/6/1426هـ بتوقيت مكة المكرمة.
ب- تغرب شمس يوم الجمعة 30/6/1426هـ الساعة السادسة وثمان وخمسون دقيقة مساءً بتوقيت مكة المكرمة.
ج- غروب الهلال مساء يوم الجمعة 30/6/1426هـ الساعة السابعة وست وعشرون دقيقة مساء بتوقيت مكة المكرمة.
د. مكث الهلال بعد غروب الشمس يوم الجمعة 30/6/1426هـ ثمان وعشرون دقيقة.
هـ- أول شهر رجب عام 1426هـ يوم السبت الموافق 6/8/2005م.
و- يكون الترائي الصحيح للهلال هو مساء يوم الجمعة 30/6/1426هـ بعد غروب شمس يومها -أي الجمعة-.
ز- لا يصح ترائي الهلال مساء يوم الخميس 29/6/1426هـ لكونه لم يولد إلا بعد غروب شمس هذا اليوم يوم الخميس بمقدار اثنتي عشرة ساعة وخمس دقائق.
(2) ولادة شهر شعبان:
أ- يولد هلال شهر شعبان لعام 1426هـ الساعة التاسعة وست وأربعون دقيقة مساء يوم السبت 29/7/1426هـ بتوقيت مكة المكرمة، أي بعد غروب الشمس بثلاث ساعات وعشر دقائق.
ب- غروب شمس يوم السبت 29/7/1426هـ الساعة السادسة وست وثلاثون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
ج- غروب الهلال مساء السبت 29/7/1426هـ قبل غروب الشمس بثلاث ساعات وعشر دقائق بتوقيت مكة المكرمة.(9/18)
د- غروب الشمس مساء الأحد 30/7/1426هـ الساعة السادسة وخمس وثلاثون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
هـ- غروب الهلال مساء الأحد 30/7/1426هـ الساعة السابعة وتسع دقائق بتوقيت مكة المكرمة أي بعد غروب الشمس.
و-مكث الهلال بعد غروب شمس يوم الأحد 30/7/1426هـ أربع وثلاثون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
ز- أول شهر شعبان لعام 1426هـ هو يوم الاثنين الموافق 5/9/2005م.
ح- يكون ترائي الهلال مساء يوم الأحد الموافق 30/7/1426هـ بعد غروب شمس هذا اليوم.
ط- لا يصح ترائي الهلال مساء السبت 29/7/1426هـ لكونه لم يولد إلا بعد غروب شمس يوم السبت بثلاث ساعات وعشر دقائق.
(3) ولادة هلال شهر رمضان:
أ-يولد هلال شهر رمضان الساعة الواحدة وتسع وعشرون دقيقة مساء يوم الاثنين -أي ظهر هذا اليوم- 29/8/1426هـ بتوقيت مكة المكرمة.
ب- تغرب شمس يوم الاثنين 29/8/1426هـ الساعة السادسة وسبع دقائق بتوقيت مكة المكرمة.
ج- يغرب هلال يوم الاثنين 29/8/1426هـ الساعة السادسة وتسع دقائق بتوقيت مكة المكرمة.
د- مكث الهلال بعد غروب شمس يوم الاثنين 29/8/1426هـ دقيقتان فقط وذلك بتوقيت مكة المكرمة.
هـ- يكون أول شهر رمضان فلكياً هو يوم الثلاثاء الموافق 5/10/2005م.
و- لا يصح ترائي الهلال مساء الأحد 28/8/1426هـ لكونه لم يولد إلا بعد غروب شمس يوم الأحد بمقدار تسع عشرة ساعة وواحد وعشرين دقيقة.
ز- يكون ترائي الهلال مساء يوم الاثنين الموافق 29/8/1426هـ حيث إن غروبه يتأخر عن غروب الشمس بدقيقتين.
(4) ولادة هلال شهر شوال:
أ-يولد هلال شهر شوال يوم الأربعاء 30/9/1426هـ صباحاً الساعة الرابعة وخمس وعشرون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
ب- غروب شمس يوم الأربعاء 30/9/1426هـ الساعة الخامسة وخمس وأربعون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.
ج- غروب الهلال يوم الأربعاء 30/9/1426هـ الساعة الخامسة وخمس وخمسون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.(9/19)
د- مكث الهلال بعد غروب شمس يوم الأربعاء 30/9/1426هـ عشر دقائق بتوقيت مكة المكرمة.
هـ- أول شهر شوال عام 1426هـ هو يوم الخميس الموافق 3/11/2005م.
و- لا يصح ترائي الهلال مساء يوم الثلاثاء 29/9/1426هـ لكونه لم يولد إلا بعد غروب شمس هذا اليوم بما يزيد عن إحدى عشرة ساعة.…
ز- يكون الترائي الصحيح للهلال هو بعد غروب شمس يوم الأربعاء الموافق 30/9/1426هـ حيث إن غروب الهلال متأخر عن غروب الشمس بعشر دقائق وذلك بتوقيت مكة المكرمة.…
(5) ولادة هلال شهر ذي الحجة 1426هـ:…
أ- يولد هلال شهر ذي الحجة يوم السبت الموافق 29/11/1426هـ الساعة السادسة واثنتا عشرة دقيقة من صباح هذا اليوم بتوقيت مكة المكرمة.
ب- تغرب شمس يوم السبت 29/11/1426هـ الساعة خمس وخمسون دقيقة بتوقيت مكة المكرمة.…
ج- يغرب الهلال مساء يوم السبت 29/11/1426هـ الساعة ست وثمان دقائق بتوقيت مكة المكرمة.…
د- يمكث الهلال بعد غروب شمس يوم السبت 29/11/1426هـ ثمان عشرة دقيقة.(9/20)
الحساب الفلكي بين القطعية والاضطراب
الدكتور محمد بن صبيان الجهني
قسم الهندسة النووية ـ جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد طال الحديث عن الحساب الفلكي وحجة الأخذ به لدخول الأشهر القمرية خصوصا شهر رمضان المبارك وشهر ذي الحجة واختلف جماعة من أهل العلم حول هذا الأمر اختلافا كبيرا فكانوا فريقين, فريق يرى وجوب الأخذ بالحساب وذلك لدقته المتناهية الضبط وأنه سوف يرفع الحرج عن المسلمين وتكلفهم تحري الأهلة وقد انقسم هذا الفريق إلى أقسام كثيرة, وفريق آخر يرى عدم جواز الأخذ بالحساب الفلكي جملة وتفصيلا وله حججه في ذلك.
خلاصة حجج القائلين بالحساب الفلكي:
1. الرؤية ظنية والشهود ليسوا معصومين من والحساب الفلكي الحديث قطعي و نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1- 100000) في الثانية(1).
2. الحساب الفلكي يخرج الأمة من مشكلة إثبات الهلال والفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ الفرق كما حصل في بعض الأعوام ثلاثة أيام(2).
3. هدف الحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال(1).
4. الرؤية ليست عبادة في ذاتها ولكنها الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك وذلك بسبب أمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعرب بالحساب الفلكي (2).
5. إن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، أمرٌ مطلوب دائما، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة في القطر الواحد (2).(10/1)
6. إن النص إذا ورد بعلة جاءت معه من مصدره فإنه يكون للعلة تأثيرها وارتباط الحكم بها وجودا وعدما ولو كان الموضوع من صميم العبادات. فقد علل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب(2). وحديث "إنا أمة امية" لا حجة فيه؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
7. لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدها هو الصواب(1).
8. الأخذ على الأقل في النفي لا في الإثبات، ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا(1).(10/2)
أقول بعد رجاء الله وطلبه العون والسداد إني لا أختلف مع من يقول إن الرؤية وسيلة لثبوت الدخول في شهر رمضان والخروج منه ولكن الأصل في الوسائل أن تكون متكافئة في الإيصال إلى المقصد الشرعي أو أن تكون إحداها تؤدي إلى ذلك المقصد في طريقة أكمل . وحتى أبين هذه القضية لأنها محور من محاور الخلاف بين القائلين بالحساب والمعارضين له, نحن نعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بتحري القبلة عند الصلاة وما ناط هذا التحري برؤية هلال أو شمس ولكن العقل ناطه بالجهات الأربع قديما والجهات الست حديثا. ومما لا يشك فيه أن تحري القبلة عن طريق الجهات وسيلة للوصول إلى مقصد شرعي وهو التوجه إلى القبلة عند أداء الصلاة ومما لايشك فيه أن تحري القبلة عن طريق الجهات غير مضمون من الخطأ وانحرافه المعياري كما نقول في علم الإحصاء غير قليل. ثم جاءت بعد ذلك وسيلة ذات دقة عالية وهي البوصلة و معلوم أن انحرافها المعياري أقل بكثير من الانحراف المعياري عند تحري القبلة عن طريق الجهات. ومما لاينكر أن الوسيلتين متكافئتان من حيث الوصول إلى المقصد الشرعي ولكن البوصلة أكمل من الوسيلة الأولى فالأولى استخدامها عند تيسرها وعدم التعويل على العقل لاحتمال خطائه.
والمثال الآخر هو مواقيت الصلاة والتي ناطها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمواقيت يعرفها الناس من شروق وغروب وشفق وغسق وظل ومما لايختلف عليه أحد أن هذه وسائل تؤدي إلى مقصد شرعي وهو الصلاة في أوقاتها فلما وجدت التقاويم المبنية على الحساب الفلكي خرجت لنا بوسيلة تؤدي إلى المقصد الشرعي ذاته وجاءت موافقة للوسيلة الأولى المعتمدة على الشروق والغروب والشفق والغسق والظل. ثم إن هذه الوسيلة الجديدة المعتمدة على الحساب رفعت عن الناس الحرج في تحري أوقات الصلاة حتى أصبح المؤذن يذهب إلى المسجد معتمدا على ساعة فلكية غير ملتفت إلى شفق وشروق وغروب وغسق وظل.(10/3)
ولا خلاف بين أهل العلم أن الوسيلة الأخرى المعتمدة على الساعة الفلكية أدت إلى المقصد الشرعي في طريقة أشمل من الوسيلة الأولى من غير مشقة ورفعت الحرج عن الأمة في تحري مواقيت الصلاة.
والسؤال الذي نطرحه, هل الحساب الفلكي وسيلة تؤدي إلى ذات المقصد في طريقة أوفى من الرؤية البصرية من غير خلل واضطراب؟. إن كان الأمر كذلك قلنا إن الحساب الفلكي وسيلة تؤدي إلى المقصد الشرعي الذي تؤدي إليه الرؤية البصرية في طريقة أوفى من الرؤية البصرية والأولى استخدامه عند تيسره.
وقبل الخوض في هذه المسألة أوكد أنه لاخلاف بين علماء الفلك في أن الحساب الفلكي في غاية الضبط وأن الاقتران يحسب بدقة عالية تصل إلى جزء من الثانية وذلك يعتمد على عدد العوامل المأخوذة في برنامج الحساب. وقد تعرض لهذه المسألة وغيرها الدكتور الفاضل محمد بن بخيت المالكي(3).
وكما أسلفنا من قبل أن القائلين بالحساب الفلكي قد انقسموا إلى اقسام كثيرة نوجزها ههنا.
الفريق الأول يرى أنه متى كانت ولادة الهلال في أي وقت من بعد الفجر إلى قبل الفجر الذي يليه فإنه يجب على المسلمين صيام اليوم الذي يلي الفجر الثاني وحجتهم أن الهلال موجود في السماء بعد ولادته لأن العلم اليقيني الثابت يثبت وجوده والعبرة بالوجود الفلكي لا الرؤية الخاطئة وهذا ماتسير عليه الجماهيرية الليبية.
الفريق الثاني أراد أن يوفق بين الرؤية والحساب فاشترط أن تكون ولادة الهلال قبل الغروب ولو بوقت قصير جدا فمتى كان ذلك وجب على الناس عقد نية الصيام وحجتهم أن اليوم الإسلامي يبدأ بعد غروب الشمس.
الفريق الثالث أراد أن يكون أكثر توفيقا بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي فاشترط إمكان الرؤية لثبوت دخول الشهر وهذا يعني أن الهلال لابد أن يكون مولودا قبل الغروب بوقت اختلف فيه الفلكيون حتى تتمكن العين أو التلسكوب من رؤيته. ومن أجل بيان هذا الاختلاف نوجز بعضا من شروطهم وطرقهم:(10/4)
1- أنه لايمكن أن يرى الهلال قبل 13 ساعة من ولادته وذلك أن المسافة الزاوية بين القمر والشمس من مركز الأرض لابد أن تكون أكثر من 7 درجات ومتى كانت أقل من ذلك فإنه لن يكون هنالك جزء مضيئ من القمر ولن تتمكن العين من رؤية الهلال وهذا مايسمى ب (تأثير أو حد دانجون). وهذا ماجعل مؤتمر المسلمين الفلكيين والذي أقيم في استنبول يوصي بأنه يجب أن تكون الزاوية أكثر من 8 درجات من أجل إمكان رؤية الهلال. وحتى نفسر ذلك, نحن نعلم أن مدار القمر بيضاوي ولكن دعونا نفرضه دأئريا. فمتى علمنا أن متوسط الشهور القمرية هو 29.53 يوما والقمر يدور 360 درجة في 29.53 يوماx 24 ساعة= 708.72 ساعة أي أننا سوف نحصل على 1.96 ساعة لكل درجة وبعد ضرب هذا الرقم ب 8 درجات والتي أوصى بها المؤتمر نحصل على عمر للهلال يساوي 15.75 ساعة وهذا رقم مقارب جدا لثاني رقم قياسي لعمر هلال رؤِي بالعين (15.4 ساعة).
2- حسب السجل المنشور للرؤية بالعين الباصرة, لم ير أحد الهلال قبل 15.4 ساعة من وقت ولادته مع أن محاولة الرؤية قد حدثت في 14 سبتمبر 1871 م وكان الانفصال الزاوي 9.3 درجة. كان هذا في القرن الماضي عندما كان التلوث الجوي والضوئي غير موجودين. ويقول المقال إنه لايمكن الآن رؤية مثل ذلك الهلال بالعين الباصرة. وقبل وقت قريب رؤي هلال كان انفصاله الزاوي 10.5 درجة والذي يقارب 17 إلى 21 ساعة من عمره. كما أن الدراسة تقول إن هذا لايعني أن كل هلال يمكن أن يرى إذا كان عمره بين 17 إلى 20 ساعة.
3- العلم الفلكي يستطيع أن يعطي وقتا مقاربا لإمكان رؤية الهلال بالعين والمنظار والتلسكوب ولكنه لايستطيع أن يعطي إجابة دقيقية لوجود عدد من العوامل التي تؤثر على الرؤية.(10/5)
4- الزمن الذي يمر بعد ولادة الهلال الجديد يسمى عمر الهلال ولكن عمر الهلال لايعتبر معيارا لإمكان رؤيته وذلك لأن مدار القمر بيضاوي ويسير القمر بسرعة أعلى, عندما يكون قريبا من الأرض, وابطأ عندما يكون بعيدا عن الأرض. فعندما يكون الهلال سريعا يمكن أن يرى وعمره ( 17 ساعة) وعندما يكون بطيئا يرى وعمره (23 ساعة).
5- إن أصغر هلال رؤي من خلال منظار كان عمره 13.47 ساعة كما ان أصغر هلال رؤي بالعين الباصرة كان عمره 15.4 ساعة .
6- إن أوثق رؤية بالعين حدثت بعد 17.2 ساعة وبعد 15.5 ساعة بالتلسكوب من ولادة الهلال علما بأنه في بعض الفصول لا تحصل الرؤية إلا بعد 24 ساعة.
7- يقول إلياس, العالم المسلم الماليزي إنه تستحيل رؤِية الهلال إذا كان عمره أقل من 17 ساعة
8- يجب أن يكون ارتفاع القمر فوق الأفق عند الغروب, 5 درجات أو أكثر وفي حالات نادرة بين 2 إلى 5 درجات.
9- طريقة جديدة مختلفة أسسها بروين قامت على 76 رؤية في أثينا وقد اعتمد على وضوح القمر والشمس وغير ذلك.
10- خطوط الوقت مثل منحنيات الشمال الغربي والجنوب الغربي والتي اقترحها إلياس وخطوط أخرى اقترحها شيفر من ناسا وكذلك طرق أخرى مؤلفة من عناصر مختلفة.
الفريق الرابع اشترط للدخول في الشهر والخروج منه الرؤية البصرية حتى لو كانت ولادة الهلال قبل الغروب بقليل غير ملتفت إلى نزاع الفلكيين حول إمكان رؤية الهلال والتي اشترطها الفريق الثالث ولكن هذا الفريق اشترط شرطا آخر وهو أن لاتقبل شهادة من قال برؤية الهلال متى كانت ولادته بعد الغروب لاستحالة الرؤية بالعين الباصرة وحجة هذا الفريق أن قدرة الله لايمكن حصرها وربما يؤتي أحدا من خلقه قدرة بصرية نافذة تستطيع أن ترى الهلال ولو كانت ولادته قبل الغروب بقليل جدا. أما حجتهم في عدم قبول الشهادة إذا كانت الولادة بعد الغروب فهي استحالة الرؤية. والشخص الذي رأى الهلال متوهم أو كاذب.(10/6)
من خلال ماسبق يظهر لي أن الفريق الثالث اختلف اختلافا كبيرا ويستحيل إجماعه على رأي واحد ووقع في تناقض كبير في محاولته للجمع بين النصوص الشرعية والحساب الفلكي وذلك لأسباب منها:
- عندما اختلفوا على وقت الولادة ومدة بقاء الهلال بعد الغروب وارتفاعه حتى تتمكن العين من رؤيته, جعلوا الحساب الفلكي اليقيني ظنيا ثم جمعوا بينه وبين الرؤية البصرية الظنية. ومما هو معروف أن جمع الظني مع الظني يزيد الظنية (على فرض ولادة الهلال). وحتى لا تلتبس هذه القضية على الفقهاء فإن جمع الظني مع الظني هنا ليس كجمع النصوص الشرعية الظنية التي يعضد بعضها بعضا لكي تكون أقرب إلى اليقين منها إلى الظن.
- ثم لو أنهم اتفقوا على وقت الولادة وغيرها حتى تتمكن العين من رؤيته لما زادوا عن جمع يقيني وظني وهذا يدل على أن وسيلة الحساب الفلكي غير كافية للوصول إلى المقصد الشرعي وحدها ولابد لها من التعويل على وسيلة الرؤية البصرية. والذي لايختلف عليه أيضا أن اليقيني مستغن عن الظني وأي محاولة للجمع بينهما تجعل الرؤية ظنية بنفس مقدار ظنينتها التي كانت عليها (على فرض ولادة الهلال).
- وهناك مطاعن أخرى أعظم خطرا مما بسطناه هنا أتركها إلى حين الحاجة إلى عرضها ذلك أنها تبين اضطراب حجج جميع القائلين بالحساب.
ويتبين لنا أن احتجاج الفريق الثالث لا يمكن الأخذ به لاضطرابه واختلاف الفلكيين حوله ولا يمكن أن تجتمع الأمة على مضطرب كما أنه لا يجوز لوسيلة يقينية أن تعول على وسيلة ظنية ولذلك أصبح الحساب قاصرا عن تحقيق المقصد الشرعي وحده فاحتاج إلى إمكان الرؤية فأصبح وسيلة يلغيها المنطق السليم.(10/7)
وأعود الآن إلى الفريق الثاني والذي يرى أنه متى حصلت ولادة الهلال قبل المغرب ولو بوقت قليل فإنه تجب مباشرة الصوم بعد الفجر, ومع أن هذا الفريق أصاب من ناحية أنه لم يقع في الاضطراب الذي وقع فيه الفريق الثالث كما أن القائلين بهذا القول غير مختلفين حوله ذلك أنهم لم يشترطوا الرؤية بالعين أو غيرها وشرطهم الوحيد أن تكون ولادة الهلال قبل المغرب فقط أما وجه خطائهم فهو اصطدامهم بنصوص شرعية منها قوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم- "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقوله "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه" وقوله "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا". فإن قالو إن الرؤية ثبتت لدينا يقينا من خلال ولادة الهلال حسابيا قبل الغروب (وهذا قولهم) ونعتبرها بمثابة الرؤية البصرية قلنا إن الرؤية قد تثبت يقينا بالحساب بعد المغرب والعبرة بثبوت الولادة الفلكية عندكم والتي اعتبرتموها وسيلة بدلا من الرؤية البصرية.
ونقول لهم أيضا إن الحساب الفلكي في غاية الضبط والبعد عن الخلل فلا يجوز أن نستخدمه وهو في غاية ضبطه وبعده عن الخلل عندما يوافق ما ندعوا إليه ونطرحه عندما يخالف ذلك. ولا نختلف معكم وقد جعلتم من ضمن أهدافكم (وهو هدف نبيل) أن نصوم رمضان ولا نفرط في شئ منه وادعيتم أن الحساب الفلكي قطعي الثبوت ويمكن حساب الاقتران بنسبة خطأ لا تتجاوز 1-100000 من الثانية. ومن أجل ذلك أردتم أن نتعبد الله سبحانه وتعالى بالثانية والدقيقة فلماذا لا تعتبرون ولادة الهلال متى حصلت بالليل بعد الغروب والعبرة عندكم بالولادة الفلكية؟. إن هذا اضطراب لا يمكن قبوله ممن ينادي بالحساب الفلكي لدقته و ضبطه ويضيع يوما من رمضان وربما صام يوما آخر من شوال يقينا عامدا متعمدا غير ملتفت إلى الدقة والضبط الذي يطالب الآخرين به.(10/8)
أما الفريق الأول فكان أكثر ضبطا من الفريق الثاني من ناحية وأكثر اضطرابا من ناحية أخرى ذلك أنه يوجب الصوم حتى لو ولد الهلال بعد المغرب. ولئن كان هذا الفريق أقل تفريطا في شهر رمضان من غيره إلا أنه وقع في اصطدام أيضا مع الدليل "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". ومما لا شك فيه أن هذا الفريق والفريق الثاني أول الرؤية في النصوص من رؤية بالعين إلى رؤية بالحساب او العلم. ثم لو قلنا بصحة هذا التأويل فإن الحديث يأمر بالصيام بعد مباشرة الرؤية وناط الصيام بها فلو حصلت الرؤية العلمية (الحسابية) في الليل وجب على الناس الصيام بعد فجر تلك الليلة ولو حصلت الرؤية العلمية (الحسابية) في النهار وجب على الناس الإمساك عن الصيام حينئذ وإلا لفرط الناس بجزء من رمضان عمدا لأن الحساب يقيني.(10/9)
والاضطراب عند هذين الفريقين هو أن الشهر القمري عند الفلكيين يقصر فيصل إلى 29 يوما و 6 ساعات و 35 دقيقة ويطول فيصل إلى 29 يوما و19 ساعة و 55 دقيقة ومتوسطه 29 يوما و12 ساعة و 44 دقيقة. وهذا اصطدام مع النص النبوي القائل بأن الشهر إما 29 يوما أو 30 يوما. ووجه الاصطدام أن الاقتران يمكن أن يحدث في أي لحظة عند نهاية الشهر فلو حصل الاقتران عند الساعة السابعة صباحا بعد الفجر في مدينة ما واعتبرنا لحظة الاقتران أو مابعدها بقليل بداية لشهر رمضان ولو اعتبرنا ايضا أن هذا الفريق جمع بين النصوص النبوية الآمرة بالشروع في الصيام والفطر بعد الرؤية لوجب على الناس الإمساك أو الفطر بعد الرؤية الفلكية متى حصلت في النهار. فلو كان الشهر قصيرا فلا بد أن يفطر الناس بعد 29 يوما و 6 ساعات و35 دقيقة أي في الساعة الواحدة و35 دقيقة وبهذا يكون صيام الناس 27 يوما كاملة ويومين غير كاملين وهذا مخالف لصريح قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "الشهر هكذا وهكذا..." أي 29 يوما أو 30 يوما. ومن ثم يتوضح أن هذه وسيلة لا تؤدي إلى المقصد الشرعي لاصطدامها مع النص الشرعي واضطرابها.
ثم إن الله سبحانه وتعالى تعبدنا بغالب الظن ولم يتعبدنا باليقين فإن أبينا إلا اليقين فلا بد أن نتبع اليقين في صيامنا وفطرنا فنمسك ونفطر بعد الرؤية الحسابية حتى لو حصلت في النهار.
فإن قال قائل نجبر هذا الكسر في الشهر فإن حصلت رؤية رمضان الحسابية, على سبيل التمثيل, في الساعة الثامنة صباحا نمسك من بعد فجر ذلك اليوم وإن حصلت رؤية هلال شوال الحسابية الساعة الرابعة بعد الظهر نتم ذلك اليوم قلنا له عدنا إلى الظن مرة أخرى ويجوز لنا بعد ذلك أن نختلف حول هذا الجبر متى يكون سلبا ومتى يكون إيجابا حتى يصبح مرة 29 يوما ومرة 30 يوما.(10/10)
أما الفريق الرابع الذي يرى أنه إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال: إنها غير ممكنة، لأن الهلال لم يولد أصلا في أي مكان من العالم الإسلامي ـ كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال؛ لأن الواقع ـ الذي أثبته العلم الرياضي القطعي ـ يكذبهم(1)
ونسأل هذا الفريق عن الحساب الذي ينفي هذه الشهادة هل هو الحساب المختلف اختلافا كبيرا على إمكان الرؤية واشترط لها شروطا لم يتفق عليها العلماء وأحال إمكان الرؤية من اليقين إلى الظن أم أنه الحساب الذي يدعو إليه الشيخ ابن منيع ويقبل الشهادة حتى لو كانت الولادة قبل الغروب بوقت قصير لم يحدده مع مخالفة جميع العلماء له حول إمكان الرؤية إذ تستحيل الرؤية متى ولد الهلال قبل المغرب بوقت قصير.
والسؤال الذي نسأله فضيلة الشيخ ابن منيع هو كيف تقبل شهادة الشهود والتي يردها العلم القطعي وأنت الذي تردها عندما يردها العلم القطعي؟.
الاضطراب المشترك عند جميع القائلين بالحساب(10/11)
نحن نعلم أن ولادة الهلال في كل شهر قمري قطعية ولا تقبل الشك عند أحد سواء أكان عالما بالحساب أم غير عالم به وولادة الهلال تكون في وقت محدد. ومما هو معلوم أن مدينة الدمام تقع على الساحل الشرقي للملكة وتقع على خط طول 50.1 درجة وخط عرض 26.1 درجة ويقابلها من الجهة الغربية مدينة الوجه وتقع على الساحل الغربي من المملكة على خط طول 36.4 درجة وخط عرض 26.2 درجة أي على نفس خط عرض الدمام. ففي يوم 21 مارس و 21 سبتمبر يكون الاعتدال (الليل يساوي النهار) في هاتين المدينتين. ففي يوم 21 مارس لعام 1425هـ ,على سبيل التمثيل, يكون الفجر في مدينة الدمام في الساعة 4.28 والشروق في الساعة 5.49 والمغرب في الساعة 5.49 وفي مدينة الوجه يكون الفجر في الساعة 5.22 والشروق في الساعة 6.43 والمغرب في الساعة 6.43 ويكون الفرق بين المغرب في الدمام والمغرب في الوجه 54 دقيقة كما أن الفرق بين الفجرين في المدينتين 54 دقيقة أيضا. ومتى علمنا أن ولادة الهلال قطعية في كل شهر قمري فإن احتمال ولادة الهلال في المملكة على هذا الخط بين مغربي الدمام والوجه أو فجري الدمام والوجه هو 3.75%. ولا بد أن تكون مدينة بين هاتين المدينتين يولد فيها الهلال وقت المغرب أو الفجر تماما بين مغربي أو فجري الدمام والوجه.(10/12)
والآن نقول للفريق الأول الذي يرى وجوب الصيام متى ولد الهلال قبل الفجر ولو بدقيقة أو ثانية واحدة, إن ذلك يوجب على من كان شرقي تلك المدينة التى ولد بها الهلال وقت أذان الفجر ألا يصوم لأن هلاله ولد بعد فجره ويوجب على من كان غربي تلك المدينة أن يصوم لأن هلاله ولد قبل الفجر وبذلك ينقسم أهل الدولة الواحدة إلى نصفين نصف يجب عليه الصيام ونصف لا يجب عليه الصيام. بل أقول إن دقة الحساب الفلكي المتناهية سوف تجعل مدينتين لا يفصل بينهما إلا شارع صغير إحداهما تصوم والأخرى لا تصوم وربما تجاوز الأمر ذلك فيبلغ بيتين متجاورين بل بيتا واحدا فمن كان في شرقه لا يصوم ومن كان في غربه يصوم.
كما أن ما ذكرناه حيال الفريق الأول ينطبق على الفريق الثاني ذلك أن احتمال ولادة الهلال على خط عرض الدمام والوجه بين مغربي الدمام و الوجه هو أيضا 3.75%. ونقول للفريق الثاني أنه متى ولد الهلال على خط عرض الدمام والوجه بين وقتي مغربيهما فلابد أن تكون مدينة بينهما على خط العرض يولد فيها الهلال وقت أذان المغرب وذلك يوجب على من كان شرقي تلك المدينة الفطر ويوجب على من كان غربيها الصيام.
كما أن ما قلناه ينطبق على الفريق الثالث بجميع فئاته. ولو جازللفريق الثالث أن يجتمع على رأي واحد وقال حتى نستطيع ان نرى الهلال لابد أن يولد قبل المغرب ب 10 ساعات. نقول له أيضا ماقلناه للفريق الأول والثاني إن احتمال ولادة الهلال على خط عرض الدمام والوجه قبل 10 ساعات بين مغرب الدمام ومغرب الوجه هو نفسه 3.75%. ولا بد من ولادة الهلال قبل 10 ساعات من أذان المغرب تماما في مدينة تقع بين الدمام والوجه وذلك يوجب على من كان شرقي هذه المدينة الفطر ويوجب على من كان غربيها الصيام.
ثم إن ماقلناه أيضا ينطبق على الفريق الرابع والذي يقول بالنفي دون الإثبات.(10/13)
واسأل فضيلة الشيخ عبدالله بن منيع لو جاءه شخص وادعى أنه راى الهلال في مكان يقع شرقي المدينة التي ولد بها الهلال وقت أذان المغرب هل يقبل شهادته علما بأن الهلال ولد في المكان الذي أدعى الشهادة فيه بعد المغرب؟.
ولو جاءه أربعة شهود, شاهدان من المدينة التي تقع شرقي المدينة التي ولد بها الهلال وقت أذان المغرب وشاهدان من المدينة التي تقع غربيها, هل يقبل شهادة هؤلاء ويرد شهادة أولئك؟ ومتى قبل شهادة من كان غرب تلك المدينة هل يقول بصوم من رد شهادتهم على أنهم جميعا من بلاد واحدة. ثم لو ولد الهلال في مدينة الوجه قبل الغروب بدقيقة, هل يصوم الأكثرون الذين لايجب عليهم الصوم ممن هم شرق الوجه مع الأقلين من أهل الوجه؟.
وما سبق من الكلام ينطبق على كل بلاد ويزداد احتمال ولادة الهلال في البلاد العريضة فلو أخذنا مدينتين إحداهما على الساحل الشرقي (مدينة سنت جونز والتي تقع على خط عرض 47.5 درجة) في كندا والأخرى على الساحل الغربي (مدينة فانكوفر والتي تقع على خط عرض49.2 درجة ) لوجدنا أن احتمال ولادة الهلال بين مغربي المدينتين هو 19% وهذا احتمال غير قليل ولن تخلو بلاد من هذا الاضطراب في كل شهر.(10/14)
وحتى أبين هذه المسألة, أقول إنه لو فرضنا نسبة الخطأ في الحساب نصف ثانية ( ± نصف ثانية). فمتى علمنا أن المسافة بين الدمام والوجه هي 1396 كم والفرق بين فجريهما ومغربيهما هو 54 دقيقة (3240 ثانية). فلو قسمنا 1396 كم على 3240 ثانية فسوف نحصل على 430.9 م لكل ثانية أي أنه عندما تكون المسافة بين مدينتين 430.9 م فسوف يكون الفرق بين مغربي أو فجري المدينتين ثانية واحدة. فمتى فرضنا نسبة الخطأ بالحساب الفلكي نصف ثانية فإن المدينة التي يولد في منتصفها الهلال وقت المغرب أو الفجر سوف يقع جزء من شرقها (430.9 م عندما نقسمها إلى قسمين) ويساوي 215.45 م وجزء من غربها ويساوي 215.45 م ضمن نصف ثانية من الخطأ في الحساب الفلكي و هذه منطقة شك. وهذا يعني أن كل من كان شرقي منطقة الشك لايجب عليه الصوم ومن كان غربيها يجب عليه الصوم. أما مدينة الشك فتقع ضمن الخطأ في الحساب الفلكي ولا ندري أيجب عليها الصوم أم لايجب؟. ومن هنا ندرك أن الحساب الفلكي يقسم مدينة واحدة إلى ثلاثة أقسام, قسم يجب عليه الصوم وقسم لايجب عليه وقسم يشك في صيامه.
ثم لو قلنا إن في الحساب الفلكي 1-100000 من الثانية فإن منطقة الشك سوف تصبح 8.6 مم وهذه لاتقسم بيتا فحسب بل تقسم إنسانا فيصوم ماكان منه في الغرب ولا يصوم منه ماكان في الشرق!!.(10/15)
كما أن الحساب سوف يجعل من بعضنا يصوم في بلاد والبعض يصوم بعده بيومين أو أكثر و سوف يجعلنا نفرط أحيانا بيومين أو أكثر من شهر رمضان المبارك ونضطر للدخول في يومين أو أكثر من شهر شوال وحتى أبين هذه المسالة أقول إنه لو أننا سرنا على رأي إلياس وفرضنا الشهر قصيرا, وولد الهلال في مدينة ما الساعة الثانية قبل الفجر, وغروب الشمس في تلك المدينة الساعة السادسة فسيصبح الفرق بين ولادة الهلال وغروب الشمس 16 ساعة. وسيفوت تلك البلاد 40 ساعة وتصوم 27 يوما و13 ساعة (من الليل وقليل من صباح يوم الثامن والعشرين) من رمضان. كما أن هلال شوال سوف يولد في اليوم التاسع والعشرين من ولادة هلال رمضان فلكيا في الساعة الثامنة و35 دقيقة صباحا أي قبل المغرب ب 9 ساعات و25 دقيقة تقريبا وهذا يخالف شرط إلياس ويكون الناس في ذلك اليوم الذي يولد فيه هلال شوال الساعة الثامنة و35 دقيقة قد دخلوا في اليوم ال 28 من صومهم ومما هو معلوم فلكيا أن اليوم الذي بعده يكون من شوال فإن صام الناس ذلك اليوم (على رأي إلياس) فقد صاموا يوما من شوال و9 ساعات و25 دقيقة متعمدين وتلك مخالفة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعصيان له وإن أفطروا فقد صاموا رمضان 28 يوما فقط متعمدين لعلمهم السابق بالحساب اليقيني. ولو كان الشهر متوسطا أي 29 يوما و12 ساعة و 55 دقيقة فسوف يفوتهم من رمضان 40 ساعة عامدين متعمدين ويولد هلال شوال في الساعة الثانية و55 دقيقة بعد الظهر ويكونون قد دخلوا في اليوم الثامن والعشرين من صيامهم فإن صاموا اليوم الذي بعده فهو أول يوم من شوال وهذه كالمخالفة الأولى. كما أن من اشترط للرؤية البصرية 24 ساعة أو أكثر فقد وقع في نفس الخلل والاضطراب وقد يفوته من رمضان 48 ساعة متعمدا وقد يصوم يومين من شوال متعمدا وبذلك سوف يؤدي الحساب الفلكي إلى فرق في الصيام بين المسلمين قد يتجاوز يومين. ومن اشترط للرؤية البصرية 10 ساعات أو أقل سوف(10/16)
يقع في نفس الاضطراب أيضا.
ونستطيع أن نطبق ماسبق على الفريق الذي يوجب الصيام متى ولد الهلال قبل الغروب ولو بثوان معدودة. فلو ولد الهلال في مدينة ما بعد الغروب بدقيقة واحدة وكان الغروب في تلك المدينة الساعة 6 مساء وبهذا فلن يصوم الناس يومهم التالي وسوف يفوتهم من رمضان 24 ساعة إلا دقيقة واحدة عامدين متعمدين ولو فرضنا شهر رمضان من الأشهر القمرية القصيرة فسيفوتهم 23.9833 ساعة من رمضان وسوف يصومون 702.5833-23.9833=678.6 ساعة وهذا يعني أن تلك البلاد سوف تصوم 28 يوما و 6.6 ساعة من ليلة 29. كما أن هلال شوال سوف يولد في ليلة 29 من ولادة هلال رمضان فلكيا وذلك في الساعة 12 و34 دقيقة بعد منتصف الليل ويكون الناس في تلك الليلة التي يولد فيها هلال شوال الساعة 12 و34 دقيقة قد صاموا 28 يوما و 12 ساعة و35 دقيقة من الليل ومما هو معلوم فلكيا أن ذلك اليوم من شوال فإن صام الناس ذلك اليوم فقد صاموا يوما من شوال عامدين متعمدين وتلك مخالفة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعصيان له وإن أفطروا فقد صاموا رمضان 28 يوما فقط عامدين متعمدين لعلمهم السابق بالحساب اليقيني.(10/17)
ومن اضطراب الحساب الفلكي ايضا لدى أصحاب الفريقين الثالث والرابع, أنهم ربما أدخلوا يومين أو أكثر من شهر شعبان في رمضان ويومين أو أكثر من رمضان في شوال. فلو أننا سرنا على نظام إلياس وولد الهلال الساعة الثانية بعد الفجر فسوف يفوت الناس 40 ساعة من شهر رمضان ثم إن هلال شوال متى كان الشهر قصيرا سوف يولد في الساعة الثامنة و35 دقيقة صباحا أي قبل المغرب ب 9 ساعات و25 دقيقة تقريبا وهذا يخالف شرط إلياس ويكون الناس في ذلك اليوم الذي يولد فيه هلال شوال الساعة الثامنة و35 دقيقة قد دخلوا في اليوم ال 28 من صومهم ومما هو معلوم فلكيا أن اليوم الذي بعده يكون من شوال. ولو أنه غم عليهم في ليلة الثلاثين, فليس أمامهم إلا أن يسيروا مع النص "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغبي عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين" أو يخالفوه. فإن ساروا مع النص وأكملوا عدة شعبان ثلاثين سوف يصومون في اليوم الرابع من رمضان ويكون قد فاتهم من رمضان 3 أيام (57 ساعة و25 دقيقة) وإن خالفوا النص فسوف يكون شعبان 28 يوما (على راي إلياس) ويكملونه بيوم من رمضان إضافة إلى مخالفة النص النبوي الكريم. ولن يقتصر الأمر على ذلك إن غم عليهم ليلة الثلاثين من رمضان فربما أدخلوا أربعة ايام من رمضان في شوال. كما أن الأمر لا يختلف كثيرا عند الفريق الرابع طال الشهر أو قصر.
واقول إن الذي يريد أن يرفع الحرج عن الأمة المسلمة بالحساب الفلكي كلفها بما لايطاق وذلك أنه يوجب على كل مسلم في البلاد المسلمة وغير المسلمة أن يكون معه جهاز قياس الإحداثيات (GPS) حتى يعرف إحداثياته على الكرة الأرضية ويوجب عليه أيضا أن يعلم متى يولد الهلال في مدينته بل في بيته. بل يوجب على كل شاهد أن يحمل هذا الجهاز معه حتى تقبل شهادته أو ترد.(10/18)
وها نحن اثبتنا أن الحساب الفلكي لايمكن أن يكون وسيلة تؤدي إلى المقصد الشرعي بطريقة أوفى واكمل من الرؤية البصرية او التلسكوبية وذلك لاضطراب هذه الوسيلة اضطرابا شديدا لايمكنها من منافسة الوسيلة الظنية (الرؤية) وعندي أن الظني غير المضطرب مقدم على اليقيني المضطرب ذلك أن الظني مغتفر خطاؤه واليقيني غير مغتفر . وبعد هذا كله يجوز لنا أن نقول:
o كانت الأمة مجمعة على الرؤية البصرية لما يقرب من 14 قرنا وكان الخلاف بينها لا يتجاوز وحدة مطالع واختلاف مطالع وعدد شهود. أما اليوم فقد اختلفت الأمة على الحساب خلافا لم تختلفه من قبل فأصبحت شيعا وأحزابا لا يقبل بعضها قول بعض.
o إننا لم نحقق الوحدة المنشودة من الحساب الفلكي بل إن الحساب الفلكي زادنا تفرقا حتى أصبح لكل فلكي رأي في المسألة ولكل فقيه رأي ايضا. والحساب الفلكي يجعل من بعضنا يصوم اليوم والبعض يصوم بعده بيومين كما أن الحساب الفلكي أيضا يجعلنا نفرط أحيانا بيومين من شهر رمضان المبارك ونضطر للدخول في يوم أو أكثر من شهر شوال
o الحساب لن يخرج الأمة من مشكل إثبات الهلال والفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ الفرق كما حصل في بعض الأعوام ثلاثة أيام.
o هدف الحديث "صوموا لرؤيته ـ أي الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" هو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه, لن يتحقق كما بينا سابقا.
o السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، وسائر شعائرهم وشرائعهم، أمرٌ مطلوب دائما، ولكن الحسابات الفلكية لن تحقق الوحدتين الكلية والجزئية .
o الحساب الفلكي سوف يجعل فريقا من الناس يصوم اليوم على أنه من رمضان، ويفطر آخرون.
o الأخذ في النفي لا في الإثبات، يوقع الأمة في حرج كبير ولا يمكن أن يحل المشكل.(10/19)
oلم يستطع الحساب الفلكي أن يخرج وسيلة واحدة أكمل من الرؤية البصرية وإنما خرج بعدة وسائل كل وسيلة تؤدي إلى مقصد مختلف. ثم إن الاختلاف المتباين بين الفقهاء والفلكيين حول الحساب الفلكي لأوضح دليل على اضطراب الحساب وعدم قدرته على أن يكون بديلا للرؤية البصرية.
إنني أرغب إلى فضيلة الشيخ القرضاوي لما له من كلمة مسموعة في بقاع العالم الإسلامي أن يراجع هذه القضية ونحن كما عهدناه أوابا إلى الحق فكم من فتوى وقول كان يقول به وعدل عنه لما رأى الصواب في غيره وهذه صفة لايهبها الله سبحانه وتعالى إلا لمن اصطفاهم من عباده.
ولي عتب شديد على الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان والذي له عندنا مكانة عظيمة لما علمناه لديه من علم واسع واطلاع جم وخلق رفيع وتواضع غير متكلف, عندما التقته جريدة الوطن السعودية في عددها 1594 فقال إن "توفر وسائل التقنية الفلكية بين يدينا ثم إعراضنا عنها يدل على تخلفنا الفكري والعقلي" وأتعجب, كما تعجب, غيري كيف تصدر هذه الجملة من أصولي كبير درج على احترام النصوص النبوية واحترام قول المخالف؟. وأقول له حرسه الله, لو أن الله سبحانه وتعالى سأل الذي يقول بالرؤية البصرية لم أخذت بها فقال يارب تعبدتك بما فعله نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- غير متكلف للبحث عن علة وحساب فلكي أسوة بنبيك الذي أرسلت, أحسب أنه من المعذورين أمام الله سبحانه وتعالى. فهل يجوز لنا أن نصم جماعة من علماء الشريعة وعلماء الفلك بالتخلف الفكري والعقلي لأنهم لم يأخذوا بالحساب الفلكي؟.
وهنا سؤال أطرحه على العلماء والمجامع الفقهية وهو هل يجوز للفقيه أن يجتهد بعقل أو علم غيره؟. ومما لايخفى على أحد أن للمجتهد شروطا لا يوجد منها أنه يجوز له أن يجتهد بعقل أو علم غيره.(10/20)
وأعيد السؤال حتى يكون واضحا, هل يجوز للعالم أن يستعين بعالم فيزيائي ثم يجتهد برأي ذلك العالم الفيزيائي ويصدر حكما شرعيا على ذلك الأمر الذي لم يستوعبه ولم يتصوره تصورا كاملا وصحيحا ولا يستطيع أن يدركه بالحس والتجربة وإنما يدرك بالعلم الفيزيائي وخير مثال على هذا الحساب الفلكي. أما الذي يمكن إدراكه بالحس والتجربة مثل مواقيت الصلاة واتجاه القبلة فنستثنيه من السؤال.
أحسب أن مناقشة هذا الأمر يجب أن تسبق مناقشة الحساب الفلكي وغيره من القضايا المتعلقة بالعلم المادي وإلا سوف تكون الأحكام مضطربة. وكان أحرى بأن ينتظر علماؤنا حتى يجمع الفلكيون على رأي واحد, في الأقل, من قبل الخروج على الأمة بحكم شرعي.
وخلاصة القول إن العلة الحقيقية التي منعت الحساب الفلكي من تحقيق وسيلة أكمل وأوفى من الرؤية البصرية هي أن الشهر القمري الفلكي لايمكن أن يكون 29 يوما او30 يوما كما بينا من قبل وإنما يقصر إلى 29 يوما و 6 ساعات و35 دقيقة ويطول إلى 29 يوما 19 ساعة و55 دقيقة ومهما حاول الحساب الفلكي أن يجبر أيام الشهر القصير والطويل وما بينهما سلبا أو إيجابا إلى 29 يوما أو30 يوما لموافقة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يصل إلى ذلك إلا بوسيلة ظنية توقع الأمة المسلمة في خلل واضطراب وتشتت وتفريق وتجعل من أبناء البلاد الواحدة بل المدينة الواحدة يصوم بعضهم ويفطر الآخرون. ثم إن محاولة الجبر لهذه الأشهر لكي تصبح إما 29 يوما أو 30 يوما ليس لها معادلة ثابتة ذلك أن ولادة الهلال تحدث في أوقات مختلفة من كل شهر ولذلك أصبح جبر كسر الشهر القمري عند القائلين بالحساب متكلفا ومعتمدا على القياس والعقول المتفاوتة والتي خرجت بنا عن كل معقول ومنقول.(10/21)
ثم إن العلة الحقيقية في ثبوت الرؤية البصرية وعدم اضطرابها تكمن في ظنيتها ذلك أنها تجبر كسر الشهر القمري جبرا ظنيا طبيعيا معتمدا على نص نبوي كريم غير متكلف فيه ولا مجال فيه لإعمال القياس والعقول. واضيف ايضا أن هذه الظنية هي التي تجعل من من أبناء البلد الواحد يصوم جميعهم ويفطر جميعهم في يوم واحد ولولاها لوجب على أهل الشرق في نفس البلد أن يفطروا وعلى أهل الغرب أن يصوموا.
مفهوم الأمة الأمية
وكما مر بنا من قبل فإن القائلين بالحساب الفلكي احتجوا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا..." فقالوا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علل "أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين. وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص."2
والقائلون بهذا القول جعلوا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أمتين, أمة أمية وأمة غير أمية. والسؤال الذي نطرحه الآن, هل كان الصحابة بعد بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أميين؟ وهل ارتفعت الأمية عن المسلمين اليوم لأنهم أصبحوا يعرفون الحساب الفلكي؟. ثم نسال سؤالا آخر, هل يمكن أن يكون الخطاب في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصا للأمة الأمية التي لاتعرف الحساب الفلكي؟ أما متى عرفت الحساب فيجوز لها تلغي هذا الحديث وتسقط اعتباره لأن المكلف به الأمة الأمية.(10/22)
أقول وبالله التوفيق إن الأمي في معاجم اللغة كاللسان وغيره هو الذي لايكتب وتأتي بمعنى الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته والأميون جمع أمي. ومعنى "إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب" أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى. ومعنى الحديث "بعثت إلى أمة أمية" قيل للعرب الأميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أوعديمة. وقيل لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- , الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب, وبعثه الله رسولا وهو لايكتب ولا يقرأ من كتاب.
أما معنى الأمة في معاجم اللغة فقد وردت لها معان مختلفة منها أن كل قوم في دينهم من أمتهم وتفسير الآية "إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" والآية "إن هذه أمتكم أمة واحدة" أي دين واحد. وورد أيضا أن كل من مات على دين واحد مخالفا لسائر الأديان فهو أمة على حدة كما كان إبراهيم عليه السلام أمة. وكل قوم نسبوا إلى نبي وأضيفوا إليه فهم أمة وقد يجئ في بعض الكلام أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هم المسلمون خاصة وجاء أيضا أن أمته من أرسل إليه ممن آمن به أو كفر به فهم أمته في اسم ألأمة لا الملة. وكل جيل وكل جنس من السباع والحيوان أمة كما ورد في قوله تعالى " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم" وقوله -صلى الله عليه وسلم- "لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم" وتأتي الأمة بمعنى الجماعة والطريقة والدين.
والأمية في كتب التفاسير كإبن كثير والقرطبي لاتختلف كثيرا عنها في كتب اللغة فالأميون في الأية الكريمة "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"(البقرة 78) هم أهل الكتاب الذين لايعلمونه إلا تخرصا وظنونا والأمي هو الذي لايحسن الكتابة.(10/23)
والأية "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد"(آل عمران 20) فرقت بين الذين أوتوا الكتاب والأميين فقال بعض المفسرين أن الأميين هم العرب. وقال بعضهم إن العرب نسبت من لايكتب ولايخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه.
أما قول أهل الكتاب في الآية "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"(آل عمران 75) ليس علينا في الأميين سبيل يعني العرب.(10/24)
أما النبي الأمي في الآيتين الكريمتين "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف 157) و "(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم"(الأعراف 158). هو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ووصف الله له بالأمي لأنه لايحسن الكتابة كما قال عنه سبحانه "وَمَا كُنْت تَتْلُوا مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ "(العنكبوت 48).(10/25)
أما قوله تعالى"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الجمعة2) يعني الذي بعث في العرب وتخصيص الأميين بالذكر لاينفي من عداهم. و قوله تعالى في الآية التي تليها "وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الجمعة 3) فقد روى البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْجُمُعَة " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " قَالُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ حَتَّى سُئِلَ ثَلَاثًا وَفِينَا سَلْمَان الْفَارِسِي فَوَضَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَده عَلَى سَلْمَان الْفَارِسِيّ ثُمَّ قَالَ " لَوْ كَانَ الْإِيمَان عِنْد الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَال أَوْ رَجُل مِنْ هَؤُلَاءِ " وفسر ابن جَرِير قَوْله تَعَالَى " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ " بِفَارِسَ.
وقيلَ هُمْ الْأَعَاجِم وَكُلّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر الْعَرَب كما أورد أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالَ " إِنَّ فِي أَصْلَاب أَصْلَاب أَصْلَاب رِجَال وَنِسَاء مِنْ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب " ثُمَّ قَرَأَ" وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " يَعْنِي بَقِيَّة مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْله تَعَالَى " وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " أَيْ ذُو الْعِزَّة وَالْحِكْمَة فِي شَرْعه وَقَدَره .(10/26)
والذي يظهر لي والله أعلم أن للأمية معنى خاص ومعنى عام أما المعنى العام فيعني الجهل والضلالة والظلام وأما المعنى الخاص فهو عدم معرفة الكتابة. ولا ترتفع الأمية عن أحد بمعناها الخاص إلا متى عرف الكتابة كما أنها لاترتفع عن أمة بمفهومها العام إلا متى خرجت من الجهل والضلالة والظلام إلى العلم والهدى والنور ولا يخرجها من هذا إلا نبي وكتاب. والآية الكريمة "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" تدل على أن أهل الكتاب لما أصبحوا لايعرفونه إلا أماني وظنونا وتخرصا عادت إليهم أميتهم بمفهومها العام لا الخاص على الرغم من معرفتهم بالكتابة كما أنهم لو بقوا متمسكين بكتبهم وعلموها كما أنزلت على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام لبقيت الأمية بمفهومها العام مرتفعة عنهم.
ولذلك نجد أن الأمية بمعناها العام إرتفعت عن اليهود والنصارى ببعثة موسى وعيسى عليهما السلام بالتوراة والإنجيل وبقي اليهود والنصارى ينظرون إلى أنفسهم أنهم غير أميين وينظرون إلى أمة العرب على أنها أمة أمية حتى قالوا " ليس علينا في الأميين سبيل" لأن العرب لم يبعث فيهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب وفي هذه الآية دليل واضح على أن الأمية نقيصة لافضيلة.
والمشترك بين معنى الأميين في الآية "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" والأميين في الآية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"لا يمكن أن يكون إلا الجهل والضلال.(10/27)
والدليل على أن الأمية بمعناها العام ضلال قوله تعالى "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" فالتزكية ومعرفة الكتاب والحكمة رفعت عن الأميين الضلال المبين والذي هو الأمية بمعناها العام.
كما أن الدليل على أن الأمية ظلام قوله تعالى "الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " (إبراهيم 1) والناس هنا هم الأميون وقوله تعالى "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" (إبراهيم 4) وقوله تعالى "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحديد 9).
والعرب قبل البعثة النبوية كانوا أميين بالمعنى الخاص للأمية وذلك لعدم تفشي الكتابة بينهم كما أنهم كانوا أميين بالمعنى العام لعدم وجود نبي وكتاب فيهم. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أميا بالمعنيين أيضا ودليل ذلك قوله تعالى "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى" (الضحى 7). ولكن الأمية بمعناها العام ارتفعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد نزول الوحي عليه كما أن الأمية بمعناها الخاص بقيت ملازمة له لأنه لايعرف الكتابة ولكن ملازمة الأمية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضيلة وكمال وفي غيره نقيصة.(10/28)
وإذا كانت الأمية بمعناها العام لاترتفع عن نبي يوحى إليه من ربه الهدى والحكمة والعلم فما الذي يرفعها إذن؟. وكيف لاترتفع الأمية عن سيد الأولين والأخرين -صلى الله عليه وسلم- والذي أختصه الله بالرسالة الخالدة من بين بلايين البشر من عرب وعجم وأنبياء ورسل. وخلاصة القول أن الأمية بمفهومها العام إرتفعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرتفاعا لم ترتفعه عن أحد من قبله ولا بعده ذلك أنه أعلم الناس بالله وملائكته وكتابه كما أن علمه بالله وملائكته وكتابه علم يقيني لايخالطه شك أو ريب فكيف يصبح أميا بعد ذلك.(10/29)
ومما يدلل على أن ألأمية في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضيلة وكمال أنه استغنى عن الكتابة والقراءة بالوحي الذي يوحيه إليه ربه وإنما يحتاج إلى القراءة والكتابة من لايوحى إليه فكم كشف الله له من الحجب التي لايمكن أن تكشف لكاتب أوقارئ ومنها ماكشفه سبحانه وتعالى له في الأسراء والمعراج ومنها عندما ضرب على الصخرة فقال الله أكبرفتحت فارس، والذي نفسي بيده، إني لأرى قصور المدائن الحمراء الساعة. الله أكبر فتحت الروم، والذي نفسي بيده إني لأرى قصور بصرى البيضاء الساعة. الله أكبر فتحت اليمن، والذي نفسي بيده إني لأرى قصور صنعاء الساعة. ومنها عندما بشر سراقة رضي الله عنه بسواري كسرى وكيف يحتاج إلى الكتابة من سمع حنين الجذع ومن أشتكى له الجمل وغير ذلك كثير مما لا يتسع المقام لذكره. ومن كانت هذه صفاته فهو مستغن عن الكتابة والكتابة غير مستغنية عنه كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أستغنى بالقرآن عن الشعر ذلك أن الكامل مستغن عن الناقص. وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة" فيه دلالة واضحة على أن أعلى درجات الشعر الحكمة كما أن أعلى درجات البيان السحر. كما أن الحكمة الموجودة في القرآن وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكمة بالغة غير ناقصة والحكمة الموجودة في الشعر حكمة ناقصة. أما كتاب الله سبحانه وتعالى فقد بلغ منزلة بهرت أساطين البلاغة من قريش وقصة الوليد بن المغيرة مشهورة عندما ذهب ليستمع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عاد وهو يقول "والله ما في قريش من رجل أعلم بالشعر أو رجزه أو قصيده مني ، ولا والله ما يشبه الذي يقول محمد شيئاً من هذا الشعر أو ذلك الرجز والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه يحطم ما تحته فأنكر عليه أبو جهل وقال له لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، ففكر طويلا فقال(10/30)
هذا سحر يؤثر"
ومما يروى عن المأمون أنه قال لرجل عنده "بلغني أنك أُمِّيّ، وأنك لا تقيم الشِّعر، وأنك تَلحن في كلامك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه، وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً، وهو الجهل، ياجاهل، إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نَقيصة، وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه، لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ".
والذي يفهم من قوله تعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" أي ماينبغي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- النقص وإنما ينبغي له الكمال ذلك أن الكمال في الوحي بشقيه من قرآن وسنة والنقص في الشعر في أعلى درجات حكمته وصدقه. ومما لايخفى على أهل اللغة والأدب أن الشعر يدخله الباطل بل إن غالبه كذلك ويدخله التناقض والاضطراب والكذب وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق ولا أجد أبلغ من قول دعبل في وصف الشاعر عندما قال "من فضل الله على الشاعر أنه مامن أحد يكذب إلا إجتواه الناس إلا الشاعر فإنه كلما إزداد كذبه كلما ازداد المديح له ولا يكتفى له بذلك حتى يقال أحسنت والله فما يشهد له بشهادة زور إلا وكان معها يمين بالله" ويشهد الله لو كان هذا الموقف مع غير القرآن والسنة لانتصرت للشعر ولكني لا أستطيع الانتصار لقول مخلوق ضعيف معظمه كذب وتزويرعلى قول خالق قوله حق مبين لايأيتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(10/31)
ومعلوم عند أهل اللغة أنه مامن قصيدة في دواويين الشعر القديم والحديث تخلو من عيب نحوي أو صرفي أو اضطراب واختلاف أو معنى مبتذل وصدق الله القائل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (النساء 82). وإذا كان الشعر الجاهلي لم يخل من ذلك فكيف يخلو منه ماهو دونه في اللغة والبيان فهذا طرفة في قوله "قد رفع الفخ فماذا تحذري " قد حذف النون وهذا الراعي النميري في قوله "تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا وابنا نزار وأنتم بيضة البلد" فسكن تعرف ضرورة وهذا شاعر الجاهلية أمرؤ القيس في قوله " لها متنتان خظاتا كما أكب على ساعديه النمر" حذف النون وقول زياد الأعجم "عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي سبني لم اضربه" فرفع اضربه وقول الفرزدق "وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف" فضم مجلفا. وهذه أمثلة قليلة جدا ذكرناها لبيان نقصان الشعر وعدم كماله عند اساطينه وسادته ولذلك لم يرد الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا الكمال فعصمه من الشعر لنفي الظنة ولتطهير فمه وقلبه من قول ناقص وبيان غير مكتمل فوهبه الوحي الكامل وجنبه قول الشعر لما ذكرناه وليبقى مثال الفصاحة والبيان إلى قيام الساعة فلو كان شاعرا لوقع فيما وقع فيه الشعراء العظام من لحن وزلل واضطرار وإسناد وإقواء وإكفاء وإجازة وإيطاء وتفاوتات البيوت ولذلك أصبح -صلى الله عليه وسلم- مستغنيا بالكامل عن الناقص. ثم لو جاز له أن يكون شاعرا معصوما من ذلك كله لأصبح مشتركا مع الشعراء في الاسم وذلك مالم يرده له سبحانه وتعالى.(10/32)
ومما ذكره الأزهري في تهذيب اللغة " وقيل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: الأمي، لأن أُمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، بعثه الله رسولاً وهو لا يكتب من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة، لأنه صلى الله عليه وسلم تلا عليهم كتاب الله منظوماً مع أميته بآيات مفصلات، وقصص مؤتلفات، ومواعظ حكيمات، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه. وكان الخطيبُ من العرب إذا ارْتَجَل خُطْبَةً ثم أَعادها زاد فيها ونَقَص، فحَفِظه الله عز وجل على نَبيِّه كما أَنْزلَه، وأَبانَهُ من سائر مَن بَعَثه إليهم بهذه الآية التي بايَنَ بَينه وبينهم بها، ففي ذلك أَنْزَل الله تعالى: "وما كنتَ تَتْلُو من قَبْلِه من كِتاب ولا تَخُطُّه بِيَمِينِك إذا لارْتابَ المُبْطِلون" الذين كفروا، ولَقالوا: إنه وَجَدَ هذه الأَقاصِيصَ مَكْتوبةً فَحَفِظَها من الكُتُب."
وخلاصة القول في هذه المسالة أن الأمة المسلمة قد إرتفعت عنها الأمية بمعناها العام بعد بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف لاترتفع عنها وهي التي علمت العالم جميعه مكارم الأخلاق من حقوق الوالدين والأبناء والجار وإكرام الضيف وغض البصر وإغاثة الملهوف وكثيرا مما لايتسع المقام لذكره ومن نافلة القول أن أمة تتصارع حضارتها مع هذه القيم والأخلاق لفي خسران عظيم. وكيف يقال عن هذه الأمة أنها أمة أمية وقد أنجبت الصديق والفاروق وعثمان وعلي وسائر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضوان الله عليهم أجمعين وأنجبت ربيعة الراي وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وابن حنبل والخليل وسيبويه وكثيرا ممن لايحصى. كما أن الأمية لايمكن أن تعود إلى هذه الأمة إلا متى عادت إلى جاهليتها الأولى وتركت كتاب ربها وراءها وتنكرت لدينها ونبيها ومكارم أخلاقها التي تممها رسولها عليه أفضل الصلاة والتسليم.(10/33)
أما الأمية بمعناها الخاص, عدم معرفة الكتابة, فما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد رفعها عن أمته بما يكفي لنقل هذا الدين كاملا غير منقوص من جيل الصحابة إلى جيل التابعين ودليل ذلك قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" ولا يمكن أن يكمل الدين إلا بمعرفة الكتابة والقراءة وإلا كيف تتواصل الأمة مع كتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم- من غير معرفة لقراءة وكتابة وقصة مفاداة أسرى بدر خير دليل على ذلك. وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت معلما" فيه دلالة واضحة على أن رسالته جاءت إلى الناس لترفع عنهم الأمية بمعناه العام والخاص.
ومن المنطق, أن ارتفاع الأمية بمعناها العام عن الأمة يرفع الأمية عنها بمعناها الخاص لأنه لايمكن للأمة التي لاتعرف الكتابة أن تتواصل مع رسالة ربها لتبلغها إلى الأمم والأجيال التي بعدها.
ومن فرض القول أنه بعد بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرتفعت الأمية بمعناها العام عن الأمة المسلمة وإنتقلت إلى ماعداها من الأمم التي لم ترض بدين الله فأصبحت الأمة المسلمة غير أمية وأصبحت كل أمة غيرها أمية.
ومما يدلل على ذلك قوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" وليس ذلك مقصورا على اليهود وحدهم بل إن كل أمة تحمل كتابا ثم لاتحمله هي كمثل الحمار يحمل اسفارا وهذه منزلة أدنى من منازل الأمية بمفهوميها العام والخاص حتى وإن كانت أمة كاتبة قارئة. ويدلل على ذلك قوله تعالى " أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ " وقوله جل وعلا " بِئْسَ مَثَل الْقَوْم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ "(10/34)
أما أمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأيات السابقات فإنما هي على إعتبار ماضيه -صلى الله عليه وسلم- كما أنها حجة لدحض كل تهمة عنه لأن كفار قريش يعلمون حق العلم أنه لايكتب ولا يقراء. ومما يدلل على ذلك أن القرآ ن الكريم في أسلوبه يتحدث أحيانا على إعتبار الماضي فمعلوم أن الصحبة بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كفار قريش قد انفكت بعد إيمانه وتوحيده لله جل وعلا وبعد إصرارهم على الكفر والعناد وانتقل حق الصحبة إلى من آمن به ولذلك يقال عن الذين آمنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأوه صحابته ولا يقال ذلك عن المشركين ومع ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى كفار قريش قائلا " ماضل صاحبكم وما غوى" وذلك على اعتبار ماكان بينهم من صحبة.
أما الأمة في كتب التفسير فقد وردت في آيات كثيرة منها قوله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة 143) وتفسيرها في قوله -صلى الله عليه وسلم- "يُدْعَى نُوح يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال لَهُ هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُول نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمه فَيُقَال لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِير وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَد فَيُقَال لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَد لَك فَيَقُول مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ قَالَ : فَذَلِكَ قَوْله " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" قَالَ وَالْوَسَط الْعَدْل فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَد عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.(10/35)
وفي هذا الحديث دلالة واضحة أن المقصود بالأمة الوسط أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميعها وليس صحابته فحسب ودليل ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث نفسه "فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" ومن المعلوم أن شهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته جميعها وقوله فتشهدون له بالبلاغ في صيغة الجمع تقابله صيغة جمع أخرى وهي ثم أشهد عليكم. فإن قال قائل إن صيغتي الجمع خاصة بالصحابه قلنا هذا يخالف قول الله تعالى "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41) لأن شهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامة على أمته جميعها كما أنه يخالف قوله تعالى "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (يونس 47).ويخالف قوله "وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" (النحل 84) وقوله تعالى "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل 89) ويخالف قوله "وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (القصص75) ويخالف قوله تعالى "وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " (الجاثية 28)
ومن هذه الآيات الكريمة يتبين لنا ان المقصود بالأمة الوسط أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي آمنت به وصدقته وسارت على هداه ونهجه وليس ذلك مقصورا على صحابته.(10/36)
كما أن اسلوب القرآن الكريم في غاية الوضوح عندما يريد تخصيص الأمة بمعنى الجماعة ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (ال عمران 104). ومما هو معلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المسلمين وعدم قيام بعض المسلمين بذلك لايخرجهم من الملة ويعتبرون مقصرين في هذا الجانب مع بقائهم من أمة محمد ودليل ذلك أن الذين يأمرون بالمعروف في كل جيل من بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الأمة المسلمة وليست الأمة المسلمة كلها وهذه الجماعة (الأمة) هي المفلحة وما صنعه الفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أنشاء نظام الحسبة خير دليل على ذلك.(10/37)
كما أن تخصيص الأمة في الجماعة في الآية "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" (ال عمران 113) واضح ايضا. وهذه الآية نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب الذين اسلموا وأنهم ليسوا كمن لم يسلم فوصفهم الله بأنهم أمة يعني جماعة من أهل الكتاب. ومن الآيات التي خصصت الأمة بالجماعة قوله تعالى " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ " (المائدة 66) وقوله تعالى " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ "( الأعراف159) وقوله تعالى " وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " (الأعراف 164) وقوله تعالى "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ" (النمل 83)
أما قوله تعالى " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ " (آل عمران 110) فهو عام لكل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وليس مقصورا على عهد الصحابة اوغيرهم مادامت الأمة محققة لشرطي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع اعتقادنا بأن اصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم أفضل هذه الأمة وخيرها بدليل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"(10/38)
وكذلك قوله تعالى " كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ " (الرعد 30) عام لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- جميعها ومعنى "للتتلو الذي أوحينا إليك" أي تبلغهم رسالة الله إليهم.
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء..." عام ايضا وليس مقصورا على صحابته. كما أن قوله -صلى الله عليه وسلم- "... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" دليل آخر على أن أمته ممتدة إلى قيام الساعة.
وقوله " لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"وقوله " إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق ووقال السندي في حاشيته على سنن النسائي " قوله (أمية) أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنافي عدم معرفة الكتابة والحساب فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجومولا بالشهور الشمسية الخفية بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية لكنها مختلفة كما بين بالإشارة مرتين كما في كثير من الروايات فالعبرة حينئذ للرؤية والله تعالى أعلم"(10/39)
وإجابة على السؤالين اللذين طرحناهما في بداية هذا البحث نقول إن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لايمكن أن تكون أمتين وإنما هي أمة واحدة ارتفعت عنها الأمية بعد بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبل معرفتها للحساب الفلكي. كما أنه لايمكن أن يكون الحديث " إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب ..." خاصا بمن لا يعرف الحساب الفلكي ولا يجوز لأحد أن يلغيه أو يسقط اعتباره والتكليف به لاينتهي مادامت السموات والأرض.
وخلاصة القول أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى جميع الأمم وأن أمته هي التي أمنت به وصدقته وسارت على نهجه القويم وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "واتفترق امتي" اي أن أمته التي كانت مومنة به سوف تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة وقوله أمته على اعتبار ماضيهم لاحاضرهم وكذلك الحال بالنسبة لأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومن هنا يتبين لنا أن ألأمة في الحديث "إنا أمة أمية..." أي أمة محمد جميعها ولا يمكن الفصل بين جيل وجيل أو جماعة وجماعة إلا بدليل أو قرينة واضحة ولا قرينة في الحديث تقتضي التفريق.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي هو سبب الاختلاف بين القائلين بعدم جواز الأخذ بالحساب الفلكي والقائلين بجوازه أو وجوبه"إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا" وكما ذكرنا من قبل إن حجة المنتصرين للحساب الفلكي هي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد علل أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين.
اقول وبالله التوفيق إن حجة القائلين بتعليل الحديث غير صحيحة من عدة وجوه:(10/40)
1. لقد بينا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمت إلا بعد أن رفع الأمية بمفهومها العام والخاص عن الأمة بما يكفل نقل الدين من جيل إلى جيل كاملا غير منقوص. وبينا أيضا أن معنى "أمية" في الحديث, أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنا في عدم معرفة الكتابة والحساب
2. القول بالتعليل يقسم أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قسمين أمة أمية وأمة غير أمية وتخصيص الأمة التي كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأمية دون غيرها يحتاج إلى دليل ولقد مرت بنا الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- التي تثبت أن أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحدة ولا يمكن الفصل بين أمة وأمة.
3. ليس من المعقول أن يختص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أمته دون جماعة في حديث عن ركن من أركان الإسلام وكأن الجماعات الأخرى من أمته غير معنية بهذا الركن.
4. لقد بينا أيضا معنى الأمية الخاص وهو عدم معرفة الكتابة ولا علاقة للأمية من بعيد أو قريب بالحساب ذلك أنني لم أجد تعريفا للأمية فيما أطلعت عليه من كتب اللغة والتفسير يدل على أن من لايعرف الحساب أمي, إذن, لماذا ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحساب؟. والذي أعتقده أن الإنسان يخرج من بطن أمه غير حاسب ولا كاتب ولكنه يتعلم الحساب من خلال بيئته ذلك أنه يحتاج إلى البيع والشراء وعد الأشياء وتلك مهارة يكتسبها من غير معاناة ومشقة ومن هنا ترتفع أمية الحساب عن كل إنسان بعد مدة من ولادته. أما أمية الكتابة فتبقى ملازمة للإنسان حتى يتعلم الكتابة. ومن هنا يتبين لنا أن ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحساب, مع علمه أن الأمة حاسبة, تأكيد على أنه يجب علينا أن نبقى بخصوص دخول الأشهر القمرية على الحال التي ولدتنا عليها أمهاتنا.(10/41)
5. كما أن المتأمل في الحديث يجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "لانكتب ولا نحسب" بالنون وليس بالتاء ولو كان الحديث لاتحسب ولا تكتب لعاد الضمير على الأمة وفي هذا إشارة إلى نفي الأمية عن الأمة.
6. ثم إن الحديث فيه حساب وإلا كيف عرف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم أن الشهر 29 يوما أو 30 يوما. كما أن الأمة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعرف الحساب ودليل ذلك أن الناس في عهده -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتبايعون بالدرهم والدينار ولو لم يكونوا يعرفون الحساب لما تبايعوا. والأعظم من ذلك معرفتهم بعلم الفرائض والذي هو في غاية التعقيد ويحتاج إلى معرفة السدس والربع وعلم الزكاة كربع العشر وما سواه. وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرضكم زيد فيه دلالة على أنه يوجد من الصحابة من يعرف هذا العلم غير زيد وبقيت الأمة بعده صلوات الله وسلامه عليه عالمة بعلمي الفرائض والزكاة فمامن فقيه مر على هذه الأمة إلا ويعرف هذين العلمين معرفة وافية. كما أن العرب في أيام الجاهلية كانت تعرف الحساب وتعد الشاء والنوق والإبل والنجوم.(10/42)
7. ثم لو فرضنا أن عدم معرفة الحساب أمية, ما الحساب الذي ترتفع به الأمية عن الأمة؟ هل هو حساب جدول الضرب أو حساب الفرائض أو حساب الفلك. والحساب أنواع كثيرة جدا فمنه الجبر والجبر ينقسم إلى خطي وغير خطي ومنه الهندسة الفراغية وحساب المثلثات و المعادلات التفاضلية الخطية وغير الخطية و الفئات والحساب المالي والاقتصادي والهندسي والإحصاء والتحليل العددي وكثير مما لانستطيع بسطه إلا في كتاب مستقل. ونسأل القائلين بالتعليل, أي حساب ترتفع به الأمية عن الأمة؟ وهل يجب على الأمة جميعها أن تكون عالمة بجميع أنواع الحساب حتى ترتفع عنها الأمية؟ أم يكفي علمها ببعض أنواعه وإذا كان لايجب على الأمة جميعها أن تكون عالمة بالحساب فما هو الحد الأدنى للعالمين به حتى ترتفع عن الأمة الأمية.
8. ثم هل الأمية محصورة بعدم معرفة الحساب والكتابة أم أنها تتعدى إلى غيرها مما لاتعرفه الأمة اليوم من صناعة سيارات وطائرات وصواريخ فمتى قسنا أمتنا اليوم بباقي الأمم سوف نحكم عليها بالجهل لا بالأمية فحسب لعدم إحاطتها بكثير مما يحيط به الغرب.
9. وإذا كانت معرفة فئة قليلة من الأمة بالحساب الفلكي ترفع عن الأمة المسلمة الأمية فإن معرفة بعض الصحابة بالكتابة والحساب ترفع عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمية أيضا. ولا يخالجني شك أن نسبة الكاتبين الحاسبين من الصحابة أكثر بكثير من نسبة العارفين بالحساب الفلكي من الأمة المسلمة اليوم.(10/43)
10. ثم ماذا يقول القائلون بالحساب متى علموا أن دراسة مقارنة استندت عليها الإليسكو اظهرت أن نسبة الأمية في العالم العربي ستصبح الأولى في العالم بعد أن كانت الثانية بعد افريقيا وليس هذا فحسب بل إن متوسط عدد الأميين في العالم العربي اقترب من ضعف المتوسط العالمي. وكيف لو علموا أن نسبة العاملين في البحث العلمي في العالم العربي لاتتجاوز 300 عالم لكل مليون عربي بينما هي في أمريكا تتجاوز 4000 وفي أوربا تزيد عن 2000 وكيف لو علموا أيضا أن عدد الكتب المنشورة في العالم العربي أقل من ثلث الكتب المنشورة في إسرائيل على الرغم من أن اليهود في فلسطين 7 ملايين والعالم العربي تجاوز 320 مليون. وإنه ليجوز لنا بعد هذا كله أن نسأل بعد هذه الأمية التي لاتعادلها أمية في العالم هل يعتبرنا القائلون بالحساب غير أميين وتصبح علة الأمية مرتفعة عنا.
ومن هنا يتبين لنا أن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا" أنه يجب أن نكون على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنا في عدم معرفة الكتابة والحساب حيال صومنا وفطرنا.
كما أن تعليل النصوص الشرعية بهذه الطريقة يجيز لمن يريد من أهل الهوى أن يجعل من بعضها خاصا بفترة النبوة دون غيرها ليهدم ماأراد من اصول الدين وفروعه. ولن يعدم صاحب الهوى قرينة يتأولها للوصول إلى مايريد وهذا يفتح المجال لكل متلاعب وعابث يريد أن يعبث في هذا الدين والذي يقول بتعليل النصوص بهذه الطريقة كأنه ينفي شمول هذا الدين وصلاحه لكل زمان ومكان.
كيف نحسن الرؤية؟
من خلال دراسة قام بها الدكتور الفاضل أيمن كردي, أستاذ الفلك في جامعة الملك سعود, قارن فيها بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي بين عام 1400هـ وعام 1422هـ وجد أنه:
1. تطابقت الرؤية مع الحساب 14 مرة من حيث وجود الهلال.
2. تطابقت الرؤية مع الحساب 24 مرة من حيث عدم وجود الهلال.(10/44)
3. لم تتطابق الرؤية مع الحساب 18 مرة حيث تم التبليع بالرؤية مع عدم ولادة الهلال فلكيا.
4. لم تتطابق الرؤية مع الحساب مرتين حيث ولد الهلال فلكيا ولم يتم التبليغ.
وخلصت الدراسة إلى أن نسبة التطابق بين الحساب الفلكي والرؤية هي 67%.
ومن خلال دراسة الدكتور أيمن كردي أرى أن التطابق بين الرؤية والحساب الفلكي كبير متى قسناه بما سخرناه وقدمناه للرؤية البصرية.
والذي أراه أنه يمكننا زيادة نسبة التطابق بين الرؤية والحساب إلى نسبة قد تصل إلى التطابق التام بينهما ومن أجل تحقيق ذلك أقترح:
1. إنشاء معهد يشرف عليه مجلس القضاء الأعلى أو إحدى جامعات المملكة لتعليم الرؤية البصرية على أصول علمية غير قابلة للجدل ولا يقبل في هذا المعهد إلا من يوثق في ديانته وعقله وبصره. ذلك أن المحتسبين الثقات في طريقهم إلى الانقراض ولا يمكن التعويل على محتسبين قد يبلغون عن الرؤية وقد لايبلغون.
2. تكوين فريق من الأساتذة المختصين في الفلك من أجل عمل دراسة ميدانية تمسح المملكة بحثا عن أفضل المواقع لرصد الأهلة.
3. إنشاء عدد كبير من المراصد في الأماكن التي يحددها الفريق يعمل فيها خريجوا المعهد الفلكي.
أظن أننا متى قمنا بذلك سوف تقترب الرؤية من اليقين وسوف نضمن بإذن الله أن صيامنا وفطرنا في غاية التثبت والدقة ذلك أنه كلما ازداد عدد الراصدين كلما قل الخطاء وسوف نضمن بعد ذلك عدم التزوير والكذب في الرؤية من أجل مصلحة دنيوية كما يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله.
وأتمنى أن تقوم البلاد المسلمة جميعها بعمل هذا حتى نصل إلى وحدة في صيامنا وفطرنا.
وكما بينا من قبل أن السبب في تمسك القائلين بالحساب هو دقته العالية في حساب الاقتران, فمتى ما قمنا بما اقترحته سوف نصل بإذن الله إلى درجة عالية من الدقة والضبط للرؤية يرتضيها القائلون بالحساب وبذلك نبتعد عن الحساب الفلكي واضطرابه الكبير والله ولي التوفيق.(10/45)
---------------------------------
1. الشيخ يوسف القرضاوي, "الحساب الفلكي وإثبات أوائل الشهور",
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2004/10/article01b.shtml
2. الشيخ مصطفى الزرقا, " لماذا الاختلاف حول الحساب الفلكي؟",
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2004/10/article01a.shtml3.
الدكتور محمد بخيت المالكي "ملاحظات على أسباب الاختلاف بين الرؤية الشرعية والحساب الفلكي لهلال الشهر الإسلامي" مجلة السنة, العدد 101, رمضان 1421هـ.(10/46)