كتاب
كلام السالفين الصالحين فيما يكون عليه المعتكفين
أحمد بن محمد السعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد تنزه ربنا عن الشريك أو الصاحبة أو الولد
أكمل دينه وأتم نعمه على خاتم الرسل صلى الله عليه وآله الأطهار وصحبه الأبرار وعلى من سلك الدرب واستنار بهدى أبا القاسم المختار .
يقول الحق وهو أصدق القائلين :
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17
أفمَن كان على حجة وبصيرة من ربه فيما يؤمن به, ويدعو إليه بالوحي الذي أنزل الله فيه هذه البينة, ويتلوها برهان آخر شاهد منه, وهو جبريل أو محمد عليهما السلام, ويؤيد ذلك برهان ثالث من قبل القرآن, وهو التوراة -الكتاب الذي أنزل على موسى إمامًا ورحمة لمن آمن به-, كمن كان همه الحياة الفانية بزينتها؟ أولئك يصدِّقون بهذا القرآن ويعملون بأحكامه, ومن يكفر بهذا القرآن من الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزاؤه النار, يَرِدُها لا محالة, فلا تك -أيها الرسول- في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى بعد ما شهدت بذلك الأدلة والحجج, واعلم أن هذا الدين هو الحق من ربك, ولكن أكثر الناس لا يصدِّقون ولا يعملون بما أُمروا به. وهذا توجيه عام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أبطل الله سبحانه بالأذان ناقوس النصارى وبوق اليهود فإنه دعوة إلى الله سبحانه وتوحيده وعبوديته ورفع الصوت به إعلاء لكلمة الإسلام وإظهارا لدعوة الحق وإخمادا لدعوة الكفر.(1/1)
فعوض عباده المؤمنين بالأذان عن الناقوس والطنبور كما عوضهم دعاء الاستخارة عن الاستسقام بالأزلام. وعوضهم بالقرآن وسماعه عن قرآن الشيطان وسماعه وهو الغناء والمعازف.
وعوضهم بالمغالبة بالخيل والإبل والبهائم عن الغلابات الباطلة كالنرد والشطرنج والقمار.
وعوضهم بيوم الجمعة عن السبت والأحد.
وعوضهم الجهاد عن السياحة والرهبانية.
وعوضهم بالنكاح عن السفاح.
وعوضهم بأنواع المكاسب الحلال عن الربا.
وعوضهم بإباحة الطيبات من المطاعم والمشارب عن الخبيث منها.
وعوضهم بعيد الفطر والنحر عن أعياد المشركين.
وعوضهم بالمساجد عن الكنائس والبيع والمشاهد.
وعوضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسهر والخلوة التي يعطل فيها دين الله.
وعوضهم بما سنه لهم على لسان رسوله عن كل بدعة وضلالة!
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }القصص70
وهو الله الذي لا معبود بحق سواه, له الثناء الجميل والشكر في الدنيا والآخرة, وله الحكم بين خلقه, وإليه تُرَدُّون بعد مماتكم للحساب والجزاء.
ثم أما بعد
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
عباد الله حياكم الله وبلغنا وإياكم رضاه
آمين ...
بالأمس القريب دار حوار بينى وبين أحد الإخوان من طلبة العلم حول الاعتكاف .وشنف أسماعى بحديث ما كنت سمعته من قبل لتقصيرى فى تحصيلى وشغلنى هذا الحديث لدرجة ٍ ذهب فى مخاضِها النوم وسألت الله تعالى أن يهدينى ويرشدنى وواعدت أخى بالبحث فيما لدى من المصادر .
والذى أذهلنى أن الأخ قال فى بادى الأمر أنه يعتقد أن الأعتكاف لا يشرع إلا فى المساجد الثلاثة .. المسجد الحرام .. والمسجد النبوى .. والمسجد الأقصى
فقلت يا أخى هذا يحتاج منك دليل نير كالقمر وواضحٌ كالشمس . وأنا متوقف عن جوابك حتى يتسنى لى البحث
وها هو ذا البحث بين أياديكم ...(1/2)
لكم غنمه وعلي غرمه، لكم صفوه وعلي كدره.
هذه بضاعتي وإن كنت قليل البضاعة تعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تزف إليكم، فإن صادفت قبولا فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان والله المستعان.
ما كان من صواب فمن الله الواحد المنان.
وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله المستعان.
وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان نُبذ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة.
أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه،رباه:
يظن الناس بي خيرا وإني....... لشر الناس إن لم تعفو عني
وما لي حيلة إلا رجائي ........وعفوك إن عفوت وحسن ظني
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون،
أخوكم عبد الله الفقير لعفوه وجوده وإحسانه
السبط
أبوكفاح الدين
أحمد بن محمد السعيد
سبط الإمام المجدد أبو الفتح القشيرى
محمد بن على بن وهب بن مطيع القشيرى
ابن دقيق العيد .. رحمه الله وجعل الجنة مثوانا ومثواه
مصر حرسها وأهلها الله
يوم الثلاثاء الموافق
13 من شهر رمضان المبارك لسنة 1428 هجرياً
25 من سبتمبر لسنة 2007م
كلام ربنا عن الاعتكاف :
نبدأ مستعينين بالعلى القدير ومبينين ما أتى فى كتاب الله تعالى عن الإعتكاف وما ورد فى ذلك من كتب التفسير المعتبرة عند آل السنة والجماعة بفهم صالحى سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومن ذلك ما أورده العلم القيم الإمام ابن القيم فى كتابه < الفوائد >
إذ يقول رحمه الله :(1/3)
ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه وهما طريقتان معروفتان في الكلام النزول من الأعم إلى الأخص وعكسها وهو الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه إلى ما هو أعم ونظيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فذكر أربعة أشياء أخصها الركوع ثم السجود أعم منه ثم العبادة أعم من السجود ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله والذي يزيد هذا وضوحا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }البقرة125
فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج وهو أعم من الطواف لأنه يكون في كل مسجد ويختص بالمساجد لا يتعداها ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثني شرعا وإن شئت قلت ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد ثم الصلاة التي تكون في البلد كله بل في كل بقعة فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله رحمه الله مزيد السبق وفضل التقدم: .
وشبيه ذلك عند صاحب تيسير الكريم المنان عليه رحمات الله وعفوه وغفرانه
الشيخ علامة زمانه عبد الرحمن بن ناصر السعدى .
حال قوله عن الإعتكاف :(1/4)
{ 124 - 125 } { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام.
فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله.
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية.(1/5)
فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟
ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها.
ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام.
وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما.
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.
فيكون معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.(1/6)
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد الحرام، ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك.
ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.
وكذلك قوله رحمة الله تعالى عليه وعلى آله وشيوخه وطلابه :
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.(1/7)
{ فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون.
{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك.
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح.
ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك.
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.
وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق.
{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي: الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد.
ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.(1/8)
{ تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: { فلا تقربوها } أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها " لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه.
والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها.
{ كذلك } أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح.
{ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.
وذكر القرطبى رحمه الله تعالى فى الجامع لأحكام القرآن فقال :(1/9)
قوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.
قوله تعالى: "وأنتم عاكفون" جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز:
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال الشاعر:
وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.(1/10)
أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول اللّه تعالى: "في المساجد" واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها.
وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك.
وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما.
وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر.
وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح). قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.
وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة.
وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه، كما قال سحنون.
قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما.(1/11)
قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل في اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر: لا يصح إلا بصوم. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول اللّه تعالى في كتابه: "وكلوا واشربوا" إلى قوله: "في المساجد" وقالا: فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (اعتكف وصم). أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا بصيام).
قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة.
وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها.(1/12)
وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروي عن علي وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس. وقال الأوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له.
واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع. وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقال عبدالملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه.
قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: "وأنتم عاكفون في المساجد" فعم.(1/13)
ونقول : لو سلمنا بأنه لا اعتكاف إلا فى المساجد الثلاثة لبطل هذا الحكم بديهياً لإستحالة أن لا تكون جمعة فى قبلة المسلمين ومسجد الرسول الأمين ومسراه .
وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.
المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك.
روى مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه...) الحديث.
واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس.
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر.
وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم.
وقال الشافعي: إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله في الشهر.
وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء.
وروي مثل ذلك عن أبي يوسف، وبه قال القاضي عبدالوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل.(1/14)
قلت: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته.
استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد.
وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.
وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه.
وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات، فيها لممن اقتصر عليها كفاية، واللّه الموفق للهداية.
قوله تعالى: "تلك حدود الله" أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها، "فتلك" إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي.
والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمي الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.
قوله تعالى: "كذلك يبين الله آياته للناس" أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها.
والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. و"لعلهم" ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء.
وعند الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى فى تفسيره ما نصه :(1/15)
وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ
قال الحسن البصري: قوله {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس, ولا يصيبه من ذلك شيء, وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وعهدنا إِلى إِبراهيم} أي أمرناه كذا, قال: والظاهر أن هذا الحرف إِنما عدي بإِلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} قال: من الأوثان, وقال مجاهد وسعيد بن جبير {طهرا بيتي للطائفين} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.(1/16)
قال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة {أن طهرا بيتي} أي بلا إِله إِلا الله من الشرك, وأما قوله تعالى: {للطائفين} فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى {للطائفين} يعني من أتاه من غرابة {والعاكفين} المقيمين فيه, وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس, أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه, كما قال سعيد بن جبير, وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن عطاء في قوله {والعاكفين} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين, وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: إِذا كان جالساً فهو من العاكفين, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي, أخبرنا موسى بن إِسماعيل, أخبرنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت, قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إِلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام, فإِنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل, فإِن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون.(1/17)
ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به, (قلت) وقد ثبت في الصحيح أن الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب, وأما قوله تعالى: {والركع السجود} فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء عن ابن عباس: والركع السجود, قال: إِذا كان مصلياً فهو من الركع السجود, وكذا قال عطاء وقتادة. قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الاَية, وأمرنا إِبراهيم وإِسماعيل بتطهير بيتي للطائفين, والتطهير الذي أمرنا به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك, ثم أورد سؤالاً فقال: فإِن قيل: فهل كان قبل بناء إِبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: (أحدهما) أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إِذ كان الله تعالى قد جعل إِبراهيم إِماماً يقتدى به, كما قال عبد الرحمن بن زيد {أن طهرا بيتي} قال: من الأصنام التي يعبدون, التي كان المشركون يعظمونها (قلت) وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إِبراهيم عليه السلام, ويحتاج إِثبات هذا إِلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الجواب الثاني) أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له, فيبنياه مطهراً من الشرك والريب, كما قال جل ثناؤه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} قال: فكذلك قوله: {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب, كما قال السدي {أن طهرا بيتي} ابنيا بيتي للطائفين, وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به, والعاكفين عنده, والمصلين إليه من الركع السجود, كما قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين(1/18)
والركع السجود} الاَيات.
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله, الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً, وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام, والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له, ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة, فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها, ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سواء العاكف فيه والباد} وفي هذه الاَية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين, واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام, لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام, وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى, لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل , ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده, وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك, فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}.(1/19)
وتقدير الكلام إذا {وعهدنا إلى إبراهيم} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} أي طهراه من الشرك والريب, وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود, وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الاَية الكريمة, ومن قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاَصال} ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك.
ولهذا قال عليه السلام «إنما بنيت المساجد لما بنيت له», وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة, فقيل: الملائكة قبل آدم, روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين, ذكره القرطبي وحكى لفظه, وفيه غربة, وقيل: آدم عليه السلام, رواه عبد الرزاق عن ابن جريج, عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي, وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه السلام, وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب, وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها, وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.(1/20)
وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر} قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي, أخبرنا سفيان عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها» وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار, عن بندار به, وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري, وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, وأخبرنا أبو كريب, أخبرنا عبد الرحيم الرازي, قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها, لا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير» وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة, وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر, جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا, وبارك لنا في مدينتنا, وبارك لنا في صاعنا, وبارك لنا في مدنا, اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك, وإني عبدك ونبيك, وإنه دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة, ومثله معه» ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ «بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان ـ لفظ مسلم, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا قتيبة بن سعيد, أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج,(1/21)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم ما بين لابتيها» إنفرد بإخراجه مسلم, فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به, ولفظه كلفظه سواء, وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه, فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل, وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» فلما أشرف على المدينة قال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة, اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم» وفي لفظ لهما «اللهم بارك لهم في مكيالهم, وبارك لهم في صاعهم, وبارك لهم في مدهم» زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة» وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها, وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة» رواه البخاري وهذا لفظه, ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها, وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً, وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها, أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف, اللهم بارك لنا في مدينتنا, اللهم بارك لنا في صاعنا, اللهم بارك لنا في مدنا, اللهم اجعل مع البركة بركتين» الحديث, رواه مسلم, والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة, وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة, لما في ذلك من(1/22)
مطابقة الاَية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل, وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض, وهذا أظهر وأقوى, والله يعلم.
وكذلك قوله عليه رحمات الله تعالى :
** أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لّهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالاَنَ بَاشِرُوهُنّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمّ أَتِمّواْ الصّيَامَ إِلَى الّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين, ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام, فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك, فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة, فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة, والرفث هنا هو الجماع, قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, وقوله {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن, وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن, وحاصله: أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الاَخر ويماسه ويضاجعه, فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا, قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى جيدهاتداعت فكانت عليه لباسا(1/23)
وكان السبب في نزول هذه الاَية كما تقدم في حديث معاذ الطويل, وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب, كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها, وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه, فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام ؟ قالت: لا, ولكن أنطلق فأطلب لك, فغلبته عينه فنام, وجاءت امرأته, فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاَية {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ـ إلى قوله ـ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ففرحوا بها فرحاً شديداً, ولفظ البخاري ههنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء, قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله, وكان رجال يخونون أنفسهم, فينزل الله {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء, حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة, ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء, منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالاَن باشروهن} الاَية, وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس, قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم, يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء, فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة, فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله, ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: «وما صنعت» ؟ قال: إني سولت لي نفسي, فوقعت على(1/24)
أهلي بعد ما نمت, وأنا أريد الصوم, فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما كنت خليقاً أن تفعل» فنزل الكتاب {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} وقال سعد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد, عن عطاء بن أبي رباح, عن أبي هريرة في قول الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ـ إلى قوله ـ ثم أتموا الصيام إلى الليل} قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الاَية إذا صلوا العشاء الاَخرة, حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا, وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء, وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب, فنام ولم يشبع من الطعام, ولم يستقيظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء, فقام فأكل وشرب, فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك, فأنزل الله عند ذلك {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم} يعني بالرفث مجامعة النساء {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء {فتاب عليكم وعفا عنكم فالاَن باشرون} يعني جامعوهن {وابتغوا ما كتب الله لكم} يعني الولد {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} فكان ذلك عفواً من الله ورحمة, وقال هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال: يا رسول الله, إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله, فقالت: إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها, فنزل في عمر {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به, وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى, حدثنا سويد, أخبرنا ابن المبارك, عن أبي لهيعة, حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة, أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى(1/25)
فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد, فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده, فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت: إني قد نمت, فقال: ما نمت, ثم وقع بها, وصنع كعب بن مالك مثل ذلك, فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالاَن باشروهن} الاَية, وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الاَية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع, وفي صرمة بن قيس, فأباح الجماع والطعام الشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً.
وقوله: {وابتغوا ما كتب الله لكم} قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم: يعني الولد: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وابتغوا ما كتب الله لكم} يعني الجماع, وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس {وابتغوا ما كتب الله لكم} قال: ليلة القدر, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال: قال قتادة: ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم, يقول: ما أحل الله لكم, وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن ابي رباح, قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الاَية {وابتغوا ما كتب الله لكم} ؟ قال: أيتهما شئت, عليك بالقراءة الأولى, واختار ابن جرير أن الاَية أعم من هذا كله.(1/26)
و قوله {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} أباح تعالىَ الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل, وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الاَسود, ورفع اللبس بقوله {من الفجر} كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني ابن أبي مريم, حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف, حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد, قال: أنزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود, فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, فأنزل الله بعد {من الفجر} فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام, أخبرنا حصين عن الشعبي, أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الاَية {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} عدت إلى عقالين: أحدهما أسود والاَخر أبيض, قال: فجعلتهما تحت وسادتي, قال: فجعلت أنظر إليهما, فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت, فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله فأخبرته بالذي صنعت, فقال «إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي, ومعنى قوله: إن وسادك إذا لعريض, أي إن كان ليسع الخيطين: الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الاَية تحتها, فإنهما بياض النهار وسواد الليل, فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب, وهكذا وقع في رواية البخاري مفسراً بهذا, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبو عوانة عن حصين, عن الشعبي, عن عدي, قال: أخذ عدي عقالاً أبيض وعقالاً أسود, حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا, فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي, قال «إن وسادك إذا لعريض, إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك» وجاء في بعض الألفاظ(1/27)
«إنك لعريض القفا» ففسره بعضهم بالبلادة, وهو ضعيف, بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض, والله أعلم. ويفسره رواية البخاري أيضاً حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود, أهما الخيطان ؟ قال: «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين, ثم قال: لا بل هو سواد الليل وبياض النهار».
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل عى استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب, ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تسحروا فإن في السحور بركة» وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» وقال الإمام أحمد, حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع, حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السحور أكلة بركة فلا تدعوه, ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء, فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة ماء تشبهاً بالاَكلين, ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر, كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك, عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة, قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الاَذان والسحور ؟ قال: قدر خمسين آية. وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة, عن سالم بن غيلان, عن سليمان بن أبي عثمان, عن عدي بن حاتم الحمصي, عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور» وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغذاء المبارك, وفي(1/28)
الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش عن حذيفة, قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان النهار إلاَ أن الشمس لم تطلع, وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود, قاله النسائي, وحمله على أن المراد قرب النهار, كما قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهن بمعروف} أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق, وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر, حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك, وقد روى عن طائفة كثيرة من السلف, أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر, روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت, وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد, وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد, وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد, ولله الحمد, وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. (قلت) وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه, لمخالفته نص القرآن في قوله {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم, فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» لفظ البخاري, وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال»(1/29)
ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكن المعترض الأحمر» ورواه الترمذي ولفظهما «كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر» وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا شعبة عن شيخ من بني قشير, سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر», ثم رواه من حديث شعبة وغيره, عن سواد بن حنظلة, عن سمرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق», قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن علية عند عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه, عن سمرة بن جندب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ـ لعمود الصبح ـ حتى يستطير» رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب, عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي, عن أبي عثمان النهدي, عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره, أو قال نداء بلال, فإن بلالاً يؤذن بليل أو قال ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم, وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا», ورواه من وجه آخر عن التيمي به, وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثني أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب, عن الحارث بن عبد الرحمن, عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان, وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام» وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران, فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً, ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب, وقال عطاء فأما إذا سطع سطوعاً في السماء, وسطوعه أن يذهب في(1/30)
السماء طولاً, فإنه لا يحرم به شراب الصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج, ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال, حرم الشراب للصيام وفات الحج, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء, وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله.
(مسألة) ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه, وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً, لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما: ثم لا يفطر ولا يقضي, وفي صحيح مسلم عن عائشة, أن رجلاً قال: يا رسول الله, تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» فقال: لست مثلنا يارسول الله, فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فقال «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي» فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر, عن همام, عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال «إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ» فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى, وهو في الصحيحين عن أبي هريرة, عن الفضل بن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه: فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا, ومنهم من ذهب إليه, ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري, ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنباً نائماً فلا عليه, لحديث عائشة وأم سلمة, أومختاراً فلا صوم له, لحديث أبي هريرة, يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن, ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه, وأما النفل فلا يضره, رواه الثوري عن منصور,(1/31)
عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضاً, ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة, ولكن لا تاريخ معه, وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الاَية وهو بعيد أيضاً إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه, ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلاصوم له, لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز, وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها, والله أعلم. {ثم أتموا الصيام إلى الليل} يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً, كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أقبل الليل من ههنا, وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم» وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» أخرجاه, وقال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزاعي, حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً» ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به, وقال: هذا حديث حسن غريب, وقال أحمد أيضاً: حدثنا عفان, حدثنا عبيد الله بن إياد, سمعت إياد بن لقيط, سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة, فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال «يفعل ذلك النصارى, ولكن صوموا كما أمركم الله {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فإذا كان الليل فأفطروا» ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً, قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تواصلوا» قالوا: يارسول الله إنك تواصل, قال «فإني لست مثلكم إني أبيت يطمعني ربي ويسقيني» قال: فلم ينتهوا عن(1/32)
الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال, فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به, وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر, وعن عائشة رضي الله عنهما, قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم, فقالوا: إنك تواصل, قال: «إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني» فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان, والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنوياً لا حسياً, وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي, ولكن كما قال الشاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلهاعن الشراب وتلهيها عن الزاد(1/33)
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك, كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» قالوا: فإنك تواصل يارسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «إني لست كهيئتكم, إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني» أخرجاه في الصحيحين أيضاً, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو نعيم, حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص, عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام, فقالت: إني صائمة, قال: وكيف تصومين. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر» وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى, عن محمد بن علي, عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر, وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف: أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة, وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة, والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة, كما جاء في حديث عائشة: رحمة لهم, فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه, لأنهم كانوا يجدون قوة عليه, وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولاً, وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم, وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار, فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان, فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً(1/34)
حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء, فقال الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الاَية, قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل, قالوا: لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده, ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط او الأكل, وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه, ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه, ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه, وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها, منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه, وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام, ولله الحمد والمنة, ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم, فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى, الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام, كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل, ثم اعتكف أزواجه من بعده, أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, وفي الصحيحين ان صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد, فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها, وكان ذلك ليلاً, فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها, وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة, فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من(1/35)
الأنصار, فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا, وفي رواية: تواريا, أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه, فقال لهما صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما إنها صفية بنت حيي» أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي, فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً, أو قال: شراً» قال الشافعي رحمه الله: أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها, لئلا يقعا في محذور, وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, والله أعلم, ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك, فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به, فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان, قالت عائشة: ولقد كان المريض يكون في البيت, فما أسأل عنه, إلا وأنا مارة, وقوله {تلك حدود الله} أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه, حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه, فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها, وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله {تلك حدود الله} أي المباشرة في الاعتكاف, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة, ويقرأ {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ـ حتى بلغ ـ ثم أتموا الصيام إلى الليل} قال: وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا: {كذلك يبين الله آياته للناس} أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {للناس لعلهم يتقون} أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون, كما قال تعالى: {هو الذي ينزل على عبده آيات(1/36)
بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}.
وفى معالم التنزيل عند البغوى رحمه الله تعالى قال :
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }(1/37)
قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } فالرفث كناية عن الجماع، قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء، قال أهل التفسير: كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة، ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت جديرا بذلك يا عمر" فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه: (1) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير: 3 / 498، وقال الشيخ شاكر: هذا الحديث بالإسناد مسلسل بالضعفاء، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن جرير وابن أبي حاتم: 1 / 476.(1/38)
{ أُحِلَّ لَكُمْ } أي أبيح لكم { لَيْلَةَ الصِّيَامِ } أي في ليلة الصيام { الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } أي سكن لكم { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } أي سكن لهن دليله. قوله تعالى: "وجعل منها زوجها ليسكن إليها"( 189-الأعراف ) وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل: سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، وقال الربيع بن أنس: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل: اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث: "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه" (1) { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء، قال البراء: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } تجاوز عنكم { وَعَفَا عَنْكُمْ } محا ذنوبكم { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه، { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي فاطلبوا ما قضى الله لكم، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد، قاله أكثر المفسرين، قال مجاهد: ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ، وقال معاذ بن جبل: وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدر.(1/39)
قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ } نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمه، وقال الكلبي: أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا، فلم ينتصف النهار حتى
__________
(1) ورد بلفظ (من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي). رواه ابن الجوزي في العلل عن أنس رفعه وقال: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه آفات منها يزيد الرقاشي قال أحمد: لا يكتب عنه شيء كان منكر الحديث. وقال النسائي: منكر الحديث وفيه هياج، قال أحمد: متروك الحديث. وقال يحيى ليس بشيء وفيه مالك بن سليمان وقد قدحوا فيه. العلل المتناهية 2 / 122. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس 2 / 313. ورواه الحاكم بلفظ (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني. قال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي 2 / 161.
غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا قيس مالك أمسيت طليحا (1) فذكر له ماله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } (2) يعني في ليالي الصوم { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } يعني بياض النهار من سواد الليل، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط.(1/40)
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أنزلت { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } ولم ينزل قوله: { مِنَ الْفَجْرِ } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعده { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهار.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" (3) .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" قال "كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت" (4) واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق، فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم.
__________(1/41)
(1) الطليح: الساقط من الإعياء والجهد والهزال.
(2) رواه البخاري: في الصوم باب قول الله جل ذكره: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم) 4 / 129.
(3) رواه البخاري: في الصوم - باب: قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى ... 4 / 132.
(4) رواه البخاري: في الأذان - باب: أذان الأعمى إذا كان له من يخيره 2 / 99. ومسلم: في الصيام - باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر برقم (1092) 2 / 768 والمصنف في شرح السنة: 2 / 298.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد ويوسف بن عيسى قالا أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق" (1) .
قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال: سمعت أبي يقول: سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" (2) .
قوله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [وقد نويتم الاعتكاف في المساجد وليس المراد عن مباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف] (3) والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد.(1/42)
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي 27/ب أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده" (4) والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد
__________
(1) رواه مسلم: في الصيام - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر برقم (1094) 2 / 770. والمصنف في شرح السنة: 2 / 300.
(2) رواه البخاري: في الصوم عن عبد الله بن أبي أوفى - باب: الصوم في السفر والإفطار 4 / 179. رواه مسلم: في الصيام عن عبد الله بن أبي أوفى - باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار برقم (1101) 2 / 772. والمصنف في شرح السنة: 6 / 259.
(3) ساقط من (ب) ومن المطبوع.
(4) رواه البخاري: في الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأواخر 4 / 271. ورواه مسلم: في الاعتكاف - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان برقم (1172) 2 / 831. والمصنف في شرح السنة: 6 / 391.
وقال السيوطى رحمه الله تعالى فى دره المنثور :
وأخرج البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون} قال: المباشرة الملامسة، والمس الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما يشاء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {ولا تباشروهن} الآية. قال: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو غير رمضان، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه.(1/43)
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: كان ناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون، فنهاهم الله عن ذلك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ثم رجع إلى اعتكافه، فنهوا عن ذلك.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: نهى عن جماع النساء في المساجد كما كانت الأنصار تصنع.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف.
وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم في معتكف وقع بأهله قال: يستقبل اعتكافه، ويستغفر الله، ويتوب إليه، ويتقرب ما استطاع.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد في المعتكف إذا جامع قال: قال: يتصدق بدينارين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل غشي امرأته وهو معتكف أنه بمنزلة الذي غشي في رمضان، عليه على الذي في رمضان.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: من أصاب امرأته وهو معتكف فعليه من الكفارة مثل ما على الذي يصيب في رمضان.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: لا يقبل المعتكف ولا يباشر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: المعتكف لا يبيع ولا يبتاع.
قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}.(1/44)
وأخرج الدارقطني والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وعن عروة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده، والسنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان، ولا يتبع جنازة، ولا يعود مريضا، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، والسنة إلى آخره. فقد قيل: أنه من قول عروة وقال الدارقطني: هو من كلام الزهري، زمن أدرجه في الحديث فقد وهم".
وأخرج ابن ماجه والبيهقي وضعفه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في المعتكف أنه معتكف الذنوب ويجري له من الأجر كأجر عامل الحسنات كلها".
وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه والبيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن ابن عباس "أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل في حاجة فقام معه، وقال: سمعت صاحب هذا القبر يقول"من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين".
وأخرج البيهقي وضعفه عن علي بن حسين عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين و عمرتين".
وأخرج البيهقي عن الحسن قال: للمعتكف كل يوم حجة، قال البيهقي: لا يقوله الحسن إلا عن بلاغ بلغه.
وأخرج البيهقي عن زياد بن السكن قال: كان زبيد اليامي وجماعة إذا كان يوم النيروز ويوم المهرجان اعتكفوا في مساجدهم، ثم قالوا: إن هؤلاء قد اعتكفوا على كفرهم واعتكفنا على إيماننا، فاغفر لنا.
وأخرج البيهقي عن عطاء الخراساني قال: إن مثل المعتكف مثل المحرم ألقى نفسه بين يدي الرحمن. فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني.(1/45)
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الجوائج عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى الحسين بن علي فسأله أن يذهب معه في حاجة فقال: إني معتكف، فأتى الحسن فأخبره الحسن: لو مشى معك لكان خيرا له من اعتكافه، والله لأن أمشي معك في حاجتك أحب إلي من أعتكف شهرا.
وأخرج البخاري في جزء التراجم بسند ضعيف جدا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهرا في مسجدي هذا، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يقضيها ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام".
وأخرج عبد الرزاق عن محمد بن واسع الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أعان أخاه يوما كان خيرا له من اعتكاف شهر".
وأخرج الدارقطني عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"كل مسجد له مؤذن وإمام فالإعتكاف فيه يصلح".
وأخرج ابن أبي شيبة عن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد.
وأخرج الدارقطني والحاكم عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا إعتكاف إلا بصيام".
وأخرج مالك عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر قالا: لا إعتكاف إلا بصيام لقول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} إلى قوله {وأنتم عاكفون في المساجد} فإنما ذكر الله عز وجل الإعتكاف مع الصيام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: المعتكف عليه الصوم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: لا إعتكاف إلا بصوم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عائشة مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن من وجه آخر عن علي وابن مسعود قالا: المعتكف ليس عليه صوم إلا أن يشرطه على نفسه.
وأخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه".
وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي الجمعة، ويأتي أهله، ولا يجالسهم.(1/46)
وأخرج مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا".
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة عن ابن عمر قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان".
وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين".
وأخرج مالك عن أهل الفضل والدين، أنهم كانوا إذا إعتكفوا العشر الأواخر من شهر رمضان، لا يرجعون حتى يشهدوا العيد مع الناس.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر حتى يكون غدوه منه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مجلز قال: بت ليلة الفطر في المسجد الذي اعتكفت فيه حتى يكون غدوك إلى مصلاك منه.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نظر الرجل إلى أخيه على شوق خير من إعتكاف سنة في مسجدي هذا".
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة "أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مستحاضة وهي عاكف".
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {تلك حدود الله} يعني طاعة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك {تلك حدود الله} قال: معصية الله، يعني المباشرة في الإعتكاف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل {تلك حدود الله فلا تقربوها} يعني الجماع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {كذلك} يعني هكذا يبين الله.
وفى زاد المسير وهو تفسير الإمام ابن الجوزى رحمه الله تعالى يقول :(1/47)
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ } البيت هاهنا: الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس؛ انصرف إلى المعهود، قال الزجاج: والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة: والمثابة: المعاد، من قولك ثبت إلى كذا، أي: عدت إليه، وثاب إليه جسمه بعد العلة: إذا عاد، فأراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة.
قوله تعالى: {وَأَمْناً } قال ابن عباس: يريد أن من أحدث حديثا في غيره، ثم لجأ إليه؛ فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج؛ أقيم عليه الحد. قال قال القاضي أبو يعلي: وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم، كما قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط.
وفي {مَّقَامِ إِبْراهِيمَ } ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس. والثاني: عرفة، والمزدلفة، والجمار، قاله عطاء وعن مجاهد كالقولين وقد روي عن ابن عباس وعطاء و مجاهد، قالوا الحج كله مقام إبراهيم. والثالث: الحجر قاله سعيد بن جبير وهو الأصح. قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول اللها لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت.(1/48)
وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان. أحدهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته: انزل، فأبى فقالت: فدعني اغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه فجعله الله من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود و ابن عباس. والثاني: أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير.
قرأ الجمهور، منهم: ابن كثير، و أبو عمرو، وعاصم، وحمزة: والكسائي: {وَاتَّخَذُواْ } بكسر الخاء؛ على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر.
قال ابن زيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أين ترون أن نصلي فقال عمر: إلى المقام، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى } وقال أبو علي: وجه فتح الخاء: أنه معطوف على ما أضيف إليه، كأنه قال: وإذ اتخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وعهدنا.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أمرناهما وأوصنياهما وإسماعيل: اسم أعجمي وفيه لغتان: إسماعيل، و اسماعين. وأنشدوا:
قال جواري الحي لما جينا هذا ورب البيت إسماعينا
قوله تعالى: {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } قال قتادة. يريد: من عبادة الأوثان، والشرك، وقول الزور. فان قيل لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فامرا باخراجها، قاله عكرمة. والثاني: أن معناه ابنياه مطهرا، قاله السدي. والعاكفون: المقيمون، يقال: عكف يعكف ويعكف عكوفا: إذا أقام، ومنه الاعتكاف. وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله تعالى ينزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين.
وقال أيضاً عليه رحمات الله ومغفرته :(1/49)
الاعتكاف في اللغة: اللبث، يقال فلان معتكف على كذا، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب. ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعة لا تجب عليها. وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } قال ابن عباس: يعني: المباشرة {فَلاَ تَقْرَبُوهَا } قال الزجاج: الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحد في اللغة: المنع، ومنه: حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها. والحداد في اللغة: الحاجب والبواب، وكل من منع شيئا فهو حداد قال الأعشى:
فقمنا ولما يصح ديكنا إلى جونة عند حدادها
أي: عند ربها الذي يمنعها الا بما يريده. واحدت المرأة على زوجها، وحدت، فهي حاد، ومحد: إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، واحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به الأعداء.
قوله تعالى: {كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ } أي مثل هذا البيان الذي ذكر.
هذا ما جاء فى بعض كتب التفاسير , وما رجح أحد المفسرين قول القائلين بأنه لا اعتكاف إلا فى المساجد الثلاثة
فالظاهر لنا من هذه التفاسير وهو واضح أن الإعتكاف فى كل المساجد والمختلف فيه هل تكون فى المساجد التى فيها جماعة وجمعة من عدمه ؟
وأن لحذيفة روايتان فى الأولى شككه عبد الله بن مسعون بقوله لعلك أخطأت أو نسيت وهذا يضعف الأحتجاج بها كما سنبين فى أدلة السنة النبوية .
والرواية الأخرى أقر بِأن الأعتكاف لا يكون إلا بمسجد فيه جماعة وهذا يقوى حجة القائلين بأن الإعتكاف لا يكون إلا بالمسجد الذى فيه جماعة لآن الحديث صحيح .
والله تعالى أعلم .
هيا إلى الباحة البهية..
ما جاء فى الإعتكاف فى السنة المشرفة وأقوال السلف :
اللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف
آمين
باب الاعتكاف
تعددت الروايات وتواترت ولله الحمد(1/50)
وعزت الروايات التى تقول بأن الإعتكاف لا يكون إلا فى المساجد الثلاثة .
وهنا أورد من كتب السنة ما قيل فى الإعتكاف كلاً مسلسل حسب وروده فى الصحاح والمسانيد والجوامع والمصنفات
والله المستعان .
[ 5 ] حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا عمار بن خالد ثنا إسحاق الأزرق عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح الضحاك لم يسمع من حذيفة
[ 7 ] حدثنا عبد الله بن محمد ثنا محرز بن عون ثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أو عاصم عن علي قال المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة ويأتي الجمعة ( هل الجمع لا تقام فى المساجد الثلاثة ؟ !! ) ويأتي أهله ولا يجالسهم
[ 11 ] حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا إبراهيم بن محشر ثنا عبيدة بن حميد ثنا القاسم بن معن ح وحدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا أحمد بن محمد بن سعيد التبعي ثنا القاسم بن الحكم ثنا القاسم بن معن عن عبد الملك بن جريج عن محمد بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكفهن أزواجه من بعده وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا يتبع جنازة ولا يعود مريضا ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ويأمر من اعتكف أن يصوم يقال إن قوله وأن السنة للمعتكف إلى آخره ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث فقد وهم والله أعلم وهشام بن سليمان لم يذكره
وأعله ابن الجوزي في " التحقيق " باِبراهيم بن محشر، ونقل عن ابن عدي انه قال : له احاديث مناكير .(1/51)
[ 12 ] حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا يوسف بن سعيد بن مسلم حدثنا حجاج عن بن جريج أخبرني الزهري عن الاعتكاف وكيف سنته عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن عائشة أخبرتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده وأن السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا يتبع جنازة ولا يعود مريضا ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وسنة من اعتكف أن يصوم
((سنن الدارقطنى كلاً برقمه فى بابه ))
أَرْكَانُ الِاعْتِكَافِ : - أَرْكَانُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَرْبَعَةٌ : وَهِيَ الْمُعْتَكِفُ ، وَالنِّيَّةُ ، وَالْمُعْتَكَفُ فِيهِ ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَطْ ، وَالْبَاقِي شُرُوطٌ وَأَطْرَافٌ لَا أَرْكَانٌ ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ : الصَّوْمُ .
الْمُعْتَكِفُ : - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مَا يَلِي : ( 1 ) الْإِسْلَامُ : فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الْكَافِرِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ . ( 2 ) الْعَقْلُ . ( 3 ) التَّمْيِيزُ : فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ ، إذْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ ، وَالنِّيَّةُ فِي الِاعْتِكَافِ وَاجِبَةٌ .
أَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ مِنْهُ الِاعْتِكَافُ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ .(1/52)
( 4 ) النَّقَاءُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، لِأَنَّهُمَا مَمْنُوعَتَانِ عَنْ الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ .
( 5 ) الطَّهَارَةُ مِنْ الْجُنُبِ : فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الْجُنُبِ ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ . اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ : - يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَيُشْتَرَطُ لِلْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا زَوْجُهَا ، لِأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي لَهَا الِاعْتِكَافُ إلَّا بِإِذْنِهِ - أَيْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ مَعَ الْإِثْمِ فِي الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ - فَإِنْ أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ بِالِاعْتِكَافِ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، فَإِنْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ إذْنِهِ لَهَا لَا يَصِحُّ مَنْعُهُ . هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَحِقُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ إذْنِهِ لَهَا بِالِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ ، سَوَاءٌ أَدَخَلَتْ فِي الْعِبَادَةِ أَمْ لَمْ تَدْخُلْ ، إلَّا إذَا كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ حَتَّى وَلَوْ دَخَلَتْ فِي الْعِبَادَةِ ، وَمِنْ بَابٍ أَوْلَى مَا إذَا نَذَرَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ .(1/53)
أَمَّا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ بِدُونِ نَذْرٍ ، فَلَا يَقْطَعْهُ عَلَيْهَا إنْ دَخَلَتْ فِي الِاعْتِكَافِ ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا . وَالِاعْتِكَافُ لِلْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَجَعَلُوهُ نَظِيرَ حُضُورِهَا الْجَمَاعَاتِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، لِأَنَّ التَّمَتُّعَ بِالزَّوْجَةِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ . وَحَقُّهُ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ .
نَعَمْ إنْ لَمْ تُفَوِّتْ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا مَنْفَعَةً ، كَأَنْ حَضَرَتْ الْمَسْجِدَ بِإِذْنِهِ ، فَنَوَتْ الِاعْتِكَافَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ . وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ قِيَاسًا عَلَى خُرُوجِهَا لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ .
وَلِلزَّوْجِ إخْرَاجُ زَوْجَتِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ الْمَسْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاعْتِكَافُ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا ، وَاسْتَدَلَّ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ بِحَدِيثِ : { لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ } ، وَقَالَ : وَضَرَرُ الِاعْتِكَافِ أَعْظَمُ .
وَكَذَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهَا بِالِاعْتِكَافِ وَشَرَعَتْ فِيهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَمَنُ الِاعْتِكَافِ مُعَيَّنًا أَمْ كَانَ مُتَتَابِعًا أَمْ لَا .(1/54)
أَوْ إذَا كَانَ الْإِذْنُ أَوْ الشُّرُوعُ فِي زَمَنِ الِاعْتِكَافِ الْمُعَيَّنِ أَوْ أَذِنَ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَقَطْ وَكَانَ الِاعْتِكَافُ مُتَتَابِعًا ، وَذَلِكَ لِإِذْنِ الزَّوْجِ بِالشُّرُوعِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إذْنٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، وَالْمُتَتَابِعُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ بِلَا عُذْرٍ . وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ ، فَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ . وَإِذَا اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِخِبَاءٍ وَنَحْوِهِ ، لِفِعْلِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْعَلَ خِبَاءَهَا فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَالُ ، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي التَّحَفُّظِ لَهَا . نَقَلَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ قَوْلَهُ : { يَعْتَكِفْنَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيُضْرَبُ لَهُنَّ فِيهِ بِالْخِيَمِ } . وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرِّجَالُ أَيْضًا ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ أَخْفَى لِعَمَلِهِمْ . وَنَقَلَ إبْرَاهِيمُ : لَا . إلَّا لِبَرْدٍ شَدِيدٍ .
((عون المعبود شرح سنن أبي داود))
( السُّنَّة عَلَى الْمُعْتَكِف أَنْ لَا يَعُود مَرِيضًا )(1/55)
: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَوْلهَا السُّنَّة إِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ بِذَلِكَ إِضَافَة هَذِهِ الْأُمُور إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا فَهِيَ نُصُوص لَا يَجُوز خِلَافهَا , وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ بِهِ الْفُتْيَا عَلَى مَعَانِي مَا عَقَلَتْ مِنْ السُّنَّة فَقَدْ خَالَفَهَا بَعْض الصَّحَابَة
فِي بَعْض هَذِهِ الْأُمُور , وَالصَّحَابَة إِذَا اِخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَة كَانَ سَبِيلهَا النَّظَر , عَلَى أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ ذَكَرَ عَلَى إِثْر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ غَيْر عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق لَا يَقُول فِيهَا إِنَّهَا قَالَتْ السُّنَّة , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اِحْتِمَال أَنْ يَكُون مَا قَالَتْهُ فَتْوَى مِنْهَا وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيُشْبِه أَنْ تَكُون أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا لَا يَعُود مَرِيضًا أَيْ لَا يَخْرُج مِنْ مُعْتَكَفه قَاصِدًا عِيَادَته , وَأَنَّهُ لَا يَضِيق عَلَيْهِ أَنْ يَمُرّ بِهِ فَيَسْأَلهُ غَيْر مُعَرِّج عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَتْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث الْقَاسِم بْن مُحَمَّد
( لَا يَمَسّ اِمْرَأَة )
: تُرِيد الْجِمَاع وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ أَنَّهُ إِذَا جَامَعَ اِمْرَأَته فَقَدْ بَطَل اِعْتِكَافه قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ , وَقَدْ نَقَلَ اِبْن الْمُنْذِر الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ .
( وَلَا يُبَاشِرهَا )
: فَقَدْ اِخْتَلَفَ فِيهَا فَقَالَ عَطَاء وَالشَّافِعِيّ : إِنْ بَاشَرَ أَوْ قَبَّلَ لَمْ يَفْسُد اِعْتِكَافه وَإِنْ أَنْزَلَ , وَقَالَ مَالِك : يَفْسُد , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه . قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .(1/56)
وَفِي النَّيْل : الْمُرَاد بِالْمُبَاشَرَةِ هُنَا الْجِمَاع بِقَرِينَةِ ذِكْر الْمَسّ قَبْلهَا , وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْره مِنْ طَرِيق قَتَادَةَ فِي سَبَب نُزُول الْآيَة { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد } أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اِعْتَكَفُوا فَخَرَجَ رَجُل لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَ اِمْرَأَته جَامَعَهَا إِنْ شَاءَ فَنَزَلَتْ اِنْتَهَى
( إِلَّا لِمَا لَا بُدّ مِنْهُ )
: وَلَا يُتَصَوَّر فِعْلهَا فِي الْمَسْجِد . فِيهِ دَلِيل عَلَى الْمَنْع مِنْ الْخُرُوج لِكُلِّ حَاجَة مِنْ غَيْر فَرْق بَيْن مَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ قُرْبَة أَوْ غَيْرهمَا إِلَّا الَّذِي لَا بُدّ مِنْهُ كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَة وَمَا فِي حُكْمهَا
( وَلَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ )
: وَفِيهِ دَلِيل أَنَّهُ لَا يَصِحّ الِاعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ وَأَنَّهُ شَرْط وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر مِنْ الصَّحَابَة وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ , قَالُوا : يَصِحّ اِعْتِكَاف سَاعَة وَاحِدَة وَلَحْظَة وَاحِدَة , وَهَذَا هُوَ الْحَقّ لِلْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَة الْقَائِمَة عَلَى ذَلِكَ , لَا كَمَا قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم إِنَّ الرَّاجِح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور السَّلَف أَنَّ الصَّوْم شَرْط فِي الِاعْتِكَاف
( وَلَا اِعْتِكَاف إِلَّا فِي مَسْجِد جَامِع )(1/57)
: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ نَفْي الْفَضِيلَة وَالْكَمَال وَإِنَّمَا يُكْرَه الِاعْتِكَاف فِي غَيْر الْجَامِع لِمَنْ نَذَرَ اِعْتِكَافًا أَكْثَر مِنْ جُمْعَة لِئَلَّا تَفُوتهُ صَلَاة الْجُمُعَة , فَأَمَّا مَنْ كَانَ اِعْتِكَافه دُون ذَلِكَ فَلَا بَأْس بِهِ , وَالْجَامِع وَغَيْره سَوَاء فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَم
( جَعَلَهُ قَوْل عَائِشَة )
: وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ الْقَدْر الَّذِي مِنْ حَدِيث عَائِشَة قَوْلهَا لَا يَخْرُج وَمَا عَدَاهُ مِمَّنْ دُونهَا اِنْتَهَى وَكَذَلِكَ رَجَّحَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ ذَكَرَهُ اِبْن كَثِير فِي الْإِرْشَاد .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث يُونُس بْن زَيْد وَلَيْسَ فِيهِ قَالَتْ السُّنَّة وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث الْإِمَام مَالِك وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا ذَلِكَ . وَعَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق هَذَا هُوَ الْقُرَشِيّ الْمَدِينِيّ يُقَال لَهُ عَبَّاد قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْن مَعِين وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْره وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضهمْ .
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين اِبْن الْقَيِّم رَحِمه اللَّه :
قُلْت : عَبْد الرَّحْمَن - هَذَا - قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ : لَا يُحْتَجّ بِهِ , وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَمَد عَلَى حِفْظِهِ , وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ضَعِيفٌ , يُرْمَى بِالْقَدَرِ .(1/58)
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدِيث مُخْتَصَرٌ . وَسِيَاقه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَجْزُومًا بِرَفْعِهِ , وَقَالَ اللَّيْث : حَدَّثَنِي عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَائِشَة : " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِف الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان , حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثُمَّ اِعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْده وَالسُّنَّة فِي الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُج إِلَّا لِحَاجَتِهِ الَّتِي لَا بُدّ مِنْهَا , وَلَا يَعُود مَرِيضًا , وَلَا يَمَسّ اِمْرَأَته وَلَا يُبَاشِرهَا , وَلَا اِعْتِكَاف إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ , وَالسُّنَّة فِيمَنْ اِعْتَكَفَ أَنْ يَصُوم " .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : قَوْله " وَالسُّنَّة فِي الْمُعْتَكِف " إِلَى آخِره , لَيْسَ مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْل الزُّهْرِيّ , وَمَنْ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيث فَقَدْ وَهِمَ , وَلِهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم
- ذَكَر صَاحِبُ الصَّحِيح أَوَّله , وَأَعْرَض عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَة , وَقَدْ رَوَاهُ سُوَيْد بْن عَبْد الْعَزِيز بْن سُفْيَان بْن حُسَيْن عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة يَرْفَعهُ : " لَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصِيَامٍ " وَسُوَيْد قَالَ فِيهِ أَحْمَد : مَتْرُوكٌ , وَقَالَ اِبْن مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيَّرَهُ : ضَعِيفٌ وَسُفْيَان بْن حُسَيْنٍ فِي الزُّهْرِيّ ضَعِيفُ .
قَالَ الشَّيْخ شَمْس الدِّين :(1/59)
اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي اِشْتِرَاط الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف , فَأَوْجَبَهُ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم , مِنْهُمْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة عَنْهُ أَنَّ الصَّوْم فِيهِ مُسْتَحَبٌّ غَيْر وَاجِب . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود . وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَر : أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة : فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفِ بِنَذْرِك " , قَالُوا : وَاللَّيْل لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصِّيَامِ , وَقَدْ جَوَّزَ الِاعْتِكَاف فِيهِ : وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْرِكِهِ مِنْ حَدِيث أَبِي سُهَيْل عَنْ طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِف صِيَام إِلَّا أَنْ يَجْعَلهُ عَلَى نَفْسه " , وَقَالَ : صَحِيح الْإِسْنَاد .(1/60)
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِف صَلَّى الْفَجْر , ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفه , وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَاءٍ فَضُرِبَ , وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّة الِاعْتِكَاف فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان , فَأُمِرَتْ زَيْنَب بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ , وَأُمِرَ غَيْرهَا مِنْ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْر نَظَرَ فَإِذَا الْأَخْبِيَة , فَقَالَ : آلْبِرِّ تُرِدْنَ ؟ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ , وَتَرَك الِاعْتِكَاف فِي شَهْر رَمَضَان , حَتَّى اِعْتَكَفَ الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال " , وَيَوْم الْعِيد دَاخِل فِي جُمْلَة الْعَشْر , وَلَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الِاعْتِكَاف عِبَادَة مُسْتَقِلَّة بِنَفْسِهَا , فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْم شَرْطًا فِيهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَات , مِنْ الْحَجّ وَالصَّلَاة وَالْجِهَاد وَالرِّبَاط , وَبِأَنَّهُ لُزُوم مَكَانٍ مُعَيَّنٍ لِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى , فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْم شَرْطًا فِيهِ , كَالرِّبَاطِ , وَبِأَنَّهُ قُرْبَة بِنَفْسِهِ , فَلَا يُشْتَرَط فِيهِ الصَّوْم , كَالْحَجِّ .
قَالَ الْمُوجِبُونَ : الْكَلَام مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ :
أَحَدهمَا : ذِكْر ضَعْف أَدِلَّتكُمْ , وَالثَّانِي : ذِكْر الْأَدِلَّة عَلَى اِشْتِرَاط الصَّوْم .(1/61)
فَأَمَّا الْمَقَام الْأَوَّل , فَنَقُول : لَا دَلَالَة فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمْ , أَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى صِحَّته , لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي لَفْظه كَثِيرًا , فَرَوَاهُ مُسَدَّد وَزُهَيْر وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِيُ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّان عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر فَقَالُوا : " لَيْلَة " , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ اِبْن الْمُبَارَك وَسُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْ عُبَيْد اللَّه , وَهَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ عَنْ حَفْص بْن غِيَاث عَنْ عُبَيْد اللَّه وَرَوَاهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ حَفْص بْن غِيَاث فَأَبْهَمَ الْمُنْذِر , فَقَالَ : " إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِف عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام ؟ فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِك " , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو أُسَامَة عَنْ عُبَيْد اللَّه مُبْهَمًا , وَرَوَاهُ شُعْبَة عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر فَقَالَ : " إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِف يَوْمًا " وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ , فَرَوَاهُ حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ نَافِع قَالَ : " ذُكِرَ عِنْد اِبْن عُمَر عُمْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَة , فَقَالَ : لَمْ يَعْتَمِر مِنْهَا , وَكَانَ عَلَى عُمَر نَذْر اِعْتِكَاف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة , فَسَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ , فَدَخَلَ الْمَسْجِد تِلْكَ اللَّيْلَة , فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا السَّبْيُ يَسْعَوْنَ , يَقُولُونَ : أَعْتَقَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مُتَّفَق عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ أَيُّوب , وَخَالَفَهُمَا مَعْمَر وَجَرِير , فَقَالَا : " يَوْمًا " , وَكِلَاهُمَا فِي(1/62)
الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ . قَالَ النُّفَاةُ : يَجُوز أَنْ يَكُون عُمَر سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِعْتِكَاف لَيْلَة وَحْدهَا , فَأَمَرَهُ بِهِ , وَسَأَلَهُ مَرَّة أُخْرَى عَنْ اِعْتِكَاف يَوْم , فَأَمَرَهُ بِهِ .
قَالَ الْمُوجِبُونَ : هَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ عَالِمٌ فِي بُطْلَانِهِ , فَإِنَّ الْقِصَّة وَاحِدَة , وَعُمَر سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام الْفَتْح سُؤَالًا وَاحِدًا , وَهَذِهِ الطَّرِيقَة يَسْلُكهَا كَثِير مِمَّنْ لَا تَحْقِيق عِنْده . وَقَدْ رَوَى سَعِيد بْن بَشِير عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر : " أَنَّ عُمَر نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِف فِي الشِّرْك وَيَصُوم , فَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِك " , وَسَعِيد بْن بَشِير - هَذَا - وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَعَّفَهُ اِبْن الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْن مَعِينٍ وَالنَّسَائِيّ , فَقَدْ قَالَ فِيهِ شُعْبَة : كَانَ صَدُوق اللِّسَان , وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : كَانَ حَافِظًا , وَقَالَ دُحَيْم : هُوَ ثِقَة , وَقَالَ : كَانَ مَشْيَخَتُنَا يُوَثِّقُونَهُ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : يَتَكَلَّمُونَ فِي حِفْظه , وَهُوَ يُحْتَمَل , وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حَاتِم : سَمِعْت أَبِي يُنْكِر عَلَى مَنْ أَدْخَلَهُ فِي كِتَاب الضُّعَفَاء , وَقَالَ : مَحَلّه الصِّدْق , وَقَالَ اِبْن عَدِيٍّ : الْغَالِب عَلَى حَدِيثه الِاسْتِقَامَة . وَقَدْ رَوَى عَبْد اللَّه بْن يَزِيد عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ عُمَر هَذَا الْحَدِيث ; وَفِيهِ : " فَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَكِف وَيَصُوم " وَلَكِنْ تَفَرَّدَ بِهِ اِبْن بُدَيْل , وَضَعَّفَهُ(1/63)
الدَّارَقُطْنِيُّ , وَقَالَ اِبْن عَدِيٍّ : لَهُ أَحَادِيث مِمَّا يُنْكَر عَلَيْهِ الزِّيَادَة فِي مَتْنه أَوْ إِسْنَاده , وَقَالَ أَبُو بَكْر النَّيْسَابُورِيّ : هَذَا حَدِيث مُنْكَر , لِأَنَّ الثِّقَات مِنْ أَصْحَاب عَمْرو بْن دِينَار لَمْ يَذْكُرُوهُ , مِنْهُمْ : اِبْن جُرَيْج وَابْن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بْن زَيْد وَحَمَّاد بْن سَلَمَة , وَابْن بُدَيْل ضَعِيف الْحَدِيث , فَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَة بِنَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ . وَحَدِيث سَعِيد بْن بَشِير أَجْوَد مِنْهُ .
وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم , فَلَهُ عِلَّتَانِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الرَّمْلِيّ , وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ حَتَّى يُقْبَل مِنْهُ تَفَرُّده , بِمِثْلِ هَذَا .
الْعِلَّة الثَّانِيَة : أَنَّ الْحُمَيْدِيّ وَعَمْرو بْن زُرَارَة رَوَيَاهُ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيّ عَنْ أَبَى سُهَيْل عَنْ طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس مَوْقُوفًا عَلَيْهِ , وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب , وَهُوَ الثَّابِت عَنْ اِبْن عَبَّاس .(1/64)
وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة وَقِصَّة اِعْتِكَاف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال , فَهَذَا قَدْ اِخْتَلَفَ فِيهِ لَفْظ الصَّحِيح . وَفِيهِ ثَلَاثَة أَلْفَاظ : أَحَدهَا : " عَشْرًا مِنْ شَوَّال " وَالثَّانِي : " فِي الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال " وَالثَّالِث : " الْعَشْر الْأُوَل " , وَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي اِعْتِكَاف يَوْم الْعِيد , وَلَوْ كَانَ الثَّابِت هُوَ قَوْله " الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال " لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَال : اِعْتَكَفَ الْعَشْر الْأُوَل وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَلَّ بِيَوْمٍ مِنْهُ , كَمَا يُقَال : قَامَ لَيَالِي الْعَشْر الْأَخِير , وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَلَّ بِالْقِيَامِ فِي جُزْء مِنْ اللَّيْل .
وَيُقَال : قَامَ لَيْلَة الْقَدْر , وَإِنْ أَخَلَّ بِقِيَامِهِ فِي بَعْضهَا .
وَأَمَّا الْأَقْيِسَة الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا , فَمُعَارَضَة بِأَمْثَالِهَا , أَوْ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسهَا فَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِذِكْرِهَا .
وَأَمَّا الْمَقَام الثَّانِي : وَهُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى اِشْتِرَاط الصَّوْم فَأُمُور :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ يُعْرَف مَشْرُوعِيَّة الِاعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ , وَلَمْ يَثْبُت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا أَحَد مِنْ أَصْحَابه , أَنَّهُمْ اِعْتَكَفُوا بِغَيْرِ صَوْم , وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدهمْ لَكَانَتْ شُهْرَته تُغْنِي عَنْ تَكَلُّفكُمْ الِاسْتِدْلَال بِاعْتِكَافِهِ الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال .
الثَّانِي : حَدِيث عَائِشَة الَّذِي ذَكَره أَبُو دَاوُدَ فِي الْبَاب , وَقَوْلهَا : " السُّنَّة - كَذَا وَكَذَا - وَلَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ " .
قَالَ النُّفَاةُ : الْجَوَاب عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ :(1/65)
أَحَدهَا : أَنَّ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق , قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم : لَا يُحْتَجّ بِهِ , وَقَالَ الْبُخَارِيّ : لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَمَد عَلَى حِفْظه , وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : يُرْمَى بِالْقَدَرِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْكَلَام مِنْ قَوْل الزُّهْرِيّ , لَا مِنْ قَوْل عَائِشَة , كَمَا ذَكَره أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره , قَالَ اللَّيْث عَنْ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة : " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِف الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان , حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثُمَّ اِعْتَكَفَ أَزْوَاجه مِنْ بَعْده " , فَالسُّنَّة فِي الْمُعْتَكِف - إِلَى آخِره , لَيْسَ مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْل الزُّهْرِيّ , وَمَنْ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيث فَقَدْ وَهِمَ .
الثَّالِث : أَنَّ غَايَته الدَّلَالَة عَلَى اِسْتِحْبَاب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف , فَإِنَّ قَوْله " السُّنَّة " إِنَّمَا يُفِيد الِاسْتِحْبَاب . وَقَوْله " لَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ " نَفْيٌ لِلْكَمَالِ .
قَالَ الْمُوجِبُونَ : الْجَوَاب عَمًّا ذَكَرْتُمْ : أَمَّا تَضْعِيف عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق . فَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه , وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْن مَعِين وَغَيْره .
وَأَمَّا قَوْلكُمْ : إِنَّهُ مِنْ قَوْل الزُّهْرِيّ , وَمَنْ أَدْرَجَهُ فَقَدْ وَهِمَ , فَجَوَابه مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدهمَا : أَنَّا لَوْ تَرَكْنَا هَذَا لَكَانَ مَا ذَكَرْتُمْ فَادِحًا , وَلَكِنْ قَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ عَطَاء عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : " مَنْ اِعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْم " فَهَذَا يُقَوِّي حَدِيث الزُّهْرِيّ .(1/66)
الثَّانِي : أَنَّهُ وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ كَلَام الزُّهْرِيّ فَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ السُّنَّة الْمَعْرُوفَة الَّتِي اِسْتَمَرَّ عَلَيْهَا الْعَمَل أَنَّهُ لَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ , فَهَلْ عَارَضَ هَذِهِ السُّنَّة سُنَّة غَيْرهَا , حَتَّى تُقَابِل بِهِ ؟ وَأَمَّا قَوْلكُمْ : إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدُلّ عَلَى الِاسْتِحْبَاب , فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالسُّنَّةِ هَاهُنَا مُجَرَّد الِاسْتِحْبَاب , وَإِنَّمَا الْمُرَاد طَرِيقَة الِاعْتِكَاف , وَسُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَمِرَّة فِيهِ . وَقَوْله " وَلَا اِعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْمٍ " يُبَيِّن ذَلِكَ .
وَقَوْلكُمْ : إِنَّهُ لِنَفْيِ الْكَمَال صَحِيح , وَلَكِنْ لِنَفْيِ كَمَالِ الْوَاجِب , أَوْ الْمُسْتَحَبّ ؟ الْأَوَّل : مُسَلَّم , وَالثَّانِي . مَمْنُوع . وَالْحَمْل عَلَيْهِ بَعِيدٌ جِدًّا , إِذَا لَا يَصْلُح النَّفْيُ الْمُطْلَق عِنْد نَفْي بَعْض الْمُسْتَحَبَّات , وَإِلَّا صَحَّ النَّفْيُ عَنْ كُلّ عِبَادَةٍ تُرِكَ بَعْض مُسْتَحَبَّاتهَا , وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ لُغَة وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا , وَلَا يُعْهَد فِي الشَّرِيعَة نَفْيُ الْعِبَادَة إِلَّا بِتَرْكِ وَاجِب فِيهَا , وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : يُقَال : إِنَّ قَوْله " وَالسُّنَّة عَلَى الْمُعْتَكِف " إِلَى آخِره - : مِنْ كَلَام الزُّهْرِيّ , وَمَنْ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيث فَقَدْ وَهِمَ فِيهِ .
فوائد من شرح حديث شد الرحال :(1/67)
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعًا قَالَ سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً ح حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( أَخْبَرَنِي عَبْد اَلْمَلِك )
هُوَ اِبْن عُمَيْر كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَالْأَصِيلِيّ .
قَوْله : ( عَنْ قَزَعَةَ )
بِفَتْحِ اَلْقَافِ وَكَذَا اَلزَّاي , وَحَكَى اِبْن اَلْأَثِيرِ سُكُونهَا بَعْدَهَا مُهْمَلَة , وَهُوَ ابْن يَحْيَى وَيُقَالُ اِبْنُ اَلْأَسْوَدِ , وَسَيَأْتِي بعْدَ خَمْسَة أَبْوَابٍ فِي هَذَا اَلْإِسْنَادِ " سَمِعْتُ قَزَعَة مَوْلَى زِيَاد " وَهُوَ هَذَا وَزِيَاد مَوْلَاهُ هُوَ اِبْن أَبِي سُفْيَان اَلْأَمِير اَلْمَشْهُور , وَرِوَايَة عَبْد اَلْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ اَلْأَقْرَانِ لِأَنَّهُمَا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ .
قَوْله : ( سَمِعْتُ أَبَا سَعِيد أَرْبَعًا )
أَيْ يَذْكُرُ أَرْبَعًا أَوْ سَمِعْتُ مِنْهُ أَرْبَعًا أَيْ أَرْبَعَ كَلِمَات .
قَوْله : ( وَكَانَ غَزَا )
اَلْقَائِل ذَلِكَ هُوَ قَزَعَة وَالْمَقُول عَنْهُ أَبُو سَعِيد اَلْخُدْرِيّ .
قَوْله : ( ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً )(1/68)
كَذَا اِقْتَصَرَ اَلْمُؤَلِّف عَلَى هَذَا اَلْقَدْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ اَلْمَتْنِ شَيْئًا , وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي شَدِّ اَلرِّحَالِ فَظَنَّ الدَّاوُدِيُّ اَلشَّارِح أَنَّ اَلْبُخَارِيَّ سَاقَ الْإِسْنَادَيْنِ لِهَذَا اَلْمَتْنِ , وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حَدِيث أَبِي سَعِيد مُشْتَمِل عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ كَمَا ذَكَرَ اَلْمُصَنِّف , وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مُقْتَصِر عَلَى شَدِّ اَلرِّحَالِ فَقَطْ , لَكِنْ لَا يُمْنَعُ اَلْجَمْع بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَة اَلْبُخَارِيّ فِي إِجَازَةِ اِخْتِصَارِ اَلْحَدِيثِ , وَقَالَ اِبْن رَشِيد : لَمَّا كَانَ أَحَدُ اَلْأَرْبَع هُوَ قَوْلُهُ " لَا تُشَدُّ اَلرِّحَال " ذَكَرَ صَدْر اَلْحَدِيث إِلَى اَلْمَوْضِعِ اَلَّذِي يَتَلَاقَى فِيهِ اِفْتِتَاح أَبِي هُرَيْرَة لِحَدِيث أَبِي سَعِيد فَاقْتَطَفَ اَلْحَدِيث , وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ اَلْإِغْمَاض لِيُنَبِّهَ غَيْر اَلْحَافِظِ عَلَى فَائِدَة اَلْحِفْظِ , عَلَى أَنَّهُ مَا أَخْلَاهُ عَنْ اَلْإِيضَاحِ عَنْ قُرْبٍ فَإِنَّهُ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ خَامِس تَرْجَمَة .
قَوْله : ( وَحَدَّثَنَا عَلِيّ )
هُوَ اِبْنُ اَلْمَدِينِيّ , وَسُفْيَان هُوَ اِبْن عُيَيْنَةَ , وَسَعِيد هُوَ اِبْن اَلْمُسَيِّب , وَوَقَعَ عِنْد اَلْبَيْهَقِيّ وَجْه آخَر عَنْ عَلِيّ بْن اَلْمَدِينِيّ قَالَ " حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَان مَرَّةً بِهَذَا اَللَّفْظِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ بِلَفْظِ تُشَدُّ اَلرِّحَال " .
قَوْله : ( لَا تُشَدّ اَلرِّحَال )(1/69)
بِضَمّ أَوَّله بِلَفْظ اَلنَّفْي , وَالْمُرَاد اَلنَّهْي عَنْ اَلسَّفَرِ إِلَى غَيْرِهَا , قَالَ اَلطِّيبِيّ : هُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ اَلنَّهْيِ , كَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْصَدَ بِالزِّيَارَةِ إِلَّا هَذِهِ اَلْبِقَاع لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا اِخْتَصَّتْ بِهِ , وَالرِّحَال بِالْمُهْمَلَةِ جَمْع رَحْلٍ وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ , وَكَنَّى بِشَدِّ اَلرِّحَالِ عَنْ اَلسَّفَرِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ وَخَرَجَ ذِكْرُهَا مَخْرَج اَلْغَالِبِ فِي رُكُوبِ اَلْمُسَافِرِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ رُكُوب اَلرَّوَاحِل وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير وَالْمَشْي فِي اَلْمَعْنَى اَلْمَذْكُورِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ " إِنَّمَا يُسَافِرُ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيقِ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس عَنْ سُلَيْمَانَ اَلْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة .
قَوْله : ( إِلَّا )
اَلِاسْتِثْنَاء مُفَرَّغ وَالتَّقْدِير لَا تُشَدُّ اَلرِّحَال إِلَى مَوْضِع , وَلَازَمَهُ مَنْع اَلسَّفَرِ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ غَيْرَهَا , لِأَنَّ اَلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي اَلْمُفَرَّغِ مُقَدَّر بِأَعَمّ اَلْعَامّ , لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اَلْمُرَاد بِالْعُمُومِ هُنَا اَلْمَوْضِع اَلْمَخْصُوص وَهُوَ اَلْمَسْجِدُ كَمَا سَيَأْتِي .
قَوْله : ( اَلْمَسْجِد اَلْحَرَام )(1/70)
أَيْ اَلْمُحَرَّم وَهُوَ كَقَوْلِهِمَا اَلْكِتَاب بِمَعْنَى اَلْمَكْتُوب , وَالْمَسْجِد بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِيَّة , وَيَجُوزُ اَلرَّفْعُ عَلَى اَلِاسْتِئْنَافِ وَالْمُرَاد بِهِ جَمِيع اَلْحَرَمِ , وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْمَوْضِعِ اَلَّذِي يُصَلَّى فِيهِ دُونَ اَلْبُيُوتِ وَغَيْرهَا مِنْ أَجْزَاءِ اَلْحَرَمِ , قَالَ اَلطَّبَرِيّ : وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ " مَسْجِدِي هَذَا " لِأَنَّ اَلْإِشَارَةَ فِيهِ إِلَى مَسْجِدِ اَلْجَمَاعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اَلْمُسْتَثْنَى كَذَلِكَ , وَقِيلَ اَلْمُرَاد بِهِ اَلْكَعْبَة حَكَاهُ اَلْمُحِبّ اَلطَّبَرِيّ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَأَيَّدُ بِمَا رَوَاهُ اَلنَّسَائِيّ بِلَفْظ " إِلَّا اَلْكَعْبَة " وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ اَلَّذِي عِنْدَ اَلنَّسَائِيِّ " إِلَّا مَسْجِد اَلْكَعْبَةِ " حَتَّى وَلَوْ سَقَطَتْ لَفْظَة مَسْجِد لَكَانَتْ مُرَادَة , وَيُؤَيِّدُ اَلْأَوَّل مَا رَوَاهُ اَلطَّيَالِسِيّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَذَا اَلْفَضْلُ فِي اَلْمَسْجِدِ وَحْدَهُ أَوْ فِي اَلْحَرَمِ ؟ قَالَ : بَلْ فِي اَلْحَرَمِ لِأَنَّهُ كُلّه مَسْجِد .
قَوْله : ( وَمَسْجِد اَلرَّسُولِ )
أَيْ مُحَمَّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي اَلْعُدُولِ عَنْ " مَسْجِدِي " إِشَارَة إِلَى اَلتَّعْظِيمِ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ اَلرُّوَاةِ , وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد اَلْآتِي قَرِيبًا " وَمَسْجِدِي " .
قَوْله : ( وَمَسْجِد اَلْأَقْصَى )(1/71)
أَيْ بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ اَلْمَوْصُوفِ إِلَى اَلصِّفَةِ , وَقَدْ جَوَّزَهُ اَلْكُوفِيُّونَ وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَمَا كُنْت بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ ) وَالْبَصْرِيُّونَ يُؤَوِّلُونَهُ بِإِضْمَارِ اَلْمَكَان , أَيْ اَلَّذِي بِجَانِبِ اَلْمَكَانِ اَلْغَرْبِيِّ وَمَسْجِد اَلْمَكَان اَلْأَقْصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَسُمِّيَ اَلْأَقْصَى لِبُعْدِهِ عَنْ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَام فِي اَلْمَسَافَةِ , وَقِيلَ فِي اَلزَّمَانِ , وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي اَلصَّحِيحِ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَة , وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ اَلْخَلِيلِ مِنْ أَحَادِيثِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَبَيَان مَا فِيهِ مِنْ اَلْإِشْكَالِ وَالْجَوَاب عَنْهُ , وَقَالَ اَلزَّمَخْشَرِيّ : سُمِّيَ اَلْأَقْصَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِد , وَقِيلَ لِبُعْدِهِ عَنْ اَلْأَقْذَارِ وَالْخَبَثِ , وَقِيلَ هُوَ أَقْصَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ اَلْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَكَّةَ وَبَيْت اَلْمَقْدِسِ أَبْعَد مِنْهُ . وَلِبَيْتِ اَلْمَقْدِسِ عِدَّة أَسْمَاء تَقْرُبُ مِنْ اَلْعِشْرِينَ مِنْهَا إِيلِيَاء بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَبِحَذْفِ اَلْيَاءِ اَلْأُولَى وَعَنْ اِبْن عَبَّاس إِدْخَال اَلْأَلِف وَاللَّام عَلَى هَذَا اَلثَّالِثِ , وَبَيْت اَلْمَقْدِسِ بِسُكُونِ اَلْقَافِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ اَلتَّشْدِيدِ , وَالْقُدْسِ بِغَيْرِ مِيمٍ مَعَ ضَمِّ اَلْقَافِ وَسُكُون اَلدَّالِ وَبِضَمِّهَا أَيْضًا , وَشَلَّم بِالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيد اَللَّامِ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَشَلَام بِمُعْجَمَةٍ , وَسَلِم بِفَتْحِ اَلْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اَللَّامِ اَلْخَفِيفَةِ , وَأُورِي سَلِم بِسُكُونِ اَلْوَاوِ وَكَسْر اَلرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة(1/72)
قَالَ اَلْأَعْشَى : وَقَدْ طُفْت لِلْمَالِ آفَاقه دِمَشْق فَحِمْصَ فَأُورِي سَلِم وَمِنْ أَسْمَائِهِ كُورَة وَبَيْت أَيْل وَصِهْيُون وَمِصْرُوث آخِره مُثَلَّثَة وَكُورْشِيلَا وَبَابُوس بِمُوَحَّدَتَيْنِ وَمُعْجَمَة , وَقَدْ تَتَبَّعَ أَكْثَر هَذِهِ اَلْأَسْمَاء اَلْحُسَيْن بْن خَالَوَيْهِ اَللُّغَوِيّ فِي كِتَاب " لَيْسَ " , وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَة فِي كِتَاب اَلْحَجّ . وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ فَضِيلَة هَذِهِ اَلْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتهَا عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ اَلْأَنْبِيَاءِ , وَلِأَنَّ اَلْأَوَّل قِبْلَة اَلنَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ , وَالثَّانِي كَانَ قِبْلَةَ اَلْأُمَمِ اَلسَّالِفَةِ , وَالثَّالِث أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوَى . وَاخْتُلِفَ فِي شَدِّ اَلرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا كَالذَّهَابِ إِلَى زِيَارَةِ اَلصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَإِلَى اَلْمَوَاضِعِ اَلْفَاضِلَةِ لِقَصْد اَلتَّبَرُّك بِهَا وَالصَّلَاة فِيهَا فَقَالَ اَلشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّد اَلْجُوَيْنِيّ : يَحْرُمُ شَدّ اَلرِّحَال إِلَى غَيْرِهَا عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا اَلْحَدِيثِ , وَأَشَارَ اَلْقَاضِي حُسَيْن إِلَى اِخْتِيَارِهِ وَبِهِ قَالَ عِيَاض وَطَائِفَة , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ اَلسُّنَنِ مِنْ إِنْكَار بَصْرَة اَلْغِفَارِيّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَة خُرُوجه إِلَى اَلطُّورِ وَقَالَ لَهُ " لَوْ أَدْرَكْتُك قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مَا خَرَجْت " وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى حَمْلَ اَلْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ , وَوَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَة . وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إِمَامِ اَلْحَرَمَيْنِ وَغَيْره مِنْ اَلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ , وَأَجَابُوا عَنْ اَلْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّ اَلْمُرَادَ أَنَّ(1/73)
اَلْفَضِيلَةَ اَلتَّامَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي شَدّ اَلرِّحَالُ إِلَى هَذِهِ اَلْمَسَاجِدِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ جَائِز , وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ سَيَأْتِي ذِكْرهَا بِلَفْظ " لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تَعْمَلَ " وَهُوَ لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ اَلتَّحْرِيمِ وَمِنْهَا أَنَّ اَلنَّهْيَ مَخْصُوص بِمَنْ نَذَرَ عَلَى نَفْسِهِ اَلصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ مِنْ سَائِرِ اَلْمَسَاجِدِ غَيْر اَلثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اَلْوَفَاء بِهِ قَالَهُ ابْن بَطَّال , وَقَالَ اَلْخَطَّابِيّ : اَللَّفْظُ لَفْظ اَلْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ اَلْإِيجَاب فِيمَا يَنْذِرُهُ اَلْإِنْسَانُ مِنْ اَلصَّلَاةِ فِي اَلْبِقَاعِ اَلَّتِي يُتَبَرَّكُ بِهَا أَيْ لَا يَلْزَمُ اَلْوَفَاء بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْر هَذِهِ اَلْمَسَاجِدِ اَلثَّلَاثَةِ , وَمِنْهَا أَنَّ اَلْمُرَادَ حُكْم اَلْمَسَاجِدِ فَقَطْ وَأَنَّهُ لَا تُشَدُّ اَلرِّحَال إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ اَلْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ غَيْر هَذِهِ اَلثَّلَاثَةِ ; وَأَمَّا قَصْدُ غَيْر اَلْمَسَاجِدِ لِزِيَارَةِ صَالِحٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ صَاحِبٍ أَوْ طَلَب عِلْمٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي اَلنَّهْيِ , وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَحْمَد مِنْ طَرِيق شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا سَعِيد وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ اَلصَّلَاةُ فِي اَلطُّورِ فَقَالَ : قَالَ رَسُول اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَشُدَّ رِحَالَهُ إِلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ اَلصَّلَاة غَيْر اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَام وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى وَمَسْجِدِي " وَشَهْرٌ حَسَنُ اَلْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْض اَلضَّعْفِ . وَمِنْهَا أَنَّ اَلْمُرَادَ قَصْدهَا بِالِاعْتِكَافِ فِيمَا حَكَاهُ اَلْخَطَّابِيّ عَنْ(1/74)
بَعْضِ اَلسَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُعْتَكَفُ فِي غَيْرِهَا , وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ اَلَّذِي قَبْلَهُ , وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ دَلِيلًا , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ أَحَدِ هَذِهِ اَلْمَسَاجِد لَزِمَهُ ذَلِكَ , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيّ وَالْبُوَيْطِيّ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق اَلْمَرْوَزِيّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة لَا يَجِبُ مُطْلَقًا , وَقَالَ اَلشَّافِعِيّ فِي " اَلْأُمِّ " يَجِبُ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَام لِتَعَلُّق اَلنُّسُك بِهِ بِخِلَاف اَلْمَسْجِدَيْنِ اَلْأَخِيرَيْنِ , وَهَذَا هُوَ اَلْمَنْصُورُ لِأَصْحَابِ اَلشَّافِعِيِّ , وَقَالَ اِبْن اَلْمُنْذِر : يَجِبُ إِلَى اَلْحَرَمَيْنِ , وَأَمَّا اَلْأَقْصَى فَلَا , وَاسْتَأْنَسَ بِحَدِيثِ جَابِر " أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْك مَكَّة أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ , قَالَ : صَلِّ هَاهُنَا " وَقَالَ اِبْن اَلتِّينِ : اَلْحُجَّةُ عَلَى اَلشَّافِعِيِّ أَنَّ إِعْمَال اَلْمَطِيّ إِلَى مَسْجِدِ اَلْمَدِينَةِ وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِمَا قُرْبَة فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ اَلْحَرَام اِنْتَهَى . وَفِيمَا يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ هَذِهِ اَلْمَسَاجِدِ تَفْصِيل وَخِلَاف يَطُولُ ذِكْرُهُ مَحَلّه كُتُب اَلْفُرُوع , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إِتْيَان غَيْر هَذِهِ اَلْمَسَاجِدِ اَلثَّلَاثَةِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا لِأَنَّهَا لَا فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَتَكْفِي صَلَاتُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ , قَالَ اَلنَّوَوِيّ : لَا اِخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ اَللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ يَجِبُ(1/75)
اَلْوَفَاءُ بِهِ , وَعَنْ اَلْحَنَابِلَةِ رِوَايَة يَلْزَمُهُ كَفَّارَة يَمِين وَلَا يَنْعَقِدُ نَذْره , وَعَنْ اَلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَة إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ كَرِبَاطٍ لَزِمَ وَإِلَّا فَلَا , وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ اَلْمَالِكِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي مَسْجِد قُبَاء لِأَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِيه كُلَّ سَبْت كَمَا سَيَأْتِي , قَالَ الْكَرْمَانِيّ : وَقَعَ فِي هَذِهِ اَلْمَسْأَلَةِ فِي عَصْرِنَا فِي اَلْبِلَادِ اَلشَّامِيَّةِ مُنَاظَرَات كَثِيرَة وَصُنِّفَ فِيهَا رَسَائِلُ مِنْ اَلطَّرَفَيْنِ , قُلْت : يُشِيرُ إِلَى مَا رَدَّ بِهِ اَلشَّيْخ تَقِيّ اَلدِّين اَلسُّبْكِيّ وَغَيْره عَلَى اَلشَّيْخِ تَقِيّ اَلدِّين ابْن تَيْمِيَةَ وَمَا اِنْتَصَرَ بِهِ اَلْحَافِظُ شَمْس اَلدِّين بْن عَبْد اَلْهَادِي وَغَيْره لِابْن تَيْمِيَةَ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي بِلَادِنَا , وَالْحَاصِلِ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا اِبْن تَيْمِيَةَ بِتَحْرِيمِ شَدِّ اَلرَّحْلِ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا رَسُول اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرْنَا صُورَة ذَلِكَ , وَفِي شَرْحِ ذَلِكَ مِنْ اَلطَّرَفَيْنِ طُول , وَهِيَ مِنْ أَبْشَعِ اَلْمَسَائِلِ اَلْمَنْقُولَةِ عَنْ اِبْن تَيْمِيَةَ , وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى دَفْعِ مَا اِدَّعَاهُ غَيْرُهُ مِنْ اَلْإِجْمَاعِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ قَبْرِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ زُرْت قَبْرَ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ اَلْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ كَرِهَ اَللَّفْظَ أَدَبًا لَا أَصْلَ اَلزِّيَارَة فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ(1/76)
اَلْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ اَلْقُرُبَات اَلْمُوَصِّلَة إِلَى ذِي اَلْجَلَالِ وَإِنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مَحَلّ إِجْمَاع بِلَا نِزَاع وَاَللَّه اَلْهَادِي إِلَى اَلصَّوَابِ . قَالَ بَعْض اَلْمُحَقِّقِينَ : قَوْلُهُ " إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ " اَلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوف , فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ : لَا تُشَدّ اَلرِّحَال إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى اَلثَّلَاثَةِ , أَوْ أَخَصّ مِنْ ذَلِكَ . لَا سَبِيلَ إِلَى اَلْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ اَلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ اَلرَّحِمِ وَطَلَبِ اَلْعِلْمِ وَغَيْرهَا فَتَعَيَّنَ اَلثَّانِي , وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَة وَهُوَ : لَا تُشَدّ اَلرِّحَال إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى اَلثَّلَاثَةِ , فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْل مَنْ مَنَعَ شَدَّ اَلرِّحَال إِلَى زِيَارَةِ اَلْقَبْرِ اَلشَّرِيفِ وَغَيْره مِنْ قُبُورِ اَلصَّالِحِينَ وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَقَالَ اَلسُّبْكِيّ اَلْكَبِير : لَيْسَ فِي اَلْأَرْضِ بُقْعَةٌ لَهَا فَضْل لِذَاتهَا حَتَّى تُشَدَّ اَلرِّحَال إِلَيْهَا غَيْر اَلْبِلَادِ اَلثَّلَاثَةِ , وَمُرَادِي بِالْفَضْلِ مَا شَهِدَ اَلشَّرْع بِاعْتِبَارِهِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا , وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ اَلْبِلَادِ فَلَا تُشَدُّ إِلَيْهَا لِذَاتهَا بَلْ لِزِيَارَةٍ أَوْ جِهَاد أَوْ عِلْم أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ اَلْمَنْدُوبَاتِ أَوْ اَلْمُبَاحَات , قَالَ : وَقَدْ اِلْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ فَزَعَمَ أَنَّ شَدَّ اَلرِّحَالِ إِلَى اَلزِّيَارَةِ لِمَنْ فِي غَيْرِ اَلثَّلَاثَةِ دَاخِل فِي اَلْمَنْعِ , وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ اَلِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْس اَلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ , فَمَعْنَى(1/77)
اَلْحَدِيثِ : لَا تُشَدّ اَلرِّحَال إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ اَلْمَسَاجِدِ أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنْ اَلْأَمْكِنَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ اَلْمَكَانِ إِلَّا إِلَى اَلثَّلَاثَةِ اَلْمَذْكُورَةِ , وَشَدّ اَلرِّحَال إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ لَيْسَ إِلَى اَلْمَكَانِ بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ اَلْمَكَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وعنون البخارى باب فى صحيحه بعنوان (( الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها ))
وذكر أبا قدامة فى كتابه .. المغنى :(1/78)
( وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فِيهِ ) يَعْنِي تُقَامُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ . وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا ، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ . وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ إذَا كَانَ الْمُعْتَكِفُ رَجُلًا . لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . فَخَصَّهَا بِذَلِكَ ، وَلَوْ صَحَّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهَا ، لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ مُطْلَقًا . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، قَالَتْ { : إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأُرَجِّلُهُ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا . } وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، فِي حَدِيثٍ : { وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ } .(1/79)
فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ . وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
( وهذا ما ذكرناه فى بداية حديثنا عن الأدلة من السنة والحديث آتٍ برقمه فى موضعه ولله الحول والقوة ).
وَاعْتَكَفَ أَبُو قِلَابَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِمَا . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ ، لِئَلَّا يَلْتَزِمَ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ ، لِمَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ .
وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : دَخَلَ حُذَيْفَةُ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ ، فَإِذَا هُوَ بِأَبْنِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ ، فَسَأَلَ عَنْهَا . فَقِيلَ : قَوْمٌ مُعْتَكِفُونَ . فَانْطَلَقَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَلَعَلَّهمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت ، وَحَفِظُوا وَنَسِيت . فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَقَدْ عَلِمْت مَا الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/80)
وهذا هو الدليل المفرد عند القائلين بأنه لا اعتكاف إلا فى المساجد الثلاثة . ولو راعيت قول ابن مسعود والرواية الأخرى لحذيفة لوضح لك السبيل .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عَائِشَةَ : مِنْ السُّنَّةِ لِلْمُعْتَكِفِ ، أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ . وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَمَا كَانَ .
وَرَوَى سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ ، عَنْ الضَّحَّاكِ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ } .
وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } يَقْتَضِي إبَاحَةَ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ، إلَّا أَنَّهُ يُقَيَّدُ بِمَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بِالْأَخْبَارِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ مَوْضِعًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ، لَا يَصِحُّ ؛ لِلْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ ، فَلَا يَضُرُّ وُجُوبُ الْخُرُوجِ إلَيْهَا ، كَمَا لَوْ اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّةً يَتَخَلَّلُهَا أَيَّامُ حَيْضِهَا .
وَلَوْ كَانَ الْجَامِعُ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا ، وَلَا يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُهَا ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِكَافُ فِيهِ .(1/81)
وَيَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا ، فَيَلْتَزِمُ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَيْهَا ، فَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً .
( وهذا ليس كائن أيضاً فى المساجد الثلاثة . فالمسجد الحرام تزيد قربه عن المسجد النبوى والمسجد النبوى تزيد قربه عن المسجد الأقصى وفى كلاٍ جمع وجماعات وفروض ونوافل ).
وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُدَّةً غَيْرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؛ كَلَيْلَةٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ ، جَازَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ . وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ ، جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ ، كَالْمَرِيضِ ، وَالْمَعْذُورِ ، وَمَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ لَا يُصَلِّي فِيهَا سِوَاهُ ، جَازَ اعْتِكَافُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ .
وَإِنْ اعْتَكَفَ اثْنَانِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، فَأَقَامَا الْجَمَاعَةَ فِيهِ ، صَحَّ اعْتِكَافُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَامَا الْجَمَاعَةَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَامَهَا فِيهِ غَيْرُهُمَا .
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ . وَلَا يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَلَيْسَ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي جَعَلَتْهُ لِلصَّلَاةِ مِنْهُ ، وَاعْتِكَافُهَا فِيهِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا فِيهِ أَفْضَلُ .(1/82)
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ ، لَمَّا رَأَى أَبْنِيَةَ أَزْوَاجِهِ فِيهِ ، وَقَالَ : الْبِرَّ تُرِدْنَ ، } . وَلِأَنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا مَوْضِعُ فَضِيلَةِ صَلَاتِهَا ، فَكَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهَا ، كَالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ . وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا ، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا } . وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَذِنَ لَهُنَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، كَالطَّوَافِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنَّمَا كَرِهَ اعْتِكَافَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، حَيْثُ كَثُرَتْ أَبْنِيَتُهُنَّ ، لِمَا رَأَى مِنْ مُنَافَسَتِهِنَّ ، فَكَرِهَهُ مِنْهُنَّ ، خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ فَسَادِ نِيَّتِهِنَّ ، وَسُوءِ الْمَقْصِدِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : ( الْبِرَّ تُرِدْنَ ، ) .(1/83)
مُنْكِرًا لِذَلِكَ ، أَيْ لَمْ تَفْعَلْنَ ذَلِكَ تَبَرُّرًا ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ ، لِظَنِّهِ أَنَّهُنَّ يَتَنَافَسْنَ فِي الْكَوْنِ مَعَهُ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ ، لَأَمَرَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي بُيُوتِهِنَّ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الِاعْتِكَافِ بِهَا ، فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ .
وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ ، كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ . وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ ، وَكَلَّفَهُ نَفْسَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَان تُصَلَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ . وَلِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ ، لَا يَصِحُّ بِدُونِ شُرُوطِهِ ، كَالْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .(1/84)
وَإِذَا اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَدْنَ الِاعْتِكَافَ أَمَرْنَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَضُرِبْنَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ ، وَخَيْرٌ لَهُمْ وَلِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرُونَهُنَّ وَلَا يَرَيْنَهُمْ . وَإِذَا ضَرَبَتْ بِنَاءً جَعَلَتْهُ فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَالُ ، لِئَلَّا تَقْطَعَ صُفُوفَهُمْ ، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمْ . وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرَّجُلُ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ ، وَأَخْفَى لِعَمَلِهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ، عَلَى سُدَّتِهَا قِطْعَةُ حَصِيرٍ . قَالَ : فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ ، فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ ، فَكَلَّمَ النَّاسَ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
*****
ومما ورد فى مصنف ابن أبى شيبة .
كل باب برقمه وكل حديث بتسلسله
( 89 ) من اعتكف في مسجد قومه ومن فعله
( 1 ) حدثنا ابن علية عن أيوب أن أبا قلابة اعتكف في مسجد قومه .
( 2 ) حدثنا هشيم عن خالد أن أبا قلابة فعله .
( 3 ) حدثنا هشيم عن الشيباني عن سعيد بن جبير أنه اعتكف في مسجد قومه .
( 4 ) حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن قيس بن مسلم عن سعيد بن جبير أنه اعتكف في مسجد قومه .
( 5 ) حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن همام بن الحارث أنه اعتكف في مسجد قومه .
( 6 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال لا بأس بالاعتكاف في مساجد القبائل .(1/85)
( 7 ) حدثنا عبد الاعلى عن معمر بن يحيى بن أبي سلمة أنه كان لا يرى بأسا أن يعتكف في مسجد يصلي فيه .
( 8 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزعراء أن أبا الاحوص اعتكف في مسجد قومه .
( 9 ) حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر قال إن شاء اعتكف في مسجد بيته .
( 90 ) من قال لا إعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه
( 1 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن واصل الاحدب عن إبرهيم قال جاء حذيفة إلى عبد الله فقال ألا أعجبك من قومك عكوف بين دارك ودار الاشعري يعني المسجد قال عبد الله ولعلهم أصابوا وأخطأت فقال حذيفة أما علمت أنه لااعتكاف إلا في ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أبالي اعتكف فيه أو في سوقكم هذه .
قوله : عن حذيفة، قال : لا اعتكاف الا في مسجد جماعة، قلت : رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا ابو عوانة عن مغيرة عن ابراهيم النخعي [ ابراهيم لم يدرك حذيفة .
] ان حذيفة قال لابن مسعود : الا تعجب من قوم بين دارك ودار ابي موسى يزعمون انهم معتكفون ؟ ! قال : فلعلهم اصابوا واخطات، او حفظوا ونسيت ؟ قال : اما انا فقد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة، انتهى .
( وهذا هو الحديث الذى أشرت إليه فى أول الفصل هذا بِأن لحذيفة قول بِأن لا اعتكاف إلا فى مسجد جامع وهذا يقوى قول ابن مسعود له ( لعلك أخطأت وأصابوا )
وإلا فأين منصرف قول حذيفة ( لا اعتكاف إلا فى مسجد جامع ) فالغالب أنه أخطأ أو نسى كما قال بذلك عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنهما .
فى الرواية التى صححها الألبانى قال حذيفة رضى الله تعالى عنه : ((وأصابوا الشك مني ))
وهذه الرواية أحسبها فضت إشكالية كبيرة .وهى تلك التى قال فيها حذيفة رضى الله تعالى عنه ((اما انا فقد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة ))(1/86)
وهى فى كتاب نصب الراية لأحاديث الهداية للحافظ المحدث : جمال الدين أبو محمد الزيلعى الحنفى رحمه الله .
وعنده أيضاً هذه الروايات .. اخرج البيهقي في " السنن " عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عائشة، قالت : السُّنَّة فيمن اعتكف ان يصوم، ولا اعتكاف الا في مسجد جماعة، مختصر، وقد تقدم بتمامه . ثم اخرج عن شريك عن ليث عن يحيى بن ابي كثير عن علي الازدي عن ابن عباس، قال : ان ابغض الامور الى اللّه تعالى البدع، وان من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور، انتهى .
وفى الحديث الوحيد الذى يحتجون به وهو الذى عند البيهقى وصححه العلامة الألبانى وهذا من جهة السند وأما من جهة المتن فاسمع لكلام الزيلعى بتمامه .. حديث اخر : اخرجه البيهقي : ص 316، انقلب المتن هنا، او هناك، فان في البيهقي، لعلك نسيت، وحفظوا من قول ابن مسعود ، فليراجع، وذكر ايضًا نحوه الهيثمي في " الزوائد " ص 173 - ج 3 من حديث حذيفة عن الطبراني في " الكبير " وقال : رجاله رجال الصحيح، اهـ .
عن ابن مسعود، قال : مررت على اناس عكوف بين دارك، ودار ابي موسى، وقد علمت ان رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، قال : لا اعتكاف الا في المسجد الحرام، او قال : في المساجد الثلاثة : المسجد الحرام . والمسجد الاقصى . ومسجد رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، فقال عبد اللّه : لعلك نسيت وحفظوا، انتهى .
وروى ابن ابي شيبة، وعبد الرزاق في " مصنفيهما " اخبرنا سفيان الثوري اخبرني جابر عن سعيد بن عبيدة عن ابي عبد الرحمن السلمي عن علي، قال : لا اعتكاف الا في مسجد جماعة، . والشاهد أن الروايات المثبتة أن الاِعتكاف يشرع فى أى مسجد تقام فيه الجمعة والجماعة تكاد تكون متواترة ولا أجد فيما لدى من مصادر رواية واحدة تقوى الرواية التى صححها الشيخ الألبانى رحمه الله تعالى فالأرجح
نسيان حذيفة رضى الله عنه كما ذكر ذلك عبد الله بن مسعود رضى الله عنه(1/87)
منع حذيفة لأناس أتخذوا معتكفهم فى مصلاة وزوايا دورهم وليست مساجد جامعة ويشهد لهذا قوله رضى الله عنه . (( أما انا فقد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة ))
كذلك ليس هناك رواية واحدة تعضدها . وفى المقابل أحاديث صحيحة وآثار صحيحة وإستدلالات قرآنية قوية كالتى ذكرها الإمام القيم بن القيم والإمام السعدى رحمهما الله وجُل التفاسير التى قدمناها .
( 2 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي وعن جابر عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي قال لا اعتكاف إلا في مصر جامع . أي في مسجد مصر جامع والمعنى أنه لا يجوز الاعتكاف في مسجد لا يجمع فيه . ( * )
( 3 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن علي بن الاقمر عن شداد بن الازمع قال اعتكف رجل في المسجد الاعظم وضرب خيمة فحصبه الناس فبلغ ذلك ابن مسعود فأرسل إليه رجلا فكف الناس عنه وحسن ذلك .
( 4 ) حدثنا أبو داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن ابن المسيب قال لا اعتكاف إلا في المسجد نبي .
( 5 ) حدثنا عبد الاعلى عن معمر عن الزهري قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة يجمع فيه .
( 6 ) حدثنا غندر عن شعبة قال سألت الحكم وحمادا عن الاعتكاف فقالا لا يعتكف إلا في مسجد يجمعون فيه .
( 7 ) حدثنا وكيع عن معمر عن أبي جعفر قال لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه .
( 8 ) حدثنا وكيع عن هشام عن أبيه قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة .
( 91 ) من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو في مسجده إلى المصلى
وهذا مما يقوى دليل القائلين بِأنه يجوز الأعتكاف فى مسجد لا يجمع فيه .
( 1 ) حدثنا ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة أنه أوتيت يوم الفطر في مسجد قومه واعتكف فيه بجويرة مزينة فاقعدها في حجره ثم أعتقها وخرج إلى المصلى كما هو في المسجد .
( 2 ) حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن أبي معشرة عن إبراهيم قال كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في مسجده حتى يكون غدوه منه .(1/88)
( 3 ) حدثنا وكيع عن عمران عن أبي مجلز قال بت ليلة الفطر في المسجد الذي اعتكفت فيه حتى تكون غدوك إلى مصلاك منه .
مصنف ابن أبى شيبة .
*****
سنن البيهقى كلاً برقمه .
باب الاعتكاف في المسجد
[ 8352 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن القاضي وأبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي قالوا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا بحر بن نصر قال قرئ على بن وهب أخبرك يونس بن يزيد أن نافعا حدثه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قال وقال نافع وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد رواه البخاري في الصحيح عن إسماعيل بن أبي أويس ورواه مسلم عن أبي الطاهر كلاهما عن بن وهب
[ 8354 ] أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد الصفار ثنا عبيد بن شريك ثنا يحيى يعني بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده والسنة في المعتكف أن لا يخرج إلا للحاجة التي لا بد منها ولا يعود مريضا ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة والسنة فيمن اعتكف أن يصوم
[ 8355 ] أخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه أنبأ أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي ثنا محمد بن أيوب أنبأ مسلم بن إبراهيم ثنا هشام ثنا قتادة أن بن عباس والحسن قالا لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة(1/89)
[ 8356 ] أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الله السديري بخسروجرد أنبأ أحمد بن محمد بن الحسن الخسروجردي ثنا داود بن الحسين ثنا حميد بن زنجويه ثنا يحيى بن عبد الحميد ثنا شريك عن ليث عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي عن بن عباس رضى الله تعالى عنه قال إن أبغض الأمور الى الله البدع وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور
[ 8357 ] أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنبأ أبو نصر محمد بن عبدويه بن سهل الغازي ثنا محمود بن آدم المروزي ثنا سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال قال حذيفة لعبد الله يعني بن مسعود رضى الله تعالى عنه عكوفا بين دارك ودار أبي موسى وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو قال إلا في المساجد الثلاثة فقال عبد الله لعلك نسيت وحفظوا أو أخطأت وأصابوا الشك مني . ( تقدم الكلام عنه وهذا هو موضعه من تصحيح الشيخ الألبانى له وما روى بهذا اللفظ عند غير البيهقى من أهل السنن )
سنن البيهقى كلاً برقمه .
وهنا نأتى إلى نهاية ما أتى فى السنن والصحاح والمسانيد عن الأعتكاف ونسوق إليكم الأن بعض فتاوى أهل العلم حول الموضوع نفسه والله الهادى إلى سواء السبيل
******
من فتاوى ورسائل الشيخ : أبن عثيمين
854 سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: هل يشرع الاعتكاف في غير رمضان؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع أن يكون في رمضان فقط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في غير رمضان إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف عاماً في رمضان فاعتكف في شوال، ولكن لو اعتكف الإنسان في غير رمضان لكان هذا جائزاً، لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني نذرت أن أعتكف ليلة، أو يوماً في المسجد الحرام» فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أوف بنذرك» لكن لا يؤمر الإنسان ولا يطلب منه أن يعتكف في غير رمضان.
* * *(1/90)
954 سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، والمساجد الثلاثة هي: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فإن هذه الا?ية خطاب لجميع المسلمين، ولو قلنا: إن المراد بها المساجد الثلاثة لكان أكثر المسلمين لا يخاطبون بهذه الا?ية، لأن أكثر المسلمين خارج مكة والمدينة والقدس، وعلى هذا فنقول: إن الاعتكاف جائز في جميع المساجد، وإذا صح الحديث أنه: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» فإن المراد الاعتكاف الأكمل والأفضل، ولا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل من غيره، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
* * *
064 سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: عن حكم الاعتكاف في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجزاكم الله خيراً؟(1/91)
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى مشروع في وقته، ولا يختص بالمساجد الثلاثة، بل يكون فيها وفي غيرها من المساجد، هذا قول أئمة المسلمين أصحاب المذاهب المتبوعة كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة وغيرهم ـ رحمهم الله ـ لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولفظ المساجد عام لجميع المساجد في أقطار الأرض، وقد جاءت هذه الجملة في آخر آيات الصيام الشامل حكمها لجميع الأمة في جميع الأقطار، فهي خطاب لكل من خوطبوا بالصوم، ولهذا ختمت هذه الأحكام المتحدة في السياق والخطاب بقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }. ومن البعيد جداً أن يخاطب الله الأمة بخطاب لا يشمل إلا أقل القليل منهم، أما حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» فهذا ـ إن سلم من القوادح ـ فهو نفي للكمال، يعني أن الاعتكاف الأكمل ما كان في هذه المساجد الثلاثة، وذلك لشرفها وفضلها على غيرها. ومثل هذا التركيب كثير، ـ أعني أن النفي قد يراد به نفي الكمال، لا نفي الحقيقة والصحة ـ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام» وغيره. ولا شك أن الأصل في النفي أنه نفي للحقيقة الشرعية أو الحسية، لكن إذا وجد دليل يمنع ذلك تعين الأخذ به، كما في حديث حذيفة. هذا على تقدير سلامته من القوادح، والله أعلم.
كتبه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 11/9/9041هـ.
* * *
164 سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: عن أركان الاعتكاف وشروطه، وهل يصح بلا صوم؟(1/92)
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف ركنه كما أسلفت لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل تعبداً له، وتقرباً إليه، وتفرغاً لعبادته، وأما شروطه فهي شروط بقية العبادات فمنها: الإسلام، والعقل، ويصح من غير البالغ، ويصح من الذكر، ومن الأثنى، ويصح بلا صوم، ويصح في كل مسجد.
* * *
264 سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: المرأة إذا أرادت الاعتكاف فأين تعتكف؟
فأجاب فضيلته بقوله: المرأة إذا أرادت الاعتكاف فإنما تعتكف في المسجد إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي، وإن كان في ذلك محذور شرعي فلا تعتكف.
* * *
وقال الشيخ عبد الله بن ناصر السعدى رحمه الله تعالى فى تفسيره :
" والعاكفين والركع السجود "
أي : المصلين قدم الطواف لاختصاصه بالمسجد الحرام ثم الاعتكاف لأن من شرطه المسجد مطلقا ثم الصلاة مع أنها أفضل لهذا المعنى
وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة ، لاختصاصه بهذا البيت ثم الاعتكاف ، لاختصاصه بجنس المساجد .
وقال أيضاً فى قوله تعالى :
" ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد "
أي : وأنتم متصفون بذلك ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله [ تعالى ] وانقطاعا إليه وأن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد
ويستفاد من تعريف المساجد أنها المساجد المعروفة عندهم وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف
****
وفى أسألة أجاب عنها فضيلة الشيخ : عبد الرحمن السحيم حفظه الله تعالى :
***
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ماذا بالنسبة لاعتكاف المرأة ، أين يفضل لها أن تعتكف ،
وإذا اعتكفت في منزلها وأثناء اعتكافها درست ، فهل تعتبر الدراسة هنا عبادة ؟؟
جزاك الله خيراً شيخنا الفاضل .
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الاعتكاف سنة ، وأفضله ما كان في رمضان وأفضل ذلك أن يكون في العشر الأواخر
ولا يصح إلا في مسجد ، ونص بعض العلماء على أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة(1/93)
لقوله عليه الصلاة والسلام : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة . رواه البيهقي وصححه الألباني .
ولا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل من غيرها ، ويُحمل الحديث على الأكمل والأفضل .
وينبغي أن يكون الاعتكاف في مسجد جمعة إذا كان يتخلل اعتكاف المعتكِف صلاة جمعة
ويجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد بشرط أذن الولي وأمن الفتنة .
وقد استأذنت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف ، فأذِن لهن ابتداء .
ولا يصح الاعتكاف في البيت .
والله تعالى أعلم .
=====================
سؤال عن فضل اعتكاف العشر الأواخر من رمضان .
الاعتكاف سُنة
فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف أصحابه وأزواجه
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان . رواه البخاري .
أي من أوله أو وسطه أو آخره
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يوما . رواه البخاري ومسلم .
ومما يدل على تأكد استحباب الاعتكاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاته الاعتكاف قضاه في شوال . كما في الصحيحين .
وينبغي لمن اعتكف أن يشتغل بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن
ولا يشتغل بالأحاديث الجانبية مع المصلين أو مع المعتكفين
ولا يجعل وقته كله للنوم
والمعتكف قد جعل هذا الوقت كله لله ، فإذا كان كذلك كان وقته كله عباده حتى نومه وأكله وشربه .
وإذا كان المُعتكِف سوف يعتكف العشر الأواخر فلا يعتكف إلا في مسجد جامع حتى لا يخرج من معتكفة
ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا لحاجته الضرورية كالطعام وقضاء الحاجة .
ويجوز للمرأة أن تعتكف إذا أذن وليّها وأمنِت الفتنة .
والجماع يقطع الاعتكاف ويُفسده
وللمعتكف أن يقطع اعتكافه وليس عليه إثم إلا أن الأفضل أن يُتمه
والله أعلم
= = = = = = = = = = = = = = = =
من فتاوى الشيخ عبد الرحمن السحيم .(1/94)
المشرف العام على شبكة مشكاة الإسلامية
****
تم الكلام وربنا المحمود وله المحاسن والعلا والجود
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله الأبرار وصحبه الأطهار ومن سلك سبيلهم ودربهم إلى دار القرار جنة مولانا الخالق العزيز الغفار .
سبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
خادم كتاب الله وسنة رسوله
أبا كفاح الدين أحمد بن محمد السعيد
الشهير بابن دقيق العيد
وللمراسلة والدلالة على الخير
Ahmed_kfah@hotmail.com
يوم الخميس الموافق
15 من شهر رمضان لسنة 1428 من هجرة خير البشر .
27 سبتمبر 2007 من ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام(1/95)