|
محمد بن صالح العثيمين
تم استيراده من نسخة: عبد الحميد بن عبد الستار
قوله : (أنما إلهكم إله واحد) . هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل (يوحى) ،وفيها حصر طريقه (إنما) ، فيكون معناها : ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله، فإذا ثبت ذلك، فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه ، ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )( الكهف : 110) .
قوله تعالى : (فمن كان يرجو لقاء ربه) المراد بالرجاء : الطلب والأمل، أي : من كان يؤمل أن يلقى ربه ، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة ، لأن اللقيا على نوعين :
الأول : عامة لكل إنسان ، قال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق : 6) ولذلك قال مفرعا على ذلك : (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) (الانشقاق : 7) (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ...) الآية (الانشقاق :10)
الثاني : الخاصة بالمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم .
فقوله : (فليعمل عملا صالحا) الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر لإرشاد، أي : من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه،فليعمل عملا صالحا ، والعمل الصالح : ما كان خالصا صوابا .
وهذا وجه الشاهد من الآية .
فالخالص : ما قصد به وجه الله، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الاعمال بالنيات )(1)
والصواب : ما كان على شريعة الله والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا،فهو رد)(3) .
ولهذا قال العلماء : هذان الحديثان ميزان الأعمال، فالأول ميزان الأعمال الباطنة . والثاني : ميزان الأعمال الظاهرة .
قوله : (ولا يشرك) . لا : ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد .
(65/83)
قوله : (بعبادة ربه أحدا) . خص العبادة لأنها خالص حق الله ، ولذلك أتى بكلمة (رب) إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك ، فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل : (لا يشرك بعبادة الله )، فذكر الرب من باب التعليل ، كقوله تعالى : (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) .
وقوله : (أحدا) نكرة في سياق النهي، فتكون عامة لكل أحد .
والشاهد من الآية : أن الرياء من الشرك ، فيكون داخلا في النهي عنه .
وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله، لأن الملاقاة معناها المواجهة .
وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يستحق أن يعبد ، لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله .
وعن أبي هريرة مرفوعا : قال : قال الله تعالى :(أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري ، تركته وشركه ) رواه مسلم . (1)
ـــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث أبي هريرة : (قال الله تعالى). هذا الحديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي .
قوله : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) . قوله : (أغنى). اسم تفضيل،وليست فعلا ماضيا، ولهذا أُضيفت إلى الشركاء .
يعني:إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره،فالله أغنى الشركاء عن المشاركة .
فاله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق له وحده، فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره !فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان : (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان :13)، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلي غيره ؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم .
قوله : (عملا) . نكرة في سياق الشرط، فتعم أي عمل من صلاة ،أو صيام، أو حج ، أو جهاد، أو غيره .
(65/84)
قوله : (تركته وشركه) . أي : لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه .
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله، لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه .
والمراد بشركه : عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه، لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه ، كمن أشرك نبيا أو وليا،فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي .
ويستفاد من هذا الحديث :
1 . بيان غنى الله تعالى، لقوله : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) .
بيان عظم حق الله وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه .
بطلان العمل الذي صاحبه الرياء، لقوله : ( تركته وشركه)
تحريم الرياء، لأن ترك الإنسان وعمله وعدم قبوله يدل على الغضب، وما أوجب الغضب، فهو محرم
أن صفات الأفعال لا حصر لها، لأنها متعلقة بفعل الله ، ولم يزل الله ولا يزال فعالا .
***
وعن أبي سعيد مرفوعا : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟) قالوا بلي . قال : ( الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل إليه )رواه احمد (1)
ــــــــــــــــ
قوله في حديث أبي سعيد : (ألا) .أداة عرض، والغرض منه تنبيه المخاطب، فهو ابلغ من عدم الإتيان بها .
قوله : (بما هو) . ما : اسم موصول بمعني الذي .
قوله : (أخوف عليكم عندي). أي عند الرسول صلى الله عليه وسلم من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، واعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال،لكن خوف النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جدا ، ولذلك قال بعض السلف : (ما جاهدت نفسي على شي مجاهدتها على الإخلاص)،وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه)(2) ، ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله – عز وجل - .
(65/85)
قوله : (المسيح الدجال). المسيح، أي : ممسوح العين اليمنى، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيبين في الدجال :
أحدهما حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يخفي عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى)(2) .
والثاني معنوي، وهو الدجال، فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصف الملازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم، ولكن الله –سبحانه وتعالى – بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنة عظيمة، إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال .
والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة، وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا : ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به ، ولكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم ، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون كيف يكون اليوم عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟ وهذا لا شك جهل منهم بالله ، فالذي جعل هذا النظام هو الله، وهو القادر على أن يغيره متى شاء، فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء،كل ذلك بكلمة (كن) ، ورود هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى : (وما قدروا الله حق قدره) (الزمر: 67) .
فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان ، ويحصل منه كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
(65/86)
ونؤمن أن الله على كل شي قدير ، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم، ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم ،تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلى الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) (الحج:11) .
قوله : (الشرك الخفي) . الشرك قسمان خفي وجلي.
فالجلي : ما كان بالقول مثل الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل : مثل الانحناء لغير الله تعظيما .
والخفي : ما كان في القلب ، مثل : الرياء، لأنه لا يبين ،إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى أيضا (شرك السرائر) وهذا هو الذي بينه الله بقوله: ( يوم تبلى السرائر)(الطارق: 9) لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور* وحصل ما في الصدور) (العاديات : 10،9) ، وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله : أنه (يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله)(1) .
قوله : (يقوم الرجل، فيصلي فيزين صلاته) . يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف ، لقصد التخصيص ولكن لضرب المثل.
قوله : (فيزين صلاته) . أي : يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك .
(65/87)
قوله : (لما يرى من نظر الرجل إليه) . (ما) موصولة، وحذف العائد، أي : للذي يراه من نظر رجل ، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة، فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه ، وهذا شرك .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف. الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شي لغير الله . الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. الرابعة : أن من السباب أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء
ـــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف وسبق الكلام عليها .
الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شي لغير الله . وذلك لقوله : ( تركته وشركه) ، وصار عظيما، لأنه ضاع على العامل خسارا،وفحوى الحديث تدل على غضب الله – عز وجل – من ذلك .
الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى . يعني : الموجب للرد هو كمال غنى الله – عز وجل – عن كل عمل فيه شرك ، وهو غني عن كل عمل ، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه .
الرابعة : أن من السباب أنه تعالى خير الشركاء. أي : من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا، أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه .
الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال) . وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه ، فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى .
السادسة : أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله ، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه . وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء، فيكون أخوف علينا عند رسوله صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال .
(65/88)
ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من المسيح الدجال، لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته .
****
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله في الدنيا
ــــــــــــــــــ
قوله : (من الشرك) . للتبعيض، أي : بعض الشرك .
قوله (الدنيا). مفعول بإرادة ، لأن إرادة المصدر مضاف إلى فاعله ، وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله، فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا : باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا ، فالإنسان فاعل ، وعلى هذا ، فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله ، والدنيا مفعول به .
وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات :
الأول : أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد
الثاني : أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب، لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم،وهذا محتمل .
الثالث : أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر، لأن الإنسان في الباب السابق، يعمل رياء يريد أن يمدح في العبادة، فيقال : هو عابد، ولا يريد النفع المادي .
وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة ، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه وأهله وولده وما أشبه ذلك، فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة .
* أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا :
1. أن يريد المال، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال .
2. أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته .
3. أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه، كمن تعبد الله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له ودفع السوء عنه وما أشبه ذلك .
4. أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير .
وهناك أمثلة كثيرة .
تنبيه :
(65/89)
فإن قيل : هل يدخل من يتعلمون في الكليات أو غيرها يريدون شهادة أو مرتبة بتعلمهم ؟
فالجواب : أنهم يدخلون في ذلك إذا لم يريدوا غرضا شرعيا ، فنقول لهم :
أولا : لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق، لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة .
ثانيا : أن المراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات، فيدخل كلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة، فإنها لاتهمه .
ثالثا : أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين – حسنى الدنيا وحسني الآخرة - ،فلا شي عليه لأن الله يقول:(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق : 3،2)، رغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب .
فإن قيل : من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص مع أنه أراد المال مثلا ؟
أجيب : إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم ، بل قصد أمرا ماديا، فإخلاصه ليس كامل لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله ، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك ، بل أراد شيئا دنيئا غيره .
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلى من أجل هذا الشي ، فهذه مرتبة دنيئة .
أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية ، كالبيع، والشراء، والزراعة، فهذا لا شي فيه ، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة إذا خالطها الرياء في باب الرياء.
ملاحظة :
(65/90)
بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون : في الصلاة رياضة وإفادة الأعصاب ، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترطيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل ، لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر .
وعن الصوم أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية ، لكن عندما نتكلم عند عامة الناس ، فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشي مادي ، فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ، ولكل مقام مقال .
****
قوله تعالى : (من ) (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15)
ـــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (من كان يريد الحياة الدنيا) . أي : البقاء في الدنيا .
قوله : (وزينتها) . أي : المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة ، كما قال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (آل عمران:14) .
قوله :(نوف إليهم) . فعل مضارع معتل مجزوم بحذف حرف العلة – الياء - ،لأنه جواب الشرط .
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الاحقاف: من الآية20).
(65/91)
ولهذا لما بكى عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثر في جنبه الفراش، فقال : (ما يبكيك؟) . قال: يا رسول الله ! كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال. فقال رسول صلى الله عليه وسلم : (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم )(1) ، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
قوله : (وهم فيها لا يبخسون) . البخس : النقص، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطون ما أرادوه .
قوله : (أولئك) . المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
قوله : (ليس لهم في الآخرة إلا النار) . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
قوله :(وحبط ما صنعوا فيها) . الحبوط : الزوال، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
قوله : (وباطل ما كانوا يعملون) . (باطل) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ (ما) في قوله : (ما كانوا يعملون) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة . وقوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها لا يبخسون) مخصوصة بقوله تعالى : (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا)( الإسراء : 18) .
فإن قيل : لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد ؟ ثم وعد أن يعطيه ما يشاء ؟
أجيب : إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين :
أولا : أن القاعدة الشرعية
(65/92)
في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم ، وآية هود عامة ، لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطى ما أراد أن يعطي ، أما آية الإسراء ، فهي خاصة : ( عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) (الإسراء : 18) ، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص .
الثاني : أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء : لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين، فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء ، فالأمر موكول إلى مشيئة الله و فيمن يريده .
واختلف فيمن نزلت فيه آية هود :
1. قيل : نزلت في الكفار، لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا ، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شي من ذلك ، ففيه شي من شر كهم وكفرهم .
2. وقيل : نزلت في المرائين، لأنهم لا يعلمون إلا للدنيا، فلا ينفعهم يوم القيامة .
3. وقيل : نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح .
والسياق يدل للقول الأول ، لقوله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16) .
تنبيه :
اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا أن يكون خيرا .
***
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار ؛ تعس عبد الدرهم ؛ تعس عبد الخميصة؛ تعس عبد الخميلة ؛ إن اعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ؛ وإذا شيك فلا انتفش. طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، اشعث راسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وغن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن إستاذن ، لم يؤذن له ، وإن شفع ، لم يشفع له )(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
(65/93)
قوله : (وفي الصحيح عن أبي هريرة) . سبق الكلام على قول المؤلف : ( وفي الصحيح) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله (تعس) . بفتح العين أو كسرها ، أي خاب وهلك .
قوله : (عبد الدينار). الدينار : هو النقد من الذهب ، والدينار الإسلامي زنته مثقال ، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه ، فيقول في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة ، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال ، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل .
وقد أراد المؤلف لهذا الحديث أن يتبين أن من الناس من يعبد الدنيا ، أي : يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت ، ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا شأنه عبدا لها ، وهذا من يعني بجمع المال من الذهب والفضة ، بعمله في الدنيا .
قوله (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) . وهذا من يعني بمظهره وأثاثه، لأن الخميصة كساء جميل والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها لا جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ فهذا أعظم .
(65/94)
قوله : (إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ) . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا ، أي : أن قدر الله له الرزق والعطاء رضى واشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه . والله – سبحانه وتعالى – يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطى الدين إلا لمن يحب . والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وأن منع صبر . ويحتمل أن يراد بالإعطاء الشرعي، أي : إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وأن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدا له . قوله ( تعس وانتكس) . تعس، أي : خاب وهلك ، وانتكس، أي : انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال : (وإذا شيك فلا انتفش) . أي إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه . وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبرا منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى،ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حالة ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله :طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله) . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
(65/95)
و(طوبى) فُعلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل : إن طوبى شجرة في الجنة ، والأول أعم ، كما قالوا في ويل : كلمة وعيد ، وقيل : واد في جهنم ، والأول أعم .
وقوله : (آخذ بعنان فرسه) . أي : ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .
قوله : (في سبيل الله) . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من قُتل دون ذلك، فهو شهيد) ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : ( أشعث رأسه، مغبرة قدماه) . أي : رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله – عز وجل – وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شي عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه نظيفا ، فليس له هم فيه .
قوله : (إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، فهو في الساقة) . الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش، فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان :
أحدهما : أنه لا يبالي أين وضع ، إن قيل له : احرس، حرس، وإن قيل له : كن في الساقة، كان فيها ، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا .
(65/96)
الثاني ، إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث الصالح لمعنيين، يحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا . قوله : (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له). أي:هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة، فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيل الله . والشفاعة : هي التوسط لغير يجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشي . والحديث قسم الناس إلى قسمين :
الأول : ليس له هم إلا الدنيا، أما لتحصيل المال ، أو تجميل الحال ، فقد استعبدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته .
الثاني : أكب همه الآخرة ، فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه .
ويستفاد من الحديث :
1. أن الناس قسمان كما سبق .
2. أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له .
3. أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه ، إما في الحراسة ،أو الساقة ، أو القلب، أو الجنب، حسب المصلحة.
4. أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله – عز وجل – فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع وإن استأذن لم يؤذن له قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (طوبى له) ، ولم يقل إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسال عنها، لمن يهمه الخير فيشفع للناس ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة .
فيه مسائل :
(65/97)
الأولى : إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة . وهذا من الشرك، لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة ، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة .
الثانية : تفسير آية هود. وقد سبق ذلك .
الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص ، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله – عز وجل – ومحبة أعمال الخير.
الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط. وهذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم : (عبد الدينار، عبد الدرهم ،عبد الخميصة، إن أعطي رضى وإن لم يعط سخط) ، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء .
الخامسة : قوله (تعس وانتكس) .
السادسة : قوله : (إذا شيك فلا انتفش) يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء ، وسبق شرح ذلك .
السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
فقوله في الحديث (طوبى لعبد ....) يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير وأصحاب الفرش والمراتب .
****
باب من أطاع الله العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحيل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله ( من أطاع العلماء). (من) يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله : (فقد اتخذهم ) ، لأنه جواب الشرط ، ويحتمل أن تكون موصولة ، أي : (باب الذي أطاع العلماء) .
قوله : ( فقد اتخذهم) . خبر مبتدأ ، وقرنت بالفاء، لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم،وعلى الأول تقرأ (باب) بالتنوين ، وعلى الثاني بدون تنوين ، والأول أحسن .
(65/98)
والمراد بالعلماء : العلماء بشرع الله ، والأمراء: أولو الأمر المنفذون له ، وهذا الصنفان هم المذكوران في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) (النساء :59) ، فجعل الله طاعته مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة، وطاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم يكرر الفعل (أطيعوا) فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وأولو الأمر هم أولو الشأن، وهم العلماء ، لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به ، والأمراء ، لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور، وبفسادهم تفسد الأمور، لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة ، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ.
قوله : (في تحريم ما أحل الله) . أي : في جعله حراما، أي : عقيدة أو عملا.
(أو تحليل ما حرم الله) . أي : في جعله حلالا عقيدة أو عملا ، فتحريم ما احل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله ، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين ، وكلاهما خطأ، ومع ذلك ، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال ، لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل وهو الحل ، ورحمة الله – سبحانه – سبقت غضبه، فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه ، ولأنه أضيق وأشد ، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم .
أما في العبادات فيشدد ، لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل :
والأصل في الأشياء حل وامنع عبادة إلا بإذن الشارع
قوله : (أربابا) . جمع رب ، وهو المتصرف المالك .
والتصرف نوعان : تصرف قدري ، وتصرف شرعي .
(65/99)
فمن أطاع العلماء في مخافة أمر الله ورسوله ، فقد اتخذهم أربابا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي، لأنه اعتبرهم مشرعين واعتبر تشريعهم شرعا يعمل به ، وبالعكس الأمراء .
وقال ابن عباس : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ،
ــــــــــــــــــــــ
****
قول ابن عباس : (حجارة من السماء) . أي : من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم ، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل، بل هو ممكن ، قال تعالى في أصحاب الفيل : (وأرسل عليهم طيرا أبابيل *ترميهم بحجارة من سجيل) (الفيل : 4،3) وقال تعالى في قوم لوط : (إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر) (القمر :24) .
والحاصب : الحجارة تحصبهم من السماء .
قوله : (أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟!) أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب، قال النبي صلي الله عليه وسلم : (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) . رواه مسلم(2) ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال : (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)(3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)(4) . ولم يعرف عن أبي بكر أنه خالف نصا في رأيه ، فإذا كان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء ، فما بالك بمن يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بمن هو دون أبي بكر وعمر؟ والفرق بين ذلك كما بين السماء والأرض ، فيكون هذا أقرب للعقوبة .
(65/100)
وقال أحمد بن حنبل : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي شفيلن ، والله تعالى يقول : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63) اتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) (1)
ـــــــــــــــــــ
وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنيا على أساس سليم .
وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشا إذا قيل له : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ، قال : لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا ، فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه : (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص :65) ، ولم يقل ماذا أجبتم فلانا وفلانا ، أما صاحب الكتاب ، فإنه علم أنه يحب الخير ويريد الحق ، فإنه يدعى له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ ، ولا يقال : إنه معصوم ، يعارض بقوله قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
****
قول أحمد رحمه الله : (عجبت) العجب نوعان :
الأول : عجب استحسان، كما في حديث عائشة رضى الله عنها : (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله : في طهوره، وترجله، وتنعله)(2) .
الثاني : عجب إنكار ، كما في قوله تعالى : (بل عجبت ويسخرون) (الصافات :12) ، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار .
قوله : (الإسناد) . المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه، أي : عرفوا صحة الحديث بعرفة الرجال .
قوله : ( يذهبون إلى رأي سفيان ) . أي : سفيان الثوري ، لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا ، فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث!
(65/101)
قوله : (والله يقول : (فليحذر) ) . الفاء عاطفة ، واللام للأمر ، ولهذا سكنت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر، لالتقاء الساكن .
قوله : (عن أمره) . الضمير يعود للرسول صلى الله عليه وسلم ،بدليل أول الآية قال تعالى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (النور:63) .
فإن قيل : لماذا عدى الفعل ب: (عن) مع أن (يخالف) يتعدى بنفسه ؟
أجيب:أن الفعل ضمن معنى الإعراض، أي : يعرضون عن أمره زهدا فيه وعدم مبالاة به .
و(أمره) : واحد الأوامر وليس واحد الأمور ، لأن الأمر هو الذي يخالف فيه ، وهو مفرد مضاف ، فيعم جميع الأوامر .
(فتنة).الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك ، وعلى هذا يكون الوعد بأحد أمرين : إما الشرك ، وإما العذاب الأليم
***
وعن عدي بن حاتم : انه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :( )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم . قال : ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟) فقلت بلي ، قال : ( فتلك عبادتهم) . رواه أحمد والترمزي وحسنه (1)
ــــــــــــــــــــ
قوله في حديث عدى بن حاتم : (اتخذوا) . الضمير يعود للنصارى ، لأن اليهود لم يتخذوا المسيح ابن مريم إلها ، بل ادعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وادعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصارى جميعا ويختص النصارى باتخاذ المسيح ابن مريم ، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها .
(65/102)
قوله : (أحبارهم ورهبانهم) . الأحبار : جمع حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، وهو العالم الواسع العلم، والرهبان : جمع راهب، وهو العابد الزاهد .
قوله : (والمسيح ابن مريم) . أي : اتخذوه إلها مع الله ، بدليل قوله تعالى : ( وما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) ، والعبادة : التذلل والخضوع ، واتباع الأوامر واجتناب النواهي .
قوله : (إلها واحدا) . هو الله – عز وجل - ، وإله، أي : مألوه معبود مطاع ، وليس بمعنى آله ، أي : قادر على الاختراع ، فإن هذا المعنى فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم ، فيكون معنى (لا إله إلا الله) على هذا القول : لا رب إلا الله ، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة، إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موحدين ، لأنهم يقولون : لا رب إلا الله ، قال تعالى : (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله) ( المؤمنون : 86) وهذه إحدى القراءتين ، وهي سبعيه .
قوله : (سبحانه عما يشركون) . (سبحان) : اسم مصدر ، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبا تقديره يسبح سبحانا ، أي : تسبيحا ، لأن اسم المصدر بمعنى المصدر ، فسبحان : مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبا وهي ملازمة للإضافة : إما إلى مضمر ، كما في الآية :( سبحانه)، أو إلى مظهر كما في (سبحان الله) .
والتسبيح : التنزيه، أي : تنزيه الله عن كل نقص ، ولا يحتاج أن نقول : ومماثلة المخلوقين ، لأن المماثلة نقص ، ولكن إذا قلناها ، فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى : تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين .
وقوله : (عما يشركون) . أي : مما سواه من المسيح ابن مريم والأحبار والرهبان ، فهو متنزه عن كل شرك وعن كل مشرك به .
(65/103)
قوله : (عما يشركون) . هذا من البلاغة في القرآن ، لأنها جاءت محتملة أن تكون (ما) مصدرية، فيكون المعنى من شركهم ، أو موصولة، ويكون المعنى : سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة الأمرين ، فتكون شاملة لهما لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض، فيكون التنزيه عن الشرك وعن المشرك به .
قوله : (إنا لسنا نعبدهم) . أي : لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم ولا نركع ولا نذبح ولا ننذر لهم ، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان بدليل قوله : (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟!) .
فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدا ، لأنه رسول الله ، فما أحله ، فقد أحله الله ، وما حرمه ، فقد حرمه الله ، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعنى مع ضعف سنده ، والحديث حسنة الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون .
ويجاب على التعليل المذكور بأن قول عدى : (لسنا نعبدهم) يعود على الأحبار والرهبان ، أما عيسى ابن مريم ، فالمعروف أنهم يعبدونه .
وبدأ بتحريم الحلال ، لأنه أعظم من تحليل الحرام ، وكلاهما محرم ، لقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116) .
قوله : (فتلك عبادتهم) ووجه كونه عبادة : أن من معنى العبادة الطاعة ، وطاعة غير الله عبادة للمطاع ، ولكن بشرط أن تكون في غير طاعة الله ، أما إذا كانت في طاعة الله فهي عبادة لله، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت ، فلا تكون قد أباك أبوك بطاعتك له ، ولكن عبدت الله ، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره هو امتثال لأمر الله .
ويستفاد من هذا الحديث :
(65/104)
1. أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة .
2. أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع ، أما في عبادة الله ، فهي عبادة لله .
3. أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابا.
واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يتابعهم في ذلك راضيا بقولهم ، مقدما له ، ساخطا لحكم الله فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله ، فأحبط الله عمله ، ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر ، فكل من كره ما أنزل الله ، فهو كافر.
الثاني : أن يتابعهم في ذلك راضيا بحكم الله وعالما بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد ، ولكن لهوى في نفسه اختاره ، كأن يريد مثلا وظيفة ، فهذا لا يكفر ، ولكنه فاسق وله حكم غيره من العصاة .
الثالث : أن يتابعهم جاهلا ، فيظن أن ذلك حكم الله ، فينقسم إلى قسمين :
أ – أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه ، فهو مفرط أو مقصر ، فهو آثم ، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم .
ب – أن لا يكون عالما ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدا ويظن أن هذا هو الحق ، فهذا لا شي
عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذور بذلك ،ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من أفتي بغير علم ، فإنما إثمه على من أفتاه) (1)،لو قلنا : بإثمه بخطأ غيره ، لزم من ذلك الحرج والمشقة ، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه .
فإن قيل : لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني ؟
أجيب : إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله .
فائدة :
وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاث أوصاف :
1. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44) .
(65/105)
2. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْظالمون) (المائدة: من الآية45) .
3. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفاسقون) (المائدة: من الآية47) .
واختلف أهل العلم في ذلك :
فقيل:إن هذه الأوصاف لموصوف واحد،لأن الكافر ظالم،لقوله تعالى(والكافرون هم الظالمون) (البقرة:254) وفاسق، لقوله تعالى:(وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)(السجدة:33)،أي:كفروا .
وقيل : إنها لموصفين متعددين ، وإنها على حسب الحكم ، وهذا هو الراجح .
فيكون كافرا في ثلاثة أحوال :
أ – إذا اعتقد جواز الحكم بغير الله ما أنزل الله ، بدليل قوله تعالى : (أفحكم الجاهلية يبغون) (المائدة :50) فكل ما خالف حكم الله، فهو من حكم الجاهلية ، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمحل والمبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن .
ب – إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
ج – إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
بدليل قوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة : 50) ، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام ، بدليل قوله تعالى مقررا ذلك : (أليس الله بأحكم الحاكمين) (التين : 8) فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاما وهو أحكم الحاكمين ، فمن أدعى أن حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مكذب للقرآن .
ويكون ظالما : إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام ، وأنه أنفع للعباد والبلاد ، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله ، فهو ظالم .
(65/106)
ويكون فاسقا : إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق ، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا يضر أحدا به، مثل : أن يحكم لشخص لرشوة رشي إياها ، أو لكونه قريبا أو صديقا ، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه ، فهذا فاسق ، وإن كان أيضا ظالما ، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم .
أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر .
ولكن قد يكون الواضع له معذورا ، مثل أن يغرر به كأن يقال : إن هذا لا يخالف الإسلام ، أو هذا من المصالح المرسلة ، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس .
فيوجد بعض العلماء – وإن كانوا مخطئين – يقولون : إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع ، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه ، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكا للربا أو ضرائب على الناس، فهذا لا شي فيه .
وهذا لا شك في خطئه ، فإن كان مجتهدين غفر الله لهم ، وإلا ، فهم على خطر عظيم ، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء الملة .
ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها ، فالشرع كامل من جميع الوجوه ، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة : 3) .
وكيف يقال:إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات ، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس ؟
(65/107)
وأنا لا أقول : نأخذ بكل ما قاله الفقهاء ، لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون ، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجد حال من الأحوال تقع بين الناس إلا في كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها ، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم ، وهذا قصور ، أو نقص التدبر ، وهذا تقصير .
أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق ، فلا بد أن يصل إليه حتى في المعاملات ، قال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن) (النساء :82 ) وقال تعالى : (أفلم يدبروا القول) (المؤمنون : 68) وقال تعالى : (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (ص : 29) ، وقال تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي) (النحل : 89) فكل شي يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه ، فإن القرآن بينه بيانا شافيا .
ومن سن قوانين تخالف الشريعة وادعى أنها من المصالح المرسلة ، فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع ، وإن لم يعتبرها ، فليست مصالح ، ولا يمكن أن تكون كذلك ، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة ، بل ما اعتبره الشرع ، فهو مصلحة ، وما نفاه ، ليس بمصلحة ، وما سكت عنه فهو عفو .
والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس ، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها ، كعيد ميلاد الرسول ، فزعموا أن فيه شحذا للهمم وتنشيطا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا باطل ، لأن جميع المسلمين في صلاة يشهدون أن محمدا عبده ورسوله ويصلون عليه ، والذي لا يحي قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحي قلبه بساعة يؤتى فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذه مفسدة وليست مصلحة .
(65/108)
فالمصلحة المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار ، فلاشك أن مرادهم نصر الله ورسوله ، ولكن استخدمت هذا المصالح في غير ما أولئك العلماء وتوسع فيها ، وعيه ، فإنها تقاس بالمعيار الصحيح ، فإن اعتبرها الشرع قبلت ، وإلا ، فكما قال الإمام مالك : (كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ) وهنالك قواعد كليات تطبق عليه الجزئيات .
وليعلم أنه يجب أن يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام ، فلا يتسرع في البت بها خصوصا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية، مع إن الإنسان إذا كفر شخصا ولم يكن الشخص أهلا له عاد ذلك إلى قائله ، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة،فيكون مباح الدم والمال ، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر ، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله ، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين ، فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين :
1. ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر .
2. انطباق شروط التكفير عليه ، وأهمها بأن هذا مكفر ، فإن كان جاهلا ،فإنه لا يكفر ، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد أن يكون عالما بالتحريم ، وهذا وهو إقامة حد وليس بتكفير ، والتحرز من التكفير أولى وأحرى .
(65/109)
قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: من الآية165) وقال تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسول) (الإسراء : 15) وقال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ )(التوبة: من الآية115) ولابد من توفر الشروط من عدم الموانع ، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر،لقوله تعالى:(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من إكراه و قلبه مطمئن ) (النحل : 106) ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكة:(اللهم!أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح(1)، فلم يؤاخذ على بذلك) .
***
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النور . وهي قوله تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم) . وسبق تفسيرها
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى:(اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباب من دون الله .) الآية ، وقد سبق ذلك .
الثالثة : التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي . لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة ، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبه ، ولكن بين صلى الله عليه وسلم المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال .
الرابعة : تمثيل ابن عمر عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان . أي : إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقولهما ، فما بالك بمن عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول من دونهما ؟ فهو اشد وأقبح ، وكذلك مثل الإمام احمد بسفيان الثوري وأنكر على من أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستدل بقوله تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) . الآية .
(65/110)
الخامسة : تحول الأحوال إلي هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ... الخ .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ... وهذا لاشك أنه أشد من معرضة قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر .
ثم قال : ( ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين ) ، أي / يركع ويسجد له ، ويعظم تعظيم الرب ، ويوصف بما لا يستحق ، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر .
ثم قال : (وعبد بالمعنى الثاني ) : وهو الطاعة والاتباع من هو من الجاهلين ، فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئا ، فصاروا يعبدون بهذا المعنى ، فيطاعون في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .
وهذا في زمان المؤلف ، فكيف بزماننا ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : (ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا(2) ، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدى من عصر من بعدهم .
والناس لا يحسون بالتغير ، لأن الأمور تأتي رويدا رويدا ، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء ، لوجد التغير الكثير المزعج – نسأل الله السلامة - ، فعلينا الحذر ، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يحمي وأن يصان ، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أبدا مهما كانت منزلته ، وأن الواجب أن نكون عبادا لله – عز وجل – تذللا وتعبدا وطاعة .
(65/111)
هذا الباب له صلة قوية بما قبله ، لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات :
باب قوله تعالي :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:60)
ــــــــــــــــ
****
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب ، وهي قوله تعالى : (أم تر) .
الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) . هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم هنا ، ولم يقل الذين آمنوا ، لأنهم لم يؤامنوا ، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون .
والذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والحكمة ، قال تعالى : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) (النساء : 113) قال المفسرون : الحكمة السنة ، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك ، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم ، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله .
قوله : (إلى الطاغوت) . صيغة مبالغة من الطغيان ، ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله ، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله ، أما الطاغوت بالمعنى الأعم فقد حده ابن القيم بأنه : (كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع ) وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد .
قوله : (وقد أمروا أن يكفروا) . أي : أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء ، فمن أراد التحاكم إليه ، فهذه الإرادة على بصيرة ، إذ الأمر بين لهم .
(65/112)
قوله : (ويريد الشيطان) . جنس يشمل شياطين الإنس والجن .
قوله : (أن يضلهم ضلالا بعيدا) . أي : يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة ، ولكن بالتدريج .
فقوله : (بعيدا) . أي : ليس قريبا ، لكن بالتدرج شيئا فشيئا حتى يوقعهم في الضلال البعيد.
قوله : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ) . أي : قال لهم الناس : أقبلوا (إلى ما أنزل الله) من القرآن (وإلى الرسول) نفسه في حياته وسنته بعد وفاته ، والمراد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته .
قوله : (رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) . الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر ، بدليل قوله : (تعالوا) ، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده . والمعنى : كأنما تشاهدهم .
قوله : (رأيت المنافقين) . إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد :
الأولى : أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين .
الثانية : أن هذا لا يصدر إلا من منافق ، لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صد .
الثالثة : التنبيه ، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه ، فإذا تغير ، حصل له انتباه .
قوله : (رأيت المنافقين) جواب (إذا) ، وكلمة (صد) تستعمل لازمة ،أي : يوصف به الشخص ولا يتعداه إلى غيره ، ومصدرها صدود ، كما في هذه الآية ، ومتعدية ، أي : صد غيره ، ومصدرها صد ، كما في قوله تعالى : (وصدوكم عن المسجد الحرام) (الفتح : 25) .
وقوله : (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . الاستفهام هنا يراد به التعجب ، أي : كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة ، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعد تضاد المعنيين .
(65/113)
فالدنيوية مثل : الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك ، فيأتون يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
والشرعية : إذا أظهر الله رسوله على أمرهم ، خافوا وقالوا : يا رسول الله ! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
قوله : (بما قدمت أيديهم) . الباء : هنا للسببية ، و(ما) اسم موصول ، و(قدمت) صلته ، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم ، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل ، أي : بما قدموه من الأعمال السيئة .
وقوله : (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) . (إن) بمعني : (ما) ، أي : ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار ، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإٌيمان ،أي : نمشي معكم ونمشي الكفار ، وهذه حال المنافقين ، فهم قالوا : أردنا أن حسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين .
قوله : (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) . توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع ، فالله علام الغيوب ، قال تعالى : (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) (ق : 16) بل الله أعلم منك بما فيك ، قال تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) (الأنفال : 24) ، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه ، ولهذا قيل لأعرابي : (بم عرفت ربك ؟) قال : بنقض العزائم ، وصرف الهمم ).
فالإنسان يعزم على الشي ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر .
قوله : (فأعرض عنهم) وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار .
قوله : (وعظهم) . أي : ذكرهم وخوفهم ، ولكن لا تجعلهم أكبر همك ، فلا تخافهم ، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة .
قوله : (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) . اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال :
(65/114)
الأول : أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ ، أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم ، أي : يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا .
الثاني : أن المعنى : انصحهم سرا في أنفسهم .
الثالث : أن المعنى : قل لهم في أنفسهم (أي : في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها ، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة ، لأن اللفظ صالح لها جميعا ، ولا منافاة بينها ، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها ، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض : فإنه يؤخذ بجميع المعاني .
وبلاغة القول تكون في أمور :
الأول : هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشا ، يقول : صبحكم ومساكم (1).
الثاني : أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محددة الموضوع .
الثالث : أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان ، بأن يكون كلامه : سليم التركيب ، موافقا لللغة العربية ، مطابقا لمقتضى الحال .
قال شيخ الإسلام ابن تميمة : (إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله ، لأن هؤلاء يقولون : أنهم يؤمنون بالله ورسوله ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، يعرضون ، ويصدون ، ويقولون : نذهب إلى فلان وفلان ، وإذا اعترض عليهم ، قالوا : نريد الإحسان والتوفيق ، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع ) ذكره رحمه الله في (الفتوى الحموية) .
***
قوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) .
(65/115)
الإفساد في الأرض نوعان :
الأول : إفساد حسي مادي ، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك .
الثاني : إفساد معنوي ، وذلك بالمعاصي ، فهي من أكبر الفساد في الأرض ، قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) ، وقال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى : 30) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96)
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم *ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ِ) (المائدة : 65 -66) .
قوله : (إنما نحن مصلحون) . وهذه دعوى من أبطل الدعاوى ، حيث قالوا : ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح .
ولهذا قال تعالى : (ألا إنهم هم المفسدون). (ألا) : أداة استفتاح ، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات ، وهي (ألا) ، و(إن) ،و ضمير الفصل (هم) والجملة الاسمية ، فالله قابل حصرهم بأعظم منه ، فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم. ومناسبة الآية للباب ظاهرة ، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر الفساد في الأرض.
الآية الثالثة قوله تعالى: (لا تفسدوا في الأرض).يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق .
قوله : (بعد إصلاحها). من قبل المصلحين ، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف ، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
(65/116)
وقوله (بعد إصلاحها) من باب تأكيد اللوم والتوبيخ ، إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر؟ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح ، وإن كان المطلوب هو الإصلاح قبل بعد الفساد .
ومناسبة الآية للباب : أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح ، وإن التحاكم إلى غيره هو الإفساد .
وقوله :(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )(لأعراف: من الآية56)
وقوله : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)
ــــــــــــــــ
****
الآية الرابعة قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون )
الاستفهام للتوبيخ ، و(حكم) مفعول مقدم ل (يبغون) ، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى : أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية .
و(يبغون) : يطلبون ، والإضافة في قوله : ( حكم الجاهلية) تحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المعنى : أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون ، فيريدون أن يعبدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة ، ومنها : البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد .
ثانيهما : أن يكون المعنى : أفحكم الجهل الذي لا يبني على العلم يبغون ، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن ، وهذا أعم . والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير .
وكل حكم يخالف حكم الله ، فهو جهل وجهالة . فإن كان مع العلم بالشرع ، فهو جهالة ، وإن كان مع خفاء الشرع ، فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا ،قال تعالى: (إنما التوبة على الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) (النساء :17) ، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه ، لكن عليه أن يتعلم .
(65/117)
قوله : (ومن أحسن من الله حكما) . (من) : اسم استفهام بمعنى النفي، أي : لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي ، فهو أبلغ من قول : ( لا أحسن من الله حكما) لأنه متضمن للنفي وزيادة . وقوله : (حكما) .تمييز ، لأنه بعد اسم التفضيل ، وهو مبهم ، فبين هذا التمييز المبهم وميزه . والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي .
فإن قيل : يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، فأين الحسن في ذلك ؟
أجيب أن الغايات المحمودة في هذا الأمور تجعله حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له ، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا ، فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم ، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين : ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقيين) (البقرة : 66) وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد ، كما قال تعالى : ( لقوم يوقنون) ، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله ، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله ، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا ، وعلى هذا فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية .
وقوله : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) . خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا ، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص ، وقالوا : (كل من عند ربنا) (آل عمران :7) وعرفوا حسن أحكام الله تعالى ، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد ، فلم عنها بديلا .
وعن عبد الله بن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن احدكم
ــــــــــــــــــــ
****
(65/118)
قوله في حديث عبد الله بن عمر : (لا يؤمن أحدكم) . أي : إيمانا كاملا إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية ، فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية ، لأنه إذا كره ما أنزل الله ، فقد حبط عمله لكفره ، قال تعالى : (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)(محمد:9)
قوله : ( حتى لا يكون هواه تبعا لما جئت به ) . الهوى بالقصر : هو الميل ، وبالمد هو : الريح ، والمراد الأول .
و (حتى) : للغاية ، والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة .
وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار ، وامتثالا للأوامر ، واجتنابا للنواهي .
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى الإيمان ، قال تعالى : (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه)(الجاثية : 23)، وقال تعالى : (واتبعوا أهواءهم)(محمد : 14)، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه ، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كان محمودا ، وهو من كمال الإيمان .
وقد سبق بيان أن من اعتقد أن حكم الله غير الله مساو لحكم الله ، أو أحسن ، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله ، فهو كافر .
وأما من لم يكن هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان كارها له ، فهو كافر، وإن لم يكن كارها ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك ، فليس كافر ، ولكن يكون ناقص الإيمان .
قوله : (قال النووي : حديث صحيح) . صححه النووي وغيره ، وضعفه جماعة من أهل العلم ، منهم ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) ولكن معناه صحيح .
(65/119)
وقال الشعبي : ( وكان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد ؛ عرف أنه لا ياخذ الرشوة ، وقال المنافق ، نتحاكم إلى اليهود ؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فأتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة ، فيتحاكما غليه ، فنزلت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ)(النساء: من الآية60) (1)
ــــــــــــــــــــــ
***
قوله في أثر الشعبي : (وقال الشعبي) أي : في تفسير الآية .
قوله : (رجل من المنافقين) . وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وسمي منافقا من النّافقاء ، وهي جحر اليربوع ، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء – أي يحفر حفرة في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقى شي قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف – فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء .
قوله :( ورجل من اليهود ) . اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى عليه السلام ، وسموا بذلك إما من قوله : (إنّا هُدنا إليك) ، أي : رجعنا ، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا ، ولكن بعد التعريب صار بالدال .
قوله : (إلى محمد) . أي : النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكره بوصف الرسالة ، لأنهم لا يؤمنون برسالته ، ويزعمون أن النبي الموعود سيأتي .
قوله : (عرف أنه لا يأخذ الرشوة) . تعليل لطلب التحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والرشوة : مثلثة الراء ، فيجوز الرشوة ، الرًّشوة ، الرُّشوة ، وهي المال المدفوع للتوصل إلى شي .
قال أهل العلم:( لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق ، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه ، فليست حراما على الباذل ، أما على آخذها ، فحرام) .
قوله:(فاتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة ) كأنه صار بينهما خلاف ، وأبي المنافق أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
(65/120)
والكاهن : من يدعي علم الغيب في المستقبل ، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء ، فيقولون : سيحدث كذا وكذا ، فربما أصابوا مرة من المرات ، وربما أخطؤوا ، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب ، فكان العرب يتحاكمون إليهم ، فنزل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ). الآية .
***
قوله : (وقيل) . ذكر هذه القصة بصيغة التمريض ، لكن ذكر في (تيسير العزيز الحميد) أنه رويت من طرق متعددة ، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد ، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها . أ . ه .
قوله : (رجلين) . هما مبهمان ، فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين ، ويحتمل أن يكونا من المنافقين ، ويحتمل غير ذلك .
قوله : (إلى كعب بن الأشرف) . وهو رجل من زعماء بني النضير .
قوله : (أ كذلك) . خبر لمبتدأ محذوف ،التقدير أ كذلك الأمر .
قوله : (فضربه بالسيف) . الضارب عمر .
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر يجب قتله ، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه .
فإن قيل:كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أجيب : أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله ، لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من بدل دينه فأقتلوه) (2) .
وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما : نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الأخر : إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك ؟ قال : نعم . فضربه بالسيف فقتله . )(1)
ــــــــــــــــــــ
****
فيه مسائل :
(65/121)
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت . وهي قوله تعالى : (ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك)
وقوله : (وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت) . أي : أن الطاغوت مشتق من الطغيان ، وإذا كان كذلك ، فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع ، فالأصنام والأمراء والحكام الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت .
الثانية : تفسير آية البقرة . (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) . ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض ،لأنها في سياق المنافقين ، والفساد يشمل جميع المعاصي .
الثالثة : تفسير أية الأعراف : (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) . وقد سبق .
الرابعة : تفسير (أ فحكم الجاهلية يبغون). وقد سبق ذلك ، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع ، وأضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه ، وأنه مبني على الجهل والضلال .
الخامسة : ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى . وقد سبق .
السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب . فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله ، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك .
السابعة : قصة عمر مع المنافق . حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبيحا لقتله لردته ، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه .
الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا واضح من الحديث .
باب جحد شيئا من الأسماء والصفات
ــــــــــــــــــــــ
الجحد : الإنكار، والإنكار نوعان :
(65/122)
الأول : إنكار تكذيب ، وهذا كفر بلا شك ، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول : ليس لله يد ، أو أن الله لم يستو على عرشه ، أو ليس له عين ، فهو كافر بإجماع المسلمين ، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة بالإجماع .
الثاني : إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، وهذا نوعان :
1. أن يكون للتأويل مسوغ في اللغة العربية ، فهذا لا يوجب الكفر .
2.أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية ، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيب ، مثل أن يقول : المراد بقوله تعالى : (تجري بأعيننا) (القمر : 14) تجري بأراضينا ، فهذا كافر لأنه نفاها نفيا مطلقا ، فهو مكذب .
ولو قال في قوله تعالى : (بل يداه مبسوطتان) (المائدة :64) المراد بيديه : السماوات والأرض ، فهو كفر أيضا لأنه مصوغ في اللغة العربية،ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية ، فهو منكر ومكذب ، لكن إن قال:المراد باليد النعمة أو القوة ، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة ، قال الشاعر :
وكم لظلام الليل عندك من يد حدث أنّ المانويّة تكذب
فقوله : من يد، أي : من نعمة ، لأن المانوية يقولون : أن الظلمة لا تخلق الخير ، وإنما تخلق الشر .
قوله :(من الأسماء) جمع اسم، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من السمو ، وهو الارتفاع ، ووجه هذا أن المسمى يرتفع باسمه ويتبين ويظهر .
وقيل : من السمة وهى العلامة ، ووجهه : أنه علامة على مسماه ، والراجح أن مشتق من كليهما
والمراد بالأسماء هنا أسماء الله – عز وجل – والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمى به الله والصفة ما اتصف بها .
* البحث في أسماء الله :
المبحث الأول :
(65/123)
أن أسماء الله أعلام وأوصاف ، وليست أعلاما محضة ، فهي من حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف ، بخلاف أسمائنا ، فالإنسان يسمي ابنه محمدا وعليا دون أن يلحظ معنى الصفة ، فقد يكون اسم عليه هو من أوضع الناس ، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله ، لأنها متضمنة للمعاني ، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته ، والعزيز يدل على العزة ، والحكيم يدل على الحكمة ، وهكذا .
ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : دلالة مطابقة ، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به .
الثاني : دلالة تضمن ، وهي دلالته على جزء معناه .
الثالث : دلالة التزام ، وهي دلالته على أمر خارج لازم .
مثال ذلك : الخالق يدل على ذات الله وحده ، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن ، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلالة مطابقة ، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام .
كما قال الله تعالى : (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شي قدير وأن الله قد أحاط بكل شي علما) (الطلاق : 12) فعلمنا القدرة من كونه خالق السماوات والأرض ، وعلمنا العلم من ذلك أيضا ، لأن الخلق لابد فيه من علم ، فمن لا يعلم لا يخلق ، وكيف يخلق شيئا لا يعلمه ؟ !
المبحث الثاني :
أن أسماء الله مترادفة متباينة ، المترادف : ما أختلف لفظه واتفق معناه ، والمتباين : ما اختلف لفظه ومعناه ، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله – عز وجل – لأنها تدل على مسمى واحد ، فالسميع ، البصير، العزيز ، الحكيم ، كلها تدل على شي واحد هو الله ، ومتباينة باعتبار معانيها ، لأن معنى الحكيم غير معنى السميع وغير معنى البصير وهكذا .
المبحث الثالث :
(65/124)
أسماء الله ليست محصورة بعدد معين ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور : (اللهم! إني عبدك ، ابن عبدك ،ابن أمتك ...- إلى أن قال : أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ،أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك(2)، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به ، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور .
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة(1) ، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء ، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فنقول : (من أحصاها) تكميل للجملة الأولى ، وليست استئنافية منفصلة ، ونظير هذا قول القائل : عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله ، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة معدة لهذا الشي .
المبحث الرابع :
الاسم من أسماء الله دل على الذات وعلى المعنى كما سبق ، فيجب علينا أن نؤمن به اسما من الأسماء ، ونؤمن بما تدل عليه الصفة من الثر والحكم إن كان متعديا ، فمثلا : السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع ، وأنه دال على صفة السمع ، وأن لهذا السمع حكما وأثرا وهو أنه يسمع به ، كما قال تعالى : (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة : 1) أما إن كان الاسم غير متعد ، كالعظيم ، والحي ، والجليل ، فثبت الاسم والصفة ، ولا حكم يتعدى إليه .
المبحث الخامس :
هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله ؟
إن أريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى ، فهي غير الله – عز وجل – وإن أريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ ، فهي المسمى .
(65/125)
فمثلا : الذي خلق السماوات والأرض هو الله ، فالاسم هنا هو المسمى ، فليست ( اللام – والهاء) هي التي خلقت السماوات والأرض ، وإذا قيل : اكتب باسم الله . فكتبت بسم الله ، فالمراد به هو الاسم دون المسمى ، وإذا قيل : اضرب زيدا ، فضربت زيدا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلا ، لأن المقصود المسمى ، وإذا قيل : اكتب زيد قائم . فالمراد الذي هو غير المسمى .
البحث في صفات الله :
المبحث الأول :
تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ذاتية ويقال معنوية .
الثاني : فعلية .
الثالث : خبريه .
فالصفات الذاتية : هي الملازمة لذات الله ، والتي لم يزل ولا يزال متصفا بها مثل : السمع والبصر وهي معنوية ، لأن هذه الصفات معان .
والفعلية : هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها ، مثل : النزول إلى سماء الدنيا ، والاستواء على العرش ، والكلام من حيث آحاده ، والخلق من حيث آحاده ، لا من حيث الأصل ، فأصل الكلام صفة ذاتية وكذلك الخلق .
والخبرية:هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا ، أما بالنسبة إلى الله ، فلا يقال هكذا ، بل يقال : صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة ، وهي ليست معنى ولا فعلا مثل : الوجه ، والعين ، والساق ، واليد .
المبحث الثاني :
الصفات أوسع من الأسماء ، لأن كل اسم متضمن لصفة ، وليس كل صفة تكون اسما ، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه ، فيوصف الله بالكلام والإرادة ، ولا يسمى بالمتكلم أو المريد .
المبحث الثالث :
إن كل ما وصف الله به نفسه ، فهو حق على حقيقته ، لكنه ينزه عن التمثيل والتكييف ، أما التمثيل ، فلقوله تعالى : (ليس كمثله شي وهو السميع البصير) (الشورى : 11) وقوله : (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وانتم لا تعلمون) (النمل : 74) والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :
(65/126)
أحدهما : أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقا ، بخلاف التشبيه ، فلم يأت القرآن بنفيه .
الثاني : أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح ، لأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به ، ف : (الحياة) مثلا وصف ثابت في الخالق والمخلوق ، فبينهما قدر مشترك ، لكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق به .
الثالث : إن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه ، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيها ، فإذا قيل من غير تشبيه ، فهم هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي الله لنفسه .
وأما التكييف ، فلا يجوز أن نكيف صفات الله ، فمن كيف صفة من الصفات ، فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه ، عاص لأنه واقع فيما نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى : (ولا تقل ما ليس لك به علم) (الإسراء : 36) وقوله تعالى : (وأن تقولوا على الله ما تعلمون) بعد قوله (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن.)(الأعراف : 33) ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية ، لقوله تعالى : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علم)(طه : 110) وقوله:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)(الأنعام : 103)
وسواء كان التكييف بالسان تعبيرا أو بالجنان تقديرا أو بالبيان تحريرا ، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء : (الكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة) وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية ، بل لها كيفية ،ولكنها ليست معلومة لنا ، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود ، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية ، لكننا لا نعلمها ، ففرق بين أن نثبت كيفية معينة ولو تقديرا وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة ، وهذا هو الواجب ، فنقول : لها كيفية، لكن غير معلومة .
قول الله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن .........)(الرعد : 30) الآية .
ـــــــــــــــــــــــــ
(65/127)
فإن قيل : كيف يتصور أن نعتقد للشي و كيفية نحن لا نعلمها؟
أجيب : إنه متصور ، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله ، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها ، أو شاهد نظيرها ، أو أخبره شخص صادق عنها .
***
قوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) الآية
(وهم) . أي : كفر قريش .
(يكفرون بالرحمن) . المراد : أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمى ، فهم يقرون به ، قال تعالى : (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) (لقمان : 25) ، وفي حديث سهيل بن عمر : (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب : [اكتب بسم الله الرحمن الرحيم] ، قال سهيل : أما الرحمن، والله ما أدرى ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم(1) ، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى .
وقد قال الله تعالى : (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) (الإسراء :110) ، أي : بأي اسم من أسمائه تدعونه ، فإن له الأسماء الحسنى ، فكل أسمائه حسنى ، فادعوا بما شئتم من الأسماء ، ويراد بهذه الآية الإنكار على قريش .
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسمائه تعالى فإنه يكفر ، لقوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) (الرعد :30) ، ولأنه مكذب لله ولرسوله ، وهذا كفر ، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية .
قوله : (لا إله إلا هو) . خبر(لا) النافية للجنس محذوف ، والتقدير : لا إله إلا هو ، وأما الإله الباطل ، فكثير ، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل)(لقمان:30).
قوله ( عليه توكلت) . أي : عليه وحده ، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر ، فإذا قلت مثلا : (ضربت زيدا)، فإنه يدل على أنك ضربته ، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره ، وإذا قلت : (زيدا ضربت) دلت على أنك ضربت زيدا ولم تضرب غيره ، وسبق معنى التوكل وأحكامه .
(65/128)
قوله : (وإليه المتاب) . أي : إلى الله . و(متاب) أصلها متابي ، فحذفت الياء تخفيفا ، والمتاب بمعنى التوبة ، فهي مصر ميمي ، أي : وإليه توبتي .
والتوبة : هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة ، ولها شروط خمسة :
1. الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شي من الدنيا .
2. أن تكون في وقت قبول التوبة ، وذلك قبل طلوع الشمس من مغاربها،وقبل حضور الموت .
3. الندم على ما مضى من فعله،وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن .
4. الإقلاع عن الذنب ، وعلى هذا ، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق فلا بد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها .
5. العزم على عدم العودة ، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة ، كما في الآية السابقة ، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع ، فإنها تكون له ولغيره ، ومنها قول عائشة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نمرقة فيها صور ، فوقف بالباب ولم يدخل ، وقالت : (أتوب إلى الله ورسوله ، ماذا أذنبت؟)(2) فليس المراد بالتوبة هنا توبة العبادة لأن توبة العبادة لا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الخلق بل لله وحده ، ولكن هذه توبة رجوع ، ومن ذلك أيضا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه ، يقول الابن : أتوب .
وفي صحيح البخاري : قال علي : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، اتريدون أن يكذب الله ورسوله )(1)
ــــــــــــــــــ
****
قوله في أثر علي رضى الله عنه:(حدثوا الناس) . أي : كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ .
(65/129)
قوله : (بما يعرفون) . أي : بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا ، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : (إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة )(3) ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه ،بل تدعوهم رويدا رويدا حتى تستقر عقولهم ، وليس معنى (بما يعرفون) ، أي : بما يعرفون من قبل ، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل .
قوله : (أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟!) . الاستفهام للإنكار ، أي : أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله ، لأنك إذا قلت : قال الله وقال رسوله كذا وكذا ، قالوا : هذا كذب إذا كذبت إذا كانت عقولهم لا تبلغه ، وهم لا يكذبون الله ورسوله ، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله ، فيكونون مكذبين لله ورسوله ، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل .
فإن قيل : هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أجيب : لا ندعه ، ولكن نحدثهم بطريقة تبلغه عقولهم ، وذلك بأن ننقلهم رويدا رويدا حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه ، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول : هذا شي مستنكر لا نتكلم به .
ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها ، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها ، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها .
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله – عز وجل – وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته .
مناسبة هذا الأثر لباب الصفات :
(65/130)
مناسبة ظاهرة ، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيي عليهم ، كحديث النزول إلى السماء الدنيا مع ثبوت العلو ، فلو حدثت العامي بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشه ، فقد يفهم أنه إذا نزل ، صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليا منه ، وحينئذ لابد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فتبين لهم أن الله – عز وجل – ينزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين مع علوه على عرشه ، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول : (من يدعوني فاستجيب له ...)(3) الحديث .
والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى ، وأن المراد بذلك بيان فضل الله – عز وجل – في هذه الساعة من الليل .
وروي عبد الرازق عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس : (أنه رأي رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عيله وسلم في الصفات ،
ـــــــــــــــــــــ
***
قوله في أثر ابن عباس : (انتفض) . أي : اهتز جسمه ، والرجل مبهم والصفة التي حُدث بها لم تُبين، وبيان ذلك ليس مهما ، وهذا الرجل انتفض استنكار لهذه الصفة لا تعظيما لله ، وهذا أمر عظيم صعب، لأن الواجب على المرء إذا صح عند شي عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره .
الصفات استنكارا لذلك ، فقلت : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه؟!) انتهي (1)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ما فرق) . فيها : ثلاث روايات :
1. (فَرَقُ) ، بفتح الراء وضم القاف .
2. (فرَّقَ) ، بفتح الراء مشددة ، وفتح القاف .
3. (فَرَقَ) ، بفتح الراء مخففة ، وفتح القاف .
(65/131)
فعلى رواية (فَرَقُ) تكون (ما) استفهامية مبتدأ، و(فرق) خبر المبتدأ ، أي : ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة تليت عليهم وبلغتهم ،لماذا لا يثبتونها لله – عز وجل – كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها لرسوله ؟ وهذا ينصب تماما على أهل التعطيل والتخريف الذين ينكرون الصفات ، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه ؟
وعلى رواية (فرّق) أو( فَرَقَ) تكون فعلا ماضيا بمعنى ما فرقهم ، كقوله تعالى : (وقرآنا فرقناه) (الإسراء : 106) ، أي : فرقناه : و(ما) يحتمل أن تكون نافية، والمعنى : ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل ، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم ، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى : أي شي فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه ؟
قوله : ( يجدون رقة عند محكمه) . الرقة : اللين والقبول ، و(محكمه) ، أي : محكم القرآن .
قوله : (ويهلكون عند متشابهه) . أي : متشابه القرآن .
والمحكم الذي اتضح معناه وتبين ، والمتشابه هو الذي يخفي معناه ، فلا يعلمه الناس ، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردا دون المتشابه ، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل : لا كذب في أخباره ، ولا جور في أحكامه ، قال تعالى : (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) (الأنعام :115) وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه ، وذلك مثل قوله تعالى : (كتاب أُحكمت آياته) (هود :1) .
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضا في جودته وكماله ، ويصدق بعضه بعضا ولا يتناقض ، قال تعالى : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى)(الزمر:23) والتشابه نوعان : تشابه نسبي ، وتشابه مطلق .
(65/132)
والفرق بينهما : أن المطلق يخفي على كل أحد ، ونسبي يخفي على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (آل عمران : 7)، فعلى الوقوف على (إلا الله) يكون المراد بالمتشابه المطلق ، وعلى الوصل (إلا الله والراسخون في العلم) يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وللسلف قولان :
القول الأول : الوقف على (إلا الله) ، وعليه أكثر السلف ، وعلى هذا ، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله ، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله ، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار ، وقال الله تعالى في نعيم الجنة : (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قُرة أعين) (السجدة :17)،أي : لا تعلم حقائق ذلك ، ولذلك قال بن عباس : (ليس في الجنة شي مما في الدنيا إلا الأسماء)(2) .
والقول الثاني : الوصل ، فيقرأ : (إلا الله والراسخون في العلم) ، وعلى هذا فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابها ، ولهذا يروى عن ابن عباس ، أنه قال : (أنا من الراسخين في العلم الذي يعلمون تأويله )(3) ولم يقل هذا مدحا لنفسه أو ثناء عليها ، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شي لا يعرف معناه ، فالقرآن معانيه بينه ، ولكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن،وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم ، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعا بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما ، فإنها تحمل عليها جميعا .
(65/133)
وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه ، فيكون من المتشابه المطلق ، ويحملون آيات الصفات على ذلك ، وهذا من الخطأ العظيم ، إذ ليس من المعقول أن يقول تعالى : (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته) (ص :29) ثم تستثنى الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعا وأكثر من آيات الأحكام ، ولو قلنا بهذا القول ، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعا خفيا ، ويكون معنى قوله تعالى (ليدبروا آياته) ، أي : آيات الأحكام فقط ،
وهذا غير معقول ، بل جميع القرآن يفهم معناه ، إذ لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن ، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها ، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت ... والصواب أنه ليس في القرآن شي متشابه على جميع الناس من حيث المعنى ، ولكن الخطأ في الفهم .
فقد يقصر الفهم عن إدراك المعني أو يفهمه على معنى خطأ ، وأما بالنسبة للحقائق ، فما أخبر الله به من أمر الغيب ، فمتشابه على جميع الناس .
ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر الرحمن ، انكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم ( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)(الرعد: من الآية30)(1)
ــــــــــــــــــــــ
****
قوله : (ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن) . أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فقال (أما الرحمن ، فلا والله ما أدري ما هي ، وقالوا : إننا لا نعرف رحمانا إلا رحمن اليمامة ، فأنكروا الاسم دون المسمى ، فأنزل الله : ( وهم يكفرون بالرحمن) ، أي : بهذا الاسم من أسماء الله .
(65/134)
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة ، فهو كافر لقوله تعالى :(وهم يكفرون بالرحمن) .
وقوله : (ولما سمعت قريش) . الظاهر – والله أعلم – أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك ، بل طائفة منهم ، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر ، صح أن ينسب لهم جميعا ، بل إن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ )(البقرة: من الآية63) ، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين .
****
قوله فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شي من الأسماء والصفات . عدم بمعنى انتفاء ، أي : انتفاء الإيمان بسبب جحد شي من السماء والصفات ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثانية : تفسير آية الرعد . وهي قوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) وسبق تفسيرها.
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع . وهذا ليس على إطلاقه ، وقد سبق التفصيل عند شرح الأثر .
الرابعة : ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر . وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله ، فيكذب ويقول : هذا غير ممكن ، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته)(1) وما أشبه ذلك ، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور ، لو حدثنا بها إنسانا عاميا لأوشك أن ينكر ، لكن يجب أن تبين له بالتدريج حتى يتمكن من عقلها مثل ما نعلم الصبي شيئا فشيئا .
(65/135)
قوله : ( ولو لم يتعمد المنكر) أي : ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله ، ولمن كذب نسبة هذا الشي إلى الله ورسوله ، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله .
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه. وذلك قوله : (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة – أي لينا – عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابهه فينكرونه ؟)
---
(1) الإمام أحمد في المسند (1/ 89،108 ) والترمذي (كتاب التفسير ، سورة الواقعة ، وقال احمد بن شاكر : ( إسناده ضعيف ) المسند (_677)
( 2 ) يأتي ( 609 )
[1][1] ) ) الإمام احمد في ( المسند ) (5/218) والترمذي : كتاب الفتن / باب ما جاء ( لتركبن ...) وقال : (حسن الصحيح ) ، وابن حبان( 1835) والطبراني في ( الكبير) (3290) والبيهقي (108/1)
(2) البخاري ( كتاب المناقب ، باب علامة النبوة )
(1) مسلم كتاب الجنائز / باب التشديد في النياحة
(1) عبد الرزاق (8/469)، والطبراني في الكبير (8902) ، والهيثمي في مجمع الزوائد
(1) تقدم تخريجه ص 519
(2) الإمام أحمد في المسند (1/214) والبخاري في الأدب المفرد (783) وابن ماجه كتاب الكفارات ، باب النهي أن يقال : ما شاء الله وشئت ) قال أحمد شاكر : إسناده صحيح ( المسند 1839)
(1) البخاري كتاب المساقاة / باب فضل سقي الماء ، ومسلم : كتاب السلام / باب تحريم قتل الهرة
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب بيان كفر من قال مطر بالنوء .
(1) البخاري كتاب الزكاة / باب أخذ الصدقة من الأغنياء ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام .
(1) البخاري كتاب الغيمان / باب فضل من استبرا لدينه ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال .
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكافر على الطعن في النسب والنياحة
(2) الإمام أحمد في ( المسند ) ( 3/ 128) . قال الحاكم في (المستدرك ) (2/147 ) : حديث
(65/136)
( 1 )البخاري : كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات )
( 1 ) الإمام احمد في ( المسند ) (6/ 144 ) ، وأبو داود : كتاب النكاح / باب في القسم بين النساء ، والترمذي : كتاب النكاح / باب التسوية بين الضرائر ، والنسائي : كتاب عشرة النساء / باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وابن ماجه : كتاب النكاح / باب القسمة بين النساء ، والحاكم (2/204 ) – صححه ووافقه الذهبي - .
( 2 ) البخاري كتاب الأيمان والنذور / باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1 ) البخاري : كتاب الإيمان / باب حب رسول الله صلى عليه وسلم من الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل .
( 1 ) أبو داود في ( السنن ) : كتاب المناسك / باب الإفاضة في الحج .
( ** ) البخاري : كتاب الإيمان / باب حلاوة الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان .
( 1 ) البخاري : كتاب الأدب / باب الحب في الله
( 1 ) ابن المبارك في ( الزهد (353 ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ) ( 1/312) ، والطبراني في ( الكبير )(13537) .
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) (1/90) : ( وفيه ليث بن أبي سليم ، والأكثر على ضعفه ) .
( 1 ) مسلم : كتاب التوبة / باب في سعة رحمة الله .
( 1 ) مسلم : كتاب الجهاد / باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب .
( 2 ) الجامع الصغير (1/ 15 ) .
( 3 ) البخارى : كتاب الجهاد / باب جوائز الوفد ، ومسلم : كتاب الوصية / باب ترك الوصية
( 1 ) تقدم (ص 516 )
( 2 ) البخاري : كتاب التوحيد / باب ( ويحذركم الله نفسه ) ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء /باب الحث على ذكر الله .
( 1 ) تفسير أبن كثير ( 2/ 130 )
(65/137)
( 2 ) الإمام احمد في ( المسند ) ( 1/ 293 ) ، والترمذي ( كتاب صفة القيامة ، 2516) ، وابن أبي عاصم في ( السنة )(216) ، والاجري في ( الشريعة ) ص 197 ، والطبراني في ( الكبير) (12988) وأبي نعيم في ( الحلية ) (1/314 ) .
قال ابن رجب :أصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي ) جامع العلوم والحكم (360) ، وقال احمد شاكر : ( إسناده صحيح ) ( المسند ) (2669) ، وصححه اللباني في تعليقه على ( السنة لابن أبي عاصم ) ( 316 ) .
(2 ) البخاري : كتاب المغازى / باب حديث كعب بن مالك ، ومسلم : كتاب التوبة / باب حديث توبة كعب .
(1) أبو نعيم في (الحلية) (5/106، 10/410) ، والبيهقى في (شعب الإيمان) رقم (203) .
(1) البخاري : كتاب العلم /باب من يرد الله به خيرا ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب النهي عن المسألة .
(1) الإمام احمد ( 2/68 ، 99 ، 127 ) ، والبخاري في ( الأدب المفرد ) (216) ، وأبو داود كتاب الزكاة / باب عطية من سأل بالله ، والنسائي : كتاب الزكاة / باب من سال بالله ، والحاكم (1/412) – وصححه ووافقه الذهبي _
( 1 ) البخاري : كتاب التراويح / باب تحري ليلة القدر .
(1) ابن حبان (1- 248) ، والترمذي : كتاب الزهد / باب من التمس رضى الله بسخط الناس، (7/ 132)
( 1 ) الإمام أحمد في ( المسند ) ( 3/ 449 )
(2) البخاري : / باب استئجار المشركين
( 2 ) مسلم : كتاب الحج / باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
( 3 ) البخاري : كتاب الوكالة / باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا ...
( 4 ) البخاري : كتاب المناقب / باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية .
( 1 ) البخاري : كتاب التفسير / باب ( فكيف إذا جئنا من أمة بشهيد ) ومسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب فضل استماع القرآن .
( 2 ) أبو داود : كتاب الزكاة / باب الرخصة في ذلك ( أي : خروج الرجل من ماله )
(65/138)
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب (الذين قال لهم الناس ...)
( 1 ) البخاري : كتاب الجهاد / باب الحرب خدعة ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب جواز الخداع في الحرب .
( 1 ) الإمام احمد في مسنده ( 4/ 11، 12) وابن ماجه ( المقدمة،1/64) ، وابن عاصم في ( السنة ) (544) والآجري في ( الشريعة ) . قال شيخ الإسلام ابن تميمة : ( حديث حسن ) ( الواسطية ، ص 13)
( 2 ) البخاري: كتاب المغازي / باب قوله تعالى ( إذا تستغيثون ... ) ومسلم : كتاب الجهاد / باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر .
( 3 ) البخاري : كتاب المغازي / باب غزوة الخندق ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب استحباب الدعاء بالنصر .
( 4 ) البخاري : كتاب الأنبياء / باب حديث الغار ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب قصة أصحاب الغار .
(1) البزار ، كما في (كشف الأستار) (106) ، وابن أبي حاتم في (التفسير) كما في (الدر المشور)(2/148)،وقال :(إسناده حسن) .
وقال الهيثمي (1/104) رواه البزار والطبراني ، ورجاله موثوقون .
( 1 ) مسلم : كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس ...
( 2 ) البخاري : كتاب العمرة / باب وجوب العمرة وفضلها ، ومسلم : كتاب الحج / باب فضل الحج والعمرة .
( 3 ) مسلم : كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء .
( 4 ) تقدم ( 606 ) .
(1) عبد الرازق في (المصنف)(10/ 459) ، وابن جرير (5/26) ، والطبراني في (الكبير) (8783) .
( 1 ) البخاري : كتاب الجنائز / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يعذب الميت ببعض بكاء أهله ) ومسلم : كتاب الجنائز / باب البكاء على الميت .
( 1 ) البخاري : كتاب الإيمان / باب فضل من أستبرأ لدينه ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب أخذ الخلال وترك الشبهات .
(1) تقدم (ص 574) .
(2) تقدم ( ص 574 )
(1) البخاري : كتاب المناقب / باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب تحريم ضرب الخدود . ..
(65/139)
( 2 ) البخاري : كتاب المرضى / باب كفارة المرض، ومسلم : كتاب البر والصلة / باب ثواب المؤمن .
(1) الترمذي : كتاب الزهد / باب ما جاء في الصبر على البلاء، والحاكم في (المستدرك)(4/651) ، والبيهقي في (السماء والصفات) (154) ، والبغوي في (شرح السنة) (5/245) .
2) مسلم : كتاب المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .
(3) أخرجه البخلري ومسلم .
(1) البخاري : كتاب المرضى/باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ومسلم: كتاب البروالصلة /باب ثواب المؤمن .
(2) البخاري : كتاب المغازي /باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم .
(1) الترمذي: كتاب الزهد/ باب ما جاء في الصبر على البلاء، وابن ماجة: كتاب الفتن/ باب الصبر على البلاء.
(1) البخاري : كتاب الجماعة والإمامة / باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم: كتاب الزكاة / باب إخفاء الصدقة .
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب الرياء والسمع، ومسلم : كتاب الزهد /باب تحريم الرياء .
(2) البخاري : كتاب العتق / باب الخطأ والنسيان، ومسلم : كتاب الإيمان / باب تجاوز الله عن حديث النفس .
(1) الإمام احمد في (المسند) (1/18،26)، والترمذي (كتاب الفتن،باب ما جاء في لزوم الجماعة)
(2) مسلم : كتاب البر والصلة / باب إذا أثنى على الصالح .
(1) البخاري : كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتابالإمارة إنما الأعمال بالنيات .
(3) البخاري : كتاب البيوع / باب النجش، ومسلم : كتاب الأقضية / باب نقص الأحكام .
(1) مسلم كتاب الزهد / باب من أشرك في عمله غير الله
(1) الإمام أحمد ( 3 / 30) وابن ماجة : كتاب الزهد / باب الرياء والسمعة ، والحاكم (4/ 329)وصححه .
(2) البخاري : كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار .
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب حجة الوداع، ومسلم : كتاب الفتن / باب ذكر الدجال.
(65/140)
البخاري : كتاب بدء الخلق / باب صفة النار، ومسلم : كتاب الزهد / باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله .
(1) البخاري : كتاب اللباس/ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس ، ومسلم : كتاب الطلاق / باب في الإيلاء واعتزال النساء .
(1) لبخاري : كتاب / الرقاق باب ما يتقي من فتنة المال
(1) الإمام أحمد في المسند ) بنحوه ، والخطيب في (الفقيه والمتفقه ( 1/145)
(2) مسلم : كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة .
(3) الإمام احمد في (المسند)(5/382)، والترمذي:كتاب المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر/ وابن ماجة في (المقدمة)(1/37).
(4) الإمام احمد في (المسند) (4/126)، وأبو داود : كتاب السنة/باب في لزوم السنة، وابن ماجة في (المقدمة) (1/15)، وصححه شيخ الإسلام ابن تميمة في (الفتاوى) (28/ 493)، والحاكم ووافقه الذهبي(1-150)، وابن رجب في (جامع العلوم) ( ص 246) .
(1)
(2)البخاري : (كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء) ، ومسلم ( كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور)
(1) الترمزي : كتاب تفسير القرأن ، تفسير سورة التوبة .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/321، 365) ، وأبو داود : كتاب العلم / باب التوقي في الفتيا ، وابن ماجة : كتاب المقدمة/ باب اجتناب الرأي. قال الألباني: (إسناده حسن) (المشكاة 242)
(1) البخاري : كتاب الدعوات /باب التوبة ، ومسلم : كتاب التوبة /باب الدعوات/ باب في الحض على التوبة .
(1) البخاري : كتاب الفتن / باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه .
(2) تقدم تخريجه (ص733) .
(1) مسلم : كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة .
(1) ابن جرير الطبري (9891) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/37) روي اسحق بن راهويه في تفسيره باسناد صحيح عن الشعبي
(2) البخاري : كتاب استتابة المرتدين / باب حكم المرتد .
(65/141)
(1) قال الحافظ في الفتح (5/37) رواه الكلبي في تفسيره عن ابن عباس ...... ، واسناده وإن كان ضعيفا لكن تقوي بطريق مجاهد .
(2) الإمام احمد في (المسند) (1/391، 452) وابن حيان (2372) ، والطبراني في (الكبير) (10352) ، والحاكم (1/ 509) ، والهيثمي (10/ 136) ، وقال : (رجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح) وصححه ابن القيم في (شفاء العليل) (277) ، واحمد شاكر في (المسند) (3712) .
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب لله مائة اسم غير واحد ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب في أسماء الله تعالى .
(1) البخاري : كتاب الشروط / باب الشروط في الجهاد .
(1) البخاري : كتاب العلم / باب من خص بالعلم قوما دون قوم
(2) البخاري : كتاب النكاح / باب هل يرجع إذا رأي منكرا في الدعوة
(3) مسلم في مقدمة (صحيحه) (1 / 11) .
(3) البخاري : كتاب التهجد /باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، ومسلم : صلاة المسافرين / باب الترغيب في الدعاء .
(1) عبد الرزاق في المصنف ( 20895) وابن ابي عاصم في كتاب السنة (485)
(2) ابن حزم في (الفصل) (2 /108) – وقال: (هذا سند في غاية الصحة) – و قال المنذري في (الترغيب) (4/560) : ( رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد)
(3) انظر قوله في : (تفسير الطبري) (3/183)
(1) ابن جرير الطبري في التفسير (20397).
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ومسلم كتاب صفات المنافقين / باب منزلة أهل الجنة .
(65/142)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الثاني /ب
محمد بن صالح العثيمين
باب قوله تعالي :
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83)
ـــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (يعرفون) . أي : يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله .
قوله تعالى:(نعمة الله) . واحدة والمراد بها الجمع ، فهي ليست واحدة ،بل هي لا تحصى ، قال تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (إبراهيم :34) ، والقاعدة الأصولية : أن المفرد المضاف يعم ، والنعمة بجلب المحبوبات ، وتطلق أحيانا على رفع المكروهات .
قوله : (ثم ينكرونها) أي : ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب الذي هو الله – سبحانه وتعالى – وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة ، مثل أن يقولوا : ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة ، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله متناسين الذي خلق السبب فوجد به المسبب .
قوله : (الآية) أي : إلى آخر الآية ، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية .
قوله : (وأكثرهم الكافرون) . أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون ، أي الجاحدون كونها من الله ، أو الكافرون بالله عز وجل .
وقوله : (أكثرهم ) بعد قوله : (يعرفون)الجملة الأولى أضافها إلى الكل ، والثانية أضافها إلى الأكثر ، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم ، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون .
مناسبة هذا الباب التوحيد :
(66/1)
أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره ، فقد جعل معه شريكا في الربوبية ، لأن أضافها إلى السبب على أنه فاعل ، هذا من وجه ، ومن وجه آخر : أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات ، وترك الشكر مناف للتوحيد ، لأن الواجب أن يشكر الخالق المنعم – سبحانه وتعالى – فصارت له صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة ، فمن حيث إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية ، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية .
قال مجاهد ما معناه ( هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن أبائي
ـــــــــــــــــــــ
****
قوله : (قال مجاهد) هو إمام المفسرين في التابعين ، عرض المصحف على ابن عباس رضى الله عنهما يوقفه عند كل آية ويسأله عن تفسيرها ، وقال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . أي : كافيك ، ومع هذا ، فليس معصوما من الخطأ .
قوله : ( ما معناه) . أي : كلاما معناه ، وعلى هذا ف (ما) نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمه الله لم ينقله بلفظه .
قوله:(و قول الرجل).هذا من باب التغليب والتشريف ، لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق
بتوجيه الخطاب إليه منها ، وإلا ، فالحكم واحد .
قوله:(هذا مالي ورثته عن آبائي) . ظاهر هذه الكلمة أنه لا شي فيها ، فلو قال لك واحد : من أين لك هذا البيت ؟ قلت : ورثته عن آبائي ، فليس فيه شي لأنه خبر محض .
لكن مراد مجاهد أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث متناسيا المسبب الذي هو الله ، فبتقدير الله – عز وجل – انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث ، فكيف تتناسى المسبب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم ؟! فمن هنا صار هذا القول نوعا من كفر النعمة .
(66/2)
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق ، فلا شي في ذلك ، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم الفتح : (أتنزل في دارك غدا؟) فقال : (وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع)(1) فبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث .
فتبين أن هناك فرقا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر ، وبين إضافته إلى سببه متناسيا أن المسبب هو الله – عز وجل - .
وقال عون بن عبد الله : ( يقولون لولا فلان لم يكن كذا .
ــــــــــــــــــــــ
***
قوله : ( وقال عون بن عبد الله : يقولون : لو لا فلان لم يكن كذا) .
وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقا مطابقا للواقع ، فهذا لا باس به ، وإن أراد بها السبب ، فلذلك ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون سببا خفيا لا تأثير له إطلاقا ، كأن يقول : لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفا في الكون مع أنه ميت ، فهو تصرف سري خفي .
الثانية : أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعا أو حسا ، فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه ، وأن لا يتناسى المنعم بذلك .
الثالثة : أن يضيفه إلى سبب ظاهر ، ولكن يثبت كونه سببا لا شرعا ولا حسا ، فهذا نوع من الشرك الأصغر ، وذلك مثل : التولة ، والقلائد التي يقال : أنها تمنع العين ، وما أشبه ذلك ، لأنه أثبت سببا لم يجعله الله سببا ، فكان مشاركا لله في إثبات الأسباب .
(66/3)
ويدل هذا التفضيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب : (لولا أنا ، لكان في الدرك الأسفل من النار)(1) ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الشرك ، وأخلص الناس توحيدا لله تعالى ، فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم الشي إلى سببه ، لكنه شرعي حقيقي ، فإنه أُذن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه ، فكان في ضحضاح من النار ، عليه نعلان يغلي منه دماغه لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه ، لأنه لو يرى أن أحدا أشد عذابا منه أو مثله هان عليه بالتسلي ، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر :
ولولا كثرة الباكين حولي لى إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن سلي النفس عنه بالتأسي
وابن القيم رحمه الله – وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به – قال في القصيدة الميمية يمدح الصحابة :
أولئك أتباع النبي وحزبه ولولا هُمُو ما كان في الأرض مسلم
ولولا همو كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولا همو كانت ظلاما بأهلها ولكن همو فيها بدور وأنجم
فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح .
وقال ابن قتيبة : ( يقولون هذا بشفاعة آلهتنا
ـــــــــــــــــــــ
****
قوله : (وقال ابن قتيبة : هذا بشفاعة آلهتنا ). هؤلاء أخبث ممن سبقهم ، لأنهم مشركون يعبدون غير الله ، ثم يقولون : إن هذه النعم حصلت بشفاعة آلهتهم ، فالعزى مثلا شفعت عند الله أن ينزل المطر ، فهؤلاء أثبتوا سببا من أبطل الأسباب لأن الله – عز وجل – لا يقبل شفاعة آلهتهم ، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، والله – عز وجل – لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة ، فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين :
1. الشرك بهذه الأصنام .
2. إثبات سبب غير صحيح .
****
(66/4)
قال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : ( إن الله تعالى قال ( أصبح من عبادي مؤمن وكافر .... ) الحديث(1) وقد تقدم : ( وهذا كثير من الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به )
ــــــــــــــــــــــ
قوله : (وقال أبو العباس) . وهو شيخ الإسلام أحمد بن تميمة .
قوله : (هذا كثير من الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ...) . وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء ، وإنما كان مذموما ، لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد ، كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانا لنعمته ، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق ، لما يأتي :
1. أن الخالق لهذه الأسباب هو الله ، فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه .
2. أن السبب لا يؤثر، كما ثبت في ( صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم قال : (ليس السنة أن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا) . (2)
3. أن السبب قد يكون له مانع يمنع تأثيره ، وبهذا عرف بطلان إضافة الشي إلى سببه دون الالتفات إلى المسبب جل وعلا .
قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ...... ونحو ذلك مماهو جار على ألسنة كثيرة ))
ــــــــــــــــــــ
***
قوله : (كانت الريح طيبة) . هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح ، قال تعالى : ( حتى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) (يونس:22) . فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا كانت الريح طيبة ، وكان الملاح – هو قائد السفينة – حاذقا ، أي : مجيدا للقيادة ، فيضيفون الشي إلى سببه وينسون الخالق – جل وعلا - .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها . وسبق ذلك .
الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة . وذلك مثل قول بعضهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ، وما أشبه ذلك .
(66/5)
الثالثة : تسمية هذا إنكارا للنعمة . يعني : إنكار لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارا لوجودها ، لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها .
الرابعة : اجتماع الضدين في القلب . وهذا من قوله : (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) ، فجمع بين المعرفة والإنكار،وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر ، وخصلة فسوق وخصلة عدالة .
****
باب قول الله تعالى :
( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية22)
ـــــــــــــــــــــ
قوله : (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)
لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: 21-22) . فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له ، لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك ، ولا يبغي أن يعبد إلا من فعل ذلك ، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية ، أي : فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا .
و(لا) هذه ناهية ، أي : فلا تجعلوا له أندادا في العبادة ، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته ، لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله – عز وجل - ، كاشتقاق العزى من العزيز ، وتسميتهم رحمن اليمامة .
قوله : (أندادا) . جمع ند ، وهو الشبيه والنظير ، والمراد هنا : أندادا في العبادة .
(66/6)
قوله : (وأنتم تعلمون) . الجملة في موضع نصب حال من فاعل (تجعلوا) ، أي : والحال أنكم تعلمون ، والمعنى : وأنتم تعلمون أنه لا أنداد له – يعني في الربوبية -، لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية ، أما الألوهية ، فيجعلون له أندادا ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشي عجاب) (ص : 5) ، ويقولون في تلبيتهم : (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) ، وهذا من سفههم ، فإنه إذا صار مملوكا ، فكيف يكون شريكا ، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله : (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) ، إذ الأنداد بالمعنى العام – بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية – يشمل الأنداد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
وقال ابن عباس في الآية : ( الأنداد هو الشرك ، أخفي من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو ان تقول : والله وحياتك يا
ــــــــــــــــــــ
****
قوله :(وقال ابن عباس في الآية) . أي : في تفسيرها .
قوله : (هو الشرك) . هذا تفسير بالمراد ، لأن التفسير تفسيران :
تفسير بالمراد ، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها .
تفسير بالمعنى ، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات ، فعندنا الآن وجهان للتفسير :
أحدهما : التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات ، وهذا يقال فيه : معناه كذا وكذا .
الثاني : التفسير بالمراد ، فيقال : المراد بكذا وكذا ، والأخير هنا هو المراد .
فإذا قلنا : الأنداد الأشباه والنظراء ، فهو تفسير بالمعنى ، وإذا قلنا : الأنداد الشركاء أو الشرك ، فهو تفسير بالمراد ، يقول رضى الله عنه(الأنداد هو الشرك)، فإذا الند الشريك المشارك لله – سبحانه وتعالى – فيما يختص به .
(66/7)
فلان، وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار ، لأتي اللصوص، وقول الرجل لصاحبه لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك)رواه ابن أبي حاتم(1)
ـــــــــــــــــــــــ
وقوله : (دبيب) . أي : أثر دبيب النمل وليس فعل النمل .
وقوله : (على صفاة) هي الصخرة الملساء .
وقوله :(سوداء) . وليس على بيضاء ، إذ لو كان على بيضاء لبان أثر السير أكثر .
وقوله : (في ظلمة الليل) . وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء .
فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا ، فنسأل الله أن يعين على التخلص منه ، ولهذا قال بعض السلف : (ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص)، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قال مثل هذا، قيل له :كيف نتخلص منه ؟ قال : قولوا : اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلم ) (2).
وقوله : (والله وحياتك) . فيها نوعان من الشرك :
الأول : الحلف بغير الله .
الثاني : الإشراك مع الله بقوله : والله ! وحياتك ! فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية فيها نوع من الشرك ، والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة ، فهو شرك أكبر، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وقوله : (وحياتي) فيه حلف بغير الله فهو شرك .
وقوله : (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص) ، كليبة تصغير كلب ، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية والحرث .
قوله : (لولا كليبة هذا) يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبب، وهو الله –عز وجل – أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم، فقد تقدم أنه لا بأس به ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لولا أنا ، لكان في الدرك السفل من النار)(1) لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا وكذا ، قد يقع في قلبه شي من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب ، وهو الله – عز وجل - .
(66/8)
وقوله : (لولا البط في الدار لأتى اللصوص) . البط طائر معروف ، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط ، فإنه يصرخ ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص .
وقوله : (وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت) فيه شرك ، لأنه شرك غير الله مع الله بالواو ، فإن اعتقد أنه يساوي الله – عز وجل – في التدبير والمشيئة ، فهو شرك أكبر ، وأن لم يعتقد ذلك ، واعتقد أن الله – سبحانه وتعالى – فوق كل شي ، فهو شرك أصغر ، وكذلك قوله : (لولا الله فلان) .
وقوله : (هذا كله به شرك) . المشار إليه ما سبق ، وهو شرك أكبر أو اصغر وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه الترمزيوحسنه وصححه الحاكم (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك .
قوله : (وعن عمر) . صوابه عن ابن عمر ، نبه عليه الشارح في (تيسير العزيز الحميد) .
قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : (من حلف بغير الله) . (من) شرطية ، فتكون للعموم.
قوله : (أو أشرك) . شك من الراوي ، والظاهر أن الصواب الحديث (أشرك)
قوله : (من حلف بغير الله) . يشمل كل محلوف به سوى الله ، سواء بالكعبة أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الأسماء أو غير ذلك ، ولا يشمل الحلف بصفات الله ، لأن الصفة تابعة للموصوف ، وعلى هذا فيجوز أن تقول : وعزة الله لأفعلن كذا .
وقوله : (بغير الله ) . ليس المراد بغير هذا الاسم ، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم ، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع ، فهو حلف بالله .
والحلف : تأكيد الشي بذكر معظم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو . وحروف القسم ثلاثة : الباء ، والتاء ، والواو .
(66/9)
والباء : أعمها، لأنه تدخل على الظاهر والمضمر وعلى أسم الله وغيره ، ويذكر معها فعل القسم ويحذف ، فيذكر معها فعل القسم ، كقوله تعالى : (وأقسموا بالله جهد أيمانكم) (الأنعام :109) ، ويحذف مثل قولك : بالله لأفعلن ، وتدخل على المضمر مثل قولك : الله عظيم أحلف به لأفعلن ، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة ، مثل قولك : بالسميع لأفعلن ، وأما الواو ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم ، ولا تدخل على الضمير ، ويحلف بها مع كل اسم ، وأما التاء ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم وتختص بالله ورب ، قال بن مالك : ( والتاء لله ورب) . والحلف بغير الله شرك أكبر إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة ، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وهل يغفر الله الشرك الأصغر؟
قال بعض العلماء : إن قوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (النساء : 116) ، أي : الشرك الكبر (ويغفر ما دون ذلك) ، يعني : الشرك الصغر والكبائر .
وقال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله:إن الشرك لا يغفره لله ولو كان أصغر ، لأن قوله : (أن يشرك به) مصدر مؤول ، فهو نكرة في سياق النفي ، فيعم الصغر والأكبر ،والتقدير : لا يغفر شركا به أو إشراكا به .
وأما قوله تعالى:(والشمس وضحاها)(الشمس:1)،وقوله:(لا أقسم بهذا البلد) (البلد : 1)، وقوله : (والليل إذا يغشى) (الليل : 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي اقسم الله بها ، فالجواب على وجهين :
الأول:أن هذا من فعل الله والله لا يسأل عما يفعل،وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه ، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه .
الثاني : أن قسم الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته ، فيكون القسم به الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنا للثناء على الله – عز وجل – بما تقتضيه من الدلالة على عظمته .
وأما نحن ، فلا نقسم بغير الله أو صفاته ، لأننا منهيون عن ذلك .
(66/10)
وأما ما ثبت في (صحيح مسلم)من قوله صلى الله عليه وسلم : (أفلح وأبيه إن صدق)(2) .
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة ، وقال : إنها لم تثبت في الحديث ، لأنها مناقضة للتوحيد،وما كان كذلك ، فلا تصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون باطلا .
الثاني : أنها تصحيف من الرواة ، والأصل : (أفلح والله إن صدق) .
وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات ، و(أبيه) تشبه (الله) إذا حذفت النقط السفلي .
الثالث : أن هذا ما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال الله تعالى : (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان)(المائدة : 89)، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ .
الرابع : أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس عن الشرك ، فيكون من خصائصه ، وإما من غيره ، فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في الإخلاص والتوحيد .
الخامس : أنه على حذف مضاف ، والتقدير : (أفلح ورب أبيه) .
السادس : أن هذا على منسوخ ، وأن النهي هو الناقل من الأصل ، وهذا من أقرب الوجوه .
ولو قال قائل : نحن نقلب عليكم الأمر ، ونقول : إن المنسوخ هو النهي ، لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور ثم أذن لهم فيها(1) ؟
فالجواب عنه : أن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم ، فتركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه ، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا ثم أمروا باجتنابه .
أما بالنسبة للوجه الأول، فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح ، فإنه يجوز إنكاره .
أما الوجه الثاني ، فبعيد ، وإن أمكن ، فلا يمكن في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الصدقة افضل؟ فقال : (أما وأبيك لتنبأنه)(2) .
(66/11)
وأما الوجه الثالث ، فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم(3) ، ولو صح هذا ، لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى ، لأن هذا من عادته ، وهذا باطل .
وأما الرابع ، فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل ، وإلا ، فالأصل التأسي به .
وأما الخامس : فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا ، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد ، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم ، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد ، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به ، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات ، فالله أعلم .
قال ابن مسعود : ( لأن أحلف بلله كاذبا أحلب إلي من أن أحلف بغيره صادقا )(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
****
قوله في اثر ابن مسعود : (لأن أحلف بالله كاذبا) . اللام : لام الابتداء ، و(أن) مصدرية ، فيكون قوله : (أن أحلف) مؤولا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله .
قوله : (أحب إلىّ) . خبر مبتدأ ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : (وأن تصوموا خير لكم) (البقرة : 184) .
قوله : (كاذبا) حال من فاعل أحلف .
قوله:( أحب إلىّ) هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه من الجانبين ، وهذا نادر في الكلام ، لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه ، وأحيانا في المفضل دون المفضل عليه ، وأحيانا لا يوجد في الجانبين ، فابن مسعود رضى الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا ، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادق، فالحلف كاذبا محرم من وجهين :
1. أن كذب ، والكذب محرم لذاته .
(66/12)
2. أن هذا الكذب قرن باليمين ، واليمين تعظيم لله – عز وجل - ، فإذا كان على كذب صار فيه شي من تنقص لله – عز وجل - ، حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب ، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين المغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار .
وأما الحلف بغير الله صادقا ، فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك ، لكن سيئه الشرك أعظم من سيئة الكذب ، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا ، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا : إن الحلف بالله كاذبا ، من اليمين الغموس ، لأن الشرك لا يغفر ، قال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به)(النساء:116) وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب ، قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان : 13) ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم؟ قال : (إن تجعل لله ندا وهو خلقك)(1) ، والشرك متضمن للكذب ، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب ، بل من أكذب الكاذبين ، لأن الله لا شريك له .
****
وعن حذيفة رضي الله عنه ؛ أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال : ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ) رواه أبو داوود بسند صحيح (1)
ـــــــــــــــــــــــ
قوله في حديث حذيفة رضى الله عنه : (لا تقولوا) . (لا) الناهية ، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون .
قوله : (ما شاء الله وما شاء فلان) . والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه ، فيكون القائل : ما شاء الله وشئت مسويا مشيئة الله بمشيئة المخلوق ، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق ، أو أنه مساو له ، فهو شرك اكبر ، وإن اعتقد أنه أقل ، فهو شرك اصغر .
قوله : (ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان) . لما نهي عن اللفظ المحرم بين اللفظ المباح ، لأن (ثم) للترتيب والتراخي ، فنفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه .
(66/13)
أما بالنسبة لقوله :(ما شاء الله فشاء فلان) ، فالحكم فيه أنها مرتبة بين مرتبة (الواو) ومرتبة (ثم) فهي تختلف عن (ثم) بأن (ثم) للتراخي والفاء للتعقيب ، وتوافق (ثم) بأنها للترتيب ، فالظاهر أنها جائزة ، ولكن التعبير ب (ثم) أولى لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق .
ويستفاد من هذا الحديث :
1. إثبات المشيئة للعبد ، لقوله : (ثم شاء فلان) ، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا : إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار .
2. أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرما أن يفتح لهم الباب المباح ، لقوله : (ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان) ، ونظير ذلك قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) (البقرة : 104) ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما جي له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، وقال : (لا تفعل ، ولكن بع الجمع بالدراهم ، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1)، أي : تمرا جيدا، فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم.
وفي هذا فائدتان عظيمتان :
الأولى : بيان كمال الشريعة وشمولها ، حيث لم تسد على الناس بابا إلا فتحت لهم ما هو خير منه .
الثانية : التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم ، فعامل الناس بهذا ما استطعت ، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا ، فافتح لهم من المباح ما يغني عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلا حتى لا يقعوا في الحرج .
****
وجاء عن ابراهيم النخعي : ( أنه يكره : أعوذ بلله وبك ، ويجوز أن يقول بلله ثم بك ). قال : ويقول : (ولولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا لولا اله وفلان ).
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (عن إبراهيم النخعي) . من فقهاء التابعين ، لكنه قليل البضاعة في الحديث ، كما ذكر ذلك حماد بن زيد .
(66/14)
قوله : ( يكره أعوذ بالله وبك) . العياذ الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه ، واللياذ بالشخص : هو اللجوء إليه لطلب المحبوب ، قال الشاعر :
يا من ألوذ به فيما أومله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله .
وقوله : (أعوذ بالله وبك) . هذا محرم ، لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو الواو .
ويجوز بالله ثم بك ، لأن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي .
فإن قيل : سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله ، وعلى هذا يكون قوله : أعوذ بالله ثم بك محرما .
أجيب : أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في (صحيح مسلم) وغيره : (من وجد ملجأ، فليعذ به)(2) ، لكنه قال : أعوذ بالله ثم بفلان . وهو ميت ، فهذا شرك أكبر لأنه لا يقدر على أن يعيذك ، وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، ثم قال رحمه الله : والاستعاذة لا تكون بمخلوق فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق،وهو كلام الله ، والكلام تابع للمتكلم به ، إن كان مخلوقا ، وإن كان غير مخلوق، فهو غير مخلوق .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد . وقد سبق
الثانية : أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الصغر ، لأن قوله تعالى : (فلا تجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون) نازلة في الأكبر، لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر ، لأن الند يشمل النظير المساوي على سبيل الإطلاق أو في بعض الأمور .
الثالثة : الحلف بغير الله شرك. لحديث ابن عمر رضى الله عنهما .
(66/15)
الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقا ، فهو أكبر من اليمين الغموس . واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا ، وقال بعض العلماء – وهو الصحيح : أن يحلف بغير الله كاذبا ليقتطع بها مال امري مسلم .
الخامسة : الفرق بين الواو وثم في اللفظ . لأن الواو تقتضي المساواة ، فتكون شركا ، وثم تقتضي الترتيب والتراخي ، فلا تكون شركا .
****
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بلله
ـــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :
أن الاقتناع بالله من تعظيم الله ، لأن الحالف أكد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين وهو تعظيم المحلوف به ، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف ، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شي من نقص تعظيم الله ، وهذا ينافي كمال التوحيد ، والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون ذلك من الناحية الشرعية، فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف،فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضى الحكم الشرعي .
الثاني : أن يكون ذلك من الناحية الحسية ، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة ، فإنك ترضى بيمينه ، وإن كان غير ذلك ، فلك أن ترفض الرضا بيمينه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة : (تبرئكم يهود بخمسين يمينا . فقالوا : كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟) .(1) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
****
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بلله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله ، ) رواه ابن ماجة بسند حسن (1)
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله في الحديث : (لا تحلفوا) .(لا): ناهية، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون ، و (آباؤكم) : جمع أب ، ويشمل الأب والجد ، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم ، لأنه شرك ، وقد سبق بيانه .
(66/16)
قوله صلى الله عليه وسلم : (من حلف بالله ، فليصدق، ومن حلف له بالله ، فليرض) هنا أمران :
الأمر الأول: للحالف، فقد أُمر أن يكون صادقا ، والصدق : هو الإخبار بما يطابق الواقع ، وضده الكذب ، وهو : الإخبار بما يخالف الواقع ، فقوله : (من حلف بالله ،فليصدق) ، أي : فليكن صادقا في يمينه ، وهل يشترط أن يكون مطابقا للواقع أو يكفي الظن ؟
الجواب : يكفي الظن، فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه ، كقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم : والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فأقره النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : للمحلوف له ،فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له .
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض،فإن الأمر الثاني ينزل على إذا كان الحالف صادقا، لأن الحديث جمع أمرين : أمرا موجها للحالف ، وأمرا موجها للمحلوف له ، فإن كان الحالف صادقا ، وجب على المحلوف له الرضا .
فإن قيل : إن كان صادقا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟
أجيب : أن اليمين تزيده توكيدا .
(66/17)
قوله : (ومن لم يرض، فليس من الله ) أي : من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له ، فليس من الله ، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب ، ولكن لابد من ملاحظة ما سبق ، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلا على أنه إذا كان الحالف غير ثقة ، فلك أن ترفض الرضا به ، لأنه غير ثقة ، فلو أن أحدا حلف لك ، وقال : والله ، إن هذه الحقيبة من خشب . وهي من جلد ، فيجوز أن لا ترضى به لأنك قاطع بكذبه ، والشرع لا يأمر بشي يخالف الحس والواقع، بل يأمر إلا بشي يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن ، وإن كان العقل لا يدرك أحيانا مدى حسن هذا الشي الذي أمر به الشرع ، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن ، لأن الله تعالى يقول : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة : 50) فإذا اشتبه عليك حسن شي من أحكام الشرع ، فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير ، أما أن تتهم الشرع ، فهذا لا يمكن ، وما صح عن الله ورسوله ، فهو حق وهو من أحسن الأحكام .
****
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى . الثالثة : وعيد من لم يرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . لقوله : (لا تحلفوا بآبائكم) ، والنهي للتحريم .
الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى . لقوله : (من حلف له بالله، فليرض) ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثالثة : وعيد من لم يرض . لقوله : (ومن لم يرض، فليس من الله) .
الرابعة : ولم يذكرها المؤلف - : أمر الحالف أن يصدق لأن الصدق واجب في غير اليمين ، فكيف باليمين ؟
وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم، وقال بعض العلماء : أنها اليمين الغموس .
وأما بالنسبة للمحلوف له ، فهل يلزمه أن يصدق أم لا؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس :
الأولى : أن يعلم كذبه ، فلا أحد يقول : إنه يلزم تصديقه .
(66/18)
الثانية : أن يترجح كذبه ، فكذلك لا يلزم تصديق .
الثالثة : أن يتساوى الأمران ، فهذا يجب تصديقه .
الرابعة: أن يترجح صدقه ، فجب أن يصدق .
الخامسة : أن يعلم صدقه ، فيجب أن يصدق .
وهذا في الأمور الحسية ، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم ، فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها ، لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي ، وهو واجب .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن قول : (ما شاء الله وشئت) من الشرك الأكبر أو الأصغر ، لأنه إن اعتقد أن المعطوف مساو لله ، فهو شرك أكبر ، وإن اعتقد أنه دونه لكن أشرك به في اللفظ ، فهو أصغر ، وقد ذكر بعض أهل العلم : أن من جملة ضوابط الشرك الصغر أن ما كان وسيلة للأكبر فهو أصغر .
باب قول : ما شاء الله وشئت :
عن قتيلة : أن يهوديا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وان يقولوا : ما شاء الله ثم شئت . رواه النسائي وصححه (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
****
قوله : ( أن يهوديا) . اليهودي : هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام ، وسموا بذلك من قوله تعالى : (إنا هدنا إليك) ، أي : رجعنا ، أو لأن جدهم يهوذا ابن يعقوب ، فتكون التسمية من أجل النسب ، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل ، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعا .
قوله : ( إنكم تشركون) . أي : تقعون في الشرك أيها المسلمون .
قوله : (ما شاء الله وشئت) . الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساويا للمعطوف عليه ، وهو الله - عز وجل - ، حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية .
قوله : (والكعبة) . الشرك هنا أنه حلف بغير الله ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله اليهودي ، بل أمر بتصحيح هذا الكلام ، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، فيكون القسم بالله .
(66/19)
وأمرهم أن يقولوا : ما شاء الله ، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق ، وبذلك يكون الترتيب صحيحا ، أما الأول ، فلأن الحلف صار بالله ، وأما الثاني ، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله ، وأنه لا مساواة بينهما .
ويستفاد من هذا الحديث :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأن ما قاله حق .
مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق .
أنه ينبغي عند تغيير الشي أن يغير إلى شي قريب منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا : (ورب الكعبة)، ولم يقل : احلفوا بالله ، وأمرهم أن يقولوا : (ما شاء الله، ثم شئت) .
إشكال وجوابه :
هو أن يقال : كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي ؟
جوابه : أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به .
ولكن يقال : بأن الله يعلم ، فكيف يقرهم؟
فيبقى الإشكال ، ولكن يجاب : إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر ، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركا أكبر ولا يرون عيبهم .
وله أيضا عن ابن عباس ، ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشءت ، فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟! بل قل ما شاء الله وحده )(1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
***
قوله في حديث ابن عباس رضى الله عنهما : (أن رجلا قال للنبي صلى الله علي وسلم . الظاهر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما ، وأنه جعل الأمر مفوضا لمشيئة الله ومشيئة رسوله .
قوله : (أجعلتني لله ندا؟!) . الاستفهام للإنكار ، وقد ضمن معنى التعجب ، ومن جعل للخالق ندا فقد أتى شيئا عجابا .
والند : هو النظير والمساوي ، أي جعلتني لله مساويا في هذا الأمر ؟
(66/20)
قوله : (بل ما شاء الله وحده) . أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بعدت .
يستفاد من الحديث :
1. أن تعظيم النبي صلى الله عليه بلفظ مساواته للخالق شرك ، فإن كان يعتقد المساواة ، فهو شرك اكبر ، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك ، فهو أصغر وإذا كان هذا شركا ، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذا أعظم ، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شي من خصائص الربوبية ، بل يلبس الدرع ، ويحمل السلاح ، ويجوع ، ويتألم ، ويمرض ، ويعطش كبقية الناس ، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم ، قال تعالى : (قل إنما أنا بشر مثلكم) ، فهو بشر ، وأكد هذه البشرية بقوله : (مثلكم)، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى : (يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) (الكهف :110)، ولاشك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه : أعطاه من الصبر العظيم ، وأعطاه من الكرم ومن الجود ، لكنها كلها في حدود البشرية ، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية ، فهذا أمر لا يمكن ، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله . فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها ، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له ، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه ، ولكننا لا ننزله منزلة الرب – عز وجل - .
2. إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (أجعلتني لله ندا؟) ، مع أنه فعل ذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام ، فالواجب عليك الإنكار .
(66/21)
3. أن من حسن الدعوة إلى الله – عز وجل – أن نذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قول : (ما شاء الله وشئت) أرشده إلى الجائز وهو قوله : (بل ما شاء الله وحده) .
لابن ماجه عن الطفيل ـ أخي عائشة لأمها ـ قال : رأيت كاني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا انكم تقولون : عزيز ابن الله ، قالوا : لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت بنفر من النصاري ، فقلت إنكم لأنتم القوم لولا انكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا :لأنتم القوم لولا انكم
ـــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث الطفيل : (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود) . أي رؤيا في المنام .
قوله : (كأن) : اسمها الياء، وجملة (أتيت) خبرها .
وقوله : (على نفر) من الثلاثة إلى التسعة ، واليهود أتباع موسى .
قوله : (لأنتم القوم) . كلمة مدح ، كقولك : هؤلاء هم الرجال .
وقوله : (عزيز) هو رجل صالح ادعى اليهود أنه ابن الله ، وهذا من كذبهم ، وهو كفر صريح ، واليهود لهم مثالب كثيرة ، لكن خصت هذه لأنها من أعظمها وأشهرها عندهم .
تقولون ما شاء الله وشاء محمد ،فلما اصبحت أخبرت بها من اخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، قال : ( هل أخبرت أحدا ؟ قلت : نعم . قال : فحمد الله ، وأثني عليه ثم قال:أما بعد فإن طفيلا رأي رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد،ولكن قولوا ما شاء الله وحده )(1)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ما شاء الله وشاء محمد) هذا شرك أصغر ، لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مساوية لمشيئة الله ، فانتقدوا عليهم تسوية مشيئة الرسول بمشيئة الله - عز وعلا - .
(66/22)
قوله : (تقولون : المسيح ابن الله) : هو عيسى ابن مريم وسمي مسيحا بمعنى ماسح ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برى بإذن الله ، كالأكمه والأبرص .
والشيطان لعب بالنصارى فقالوا : هو ابن الله ، لأنه أتى بدون أب ، كما في القرآن : (فنفخنا فيها من روحنا) (الأنبياء : 91) ، قالوا : هو جزء من الله ، لأن أضافه إليه ، والجزء هو الابن .
والروح على الراجح عند أهل السنة : ذات لطيفة تدخل الجسم وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس ، ولهذا يقبضها الملك عند الموت وتكفن ويصعد بها ويراها الإنسان عند موته ، فالصحيح أنها ذات وإن كان بعض الناس يقول : إنها صفة، ولكنه ليس كذلك ، والحياة صحيح أنها صفة لكن الروح ذات ، إذا نقول لهؤلاء النصارى : إن الله أضاف روح عيسى إليه كما أضاف البيت والمساجد والناقة وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفا وعظمة ، حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله : (فما أصبحت أخبرت بها من أخبرت) (طه : 78) ، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة، وقد يكون للتحقير حسب السياق ، وقد يراد به معنى آخر .
قوله:(هل أخبرت بها أحدا؟) . سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال ، لأنه لو قال : لم أخبر أحدا، هذا هو الظاهر ، ثم بين الحكم عليه الصلاة والسلام ، لكن لما قال : إنه أخبر بها ، صار لابد من بيانها للناس عموما ، لأن الشي إذا انتشر يجب أن يعلن عنه ، بخلاف إذا كان خاصا ، فهذا اخبر بها ، صار لابد من بيانها للناس عموما ، لأن الشي إذا انتشر يجب أن يعلن عنه ، بخلاف إذا كان خاصا ، فهذا يخبر من وصله الخبر .
قوله : (فحمد الله) . الحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
قوله :(وأثني عليه) . أي كرر ذلك الوصف .
(66/23)
قوله:(أما بعد) . سبق أنها بمعنى مهما يكن من شي بعد ، أي : بعد ما ذكرت ، فكذا وكذا .
قوله : ( يمنعني كذا وكذا) . أي : يمنعه الحياء كما في رواية أخرى ، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل ، ولكن من أن ينهى عنها دون أن يأمره الله بذلك ، هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة : أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من الحق ، ولكن الحياء من أن ينكر شيئا درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار ، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حرمت في سورة المائدة ، فالرسول صلى الله عليه لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت ، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى رأي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من إنكارها لدخول اللوم على المسلمين للنطق بها .
قوله : (قولوا ما شاء الله وحده) . نهاهم عن الممنوع ، وبين لهم الجائز .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر . لقوله : (إنكم لتشركون) .
الثانية : فهم الإنسان إذا كان له هوى . أي : إذا كان له هوى فهم شيئا ، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه ، فاليهود – مثلا – أنكروا على المسلمين قولهم : (ما شاء الله وشئت) ، وهم يقولون أعظم من هذا ، يقولون : عزيز ابن الله ، ويصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب .
(66/24)
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه ، فتجده يحمل النصوص على من الدلالات ما لا تحتمل ، كذلك أيضا بعض العصريين يحمل النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك ، وكل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعا لها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه ، ثم يكون فهمه تابعا لها ، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده ، ولهذا يقولون : استدل ثم اعتقد ، ولا تعتقد ثم تستدل ، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه ، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى ، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه .
الثالثة : قوله صلى الله عليه وسلم : (أجعلتني لله ندا؟!) وهو قوله : (ما شاء وشئت) .
وقوله : (فكيف بمن قال : ما لي ألوذ به سواك ... ) يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة – القصيدة المشهورة -، يقول فيها :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي عفوا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح و القلم
وهذا غاية الكفر والغلو ، فلم يجعل لله شيئا ، والنبي صلى الله عليه وسلم شرفه بكونه عبد الله ورسوله ، لا مجرد كونه محمد بن عبد الله .
الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : (يمنعني كذا وكذا) لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شي من إنكاره .
(66/25)
الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي . تؤخذ من حديث الطفيل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) (1) . لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر ، فإذا نسبت هذا إلي بقية زمن الوحي ، كان جزءا من ستة وأربعين جزءا ، لأن الوحي كان ثلاثة وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له .
والرؤيا الصالحة : هي التي تضمن الصلاح ، وتأتي منظمة وليست بأضغاث أحلام .
أما أضغاث الأحلام ، فإنها مشوشة غير منظمة ، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إني رأيت رأسي قد قطع ، وإني جعلت أشتد وراءه سعيا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك)(2)، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان ، قال الله تعالى : (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) (المجادلة : 10) ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى ما يكره أن يتفل عن يساره ، أو ينفث ثلاث مرات ، وأن يقول : (أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت . وان يتحول إلى الجانب الآخر ، وأن لا يخبر أحدا)(3) ، وفي رواية : (أمره أن يتوضأ وأن يصلي)(4) .
(66/26)
السادسة : أنه قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام ، من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه ، وهذا الحديث ، وكذلك أثبت النبي صلى الله عليه رؤيا عبد بن زيد في الأذان ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنها رؤيا حق)(5)، وأبو بكر رضى الله عنه أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن شماس، فقال للذي رآه : إنكم ستجدون درعي تحت برمة ، وعنده فرس يستن . فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره ، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس(6)، فنفّذ أبوبكر وصيته؛ لوجد القرائن التي تدل على صدقها، لكن لو دلّت على ما يخالف الشريعة؛ فلا عبرة بها، ولا يلتفت إليها؛ لأنها ليست رؤيا صالحة.
باب من سب الدهر
ــــــــــــــــــــــــ
السبّ : الشتم، والتقبيح، والذم، وما أشبه ذلك.
الدَّهر : هو الزمان والوقت.
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللّوم، فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: (هذا يوم عصيب) (هود: 77).
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبِّه الدهر أن الدهر هو الذي يٌقلِّب الأمور إلى الخير والشر؛ فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً؛ لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقاً؛ فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يٌعبَد؛ فإنه كافر.
(66/27)
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السَّفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبِّه تعود إلى الله –سبحانه-؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلاً، وليس هذا السبب يٌكفِّر؛ لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.
قوله: (فقد آذى الله). لا يلزم من الأذية الضرر؛ فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً) (الأحزاب: 57)، وفي الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار)(1)، ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: (إنهم لن يضروا الله شيئاً) (آل عمران: 176)، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)(2) رواه مسلم.
وقول الله تعالى : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية:24)
ــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا). المراد بذلك المشركون الموافقون للدٌّهرية –بضم الدال على الصحيح عند النسبة؛ لأنه مما تغيّر فيه الحركة-، والمعنى وما الحياة والوجود إلا هذا؛ فليس هناك آخرة، بل يموت بعض ويحيا آخرون، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا، ويقولون: إنها أرحام تدفع وأرض تبلع ولا شيء سوى هذا.
(66/28)
قوله: (وما يهلكنا إلا الدهر). أي: ليس هلاكنا بأمر الله وقدره، بل بطول السنين لمن طالت مدته، والأمراض والهموم والغموم لمن قصرت مدته؛ فالمهلك لهم هو الدهر.
قوله: (وما لهم بذلك من علم). (ما): نافية، و(علم): مبتدأ خبره مقدم (لهم)، وأكد بـ(من)؛ فيكون للعموم: أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير، بل العلم واليقين بخلاف قولهم.
قوله: (إن هم إلا يظنون). (إن): هنا نافية لوقوع (إلا) بعدها؛ أي: ما هم إلا يظنون.
الظن هنا بمعنى الوهم؛ فليس ظناً مبنياً على دليل يجعل الشيء مظنوناً، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له؛ فلا حجة لهم إطلاقاً، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم، وأيضاً يستعمل بمعنى العلم واليقين؛ كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) (البقرة: 46).
والرد على قولهم بما يلي:
أولاً: قولهم: (وما هي إلى حياتنا الدنيا نموت ونحيا).
وهذا يرده المنقول والمعقول.
أما المنقول؛ فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده.
وأما المعقول، فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه والجهاد لإعلاء كلمة الله، مع ما في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك تٌراباً لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب، وحكمة الله تأبى هذا، قال تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (القصص: 85)؛ أي: الذي أنزل عليك القرآن وفرض العمل به والدعوة إليه لابد أن يردك إلى معاد تجازى فيه ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة.
ثانياً: قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر)؛ أي: إلا بمرور الزمن.
(66/29)
وهذا يرده المنقول والمحسوس:فأما المنقول؛ فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإماتة بيد الله –عز وجل-؛ كما قال الله تعالى: (هو يٌحيي ويٌميت وإليه تٌرجَعون) (يونس: 56)، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (وأحيي الموتى بإذن الله) (آل عمران: 49).
وأما المحسوس؛ فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة؛ كنوح عليه السلام وغيره ولم يهلكه الدهر، ونشاهد أطفالاً يموتون في الشهر الأول من ولادتهم، وشباباً يموتون في قوة شبابهم؛ فليس الدهر هو الذي يميتهم.
مناسبة الآية للباب:
أن في الآية نسب الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر؛ فسوف يَسٌبٌّ الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله: (وفي الصحيح) عن أبي هريرة... إلى آخره). هذا الحديث يٌسمى الحديث القدسي أو الإلهي أو الرباني، وهو كل ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه -عز وجل-، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب.
(66/30)
قوله: (قال الله تعالى). تعالى من العلو، وجاءت بهذه الصيغة للدلالة على ترَفٌّعِه –جل وعلا- عن كل نقص وسفل؛ لأنها تحمل معنى التَّرَفٌّع والتَّنَزٌّه عما يقوله المعتدون علواً كبيراً. قوله: (يؤذيني ابن آدم). أي: يلحق بي الأذى؛ فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها؛ لأن الله أثبتها لنفسها، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق؛ بدليل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: 11) وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات، لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه؛ فليس فيه احتمال للتمثيل؛ إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه؛ لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله.
قوله: (ابن آدم). شامل للذكور والإناث، وآدم هو أبو البشر، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلَّمَه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة، وهي أن الآدميين نشؤوا من قرد لا من طين، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة، وهذا القول لا شك أنه كفر وتكذيب صريح للقرآن؛ فيجب علينا أن ننكره إنكاراً بالغاً، وأن لا نقره في كتب المدارس، فمن زعم هذه الفكرة يٌقال له: بل أنت قرد في صورة إنسان، ومثلك كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وأجابه بعض العلماء بجواب؛ فقال: أنت الآن أقررت أنك ولد زنا، وإقرارك على نفسك مقبول وعلى غيرك غير مقبول، ومثلك كما قال الشاعر:
(66/31)
كذلك إقرار الفتى لازم له وفي غيره لغوُ كما جاء شرعٌنا
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا؛ فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه.
وأيضاً مما يحذر عنه كلمة (فكر إسلامي)؛ إذ معنى هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر، والإسلام شرع من عند الله وليس فكراً لمخلوق.
قوله: (يسب الدهر). الجملة تعليل للأذية أو تفسير لها؛ أي: بكونه يسب الدهر؛ أي: يشتمه ويٌقَبِّحٌه ويلومه وربما يلعنه –والعياذ بالله- يؤذي الله، والدهر: هو الزمن والوقت، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر.
قوله: (وأنا الدهر). أي: مٌدبِّر الدهر ومٌصَرِّفه، لقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران: 140)، ولقوله في الحديث: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر.
ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه، ومن قال ذلك؛ فقد جعل الله مخلوقاً، والمقلِّب بكسر اللام مقلَّباً بفتح اللام.
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعاً في كلام الله وكلام رسوله وفي اللغة؟
(66/32)
أٌجيب: إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام المحذوف تقديره: وأنا مٌقلب الدهر؛ لأنه فسره بقوله: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول، المقلب هو المقلب، وبهذا عرف خطأ من قال: إن الدهر من أسماء الله، كابن حزم رحمه الله؛ فإنه قال: (إن الدهر من أسماء الله)، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث، وغفلة عن الأصل في أسماء الله، فأما مدلول الحديث؛ فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله، وإنما أرادوا سبَّ الزمن؛ فالدهر هو الزمن في مرادهم، وأما الأصل في أسماء الله؛ أن تكون حسنى؛ أي: بالغة في الحسن أكمله، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسماً جامداً أبداً؛ لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن، لكن أسماء الله كلها حسنى؛ فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان، والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن، وعلى هذا؛ فينتفي أن يكون اسماً لله تعالى لوجهين:
الأول: أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء.
الثاني: أن أسماء الله حسنى، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات.
فلا يحكم المعنى الذي يوصف بأنه أحسن، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى، بل إنه الزمن، ولكن مقلب الزمن هو الله، ولهذا قال: (أقلب الليل والنهار).
(66/33)
قوله: (أقلب الليل والنهار). أي: ذواتهما وما يحدث فيهما؛ فالليل والنهار يٌقَلَّبان من طول إلى قصر إلى تساوٍ، والحوادث تتقلب فيه في الساعة وفي اليوم وفي الأسبوع وفي الشهر وفي السنة، قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26)، وهذا أمر ظاهر، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر؛ لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا، ومجرد ظهور سلطان الله –عز وجل- وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحب هذا السلطان والقدرة، فيتضرع ويلجأ إليه.
قوله: (وفي رواية: لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر). وفائدة هذه الرواية أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
قوله: (فإن الله هو الدهر). وفي نسخة: (فإن الدهر هو الله)، والصواب: (فإن الله هو الدهر).
وقوله: (فإن الله هو الدهر)؛ أي: فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه، وهذا تعليل للنهي، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المٌعَلِّل حكماً؛ فهذه ثلاث فوائد في قَرن العلة بالحكم.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر. لقوله: (لا تسبوا الدهر).
الثانية: تسميته أذى لله. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم).
الثالثة: التأمل في قوله: فإن الله هو الدهر. فإذا تأملنا فيه وجدنا أن معناه أن الله مٌقَلِّب الدهر ومٌصَرِّفه وليس معناه أن الله هو الدهر، وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر)، ولم يذكر قصداً ولو عَبَّر الشيخ بقوله: أنه قد يكون مؤذياً لله وإن لم يقصده؛ لكان أوضح وأصح، لأن الله صرح بقوله: (يسب الدهر)، والفعل لا يضاف إلا لمن قصده.
(66/34)
وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل، منها: تفسير آية الجاثية، وقد سبق ذلك.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
ـــــــــــــــــــــ
قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة). أي: وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره.
قوله: (قاضي القضاة). قاضي: بمعنى حاكم، والقضاة؛ أي: الحكام، و(أل) للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحكام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين، وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان؛ لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي؛ فهو لا يٌلزم، ولهذا قالوا: القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء؛ فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي؛ أي : يخبر عن حكم الله وشرعه، ويٌلزم الخصمين بما حكم به.
* مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من تسمى بهذا الاسم؛ فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا يستحقه إلا الله؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله –سبحانه وتعالى-؛ فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويٌرجع إليه الأمر كله كما ذكر الله ذلك في القرآن.
وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء كوني .
2- قضاء شرعي.
والقضاء الكوني لابد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله وفيما كرهه، قال تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) (الإسراء: 4)؛ فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله؛ لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لابد أن يقع ولا معارض له إطلاقاً.
(66/35)
وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي؛ فمثل قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (الإسراء: 23)، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه متعلق فيما يحبه الله، وقد سبق الكلام عن ذلك.
فإن قلت: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يٌقال: قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر أو الشام، أو ما أشبه بذلك؛ فهل يجوز هذا؟
فالجواب: أن هذا جائز؛ لأنه مٌقَيَّد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله –عز وجل-، على أنه لا ينبغي أيضاً أن يتسمى الإنسان بذلك أو يٌسمَّى به وإن كان جائزاً؛ لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه؛ فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز لا ينبغي أن يقبله اسماً لنفسه أو وصفاً له، ولا أن يتسمى به.
فإذا قٌيِّد بزمان أو مكان ونحوهما؛ قلنا: إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل، ولكن إذا قٌيِّد بفن من الفنون؛ هل يكون جائزاً؟
مقتضى التقييد أن يكون جائزاً، لكن إن قٌيِّد بالفقه بأن قيل: (عالم العلماء في الفقه)، وقلنا: إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً فليفقهه في الدين)(1)؛ صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه؛ فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه.
(66/36)
وأما إن قٌيَّد بقبيلة؛ فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف أن لا يغتر ويٌعجب بنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح: (قطعت عنق صاحبك)(2).
وأما التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ مثل أن يٌقال: شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام؛ فهذا لا يصح؛ إذ أن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف؛ لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قٌصد بهذا الوصف أنه جَدَّد في الإسلام وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه؛ فلا بأس بإطلاقه.
وأما بالنسبة للتسمية بـ(الإمام)؛ فهو أهون بكثير من التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن عنده إلا اثنان.
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام إلا على من كان قدوة وله أتباع؛ كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام؛ لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام هان الإمام الحق في عينه، قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ومن ذلك أيضاً: (آية الله، حجة الله، حجة الإسلام)؛ فإنها ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما آية الله، فإن أٌريد به المعنى الأعم؛ فلا مدح فيه لأن كل شيء آية لله ، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص؛ أي: أن هذا الرجل آية خارقة؛ فهذا في الغالب يكون مبالغاً فيه، والعبارة السليمة أن يقال: عالم مفت، قاض، حاكم، إمام لم كان مستحقاً لذلك.
** *
قوله (في الصحيح) انظر الكلام عليها (ص 146)
(66/37)
قوله: (إن أخنع اسم). أي: أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة؛ فجعل مرتبته فوق مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله –عز وجل-، ولهذا عوقب بنقيض قصده؛ فصار أوضع اسم عند الله إذا قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأٌهين، ولهذا كان أحبٌّ اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل: عبدالله وعبدالرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت والسلطة والتعظيم.
قوله: (لا مالك إلا الله). أي لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى.
وأيضاً لا ملك إلا الله –عز وجل-، ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين: (ملك يوم الدين) و(مالك يوم الدين) (الفاتحة: 4)؛ لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان؛ فهو –سبحانه- ملك مالك، ملك ذو سلطان وعظمة وقول نافذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته.
فالله له الخلق والملك والتدبير؛ فلا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مالك إلا الله، قال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (فاطر: 3)؛ فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أٌشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى: (إن ربك هو الخلاق العليم) (الحجر: 86) فيها توكيد وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) (الحج: 73)؛ فـ(الذين): اسم موصول يشمل كل من يٌدعى من دون الله (لن يخلقوا ذباباً)، وهذا على سبيل المبالغة؛ وما كان على سبيل المبالغة؛ فلا مفهوم له كثرة أو قلة.
وقال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (الملك: 1)، وقال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) (آل عمران: 26)، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى:
(66/38)
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله) (يونس: 31)، وقال تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله) (المؤمنون: 88).
قال سفيان : ( مثل شاهان شاه ) وفي رواية ( أغيظ رجل على الله يوم القيامة ةأخبثه)(1)
قوله : ( أخنع) يعني : أوضع
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله: (قال سفيان (هوابن عيينة): مثل شاهان شاه). وهذا يدل باللغة الفارسية؛ فشاهان: جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك؛ أي: ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف.
قوله: وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه).
أغيظ: من الغيظ وهو الغضب؛ أي: إن أغضب شيء عند الله –عز وجل- وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سبباً لغضب الله وخبيثاً؛ فإن التسمي به من الكبائر.
وقوله : (أغيظ). فيه إثبات الغيظ لله – عز وجل-؛ فهي صفة تليق بالله –عز وجل- كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله –سبحانه-. يؤخذ من قوله: (لا مالك إلا الله)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلة، وهي: (لا مالك إلا الله)؛ فكيف تقول : ملك الأملاك وهو لا مالك إلا الله –عز وجل-؟!
* الفرق بين ملك ومالك:
ليس كل ملك مالكاً، وليس كل مالك ملكاً؛ فقد يكون الإنسان ملكاً، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكاً ويتصرف فيما يملكه فقط؛ فالملكٌ من ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكاً مالكاً، وقد لا يملك فيكون ملكاً وليس بمالك، أما المالك؛ فهو الذي له التصرف بشيء معين؛ كمالك البيت، ومالك السيارة وما أشبه ذلك ؛ فهذا ليس بملك؛ يعني: ليس له سلطة عامة.
ويستفاد من الحديث أيضاً:
(66/39)
1- إثبات صفة الغيظ لله –عز وجل-، وأنه يتفاضل لقوله: (أغيظ)، وهو اسم تفضيل.
2- حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم؛ لأنه لما بيّن أن هذا أخنع اسم وأغيظه أشار إلى العلة، وهو: (لا مالك إلا الله)، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية أو علل مرعية، قال ابن القيم:
العلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية؛ فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع، والنظرية: العقلية؛ أي: العلل المرعية التي يعتبرها الشرع.
باب احترام أسماء الله ........ إلخ
ـــــــــــــــــــــــــــ
أسماء الله –عز وجل- هي: التي سمَّى بها نفسه أو سمَّاه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة ، منها:
هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
وقلنا باعتبار دلالتها على الذات مترادفة؛ لأنها تدل على ذات واحدة، وهو الله –عز وجل-، وباعتبار دلالتها على المعنى والصفة التي تحملها متباينة، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمَّنه الآخر من باب دلالة اللزوم؛ فمثلاً: (الخلاق) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم، لكنه بالالتزام، وعلى القدرة المستفادة من اسم التقدير، لكن بالالتزام.
الثاني: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة (يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة)؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن؛ فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يٌسمّى محمداً وهو من أشد الناس ذماً، وقد يسمى عبدالله وهو من أفجر عباد الله.
أما أسماء الله –عز وجل-، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك؛ فإنها أسماء متضمنة للأوصاف.
(66/40)
الثالث: أسماء الله بعضها معلوم لنا وبعضها غير معلوم بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في دعاء الكرب: (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي….)(1). ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد.
الرابع: أسماء الله؛ هل هي محصورة بعدد معين؟
والجواب: غير محصورة، وقد سبق الكلام على ذلك، والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)(2).
الخامس: أن هذه التسعة والتسعين غير معينة، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين، وهذا من حكمة إبهامها لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية، ولهذا نظائر، منها: أن الله أخفى ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وساعة الإجابة في الليل؛ ليجتهد الناس في الطلب.
السادس: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين الذي يترتب عليه دخول الجنة ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط، ولكن معنى ذلك:
أولاً : الإحاطة بها لفظاً .
ثانياً : فهمها معنىً.
ثالثاً : التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان:
الوجه الأول : أن تدعو الله بها؛ لقوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها) (الأعراف:180) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب! اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.
(66/41)
الوجه الثاني : أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء؛ فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله، ومقتضى الغفور المغفرة، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك، هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك؛ فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب؛ لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل الجنة أحد بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته)(1).
فلا تغتر يا أخي بعملك،ولا تعجب فتقول: أنا عملت كذا وكذا وسوف أدخل الجنة، قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (الحجرات: 17)، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا؛ فيجب أن نرى لله المنة والفضل علينا، لكن باعتبار الجزاء، قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (الرحمن: 60)؛ فتؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان.
السابع : أسماء الله –عز وجل- ودلالتها على الذات والصفة جميعاً دلالة مطابقة، ودلالتها على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمّن، ودلالتها على أمر خارج دلالة التزام.
مثال ذلك: (الخلاق) دلّ على الذات، وهو الرب –عز وجل-، وعلى الصفة وهي الخلق جميعاً دلالة مطابقة، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ودلّ على القدرة والعلم دلالة التزام.
(66/42)
الثامن: أسماء الله –عز وجل- لا يتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور إذا كان الاسم متعدياً: الإيمان بالاسم اسماً لله، والإيمان بما تضمنه من صفة، وما تضمنه من أثر وحكم؛ فالعليم مثلاً لا يتم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك ، وهو أنه يعلم كل شيء، وإذا كان الاسم غير متعد؛ فنؤمن بأنه من أسماء الله وبما يتضمنه من صفة.
التاسع : أن من أسماء الله ما يختص به؛ مثل الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يختص به، مثل: الرحيم، السميع، العليم، قال تعالى: (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (الإنسان : 2)، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) (التوبة: 128)(2).
قوله : (باب احترام أسماء الله). أي: وجوب احترام أسماء الله، لأن احترامها احترام لله –عز وجل- ومن تعظيم الله –عز وجل-؛ فلا يسمى أحد باسم مختص بالله، وأسماء الله تنقسم إلى قسمين:
الأول : ما لا يصح إلا لله ، فهذا لا يٌسمَّى به غيره، وإن سٌمِّيَ وجب تغييره؛ مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك.
الثاني: ما يصح أن يوصف به غير الله؛ مثل: الرحيم، والسميع، والبصير، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض.
عن أبي شريح أنه كان يكني أبا الحكم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله هو الحكم وإليه الحكم ) فقال ‘ن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني ، فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين ، فقال : ما أحسن هذا ! فما لك من الولد ؟ قلت : شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : ( قلت : شريح . قال : ( فأنت أبو شريح ) رواه أبو داوود وغيره (1)
ــــــــــــــــــــــــ
* **
قوله : (عن أبي شريح) هو هاني بن يزيد الكندي، جاء وافداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه.
(66/43)
وقوله: يكنى أبا الحكم. أي ينادى به. والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال، وتكون للمدح كما في هذا الحديث، وتكون للذم كأبي جهل، وقد تكون لمصاحبة الشيء مثل : أبي هريرة، وقد تكون لمجرد العلمية كأبي بكر رضي الله عنه، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لأنه ليس له ولد.
قوله: (إن الله هو الحَكم وإليه الحٌكم). (هو الحكم)؛ أي: المستحق أن يكون حاكماً على عباده، حاكماً بالفعل، يدل له قوله: (وإليه الحكم).
وقوله: (وإليه الحكم). الخبر جار ومجرور مقدم، وتقديم الخبر يفيد الحصر، وعلى هذا يكون الحكم راجعاً إلى الله وحده.
وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: كوني، وهذا لا راد له؛ فلا يستطيع أحد أن يرده، ومنه قوله تعالى: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) (يوسف: 80).
الثاني : شرعي، وينقسم الناس فيه إلى قسمين: مؤمن وكافر؛ فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن، ومن لم يرض به ولم يحكم به فهو كافر، ومنه قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (الشورى: 10)
وأما قوله : (أليس الله بأحكم الحاكمين) (التين: 8)، وقوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) (المائدة: 50)؛ فهو يشمل الكوني والشرعي، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي؛ لأنه في سياق الحكم الشرعي، والشرعي يكون تابعاً للمحبة والرضا والكراهة والسخط، والكوني عام في كل شيء.
وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى: (الحكم).
وأما بالنسبة للعدل؛ فقد ورد عن بعض الصحابة أنه قال: (إن الله حكم عدل) ولا أعرف فيه حديثاً مرفوعاً ، ولكن قوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكماً) (المائدة: 50) لا شك أنه متضمن للعدل، بل هو متضمن للعدل وزيادة.
قوله : (فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني). هذا بيان لسبب تسميته بأبي الحكم.
(66/44)
قوله: (ما أحسن هذا). الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيّره.
قوله: (شريح ومسلم وعبدالله). الظاهر: أنه ليس له إلا الثلاثة؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فلو كان عنده بنات لعدهن.
قوله : (فأنت أبو شريح). غيره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأمرين:
الأول : أن الحكم هو لله ، فإذا قيل : يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله!
الثاني : إن هذا الاسم الذي جعل كنية لهذا الرجل لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم، فصار بذلك مطابقاً لاسم الله، وليس لمجرد العَلَميّة المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركاً لله – سبحانه وتعالى- في ذلك، ولهذا كنّاه النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يٌكنَّى به.
***
فيه مسائل :
الأولى : احترام أسماء الله وصفاته ولما لم يقصد معناه .
قوله : (ولو لم يقصد معناه) هذا في النفس منه شي ، لأنه لم يقصد معناه فهو جائز ، إلا إذا سمي بما لا يصح إلا لله ، مثل : الله ، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه، فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان ، وأما لا يختص بالله ، فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط ، لأنه لا يكون مطابقا لاسم الله ، ولذلك كان في الصحابة من اسمه(الحكم)(1) ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يقصد إلا العلمية ، وفي الصحابة من اسمه(حكيم (2)) واقره النبي صلى الله عليه وسلم .
فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة .
الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك . وقد سبق الكلام عليه .
الثالثة : اختيار أكبر الأبناء للكنية . تؤخذ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم (فمن أكبرهم؟ قال : شريح . قال فأنت أبو شريح ) .
(66/45)
ولا يؤخذ من الحديث استحباب التكني، لأن النبي صلى الله عليه وسم أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنى ابتداء .
ويستفاد من الحديث ما يلي :
أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح إذا أغلقوا بابا محرما أن يبنوا للناس المباح، وقد سبق تقرير ذلك .
أن الحكم لله وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم (وإليه الحكم) ، أما الكوني، فلا نزاع فيه إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية .
أما الشرعي، فهو محل الفتنة والامتحان والاختبار، فمن شرع للناس شرعا سوى شرع الله ورى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد، وأنه مساو لشرع الله، وأنه يجوز ترك شرع الله إليه، فإنه كافر لأنه جعل نفسه ندا لله – عز وجل – سواء في العبادات أو المعاملات، والدليل على ذلك قوله تعالى : (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة :50) فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله ولا مساو لحكم الله، لأن أحسن اسم : معناه لا يوجد شي في درجته ، ومن زعم ذلك، فقد كذب الله – عز وجل - . قال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة : 44) وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره ، وأنه كفر .
فإن قيل : قال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون(المائدة : 47) .
قلنا : قال الله تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيد * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) (النساء :60-61)، وهذا دليل على كفرهم ، لأنه قال : (يزعمون أنهم آمنوا) ، وهذا إنكار لإيمانهم ، فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق و لا حق .
(66/46)
فقوله صلى الله عليه وسلم : (وإليه الحكم) يدل على أن من جعل الحكم لغير الله ، فقد أشرك .
فائدة :
يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاما يمشي عليه ويستبدل به القرآن، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، فهذا قد يكون كفرا أو فسقا أو ظلما .
فيكون كفرا إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له .
ويكون فسقا إذا كان لهوى في نفس الحاكم .
ويكون ظلما إذا أراد مضرة المحكوم عليه ، وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية أبين من ظهوره في الثالثة .
3 – تغيير الاسم إلى ما هو مباح أحسن إذا تضمن أمرا لا ينبغي، كما غير النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء المباحة، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة كما يتوهمه بعض العامة .
* * *
باب من هزل بشيء فيه ذكرالله أو القرآن أو الرسول
ــــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة فيها شي من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشي فيكون فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معطوفا على قوله بشي .
والمراد بالرسول هنا : اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا صلى الله عليه وسلم، ف (أل) للجنس وليس للعهد .
قوله : (من هزل) . سخر واستهزأ لعبا ليس جدا .
ومن هزل بالله أو بآياته الكونية الشرعية أو برسله، فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة .
كيف يسخر ويستهزأ بأمر يؤمن به ؟ فالمؤمن بالشي لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به .
والكفر كفران : كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزي كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل الهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله – عز وجل – لا يلقى لها بالا يهوى بها في النار .
(66/47)
فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلا : إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال : إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب – عز وجل – كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها .
ثم أعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين :
القول الأول : أنه لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال : إنه تاب أو إنه أخطأ؛ لأنهم يقولون : إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيه التوبة .
وقال بعض أهل العلم : إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر : 53) ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم .
وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنه تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعا، أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يتعلق به أمران :
الأول:أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه سلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني : أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل،غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين .
(66/48)
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تميمة، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه(الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو : (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل و لا يجلد .
فإن قيل : أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منه وأطلقه؟
أجيب : بلى ، وهذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد اسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفوا موجب للتوقف؟
أُجيب : إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه .
فإن قيل : أليس الله الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه؟
أُجيب : بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين،ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، وقال ابن القيم:إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
وقول الله تعالي : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب)(التوبة: من الآية65)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (ولئن سألتهم) . الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي سالت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة .
قوله : (ليقولن) . جواب القسم، قال بن مالك :
واحذف لدي اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط .
قوله : (ليقولن)، أي : المؤولون .
(66/49)
قوله : (إنما كنا نخوض ونلعب) . أي : ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللهب يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له .
هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول ، فإنه يكون الخوض في الكلام واللهب في الجوارح .
وقوله (إنما كنا نخوض ونلعب) : (إنما) : أداة حصر،أي : ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب .
قوله : (قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) . الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون الحق محلا للسخرية؟
قوله : (أبا لله ) . أي : بذاته وصفاته .
قوله : (وآياته) : جمع آية، ويشمل :
الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بل يقال : هذا أساطير الأولين- والعياذ بالله – أو يستهزأ بشي من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج .
والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، فكيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشي؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية .
قوله : (ورسوله) . المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : (لا تعتذروا) . المراد بالنهي التيئيس، أي : أنهم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم .
قوله : (قد كفرتم بعد إيمانكم) . أي : بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله .
قوله : (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).
(نعف) : ضمير الجمع للتعظيم، أي : الله – عز وجل - .
قوله : (عن طائفة منكم) قال بعض أهل العلم : هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهية لهذا الشي، لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم إلى الإيمان وتابوا .
(66/50)
قوله : (نعذب طائفة) . هذا جواب الشرط، أي : لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلا بد أن نعذب الآخرين .
قوله : (بأنهم كانوا مجرمين) . الباء للسببية، أي : بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم – والعياذ بالله -، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفي عنهم .
ويستفاد من الآيتين :
1. بيان علم الله – عز وجل – بما سيكون، لقوله : (ولئن سألتهم ليقولن)، وهذا مستقبل، فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى : (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) (هود :123) .
2. . أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله عليه حيث أمره أن يقول : (أبا لله وآياته ...) .
3. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ .
4. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا، لقوله : (أبا لله وآياته ... )، وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الثلاثة .
5. أن المستهزي بالله يكفر، لقوله : (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) .
6. استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل إن من جاء يعتذر يرحم يرحم، لكنه ليس أهلا للرحمة .
7.. قبول توبة المستهزي بالله، لقوله : (إن تعف عن طائفة ...) ، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عُفي عنه وهُدي للإسلام تاب وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزي بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته، لأنه كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد .
(66/51)
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (النساء:140) . وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى أن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له : (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة : 65، 66)، ولا يزيد عن هذا أبدا مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا .
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزبد ابن اسلم وقتاده دخل حديث بعضهم في بعض :أنه قال رجل في غزوة تبوك . ما راينا مثل قرائنا هؤلاء ؛ ارغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا اجبن عند اللقاء : ( يعني :
ـــــــــــــــــــــــــ
***
قوله : (عن ابن عمر) . وهو عبد الله .
(ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة) . والثلاثة تابعيون ، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة .
قوله : (دخل حديثهم بعضهم في بعض) . أي : إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلون في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون - مثلا - دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول : حدثني بعضهم بكذا وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك .
(66/52)
قوله : (في غزوة تبوك) . تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حيث طابت الثمار، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أُبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل له : إنه لا يدري أي الجيشين أكثر : الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوما من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم إظهارا للقوة وإيمانا بنصر الله – عز وجل -.
قوله : ( ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله : (مثل قرائنا) المفعول الأول، والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قوله : (أرغب بطونا ) . المفعول به الثاني، أي : أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل .
قوله : (ولا أكذب ألسنا) . الكذب : هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن : جمع لسان، والمراد : ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية، كما في قوله تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم : 49) أي : بلغتهم .
(66/53)
قوله : (و لا أجبن عند اللقاء) . الجبن : هو خور في النفس يمنع من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه(1) لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد : ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله : (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) (الحشر :8) والمنافقون أكذب الناس، كما قال الله فيهم : (والله يشهد إنهم كاذبون) (الحشر : 11) ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق (2) ، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى : (يحسبون كل صيحة عليهم ...) (المنافقون : 4) فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته، لقالوا : عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم واموالهم وأعراضهم .
قوله : (كذبت) . أي : أخبرت بخلاف الواقع ، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز .
قوله : (ولكنك منافق) . لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته .
فيكون طعنا في الله، لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه .
وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم : لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين .
(66/54)
وطعنا في الشريعة : لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة .
قوله : ( فوجد القرآن قد سبقه) . أي : بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى : (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول) ( النساء : 108)
قوله : (وقد ارتحل وركب ناقته) . الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال .
قوله : (كأني أنظر إليه) . كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى : كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به .
قوله (بنسعة) . هي الحزام الذي يربط به الرحل .
قوله : (والحجارة تنكب رجليه) . أي : يمشي والحجارة تضرب وكأنه – والله أعلم – يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر .
قوله:(وما يزيده عليه).أي:لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالا لأمر الله – عز وجل - ، وكفي بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا .
فيه مسائل :
الأولى - وهي العظيمة - : أن من هزل بهذا كافر . أي من الهزل : بالله وآياته ورسوله.
الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان . أي سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ ، فإنه يكفر كائنا من كان .
(66/55)
الثالثة : الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله . النميمة : من نمًّ الحديث، أي : نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة نمام)(1)، وأخبر عن رجل يعذب في قبره، لأنه كان يمشي بالنميمة (2) ، وأما النصيحة لله ورسوله، فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله – عز وجل – وإقامة حدوده وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل لأجل أن يقام عليه الحد أو ما يجب أن يقام عليه وليس قصده مجرد النميمة .
ومن ذلك لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزأ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك، فليس من النميمة، بل من النصيحة .
الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .
العفو الذي يحبه الله : هو الذي فيه إصلاح، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال : (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى : 40) أي : كان عفوه مشتملا على الإصلاح ، وقال بعضهم : أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر والصواب أن المراد به اصلح من عفوه، أي : كان في عفوه إصلاح .
فمن كان في عفوه إفسادا لا إصلاحا، فإنه آثم بهذا العفو،ووجه ذلك من الآية ظاهر، لأن الله قال : (عفا وأصلح) ، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم .
(66/56)
والنبي صلى الله عليه وسلم غلظ على هذا الرجل لكونه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرق له، ولكل مقام مقال ، فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله – عز وجل - الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح :29)
وقال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) (التحريم : 9) ذكرها الله في سورتين من القرآن مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا .
الخامسة : أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل . فالأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أنه اعتذار باطل ، فإنه لا يقبل .
* * *
مناسبة الباب ل(كتاب التوحيد) : أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وإن ما أعطاه الله ليس محض تفضيل، لكن لأنه أهل، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية .
وقد ذكر الشيخ في آيتين :
باب قول الله تعالى :
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(فصلت: من الآية50)
ــــــــــــــــــــــــ
* * *
الآية الأولى ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى : (ولئن أذقناه) .
الضمير يعود على الإنسان ، والمراد به الجنس. وقيل : المراد به الكافر .
(66/57)
والظاهر أن المراد به الجنس، إلا أنه من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى : (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل الأنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد* وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص* لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط) (فصلت : 47-49) هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة .
قوله : (منا) أضافه الله إليه، لوضوح كونها من الله، ولتمام منته بها.
قوله : (من بعد ضراء مسته) . أي : أنه لم يذق الرحمة من أول أمره، بل أصيب بضراء، كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك ، ثم أذاقه بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور به أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع .
قوله : (مسته) أي : أصابته وأثرت فيه .
قوله : (ليقولن هذا لي) . هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله (ليقولن) واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله : (لئن أذقناه) .
قوله : (وما أظن الساعة قائمة) . بعد أن انغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله، ثم كشفها، ثم وجد بعد ذلك لذة وسرورا يشكر الله على ذلك، أما هذا، فنسي الآخرة وكفر بها .
قوله : (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) .
(إن) : شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن رجوعه وفيما لا يمكن وقوعه، كقوله تعالى:(لئن أشركت ليحبطن عملك) (الزمر : 65)، والمعنى : على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى .
والحسنى : أسم تفضيل، أي : الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد.
قوله : (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي : فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره .
(66/58)
قول مجاهد : هذا بعملي، وأنا محقوق به . أي هذا بكسبي وأنا مستحق له .
قول ابن عباس : يريد من عندي . أي من حذقي وتصرفي وليس من عند الله .
الآية الثانية قوله تعالى :(إنما أوتيته على علم) .
في القرآن آيتان : آية قال الله فيها : (إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون)، والثانية : (إنما أوتيته على علم عندي)،والظاهر من تفسير المؤلف انه يريد الآية الثانية .
قوله : (على علم) . في معناه أقوال :
الأول : قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدا على الإنسان، أي : عالم بوجوه المكاسب ولا فضل لأحد عليّ فيما أوتيته، وإنما الفضل لي ، وعليه يكون هذا كفرا بنعمة الله وإعجابا بالنفس .
الثاني : قال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، فيكون بذلك مدلا على الله ،وأنه أهل ومستحق لينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله،أي : أوتيت هذا الشي على علم من الله أني مستحق له وأهل له .
الثالث : قول مجاهد : (أوتيته على شرف)، وهو معنى القول الثاني، فصار معنى الآية يدور على وجهين :
الوجه الأول : أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته .
الوجه الثاني : أنه أنكر أن يكون الفضل لله عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله، لأن الله أعطاه ذلك كونه أهلا لهذه النعمة .
(66/59)
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله – عز وجل – والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كان ما نحصل من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله ، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى : (وما بكم من نعمة من الله) (النحل : 53) حتى لو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك، فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله – عز وجل -، ثم أن المهارة أو العلم قد لا يكون سببا لحصول الرزق،فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلا؟!
وشكر النعمة يكون له ثلاثة أركان :
الاعتراف بها في القلب .
الثناء على الله باللسان .
العمل بالجوارح بما يرضي المنعم .
فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه، فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى .
* * *
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول : ( أن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمي،فأراد الله ان يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتي الأبرص فقال : أي شيء احب إليك ؟ قال : لون حسن )
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وعن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أن ثلاثة من بني إسرائيل) .
جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة ليس المقصود بها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف : 111) .
قوله : (من بني إسرائيل) في محل نصب نعت ل (لثلاثة)، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق أبن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .
(66/60)
وقوله : (أبرص) . أي : في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرا إلى عدم انتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن، ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال الله تعالى : (تبريء الأكمة والأبرص بإذني) (المائدة : 110)
قوله : (أقرع) . من ليس على رأسه شعر .
قوله : (أعمى) . من فقد البصر .
قوله : (فأراد الله)وفي بعض النسخ : (أراد الله) . فعلى إثبات الفاء يكون خبر(إن) محذوفا دل على السياق تقديره : إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم .
ولا يمكن أن يكون (أبرص وأقرع وأعمى) خبرا، لأنها بدل، وعلى حذف الفاء يكون الخبر جملة : (أراد الله)، والإرادة هنا كونية .
وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به ) قال : ( فمسحه فذهب عنه قذره ، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا . قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل او البقر ( شك اسحق) فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها )
ـــــــــــــــــــــــــ
قولهم : (يبتليهم) . أي : يختبرهم، كما قال الله تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (الأنبياء : 35)، وقال تعالى : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) (النمل : 40) .
قوله : (ملكا) . أحد الملائكة : هم عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم قائمين بطاعة الله، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهم أحد أركان الإيمان الستة .
قال أهل اللغة : واصل ال( ملك) مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة، وعلى هذا يكون أصله مألك، فصار فيه إعلال قلبي، فصار ملأك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة وحذفت الهمزة تخفيفا، فصار ملك ، ولهذا في الجمع تأتي الهمزة : ملائكة.
قوله : (ويذهب) . يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى .
(66/61)
قوله : (قذرني) . أي : استقذرني وكرهوا مخالطتي من أجله .
وقوله : (به) . الباء للسببية، أي : بسببه .
قوله : (فمسحه) . ليتبين أن لكل شي سببا وبرى بإذن الله – عز وجل -، (فذهب عنه قذره) : بدأ بذهاب القذر قبل اللون الحسن والجلد الحسن، لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال : التخلية قبل التحلية .
قوله : (قال : الإبل أو البقر – شك إسحاق -) . والظاهر : أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث .
قوله : (عشراء) . قيل : هي الحامل مطلقا ، وقال في (القاموس): هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله – عز وجل – وذللها ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاها إياها .
قوله : (بارك الله لك فيها). فيحتمل أن لفظه الخبر ومعناه الدعاء، وهو الأقرب، لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه خبر محض، كأنه قال : هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد)، أي : قد بارك الله لك فيها .
قوله : (فأتى الأقرع) . وهو الرجل الثاني في الحديث .
قوله : (فقال : أي شي أحب إليك؟ قال : شعر حسن) . ولم يكتف بالشعر الحسن، بل طلب شعرا حسنا .
قوله : (الذي قذرني الناس به) . أي : القرع، لأنه كان أقرع كرهه الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يغطون رؤوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها فيكرهه الناس مما بدا منها .
قوله : (فذهب عنه قذره) . يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله عز وجل أن يستجاب للإنسان.
قوله : (البقر أو الإبل). الشك في إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطى البقر .
قوله : (فأتى الأعمى) . هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله : (فأبصر به الناس) . لم يطلب بصرا حسنا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرا يبصر الناس فقط مما يدل على قناعته بالكفاية.
(66/62)
قوله : (فرد الله إليه بصره)الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط .
قوله : (قال: الغنم) . هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع، لأن السكينة في أصحاب الغنم .
قوله : (شاة والدا) . قيل : إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملا، ولما يأتي من قوله : (فأنتج هذان وولد هذا)، والشي قد يسمى بالاسم القريب، فقد يعبر عن الشي حاصلا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول .
قوله : (فأُنتج هذان) . بالضم ، وفيه رواية بالفتح: (فأًنتج)، وفي رواية : (فَنتج هذان) .
والأصل في اللغة في مادة (نتج) : أنها مبنية للمفعول والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر ، و(أنتج)، أي : حصل لهما نتاج الإبل والبقر .
قوله : (وولد هذا) . أي : صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى توليد النساء يقال له القابلة، ومن تولى توليد غير النساء يقال له : منتج أو ناتج أو مولد .
قوله : (فكان لهذا واد من الإبل) . مقتضى السياق أن يقول : فكان لذلك، لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز ، وكذا العكس .
قوله : (في صورته وهيئته) . الصورة في الجسم ، والهيئة في الشكل واللباس، وهذا الفرق بينهما .
قوله : (رجل مسكين) . خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أنا رجل مسكين، والمسكين : الفقير، وسمي الفقير مسكينا، لأن الفقر أسكنه وأذله، والغني في الغالب يكون عند قوة وحركة .
قوله : (وابن السبيل) . أي : مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق، ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبا، فكل شي يلازم شيئا، فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة .
(66/63)
قوله : (انقطعت بي الحبال في سفري) . الحبال الأسباب، فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى : (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع) (الحج : 15)، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر .
قال : ثم أنه أتي الأبرص في صورته وهيئته ، وقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي اعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا اتبلغ به في سفري . فقال : الحقوق كثيرة . فكأني اعرفك! ألم تكن ابرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر . فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت )
ـــــــــــــــــــــ
قوله : ( فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك) . (لا) نافية للجنس، والبلاغ بمعنى الوصول،ومنه تبليغ الرسالة، أي : إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى : لا شي يوصلني إلى أهلي إلا بالله ثم بك، فالمسألة فيها ضرورة .
قوله : (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن).
السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء، لأن (سال) تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول : سألته عن فلان، أي : استخبرته، وسألته مالا، أي : استجديته واستعطيته، وإنما قال : (أسألك بالذي أعطاك)، ولم يقل : أسألك بالله، لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه، ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين، لأنه جمع بين أمرين : كونه مسكينا، وكونه ابن سبيل، ففيه سببان يقتضيان الإعطاء .
قوله : ( بعيرا) . يدل على أن الأبرص أُعطي الإبل، وتعبير إسحاق (الإبل أو البقر) من باب ورعه .
قوله : (أتبلغ به في سفري) . أي : ليس أطيب الإبل وإنما يوصلني إلى أهلي فقط .
(66/64)
قوله : (الحقوق كثيرة) . أي : هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس من حقك أنت فقط، وتناس – والعياذ بالله – أن الله هو الذي من عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال .
قوله : (كأني أعرفك) . كأن هناك للتحقيق لا للتشبيه، لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق، فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى : أني أعرفك معرفة تامة .
قوله : (ألم تكن أبرص يقذرك الناس) ذكره الملك بنعمة الله عليه، وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على (لم)، كقوله تعالى : (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح : 1) .
قوله : (كابرا عن كابر) . أنكر أن المال من الله ، لكنه لم يستطيع أن ينكر البرص.
و(كابرا) منصوبة على نزع الخافض، أي : من كابر، أي : إننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعا .
قوله : (إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت) . (إن) : شرطية ولها مقابل، يعني : وإن كنت صادقا فأبقى الله عليك النعمة .
فإن قيل : كيف يأتي ب (إن) الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب ؟
أجيب : إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى : إن كنت كما ذكرت عن نفسك، فأبقى الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبا وأنك لم ترثه كابرا عن كابر، فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل : (إلى ما أقول) لأنه كان على ذلك بلا شك .
والتنزل مع الخصم يرد كثيرا في الأمور المتيقنة، كقوله تعالى : (الله خير
قال : (وأتي الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت )
ــــــــــــــــــــــ
أمّا يشركون) (النمل : 59)، ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته .
(66/65)
قوله : (وأتى الأقرع في صورته) . الفاعل الملك، وهنا قال : (في صورته ) فقط وفي الأول قال : (في صورته وهيئته) ، فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا، فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقه، والهيئة تكون تصنعا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري :في صورته وهيئته) .
قوله : (فقال له مثل ما قال لهذا) المشار إليه الأبرص .
قوله : (فرد عليه) . أي : الأقرع .
قوله : (مثل ما رد عليه هذا). أي : الأبرص .
فكلا الرجلين – والعياذ بالله – غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر .
قوله : (فصيرك الله على بصري) . اعترف بنعمة الله، وهذا أحد أركان الشكر، والركن الثاني : العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث : الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله : ( فوالله، لا أجهدك بشي أخذته لله) . الجهد : المشقة، والمعنى : لا
قال : (و أتي الأعمي في صورته ،فقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ،شاةً اتبلغ به في سفري . قال : قد كنت أعمي فرد الله على بصري .فخذ ما شئت فو الله ؛ لا اجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال : أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) أخرجاه (1)
ـــــــــــــــــــــــــ
أشق عليكم بمنع ولا منة،واعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالا على الشكر بالقلب بالتضمن .
قوله : (خذ ما شئت ودع ما شئت) . هذا من باب الشكر بالجوارح، فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر .
قوله : (لله) . اللام للاختصاص، والمعنى : لأجل الله، وهذا ظاهر في إخلاصه لله، فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك .
(66/66)
قوله : (إنما ابتليتم) . أي : اختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس، لأن قوله : (إنما ابتليتم) يدل على أن عنده علما بما جرى لصاحبيه وغالبا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس .
قوله : (فقد رضى الله عنك) . يعني : لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح .
قوله : (وسخط على صاحبيك) . لأنهما كفرا نعمة الله – سبحانه -، وأنكرا أن يكون الله منّ عليهما بالشفاء والمال .
وفي هذا الحديث من العبر شي كثير، منها :
1. أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه،ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة .
2. بيان قدرة الله – عز وجل – بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك لهم .
3. أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر، لقوله : (فأتى الأبرص في صورته)، وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا – والله أعلم – ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى .
4. أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحا أو معاني أو قوى فقط .
5. حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه .
6. إن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله – أي بالمقضى، لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا : أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا . وللإنسان عند المصائب أربع مقامات :
- جزع، وهو محرم .
- صبر، وهو واجب .
- رضا، وهو مستحب.
- شكر، وهو أحسن وأطيب .
وهنا إشكال وهو : كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة وهي لا تلائمه؟
أجيب : أن الإنسان إذا آمن بما يترتب على هذه المصيبة من الأجر العظيم عرف أنه تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر .
(66/67)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (فمن رضى، فله الرضا، ومن سخط، فعليه السخط)(2) ، فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله والمقضي .
والمقضي ينقسم إلى : مصائب لا يلزم الرضا بها، وإلى أحكام شرعية يجب الرضا بها .
7 – جواز الدعاء المعلق، لقوله : (إن كنت كاذبا، فصيرك الله إلى ما كنت) ،وفي القرآن الكريم قال تعالى : (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) (النور :7)، (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) (النور :9) وفي دعاء الاستخارة (اللهم ! إن كنت تعلم ... إلخ) .
8 – جواز التنزل مع الخصم فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم، لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله : أن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرا عن كابر، وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضا قوله تعالى : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) (سبأ :24) ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل .
9 – أن بركة الله لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم .
10 – هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين ؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا ، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك : آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استجيب .
11- بيان أن شكر كل نعمة بحسبها،فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، و الشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شي .
12- جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل ن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة وأراد أن يختبر إنسانا بمثل هذا، فله ذلك .
(66/68)
13 – أن الابتلاء قد يكون عاما وظاهرا يؤخذ من قوله : (فإنما ابتليتم)، وقصتهم مشهورة كما سبق .
14 – فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه، لأن الأعمى كان زاهدا في الدنيا، فكان شاكرا لنعمة الله.
15 – ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله : (ورثته كابرا عن كابر) .
16- أن من صفات الله – عز وجل – الرضا والسخط والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة .
وإرادة الله نوعان : كونية، وشرعية .
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، فإذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون .
وأما الشرعية : فإنه لا يلزم فيه وقوع المراد ويلزم إن يكون محبوبا لله، ولهذا نقول : الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والكونية بمعنى المشيئة، فإن قيل : هل لله يريد الخير والشر كونا أو شرعا؟
أجيب : إن الخير إذا وقع ، فهو مراد لله كونا وشرعا، وإذا لم يقع، فهو مراد شرعا فقط، وأما الشر فإذا وقع، فهو مراد لله كونا لا شرعا وإذا لم يقع، فهو غير مراد كونا ولا شرعا، واعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله – سبحانه -، ولكن إلى مخلوقات الله، فكل فعل الله تعالى خير ، لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الخير كله في يديك، والشر ليس إليك)(1) وأما مخلوقات الله، ففيها خير وشر .
وإثبات صفة الرضا لله – سبحانه – لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة، بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضى عن شخص مثلا فإن عاطفته قد تحمله على أن يرضى عنه في كل شي ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
(66/69)
لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق، فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق، فقد يخرجه عن الحكمة فيتصرف بما لا يليق لشدة غضبه .
ومن فسر الرضا بالثواب أو إرادته، فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل : إن معني (رضى)، أي : أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضي ، ولو قالوا : لا يرضي لكفروا، لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أولوها تأويلا يستلزم جواز نفي الرضا، لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدا.
ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تميمة وابن قيم : أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافا لمن قال : كل شي في اللغة مجاز .
17- أن الصحابة تطلق على المشاكلة في شي من الأشياء ولا يلزم منه المقارنة، لقوله : (وسخط على صاحبيك)، فالصاحب هنا : من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس .
18- اختبار الله – عز وجل – بما أنعم عليهم به .
19 – أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات .
20 – أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئا لم يكن من أجل الاختبار، لقول الملك : إنه فقير وابن سبيل .
21 – أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة ، لقوله : (فقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك) .
* * *
فيه مسائل :
الأولي :تفسير الآية . وهي قوله تعالى : (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)،وقد سبق أن الضمير في قوله: (أذقناه) يعود على الإنسان باعتبار الجنس .
الثانية : ما معنى(ليقولن هذا لي).اللام للاستحقاق، والمعنى : إني : حقيق به وجدير به.
الثالثة : ما معنى قوله : (إنما أوتيته على علم) . وقد سبق بيان ذلك .
(66/70)
الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا بنعمة الله – عز وجل – والأعمى اعترف بنعمة الله، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة، قال : (خذ ما شئت) فدل هذا على جوده و إخلاصه، لأنه قال : (فوالله ، لا أجهدك اليوم بشي أخذته لله - عز وجل -) بخلاف الأبرص والأقرع حيث كانوا بخلاء منكرين نعمة الله – عز وجل - .
* * *
باب قوله تعالي :
(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (لأعراف:190)
ـــــــــــــــــــــ
قوله : ( فلما آتاهما) . الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها ، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة ... ) .
قوله : (خلقكم من نفس واحدة) فيها قولان :
الأول : أن المراد بالنفس الواحدة : العين الواحدة، أي : من شخص معين ، وهو آدم عليه السلام، وقوله : (وجعل منها زوجها)،أي حواء، لأن حواء خلقت من ضلع آدم .
الثاني : أن المراد بالنفس الجنس، وجعل هذا الجنس زوجه، ولم يجعل زوجه من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس، كما في قوله تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيه رسولا من أنفسهم) (آل عمران : 164) أي : من جنسهم .
قوله : (ليسكن إليها) سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولهما : لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقتضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيا : سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص لا يوجد له نظير حتى بين الأم وأبنها .
وقوله : (ليسكن إليها) تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.
(66/71)
قوله : (فلما تغشاها) . أي : جامعها،وعبرة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى : (أو لامستم النساء) (النساء:43)، وقال : (اللاتي دخلتم بهن) (النساء : 23) وقال تعالى : (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) (النساء21) كأن الاستحياء من ذكره بصريح أسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشي باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لماعز وقد أقرّ عنده بالزنى : (أنكتها لا يكني)(1) ، لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليا، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وتشبيه علو الرجل بالمرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى : (والليل إذا يغشى) (الليل : 1) وعبر بقوله (تغشاها) ولم يقل : غشيها، لأن تغشى أبلغ، وفيه شي من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: (إذا جاس بين شعبها الأربع ثم جهدها)(2)، والجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، (جهدها)(2) هذا تغشي .
قوله : (حملت حملا خفيفا ً). الحمل في أوله خفيف : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
قوله : (فمرت به) . المرور بالشي تجاوزه من غير تعب ولا إعياء، والمعنى : تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.
قوله : (فلما أثقلت). الأثقال في آخر الحمل .
قوله : (دعوا الله) ولم يقل : دعيا، لأن الفعل واوي، فعاد إلى أصله .
قوله ( الله ربهما) أتي بالألوهية والربوبية ، لأن الدعاء يتعلق به جانبان :
الأول : جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع ، والدعاء عبادة .
الثاني : جانب الربوبية ؛ لأن في الدعاء تحصيلا للمطلوب ، وهذا يكون متعلقا بالله من حيث الربوبية .
والظاهر أنهما قالا : اللهم ربنا ، ويحتمل ان يكون بصيغة أخري .
قوله ( لئن آتيتنا صالحا ) . أي أعطيتنا .
(66/72)
وقوله : ( صالحا ) ؛ هل المراد صلاح البدن أو المراد صلاح الدين ، اي : لئن آتيتنا بشرا سويا ليس فيه عاهة لا نقص ، أو صالحا بالدين ، فيكون تقيا قائما بالواجبات ؟
الجواب يشمل الأمرين جميعا ، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الاول ، وهو الصلاح البدني ، لكن لا مانع من ان يكون شاملا للأمرين جميعا قوله : (لنكونن من الشاكرين ) ، أي : من القائمين بشكرك على الولد الصالح .
والجملة هنا جواب قسم وشرط قسم متقدم وشرط متاخر ، والجواب فيه للقسم ولهذا جاء مقرونا باللام : لنكونن .
قوله : ( فلما آتاهما صالحا )هنا حصل المطلوب ، لكن لم يحصل الشكر الذي وعد الله به ، بل جعلا له شركاء فيما أتاهما .
وقوله : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) هذا هو جواب (لما ) .
والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير ، ومثل هذا لا يعرف ايصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح الصلاح البدني .
فمعاهدة الإنسان ربه ان يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها ؛ ففي سورة التوبة قال تعالي : (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:75-76) وفي هذه الآية قال الله تعالى : (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء ) فكانا من المشركين لا من الشاكرين ، ولهذا نعرف الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم النذر وقال : ( أنه لا يرد شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل ) (1)وقد ذهب كثير من اهل العلم إلى تحريم النذر ، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه أنه يميل إلى تحريم النذر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عنه ونفى أنه ياتي بخير .
(66/73)
إذا ما الذي نستفيد من أمر نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : انه لا ياتي بخير.
الجواب : لا نستفيد إلا المشقة على انفسنا وإلزام أنفسنا بمن نحن منه في عافية ، ولهذا ، فالقول بتحريم النذر قول قوي جدا ، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها ورأي أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصا مما نذروا .
فإن قيل : هذا الولد الذي آتاهما الله ـ عز وجل ـ كان واحدا ؛ فكيف جعلا في هذا الولد الواحد شركا بل شركاء ؟
فالجواب أن نقول هذا على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يعتقد بأن هذا الذي اتي بهذا الولد هو الولي الفلاني والصالح الفلاني ونحو ذلك ؛ فهذا شرك أكبر ، لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله .
ومن هذا ما يوجد أيضا عند بعض الأمم الإسلامية الأن ، فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني ، كما يزعمون أنه ولي الله ـ والله اعلم بولايته ـ ، فتقول : يا سيدي فلان أرزقني ولداً .
الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم وإلى القوابل وما أشبه ذلك فيقولون مثلا : سلم هذا الولد من الطلق ؛ لأن القابلة إمرأة متقنة جيدة ، فهنا أضاف النعمة إلى غير الله ، وهذا نوع من الشرك ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لأنه اضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله ـ عز وجل ـ
الوده الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالما بفضل الله ورحمته ، ولكن يشرك من ناحية العبودية ، فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله قال تعالى : (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15) فكيف تجعل هذا الولد ندا لله في المحبة وربما قدمت محبته على محبة الله ، والله هو المتفضل عليك به ؟!
(66/74)
وفي قوله ( فلما آتاهما ) نقد لاذع أن يجعلا في هذا الولد شريكا مع الله ، مع أن الله هو المتفضل به ، ثم قال : ( فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها .
ومن تأويل الآية وحدها دالة على أن قوله : ( خلقكم من نفس واحدة ) أي : من جنس واحد ، وليس فيها تعرض لأدم وحواء بوجه من الوجوه ، ويكون السياق فيهما جاريا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن ، كقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(آل عمران: من الآية164) أي : من جنسهم ، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة .
أما على القو الثاني بان المراد بقوله تعالى(من نفس واحدة ) أي : آدم ، (وجعل منها زوجها ) (النساء :1) حواء ، فيكون معني الآية خلقكم من آدم وحواء .
فلما جامع حواء حملت حملا خفيفا ، فمرت به ، فلما أثقلت دعواـ أي:آدم وحواءـ الله بهما (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءََ) فأشرك آدم وحواء بالله ، لكن قالوا: أنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة (فتعالى الله عما يشركون ) ، وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وسنبين إن شاء الله تعالى وجه ضعفه وبطلانه .
(66/75)
وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى (من نفس واحدة ) أي : آدم وحواء (فلما تغشاها ) انتقل من العين إلى النوع أي : من آدم إلى النوع الذي هم بنوه ، أي : فلما تغشي الإنسان الذي تسلل من آدم وحواء زوجته ... إلخ ، ولهذا قال تعالى :(فتعالى الله عما يشركون ) بالجمع ولم يقل عما يشركان ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك:5) أي جعلنا الشهب الخارجة منها رجوما للشياطين وليست المصابيح نفسها ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) (المؤمنون:12-13) أي جعلناه بالنوع
قال بن حزم: " اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب "
ـــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء ، ثم صار الكلام من العين إلى النوع 0
وهذا التفسير له وجه ، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك ، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر 0
وأما قوله تعالى ( فتعالى الله عما يشركون ) ، فجمع لأن المراد بالمثنى اثنان من هذا الجنس ، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعاً ، كما في قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) } الحجرات : 9 { ولم يقل : اقتتلتا ، لأن الطائفتين جماعة 0
***
قوله : " اتفقوا " أي : أجمعوا والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي ثبتت بها الأحكام ، والأدلة هي : الكتاب ، والسنة والإجماع ، والقياس 0
قوله : " وما أشبه ذلك " 0 مثل : عبدالحسين ، وعبدالرسول ، وعبدالمسيح ، وعبد علي 0
(66/76)
وأما قوله صلي الله عليه وسلم : ( تعس عبدالدينار ، تعس عبدالدرهم … )(1) الحديث ، فهذا وصف وليس علماً ، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها ، كقولك : عابد الدينار ، فهو وصف ، فلا يعارض الإجماع 0
ـــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه (ص 724)
قوله ( حاشا عبدالمطلب ) حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها ، وإلا جاز فيه النصب والجر
وبالنسبة لعبدالمطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه ، فهو مختلف فيه ، فقال بعض أهل العلم : لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول صلي الله عليه وسلم قال :
( أنا النبي صلي الله عليه وسلم لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) (1)
فالنبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم لا يفعل حراماً، فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ ، وهذا تقرير ابن حزم رحمه الله ، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب ، فلا يحوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب ، وأما قوله صلي الله عليه وسلم ( انا ابن عبد المطلب ) ، فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء ، فالنبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم أخبر أن له جداً اسمه عبد المطلب ، ولم يرد عنه صلي الله عليه وسلم أنه سمى عبد المطلب ، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك ، ولا أنه أقر أحداً على تسميته عبدالمطلب ، والكلام في الحكم لا في الإخبار ، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار ، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم : ( إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد ) (2) ، وقال صلي الله عليه وسلم ( يابني عبد مناف ) (3) ولا يجوز التسمي بعبد مناف
وقد قال العلماء : إن حاكي الكفر ليس بكافر ، فالرسول صلي الله عليه وسلم يتكلم عن
(66/77)
وعن ابن عباس في الآية ، قال : ( لما تغشاها آدم ، حملت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنك ، فيشقه ، ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعانه ، فخرج ميتاً
ــــــــــــــــــــــــــ
شيء قد وقع وانتهى ومضى ، فالصواب أنه لا يجوز أن يعتبد لغير الله مطلقاً لا بعبد المطلب ولا غيره ، وعليه ، فيكون التعبد لغير الله من الشرك
***
قوله : ( إبليس ) . على وزن إفعيل ، فقيل : من أبلس إذا يئس ، لأنه يئس من حرمة الله تعالى
قوله : ( لتطيعانني ) جملة قسمية ، أي : والله لتطيعاني .
قوله : ( ايل ) هو ذكر الأوعال
قوله ( سمياه عبد الحارث ) اختار هذا الاسم ، لأنه اسمه فأراد أن يعبدان لنفسه
قوله: ( فخرج ميتاً ) لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة : ( ولأفعلن ) ، ولأنه قال : ( ولأخرجنه ميتاً )
قوله : ( شركاء في طاعته ) أي : أطاعاه فيما أمرهما به ، لا في العبادة لكن عبدا الولد لغير الله ، وفرق بين الطاعة والعبادة ، فلو أن أحداً أطاع شخصاً في معصية لله لم يجعله شريكاً مع الله في العبادة ، لكن أطاعه في معصية الله
قوله ( أشفقا أن لا يكون إنساناً ) أي : خاف آدم وحواء أن يكون حيواناً أو جنياً أو غير ذلك
ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) رواه ابن أبي حاتم (1)
وله بسند صحيح عن قتادة ، قال : ( شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته ) (2)
ــــــــــــــــــــــ
(66/78)
قوله ( وذكر معناه عن الحسن ) 0 لكن الصحيح أن الحسن رحمه الله قال : إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في ( تفسيره ) وقال : ( أما نحن ، فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ) أ هـ
وهذه القصة باطلة من وجوه :
الوجه الأول : أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم ، وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي ، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة : إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة
الوجه الثاني : أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء ، لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه ، فإن قلنا : ماتا عليه ، كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة :
إذا ماذكرنا آدماً وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية ، وإن كان تابا من الشرك ، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه ، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا ، ولم يذكر توبتهما ، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه وتابا من ذلك
الوجه الثالث : أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء
الوجه الرابع : أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة ، فيعتذر بأكله من الشجرة (2) وهو معصية ، ولو وقع منه الشرك ، لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى
(66/79)
الوجه الخامس : أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال : ( أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة ) ، وهذا لا يقوله من يريد الإغواء ، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله ، فإذا قال : ( أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة ) ، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما ، فلا يقبلان منه صرفاً ولا عدلاً
الوجه السادس : أن في قوله في هذه القصة : ( لأجعلن له قرني إيل ) : إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه ، فهذا شرك في الربوبية لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، أو لا يصدقا ، فلايمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه
الوجه السابع : قوله تعالى : ( فتعالى الله عما يشركون ) بضمير الجمع ، ولو كان آدم وحواء ، لقال عما يشركان فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها ، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال ، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤون منه باتفاق أهل العلم ، وعلى هذا ، فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذي أشركوا شركاً حقيقياً ، فإن منهم مشركاً ومنهم موحداً
***
فيه مسائل :
الأولى : تحريم كل اسم معبد لغير الله 0 تؤخذ من الإجماع على ذلك ، ولاإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين ، والصحيح أنه ممكن وأنه حجة إذا حصل لقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (النساء : 58) ، و(إن) هذه شرطية لا تدل على وقوع التنازع ، بل إن فرض ووقع ، فالمردّ إلى الله ورسوله ، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة
لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ، ولما قيل للإمام أحمد : إن فلاناً يقول : أجمعوا على كذلك ، أنكر ذلك وقال : وما يدريه لعلهم اختلفوا ، فمن ادعى الإجماع ، فهو كاذب
(66/80)
ولعل الإمام أحمد قال ذلك ، لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع ، فيقولون : هذا إجماع المحققين ، وما أشبه ذلك
وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب ، وأن قول الرسول صلي الله عليه وسلم ( أنا ابن عبد المطلب ) (1) أنه من قبيل الإخبار ولي إقرار ولا إنشاء ، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبداً لغير الله ، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم ( يابني عبد مناف ) (1) ، وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار
الثانية : تفسير الآية
يعني قوله تعالى : ( فلما آتاهما صالحاً …. ) الآية ، وسبق تفسيرها
الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها
وهذا بناء على ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية ، والصواب : أن هذا الشرك حق حقيقة ، وأنه شرك من إشراك بني آدم من آدم وحواء ، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها : ( ايشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ) ، فهذا الشرك الحقيقي الوقع من بني آدم
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: (صالحاً ) ، أي : بشراً سوياً ، وأتى المؤلف بالبنت دون الولد ، لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم ، قال تعالى : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) ( النحل : 58-59) ، وإلا ، فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضاً ، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثى ، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها
الخامسة : ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة
وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة ، فالطاعة إذا كانت منسوبة لله فلا فرق بينها وبين العبادة ، فإن عبادة الله طاعته
(66/81)
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله ، فإنها غير العبادة ، فنحن نطيع الرسول صلي الله عليه وسلم لكن لا نعبده ، والإنسان قد يطيع ملكاً من ملوك الدنيا وهو يكرهه
فالشرك بالطاعة : أنني أطعته لا حباً وتعظيماً وذلاً كما أحب الله وأتذلل له وأعظمه ، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط ، هذا هو الفرق
وبناء على القصة، فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة
***
باب قول الله تعالى
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) (لأعراف:180)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا ال يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات ، لأن هذا الكتاب جامع لأنواع التوحيد الثلاثة : توحيد العبادة ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات
وتوحيد الأسماء والصفات : هو إفراد الله – عز وجل – بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل
لأنك إذا عطلت لم تثبت ، وإن مثلت لم توحد ، والتوحيد مركب من إثبات ونفي ، أي : إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه ، فمثلاً إذا قلت : زيد قائم ، لم توحده بالقيام ، وإذا قلت : زيد غير قائم ، لم تثبت له القيام ، وإذا قلت : لا قائم إلا زيد ، وحدته بالقيام
وإذا قلت : لا إله إلا الله ، وحدته بالألوهية ،وإذا أثبت لله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد ، فهذا هو توحيد الأسماء والصفات ، وإن نفيتها عنه ، فهذا تعطيل ، وإن مثلت ، فهذا إشراك
***
قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى )
طريق التوحيد هنا تقديم الخبر لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، ففي الآية توحيد الأسماء لله
(66/82)
وقوله : ( الحسنى ) مؤنث أحسن ، فهي اسم تفضيل ، ومعنى الحسنى ، أي : البالغة في الحسن أكمله ، لأن اسم التفضيل يدل على هذا ، والتفضيل هنا مطلق ، لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقاً مثل:زيد الأفضل ، وقد يكون مقيداً مثل : زيد أفضل من عمرو
وهنا التفضيل مطلق ، لأنه قال : ( ولله الأسماء الحسنى )
فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه ، ليس فيها نقص لا فرضاً ولا احتمالاً
وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمى به الله ، لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد ، مع أن الشيء لا يتضمن مدحاً والمتكلم والمريد يتضمنان مدحاً من وجه وغير مدح من وجه ، ولا يسمى الله بذلك ، فلا يسمى بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد ، لكن يخبر بذلك عنه
وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى :
الأول : هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف ؟
الثاني : هل أسماء الله مترادفة أو متباينة ؟
الثالث : هل أسماء الله هي الله أو غيره ؟
الرابع : أسماء الله توقيفية
الخامس : أسماء الله غير محصورة بعدد معين
السادس : أسماء الله إذا كانت متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحياناً بالأثر ، وإن كانت غير متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة
السابع : إحصاء أسماء الله معناه :
1 - الإحاطة بها لفظاً ومعنى
2 - دعاء الله بها ، لقوله تعالى:( فادعوه بها ) ، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء ، فتقول : يا ذا الجلال والإكرام ! ياحي يا قيوم ! وما أشبه ذلك
3 - أن تتعبد لله بمقتضاها ، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته ، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القوم الذي يغضبه ، وإذا علمت أنه بصير اجتنب الفعل الذي لا يرضاه
(66/83)
قوله تعالى : ( فادعوه بها ) . الدعاء هو السؤال ، والدعاء قد يكون بلسان المقال ، مثل : اللهم ! اغفر لي يا غفور وهكذا ، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له ، ولهذا قال العلماء : إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة ، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه
والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها ، لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها
وهذا خلافا لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر : إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه
أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات ؟!
أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم ؟!
وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات ، مع أن الله أمرنا بدعائه بها ، والأمر للوجوب ، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله ، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني ، بل لا بد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها ، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه ، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة
أن دعاء الله بأسمائه له معنيان :
الأول:دعاء العبادة ، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء ، ويطلق على الدعاء عبادة ، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي)( غافر : 60 ) ، ولم يقل: عن دعائي ، فدل على أن الدعاء عبادة
فمثلاً : الرحيم يدل على الرحمة ، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها
والغفور يدل على المغفرة ، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله – عز وجل – بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك
والقريب : يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها ، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
والسميع : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى السمع ، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك
(66/84)
والبصير : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك
الثاني : دعاء المسألة ، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى
مثلاً : يا حي يا قيوم اغفر لي وارحمني ، وقال صلي الله عليه وسلم : ( فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) (1) ، والإنسان إذا دعا وعلل ، فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة ، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة ، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة
قوله تعالى : ( وذروا الذين يلحدون )
(ذروا ) : اتركوا ، ( الذين ) : مفعول به ، وجملة يلحدون صلة الموصول
ثم توعدهم بقوله : ( سيجزون ما كانوا يعملون ) ، وهو الإلحاد ، أي : سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماماً ، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل ، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله
والمعنى : ذروهم ، أي : لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم : فإنهم على ضلال وعدوان ، وليس المعنى عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم ، إذ لا يترك الظالم على ظلمه ، ويحتمل أن المراد بقوله ( ذروا ) تهديداً للملحدين
والإلحاد : مأخوذ من اللحد ، وهو الميل ، لحد وألحد بمعنى مال ، ومنه سمي الحفر بالقبر لحداً ، لأنه مائل إلى جهة القبلة
والإلحاد في أسماء الله : الميل بها عما يجب فيها ، وهو أنواع :
الأول : أن ينكر شيئاً من الأسماء أو مما دلت عليه من الصفات أو الأحكام ، ووجه كونه إلحاداً أنه مال بها عما يجب لها ، إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام
الثاني : أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه ، كقول الفلاسفة في الله : إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل وهذا الكون معلول لها ، وليس هناك إله وبعضهم يسميه العقل الفعال ، فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال ، وكذلك النصارى يسمون الله أباً وهذا إلحاد
(66/85)
الثالث : أن يجعلها دالة على التشبيه فيقول : الله سميع بصير قدير ، والإنسان سميع بصير قدير ، اتفقت هذه الأسماء ، فيلزم أن تتفق المسميات ، ويكون الله – سبحانه وتعالى – مماثلاً للخلق ، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات
ووجه الإلحاد : أن أسماءه دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق
الرابع: أن يشتق من هذه الأسماء للأصنام، كتسمية اللات من الإله أو من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان حتى يلقوا عليها شيئاً من الألوهية ليبرروا ما هم عليه
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :
1 -أنه هو الذي نفاه الله في القرآن،فقال:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)
2 -أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه واشتراك في المعنى من بعض الوجوه
فمثلاً : الخالق والمخلوق اشتركا في معنى الوجود ، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه ، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق وفي اصل المعنى ، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به
3 - أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيهاً ، فيكون معنى بلا تشبيه ، أي : بلا إثبات صفات على اصطلاحهم
قوله تعالى : ( سيجزون ماكانوا يعملون ) لم يقل يجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وهذا وعيد ، وهو كقوله تعالى ( سنفرغ لكم أيه الثقلان ) ( الرحمن 31 ) ، وليس المعنى أن الله – عز وجل – مشغول الآن وسيخلفه الفراغ فيما بعد
قوله : ( يعملون ) العمل يطلق على القول والفعل ، قال تعالي ( فمن ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : ( يلحدون في أسمائه ) : ( يشركون ) 0 وعنه ( سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز )
ـــــــــــــــــــــــــ
(66/86)
يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) ( الزلزلة : 7-8) ، وهذا يكون في الأفعال والأقوال 0
***
قول ابن عباس : ( يشركون ) تفسير للإلحاد ، ويتضمن الإشراك بها في جهتين :
1 - أن يجعلوها دالة على المماثلة
2 - أو يشتقوا منها أسماء للأصنام ، كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف ، فمن جعلها دالة على المماثلة ، فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلاً ، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه ، فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله – عز وجل
وقوله : ( وعنه ) 0 أي : ابن عباس
قوله: ( سموا اللات من الإله ….. ) وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام 0
* تنبيه :
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي : ( وعزالي ) ، فما هو المقصود بها ؟
الجواب : المقصود أنها من التعزية ، أي : أنها تطلب الصبر والتقوية وليست تندب العزى التي هي الصنم ، لأنها قد لا تعرف أن هناك صنماً اسمه العزى ولا يخطر ببالها هذا ، وبعض الناس قال : يجب إنكارها ، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى ، وهذا شرك ، ولكن نقول : لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار ، لكننا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود ، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر والثبات على هذه المصيبة
قوله : ( عن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها ) هذا أحد أنواع الإلحاد ، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه ، ومن زاد فيها فقد ألحد ، لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع
تتمة :
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى كما في قوله تعالى : ( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) ( فصلت : 40 ) ، فقوله : ( لا يخفون علينا ) فيها تهديد ، لأن المعنى سنعاقبهم ، والجملة مؤكدة بأن
وآيات الله تنقسم إلى قسمين :
1 - آيات كونية ، وهي كل المخلوقات من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك ، قال الشاعر :
(66/87)
فواعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع :
1 - اعتقاد أن أحداً سوى الله منفرد بها أو ببعضها
2 - اعتقاد أن أحداً مشارك لله فيها
3 - اعتقاد أن لله فيها معيناً في إيجادها وخلقها وتدبيرها
والدليل قوله تعالى : ( قل ادعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) ( سبأ : 22 ) ظهير ، أي معين
وكل ما يخل بتوحيد الربوبية ، فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية
2 - آيات شرعية ، وهو ما جاء به الرسل من الوحي كالقرآن ، قال تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) ( العنكبوت : 49 )
والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع :
1 - تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار
2 - مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام
3 - التحريف في الأخبار والأحكام
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام
ومنه ما يكون كفراً ، كتكذيبها ، فمن كذب شيئاً مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به ، فهو كافر
ومنه ما يكون معصية من الكبائر ، كقتل النفس والزنا
ومنه ما يكون معصية من الصغائر ، كالنظر لأجنبية لشهوة
قال الله تعالى في الحرم : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) ( الحج : 25 ) ، فسمى الله المعاصي والظلم إلحاداً ، لأنها ميل عما يجب أن يكون عليه الإنسان ، إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى ، ومن خالف ، فقد ألحد
***
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء يعني لله تعالى ، وتؤخذ من قوله : ( ولله الأسماء ) ، وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله ، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر ، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء
وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى
(66/88)
الثانية : كونها حسنى أي : بلغت في الحسن أكمله ، لأن ( حسنى ) مؤنث أحسن ، وهي اسم تفضيل
الثالثة : الأمر بدعائه بها والدعاء نوعان : دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، وكلاهما مأمور فيه أن يدعى الله بهذه الأسماء الحسنى وسبق تفصيل ذلك (1)
الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين أي ترك سبيلهم ، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم ، والآية تتضمن أيضاً التهديد
الخامسة : تفسير الإلحاد فيها وقد سبق بيان أنواعه
السادسة : وعيد من ألحد وتؤخذ من قوله تعالى : ( سيجزون ما كانوا يعملون )
باب لا يقال : السلام على الله
ــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي ، وهو محتمل للكراهة والتحريم ، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك
والسلام له عدة معان :
1 - التحية ، كما قال : سلم على فلان ، أي : حياه بالسلام
2 - السلامة من النقص والآفات ، كقولنا :( السلام عليك أيها النبي صلي الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته )
3 - السلام:اسم من أسماء الله تعالى ، قال تعالى : ( الملك القدوس السلام ) ( الحشر : 23 )
قوله: ( لا يقال السلام على الله ) أي : لا تقل : السلام عليكم يا رب ، لما يلي :
أ - أن مثل هذا الدعاء يوهم النقص في حقه ، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك ، إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلاً أن يتصف به ، والله – سبحانه – منزه عن صفات النقص
ب - إذا دعوت الله أن يسلم نفسه ، فقد خالفت الحقيقة ، لأن الله يدعى ولا يدعى له ، فهو غني عنا ، لكن يثنى عليه بصفات الكمال مثل غفور ، سميع ، عليم …..
ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة ، لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسمائه حسنى ، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ) ( النحل : 60 )
(66/89)
وقوله تعالى : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) ( الروم : 27 )
والمثل الأعلى : الوصف الأكمل ، فإذا قلنا : السلام على الله أوهم ذلك أن الله – سبحانه – قد يلحقه النقص ، وهذا ينافي كمال صفاته
ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة ، لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله المتضمنة لصفاته ، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص ، وهذا يتضمن كمالها ، إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها ، فإنك لو قلت : زيد فاضل أثبت له الفضل ، وجاز أن يلحقه نقص ، وإذا قلت : زيد فاضل ولم يسلك شيئاً من طرق السفول ، فالآن أثبت له الفض المطلق في هذه الصفة والرب – سبحانه وتعالى – يتصف بصفات الكمال ، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل ، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص والسلام إسم ثبوتي سلبي فسلبي : أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل ، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه
وثبوتي : أي يراد به ثبوت هذا الاسم له ، والصفة التي تضمنها وهي السلامة
***
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة ، قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان فقال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم : ( لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام ) (1)
ــــــــــــــــــــــ
قوله : ( في الصحيح ) هذا أعم من أن يكون ثابتاً في ( الصحيحين ) ، أو أحدهما ، أو غيرهما ، وانظر:(ص 146 ) باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا الحديث المذكور في (الصحيحين )
(66/90)
قوله : ( كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة ) الغالب أن المعية مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة لا تكون إلا في الفرائض ، لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة ، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة ، كالاستسقاء
قوله : ( قلنا السلام على الله من عباده ) أي : يطلبون السلامة لله من الآفات ، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات ، أو أن اسم السلام على الله من عباده ، لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعنى الدعاء ، وله معنيان :
1 - اسم السلام عليك ، أي : عليك بركاته باسمه
2 - السلامة من الله عليك ، فهو سلام بمعنى تسليم ، ككلام بمعنى تكليم
قوله : ( السلام على فلان وفلان ) أي : جبريل وميكائيل ، وكلمة فلان
يكنى بها عن الشخص ، وهي مصروفة ، لأنها ليست علماً ولا صفة ، كصفوان في قوله تعالى : ( كمثل صفوان عليه تراب ) ( البقرة :264)
وقد جاء في لفظ آخر : ( السلام على جبريل وميكال ) (1) كانوا يقولون هكذا في السلام فقال النبي صلي الله عليه وسلم ( لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام )
وهذا نهي تحريم ، والسلام لا يحتاج إلى سلام ، هو نفسه – عز وجل – سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب
وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم ينه عنه ، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت:(عليه السلام ) (2)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير السلام فبالنسبة لكونه اسماً من أسماء الله معناه السالم من كل نقص وعيب ، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان :
الأول : تقدير مضاف ، أي ، اسم السلام عليكم ، أي : اسم الله الذي هو السلام عليكم
الثاني : أن السلام بمعنى التسليم اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم ، أي : تخبر خبراً يراد به الدعاء ، أي : أسأل الله أن يسلمك تسليماً
(66/91)
الثانية : أنه تحية وسبق ذلك
الثالثة : أنها لا تصلح لله وإذا كانت لا تصلح له كانت حراماً
الرابعة : العلة في ذلك وهي أن الله هو السلام ، وقد سبق بيانها
الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله وتؤخذ من تكملة الحديث : ( فإذا صلى أحدكم ، فليقل : التحيات لله ….. ) ، وفيه حسن تعليم الرسول صلي الله عليه وسلم من وجهين :
الأول : أنه حينما نهاهم علل النهي
وفي ذلك فوائد :
1 - طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة
2 -بيان سمو الشريعة الإسلامية وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة ، لأن العلة حكمة
3 - القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة
الثاني : أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم ، فيؤخذ منه أن المتكلم إذا ذكر ما ينهى عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح ، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها
ويستفاد من الحديث : أنه لا يجوز الإقرار على المحرم ، لقوله : ( لا تقولوا : السلام على الله ) ، وهذا واجب على كل مسلم ، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز ويرون أنه جائز ، قال تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ( آل عمران : 187)
***
باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت )
عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله ، ولك من صفات الكمال
قوله : ( اللهم ) معناه : يا الله ، لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا النداء وعوض عنها الميم ، وجعل العوض في الآخر تيمناً بالابتداء بذكر الله
(66/92)
قوله : ( اغفر لي ) المغفرة : ستر الذنب مع التجاوز عنه ، لأنها مشتقة من المغفر ، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام ، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق ، ويدل له قول الله – عز وجل – للعبد المؤمن حينما يخلو به ويقرره بذنوبه يوم القيامة : ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) (1)
قوله : ( إن شئت ) 0 أي : إن شئت أن تغفر لي فاغفر ، وإن شئت فلا تغفر
***
في الصحيح عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له ) (1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
قوله ( في الصحيح ) سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف ، والمراد هنا الحديث الصحيح ، لأن الحديث في ( الصحيحين ) كليهما قوله صلي الله عليه وسلم : ( لا يقل أحدكم ) لا : ناهية بدليل جزم الفعل بعدها
قوله : ( اللهم اغفر لي ، اللهم أرحمني ) ففي الجملة الأولى : ( اغفر لي ) النجاة من المكروه ، وفي الثانية : ( أرحمني ) الوصول إلى المطلوب ، فيكون هذا الدعاء شاملاً لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه
قوله : ( ليعزم المسألة ) اللازم لام الأمر ، ومعنى عزم المسألة : أن لا يكون في تردد بل يعزم بدون تردد ولا تعليق و( المسألة ) : السؤال ، أي : ليعزم في سؤاله فلا يكون متردداً بقوله : إن شئت
قوله : ( فإن الله لا مكره له ) تعليل للنهي عن قول : ( اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ) ، أي : لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه ، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله ، لأن الأمر كله لله وحده
والتحذير في التعليق من وجوه ثلاثة :
ولمسلم : ( وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) (1)
ــــــــــــــــــــــــ
(66/93)
الأول : أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء ، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه ، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول : أنا لا أكرهك ، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر
الثاني : أن أقول القائل : ( إن شئت ) كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله فقد لا يشاؤه لكونه عظيماً عنده ، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس – والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة – أعطني مليون ريال إن شئت ، فإنك إذا قلت له ذلك ، ربما يكون الشيء عظيماً يتثاقله ، فقولك : إن شئت ، لأجل أن تهون عليه المسألة ، فالله – عز وجل – لا يحتاج أن تقول له : إن شئت ، لأنه – سبحانه وتعالى – لا يتعاظمه شيء أعطاه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه )
قوله: ( وليعظم الرغبة ) ، أي : ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل : هذا كثير لا أسأل الله إياه ، ولهذا قال : ( فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) ، أي : لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى يمنعه ويبخل به – سبحانه وتعالى – كل شيء يعطيه ، فإنه ليس عظيماً عنده ، فالله – عز وجل – يبعث الخلق بكلمة واحدة ، وهذا أمر عظيم ، لكنه يسير عليه ، قال تعالى : ( قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما علمتم وذلك على الله يسير ) ( التغابن : 7 ) وليس بعظيم ، فكل مايعطيه الله – عز وجل – لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه ، أي : لا يكون الشيء عظيماً
عنده حتي لا يعطيه ، بل كل شيء عنده هين .
(66/94)
الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله ، كانه يقول : إن شئت فأفعل ، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني ، ولهذا قال : ( وليعظم الرغبة ) أي يسأل برغبة عظيمة ، والتعليق ينافي ذلك ، لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بانه مستغن عنه ، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الإفتقار ، وأن الله قادر على ان يعطيه ما سأل ، وأن الله ليس يعظم عليه شيء ، بل هو هين عليه ، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة ، بل يجزم فيقول : اللهم أغفر لي ، اللهم أرحمني ، اللهم وفقني ، وما اشبه ذلك ، وهل يجزم بالإجابة ؟
الجواب : إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله! فهذا يجب أن تجزم بان الله قادر على ذلك ، قال الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: من الآية60)
أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع ، او عوم توافر الأسباب فإنك قد تتردد في الاجابة ، ومع ذلك ينبغي أن تحسن الظن بالله ، لأن الله ـ عز وجل ـ قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فالذي وفقك لدعائه أولا سيمن عليك بالاجابة آخراً ، لا سيما إذا أتي الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع ، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء ، كأن يدعو بأثم أو قطيعة رحم .
ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعا وقدرا .
فشرعا كأن يقول : اللهم اجعلني نبيا .
وقدرا ً بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين ، وهذا أمر لا يمكن ، فالاعتداء بالدعاء مانع من اجابته ، وهو محرم لقوله تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(لأعراف:55) وهو اشبه ما يكون بالاستهزاء بالله ـ سبحانه ـ
مناسبة الباب للتوحيد : من وجهين :
(66/95)
1. من جهة الربوبية ، فإن من أتى بما يشعر بأن الله مكره لم يقم بتمام ربوبيته تعالى، لأن تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل أن لا يسأل عما يفعل، كما قال تعالى : (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء :23).
وكذلك فيه من ناحية الربوبية من جهة أخرى، وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها، فكان فيه قدح في جودة و كرمه .
2 – من ناحية العبد، فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في الباب الذي يتعلق بالأسماء والصفات .
فإن قلت : ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: (اللهم ! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فأصرفه عني و اصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به .(1) ، وكذا ما ورد في الحديث المشهور : ( اللهم ! أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي (2) .
(66/96)
فالجواب : أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت : فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا الخير لي أو شر والله يعلم، فأقول إن كنت تعلم إن هذا الأمر خير فاقدره لي، فالتعليق عندي مجهول لا اعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر ، لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أوشر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص : أطال الله بقاءك، لأن طول البقاء لا يعلم، فقد يكون خيرا، وقد يكون شرا، ولكن يقال : أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرا بكل حال، وعلى هذا، فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث : (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي)، لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقا بالمشيئة، والنهي إنما هو عما كان معلقا بالمشيئة .
لكن لو قال : اللهم اغفر إن أردت وليس إن شئت، فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعنى المشيئة، فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرا بالحكم .
* * *
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء. والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمى استثناء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير (حجي واشترطي، فإن لك على ربك ما استثنيت)(1)، ووجهه أنك إذا قلت : أكرم زيدا إن أكرمك، فهو كقولك : أكرم زيدا إلا ألا يكرمك، فهو بمعنى الاستنثناء في الحقيقة.
الثانية : بيان العلة في ذلك . وقد سبق أنها ثلاث علل :
أنه تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك .
أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله قد يثقل عليه ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك .
أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله، وهذا غير لائق وليس من الأدب .
الثالثة : قوله : (ليعزم المسالة) . تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تردد .
الرابعة : إعظام الرغبة . لقوله صلى الله عليه وسلم : (وليعظم الرغبة)، أي : ليسال
الخامسة : التعليل لهذا الأمر ..
ما بدا له فلا شي عزيز أو ممتنع على الله .
(66/97)
الخامسة : التعليل لهذا الأمر . يستفاد من قوله : (فإن الله لا يتعاظمه شي، أو لا مكره له) وقوله : (وليعظم الرغبة، وفي هذا حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا قرنه بعلته .
وفي ذكر علة الحكم فوائد :
الأولى : بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شي تحكم به إلا وله علة وحكمه .
الثانية : زيادة طمأنينة الإنسان، لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال : (أينقص إذا جف؟) قالوا : نعم . فنهى عنه (2).
(والرجل الذي قال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود – لم يقل صلى الله عليه وسلم الولد لك – بل قال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها؟ قال : حمر. قال : هل فيها من أورق – الأورق : الأشهب الذي بين البياض والسواد - ؟ قال : نعم . قال : من أين؟ قال : لعله نزعة عرق (3)، قال لعل ابنك نزعة عرق ، فاطمأن ، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع، فقرن الحكم بالعلة يُوجب الطمأنينة ومحبة الشريعة والرغبة فيها .
الثالثة : القياس إذا كانت المسألة في حكم من الأحكام، فليحق بها ما شاركها في العلة .
باب لا يقول : عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم : أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل : سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم : عبدي أمتي . وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي (1)) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك وسيأتي التفصيل فيه.
قوله : (في الصحيح) . سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في (الصحيحين)، أي : في الحديث الصحيح، ولعله أراد (صحيح البخاري) ، لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم، فيختلف .
قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يقل) . الجملة نهي .
(عبدي)، أي : للغلام .
و(أمتي)، أي : للجارية .
(66/98)
والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين :
الأول : أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول : عبد فلان أو أمة فلان، فهذا جائز، قال تعالى : (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) (النور :32) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)(2).
الثاني : أن يضيفه إلى نفسه ، وله صورتان :
الأولى : أن يكون بصيغة الخبر، مثل : أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة، فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا، فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك .
الثانية : أن يكون بصيغة النداء فيقول السيد : يا عبدي! هات كذا، فهذا منهي عنه، وقد اختلف العلماء في النهي : هل هو للكراهة أو التحريم ؟ والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
قوله صلى الله عليه وسلم :(لا يقل أحدكم : أطعم ربك ...الخ) . أي : لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظما .
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب، مثل : أطعم ربك، وضيء ربك ، فيكره ذلك للنهي عنه، لأن فيه محذورين :
من جهة الصيغة، لأنه يوهم معنى فاسدا بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو يطعم ولا يُطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الدب في اللفظ.
من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل، لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد أو الأمة مربوبا .
(66/99)
القسم الثاني : أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب، لا بأس به، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة : (أن تلد الأمة ربها)(3)، وأما لفظ (ربتها)(4) ، فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث فلا اشتراك مع الله في اللفظ ، لأن الله لا يقال له إلا رب ، وفي حديث الضالة – وهو متفق عليه – ( حتي يجدها ربها)(5) وقال بعض أهل العلم– وهو متفق عليه : إن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل، فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق، لأن البهيمة تعبد الله عبدة خاصة، قال تعالى : (ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب)، وقال في الناس : (وكثير من الناس) ليس جميعهم : (وكثير حق عليه العذاب) ( الحج : 18) ، وعلى هذا، فيجوز أن تقول : أطعم الرقيق ربه، ونحوه ...
القسم الثالث:أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بان يقول العبد: هذا ربي، فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل : إن هذا جائز، لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف : (إنه ربي أحسن مثواي) ( يوسف :32)، أي : سيدي، ولأن المحذور من قول (ربي) هو إذلال العبد، وهذا منتف، لأنه هو بنفسه يقول : هذا ربي .
القسم الرابع: أن يضاف الاسم إلى الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.
قوله : (وليقل : سيدي ومولاي) . المتوقع أن يقول : وليقل سيدك ومولاك، لأن مقتضى الحال أن يرشد إلى ما يكون بدلا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، وليقل : (سيدي ومولاي)، ففهم المؤلف رحمه الله – كما سيأتي في المسائل- أن فيه لإشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهى أن يقول للعبد : أطعم ربك، فالعبد من باب أولى أن ينهي عن قول : أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول : سيدي ومولاي .
(66/100)
وأما إذا قلنا بأن أطعم ربك خاص بمن يخاطب العبد لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه : أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال، فإنه يقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجه الخطاب إلى العبد نفسه ، فقال : (وليقل : سيدي ومولاي) ، أي بدلا عن قوله : أطعمت ربي، وضأت ربي .
وقوله : (سيدي) السيادة في الأصل علو المنزلة، لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان ، منها : المالك، والزوج ، والشريف المطاع .
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليست على وجه الإطلاق .
فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا لله – عز وجل – قال صلى الله عليه وسلم(السيد الله)(1)
وأما السيد مضافة، فإنها تكون لغير الله، قال تعالى:(وألفيا سيدها لدى الباب) (سورة يوسف : 25) وقال صلى الله عليه وسلم : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)(2) ، والفقهاء يقولون : إذا قال السيد لعبده، أي : سيد العبد لعبده .
· تنبيه :
اشتهر بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلا : هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق، لأن السادة هم الرجال، قال تعالى : (وألفيا سيدها لدى الباب) وقال : (الرجال قوامون على النساء) (الأنعام :62) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (إن النساء عوان عندكم)(3) . أي : بمنزلة السير، وقال في الرجل : (راع في أهله ومسؤول عن رعيته)(4) ، فالصواب أن يقال للواحدة امرأة وللجماعة منهن نساء .
قوله : (ومولاي) . أي : وليقل مولاي، والولاية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ولاية مطلقة، وهذه لله – عز و جل - لا تصلح لغيره،
كالسيادة المطلقة .
وولاية الله نوعان :
النوع الأول : عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال تعالى : (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (الأنعام : 62) ، فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة .
(66/101)
النوع الثاني : خاصة بالمؤمنين، قال تعالى : (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) (محمد :11) ، وهذه ولاية خاصة ، ومقتضى السياق أن يقال: وليس مولى الكافرين، لكن قال : (لا مولى لهم)، أي : لا هو مولى للكافرين ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرؤون منهم .
القسم الثاني : ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها : الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى : (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) (التحريم : 4)، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه : ( من كنت مولاه، فعليّ مولاه)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : (إنما الولاء لمن اعتق)(2) . ويقال للسلطان ولي الأمر، والعتيق مولى فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكا بقوله : مولاي، لأن المراد
بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها، كما قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء :59)
قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي) ، هذا خطاب للسيد أن لا يقول : عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته، لأننا جميعا عباد الله، ونساؤنا إماء لله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)(3) .
فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال : عبدي وأمتي، فقد تشبه بالله – عز وجل – ولو من حيث ظاهر اللفظ، لأن الله – عز وجل – يخاطب عباده بقوله : عبدي، كما في الحديث : (عبدي استطعمتك فلم تطعمني ...)(4) وما أشبه ذلك .
وإن كان السيد يريد بقوله : (عبدي)، أي : مملوكي، فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك(5) .
وقوله : (وأمتي) . الأمة : الأنثى من المملوكات، وتسمى الجارية .
(66/102)
والعلة من النهي : أن فيه إشعارا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الأدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلا .
قوله : (وليقل فتاي وفتاتي) .مثله جاريتي وغلامي، فلا بأس به .
وفي الحديث فوائد :
حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم،حيث إنه إذا نهى عن شيء فتح للناس ما
يباح لهم فقال : (لا يقل : عبدي وأمتي، وليقل : فتاي وفتاتي) ، وهذه كما هي طريقة القرآن أيضا، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) (البقرة :104) ، وهكذا ينبغي لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم، لأن في ذلك فائدتين عظيمتين :
الأولى : تسهيل ترك المحرم على هؤلاء، لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلا عنه هان عليهم تركه.
الثانية : بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس، فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن يتكلموا بشي أو لا يفعلوا شيئا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية .
2 – أن الأمر يأتي للإباحة ، لقوله : (وليقل : سيدي ومولاي)، وقد قال العلماء : إن الأمر إذا أتى في مقابلة شي ممنوع صار للإباحة ، وهنا جاء الأمر في مقابلة شي ممنوع، ومثله قوله تعالى : (وإذا حللتم فاصطادوا) (المائدة :2) .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي. تؤخذ من قوله : (ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي)، وقد سبق بيان ذلك .
* الثانية : لا يقول العبد : ربي، ولا يقال له :أطعم ربك . تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك .
* الثالثة : تعليم الأول (وهو السيد) قول : فتاي وفتاتي وغلامي .
* الرابعة : تعليم الثاني (وهو العبد) قول : سيدي ومولاي .
(66/103)
* الخامسة : التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ . وقد سبق ذلك .
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود .
* * *
باب لا يرد من سال بالله
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله : (باب لا يرد) . (لا) نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم .
وقوله : (من سأل بالله) . أي : من سأل غيره بالله، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول : أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك : (أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا)(1) .
الثاني : السؤال بشرع الله – عز وجل -، أي : يسأل سؤالا يبيحه الشرع، كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك .
وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل ، وهنا عدة مسائل :
المسألة الأولى : هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
وهذه المسألة لو يتطرق إليه المؤلف رحمه الله، فنقول أولا : السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته، فلا يقول لأحد : ناولينه، بل ينزل ويأخذه(2) .
والمعنى يقتضيه، لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد، لأن من أذل وجهه لأحد، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه سأله اضطر إلى يجيبه، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس)(1) ، فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة .
(66/104)
فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسال من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة : (إن من أبيح له أخذ شي أبيح له سؤاله)، ولكن فيما قالوه نظر،فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من السؤال ، وقال : ( إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)(2)، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة .
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن، فهذا مكروه، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
وأما إجابة السائل، فهو موضوع بابنا، ولا يخلو السائل من أحد الأمرين :
الأول : أن يسأل سؤالا مجردا، كأن يقول مثلا : يا فلان ! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه، كالفقير يسأل شيئا من الزكاة.
الثاني : أن يسأل بالله ، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا، لأنه سال بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا التعظيم، لكن لو سال إثما أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، فإنه يجاب.
مثال الأول : أن يسألك بالله نقودا ليشتري بها محرما كالخمر.
ومثال الثاني : أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك ، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول .
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (من سأل بالله فأعطوه ؛ ومن استعاذ بالله ؛ فأعيذوه ، ومن دعاكم ؛ فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معرروفا ؛ فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه ، فأدعوا له حتي تروا أنكم قد كافأتموه ) . رواه أبو داوود والنسائي بسند صحيح (1)
ـــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله صلى الله عليه وسلم : (من سال بالله) . (من) : شرطية للعموم .
قوله : (فأعطوه) الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسؤول، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيما لله - عز وجل – الذي سال به .
(66/105)
ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والقرع والأعمى : (أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا)(3) .
قوله : (ومن استعاذ بالله فأعيذوه) . أي قال : أعوذ بالله منك ، فإنه يجب عليك أن تعيذه، لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله منك، قال لها : (لقد عذت بعظيم- أو معاذ -، الحقي بأهلك(4).
لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه، فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال أعوذ بالله منك .
وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعادته .
وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه – وإن لم يقل أستعيذ بالله -، فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم : لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه، فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج .
قوله:(ومن دعاكم فأجيبوه). (من) : شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء .
وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية .
وجمهور أهل العلم : أنها مستحبة إلا دعوة العرس ، فإنها واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم فيها:(شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها ، ومن لم يجب ، فقد عصى الله ورسوله)(1) . وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب، فإنه يشترط لذلك شروط :
1. أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن .
2. ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنة إزالته، وجب عليه الحضور لسببين :
- إجابة الدعوة .
- وتغيير المنكر .
(66/106)
وإن كان لا يمكن إزالته حرم عليه الحضور، لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم ، فهو إثم .
3. أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة، لقوله صلى الله عليه وسلم : (حق المسلم على المسلم خمس ...) وذكر منها: ( إذا دعاك فأجبه)(1). قالوا : وهذا مقيد للعموم الوارد .
4. أن لا يكون كسبه حرام، لأن إجابته تسلتزم أن تأكل طعاما حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم .
وقال آخرون : ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتري من يهودي طعاما لأهله(3)، واكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر(4)، وأجاب دعوة اليهودي،(5) ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة : (هو لها صدقة ولنا منها هدية) (6) .
وعلى القول الأول، فإن الكراهة تقوي وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل .
5. أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ماهو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة .
6. أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفرقة هله المحتاجين إلى وجوده بينهم .
مسألة : هل إجابة الدعوة حق على لله أو للآدمي؟
الجواب : حق للآدمي، ولهذا طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل، فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل- ، ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك، لكن صاحبها أن يسقطها كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منه وخجلا من غير اقتناع، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة .
مسألة : هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة ؟
(66/107)
الجواب : البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهبت إليه، فيمكن أن نقول : إنها تشبه دعوة الجفلي فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة .
قوله : (من صنع إليكم معروفا، فكافئوه) . المعروف : الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها، فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عملا زائدا عن الواجب عليه،فكافئه، وهذا، كالملك أو الرئيس ... مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعي له، لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه فتكون مسيئا له، والنبي صلى الله عليه وسلم أن تكافئه إحسانه .
وللمكافأة فائدتان :
1. تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف .
2. أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له يصنع المعروف إليه ، لأن من صنع إليك
معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (اليد العليا خير من اليد السفلى)(7)، واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروفا، لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله – عز وجل -، لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أكثر مما أعطيته ، فهذا لا يريد مكافأة ، ولكن يدعي له، لقوله صلى الله عليه وسلم : (فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له) وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني فإنه يدعو له .
ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه به سرور صانع المعروف .
قوله : (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) . (تروا) ، بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا، أي : حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه، ثم أمسكوا .
* * *
* فيه مسائل :
* الأولى : إعاذة من استعاذ بالله. وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شي واجب فعلا أو تركا، فإنه لا يعاذ .
(66/108)
* الثانية : إعطاء من سأل بالله . وسبق التفصيل فيه .
* الثالثة : إجابة الدعوة . وسبق كذلك التفصيل فيها .
* الرابعة:المكافأة على الصنيعة.أي:على صنيعة من صنع إليك معروفا، وسبق تفصيل ذلك .
* الخامسة : أن الدعاء مكافأة لمن يقدر إلا عليه . وسبق أنه مكافأة في ذلك ، وفيما إذا كان الصانع لا يكافأ مثله عادة .
* السادسة : قوله : (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) . أي : أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعوا له حتى يعلم أو يغلب على ظنه أنه قد كافأه .
وفيه مسائل أخرى ، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود .
* * *
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر ؛ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) . رواه أبو داوود (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة هذا الباب للتوحيد : أن فيه تعظيم وجه الله - عز وجل -، بحيث لا يسأل به إلا الجنة.
* * *
قوله : (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) . اختلف في المراد بذلك على قولين :
القول الأول : أن المراد : لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله، فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين، فلا تسأله بوجه الله، لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث، ولذلك ذكره بعد (باب لا يرد من سأل بالله) .
القول الثاني : أنك إذا سألت الله، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها، فلا حرج أن تسأل بوجه الله، وإن سالت شيئا من أمور الدنيا، فلا تسأله بوجه الله، لأن وجه الله أعظم من أن يسال به لشي من أمور الدنيا .
(66/109)
فأمور الآخرة تسأل بوجه الله، كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني من النار، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى : (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) ، قال : أعوذ بوجهك، (أو من تحت أرجلكم) ، قال : أعوذ بوجهك، (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) (الأنعام :65) قال : هذه أهون أو أيسر)(2) .
ولو قيل : إنه يشمل المعنيين جميعا، لكان له وجه .
وقوله : (بوجه الله) . فيه إثبات الوجه لله – عز وجل - ، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فالقرآن في قوله تعالى : (كل شي هالك إلا وجهه) (القصص : 88) ، وقوله تعالى : (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) (الرعد :22) والآيات كثيرة .
والسنة كما في الحديث السابق : (أعوذ بوجهك) .
واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه : هل هو وجه حقيقي ، أو أنه وجه يعبر به عن الشي الذي يراد به وجهه وليس هو الوجه الحقيقي، أو أنه يعبر به عن الجهة، أو أنه يعبر به عن الثواب؟
فيه خلاف، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا : إنه وجه حقيقي ، لأن الله تعالى قال : (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن : 27) ، ولما أراد الله غير ذاته، قال : (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) (الرحمن :78) ف(ذي) صفة لرب وليست صفة لاسم، و(ذو) صفة لوجه وليست صفة لرب، فإذا كان الوجه موصوفا بالجلال والإكرام، فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها، لأن الوجه غير الذات .
وقال أهل التعطيل : أن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب، قالوا : ولو أثبتنا لله وجها للزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة،ويلزم من ذلك لإثبات المثل لله – عز وجل - ، والله تعالى يقول : (ليس كمثله شي) (الشورى : 11)، وإثبات المثل تكذيب للقرآن، وأنتم يا أهل السنة تقولون : إن من اعتقد أن لله مثيلا فيما يختص به فهو كافر، فنقول لهم :
(66/110)
أولا : ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه، أتعنون به المُركّب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر؟ إن أردتم ذلك، فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه ولا يمكن أن يكون كذلك، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال، فلا محذور في ذلك، والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد، قال تعالى : (قل هو الله أحد* الله الصمد) (الإخلاص : 1-2) ، قال ابن عباس رضى الله عنهما: الصمد: الذي لا جوف له (2).
ثانيا : قولكم : إن الأجسام متماثلة قضية من أكذب القضايا، فهل جسم الدب مثل جسم النملة؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك .
فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة وهي استلزام مماثلة الله لخلقه .
ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه، فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توأمين، بل قالوا : إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر .
ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أول من التعبير بنفي المشابهة، لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويتشابهان من وجه ويفترقان من وجه آخر، فنفى مطلق المشابهة لا يصح ، وقد تقدم .
وأما حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن لله خلق آدم على صورته)(1) ،ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين، فيجاب عنه :
بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب – عز وجل – بإجماع المسلمين والعقلاء، لأن الله – عز وجل – وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي – موضع القدمين – كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، فما ظنك برب العالمين؟ فلا أحد يحيط به وصفا و لا تخيلا ، من هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا، وإنما يراد به أحد معنيين :
(66/111)
الأول : أن الله خلق آدم على صورة اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه، وعلى هذا، فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضى من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب .
الثاني : أن الله خلق آدم على صورة الله - عز وجل – ولا يلزم من ذلك المماثلة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب في السماء)(2) ، ولا يلزم أن يكون على صورة نفس القمر، لأن القمر أكبر من أهل الجنة، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعا، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث .
وقال بعض أهل العلم : على صورته، أي : صورة آدم، أي : أن الله خلق آدم أول مرة على هذه الصورة، وليس كبنية يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة .
لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل، وقال : هذا تأويل الجهمية، ولأنه يفقد الحديث معناه، وأيضا يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ : (على صورة الرحمن) .
* * *
* فيه مسائل :
· الأولى : النهي عن أن يسأل بوجه الله غاية المطالب .
تؤخذ من حديث الباب، وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، لكن على تقدير صحته، فإن من الأدب أن لا تسال بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة : الفوز بالجنة، أو النجاة من النار .
· الثانية : إثبات صفة الوجه . وقد سبق الكلام عليه .
* * *
باب ما جاء في ال ( لو )
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : في ( اللو) .
دخلت (أل) على (لو) وهي لا تدخل إلا على الأسماء، قال ابن مالك :
بالجر والتنوين والندا وأل ومسند للاسم تمييز حصل
لأن المقصود بها اللفظ، أي : باب ما جاء في هذا اللفظ .
والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشي، لأن (لو) تستعمل على عدة أوجه:
(66/112)
الوجه الأول : أن تستعمل في الاعتراض على الشرع ، وهذا محرم، قال تعالى : ( لو أطاعونا ما قتلوا) (آل عمران :168) في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا : لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع محمد، وهذا محرم يصل إلى الكفر .
الثاني : أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرم أيضا، قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) (آل عمران :156) أي : لو أنهم بقوا ما قتلوا، فهم يعترضون على قدر الله .
الثالث : أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا، لأن كل شي يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه، لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد من أن نكون في انشراح وانبساط، قال صلى الله عليه وسلم : (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شي، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان )(1) .
مثال ذلك : رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال : لو أني ما اشتريته ما حصل لي من خسارة، فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيرا، وقد نهي عنه .
الرابع : أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية، كقول المشركين:(لو شاء الله ما أشركنا) (الأنعام : 148) وقولهم:(لو شاء الرحمن ما عبدناهم) (الزخرف : 20) وهذا باطل .
(66/113)
الخامس : أن تستعمل في التمني،وحكمه حسب المتمني : إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم : (لو أن لي مالا لعمات بعمل فلان) فهذ تمني خيرا، وقال الثاني : (لو أن لى مالا لعملت بعمل فلان)، فهذا تمني شرا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول : ( فهو بنيته، فأجرهما سواء)، وقال في الثاني : (فهو بنيته فوزرهما سواء)(2) .
السادس : أن تستعمل في الخبر المحض .
وهذا جائز، مثل : لو حضرت الدرس لاستفدت ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى و لأحللت معكم)(3)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدى ولأحل ،
قوله تعالى : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهنا) (آل عمران: من الآية154) . ــــــــــــــــــــــــــ
وهذا ظاهر لي : وبعضهم قال : إنه من باب التمني، كأنه قال : ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدى .
لكن الظاهر : أنه لما رأى من أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى شيئا قدر الله خلافه.
وقد ذكر المؤلف في هذا البيت آيتين :
* الآية الأولى قوله تعالى : (يقولون) . الضمير للمنافقين .
قوله : (ما قتلنا) . أي : ما قتل بعضنا، لأنهم لم يقتلوا كلهم ، ولأن المقتول لا يقول .
قوله : (لو كان لنا من الأمر) . (لو) : شرطية، وفعل الشرط : (كان)، وجوابه : (ما قتلنا) ولم يقترن الجواب باللام، لأن الأفصح إذا كان الجواب منفيا عدم الاقتران، فقولك : لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك : لو جاء زيد لما جاء عمرو، وقد ورد قليلا اقترانها مع النفي ، كقول الشاعر :
لو نعطي الخيار لما افترقنا ولكن لا خيار مع الليالي
قوله : (ها هنا) . أي : في أُحد .
(66/114)
قوله : (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) . هذا رد عليهم، فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم .
وقوله : (الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) (آل عمران: من الآية168)
ــــــــــــــــــــــــــ
وقولهم : (لو كان لنا من الأمر شي) . هذا من الاعتراض على الشرع، لأنهم عتبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج بدون موافقتهم، ويمكن أن يكون اعتراضا على القدر أيضا، أي : لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شي ما خرجنا فنقتل .
قوله : (وقعدوا) . الواو إما أن تكون عاطفة والجملة معطوفة على (قالوا) ، ويكون وصف هؤلاء بأمرين :
- بالاعتراض على القدر بقولهم : (لو أطاعونا ما قتلوا) .
- وبالجبن عن تنفيذ الشرع (الجهاد) بقولهم : (وقعدوا) ، أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير (قد) ، أي : والحال أنهم قد قعدوا، ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس، لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين وعلى قضاء الله وقدره .
قوله : (لإخوانهم) . قيل : في النسب لا في الدين، وقيل في الدين ظاهرا، لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام ، ولو قيل لهم : إنه شامل للأمرين، لكان صحيحا .
قوله : (لو أطاعونا ما قتلوا) . هذا غير صحيح ، ولهذا رد الله عليهم بقوله : (قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)، وإن كنتم قاعدين، فلا تستطيعون أيضا أن تدرؤوا عن أنفسكم الموت .
فهذه الآية والتي قبلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوما بشرع الله .
· مناسبة الباب للتوحيد :
أن من جملة أقسم (لو) الاعتراض على القدر ، ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية .
(66/115)
والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن : إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له )(2)، ومهما كان، فالأمر سيكون على ما كان، فلو خرجت مثلا في سفر ثم أصبت في حادث، فلا تقل : لو أني ما خرجت في السفر ما أصبت، لأن هذا مقدر لا بد منه .
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شي، فلا تقل : لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، لكن قل : قدر الله وما شاء الله فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
***
قوله : (وفي الصحيح) أي : (صحيح مسلم)، وانظر ما سبق في : باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (146) .
والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)
قوله : (القوي) . أي : في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه، يعني : ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه، يعني : العمل الصالح من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في العبادات وما أشبه ذلك .
وهل يدخل في ذلك قوة البدن ؟
الجواب : لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه أو يزيد ما يقتضيه، لأن (القوي) وصف عائد على موصوف وهو المؤمن، فالمراد : القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر .
قوله : (خير وأحب إلى الله) . خير في تأثيره وآثاره فهو ينفع ويقتدي به وأحب إلى الله باعتبار الثواب .
(66/116)
قوله : (ومن المؤمن الضعيف) . وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه لا في قوة البدن .
قوله : (وفي كل خير) . أي : في كل من القوي والضعيف خير، وهذا النوع من التذييل يسمى عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف.
فإن قيل : إن الخيرية معلومة في قوله (خير واحب) ، لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟
فالجواب : أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى : (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر) (الفرقان : 24) مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم .
كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة : (خير وأحب) صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل : (وفي كل خير) رفع من شانه ، ونظيره قوله تعالى : (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) (الحديد : 10) .
قوله:(احرص على ما ينفعك) . الحرص : بذلك الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا .
وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات :
1. نافعة ، وهذه مأمور بها .
2. ضارة وهذه محذر منها .
3. فيها نفع وضرر .
4. لا نفع فيها ولا ضرر ، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي ، فتأخذ حكم الغاية، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر، إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر ، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيه نفع ولا ضرر، إما ذاتي ، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم .
والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه و لا ضرر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خير أو ليصمت)(1) .
(66/117)
واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا، لأن من القوة الحرص على ما ينفع .
و (ما) : اسم موصول بفعل (ينفع)، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم فاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع، لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها، لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت : أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره، فنقدم الأنفع على النافع لوجهين :
1. أنه مشتمل على النفع وزيادة .
2. أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته .
يؤخذ من الحديث وجود الابتعاد عن الضار، لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله : (احرص على ما ينفعك)
قوله : (واستعن بالله) . الواو تقتضي الجمع فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل، فلابد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله .
والاستعانة : طلب العون بلسان المقال، كقولك : (اللهم أعني، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله) عند شروعك بالفعل .
أو بلسان الحال، وهي ان تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك – عز وجل – أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة .
أو طلب العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال، فقد استعان بلسان الحال .
لو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، فهذا جائز، ولكن لا تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شي بيد واحدة، فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى، وعلى هذا ، فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله صلى الله عليه وسلم : (استعن بالله) .
(66/118)
قوله : (ولا تعجزن) . فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و(لا) الناهية ، والمعنى : لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى : لا يصيبك عجز، لأن العجز عن الشي غير التعاجز، فالعجز بغير اختيار الإنسان، ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( صل قائما، فإن لم تستطع ، فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب)(2) .
فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل،اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعد التكاسل.
لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل – لا سيما النافع – ثم أتاه الشيطان فثبطه؟
لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار، فيجب الرجوع عنه، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
وذكر في ترجمة الكسائي انه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت، فأخذت درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو.
قوله : (إن أصابك شي فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا).
هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود.
فالمرتبة الأولى : الحرص على ما ينفع .
والمرتبة الثانية : الاستعانة بالله .
والمرتبة الثالثة : المضي في الأمر والاستمرار فيه وعدم التعاجز .
وهذه المراتب إليك .
المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود، فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله، ولهذا قال: (وإن أصابك ...) ، ففوض الأمر لله .
(66/119)
قوله : ( وإن أصابك شي) . أي : مما لا تحبه ولا تريده ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع .
فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه لا يخلو من حالين :
الأول : أن يقول : لو لم أفعل ما حصل كذا .
الثاني : أن يقول : لو فعلت كذا لأمر لم يفعله لكان كذا .
مثال الأول قول القائل : لو لم أسافر ما فاتني الربح .
ومثال الثاني أن يقول : لو سافرت لربحت .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثاني دون الأول، لأن الإنسان عامل فاعل،فهو يقول : لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل وكان موقفه سلبيا من الأعمال .
قوله : (كذا) . كناية عن مبهم ، وهي مفعول لفعلت .
قوله : (لكان كذا) فاعل كان، والجملة جواب لو .
قوله : (قدر الله) . خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله .
وقدر بمعنى مقدور ، لأن الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله،ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله، وهو المراد هنا، لأن القائل يتحدث عن شي وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير ، لأن المفعول نتيجة الفعل .
والمعني إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلىّ، أما الذي إلىّ فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله – عز وجل – وان الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي، فإنه لا يلام على شي، ويفوض الأمر إلى الله .
(66/120)
قوله: (وما شاء الله فعل) . جملة مصدرة ب(ما) الشرطية، (وشاء) : فعل الشرط ، وجوابه : (فعل)، أي : ما شاء الله أن يفعله فعله، لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، قال تعالى : (والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) (الرعد :41)، وقد سبق ذكر قاعدة، وهي ان كل فعل لله معلق بالمشيئة، فإنه مقرون بالحكمة، وليس شي من فعله معلقا بالمشيئة المجردة، لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا الحكمة، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما الإرادة ووقوع المراد ففيه تفصيل :
فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد ، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى : (والله يريد أن يتوب عليكم) (النساء :27) بمعني يجب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله علي جميع الناس .
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد، كما قال الله تعالى : (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) (البقرة :253)
قوله : (فإن لو تفتح عمل الشيطان) . (لو) : اسم إن قصد لفظها، أي ؛ فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.
وعمله : ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن ، فإن الشيطان يحب ذلك ، وقال تعالى : (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) (المجادلة :10) ، حتى في المنام يريه أحلاما مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره، فحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة تشوش الفكر،فقال صلى الله عليه وسلم : (لا صلاة بحضرة طعام، ولا يدافعه الأخبثان)(1) ، إذا رضى الإنسان بالله ربا، وقال : هذا قضاء الله وقدره، وانه لا بد أن يقع، اطمأنت نفسه وانشرح صدره .
* ويستفاد من الحديث :
1. إثبات محبة الله – عز وجل -، لقوله : ( خير وأحب)
(66/121)
2. اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه ، لقوله : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)
3. زيادة الإيمان ونقصانه، لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة .
وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص، لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى : ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا) (المدثر:31)، وقال تعالى:(ويزداد الذين آمنوا إيمانا مع إيمانهم) ( الفتح : 4) .
والراجح القول الأول، لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله صلى الله عليه وسلم : (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)(2) ، يعني : النساء .
والإيمان يزيد بالكمية والكيفية، فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : (رب ارني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (البقرة : 260) .
والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر، زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال، فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين .
4– أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير؛ لقوله : (وفي كل خير) .
5 – أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها ، لقوله : (احرص على ما ينفعك) ، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا .
6 – أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع، لقوله:(احرص على ما ينفعك) .
7- أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة، لقوله : (و لا تعجزن)
(66/122)
8- أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر ، لقوله : (ولكن قل : قدر الله وما شاء الله فعل) ، وأما الذي يمكنك، فليس لك أن تحتج بالقدر .
وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى أدم عليهما السلام ؛ وقال له : (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال : أتلومني على شي قد كتبه الله على)(3) فهذا احتجاج بالقدر.
فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث ، لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه فكذبوه، وإلا حرفوه ، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما .
وقال شيخ الإسلام ابن تميمة : إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه .
معناه أن فعلك صار سببا لخروجنا ، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام ابعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث .
وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية ويستمروا عليها، فالمشركون لما قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) (الأنعام :148) كذبهم الله، لأنهم لا يحتجون على شي مضى ويقولون : تبنا إلى الله، ولكن يحتجون على شي مضى ويقولون : تبنا إلى الله، ولكن يحتجون على البقاء في الشرك .
9 – أن للشيطان تأثيرا على بني آدم، لقوله : (فإن لو تفتح عمل الشيطان) ، وهذا
لاشك فيه،ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم(إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)(2).
فقال بعض أهل العلم : إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق .
(66/123)
وظاهر الحديث : أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله – عز وجل -، كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء .
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده ، وهي لمة الملك، فإن الشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا .
10 – حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حين قرن النهي عن قول (لو) بيان علته، لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : تفسير الآيتين في آل عمران . وهما :
الأولى : (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا).
الثانية : (يقولون لو كان لنا من الأمر شي ما قتلنا هاهنا) ، أي : ما أُخرجنا وما قتلنا، ولكن الله تعالى : أبطل ذلك بقوله : (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) ، والآية الأخرى : (لو أطاعونا ما قتلوا)، فأبطل الله دعواهم هذه بقوله : (فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)، أي : إن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل، فادرؤوا عن أنفسكم الموت، فإنهم لن يسلموا من الموت، بل لابد أن يموتوا، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد، لكانوا على ضلال مبين .
* الثانية: النهي الصريح عن قول (لو) إذا أصابك شي . لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (فإن أصابك شي، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا) .
* الثالثة : تعليل المسألة بان ذلك يفتح عمل الشيطان. فالنهي عن قول (لو) علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن .
* الرابعة : الإرشاد إلى الكلام الحسن. ويعني قوله : (ولكن قل : قدر الله وما شاء الله فعل).
(66/124)
* الخامسة : الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. لقوله صلى الله عليه وسلم : (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) .
* السادسة : النهي عن ضد ذلك ، وهو العجز . لقوله : (ولا تعجزن)، فإن قال قائل : العجز ليس باختيار الإنسان، قد يصاب بمرض فيعجز، فكيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا قدرة للإنسان عليه؟
أجيب : بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشي، لأنه هو الذي في مقدور الإنسان .
* * *
باب النهي عن سب الريح
ــــــــــــــــــــــــــــ
المؤلف رحمه الله أطلق النهي ولم يفصح : هل المراد به التحريم أو الكراهة، وسيتبين إن شاء الله من الحديث .
قوله (الريح) . الهواء الذي يصرفه الله – عز وجل - ، وجمعه رياح .
وأصولها أربعة : الشمال، والجنوب ، والشرق، والغرب، وما بينهما يسمى النكباء، لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال، أو الجنوب، أو الشرق، أو الغرب .
وتصريفها من آيات الله – عز و جل – فأحيانا تكون شديدة تقلع الأشجار وتهدم البيوت وتدفن الزروع ويحصل معها فيضانات عظيمة، وأحيانا تكون هادئة، وأحيانا تكون باردة، وأحيانا حارة، وأحيانا عالية، وأحيانا نازلة، كل هذا بقضاء الله وقدره، ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن الله – عز وجل – بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلى ما يريد ، فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح ؟
الجواب : لا، لأن هذه الريح مسخرة مدبرة، وكما أن الشمس أحيانا تضر بإحراقها بعض الأشجار، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها، فكذلك الريح، ولهذا قال : (لا تسبوا الريح) .
***
قوله : (لا تسبوا الريح) . (لا) : ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، والريح مفعول به .
(66/125)
والسب : الشتم، والعيب، والقدح، واللعن، وما أشبه ذلك، وإنما نهى عن سبها، لأن سب المخلوق سب لخالقه، فلو وجدت قصرا مبنيا وفيه عيب، فسببته، فهذا السب ينصب على من بناه، وكذلك سب الريح ، لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله – عز وجل - .
ولكن إذا كانت الريح مزعجة، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقال حينئذ في قوله : (ولكن قولوا : اللهم إنا نسألك ...الخ) .
قوله : (وخير منها) . أي : ما تحمله، لأنها قد تحمل خيرا، كتلقيح الثمار، وقد تحمل رائحة طيبة الشم، وقد تحمل شرا، كإزالة لقاح الثمار، وأمراض تضر بالإنسان والبهائم .
قوله : (وخير ما أمرت به) . مثل إثارة السحاب وسوقه إلى حيث شاء الله.
قوله : (ونعوذ بك) . أي : نعتصم ونلجأ .
قوله: (ومن شر هذه الريح ) أي : شرها بنفسها كقلع الأشجار ، ودفن الزروع وهدم البيوت .
قوله : (ومن شر ما فيها) . أي : ما تحمله من الأشياء الضارة، كالأنتان ، والقاذورات، والأوبئة وغيرها .
قوله : (وشر ما أُمرت به) . كالهلاك والتدمير، وقال تعالى في ريح عاد : ( تدمر كل شي بأمر ربها) (الأحقاف :25) وتيبس الأرض من الأمطار، ودفن الزروع، وطمس الآثار والطرق، فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة نعجز عن إدراكها .
وقوله : (ما أمرت به) . هذا الأمر حقيقي، أي : يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف، وكل شي من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله ، قال تعالى للأرض والسماء : (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) (فصلت : 11)، وقال للقلم : (اكتب . قال : ربي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة)(1) .
* * *
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الريح الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره . الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة . الرابعة : أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر .
ـــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
(66/126)
* الأولى : النهي عن سب الريح . وهذا النهي للتحريم، لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها.
* الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره . أي : منها، وهو أن يقول : (اللهم إني أسألك من خيرها ...) الحديث، مع فعل السباب الحسية ايضا، كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها .
* الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة . لقوله : (ما أمرت به) .
* الرابعة : أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر . لقوله : خير ما أُمرت به، وشر ما أُمرت به)
والحاصل : أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره، وأن لا يسبه، وأن يكون مستسلما لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلما لأمره الشرعي، لأن هذه المخلوقات لا تملك أن تفعل شيئا إلا بأمر الله – سبحانه وتعالى - .
* * *
باب قوله تعالى :
( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)(آل عمران: من الآية154) .
ــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين :
*الأولى : قوله تعالى : (يظنون) . الضمير يعود على المنافقين، والأصل في الظن : أن الاحتمال الراجح، وقد يطلق على اليقين، كما في قوله تعالى : (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) (البقرة :46) ، أي : يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمى وهما .
قوله : (ظن الجاهلية) . عطف بيان لقوله : (غير الحق)، و(الجاهلية) : الحال الجاهلية، والمعنى : يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل .
والظن بالله – عز وجل- على نوعين :
الأول : أن يظن خيرا .
الثاني : أن يظن بالله شرا .
والأول له متعلقان :
1. متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون، فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله – عز
(66/127)
وجل- فيما يفعله –سبحانه وتعالى – في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو الحكمة بالغة قد تصل العقول إليها وقد لاتصل ، وبهذا يتبين عظمة الله وحكمته في تقديره، فلا يظن أن الله إذا فعل شيئا في الكون فعله لإرادة سيئة ، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله إرادة السوء المتعلق بفعله، أما المتعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير، فهذا واقع، كما قال تعالى : (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة) (الأحزاب : 17) .
2. متعلق بالنسبة لما يفعله بك، فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد
لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك ، فعليك أن تظن أن الله يقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب، فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه .
وأما إن كان الإنسان مفرطا في الواجبات فاعلا للمحرمات، وظن بالله ظنا حسنا، فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله ، إذ أن حكمة الله تأبى مثل ذلك.
النوع الثاني : وهو أن يظن بالله سوء، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلما أو نحو ذلك ، فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق .
قوله : (يقولون هل لنا من الأمر من شي) . مرادهم بذلك أمران :
الأول : رفع اللوم عن أنفسهم .
الثاني : الاعتراض على القدر .
وقوله : (لنا) : خبر مقدم .
قوله : (من شي) : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد .
قوله : (إن الأمر كله لله) . أي : فإذا كان كذلك، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره، فالله – عز وجل – يفعل ما يشاء من النصر والخذلان .
(66/128)
قوله : (إن الأمر)واحد الأمور لا واحد الأوامر، أي : الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله – سبحانه، فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله .
قوله : (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) . أي : ما لا يظهرون لك، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق، فيخفي نفسه ما لا يبديه لغيره، لأنه يرى من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان .
قوله : (ما قتلناها هنا) . أي : في أٌحد، والمراد بمن (قتل) : من استشهد من المسلمين في أُحد، لأن عبد الله بن أُبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد ، وقال / أن محمدا يعصيني ويطيع الصغار والشبان .
قوله : (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) . هذا رد لقولهم : لو كان لنا من الأمر شي ما قتلناها هنا .
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له، لأنه إذا كتب القتل على أحد ، لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لابد أن يخرج إلى مكان موته ، والكتاب قسمان :
1. كتابة شرعية، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا مؤقتا) (النساء : 103) وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) (البقرة :183) .
2. كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (الأنبياء :105) ، وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) (المجادلة :21) .
قوله : (وليمحص ما في قلوبكم) . أي : إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر، صار في ذلك تمحيص لما في القلب، أي : تطهير لله وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي .
(66/129)
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أُحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول (1)صلى الله عليه وسلم حين قيل له : (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) (آل عمران 172) خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا، (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) (آل عمران : 174) .
قوله : (والله عليم بذات الصدور) . جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور، والمراد بها القلوب، كما قال تعالى : (فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور) (الحج :146) ، فالله لا يخفى عليه شي فيعلم ما في القلب وما ليس في قلبه متى يكون وكيف يكون .
وقوله : ( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) (الفتح: من الآية6) .
ـــــــــــــــــــــ
* * *
* الآية الثانية قوله تعالى : (الظانين بالله ظن السوء) . المراد بهم : المنافقون والمشركون، قال تعالى : (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء) (الفتح :6) أي : ظن العيب، وهو كقوله فيما سبق : 0ظن الجاهلية) (آل عمران :154) .
ومنه ما نقله المؤلف عن ابن قيم رحمها الله : أنهم يظنون أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك ؟
قوله : (عليهم دائرة السوء) . وأنه لا يمكن أن يعود ، وما أشبه ذلك .
قوله : (عليهم دائرة السوء) . أي : أن السوء محيط بهم جميعا من كل جانب كما تحيط الدائرة بما في جوفها، وكذلك تدور عليهم دوائر السوء، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلى عن رسوله وأن أمره سيضمحل، فإن الواقع خلاف ظنهم ، ودائرة السوء راجعة عليهم .
قوله : (وغضب الله عليهم) الغضب من صفات الله الفعلية التي تتعلق بمشيئتة ويترتب عليها الانتقام، وأهل التعطيل قالوا : إن الله لا يغضب حقيقة: فمنهم من قال: المراد بغضبه الانتقام .
(66/130)
ومنهم من قال : المراد بغضبه الانتقام .
ومنهم من قال : المراد إرادة الانتقام . قالوا : لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم)(1).
فيجاب عن ذلك : بأن هذا هو غضب الإنسان ، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى : (ليس كمثله شي) (الشورى :11) ويد ل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى : (فلما آسفونا انتقمنا منهم) (الزخرف :55) ف (آسفونا) بمعنى أغضبونا (انتقمنا منهم)، فجعل الانتقام مرتبا على الغضب ، فدل على أنه غيره .
قوله : (ولعنهم) . اللعن : الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
قوله : (وأعد لهم جهنم) . أي هيأها لهم وجعلها سكنا لهم ومستقرا .
قوله : (وساءت مصيرا) . أي : مرجعا يصار إليه .
و(مصيرا) : تمييز ، والفاعل مستتر ، أي : ساءت النار مصيرا يصيرون إليه .
قال بن القيم في الآية الأولى : (فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته .
ـــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : ( قال بن القيم) . هو محمد ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه الكبار الملازمين له رحمهما الله، وقد ذكره في (زاد المعاد) عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها .
قوله : (في الآية الأولى) . يعني قوله (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية)، فسر بأن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، أي : يزول، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ويؤخذ هذا التفسير من قولهم :
(لو كان لنا من الأمر شي ما قتلنا هاهنا)، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهر الله على الدين كله .
(66/131)
ففسر بما يكون طعنا في الربوبية وطعنا في الأسماء والصفات ، فالطعن في القدر طعن في ربوبية الله – عز وجل – ، لأن من تمام ربوبيته – عز وجل - أن نؤمن بأن كل ما جرى في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله وسوف يضمحل أمره، لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعنى ذلك إن إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عبث وسفه، فما الفائدة من أن يرسل رسول ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس ، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسى ؟ فهذا بعيد .
ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم النبيين، فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقى إلى يوم القيامة .
قال ابن القيم رحمه الله : ( وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح).
وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور :
الأول : أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى : (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ابدا) (الفتح :12) .
الثاني : أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد ، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته .
الثالث : أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليه الحمد، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافا كبيرا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله – سبحانه وتعالى - .
(66/132)
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا : لأنه لا يسأل عما يفعل ، وهذا من أعظم سوء الظن بالله، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيها، فما بالك بالخالق الحكيم ؟
قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) (ص :27) ، فالظن بأنها خلقت باطلا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا ، وقال تعالى : (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق) (الدخان :38- 39) الذي هو ضد الباطل، وهؤلاء قالوا : إن الله تعالى خلقهما باطلا لغير حكمة، قال الله : (ذلك ظن الذين كفروا) ، أي : الذين يظنون أن الله خلقهما باطلا وعبثا وسفها ولعبا .
والمعتزلة على العكس من ذلك ، يقولون : لا يقدر إلا لحكمة ، ويفرضون على الله ما يشاؤون، وقد ذكر صاحب (مختصر التحرير) الفتوحي رحمه الله : أن المسالة قولين في المذهب .
ولكن الصواب بلا ريب أنه لا يفعل شيئا ولا يقدره على عبده ولا يشرع شيئا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر .
قوله : (فويل للذين كفروا من النار)(ص :27) (ويل) : مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة : للتعظيم، وخبر المبتدأ : (للذين كفروا) ، والجار والمجرور (من النار) بيان لويل، وفي هذا دليل على أن كلمة (ويل) كلمة وعيد وليست كما قيل : واد في جهنم، ولهذا نقول : ويل لك من البرد، ويل لك من فلان، ويقول المتوجع : ويلاه، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد .
قوله : (وأكثر الناس) . أي : من بني آدم لا من المؤمنين يظنون بالله ظن السوء، أي : العيب فيما يختص بهم ، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم ، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم .
(66/133)
قوله : (فيما يفعله بغيرهم) . كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائما، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقتضي ذلك .
قوله : ( ولا يسلم من ذلك) . أي : من الظن السوء .
قوله : ( إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده) . صدق رحمه الله ، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله – عز وجل – وماله من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفة تحريف وتاويل .
ولهذ حجب المحرفون والمؤولون عن معرفة أسماء الله وصفاته، فتجد قلوبهم مظلمة غالب، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقى أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين ، لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دل ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تميمة : إن كل معطل ممثل ، وكل ممثل معطل .
أما كون كل معطل ممثلا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيء بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها، فمثلا أولا،وعطل ثانيا، ثم إنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفا من تشبيهه بالموجود، فقد شبهه بالمعدوم، وأما كونه كل ممثل معطلا ، فلأن الممثل عطل الله تعالى من كمال الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمحلوق .
وعلى هذا ، فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جرى عليه سلف هذه الأمة وأئمتها ، وعرف موجب حكمة الله ، أي : مقتضى حكمة الله، لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء .
(66/134)
وقوله : (موجب) . موجب، بالفتح : هو المسبب الناتج عن السبب بمعنى المقتضي ، وبالكسر : السبب الذي يقتضي الشي بمعنى المقتضي ، والمراد هنا الأول .
فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة،فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدا، وتلاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين وفي هزيمتهم في أُحد، فإن في ذلك حكما عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة، فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء ، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون ، كمنع الإنبات والفقر، فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده، لأنه - عز وجل – أكرم الأكرمين، وعلى هذا فقس .
قوله : (اللبيب) . على وزن فعيل، ومعناه : ذو اللب، وهو العقل .
ولو فتشت من فتشت، لرأيت عنده تعنتا على القدر ولامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
وما تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فأني لا أخالك ناجيا
ـــــــــــــــــــــــ
قوله : (بهذا) . المشار إليه هو الظن بالله – عز وجل - ، ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق، فلا ظن السوء والجاهلية .
قوله : (وليتب إلى الله) . أي : يرجع إليه، لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة .
قوله :(وليستغفره) . أي يطلب منه المغفرة، واللام في قوله : (فليتب) وقوله : (وليستغفره) للأمر .
قوله : (تعنتا على القدر وملاء مة له) . أي : إذا قدر الله شيئا لا يلائمه تجده يقول : ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصلب بالجوائح، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا.
قوله : (فمستقل ومستكثر) . (مستقل) : مبتدأ، وخبره محذوف .
(66/135)
و(مستكثر) : مبتدأ خبره محذوف، والتقدير : فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى : (فمنهم شقي وسعي) (هود : 105) ف (سعيد) مبتدأ خبره محذوف تقديره : ومنهم سعيد . ولا يقال بأن (سعيد) معطوف على شقي، لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد ,
قوله : (وفتش نفسك : هل أنت سلم) . وهذا ينبغي أن يكون في جميع المسائل مما أوجبه الله، فتش عن نفسك : هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك : هل أنت سالم من الوقوع فيه؟
قوله : (فإن تنج منه تنج من ذي عظيمة) . (تنج) الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو ، (تنج) الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو .
قوله : (من ذي عظيمة) . أي : من ذي بلية عظيمة .
قوله : (وإلا، فإني لا إخالك ناجيا) . التقدير، أي : وإلا تنج من هذه البلية،فإني لا إخالك ناجيا .
ومعني إخالك : أظنك ، وهي تنصب مفعولين : الأول هنا الكاف، والثاني ناجيا .
***
فيه مسائل :
* الأولى : تفسير آية آل عمران . وهي قوله تعالى:(يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ..) وقد سب، والضمير فيها للمنافقين .
* الثانية : تفسير آية الفتح . وهي قوله تعالى : (الظانين بالله ظن السوء ...)، وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين .
* الثالثة : الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر . أي : ظن السوء، والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمه الله ، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به .
* الرابعة : أن لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه . أي : لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسمائه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها ، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب، فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .
ولا تظن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل
* مناسبة الباب للتوحيد :
(66/136)
إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات، لأن الله قال في الأسماء : (ولله السماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف : 18) فإذا ظن بالله ظن السوء ، لم تكن الأسماء حسنى، قال في الصفات : (ولله المثل الأعلى) (النحل :60) ، وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى .
* * *
---
(1) البخاري : كتاب الحج / باب توريث دور مكة وبيعها ، ومسلم : كتاب الحج / باب النزول بمكة للحجاج .
(1) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب قصة أب طالب ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي صلى اله عليه وسلم .
(1) ص 519.
(2) مسلم : كتاب الفتن / باب سكنى المدينة .
(1) ابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/63).
(2) الإمام أحمد في (المسند) (4/403) .
(1) تقدم ص 787.
(1) الإمام أحمد في المسند ( 2/ 34، 86) وأبو داوود كتاب الإيمان / باب كراهة الحلف بالأباء ، والترمزي : كتاب الإيمان /باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله ـ وحسنه ، وابم حبان (1177) والحاكم (1/18 ، 4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في الفتاوى ( 5/307).
مسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام .
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام
(1) مسلم : كتاب الجنائز/ باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه زيارة أمه .
(2) مسلم : كتاب الزكاة / باب أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح .
(3) ونصه :0حلفت مرة باللات والعزى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ثم انفث على يسارك ثلاثا ، ثم تعوذ ولا تعد) .
(1) سبق تخريجه ص 606
(2)البخاري : كتاب التوحيد / باب قوله تعالى : (فلا تجعلوا لله أندادا)
(66/137)
(1) الإمام أحمد في المسند ( 5/ 384) وأبو داوود كتاب الأدب / باب لا يقال : خبث نفسي ، والطيالسي (430) ،والنسائي في عمل اليوم والليلة (919) قال النووي في الأذكار (308) إسناده صحيح
(1) البخاري : كتاب البيوع / باب إذا أراد بيع تمر بتمر ، ومسلم : كتاب المساقاة /باب بيع الطعام مثلا بمثل .
(2) سبق تخريجه (ص ــــ ) .
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب إكرام الكبير ، ومسلم : كتاب القسامة ، باب القسامة .
(1) ابن ماجة : كتاب الكفارات / باب من حلف له بالله فليرض وقال البويصري في مصباح الزجاجة (2/143) هذا اسناد صحيح رجاله ثقات ) وقال ابن حجر في الفتح (11/535) سند صحيح .
(1) الإمام احمد في المسند (6/371 ، 372) والنسائي : كتاب الإيمان / باب الحلف بالكعبة ، والحاكم (4/315) وصححه ووافقه الذهبي .
(1) سبق تخريجه ص 608
(1) ابن ماجه كتاب الكفارات / باب النهي أن يقال : ما شاء الله وشئت وقال البويصري في المصباح (2/152) على شرط البخاري .
(1) البخاري : كتاب التعبير / باب الرؤيا الصالحة ، ومسلم : كتاب الرؤيا ، (2265) .
(2) مسلم : كتاب الرؤيا / باب لا يحبر بتلاعب الشيطان في المنام .
(3) مسلم (كتاب الرؤيا) (2260)
(4) البخاري : كتاب التعبير / باب القيد في المنام .
(5) الإمام أحمد في (المسند) (4/43) ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب كيفية الأذان .
(6) الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/322)، وقال: (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح).
(1) يأتي (ص 826).
(2) مسلم: كتاب البر والصلة / باب تحريم الظلم.
(1) البخاري كتاب التوحيد / باب قوله تعالي: ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) تفسير سورة الجاثية ومسلم : كتاب الألفاظ / باب النهي عن سب الدهر .
(1) البخاري: كتاب العلم/ باب من يرد الله به خيراً، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة.
(66/138)
(2) البخاري: كتاب الأدب/ باب ما يكره من التمادح، ومسلم: كتاب الزهد/ باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.
(1) ومسلم كتاب الآداب / باب تحريم التسمي بملك الأملاك
(1) تقدم (ص 768).
(2) تقدم (ص 768).
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب القصد والمداومة، ومسلم: كتاب المنافقين/ باب لن يدخل أحد الجنة بعمله.
(2) انظر أيضاً : (رسالة القواعد المثلى) للمؤلف حفظه الله.
(1) أبو داوود : كتاب الأدب / باب تغيير الاسم القبيح ، والنسائي : كتاب القضاء / باب إذا حكموا رجلا فقضي بينهم .
(1) انظر (الإصابة) لابن حجر (1/342) .
(2) انظر( الإصابة) لابن حجر (1/249) .
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب الاستعاذة من الجبن .
(2) البخاري : كتاب الإيمان / باب علامة المنافق، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان خصال المنافق .
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب ما يكره من النميمة ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب غلظ تحريم النميمة .
(2) البخاري : باب الجنائز / باب عذاب القبر من الغيبة ، ومسلم : كتاب الطهارة / باب الدليل على نجاسة البول .
(1) البخاري كتاب الأنبياء / باب حديث أبرص وأقرع وأعمي في بني إسرائيل . ومسلم كتاب الزهد والرقاق
(2) تقدم (ص 700)
(1) مسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .
(1) البخاري : كتاب المحاربين/ باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست .
(2) البخاري : كتاب الغسل/ باب إذا التقى الختانان ، ومسلم : كتاب الحيض/ باب نسخ الماء من الماء.
(1) البخاري كتاب القدر / باب إلقاء العبد النذر إلى القدر ، ومسلم كتاب النذر / باب النهي عن النذر
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب الدعاء عند الاستخارة .
(2) البخاري كتاب الدعوات / باب الدعاء بالموت والحياة، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب كراهة تمني الموت .
(66/139)
(1) البخاري : كتاب النكاح / باب الأكفاء في اليدين ، ومسلم : كتاب الحج / باب جواز اشتراط المحرم .
وقوله صلى الله عليه وسلم :" ( فإن لك على ربك ما استثنيت) اخرجه النسلئي : كتاب المناسك / باب كيف يقول إذا اشترط .
(2) الإمام أحمد في(المسند) (1/175-176)، وابو داود : كتاب البيوع / باب في التمر بالتمر، والترمذي : كتاب البيوع / باب اشتراء التمر بالرطب، وابن ماجة : كتاب التجارات / باب بيع الرطب بالتمر، والحاكم في (المستدرك) (2/38) وصححه ووافق الذهبي ، وصححه أحمد شاكر في (المسند) (1515) .
(3) البخاري : كتاب الطلاق / باب إذا عرض بنفي الولد، ومسلم : كتاب اللعان .
(1) البخاري : كتاب العتق / باب كراهة التطاول على الرقيق ، ومسلم كتاب : كتاب الأدب / باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة .
(2) البخاري : كتاب الزكاة/ باب ليس على المسلم في عبده صدقة، ومسلم : كتاب الزكاة / باب لا زكاة لمسلم في عبده وفرسه .
(3) البخاري : كتاب الإيمان / باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان .
(4) البخاري : كتاب التفسير / باب (إن الله عنده علم الساعة)، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان
(5) البخاري كتاب اللقطة / باب ضالة الإبل ، ومسلم : كتاب اللقطة .
(1) الإمام أحمد في (المسند)(4/24، 35) ، والبخاري في (الأدب المفرد) (211) وابو داود : كتاب الأدب / باب في كراهة التمادح .قال ابن حجر في الفتح (5/ 179) : رجاله ثقات ، وقد صححه غير واحد .
(2) مسلم : كتاب الفضائل / باب تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق .
(3) الإمام أحمد (5/ 72)، والترمذي : كتاب الرضاع / باب في حق المرأة على زوجها ، وابن ماجة : كتاب النكاح / باب حق المراة على زوجها ، 1 / 594 .
(4) البخاري : كتاب الجمعة / باب الجمعة في القرى، ومسلم : كتاب الإمارة / باب فضيلة الإمام العادل .
(66/140)
(1) الإمام أحمد في (المسند) (1/84)
(2) البخاري : كتاب العتق / باب ما يجوز من شرط المكاتب، ومسلم : كتاب العتق / باب إنما الولاء لمن أعتق .
(3) البخاري : كتاب الجمعة / باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل ...، ومسلم : كتاب الصلاة / باب خروج النساء.
(4) مسلم : كتاب البر والصلة / باب فضل عيادة المريض .
(5) تقدم (ص924)
(1) تقدم تخريجه (ص877)
(2) مسلم : كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة للناس .
(1) ابن ماجة : كتاب الزهد / باب الزهد في الدنيا .
(2) البخاري : كتاب الزكاة/ باب من سال الناس تكثرا، ومسلم : كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة .
(1) تقدم (ص110 ) .
(3) تقدم (ص877) .
(4) البخاري : كتاب الطلاق / باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق .
(1) البخاري : كتاب النكاح/ باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله/ ومسلم : كتاب النكاح / باب الأمر بإجابة الداعي .
(3) البخاري : كتاب الجنائز / باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم : كتاب السلام / باب من حق المسلم للمسلم .
(3) البخاري : كتاب البيوع / باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، ومسلم : كتاب المساقاة / باب الرهن .
(4) البخاري : كتاب الهبة / باب قبول الهدية من المشركين، ومسلم : كتاب السلام / باب السم .
(5) الإمام احمد في المسند (3/ 210، 211) .
(6) البخاري : كتاب الزكاة / باب إذا تحولت الصدقة، ومسلم : كتاب الزكاة / باب إباحة الهدية للنبي عليه الصلاة والسلام .
(7) البخاري : كتاب الزكاة / باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، ومسلم كتاب الزكاة / باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى .
(1) أبو داوود : كتاب الزكاة / باب كراهية المسالة بوجه الله
(2) البخاري : كتاب التفسير / باب (قل هو القادر ...)
(2) ابن جرير (30/ 742) .
(1) البخاري : كتاب الاستئذان / باب بدء السلام، ومسلم كتاب البر / باب النهي عن ضرب الوجه . ()
(66/141)
(2) البخاري كتاب بدء الحلق / باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم : كتاب الجنة ونعيمها / باب أول زمرة تدخل الجنة .
(1) يأتي (ص 952) .
(2) الإمام أحمد (4/230،231)
(3) البخاري : كتاب التمني / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، ومسلم : كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام .
(2) مسلم : كتاب الزهد / باب المؤمن أمره كله خير .
(1) مسلم كتاب القدر / باب في الأمر بالقوة وترك العجز
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب إكرام الضيف/ ومسلم : كتاب الإيمان / باب الحث على إكرام الجار .
(2) البخاري : كتاب تقصير الصلاة / باب إذا لم يطق قاعدا صلي على جنب .
(1) مسلم : كتاب المساجد / باب كراهة الصلاة بحضرة العام .
(2) البخاري : كتاب الحيض / باب ترك الحائض للصوم، ومسلم : كتاب الإيمان / باب نقصان الإيمان .
(3) البخاري : كتاب القدر / باب تحاج آدم وموسى، ومسلم : كتاب القدر / باب حجاج آدم وموسى .
(2) البحاري : كتاب الاعتكاف / باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، مسلم : كتاب السلام / باب أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة .
(1) يأتي تخريجه (ص1006) .
(1) البخاري : كتاب المغازي / باب (الذين استجابوا لله والرسول) ، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل طلحة والزبير .
أما خروجهم إلى حمراء الأسد فقد أخرجه ابن كثير في تفسيره ( 1/ 337). وصححه ابن حجر في الفتح ( 8/ 228).
(1) الإمام أحمد في (المسند) (3/61) .
(66/142)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الثاني / ج
محمد بن صالح العثيمين
باب ما جاء في منكري القدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (منكري) . أصله منكرين – جمع مذكر سالم – فحذفت النون للإضافة كما يحدث التنوين أيضا ، قال الشاعر :
كأني تنوين وأنت إضافة فأين تراني لا تحل جواري
وقيل : (مكاني) بدل (جواري) .
قوله : (القدر) هو تقدير الله – عز وجل – للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه .
قال بعض أهل العلم : القدر سر الله – عز وجل – في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء كان خيرا أو شرا .
والقدر يطلق على معنيين .
الأول : التقدير، أي : إرادة الله الشي – عز وجل - .
الثاني : المُقدّر، أي : ما قدره الله – عز وجل - .
والتقدير يكون مصاحبا للفعل وسابقا له، فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو قدره الله – عز وجل – في الأزل، مثال ذلك :
خلق الجنين في بطن الأم فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل، أي : تقدير الله لهذا الشي عند خلقه.
والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصا، وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات، لأنه من صفات الكمال لله عز وجل .
والناس في القدر ثلاثة طوائف :
الأولى : الجبرية الجهمية، ، اثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في لإثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا : ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه، فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منه ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارا وبين أن يلقى من السطح مكرها .
(67/1)
الطائفة الثانية : القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدره في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق، ونفى غلاتهم علم الله به قبل وقوعه، فأكل العبد أو شربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم .
استدل الأولون الجبرية :
بقوله تعالى : (الله خالق كل شي) (الزمر :62) ، والعبد وفعله من الأشياء، وبقوله تعالى : (والله خلقكم وما تعملون) (الصافات :96) ، وبقوله تعالى : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال :17) ، فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه، وبقوله تعالى : (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي) (الأنعام : 148) .
وله شبه أخرى تركناها خوف الإطالة .
والرد على شبهاتهم بما يلي :
أما قوله تعالى : (الله خالق كل شي)، فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة .
وأما قوله تعالى : (والله خلقكم وما تعملون) ، فهو حجة عليهم ، لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة ، والإرادة والقدرة مخلوقان لله – عز وجل -، فكان الحاصل بها مخلوقا لله .
وأما قوله تعالى : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فهو حجة عليهم، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، لكن الرمي في الآية معنيان :
أحدهما : حذف المرمي، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أضافه الله إليه .
(67/2)
الثاني : إيصال المرمي إلي أعين الكفار الذين رماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله، إذ ليس بمقدور النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم .
وأما قوله تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي) ، فلعمر الله، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية ، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها : (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا)، وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به .
ثم نقول : القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدّر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته .
فمن أدلة الكتاب :
قوله تعالى : (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) (آل عمران : 152) وقال تعالى : (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (آل عمران : 167) وقال : (إنه خبير بما تفعلون ) (النمل :88) ، وقال تعالى : ( والله خبير بما تعملون) (المنافقون :11) فأثبت للعبد إرادة وقولا وفعلا وعملا .
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم :(إنما الأعمال بالنيات وإنما كل امري ما نوى)(1)
وقوله : (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم)(2) .
ولهذا إذا أُكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا .
وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر : فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم .
(67/3)
وأما دلالة العقل على بطلانه : فلأنه لو كان العبد مجبر على عمله، لكانت عقوبة العاصي ظلما ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة انتفاء كونها حجة .
وأما دلالة الحس على بطلانه : فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره، كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك .
واستدل الطائفة الثانية (القدرية) بقوله تعالى : (منكم من يريد الدنيا ) (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (فصلت : 46) ، ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن العبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك .
والرد عليهم من وجوه :
الأول : أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان :
نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله، كقوله تعالى : (لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاؤون إلا إن يشاء الله رب العالمين) (التكوير :28 –29) وقوله : (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما) (الإنسان :29 –30) ،
وكقوله تعالى : (لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) البقرة :253) .
والنوع الثاني : مطلق ، كقوله تعالى : (فأتوا حرثكم أني شئتم) (البقرة : 223)، وقوله : (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (الكهف :29) وقوله : (من كان يريد العاجلة ...) إلى قوله تعالى (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكور) (الإسراء 18-19)
وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم .
(67/4)
الثاني : أن إثبات استقلال العبد بعمله مع كونه مملوكا لله تعالى يقتضي لإثبات شي في ملك الله لا يريده الله، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم : (القدرية مجوس هذه الأمة)(1) .
الثالث أن نقول لهم : هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد؟ فسيقول غير الغلاة منهم : نعم، نقر بذلك، فنقول وهل وقع فعلهم على وفق علم الله أو على خلافه؟ فإن قالوا : على وفقه ، قلنا : إذاً قد أراده، وإن قالوا : على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خُصموا، وإن أنكروه ، كفروا .
وهاتان الطائفتان – الجبرية والقدرية – ضالتان طريق الحق، لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر، فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في العبد وقدرته ، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر .
ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم :
الطائفة الثالثة : أهل السنة والجماعة، والطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة، فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارا وقدرة، فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم، فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى ، لا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله – عز وجل -، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة ، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى : (لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) ، فإذا شاء العبد شيئا وفعله ، علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة .
(67/5)
هؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينهما وبين الأدلة التي استدل بها نفاة القدر .
وأدلتهم على الإثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته .
وبهذا نعرف أن كل من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدي الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
· حكاية :
مما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان
معتزليا ايضا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، فقال عبد الجبار على الفور : سبحان من تنزه عن الفحشاء ! فقال أبو إسحاق فورا : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده : أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق : أيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار : أرأيت أن منعني الهدى وقضى على بالردى، أحسن
إلىّ أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق : إن كان منعك ما هو لك، فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له ، فيختص برحمته من يشاء. فانصرف الحاضرون وهم يقولون : والله، ليس عن هذا جواب . ا . هـ .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في (العقيدة الواسطية) فلتراجع هناك .
· مراتب القدر :
وهي أربع يجب الإيمان بها كلها :
المرتبة الأولى : العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى على علم كل شي جملة وتفصيلا، فعلم ما كان وما يكون، فكل شي معلوم لله، سواء كان دقيقا أم جليلا أو أفعال خلقه .
(67/6)
وأدلة ذلك من الكتاب كثيرة، منها : قوله تعالى : (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها الله ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) (الإنعام :59) فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر، فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى .
ولا حظ سعة علم الله – عز وجل – وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق، فهذه ظلمات متعددة : ظلمة الطبقة الأرضية، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الأمواج ، وظلمة الليل، فكل هذا داخل في قوله تعالى : (ولا حبة في ظلمات الأرض)، ثم جاء العموم المطلق : (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ، ولا كتابة إلا بعد علم .
ففي هذه الآية إثبات العلم وإثبات الكتابة .
ومنها قوله تعالى : (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) (الحج :70) ففي الآية أيضا إثبات العلم وإثبات الكتابة .
المرتبة الثانية : الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان .
المرتبة الثالثة : المشيئة، وهي عامة، ما من شي في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته، فلا يكون في ملكه مالا يريد أبدا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله مخلوق، قال تعالى : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)(يس : 82) وقال تعالى : (ولو شاء ربك ما فعلوه) (الأنعام : 112) وقال تعالى:(لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم .) الآية (البقرة : 253) .
(67/7)
المرتبة الرابعة : الخلق، فما من شي في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى : ( الله خالق كل شي) (الزمر : 62) ، وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان، ولأن فعله نتج عن أمرين :
1. إرادة جازمة .
2. قدرة تامة .
والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة، ولهذا قيل لأعرابي : بم عرفت ربك؟ قال بنقص العزائم، وصرف الهمم .
والعبد يتعلق بفعله شيئان :
1. خلق، وهذا يتعلق بالله .
2. مباشرة ، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى : ( جزاء بما كانوا يعملون) (الواقعة :24)، وقال تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (النحل :32) ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثباته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع، وقد جمعت في بيت :
علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وهناك تقديرات أخرى نسبية :
منها : تقديري عمري : حين يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .
ومنها : التقدير الحولي : وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال تعالى : (فيها يفرق كل أمر حكيم) (الدخان :4) .
ومنها التقدير اليومي : كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى : (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) (الرحمن : 29) فهو كل يوم يغني فقيرا، ويفقر غنيا، ويوجد معدوما ، ويعدم موجودا ، ويبسط الرزق ويقدرُهُ ، وينشي السحاب والمطر وغير ذلك .
فإن قيل : هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشي باختياره ؟
(67/8)
الجواب : لا ينافيه، لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له : إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم : نرجع. فعزم على الرجوع ، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، فقال : يا أمير المؤمنين! أفرارا من قدر الله؟ فأجاب عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله(1) .
يعني : أن مضينا في السفر بقدر الله، ثم ضرب له مثلا، قال : أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتن إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله ؟
وقال أيضا : أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخصبة، أكنت معجزة؟ قال : نعم . قال : فسر إذن . ومعنى معجزة : ناسبا إياه إلى العجز .
فالإنسان وإن كان يفعل، فإنما يفعل بقدر الله.
فإن قيل : إذا تقرر ذلك، لزم أن يكون العاصي معذورا بمعصيته، لأنه عصي بقدر الله؟
أُجيب : إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر .
أما بطلانه بالشرع : فقد قال الله تعالى : (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي) فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله : (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا)، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه ، وقال تعالى : (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) (الأنعام : 148) ، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله، وقال تعالى :(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(النساء :156) فابطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل، لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله.
(67/9)
وأما بطلانه بالنظر ، فنقول : لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبه كذا وكذا، ووظيفة أخرى أقل منها، فإنك سوف تطلب الأعلى ، فإن لم يكن ، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شي منها، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل منها ، فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها من أول الناس .
وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها ، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه كل يوم خمس مرات ، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة، فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة؟
مثال آخر:رجل قال : عسى ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج، فنقول : تزوج حتى يأتيك . فقال : لا. فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج ، فإن الله بمشيئتة قد يرزقه الولد المطلوب .
وكذلك من يسال الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك، فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك .
فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر و النظر ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة مانعة نافعة : (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار).قالوا:يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال : (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) (1) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا كلمة واحدة ، فقال : (اعملوا ...)، وهذا فعل أمر، (فكل ميسر لما خلق له) .
وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة، منها :
1 – أنه من تمام توحيد الربوبية .
2– أنه يوجب صدق الاعتماد على الله – عز وجل - ، لأنك إذا علمت أن كل شي بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله .
2 – أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة .
(67/10)
3 – منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملا يشكر عليه، لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* كيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (الحديد : 22-23) ، أي : فرح بطر وإعجاب بالنفس.
4 – عدم حزنه على ما أصابه ، لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة .
5 – أن الإنسان يفعل الأسباب، لأنه يؤمن بحكمة الله – عز وجل – وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها .
وقال بن عمر : (والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه، حتى يؤمن
ــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (والذي نفس ابن عمر بيده) . الصيغة هنا قسم ، جوابه : جملة (لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) .
وابن عمر – رضى الله عنه وعن أبيه – ذكر حكمهم بالنسبة لقبول عملهم ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أُناسا من البصرة يقولون : إن الله – عز وجل – لم يقدر فعل العبد وإن الأمر أُنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعلمها وتقع منه ، وانه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه،
بالقدر، ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(67/11)
فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله : (ما قبله حتى يؤمن بالقدر) ، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر، لقوله تعالى : (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) (التوبة :54) ، ثم استدل ابن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الإيمان : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة ، فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ، كما قال تعالى : (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) (النساء :150- 151) .
ووجه استدلال ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان مبنيا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان، سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئا واحدا من هذه الأركان الستة، صار كافرا، وإذا كان كافرا ، فإن الله لا يقبل منه .
قوله : (أن تؤمن بالله) . والإيمان بالله – عز وجل – يتضمن أربعة أمور :
1 – الإيمان بوجوده .
2 – وبربوبيته .
3 – وبألوهيته .
4 – وبأسمائه وصفاته .
فمن أنكر وجود الله ، فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل شي، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أن يكون مختصا بها، فهو غير مؤمن بالله .
قوله : ((وملائكته) . والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور :
1 الإيمان بوجودهم .
2 الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم .
3 الإيمان بأفعالهم .
4 الأيمان بصفاتهم .
(67/12)
فممن علمنا صفاته جبريل عليه السلام ، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح ، وقد سد الأفق، كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدا، فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي بصورة بشر، فأتى مرة بصورة دحية الكلبي ، وأتى مرة بصورة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر سفر ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتعلم المتأدب(1).
قوله : (وكتبه) . أي : الكتب التي أنزلها على رسله .
والإيمان بالكتب يتضمن ما يلي :
1 الإيمان بأنها حق من عند الله .
2 تصديق أخبارها .
3 التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلى هذا، فلا يلزمنا أن تلتزم بأحكام الكتب السابقة، لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن .
وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن، لأن القرآن فيه أشياء منسوخة .
4 – الإيمان بما علمناه معينا منها، مثل التوراة، والأنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى .
5 - الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب ، كما قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب ) (الحديد :25) وقال عيسى (إني عبد الله آتاني الكتاب) (مريم : 30) ، وقال عن يحي (يا يحي خذ الكتاب بقوة) (مريم 12) .
· تنبيه :
الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان، فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب .
قوله : (ورسله) . هم الذين أوحى الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق ليبلغوا شريعة الله.
والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي :
1 – أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون .
2– أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام، ما لم تنسخ .
1 – أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه،فنؤمن بهم على سبيل الإجمال
(67/13)
، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله – سبحانه وتعالى – أرسل لكل أمة رسولا تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (النساء : 165) .
والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذرون، لأنهم يقولون : يا ربنا! ما أرسلت إلينا رسولا، كما قال تعالى : (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (طه : 134) فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق.
فإن قيل : قوله تعالى : (على فترة من الرسل) (المائدة :119) يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول، فهل قامت عليه الحجة؟
الجواب : إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة و السلام طويلة ، وقد قامت عليه الحجة، لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في (صحيحه) : (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب(1)، وكما قال تعالى : (فلو لا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) (هود : 116)
قوله:(واليوم الآخر) . أي : اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبرى .
قال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله : يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في (العقيدة الواسطية) ، وهو كتاب مختصر، لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه .
وعلى هذا، فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيه من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم ، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر .
(67/14)
ومنه ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به
قوله : (تؤمن بالقدر خيره وشره) . هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف، لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه .
والإيمان بالقدر : هو أن تؤمن بتقدير الله – عز وجل – للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله – عز وجل – قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم، فالعلم سابق على الكتابة، ثم أنه ليس كل معلوم الله – سبحانه وتعالى – مكتوبا، لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله – عز وجل - ، لكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه مكتوبة .
وهذا القدر، قال بعض العلماء : إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يطلع عليه أحدا، ولا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، إلا ما أوحاه الله – عز وجل – إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا ، فإنه سر مكتوم، قال تعالى : (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) الآية (لقمان :34) ، وإذا قلنا : إنه سر مكتوم، فإن القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته، لأننا نقول لهذا الذي عصى الله – عز وجل – وقال هذا مقدر علىّ : ما الذي علمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت، أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك ؟
قال تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف : 5) فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر ، وتنقطع به حجة البطالين .
وقوله : (خيره وشره) . الخير : ما يلائم العبد، والشر : ما لا يلائمه .
(67/15)
ومعلوم أن المقدورات خير وشر، فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير ، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر ، وهكذا .
وإذا كان القدر من الله، فكيف يقال : الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله؟
فالجواب : أن الشر لا ينسب إلى الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (والشر ليس إليك )(1) فلا ينسب إليه الشر لا فعلا ولا تقديرا ولا حكما بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى : (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) (الروم : 41) ، تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجي به من العاقبة الحميدة، وهى الرجوع إلى الله – عز وجل - ، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي : ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار، فالكي شر، لكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شرا محضا بل في محله وزمانه فقط ، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر ، صار ذلك شرا بالنسبة له، وقد يكون خيرا له من وجه آخر، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به، فيكون خيرا، قال تعالى : في القرية التي اعتدت في السبت : (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) (البقرة : 65) .
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله .
(67/16)
وكم من إنسان أذنب ذنبا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرا منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال : (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (الأعراف :23) فقال تعالى : (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه 122) .
والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالتهم بعد المعصية التى أصابتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم ، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم – صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدا، وصارت حالهم أيضا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) (التوبة :118)، فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه ، وهذا شي عظيم .
(67/17)
وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن ها هنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله - سبحانه وتعالى- ، فقضاء الله تعالى كله خير ، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير ، وإنما الشر في المقضي ، أما قضاء الله نفسه،فهو خير، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:(الخير بيديك، والشر ليس إليك(1)، ولم يقل الشر بيديك، فلا ينسب الشر إلى الله أبدا، فضلا على أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء ، فالله لا يريد بقضاء الشر شرا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك ، فهو وإن كان شرا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرا محضا، حتى المقضي وإن كان شرا ليس محضا ، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر من في محل خير في محل آخر .
ولنضرب لذلك مثلا : الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى : (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)(الروم :41) ، والرجوع إلى الله – عز وجل –
من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيرا كثيرا، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح، ولهذا قال : (لعلهم يرحمون) ، وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله واشتغلوا بالمال ، فإذا أُصيبوا بفقر، رجعوا إلى الله، وعرفوا أنهم ضالون ، فهذا الشر صار خير باعتبار آخر .
(67/18)
كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له، فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضا خير في غير السارق، فإن فيه ردعا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضا حفظ للأموال ، لأن السارق إذا عرف أنه سرق ستقطع يده، امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس، ولهذا قال بعض الزنادقة :
يد بخمس مئين عسجدا وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من النار
لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما، فقيل فيه :
قل للمعري عار أيما عاري جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري
يد بخمس مئين عسجدا وديت لكنها قطعت في ربع دينار
حماية النفس أغلاها وأرخصها حماية المال فافهم حكمة الباري
* * * *
وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لأبنه: يابني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك،، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له : اكتب. فقال : ربّ ! وماذا أكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شي حتى تقوم الساعة) يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا، فليس مني (1).
ــــــــــــــــــــــــ
* قوله في حديث عبادة : (أنه قال لابنه : يا بني! ...) الخ .
أفاد حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله، وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال : (يا بني) وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر .
(67/19)
قوله : (لن تجد طعم الإيمان) . هذا يفيد أن للإيمان طعما كما جاءت به السنة، وطعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة، فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتى بعده طعام آخر أزالها ، لكن طعم الإيمان يبقى مدة طويلة ،حتى إن الإنسان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله – عز وجل -، فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة، فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم .
قوله : (حتى نعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك) . قد تقول : ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل، لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلا بد أن نعرف معنى هذه العبارة، فتحمل هذه العبارة على أحد المعنيين أو عليهما جميعا :
الأول : أن المعنى ( ما أصابك) ، أي : ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة، لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب .
الثاني : ما أصابك ، فلا تفكر أن يكون مخطئا لك،فلا تقل : لو أني فعلت كذا ما حصل كذا، لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك، فكل التقديرات التي تقدرها وتقول : لو أني فعلت ما حصل كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئا، وأيا كان، فالمعنى صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلا بد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبا للإنسان ، فإنه لن يمنعه شي ، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت حلاوة الأيمان، لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لابد أن يقع على ما وقع عليه ، ولا يمكن أن يتغير أبدا .
(67/20)
مثال ذلك : رجل خرج بأولاده للنزهة، فدبّ بعض الأولاد إلى بركة عميقة، فسقط ،فغرق، فمات، فلا يقول : لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لابد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير، فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضى، ويعرف أنه لا مفر، وأن كل التقديرات والتخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضى ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) (الحديد :22-23) .
فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك، ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة، فتجده يعمل أعمالا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله – عز وجل – مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره .
قوله : (وما أخطأك ما كان ليصيبك) . نقول فيه مثل الأول ، يعني : ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدا سمع بموسم تجارة في بلد ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات، نقول له : ما أخطأك من هذا الربح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك ، لأن مهما كان ومهما عملت ، أو تقول : لم يكن ليصيبك، لأن الأمر لابد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان .
ثم استدل لما يقول بقوله :(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) : إن أول ما خلق الله القلم) . القلم بالرفع ، وروي بالنصب .
(67/21)
وأما على رواية النصب، فيكون المعنى : أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه، يعني، : خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلى هذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول الذي هو الرفع : هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟
الجواب : لا ، لأننا لو قلنا : إن القلم أول المخلوقات، وإنه أٌمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء ، وأن أول بدء الخلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله – عز وجل - ، خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله – عز وجل – لم يزل ولا يزال خالقا، وعلى هذا يكون : إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن.
قال أهل العلم : وتأويله : أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من مخلوقات ، كالسماوات والأرض ... فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته :
والناس مختلفون في القلم كتب القضاء به من الديّان
هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن الشرع قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان
(67/22)
قوله : (فقال له :اكتب) . القائل هو الله – عز وجل – يخاطب القلم ، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى : (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) ، أي : لابد أن تنقادا لأمر الله طوعا أو كرها، فكان الجواب : (قالتا أتينا طائعين) (فصلت الآية 9-11) ، فقد خاطب الله السماوات والأرض وأجابتا ودل قوله : (طائعين) على أن لها إرادة وأنها تطيع، فكل شي أمام الله، فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل .
قوله : (قال : ربي وماذا أكتب ؟) . (ماذا) : اسم استفهام مفعول مقدم ، و(اكتب) : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، هذا إذا ألغيت (ذا) ، أما إذا لم تلغ ، فنقول : (ما) اسم استفهام مبتدأ، و(ذا) خبره، أي : ما الذي أكتب؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره : ما الذي أكتبه؟
وفي هذا دليل على أن الأمر الجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا ، فإننا نقول : إذا كان الأمر مجملا، فإن طلب استبانته لا يكون معصية، فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله – سبحانه وتعالى - ،ومع ذلك قال : (رب وماذا أكتب؟) قال : اكتب مقادير كل شي حتى تقوم الساعة، فكتب المقادير .
فإن قيل : هل القلم يعلم الغيب؟
فالجواب : لا ، لكن الله أمره ، ولا بد أن يمتثل لأمر الله، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادا بالنسبة إلى مفهومنا، كتب كل شي أمره الله أن يكتبه، لأن الله إذا أراد شيئا قال له : كن، فيكون على حسب مراد الله .
و(كل) : من صيغ العموم، فتعم كل شي مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين.
(67/23)
قوله : (حتى تقوم الساعة) . الساعة هي القيامة، وأطلق عليه لفظ الساعة، لأن كل شي عظيم من الدواهي له ساعة ، يعني : الساعة لمعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور .
قوله : (فليس مني) . تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كافر، والرسول صلى الله عليه وسلم بري من كل كافر .
ويستفاد من هذا الحديث :
1 – ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله (يا بني) .
2- أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها،وذلك أنه لم يقل : إن الله كتب ... وسكت، ولكنه اسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلا : إذا أردت أن تقول لأبنك : سم الله على الأكل، واحمد الله إذا فرغت ،فإنك إذا قلت ذلك يحصل به لمقصود، ولكن إذا قلت سم الله على الأكل واحمد الله إذا فرغت لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتسمية عند الأكل، وقال : (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها) (2)، ويشرب الشربة ويحمده عليها، إذا فعلت ذلك استفدت بفائدتين : -
الأولى : أن تعود ابنك على اتباع الأدلة.
الثانية : أن تربيه على محبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم ، وان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته ، وهذه في الحقيقة كثيرا ما يغفل عنها، فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة .
وفي رواية لأحمد : إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة(1) .
ـــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (وفي رواية لأحمد : إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ...) .
(67/24)
هذه الرواية تفيد أمرا زائدا على ما سبق، وهو قوله : (فجرى في تلك الساعة)، فإنه صريح في أن القلم امتثل ، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالا لأمر الله تعالى ، فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله – سبحانه وتعالى – كل شي إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك على الله يسير) (الحج : 70) ، وقال تعالى : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) ، أي : قبل أن نبرأ الخليقة، (إن ذلك على الله يسير)(الحديد :22)
قوله : (إلى يوم القيامة) . هو يوم البعث، وسمي يوم القيامة ، لقيام أمور ثلاثة فيه :
الأول : قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى (ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المطففين : 5-6) .
الثاني : قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم ، لقوله تعالى : (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) (غافر : 51)
الثالث : قيام العدل، لقوله تعالى : (ونضع الموازيين القسط ليوم القيامة) (الأنبياء : 47) .
* * *
وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أحرقه الله بالنار)(1)
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وفي رواية لابن وهب) . ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث .
قوله : (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار) . وهذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب لا يتم الإيمان إلا به، وأما من لم يؤمن به، فإنه يحرق بالنار .
وقوله : (أحرقه الله بالنار) بعد قوله (فمن لم يؤمن) يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار، لأن لدينا ثلاث مقامات :
الأول : الإيمان والجزم بمراتبه الأربع .
الثاني : إنكار ذلك .
(67/25)
وهذان واضحان، لأن الأول إيمان والثاني كفر .
الثالث : الشك والتردد .
وهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال : (فمن لم يؤمن)، ودخل هذا النفي من أنكر وشك .
وفي قوله : ( أحرقه الله بالنار) دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما (2)، يعني : فحما أسود،وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: (وذوقوا عذاب الحريق) (الحج :22) ، وفي قوله تعالى:(كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) (النساء : 56) . قوله : (في نفسي شيء من القدر) . لم يفصح عن هذا الشي، لكن لعله لما حدثت بدعة القدر، وهي أول البدع صار الناس يتشككون فيه ويتكلمون فيها . وإلا ، فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق، ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وأمرهم أن لا يتنازعوا وأن لا يختلفوا، فكف الناس عن هذا (1)، حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشُّبه، فلهذا يقول ابن الديلمي : (في نفسي شي من القدر ...) .
قوله : (فحدثني بشي لعل الله أن يذهبه من قلبي) . أي : يذهب هذا الشي، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضى الله عنهم ، كأُبيّ بن كعب، فلكل داء طبيب.
قوله : (لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر) . هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الذي لا تقبل منهم النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضى الله عنهما .
قوله : (حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك) . قد سبق الكلام على هذه الجملة .
(67/26)
قوله : (لو مت) . (مُت) بالضم، لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخرى بالكسر ( مِت)، كما في قوله تعالى : (ولإن مِتم أو قتلتم) (آل عمران : 158) في إحدى القراءتين، وهي على هذه القراءة من مات لم يميت بالياء .
قوله : (على غير هذا، لكنت من أهل النار) . جزم أُ بَيّ بن كعب رضى الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار، لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها .
وهل هذا الدواء يفيد ؟
الجواب : نعم يفيد،وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا ، فلا بد أن يرتدع، ولابد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله:(فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك) . المشار إليه الإيمان بالقدر، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهؤلاء هم العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن .
فأُبَيّ بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة : (لم يكن ...) البينة، وقال : (إن الله أمرني أن أقرأها عليك) ، فقال : يا رسول الله ! سماني الله لك. قال : (نعم) . فبكى رضى الله عنه بكاء فرح أن الله – عز وجل – سماه باسمه لنبيه ، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة (1).
وأما عبد الله بن مسعود ،فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)(2) .
وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه (3).
وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي اسر إليه النبي صلى اله عليه وسلم.بأسماء المنافقين(4) .
والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقدر والقدر بمراتبه الأربع .
(67/27)
مسألة : الإيمان بالقدر هل هو بتوحيد الربوبية، أو الألوهية، أو بالأسماء والصفات؟
الجواب : تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالأسماء والصفات ، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضا ظاهر، لأن الألوهية بالنسبة لله يسمى توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمى توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد، فلها تعلق بالقدر،فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة .
مسالة : هل أختلف الناس في القدر؟
الجواب : نعم ، اختلفوا فيه على ثلاث فرق ، وقد سبق (5).
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : بيان فرض الإيمان بالقدر. دليله قوله: (الإيمان : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خير وشره) .
* الثانية : بيان كيفية الإيمان . أي : بالقدر، وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك،وما أخطأك لم يكن ليصيبك .
ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر، لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارا في بيت واحد،وهو قوله :
علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر .
* الثالثة : إحباط عمل من لم يؤمن به . تؤخذ من قول ابن عمر : (لو كان لأحدهم مثل
أُحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله منه حتى يؤمن بالقدر) ، ويتفرع منه ما ذكرناه سابقا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل .
*الرابعة : الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به . أي : بالقدر، وهو كذلك، لقول عبادة بن الصامت لابنه : يابني ! إنك لن تجد طعم الإيمان ... الخ
(67/28)
وقد سبق الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة بما قضاه الله – عز وجل – ويستريح ، لأنه علم أن هذا الأمر لابد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدا، (ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن لو تفتح عمل الشيطان(1)، ولا ترفع شيئا وقع مهما قلت .
* الخامسة : ذكر أول ما خلق الله. ظاهر كلام المؤلف : الميل إلى أن القلم أول
مخلوقات الله، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله، لأنه ثبت في (صحيح البخاري ) : (كان الله ولم يكن شي قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شي)(2)، وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق بالنسبة لم يتعلق بهذا العلم المشاهد، فهو قبل السماوات والأرض ، فتكون أوليته نسبية .
* السادسة : أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة. لقوله في الحديث :
( فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)
وفيه أيضا من الفوائد توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأن يعقل أمر الله، لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال : (ماذا أكتب ؟) .
* السابعة : براءته صلى الله عليه وسلم بمن لم يؤمن به. لقوله : (من مات على غير
هذا، فليس مني) ، والعلة وهذه البراءة مطلقة، لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة .
* الثامنة : عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء . لأن ابن الديلمي : يقول :
(فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، بعد أن أتى أُبيّ بن كعب، فدل هذا على أن من عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم .
(67/29)
وفيه أيضا مسالة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم لتتبع الرخص، فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود، فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنا وكثر الزنى في أشرافهم ، غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وزنى رجل بامرأة قالوا : اذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئا آخر، لأجل أن يتتبعوا الرخص .
* التاسعة : أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله
(67/30)
صلى الله عليه وسلم فقط . لقول بن الديلمي : (كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذا مزيل للشبهة، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله، وزالت الشبهة تماما، لكن تزول عن المؤمن، أما غير المؤمن، فلا تنفعه، فالله – عز وجل – يقول : (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) (يونس : 101) وقال : (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) (يونس :96-97) لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله، كما قال تعالى : (وما كان لمؤمن أو مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب : 36)، ولهذا ما قالت عائشة للمرأة : (كان يصيبنا ذلك – تعني الحيض -، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )(3) لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يؤمن، لهذا يذكر الله – عز وجل – إحياء الموتى ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك، فقال في أدلة العقل : (هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) (الروم : 27) فهذه دلالة عقلية، فالعقل يؤمن إيمانا كاملا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى . وذكر أدلة حسية منها قوله تعالى (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى) (فصلت :39) فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتُطمئن الموافق .
(67/31)
وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة، فلا مانع أيضا أن تأتي به للاستدلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث أن أبا المعالي الجويني - غفر الله لنا وله – كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال الهمداني : _ دعنا من ذكر العرش، فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط : يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو) . فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه ، وقال : حيرني الهمداني .
فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية .
وأشدها إقناعا للمؤمن هو الدليل السمعي، لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقا .
***
باب ما جاء في المصورين
وعن أبي هريرة رضى الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة .(1)
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (باب ما جاء في المصورين) . يعني : من الوعيد الشديد .
ومناسبة هذا الباب للتوحيد: أن في التصوير خلقا وإبداعا يكون به من المصور مشاركا لله تعالى في ذلك الخلق والإبداع .
قوله في الحديث : (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ) . ينتهي سند هذا الحديث إلى الله – عز وجل – ويسمى حديثا قدسيا،وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب (ص 69)
قوله (ومن أظلم) . (من) : اسم استفهام والمراد به النفي، أي لا أحد أظلم ، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفهام كان أبلغ من النفي المحض، لأنه يكون مشربا معنى التحدي والتعجيز .
فإن قيل : كيف يجمع هذا الحديث وبين قوله تعالى : (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) (البقرة : 114)، وقوله : (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) (الأنعام :21)
وغير ذلك من النصوص؟
فالجواب من وجهين :
(67/32)
الأول : أن المعنى أنه مشتركة في الأظلمية ، أي أنها في مستوى واحد في كونها في قمة الظلم .
الثاني : أن الأظلمية نسبية، أي لا أحد أظلم من هذا نوع هذا العمل لا في كل شي، فيقال مثلا : من أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله، ومن أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله، ومن أظلم في منع حق ممن منع مساجد الله، ومن أظلم في افتراء الكذب ممن افترى على الله كذبا .
قوله : (يخلق) . حال من فاعل ذهب، أي : ممن ذهب خالقا .
والخلق في اللغة : التقدير، قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
تفري، أي : تفعل، ما خلقت ، أي : ما قدرت .
ويطلق الخلق على الفعل بعد التقدير، وهذا هو الغالب، والخلق بالنسبة للإنسان يكون بعد تأمل ونظر وتقدير، أما بالنسبة للخالق ، فإنه لا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه ، فالخلق بالنسبة للمصور يكون بمعنى الصنع بعد النظر والتأمل .
قوله : ( يخلق كخلقي) . فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله ، وقد سبق الكلام على هذا والجواب عنه في أول الكتاب .
قوله : (فليخلقوا ذرة) . اللام للأمر، والمراد به التحدى والتعجيز ، وهذا من باب التحدي في الأمور الكونية ، وقوله تعالى : (فليأتوا بحديث مثله) (الطور :34) من باب التحدي في الأمور الشرعية .
والذرة : واحدة الذر، وهي النمل الصغار، وأما من قال : بأن الذرة هي ما تتكون منه القنبلة الذرية فقد أخطأ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة بلغة العرب وهو لا يعرفون القنبلة الذرية ، وذكر الله الذرة لأن فيها روحا، وهي من أصغر الحيوانات .
قوله : (أو ليخلقوا حبة) . (أو) للتنويع ، أي : انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع من الشعير وغيره وليس لها روح .
(67/33)
قوله : (أو ليخلقوا شعيرة) . يحتمل أن المراد شجرة الشعير، فيكون في الأول ذكر التحدي بأصل الزرع وهي الحبة، ويحتمل أن المراد الحبة من الشعير ويكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام ، لأن حبة الشعير أخص من الحب .
أو تكون (أو) شكا من الراوي .
فالله تحدى الخلق إلى يوم القيامة أن يخلقوا ذرة أو يخلقوا حبة شعير .
فإن قيل : يوجد رز أمريكي مصنوع .
أجيب: إن هذا المصنوع لا ينبت كالطبيعي، ولعل هذا السر في قوله : (أو ليخلقوا حبة) ، ثم قال : (أو ليخلقوا شعيرة) ، لأن الحبة إذا غرست في الأرض فلقها الله، قال تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى) (الأنعام : 95) ، وقال تعالى : (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) أي : اجتمعوا لخلقه متعاونين عليه وقد هيؤوا كل ما عندهم ، (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) (الحج : 73)
قال العلماء : لو أن الذباب وقع على هذه الأصنام فامتص شيئا من طيبها ما استطاعوا أن يستنقذوه منه، فيكون الذباب غالبا لها، (ضعف الطالب) ، أي : العبد والمعبود، (والمطلوب) ، أي : الذباب .
ويستفاد من هذا الحديث ، وهو ما ساقه المؤلف من أجله : تحريم التصوير، لأن المصور ذهب يخلق كخلق الله ليكون مضاهيا لله في صنعه، والتصوير له أحوال :
الحال الأولى : أن يصور الإنسان ما له ظل كما يقولون، أي : ماله جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها ، فهذا أجمع العلماء فيما أعلم على تحريمه، فإن قلت : إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله، ولكن صور عبثا ، يعني صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئا على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله، بل قصد العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به، فهل يدخل في هذا الحديث؟
(67/34)
فالجواب : نعم ، يدخل في هذا الحديث، لأنه خلق كخلق الله، ولأن المضاهاة لا يشترط فيه القصد، وهذا هو سر المسألة، فمتى حصلت المضاهاة ثبت حكمها، ولهذا لو أن إنسانا لبس لبسا يختص بالكفار ثم قال : أنا لا أقصد التشبه بهم، نقول : التشبه منك حاصل أردته أم لم ترده، وكذلك لو أن أحدا تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك وقال : ما أردت التشبه ، قلنا له : قد حصل التشبه ، سواء أردته أم لم ترده .
الحال الثاني: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم لعموم الحديث، ويدل عليه حديث النٌّمرقُة حين أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير، فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه ، فقالت عائشة رضي الله عنها : ما أذنبت يا رسول الله؟ فقال : إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم (1)، فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم، وقوله في (صحيح البخاري) : (إلا رقما في ثوب(2) ، إن صحت الرواية هذه، فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها .
الحال الثالثة : أن تلتقط الصور التقاطا بأشعة معينة بدون تعديل أو تحسين من الملتقط، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين :
فالقول الأول : أنه تصوير ، وإذا كان كذلك، فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويرا، وإذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على أن هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة، فحركته تعتبر تصوير، فيكون داخلا في العموم .
القول الثاني : أنها ليست بتصوير، لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة ، والتصوير من صنع الله.
(67/35)
ويوضح ذلك لو أدخلت كتابا في آلة التصوير، ثم خرج من هذه الآلة، فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك، بدليل انه قد يشغلها شخص أي لا يعرف الكتابة إطلاقا أو أعمى في ظلمة، وهذا القول أقرب، لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعا ولا مخططا ، ولكن يبقي النظر : هل يحل هذا الفعل أو لا ؟
والجواب : إذا كان لغرض محرم صار حراما، وإذا كان لغرض مباح صار مباحا لأن الوسائل له أحكام المقاصد ، وعلى هذا ، فلو أن شخصا صور أنسانا لما يسمونه بالذكرى، سواء كانت هذه الذكرى للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه ،فإن ذلك محرم و لا يجوز لما فيه من اقتناء الصور، لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك
وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه، فهذا يكون مباحا، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلي هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره، وقال: صورني فصوره، فإن هذا المصور لا نقول : إنه داخل في الحديث، أي حديث الوعيد على التصوير، أما إذا قال : صورني لغرض آخر غير مباح ، صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان .
الحال الرابع : أن يكون التصوير لما لا روح فيه، وهذا على نوعين :
النوع الأول : أن يكون مما يصنعه الآدمي ، فهذا لا بأس به بالاتفاق ، لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة ، مثل أن يصور الإنسان سيارته، فهذا يجوز، لأنه صنع الأصل جائز، فالصورة التي هي فرع من باب أولى .
النوع الثاني : ما لا يصنعه الآدمي ، وإنما يخلقه الله، فهذا نوعان: نوع نام ، ونوع غير نام، فغير النامي ، كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، أما النوع الذي ينمو ، فاختلف في ذلك أهل العلم، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره لما سيأتي في الأحاديث.
(67/36)
وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره، واستدل بأن هذا من خلق الله – عز وجل - ، والحديث عام : (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، لأن الله – عز وجل – تحدى هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة، والحبة أو الشعيرة ليس فيه روح، لكن لا شك أنها نامية، وعلى هذا ، فيكون تصويرها حراما، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمة الله – أعلم التابعين بالتفسير -، وقال : (إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار، لكن جمهور أهل العلم على الجواز، وهذا الحديث هل يؤيد رأي الجمهور أو يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله؟
الجواب : يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله أمران :
أولا : العموم في قوله : (ومن أظلم الناس ممن ذهب يخلق كخلقي) .
ثانيا : قوله : (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، وهذه ليست ذات روح، فظاهر الحديث هذا مع مجاهد ومن يرى رأيه، ولكن الجمهور أجابوا عنه بالأحاديث التالية، وهي أن قوله : (أحيوا ما خلقتم) (2)، وقوله : (كلف أن ينفخ بها الروح)(3) يدل على أن المراد تصوير ما فيه روح، وأما قوله:(أو ليخلقوا حبة أو حبة أو ليخلقوا شعيرة ) ، فذكر على سبيل التحدي ، أي : أن أولئك المصورين عاجزون حتى عن خلق ما لا روح فيه .
* * *
ولهما عن عائشة رضى الله عنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (أشدُّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله .(1)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله (أشد) . كلمة اشد اسم تفضيل بمعنى أعظم وأقوى .
قوله : (الناس) للعموم، والمراد الذين يعذبون .
وقوله : (عذابا) . تمييز مبين للمراد بالأشد ، لأن التمييز كما قال ابن مالك :
اسم بمعنى من بين نكرة ينصب تمييزا بما قد فسره
(67/37)
والعذاب يطلق على العقاب ويطلق على ما يؤلم ويؤذي وإن لم يكن عقابا، فمن الأول قوله تعالى : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر:46) أي : العقوبة والنكال، لأنه يدخل النار والعياذ بالله، كما قال تعالى : (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) (هود : 98)ومن الثاني قول النبي عليه الصلاة والسلام : (السفر قطعة من العذاب)(2) ، وقوله (الميت يعذب بالنياحة عليه)(3) .
قوله : (يوم القيامة) , هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسبق وجه تسميته بذلك .
قوله : (أشد) مبتدأ، والذين يضاهئون خبره، ومعنى يضاهئون، أي : يشابهون .
(بخلق الله) ، أي : بمخلوقات الله - سبحانه وتعالى - .
والذين يضاهئون بخلق الله هم المصورون، فهم يضاهئون بخلق الله سواء كانت هذه المضاهاة جسمية أو وصفية، فالجسمية أن يصنع صورة بجسمها، والوصفية أن يصنع صورة ملونة، لأن التلوين والتخطيط باليد وصف للخلق ، وإن كان الإنسان ما خلق الورقة ولا صنعها لكن وضع فيها هذا التلوين الذي يكون وصفا لخلق الله – عز وجل - .
هذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون، وأنهم أشد الناس عذابا، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله - عز وجل – وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله، فذلك شي آخر ، فمن صنع شيئا ليعبد من دون الله، فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتى بخشبة وقال اعبدوها ، فقد دخل في التحريم، لقوله تعالى ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة :2) ، لأنه أعان على الإثم والعدوان .
قوله : (يضاهئون) . هل الفعل يشعر بالنية بمعنى أنه لابد أن يقصد المضاهاة، أو نقول : المضاهاة حاصلة سواء كانت بنية أو بغير نية؟
الجواب الثاني: لأن المضاهاة حصلت سواء نوي أم لم ينو لأن العلة هي المشابهة، وليست العلة قصد المشابهة، فلو جاء رجل وقال : أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله ، أنا أصور هذا
(67/38)
للذكرى مثلا وما أشبه ذلك ، نقول : هذا حرام، لأنه متى حصلت المشابهة ثبت الحكم ، لأن الحكم يدور مع علته كما قلنا فيمن لبس لباسا خاصا بالكفار : إنه يحرم عليه هذا اللباس، ولو قال : إنه لم يقصد المشابهة ، نقول : لكن حصل التشبه ، فالحكم المقرون بعلة لا يشترط فيه القصد، فمتى وجدت العلة ثبت الحكم .
يستفاد من الحديث :
1 – تحريم التصوير ، وأنه من كبائر، لثبوت الوعيد عليه، وأن الحكمة من تحريمه المضاهاة بخلق الله – عز وجل - .
2- وجوب احترام جانب الربوبية، وأن لا يطمع أحد في أن يخلق كخلق الله- عز وجل- ، لقوله : (يضاهئون بخلق الله) ، ومن أجل هذا حرم الكبر، لأن فيه منازعة للرب – سبحانه وتعالى - وحرم التعاظم على الخلق ، لأن فيه منازعة للرب سبحانه وتعالى - ، وكذلك هذا الذي يصنع ما يصنع فيضاهي خلق الله فيه منازعة لله عز وجل – في ربوبيته في أفعاله ومخلوقاته ومصنوعاته ، فيستفاد من هذا الحديث وجوب احترام جانب الربوبية .
قوله:(أشد الناس عذابا) . فيه إشكال ، لأن فيهم من هو اشد من المصورين ذنبا، كالمشركين والكفار، فيلزم أن يكونوا أشد عذابا ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :
الأول: أن الحديث على تقدير (من) أي: من أشد الناس عذابا بدليل أن جاء ما يؤيده بلفظ : (إن أشد الناس عذابا) .
الثاني : أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم بل يشاركهم غيرهم، قال تعالى:(أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر : 46) ، لكن يشكل على هذا أن المصور فاعل كبير فقط، فكيف يسوى مع من هو خارج عن الإسلام ومستكبر؟
الثالث : أن الأشدية نسبية، يعني أن الذين يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذابا الذين يضاهئون بخلق الله، وهذا أقرب .
(67/39)
الرابع : أن هذا باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه، ولم أر من قال بهذا، ولو قيل بهذا، لسلمنا من هذه الإيرادات، وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله) .
ولهما عن ابن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم . (1)
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (ولهما) . أي : للبخاري ومسلم .
قوله (كل مصور في النار) . (كل) : من أعظم ألفاظ العموم، وأصلها من الإكليل، وهو ما يحيط بالشي، ومنه الكلالة في الميراث للحواشي التي تحيط بالإنسان .
فيشمل من صور الإنسان أو الحيوان أو الأشجار أو البحار، لكن قوله : ( يجعل له بكل صورة صورها نفس) . الحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين)، لكنه بلفظ (يجعل) بالبناء للفاعل، وهذا تكون (نفس) بالنصب، وتمامه : (فتعذبه في جهنم) .
ولهما عنه مرفوعا :(من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) .(1)
ـــــــــــــــــــ
قوله : (يعذب بها) . كيفية التعذيب ستأتي في الحديث الذي بعده أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ .
وقوله : (كل مصور في النار) . أي : كائن في النار .
وهذه الكينونة عند المعتزلة والخوارج كينونة خلود، لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار، وعند المرجئة، أن المراد بالمصور الكافر، لأن المؤمن عندهم لا يدخل النار أبدا، وعند أهل السنة والجماعة أنه مستحق لدخول النار وقد يدخلها وقد لا يدخلها ، وإن دخلها لم يخلد فيها .
قوله : (وليس بنافخ) . أي : كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه ، وعذب بهذا بما كان في الدنيا يراه راحة له، إما باكتساب ، أو إرضاء صاحب ،أو إيداع صنعة .
* * *
(67/40)
ولمسلم عن أبي الهياج، قال : قال لي علي. ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع صورة، إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا، إلا سويته)(1) .
ــــــــــــــــــــ
قوله : ( عن أبي الهياج) . هو من التابعين .
قوله : (قال لي علي) . هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
قوله : (ألا أبعثك) . البعث : الإرسال بأمر مهم ، كالدعوة إلى الله ، قال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) (النحل :36) .
قوله : (على ما بعثني) . يحتمل أن تكون (على) على ظاهرها للاستعلاء، لأن المبعوث يمشي على ما بعث عليه، كأنه طريق له، وهذا هو الأولى، لأن ما وافق ظاهر اللفظ من المعاني فهو أولى بالاعتبار، ويحتمل أن (على) بمعنى الباء، أي : بما بعثني عليه .
وقد بعث النبي صلى الله عيه وسلم عليا إلى اليمن بعد قسمة غنائم حنين ، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة في حجة الوداع (2).
وقوله : (أن لا تدع) . (أن) : مصدرية ، (لا) نافية، (تدع) : منصوب بأن المصدرية وهي بدل بعض من كل من (ما) في قوله (على ما بعثني) لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بأكثر من ذلك، لكن هذا مما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : (صورة) . نكرة في سياق النفي فتعمم .
وجمهور أهل العلم : أن المحرم هو صور الحيوان فقط، لما ورد في السنن من حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فمر برأس التمثال يقطع،فيصير كهيئة الشجرة (2)) وسبق بيان ذلك قريبا .
قوله : (إلا طمستها) . إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالا فإنه يقطع رأسه، كما في حديث جبريل السابق، وإن كانت محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه، فالطمس يختلف ، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أم لا .
قوله : (ولا قبرا مشرفا) : عاليا .
قوله : (إلا سويته) . له معنيان :
الأول : أي سويته بما حوله من القبور .
(67/41)
الثاني : جعلته حسنا على ما تقتضيه الشريعة، قال تعالى : (الذي خلق فسوى)(الأعلى :2) أي : سوى خلقه أحسن ما يكون، وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان .
والإشراف له وجوه :
الأول : أن يكون مشرفا بكبر الأعلام التي توضع عليه، وتسمى عند الناس (نصائل) أو (نصائب) ، ونصائب أصح لغة من نصائل .
الثاني : أن يبنى عليه، هذا من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن المتخذين عليه المساجد والسرج)(3).
الثالث : أن تشرف بالتلوين، وذلك بأن توضع على أعلامها ألوان مزخرفة.
الرابع : أن يرفع تراب القبر عما حوله ليكون ظاهرا .
فكل شي مشرف ، ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوى بغيره، لئلا يؤدي ذلك إلى الغلو في القبور والشرك .
ومناسبة ذكر القبر المشرف مع الصور :
أن كلا منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك، فإن أصل الشرك في قوم نوح أنهم صوروا رجال صالحين، فلما طال عليهم الأمد عبدوها، وكذلك القبور المشرفة قد يزداد فيها الغلو حتى تجعل أوثانا تعبد دون الله، وهذا ما وقع في بعض البلاد الإسلامية، وقد أطال الشارح رحمه الله في هذا الباب في البناء على القبور، وذلك لأن فتنتها في البلاد الإسلامية قديمة وباقية، ما عدا بلادنا ولله الحمد، فإنها سالمة من ذلك ، نسأل الله أن يديم عليها، وأن يحمي بلاد المسلمين من شرها .
عقوبة المصور ما يلي :
1- أنه أشد الناس عذابا أو من أشدهم عذابا يوم القيامة .
2- أن الله يجعل له في كل صورة نفسا يعذب بها في نار جهنم .
3- أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ .
4- أنه في النار .
5- أنه ملعون، كما في الحديث أبي جحيفة في (البخاري) وغيره .
فائدتان :
(67/42)
الأولى : (كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) يقتضي أن المراد التصوير تصوير الجسم كاملا، وعلى هذا، فلو صور الرأس وحده بلا جسم أو الجسم وحده بلا رأس، فالظاهر الجواز، ويؤيده ما سبق في الحديث : (مر براس التمثال فليقطع) ، ولم يقل : فليكسر، لكن تصوير الرأس وحده عندي فيه تردد، أما بقية الجسم بلا رأس، فهو كالشجرة لا تردد فيه عندي .
الثانية : تؤخذ من حديث على رضى الله عنه، وهو قوله : (أن لا تدع صورة إلا طمستها) أنه لا يجوز اقتناء الصور ، وهذا محل لا تفصيل، فإن اقتناء الصور على أقسام :
القسم الأول : أن يقتنيها لتعظيم المصور، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أٌبوّة أو نحو ذلك، فهذا حرام بلا شك، ولا تدخل الملائكة بيتا فيه هذه الصورة، لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية .
القسم الثاني : اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها، فهذا حرام أيضا، لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق .
القسم الثالث : أن يقتنيها للذكرى حنانا وتلطفا ، :الذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر، فهذا أيضا حرام للحوق الوعيد به في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة لا تدخل بيتا في صورة(1)).
القسم الرابع : أن يقتني الصور لا رغبة فيها إطلاقا ، ولكنها تأتي تبعا لغيرها، كالتي تكون في المجلات والصحف لا يقصدها المقتني، وإنما يقصد ما في هذه المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك، والظاهر أن هذا لا باس به، لأن الصور فيها غير مقصودة، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة، فهي أولى .
القسم الخامس : أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل، أو مفترشة، أو موطوءة، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة لأن في ذلك امتهانا للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية ؟
(67/43)
الجواب : نقول : لا يلحق بذلك ، بل لبس ما فيه صور محرم على الصغار والكبار، ولا يلحق بالمفروش ونحوه، لظهور الفرق بينهما، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بتحريم لباس ما فيه صورة ، سواء كان قميصا أو سروالا أم عمامة أم غيرها .
وقد ظهر أخيرا ما يسمى بالحفائظ، وهي خرقة تلف على الفرجين للأطفال والحائض لئلا يتسرب النجس إلى الجسم أو الملابس ، فهل تلحق بما يبس ويمتهن ؟
هي إلى الثاني أقرب، لكن لما كان امتهانا خفيا وليس كالمفترش والموطوء صار استحباب التحرز منها أولى .
القسم السادس : أن يلجأ إلى اقتنائها إلجاء، كالصور التي تكون في بطاقة إثبات الشخصية والشهادات والدراهم فلا إثم فيه لعدم إمكان التحرز منه ، وقد قال تعالى : (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج :78) .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : التغليظ الشديد على المصورين. تؤخذ من قوله : (أشد الناس عذابا ...) .
* الثانية : التنبيه على العلة، وهي ترك الأدب مع الله، تؤخذ من قوله : (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ) .فمن ذهب يخلق كخلق الله، فهو مسيء للأدب مع الله – عز وجل – لمحاولته أن يخلق مثل خلق الله تعالى، كما أن من ضاده في شرعه فقد أساء الأدب معه .
* الثالثة : التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله : (فليخلقوا ذرة أو شعيرة) . لأن الله خلق أكبر من ذلك وهم عجزوا من خلق الذرة أو الشعيرة .
* الرابعة : التصريح بأنهم أشد الناس عذابا . لقوله : (أشد الناس عذابا ...) الحديث .
* الخامسة : أن يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم . لقوله : (يجعل له بكل صورة يصورها نفس يعذب بها في جهنم ) .
* السادسة: أن يكلف أن ينفخ فيه الروح. لقوله : (كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، وهذا نوع من التعذيب من اشق العقوبات .
* السابعة : الأمر بطمسها إذا وجدت . لقوله : (لا تدع صورة إلا طمستها) .
(67/44)
تؤخذ من الحديث السابق أيضا : الجمع بين فتنة التماثيل وفتنة القبور.لقوله : (أن لا تدع صورة ألا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)، لأن في كل منهما وسيلة إلى الشرك .
ويؤخذ أيضا : إثبات العذاب يوم القيامة، وأن الجزاء من جنس العمل، لأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم .
ويؤخذ منه : وقوع تكليف في الآخرة بما لا يطاق على وجه العقوبة .
* * *
الحلف : هو اليمين أو القسم، وهو تأكيد الشي بذكر معظم بصيغة مخصوصة بأحد حروف القسم، وهي الباء، والواو، والتاء .
· ومناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن كثرة الحلف بالله يدل على أنه ليس في قلب الحالف من تعظيم الله ما يقتضي هيبة الحلف بالله، وتعظيم الله تعالى من تمام التوحيد .
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالي :( وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )(المائدة: من الآية89)
ــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله تعالى : (واحفظوا أيمانكم) . هذه الآية ذكرها الله في سياق كفارة اليمين ،وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط، فالابتداء الحلف، والانتهاء الكفارة، والوسط الحنث، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، وعلى هذا كل يمين على شي ماض فلا حنث فيه، ومالا حنث فيه كفارة فيه، لكن إن كان صادقا، فقد بر، وإلا ، فهو آثم، لأن الكفارة لا تكون إلا على شي مستقبل .
وهل يجوز أن يحلف على ما في ظنه؟
الجواب : نعم ، ولذلك أدلة كثيرة، منها قول المجامع في نهار رمضان لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (والله، ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني.
لكن إن حلفت على مستقبل بناء على غلبة الظن ولم يحصل، فقيل : تلزمك كفارة، وقيل : لا تلزمك كفارة، وقيل : لا تلزمك، وهو الصحيح، كما لو حلفت على ماض .
(67/45)
مثاله : فلو قلت : والله،، ليقدمن زيد غدا. بناء على ظنك، فلم يقدم، فالصحيح أنه لا كفارة عليك، لأنك حلفت على ما في قلبك وهو حاصل، كأنك تقول : والله، إن هذا هو ظني، لكن هل يجوز لك أن تحلف على ما في ظنك؟ سبق ذلك تقريبا .
إذن قوله : (واحفظوا أيمانكم) بعد أن ذكر اليمين والكفارة والحنث، فما المراد بحفظ اليمين: هل هو الابتداء أو الانتهاء أو الوسط؟ أي : هل المراد لا تكثروا الحلف بالله؟ أو المراد : إذا حلفتم فلا تحنثوا؟ أو المراد : إذا حلفتم فحنثتم فلا تتركوا الكفارة؟
الجواب : المراد كله ، فتشمل أحوال اليمين الثلاثة، ولهذا جاء المؤلف بها في هذا الباب، لأن من معنى حفظ اليمين عدم كثرة الحل، وإليك قاعدة مهمة في هذا، وهي أن النص من قرآن أو سنة إذا كان يحتمل عدة معاني لا ينافي بعضها بعضا ولا مرجح لأحدها، وجب حمله على المعاني كلها .
والمراد بعدم كثرة الحلف : ما كان معقودا و مقصودا، أما ما يجرى على اللسان بلا قصد، مثل : لا والله، وبلى والله، في عرض الحديث، فلا مؤاخذة فيه لقوله تعالى : (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (المائدة :89) .
وكذلك من حفظ اليمين عدم الحنث فيها، وهذا تفصيل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: (إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منه، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)(1)، فحفظ اليمين إلى الحنث أن لا يحنث إلا إذا كان خيرا ، وإلا ، فالأحسن حفظ اليمين وعد الحنث .
مثال ذلك : رجل قال : لا أكلم فلانا . وهو من المؤمنين الذين يحرم هجرهم، فهذا يجب أن يحنث في يمينه ويكلمه وعليه الكفارة .
مثال آخر : رجل قال: والله لأعينن فلانا على شي محرم . فهذا يجب الحنث فيه والكفارة، و لا يعينه، لقوله تعالى : (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) .(المائدة :2) .
وإذا كان الأمر متساويا والحنث وعدمه سواء في الإثم ، فالأفضل حفظ اليمين .
(67/46)
كذلك من حفظ اليمين إخراج الكفارة بعد الحنث، والكفارة واجبة فورا، لأن الأصل في الواجبات هو الفورية، وهو قيام بما تقتضيه اليمين .
والكفارة : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة، وهذا على سبيل التخيير، فمن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام ، وفي قراءة ابن مسعود متتابعة .
فحفظ اليمين له ثلاث معاني :
1- حفظها ابتداء، وذلك بعدم كثرة الحلف، وليعلم أن كثرة الحلف تضعف الثقة بالشخص وتوجب الشك في أخباره .
2- حفظها وسطا، وذلك بعدم الحنث فيها، إلا ما استثنى كما سبق.
3- حفظها انتهاء، في إحراج الكفارة بعد الحنث .
ويمكن أن يضاف معنى رابع ، وهو أن لا يحلف بغير الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمي القسم بغير الله حلفا .
وعن ابي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ( الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب ). أخرجاه (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (الحلف) . المراد به الحلف الكاذب، كما بينته رواية أحمد : (اليمين الكاذبة) (2)، أما الصادقة، فليس فيها عقوبة، لكن لا يكثر منها كما سبق .
قوله : (منفقة للسلعة) . أي : ترويج للسلعة، مأخوذ من النفاق وهو مضي الشي ونفاذه، والحلف على السلعة قد يكون خلفا على ذاتها أو نوعها أو وصفها أو قيمتها .
الذات : كأن يحلف بأنها من المصنع الفلاني المشهور بالجودة وليست منه .
النوع : كأن يحلف أنه من الحديد ، وهي من الخشب .
الصفة : كأن يحلف أنها طيبة ، وهي رديئة .
القيمة : كأن يحلف أن قيمتها بعشرة، وهي بثمانية .
(67/47)
قوله : (ممحقة للكسب) . أي : متلفة له، والإتلاف يشمل الإتلاف الحسي بأن يسلط الله عليه على ماله شيئا يتلفه من حريق أو نهب أو مرض يلحق صاحب المال فيتلفه في العلاج، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به دينا ولا دنيا، وكم من إنسان عنده مال قليل ، لكن نفعه الله به ونفع غيره ومن وراءه، و كم من إنسان عنده أموال لكن لم ينتفع بها صار – والعياذ بالله-
بخيل يعيش عيشة الفقراء وهو غني ، لأن البركة قد محقت .
وعن سلمان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ثلاث لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مسيكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري غلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه )(1). رواه الطبراني بسند صحيح .
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (ثلاثة) . مبتدأ، وسوغ الابتداء بها أنها أفادت التقسيم .
قوله : (لا يكلمهم الله) . التكليم : هو إسماع القول، وأما ما يقدره الإنسان في نفسه ، فلا يسمي كلاما على سبيل الإطلاق، وإن كان يسمى قولا بالتقييد بالنفس، كقوله تعالى : (ويقولون في أنفسهم لو لا يعذبنا الله) ( المجادلة : 8) وقال عمر رضي الله عنه – في قصة السقيفة - : (زورت في نفسي كلاما) (2)، أي قدرته .
فالكلام عند الإطلاق لا يكون إلا بحرف وصوت مسموع .
واختلف الناس في كلام الله إلى ثمانية أقوال كما ذكره ابن القيم في (الصواعق المرسلة) .
لكن إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأخذنا منها عقيدتنا صافية، وقطعنا النظر عن هذه المجادلات لأنه ما أوتى الجدل قوم إلا ضلوا ، علمنا أن كلام الله حقيقي يسمع، ولكن الصوت ليس كأصوات المخلوقين، أما ما يسمع من كلام الله، فلا شك أنه بحروف لا تشبه الحروف التي يتكلم بها المخاطب لم يفهم كلامه أبدا، فالحروف التي تسمع هي حروف اللغة التي يخاطب الله بها من يخاطبه، والله – عز وجل يخاطب كل أحد بلغته .
(67/48)
ونفي الكلام هنا دليل على إثبات أصله، لأن لما نفاه عن قوم دل على ثبوته لغيرهم .
وبهذه الطريقة استدل بعض أهل العلم على إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين بقوله تعالى : (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (المطففين : 15) .فما حجب الفجار عن رؤيته إلا ورآه الأبرار ، إذ لو امتنعت الرؤية مطلقا لكان الفجار والأبرار سواء فيها، كذلك هنا لو انتفى كلام الله - له عز وجل – عن كل أحد ، فلا وجه للتخصيص بنفي الكلام عن هؤلاء .
ولا يلزم من كلامه – سبحانه – أن يكون له آلة كالآدمي، كاللسان، والأسنان، والحلق، وما أشبه ذلك، كما لا يلزم من سماع الله أن يكون له أذن، فالأرض مثلا تسمع وتحدث وليس لها لسان ولا آذان ، قال تعالى : (يومئذ تحدث أخبارها* بأن ربك أوحى لها) (الزلزلة : 4،5) وكذا الجلد ينطق يوم القيامة ، قال تعالى : (حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) (فصلت :20) وكذا الأيدي والأرجل ، قال تعالى : (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) (النور : 24) فالأيدي والأرجل والأيدي والألسن والجلود والسمع والأبصار ليس لها لسان ولا شفتان، وهذا هو المعلوم لنا .
فإن قيل : ( إن الله يكلم من هو أعظم منهم جرما وهم أهل النار؟
فالجواب : أن المراد بنفي الكلام هنا كلام الرضا ، أما كلام الغضب والتوبيخ، فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه .
قوله : (ولا يزكيهم) . التزكية : بمعنى التوثيق والتعديل، فيوم القيامة لا يوثقهم، ولا يعدلهم ، ولا يشهد عليهم بالإيمان ، لما فعلوه من هذه الأفعال الخبيثة.
قوله : (ولهم عذاب أليم) . (عذاب) : عقوبة، و(أليم) ، أي : شديد موجع مؤلم .
(67/49)
وقوله : (أشيمط) . هو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبر سنه، وكبير السن قد بردت شهوته، وليس فيه ما يدعوه إلى الزنى ، لكن زنى مما دل على خبث إرادته، ولأنه عادة قد بلغ اشده واستوى وعرف الحكمة، وملكه عقله أكثر من هواه، فالزنى منه غريب، إذ ليس عن شهوة ملحة، ولكن عن سوء نية وقصد وضعف إيمان بالله، فصار السبب المقتضي لزناه ضعيفا، والحكمة التي نالها ببلوغ الأشد كبيرة، وكأن تقادم سنه يستلزم أن يغلب جانب العقل، لكنه خالف مقتضى ذلك، ولهذا صغره تحقيرا لشانه ، فقال : (أٌشيمط) تصغير أشمط .
قوله (زان) صفة لأشيمط ، وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، والحركة التي تدل على النون ليست حركة إعراب .
والزنى فعل الفاحشة في قبل أو دبر، وقد نهى الله عنه وبين أنه فاحشة، فقال : (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) (الإسراء : 32)
قوله : (عائل مستكبر) . أي : فقير، قال تعالى : (ووجدك عائلا فأغنى) (الضحى :8)، فالمقابلة هنا في قوله : (فأغنى) بينت أن المعنى عائلا : فقيرا .
والاستكبار : الترفع والتعاظم ، وهو نوعان :
- استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به .
- واستكبار على الخلق باحتقارهم و استذلالهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الكبر بطر الحق وغمط الناس)(1) .
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف، فيكون استكباره دليلا على ضعف إيمانه وخبث طويته، ولذلك كانت عقوبته أشد .
قوله : (ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه) .
(67/50)
أي : جعل الحلف بالله بضاعة له، وإنما ساغ التأويل هنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فسره بذلك،حيث قال : (لا يشتري إلا بيمينه ...)، وإذا كان المتكلم هو الذي أخرج كلامه عن ظاهره، فهو أعلم بمراده، وهذا كما في الحديث القدسي : (عبدي استطعمتك فلم تطعمني ، استسقيتك فلم تسقيني) فبينه الله – عز وجل – بقوله : (عبدي فلان جاع فلم تطعمه، استسقاك فلم تسقه)(2) . فقوله : ( لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) استئنافية تفسيرية، لقوله : (جعل الله بضاعته)، ومعناها : أنه كلما اشترى حلف ، وكلما باع حلف طلبا للكسب ، واستحق هذه العقوبة، لأنه إن كان صادقا ، فكثرة إيمانه تشعر باستخفافه واستهانته باليمين ومخالفته قوله تعالى : (واحفظوا أيمانكم) .
وإن كان كاذبا جمع بين أربعة أمور محذورة :
1- استهانته باليمين ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين .
2- كذبه .
3- أكله المال بالباطل .
4- أن يمينه غموس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من حلف على
يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال أمري مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)(3) .
(67/51)
وكل ما في هذا الحديث يجب الحذر منه والبعد عنه، لأن هذا ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار به، وإلا، فما الفائدة من سماعنا له إذا لم تظهر مقتضيات النصوص على معتقداتنا وأقوالنا وأفعالنا؟ فنحن والجاهل سواء، بل نحن أعظم ، ولذلك ينبغي أن تمر علينا بلا فائدة فنعرف معناها فقط، بل يجب أن نعرف معناها ونعمل بمقتضاها، ثم يجب علينا أيضا بوصفنا ممن آتاهم الله العلم أن نُحذر الناس منها لنكون وارثين للرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما عاملا داعيا، أما طالب العلم، فإنه ليس وارثا للرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقوم بما قام به العمل من العمل والدعوة، فعلينا أن نحذر إخواننا المسلمين من هذا العمل الكثير بين الناس، وهو جعل الله بضاعة لهم، لا يبيعون إلا بأيمانهم ولا يشترون إلا بأيمانهم .
* مناسبة الحديث للباب:أن من الله بضاعته، فإن الغالب أنه يكثر الحلف بالله – عز وجل - .
* * *
وفي الصحيح عن عمر ابن حصين رضي الله عنه فال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :" ( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ؟) ثم ان بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن (1 )
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وفي الصحيح) . أي : (الصحيحين) ، وانظر كلامنا : (ص 146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله : (خير أمتي قرني) . (خير) : مبتدأ، و(قرني) : خبر .
وفي لفظ لهما : (خيركم قرني) ، (خيركم قرني)(2)، وفي الحديث ابن مسعود عند البخاري : (خير الناس قرني) وهذا هو المراد، إذ المراد بالخيرية هنا الخيرية المضافة إلى الناس عموما وليس للأمة فقط، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (بعثت من خير قرون بني آدم )(3) .
(67/52)
وعليه فالخيرية في القرن الأول خيرية عامة على جميع الناس وليس على هذه الأمة فقط .
وأما قوله (خير أمتي) . فإنه يقال : إن الخيرية إذا كانت مضافة إلى عموم الناس دخل فيها هذه الأمة، لكن إذا خصصنا بهذه الأمة خرج بقية الناس ، والأخذ بالعموم الداخل فيه الخاص أولى، وقد يقال : إن معنى واحد، فإن هذه الأمة خير الأمم، فإذا كان الصحابة خير قرونها لزم أن يكونوا خير الناس .
والقرن مأخوذ من الاقتران،والمراد:الطائفة المقتنون بشي من الأشياء،كالملة،أوما أشبه ذلك.
فمن العلماء من عرفه : بالطائفة كما سبق، ومنهم من عرفه بالزمن، وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوال :
فمنهم من حده بأربعين، ومنهم من حده بثمانين، ومنهم من حده بمائة، ومنهم من حده بمئة وعشرين سنة.
فعلى الأول يكون معنى : (خير أمتي قرني) : خير أمتي الصحابة، سواء بلغوا مئة سنة أم لا، والمعروف أن آخر من مات من الصحابة مات سنة مائة وعشر أو مائة وعشرين، فهذه المدة زائدة على المائة، وإذا اعتبرناها من البعثة تكون مائة وثلاثا و ثلاثين سنة، لأن التقويم مبتدأ من الهجرة، والهجرة كانت بعد البعثة بثلاث عشر سنة، وهذا القرن الأول ، أما التابعون ، فإن آخرهم مات سنة مائة وثمانين ، فيكون بينهم وبين الصحابة ستون سنة، وأما تابعوا التابعون ،فإن آخرهم مات سنة مائتين وعشرين، وهذا منتهى القرن الثالث .
فقرن الصحابة إن ابتدأته من البعثة صار ثلاثا وثلاثين ومائة سنة ، وإن ابتدأته من الهجرة صار عشرين ومائة سنة .
وقرن التابعين ستون سنة .
وقرن تابعي التابعين أربعون سنة .
وقال شيخ الإسلام ابن تميمة : إن القرن معتبر بمعظم الناس، فإذا كان معظم الناس الصحابة، فالقرن قرنهم ، وإذا كان معظم الناس التابعين ، فالقرن قرنهم ، وهكذا .
قوله : (أمتي) المراد أمة الإجابة، لأن أمة الدعوة إذا لم يؤمنوا فليس فيهم خير .
(67/53)
قوله : (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا) . إذا كان عمران لا يدري، فالأصل أنه ذكر مرتين ، فتكون القرون المفضلة ثلاثة، وهذا هو المشهور .
قوله : (ثم إن بعدكم قوم) . وفي رواية البخاري : ثم إن بعدكم قوما) بنصب (قوما)، وهذا لا إشكال فيه، ولكن في هذه الرواية برفع (قوم) فيه إشكال، لأن (قوم) اسم إن، وقد اختلف العلماء في هذا :
فقيل على لغة ربيعة : الذين لا يقفون على المنصوب بالألف ، فلم يثبت الكتاب الألف فصارت (قوم) .
وهذا جواب ليس بسديد ، لأن الرواية ليست مكتوبة فقط، بل تقرأ باللفظ عند أخذ التلاميذ الرواية من المشايخ، ولأن هذا ليس محل وقف .
وقيل : إن (إن) اسمها ضمير الشأن محذوف ، إلحاقا لها بإن المخففة، لأن (إن) تعمل بضمير الشأن، قال الشاعر :
وإن مالك كانت كرام المعادن
فإن المشددة هنا حملت على إن المخففة، فاسمها ضمير الشأن محذوف،وعليه يكون (بعدكم) : خبر مقدم ، و(قوم) : مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر (إن) .
وقيل (إن) هنا بمعنى نعم، فيكون المعنى : ثم نعم بعدكم قوم، وهذا فيه تكلف .
والظاهر : القول الثاني إن صحت الرواية.
قوله : (يشهدون) . أي : يخبرون عما علموه مما شاهدوه أو سمعوه أو لمسوه أو شموه، لأن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلم ، قال تعالى : (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (الزخرف :86) ولا يشترط أن تكون بلفظ أشهد على الصحيح ، وقد قيل للإمام أحمد : إن فلانا يقول : (إن العشرة في الجنة ولا يقول أشهد ) فقال : إن قاله فقد شهد .
قوله : (ولا يستشهدون) . اختلف العلماء في معنى ذلك :
فقيل : (لا يستشهدون)، أي : لا يطلب منهم تحمل الشهادة فيكون المراد الذين يشهدون بغير علم الله فهم شهداء زور .
وقيل : لا يطلب منهم أداء الشهادة، فيكون المراد أداء الشهادة قبل أن يدعى لأدائها، فيكون ذلك دليلا لتسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها .
(67/54)
ولكن هذا القول يشكل عليه حديث زيد بن خالد الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ألا أخبركم بخير الشهداء : الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها)(1) .، فهذا ترغيب في أداء الشهادة قبل أن يسألها بدليل قوله : (ألا أخبركم بخير الشهداء)، وظاهره : أنه معارض لحديث عمران، فجمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له .
وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشي من حقوق الله تعالى ، لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها، فيكون المراد بهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهم .
وجمع بعضهم بأن المراد بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة، فكان لشدة إسراع بأداء الشهادة، فكان لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها .
وبعض العلماء رجح حديث عمران ، لأنه في (الصحيحين) على حديث زيد بن خالد، لأنه في (مسلم) .
ولكن إذا أمكن الجمع، فلا يجوز الترجيح لأن مقتضاه إلغاء أحد النصين، والجمع هنا ممكن كما تقدم .
قوله : (يخونون ولا يؤتمنون) . هذا هو الوصف الثاني لهم ، أي : أنهم أهل خيانة وليس أهل أمانة ، فلا يأتمنهم الناس، وليس المعنى أن تقع منهم الخيانة بعد الائتمان حتى يقال: لماذا لم يقل : يؤتمنون ويخونون؟ فكأن الخيانة طبيعة لهم ، فلخيانتهم لا يؤتمنون .
الخيانة : الغدر والخداع في موضع الائتمان، وهي من الصفات المذمومة بكل حال .
وأما المكر والخديعة، فهي مذمومة في حال دون حال، فقد تكون محمودة إذا كانت في مقاتلة عدو ماكر خادع لدلالتها على القوة والإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، ولهذا يوصف الله – سبحانه وتعالى – بالمكر والخداع في الحال التي يكون فيها مدحا، قال تعالى : (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال : 30) وقال تعالى : (يخادعون الله وهو خادعهم)(النساء :142)
(67/55)
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها أبدا، لأنها ذم بكل حال، ولهذا كان قول العامة: خان الله من خان حراما، لأنهم وصفوا الله بما لا يصح أن يوصف به ، قال الله تعالى : (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الأنفال 71) ولم يقل : فخانهم .
قوله : (ولا يؤتمنون) . أي : ليسوا أهلا للأمانة، فلا يؤتمنون على الدماء ولا على الأموال، ولا على الأعراض، ولا أي شي ، والظاهر أن هذا في القرن الرابع، فما بالك بالقرن الخامس عشر؟ وفي حديث آخر (ويفشو بينهم الكذب)
قوله ( وينذرون ولا يوفون) . هذا الوصف الثالث لهم . النذر : إلزام الإنسان نفسه بالشي، وقد يكون للآدمي، وهذا بمعنى العهد الذي يوقعه الإنسان بينه وبين غيره، وقد يكون لله ، كنذر العبادة يجب الوفاء به ، فهم ينذرون لله ولا يوفون له ، ويعاهدون المخلوق ولا يوفون له، وهذا من صفات النفاق .
قوله : (ويظهر فيهم السمن) . هذا هو الوصف الرابع لهم ، كثرة الشحم واللحم، وهذا الحديث مشكل، لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان فكيف يكون صفة ذم ؟
قال أهل العلم : المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها .
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه، فلا يذم عليه، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض ، لكن يذم على شي يكون هو السبب فيه .
وفيه عن ابن مسعود ؛ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيءقوم تسبق الشهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته )
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وفيه) . أي : (في الصحيح) وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة من المؤلف رحمه الله. انظر : ( ص146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
(67/56)
قوله : (خير الناس) دليل على قرنه خير الناس، فصاحبته صلى الله عليه وسلم أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى ، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم .
قوله: (ثم يجي قوم) . أي : بعد القرون الثلاثة .
قوله: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) . يحتمل ذلك وجهين :
الأول: أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين ، فتارة تسبق الشهادة وتارة تسبق اليمين .
الثاني: أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين، حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهم متسابقتان .
والمعنيان لا يتنافيان، فيحمل عليهما الحديث جميعا.
وقوله: (ثم يجي قوم) يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذا الوصف، لأنه لم يقل : ثم يكون الناس، الفرق واضح .
وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس، لا من حيث الأفراد، فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل التابعين، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة، فلا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من أكثر من بعضهم علما وعبادة .
*تنبيه :
ساق المؤلف رحمه الله الحديث في بعض النسخ بتكرار قوله : (ثم الذين يلونهم) ثلاث مرات، وهو في (الصحيحين) بتكرارها مرتين .
قال ابراهيم : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (وقال إبراهيم) . هو إبراهيم النخعي، من التابعين ومن فقهائهم .
قوله : (كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار) في نسخة : (على الشهادة والعهد)، والظاهر أن الذي يضربهم ولي أمرهم .
قوله : ( على الشهادة) أي : يضربوننا عليها إن شهدنا زورا، أو إذا شهدنا ولم نقم بأدائها، ويحتمل أن المراد بذلك ضربهم على المبادرة بالشهادة والعهد، وبه فسر ابن عبد البر .
(67/57)
قوله : (والعهد) . أي : إذا تعاهدوا يضربونهم على الوفاء بالعهد.
قوله : (ونحن صغار) الجملة حالية، وإنما يضربونهم وهم صغار للتأديب .
ويستفاد من كلام إبراهيم أن الصبي تقبل منه الشهادة، لأن قوله : (ونحن صغار)،أي : لم يبلغوا، وهذا محل خلاف بين أهل العلم .
فقال بعضهم : شهادة الصغار بعضهم على بعض مقبولة تحملا وأداء ، لأن البالغ يندر أن يوجد بين الصغار .
وقال بعضهم : تقبل شهادة الصغار بعضهم على بعض إن شهدوا في الحال، لأنه بعد التفرق يحتمل النسيان أو التلقين، ولا يسع العمل إلا بهذا، وإلا لضاعت حقوق كثيرة بين الصبيان .
ويستفاد من هذا الأثر جواز ضرب الصبي على الأخلاق إذا لم يتأدب إلا بالضرب .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : الوصية بحفظ الأيمان . تؤخذ من قوله تعالى : (واحفظوا أيمانكم) والأمر وصية .
* الثانية : الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة. تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (الحلف منفقة للسلعة ...) إلخ .
* الثالثة : الوعيد الشديد لمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه . تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم(ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه ...) إلخ في ضمن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزيكيهم .
* الرابعة : التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي . تؤخذ من حديث سلمان، حيث ذكر الأشيمط الزاني والعائل المستكبر، وغلظ في عقوبتهم ، لأن الداعي إلى فعل المعصية المذكورة ضعيف عندها .
* الخامسة : ذم الذين يحلفون و لا يستحلفون . لقوله صلى الله عليه وسلم : (ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه ...)
ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل النبي صلى الله عليه وسلم حلف ولم يستحلف في مواضع عديدة، بل أمره الله – سبحانه وتعالى أن يحلف في ثلاثة مواضع من القرآن بدون أن يستحلف
وفي قوله : (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي) ( يونس :53) .
(67/58)
وفي قوله : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) (التغابن : 7) .
وفي قوله : (وقالوا الذين كفروا أن لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) (سبأ :3)
وعليه، فإن الحلف إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة، فإنه جائز، بل يكون مندوبا
إليه، كحلف النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المخزومية، حيث قال : (وإيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(1)، فقد وقع موقعا عظيما من هؤلاء القوم الذين أهمهم شأن المخزومية وممن يأتي بعدهم .
* السادسة : ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (خير الناس قرني ...) ،وقوله : (أو الأربعة) بناء على ثبوت ذكر الرابع ، وأكثر الروايات وأثبتها على حذفه .
وقوله : (ذكر ما يحدث) . لو جعلت هذه المسألة مستقلة، لكان أبين وأوضح ، لأن الأخبار عن شي مستقبل ووقوعه كما أخبر دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم .
* السابعة : ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. تؤخذ من حديث عمران، وكذا ذم الذين يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، والذين يتعاطون أسباب السمن ويغفلون عن سمن القلب بالإيمان والعلم .
* الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. تؤخذ من قول إبراهيم النخعي: (كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد)، فيؤخذ منه تعظيم شأن العهد والشهادة وضرب الصغار على ذلك، ويؤخذ منه أيضا عناية السلف بتربية أولادهم ، وأن منهجهم الضرب على تحقيق ذلك استنادا إلى إرشاد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، حيث أمر بضرب من بلغ عشر سنين على الصلاة، لكن يشترط لجواز الضرب :
الأول : أن يكون الصغير قابلا للتأديب، فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب.
الثاني : أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه .
الثالث : أن لا يسرف في ذلك كمية أو كيفية أو نوعا أو موضوعا أو غير ذلك .
(67/59)
الرابع : أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه .
الخامس : أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام، لم يكن مؤدبا بل منتصر .
* * *
باب ما جاء في ذمة الله ةذمة نبيه صلي الله عيليه وسلم
وقوله تعالي:(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)(النحل:من الآية91)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ذمة الله وذمة نبيه) .
الذمة : العهد ، وسمي بذلك، لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته .
والله له عهد على عباده : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
وللعباد عهد على الله وهو : أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، وقال الله تعالى : (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا)، فهذا عهد الله عليهم ، ثم قال : (لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) (المائدة: 12) ، وهذا عهدهم على الله.
وقال تعالى : (وأفوا بعهدي أوف بعهدكم) (البقرة : 40) وللنبي صلى الله عليه وسلم عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئا .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما هو خير. (1).
والمراد بالعهد هنا : ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة في صلح الحديبية .
قوله تعالى : (وأوفوا) . أمر من الرباعي من أوفى يوفي ، والإيفاء إعطاء الشي تاما، ومنه إيفاء المكيال والميزان .
(67/60)
قوله : ( بعهد الله) . يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله، أي : بعهدكم الله، أو بعهد الله إياكم ، لأن الفعل إذا كان على وزن فاعل اقتضى المشاركة من الجانبين غالبا، مثل : قاتل ودافع .
قوله : (إذا عاهدتم) . فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء، أي : إذا صدر منكم العهد، فإنه لا يليق منكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله : (ولا تنقضوا الإيمان) . نقض الشي هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين .
قوله : (بعد توكيدها) . توكيد الشي بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكّد، يقال : وكّد الأمر وأكده تأكيدا وتوكيدا/ والواو أفصح من الهمزة .
قوله:(وقد جعلتم الله لكم كفيلا) . الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ على نقض العهد واليمين .
ووجه جعل الله له كفيلا : أن الإنسان إذا عاهد غيره قال : أعاهدك بالله، أي جعل الله كفيلا .
قوله : (إن الله يعلم ما تفعلون). حتم الله الآية بالعلم تهديدا عن نقص العهد، لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعله ، فإنه لا ينقض العهد.
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جدا، لأن الله قال : (أوفوا بعهد الله)، وقال : (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) . والعهد : الذمة .
وعن بريدة ؛ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوي الله ؛ وبمن معه من المسلمين خيرا فقال :
ــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة الباب للتوحيد : أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد .
قوله : (إذا أمر) أي : جعله أمير،والأمير في صدر الإسلام يتولى التنفيذ والحكم والفتوى و الإمامة .
قوله : (أو سرية) . هذه ليست للشك، بل للتنويع، فإن الجيش ما زاد على أربع مائة رجل والسرية ما دون ذلك .
والسرايا ثلاثة أقسام :
أ – قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، ويقسم غنمه كقسمة ما غنم الجيش .
(67/61)
ب – قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم .
ج – قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش . وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة، فالسرية الابتداء الربع بعد الخمس، لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس، لأن الجيش قد ذهب عنها، فالخطر عليها أشد .
وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام : إن شاء أعطى وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة .
قوله : (أوصاه) . الوصية : العهد بالشي إلى غيره على وجه الاهتمام به .
قوله : (بتقوى الله) . التقوى : هي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله ، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي .
وقال بعضهم :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وهذه التعريفات كلها تؤدي معنى واحدا .
وكانت الوصية بالتقوى لأمير الجيش، لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفُّع يخشى منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته .
قوله : ( وبمن معه من المسلمين خيرا) . أي : أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرا لإي أمور الدنيا والآخرة، فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، فيمنع عنهم الظلم ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة .
ويستفاد من هذا الحديث : أنه يجب أن على من تولى أمرا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الأخير ، بخلاف عمل الإنسان بنفسه ، فإنه لا يلزم إلا بالواجب .
(67/62)
قوله : (اغزوا باسم الله) . يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائما مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتح الغزو باسم الله .
(( اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر الله ))
أغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا .
ـــــــــــــــــــــــــــ
والأول أظهر، والثاني أيضا محتمل، لأنه بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله، فهو أبتر .
قوله : (في سبيل الله) . متعلق ب(اغزوا) وهو تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن النية و القصد، لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدى الحسنيين ما
كان خالصا لله . وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليرى مكانه أو لطلب دنيا .
فإذا قاتل لأجل الوطن : فمن قاتل لأنه وطن لإسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه، فهذه نية إسلامية صحيحة ، وإن كان للقومية أو الوطنية فقط فهو حمية وليس في سبيل الله.
قوله : (في سبيل الله) . تشمل النية والعمل، فالنية سبقت، والعمل : أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع .
قوله : (قاتلوا من كفر بالله) . (قاتلوا) : فعل أمر وهو للوجوب، أي : يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) (التحريم : 9) . وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (التوبة :123) فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها .
(ومن) : اسم موصول، وصلته (كفر)، واسم الموصول وصلته يفيد العلية، أي : لكفره، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية ، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار .
والكفر مداره على أمرين : الجحود ، والاستكبار .
(67/63)
أي : الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديق .
قوله : (اغزو) . تأكيد، وأتى بها ثانية كأنه يقول : لا تحقروا الغزو واغزوا بجد .
قوله : (لا تغلوا) . الغلول : أن يكتم شيئا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى : (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) (آل عمران : 161)، أي معذبا به، فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم : يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه من روح، ولأنه لا يجوزه تعذيبه بالنار .
قوله ولا( تغدروا) . الغدر : الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا، فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد ، فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن على بن أبي طالب رضى الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه ، فلما أقبل الرجل على على صاح به على : ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله علي رضى الله عنه .
وليعلم لنا مع المشركين ثلاث حالات .
الحال الأولى : أن لا يكون بيننا و بينهم عهد ، فيجب أن قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك .
الحال الثانية : أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه، فهنا يجب الوفاء لهم بعدهم ، لقوله تعالى : (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) (التوبة : 7) وقوله تعالى : (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) (الأنفال :58) .
الحال الثالثة : أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه، فهنا يجب أن ننبذ إليه العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينهم ، لقوله تعالى : (وإما تخافن من قوم من خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) (الأنفال :58) .
(67/64)
قوله : (و لا تمثلوا) . التمثيل : التشويه بقطع بعض الأعضاء، كالأنف واللسان وغيرهما ، وذلك عند أسرهم، لأنه لا حاجة إليه، لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء على فيما لو كانوا يفعلون بنا ذلك :
فقيل : لا يمثل للعموم ، والنبي لم يستثن شيئا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم، فقد يكون لا يرضى بما فعله قومه، فكيف نمثل به؟
وقيل : نمثل بهم كما مثلوا بنا، لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة :194) . وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا، فقد يفسر هذا بأنه ضعف ، وإذا مثلنا بهم في مثل هذه الحال ، عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية .
والظاهر القول الثاني .
فإن قيل : قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضى بالتمثيل؟
فيقال : إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله – عز وجل- يخاطب اليهود في عهد موسى ، قال تعالى : (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها) (البقرة : 72) ، وقال تعالى : (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) (البقرة :93) ، وما أشبه ذلك .
وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال ( أو خلال ) فأيتهن ما اجابوك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ولا تقتلوا وليدا) . أي : لا تقتلوا صغيرا، لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم .
وورد في أحاديث أخرى : أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فان ولا امرأة (1)، إلا أن يقاتلوا ، أو يحرضوا على القتال ، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصّمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه (2).
واستدل بهذ الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام ، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيخ الإسلام هذا القول ، وله رسالة في ذلك اسمها (قتال الكفار) .
(67/65)
قوله : (وإذا لقيت عدوك) . أي قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجا لقتالهم، لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك، فإن ذلك يدعوك إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى : (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) (الممتحنة: 1) وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى : (ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة :51) ، لكن خص في هذه الآية باليهود والنصارى، لأن المقام يقتضيه .
والعدو ضد الولي ، والولي من يتولى أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك، ويعتدي عليك ما أمكنه .
قوله : (من المشركين) . يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصارى .
قوله : (فأيتهن ما أجابوك) . (أيتهن) : اسم شرط مبتدأ، (ما) : زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدا للعموم، كقوله تعالى : ( أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) (الإسراء :110) والكاف مفعول به، والعائد إلى اسم الشرط محذوف ، والتقدير : فأيتهن ما أجابوك إليه، فاقبل منهم وكف عنهم ، فلا تقاتلهم .
قوله : (ثم ادعهم) . (ثم) : زائدة ، كما في رواية أبي داود ، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال : أنها ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم . ، بل من كلام الراوي على تقدير : ثم قال ادعهم .
قوله : (إلى الإسلام) . أي : المتضمن للإيمان، لأنه إذا أفرد شمل الإيمان، وإذا اجتمعا ، افترقا، كما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في حديث جبريل .
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم : (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة (3)من
الإيمان، فإن أجابوا الإسلام ، فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فاقبل منهم) .
(67/66)
قوله : (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) . هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية ، فإذا أسلموا، طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله، لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم، كما قال تعالى : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) (التوبة : 97) ، وهذا أصل في توطين البوادي .
قوله : (إلى دار المهاجرين) , يحتمل أن المراد بها العين، أي: المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس،أي : الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت مدينة أو غيرها .
ويقوى الاحتمال الثاني – وهو أن المراد بها الجنس – أنه لو كان المراد المدينة، لكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعبر عنها باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوى الاحتمال الأول : أن دار المهاجرين هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني .
قوله : (فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين) . هذا تمام العدل، ولا يقال : إن الحق لصاحب البلد الأصلي ، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفي، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة .
قوله : (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شي إلا أن يجاهدوا مع المسلمين)" . يعني إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين، فليس لهم في الغنيمة والفيء شي .
والغنيمة : ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به .
والفيء: ما يصرف لبيت المال ، كخمس خمس الغنيمة، والجزية، والخراج ، وغيرها .
قوله : (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) . يفيد أنهم جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم .
وأما الفيء : ، فاختلف أهل العلم في ذلك:
فعند الإمام أحمد : لهم حق في الفيء مطلقا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا .
(67/67)
وقيل : لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة، إذ ليس من في البلد مستعدا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله .
فإذا أسلموا ، فلهم ثلاث مراتب :
1. التحول إلى دار المهاجرين،وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين
2. البقاء في أماكنهم مع الجهاد، فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة، وفي الفيء الخلاف .
3. البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد، فليس لهم من الغنيمة والفيء شي .
قوله : (فإن هم أبوا فأسالهم الجزية ، فإن هم اجابوك فأقبل منهم وكف عنهم )
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (فإن هم أبوا).(هم)عند البصريين : توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، والتقدير : فإن أبوا هم ، وعند الكوفيين : مبتدأ خبره الجملة بعده .
والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة : أن نتبع الأسهل ، والأسهل هنا إعراب الكوفيين .
قوله : (فاسألهم الجزية) . سؤال عطاء لا سؤال استفهام ، والفرق بين سؤال العطاء وسؤال الاستفهام : أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني ب(عن)، قال الله تعالى : (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) . وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية، كقوله تعالى : (يسألونك ماذا أحل الله لهم) (المائدة :4) .
وأما سؤال الإعطاء، فيتعدى إليه بنفسه، كقولك : سألت زيدا كتابا .
والجزية : فعلة من جزى يجزي ، وظاهر فيها أنه مكافأة على شي، وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضا عن حمايته وإقامته بدارنا .
والذمي معصوم ماله ودمه وذريته مقابل الجزية، قال تعالى : (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (التوبة : 29) ، أي : يسلموها بأيديهم ، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو أبنه، بل يأتي بها هو.
وقيل : (عن يد) : عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة المعنيين .
(67/68)
وقيل : (عن يد) : أن يعطيك إياه فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه .
قوله : (وهم صاغرون) . أي : يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند
فإن هم ابوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة اصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم اهون من ان تخفروا ذمة الله وذمة نبيه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إعطائها ، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عند تسلمها منهم .
قوله (فاستعن بالله وقاتلهم) . بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بطلب العون من الله، لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه، فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط .
قوله : (وإذا حاصرت أهل الحصن). الحصر : التضييق، أي : طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يحرجون من حصنهم ولا يدخل عليه أحد .
والحصن : كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها .
قوله : (فأرادوك) . أي : طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا فإن الأصل أن تتعدى ب(من)، فيقال أرادوا منك .
قوله : (فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه) . الذمة : العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون: نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله، فإنه لا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : (فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون ...)
قوله : (أن تخفروا) بضم التاء وكسر الفاء : من أخفر الرباعي ، أي : غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أحار، والمتعين الأول .
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ؛ فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله ام لا ) رواه مسلم (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(67/69)
وقوله : (أن تخفروا) . (أن) بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع (أهون) على أنها خبر، وأن ما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم(إن) ، والتقدير : فإن إخفارهم ذممكم ، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق .
قوله : (أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه) . لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم ، وقوله : (أهون) من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شي من هذا المعنى، لأن قوله : (أهون) يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهون، والأمر ليس كذلك، لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين، كله ليس بهين ، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته .
فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشي، بل يعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك .
قوله : (وإذا حاصرت) . أي : ضربت حصارا يمنعهم من الخروج من مكانهم . (أهل الحصن) : أهل البلد أو مكان يتحصنون به .
(فأرادوك) : طلبوا منك .
(حكم الله)، أي : شرع الله . قوله : (ولكن الله أنزلهم على حكمك) . فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فإنهم لا يجابون، فإننا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا ؟
ولهذ قال : (أنزلهم على حكمك) ، ولم يقل : وحكم أصحابك كما قال في الذمة، لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد، فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد .
وقوله : (لا تدري) . أي : لا تعلم (أتصيب فيهم حكم الله أم لا) ، وذلك لأن الإنسان قد يخطيء حكم الله تعالى .
وهذه مسالة اختلف فيها العلماء :
فقيل : إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله،لأن قائد الجيش وإن اجتهد، فإنه لايدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبا .
(67/70)
وقيل : بل ينزلون على حكم الله أم لا؟ والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم، إذ من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يتغير فيه الحكم، إذ ا كان كذلك، فلا تنزلهم على حكم الله، لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه.
أما بعد انقطاع الوحي ، فينزلون على حكم الله، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابا إذا لم يتبين خطؤه، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقال تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن :16) وهذا اصح ، نه يحكم المجتهد بإصابته الحكم ظاهرا شرعا وإن كان قد يخطي ، وإن حصل الاحتراز بأن يقول : ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله، فهو أولى، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما اتضح خلافه .
واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد ، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، فيقول الكفار : إن أحكام المسلمين متناقضة .
ويستفاد من هذا الحديث ما يلي :
1- تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد، وقد سبق الكلام عليه .
2 - يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا .
3 - لا يجوز القتال قبل الدعوة، لأنه جعل القتال آخر مرحلة . وأما ما ورد في
(الصحيح) أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فقد أجيب : أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع فيه للمصلحة .
4- جواز أخذ الدية من غير اليهود والنصارى والمجوس، لأن أهل الكتاب نص
القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ماعدا هؤلاء فاختلف أهل العلم :
فقيل : لا تأخذ من غير هؤلاء، وقيل : لا تؤخذ من مشركي العرب، لأن فيها إذلالا .
(67/71)
والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كفر با لله ولم يقل : اليهود والنصاري )
5- الإشارة إلى القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، ولو كان كذلك
ما شرعت الجزية، لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن أٌقاتل الناس..)(1) الحديث، فهو عام مخصوص بأدلة الجزية .
6- عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدا لله ورسوله .
7- جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش .
8- أنه لا يجوز أن ينزلهم على حكم الله أما في عهد رسول الله أو مطلقا حسب الخلاف السابق .
9- أن المجتهد قد يصيب وقد يخطي، لقوله : (فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا)، وقال النبي : صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم، فاجتهد ، فأصاب، فله أجران، وأن أخطأ ، فله أجر واحد)(2)، وعليه، فهل نقول : إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب : قيل : كل مجتهد مصيب .
وقيل : ليس كل مجتهد مصيبا .
وقيل : كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول .
على أن شيخ الإسلام ابن تميمة وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا : إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ، ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون : أنها من الفروع ، لأنها ليست من العقيدة ولكن فروع من فروعها، ونحن نقول : إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة، فكل الدين أصول، لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل ، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها .
(67/72)
والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمى بالأصول أو الفروع ، لكن ما خرج عن منهج السلف، فليس بمقبول مطلقا .
10- أن باب الاجتهاد باق، لقوله : (لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟) وبهذا يتبن ضعف قول من قال : إن باب الاجتهاد قد انسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم على الكتاب والسنة أن يأخذه منهما،لكن كثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشي بمجرد أن يسمع حديثا في هذا الحكم حتى يثبت، لأن هذا الحكم قد يكون منسوخا أو مقيدا أو عاما وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول : لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح ، ثم إنه على قولنا : إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم ، لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليس بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم، فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها ، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول : إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون : كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع ، لكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها؟
11 – فيه إثبات حكم لله – عز وجل- ، وحكم الله ينقسم إلى قسمين :
أ – حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخلفه، ومنه قوله تعالى (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي) (يوسف :80) .
(67/73)
ب – حكم شرعي ، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى : (ذلكم حكم الله يحكم بينكم) (الممتحنة :10) .
* * *
* فيه مسائل :
*الأولى : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين . لو قال الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين، لكان أوضح، لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها ، وليس كذلك، فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين .
والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين محرمة، وجعل ذمة المحاصرين – بكسر الصاد – ذمة جائزة .
* الثانية :الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.لقوله : (ولكن اجعل ذمتك وذمة أصحابك ...)إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر وهو : ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لابد من ارتكاب إحداهما، وقد دل عليها الشرع، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (الأنعام : 108) ، فسب آلهة المشركين مطلوب ، لكن إذا تضمن سب الله – عز وجل – صار منهيا عنه، لأنه مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في السكوت شي من المفسدة، لكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضا العقل دل عليها .
وفيها قاعدة مقابلة،وهي ترك أدنى المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لا بد من ترك إحداهما ، فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعا، فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما ، فخذ بأدناهما .
* الثالثة : قوله : (اغزو بسم الله في سبيل الله) . يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه .
(67/74)
*الرابعة : قوله : (قاتلوا من كفر بالله) . يستفاد منها وجوب قتال الكفر، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال، فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا ترك أهل بلد صلاة عيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك .
وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله، قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر .
* الخامسة : قوله : (استعن بالله وقاتلهم) . يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته .
* السادسة : الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. وفيه فرقان :
1- أن حكم الله مصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب .
2- تنزيل أهل الحصن على حكم الله ممنوع، إما في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقط أو مطلقا ، وأما على حكم العلماء ونحوه ، فهو جائز .
* فائدة :
لا ينبغي أن يقال لمفت : ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا، فإنه قد يخطيء فلا يصيب حكم الإسلام ، ولا يقول مفت : حكم الإسلام كذا، لأنه قد يخطي، ولكن يقيد ، فيقول : حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح وصريح ، فلا بأس، مثل أن يقال : ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول : حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام .
* السابعة : في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟ وهذا ليس خاصا بالصحابة ، بل حتى من بعدهم، فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.
***
باب ما جاء في الأقسام على الله
ـــــــــــــــــــــــــــ
الإقسام : مصدر أقسم يُقسم إذا حلف .
(67/75)
والحلف له عدة اسماء، وهي : يمين، وآلية، وحلف، وقسم، وكلها بمعنى واحد، قال تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم) (الواقعة :75) ، وقال : (للذين يؤلون من نسائهم) (البقرة : 226)، أي: يحلفون، وقال تعالى:(ولا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (البقرة : 225) ، وقال تعالى : (يحلفون بالله لكم ليرضوكم)(التوبة:62) وقال تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)(النور:53).
واختلف أهل العلم في (لا) في قوله (لا أقسم) .
فقيل : أنها نافية على الأصل، وأن معنى الكلام : لا أقسم بهذا الشي على المُقسم به، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، وهذا فيه تكلف، لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي .
وقيل : إن (لا) زائدة، والتقدير اقسم .
وقيل : إن (لا) للتنبيه، وهذا بمعنى الثاني، لأنها من حيث الإعراب زائدة .
وقيل إنها نافية لشي مقدر، أي:لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث، وهذا في قوله تعالى : (لا أقسم بيوم القيامة) فيه شي من التكلف، والصواب أنها زائدة للتنبيه .
والإقسام على الله: أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل : والله، ليفعلن كذا، أو والله، لا يفعل الله كذا .
والقسم على الله ينقسم إلى أقسام :
الأول : أن يقسم على ما أخبر به ورسوله من نفي وإثبات، فهذا لا بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به رسوله، مثل : والله، ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة، ومثل : والله، لا يغفر الله لمن أشرك به .
(67/76)
الثاني : أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه، فهذا جائز لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قصة الربيّع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضى الله عنهما (حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال : أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر سنية الربيع. وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (يا أنس! كتاب الله القصاص)، يعني السن بالسن. قال والله، لا تكسر ثنية الربيع)، وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك .
فلما عرفوا أنه مصمم ألقى الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)(1)، فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه أقسم على الله أن لا تكسر ثنية الربيع، فألقى الله العفو في قلوب هؤلاء الذين صمموا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم على القصاص، فعفوا وأخذوا الأرش.
فثناء الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة بأن الرجل من عباد الله، وأن الله أبر قسمه ولين له هذه القلوب، وكيف لا وهو الذي قال : بأنه يجد ريح الجنة دون أحد، ولما استشهد وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، ولم يعرفه إلا أخته ببنانه(2)، وهي الربيع هذه، رضى الله عن الجميع وعنا معهم .
ويدل أيضا لهذا القسم قوله صلى الله عليه وسلم : (و رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)(3) .
القسم الثالث : أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله – عز وجل – سوء الظن به تعالى، فهذا محرم، وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المُقسم، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله .
(67/77)
* مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد : أن تألى على الله - عز وجل - ، فقد أساء الأدب معه وتحجر فضله وأساء الظن به، وكل هذا ينافي كمال التوحيد، وربما ينافي أصل التوحيد، ، فالتألي على من هو عظيم يعتبر تنقصا في حقه .
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ؛ فقال الله عز وجل ، من ذا الذي يتألي علي أن لا اغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له واحبطت عملك ) . رواه مسلم (1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله: (قال رجل) . يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره .
قوله : (والله يغفر لفلان) . هذا يدل على اليأس من روح الله، واحتقار عباد الله عند هذا القائل، وإعجابه بنفسه .
والمغفرة: ستر الذنوب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يغطي به الرأس عند الحرب، وفيه وقاية وستر .
قوله : (من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان) . (من) : اسم استفهام مبتدأ، (ذا) ملغاة، (الذي) : اسم موصول خبر مبتدأ، يتألى : يحلف، أي : من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي، والاستفهام، للإنكار.
والحديث ورد مبسوطا في حديث أبي هريرة(1) أن هذا الرجل كان عابدا وله صاحب مسرف على نفسه، وكان يراه على المعصية، فيقول : أقصر. فوجده يوما على ذنب، فقال أقصر. خلني وربي، أبُعث علىّ رقيبا؟ فقال : والله، لا يغفر الله لك .
وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن الظن بالله ورجاء له، ولعله كان بفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه، لأنه قال : خلني وربي ، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحا ثم غلبته عليه نفسه مرة أخرى، فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة، لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود، وليس من شروط التوبة أن لا يعود .
(67/78)
وهذا الرجل الذي قد غفر الله له، إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له، أما لو كان شركا ومات بدون توبة، فإنه لا يغفر له، لأن الله يقول : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (النساء:116) .
قوله : (وأحبطت عملك) . ظاهر الإضافة في الحديث : أن الله أحبط عمله كله ، لأن المفرد المضاف إلى الأصل فيه أن يكون عاما .
ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم – حسب فهمنا والعلم عند الله – أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركنا عظيما من أركان العبادة، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع، فلا بد أن تكون عبدا لله- عز وجل – بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبدا فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعا كاملا حتى تحقق العبودية .
ويحتمل معنى (أحبطت عملك) ، أي : عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، وهذا أهون، لأن العمل إذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال : أذهبوا به إلى النار .
ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله صلى الله عليه وسلم : في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة:(فإنا آخذوها وشطر ماله عزمه من عزمات ربنا)(1) .
فقوله (وشطر ماله) هل المراد جميع ماله، أو ماله الذي منع زكاته؟
يحتمل الأمرين، فمثلا: إذا كان عنده عشرون من الإبل، فزكاتهما أربع شياه، فمنع الزكاة، أو كان عنده أموال أخرى من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة؟
اختلف في ذلك :
(67/79)
فقيل : نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة .
وقيل : نأخذ نصف جميع المال .
والراجح أنه راجع إلى الإمام حسب المصلحة ، فإن كان أخذُ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة .
و في حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد . قال أبو هريرة : ((تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)) (1)
ــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (تكلم بكلمة) . يعني قوله : والله، لا يغفر الله لك .
قوله : (أوبقت) . أي : أهلكت، ومنه حديث : (اجتنبوا السبع الموبقات)(2)، أي المهلكات .
قوله : (دنياه وآخرته) . لأن من حبط عمله، فقد خسر الدنيا والآخرة.
أما كونها أوبقت آخرته، فالأمر ظاهر، لأنه من أهل النار والعياذ بالله، وأما كونها أوبقت دنياه، فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملا صالحا، وإلا ، فهي خسارة، قال تعالى : (والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(العصر: 1-3) وقال : (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) (الزمر :15) ، فمن لم يوفق للإيمان والعمل الصالح ، فقد خسر دنياه حقيقة، لأن مآلها للفناء، وكل شي فان فكأنه لم يوجد، واعتبر هذا بما حصل لك مما سبق من عمرك تجده مر عليك وكأنه لم يكن، وهذا من حكمة الله – عز وجل – لئلا يركبن إلى الدنيا .
وقوله : (قال أبو هريرة) . يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله .
* * *
* فيه مسائل :
* الأولى : التحذير من التألى على الله . لقوله :(من ذا الذي يتالى على أن لا أغفر لفلان)، وكونه أحبط عمله بذلك.
* الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
* الثالثة : أن الجنة مثل ذلك.
(67/80)
هاتان المسألتان ذكرهما المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتألي والمغفرة للمسرف على نفسه، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضى الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ويقصد بها تقريب الجنة أو النار، والشراك : سير النعل الذي يكون بين الأبهام والأصابع .
* الرابعة : فيه شاهد لقوله : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ...) إلى آخره. يشير المؤلف إلى حديث : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى أن تبلغ حيث بلغت يهوى بها في النار سبعين خريفا)(1)، أو( أبعد مما بين المشرق والمغرب)(2)،
وهذا فيه الحذر من مزلة اللسان، فقد يسبب الهلاك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من يضمن لي ما بين لحييه وبين رجليه أضمن له الجنة)(3)، وقال لمعاذ كف عليك هذا – يعني لسانه-) قلت : يارسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال : (ثكلتك أمك يا معاذّ وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال : على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم ؟). (4)
ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدي به، كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله، فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة .
* الخامسة : أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله : (قد غفرت له).
ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشي هو من أكره الأمور إليه، مثل الجهاد في سبيل الله، قال تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) (البقرة : 216) .
* * *
باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال : يا رسوا الله ! نهطت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلكت
ــــــــــــــــــــــــــ
(67/81)
استشفع بالشي، أي : جعله شافعا له، والشفاعة في الأصل : جعل الفرد شفعا، وهي التوسط ، للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه.
· مناسبة الباب للتوحيد :
أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله – عز وجل-، لأنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه، إذ لو كان أعلى مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده، بل يأمره أمرا والله – عز وجل – لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد، لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الأعرابي، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد .
قوله : (أعرابي) . واحد الأعراب، وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجفاء، لأنهم أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله .
قوله : (نهكت الأنفس) . (نهكت)، أي : ضعفت .
قوله : (جاع العيال وهلكت الأموال)، أي : من قلة المطر و الخصب، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيها إذا لم يكن هناك خصب، وجاع العيال لقلة العيش، وهلكت الأموال ، لأنها لم تجد ما ترعاه .
الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع با الله عليك ، وبك على الله فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (سبحان الله سبحان الله ) فما زال يسبح حتي عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال: ( ويحك أتدري ما الله !) إن شان الله اعظم من ذلك إنه لا يستشفع با لله على أحد من خلقه ........ )) وذكر الحديث . رواه أبو داوود (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (فاستق لنا ربك) . أي : اطلب من الله أن يسقينا، وهذا لا بأس به، لأن طلب الدعاء ممن ترجى أجابته من وسائل إجابة الدعاء .
قوله : (نستشفع بالله علي) : أي : نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا، وهذا يقتضي أن جعل مرتبة الله في مرتبة أدنى من مرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم . قوله : (ونستشفع بك على الله) أي : نطلب منك أن تكون شافعا لنا عند الله، فتدعو الله لنا، وهذا صحيح .
(67/82)
قوله : (سبحان الله، سبحان الله) . قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم استعظاما لهذا القول، وإنكارا له، وتنزيها لله – عز وجل – عما لا يليق به من جعله شافعا بين الخلق وبين الرسول صلى الله عليه وسلم .
و(سبحان) : اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح يسبح تسبيحا، وإذا جاءت الكلمة بمعنى المصدر وليس فيها حروفه، فهي اسم مصدر، مثل : كلام اسم مصدر كلم والمصدر تكليم، ومثل سلام اسم المصدر سلم والمصدر تسليم .
(وسبحان) : مفعول مطلق، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضا، فلا يأتي مع الفعل، فلا تقول : سبحت الله سبحانا إلا نادرا في الشعر ونحوه.
والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من نقص، أو عيب، أم مماثلة للمخلوق، أو ما أشبه ذلك .
وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب، لأن مماثلة الناقص نقص، بل مقارنة الكامل بالناقص تجعله ناقصا ، كما قال الشاعر :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
قوله : (فما زال). إذا دخلت (ما) على زال الذي مضارعها يزال، صار النفي ثابتا مفيدا للاستمرار ، كقوله تعالى : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) (هود :118-119) .
وجملة (يسبح) : خبر زال .
قوله : (حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه) . أي : عرف أثره في وجوه أصحابه، وأنهم تأسوا بذلك، لأنهم عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شي من النقص لله تعالى، فسبح النبي صلى الله عليه وسلم ربه تنزيها له عما توهمه هذه الكلمة، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السفر إذا هبطوا واديا سبحوا، تنزيها لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم، وإذا علوا نشزا كبروا، تعظيما لله – عز وجل –(1) وأن الله تعالى هو الذي له الكبرياء في السماوات والأرض .
(67/83)
قوله : (ويحك) . ويح : منصوب بعامل محذوف، تقديره ألزمك الله ويحك.
وتارة تضاف، فيقال : ويحك، وتارة تقطع عن الإضافة، فيقال : ويحا لك، وتارة ترفع على أنه مبتدأ، فيقال : ويحه أو ويح له .
وهي وويل وويس كلها متقربة في المعنى .
ولكن بعض علماء اللغة قال : إن ويح كلمة ترحم، وويل كلمة وعيد.
فمعنى ويحك : إني أترحم لك وأحن عليك .
ومنهم من قال : كل هذه الكلمات تدل على التحذير .
فعلى معنى أن ويح بمعنى الترحم يكون قوله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ترحما لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام ، كأنه يعرف قدر الله.
قوله : (أتدري ما الله) . المراد بالاستفهام التعظيم، أي : شأن الله عظيم، ويحتمل أن المعنى : لا تدري ما الله، بل أنت جاهل به، فيكون المراد بالاستفهام النفي .
وقوله : (ما الله) . جملة استفهامية معلق ل(تدري) عن العمل، لأن درى تنصب مفعولين، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرى .
قوله : (إن شاء الله أعظم من ذلك) . أي : إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا الفظ .
قوله: ( إنه لا تستطيع بالله على أحد) أي : لا يطلب منه أن يكون شفيعا إلى أحد، وذلك لكمال عظمته وكبريائه، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول : نستشفع بالله عليك .
فإن قيل : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سأل بالله فأعطوه)(2)، وهذا دليل على جواز السؤال بالله جائزا لم يكن إعطاء السائل واجبا؟
والجواب أن يقال : إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المؤول به أدنى من مرتبة المسؤول بخلاف الاستشفاع ، بل يدل على أن مرتبة المسؤول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطي .
على أن بعض العلماء قال : (من سألكم بالله)، أي : من سألكم سؤالا بمقتضى شريعة الله فأعطوه، وليس المعنى من قال : أسألك بالله .
(67/84)
والمعنى الأول أصح، وقد ورد مثله في قول الملك: (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن )(3) .
* * *
* فيه مسائل :
* الأولى : إنكاره على من قال (نستشفع بالله عليك) تؤخذ من قوله : (سبحان الله أتدري ما الله)، وقوله : (إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) .
* الثانية : تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. تؤخذ من قوله : (فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه) ، وكونه يكرر سبحان الله هذا يدل على أنه تغير حتى عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة، وهذا يدل على أن هذه الكلمة كلمة عظيمة منكرة.
* الثالثة : أن لم ينكر عليه قوله : (نستشفع بك على الله) . لأنه قال : لا يستشفع بالله على أحد، فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: (نستشفع بك على الله)، وهذا يدل على جواز ذلك ، وهنا قاعدة هي : (إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض، دل على أن ما لم ينكر فهو حق، مثال ذلك قوله تعالى : (وإذا فعلا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الأعراف: 28) ، فأنكر قولهم : ( والله أمرنا بها)، وسكت عن قولهم : ( وجدنا عليها آباءنا) فدل على أنها حق، ومثلها عدد أصحاب الكهف، حيث قال عن قول : (ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب)، وسكت عن قول سبعة وثامنهم كلبهم) (الكهف :22) .
* الرابعة التنبيه على تفسير(سبحان الله ) . لأن قوله : (إن شاء الله أعظم) دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة .
(67/85)
* الخامسة : أن المسلمين يسألونه الاستسقاء . وهذا في حال حياته، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه، لأنه صلى الله عليه وسلم انقطع عمله بنفسه وعبادته، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه استسقى بالعباس، فقال : (اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا). وتوسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بطلبهم الدعاء منه، ولهذا جاء في بعض الروايات : أن عمر كان يأمر العباس فيقوم فيدعو .
وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي ، فقال : السلام عليكم يا رسول الله سمعت الله يقول :(و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) (النساء :64) ، وإني قد جئت مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف، قال العتبي : فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال : ياعتبى ، بشر الأعرابي أن الله قد غفر له .
فهذه الرواية باطلة لا صحة لها، لأن صاحبها مجهول، وكذلك من رواها مجهولون، ولا يمكن أن تصح، لأن الآية : (ولو أنهم إذ ظلموا) ولم يقل إذا ظلموا، و (إذا) لما مضى بخلاف (إذا) والصحابة رضى الله عنهم لما لحق بهم الجدب في زمن عمر بن الخطاب لم يستسقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما استسقوا بالعباس بن عبد المطلب بدعائه وهو حاضر فيهم(1) .
ومن فوائد الحديث :
1- أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه ، لقوله : (نهكت الأنفس ) .
2- الترحم على المذنب إذا قلنا : إن (ويح) للترحم .
(67/86)
باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمي التوحيد
وسدة طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه ؛ قال : ( انطلقت في وفد من بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيدنا فقال : ( السيد الله تبارك وتعالي ) قلنا : وأفضلنا فضلا ؛ وأعظمنا طولا ؛ فقال : (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان ). رواه أبو داوود بسند جيد.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة الباب للتوحيد :
لم تكلم المؤلف رحمه الله فيما مضى من كتابة عن إثبات التوحيد ، وعلى ذكر ما ينافيه أو ينافي كماله، ذكر ما يحمي هذا التوحيد، وأن الواجب سد طرق الشرك .
* * *
قوله : (انطلقت في وفد بني عامر) . الظاهر أن هذا الوفد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع ، لأن الوفود كثرت في ذلك العام، ولذلك يسمى عام الوفود.
قوله : (أنت سيدنا) . السيد : ذو السؤدد والشرف، والسؤدد معناه : العظمة وما أشبهه .
وسيد : صفة مشبهة على وزن فيعل ، لأن الياء الأولى زائدة .
قوله : (السيد الله) . لم يقل صلى الله عليه وسلم : سيدكم كما هو المتوقع، حيث إنه ورد على قولهم سيدنا لوجهين :
الوجه الأول : إرادة العموم المستفاد من (أل)، لأن (أل) للعموم ، والمعنى : أن الذي له السيادة المطلقة هو الله – عز و جل – ولكن السيد المضاف يكون سيدا باعتبار المضاف إليه، مثل : سيد فلان، سيد البشر، وما أشبه ذلك .
الوجه الثاني : لئلا يتوهم أنه من جنس المضاف إليه ، لأن السيد كل شي من جنسه .
والسيد من أسماء الله تعالى ، وهي من معاني الصمد، كما فسر ابن عباس الصمد بأنه الكامل في علمه وحلمه وسؤدده(2) وما أشبه ذلك .
(67/87)
ولم ينههم صلى الله عليه وسلم عن قولهم : (أنت سيدنا) ، بل أذن لهم بذلك ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان فيترقوا من السيادة الخاصة إلى السيادة العامة المطلقة . لأن سيدنا سيادة خاصة مضافة، و(السيد) سيادة عامة مطلقة غير مضافة .
قوله : (تبارك) . قال العلماء : معنى تبارك ، أي : كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون إن هذا لا يوصف به إلا الله، فلا يقال : تبارك فلان، لأن هذا الوصف خاص بالله .
وقول العامة:(أنت تباركت علينا) لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله – عز وجل -، وإنما يريدون أصابنا بركة مجئيك ، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان إذا كان أهلا لذلك، فقال أسيد بن حضير حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها : (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر(3) .
قوله : (وأفضلنا) . أي : فضلك أفضل من فضلنا .
قوله : (وأعظمنا طولا) . أي : أعظمنا شرفا و غنى ،والطول : الغنى ، قال تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) (النساء :25) ويكون بمعنى العظمة، قال تعالى : ( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول) (غافر : 3) أي : ذي العظمة والغنى .
قوله : (قولوا بقولكم أو بعض قولكم) . الأمر للإباحة والأذن كما سبق .
وقوله : (قولوا بقولكم) : يعني قولهم أنت سيدنا ، أو أنت أفضلنا، وما أشبه ذلك .
وقوله : (أو بعض قولكم ) يحتمل أن تكون شكا من الراوي ، وأن يكون من لفظ الحديث، أي اقتصروا على بعضه .
قوله : (ولا يستجرينكم الشيطان) . استجراه بمعنى : جذبه وجعله يجري معه، أي : لا يستميلنكم الشيطان ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولا منكرا، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغ أن يفعل ونهاهم عن الأمر الذي لا ينبغي أن يفعل، حماية للتوحيد من النقص أو النقض .
(67/88)
وقال في النهاية: (لا يستجرينكم الشيطان) ، أي : لا يستغلبنكم فيتخذكم جريا ، أي : رسولا ووكيلا.
وعلى التفسيرين ، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم حماية التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، والحماية من المنكر تعظم كلما كان المنكر أعظم وأكبر أو كان الداعي إليه في النفوس أشد . ولهذا تجد أن باب الشرك حماه النبي عليه الصلاة والسلام حماية بالغة حتى سد كل طريق يمكن أن يكون ذريعة إليه، لأنه أعظم الذنوب، وأيضا باب الزنا حمي حماية عظيمة، حتى منعت المرأة من التبرج وكشف الوجه وخلوتها بالرجل بلا محرم وما أشبه ذلك ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الزنا، لأن النفوس تطلبه، وفي باب الربا أيضا حمي الربا حماية عظيمة، حتى أن الرجل ليعطي الرجل صاعا طيبا من البر بصاعين قيمتها واحدة، ويكون ذلك رب محرم، مع أنه ليس فيه ظلم .
فالشرك قد يكون من الأمور التي لا تدعوا إليه النفوس كثيرا لكنه أعظم من الظلم، فالشيطان يحرص أن يوصل ابن آدم إلى الشرك بكل وسيلة، فحماه النبي صلى الله عليه وسلم حماية تامة محكمة، حتى لا يدخل الإنسان فيه من حيث لا يشعر، وهذا هو معنى الباب الذي ذكره المؤلف .
· تنبيه :
جرى شرح هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن قول سيدنا : فحاولوا الجمع بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم : (أنا سيد ولد آدم(1)، وقوله : (قوموا إلى سيدكم)(2)، وقوله في الرقيق : (وليقل سيدي ومولاي)(3) بواحد من ثلاثة أوجه :
الأول : أن النهي على سبيل الكراهة والأدب، والإباحة على سبيل الجواز
الثاني:أن النهي حيث يخشى منه المفسدة،وهي التدرج إلى الغلو والإباحة إذا لم يكن هناك محذور .
(67/89)
الثالث : أن النهي بالخطاب، أي : أن تخاطب الغير بقولك : أنت سيدي أو سيدنا، بخلاف الغائب، لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو وترفع، ثم إن فيه شيئا آخر، وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له بخلاف ما إذا جاء من الغير، مثل : (قوموا إلى سيدكم) ، أو على سبيل الغيبة، كقول العبد: قال سيدي ونحو ذلك، لكن هذا يرد عليه إباحته صلى الله عليه وسلم للرقيق أن يقول لمالكه : سيدي .
والذي يظهر لي أن لا تعارض أصلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يقولوا بقولهم ، لكن نهاهم أن يستجريه الشطان بالغلو مثل (السيد)لأن السيد المطلق هو الله تعالى ، وعلى هذا فيجوز أن يقال : سيدنا وسيد بني فلان ونحوه، ولكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلا لذلك، أما إذا لم يكن أهلا كما لو كان فاسقا أو زنديقا، فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاها، وقد جاء في الحديث : لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يكن سيد فقد أسخطتم ربكم عز وجل)(4)، فإذا كان أهلا لذلك وليس هناك محذور فلا باس به، وأما أن يخشى المحذور أو كان غير أهل، فلا يجوز .
والمحذور : هو الخشية من الغلو فيه .
قوله : (قالوا : يا رسول الله ) هذا النداء موافق لقوله تعالى : (ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) (النور : 63) أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعض ، فتقولوا : يا محمد ! ولكن قولوا : يا رسول الله ! أو يا نبي الله!
وفي الآية معنى آخر : أي إذا دعاكم الرسول ، فلا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا إن شئتم أجبتم وإن شئتم أبيتم، فهو كقوله : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال : 24) وعلى المعنى الأول تكون (دعاء) مضافة إلى المفعول، وعلى الثاني تكون مضافة إلى الفاعل.
قوله : (يا خيرنا) . هذا صحيح ، فهو خيركم نسبا ، ومقاما، وحالا.
(67/90)
قوله : (وابن خيرنا) . أي : في النسب لا في المقام والحال .
وكذلك يقال في قوله : (وابن سيدنا) .
قوله : (قولوا بقولكم ) . سبق القول فيه .
قوله لا يستهوينكم الشيطان) . أي : لا يستميلنكم الشيطان فتهووه وتتبعوا طرقه حتى تبلغوا الغلو ونظيره قوله تعالى : (كالذي استهوته الشياطين في الأرض خيران) (الأنعام :71)
قوله : 0أنا محمد عبد الله ورسوله) . محمد اسمه العلم، وعبد الله ورسوله وصفان له .
وهذان الوصفان أحسن وأبلغ وصف يتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك وصفه الله تعالى : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) (الفرقان :1) ووصفه بها في مقام الإسراء، قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (الإسراء :1) قال تعالى : (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم :10) ووصفه في نقام الدفاع عنه والتحدي ، قال تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) (البقرة :23) .
وكذلك بالنسبة للأنبياء ، كقوله تعالى : ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبد شكورا) (الإسراء :3) وهذه العبودية خاصة، وهي أعلى أنواع الخاصة .
والعبودية لله من أجل أوصاف الإنسان، لأن الإنسان إما أن يعبد الله أو الشيطان، قال تعالى : (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين* وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) ( يس : 60 –61) قال ابن القيم :
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان
وقال الشاعر :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
(67/91)
قوله : (ورسوله) . أي : المرسل من عنده إلى جميع الناس، كما قال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الأعراف :158) . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة الطبقات الصالحة، قال تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك في قمة الطبقات الصالحة، قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ( النساء : 69) والنبيون فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل هو أفضلهم ،ومن عبارة المؤلف رحمه الله في الرسول صلى الله عليه وسلم : (عبد لا يعبد ، ورسول لا يكذب)
وقد تطرف في الرسول صلى الله عليه طائفتان :
- طائفة غلت فيه حتى عبدته،وأعدته للسراء والضراء، وصارت تعبده وتدعوه من دون الله .
- وطائفة كذبته، وزعمت أنه كذاب، ساحر ، وشاعر، مجنون ، كاهن، ونحو ذلك.
وفي قوله : (عبد الله ورسوله) رد على الطائفتين .
في قوله تعالى : (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ) . (ما) نافية و(إن) وما دخلت عليه تأويل مصدر مفعول أحب ، أي : ما أحب رفعتكم إياي فوق منزلتي، لا في الألفاظ، ولا في الألقاب، ولا في الأحوال .
قوله (التي أنزلني الله) . يستفاد منه أن الله تعالى هو الذي يجعل الفضل في عبادة ، و ينزلهم منازلهم .
* مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن التوحيد يجب أن يحمى من كل وجه حتى في الألفاظ، ليكون خالصا من كل شائبة .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : تحذير الناس من الغلو . تؤخذ من قوله : (ولا يستجرينكم الشيطان) ووجه : أن الرسول جعل هذا من استجراء الشيطان، والإنسان يجب عليه أن يحذر كل ما كان من طرق الشيطان .
* الثانية ما ينبغي أن يقول من قيل له : (أنت سيدنا) . وتؤخذ من قوله : (السيد الله) فينبغي أن يقول من قيل له ذلك : (السيد الله) .
(67/92)
* الثالثة : قوله : (لا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. ظاهر كلام المؤلف أن هذا من استجراء الشيطان، فهذه الكلمة يحتمل أن معناها أن ما قلتم من أستجراء الشيطان .
ويحتمل أن المعنى : قولوا بهذا القول، ولكن إياكم أن تغلوا، فإن هذا من استجراء الشيطان، وهذا ظاهر الحديث كما سبق .
* الرابعة : قوله : (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي) . أي : إني أكره أن ترفعوني فوق منزلتي) أي : إني أكره أن ترفعوني فوق منزلتي ، وهي العبودية والرسالة، ففيها تواضعه صلى الله عليه وسلم .
* * *
باب ما جاء في قوله تعالى :
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(الزمر: من الآية67)
ـــــــــــــــــــــــ
قوله : (وما قدروا) . الضمير يعود على المشركين، و(قدروا) : عظموا، أي : ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته .
قوله : (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) . يحتمل أن تكون الواو للحال، أي : ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال .
ويحتمل أن تكون للاستئناف ، لبيان عظمة الله – عز وجل - ، وهذا أقوى ، لأنه يعم هذه الحال وغيرها .
والقبضة : هي ما يقبض باليد، وليس المراد بها الملك كما قيل، نعم، لو قال : الأرض في قبضته، لكان تفسيرها بالملك محتملا .
قوله(جميعا) . حال من الأرض ، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها، الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه، قال الله – عز وجل: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده) (الأنبياء : 104) .
قوله: ( سبحانه وتعالى ) . هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال : (وتعالى)، أي : ترفع .
قوله:(عما يشركون).أي : عن كل شرك يشركون به، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس .
(67/93)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ! إنا نجد ان الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع ، والشجر على أصبع ، والثري على أصبع
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله (حبر) . الحبر هو العالم الكثير العلم، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف، ولهذا كان العالم أحيانا يسمى بالحبر و أحيانا بالبحر .
قوله : (إنا نجد) أي : في التوراة.
قوله : (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) . ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكارا، لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه، لكنه قال : ( تصديقا لقول الحبر) فكانت إقرارا لا غير، ويدل ذلك قوله : ثم قرأ : (وما قدروا الله حق قدره ...)الآية، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله، فضحكة واستشهاده تقرير لقول الحبر، وسبب الضحك هو سروره، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه، لأنه لا شك أنه جاء ما يصدق القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يسر به، وإن كان الرسول يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله، لكن تضافر البينات مما يقوي الشي، أرأيت أسامة بن زيد وأبوه زيد بن الحارثة؟ هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم شك في أن أسامة ابنٌ لزيد ؟
الجواب : ليس عنده شك في ذلك، ولما مر بهما مجزر المدلجي – وهو من أهل القيافة – وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما ، فنظر إلى أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم سرورا
وسائر الخلق على أصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتي بدت نواجذه ؛ تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(الزمر: من الآية67) الآية متفق عليه (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
(67/94)
عظيما حتى دخل على عائشة مسرورا تبرق أسارير وجهه ،
وقال : (ألم ترى أنه مجزرا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال : أن هذه الأقدام بعضها من بعض(2)، فالمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل تبرق أسارير وجهه، لأن في ذلك تأييدا للحق، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما ، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض، لكن الأمر ليس كما قالوا، بل هم كاذبون في ذلك، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوى ، فلعل المخالف في اللون نزعة عرق .
قوله : (أصبع) . واحدة الأصابع، وهي مثلثة الأول والثالث، ففيها تسع لغات ، والعشر أصبوع، وفي هذا يقول الناظم :
وهمز أنملة ثلث وثالثة التسع في أصبع واختم بأصبوع
قوله : (أنا الملك) . هذه الجملة تفيد الحصر، لأنها اسمية معرفة الجزئين، ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد ، قال تعالى : (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (غافر :16) وكان الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلا ، وبهذا يظهر ملكوت الله – عز وجل – في ذلك اليوم ظهورا بينا ، لأنه سبحانه 0 ينادي : لمن الملك اليوم، فلا يجيب أحد ، فيجيب نفسه : (الله الواحد القهار) .
وقوله : (الملك) . أي : ذو السلطان، وليس مجرد المتصرف، بل هو المتصرف، بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو، وأما (المالك) فدون ذلك،ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك، وقوله تعالى : (مالك يوم الدين) (الفتحة :4) فيها قراءتان : (ملك، ومالك) ، ليتبن بذلك أنه ملك مالك .
فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدابير والملك، بخلاف غيره، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكا لا يملك التصرف، ومنهم المالك وليس بملك .
وقوله : (حتى بدت نواجذه) . أي : ظهرت ، ونواجذ : جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس .
(67/95)
وهذا الضحك من النبي صلى الله عليه وسلم تقرير لقول الحبر، ولهذا قال ابن مسعود : (تصديقا لقول الحبر) ولو كان منكرا ما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ولا استشهد بالآية، ولقال له : كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذي يزني لا يرجم، ولكنه ضحك تصديقا لقول الحبر سرورا بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : ثم قرأ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا في قبضته...)الآية .
هذا معنى الآية التي لا تحتمل غيره،وأن السماوات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه، أي : تبارك وتعالى ، لأن ذلك تفسيره صلى الله عليه وسلم، وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة .
وأما تفسير أهل التحريف ، فيقول بعضهم : (قبضته)، أي : في قبضته وملكه وتصرفه، وهو خطأ، لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله .
قول بعضهم : (السماوات مطويات) ، أي : تالفة وهالكة، كما تقول انطوى ذكر فلان، أي : زال ذكره .
و(بيمينه) ، أي : بقسمه، لأن الله تعالى : (كل من عليها فان* ويبقى وجه ربك) ( الرحمن : 26-27) فجعلوا المراد باليمين القسم ... إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف، وهذا لظنهم الفاسد بالله، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل، فصاروا ينكرون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججا .
فيقال لهم : هل أنتم أعلم بالله من الله؟
إن قالوا : نعم، كفروا، وإن قالوا لا، خُصموا، وقلنا لهم : إن الله بين ذلك ابلغ بيان بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية، وهل أنتم أنصح من الرسول صلى الله عليه وسلم لعباد الله؟ فسيقولون : لا .
(67/96)
فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام ، واصدقه، وأبينه، وأعلم بما يقول ، لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه، ولسنا بمذنبين، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقته التي أراده الله بها .
* ومن فوائد الحديث : إثبات الأصابع لله – عز وجل – لإقراره صلى الله عليه وسلم هذا الحبر على ما قال .
والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله – عز وجل - ، كاليد، وليس المراد بقوله (على إصبع) سهولة التصرف في السماوات والأرض، كما يقوله أهل التحريف، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ و التقسيم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك بإقراره، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن )(1).
وقوله : (بين أصبعين) لا يلزم من البينة المماسة، ألا ترى قوله تعالى : (والسحاب المسخر بين السماء والأرض)(البقرة:164) والسحاب لا يمس الأرض ولا السماء وهو بينهما، ونقول: عنيزة بين الزلفي والرس ، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما ، وتقول : شعبان بين ذي القعدة وجمادى، ولا يلزم أن يكون مواليا له، فتبين أن البينة لا تسلتزم الاتصال في الزمن أو المكان، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الله – سبحانه وتعالى – يكون قبل وجه المصلي (2)ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلي عليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك: الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون وجهك وهي في العلو .
فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال، وأن من قال : إن طريقتهم أعلم وأحكم ، فقد ضل .
ومن المشهور عندهم قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر، فهو :
(67/97)
أولا : فيه تناقض، لأنهم قالوا : طريق السلف أسلم ، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم و أحكم ، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم ، فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب .
ثانيا : أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل ؟
ثالثا : يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن طريقة السلف هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم .
رابعا : أنه قد تصل الكفر، لأنها تستلزم تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم وتسفيهه، فتجهيله ضد العلم، وتسفيهه ضد الحكمة، وهذا خطر عظيم .
فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معنى صحيحا ، لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها، فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذي ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : (هلك المتنطعون)(3)، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمنى أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال، ويقول بعضهم : ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور .
وهذا من شدة ما وجدوا من الشك والقلق والحيرة، ولا ظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبدا، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة، وإلا ابتلى بالشك والقلق والحيرة، وقال بعضهم : أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام، وما بالك – والعياذ بالله – بالشك عند الموت، يختم للإنسان بضد الإيمان .
(67/98)
لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهولة وبما جرى عليه السلف، نقول كما قال الراوي وهو من علمائهم ورؤسائهم : رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات : (الرحمن على العرش استوى) (طه :5) ، يعني : فأثبت في النفي : (ليس كمثله شي) (الشورى: 11) (ولا يحيطون به علما) (طه 110) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي،لأنه أقر قبل هذا الكلام، فقال:لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رايتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن .
والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله – عز و جل – اعتمادا على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالا مبينا، فالصحابة رضى الله عنهم هل ناقشوا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به إنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته، لكن يعلمون أن الله لا مثل له : فيجمعون بين الإثبات وبين النفي .
إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه الأصابع لله – عز وجل – نقر به ونقبله، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معنى فنكون بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل نقرؤه ونقول : المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا : إنه مثل أصابعنا ، بل نقول : المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو نقول بألسنتنا : إنه مثل أصابعنا ، بل نقول الله أعلم بكيفية هذه الأصابع ، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة، فكذلك لا نعلم كيفية صلاته، بل نكل علمها إلى الله – سبحانه وتعالى -.
قوله وفي رواية لمسلم : ( والجبال والشجر على أصبع ثم يهزهم فيقول أنا الملك أنا الله )(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
(67/99)
قوله (ثم يهزهن) . أي هزا حقيقيا، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرا هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها ، فصار المنبر يتحرك ويهتز(2) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى .
فإن قلت هل نفعل أيدينا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب : إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه، فليس كل من شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل ، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول : يجب علينا ان نبلغ كما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة ، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم .
فلو قال قائل:إن الله سميع بصير، لكن قال:سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) (النساء : 58) وضع إبهامه على أذنه والتى تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك(3) ، فهذا الإنسان الذي يقول : إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر نقول له هكذا .
وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول : إن الله لا يقبض السماوات بيمينه، وأن معنى قبضته، أي : في تصرفه، فهذا نقول له كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالمقام ليس بالأمر السهل، بل هو أمر صعب دقيق للغاية، فإنه يخشى من أن يقع أحد في المحذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شي أشد ضررا، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثا (2).
(67/100)
قوله: ( والماء والثرى على إصبع) . هذا لا ينافي قوله (الأرضين على إصبع)، لأنه يقال (الماء والثرى على إصبع) أي : الأرض كلها على إصبع، ويراد بالإصبع الجنس،وإلا لتناقض مع معنى الحديث الذي قبله: (الشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع)، إذ النكرة إذا كررت بلفظ النكرة، فالثاني غير الأول غالبا، وإذا كررت بلفظ المعرفة، فالثاني هو الأول غالبا، فيقال : الماء والثرى كناية على الأرض كلها، أو أن الماء والثرى على إصبع وسكت عن الباقي ، إما اختصار أو اقتصار .
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا : ( يطوي الله السموات يوم القيامة ، ثم ياخذهن بيده اليمني ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين السبع ، ثم ياخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك ، اين الجبارون ؟ أين المتكبرون ) (1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا : (يطوي الله السماوات ...) سبق معنى هذا الحديث، وأن المراد بالطي الطي الحقيقي .
قوله : (ثم يقول : أنا الملك). يقول ذلك ثناء على نفسه – سبحانه وتعالى وتنبيها على عظمته الكاملة وعلى ملكه الكامل، وهو السلطان، فهو مالك ذو سلطان، وهذه الجملة كلا جزأيها معرفة، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فإن ذلك من طرق الحصر، أي : أنا الذي لي الملكية المطلقة والسلطان التام لا ينازعني فيهما أحد.
قوله : (أين الجبارون؟ ). الاستفهام للتحدي، فيقول : أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والتجبر والتكبر على عباد الله؟ وفي ذلك الوقت يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم .
(67/101)
قوله : (يطوي الأرضين السبع). أشار الله في القرآن إلى أن الأرضين سبع، ولم يرد العدد صريحا في القرآن، قال تعالى : (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن)(الطلاق : 12) ، والمماثلة هنا لا تصح إلا في العدد، لأن الكيفية تتعذر المماثلة فيها، وأما السنة، فقد صرحت بعدة أحاديث بأنه سبع .
قوله : (ثم يأخذهن بشماله) . كلمة( شمال) اختلف فيها الرواة، فمنهم من أثبتها ، ومنهم من أسقطها، وقد حكموا على من أثبتها بالشذوذ ، لأنه خالف ثقتين في روايتها عن بن عمر . .
ومنهم من قال : إن ناقلها ثقة، ولكنه قالها من تصرف.
وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في (صحيح مسلم) : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) (2)، وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال .
ولكن إذا كانت لفظة (شمال) محفوظة، فهي عندي لا تنافي( كلتا يديه يمين)لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال : (كلتا يديه يمين) أي ليست فيه نقص، ويؤيد هذا في قوله في حديث آدم :(اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة)(3) فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال، يعني : النقص في هذه اليد دون الأخرى،
قال : (كلتا يديه يمين) ، ويؤيده أيضا قوله : (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن)، فإن المقصود بيان فضل مرتبتهم ، وانهم على يمين الرحمن – سبحانه - .
وعلى كل ، فإن يديه – سبحانه – اثنتان بلا شك ، وكل واحدة غير الأخرى، وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمنى، بل كلتا يديه يمين .
والواجب علينا أن نقول : إن ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنحن نؤمن بها، ولا منافاة بينها وبين قوله : (كلتا يديه يمين) كما سبق، وإن لم تثبت، فلن نقول بها .
(67/102)
وروي عن ابن عباس ؛ قال : ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ) (1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
***
قوله : (في كف الرحمن) هكذا ساقه المؤلف، والذي في ابن جرير(في يد الله)، ففيما ساقه المؤلف لإثبات الكف لله تعالى، إن كان السياق محفوظا وإلا ففيه إثبات اليد. أما الكف فقد ثبت في أحاديث أخرى صحيحة . قوله : (إلا كخردلة) . هي حبة نبات صغيرة جدا، يضرب بها المثل في الصغر والقلة، وهذا يدل على عظمته – سبحانه - ، وأنه - سبحانه – لا يحيط به شي، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفهام .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، اخبرنا ابن وهب : قال : قال ابن زيد : حدثني أبي ؛ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس .)
قال : وقال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : ( ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض )(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
***
قوله : (قال بن جرير) . هو المفسر المشهور رحمه الله، وله تفسير أثرى يعتمد فيه على الآثار، لكن آفته أنه لم يمحص هذه الآثار، وأتى بالصحيح والضعيف وما دون الضعيف موكولا إلى القاري، وربما كان يريد أن يرجح إليه مرة ثانية ويمحصه، ولكنه لم يتيسر ذلك .
قوله : (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدارهم سبعة ألقيت في ترس) . الكرسي : موضع قدمي الله تعالى، هكذا قال بن عباس رضى الله عنهما، والدراهم : جمع درهم ، وهو النقد من الفضة، والترس : شي من جلد أو خشب يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما .
(67/103)
قوله : (ما الكرسي في العرش) . أي : بالنسبة إليه، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوى عليه الرحمن، ولا يقدر قدره إلا الله – عز وجل - ، والمراد بالحلقة حلقة الدرع، وهي صغيرة وليست بشي بالنسبة إلى فلاة الأرض .
وهذا الحديث يدل على عظمته عز وجل ، فيكون مناسبا لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب .
وعن ابن مسعود قال : ( بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء خمس مئة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم ) . أخرجه ابن مهدي
ــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : ( وعن ابن مسعود) . هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها ، فيكون له حكم الرفع، لأن ابن مسعود رضى الله عنه لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيلات .
قوله (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام) . وعلى هذا تكون المسافة بين السماء الدنيا والماء أربعة آلاف سنة، وفي حديث آخر: (إن كثف كل سماء خمسمائة عام))(3) ، وعلى هذا يكون بين السماء الدنيا والماء سبعة آلاف وخمسمائة ، وإن صح الحديث، فمعناه أن علو الله 0 عز وجل – بعيد جدا.
فإن قيل : يرد على هذا ما ذكره المعاصرون اليوم من أن بيننا وبين بعض النجوم والمجرات مسافات عظيمة؟
يقال في الجواب : إنه إذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنا نضرب بما عارضها عرض الحيط، لكن إذا قدر أننا رأينا الشي بأعيننا، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد الأمرين :
الأول : محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع .
(67/104)
الثاني : إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث، لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئا حسيا واقعا أبدا، كما قال شيخ الإسلام في كتابه (العقل والنقل) : (لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبدا، لأن تعارضهما يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين، وهذا مستحيل، فإن ظن التعارض بينهما، فإما أن لا يكون تعارض ويكون الخطأ من الفهم، وأما أن يكون أحدهما ظنيا والآخر قطعيا) .
فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفا لظاهر شي من الكتاب أو السنة، فإن ظاهر الكتاب يؤول حتى يكون مطابقا للواقع ، مثال ذلك قوله تعالى : (تبارك الذي جعل في السماء
بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) (الفرقان :61)وقال تعالى : (وجعل القمر فيهن نورا) (نوح : 16) ، أي في السماوات .
والآية الثانية أشد إشكالا من الآية الأولى ، لأن الآية الأولى يمكن أن نقول : المراد بالسماء العلو، ولكن الآية الثانية هي المشكلة جدا ، والمعلوم بالحس المشاهد أن القمر ليس في السماء نفسها، بل هو في فلك بين السماء والأرض .
والجواب أن يقال : إن كان القرآن يدل على أن القمر مرصع في السماء كما يرصع المسمار في الخشبة دلاله قطعية ، فإن قولهم : إننا وصلنا القمر ليس صحيحا ، بل وصلوا جرما في الجو ظنوه القمر .
لكن القرآن ليس صريحا في ذلك، وليست دلالته قطعية في أن القمر مرصع في السماء، فآية الفرقان قال الله فيها : (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيه سراجا وقمرا منير)، فيمكن أن يكون المراد بالسماء العلو، كقوله تعالى : (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (البقرة : 164)، وهذا التأويل للآية قريب .
وأما قوله : (وجعل القمر فيهن نورا)، فيمكن فيه التأويل أيضا بأن يقال : المراد لقوله : (فيهن) : في جهتين، وجهة السماوات العلو، وحينئذ يمكن الجمع بين الآيات والواقع .
(67/105)
قوله : (والله فوق العرش) . هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوا ذاتيا وعلو الله ينقسم إلى قسمين :
أ – علو الصفة ، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله، كما قال تعالى:(للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم)(النحل:60)
ب – علو الذات ، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام فيقولون : كل العلو الوارد المضاف إلى الله المراد به علو الصفة، فيقولون في قوله صلى الله عليه وسلم : (والله فوق العرش)، أي : في القوة والسيطرة والسلطان وليس فوقه بذاته .
ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل الصفات.
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين :
أ – من قال : إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لاشك ضلال مقتض للكفر.
ب – من قال : إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله ، ولهذا قال بعض العلماء : لو قيل لنا صفوا العدم، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف .
ففروا من شي دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شي تنكره النصوص والعقول والفطر.
قوله : (لا يحفى عليه شي من أعمالكم) . يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح المرئي منه والمسموع، وذلك لعموم علم وسعته، وإنما أتى بذلك بعد ذكر علوه ليبين أن علوه لا يمنع علمه بأعمالنا، وهو إشارة واضحة إلى علو ذاته تبارك وتعالى .
وعن العباس بن عند المطلب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : بينهما مسيرة خمسمائة عام ومن كل سماء إلى سماء مسيرة
ــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله : (العباس) . يقال العباس، وعباس، و(أل) هنا لا تفيد التعريف، لأن عباس معرفة لكونه علما، لكنها للمح الأصل، كما يقال : الفضل لفضله، والعباس لعبوسه على الأعداء ، قال ابن مالك :
(67/106)
وبعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنده نُقلا
وقوله : (هل تدرون) . (هل) : استفهامية يراد بها أمران :
أ – التشويق لما سيذكر .
ب – التنبيه إلى ما سيلقيه عليهم ، وهذا قوله تعالى : (هل أتاك حديث الغاشية) (الغاشية : 1) ، هذا تنبيه وتشويق إلى شي من آيات الله الكونية .
وقوله تعالى : (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) (الصف : 10)، هذا تنبيه و تشويق على شي من آيات الله الشرعية وهو الإيمان والعمل الصالح.
وقوله : (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) (الكهف :103) تنبيه وتحذير .
وقوله : ( هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) (المائدة :6) تنبيه وتحذير .
واختلاف هذه المعاني بحسب القرائن والسياق، وإلا فالأصل في الاستفهام أنه طلب العلم بالشي.
خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله : (كم) . استفهامية .
قوله : ( قلنا : الله ورسوله أعلم) . جاء بالعطف بالواو، لأن علم الرسول من علم الله، فهو الذي يعلمه بما لا يدركه البشر .
وكذلك في المسائل الشرعية يقال : الله ورسوله أعلم، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بشرع الله،وما قاله صلى الله عليه وسلم في الشرع فهو كقول الله وليس هذا كقوله : (ما شاء الله وشئت)(2)، لأن هذا في باب القدر والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مشاركا في ذلك، بل يقال : ما شاء الله، ثم يعطف ب(ثم) والضابط في ذلك أن الأمور الشرعية يصح فيها العطف بالواو، وأما الكونية ، فلا .
(67/107)
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب على بعض الأعمال : (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله؟) (التوبة : 105) بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وتعذر رؤيته، فالله يرى، ولكن رسوله لا يرى، فلا تجوز كتابته لأن كذب عليه صلى الله عليه وسلم. قوله : (خمسمائة سنة) . اليوم الثانية في خمسمائة مكسورة والألف لا ينطق بها .
قوله : (وبين السماء السابعة والعرش بحرا بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض) وذلك خمسمائة سنة.
قوله : (والله تعالى فوق ذلك) . هذا دليل على العلو العظيم لله عز وجل – وأنه- سبحانه – فوق كل شي ولا يحيط به شي من مخلوقاته ، لا السماوات ولا غيرها، وعليه ، فأنه – سبحانه – لا يوصف بأنه في جهة تحيط به، لأن ما فوق السماوات والعرش عدم، ليس هناك شي حتى يقال : لإن الله أحاط به شي من مخلوقاته.
ولهذا جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون : لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقا، وينكرون العلو ظنا منهم في إثبات الجهة يستلزم الحصر.
وليس كذلك ، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله، ولا يحيط به شي من مخلوقاته أبدا .
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيا وإثباتا فلا نقول به، لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، لكن نفصل ، فنقول : إن الله في جهة العلو، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للجارية: (أين الله؟) وأين يستفهم بها عن المكان، فقالت في السماء.
فأثبت ذلك، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم،وقال : (أعتقها، فإنها مؤمنة)(2).
وأهل التحريف يقولون : (أين) بمعنى (من) ، أي : من الله؟ قالت في السماء، أي : هو من في السماء، وينكرون العلو .
وقد رد عليهم ابن القيم رحمه الله في كتبه ومنها (النونية) ، وقال لهم : اللغة العربية لا تأتي فيها(أين) بمعنى (من)، وفرق بين (أين) و(من) .
(67/108)
فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلا وسمعا، وليست جهة علو تحيط به، لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه، فكيف يحيط به تعال شي من مخلوقاته؟!
فهو في جهة علو لا تحيط به، و لا يمكن أن يقال : إن شيئا يحيط به، لأننا نقول : إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله – سبحانه – ولهذا قال : (والله تعالى فوق ذلك ) .
قوله : (وليس يخفى عليه شي من أعمال بني آدم ) . وقوله : (أعمال) إن قرنت بالأقوال صار المراد بها : أعمال الجوارح، والأقوال للسان، وإن أفردت شملت أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأعمال القلوب، وهي هنا مفردة، فتشمل كل ما يتعلق باللسان والقلب والجوارح ، بل أبلغ من ذلك أنه لا يخفي عليه شيئا من أعمال بني آدم في المستقبل، فهو يعلم ما ]يكون فضلا عما كان، قال تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) (طه :110) ، أي : ما يستقبلونه وما مضى عليهم، ولما قال فرعون لموسى : (فما بال القرون الأولى ) ، أي : ما ِشأنها؟ (علمها عند ربي في كتاب) ، أي : محفوظة، (لا يضل ربي) : لا يجهل، (ولا ينسى) (طه : 52،51) : لا يذهل عما مضى – سبحانه وتعالى .
والنبي صلى الله عليه وسلم صدر هذا الأمر بهل الدالة على التشويق والتنبيه من أجل أن يثبت عقيدة عظيمة، وهو أنه تعالى فوق كل شي بذاته، وأنه محيط بكل شي علما، لقوله : (وليس يخفى عليه شي من أعمال بني آدم) ، فإذا علمنا ذلك، أوجب لنا تعظيمه والحذر من مخالفته، لأنه فوقنا ، فهو عال علينا، وأمره محيط بنا.
وفي الحديث صفتان لله : ثبوتية، وهي العلو المستفاد من قوله: (والله فوق ذلك) .
(67/109)
وسلبية المستفادة من قوله : (ليس يخفى عليه شي من أعمال بني آدم) ، ولا يوجد في صفات الله – عز وجل – صفة سلبية محضة، بل صفاته السلبية التي هي النفي متضمنة لثبوت ضدها على وجه الكمال، فينفى عنه الخفاء لكمال علمه، وينفى عنه اللغوب لكمال قوته، وينفى عنه العجز لكمال قدرته، وما أشبه ذلك .
فإذا نفى الله عن نفسه شيئا من الصفات، فالمراد انتفاء تلك الصفة عنه لكمال ضدها، كما قال تعالى : (لا تأخذه سنة ولا نوم) (البقرة :255) السنة : النعاس، والنوم: الإغفاء العميق، وذلك لكمال حياته وقيوميته، إذ لو كان ناقص الحياة لاحتاج إلى النوم ، ولو نام ما كان قيوما على خلقه، لأنه حين ينام لا يكون هناك من يقوم عليهم ، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكامل حياتهم، ولأن النوم في الجنة يذهب عليهم وقتا بلا فرح ولا سرور ولا لذة، لأن السرور فيها دائم ، ولأن النوم هو الوفاة الصغرى، والجنة لا موت فيها .
وليس في صفات الله نفي محض، لأن النفي المحض عدم لا ثناء فيه ولا كمال، بل هو لا شي، ولأن النفي أحيانا يرد لكون المحل غير قابل له، مثل قولك : الجدار لا يظلم .
وقد يكون نفي الذم ذما، كما في قول :
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فنفي الغدر عنهم والظلم ليس مدحا، بل ذم ينبي عن عجزهم وضعفهم .
وقال آخر :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شي وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا شنوا لا غارة ركبانا وفرسانا
فنفي أن يكون يد في الشر ، بين أن ذلك لعجزهم عن الانتصار لأنفسهم، وتمنى أن يكون له قوم خير منهم وأقوى .
* * *
فيه مسائل :
(67/110)
* الأولى : تفسير قوله تعالى : (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) . وقد تقدم من حديث ابن مسعود، حيث أقر النبي صلى الله عليه وسلم الحبر على أن الله يجعل السماوات على إصبع ... إلخ .
* الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكرونها ولم يتأولوها . كأنه يقول : أن اليهود خير من أولئك المحرفين لها، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا : ليس لله أصابع، وإن المراد بها القدرة، فكأنه يقول : اليهود خير منهم في هذا وأعرف بالله .
* الثالثة : أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقة، ونزل القرآن بتقرير ذلك. ظاهر كلام المؤلف بقوله : (ونزل القرآن) أنه بعد كلام الحبر، وليس كذلك، لأنه في حديث ابن مسعود قال : ثم قرأ قوله : (وما قدروا الله حق قدره) ، وهذا يدل على أن الآية نزلت من قبل، لكن مراد المؤلف أن القرآن قد نزل بتقرير ذلك .
* الرابعة : وقوع الضحك من الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم .
ففيه دليل على جواز الضحك في تقرير الأشياء،لأن الضحك يدل على الرضا وعدم الكراهة .
* الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى . وقد ثبتت اليدان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع السلف .
وقوله : (في الأخرى) لا يعني أنه ينفي ذكر الشمال لما ذكره في المسألة التالية، وهي :
* السادسة : التصريح بتسميتها الشمال . وقد سبق الكلام على ذلك .
* السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. ووجه ذكرهم أنه إذا كان لهم تجبر وتكبر الآن، فليقوموا بذلك .
* الثامنة : قوله : (كخردلة في كف أحدهم) . يعني بذلك قوله في الحديث ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدهم)، هكذا قال المؤلف
(67/111)
رحمه الله (في كف أحدهم)، وقد ساق الأثر بقوله (كخردلة في يد أحدكم) ، وانظر (ص 376) وكلامنا على الأثر هناك .
* التاسعة : عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء . حيث ذكر أنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس .
* العاشرة : عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي . لأنه جعل الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض بالنسبة للعرش .
* الحادية عشر : أن العرش غير الكرسي والماء . ولم أر من قال : ( إن العرش هو الماء لكن هناك من قال إن العرش هو الكرسي، لحديث : (إن الله يضع كرسيه يوم القيامة)(1) وظنوا أن هذا الكرسي هو العرش .
وكذلك زعم بعض الناس إن الكرسي هو العلم، فقالوا في قوله تعالى : (وسع كرسيه السماوات والأرض)، أي : علمه .
والصواب : أن الكرسي موضع القدمين، والعرش هو الذي استوى عليه الرحمن – سبحانه - ، والعلم صفة في العالم يدرك بها المعلوم .
* الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء . وهو الخمسمائة عام
* الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي . وهو الخمسمائة عام .
* الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء. وهو الخمسمائة عام .
* الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء . وهي ظاهرة .
* السادسة عشرة : أن الله فوق العرش . وهي ظاهرة .
* السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض . وهو خمسمائة عام .
* الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمسمائة سنة .
* التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة . وقد سبق الكلام على جميع هذه المسائل بأدلتها .
ويستفاد من أحاديث الباب :
1. أن الله لا يخفى عليه شي من أعمال بني آدم .
2. التحذير من مخالفة الله – عز وجل - .
والله اعلم ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وأسال الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد ، آمين .
---
(1) تقدم (ص 625) .
(67/112)
(2) البخاري : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الأقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم : كتاب الفضائل / باب توقيره صلى الله عليه وسلم .
(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وهو مشهور عند أهل العلم لكن فيه ضعف .
(1) البخاري : كتاب الطب / باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم : كتاب السلام / باب الطاعون والطيرة .
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب (فأما من أعطى وأتقى) ، ومسلم : كتاب القدر / باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه .
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان والإسلام .
(1) تقدم (ص 977) .
(1) مسلم : كتاب الجنة / باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة .
(1) مسلم كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .
(1) تقدم (ص 1002) .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (5/317)، والترمذي (2156) .
(2) مسلم كتاب الذكر والدعاء / باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (5/317) .
(1) ابن وهب في القدر(26) .
(2) البخاري : كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار، ومسلم : كتاب الإيمان / باب معرفة طريق الرؤية .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/ 178)، وصححه أحمد شاكر (6668) .
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب تفسير سورة (لم يكن)، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل أُبيّ .
(2) الإمام أحمد في (المسند) (1/26)، والحاكم صححه ، ووافقه الذهبي (3/ 295) .
(3) البخاري : كتاب فضائل القرآن / باب جمع القرآن .
(4) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب مناقب عمار وحذيفة .
(5) تقدم (ص 985)
البخاري : كتاب فضائل القرآن / باب جمع القرآن .
البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب مناقب عمار وحذيفة .
تقدم (ص 985)
(1) تقدم (ص 1006)
(2) البخاري : كتاب التوحيد / باب وكان عرشه على الماء .
(67/113)
(3) البخاري كتاب الحيض / باب لا تقضي الحائض الصلاة، ومسلم : كتاب الحيض/ باب وجود قضاء الصوم على الحائض .
(1) البخاري : كتاب اللباس/ باب نقض الصور، وسلم : كتاب اللباس والزينة / باب تحريم تصوير صور الحيوان .
(1) البخاري : كتاب اللباس / باب من كره القعود على الصور ، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صور الحيوان .
(2) جزء من الحديث السابق .
(2) تقدم (ص 1023) .
(3) البخاري : كتاب اللباس / باب من صور صورة ...، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة حيوان .
(1) البخاري كتاب اللباس / باب ما وطي من التصاوير، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان
(2) البخاري : كتاب العمرة/ باب السفر قطعة من العذاب، ومسلم : كتاب الإمارة / باب السفر قطعة من العذاب .
(3) البخاري : كتاب الجنائز / باب ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم : كتاب الجنائز / باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه . (5)
(1) مسلم كتاب اللباس / باب تحريم صور الحيوان .
(1) تقدم تخريجه ص 1029 .
(1) مسلم : كتاب الجنائز / باب الأمر بتسوية القبر .
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب بعث على بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن ، ومسلم: كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام .
(2) الإمام أحمد في (المسند) (2/ 305) .
(3) تقدم تخريجه ( ص 424) .
(1) البخاري : كتاب اللباس/ باب من كره القعود على الصور/ ومسلم : كتاب اللباس / تحريم تصوير الحيوان .
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب الكفارة قبل الحنث وبعده، ومسلم : كتاب الإيمان / باب ندب من حلف يمينا فرأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير .
(1) البخاري : كتاب البيوع / باب يمحق الله الربا ، ومسلم كتاب المساقاة / باب النهي عن الحلف في البيع .
(2) الإمام احمد في (المسند) (2/235،243،413) .
(1) الطبراني في الكبير (6111) والصغير (821) .
(67/114)
(2) البخاري : كتاب المحاربين / باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت .
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب تحريم الكبر .
(2) تقدم (ص 930) .
(3) البخاري : كتاب الإيمان / باب قوله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) ،ومسلم : كتاب اللإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة .
(1)البخاري كتاب فضائل الصحابة / باب فضائل اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم : كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم .
(2) تقدم تخريجه في الحديث قبله .
(2) البخاري : كتاب المناقب / باب صفة النبي صلى اله عليه وسلم .
(1) مسلم كتاب الأقضية / باب خير الشهود .
(1) البخاري: كتاب الشهادات / باب لا يشهد على جور ، ومسلم: كتاب كتاب فضاءل الصحابة / باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم .
(1) البخاري : كتاب الحدود / باب كراهة الشفاعة في الحد ، ومسلم : كتاب الحدود / باب قطع السارق الشريف .
(1) مسلم : كتاب الأمارة / باب وجوب الوفاء ببيعه الخلفاء .
(1) أب داود : كتاب الجهاد / باب دعاء المشركين .
(2) البخاري : كتب المغازي / باب غزوة أوطاس .
(3) البخاري : كتاب الإيمان / باب أمور الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان عدد شعب الإيمان .
(1) مسلم : كتاب الجهاد / باب تأمير الإمام والأمراء .
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب (فإن تابوا وأقاموا لصلاة)، ومسلم : كتاب : الإيمان باب الأمر بقتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .
(2) البخاري : كتاب الاعتصام /باب أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم : كتاب الأقضية / باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد .
(1) البخاري : كتاب الصلح / باب الصلح في الدية، ومسلم : كتاب القسامة / باب لإثبات القصاص في الأسنان .
(1) مسلم كتاب البر والصلة باب النهي عن تقنيط الإنسان رحمة الله
(67/115)
(2) البخاري : كتاب الجهاد / باب قله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا) ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنة للشهيد .
(3) مسلم : كتاب البر والصلة / باب فضل الضعفاء .
(1) يأتي (ص 1090) .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (5/ 2 ،4) ، وأبو داود : كتاب الزكاة / باب زكاة السائمة، والنسائي : كتاب الزكاة / باب عقوبة مانع الزكاة / باب عقوبة مانع الزكاة، والحاكم (1/555) – صححه على شرطهما ووافقه الذهبي .
(1) الإمام أحمد في المسند (2/323) ، وأبو داوود كتاب الأدب / باب في النهي عن البغي
(2) تقدم (ص497) .
(1) أخرجه أحمد في (المسند) (2/ 297،355) ، والترمذي : كتاب الزهد / باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس (7/76) – وقال (حسن غريب) .
(2) البخاري : كتاب الرقاق /باب حفظ اللسان، ومسلم : كتاب الزهد / باب التكلم بكلمة يهوى بها في النار، ولفظه عند مسلم. (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوى بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)
(3) البخاري : كتاب الرقاق / باب حفظ اللسان .
(4) الإمام في (المسند)(5/231) ، والترمذي : كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرم الصلاة .
(1) أبو داوود : كتاب السنة / باب في الجهمية وابن خزيمة في التوحيد ، (147) وابن ابي عاصم في السنة (575) وصححه العلامة ابن القيم في تهذيب السنن (7/96) .
(1) البخاري : كتاب الجهاد / باب التسبيح إذا هبط واديا .
(2) تقدم (ص 935) .
(3) تقدم تخريجه ص877) .
(1) البخاري : كتاب الاستسقاء / باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء .
(1) تقدم تخريجه ( ص 928)
(2) ابن كثير في (التفسير) (4/540) .
(3) البخاري : كتاب التيمم ، ومسلم : كتاب الحيض / باب التيمم .
(1) تقدم تخريجه (ص928)
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب مرجع النبي صل الله عليه وسلم من الأحزاب .
) تقدم تخريجه (ص924) .
(67/116)
(4) الإمام أحمد في (المسند) (5/346)، وأبو داود : كتاب الأدب / باب لا يقول الملوك ربي وربتي .
(1) البخاري كتاب التوحيد باب قوله تعالى (لما خلقت بيدي ) ومسلم كتاب : المنافقين/ باب صفة القيامة
(2) البخاري : كتاب الفرائض / باب العمل بإلحاق القائف الولد .
(1) مسلم كتاب القدر/ باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء .
(2) البخاري : كتاب الصلاة/ باب حك البزاق باليد في المسجد، ومسلم : كتاب الزهد .
(3) مسلم : كتاب العلم : هلك المتنطعون .
(1) مسلم كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة
(2) أحرجه الإمام أحمد ومسلم بمعناه .
(3) أبو داود : كتاب السنة/ باب في الجهمية، والحاكم (1/35) – وقال (صحيح – ولم يخرجاه ) .
(1) البخاري كتاب التفسير / باب(وما قدروا الله حق قدره )
(2) البخاري : كتب الحج / باب فضل مكة وبنياتها ، ومسلم : كتاب الحج باب نقض الكعبة .
(1) مسلم كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة
(2 ) مسلم : كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العدل .
(3) الترمذي : كتاب التفسير باب ألمر بالكتابة والشهود .
(1) ابن جرير (24/25)
(1) ابن جرير الطبري في التفسير (5794) والبيهقي في الأسماء والصفات (510) وقال أبن حجر : ( صححه ابن حبان وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح ) الفتح (13/ 410).
(2) تقدم (45) .
(2) مسلم : كتاب المساجد / باب تحريم الكلام في الصلاة .
(1) الحاكم في (المستدرك)) (2/396) .
(67/117)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .
قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ( فاطر 28 ) .
وقال تعالى : { وقل ربي زدني علما } ( طه 114 ) .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) [1] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ) [2] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتق الشر يوقه ) [3] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) [4] .
انطلاقاً من هذه النصوص الشرعية في فضل العلم وأهله قام إخوانكم شباب مسجد سالم العلي في الكويت بخدمة شرح من شروح كتب العلم لجبل من جبال العلم ، وهذا الشرح هو :
شرح العقيدة السفارينية
للشيخ العلامة : محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
سبب اختيار هذا الشرح
وقد جاء اختيارنا لهذا الشرح لأسبابٍ كثيرة منها ما يلي :
1 – أنه منظومةٌ شاملة في عقيدة أهل السنة والجماعة العقيدة السلفية ، فخدمة هذه المنظومة وهذا الشرح هو خدمة لعقيدة أهل السنة والجماعة ومنهج السلف الصالح .
2 – أن هذه المنظومة قد شرحها أحد كبار علماء الدعوة السلفية في هذا العصر ألا وهو الشيخ العلامة المحقق في فنون العلم الجهبذ الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى .
(68/1)
3 – أن هذا المنظومة قلَّ من شرحها من العلماء فرأينا في إخراج شرح الشيخ لها خدمة علمية جليلة لها ولمؤلفها العلامة السفاريني رحمه الله تعالى .
4 – أن في إخراج هذا الشرح مساهمة متواضعة في خدمة التراث العلمي الغزير الذي تركه لنا الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى .
المكانة العلمية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
ولا يخفى على القارئ الكريم المكانة العلمية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ، فهو الشيخ العلامة المحقق الفقيه المفسر الذي ملأ الدنيا علماً ، وتعجب من فقهه واستنباطه لنصوص الكتاب والسنة القاصي والداني ، واستفاد من بحر علومه الكبير والصغير والعالم والجاهل والعامة والخاصة .
إلى جانب ذلك فقد ساهم الشيخ في خدمة علوم الشرع ففي العقيدة شرح هذه المنظومة وشرح عقيدة أهل السنة والجماعة والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد وفي الفقه شرح زاد المستقنع شرحاً ممتعاً وعلق على كتاب الكافي وفي أصول الفقه شرح نظم الورقات للعمريطي ورسالته الأصول من علم الأصول وفي القواعد الفقهية شرح منظومة في القواعد والأصول وعلق على القواعد والأصول الجامعة وعلى قواعد ابن رجب وفي الحديث شرح الأربعين النووية شرحاً عظيماً وشرح جزءً من عمدة الأحكام وشرح بلوغ المرام كاملاً وعلق على صحيحي البخاري ومسلم وفي مصطلح الحديث شرح المنظومة البيقونية ونخبة الفكر وفي التفسير فسر سوراً كثيرة منها سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وجزء عم وغيرها من السور فسرها تفسيراً فيه العجب العجاب ونفائس المسائل مما لا مجال لبسطه في هذا الموضع .
ومن تأمل تفسير الشيخ لآية من كتاب الله أو شرحه لحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عَلِمَ عِلْمَ اليقين مدى قوة الشيخ العلمية ودقه فهمه واستنباطه للأحكام الشرعية والفوائد العلمية من الكتاب والسنة .
(68/2)
ومن رأى شرح الشيخ لكتاب من كتب العقيدة أو شرحه للفقه أو تَكَلُّمَهُ في مسألةٍ فقهية ظن أن الشيخ لا يحسن إلا العقيدة والفقه .
فالشيخ رحمه الله تعالى في العقيدة بحرٌ لا ساحل له ، وفي الفقه جبلٌ شامخ ألان الله له الفقه كما قال الشيخ محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى ، وفي أصول الفقه وقواعده علامةٌ جهبذ لا يجارى ولا يبارى ، وفي الحديث ومصطلحه والتفسير وأصوله إمامٌ ومحققٌ نحرير تتعجب من فقهه واستنباطه للأحكام الشرعية والفوائد العلمية من نصوص الكتاب والسنة ، فكأن العلوم بين عينيه يختار منها ما يشاء ويدع ما يشاء .
فلله دره من إمامٍ محقق وعلامةٍ جهبذ ، فقد خسرت هذه الأمة والله هذا العلم الشامخ وهذا الجبل الراسخ ، اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها .
وبعدُ فقد تميز شرح الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى لهذه العقيدة السفارينية بوضوح العبارة والتأصيل العلمي المتين لمسائل العقيدة وبيان التعريفات العلمية والتقسيم والتنويع للمسائل العلمية مما لا يستغني عنه طالب العلم وذكر الاعتراضات على المسائل والقواعد والأصول والضوابط وبيان الجواب عنها وغيرها من الدرر العلمية النفيسة بأسلوبٍ علمي لا مثيل له فيما نعلم .
لذا قام إخوانكم شباب مسجد سالم العلي بإخراج هذا الشرح العظيم خدمةً للعلم الشرعي وأهله وإهداءً لطلاب العلم في كل مكان وزمان .
منهجنا في شرح العقيدة السفارينية
هذا الشرح يتكون من ( 31 شريطاً ) من إنتاج مؤسسة الاستقامة الإسلامية جزى الله القائمين عليها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
وقد قام إخوانكم شباب مسجد سالم العلي بخدمة هذا الشرح العظيم بما يلي :
أولاً : قمنا بتفريغ أشرطة ( شرح العقيدة السفارينية ) ومراجعتها لاستدراك السقط والنقص .
ثانياً : قمنا بترتيب الشرح حيث أن الشيخ رحمه الله حصل منه تقديم وتأخير في شرح بعض الأبيات .
(68/3)
ثالثاً : قمنا بكتابة الأسئلة التي أوردها الطلبة على الشيخ وجواب الشيخ لها ، حتى ولو لم تكن لها علاقة بالشرح أو بعلم العقيدة .
وقد يَرِدُ في الشرح بعض الأسئلة ولكننا لا نوردها في الكتاب لعدم وضوح الصوت ، ولكننا التزمنا بكتابة جواب الشيخ عنها .
رابعاً : قمنا بترتيب أبيات منظومة العقيدة السفارينية وترقيمها وتبويبها .
ووضعنا كل بيت وتحته شرحه ، حتى يسهل الرجوع إلى البيت .
خامساً : قمنا باستبدال بعض الألفاظ التي قالها الشيخ باللهجة المحلية بألفاظٍ مرادفةٍ لها باللغة العربية الفصحى .
سادساً : قمنا بتنسيق شرح الشيخ رحمه الله تعالى وذلك بوضع التعاريف والقواعد العلمية والفوائد المهمة بخطٍّ غليظ .
يكثر الشيخ رحمه الله من ذكر الاعتراضات على القواعد والمسائل بقوله : ( فإذا قال قائل : ..... ) أو ( فإن قال قائل : ..... ) أو ( لو قال قائل : ..... ) ويقوم بالجواب عن هذه الاعتراضات وقد حرصنا على وضع هذه الاعتراضات بخطٍّ غليظ من باب تنبيه طالب العلم على هذه الاعتراضات والجواب عنها .
إذا ذكر الشيخ خلافاً في مسألة من المسائل قمنا بترقيم أقوال العلماء من باب التيسير على طالب العلم بمعرفة الأقوال عن طريق الأرقام .
إذا ذكر الشيخ خلافاً في مسألة من المسائل وذكر الراجح أو الصحيح عنده في هذه المسألة قمنا بوضع هذا الترجيح والتصحيح بخطٍّ غليظ لينتبه طالب العلم إلى القول الراجح والصحيح عند الشيخ رحمه الله .
إذا ذكر الشيخ خلافاً في مسألة من المسائل وذكر أدلة المختلفين أو المخالفين قمنا بترقيم هذه الأدلة لكل قول ومذهب ليسهل على طالب العلم حصر أدلة المختلفين أو المخالفين .
كما قمنا بتنسيق التقاسيم والأنواع بترقيمها .
سابعاً : قمنا ببيان كلام الشيخ في الحاشية إذا اختلف كلامه في الشرح .
ثامناً : عزو الآيات القرآنية ، بذكر السورة ورقم الآية .
(68/4)
تاسعاً : تخريج الأحاديث النبوية ، وقد اقتصرنا على الصحيحين إذا كان الحديث فيهما أو في أحدهما .
أما إذا لم يكن الحديث في الصحيحين فإن كان في الكتب التسعة اقتصرنا عليها .
وأما إذا لم يكن في الكتب التسعة فنخرج الحديث مع إحالته إلى مصادره الأصلية ، مع ذكر حكم الشيخ الألباني رحمه الله تعالى على الأحاديث – التي ليست في الصحيحين – إذا كان يرى صحتها .
أما إذا كان يرى ضعف الحديث الذي أورده الشيخ ابن عثيمين فإننا نقتصر على تخريج الحديث دون ذكر حكم الشيخ الألباني على الحديث .
لأننا نعتقد أنه لم يورده الشيخ ابن عثيمين إلا وهو يرى صحته عنده .
وقد يذكر الشيخ رحمه الله حديثاً ونبين تواتر هذا الحديث ومن نص على هذا التواتر من أهل العلم بالحديث إتماماً للفائدة .
وقد يذكر الشيخ حديثاً ونحيل إلى شرحٍ لشيخ الإسلام عليه لإتمام الفائدة .
تاسعاً : تخريج الآثار السلفية وعزوها إلى قائليها وإلى مصادرها .
وقد نحيل إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الآثار في كتبه .
عاشراً : نسبة الأبيات الشعرية إلى قائليها قدر الإمكان والكلام عليها من حيث الاختلاف في قائليها وفي ألفاظها .
وقد يذكر الشيخ بعض الأبيات التي يستدل بها بعض أهل البدع على باطلهم فنحيل لكتب القوم مع بيان ردود أهل السنة عليهم .
الحادي عشر : إحالة مسائل العقيدة التي أوردها الشيخ في شرحه على المنظومة إلى مظانها من كتب المتقدمين وكتب المتأخرين مثل : كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب ابن القيم ، وبعض كتب المعاصرين في العقيدة ، مع التركيز على الإحالة لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية .
وقد يذكر الشيخ المسألة والإجماع عليها وقد نبين المصدر الذي ورد فيه هذا الإجماع .
وقد يذكر الشيخ مسألة من مسائل العقيدة ولا يورد الإجماع عليها فنبين في الحاشية الإجماع مع بيان المصدر الذي ذكر هذا الإجماع .
(68/5)
وقد يذكر الشيخ قولاً في العقيدة ولا ينسبه إلى قائله وقد نبين قائله في الحاشية .
وقد يذكر الشيخ قولاً للجمهور ولا ينسبه إليهم وقد نبين أنه قول الجمهور في الحاشية .
الثاني عشر : بيان الأقوال التي تراجع عنها الشيخ رحمه الله مع ذكر ما ذهب إليه أخيراً .
الثالث عشر : إحالة المسائل الفقهية ونسبة الأقوال فيها إلى مصادرها الأصلية من كتب الفقه قدر الإمكان .
الرابع عشر : إحالة المسائل الأصولية ونسبة الأقوال فيها إلى مصادرها الأصلية من كتب أصول الفقه قدر الإمكان .
الخامس عشر : إحالة المفردات اللغوية والتعاريف الاصطلاحية إلى مصادرها الأصلية من كتب اللغة .
السادس عشر : إحالة المسائل النحوية التي ذكرها الشيخ في شرحه إلى مصادرها من كتب النحو قدر الإمكان .
السابع عشر : قمنا بترجمة الأعلام الوارد ذكرهم في الشرح مع بيان المصادر التي ترجمت لهم قدر الإمكان .
الثامن عشر : قمنا بالتعريف بالفرق والطوائف الواردة في الشرح مع بيان المصادر .
التاسع عشر : قمنا بوضع فهرس للموضوعات في نهاية الشرح .
العشرون : قمنا بوضع متن ( العقيدة السفارينية ) قبل الشرح ليسهل الرجوع إليها عند الحاجة .
هذا هو منهجنا وعملنا في هذا الشرح باختصار وهو جهد المقل .
وقد استغرق منا هذا العمل أكثر من سنتين .
خاتمة ونصيحة ودعوة
وختاماً : ننصح إخواننا المسلمين في كل مكان وزمان بأن يجتهدوا في طلب العلم الشرعي ، وندعوهم إلى خدمة هذا العلم وخدمة الكتاب والسنة ولو بالجهد اليسير فقليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع .
وما كان في عملنا هذا من صوابٍ فمن الله وما كان فيه من خطأ فمنا ومن الشيطان .
نسأل الله أن يبارك لنا في عملنا هذا وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم إنه سميعٌ مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إخوانكم
شباب مسجد سالم العلي
الفحيحيل – الكويت
---
(68/6)
[1] - رواه ابن ماجه ( 220 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ( 1 / 92 ) برقم 184 .
[2] - أخرجه الترمذي ( 2606 ) وأبو داود ( 3157 ) وابن ماجه ( 219 ) وأحمد ( 20723 ) وحسنه لغيره العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ( 1 / 138 ) برقم 70 .
[3] - أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( 9 / 129 ) وحسنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 1 / 670 ) برقم 342 .
[4] - جزء من حديث أخرجه البخاري ( 69 ) ومسلم ( 1719 ) .
(68/7)
العقيدة السفارينية
الموسومة بـ ( الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية )
1 – الحمد لله القديم الباقي .
مقدر الآجال والأرزاق .
2 – حي عليم قادر موجود .
قامت به الأشياء والوجود .
3 – دلت على وجوده الحوادث .
سبحانه فهو الحكيم الوارث .
4 – ثم الصلاة والسلام سرمدا .
على النبي المصطفى كنز الهدى .
5 – وآله وصحبه الأبرار .
معادن التقوى مع الأسرار .
6 – وبعد فاعلم أن كل العلم .
كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي .
7 – لأنه العلم الذي لا ينبغي .
لعاقل لفهمه لم يبتغي .
8 – فيعلم الواجب والمحالا .
كجائز في حقه تعالى .
9 – وصار من عادة أهل العلم .
أن يعتنوا في سَبْرِ ذا بالنظم .
10 – لأنه يَسْهُلُ للحفظ كما .
يروق للسمع ويشفي من ظما .
11 – فمن هنا نظمت لي عقيدة .
أرجوزة وجيزة مفيدة .
12 – نظمتها في سلكها مقدمة .
وست أبواب كذاك خاتمة .
13 – وسمتها بالدرة المضية .
(69/1)
في عقد أهل الفرقة المرضية .
14 – على اعتقاد ذي السداد الحنبلي .
إمام أهل الحق ذي القدر العلي .
15 – حبر الملا فرد العلى الرباني .
رب الحجا ماحي الدجى الشيباني .
16 – فإنه إمام أهل الأثر .
فمن نحا منحاه فهو الأثري .
17 – سقى ضريحا حَلَّهُ صوب الرضى .
والعفو والغفران ما نجم أضا .
18 – وحله وسائر الأئمة .
منازل الرضوان أعلى الجنة .
فصل
في ترجيح مذهب السلف
19 – اعلم هديت أنه جاء الخبر .
عن النبي المقتفى خير البشر .
20 – بأن ذي الأمة سوف تفترق .
بضعاً وسبعين اعتقاداً والمحق .
21 – ما كان في نهج النبي المصطفى .
وصحبه من غير زيغ وجفا .
22 – وليس هذا النص جزماً يعتبر .
في فرقة إلا على أهل الأثر .
23 – فأثبتوا النصوص بالتنزيه .
من غير تعطيل ولا تشبيه .
(69/2)
24 – فكل ما جاء من الآيات .
أو صحَّ في الأخبار عن ثقات .
25 – من الأحاديث نُمِرُّهُ كما .
قد جاء فاسمع من نظامي واعلما .
26 – ولا نرد ذاك بالعقول .
لقول مفتر به جهول .
27 – فعقدنا الإثبات يا خليلي .
من غير تعطيل ولا تمثيل .
28 – وكل من أوَّلَ في الصفات .
كذاته من غير إثبات .
29 – فقد تعدى واستطال واجترى .
وخاض في بحر الهلاك وافترى .
30 – ألم تر اختلاف أصحاب النظر .
فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر .
31 – فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى .
وصحبه فاقنع بهذا وكفى .
الباب الأول
في معرفة الله تعالى
32 – أول واجب على العبيد .
معرفة الإله بالتسديد .
33 – بأنه واحد لا نظير .
له ولا شبه ولا وزير .
فصل
في بحث أسمائه جل وعلا
34 – صفاته كذاته قديمة .
أسمائه ثابتة عظيمة .
(69/3)
35 – لكنها في الحق توقيفية .
لنا بذا أدلة وفية .
فصل
في بحث صفاته تعالى
36 – له الحياة والكلام والبصر .
سمع إرادة وعلم واقتدر .
37 – بقدرة تعلقت بممكن . .
كذا إرادة فَع ِ واستبن .
38 – والعلم والكلام قد تعلقا . .
بكل شيء يا خليلي مطلقا .ت
39 – وسمعه سبحانه كالبصر .
بكل مسموع وكل مبصر .
فصل
في مبحث القرآن العظيم
وبيان اختلاف الناس فيه ومذهب السلف
40 – وأن ما جاء مع جبريل .
من محكم القرآن والتنزيل .
41 – كلامه سبحانه قديم .
أعيى الورى بالنص يا عليم .
42 – وليس في طوق الورى من أصله .
أن يستطيعوا سورةً من مثله .
فصل
في الصفات التي يثبتها السلفيون ويجحدها غيرهم
43 – وليس ربنا بجوهر ولا .
عرض ولا جسم تعالى ذو العلا .
44 – سبحانه قد استوى كما ورد .
من غير كيفٍ قد تعالى أن يُحَدّ .
45 – فلا يحيط علمنا بذاته .
كذاك لا ينفك عن صفاته .
(69/4)
46 – فكل ما قد جاء في الدليل .
فثابت من غير ما تمثيل .
47 – من رحمة ونحوها كوجهه .
ويده وكل ما من نهجه .
48 – وعينه وصفة النزول .
وخلقه فاحذر من النزول .
49 – فسائر الصفات والأفعال .
قديمة لله ذي الجلال .
50 – لكن بلا كيف ولا تمثيل .
رَغْماً لأهل الزيغ والتعطيل .
51 – فمرّها كما أتت في الذكر .
من غير تأويل وغير نُكْرِ .
52 – ويستحيل الجهل والعجز كما .
قد استحال الموت حقاً والعمى .
53 – فكل نقص قد تعالى الله .
عنه فيا بشرى لمن والاه .
فصل
في إيمان المقلد
54 – وكل ما يُطْلَبُ فيه الجزم .
فَمَنْعُ تقليد بذاك حتم .
55 – لأنه لا يُكتفى بالظن .
لذي الحجا في قول أهل الفن .
56 – وقيل : يكفي الجزم إجماعا بما .
يُطْلَبُ فيه عند بعض العلما .
57 – فالجازمون من عوام البشر .
(69/5)
فمسلمون عند أهل الأثر .
الباب الثاني
في الأفعال المخلوقة
58 – وسائر الأشياء غير الذات .
وغير ما الأسماء والصفات .
59 – مخلوقة لربنا من العدم .
وضل من أثنى بالقدم .
60 – وربنا يخلق باختيار .
من غير حاجة ولا اضطرار .
61 – لكنه لم يخلق الخلق سدي .
كما أتى في النص فاتبع الهدى .
62 – أفعالنا مخلوقة لله .
لكنها كسبٌ لنا يا لاهي .
63 – وكل ما يفعله العباد .
من طاعة أو ضدها مرادٌ .
64 – لربنا من غير ما اضطرارِ .
منه لنا فافهم ولا تمارِ .
65 – وجَازَ للمولى يعذب الورى .
من غير ما ذنبٍ ولا جرمٍ جرى .
66 – فكل ما منه تعالى يجمل .
لأنه عن فِعْلِهِ لا يُسْأَلُ .
67 –فإنْ يُثِبْ فإنه من فضله .
(69/6)
وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله .
68 –فلم يجب عليه فعل الأصلح .
ولا الصلاح ويح من يفلح .
69 – فكل من شاء هداه يهتدي .
وإنْ يُرِدْ إضلال عبدٍ يعتدي .
فصل
في الكلام على الرزق
70 – والرزق ما ينفع من حلال .
أو ضده فَحُلْ عن المُحَالِ .
71 – لأنه رازق كل الخلقِ .
وليس مخلوقٌ بغير رزقِ .
72 – ومن يَمُتْ بِقَتْلِهِ من البشر .
أو غيره فبالقضاء والقدر .
73 – ولم يَفُتْ من رزقه ولا الأجل .
شيءٌ فدع أهل الضلال والخطل .
الباب الثالث
في الأحكام والإيمان ومتعلقات ذلك
74 – وواجبٌ على العباد طراًّ .
أنْ يعبدوه طاعةً وبراًّ .
75 – ويفعل الذي به أمر .
حتماً ويترك الذي عنه زجر .
76 – وكل ما قدَّر أو قضاه .
فواقعٌ حتماً كما قضاه .
فصل
في الكلام على القضاء والقدر غير ما تقدم
(69/7)
77 – وليس واجباً على العبد الرضا .
بكل مقضي ولكن بالقضا .
78 – لأنه من فعله تعالى .
وذاك من فعل الذي تقالا .
فصل
في الكلام على الذنوب ومتعلقاتها
79 – ويَفْسُقُ المذنب بالكبيرة .
كذا إذا أَصَرَّ بالصغيرة .
80 – لا يخرج المرء من الإيمان .
بموبقات الذنب والعصيان .
81 – وواجب عليه أنْ يتوبا .
من كل ما جََّر عليه حوبا .
82 – ويقبل المولى بمحض الفضل .
من غير عبد كافر منفصل .
83 – ما لم يتب من كفره بضده .
فَيَرْتَجِعْ عن شركه وصده .
فصل
في ذكر من قيل بعدم قبول إسلامه
84 – ومن يمت ولم يتب من الخطا .
فأمره مفوض لذي العطا .
85 – فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم .
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم .
86 – وقيل في الدروز والزنادقة .
وسائر الطوائف المنافقة .
87 – وكل داعٍ لابتداع يُقتلُ .
(69/8)
كمن تكرر نكثه لا يُقبل .
88 – لأنه لم يُبْدِ من إيمانه .
إلا الذي أذاع من لسانه .
89 – كملحد وساحر وساحرة .
وهم على نياتهم في الآخرة .
90 – قلت إن دلت دلائل الهدى .
كما جرى للعيلبوني اهتدى .
91 – فإنه أذاع من أسرارهم .
ما كان فيه الهتك من أستارهم .
92 – وكان للدين القويم ناصرا .
فصار منا باطنا وظاهرا .
93 – فكل زنديق وكل مارد .
وجاحد وملحد ومنافق .
94 – إذا استبان نصحه للدين .
فإنه يُقبلُ عن يقين .
فصل
في الكلام على الإيمان
واختلاف الناس فيه
وتحقيق مذهب السلف في ذلك
95 – إيماننا قول وقصد وعمل .
تزيد بالتقوى وتنقص بالزلل .
96 – ونحن في إيماننا نستثني .
من غير شكٍّ فاستمع واستبن .
97 – نتابع الأخيار من أهل الأثر .
ونقتفي الآثار لا أهل الأشر .
(69/9)
98 – ولا تقل إيماننا مخلوق .
ولا قديم هكذا مطلوق .
99 – فإنه يشمل للصلاة .
ونحوها من سائر الطاعات .
100 – ففعلنا نحو الركوع محدث .
وكل قرآنٍ قديم فابحثوا .
101 – وَوَكَّلَ الله من الكرام .
اثنين حافظين للأنام .
102 – فيكتبان كل أفعال الورى .
كما أتى في النص في من غير امْتِرا .
الباب الرابع
في ذكر بعض السمعيات من ذكر البرزخ والقبور وأشراط الساعة والحشر والنشور
ذكر البرزخ والقبور والبعث والنشور ( كذا عندي في الكتاب )
103 – وكل ما صح من الأخبار .
وجاء في التنزيل والآثار .
104 – من فتنة البرزخ والقبور .
وما أتى في ذا من الأمور .
فصل
في ذكر الروح والكلام عليها
105 – وأن أرواح الورى لم تُعْدَمِ .
مع كونها مخلوقةً فاستفهم .
106 – فكل ما عن سيد الخلق ورد .
من أمر هذا الباب حقٌّ لا يُرد .
فصل
في أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ومجيئها
(69/10)
107 – وما أتى في النص من أشراط .
فكله حقٌ بلا شَطاط .
108 – منها الإمام الخاتم الفصيح .
محمد المهدي والمسيح .
109 – وأنه يَقْتُلُ للدجالِ .
بباب لُدِّ خَلِّ عن جِدالي .
110 – وأمر يأجوج ومأجوج أثبت .
فإنه حق كهدم الكعبة .
111 – وإن منها آية الدخان .
وأنه يُذهبُ بالقرآن .
112 – طلوع شمس الأُفْقِ من دَبورِ .
كذات جيادٍ على المشهور .
113 – وآخر الآيات حشر النار .
كما أتى في محكم الأخبار .
114 – فكلها صحت بها الأخبار .
وسَطَّرَتْ آثارها الأخيار .
فصل
في أمر المعاد
115 – واجزم بأمر البعث والنشور .
والحشر جزماً بعد نفخ الصور .
116 – كذا وقوف الخلق للحساب .
والصحف والميزان للثواب .
117 – كذا الصراط ثم حوض المصطفى .
(69/11)
فيا هنا لمن نال به الشِّفا .
118 – عنه يُذادُ المفتري كما ورد .
ومن نحا سبل السلامة لم يُرَد .
119 – فكن مطيعاً واقْفُ أهل الطاعة .
في الحوض والكوثر والشفاعة .
120 – فإنها ثابتةٌ للمصطفى .
كغيره من كل أرباب الوفا .
121 – من عالمٍ كالرُّسْلِ والأبرار .
سوى التي خُصت بذي الأنوار .
فصل
في الكلام على الجنة والنار
122 – وكل إنسانٍ وكل جِنة .
في دار نارٍ أو نعيم جنة .
123 – ومن عصى بذنبه لم يخلد .
وإن دخلها يا بوار المعتدي .
124 – هما مصير الخلق من كل الورى .
فالنار دار من تعدى وافترى .
125 – وجنة النعيم للأبرار .
مصونة عن سائر الكفار .
(69/12)
126 – واجزم أن النار كالجنة في .
وجودها وأنها لم تتلف .
127 – فنسأل الله النعيم والنظر .
لربنا من غير ما شينٍ غبر .
128 – فإنه يُنظر بالأبصار .
كما أتى في النص والأخبار .
129 – لأنه سبحانه لم يُحجب .
إلا عن الكافر والمكذب .
الباب الخامس
في ذكر النبوة ومتعلقاتها
130 – ومن عظيم منة السلام .
ولطفه بسائر الأنام .
131 – أن أرشد الخلق إلى الوصول .
مبيناً للحق بالرسول .
132 – وشرط من أُكْرِمَ بالنبوة .
حريةٌ ذكورةٌ كقوة .
133 – ولا تًُنال رتبة النبوة .
بالكسب والتهذيب والفتوة .
134 – لكنها فضلٌ من المولى الأَجَلَّ .
لمن يشأ من خلقه إلى الأجل .
(69/13)
135 – ولم تزل فيما مضى الأنباء .
من فضله تأتي لمن يشاء .
136 – حتى أتى بالخاتم الذي ختم .
به وأعلانا على كل الأمم .
137 – وخَصَّه ُبذاك كالمقام .
وبعثه لسائر الأنام .
فصل
في بعض الخصائص النبوية
138 – ومعجز القرآن كالمعراج .
حقاً بلا مينٍ ولا اعوجاج .
139 – فكم حباه ربه وفَضَّلَه .
وخَصَّهَ سبحانه وخَوَّلَه .
فصل
في التنبيه على بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جداً
140 – ومعجزات خاتم الأنباء .
كثيرة تجل عن إحصاء .
141 – منها كلام الله معجز الورى .
كذا انشقاق البدر من غير افترا .
142 – وأفضل العالم من غير امترا .
نبينا المبعوث في أم القرى .
فصل
في ذكر فضيلة نبينا وأولي العزم وغيرهم من النبيين والمرسلين
143 – وبعده الأفضل أهل العزم .
(69/14)
فالرسل ثم الأنبياء بالجزم .
فصل
فيما يجب للأنبياء عليهم السلام وما يجوز عليهم وما يستحيل في حقهم
144 – وأن كل واحدٍ منهم سلم .
من كل ما نقص ومن كفر عُصم .
145 – كذاك من إفكٍ ومن خيانة .
لوصفهم بالصدق والأمانة .
146 – وجائزٌ في حق كل الرسل .
النوم والنكاح مثل الأكل .
فصل
في ذكر الصحابة الكرام
147 – وليس في الأمة بالتحقيق .
في الفضل والمعروف كالصديق .
148 – وبعده الفاروق من غير افتراء .
وبعده عثمان فاترك المِرا .
149 – وبعد فالفضل حقيقاً فاسمعِ .
مني نظامي للبطين الأنزع .
150 – مجندل الأبطال ماضي العزم .
مفرج الأوجال وافي الحزم .
(69/15)
151 – مسدي الندي مبدي الهدى مردي العدى .
مجلي الصدى يا ويل من فيه اعتدى .
152 – فحبه كحبهم حتماً وجب .
ومن تعدى أو قلى فقد كذب .
153 – وبعد فالأفضل باقي العشرة .
فأهل بدر ثم أهل الشجرة .
154 – وقيل : أهل أحد المقدِّمِة .
والأول أولى للنصوص المحكمة .
155 – وعائِشُ في العلم مع خديجة .
في السَّبْقِ فافهم نُكْتَةَ النتيجة .
156 – وليس في الأمة كالصحابة .
في الفضل والمعروف والإصابة .
157 – فإنهم قد شاهدوا المختارا .
وعاينوا الأسرار والأنوارا .
(69/16)
158 – وجاهدوا في الله حتى بانا .
دين الهدى وقد سَمَى الأديانا .
159 – وقد أتى في محكم التنزيل .
من فضلهم ما يشفي الغليل .
160 – وفي الأحاديث وفي الآثار .
وفي كلام القوم والأشعار .
161 – ما قد ربى من أن يحيط نظمي .
عن بعضه فاقنع وخذ من علم .
162 – واحذر من الخوض الذي قد يُزري .
بفضلهم مما جرى لو تدري .
163 – فإنه عن اجتهادٍ قد صدر .
فاسلم أذل الله من لهم هجر .
164 – وبعدهم فالتابعون أحرى .
بالفضل ثم تابِعوهُم طراّ .
فصلٌ
في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها
165 – وكل خارقٍ أتى عن صالح .
من تابع لشرعنا وناصح .
(69/17)
166 – فإنها من الكرامات التي .
بها نقول فاقفُ الأدلة .
167 – ومن نفاها من ذوي الضلال .
فقد أتى في ذاك بالمحال .
168 – لأنها شهيرةٌ ولم تزل .
في كل عصرٍ يا شقى أهل الزلل .
فصلٌ
في المفاضلة بين الملائكة والبشر
169 – وعندنا تفضيل أعيان البشر .
على ملاك ربنا كما اشتهر .
170 – وقال من قال سوى هذا افترا .
وقد تعدى في المقال واجترى .
الباب السادس
في ذكر الإمامة ومتعلقاتها
171 – ولا غنى لأمة الإسلام .
في كل عصرٍ كان عن إمام .
172 – يذب عنها كل ذي جحود .
ويعتني بالغزو والحدود .
173 – وفعل معروفٍ وترك نكر .
ونصر مظلومٍ وقمع كفر .
174 – وأخذ مال الفيء والخراج .
ونحوه والصرف في منهاج .
(69/18)
175 – ونصبه بالنص والإجماع .
وقهره فَحُلْ عن الخداع .
176 – وشرطه الإسلام والحرية .
عدالةٌ سمعٌ مع الدَّرية .
177 – وأن يكون من قريش عالماً .
مكلفاً ذا خبرةٍ وحاكماً .
178 – فكن مطيعاً أمره فيما أمر .
ما لم يكن بمنكرٍ فيُحتذر .
فصلٌ
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
179 – واعلم بأن الأمر والنهي معا .
فرضا كفايةٍ على من قد وعى .ت
180 – وإن يكن ذا واحداً تعينا .
عليه لكن شرطه أن يأمنا .
181 – فاصبر وزل باليد واللسان .
لمنكرٍ واحذر من النقصان .
182 – ومن نهى عن ما له قد ارتكب .
فقد أتى مما به يقضي العجب .
183 – فلو بدا بنفسه فذادها .
عن غيِّها لكان قد أفادها .
الخاتمة
184 – مدارك العلوم في العيان .
محصورةٌ في الحد والبرهان .
(69/19)
185 – وقال قومٌ عند أصحاب النظر .
حسٌ وإخبار صحيح والنظرٌ .
186 – فالحد وهو أصل كل علم .
وصفٌ محيطٌ كاشفٌ فافتهم .
187 – وشرطه طردٌ وعكس وهو إن .
أنبا عن الذوات فالتام استبن .
188 – وإن تكن بالجنس ثم الخاصة .
فذاك رسمٌ فافهم المحاصة .
189 – وكل معلومٍ بحسٍّ وحِجا .
فَنُكْرُهُ جهلٌ قبيحٌ في الهجى .
190 – فإن يقم بنفسه فجوهر .
أو لا فذاك عرض مفتقر .
191 – والجسم ما ألف من جزئين .
فصاعدا فاترك حديث المين .
192 – ومستحيل الذات غير ممكن .
وضده ما جاز فاسمع زكني .
193 – والضد والخلاف والنقيض .
والمثل والغيران مستفيض .
194 – وكل هذا علمه مُحقَّق .
فلم نُطِلْ فيه ولم ننمق .
(69/20)
195- والحمد لله على التوفيق .
لمنهج الحق والتحقيق .
196 – مُسَلِّماً لمقتضى الحديث .
والنص في القديم والحديث .
197 – لا أعتني بقول غير السلفِ .
موافقاً أئمتي وسلفي .
198 – ولست في قولي بِذا مقلداَ .
إلا النبي المصطفى مبدي الهدى .
199 – صلى الله عليه الله ما قطرٌ نزل .
وما تعانا ذكره من الأزل .
200 – وما انجلى بهديه الديجور .
وراقت الأوقات والدهور .
201 – وآله وصحبه أهل الوفا .
معادن التقوى وينبوع الصفا .
202 – وتابعٍ وتابعٍ للتابع .
(69/21)
خير الورى حقاًّ بنص الشارع .
203 – ورحمة الله مع الرضوان .
والبِر والتكريم والإحسان .
204 – تُهدى مع التبجيل والإنعام .
مني لمثوى عصمة الإسلام .
205 – أئمة الدين هُداة الأمة .
أهل التقى من سائر الأئمة .
206 – لا سيما أحمد والنعمان .
ومالك محمد الصنوان .
207 – من لازمٍ لكل أربابه العمل .
تقليد حَبْرٍ منهم فاسمع تخل .
208 – ومن نحا لسبلهم من الورى .
ما دارت الأفلاك أو نجمٌ سرى .
209 – هديةٌ مني لأرباب السلف .
مجانباً للخوض من أهل الخلف .
210 – خذها هُديتَ واقتفي نظامي .
تفز بما أمليت والسلام .
(69/22)
شرح العقيدة السفارينية
للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :-
هذه المنظومة بيَّن فيها المؤلف رحمه الله عقيدة السلف ، وإن كان في بعضها شيء من المخالفات التي يأتي التنبيه عليها إن شاء الله .
واعلم :- أن أقسام التوحيد ثلاثة [1] :
1. توحيد الربوبية .
2. وتوحيد الألوهية .
3. وتوحيد الأسماء والصفات .
فأما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلم يختلف فيه أهل القبلة ، يعني لم يختلف فيه المسلمون .
كل المسلمين مجمعون على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية .
أي أنه يجب إفراد الله عز وجل بالربوبية ويجب إفراده بالعبادة [2] .
وأما توحيد الأسماء والصفات فهو الذي اختلف فيه أهل القبلة أي اختلف فيه المنتسبون إلى الإسلام اختلافاً يمكن أن نقول : إنه على ستة أوجه في إجراء النصوص [3] :
1 – فمنهم من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل ، هذا قسم ،
وهؤلاء هم السلف وأتباعهم – أجروا النصوص على ظاهرها اللائق بالله وتركوا ما وراء ذلك .
فـ { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) .
قالوا : إن ظاهره إن الله استوى على العرش أي علا عليه ،
فنؤمن بأن الله سبحانه وتعالى نفسه علا على العرش ولا نلتفت لما وراء ذلك .
لا نقول : أين الله قبل أن يخلق العرش ؟ لا نقول هذا .
لا نقول : هل استواؤه على العرش بمماسة أو بانفصال ، لا نقول هذا .
لا نقول : إن استواءه على العرش للحاجة إليه ، أو نقول : ليس للحاجة إليه .
بل يجب أن نقول : ليس للحاجة إليه ، فرقٌ بين الأمرين .
فنقول : إن استواء الله على العرش ليس لحاجة إلى العرش بخلاف استواء الإنسان على السرير أو على الدابة فهو للحاجة إليه ، ولهذا لو أزيل السرير من تحته لسقط ،
(70/1)
أما الرب عز وجل فإن استواءه على عرشه لظهور عظمته عز وجل وتمام ملكه ،
ليس لأنه محتاج إلى العرش [4] ،
بل إن العرش وغيره في حاجة إلى الله عز وجل ، في ضرورة في إيجاده وإمداده ،
ولا يمكن أن نقول : أن ( استوى الله على العرش ) للحاجة إليه ،
ولا نقول : إن استواء الله على العرش يقتضي أن يكون جسما أو ليس بجسم ،
لأن مسألة الجسمية لم ترد لا في القرآن ولا في السنة إثباتاً ولا نفياً ،
ولكن نقول بالنسبة للفظ : لا ننفي ولا نثبت ،
لا نقول : جسم وغير جسم ،
لكن بالنسبة للمعنى نفصل ونستفصل ،
ونقول للقائل : ماذا تعني بالجسم ؟ هل تعني أنه الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به الفاعل بالاختيار القابض الباسط ؟
إن أردت هذا فهو حق ومعنى صحيح ،
فالله تعالى قائم بنفسه فعال لما يريد متصف بالصفات اللائقة به ، يأخذ ويقبض ويبسط ، يقبض السماوات بيمينه ويهزها [5] ،
وإن أردت بالجسم الشيء الذي يفتقر بعضه إلى بعض ولا يتم إلا بتمام أجزائه فهذا ممتنع على الله ،
لأن هذا المعنى يستلزم الحدوث والتركيب ،
وهذا شيء ممتنع على الله عز وجل [6] ،
والمهم أن نقول : إن من أهل القبلة من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل دون أن يتعرض لشيء وهؤلاء من ؟
هم السلف ،
طريقة السلف على هذا الوجه أسلم وأعلم وأحكم ،
أسلم لأنهم ما تعرضوا لشيء وراء النصوص ،
وأعلم لأنهم أخذوا عقيدتهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،
أحكم لأنهم سلكوا الطريق الواجب سلوكها : وهو إجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل ،
ومن هؤلاء السلف ؟
هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين كالإمام أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم من أئمة المسلمين ،
وهل يمكن أن تكون السلفية في وقتنا الحاضر [7] ؟
(70/2)
نعم ونقول : هي سلفيةٌ عقيدة وإن لم تكن سلفيةً زمناً ، لأن السلف سبقوا زمننا ،
لكن هؤلاء سلفية عقيدةً وعملاً في الواقع [8] ، عقيدةً وعملاً في الواقع ،
وهم بالنسبة لمن بعدهم سلف ،
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في زيارة المقابر : ( أنتم سلفنا ونحن في الأثر ) [9] ،
القسم الثاني : أجروا النصوص على ظاهرها ،
وقالوا : النصوص على ظاهرها لكنها من جنس صفات المخلوقين ،
قالوا : إن لله يدًا كأيدينا ووجهًا كوجوهنا ،
وهؤلاء من ؟
هؤلاء هم الممثّلة ،
وهؤلاء بلا شك ضالون لم يقدروا الله حق قدره ،
ولو قدروا الله حق قدره ما جعلوا صفاته كصفات خلقه ،
وهم أيضا متناقضون لأنهم لم يجعلوا الذات الإلهية كالذات المخلوقة ،
ومعلوم أن الصفات فرع عن الذات ،
فإذا كانت الذات لا تماثل ذوات المخلوقين ،
فالصفات أيضاً لا تماثل صفات المخلوقين ،
لأن صفة كل ذات تناسبها ،
أرأيت قدم البعير قدم الذرة ؟ أو رجل البعير ورجل الذرة يتماثلان ؟
أقول : لا يتماثلان ، بينهما فرق عظيم جدا ،
فإذا قال قائل : عندي رِجْلُ جمل ، وقال الآخر : عندي رِجْلُ ذرة ، هل يفهم أحد من الناس أن الذي عند الثاني كالذي عند الأول ؟
أبدًا ، لأن ذات الجمل ليست كذات الذرة .
إذن صفاتها ليست كصفات الذرة ،
قوة الفيل وقوة الذرة كلاهما قوة ، وهل هما متماثلان ؟
غير متماثلين ، لأن قوة الذرة بسيطة تعجز عن شيءٍ يسير ،
الفيل ما شاء الله يحمل أشياء كثيرة ،
فإذا قال الله عن نفسه عز وجل : { بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) أو { لما خلقت بيدي } ( ص 75 ) هل يمكن لعاقل أن يتصور أن يد الله عز وجل كيد المخلوق ؟
لا يمكن ، أبدًا ،
وكيف يمكن ذلك ، والله عز وجل يقول : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ( الزمر 67 ) ، { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } ( الأنبياء 104 ) ؟
(70/3)
الإنسان يطوي الكتاب بسهولة ، لكن هل يمكن للبشر كلهم أن يطووا واحداً من السماوات ؟
أبداً ،
إذن هؤلاء ضالون الممثلة ضالون لم يقدروا الله حق قدره ،
وهل هم كافرون ؟
نعم كافرون ،
لأن الله عز وجل يقول : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) .
فإذا قال : ( بل مثله شيء ) ، فقد كذب الخبر وتكذيب خبر الله كفر ،
ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله شيخ البخاري : ( من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها ) [10] ،
فإذن هؤلاء ضالون وكفارٌ أيضاً ،
ومن هذا ما كتب به إلي بعض الناس وسمعته من بعض الأشرطة أنه يوجد في الأفلام الكرتونية التي تُنشر في التلفزيون يوجد أنهم يشبهون الله عز وجل بشيخٍ رهيب مزعج المنظر ذو لحية طويلة عملاق فوق السحاب يسخِّر الرياح ويعمل ،
الحقيقة أني أُشْهِدُ الله أن هذا نشر للكفر الصريح ،
لأن الصبي إذا شاهد مثل هذا وفي أول تمييزه سوف ينطبع في نفسه إلى أن يموت ، أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ،
اللهم إلا أن يقيض الله له من ينتشله من هذه الورطة فنعم ،
ولهذا أقول : إن الذين يعرضون هذه الأشياء لصبيان المسلمين سوف يحاسبون عند الله حساباً عسيراً يوم القيامة ،
لأنهم يريدون شاءوا أم أبوا أن يضل الناس بهذا ضلالاً مبيناً ، وعلينا جميعاً إذا كانت الأفلام على هذا الوجه أن نحذر منها أهل البيوت حتى لا يقعوا في هذا الشر المستطير الذي هو أعظم من شر الأغاني وغيرها ،
لأن كون الإنسان يمثل الله عز وجل بهذه الصورة البشعة ، لا شك أنه من أعظم المنكر والعياذ بالله ،
(70/4)
أنا سمعت اليوم في أخبار لندن اليوم السبت الموافق للحادي والعشرين من شهر ذي القعدة عام تسع وأربع مائة وألف سمعت أنه حصلت مظاهرات عظيمة في بنغلادش على نعال مكتوب اسم الجلالة لفظ الجلالة صريحاً فحصلت مظاهرات عظيمة حتى أدى إلى أن تعتذر الشركة الموردة لهذا إلى الحكومة والشعب وتلتزم بإحراقها وإبدالها ،
فأقول : انظروا إلى أعداء الله كيف يريدون أن يهينوا رب العزة والجلال ، بهذه الأشياء التي تسري على الناس سريان النار في الفحم من غير أن يُشعر بها وسريان السم في الجسد من غير أن يُشعر به ،
والواجب علينا نحن المسلمين ولا سيما في بلادنا هذه أن نكون حذرين يقظين ،
لأن بلادنا هذه مغزوة في العقيدة وفي الأخلاق وفي الأعمال من كل وجه ،
لا تظنوا أن الغزو أن يقبل العدو بجحافله ودباباته وصواريخه ليهدم الديار ويقتل الناس ،
الغزو هو هذا ، هذا هو الغزو المشكل الذي يدخل الناس من حيث لا يشعرون ،
والإنسان بشرٌ مدنيٌ متكيف ينفر من الشيء أول ما يسمعه لكن بعد مدة يرتاح إليه ويتأقلم عليه ويكون كأنه أمرٌ عادي ،
حتى الأمراض التي في الجسم أول ما يدخل الفيروس المرض ينفر منه الجسم ويتأثر ويسخن لكن ربما يأخذ عليه ،
على كل حال ، هذه النقطة أنا أود منكم بارك الله فيكم وأنتم طلبة علم عليكم مسؤولية أن تحذروا الناس من هذه الأفلام ،
ما دامت تعرض مثل هذه الأمور التي لا يشك مؤمن بالله عز وجل أن عرضها قيادةٌ للأطفال إلى الكفر بالله عز وجل وإهانة الله سبحانه وتعالى ،
نحن أهل الجزيرة علينا مسؤولية عظيمة ليست على بقية الناس ،
من هنا ظهر الإسلام وإليه يعود في هذه الجزيرة ،
قال رسول البرية عليه الصلاة والسلام في مرض موته : ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) [11] ،
وقال : ( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً ) [12] ،
وقال : ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ) ،
(70/5)
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا بإخراج أجسادهم فإنه يأمرنا أمراً أولولياًّ بإخراج أفكارهم التي يبثونها بين الناس ليضلوا عباد الله عز وجل ،
ما ظنكم لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمامنا الآن يقول في مرض موته على فراش الموت :
( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) ،
لماذا ؟ لأنهم أجسام بشر مثلنا ؟
لا ، لأنهم يبثون شركهم وشرورهم بيننا ،
فهذه الجزيرة لها شأنٌ عظيم وميزانٌ كبير في نظر الشرع باعتبار حماية الدين الإسلامي ،
فأنا أجعلها أمانةً في أعناقكم أن تحرصوا غاية الحرص على التحذير من هذه الأفلام ،
وأنا ما كنت أظن أنها تبلغ إلى هذا المبلغ ،
ولهذا أُسْأَلُ عنها فأتهاون فيها الواقع ، أُسْأَلُ عنها هل تجوز للصبيان مشاهدتها فأتهاون فيها ،
لكن سمعت شريط بالأمس شريط بعنوان : ( منكرات البيوت ) أحد الخطباء جزاه الله خير خطب حول هذا الموضوع أربع خطب وذكر منها ما قلت لكم ،
وجاءني أيضاً رسالة من شخص فيها هذا الشيء يقول :
أنه يُبث من التلفزيون هذه المناظر للأطفال ،
هذه الجملة جملةٌ معترضةٌ لكنها جملة هامةٌ جداً ،
لكنها معترضة بالنسبة للدرس سببها الاستطراد على مسألة المماثلة وأن من مَثَّلَ الله بخلقه فهو كافر ،
اشترك هذان القسمان في إجراء النصوص على ظاهرها ،
وافترقا في أن السلف أجروها على اللائق بالله عز وجل وهؤلاء أجروها على وجه التمثيل بالمخلوقات وهذا فرقان عظيم ،
القسم الثالث : - من أجروا النصوص على خلاف ظاهرها إلى معانٍ ابتكروها بعقولهم ،
وهؤلاء الذين يدعون أنهم العلماء والحكماء ،
ويقولون : طريقة السلف طريقة الذين يقرؤون الكتاب أماني ولا يعرفون ،
أما نحن فنحن أهل العلم والحكمة ، ولهذا قالوا : طريقة الخلف أعلم وأحكم ،
وقد ذكرنا في كتاب ( تلخيص الحموية ) بيان بطلان هذا القول لهؤلاء الذين يجرون النصوص على خلاف الظاهر إلى معان عينوها بعقولهم ،
(70/6)
فقالوا : { استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) أي استولى على العرش ،
يد الله : أي قوته أو نعمته ،
وجه الله : ثوابه ،
محبة الله : ثوابه ،
غضب الله : انتقامه وهكذا ، لماذا ؟
قالوا : لأن المعنى الظاهر ممتنع على الله عز وجل ، وإذا كان ممتنعا فلنا عقول نتصرف فيها ،
إذا كان الأمر كما قلتم ،
نقول بكل بساطة : لماذا يتحدث الله عن نفسه بعبارات غير مقصودة ، ويجعل الأمر موكولاً إلى عقولنا ،
بل الصواب : أنه ليس إلى العقل ،
بل إلى الهوى المختلف الذي يقول فيه فلان : هذا واجب ،
ويقول فلان الثاني : هذا ممتنع على الله ،
والثالث يقول : هذا جائز ،
لماذا يجعل الله عز وجل الحديث عن صفاته بكلمات لا يراد بها ظاهرها ؟
وهل هذا إلا تعمية ؟
خلاف البيان الذي قال الله : { يريد الله ليبين لكم } ( النساء 36 ) ، { يبين الله لكم أن تضلوا } ( النساء 176 ) ؟
ولماذا يجعل الأمر موكول إلى ما تقتضيه عقولنا التي هي ليست عقلاً في الواقع بل هي وهم ؟
قالوا : لأجل أن يزيد ثوابنا بتحويل النص إلى معناه ،
لأنك إذا أخذت النص على ظاهره لم تتكلف ،
لكن إذا صرفته عن ظاهره يحتاج إلى دليل من اللغة وشواهد وجهد كبير حتى تصل إلى المعنى المراد ،
فهذه التعمية الواردة في أعظم الأخبار المقصود بها كثرة الثواب ،
يا سبحان الله ! يضيع الله أصلاً عظيمًا بالتحدث عن نفسه من أجل أن يزيد ثوابنا بالتعب ؟
ثم التعب الذي يأتي لغير سبب لا يثاب عليه الإنسان ،
لو قال قائل : الآن الناس يحجون على الطائرة وعلى السيارة ، أنا سأحج على حمارٍ أعرج أركبه تارة وأسوقه تارة وأقوده تارة وأدفه تارة وتارةً أقعد أنا وهو حتى نصل إلى مكة ، لأن هذا فيه تعبٌ عظيم وأجرٌ كبير ،
هل يؤجر الإنسان على هذا ؟
لا ، لا يؤجر ،
لأن هذا تعب حصل باختيارك أنت ،
(70/7)
ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس أمره أن يدخل في الظل ونهاه عن تعذيب نفسه [13] ،
والله عز وجل يقول : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً } ( النساء 147 ) ،
فالحاصل : أن هؤلاء لا شك أنهم مخطئون ضالون مرتكبون لضلالين ،
يتضمن كل ضلال منهما القول على الله بلا علم :
فقولهم : أن الله لم يرد كذا .
هذا قول على الله بلا علم ، كيف لا يريد وهو ظاهر لفظه ،
وقولهم : أراد كذا ، هذا أيضاً قول على الله بلا علم ،
لأنه إذا انتفت إرادة الظاهر بقي ما يخالف الظاهر قابلاً لاحتمالات الكثيرة ،
فما الذي يجعل هذا الاحتمال المعين هو المراد دون غيره من الاحتمالات ؟
القسم الرابع : قسم قالوا : نفوِّض ما نقول معناها كذا ولا كذا نقرأ القرآن والحديث وكأنما نقرأ لغة لا نعرفها كأننا عرب نقرأ باللغة الإنجليزية ولم نعرف اللغة الإنجليزية أو كأننا عامة لا يعلمون الكتاب إلا أماني ،
هؤلاء يقولون : كل نصوص الصفات غير معلومة المعنى ،
فنقول للواحد منهم : ما تقول بارك الله فيك وهداك إلى الصواب : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، ما تقول فيها ؟
قال : الله أعلم ،
ما تقول في قوله : { بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) ؟
قال : الله أعلم ،
ما تقول في قوله : { ويبقى وجه ربك } ( الرحمن 27 ) ؟
قال : الله أعلم ،
كل شيء الله أعلم ؟
نعم ، هو كل شيء الله أعلم ،
لكنه عز وجل أنزل علينا كتابا مبينًا { كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } ( ص 29 ) ، { ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } ( النحل 89 ) ،
أي فائدة لنا في قرآن لا نعرف معناه ؟ وهل يمكن أن نمتثل أمر الله عز وجل ؟ وهل يمكن أن نعظم الله ؟ وهل يمكن أن ننفي عنه النقائص ونحن لا نعلم ما أراد بكلامه ؟ ما الجواب ؟
الجواب : لا يمكن !
(70/8)
وإذا كنتم معنا تقولون : إن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام معلومة المعنى ، فالناس يعرفون الصلاة والصيام والحج ، فلماذا لا تجعلون آيات الصفات – وهي أعظم – معلومة المعنى ؟
لأن آيات الصفات تتعلق بذات الخالق عز وجل ،
وآيات الأحكام تتعلق بعمل المخلوق ،
فلماذا لا تجعلون هذه أولى بالعلم ؟
وهؤلاء يسمون عند أهل السنة : ( المفوضة ) ،
ألم تعلموا أن بعض العلماء يقولون : إن التفويض هو مذهب السلف [14] ؟!!!
ويقول : أهل السنة قسمان :
1 – مؤوّلة .
2 – ومفوّضة !!!
هذا واقع ،
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : وصدق فيما قال : ( قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) [15] ،
وذكر تعليلاتٍ عظيمةً قويةً في كتابه المعروف ( درء تعارض العقل والنقل ) ،
ذكر أدلة وقال : هذا الذي فتح علينا باب الفلاسفة ، هذا الذي جعل أهل التخييل [16] ينكرون اليوم الآخر والجنة والنار ،
وقالوا : إذا كنتم لا تعلمون معاني هذه الصفات فنحن أصحابها نحن الذين نعرف أنتم لا تعرفون ما يتعلق بالرب ، نحن الذين نعرف ما يتعلق بالرب ،
الرب كله ليس له أصل وإنما هو تخويف من عباقرة من البشر من أجل أن يستقيم الناس على ما طلب منهم ،
فشيخ الإسلام رحمه الله صدق فيما قال .
يعني ينزل الله علينا كتاباً ورسوله عليه الصلاة والسلام يخبرنا بأخبار فيما يتعلق بذات الرب عز وجل وصفاته ،
كله ليس له معنى ولا يجوز أن نتكلم بمعناه ،
هذا من أعظم ما يكون من الإلحاد والكفر ،
وفيه من الاستهانة بالقرآن الكريم والذم له ما لا يعلمه إلا من تأمل هذا القول الفاسد الباطل ،
القسم الخامس : قالوا : والله نحن ما نتكلم .
نقول : يجوز أن يكون المراد بها الظاهر اللائق ،
ويجوز أن يكون المراد بها الظاهر المماثل للمخلوقين ،
ويجوز أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ،
ويجوز أن لا يكون المراد بها شيء ،
(70/9)
كل هذا ممكن وجائز ، ومادامت الاحتمالات قائمة فالواجب الإمساك ،
والفرق بينهم وبين المفوضة : أن المفوضة يقولون : لا نقول شيء أبدًا ،
وهؤلاء يقولون : يحتمل كذا وكذا ونكف عن القول ،
لأن الاحتمالات كلها واردة وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال ،
السادسة : قوم أعرضوا عن هذا كله وقالوا : فُكُّونا منكم يا جماعة لا تقولوا شيء في صفات الله نحن سنقرأ القرآن ونتعبد لله بقراءته ولا نتعرض لمعناه فيما يتعلق بالصفات إطلاقاً ،
قل : المراد ظاهرها اللائق بالله ،
المراد ظاهرها المماثل للمخلوقين ،
المراد خلاف الظاهر ،
وجوب التفويض ،
يحتمل هذا وهذا ،
قل : أحد الأشياء الخمسة ؟
قال : ما أقول شيء فكونا من شركم يا جماعة ، ويصرخ علينا : روحوا عني ،
وهؤلاء ساكتون لا يقدرونها بقلوبهم ولا ينطقون بها بألسنتهم بل يسكتون عن هذا كله وهؤلاء غير سالمين واقعون في الخطأ ،
القرآن تبيان لكل شيء ، القرآن يراد به لفظه ومعناه الدال عليه لفظه .
ومن لم يقل بذلك فهو على ضلال ،
القرآن نزل بألفاظه ومعانيه لكن علينا أن نكون أديبين مع الله عز وجل لا نتجاوز القرآن ولا نتجاوز الحديث ،
ولو أن أحداً أراد أن يتكلم عن صفة شخص ليس حاضراً ، هل يسوغ له أن يتكلم عن صفته ؟
لا ،
فكيف تتكلم عن صفات الخالق وتتحكم بعقلك أو تحكم بعقلك على هذه الصفات العظيمة التي لا يمكنك أن تدركها بعقلك أبدًا ؟
غاية ما عندنا نحن أن ندرك المعنى ،
أما الحقيقة والكيفية فهذا شيء لا يمكن إدراكه ،
ولهذا يحرم على الإنسان أن يتخيّل أو أن يتصوّر شيئًا من صفات الله عز وجل ، يعني لا يجوز أن تتصور أو أن تتخيل يد الله ؟ كيف هي مثلاً ؟
ولهذا سألني سائل مرة : ما تقول في أصابع الله ؟ كم أصابع الله ؟
أعوذ بالله ، أحد يسأل هذا السؤال يا أخي اتق ربك ، أنت ملزم بهذا ؟!!!
اثبت أن لله أصابع كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام .
(70/10)
وأما كم ؟ ما يمكن أن نتكلم بهذا ؟
قلت له : والله ما أنت بأحرص على العلم بالله من الصحابة .
هل الصحابة لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع ) [17] ، هل قالوا يا رسول الله : هل لله أكثر من هذه الأصابع ؟
ما قالوه لأنهم أكمل أدباً وأشد تعظيماً لله ممن يأتي بعدهم ،
وإذا كنت صادقا في عبادة الله فلا تتجاوز ما أخبر الله به عن نفسه كما أنك لا تتجاوز ما شرعه الله لعباده ،
لو أردت أن تصلي الظهر خمساً ، قال لك الناس : كلهم هذا خطأ ،
إذن لا تتكلم فيما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله إلا بمقدار ما بلغك ،
وأنت إذا سلكت هذا والله تسلم من أمور كثيرة شبهات يوردها الشيطان على قلبك ، ومن شبهات يوردها غيرك عليك ،
لما قيل للإمام مالك : يا أبا عبدالله { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) كيف استوى ؟ أطرق حتى علاه العرق من شدة هذا السؤال وعظمته لأن هذا السؤال منكر ثم قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ،
انظر كلام السلف ،
كل إنسان يسأل في هذه الأمور عما لم يتكلم السلف الصحابة خاصة فهو مبتدع ،
قال قائل : إنه ثبت أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ونحن نشاهد أن الثلث يدور على الأرض إذن الله ينزل كل الليل .
أعوذ بالله ، من قال هذا ؟
قف حيث جاءت النصوص وتسلم من هذا التقدير ،
اعتقد أن الله { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) ، وتسلم من هذا التقدير ،
طلع الفجر هنا في المملكة وهو ثلث الليل في المغرب النزول بالنسبة لنا انتهى بالنسبة لهؤلاء الذين عندهم الثلث موجود نحن في الثلث وأهل المشرق قد طلع عليهم الفجر النزول بالنسبة لأهل المشرق انتهى وبالنسبة لنا بدأ ،
ولا تتعدى هذا يا أخي لست بملزوم بهذه التقديرات أبداً .
والله لو كان خيراً لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم الصحابة .
(70/11)
الصحابة أحرص منا على الخير ،
فإذا قال قائل : ربما لم يكن في قلوبهم هذا التقدير لأنهم ما عرفوا عن كروية الأرض على وجهٍ مفصلٍ ولا عرفوا أن الشمس تغرب عن أهل المدينة قبل أن تغرب عن المغرب فلهذا لم يسألوا ؟
نقول : لو كان من شرع الله لَقَيَّضَ الله له من يسأل حتى يتبين ،
ولهذا لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : أن أيام الدجال فيها يومٌ كسنة ويومٌ كشهر ويومٌ كأسبوع أنطق الله الصحابة وقالوا : اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يومٍ واحد ؟ قال : لا اقدروا له قدره [18] .
فلا تظن أبداً أن شيئاً يلزمنا في ديننا يمكن أن يغفل إطلاقاً ،
لو لم يتكلم به الرسول عليه الصلاة والسلام ابتداءً فسوف من يقيض الله له من يسأل عنه ،
لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ( آل عمران 5 ) ،
لما انقسم أصحاب القبلة يعني الذين ينتسبون للإسلام لما انقسموا هذه الانقسامات صار الناس يؤلفون الكتب المبنية على الجدل والنزاع والخصومات التي لا نهاية لها ،
وإذا طالعت كتب هؤلاء المحرفين خصوصًا أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم ( أهل التأويل ) عجبت من التقديرات التي يقدّرونها ويفصِّلون فيها ويجادلون فيها في أمر لا يمكنهم إدراكه بالنسبة لما يتعلق بصفات الله عز وجل ، وجعلوا الحكم راجعًا إلى ما تقتضيه عقولهم لا إلى ما يقتضيه الكتاب والسنة ، فضلّوا في ذلك ضلالاً بيِّناً وصاروا يتخبطون خبط عشواء لا يعرفون من الحق شيئًا ،
ألّف أهل السنة - الذين سلكوا مسلك السلف - ألفوا كتباً في العقيدة كتباً كثيرةً مختصرةً ومطولةً ومتوسطة [19] ،
ومن جملة ما ألف هذه المنظومة التي نظمها السفاريني رحمه الله فنظمها على مذهب أهل السنة والجماعة على ما فيها من بعض الأشياء التي تحتاج إلى بيان ،
خطبة المتن
1 – الحمد لله القديم الباقي ،
(70/12)
مقدر الآجال والأرزاق ،
قوله : ( الحمد لله ) : ما معنى الحمد ؟
يقولون : هو : ( وصف المحمود بالكمال على وجه المحبة والتعظيم ) ،
فإن كرر الوصف صار ثناءً ،
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله تبارك وتعالى يقول : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } ( الفاتحة 3 ) قال : أثنى علي عبدي ) [20] ،
فنفسر الحمد بأنه : ( وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم ) ،
قوله : ( الحمد ) : ( أل ) : قالوا : إنها للاستغراق ، يعني جميع المحامد ثابتة لله ،
واللام في قوله : ( لله ) : قالوا : إنها للاستحقاق أو للاختصاص ،
وإن شئنا قلنا : إنها للاستحقاق وللاختصاص ،
للاستحقاق ، لأن الله تعالى مستحق للحمد ،
وللاختصاص ، لأن المحامد كلها لا تكون إلا لله وحده فقط ،
قوله : ( لله ) : الله سبحانه وتعالى علم على الرب سبحانه وتعالى رب العالمين ،
وهو علم مختص به لا يمكن أن يكون لغيره [21] ،
وهذا العلم يكون دائمًا متبوعاً لا تابعاً بمعنى أنه هو الذي يُتبع بالأسماء وليس بتابع ،
فمثلاً : قال الله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، { لله ) ثم قال : { رب العالمين } ولم يقل : ( الحمد رب العالمين الله ) ،
وقال : { بسم الله الرحمن الرحيم } ، ولم يقل : ( بسم الرحمن الرحيم الله ) ، فهو دائما هو الذي تلحقه الأسماء ويُلحق بها ،
قوله : ( القديم ) : القديم : يعني : ( السابق لغيره ) ، فهو بمعنى ( الأول ) ،
وقد قال الله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم } (الحديد 3 ) ،
ولكن هذا الاسم بهذا اللفظ لم يَرِدْ لا في الكتاب ولا في السنة [22] ،
اسم ( القديم ) لم يَرِدْ لا في الكتاب ولا في السنة ،
(70/13)
وإذا لم يَرِدْ في الكتاب ولا في السنة فليس لنا أن نسمي الله به ،
لأننا إذا سمينا الله بما لم يُسَمِّ به نفسه فقد قفونا ما ليس لنا به علم وقلنا على الله ما لم نعلم ،
والله تعالى قد حرم ذلك ،
فقال : { قل إنما حرم بي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف 33 ) ،
وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } ( الإسراء 36 ) ،
وإذا سمينا الله بما لم يسم به نفسه فذلك جناية وعدوان ،
أرأيت لو أن شخصًا سمّاك بغير اسمك هل تعتبر ذلك جناية عليك ؟
نعم ، جناية عليك ،
كذلك إذا سميت الله عز وجل بما لم يسم به نفسه فهذا جناية وعدوان في حق الخالق عز وجل فلا يحل لك ،
إذن ننظر في القرآن والسنة هل جاء اسم القديم من أسماء الله ؟
الجواب : لا ،
إذن لا يجوز أن نسمي الله به :
1 – لأنه لم يَرِدْ في الكتاب ولا في السنة ،
2 – ثانيا : لأن ( القديم ) ليس من الأسماء الحسنى ،
والله عز وجل يقول : { ولله الأسماء الحسنى } ( الأعراف 180 ) ،
( القديم ) ليس من الأسماء الحسنى ، لأنه لا يدل على الكمال ،
فإن القديم يطلق على السابق لغيره سواءٌ كان حادثًا أم أزليًا ،
قال الله تعالى : { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } ( يس 39 ) ،
والعرجون القديم حادث وهو – أي العرجون القديم – عذق النخلة الذي يلتوي إذا تقدم به العهد [23] ، ولا شك أنه حادث ، والحدوث نقص ،
وأسماء الله تعالى كلها حسنى لا تحتمل النقص بأي وجه ،
فتبين أن تسمية الله بالقديم لا تجوز ، بدليل عقلي وبدليل سمعي ،
الدليل السمعي : قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } إلى قوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف 33 ) ،
(70/14)
وقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس به علم } ( الإسراء 36 ) ،
والدليل العقلي : أن القديم ليس من الأسماء الحسنى ، لأنه يتضمن نقصًا ،
ما هو النقص ؟
وهو أن القديم قد يراد به الشيء الحادث ، ومعلومٌ أن الحدوث نقص ،
فلو قال المؤلف بدل ( القديم ) : ( الحمد لله العليم ) أو ( العظيم ) أو ( الكريم ) أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي أثبتها الله لنفسه ،
إذن هذا مما يؤخذ على المؤلف رحمه الله تعالى ،
قوله : ( الباقي ) : يعني الذي يبقى بعد كل شيء .
فهو بمعنى : ( الآخر ) : الذي ليس بعده شيء .
والآخر من أسماء الله ،
قال الله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } ( الحديد 3 ) ،
فكأن المؤلف رحمه الله أتى بـ ( القديم ) بازاء ( الأول ) ، وأتى بـ ( الباقي ) بازاء ( الآخر ) ، ولكن في هذا نظراً !
فـ ( الباقي ) لم يَرِدْ من أسماء الله عز وجل [24] ،
وإنما جاء { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ( الرحمن 27 ) والصفة لا يشتق منها اسم [25] ،
وقد مر علينا في القواعد المثلى :
( أن كل اسم متضمن لصفة وليس كل صفةٍ يشتق منها اسم ) ،
فإذا قال الله تعالى : { ويبقى وجه ربك } ( الرحمن 27 ) ،
فلا يعني ذلك أنه يجوز أن نسمي الله بـ ( الباقي ) ،
فالصواب : أن يجعل بدل هذين الاسمين ( الأول – والآخر ) كما ثبت ذلك في القرآن والسنة ،
قوله ( مقدِّر ) : أي جاعلها على قدرٍ معلوم ،
قوله : ( الآجال ) : جمع أجل ،
قوله : ( والأرزاق ) : جمع رزق ،
والآجال : جمع أجل وهو ( منتهى الشيء وغاية الشيء ) [26] ،
ومنه عمر الإنسان مثلاً ، فإنه مُقَدَّرْ عند الله عز وجل بأجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ، وكذلك ما يحدث من الحوادث فهي مُقَدَّرَة بأجل معلوم لا تتقدم ولا تتأخر ،
قوله : ( والأرزاق ) : جمع رزق وهو العطاء [27] ،
والله سبحانه وتعالى هو مُقَدِّرِ الأرزاق يقسمها بين عباده حسب ما تقتضيه حكمته ،
(70/15)
وقد جاء في الحديث : ( إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى ، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر ) [28] .
والله عز وجل يرزق من يشاء لكن حسب حكمته ورحمته ،
قد يبتلي الله الإنسان بالفقر ليعلم أيصبر أم يجزع ،
وقد يبتلي الله الإنسان بالغنى ليعلم أيشكر أم يكفر ، والله عز وجل يقدر الأرزاق كلها ،
فإذا قال قائل : إذا كان الله مقدر الآجال والأرزاق فهل يسوغ لنا أن لا نفعل ما يكون به الرزق ؟
فالجواب : أنه لا يسوغ ،
لأن الله تعالى إذا قدَّر شيئًا فإنه يقدِّره بأسبابه ،
فإذا قدَّر الرزق لشخص فإنه يقدِّره لأسبابٍ يقوم بها الشخص ،
وقد يكون لأسبابٍ لا يقوم بها الشخص ،
كما لو مات لك ميت فورثته فهذا ليس من فعلك ،
لكن على كل حال تقدير الله تعالى للأشياء لا يستلزم ولا يسوغ أن تدع الأسباب النافعة ،
******************
2 – حي عليم قادر موجود ،
قامت به الأشياء والوجود ،
قوله : ( حي ) : من أسماء الله ، قال الله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي } ( البقرة 255 ) ،
فالله سبحانه وتعالى هو الحي الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال ،
الحياة الكاملة بجميع صفات الكمال [29] ،
قوله : ( عليم ) : أي ذو علم [30] ،
والعلم : ( إدراك الشيء على ما هو عليه ) [31] ،
وعلم الله سبحانه وتعالى شامل لكل شيء ،
{ إن الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء } ( آل عمران 5 ) ،
{ لقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ( ق 16 ) أي ما تحدثه به نفسه ، وإن لم يخرجه للناس ،
بل يعلم سبحانه وتعالى ما سيحدث فضلاً عن الحادث ،
قوله : ( قادر ) : القدرة : ( صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل بلا عجز ) ،
(70/16)
فالله عز وجل قادر بقدرة هي وصفه فهو يفعل عز وجل دون أن يعجز [32] ،
والقوة : ( صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل بلا ضعف ) [33] ،
واضرب مثلاً يتبين به الفرق ،
فإذا قيل لشخص : ارفع هذا الحجر فزحزحه وعجز ، نقول : إنه غير قادر ،
وإذا حمله لكن بمشقة شديدة ، نقول : قادر ولكنه ليس بقوي ،
وجاء رجل ثالث فحمله بسهولة ، فنقول : هذا قوي ،
إذن القوة أكمل من القدرة كما أن القوة أشمل من القدرة ،
لأنها يوصف بها ذو الشعور وغيره ،
فيقال : للإنسان قوي وللحيوان قوي وللحديد قوي وللصخر قوي ،
والقدرة لا يوصف بها إلا ذو الشعور ،
ولهذا لا نقول للحديد : إنه قادر ولا للصخر إنه قادر ، لكن نقول : إنه قوي ،
فالرب عز وجل قادر ،
قال الله تعالى : { وهو على كل شيءٍ قدير } ( المائدة 120 ) ،
قدرته لا يستعصي عليها شيء قادر على كل شيء ،
وسيأتينا إن شاء الله ما تتبين به القدرة في كلام المؤلف ،
قوله : ( موجود ) : كلمة : ( موجود ) : الحقيقة أنها مقحمة إقحاماًَ لا وجه له ،
لأنها يغني عنها قوله ( حي ) ،
لأن الحي موجود أو معدوم ؟
موجود ،
وكلمة ( موجود ) ليست من الصفات الكاملة ،
لأن الموجود قد يكون ناقصاً وقد يكون كاملاً ،
لكن يعتذر عن المؤلف أنه أتى بها من باب الخبر لا من باب التسمية ،
ويصح أن نخبر عن الله بأنه موجود ولكن لا نسميه بذلك ،
كما يصح أن نقول : ( إن الله متكلم ) ولكن لا نسميه بذلك ،
لماذا لا نسميه بأنه متكلم ؟
لأن الكلام ليس صفة مدح على كل حال ،
قد يتكلم الإنسان بالسوء فيكون كلامه نقصًا ،
ولكن أقول : إنه يُتَسامَح عن المؤلف بأنه قصد الخبر ،
قوله : ( قامت به الأشياء والوجود ) : ( قامت به ) : أي بالله عز وجل الأشياء كلها بل الوجود كله ،
لولا الله عز وجل ما كان الوجود ولا كانت الأشياء ،
لولا الله عز وجل يمد هذه الأشياء والوجود بما تبقى به ما بقيت ،
فكل شيء قائم بالله عز وجل ،
(70/17)
لقوله : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } ( الروم 25 ) ،
فكل شيء قائم بالله من الأشياء والوجود ،
يعني قيام الشيء بالله عز وجل يشمل ثلاثة أشياء :
1. الإيجاد ،
2. والإمداد ،
3. والإعداد ، [34]
1 – أما الإيجاد : فلولا الله عز وجل ما وجدت الأشياء ، هو الذي أوجد الأشياء عز وجل بقدرته وبحكمته ،
وهذه الأشياء الموجَدَة :
منها ما هو معلوم لنا ،
ومنها ما هو غير معلوم ،
نحن لا نعلم إلا ما أعلمنا الله تعالى منه ، ومع ذلك فما أعلمنا الله به لا نعلم أكثر مما نعلم عنه ،
قال الله تعالى : { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } ( الكهف 51 ) ،
نحن لا نعرف إلا السماء والأرض والنجوم والشمس والقمر والعرش والكرسي ، لكن هناك مخلوقات من قبل لا ندري عنها ،
لأن الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال فعَّالاً ، والفاعل والفعل لا بد أن ينتج عن مفعول ،
فإذا قلنا : إن من صفاته الأزلية أنه فعّال لزم من ذلك أن يكون هناك مفعول ،
فكل الأشياء كائنةٌ بالله ،
2 – أيضاً الإمداد : هو الذي أمدها حتى تبقى ،
أرأيت النبات ينبت في الأرض إذا منع الله المطر فني النبات وإذا أنزل الله المطر بقي النبات وزاد النبات ،
إذن فإمداد هذه الموجودات بما يبقيها وينميها من عند الله عز وجل ،
3 – ثالثاً : إعدادها : يعني تهيئتها لما هي صالحةٌ له .
فالإبل مثلاً : للركوب : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون ، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } ( يس 71 – 71 ) ،
كيف أعدها وجعلها صالحةً لما خُلقت له من حيث القوة والشكل واحتداب الظهر حتى يقوى على التحمل وإيجاد الشحم الكثير على ظهرها لئلا يرهق الحمل ويكسر العظام أو يخل بها إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون مهيأة للشيء لما أعد له ،
فقيام الأشياء بالله عز وجل من حيث الإيجاد والإمداد والإعداد كل هذا قائم بالله عز وجل ،
(70/18)
دليل هذا : قال الله تعالى : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } ( الروم 25 ) ،
لولا أمر الله عز وجل الكوني ما قامت السماوات والأرض ،
وصلاح الأرض والسماء بالقيام بأمر الله الشرعي أيضاً ،
ولهذا تعد معصية الله من الإفساد في الأرض ،
ودليل آخر : قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( البقرة 255 ) ،
لأن معنى : ( القيوم ) : ( القائم بنفسه القائم على غيره ) ،
ودليل ثالث : قوله تعالى : { أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت } ( الرعد 33 ) يعني كمن ليس كذلك ،
ومن القائم على كل نفس بما كسبت ؟
هو الله عز وجل ،
فصار الوجود كله قائم بالله عز وجل إيجادًا وإمدادًا وإعدادًا ،
******************
3 – دلت على وجوده الحوادث ،
سبحانه فهو الحكيم الوارث ،
قوله : ( دلت على وجوده الحوادث ) : أراد المؤلف رحمه الله أن يستدل على وجود الله عز وجل ،
فاستدل بوجوده سبحانه وتعالى على الحوادث ،
يعني أن حدوث الأشياء دليل على وجود الله عز وجل ،
وتقرير هذا الدليل : أن نقول : كل حادث لا بد له من محدث ،
وإذا تتبعنا الأشياء وجدنا أنه لا محدث لهذا الحادث إلا الله عز وجل ،
ودليل هذا : قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون } ( الطور 35 ) ،
الجواب : لا هذا ولا ذاك ،
يعني ليسوا خلقوا من غير خالق ولا خلقوا أنفسهم ،
وحينئذ يتعين أن يكون لهم خالقاً ،
فمن الذي خلقهم ؟
الذي خلقهم هو الله ،
لأنه لا أحد يستطيع أن يقول عن نفسه : أنا الذي خلقت ؟
حتى الأب والأم لا يستطيع أن يقولا : خلقنا ما في بطون الأم ، لو قال الأب : أنا الذي خلقت ابني وجعلت له عينين ولساناً وشفتين وأصابع يدين ورجلين قال الناس : له كذبت ملء شدقيك وأين أنت من الجنين في بطن أمه ؟ هل شققت البطن وجعلت هذا هل نفخت فيه الروح ؟
أبدًا ،
إذن فهو كاذب ،
(70/19)
ولا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لو قال : الذي خلقه سيدنا فلان المولى العظيم الكبير الذي في قبره ،
فنقول له : كذبت ألف مرة ، هذا اذهب إلى قبره إما أن يكون أكلته الأرض وإلا فهو جثة لا يملك لنفسه شيئا فكيف يملك لغيره ؟ وإذا كابرت فكل أحد يرد قولك ،
إذن الحوادث دليل على وجود الله لدليل سمعي ودليل عقلي ،
الدليل : { أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون } ( الطور 35 ) ،
ودليلٌ عقلي : وهو أن ( كل حادث لا بد له من محدث ) ولا محدث للحوادث إلا الله عز وجل ،
ولكن ينبغي أن نسأل :
هل المؤلف أراد حصر الدليل على وجود الله عز وجل بهذه الطريق فقط ؟
الجواب : لا ، فإن كان أراد ذلك فلا شك أن هذا قصور ،
لأن الأدلة على وجود الله عز وجل أدلةٌ كثيرة شرعية وعقلية وحسية وفطرية [35] ،
فدلالة الفطرة على وجود الله أقوى من كل دليل لمن لم تجتله الشياطين ،
ولهذا قال الله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } بعد قوله : { فأقم وجهك للدين حنيفاً } ( الروم 30 ) ،
فالفطرة السليمة تشهد بوجود الله ولا يمكن أن يعدل عن هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين ومن اجتالته الشياطين فقد وُجد في حقه مانعٌ قوي يمنع هذا الدليل ،
والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية :
أما كونها حسية : فلأنها مشاهدة بالحس ،
وأما كونها عقلية : فلأن العقل يدل على أن كل حادثٍ لا بد له من محدث ،
ولهذا سئل أعرابي : بم عرفت ربك ؟ فقال : الأثر يدل على المسير ، والبَعْرَة تدل على البعير ، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير ؟
الجواب : بلى ،
هذا أعرابي استدل على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالقٍ عظيم عز وجل ، هو السميع البصير ،
فالحوادث دليل على وجود المحدث ،
ثم كل حادثٍ منها يدل على صفةٍ مناسبةٍ غير الوجود ،
(70/20)
فنزول المطر يدل لا شك على وجود الخالق ويدل على رحمته وهذه دلالةٌ غير الدلالة على الوجود ،
وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق وتدل على غضب الله عز وجل وانتقامه ،
فكل حادثٍ فله دلالتان :
1. دلالةٌ كلية عامة : تشترك فيها جميع الحوادث وهي وجود الخالق وجود المحدث ،
2. ودلالةٌ خاصة : في كل حادثٍ بما يختص به كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب وهكذا ،
هل هناك أدلةٌ أخرى على وجود الخالق ؟
الجواب : نعم ، هناك أدلة أخرى ،
جميع الشرائع دالةٌ على الخالق وعلى كمال علمه وحكمته ورحمته ،
لأن هذه الشرائع لا بد لها من مشرِّعٍ والمشرِّع هو الله عز وجل ،
فجميع الشرائع دالة على وجود المشرع وهو الله سبحانه وتعالى ،
هناك دلالة أخرى :
النوازل التي تنزل لسبب دالة على وجود الخالق ،
مثل : دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء دليل على وجوده ،
وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص ،
لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال : ( اللهم أغثنا اللهم أغثنا ) ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر [36] ،
هذا حديث أنس يدل على وجود الخالق وهذا أخص من دلالة العموم ،
إذن عندنا من الدلالات على وجود الخالق عز وجل :
1 – الحوادث على سبيل العموم .
2 – والشرائع .
3 – والحوادث الخاصة التي تكون لسبب .
4 – وهناك أيضاً الفطرة .
فالفطرة السليمة تدل على وجود الخالق ،
ليست الفطرة التي فطر عليها الإنسان بل التي فطر عليها جميع الخلق ،
حتى البهائم العُجْمْ تعرف خالقها ،
قال الله تعالى : { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا ويسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ( الإسراء 44 ) ، { وإن من شيءٍ } أي : ( ما من شيءٍ ) ،
وهل يسبح المسبح من لا يعرفه ؟
لا ، لا يسبح إلا من يعرفه ،
(70/21)
فهذه أربعة أوجهٍ كلها تدل على وجود الخالق عز وجل ،
قوله : ( سبحانه ) : ( سبحان ) اسم مصدر ( سبح ) ، والمصدر ( تسبيح ) .
وأصل هذه المادة يدل على البُعْد ،
ومنه السَّبْحُ في الماء لأن السابح يذهب بعيداً ،
والمراد بتسبيح الله عز وجل تنزيهه المتضمن لبعده عن كل نقص [37] ،
والنقص :
إما أن يكون في أصل الصفة ،
وإما أن يكون بمقارنتها بغيرها ،
ففي أصل الصفة : نقول : هو حيٌ عليمٌ قادرٌ حكيمٌ عزيزٌ ،
كل صفاته ليس فيها نقص حيٌ حياة لا نقص فيها عليمٌ علماً لا نقص فيه سميعٌ سمعاً لا نقص فيه ،
أو نقصٌ باعتبار مقارنتها بغيرها وذلك بأن ننزهه عن مماثلة المخلوقين لأن تمثيله بالمخلوقين يعتبر نقصاً ،
فصار النقص دائراً بين شيئين :
أولاً : نقص الصفة بذاتها ، فصفاته غير ناقصة ،
والثاني : نقصها باعتبار مقارنتها بصفة المخلوق ،
فإنه لا مقارنة بين صفة الخالق وصفة المخلوق ،
فهو منزه إذن عن النقص في صفاته وعن النقص بمشابهته أو بمماثلته المخلوقين ،
نحن نقول في الصلاة : ( سبحان ربي الأعلى ) ،
وإني أسألكم : هل أنتم حينما تقولون : ( سبحان ربي الأعلى ) ، تستحضرون هذا المعنى أو تقولون : ( سبحان ربي الأعلى ) باعتبار أنه ذكر وثناء على الله ؟
الغالب هو هذا عموماً وخصوصاً ،
أنهم إذا قالوا : ( سبحان ربي الأعلى ) لا يشعرون إلا بالثناء على الله والتنزيه المطلق ،
لكن ما يشعر إني أنزهك يا رب عن مماثلة المخلوقين وعن كل نقصٍ في صفاتك ، ما يشعر بهذا إلا قليلاً ،
قوله : ( فهو الحكيم ) : ( الحكيم ) : مأخوذة من الحُكْم والإحكام [38] ،
فلله عز وجل الحكم وحكمه كله إحكام أي إتقان والإتقان يعني الحكمة ،
لأن الإتقان : ( أن يوضع الشيء في موضعه على وجه لا خلل فيه ) ،
والله سبحانه وتعالى في أفعاله وأحكامه كذلك ،
قال العلماء : والحكم حكمان [39] :
1. حكمٌ كوني ٌ ،
2. وحكمٌ شرعيٌ ،
(70/22)
مثال الحكم الكوني : قوله سبحانه وتعالى عن أحد أخوة يوسف : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي } ( يوسف 80 ) ،
هذا حكم كوني ،
ليس حكماً شرعياً :
لأنه من حيث الحكم الشرعي قد حكم الله له ،
لكن من حيث الحكم الكوني ، فهذا حكم يتعين أن يكون حكماً كونياً ،
مثال الحكم الشرعي : قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } ( المائدة 50 ) ،
هذا حكم شرعي ،
ولا يتضمن حكماً كونياً ،
ومثال الذي يشمل الكوني والشرعي : { له الحكم وإليه تُرجعون } ( القصص 88 ) ، { أليس الله بأحكم الحاكمين } ( التين 8 ) ،
يشمل الحكم الكوني والشرعي ،
إذن أحكام الله عز وجل كونية وشرعية ،
فإذا قال قائل : نحن لا نشك بأن أحكام الله تعالى كونية وشرعية ، فما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما من وجهين :
أولا : الحكم الكوني واقع لا محالة وشاملٌ لكل أحد ،
الحكم الكوني يكون فيما يرضاه وما لا يرضاه ،
قد يحكم الله عز وجل بأن يقع الكفر والشرك والزنا والفواحش لكنه لا يرضاها شرعاً ،
والحكم الشرعي قد يقع وقد لا يقع بمعنى أنه قد ينفذ وقد لا ينفذ ،
أما من حيث أن الله حكم به فهو واقع لا شك ، لكن هل ينفذ أو لا ينفذ ؟
إذا قضى الله عز وجل بأن هذا واجب على العباد فقد يفعلونه وقد لا يفعلونه لكن إذا حكم كوناً بأن هذا واجب على العباد واقع عليهم فلا بد أن يقع ،
الثاني : أن الحكم الشرعي لا يكون إلا فيما يرضاه الله عز وجل ، إما أن يرضى وجوده وإما أن يرضى عدمه ،
الحكم الكوني والشرعي ، قلنا : إن الحكيم بمعنى الحاكم وبمعنى المحكم ،
كل أحكام الله سبحانه الكونية والشرعية كلها محكمة مبنية على الحكمة ،
فما من حكم كوني حكم الله به إلا وهو مطابق للحكمة ،
وما من حكم شرعي حكم الله به إلا وهو مطابق للحكمة ،
والحكمة نوعان :
1. غائية ،
2. وصورية ،
(70/23)
الغائية : بمعنى أن الشيء إنما كان لغايةٍ حميدة ،
والصورية : بمعنى أن كون الشيء على هذه الصورة المعينة لحكمة ،
فإذا تدبرت الصلاة كونها على هذا الوجه قيام ثم ركوع ثم قيام ثم سجود ثم قعود ،
هذه صورية مطابقة للحكمة تماماً ،
والغاية منها حكمة أيضاً وهي الثواب والأجر عند الله عز وجل ،
وهكذا أيضاً المخلوقات : كون الشمس بهذا الحجم وبهذه الحرارة وبهذا الارتفاع ،
هذه صورية هذا مناسب للحكمة تماماً ،
الثمرات الناتجة عن الشمس غائية ،
فالحاصل : أن حكمة الله عز وجل تتعلق بالشيء من حيث صورته ومن حيث غايته وكل ذلك مطابق للحكمة ،
ولكن هل الحكمة معلومة للخلق ؟
الجواب : قد تكون معلومة وقد لا تكون معلومة ،
لكن كونها غير معلومة لا يعني أنها معدومة ،
بل إنها موجودة لكن لقصورنا أو تقصيرنا لم نصل إليها ،
الأحكام الشرعية إذا لم يعلم العلماء حكمتها سموها بـ ( الأحكام التعبدية ) ،
ولهذا لو قال لك قائل : ما الحكمة في أن تكون صلاة الظهر أربعاً دون ثمان ؟
قلنا : هذه تعبدية ليس للعقل فيها مجال ،
فهم يقولون : إن عُلِمَتْ حكمة الحكم فهو حكم معقول المعنى ، مع ما فيه من التعبد لله ،
وإن لم تعلم فهو حكم تعبدي ليس لنا أمامه إلا التعبد ،
وأيهما أقوى في التعبد الامتثال للحكم التعبدي أو للحكم المعقول المعنى ؟
الأول أبلغ في التذلل ، أن تقبل الحكم وإن لم تعرف حكمته ، هذا أبلغ ،
لأن كون الإنسان لا يقبل الحكم إلا إذا علم حكمته فيه نوع من الشرك ،
وهو عبادة الهوى وأنه وافق الشيء هواه وأدرك حكمته قبله واطمئن إليه ورضي به وإن لم يكن صار عنده فيه تردد ،
وانظروا إلى الناس اليوم تجدوا أن أكثرهم يطلبون العلة العقلية ،
حتى إن بعضهم تقول : قال الله ورسوله ، يقول : وما الحكمة ؟
أنت مأمور إن كنت مؤمناً أن تكون الحكمة عندك قول الله ورسوله ،
(70/24)
ولهذا لما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ ، بماذا أجابت ؟ قالت : ( كنا يصيبنا ذلك ، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) [40] ،
إذن هذه الحكمة إذا أجبنا بهذه الحكمة لا يمكن لأحد أن يتكلم لكن إذا ذهبنا نأتي بعلل معقولة قد تكون مقصودة للشرع ، وقد لا تكون ، أوردوا علينا وناقضونا ،
لأن هؤلاء إنما يريدون الجدل ، فكلما أتيت بعلة نقضوها ،
ولهذا نقول : كل من سألنا : ما الحكمة في هذا ؟
نقول : الحكمة قول الله ورسوله إن كنت مؤمناً ،
لأن الله يقول : { وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم } ( الأحزاب 36 ) وبهذا نسد عليه الباب ،
إن أراد أو حاول أن يجادل فإيمانه ضعيف ، لأن فرض المؤمن أن يقول : سمعنا وأطعنا ،،
خلاصة القول : إن باب الحكمة باب عظيم ينبغي للإنسان أن يعقله وأن يؤمن به إيماناً تاماً وأن يعلم أن أفعال الله مقرونة بالحكمة ،
خلافا لمن قال : ( أن أمره وفعله لغير حكمه بل لمجرد المشيئة ) ،
فإن في هذا من تنقص الله عز وجل ما هو معلوم [41] ،
قوله : ( الوارث ) : هذا الاسم جاء في القرآن بالجمع وبالفعل ، { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } ( مريم 40 ) ، { وكنا نحن الوارثين } ( القصص 58 ) ،
فالوارث معناه : الذي يرث من قبله [42] ،
ولا شك أن الله هو الآخر الذي ليس بعده شيء ،
فإذا كان الآخر الذي ليس بعده شيء لزم أن يكون الوارث لكل شيء ،
فالله سبحانه وتعالى هو الوارث لكل شيء ،
كل من سواه فإن الله سبحانه وتعالى بعده هو الآخر الذي ليس بعده شيء ،
هذه الأبيات الثلاثة كلها ثناء على الله عز وجل ،
وقد اعتاد المصنفون رحمهم الله أن يبدؤوا مصنفاتهم بالثناء على الله عز وجل ، ثم بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ،
(70/25)
لأن القصد الأول هو الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم دال على الطريق الموصل إلى الله فكان حقه بعد حق الله سبحانه وتعالى ،
******************
4 – ثم الصلاة والسلام سرمدا ،
على النبي المصطفى كنز الهدى ،
قوله : ( ثم ) : أي بعد الثناء على الله أثنى بذكر حق الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بالصلاة والسلام عليه ،
وأعظم حقوق البشر حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو أحق من الوالدين وأحق من الأقارب ،
بل وأحق من النفس ،
ولهذا يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس ،
فيجب فداؤه بالنفس عليه الصلاة والسلام ،
ولا أحد من الخلق يجب فداؤه بالنفس إلا محمد صلى الله عليه وسلم ،
ولا أحد من الخلق يجب تقديم محبته على النفس إلا محمد صلى الله عليه وسلم ،
ولهذا لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ،
ولا يمكن أن يؤمن الإنسان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه حتى من نفسه ،
قوله : ( سرمدًا ) : يعني أبدًا ،
قوله : ( الصلاة ) : تكلم العلماء رحمهم الله في معناها [43] ،
ولكن أصح الأقوال فيها : ما قاله أبو العالية الرياحي [44] : أنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى [45] ،
ومعنى : ( ثناؤه عليه في الملأ الأعلى ) : أي أن الله تعالى يذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الحميدة عند الملائكة ويثني عليها .
وهو أخص من مطلق الرحمة ، لأن الرحمة عامة لكل أحد ، كل المؤمنين مرحومون ،
لكن هل كل المؤمنين مُصَلىً عليهم ؟
أخبر الله بأنه يصلي علينا هو وملائكته لكن الرحمة أعم ،
ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن تقول : اللهم ارحم فلاناً ،
واختلفوا : هل يجوز أن تقول : اللهم صل على فلان ،
ولكن الصحيح : جوازه ما لم يتخذ شعارًا لهذا الشخص المعين ،
فإن اتخذ شعارًا لهذا الشخص المعين فهو ممنوع ،
(70/26)
لأنه خصه بخصيصة يفهم معنىً فاسداً ، فالصلاة أخص من الرحمة ،
فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ( اللهم صل على محمد ) ، فإن الله يصلي عليك عشرًا ، يعني إذا سألت الله أن يثني على رسوله مرة واحدة أثنى الله عليك عشر مرات ،
قوله : ( والسلام ) : بمعنى السلامة من كل آفة ، والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم من كل آفة ،
إن قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فما معنى الدعاء له بالسلامة ؟
فالجواب : أن دعاءنا له بالسلامة يشمل السلامة في الدنيا والسلامة في الآخرة ،
والآخرة إذا لم يسلّم الله البشر هلكوا ،
ولهذا كان الناس يمرون على الصراط وكان دعاء الأنبياء يومئذ : ( اللهم سلم ، اللهم سلم ) [46] .
أيضا في الدنيا تدعو أن الله يسلم الرسول عليه الصلاة والسلام .
وكيف ذلك ؟
يسلِّمه من العدوان على جسده ،
أفليس قد ذكر في التاريخ أن رجلين أراد أن يستلبا جسد النبي عليه الصلاة والسلام ،
إذن فأنت تدعو الله أن يسلمه حتى في الدنيا يسلم جسده ،
ثم ربما يقال : أن المسألة أوسع من ذلك بأن تسأل الله تعالى أن يسلمه في الدنيا أي يسلم شريعته من أن ينالها أحد بسوء ،
لأن شريعة الإنسان لا شك أنه يذود عنها كما يذود عن نفسه ، الإنسان يذود عن مبدأه وعن شريعته وعن طريقه كما يذود عن نفسه وما أكثر الذين يستميتون من أجل تحقيق دعوتهم ،
إذن فالسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم نقول : يكون في الدنيا والآخرة ويكون بسلامته عليه الصلاة والسلام نفسه وبسلامة شريعته ،
وقوله : ( على النبي ) : النبي : هل هو بالهمز وخفِّف أو بالياء التي أصلها الواو ؟
قيل : إن أصله من النَّبْوة من نبا ينبو نبوًا ، وهو الارتفاع ، لأن نبا بمعنى ارتفع ،
ولا شك في ارتفاع رتبة النبي ،
وعلى هذا فيكون النبي أصلها النبيوء ،
(70/27)
لكن اجتمع الواو مع الياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً فصارت ( النبي ) ،
وقيل : إنه من النبأ بمعنى الخبر ،
لأن النبي منبأ ومنبئ ولكن سهلت الهمزة إلى الياء لكثرة الاستعمال ،
فأصلها النبيوء ثم سهل فصارت ( النبي ) [47] ،
وقد ذكرنا قاعدة ( أنه إذا احتمل اللفظ معنيين لا يتنافيان حمل عليهما جميعًا ) ،
فنقول : هو مشتق من هذا ومن هذا ، لأن النبي رفيع المنزلة وهو أيضا منبئ ومنبأ ،
وقوله : ( المصطفى ) : يعني : المختار ،
لأنه مأخوذ من الصفوة ( وصفوة الشيء خياره ) [48] ،
فهو صلى الله عليه وسلم مصطفى أي مختار على جميع الخلق ،
فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل [49] ،
والرسل أفضل الخلق [50] ،
والدليل على أنه أفضل الرسل :
أولا : أن الله تبارك وتعالى قال : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } ( آل عمران 81 ) ،
فهذه الآية نص صريح في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء وأنه يجب عليهم إتباعه ،
لأن الذي جاء مصدقا لما معهم هو الرسول عليه الصلاة والسلام ،
كما قال الله تبارك وتعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } ( المائدة 48 ) ،
ثانيا : أنه في ليلة المعراج لما صلى الأنبياء من كان إمامهم ؟
كان إمامهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام ، ولهذا نقول : ( المصطفى ) ،
إذا قال قائل : أليس الله قد اتخذ إبراهيم خليلاً والخلة أعلى أنواع المحبة ، فما الجواب ؟
نقول : بلى ، لكنه قد اتخذ أيضا محمدًا خليلاً .
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) [51] ،
فإن قال قائل : أليس الله تعالى قد كلم موسى تكليماً ؟
(70/28)
فالجواب : بلى ،
ولكنه أيضا كلم محمدًا صلى الله عليه وسلم تكليماً ،
إذا كان كلّم موسى وموسى في الأرض فقد كلم محمدًا صلى الله عليه وسلم ومحمدا فوق السماوات السبع ،
فما من صفة كمال لنبي من الأنبياء إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها أو خير منها ،
وما من آية لنبي إلا كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو لأتباعه ،
ومعلوم أن الكرامات للأتباع كالمعجزات للنبي المتبوع ،
فيه كلمة يقولها من يزعمون أنهم يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم .
يقولون : محمد حبيب وإبراهيم خليل ،
وهذا نقص بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأن الخلة أعلى من المحبة ،
ولهذا نقول : إن الله يحب المحسنين والمتقين ،
ولا نقول : إنه خليل للمحسنين والمتقين ، يحب الأنبياء ،
ولا نقول : إنه خليل لهم إلا لمحمد وإبراهيم ومن سواهم من الأنبياء ، لا نثبت لهم الخلة فثبت لهم المحبة لا شك لكن الخلة أعظم وأكمل ،
وقوله : ( كنز الهدى ) : يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الكنز ،
لكن ليس كنز الذهب والفضة ، ولكنه كنز الهدى ، أي هدى الدلالة والإرشاد ،
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو العلم والمنار الذي يُهتدى به ، لكنه ليس كنز الهدى بمعنى التوفيق ،
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يهدي أحدًا أبدًا ، ولو استطاع أن يهدي أحدًا لهدى عمه أبا طالب الذي أحسن إليه ودافع عنه وناضل عنه وحماه ومع ذلك كان يقول له عند موته : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) [52] ،
(70/29)
ولكنه والعياذ بالله قد حقت عليه كلمة العذاب فلم يقل هذا وإنما كان آخر قوله : هو على ملة عبد المطلب ، فأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، ولكن من أجل أن هذا الرجل دافع عن الإسلام وحمى النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه ، جازاه الله عز وجل بجزاء لم يكن لغيره من الكافرين ، فأذِن الله لنبيه أن يشفع فيه فشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام فكان في ضحضاح من نار وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه ، وهو أهون أهل النار عذاباً [53] ، إذا كان الدماغ أبعد ما يكون عن النعلين يغلي فما بالك بما تحته ،
ولهذا نقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كنز الهدى هدى العلم والدلالة دون التوفيق والعمل فإنه لا يستطيع أن يهدي أحدًا هداية توفيق وعمل ، وإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ففي حق غير الرسول من باب أولى ،
يعني نحن لا نملك هداية الناس هداية توفيق إنما علينا أن نهديهم هداية دلالة وإرشاد ، ونسأل لله عز وجل أن يعيننا على ذلك ،
نحن وظيفتنا أن ندل ونرشد ونبين وندعو ونأمر وننهى ونغير ،
وكل هذا بقدر الاستطاعة ، فهنا بيان ودعوة وأمر وتغيير ،
كثير من الناس يظنون أن معناها واحد ، وليس كذلك ،
البيان أن تبين بياناً عاماً للناس ،
والدعوة أن تقول : ( افعلوا يا أيها الناس ) ، فتدعوهم كالذي يدعو الغنم للشرب ، تأمرهم تقول : ( يا فلان افعل كذا ) ، فالأمر أخص من مجرد الدعوة ،
وأعلى شيء هو التغيير إذا رأيت آلة لهو ما تنهى عنها بل تأخذها وتكسرها ،
وكل هذا والحمد لله منوط بالاستطاعة ، ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [54] ،
******************
5 – وآله وصحبه الأبرار ،
معادن التقوى مع الأسرار ،
قوله : ( وآله ) : من هم الآل ؟
نقول : الآل : تطلق على معان :
(70/30)
وأصح ما نقول فيها : أنها إن قرنت بالاتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته .
وإن لم تقرن بالأتباع فالمراد بآله : اتباعه على دينه ، ويشمل المؤمنين من قرابته .
هذا هو أصح ما قيل في الآل ،
وعبارة المؤلف ليس فيها ذكر الأتباع ،
إذن فنقول : المراد بـ ( آله ) اتباعه على دينه ،
في التشهد نقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ،
المراد : اتباعه على دينه ،
لأنه لم يذكر الأتباع ،
لكن إذا قلنا : ( اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ) ،
صار المراد بالآل المؤمنين من قرابته ،
وقد قال الناظم [55] :
آل النبي هم أتباع ملته ،
من الأعاجم والسودان والعرب ،
لو لم يكن آله إلا قرابته ،
صلى المصلي على الطاغي أبي لهب [56] ،
لكن الصواب : أن الذين قالوا : إن الآل هم القرابة ،
لا شك أنهم يريدون المؤمنين من قرابته ،
لأنه لا يمكن لأي مؤمن أن يقول : أنني إذا قلت : ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) أي المشركون من قرابته ،
وقوله : ( وصحبه ) : الصحب والأصحاب والصاحب في اللغة العربية : تدل على المرافق الملازم [57] ،
ولهذا قلنا : إن أصحاب النار هم أهلها الخالدون فيها ولا يكون الإنسان صاحباً إلا بملازمة طويلة إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مجرد الملاقاة مع الإيمان به تكون بها الصحبة ،
فـ ( الصحابي ) : ( من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ) [58] ،
حتى وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة فهو صحابي [59] ،
قوله : ( الأبرار ) : جمع بَرْ ، وضدها الفجار ،
قال الله تعالى : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } ( المطففين 7 ) ، وبعد ذلك { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } ( المطففين 18 ) ،
(70/31)
البَرْ : في الأصل ( كثير الخير ) [60] ،
ومنه : قوله تعالى : { إنا كنا ندعوه من قبل إنه هو البَرُّ الرحيم } ( الطور 28 ) ،
فالأبرار : هم كثيروا العمل الصالح الذين أكثروا من الأعمال الصالحة ،
ولا نعلم أحدًا من الخلق أكثر عملاً في الصالحات من الصحابة رضي الله عنهم ،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [61] ،
ويجب علينا نحن خلف الأمة أن نعرف لهؤلاء السلف حقهم وقدرهم وأن نحترمهم في أقوالهم وأفعالهم ما وجدنا لها مكاناً في الاحترام ،
ومن المؤسف أن من الخلف اليوم ولا سيما بعض المدعين للاجتهاد الذين يرونهم أنه مجتهدون على الإطلاق وأنهم كالثريا بالنسبة للثرى مع العالم الآخر ،
من المؤسف أن هؤلاء عندما تقول لهم : قال فلان من الصحابة المعروفين بالفقه والعلم ، يقول : هذا قول صحابي ولا نوافق ، أشمت الله بالعدو الأعداء كيف قول صحابي وبهذه البساطة تتكلم بهذا الكلام ؟ قول صحابي ولا نعمل به !
حتى إن بعضهم قال : إن الأذان الأول للجمعة بدعة ،
يا هذا قد سنه الخليفة الراشد الذي أمرنا باتباعه عثمان بن عفان ،
قال : وإن لم يسنه الرسول عليه الصلاة والسلام ،
إذن حكم على خليفة المسلمين الثالث وعلى المسلمين عمومًا بالضلال ، لأني لا أعلم إلى ساعتي هذه أن أحدًا من الصحابة أنكروا على عثمان هذا الأذان فيكون الصحابة مجمعين على إقرار الضلالة ويكون الخليفة الراشد ضالاً ، لأن كل بدعة ضلالة ،
وهذا والعياذ بالله غرور بالنفس وزهو ولا شك أن من ترافع إلى هذا الحد سوف يضعه الله وأن من تواضع لله رفعه الله ،
يجب أن نعرف لهؤلاء السلف حقهم ومنزلتهم عند الله وفي العلم وفي العبادة ،
إذا قال أحدٌ قولاً مخالفاً للكتاب وإن كان غير معصوم فلنا أن نرده لكن نرده مع الاعتذار عنه أما أن نرده بهذه الوقاحة في أمر اجتهادي قد يكون الصواب مع الصحابي لا معك ،
(70/32)
حدثني بعض الأخوة أنه جاءهم رجل وقال لهم : إن التكبير – الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد – هذا ليس بصحيح ولا تقل هكذا ، لماذا ؟
قال : لأنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
وأغفل أنه مروي عن عمر وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم خليفتان من خلفاء المسلمين أن صفة التكبير – الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد – وعن ابن مسعود [62] أو غيره من الصحابة التكبير ثلاث مرات [63] ،
كيف نقول : إن هذا لا يقال ، لأنه قول صحابي ليس فيه حديث عن الرسول ؟
قول الصحابي خير من قولك ، أنا لا أقول عين هذا القول لكن أقول : لا تنكر هذا القول ،
لأن الإنكار يحتاج إلى دليل ،
وقول الصحابي إذا لم يخالف الدليل دليلٌ على قاعدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وعلى ظاهر الأدلة العامة ، ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [64] ،
فالمهم أنني أحثكم – بارك الله فيكم – على الحذر من هؤلاء وطريقتهم الذي لا يقيمون وزناً للسلف الصالح ولا يحترمونهم ويعدون القول منهم كقول السوقة من الناس اليوم ،
فإن الواجب أن نحترم أقوالهم ، وإذا رأيناها مخالفة للدليل نطلب لهم العذر ،
ونقول : لعله لم يبلغه لعله تأول ،
ولهذا الصحابة رضي الله عنهم علموا أن عثمان بإتمامه الصلاة في منى ليس على صواب ومع ذلك ما شنعوا عليه ولا انفصلوا عنه بل أتموا الصلاة ،
فأنا أحذِّركم – بارك الله فيكم – من هؤلاء وطريقتهم ،
وأقول : إنه يجب علينا أن نحترم أقوال سلفنا الصالح ولكننا لا نعتقد عصمتهم ،
بل نقول : إن الخطأ جائز عليهم كما هو علينا أجوز ،
ولكن إذا رأينا خطأ بينًا مخالفاً للكتاب والسنة فإننا لا نقبله ،
ولكن نعتذر عمن علمنا حسن قصده حتى من بعد الصحابة ،
يعني فيه أئمة يخطئون فيه اتباع للأئمة لكنهم أئمة بمذاهبهم يخطئون ،
(70/33)
ولكن هل نتخذ من هذا الخطأ الجفاء معهم والكلام الذي لا ينبغي ؟
لا ، أبدًا ، بل إذا اخطئوا اعتذرنا عنهم وقلنا : والله نحن لا نتبع إلا ما قام الدليل عليه ولكن هؤلاء اخطئوا وربما يكون لهم عذر ،
ومن قرأ كتاب شيخ الإسلام رحمه الله ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) تبين له كيف يعامل الأئمة والعلماء ، إما أن نستعز بأنفسنا ويرى الواحد منا كأنه رسول يوحى إليه فهذا خطأ عظيم ،
والغالب أن هؤلاء يحرمون بركة العلم – ولا أعني ببركة العلم أن لا يكون عندهم علم واسع ، قد يكون عندهم علم واسع – لكن يحرمون بركته من خشية الإنسان لربه عز وجل وإنابته إليه ، والحقيقة أن العلم إذا لم يثمر خشية الله عز وجل والإنابة إليه والتعلق به سبحانه وتعالى واحترام المسلمين ، فإنه علم فاقد البركة بل قد يختم لمن سلك هذا المسلك بخاتمة سيئة مثل ما علمنا أناسًا علماء فطاحل لكنهم – والعياذ بالله – ختم لهم بسوء الخاتمة ،
لأنهم اعتزوا بأنفسهم وفخروا بأنفسهم وازدروا غيرهم وهذا خطير جداً ،
نسأل الله أن يعافيني وإياكم منه وأن يعافي بقية إخواننا المسلمين من ذلك ،
وقوله : ( معادن ) : المعدِن : أصل الشيء [65] ،
ومنه : المعادن الأرضية التي هي أصل هذه الجواهر النفيسة [66] ،
قوله : ( التقوى ) : أصلها ( وقوى ) ، مأخوذة من الوقاية [67] ،
وهي : ( اتخاذ الإنسان وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ) ،
هذا أجمع ما قيل فيها ،
إذن فهي : ( اسم جامع لفعل الأوامر وترك النواهي ) ،
لكن أحيانًا يقال : بر وتقوى ،
فإذا قيل : بر وتقوى ، صار البر : ( فعل الطاعات ) ، والتقوى : ( ترك المنهيات ) ،
وإلا إذا ذكرت التقوى وحدها شملت البر .
وإن ذكر البر وحده شمل التقوى ،
وقوله : ( مع الأسرار ) : ( الأسرار ) : جمع : ( سر ) ،
والمراد به هنا : الاطلاع على خفايا العلوم والمناهج ،
والمناهج : يعني السبل والطرق والأخلاق التي يتخلقون بها ،
(70/34)
فلا أحد أعمق علماً من الصحابة ولا أحد أقل تكلفاً من الصحابة ،
ولذلك لو جمعت كل ما روي عن الصحابة في أبواب العلم لوجدته ينقص كثيراً عن مؤلَّف من مؤلفات علماء الكلام الذي ليس فيه إلا حشو الكلام الذي لا منفعة فيه بل فيه مضرة أدناها إضاعة الوقت ،
تجد كلام الصحابة رضي الله عنهم سهلاً واضحًا سلساً ليس فيه تكلف ولا تشدد بل كله مبني على السهولة ،
لما أفطر الناس في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن تغرب الشمس ، لأنها كانت غيمًا ثم طلعت الشمس ، قالوا : يا أمير المؤمنين إن الشمس قد طلعت ، قال : الخطب سهل إننا لم نتجانف لإثم ، وفي رواية : الخطب سهل نقضي يوماً مكانه [68] ،
******************
6 – وبعد فاعلم أن كل العلم ،
كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي ،
قوله : ( وبعد ) : أي بعد ما ذكر من الحمد والثناء على الله عز وجل والصلاة والسلام على رسوله وآله ،
و ( بعد ) هنا مضمومة ضمة بناء لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه ،
وهذه الكلمات ( بعد وأخواتها ) يقول النحويون فيها أنها لا تخلو من أربع حالات [69] :
1 – أن يحذف المضاف إليه ويُنوى معناه وحينئذ تبنى على الضم ،
2 – أن يحذف المضاف إليه ويُنوى لفظه ، وحينئذ تعرب بالحركات غير منونة ، فتجر في حال الجر وتنصب في حال النصب وما أمكن أن يرفع منها يرفع في حال الرفع لكن غير منونة لأنه قد نوي لفظه المضاف إليه .
والكلمة إذا أضيفت لا تنون ،
كما قيل :
كأني تنوين وأنتَ إضافة ،
فأين تراني لا تحل مكاني [70] ،
3 – أن يذكر المضاف إليه فتعرب بالحركات حسب العوامل بغير تنوين ،
4 – أن يحذف المضاف إليه ولا يُنوى لا لفظه ولا معناه وحينئذ تعرب بالحركات منونة ،
قال الشاعر :
(70/35)
فساغ إلي الشراب وكنت قبلاً ،
أكاد أغص بالماء الفرات [71] ،
قال : وكنت قبلاً وأكثر ما ترد هذه الكلمات مبنية على الضم لأن المضاف إليه يكون محذوفاً وينوى معناه ،
قوله : ( فاعلم ) : الفاء رابطة في جواب شرط مقدر ،
لأن التقدير : ( وأما بعد فاعلم ) فأمرك المؤلف أن تعلم ،
لأن المقام مقام ينبغي أن يهتم به وهو أن يعلم الإنسان أن جميع العلوم كالفرع للتوحيد كل العلوم كعلم الفقه الذي ينبني عليه دين العبد ولا يمكن أن يقوم دين إلا بتوحيد { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ( القصص 19 ) ،
قوله : ( كالفرع للتوحيد ) : يعني بأقسامه الثلاثة :
توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات ،
فكل العلوم والأعمال مدارها على التوحيد فالتوحيد هو الأصل وما سواه فهو فرع ،
قوله : ( فاسمع نظمي ) : آمرك بأن تعلم وأن تسمع ،
قوله : ( نظمي ) : أي منظومي الذي سأنظمه وأقوله ، لأن ما سينظمه رحمه الله في علم التوحيد ولهذا أمرك بأن تسمع إليه سماع انتفاع ،
ثم علل كون العلوم كالفرع للتوحيد بقوله :
******************
7 – لأنه العلم الذي لا ينبغي ،
لعاقل لفهمه لم يبتغي ،
قوله : ( لأنه ) : أي علم التوحيد ،
قوله : ( العلم الذي لا ينبغي ) : أي لا يصلح ولا يستقيم ، ولا يمكن للإنسان العاقل ألا يبتغي فهمه ،
فاللام في قوله : ( لفهمه ) : زائدة ،
يعني : لا ينبغي لعاقل لم يبتغ فهمه ،
يعني أنه لا ينبغي للعاقل أن يدع فهم علم التوحيد ،
لأنه الأصل ،
وإذا كان هو الأصل وجب أن يقدم على غيره ،
لأن الفرع لا يبنى إلا على أصل ،
******************
8 – فيعلم الواجب والمحالا ،
كجائز في حقه تعالى ،
(70/36)
قوله : ( فيعلم ) : يعني من جملة علم التوحيد أن به يعلم الواجب والمحال والجائز في حق الله تعالى ، يعلم الواجب في حق الله ويعلم المستحيل في حق الله ويعلم الجائز في حق الله ،
فالأقسام ثلاثة [72] :
1. واجب ،
2. مستحيل ،
3. جائز ،
ويقال للواجب أحياناً : اللازم ،
ويقال للمحال : الممنوع ،
ويقال للجائز : الممكن ،
والمدار على المعنى ،
فما هو الواجب في حقه ؟
الواجب في حقه : ( ما لا يتصور عدمه بالنسبة إليه ) ،
كل شيء لا يتصور عدمه بالنسبة لله فهو واجب ،
فمثلاً : الحياة من الواجب ، العلم من الواجب ، القدرة من الواجب ، القوة من الواجب ، والأمثلة في هذا كثيرة ،
فكل ما لا يتصور عدمه فهو واجب ،
المستحيل : ( كل ما لا يتصور وجوده ) ،
مثل : الموت والعجز والضعف والجهل والنسيان وما أشبه ذلك ، هذا ممتنع في حق الله عز وجل ،
إذا ما هو الضابط في الأول والثاني ؟
الضابط : كل كمال فهو من الواجب ، وكل نقص فهو من الممتنع في حق الله عز وجل ،
الجائز : ( ما جاز وجوده وعدمه بالنسبة للخالق ) ،
مثل : النزول إلى السماء الدنيا والاستواء على العرش ،
وخلق شيء معين ، مثل : خلق الذباب مثلاً أو خلق السماوات وخلق الأرض ،
هذا من الأمور الجائزة ،
لأنه يجوز أن لا يخلق الله هذا الشيء ويجوز أن يخلقه ، لو لم يخلقه لم يكن ذلك نقصاً ، ولو خلقه لم يكن نقصاً الاستواء على العرش كذلك النزول على السماء الدنيا كذلك من الأمور الجائزة ،
فإذا قال قائل : إن إثبات الجائز ممنوع لأنه إن كان وجوده كمالاً كان عدمه نقصاً ، وإن كان عدمه كمالاً كان وجوده نقصاً فلا يتصور شيءٌ جائزٌ في حق الله ؟
فالجواب : أن نقول : هو كمالٌ في حال وجوده نقصٌ في حال عدمه إن كان من الموجودات أو هو كمالٌ في حال عدمه نقصٌ في حال وجوده ،
(70/37)
فمثلاً : إذا اقتضت الحكمة أن يوجد هذا الشيء فوجد صار كمالاً ووجوده قبل اقتضاء الحكمة وجوده نقص وإذا اقتضت الحكمة عدمه كان وجوده نقصاً ووجوده في حال اقتضاء الحكمة عدمه نقص ،
فإذن بهذا يمكن أن نقول : إن هناك شيئاً جائزاً في حق الله ويكون في حال اقتضاء الحكمة وجوده كمالاً ويكون في حال اقتضاء الحكمة عدمه وجوده نقصاً ، نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر في هذه الحال كمال ، في غير هذه الحال لا يكون كمالاً لأن الله اقتضت حكمته أن يكون النزول في هذا الوقت فقط ولو اقتضت الحكمة أن ينزل في غير هذا الوقت ولم ينزل كان عدم النزول نقصاً وهذا شيءٌ مستحيل في حق الله عز وجل ،
******************
9 – وصار من عادة أهل العلم ،
أن يعتنوا في سَبْرِ ذا بالنظم ،
صار من العادة ،
والعادة : ( الشيء الذي يعود ويتكرر فيألفه الناس ويكون من عادتهم ) [73]،
فـ (صار أهل العلم ) رحمهم الله ( من عادتهم أن يعتنوا ) أي يبذلوا العناية ( في سبر ذا ) أي في سبر علم التوحيد ،
والمراد بالسبر : ( التتبع والاستقراء ) [74]،
سبروه ( بالنظم ) ،
لا شك أن هذا التركيب فيه تطويل ،
ومعناه أنه صار من عادة أهل العلم أن يبحثوا في هذا الموضوع الذي هو علم التوحيد بالنظم وهناك عادةٌ أخرى غير النظم وهي النثر وربما تكون اكثر من النظم ،
وكلام العلماء في علم التوحيد نثراً أكثر من كلامهم فيه نظماً ،
لكن مع ذلك النظم شائعٌ مشهورٌ معتادٌ عندهم أي ينظموا العقائد وعلم التوحيد حتى يكون كما أشار إليه المؤلف :
******************
10 – لأنه يَسْهُلُ للحفظ كما ،
يروق للسمع ويشفي من ظما ،
النظم الذي كان العلماء يعتادون عليه في هذا الباب ،
على أي بحر ؟
على الرجز وغيره ،
(70/38)
قد يكون على سبيل الرجز وقد يكون على الكامل أو الطويل أو البحور الأخرى المعروفة في علم العروض [75] ،
لكن أكثر ما يكون الرجز لأن الرجز خفيف عند القراءة وسهل عند النظم ،
لأن غير الرجز لا بد أن يلتزم الإنسان قافية معينة وهذه قد تصعب على الإنسان غير الشاعر ،
أما الرجز فكل بيت له قافية معينة لا يحتاج الراجز إلا إلى مراعاة الشطر الأول والشطر الثاني فقط [76] ،
قوله : ( لأنه يسهل للحفظ ) : هذه فائدة فالنظم يسهل للحفظ أكثر من النثر ،
قوله : ( كما يروق للسمع ) : يروق يعني يحسن ويطرب له السمع ،
أما قوله : ( ويشفي من ظما ) : فكون هذا خاصاً بالشعر فيه نظر ، لأن الشفاء من الظمأ يكون في الشعر ويكون في النثر ،
لكن لعله يريد – رحمه الله – تكميل البيت بهذه الجملة ، وإلا فإن شفاء من الظمأ يكون بالنثر وبالنظم بل قد يكون في النثر أكثر ،
لأن النظم أحياناً يضطر فيه الناظم إلى استعمال عبارات أو تركيبات من الكلام ، توجب تعقيد المعنى وعدم فهمه ،
******************
11 – فمن هنا نظمت لي عقيدة ،
أرجوزة وجيزة مفيدة ،
قوله : ( فمن هنا ) : أي من هذا الباب أو من هذا المأخذ نظمت لي عقيدة ،
أصل النظم هو ضم الخرزات بعضها إلى بعض في سلك ويطلق على ضم الكلمات بعضها إلى بعض في بيت تشبيهاً بالخرزات خرزات السبحة أو غيرها مما ينظم [77] ،
قوله : ( نظمت لي عقيدة ) : هل اللام هنا بمعنى : ( من ) : أي نظمت مني عقيدة لإخواني المسلمين ؟ أو أن اللام للاختصاص ، يعني : نظمت لنفسي عقيدة ؟
الظاهر : أن المراد : المعنى الأول أي نظمت عقيدة لإخواني المسلمين مني ،
قوله : ( عقيدة ) : فعيلة بمعنى مفعولة أي شيء معتقد ،
والعقيدة في الأصل : من العقد وهو : إحكام الشد ، وضده الحل ، هذا في اللغة العربية [78] ،
وأما في الاصطلاح : فهو ( حكم الذهن الجازم ) [79] ،
(70/39)
يعني : أن تحكم على الشيء حكماً جازماً تحكم عليه ذهناً ،
يعني : تعتقد في قلبك بأن هذا كذا نفياً أو إثباتاً جازماً به فلا عقيدة مع الشك ،
لأنه لا بد أن يكون هناك جزم ولا عقيدة باعتبار نطق اللسان ،
لأن نطق اللسان يقع حتى من المنافق ، فالمنافق يقول : لا إله إلا الله ، ولكن ليس عنده عقيدة ،
وهل نقول المطابق للواقع أو لا ؟
لا ، لا نقول هكذا ،
بل نقول : ( حكم الذهن الجازم ) ، فإن طابق فهي عقيدة صحيحة ، وإن خالف الواقع فهي عقيدة فاسدة ،
اعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة ، هذا عقيدة فاسدة ، لأنها غير مطابقة للواقع ،
اعتقاد أهل التحريف أن الاستواء بمعنى الاستيلاء عقيدة ، لكنها فاسدة ، لأنها خلاف الواقع ،
لكن هم يجزمون بذلك ويعتقدون هذا ،
ووصف هذه العقيدة بأنها ( وجيزة ) : يعني غير مطولة وهو كذلك ، فإنها ليست مطولة ، يذكر فيها رحمه الله القواعد العامة بدون تفصيل ،
وأنها ( مفيدة ) : يعني تفيد قارئها وسامعها وكاتبها أيضاً ،
فقوله : ( إنها أرجوزة وجيزة ) : هذا ليس فيه مدح ،
لكن قوله : ( مفيدة ) : فيه مدح ،
فإذا قال قائل : كيف يسوغ للإنسان أن يمدح ما كان من صنعه وتأليفه ، وهل هذا إلا افتخار ؟
فالجواب : يسوغ ذلك إذا لم يقصد بهذا الافتخار على الخلق وإنما قصد بيان الواقع .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) [80] ،
وقال ابن مسعود : ( لو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه ) [81] ،
وهذا يتضمن بلا شك أنه على علم عظيم بكتاب الله عز وجل ،
لكن هل ابن مسعود رضي الله عنه قال هذا القول ليمدح نفسه ويفتخر أو ليحث الناس على التلقي عنه وعن غيره من أهل العلم ؟
الجواب : الثاني بلا شك ،
أيضاً العلماء رحمهم الله إذا صنفوا يذكرون فوائد مصنفاتهم ،
كما قال ابن مالك في الثناء على ألفيته وذكر فوائدها [82] ،
لا ليفتخر بها وأنها من تأليفه ،
(70/40)
ولكن من أجل أن يحث الناس على تلقيها وتعلمها ،
هكذا المؤلف رحمه الله هنا قال : ( مفيدة ) ، لأجل أن تحرص عليها وعلى ما فيها من الفوائد ،
*****************
12 – نظمتها في سلكها مقدمة ،
وست أبواب كذاك خاتمة ،
قوله : ( في سلكها ) : هذا يسميه علماء البلاغة الاستعارة [83] ، لأن هذه الأرجوزة ليس لها سلك ، لكنه شبهها بخرزات السبحة التي لها سلك فتنضم لينضم بعضها إلى بعض ولا يضيع بعضها عن بعض ولا تتفرق وتتشتت ،
وتشتمل على مقدمة وستة أبواب وخاتمة ،
فقال : ( مقدمة ، وست أبواب كذاك خاتمة ) : فيكون المجموع ثمانية ،
المقدمة والخاتمة وستة أبواب ،
*****************
13 – وسمتها بالدرة المضية ،
في عقد أهل الفرقة المرضية ،
قوله : ( وسمتها ) : أي جعلت عليها علامة ، لأن الوسم هو العلامة ،
وفي بعض النسخ : ( سميتها ) .
والمعنى متقارب يعني أنني سميت هذه المنظومة أو وسمتها جعلت عليها علامة ،
قوله : ( بالدرة المضية ) : أصل ( المضية ) المضيئة ، لكن سهلت الهمزة لأجل استقامة البيت ، قوله : ( والدرة ) : هي أعلى ما يقتنصه أهل البحر من البحار ،
قوله : ( والمضية ) : يعني التي لها إضاءة لقوة صفائها وحسنها ، وهذا الاسم مطابق لمسماه فإن هذه المنظومة درة مضيئة لمن قرأها وتأملها ، لأن فيها فوائد عظيمة كثيرة فيما يتعلق بالعقيدة ،
وقوله : ( في عقد ) : ( عقد ) بمعنى : ( اعتقاد ) ، فهي اسم مصدر ، يعني اعتقد يعتقد اعتقاد ،
واسم المصدر : يقول النحويون : ( ما دل على معنى المصدر ولم يشتمل على حروفه ) ،
قوله : ( أهل الفرقة ) : المراد ( أهل الفرقة ) : يعني : ( الطائفة ) ،
قوله : ( المرضية ) : التي ارتضاها الله ورسوله والمؤمنون .
(70/41)
وهم ( أهل السنة والجماعة ) : الذين كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،
وضد هذه الفرقة المرضية أصحاب الفرق المسخوطة من أهل البدع على اختلاف أصنافهم وأنواعهم ،
******************
14 – على اعتقاد ذي السداد الحنبلي ،
إمام أهل الحق ذي القدر العلي ،
يعني أنها مبنية على اعتقاد ذي السداد ،
قوله : ( السداد ) : يعني الصواب المسدّد [84] الموافق للحق ،
قوله : ( الحنبلي ) : صفة لـ ( ذي ) لا لـ ( السداد ) يعني على اعتقاد الحنبلي وهو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور فنسبته إلى حنبل لأنه جده [85] ،
قوله : ( إمام أهل الحق ) : يعني الذي يقتدي به أهل الحق ،
لكن إمامته رحمه الله وإمامة غيره من الأئمة ليست إمامة مستقلة ،
بل هي إمامة تابعة للإمامة العظمى وهي إمامة رسول الله عليه الصلاة والسلام ،
ولولا ائتمام هؤلاء الأئمة به صلى الله عليه وسلم ما صاروا أئمة ،
قال الله تعالى : { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } ( السجدة 24 ) .
فهؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين صاروا أئمة ، لأنهم أهل للإمامة لما أعطاهم الله تعالى من الصبر واليقين ،
قوله : ( ذي القدر ) : يعني ذي الشرف ،
قوله : ( العلي ) : ضد النازل ،
والإمام أحمد رحمه الله له قدراً علياً بين أهل الحق تكاد تكون الأمة كلها مجمعة على الثناء عليه [86] .
حتى إن بعض العلماء قال : إنه يجوز أن نشهد له ولأمثاله بالجنة ، لأن الأمة اتفقت على الثناء عليه ، وقد قال الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وَسَطَا لتكونوا شهداء على الناس } ( البقرة 143 ) فإذا شهدت الأمة لشخص بالصلاح فلنا أن نشهد له بالجنة ،
وهذه المسألة فيها خلاف [87] ،
(70/42)
لكن الكلام على أن الرجل قد اتفق على أنه رحمه الله من أجل أئمة الدين وأعظمهم قدراً ، وحصل له من المحنة في الدفاع عن السنة ما يعلم من ترجمته ، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في ( البداية والنهاية ) [88] وغيرهم ممن تكلموا عن سيرة الرجال [89] ،
******************
15 – حبر الملا فرد العلى الرباني ،
رب الحجا ماحي الدجى الشيباني ،
قوله : ( حَبْر ) : بمعنى عالم ،
ويقال : حِبْر ،
بفتح الباء وكسرها [90] ،
وهي موافقة للبحر في الاشتقاق الأكبر ،
لأنها موافقة لها في الحروف دون الترتيب ، حبر ، بحر ،
إذن فهو العالم الواسع العلم ،
قوله : ( الملا ) : يعني الخلق ،
ومن المعلوم أنه رحمه الله واسع العلم وكثيره [91] ولا سيما علم المأثور ،
مع أنه يتكلم في علم المعقول كلاماً جيدًا [92] كما يعرف من كلامه في الرد على الجهمية ،
لكنه في علم المأثور أكثر منه في علم المعقول ،
قوله : ( فرد العلا ) : يعني المتفرد بالعلا والشرف ،
ولا شك أن هذه الأوصاف التي تدل على الإطلاق ، لا شك أن المؤلف لا يريد بها الإطلاق ،
لأن مثل هذه الأوصاف على الإطلاق لا تنطبق إلا على الرسول صلى الله عليه وسلم ،
لكنها أوصاف نسبية يعني بالنسبة لمن دونه مع أن الأولى والأفضل أن تكون الألفاظ مطابقة للواقع بحيث لا يحصل فيها غلو ، لأن الغلو قد يخرج بالإنسان إلى الكذب ،
وتوجيه مثل هذا الكلام المطلق أن يقال : إنه ( حبر الملا ) في وقته ( فرد العلا ) في وقته ،
وأما أن نقول على سبيل العموم فهذا غير مراد للمؤلف رحمه الله ،
قوله : ( الرباني ) : يعني الذي تلقى علمه من شريعة الله ، لأن الشريعة ألصق ما تكون بالربوبية فهو رحمه الله تلقى علمه من شريعة الرب عز وجل ،
وقيل : إن الرباني هو المخلص لله في علمه النافع لعباد الله المربي لهم على شريعة الله [93] ،
(70/43)
فالمخلص لله لا يقصد إلا الرب ، والنافع لعباد الله بالعلم ،
المربي لهم تربية علمية وخلقية ،
فالتربية العلمية ، قال العلماء معناها : أن يربي الطلبة بصغير العلم قبل كبيره ، فإن هذا من التربية العلمية ،
والتربية الخلقية : أن يبحث العالم في طلابه هل طبقوا العلم وأن يتفقدهم ، وإذا ذكر له عن شخص خالفه يتكلم معه بالكلام الذي يناسب والوقت المناسب في المكان المناسب ،
أما أن يملأهم من العلوم ويدعهم من العمل ، فهذا بلا شك قصور جدًا ، لأن ثمرة العلم هي العمل ،
قوله : ( رب ) : بمعنى صاحب ،
قوله ( والحجى ) : بمعنى العقل .
يعني صاحب العقل ،
قوله : ( ماحي الدجى ) : أي الظلمة بما لديه من نور الرسالة وهذا علمه بالأثر ،
فالإمام أحمد رحمه الله عنده معلوم المعقول ومعلوم المنقول ومن راجع كتبه ورسائله عرف أن الرجل يتكلم بالمعقول كما يتكلم بالمنقول ، وإن كان هو في علم الأثر أقوى منه في علم النظر ، لأن الأمة الإسلامية في عهده لم تكن بلغت مبلغاً كبيراً في الاستدلال بالنظر والمعقول لكن مع ذلك يجادل أهل الباطل بالمعقول ،
لأن المعقولات التي تشعّبت في الأمة الإسلامية هي من علم المنطق الذي قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله : ( إنه لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد [94] ) .
والناس يعرفون الجدل والمناظرة حتى قبل عثورهم على علم المنطق اليوناني ،
فالحاصل : أن هذا الشطر من البيت يدل على أن الإمام أحمد رحمه الله عنده علم بالمعقول وعلم بالمنقول ،
علم المعقول في قوله : ( رب الحجى ) : والمنقول : ( ماحي الدجى ) ،
قوله : ( الشيباني ) : يعني أنه من بني شيبان رحمه الله وهذا نسبه [95] ،
ومن أراد المزيد من العلم بحياته فليرجع إلى ما صُنِّف في تاريخ حياته ،
وقد صنف في تاريخ حياته مصنفات مستقلة [96] ، وذكر أيضا على سبيل التبع في كتب الرجال وكتب التاريخ ،
******************
(70/44)
16 – فإنه إمام أهل الأثر ،
فمن نحا منحاه فهو الأثري ،
قوله : ( فإنه ) : يعني الإمام أحمد ،
قوله : ( إمام أهل الأثر ) : يعني إمام السلفيين : ( الذين يأخذون بالأثر في علم العقائد كما يأخذون بالأثر في المسائل العملية ) ،
وذلك أن الإمام أحمد رحمه الله بلغ الإمامة في عصر المأمون [97] في المحنة التي أبتلي بها علماء السلف في ذلك العهد [98] ،
فإن المأمون أدخل على الأمة الإسلامية من علم اليونان وعلم الكلام ما يستحق عليه الجزاء من الله عز وجل ،
لأنه أدخل على الأمة علوماً أفسدت العقائد ونصر البدعة نصراً عزيزاً [99] ،
وحصل منه إيذاء لأهل السنة فكان يحبسهم ويشهِّر بهم ويطوف بهم في الأسواق ويضربهم ، والعياذ بالله ،
مما اضطر كثير من العلماء إلى أن يوافقوا ولو ظاهراً على سبيل أنهم مكرهون ومنهم من يتأول ،
ولكن الإمام أحمد رحمه الله ومحمد بن نوح [100] أصرا على أن يعلنا الحق بدون تأويل ،
وحصل للإمام أحمد من الإيذاء والإهانة ما لا يصبر عليه إلا أمثاله حتى كانوا يجرونه في الأسواق بالبغلة ويضربونه بالسياط حتى يغمى عليه [101] وهو صابر ومصمم على أن يبقى على ما هو عليه من قول الحق ،
لأنه لو قال خلاف الحق في ذلك الوقت ولو بالتأويل لضل الناس [102] ،
إذ أن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد بن حنبل [103] ،
فبذلك استحق أن يكون إماماً ،
لأنه صبر وكان موقناً بما هو عليه من الحق والصواب ،
وقد قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } ( السجدة 24 ) .
فبذلك صار إماماً رحمه الله لمن بعده ،
ولكن هذه الإمامة نسبية .
لأنها إمامة تابعة لإمامة عظمى وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الإمام الأعظم الذي يتفرع من إمامته إمامة الأئمة ،
(70/45)
فإمامة الأئمة من هذه الأمة إمامةٌ فرعية ، لا إمامة أصلية ،
ولهذا لو خالف هذا الإمام هدي الإمام الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم لوجب أن يطرح قوله وأن يؤخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولولا أن هذا الإمام تابع لإمامة الرسول عليه الصلاة والسلام ما استحق أن يكون إماماً إلا أن يكون إمام ضلال ،
فإن الضلال له أئمة ، كما قال تعالى : { وجعلناهم أئمةً يدعون إلى النار } ( القصص 41 ) .
قوله : ( فمن نحا منحاه فهو الأثري ) : أي من سلك مسلكه فهو الأثري ، يعني نسبة إلى الأثر ،
والعلوم نوعان :
1 - أثرية ،
2 - ونظرية ،
فما كان متلقى من الكتاب والسنة فهو : ( أثري ) ،
وما كان متلقى من العقل فهو : ( نظري ) ،
واعلم : أن العلم الأثري لا ينافي العلم النظري بل كلاهما يؤيد الآخر ،
وأيهما الأصل ؟
الأصل عند أهل السنة : هو الأثر لا في الأمور العلمية ولا في الأمور العملية .
فهم يحكمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء ،
والأصل عند أهل البدع : العلوم النظرية .
ولهذا يقدمون ما يدعون أنه عقل على الآثار من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلُّوا بذلك عن سواء السبيل وأضلوا أمماً لا يعلمهم إلا الله ،
إذن الأثري هو الذي نحى منحى الإمام أحمد رحمه الله في الرجوع إلى الكتاب والسنة ،
ولهذا أقول : من الممكن أن نقول : إن الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل الأثر في مسلكه لا في أقواله ،
ومعنى : ( في مسلكه ) : أنه سلك تحكيم الكتاب والسنة ،
وليس المعنى : ( إمام أهل الأثر ) يؤخذ قوله وحينئذ لا نحتاج إلى تقييد الإمامة بالنسبة له ،
لأننا نقول : هذه الإمامة صحيحة أن يكون الإنسان متبعاً لما جاء به الكتاب والسنة ،
******************
17 – سقى ضريحاً حَلَّهُ صوب الرضى ،
والعفو والغفران ما نجم أضا ،
قوله : ( سقى ضريحاً ) : الضريح : القبر ،
(70/46)
قوله : ( حلّه ) : نزل فيه ،
يعني يسأل الله سبحانه وتعالى أن يسقي ضريحه صوب الرضى من الله عز وجل ،
فالجملة هنا خبرية لكنها دعائية يعني يسأل الله تعالى أن يسقي ضريح الإمام أحمد صوب الرضى ،
قوله : ( صوب الرضى ) : و ( الصوب ) و ( الصيب ) : معناهما واحد ،
أي الصيب من الرضى ،
والصيب في الأصل : هو ( الماء النازل من السماء ) فهو المطر [104] ،
واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عن العبد أرضى الناس عنه وإذا سخِط على العبد أسخط الناس عليه ،
فإذا كنت تريد أن يرضى الناس عنك فاتبع رضى الله ،
ولكن لا تتبع رضى الله من أجل أن يرضى الناس عنك فتطلب الأعلى للأدنى ،
ولكن اجعل رضى الله هو الأصل ،
وَثِقْ بأن الله إذا رضي عنك رضي عنك الناس ،
ولكن إياك أن تنوي بطلب رضى الله رضى الناس فتكون متوسلاً بالأعلى إلى الأدنى ،
لأنه ربما إذا نويت هذه النية لا يرضى الله عنك ،
وحينئذ يفوتك مقصودك مع ضعف مقصودك ،
قوله : ( والعفو والغفران ) : العفو عن ترك الواجبات ، والغفران عن فعل المحرمات ،
هذا إذا اقترن العفو بالمغفرة ،
إما إذا انفصل أحدهما عن الآخر فكل واحد منهما يتضمن معنى الثاني ،
لكن إذا قيل : عفا الله عنك وغفر لك ،
صار ( عفا الله عنك ) ما أهملته من واجبات ،
و ( غفر لك ) ما اقترفته من سيئات ،
لأن الغَفْر بمعنى : ( الستر مع التجاوز ) ،
والعفو بمعنى : ( النزول عن الحق والإبراء منه ) ،
قوله : ( ما نجم أضا ) : يعني مدة إضاءة النجم وهذا طويل إلى ما لا نهاية له ،
وأيضاً يقول : ( ما نجم ) : نكرة يشمل كل نجم ،
******************
18 – وحله وسائر الأئمة ،
منازل الرضوان أعلى الجنة ،
قوله : ( وحله وسائر الأئمة ) : يعني أنزله وأنزل سائر الأئمة ،
قوله : ( الأئمة ) : يعني أئمة الإسلام ،
(70/47)
وليس المراد بذلك : الأئمة الأربعة فقط ،
بل هو شامل لكل إمام في دين الله من الأئمة الأربعة وغيرهم ،
وسواء كان إماماً بالخلافة وتدبير الملك أو إماماً في العلم وتوجيه الناس ،
فإنه يدخل في قوله : ( وحله وسائر الأئمة - منازل الرضوان أعلى الجنة ) ،
الأسئلة
نقول : إن كون الإنسان يقبل الشيء يتعبد به عرف الحكمة أم لم يعرف هذا هو المتعبد حقيقة .
أما الذي لا يتعبد إلا إذا عرف الحكمة فهذا ناقص .
لكن معرفة الحكمة قد تزيد الإنسان إيماناًَ لا شك إذا عرف أسرار الشريعة وحِكَمَها ازداد رغبةً فيها وطمأنينةً بها ودفاعاً عنها ودعوةً إليها ،
السائل : لكن يا شيخ إذا عرف الحكمة فنستفيد فائدةً أخرى وهي مثلاً عندما تسأله عن الحكمة فإنه يعلمها ؟
الجواب : هذا يزداد علماً لا شك ، لكن أنا أقول : ليس كل من عرف الحكمة يضعف إيمانه .
قد تكون معرفة الحكمة زيادةً في الإيمان وزيادة في التعبد أيضاً .
لكن أصل التعبد الخضوع للشيء سواءً عقلتَ معناه أم لم تعقله ،
السؤال : أحسن الله إليك الوارث من الأسماء الحسنى ؟ هل هو مأخوذ من الآية ؟
الجواب : نعم .
السؤال : يا شيخ ذكرنا أن الحوادث دلالتها عقلية ؟
الجواب : لا ، لا ، ذكرنا أن الحوادث دلالتها حسية عقلية ،
السؤال : الأمور التعبدية التي ذكر العلماء أنها تعبدية لا ينبغي أن يُلتمس لها علل ؟
الجواب : بل ينبغي لكن هناك شيء نعلم أننا لن نصل إلى شيء .
مثلاً : نقض الوضوء بلحم الإبل .
كثير من العلماء قال : إنها تعبد [105] .
عدم الصلاة في الحمام كثير من العلماء قال : إنها تعبد .
هذه ممكن أن نحاول معرفة الحكمة .
لكن الصلاة أربعاً هذه لا يمكن .
لو حاولنا لن نعرف محاولة الوصول إلى الحكمة قد تكون كمحاولة الوصول إلى كيفية صفات الله ،
(70/48)
السؤال : لكن فيه يا شيخ مثلاً بعض المتأخرين يذكر في جملة من الأحكام التي ذكرها عنها العلماء المتقدمين أنها تعبدية ومنها أيضاً أن الصلاة أربعاً يسرد من العلل والأحكام ومناسبة الوقت ،،،، ؟
الجواب : لا ، دعنا من توقيتها لكن كونها أربع ركعات ، لم لا تكون ستاً ؟
السؤال : ربما لمناسبة الجو ؟
الجواب : كيف مناسبة الجو ؟ يعني في الشتاء نجعلها ستاً وفي الصيف أربع ؟
لا ، فيه أشياء الحقيقة لا يمكن أن نعلم الحكمة .
يعني يكون من باب التعنت محاولة العلة .
نعم صحيح التوقيت بخمسة أوقات الفجر مثلاً والظهر قد يجد الإنسان مناسبة .
وقد يجد مناسبة واضحة في بعضها دون بعض .
فصلاة العصر مثلاً قد لا تستطيع أن تعرف المناسبة .
لكن الظهر والمغرب والعشاء والفجر .
السؤال : المصطفى هل هو من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب : لا ، الظاهر أنه من أوصافه .
والغريب من أن بعض الناس سبحان الله العظيم يقول : ( قال المصطفى ) ،
مع أن الصحابة رضي الله عنهم أشد من تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وأعلم منا بمناقبه ، ما قال أبي هريرة ( قال المصطفى ) ولا قال أي واحد من الصحابة يعني كل كتب الحديث يقول الصحابي : ( قال رسول الله – قال نبي الله – قال أبو القاسم ) وما أشبه ذلك ،
لكن الناس في الوقت الحاضر ابتُلُوا بصياغة الألفاظ ولم ينظروا إلى من سبقهم ،
والحقيقة أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى من سبقنا مثل بعض الناس الآن إذا أراد أن يقول : ( قال الله تعالى ) يقول : ( قال الحق – وهذا قول الحق ) ،
لا شك أن الله هو الحق المبين ،
لكن قل : ( قال الله ) ،
النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أنه أعلم بالله منك وأشد تعظيماً لله منك ،
إذا أراد أن يتحدث عن الله عز وجل في الحديث ،
ماذا يقول ؟
( قال الله تعالى ) ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) [106] ،
(70/49)
لكن بعض الناس يريد أن يجدد ولكن التجديد في مثل هذه الأمور لا ينبغي ،
اتباع السلف في هذه الأمور أولى من التجديد ،
- من العلماء من زور وحرف في توحيد الألوهية ،
لكنهم متفقون على أنه لا يُعبد إلا الله والشركيات التي وقعت من هذه العلماء فهذا عن جهل تعتبر عن جهل ،
السؤال : زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هل يعتبرن من آله ؟
الجواب : الصحيح : أنهن من آله ،
السؤال : تخفيف الله سبحانه وتعالى على أبي طالب أليس هذا قبولاً للعمل من كافر ؟
الجواب : لا ، يفيد أن الكافر قد يُجازى وإلا فإنه لا يُقبل من عمله ،
لكن قد يُجازى كما يُجازى في الدنيا إذا أحسن الكافر فقد يجازيه الله تعالى في الدنيا بدفع المصائب عنه أو حصول المطلوب أو كثرة المال أو كثرة الأولاد ،
السؤال : هل يجوز أن تضعيف الأذكار ؟
الجواب : ليس به بأس ،
لأن هذا ورد في السنة : ( سبحان الله وبحمده عدد خلقه سبحان الله وبحمده رضا نفسه سبحان الله وبحمده زنة عرشه سبحان الله وبحمده مداد كلماته ) [107] لا بأس أن يقال هذا ،
السؤال : النبي صلى الله عليه وسلم يُحَبُّ أكثر من الوالدين ، لكن هل يجوز أن يحب الإنسان غير النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الوالدين ؟
الجواب : أما المحبة الدينية فربما يكون له مثلاًَ والدان عاصيان فيحب أبا بكر وعمر وعثمان أكثر منهما ،
السؤال : المصطفى اسم مفعول فمن المصطفي ؟ واصطفى ممن ؟
الجواب : المصطفي الله مصطفي من الخلق ، صفوة من الخلق صفوة الخلق { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نساء العالمين } ( آل عمران 42 ) .
السؤال : نحن قلنا : أن عم النبي صلى الله عليه وسلم أقل أهل النار عذاباً ، فهل هو أقل عذاباً من عصاة المؤمنين ؟
(70/50)
الجواب : لا ، عصاة المؤمنين لا يسمون أهل النار ، يدخلون النار وليسوا من أهلها ، أنت الآن تأتي إلى عنيزة وتقيم بها يومين هل تسمى من أهل عنيزة ؟ لا ، أهل النار هم أهلها المخلدون فيها ،
السؤال : تقسيم المحال إلى محال ذاتي ومحال معنوى ومحال لغيره هل هذا التقسيم صحيح ؟
الجواب : لا ، لا حاجة ، المحال مهما كان ، كل شيء لا يجوز على الله فهو محال ،
السؤال : ألا نستطيع أن نقول المراد بقوله : ( يروق للسمع ،،، ويشفي من ظما ) ( كلام غير واضح ) ؟
الجواب : صحيح لكن أيهما أشد ؟
السؤال : أشد ؟ الشعر ، لا يكفي ،
الجواب : لا ، يكفي ، لأنه حتى ( يشفي من ظما ) أحياناً يكون النثر أشفى من الظما من النظم إنما الشيء الذي يكون فيه النظم أظهر نوافق المؤلف عليه ،
السؤال : ألا نقول أن الأولى أن المؤلف قال : ( على اعتقاد أهل السنة والجماعة ) بدلاً من أن يأتي بفرد منهم ؟
الجواب : لا ، لأن الإمام أحمد رحمه الله متفق على أنه إمام أهل السنة يعني حتى يطلق عليه ( إمام أهل السنة ) ،
السؤال : أليس الأفضل الصحابة وهم أولى منه ؟
الجواب : صحيح ، لكن الصحابة ما حصل في وقتهم من البدع ما احتاجوا أن يدافعوا كما يدافع الإمام أحمد لأنهم كلهم على الحق وهم مستقيمون ما برز أحد يدافع ،
فصل
في ترجيح مذهب السلف
19 – اعلم هديت أنه جاء الخبر ،
عن النبي المقتفى خير البشر ،
بَيَّنَ المؤلف رحمه الله أن كتابه هذا يشتمل على ستة أبواب ومقدمة وخاتمة ،
فالمقدمة ذكر فيها ما يدل على الثناء على أهل السنة والجماعة المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( اعلم ) : يعني علم يقين ،
قوله : ( هديت ) : جملة معترضة دعائية يعني : ( وفقت للخير وعلمت الخير ) ،
قوله : ( أنه جاء الخبر ) : يعني الحديث ،
(70/51)
والخبر في اللغة : شمل : ( قول ) ، يحتمل الكذب والصدق لذاته [108] ،
يعني بقطع النظر عن قائله ،
لأن في القول ما لا يحتمل الكذب باعتبار قائله ،
وفي القول ما لا يحتمل الصدق باعتبار قائله ،
ونحن نتكلم باعتبار القول ،
وقول الله ورسوله يحتمل باعتبار المخبر به ،
قول مدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتمل الصدق لكن باعتبار المخبر به ،
لو قال : إني رسول الله ، هذه الكلمة خبر ،
لأنه يحتمل الصدق والكذب لذاته ،
لكن لو قاله محمد رسول الله كان صدقاً ، ولو قاله مسيلمة الكذاب كان كذباً ،
أما الخبر في الاصطلاح : ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قول أو فعل أو تقرير [109] ،
قوله : ( عن النبي ) : سبق الكلام عن أصل النبي في مقدمة الكتاب ،
وسبق أن اللفظ صالح للوجهين :
1 – أي صالح لأن يكون أصله النبيؤ ، ولكن سُهِّلَ ،
2 – ولأن يكون أصله من النبوة وهو الارتفاع [110] ، لأن النبي رفيع المقام وهو مخبِر ومخبَر ،
قوله : ( المقتفى ) : يعني الذي يجب اقتفاؤه ،
ومعنى الاقتفاء : أن نكون خلفه نقفوا أثره [111] ،
فالنبي صلى الله عليه وسلم مقتفى ،
أي واجب الاقتفاء يعني يجب على أمته أن تقتفي به أي أن تقفوا أثره وتتبعه ،
قوله : ( خير البشر ) : ( البشر ) : هم بنو آدم ،
وسُمُّوا بشراً لأن أبشارهم ظاهرة بادية ، والمخلوقات الأخرى أبشارها مستورة ،
وهذا من رحمة الله عز وجل ،
لأن الحيوانات الأخرى لا بد أن يسترها شيء يقيها من الحر والبرد ،
أما بنو آدم فجعل الله تعالى الستر لهم هم الذي يسترون أنفسهم بالثياب التي رزقهم الله تعالى وهذه حكمة عظيمة من أجل أن يعرف الإنسان أنه بحاجة إلى ستر عورته المعنوية كما أنه بحاجة إلى ستر عورته الحسية فيحاول ستر عورته المعنوية كما يستر عورته الحسية ،
إذن النبي عليه الصلاة والسلام خير البشر حتى الأنبياء والرسل فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل ،
(70/52)
وهذه الخيرية تشمل كل الخيرات ،
خير البشر في النسب ، وخير البشر في الخُلق وخير البشر في الهداية ، وخير البشر في العبادة ،
فهي خيرية مطلقة ،
ومع هذا فإنه ليس له حق في خصائص الربوبية ،
فليس يعلم الغيب وليس يملك الضرر والنفع ولا يملك لغيره كذلك ،
والناس بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب بين طرفين ووسط :
1. بين طرف غالٍ في مفرط في المدح والثناء حتى جعلوه بمنزلة الرب ،
2. وبين طرف آخر ينتقصوا النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلوه لا فرق بينه وبين البشر في الأمور التي يختص بها ،
3. وقسم ثالث عرف للنبي صلى الله عليه وسلم حقه ، فأنزله منزلته وقال : هو عبد الله ورسوله وليس له حق فيما يختص بالرب عز وجل وهو أعلى من البشر فيما خصه الله به ، وهذا هو مذهب أهل الحق ،
******************
20 – بأن ذي الأمة سوف تفترق ،
بضعاً وسبعين اعتقاداً والمحق ،
قوله : ( ذي ) : اسم إشارة يعني : بأن هذه الأمة سوف تفترق ،
قوله : ( الأمة ) : المراد بالأمة : هنا أمة الإجابة ،
لأن أمة الدعوة : تشمل اليهود والنصارى والمشركين ،
لكن المراد بذلك : أمة الإجابة الذين ينسبون إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،
والأمة في اللغة : تأتي لعدة معان [112] :
تأتي بمعنى الزمن وبمعنى الجماعة وبمعنى الإمامة وبمعنى الطريقة ،
هذه أربعة معان :
1. تأتي بمعنى الزمن : مثل قوله تعالى : { وادَّكَرَ بعد أمة } ( يوسف 45 ) أي بعد زمن ،
2. وتأتي بمعنى الملة : مثل قوله تعالى : { وإن هذه أمتكم أمةٌ واحدة } ( المؤمنون 52 ) ،
3. وتأتي بمعنى الطائفة : كما في كلام المؤلف ،
4. وتأتي بمعنى الإمامة : { إن إبراهيم كان أمةً } ( النحل 120 ) أي إماماً ،
قوله : ( بأن ذي الأمة ) : يعني الطائفة وهي أمة الإجابة ،
(70/53)
قوله : ( سوف تفترق بضعاً وسبعين ) : البضع : ما بين الثلاثة إلى التسعة ،
المراد به هنا : الثلاثة ،
كما جاء في الحديث : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) [113] ،
ليس معنى ذلك : أنها من أصحاب النار ،
لكن ما خرجت به عن السنة فهو من عمل أهل النار ،
لأن أهل النار مخالفون لأهل الجنة ،
فكل من خرج عن عمل أهل الجنة فقد دخل في عمل أهل النار ،
ولا يلزم أن يكون من أصحاب النار ،
فهذه بضع وسبعون ،
وإنما افترقت على ثلاث وسبعين ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الأمة : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ! ) [114] ،
والمتبع لسنة من كان قبله مخالف لشريعته ،
فإذا كان اليهود إحدى وسبعين والنصارى اثنتين وسبعين وارتكب أحد من هذه الأمة طريقة النصارى صار الضلال في اثنتين وسبعين فرقة فيبقى فرقة واحدة هي التي خرجت عن مشابهة اليهود والنصارى وصارت على ملة الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ولهذا قال المؤلف :
بأن ذي الأمة سوف تفترق ،
بضعاً وسبعين اعتقاداً والمحق ،
والغريب أن هذه الفرق كلها تدعي أنها على الحق ، فالذي على الحق منها أمره واضح ،
والذي على غير الحق ويدعي أنه على الحق ،
نقول : هذا لا تخلو حاله من أحد أمرين :
إما شبهة عرضت له فظن أن ما هو عليه هو الحق ،
وإما شهوة عرضت له أراد بذلك الرئاسة والجاه فبقي على الضلال مدعياً أنه على حق ،
فالعوام المتبعون للأئمة البدع الذي حملهم على الخروج عن الحق شبهة ،
لأن العامي لا يدري فظن أن هذا هو الحق ،
وأئمة البدع الضالون هؤلاء عرض لهم شهوة ،
(70/54)
لأن الغالب عليهم أنهم يعرفون الحق لكن أصروا على ما هم عليه من أجل البقاء على رئاستهم وعلى قيادتهم والعياذ بالله ،
مثل : ما صنع أئمة الكفر في الجاهلية كأبي جهل وغيره بقوا على الضلال مع علمهم بالحق [115] ،
وكما فعل فرعون فهو يعلم أنه على باطل وإن الحق بما جاء به موسى ومع ذلك بقي على باطله [116] ،
إذن نقول : إن هذه الفرق الثلاث والسبعين كل واحدة منها تعتقد أنها على صواب وعلى حق ،
فالذين أصابوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هؤلاء على الحق لا شك ،
والذين خالفوا عرضت لهم إما شبهة وإما شهوة ،
قوله : ( والمحق ) : يعني : الذي كان على الحق ،
******************
21 – ما كان في نهج النبي المصطفى ،
وصحبه من غير زيغ وجفا ،
قوله : ( ما كان في نهج ) : ( في ) : للظرفية يعني ما كان في الدائرة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وقوله : ( المصطفى ) : يعني المختار الذي اختاره الله عز وجل واصطفاه من خلقه حتى جعله رسولاً إلى العالمين إلى يوم القيامة ،
قوله : ( وصحبه ) : يعني الصحابة رضي الله عنهم ،
قوله : ( من غير زيغ ) : ( زيغ ) : يعني من غير ميل عن الحق بالغلو ،
قوله : ( جفا ) : أي تقصير ،
والحقيقة أن التقصير زيغ لكن لما جاء الزيغ ثم جاء الجفاء وجب أن نحمل الزيغ على الغلو والجفاء على التقصير ،
يعني : فالذين على طريقة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من غير غلو ولا تقصير هؤلاء هم المحقون ،
فإذا قال قائل : بأي شيء ندرك أن هذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
فالجواب : بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار الواردة عن الصحابة وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن قول الصحابة حجة ،
لقوله : ( في نهج النبي المصطفى وصحبه ) .
(70/55)
وهذا أحد احتمالين :
1 – أن يكون مراده بذلك أن قول الصحابي حجة ،
2 – والاحتمال الثاني : أن يكون مراده أن نهج الصحابة الرجوع إلى الكتاب والسنة ،
فمن كان على نهجهم ورجع إلى الكتاب والسنة فهو على صواب ،
ولا يلزم على هذا الاحتمال أن يكون قول الصحابي حجة ،
لأنه أي الصحابي قد يرجع إلى الكتاب والسنة ويكون لديه خطأ في الفهم أو خطأ في الدليل خفاء الدليل عليه أو الخفاء الدلالة ،
على كلِّ كلام المؤلف يحتمل وجهين :
والأسلم للمرء الأخير ،
يعني : إذا قال : أنا لا أريد إلا أن أتبع الكتاب والسنة لأن هذا هو نهج الصحابة خير من أن يقول : أن أتبع الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابي ،
ولكن أعلم أن ما أجمع عليه الصحابة فهو حق ، لأن الإجماع دليل مستقل بنفسه ،
وكلامنا في الاحتمالين الذين ذكرناهما إنما هو في قول الواحد من الصحابة وأما إذا جمعوا فلا شك أن إجماعهم حجة وأنه دليل مستقل ،
******************
22 – وليس هذا النص جزماً يعتبر ،
في فرقة إلا على أهل الأثر ،
قوله : ( جزماً ) : عائد على النفي وليس متعلقاً بقوله ( يعتبر جزماً ) يعني : بحيث يعتبر ظناً ولكن المعنى أن هذا النص جزماً لا يعتبر في فرقة إلا على أهل الأثر ،
والنص قوله : ( كلها في النار إلا واحدة ) فمن هذه الواحدة ؟
نقول : نجزم جزماً بأنها هي فرقة أهل الأثر ،
يعني الكتاب والسنة ،
لأن الدليل :
1 – إما أثر ،
2 – وإما نظر ،
فإن كان الدليل عقلياً فهو نظر ،
وإن كان الدليل شرعياً فهو أثر ،
فمن هم أهل الأثر ؟
هم الذين اتبعوا الآثار اتبعوا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ،
وهذا لا يتأتى في أي فرقة من الفرق إلا على ( السلفيين ) الذين التزموا طريق السلف ،
******************
(70/56)
23 – فأثبتوا النصوص بالتنزيه ،
من غير تعطيل ولا تشبيه ،
قوله : ( أثبتوا ) : الضمير يعود على أهل الأثر ،
أثبتوها لفظاً وأثبتوها عقيدة وأثبتوها عملاً بمقتضاها ،
وإثباتها اللفظي أيضاً يتفرع عليه إثبات المعنى ،
فَيَحْسُنُ أن نقول : إثباتها لفظاً ومعنًى وإثباتها اعتقادًا وإثباتها عملاً بمقتضاها ،
مثال ذلك : من أسماء الله تعالى : ( السميع ) ،
اثبتوا هذا الاسم لفظاً ،
وأثبتوه معنىً ،
واعتقدوا لله السمع وإنه متصف به ،
وعملوا بمقتضى ذلك وهو أنهم إذا اعتقدوا أن الله يسمع نزهوا ألسنتهم عن قول ما لا يرضاه الله عز وجل ،
( البصير ) :
إثباته لفظاً .
وإثباته معنىً أي انه دال على البصر .
واعتقاد ذلك لأنه ليس مجرد العلم كافياً بل لا بد من عقيدة ،
والرابع : العمل بمقتضاه ، ما مقتضى الإيمان بأن الله يرى ؟
أن لا أفعل شيئاً لا يرضاه الله ما أتحرك بأي حركة لا يرضاها الله عز وجل ، لأني أومن بأن من أسماء الله تعالى البصير وأن البصير متضمن للبصر واعتقد ذلك بقلبي ،
إذن جوارحي لا بد أن تعمل بمقتضى ذلك الاعتقاد ،
قلت : إن العلم لا يستلزم العقيدة .
أبو طالب يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله ،
لكن لم ينفعه لأنه ما اعتقد ولا انقاد ،
فقول المؤلف : ( النصوص ) : جمع نص .
والمراد به ( الكتاب والسنة ) .
قوله : ( بالتنزيه ) : الباء للمصاحبة ، يعني : أثبتوها إثباتاً مصاحباً للتنزيه ،
والمراد بالتنزيه : ( تنزيه الله عز وجل عن كل نقص ) ،
فمثلاً : يثبتون أن الله قدير ،
وأن هذا الاسم متضمن لمعناه وهي القدرة ،
ويعتقدون أن الله تعالى قادر بقدرة لا يلحقها نقص ولا يلحقه فيها عجز ،
ويعملون بمقتضى ذلك وأنه لو شاء الله عز وجل لأخذهم أخذ عزيز مقتدر إذا خالفوا أمره ،
(70/57)
الإنسان له قدرة هذه القدرة فيها نقص ، لأن الإنسان لا يقدر على كل شيء ،
وأما قدرة الله فليس فيها نقص ، فإن الله على كل شيء قدير ،
وهكذا جميع النصوص يثبتونها مع عدم النقص في إثباتها ،
سمع لا يعتريه صمم ، بصر لا يعتريه عمى ، كلام لا يعتريه خرس ولا عي ، كل النقص ينزهون الله سبحانه تعالى عنه ،
وقوله : ( من غير تعطيل ) : يعني : أنهم ينزهون الله تنزيهاً خالياً عن التعطيل ،
والتعطيل : هو ( تخلية الله تعالى عما يجب له من الأسماء والصفات ) ،
فيعطلون النصوص عن مدلولها ويخلون الله عز وجل عن ما يتصف به مما تقتضيه هذه النصوص هؤلاء أهل التعطيل ،
أهل السنة والجماعة يتبرءون من ذلك ،
وإنما قال المؤلف : ( بالتنزيه من غير تعطيل ) : لأن المعطِّلة الذين أنكروا صفات الله أو أنكروا بعضها أو أنكروا الأسماء والصفات أيضاً ،
يقولون : إنهم ينزهون الله عز وجل يدّعون أنهم منزهون لله ، كيف ذلك ؟
يقولون : لأن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه والله منزه عن المشابهة ،
فإذن يجب أن ننكر هذه الصفات ،
والغالون : قالوا : يجب أن ننكر حتى الأسماء ، لأن إثبات الأسماء على زعمهم ينافي تنزيه الله سبحانه وتعالى حيث إنه يقتضي التشبيه عندهم ،
أما أهل السنة فينزهون الله عن النقص ولا يعطلون النصوص الواردة في إثبات الصفات ،
قوله : ( ولا تشبيه ) : يعني : أنهم لا يشبهون الله بخلقه [117] ،
ومراد المؤلف بالتشبيه ( التمثيل ) ولهذا لو عبّر به لكان أولى من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أن الذي جاء به القرآن والسنة نفي التمثيل لا نفي التشبيه .
كما قال الله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) ، { فلا تضربوا لله الأمثال } ( النحل 74 ) .
ومعلوم أن المحافظة على لفظ النص لا سيما في هذه الأمور الدقيقة أولى من الإتيان بلفظ آخر ، ولو ادعى من أتى به أنه مرادفٌ للفظ الذي جاء به النص ،
(70/58)
الوجه الثاني : أن نفي التشبيه فيه إجمال [118] ،
لأنه إن أراد نفي التشبيه من كل وجه فهذا غلط ،
وإن أراد نفي التشبيه في كل الصفات فهذا هو التمثيل ،
يعني : إن أراد نفي التشبيه أي أنه لا يشابه الخلق في أي شيء وأي وجه من الوجوه فهذا خطأ ،
وإن أراد نفي التشبيه يعني أنه مشابه للخلق في كل وجه وفي كل معنى ،
فهذا يكفي عنه قوله : ( التمثيل ) ،
فنفي التشبيه من كل وجه من الوجوه هذا خطأ ، لأن هناك تشابه واشتراك في بعض المعاني ،
فمثلاً : الحياة ، يتصف بها الخالق ويتصف بها المخلوق ،
فبينهما تشابه من حيث أصل الصفة وهي الحياة ،
ولولا هذا التشابه المشترك بين صفات الله وصفات المخلوق ما عرفنا معاني صفات الله ،
فلا بد أن يكون هناك اشتراك وتشابه من بعض الوجوه ؟
لله علم وللمخلوق علم بين علم الله وعلم المخلوق تشابه من حيث أصل المعنى ، المخلوق يدرك ما يعلمه والخالق عز وجل كذلك ،
فهناك اشتراك في أصل المعنى ، للمخلوق بصر وللخالق بصر ،
البصر للخالق والمخلوق مشتركان في أصل الرؤية ،
فبينهما تشابه من هذا الوجه ،
لكنهما لا يتماثلان ،
لأن المماثلة : ( التساوي من كل وجه ) ،
والمشابهة : ( الاشتراك ولو في بعض الوجوه ) [119] ،
الوجه الثالث : أن نفي التشبيه صار عند كثير من الناس يساوي نفي الصفات مطلقاً .
وذلك عند من يقول : كل من اثبت لله صفة فهو مشبه ،
فإذا قلنا : ( من غير تشبيه ) : صار معنى هذا الكلام عندهم أي من غير إثبات صفة ،
فيوهم هذا بأن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب أهل التعطيل ،
لأنهم يرون أن معنى ( نفي التشبيه ) يعني نفي الصفات ،
حيث يزعمون أن كل من أثبت لله صفة فهو مشبِّه ،
فالحاصل : أن المؤلف رحمه الله تابع في قوله : ( ولا تشبيه ) : تابع عبارة كثير ممن كتبوا أو تكلموا في هذا الباب ،
والصواب : أن نقول : ( من غير تمثيل ) ،
(70/59)
ولهذا عبَّر شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية بذلك [120] ،
فقال : ( من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ) ،
وعند المناظرة على العقيدة – لأنه جلس له مناظرة عند الوالي – عند المناظرة على العقيدة قال : لماذا لم تقل : ( ولا تشبيه ) ؟ قال : لأن التمثيل هو الذي ورد به القرآن فعبّرت باللفظ الذي جاء به القرآن ولم يذكر الوجهين الآخرين ،
لكن ذكر أحدهما وهو أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات مطلقاً ذكره في العقيدة التدمرية [121] ،
******************
24 – فكل ما جاء من الآيات ،
أو صحَّ في الأخبار عن ثقات ،
25 – من الأحاديث نُمِرُّهُ كما ،
قد جاء فاسمع من نظامي واعلما ،
هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف رحمه الله أن :
( كل ما جاء في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث فإننا نُمِرُّهُ كما قد جاء ) ،
وهذا هو المروي عن السلف ،
يقولون في آيات الصفات وأحاديثها : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) [122] ،
فالواجب علينا أن نمرها كما جاءت ،
ولكن هل هذا الإمرار إمرار لفظي بمعنى أن نُمِرَّ لفظها فقط أو هو إمرار لفظي معنوي ؟
الجواب : الثاني ، أما الأول فإنه مذهب باطل ويسمى مذهب أهل التفويض أو المفوِّضة ،
وهو كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : ( من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) [123] ،
لأنهم بهذا المذهب ارتكبوا خطأ عظيماً ،
حيث جعلوا المسلمين يجهلون معاني آيات الصفات وأحاديثها ،
وهذا خطر عظيم ،
إذا كنا متعبدين بألفاظ الأحكام الشرعية كالصلاة والوضوء والزكاة والحج ،
فكيف لا نتعبد بآيات الصفات حتى نفهم معناها ؟؟؟!!!
(70/60)
المهم : أننا نمره كما جاء ، ومن المعلوم أنه لفظ جاء لمعنى ،
فالواجب إثبات هذا اللفظ ومعناه المراد به ،
فإذا قال قائل : هل المعنى المراد هو الظاهر أو الاحتمال المرجوح ؟
فالجواب : أنه هو الظاهر ،
لأن صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال مرجوح يحتاج إلى دليل ،
وهذا الدليل إذا لم يكن معلوماً لنا كان ادعائه من اتباع الهوى والتحكم على الله عز وجل ،
وعلى هذا فنمر آيات الصفات الفعلية وآيات الصفات الخبرية وآيات الصفات الذاتية نمره على ما هو عليه ،
فالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والقوة وما أشبه ذلك من الصفات الذاتية نمرها كما جاءت ، ونقول : إن لله حياة وعلماً وقدرة وسمعاً وبصراً وعزة وقوة ،،،،،الخ
ولا يجوز أن نصرفها عن ظاهرها ، لأن صرفها عن ظاهرها خروج بها عن ما يراد بها ،
كذلك الصفات الفعلية نمرها كما جاءت ،
مثل : المجيء والإتيان ، الغضب ، السخط ، الرضى ، الفرح ، العجب ، وغير ذلك من الصفات الفعلية فنمره كما جاء ،
فنقول : المراد بالرضى المعنى الحقيقي – بالسخط المعنى الحقيقي – بالفرح المعنى الحقيقي – بالكراهة المعنى الحقيقي – وهكذا ،
لأنها ألفاظ جاءت بمعناها فإذا صرفناها عن معناها الظاهر صار ذلك من باب اتباع الهوى لا الهدى ،
الصفات الخبرية : وهي التي تدل على مسمى هو أبعاض لنا وأجزاء ،
مثل : الوجه ، واليد ، والقدم ، والأصابع ، والعين ،
كل هذه ألفاظ تدل على مسميات ،
هي بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء ،
أما بالنسبة لله ما نقول إنها أبعاض وأجزاء ،
لأن البعض والجزء : ( ما يمكن انفصال بعضه عن بعض ) [124] ،
وهذا بالنسبة لله عز وجل مستحيل ،
ولهذا لم نرى أحداً يقول : إن يد الله بعض منه أو جزء منه ، لا يقال هكذا في حق الله عز وجل [125] ،
لأن البعض والجزء : ( ما صح انفصاله عن الأصل ) ،
وهذا بالنسبة لله أمر مستحيل .
(70/61)
إذن نسميها يداً ووجهاً وعيناً وإصبعاً وقدماً وما أشبه ذلك ، لكننا لا نسميها بعضاً أو جزءً ،
عكس طريقة السلف في هذا الباب : الذين أجروها على خلاف ظاهرها أو أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين أو لم يجروها على ظاهرها ولا على غير ظاهرها بل سكتوا ،
فمثلاً : الذين أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين هؤلاء الممثلة ،
وحقيقة الأمر : أنهم لم يجروها على ظاهرها وإن ادعوا إن هذا هو الظاهر فهم كاذبون ،
ولنضرب لذلك مثلاً بـ ( اليد ) إذا قالوا : إن ظاهر اليد أن تكون مثل أيدي المخلوقين ،
قلنا : كذبتم ليس هذا هو الظاهر ،
لأن هذه اليد أضيفت إلى الله فلا يمكن أن يكون المضاف إلى الله كالمضاف إلى المخلوق ،
بل المضاف إلى الله يكون لائقاً بالله عز وجل ووصف كل موصوف يناسبه ،
أرأيت يد الإنسان هل تفهم من هذه اليد المضافة إلى الإنسان أنها مثل اليد المضافة إلى الذرة ؟
أبداً ، ولا يمكن أن يفهم هذا إلا من فيه هوس ،
فكذلك اليد المضافة إلى الله لا يمكن أن يكون مدلولها كاليد المضافة إلى الإنسان ،
لأنها يد أضيفت إلى موصوف بها وصفة كل موصوف تليق به وتناسبه وبحسبه ،
فقولكم : إن ظاهر النصوص هو التمثيل [126] ، وأننا أسعد باتباع ظواهر النصوص ممن نفى التمثيل .
نقول : إن قولكم هذا ليس بصواب ،
الذين نفوا هذا الظاهر وقالوا : إن المراد بـ ( اليد ) القوة أو النعمة ،
وقالوا : نحن أسعد بتنزيه الله منكم ،
نقول لهم : كذبتم لستم أسعد بتنزيه الله منا ،
بل أنتم وصفتم الله تعالى وكلامه بالنقائص ،
حيث زعمتم أن الكتاب لا يراد به ظاهره ،
بل يراد به معنى يخالف الظاهر تتصرفون فيه أنتم بعقولكم كما تشاءون ،
ولذلك نجدكم متفرقين في المعنى المراد بهذا اللفظ ،
منكم من يقول : المراد كذا ،
وكل إنسان يأتي بما أراد مما يراه عقليات وهي وهميات ليست عقليات ،
(70/62)
إذًا نقول : إن هؤلاء الذين قالوا : المراد بها خلاف الظاهر هم أيضاً لم يتبعوا ما يلزمهم من إجراءها على ظاهرها ،
إذن ما هو ظاهرها ؟
ظاهرها المعنى اللائق بالله حقيقة دون المجاز ،
فالمراد بـ ( اليد ) يد حقيقية تأخذ وتتصرف وتقبض وتبسط ،
وكذلك المراد بالأصابع أصابع حقيقية يأخذ الله بها ما أراد من خلقه ،
وكذلك المراد بالعين وهكذا بقية الصفات فنحن نمرها كما جاء لفظاً ومعنىً ،
لأنها ألفاظ جاءت لمعان فمن نفى اللفظ فإنه لم يمرها ومن نفى المعنى فإنه لم يمرها ،
بل الواجب أن نمرها كما جاءت ولا نتعرض لقولنا : كيف ؟ ولم ؟
لأن هذا التعرض من سبيل أهل البدع ،
بدليل : قول الإمام مالك رحمه الله : ( والسؤال عنه بدعة ) [127] ،
فلا يجوز أن يسأل عن صفة من صفات الله ، ونقول : كيف ؟
ولا يجوز أيضاً أن نقول : إذا صح هذا لزم منه هذا مما يمتنع على الله ،
يعني مثل الذين يقولون : إذا صح نزوله إلى السماء الدنيا لزم أن تكون السماء الثانية فوقه ،
هذا حرام ، ولا يجوز ،
ولا يمكن أن يُقَدِّرَ هذا التقدير من عرف الله وقدره حق قدره ،
بل نحن موقفنا في هذا الأمور التسليم وعدم التعرض لأي سؤال مثل هذه الأسئلة ،
أما لو قال : ما معنى النزول ؟ أو ما معنى المجيء ؟
فهذا لا بأس أن يسأل عن المعنى حتى يبين له ،
ما معنى الاستواء ؟
لا بأس .
لكن كيف استوى كيف ينزل كيف يجيء كيف عينه ؟ كيف قدمه ؟
لا يجوز .
******************
26 – ولا نرد ذاك بالعقول ،
لقول مفتر به جهول ،
قوله : ( ولا نرد ذاك ) : أي ما جاءت به النصوص من الآيات والأحاديث ،
قوله : ( لانرده بالعقول ) : وإنما قال ذلك إشارة إلى قول من يقول : إن المرجع في إثبات الصفات أو نفيها هو العقل ،
(70/63)
فما اقتضى العقل ثبوته أثبتناه ،
وما اقتضى العقل نفيه نفيناه سواء كان موجوداً في القرآن والسنة أم غير موجود ،
وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فإما أن نتوقف فيه وإما أن ننفيه ،
وأكثرهم نفى ذلك [128] ،
فالأقسام عندهم ثلاثة :
الأول : ما اقتضته العقول فيثبتونه سواء كان ثابتاً في الكتاب والسنة أم لا ،
الثاني : ما اقتضى العقل نفيه فينفونه سواء كان ذلك موجوداً في الكتاب والسنة أم لا ،
الثالث : ما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه ،
فانقسموا فيه إلى قسمين :
1. قسم نفاه وهم الأكثر ،
2. وقسم توقف فيه وقال : لا نثبت ولا ننفي ، لأن العقل لا يقتضي إثباته ولا نفيه ،
فالذين نفوه وهم الأكثر قالوا : لأن العقل لم يدل عليه ، وما لم يدل عليه الدليل ، فالواجب نفيه ،
والذين توقفوا فيه قالوا : إن العقل لم يدل على نفيه ولم يدل على إثباته فالواجب التوقف ،
لكن كل هذه القاعدة قاعدة مبنية على شفا جرف هارٍ ،
لأنها قاعدة تقتضي تقديم المعقول على المنقول ، والعقل يقتضي تقديم المنقول على المعقول ،
وهذا من العجب أن يقولوا نحن نتبع العقل وهم يهدمون العقل بما يدعونه عقلاً ، العقل يقتضي أن هذه الأمور الغيبية نقتصر فيها على الخبر المجرد ، لأن العقل لا يمكن أن يتحكم فيها أو يدركها فكان مقتضى العقل الصريح أن يرجع فيها إلى النقل ،
خبرٌ محض ما تدركه بعقلك كيف ترجع إلى عقلك فيه ؟
الآن لو رجعت إلى عقلك بالنسبة إلى حال شخص من البشر ، هل يمكن أن تحكم بعقلك على أحواله ؟
لا يمكن لكن إنما تعتمد في أحواله على ما نقله عن نفسه أو ما نُقِلَ عنه بالخبر الصادق ، أما أن تتحكم عليه بعقلك فليس بصحيح كلٌّ له تصرف يختص به ، أنت في بيتك تقوم وتفطر وتذهب لعملك وهو لا يقوم ولا يفطر يروح لعمله قبل أن يفطر أليس كذلك ؟ يختلف عنك ، هذا وهو بشر حاله قريبةٌ من حالك فكيف بالله عز وجل ؟
(70/64)
كيف تحكم على الله بعقلك والعقل يقتضي أن تعتمد في ذلك على النقل ؟
لأن هذا لا يثبت إلا بالخبر المحض ،
ولهذا نقول : أنتم يا أصحاب العقول هدمتم العقول ، لأنكم تقولون : العقل يقتضي ألا يوصف الله بذلك وهو قد وصف به نفسه
وهو خبر عن أمر لا يدرك بالعقل ، فالواجب فيه الاعتماد على النقل :
تقولون : هذا ثابت لله والله لم يثبته لنفسه ،
هذا أيضاً إثبات للعقل بما ينافي العقل ،
لأن الذي يقتضيه العقل أن ما لم يبلغك خبره في أمر غائب عنك أن تتوقف فيه ، أما أن تثبته مع نفي الله له ، فهذا زيادة في العدوان ،
فالحاصل : أن قول المؤلف : ( لا نرد ذاك بالعقول ) : يشير به إلى رد قول من يقول : ( إن المرجع في صفات الله إلى العقل ) ،
نقول لهم : إن هذه القاعدة باطلة من أساسها وإن هذه القاعدة تبطل الاعتماد على العقل ،
لأن العقل يقتضي أن ما طريقه الخبر المجرد يعتمد فيه على النقل وعلى الخبر ،
ما دامت العقول لا تدرك هذا فالواجب عليها أن تعتمد على النقل وما أخبر الله به عن نفسه أو أخبرت عنه رسله ،
ثالثاً : أن نقول : تحكيم العقل في هذا الباب تحكيم من لا يحيط بالحكم علماً ،
وذلك لأن ما يصف الله به نفسه لا يمكن للعقل أن يدركها ،
إذا كان الله يقول : { لا تدركه الأبصار } ( الأنعام 103 ) .
والإدراك بالبصر إدراك بمحسوس فكيف تدركه العقول ؟
العقول لا تدرك كنه حقيقة صفات الله عز وجل أبداً ،
{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) ،
ثم نقول لهم رابعاً : أن هذه العقول التي زعمتم أنها مرجع ومُحَكَّمْ في صفات الله عقولٌ متناقضة !
لأن هؤلاء العقلاء كما يَدَّعُون يتناقضون ،
فتجد بعضهم يقرر وجوب ذلك عقلاً والآخر يقرر وجوب ذلك عقلاً ،
وفرق واسع شاسع بين الواجب والممتنع ،
وكلٌّ منهم يَدَّعي أنه من ذوي العقول ،
هذا يقول : هذا ممتنع على الله ولا يجوز وصفه به ،
وهذا يقول : واجب لله فيجب وصفه به ،
(70/65)
أين العقل ؟ بأي شيءٍ يوزن ما يجب لله وما يمتنع ؟ بأي عقلٍ يوزن ؟
إن قلنا : بعقل زيد ، قال عمرو : وراكم تتركون عقلي ،
إن قلنا : بعقل عمرو ، قال زيد : وراكم تتركون عقلي ،
فبأي عقل يوزن ؟
فأنتم متناقضون ،
بل إنه كما قال شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم : إن الواحد من هؤلاء الذين يحكمون العقل يكون متناقضاً ،
فيكتب في بعض مصنفاته : أن هذا واجب لله ،
ويكتب في المصنفات الأخرى : أنه ممتنع على الله ،
إذن الرجوع إلى العقل باطل من هذه الوجوه الأربعة ،
والواجب أن نرجع إلى النقل ،
فإذا وجب الرجوع إلى النقل فهناك مرحلة أخرى واجبة :
وهي أن نأخذ بظاهر هذا النقل ولا نحرفه ،
لا نقول : المراد به كذا وكذا مما يخالف الظاهر ، بل الواجب أن نأخذ بظاهره ،
فإذا قال قائل : إذا أخذت بظاهره فقد مثلت الله بخلقه ،
ولنفرض أنك أخذت بظاهر اليد أن لله يدين ،
يقول : إذا قلت : إن المراد باليدين هما ما يؤخذ بهما ويقبض فقد مثلت الله بخلقه ،
وحينئذِ وقعت فيما هو كفر ،
فما جوابنا على ذلك ؟
جوابنا على ذلك أن نقول : من يقول : إن ظاهر اليدين حقيقة يقتضي المماثلة ؟ من يقول هذا ؟
بل لنا أن نقول : إن ظاهر المضافتين إلى الله حقيقة يقتضي امتناع المماثلة وذلك ، كيف ذلك ؟
لأنها يداً أضيفت إلى متصفٍ بها ،
ومن المعلوم أن ما أضيف إلى الشيء فإنه يكون لائقاً به ،
فاليدان اللتان أضافهما الله إلى نفسه يدان لائقتان لله عز وجل لا يمكن أن تماثل أيدي المخلوقين ،
ألم تكن تقول : يد إنسانٍ ، وتقول : يد حمار ، وتقول : يد جملٍ ، وتقول : يد هرٍّ ، وتقول : يد أسدٍ ، وتقول : يد ذرة ؟
هل أحد من الناس يعتقد التماثل في هذه الأيدي ؟
أبداً ،
لأنها مضافة إلى متصفٍ بها فتكون هذه الأيدي لائقةً بالموصوف به ،
لكن إذا قلت : يد أسدٍ ويد أسدٍ آخر ، صارت مماثلة ،
(70/66)
فإذا عُلم التباين بين المخلوقات بعضها مع بعضٍ فالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى ،
ومن اعتقد أن ظاهر نصوص الكتاب والسنة التمثيل ، فقد كفر ،
لأن تمثيل الله بخلقه كفرٌ ،
ومن زعم أن ظاهر الكتاب والسنة ما يقتضي الكفر ، فهو كافر ،
لأن الكتاب والسنة يقرران الإيمان وينكران الكفر ،
ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله شيخ البخاري : ( من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً ) [129] ،
فالحاصل أن نقول : إننا إذا أخذنا بظاهر النصوص لم نكن ممثلين ، بل نحن أبعد الناس عن التمثيل ،
والممثل حقيقة : هو الذي صرف عن ظاهرها هذا هو الذي جعل النصوص دالة على التمثيل ،
لأنه لم يصرفها عن ظاهرها إلا حيث اعتقد أن ظاهرها يقتضي التمثيل فلما اعتقد هذه العقيدة الباطلة ذهب يصرفها عن ظاهرها [130] ،
ولهذا نقول : كل معطلٍ فهو ممثل لأنه لم يعطل إلا حيث اعتقد أن ظاهرها التمثيل فذهب يصرفها عن ظاهرها ويعطل مدلولها عما أراده الله ،
من القائلون بتحكيم العقل ؟
القائلون بتحكيم العقل الجهمية [131] والمعتزلة [132] والأشاعرة [133] والماتريدية ،
وكل أهل التأويل يقولون بتحكيم العقل في هذا الباب ،
وسيأتي إن شاء الله في كلام المؤلف : أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً ،
ادعوا أن العقل يقتضيها وأنكروا بقية الصفات بحجة أن العقل لا يقتضيها ،
ولكننا نقول إن شاء الله : بأن العقل يؤيد ما جاءت به النصوص من هذه الصفات الكمالية التي اتصف الله سبحانه وتعالى بها ،
قوله ( ولا نرد ذاك بالعقول ) : والذين رجعوا إلى العقول هل ردوها ؟
ردوها لأنهم أنكروا دلالتها على المراد بها ،
فقالوا مثلاً : في قوله تعالى : { وجاء ربك } ( الفجر 22 ) أي وجاء أمر ربك ، ردوها ،
إذا قالوا : نحن لم نردها ولم نكذب بمجيء الله لكن المراد بمجيئه مجيء أمره ؟
(70/67)
نقول : وهل هذا إلا ردٌ ، ما معنى الرد إذا لم يكن هذا رداًّّّ ؟
ربنا تعالى يقول : { وجاء ربك } .
وأنتم تقولون : لم يجيء ربك الذي جاء أمره ،
سبحان الله ، هل الله يبين لعباده خشية أن يضلوا أو يعمي على عباده ليضلوا ؟
الجواب : الأول ، { يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيءٍ عليم } ( النساء 176 ) لو كان الله يريد بقوله : { وجاء ربك } : ( وجاء أمر ربك ) لكان هذا أبلغ ما يكون في التعمية ،
كيف يقول لنا : { وجاء ربك } ، وهو يريد ( وجاء أمره ) ؟
هل هذا إلا من عدم البيان بل من التلبيس على العباد ؟
كيف يقول عن نفسه وهو واجب على عباده أن يعرفوه بصفاته ؟
كيف يقول : { وجاء ربك } وهو يريد ( وجاء أمر ربك ) ؟
فإذا قال قائل : إن الله يقول : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } ( النحل 1 ) ، فيجب أن نحمل { وجاء ربك } على هذا الآية ؟
نقول : هذه الآية التي استدللتم بها حجة عليكم وليست حجة لكم ،
لأن اختلاف التعبير في موضعين يدل على أن أحدهما غير الآخر ،
لو كان الله يريد بقوله : { وجاء ربك } يعني ( جاء أمر ربك ) لقاله كما قاله في الآية الثانية { أتى أمر الله } ثم إن الله قال هنا : { وجاء ربك والمَلَكُ صفاً صفاً } ( الفجر 22 ) ومعلوم أن الذي جاء هم الملائكة أنفسهم وليس أمرهم ،
ففي الآية أيضاً قرينة لفظية تدل على امتناع تفسيرها بمجيء أمره ،
ولا تعجبوا أن يكون كل دليل استدل به المبطل فإنه يكون دليلاً عليه ،
لأن استدلاله به يدل على أن فيه إشارة إلى هذا المعنى لكنه إشارة على غير ما أراده ،
وقد التزم شيخ الإسلام في كتابه : ( درء تعارض العقل والنقل ) التزم بأنه لا يأتي مبطل بحجة يحتج بها على باطله إلا جعلها دليلاً عليه ، لا له ،
إذن نحن نقول لهؤلاء الذي يحكمون العقل : أنكم أنتم الذين خرجتم بآيات الصفات وأحاديثها عن ظاهرها ، أما نحن فإننا أخذنا بظاهرها ،
(70/68)
لأن الله تعالى إنما أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء وأراد من عباده أن يهتدوا بهذا القرآن لا أن يضلوا فيه ،
وإذا كنتم أنتم تعملون بظاهر النصوص في العبادات والمعاملات ، وهي أيضاً – أعني العبادات والمعاملات – فيها ما يرجع فيه إلى العقل كالمسائل القياسية ،
فكيف لا ترجعون فيها إلى مجرد النقل وتمنعون القياس كما منعه أهل الظاهر ؟
مع أن هؤلاء الذين يرجعون إلى العقل في باب الصفات يرجعون إليه أيضاً في باب الأحكام ،
لكنهم يأخذون بظاهر النصوص فيها ،
ولا يأخذون بظاهر النصوص في باب الصفات ،
وهذا من التناقض في الاستدلال ،
خامساً : أن في الاعتماد على العقل ارتكاب محظورين عظيمين :
أحدهما : أن نقول على الله ما لا نعلم ،
ثانياً : أن ننفي عن الله ما أثبته لنفسه ،
وهذا محذور عظيم ، لا يمكن لمؤمن أن يرتكبه بل ولا يمكن لعاقل أن يرتكبه فضلاً عن المؤمن ، وهؤلاء ارتكبوا ذلك بحجة أن العقل يمنع هذا على الله ، أو بحجة أن العقل يوجب على الله هذا الشيء ،
ولهذا قال المؤلف :
ولا نرد ذاك بالعقول ،
لقول مفتر به جهول ،
قوله : ( لقول مفتر ) : اللام هنا للتعليل أي من أجل قول مفتر ، والمفتري هو الكاذب ،
قوله : ( به ) : أي كاذب به ،
قوله : ( جهول ) : ويجوز أن نجعل ( به ) متعلق بجهول ، أي جهول به ،
وإنما قال المؤلف ( مفتر وجهول ) : لأن من خالف النص وقال المراد به كذا فهو :
إما كاذب وإما جاهل ،
إما كاذب إن تعمد مخالفة النص ،
يعني يعلم أن النص يدل على كذا ، ولكن يقول : نرجع إلى كذا ،
وإما جهول إن كان لا يدري أنه خالف النص ،
فالذين خالفوا النصوص في هذا الباب لا يخرجون عن أحد هذين الوصفين :
1. إما الكذب إن علموا أن النص يدل على خلاف قولهم ولكن ارتكبوا خلافه عن عمد ،
(70/69)
2. وإما الجهل أن ارتكبوا خلاف النص عن غير عمد ،
******************
27 – فعقدنا الإثبات يا خليلي ،
من غير تعطيل ولا تمثيل ،
قوله : ( فعقدنا ) : يعني اعتقادنا ،
قوله : ( الإثبات ) : أي إثبات هو ؟ إثبات ما أثبته الله لنفسه ،
ولا شك أن في العبارة قصوراً ،
لأن : ( عقدنا ) : الإثبات فيما أثبته الله لنفسه ، والنفي ما نفاه الله عن نفسه ، والتوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصاً فإن تضمن نقصاً محضاً فهو مما ينفي عن الله ،
فصار اعتقادنا على النحو الآتي :
أولاً : إثبات ما أثبته الله لنفسه ،
والثاني : نفي ما نفاه الله عن نفسه [134] ،
والثالث : التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصاً محضاً ، فإننا ننفيه عن الله ،
1 - إثبات ما أثبته الله لنفسه : كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوجه والعين واليد والقدم والأصبُع وما أشبه ذلك ،
2 - نفي ما نفاه الله عن نفسه : كالظلم والجهل والغفلة والنسيان وما أشبه ذلك ،
ننفي ما نفاه الله عن نفسه ، والعور أيضاً ، العور في العين فننفى ما نفاه الله عن نفسه ،
3 - الثالث : ما لم يرد نفيه ولا إثباته : يجب علينا أن نتوقف فيه ما لم يتضمن نقصاً ،
فإن تضمن نقصاً محضاً وجب رده وإن لم يَرِدْ نفيه ،
مثال ذلك : فيما لم يرد إثباته ولا نفيه : الجسم ،
لو قال لنا قائل : هل تقولون إن الله جسم ؟
فالجواب : لا نقول : إنه جسم ، انظر العبارة : لا نقول : إنه جسم ، أو نقول : إنه ليس بجسم ،
أيهما أصح ؟ يعني هل الصحيح نقول : ليس بجسم ، أو الصحيح نقول : إنه ليس بجسم ؟
الثانية الصحيحة ، يعني لا نقول : إنه جسم ،
لأنك إذا قلت : نقول : إنه ليس بجسم نفيت أنه جسم ،
أما إذا قلت : لا نقول : إنه جسم فقد نفيت القول بأنه جسم وفرق بين النفيين ،
(70/70)
لأن الأول نقول : إنه ليس بجسم ، حكمٌ بانتفاء الجسمية عن الله ، وهذا ليس عندنا علم فيه ،
والثاني لا نقول : إنه جسم ، نفيٌ للقول بذلك ونعم نحن ننفي أن نقول بذلك لأننا لا نعلم ،
إذن الجسم نقول : لا نثبته ولا ننفيه ، لماذا ؟
لأن الله لم يثبته لنفسه ولم ينفيه ، فإذا لم ينفه عن نفسه ولم يثبته فليس لنا شغل ، نقف حيث وقف النص ،
ولكن نسأل عن المعنى المراد بالجسم ، يعني اللفظ نتوقف فيه ، المعنى نسأل : ماذا تريد بالجسم ؟
إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يستحقه من الصفات فهذا المعنى صحيح ،
فإن الله تعالى شيء قائم بنفسه متصف بما يليق به من الصفات يستوي ويأتي وينزل ويفرح ويغضب ويرضى نؤمن بذلك ،
وإن أردت بالجسم الشيء المركب من أجزاء يفتقر بعضها إلى بعض ويجوز انفصال بعضها عن بعض كما في الأجسام المخلوقة فهذا باطل [135] ،
كذلك أيضاً : ( الجهة ) هل الله في جهة ؟
نقول : أما اللفظ فإننا نتوقف فيه وما لنا وله ،
ولكن المعنى نستفصل : ماذا تريد في جهة ؟
إن أردت أن الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل ،
وإن أردت بذلك سُفْلْ ومخالطة للمخلوقات فهذا أيضاً باطل ممتنع على الله فليس الله تعالى في جهة السفل وليس في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف ،
وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية لا تحيط به ما ثم إلا هو عز وجل فهذا حق [136] ،
والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله تعالى ، قال للجارية : ( أين الله ؟ ) ، قالت : في السماء [137] ،
فاستفهم بـ ( أين ) التي يستفهم بها عن المكان ، والمرأة أجابت بـ ( في ) الدالة على الظرفية لكن الظرفية العدمية نعني ما فيه شيء يحيط بالله ما ثَمَّ فوق المخلوقات إلا الله ،
(70/71)
وفي خطبة يوم عرفة التي لم يشهد النبي عليه الصلاة والسلام ولا المسلمون اجتماعاً أكبر منها وأعظم منها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، قال وهو يخطب الناس : ( ألا هل بلغت ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اللهم اشهد ) ، يشير بها إلى السماء ويَنْكُتُ بإصبعه إلى الناس ، ( ألا هل بلغت ؟ ) ، قالوا : نعم ، ففعلها مرة أخرى ، ( ألا هل بلغت ؟ ) ، قالوا : نعم ، ففعلها مرة ثالثة [138] ،
ماذا تعني هذه الإشارة ؟
تعني أن الله في جهة العلو ،
إذن إذا أردت بذلك جهة علو عدمية أي ليس فوق إلا الله وحده فهذا صحيح ، لكن مع ذلك فنظراً لكون البسطاء من الناس يفهمون من الجهة أنه في كل مكان مثلاً ،
نقول : لا تطلق أن الله في جهة أو في غير جهة بل لا بد من التقييد على حسب التفصيل السابق ،
( الحيِّز ) كذلك اللفظ نتوقف فيه ،
المعنى نستفصل :
فإن أردت أن الله في ( حيِّز ) يحيط به ويحوزه فهذا باطل وممتنع ، لأن الله عز وجل لا يحيط به شيء من مخلوقاته ،
وإن أردت أنه منحاز عن المخلوقات بائن منها غير مختلط فيها ولا هي حالَّةٌ فيه فهذا حق [139] ،
قلنا : في القسم الثالث : الذي لم يرد نفيه ولا إثباته نتوقف فيه إلا إذا تضمن نقصاً محضاً ،
مثل لو قال لك قائل : هل لله أمعاء ؟
فتقول : لا ، لأن الأمعاء إنما تكون للآكل ، والله عز وجل يُطعِم ولا يُطعَم ولا يأكل ،
وقد يقول قائل : إن هناك دليلاً من القرآن على أنه ليس له أمعاء وهي الصمد [140] ،
لكن لو قال قائل : هل لله آلة تناسل مثلاً ؟
نسأل الله العافية ، لأن أهل التعطيل يلجئون أهل السنة بمثل هذه الافتراضات ، ماذا نقول ؟
نقول : لا ، لأن هذه إنما يحتاج إليها من يحتاج إلى الولد ، والله عز وجل { لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } ( الإخلاص 3 – 4 ) .
وذكرنا أن قول المؤلف : ( فعقدنا الإثبات ) : فيه قصور ،
لأن الواقع أن عقدنا إثبات ونفي وتوقف ،
(70/72)
ولكن في باب النفي هل الله تعالى متصف بصفات هي نفي محض ؟
الجواب : لا ،
صفات الله تعال المنفية متضمنة لثبوت كمال فيجب أن نؤمن بأنها متضمنة لثبوت كمال ،
لأنها يراد بها بيان كمال الصفة المضادة فلا يظلم الله شيئاً ،
{ إن الله لا يظلم الناس شيئا } ( يونس 44 ) ، لكمال عدله ،
فهذا النفي إنما هو من أجل كمال الضد ،
قد يكون في الإنسان عدل لكن يكون فيه أيضاً ظلم ،
فيقال : فلان عدل ، لكن ظلم في القضية الفلانية ،
فلا ينتفي عنه الظلم ،
لكن الله عز وجل ينتفي عنه الظلم ،
لأن العدل لديه كامل ،
لا يمكن أن يرد في حقه الظلم لا في قليل ولا في كثير فانتفى الظلم عنه ،
لكمال العدل في حقه عز وجل ،
لو قلت : أنا أقول : لا يظلم ، ولا أقول : لكمال العدل ،
قلنا : هذا ليس بصحيح ،
لأن صفات الله عز وجل كلها عليا ،
وظلم لا يتضمن كمال العدل ليس من الصفات العليا ،
لأن نفي الظلم إذا لم يكن لكمال العدل ، فقد يكون نقصاً ، وقد يكون لعدم القابلية ،
فلا يمدح بنقص ولا كمال ،
نفي الظلم قد يكون نقصاً ،
وقد يكون لعدم القابلية فلا يكون نقصاً ولا مدحاً ،
فإذا قلت : فلان رجل حبيب لا يظلم الناس ،
يضربونه ، يقول : اللهم أعني على ذكرك وذكرك وحسن عبادتك وأعني على الصبر ،
يأخذون ماله ، ويقول : اللهم أغنني ،
يكسرون سيارته ، يقول : اللهم يسر لي من يصلحها حتى تذهب إلى الفحص ، وهكذا ، لماذا ؟
لأنه غير قادر لأنه ضعيف مرة ضعيف جداً بل يخاف إن تكلم أن يضرب زيادة ،
هل هذا يعتبر مدحاً إذا قلنا : لا يظلم ؟
لا ،
ولهذا قال الشاعر [141] :
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة ،
ولا يظلمون الناس حبة خردل ،
لو سمعت هذا لقلت هؤلاء أناس أهل وفاء وأهل عدل ،
لكن الواقع أنه يسبهم أنهم لا يقدرون على الغدر ولا على الظلم ،
(70/73)
وإلى زمن قريب أظن أن أهل البادية يرون الشرير السروق الظالم يرون أنه هو الرجل هو صاحب الشهامة ،
ولهذا يقولون : أن بعضهم يقول : لا نزوج هذا الرجل حتى يثبت أنه سرق أكثر من مرة لأنه هو الرجل ،
ويقول الشاعر أيضاً [142] :
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسبٍ ،
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا ،
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ،
ومن إساءة أهل السوء إحساناً ،
فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا ،
شنوا الغارة فرساناً وركباناً [143] ،
هذا الرجل يمدح قومه أو لا ؟ يذمهم ولهذا قال ليت لي بدلهم ،
إذن نفي النقص لعدم القدرة عليه يعتبر نقصاً ، وقد يكون نفي النقص لأن المحل غير قابل له ،
كما لو قلت : جدارنا لا يظلم الناس سيارتي لا تظلم أحدًا فهذا لا يعتبر مدحاً ، لأنه لا يقبل لا الظلم ولا العدل ،
طيب لو قلت : بعيري لا تظلم ، يمكن ، لأن بعض الإبل يكون شريراً أليس كذلك ؟ يكون شريراً يأكل الناس ويأكل أطعمتهم ،
ولهذا لما قالوا : خلأت القصواء – ناقة النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية – قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ) [144] ،
فدل على نفي النقص عنها لأنها كاملة ، ( ما خلأت وليس لها بخلق وإنما حبسها حابس الفيل ) والله أعلم ،
قوله : ( من غير تعطيل ولا تمثيل ) : يجب علينا أن نثبت بلا تعطيل ،
والتعطيل نوعان :
1 – تعطيل للنص ،
2 – وتعطيل للصفة ،
فأما تعطيل النص : فتعطيله عن دلالته ،
وأما تعطيل الصفة : فنفيها عن الله عز وجل ،
مثلاً : اليد تعطيلها باعتبار تعطيل صفة ، أن يقول : ليس لله يد حقيقية ،
(70/74)
وتعطيل النص : أن يقول : قوله تعالى : { لما خلقتُ بيديَّ } ( ص 75 ) أي بقدرتي أو نعمتي ،
فالتعطيل إذن إما تعطيلٌ للنصوص بمنع دلالاتها على ما أُريدَ بها ،
وإما تعطيل للصفات بنفيها عن الله سبحانه وتعالى مع ثبوتها له ،
أهل السنة والجماعة يتبرءون من التعطيلين ،
لأنهم يجرون النصوص على ظاهرها ولأنهم يثبتون لله ما أثبته الله لنفسه ،
ثم اعلم أن التعطيل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة ينقسم إلى أقسام :
1 – أولاً : تعطيل جزئي : يكون بإثبات الأسماء وإثبات سبعٍ من الصفات وإنكار الباقي ،
وهذا مذهب الأشاعرة [145] ،
الأشاعرة يثبتون الأسماء لله عز وجل ويثبتون سبعاً من الصفات وينكرون الباقي ،
فإذا جاءت النصوص بدلالةٍ على الباقي حرفوها ، فيكون هؤلاء عطلوا النصوص وعطلوا الصفات فيما نفوه ،
فمثلاً : يقولون : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ( المائدة 119 ) ، يقولون : معنى : { رضي الله عنهم } : أي أثابهم ،
فيفسرون الرضا بالمفعول المنفصل عن الله وهو الثواب فهؤلاء عطلوا ماذا ؟
عطلوا الصفة وهي الرضى ،
وعطلوا النص فصرفوا وهو دلالته عن الرضى إلى الثواب فعطلوه عن مدلوله ،
2 – فيه تعطيل فوق ذلك : بتعطيل الصفات كلها دون الأسماء ،
فينكرون الصفات عن الله ويثبتون الأسماء ،
ومنهم يقر بالعلم والحياة والقدرة لأنه لا بد للرب منها وما عدا ذلك يحرفونه ،
وهؤلاء هم المعتزلة هذا المشهور عنهم [146] ،
أنهم يقرون الأسماء ولكن ينكرون الصفات أو يقرون بثلاث صفات وينكرون الباقي ،
3 – الثالث : تعطيلٌ فوق ذلك : وهو إنكار الأسماء والصفات ،
فيقولون : إن الله لا يسمى سميعاً ولا يثبت له سمع وكل ما سمى الله به نفسه يجعلونه اسماً للمخلوقات ، السميع ليس الله هو السميع بل السميع خلقه وأضيف السمع إليه لأن الله هو الذي خلقه في هذا ، فيجعلون الأسماء والصفات كلها للمخلوقات لا للخالق عز وجل ،
(70/75)
وهؤلاء غلاة الجهمية يقولون : لا نؤمن بأن الله له أسماء ولا بأن الله له صفات [147] ،
4 – الرابع : قومٌ فوق ذلك : لا يثبتون لله أي صفةٍ ثبوتية ،
كل شيءٍ ثبوتي لا يثبتونه لله ، وإنما يثبتون لله السلبيات فقط ،
فيقولون مثلاً : ليس بمعدوم ليس بجاهل ليس بأصم ليس بأعمى ،
وأما إثبات الصفة فهي ممنوعة لا الأسماء ولا الصفات ،
وهؤلاء أيضاً القرامطة وأشباههم [148] ،
5 – والخامس : فوق ذلك : وهم الذين يعطلون النفي والإثبات ،
فلا يصفون الله بصفة ثبوتية ولا بصفةٍِ سلبية ،
وهذا مذهب غلاة الغلاة ( ذكرها الشيخ في المناقشة ) ،
فيقولون : إنه لا يرضى فلا نثبت الرضى ، ولا نقول : لا ، لا يرضى ،
لا يثبتون الإثبات ولا النفي ،
يقولون : لا نقول : حي ولا ميت لا سميع ولا أصم لا بصير ولا أعمى ،
فينفون عنه النفي والإثبات ،
يقولون : لأنك لو أثبتَّ لشبهته بالمثبتات ولو نفيت لشبهته بالمنفيات ،
فأنت واقع في التشبيه سواءٌ أثبتَّ أم نفيت ،
فنقول لهم : هل تقولون : إنه موجود ؟ فسيقولون : لا ، هل تقولون : معدوم ؟ لا ،
إذن لا موجود ولا معدوم ،
وهل هذا ممكن أن يكون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً أو أن يكون الشيء موجوداً معدوماً ؟
لا يمكن ،
إذن أنتم الآن فررتم من تشبيهه بالمنفيات أو بالمثبتات وشبهتموه بالممتنعات ،
والممتنع لا وجود له أصلاً ،
انظر كيف الشيطان يلعب ببني آدم إلى هذا الحد ،
يقول : إن قلت : حي فقد شبهت ، وإن قلت : ليس بحي فقد شبهت ،
إن قلت : السميع شبهت إن قلت : ليس بسميع شبهت ،
ماذا نصنع ؟
قل : لا سميع ولا غير سميع ،
إن قلت : موجود شبهت ، إن قلت : لا موجود شبهت ،
إذن ماذا أقول ؟
قل : لا موجود ولا لا موجود ،
وهذا غاية ما يكون من الامتناع ،
(70/76)
وقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال : يا جماعة – يعني بهذا المعنى ما هو بهذا اللفظ – أنتم إن فررتم من تشبيهه بالمثبتات والمنفيات مع أن المثبتات والمنفيات أمر ممكن فقد شبهتموه بالممتنعات ،
لأن تقابل والنفي والإثبات بإجماع العقلاء من باب تقابل النقيضين [149] ،
يعني لو سلمنا جدلاً بأن الحياة والموت من باب تقابل العدم والملكة ،
وأنه يصح أن نقول : لا حي ولا ميت فيما لا حي ولا ميت ، فيما لا يقبل الحياة ولا الموت كالجماد ،
مثلاً : الجدار هذا نقول : لا حي ولا ميت ، لأنه لا يقبل الحياة ولا الموت ،
يعني لو سلمنا جدلاً أن نوافقكم بأن تقابل الحياة والموت والسمع والصمم ، من باب تقابل العدم والملكة التي يجوز أن تُنفى عن من لا يكون محلاً قابلاً لها ،
لكن لا يمكن أن تخرجوا عن الإثبات والنفي ،
لأن تقابل الإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين يعني ليس هناك شيء إلا موجود أو معدوم إلا ثابت أو منفي ،
فإذا نفيتم الإثبات والنفي أو الوجود والعدم فقد أتيتم بما أجمع العقلاء على امتناعه لماذا ؟
لأن تقابل الوجود والعدم والإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين اللذين أجمع العقلاء على أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ،
فأنتم لا بد أن تصفوه إما بالوجود وإما بالعدم ،
إما أن تقولوا : ليس بموجود ،
أو تقولوا : ليس بمعدوم ،
أما أن تقولوا : لا موجود ولا معدوم ، فهذا شيء ممتنع ،
على كل حال صار التعطيل خمسة أنواع ،
الخامس : يقول شيخ الإسلام : إن هؤلاء غلاة القرامطة والباطنية يقولون هكذا لا يصفون الله بالصفات الثبوتية ولا بالسلبية وهو كما عرفتم ،
إذن خمسة أنواع التعطيل ،
أهل السنة والجماعة يتبرءون من جميع هذه الأنواع ويثبتون لله كل ما أثبته لنفسه ،
ويقولون لهؤلاء : إنكم ما فررتم من شيء إلا وقعتم في شرٍّ منه لا في مثله فحسب في شرٍّ منه ،
لأن هؤلاء إذا فروا من مما يعتقدونه تشبيهاً وأثبتوا صفةً أخرى ،
(70/77)
نقول لهم : هذه الصفة موجودة في المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه من حيث التشبيه بالمخلوق وشرٍّ منه من حيث تحريف النص ،
ونضرب مثلاً : الذين يقولون : إن الله ليس له يدٌ حقيقية وإنما له قوة ،
لماذا لم يثبتوا اليد الحقيقية ؟
قال : لأن هذا يقتضي التشبيه بالمخلوق الذي له يد وجارحة ،
نقول : والقوة هل للمخلوق قوة ؟
نعم ،
لا يستطيع أن يقول : لا ،
والله يقول : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعفٍ قوةً ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبة } ( الروم 54 ) ، أنتم الآن كان لكم ضعف ثم قوة ثم ضعف ،
فأنتم إذا قلتم : اليد القوة ، وقعتم في التشبيه على قاعدتكم ،
لأن للمخلوق قوة فيلزم على قاعدتكم أن تكونوا مشبهين لله تعالى بخلقه ،
قلنا : وشر مما فروا منه وهو تحريف النص حيث حرفتم معنى النص إلى معنى خلاف الظاهر ،
وهكذا كل الذين يتكلمون في التعطيل نقول : هم فروا من شيء ووقعوا في شرٍ منه ،
قوله : ( ولا تمثيل ) : يعني كذلك أيضاً نثبت بلا تمثيل ،
وهذا من المؤلف جيد جداً حيث أتى بنفي التمثيل دون نفي التشبيه [150] ،
فإن هذا أولى لوجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أن نفي التمثيل هو الذي جاء به النص ،
كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) .
وقال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } ( النحل 74 ) .
ولا شك أن استعمال الألفاظ التي جاءت بها النصوص أولى بكثير من استعمال ألفاظ جديدة ، لماذا ؟
لأنك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص ربطت الناس ربطتهم بالنصوص ،
وربط الناس بالنصوص له أثرٌ جيد محبوب ،
وثانياً : إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص سلمت من أي اعتراض ، لماذا ؟
لأن النصوص مُحْكَمَة ليس فيها تناقض ولا اختلاف ،
وثالثاً : أنك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص فإن ذلك أدق وأَبْيَنْ مما إذا استعملت عبارات أخرى ،
وإن كانت فيما يبدو للسامع مرادفةً لما جاءت به النصوص ،
(70/78)
إذن ( من غير تمثيل ) نقول : أولى لوجوهٍ ثلاثة :
الأول : أن ذلك هو اللفظ الذي جاء به النص ،
الثاني : أن نفي التشبيه من أي وجه لا يصح ،
لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه في الجملة ،
لولا هذا التشابه ما استطعنا أن نعرف المعنى أبداً ،
فلله حياة وللإنسان حياة فيه نوع من التشابه ،
لكن هل فيه تشابه فيما يختص فيه كل واحد ؟
لا ، للمخلوق حياة تتميز عن حياة الخالق وللخالق حياةٌ تتميز عن حياة المخلوق ،
كما أن للخالق ذاتاً تتميز عن ذات المخلوق وكذلك للمخلوق ذاتٌ تتميز عن حياة الخالق ،
الوجه الثالث : أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات ،
لأن من الناس من يقول : كل من أثبت لله صفة فهو مشبه ،
فإذا قلت : ( من غير تشبيه ) صار معناها عند هذا القائل : ( من غير إثبات صفات ) ، وهذا معنىً باطل ،
إذن فما نقرأه من كلمة ( من غير تشبيه ) في كثير الكتب المؤلفة في هذا الباب إنما يريدون به ( من غير تمثيل ) ،
لأن نفي التشبيه من كل وجه لا يصح ،
ولأن نفي التشبيه يرى بعض الناس أو يعتقد بعض الناس أن كل من أثبت صفةً لله فهو مشبه ،
ويكون المعنى على اعتقاد هذا من غير إثبات صفات ،
وأما الوجه الثالث : فلأنه اللفظ الذي جاء به القرآن ،
******************
28 – وكل من أوَّلَ في الصفات ،
كذاته من غير إثبات ،
29 – فقد تعدى واستطال واجترى ،
وخاض في بحر الهلاك وافترى ،
قوله : ( وكل ) : مبتدأ ، والخبر : ( فقد تعدى ) ،
وقرن المؤلف الخبر بالفاء ، لأن المبتدأ يشبه الشرط في العموم ،
قال العلماء : وإذا كان المبتدأ يشبه الشرط في العموم حَسُنَ اقتران خبره بالفاء ،
ومثلوا لذلك بقولهم : ( الذي يأتيني فله درهم ) وهذا مثله ، كل من أوّل فقد تعدى ،
(70/79)
قوله : ( مَن أوّل ) : ( مَن ) : اسم موصول يشمل كل مؤوّل ،
يعني سواء كان تأويله عاماً أو خاصاً ،
فإذا أوّل أي نص من غير ما إثبات فإنه يكون متعدياً ،
وسواء أوّل في الصفات الخبرية أو في الصفات الفعلية أو في الصفات الذاتية فإنه يعتبر متعدياً ،
فمن قال مثلاً : إن المراد باليدين النعمة فهو مؤوّل ،
ومن قال : إن المراد بالوجه الثواب فهو مؤوِّل ،
ومن قال : إن المراد بالاستواء الاستيلاء فهو مؤوّل ،
وتسميتنا إياه تأويلاً من باب التسامح وإلا في الحقيقة أن هذا تحريف ،
فكل تأويل ليس له أصل فإنه ينبغي أن نسميه تحريفاً كما نطق به القرآن { يُحَرِّفونَ الكلم عن مواضعه } ( النساء 46 ) .
فكل من أوّل الكلم عن موضعه وحمله على معنىً آخر فقد حرّف ،
قوله : ( كذاته ) : يعني : كما أن من أوّل في ذات الله من غير إثبات فهو متعدي فكذلك من أوّل في الصفات ،
وهذا إشارة من المؤلف بأن القول في الصفات كالقول في الذات [151] ، فكما أننا نشبه لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين ، فإننا نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقين ،
قوله : ( من غير ما إثبات ) : يعني : من غير ما دليل على تأويله ، فإنه يكون متعدياً ،
فإن وجد دليل للتأويل فإن ذلك لا بأس به ولا يعد هذا تعدياً ،
مثاله : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) [152] ، هذا حديث قدسي ،
لو قال قائل : ظاهر الحديث أن الله يكون سمع الإنسان وبصره ويده ورجله فلماذا تؤولون هذا الحديث وتقولون : إن المراد أن الله يسدد هذا الرجل في سمعه وبصره ومشيه وبطشه ؟
(70/80)
فالجواب : نقول : لأن عندنا دليلاً يدل على ذلك يقول الله عز وجل : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) [153] ، فهنا فيه عابد ومعبود ،
لقوله : ( ما تقرب إلي عبدي ) فيه متقرِّب ومتقرَّب إليه ( ما تقرب إلي عبدي ) ،
فيه فارض ومفروض عليه ( مما افترضته عليه ) ،
فيه أيضاً سائل ومسئول ومعطٍ ومعطي ومستعيذ ومستعاذ به ( ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) ،
وكل هذا يدل على التباين بين هذا وبين هذا ،
فإذا كان هذا دال على التباين ،
فكيف يكون هذا الشيء المبايِن بعضاً من الشيء المبايَن ؟
كيف يكون سمعه وبصره ويده ورجله ؟
هذا مستحيل ، أيضاً السمع والبصر واليد والرجل بعضٌ من مخلوق ولا يمكن أن يكون بعضَ المخلوق هو الخالق هذا شيء مستحيل ،
فعندنا دليل على هذا التأويل ،
وإذا قام الدليل على التأويل ، فإننا نقول : ليس ظاهر الحديث مقصوداً ،
بل لنا أن نقول : إن هذا الظاهر الذي أدّعي ليس هو ظاهر الحديث ،
لأن ظاهر الحديث يناقض سياقه لأن ظاهر الحديث المزعوم يناقض سياقه ،
ومعلوم أن ظاهر الكلام ما يقتضيه سياقه والألفاظ ليس كل لفظ له معنىً منفرد بل الألفاظ يكون معناها بضم بعضها إلى بعض فنحن لم نخرج عن ظاهر الحديث ولم نؤول ،
وإذا تنزلنا جدلاً وقلنا : إن هذا تأويل ،
فإننا نقول : إن هذا التأويل قد دل عليه الدليل ،
وإذا دل عليه الدليل من كلام من تأولنا كلامه لم نكن خرجنا بكلامه عن ظاهره ، لأن المتكلم أعلم بالمراد ،
(70/81)
ومثل ذلك أيضاً : ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول : ( عبدي جعتُ فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني ) [154] ، فإننا لو أخذنا بظاهر هذا اللفظ لقلنا : إن الله يمرض وإن الله يجوع وهذا شيء مستحيل على الله ،
لكن هذا قد فُسِّر في نفس الحديث حيث قال : إن عبدي فلاناً جاع فلم تطعمه ومرض فلم تعده ، فهذا يدل على أن هذا اللفظ الذي يُدَّعى أنه ظاهر غير مراد ، لأن الله تعالى بينه بنفسه ،
فالحاصل : أن المؤلف رحمه الله أعطانا قاعدة :
( أن جميع من أوّل في الصفات من غير إثبات ودليل يدل على تأويله فإنه متعدي ) ،
قوله : ( كذاته ) : أن كما أننا لا نؤول في الذات يجب ألا نؤول في الصفات ،
وذلك لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ،
فقد تعدى واستطال واجترى ،
وخاض في بحر الهلاك وافترى ،
هذه خمس أوصاف وكلها لمن أوّل في الصفات من دون دليل :
قوله : ( تعدى ) : على النصوص وعلى المتكلم بالنصوص ،
لأن هذا التأويل تعدي على النص وإخراج له عن ظاهره وتعدٍ على قائل النص ،
حيث كلّم الناس بما لا يريد وهذا نوع من التعمية ،
وهو خلاف قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم } .
وخلاف قوله تعالى : { يبين الله لكم أن تضلوا } ( النساء 176 ) .
وخلاف قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } ( النساء 26 ) .
فكل إنسان يؤوِّل فقد تعدى على النص وعلى من تكلم بالنص وهو الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام ،
كذلك ( استطال ) [155] : من الطَّوْل وهو الغنى ،
لقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طوْلاً أن ينكح المحصنات } ( النساء 25 ) .
أو من الاستطالة وهي العلو والترفع ،
والثاني : أنسب يعني أنه استطال واستعلى وترفع واعتد برأيه وأنكر رأي الآخرين ،
قوله : ( واجترى ) : من الجرأة وهي الإقدام ،
(70/82)
أي إقدام الإنسان على ما ليس له بحق وقد تجرأ فلان على كذا يعني أقدم على شيءٍ ليس له فيه حق ،
وهذا أيضاً الذي يؤول في الصفات ، نقول : هو أقدم على شيءٍ ليس له بحق ،
قوله : ( وخاض ) : الخوض في الأصل يطلق على العمل الذي ليس بِمُرَكَّز ولا منظم ،
ومنه : الخوض في الوحل والخوض في الماء ، والخوض في الطين ،
كقوله تعالى : { الذين هم في خوضٍ يلعبون } ( الطور 12 ) وما أشبه ذلك ،
قوله : ( في بحر الهلاك ) : الهلاك هنا حسي أو معنوي ؟
في بحر الهلاك المعنوي ،
فإنه يبقى حياً لكنه في الحقيقة حيٌ ميت بل الميت على الحق خير من هذا الذي بقي على الباطل ،
الخامس : قوله : ( وافترى ) : يعني كذب ووجه كذبه أنه قال : إن الله لم يرد كذا وأراد كذا ، فكذب في النفي وكذب في الإثبات ،
مثلاً في اليدين : قال : إن الله لم يرد اليدين ، وأراد النعمة فكذب في النفي وكذب في الإثبات ،
{ استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) قال : إن الله لم يستوِ على العرش ولكن استولى ، أو لم يرد العلو ولكن أراد الاستيلاء [156] ،
فنقول له : كذبت في الأول وفي الثاني !! ،
******************
30 – ألم تر اختلاف أصحاب النظر ،
فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر ،
لما ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز الرد إلى العقول في باب الصفات وذكر تحريم التأويل وأنه استطالة وجرأة وافتراء ذكر دليلاً حسياً ملموساً ،
فقال :
ألم ترَ اختلاف أصحاب النظر ،
فيه وحُسْنَ ما نحاه ذو الأثر ،
يعني : ألم تعلم أن أصحاب النظر والمراد بأصحاب النظر أصحاب الكلام الذين يرجعون في إثبات الصفات أو نفيها إلى العقل ،
(70/83)
هؤلاء اختلفوا واضطربوا اضطراباً كثيراً عظيماً حتى إن بعضهم يوجب ما يرى الآخر أنه مستحيل انظر النقيضان يقول هذا واجب لله والثاني يقول هذا مستحيل على الله والآخر يقول هذا جائز فاضطربوا اضطراباً كثيراً فيما هم عليه ،
ولا ريب أن اختلاف الأقوال واضطرابها يدل على ضعفها وأنه ليس لها أساس ، لأن الأقوال كلما قويت أساساتها تقاربت ولهذا تجد المسائل المنصوصة في القرآن أو السنة تجد فيها الخلاف قليلاً ،
وأضرب لك مثلاً بالمواريث : الخلاف بين العلماء في المواريث قليل بالنسبة للخلاف في غيره ، لأن غالب أحكامه منصوص عليها والمنصوص عليه لا يختلف الناس فيه ،
كذلك أهل الزكاة الثمانية لا تكاد تجد خلافاً إلا قليلاً بالنسبة للخلاف في مسائل أخرى لأن أصحاب الزكاة منصوص عليهم ،
فكلما كانت الأقوال مؤيدة بالنصوص كان الخلاف فيها أقل لأن النص يجمع أطراف الخلاف ،
أما إذا كانت ليست مبنية على نص ولا على أصل فإنك ترى فيها الخلاف العجيب ،
لو شئتَ لقلت : إن الخلاف أكثر من أصحابه فإذا كانوا عشرة اختلفوا على خمسة عشر قولاً ، كيف الخلاف أكثر من أصحابه ؟ تصور ، نقول نعم ، للواحد عدة أقوال فإذا كانوا عشرة كل واحد له عدة أقوال كم صار الخلاف ؟ خمسين وجه ، خمسين وجهاً من الخلاف ،
فأصحاب النظر الذين يدّعون أنهم أصحاب عقول وأن غيرهم عامة وحشوية وبُلَهاء وما أشبه ذلك [157] ، هم أكثر الناس اختلافاً في هذا الباب ،
ومن طالع ما ينقل عنهم رأي العجب العجاب حتى إنك لتكاد ألا تتصور القول من شدة فساده ، فإذا كان هذا حال أصحاب النظر فكيف يعتمد على هؤلاء فيما هو أساس الرسالات وهو معرفة الرب عز وجل بأسمائه وصفاته ؟
كيف نعتمد على هذه الأقوال المتناقضة التي لا تبني على أصل ؟
ولهذا جاء المؤلف رحمه الله باختلاف أهل النظر دليلاً على فساد أقوالهم ،
لأن الاختلاف والاضطراب يدل على الفساد ،
من هم أصحاب النظر ؟
(70/84)
الجواب : أصحاب الكلام ،
وعلمهم علم الكلام [158] ،
وسُمُّوا أصحاب نظر لأنهم قدموا النظر على الأثر ،
أصحاب النظر هؤلاء المتكلمون هم أكثر الناس فساداً واضطراباً في الأقوال ،
لأنهم لم يبنوا على أسس صحيحة إنما بنوا على وهميات ظنوها عقليات فبنوا عليها عقيدتهم ،
ولعله قد مرَّ بك أن أساطينهم ورؤسائهم أقروا بأنهم على ضلال ،
فمن جملتهم : الرازي [159] الذي يقول : ( لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات ، قول الله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، وقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر 10 ) ، وأقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) ، { ولا يحيطون به علما } ( طه 110 ) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ) [160] ،
انظروا الرازي من أساطينهم وكبرائهم وعلمائهم يقول : هذه المناهج والطرق ما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً لا تسمن ولا تغني من جوع ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن يعني طريقة تحكيم النصوص في هذا الباب ،
ثم ضرب مثلاً : أقرأ في الإثبات قول الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، فأؤمن بأنه على العرش استوى واقرأ : { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر 10 ) ، فأؤمن بأنه في العلو وأقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } فـ { ليس كمثله شيء } نفي للتمثيل و { ولا يحيطون به علما } نفي للتكييف ( ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ) ،
ويقول بعضهم [161] :
نهاية إقدام العقول عقال ،
وأكثر سعي العالمين ضلال ،
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ،
وحاصل دنيانا أذىً ووبال [162] ،
(70/85)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا [163] ،
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ،
هذا محصولٌ جيد ( قيل وقالوا ) والرسول نهى عن قيل وقالوا ،
هؤلاء ما استفادوا طول عمرهم قيل وقالوا وغاية دنياهم أذىً ووبال والعياذ بالله ،
لأن غاية دنياهم نسأل الله العافية الشك والحيرة ،
أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام ،
لأنهم ليس لديهم عقيدة يبنون عليها معبودهم عز وجل لا يعرفونه إلا بوهمايتهم التي يدَّعونَها عقليات ، فلذلك إذا جاءت الساعة وجاء وقت الامتحان والمحك ضاعوا لم يجدوا حصيلة ،
فكانوا أكثر الناس شكاً نسأل الله العافية ،
حتى إن بعضهم يقول : ( هاأنا ذا أموت على عقيدة أمي ) أمه الأمية التي لا تعرف ،
والآخر يقول : ( هاأنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور ) [164] ،
رجعوا إلى عقيدة العجائز لأنها فطرية ،
وهم عقيدتهم نظريةٌ وهمية في الواقع ،
فإذا نظرنا إلى هؤلاء وإلى مآلهم وإلى أحوالهم ،
فهل يمكننا أن نقول : إنهم على حق وندع الأثر لنظرهم ؟
لا يمكن ، أبدًا ،
كل إنسان عاقل لا يمكن أن يتولى مثل هؤلاء ويأخذ من أقوالهم ،
لأنها أقوال فاسدة متناقضة ليس لها أساس لا من كتاب الله ولا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من أقوال السلف [165] ،
الغريب أن الناظم هذا يقول : ( أرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ) يعني إلى هذا الحد روحه مستوحشة من جسده لا تود أن تَقَرَّ فيه كأنما يتمنون الموت الآن ومفارقة الروح للجسد الذي هي في وحشةٍ منه ،
لأن الإنسان نسأل الله العافية والسلامة وأن يثبتنا وإياكم إذا لم يكن له عقيدة ضاع اللهم إلا أن يكون قلبه ميتاً لأن الذي قلبه ميت يكون حيوانياً لا يهتم بشيء أبداًَ ،
لكن الإنسان الذي عنده شيء في القلب إذا لم يكن له عقيدة فإنه يضيع ويهلك ويكون في قلقٍ دائم لا نهاية فتكون روحه في وحشةٍ من جسمه ،
(70/86)
قوله : ( وحسن ما نحاه ذو الأثر ) : يعني : وألم تر حسن ما نحاه أي اتبعه ذو الأثر ؟
والجواب : أننا نرى ذلك وبأي وسيلة نراه ؟
نطالع كتب هؤلاء وأقوالهم نجد أن هؤلاء الأثريين إذا قالوا قولاً فإنما يقولون بقول الله ورسوله مطمئنين منشرحةً صدورهم ،
أما أولئك فهم على العكس من هذا دائماً في صراع وقال وقيل وجدلٍ لا نهاية له وفرضيات وهمية ليس لها أصل فتجدهم في حيرة وقلق ،
لكن ما نحاه أهل الأثر واتبعوه يأخذ كلام الله عز وجل ،
يقرأ : { وجاء ربك } ( الفجر 22 ) يقول : سبحانه وتعالى يجيء كما يليق بجلاله ،
{ استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) يستوي عز وجل على العرش كما يليق بجلاله ،
{ بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) له يدان لكنها ليست كأيدي المخلوقين ،
لأن الله { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) .
وهكذا يقرأ في القرآن والسنة نصوصاً واضحة بينة ،
والله لو خلوا من التقديرات التي يقدرونها ما وجدوا إلا الخير ،
أي شيءٍ يضير الإنسان إذا قال : أنا أؤمن بأن لله يدين لأن الله أثبتهما له ولكني أؤمن بأنه لا مثيل لهاتين اليدين ، هل عليه ضير ؟
أبداً ،
بل ينشرح صدره يستريح من التقديرات التي لا أساس لها ،
ولذلك تجد أهل السنة والجماعة في هذا الباب هم أريح الناس بالاً وأشرحهم صدراً ( كلمة غير واضحة ) نفساً هم أهل السنة والجماعة ليس عندهم إشكال ،
لكن نذهب نُقَدِّرْ ، ونقول : اليد الجارحة ، والجارحة ممتنعة والجارحة بعضٌ من كل وما أشبه ذلك وهذا جسم وهذا عرض نتعب في هذا ،
نؤمن بأن لله يداً ، ونقول : سبحان الله العظيم ، بأن له وجهاً بأن له عيناً بأنه مستوٍ على العرش بأنه يجيء يوم القيامة بأنه ينزل إلى السماء الدنيا إلى غير ذلك بدون أن يقدِّر تقديرات ،
لسنا نحن الذين نحكم على الله بل الله هو الذي يحكم علينا ولنفسه بما شاء أما نحن فليس لنا إلا التسليم في هذه الأمور ،
(70/87)
ولهذا قال : ( حسن ما نحاه أهل الأثر ) : أنا أجزم جزم أنك لو تلوت على أحدٍ من العامة حديثاً في صفات الله عز وجل تجده يسبح بلسانه ويعظم الله بقلبه ويقشعر من ذلك جلده ،
لكن لو تقرأه بصفات الله على واحدٍ من أهل الكلام ما أحس بهذا ، يتصور أن الله مماثل للمخلوق ثم يحاول أن يسلك هذا النص إلى معنىً يَدَّعي أنه معقول وتجده يتعب نفسه ، وذاك العامي يسبح ويهلل ويمجد الله وهذا يتعب نفسه : ماذا نحمله عليه ؟ ماذا يحتمل ؟
والله يحتمل في اللغة العربية عشرة معاني ، أي المعاني يريد ؟
بحث عن القرائن وهكذا ولا يقوم بقلبه من تعظيم الله مثل ما يقوم بقلب العامي ،
وهذا أمرٌ محسوس ولهذا ما أوتي قومٌ من جدل إلا ضلوا ، أبداً ،
إذا أخذت النصوص على ظاهرها سلمت تسلم يا أخي من كل شيء وتعظم الله حق تعظيمه [166] ،
ولا يحتاج أنك تتكلم في ذات الله كأنك تشرِّح جسماً من أجسام الآدميين كما يوجد عند بعض الناس الآن ،
يعني حتى إني رأيت في بعض الناس يقول : هل يقال إن الله ذكر أو أنثى ؟
أعوذ بالله إلى هذا الحد نسأل الله العافية ،
الإنسان والله ليس في قلبه تعظيم لله عز وجل ،
وهو يفرض هذا الفرض تجده يقول : لا ، أقم دليل على أن الله ذكر ،
إذن قل : هل الله واحد أو متعدد ؟
والله عز وجل يقول : { إنا نحن نزلنا الذكر } ( الحجر 9 ) ، { نحن نزلنا } هذا جماعة فإذا أراد الإنسان السلامة فليدع هذه الأشياء يدعها ما أنت يا ابن آدم بالنسبة للسماء ؟ ما أنت بالنسبة للأرض ؟ ما أنت بالنسبة للأشجار ؟
لست بشيء تتكلم في خالق السماوات والأرض بأشياء ما تكلم بها عن نفسه ولا تحدث بها رسوله عليه الصلاة والسلام ولا قالها من هم أحرص منك على الخير وأشد تعظيماً الله الصحابة ،
(70/88)
هل لما قال الرسول : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ،،،، الخ ) [167] ، بماذا فكر الصحابة ؟ هل فكروا كيف ينزل وكيف يصعد أو فكروا متى نستغل هذا الوقت بالاستغفار والدعاء والسؤال ؟ الثاني أو الأول ؟
الثاني وهذا هو الذي أراد الرسول عليه الصلاة والسلام منهم ،
ما أراد الرسول أن يفكروا كيف نزل ومتى يصعد وكيف صعد ،
أراد منهم أن ينتهزوا هذه الفرصة بهذا الجزء من الليل الذي يقول الله فيه من يدعوني ؟ من يسألني ؟ من يستغفرني ؟
فالمهم أن الواجب علينا أيها الأخوة أن نعرض عما قاله أهل الكلام في هذا كله ،
ونحن نحاجهم بكلمة بسيطة هم عندهم شيطنة وعندهم جدل ، نقول : أأنتم أعلم بالله أم الله ؟
إن قالوا : نحن أعلم ! على طول حط عليهم خطٍّ أحمر من هامهم إلى أبهامهم كفرة ،
وإن قالوا : الله أعلم ،
نقول : ماذا قال عن نفسه ؟ ، قال عن نفسه : كذا وكذا وكذا ،
نقول : اقبلوا هذا ،
لماذا تحاولون الزيغ يمين ويسار ؟
والله عز وجل وضّح وبين وكلامه أبين الكلام { يريد الله ليبين لكم } ( النساء 26 ) { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ( النحل 44 ) .
فالقرآن مبيَّن والرسول عليه الصلاة والسلام مبيِّن ،
ولا يمكن أبدًا بحال ٍ من الأحوال أن يبين الله لنا كيف نبول كيف نتغوط كيف نلبس كيف ندخل كيف ننام كيف نستيقظ ثم يدع البيان بأسمائه وصفاته التي هي زبدة الرسالة ،
نحن إذا لم نعرف الله ما عبدناه وإذا عرفناه فيجب أن نعرفه كما وصف نفسه ،
أما أن نحاول ما ذكره المؤلف مما يشير إليه في اختلاف أصحاب النظر فهذا يصدنا عن سبيل الله ويبعدنا كثيراً ،
إذن بأي شيء يكون حسن ما نحاه ذي الأثر ؟
باتباع الآثار طمأنينة القلب انشراح الصدر ركود النفس الانبساط وعدم القلق والحيرة كل هذا موجود ولله الحمد فيما نحاه ذو الأثر يقولون : سمعنا وأطعنا ،
******************
(70/89)
31 – فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى ،
وصحبه فاقنع بهذا وكفى ،
قوله : ( فإنهم ) : أي أهل الأثر ،
قوله : ( قد اقتدوا بالمصطفى ) : وهو محمد عليه الصلاة والسلام فاتبعوه ظاهراً وباطناً ،
ومن اتبع المصطفى عليه الصلاة والسلام { فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم } ( آل عمران 101 ) ، كما قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم } ( الشورى 52 ) ،
ومن وفق لذلك فقد وفق لمحبة الله له { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ( النساء 31 ) .
ومن وفق لذلك فقد شرح صدره { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه } ( الزمر 22 ) .
فإذا وفقت لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في العقيدة والقول والعمل والفعل والترك فقد وفقت لكل خير ،
ونكرر دائماً ما قاله بعض السلف : ( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ) الله أكبر ،
لو سألت أهل الدنيا من أنعم الناس ؟
لقالوا : الملوك وأبناء الملوك ،
لكن أهل العبادة أنعم من هؤلاء وأسرُّ بالاً واشرح صدراً وأهدأ نفساً ،
لأنهم متصلون بالله عز وجل في قيامهم وقعودهم ومنامهم ويقظتهم ، دائماً مع الله والله معهم ،
فهم أنعم الناس في الدنيا والآخرة ،
ولهذا قال : ( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف ) ،
لكن الملوك إذا أخذوا بمثل ما أخذ به هؤلاء صاروا أنعم منهم ،
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمامٌ عادل وشاب نشأ في طاعة الله ،،،، ) [168] .
فبدأ بهؤلاء السبعة بالإمام العادل : ( العادل في معاملة الله وفي معاملة عباد الله ) ،
المهم أننا نقول : الاقتداء بالرسول عليه الصلاة السلام فيه كل الخير ،
احرص على اتباعه ظاهراً وباطناً في العقيدة والأقوال الأعمال والأفعال والتروك ،
(70/90)
لكن ما فعله على سبيل التعبد فإنك تفعله عبادةً وتقرباً إلى الله عز وجل ،
وما فعله لا على سبيل التعبد فإن من الناس من يفعله لمحبته للرسول عليه الصلاة والسلام لا للتقرب إلى الله به يفعله ليس على أنه عبادة ،
ولكن لأن الرسول يفعله فيحب ما فعله الرسول فقط لا تعبداً ،
كما أن الإنسان إذا أحب شخصاً تجده يقلده وإن كان لا يعتقد أن في ذلك عبادةً وتقرباً إلى الله عز وجل ،
ومن ثَمَّ كان ابن عمر رضي الله عنهما كان يتتبع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام حتى في غير الأمور العبادية حتى أنه كان يتحرى المكان الذي نزل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ليبول فيه في الطريق فينزل ويبول ،
لكن هذه القاعدة ، يقول شيخ الإسلام : خالفه فيها أكثر الصحابة رضي الله عنهم ،
قوله : ( وصحبه ) : صحب الرسول من هم ؟ ( كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ) [169] ،
ولكن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم طبقات ليسوا طبقةً واحدة ،
كما قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } ( الحديد 10 ) .
حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لخالد بن الوليد لما نازع عبد الرحمن بن عوف قال له عليه الصلاة والسلام : ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) [170] ،
ففرق بين خالد الذي تأخر إسلامه وبين عبد الرحمن بن عوف الذي يعتبر من السابقين للإسلام ،
المهم : أن الصحب طبقات في الصحبة طبقات في الهجرة طبقات في العلم طبقات في كل شيء ،
لا يوجد أحد أفضل من أبي بكر ،
لأن الله نص على صحبته في القرآن الذي يتلى إلى يوم القيامة { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } ( التوبة 40 ) .
الله أكبر أثبت الله الصحبة له وأثبت المعية له المعية الخاصة له مع الرسول صلى الله عليه وسلم [171]،
(70/91)
ثم يليه بلا شك عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اختاره أبو بكر ،
ونحن نشهد الله عز وجل أن أبا بكر أشد الناس أمانة وأصدقهم فراسة ،
أشد الناس أمانة لأننا نعلم لو كان الرجل يريد الخيانة ما ولى عمر لولى أحد أبنائه أو أحد قومه لكنه أمينٌ على هذه الأمة فأدى الأمانة رضي الله عنه حياًّ وميتاًّ ،
ونعلم أنه أصدق الناس فراسة لأنه ولى عليهم من هو خير الناس بعده فالنبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يقول : ( ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ) و ( جئت أنا وأبو بكر وعمر ) ودائماً يقترن اسم هذين الرجلين باسم الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ولهذا شاء الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يكون هؤلاء الثلاثة قرناء في الحياة وفي الممات فقبورهم في مكانٍ واحد ويوم القيامة يقومون من قبورهم قيام رجلٍ واحد وهذه هي الميزة والفضيلة يالله من فضلك ،
المهم : أن الصحب يختلفون ،
لكن على كل حال لا أحد يساوي الصحابة في فضل الصحبة أبدًا ،
الصحبة لا يمكن أن يشاركهم فيها أحد ،
في العلم ربما يوجد من التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة ،
فإن الرجل الأعرابي لو جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به وأخذ منه ما أخذ من الشريعة وانصرف إلى قومه ولم يأتِ إلى المدينة للتعلم لا شك أن من التابعين من هو أعلم منه ،
ولكن الصحبة التي هي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام مع الإيمان به لا توجد في غير الصحابة ،
قوله ( فاقنع بذا وكفى ) : نقول للمؤلف : سمعاً وطاعة ً نقنع بهذا إن شاء الله ونسأل الله أن يميتنا عليه ،
قوله : ( اقنع بهذا ) : أي باتباع آثار المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وصحبه ،
قوله : ( وكفى ) : عن كل شيء كفى عن أهل النظر وعن مجادلاتهم وعن معقولاتهم التي هي وهميات ،
ففي هذين البيتين أكبر دليل على بطلان ما عليه أهل النظر وأكبر دليل على صحة ما عليه أهل الأثر ، والله أعلم ،
الأسئلة
(70/92)
السؤال : في قوله : ( وصحبه ) ألا يقصد الحديث : ( من كان على ما أنا عليه وأصحابي ) [172] ؟
الجواب : نعم ، لكن الواو للجمع يعني ( عليه أنا وأصحابي ) ما في نص صريح على أنه إذا كان أصحابه على شيء فهو حق إلا إذا أجمعوا عليه ، ربما يقصد هذا الحديث المهم أن لفظه من حيث هو يحتمل الوجهين ،
السؤال : الفرق كم وصل عددها ؟
الجواب : الفرق الآن التي عدوها أوصلوها إلى ثلاث وسبعين لكن بتكلف ،
حتى إنهم ليجعلون في بعض الفرق ليجعلون الرجل المخالف في مسألة واحدة مخالفاً في المنهج وهذا في النفس منه شيء ،
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الثلاث وسبعين فرقة غير معلومة لنا ويحتمل أنها قد حصلت الآن ويحتمل أنها لم تحصل وأنها ستأتي وهذا القول أولى ،
لأنك إذا رجعت إلى ما مشى عليه الشارح رحمه الله وغيره في تعداد الفرق وجدت أن بعضها لا يصح أن يُعد فرقة تجد واحد من هذه الفرقة ،
مثلاً : من الجهمية خالف في مسألة من المسائل ما يعد هذا منهجاً مستقلاً ،
كما أنه في مسائل الفروع تجد بعض الحنابلة يخالفون مذهب الإمام أحمد إلى مذهب الشافعي أو غيره ،
فهل نقول : بأنهم خرجوا بذلك عن الحنبلية ؟
لا ،
السؤال : بالنسبة للجهمية والمعتزلة ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : نعم ، إلا من كفر منهم أن بعضهم يعتبر كافراً كل من انتسب إلى القبلة فهو معدود من أمة الإجابة لكن قد يفعل فعلاً يكون كافراً ، بعض السلف أخرج الجهمية من هذا وقال إن الجهمية وإن استقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فليسوا منا ،
السؤال : ما الفائدة افتراق هذه الطوائف ؟ هل الفائدة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ( كلمة غير واضحة ) أن نحذرها ( كلمة غير واضحة ) إذا قلنا : غير معلومة ؟
الجواب : لا ، الفائدة أن نمشي على منهج الرسول وأن نجعل كل ما خَلَفَ ذلك فهو مرفوض ،
السؤال : العلم بها أيضاً يؤيد ما كان عليه ؟
(70/93)
الجواب : العلم بها نعم لأن الشيء لا يُعرف حسنه إلا بمعرفة ضده لكن قد لا نعلمها نحن الآن نعلم طوائف لا شك أنها خارجة لكن هل أننا نقحم أنفسنا حتى نلجئها إلى تتم ثلاث وسبعين ؟ أو نقول مثلاً عرفنا الآن عشرين فرقة والباقي قد يكون فيما يأتي فيما بعد ؟ وإذا أردنا أن نعد ربما نعد أكثر من ثنتين وسبعين ، السؤال : العلماء الذين قالوا بتحكيم العقل في نصوص الصفات ؟
الجواب : هؤلاء نقول : إنهم لم يوفقوا للصواب ونعلم أنهم ما أرادوا سوءاً لكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، لكن هم الذي يشفع لهم أننا نعلم حسن نيتهم وأنهم يقصدون الخير فيكونون ممن اجتهد فأخطأ فلو أجر ،
السؤال : نحن قررنا أهل السنة أن نثبت اللفظ والمعنى ، وقد قال المؤلف : ( من الأحاديث نمره كما قد جاء ) ألا يدل على قول المفوضة ؟
الجواب : لا ، إذا قال : ( نمرها كما قد جاءت ) فهي ألفاظٌ جاءت لمعاني ، ما جاءت ألفاظٌ بلا معنى ، فإمرارها كما جاءت يقتضي إثباتها لفظاً ومعنى ، { استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) ، على كلام المؤلف جاءت للفظ جاءت بلفظٍ دالٍّ على المعنى
إذن نثبت هذا اللفظ وما دلت عليه من المعنى ،
السؤال : هل نحكم بتكفير الذين يحكمون بعقولهم ؟
الجواب : لا ، ما نحكم نحن ذكرنا في باب حكم المرتد أنهم إذا أنكروا كفروا ،
وإن أوَّلوا نظرنا فإن كان للتأويل مساغٌ في اللغة العربية فإنهم لا يكفرون ،
وإن لم يكن له مساغ فإن التأويل الذي لا مساغ له في اللغة العربية بمنزلة الإنكار ،
لكن كل شيء يؤولونه في هذا الباب يأتون عليه بشبه من اللغة العربية ،
مثل : تأويلهم â 3?uqtG??$# ? بمعنى استولى ،
واستدلالهم بالبيت المشهور :
قد استوى بِشْرٌ على العراق ،
من غير سيفٍ أو دمٍ مهراق [173] ،
لكن على كل حال هم ضالون في هذا الشيء ،
(70/94)
السؤال : بالنسبة للوجه الرابع في إبطال الاستدلال بالعقل : أن العقول متناقضة فقد أوجب شيء وتمنعه أقران ، ألا يقال : أن كما أن العقول تفهم النصوص فهم مختلف فيرجع إلى العقل الذي وُفِّقَ للصواب فيُرَجِّحْ بين العقول يُرى ،،،،،، ؟
الجواب : نعم لكن الآخرون المخالفون يرون أن النصوص دلت على ما اقتضته عقولهم هم أيضاُ لا يلتفتون إلى النصوص أصلاً ، لا تظن أنهم كمثلك يرجعون إلى النصوص ، لا يرجعون إلى النصوص أصلاً ، عندهم ما أثبته العقل من صفات الله ثبت وما نفاه فهو منفي ،
السؤال : لكن هم يقولون : إن العقول إذا اختلفت عندنا فنحن نرجح ننظر الأصوب ونأخذ به ؟
الجواب : كل واحد منهم يرى أن العقل دل
على هذا فبأي عقل نرجع إليه ؟
السؤال : إلى الأقرب إلى الصواب ،
الجواب : لا ، ما يصير لأن هذا يقول : أنا الذي عندي الصواب ، يقول عقلك فاسد ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟
الجواب : لا ، لا ، ما نقول : إنه جسم ، الأصل ما نقول : إنه جسم ، حتى لو قلنا : إنه الشيء قائم بنفسه ، ما نقول : إنه جسم [174] ، ولا نقول : إن الله في جهة ،
السؤال : الرسول عليه الصلاة والسلام أفصح الخلق ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : نعم هذا بالنسبة للرسول واضح أنه ما قال خلاف ذلك ، لكن هم الكلام هم الصحابة الإنسان إذا نقل الإجماع عن الصحابة لكان نقل الإجماع صحيحاً ،
السؤال : ورد كم بيت يسمي النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطفى ألا ينتقد بذلك ؟
الجواب : لا ، الله قال في عباده : { وإنهم عندنا لمن المُصْطَفَيْنَ الأخيار } ( ص 47 ) ، { قل الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى } ( النمل 59 ) ، وعباده الذين اصطفى هم الرسل ، كما قال تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين } ( الصافات 180 – 182 ) .
السؤال : يا شيخ يعني الكلمة ذي السابقة شرط ( جملة غير واضحة ) ؟
(70/95)
الجواب : لا ، لا ، نحن لا نشير إلى هذا ، نشير إلى أن بعض الناس بدل ما يقول : ( قال رسول الله ) يقول : ( قال المصطفى ) والصفوة قلنا : لا تختص بالأنبياء ولا بالرسل ، فلو قال : ( قال رسول الله ) لكان أولى لأنه الآن ينقل قولاً يحتج به والاحتجاج بالشيء إذا كان من رسول الله لكن إما أن يثنى على النبي في مقام الخبر يثنى على أنه المصطفى أو أنه مقتفى هذا ما فيه شيء ،
ولهذا قال المؤلف :
اعلم هديت أنه جاء الخبر ،
عن النبي المقتفى خير البشر ،
ما قال ( عن النبي المصطفى ) لأن المقام مقام اتباع فاختار لفظ ( المقتفى ) على لفظ ( المصطفى ) ثم إن الناظم أيضاً قد يضطر إلى أن يعبر بهذه العبارة لصعوبة النظم ،
ولهذا قال الحريري في الملحة :
وجائزٌ في صنعة الشعر الصَّلِف ،
أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف ،
فوصف الشعر بأنه صلف وهو صحيح ،
السؤال : أهل التفويض المفوضة ألا يدخلون في قوله ( من غير تشبيه ) ؟
الجواب : لا ، لا يقصدونهم في هذا القول هم معطلون ولكنهم لا يعطلون عند الناس وإلا فهم معطلة لأنهم عطلوا النصوص عن معناها [175] ،
السؤال : لكنهم عطلوها عن معناها ما جعلوا لها معنى كالمعتزلة ؟
الجواب : لا ، لا ، المعتزلة ينفون لا يقولون ليس لها معنى يعني يقطعون بالنفي هؤلاء لا يقطعون بنفي ولا إثبات يفوضون ،
السؤال : بالنسبة للقسم الخامس من التعطيل ، ما الرد على قولهم بأن هذه الملكة ملكة وعدم القبول يحتجوا بذلك ،،، ؟
الجواب : نعم يحتجون بذلك في مسألة الوجود والعدم والنفي والإثبات ليس من باب تقابل العدم والملكة هذه بإجماع العقلاء من باب تقابل النقيضين ،
السؤال : لكن يجوز الوصف جدلاً ( لا يسمع ويسمع ) ؟
(70/96)
الجواب : نعم ولكن لا يقبل أن يكون لا موجود ولا معدوم ،
السؤال : مثال ما لم يرد نفيه ولا إثباته فيه دليل يدل على نفيه : â ?Ns9 ô$?#t? ?Ns9ur ô?s9q?? C?E ? ( الإخلاص 3 ) ؟
الجواب : لا ، لا ، لم ينف نفس الصفة ( كلام غير واضح ) ،
السؤال : القسم الخامس من المعطلة وهم الذين لا يثبتون الشيء ولا ينفونه أو ليسوا مثل الجهمية القسم الثالث الذين أنكروا الأسماء والصفات ؟
الجواب : لا ، لا ، هؤلاء أنكروا الإثبات فقط ولا ينكرون النفي لكن هؤلاء ينكرون الإثبات والنفي جميعاً ، يقولون لا يوصف بإثبات ولا نفي ،
السؤال : إذن من المرتبة الرابعة من المعطلة ، المرتبة الرابعة يثبتون ولا ينفون ؟
الجواب : الطوائف الأربع لهم إثبات لكن منهم من يثبت لك النفي ويقول لا يوصف بكذا ومنهم من لا يثبت النفي ،
الباب الأول
في معرفة الله تعالى
32 – أول واجب على العبيد ،
معرفة الإله بالتسديد ،
معرفة الله قسمان :
1 – معرفة وجود ومعاني ، وهذا هو المطلوب منا ،
2 – ومعرفة كنه وحقيقة ، وهذا غير مطلوب منا لأنه مستحيل ،
يعني : لو قال قائل : تعرف الله مثلا : تعرف حقيقة ذاته وحقيقة صفاته ؟
لكان الجواب : لا ، لا نعلم ذلك وليس مطلوب منا والوصول إلى ذلك مستحيل ،
فالمطلوب إذن معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني ،
أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل ،
فصار قول المؤلف في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد ،
قوله : ( أول واجب على العبيد ) : أول واجب على الإنسان أن يعرف الله ،
وقالوا : المراد أول واجب لذاته ، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله ،
فالعلماء قالوا : أول ما يجب على الإنسان أن ينظر فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة فيكون النظر أول واجب لغيره ، والمعرفة أول واجب لذاته ،
(70/97)
وقال بعض أهل العلم : إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته [176] ،
لأن معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة [177] ، والإنسان مجبول عليها ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر أو يفكر ،
قالوا : ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة ) [178] ،
وقوله سبحانه في الحديث القدسي : ( إني خلقت عبادي حنيفاً ، فاجتالتهم الشياطين ) [179] ،
فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة ، فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله ، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله ، وحينئذ تكون عبادته لله ،
إذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين : وهما الفطرة والبيئة ، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ،
إذن معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل ، ولهذا عوام المسلمين الآن هل هم فكروا ونظروا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله أم عرفوه بمقتضى الفطرة ؟
ولا شك أن للبيئة تأثيراً ، ما نظروا بل إن بعض الناس – والعياذ بالله – إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك ،
كما قال صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون ) [180] ،
فالصحيح : إذن ما قاله المؤلف أن : أول واجب : معرفة الله ،
أما النظر : فلا نقول : إنه واجب ،
نعم لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف يحتاج إلى التقوية فحينئذ لا بد أن ينظر ،
ولهذا قال تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأنْ عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديثٍ بعده يؤمنون } ( الأعراف 185 ) ،
(70/98)
وقال : { أفلم يدَّبروا القول } ( المؤمنون 68 ) .
وقال تعالى : { كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليَّدبروا آيته } ( ص 29 ) .
فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفاً حينئذٍ يجب أن ينظر ،
لكن لا ينظر هذا الناظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات ،
لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك يورد عليه الشيطان من الإيرادات ما يجعله يقف حيران ، ولكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة ،
فمثلاً : نظر إلى الشمس هذا المخلوق الكبير الوهاج لا يقول من الذي خلقه ؟
خلقه الله عز وجل ،
فيقول : من الذي خلق الله ؟
لا ، يقول خلقه الله ويسكت ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله ؟ لنقطع التسلسل ،
الحاصل : أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا الضرورة كالدواء لضعف الإيمان وإلا فمعرفة الله مركوزة بالفطر ،
وقول المؤلف : ( معرفة الإله بالتسديد ) : أي بالصواب ،
لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل ؟
الطريق : قلنا بالفطرة قبل كل شيء ،
فالإنسان مفطور على معرفة ربه تعالى وأن له خالق ، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق على التفصيل ولكن يعرف أن له خالقاً كامل من كل وجه ،
ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله : العقل ،
الأمور العقلية فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله بالنظر إلى ذاته – هذا إذا كان القلب سليما ً من الشبهات – فينظر إلى ما بالناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم ،
لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم وعلى رحمته فلولاه ما وجدت ينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } ( فاطر 45 ) .
لأن أكثر الناس على الكفر ، فلو أراد الله أن يؤاخذه – أن يؤاخذهم على أعمالهم – ما ترك على ظهرها من دابة ،
(70/99)
ننظر في السماوات والأرض فنستدل به على عظم الله فإن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق ،،،،، وهكذا ،
نعرف الله تعالى بإجابة الدعاء ، فنعرف بهذا وجود الله وقدرته ورحمته وصدقه عز وجل ، { ادعوني استجب لكم } ( غافر 60 ) أخذ الله للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب ، وأنه من المجرمين منتقم ، ونصر الله لأوليائه تدل على أن الله ينصر من شاء ،
******************
33 – بأنه واحد لا نظير ،
له ولا شبه ولا وزير ،
قوله : ( واحد ) : في ذاته وصفاته وأحكامه الكونية والشرعية ،
فهو واحد في ذاته لا نظير له ولا شفيع له ولا وزير ،
وواحد أيضاً يعينه بل لا أحد لا يشفع عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه ،
وكذلك واحد في ألوهيته فلا يعبد إلا هو عز وجل ولا يتأله إلا إليه ،
ويجب أن يعرف الإنسان حبه وتعظيمه كله لله فلا يحب إلا ما يحبه الله ولا يرضى إلا بما يرضى الله ويكره ما كرهه الله ويبغض ما أبغضه الله عز وجل ، فيوحد الله بالقصد والعبادة ،
وكذلك واحد في صفاته ليس له نظير في صفاته لا الصفات المعنوية ولا الصفات الخبرية لا الذاتية اللازمة ولا الفعلية المتعلقة بمشيئته ،
قوله : ( لا نظير له ) : النظير : يعني المماثل والمشابه ،
وعليه فلا شبه من باب عطف المتماثلين أو المترادفين ،
كقول الشاعر [181] :
فألفى قولها كذباً وميناً [182]
الكذب والمين معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ [183] ،
والنظير والشبيه معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ ،
وهذا من باب التوكيد اللفظي ،
قوله : ( ولا شبيه ) : سبق لنا أن الأولى أن نعبّر بقولنا ( لا مثل ) للوجوه الثلاثة السابقة ، لا نظير له في ذاته ولا شبيه له في ذاته وكذلك لا شبيه له في صفاته وأفعاله ،
(70/100)
قوله : ( ولا وزير ) : الوزير : المعين ، ومنه قوله تعالى عن موسى : { واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارونَ } ( طه 29 – 30 ) .
فالوزير : هو المعين ، مأخوذ من المؤازرة وهي : المعاونة [184] ،
فالله تعالى ليس له أحد يعينه ،
لأنه قادر على كل شيء { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) .
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرةٍ من السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شركٍ وما له منهم من ظهير ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه } ( سبأ 22 - 23 ) .
فإن قال قائل : أليس هناك ملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم ، وملائكة موكلون بالقطر ، ملائكة موكلون بالنبات ، ملائكة موكلون بالحفظ العام لبني آدم ، وهكذا فما الجواب ؟
فالجواب : نقول : بلى ، هذا موجود ،
لكن هل وكلهم الله تعالى استعانة بهم ؟
كلا والله ، لكن وكلهم الله بذلك ليبين عظمته وكمال سلطانه كما أن الملك في الدنيا – ولله المثل الأعلى – له من يتولى شئون مملكته ، لكن الملوك في الدنيا يفعلون ذلك لقصورهم وعدم أحاطتهم ، أما الله عز وجل فلا ، إنما فعل ذلك سبحانه ليظهر عظمة ملكه وسلطانه وأنه مدبر سبحانه وتعالى وأن له جنوداً لا يستعين بهم ولكن جنودٌ يمتثلون بأمره ويكلفهم عز وجل بما شاء { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ( المدثر 31 ) لكن ليسوا جنوداً يعينون كجنود الملك في الدنيا بل جنود تظهر بهم عظمته تعالى وكمال سلطانه .
فصل
في بحث أسمائه جل وعلا
34 – صفاته كذاته قديمة ،
أسمائه ثابتة عظيمة ،
قوله : ( صفات ) : مبتدأ ، والخبر : ( قديمة ) ،
قوله : ( كذاته ) : حال يعني : صفاته حال كونها كذاته قديمة ،
(70/101)
الصفات : يعني ما يتصف به الموصوف وهي بالنسبة لله عز وجل ثلاثة أقسام [185] :
1 – صفات ذاتية ،
2 – وصفات فعلية ،
3 – وصفات خبرية ،
الصفات الذاتية : هي صفات المعاني الثابتة لله أزلاً وأبداً [186] ،
مثل : الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة إلى غير ذلك وهي كثيرة ،
تسمى صفات ذاتية فهذه صفات ذاتية ،
لأنه متصف بها أزلا ً وأبدًا لا تفارق ذاته ،
الصفات الفعلية : هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ،
مثل : الاستواء على العرش ، والنزول إلى السماء الدنيا ، والمجيء للفصل بين العباد ، والفرح بتوبة التائب ، والضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة ، والغضب على الكافرين والرضى للمؤمنين وما أشبه ذلك ،
هذه تسمى صفات فعلية ،
لأنها من فعله وفعله يتعلق بمشيئته ،
لكن هذا القسم من صفات الله ، آحاده حادثة تحدث شيئاً فشيئاً ،
وأما جنس الفعل فإنه أزلي أبدي ،
فجنس كون الله فعالاً أزلي لم يزل ولا يزال فعالاً لم يأت وقت من الأوقات يكون الله تعال معطلاً فيه عن الفعل ، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد سبحانه وتعالى ،
لكن نوع الفعل أو آحاده هي التي تكون حادثة ،
فمثلاً : الاستواء على العرش نوع من أنواع الفعل وهو حادث ، لأنه بعد خلق العرش ، النزول إلى السماء الدنيا نوع من أنواع الفعل ، هل هو حادث أو غير حادث ؟
حادث كان بعد أن خلق السماء الدنيا ، الرضي نوع من أنواع الفعل وهو حادث ، لأنه إذا فعل العبد فعلا ً يقتضي الرضى رضي الله عنه إذا فعل فعلاً يقتضي الغضب غضب الله عليه ،
هذه تسمى الصفات الفعلية ، وربما تسمى ( الأفعال الاختيارية ) [187] ،
لأن هذه الأفعال تتعلق بمشيئة الله واختياره ، { وربك يخلق ما يشاء ويختار } ( القصص 68 ) .
اعلموا أن كل صفة فعلية فإنها حادثة النوع أو الفرد لكنها قديمة الجنس ،
(70/102)
القسم الثالث : صفات خبرية : يعني : أننا نعتمد فيها على مجرد الخبر ، ليست من المعاني المعقولة بل المدركة بالسمع المجرد ،
ونظير مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء كاليد والوجه والعين والقدم والإصبع هذه نسميها الصفات الخبرية لأنها ليست معنى من المعاني ، فاليد غير القوة ، القوة معنى واليد صفة من نوع آخر صفة مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء ، فاليد بعض منا أو جزء منا ، والوجه كذلك ،
لكن بالنسبة لله لا نقول : إنها جزء أو بعض [188] ،
لأن البعضية والجزئية لم ترد بالنسبة إلى الله لا نفياً ولا إثباتاً ،
ولهذا نقول لمن قال : إن الله واحد لا يتجزأ ولا ينقسم [189] وما أشبه ذلك ،
نقول : هذه ألفاظ بدعية ،
من قال لك تصف الله بهذا النفي ؟ هل أنت أعلم بالله من الله ؟ هل أنت أعلم بالله من أصحاب رسول الله ؟
ما قال واحد منهم قط : إنه لا يتبعض ولا يتجزأ ،
فاحبس لسانك عما حبسوا ألسنتهم عنه ،
ولا أحد يتصور أن الله يتجزأ حتى تنفيه أتركه !!
إنما ينفى مثل هذا الكلام ،
لو أن أحدًا قاله ، أما ولم يقله أحد ،
فقل : لله يد وله وجه وله عين ودع عنك لا يتجزأ ولا يتبعض ،
أحد تعبدك بهذا ؟
ما أحد أبدًا تعبدك بهذا ،
ما قال الله : قولوا في الله إنه لا يتبعض ولا يتجزأ ،
ولا قال : قولوا في الله إنه يتبعض ويتجزأ ،
بل قال : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون } .
وقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( البقرة 255 ) .
وقال : { قل هو الله أحد ، الله الصمد } ( الإخلاص 1- 2 ) .
فالحاصل : أن الصفات الخبرية هي التي مسماها أبعاض وأجزاء لنا ،
لكن بالنسبة لله ما نقول : إنها بعض أو جزء ،
(70/103)
لأن إثبات البعضية أو الجزئية أو نفي البعضية أو الجزئية بالنسبة لله من الألفاظ المبتدعة التي يجب على الإنسان أن يتحاشاها ،
ونحن نؤمن بأن يد الله غير ذاته وجه الله غير ذاته شيء آخر زائد عن الذات ،
ولا ننكر أن يعبر الله عن نفسه بوجهه ،
كما قال تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ( الرحمن 27 ) .
وذات الله تعالى قديمة ،
والقديم عندهم : ( هو الذي لا ابتداء له ) ،
فالقديم عند المتكلمين : ليس هو القديم في اللغة العربية ،
القديم في اللغة العربية : ( ما سبق غيره ولو كان حادثاً ) ،
ومنه : قوله تعالى : { حتى عاد كالعرجون القديم } ( القمر 39 ) .
والقديم عند المتكلمين كما سبق : ( هو الذي لم يسبق بعدم ) ، يعني دائماً وأبدًا موجود ،
الصفات تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ولها عدة أقسام وهذا تقسيم ،
التقسيم الثاني : صفات الله سبحانه وتعالى كلها كمال سواء كانت مطلقة أو مقيدة ،
1. فما كان كمالاً محضاً فهو مطلق ،
2. وما كان كمالاً في حال دون حال فهو مقيد لكن كلها كمال ،
فمثلاً : الخلق والرزق والكلام وما أشبه ذلك ،
هذا كمال مطلق ، فيوصف الله به على الإطلاق ،
فيقال : إن الله متكلم رازق خالق وما أشبه ذلك ،
وما كان كمالاً في حال دون حال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله وإنما يوصف به مقيدًا ،
مثل : المكر والخديعة والاستهزاء والكيد ،
هذا يكون كمالاً في حال ونقصاً في حال ، فلا يوصف الله به إلا على وجه الكمال ،
فالمكر مثلاً : لا يجوز أن تصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق ،
وتقول : إن الله ماكر ، هذا حرام ،
لأنه يفهم من ذلك النقص والعيب ،
فإن المكر عند الإطلاق صفة قدح وذم ،
لكنه عند المقابلة يكون صفة مدح ،
فتقول : إن الله يمكر بمن يمكر به وبرسوله ،
وهنا صار المكر صفة كمال ومدح يعني أنه أعلى من مكر أعدائه ،
كذلك إذا وصفت المكر بما يدل على الكمال فلا بأس ،
(70/104)
مثل : أن تقول : ( الله خير الماكرين ) ، كما قال تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال 30 ) .
وكذلك الخداع لا يجوز أن تصف الله بأنه خادع أو من صفاته الخداع على سبيل الإطلاق لكن يجوز أن تصفه به على سبيل المقابلة ،
فتقول : إن الله تعالى يخدع المنافقين أو خادع المنافقين أو خادع من يخدعه ،
لأنها في هذه الحال تكون صفة كمال ،
ولا يجوز أن تصفه بها على سبيل الإطلاق ،
لأنها تحتمل معناً صحيحاً ومعناً فاسداً ،
3. القسم الثالث من الصفات : ما كان نقصًا ، فإنه لا يدخل في صفات الله أبدًا ، لا مطلقاً ولا مقيدًا ،
كالخيانة ،
فإنها لا تدخل في صفات الله لأنها ذم وقدح بكل حال ،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تخن من خانك ) [190] ،
وقال : ( الحرب خدعة ) [191] ،
فأذن في الخدعة في محلها وهو الحرب ،
ونهى عن الخيانة في محلها ،
فقال : ( لا تخن من خانك ) ،
فإذا ائتمنك إنسان بشيء وقد خانك من قبل فلا تخنه فيه ،
لأن الخيانة وصف ذم على الإطلاق ،
وبهذا نعرف خطأ العامة : ( خان الله من يخون ) وهذا لا يجوز وهو قول باطل ،
لكن لو قال : ( خدع الله بمن يخدع ) فهذا صحيح ،
إذن ممكن أن نقول أن الصفات بالنسبة لله عز وجل على ثلاثة أقسام :
1. صفات كمال محض ، فهذه يوصف بها على سبيل الإطلاق ،
2. صفات كمال في حال دون حال ، فلا يوصف بها إلا مقيدة في الحال التي فيها كمالاً ،
3. صفات نقص على الإطلاق ، فلا يوصف بها مطلقاً ،
فإذا قال قائل : هل هناك فرق بين الأسماء والصفات في هذا الباب ؟ بمعنى أن الاسم إذا كان متضمناً لنقص فإنه يسمى به الله في حال الكمال ؟
الجواب : لا ،
لأن الله تعالى قال في الأسماء : { ولله الأسماء الحسنى } ( الأعراف 180 ) أي البالغة في الحسن كماله ،
وحينئذ لا يسمى الله تعالى باسم يتضمن نقصا ولو في بعض الأحوال ،
(70/105)
ولهذا لا يسمى الله بالمتكلم مع أن الله يخبر عنه بأنه متكلم ويوصف بذلك ،
ولكن ما تقول في ( يا متكلم اغفر لي ) ،
ويوصف الله بالإرادة لكن لا يسمى مريد ،
فالأسماء الحسنى من القسم الأول فقط أنها الكمال المطلق ما تتضمن كمالاً ونقصا في حال دون حال بل هي كمال مطلق ،
والدليل على ذلك وصف الله تعالى بأنها حسنى لكن الصفات كما سبق،
قوله ( أسماؤه ثابتة ) : ( ثابتة ) بمعنى أنها حق يجب الإيمان بها وإثباتها ،
قوله : ( عظيمة ) : لاشتمالها على أحسن الصفات وأكملها ،
وأسماء الله سبحانه وتعالى البحث فيها من عدة أوجه :
الوجه الأول : أسماء الله سبحانه وتعالى كلها حسنة ، فليس فيها نقص بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال ،
قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } ( الأعراف 180 ) .
وقال تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، هو الله الخالق البارئ المصور سبحان الله عما يشركون } ( الحشر 23 – 24 ) .
فوصفها باسم التفضيل ، فليس فيها نقص بوجه من الوجوه ،
الوجه الثاني : أسماء الله متضمنة لصفاته فكل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفاته أو أكثر بحسب أنواع الدلالة وذلك لأن كل اسم من أسماء الله فهو مشتق من صفته ،
فالرحمن متضمن للرحمة ، والخالق متضمن للخلق ،
ونحن نقول : إن كل اسم متضمن لصفة فأكثر حسب مدلول هذا الاسم أو حسب أنواع الدلالة ، قد يدل الاسم على صفة أو صفتين أو أكثر حسب مقتضى الدلالة ،
فمثلاً : الخلاّق من أسماء الله ،
الخلق يتضمن علماً ويتضمن قدرة ويتضمن خلق ،
فهو دال على الخلق بمقتضى مادته ودال على العلم والقدرة بلازمه ،
لأن مِنْ لازم الخلق العلم والقدرة فمن لا علم عنده لا يمكن أن يخلق كيف يخلق وهو لا يعرق الخلق ؟ ومن لا قدرة عنده لا يخلق وكيف يخلق وهو ضعيف ؟
(70/106)
ونحن نضرب لكم مثلاً بالإنسان : إنسان قيل له : اصنع لنا مسجلاً وهو إنسان عنده المواد الخام وعنده قدرة ونشاط وذكاء لكن ليس عنده علم لا يدري كيف يركب المسجل فهذا لا يمكن أن يصنع المسجل لعدم العلم إنسان آخر مهندس ودارس ويعرف لكنه مشلول ما يقدر يعمل شيء فهذا لا يستطيع عمل المسجل لعدم القدرة ،
إذن فاسم الله ( الخلاًّق ) تضمن ثلاث صفات :
1 - الخلق ،
2 - والعلم ،
3 - والقدرة ،
ولهذا قال الله تعالى عز وجل : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير ولتعلموا أن الله أحاط بكل شيءٍ علما } ( الطلاق 12 ) فقال : { لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير } .
يعني أخبرناكم بذلك لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، ولولا علمه وقدرته ما خلق السماوات والأرض ،
قوله : ( كذاته ) : الكلام على مسألة الذات ؟ ،
أصل الذات : كلمة مولدة بالمعنى المراد بها ،
لأن المراد بها عند القائلين كلمة ذات وصفات ، المراد بها النفس [192] ،
فذات الإنسان يعني نفس الإنسان ،
فالله سبحانه وتعالى لم يعبر عن نفسه بـ ( الذات ) ،
إنما عبر عن نفسه بـ ( النفس ) ،
فقال : { ويحذركم الله نفسه } .
وقال عز وجل عن عيسى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ( المائدة 116 ) .
وأصل الذات في اللغة العربية : بمعنى صاحبة [193] ،
فيقال مثلاً : ذات علم ، ذات قدرة ،
ويقال للمرأة : ذات جمال ، وما أشبه ذلك ،
فهي ( ذات ) بمعنى ( صاحبة ) ، تضاف إلى صفة ،
نقلها المتكلمون من كونها تضاف إلى صفة وجعلوها اسماً للموصوف ،
فقالوا : كل موصوف قائم بنفسه فهو ذات ،
فمثلاً : أصل ذات الله يعني ذات الألوهية ،
فنقلوا كلمة : ( ذات ) إلى ( الشيء القائم بنفسه ) ،
وقطعوه عن الإضافة ،
ولم تكن من كلام العرب ولا يعرفها العرب بهذا المعنى أي بأنها قائمة مقام النفس ،
(70/107)
لكن هم لما قالوا : ( ذات علم ) ، قالوا : إذن معناه علم صفة وذات موصوف ،
فنقول : الموصوف نطلق عليه اسم ( ذات ) فقالوا : بدل من ( الله ) و ( صفاته ) ،
قالوا : الذات والصفات [194] ،
لكن لا مشاحة في الاصطلاح يعني أن العلماء تقبلوا هذا ،
وصاروا يقولون : ذات وصفات ، صفات الذات ، صفات الأفعال [195] ،
وإلا فهي في الأصل ليست من كلام العرب ،
وسبق أن ذكرنا أي لها معاني خمسة أو أربعة ،
لكن الخمسة بناءً على اصطلاح المتكلمين أن الذات بمعنى النفس [196] ،
الوجه الثاني : هل أسماء الله تعالى مشتقة أو غير مشتقة بمعنى أنها هل تتضمن معاني وأوصافاً أو لا تتضمن ؟
الجواب : أنها تتضمن كل اسم منها يتضمن الصفة التي اشتق منها ،
حتى اسم ( الله ) يتضمن صفة وهي الألوهية ،
فأسماء الله أعلام دالة على صفة ،
ولولا أنها تتضمن معنى لم تكن حسنى ،
لأنها إذا لم تتضمن معنى صارت أسماءً جامدة لا معنى لها ،
وإذا كانت أسماءً جامدة لا معنى لها ، فأين يأتيها الحسن ؟
والله عز وجل وصفها بأنها حسنى أي بالغة في الحسن كماله ،
إذًا ما من اسم إلا ويتضمن صفة وقد يتضمن صفتين أو أكثر ،
لكن تضمنه الصفتين أو الأكثر يكون عن طريق الالتزام يعني من باب دلالة الالتزام ،
مثلاً : الخلاّق ، من أسماء الله ،
يتضمن صفة الخلق ،
ويستلزم صفة العلم والقدرة إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة ،
هذا المبحث الثاني ويعبر عنه بأن أسماء الله أعلام وأوصاف ، فباعتبار دلالته على الذات هي أعلام وباعتبار دلالتها على المعاني هي أوصاف ، ويترتب على هذا البحث ،
ثالثاً : هل هي متباينة أو مترادفة ؟
نقول : أما باعتبار دلالتها على الذات فهي مترادفة ،
لأنها دلت على شيء واحد وهو الله عز وجل ،
وأما باعتبار دلالتها على المعنى فهي متباينة [197] ،
لأن لكل اسم منها معنى غير المعنى في الاسم الثاني ،
وما هو المترادف والمتباين ؟
(70/108)
المترادف : متعدد اللفظ متحد المعنى [198] ،
والمتباين : متعدد اللفظ والمعنى [199] ،
فحجر وإنسان متباين ، لأن اللفظ مختلف والمعنى مختلف ،
وبشر وإنسان مترادف ، لأن اللفظ متعدد والمعنى واحد ،
الله ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، ،،،، الخ :
باعتبار دلالتها على ( الله ) مترادفة ، لأنها تدل على شيء واحد ،
وباعتبار دلالة كل واحد منها على معناه متباينة ،
المبحث الرابع : هل أسماء الله عز وجل محصورة بعدد معين معلوم أو لا [200] ؟
الجواب : لا ، ليست محصورة ،
ولا يمكن حصرها ،
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور حديث ابن مسعود في دعاء الغم والهم ،
قال : ( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري ،،،،،، الخ ) [201] ،
فالشاهد قوله : ( أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) ،
وهذا يدل على أن من أسماء الله ما استأثر الله به ، وما استأثر الله به فلا يمكن الوصول إليه ، لأنه لو أمكن الوصول إليه لم يكن مستأثراً به ،
ولهذا قال : استأثرت به في علم الغيب عندك ،
فإذن ليست أسماء الله محصورة ولا يمكن حصرها ،
فإذا قال قائل : كيف نجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) [202] ؟ ،
الجواب : أن هذا الحديث الثاني لا يدل على الحصر ،
وإنما يدل على حصر معين وهو أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً إذا أحصيتها دخلت الجنة ،
يعني : إذا أحصيت تسعة وتسعين اسمً من أسماء الله فإنك تدخل الجنة ،
ونظيره : لو قلت : عندي عشر سيارات أعددتها لحمل البطحاء ،
هل معنى ذلك أنه ليس عندك إلا عشر ؟
لا ،
لكن هذه العشر خصت بأنها معد ، لحمل البطحاء ، وفيه سيارات أخرى معدة لحمل الخشب معدة لحمل الرجال ولحمل الأمتعة ،
(70/109)
فالمهم : أن مثل هذا التعبير لا يدل على الحصر ،
فإذا قال قائل : ما الفائدة من هذا الكلام إذا قلنا إنه لا يدل على الحصر ؟
الجواب : قلنا : الفائدة من أجل أن يبحث المكلف عن هذه الأسماء من الكتاب والسنة حتى يدركها ،
وإلا لكان النبي عليه الصلاة والسلام يسردها لنا سرداً ونستريح ،
لكن من أجل أن يبتلي الله الإنسان الحريص من غير الحريص ،
الحريص هو الذي يبحث عن الشيء حتى يصل إليه ،
وغير الحريص هو الذي يقول : إن كان الشيء سهلاً أخذته وإن كان صعباً يحتاج إلى مراجعه وإلى بحث فلا حاجة ،
المبحث الخامس : هل يسمى بها غيره ؟
الجواب : أن من أسماء الله ما لا يسمى به غيره ،
مثل : ( الله ) لا يمكن تسمي أحداً بهذا الاسم ، لا على سبيل إرادة المعنى ولا غيره ،
( الرحمن ) كذلك ،
قال العلماء : لا يجوز أن يسمي به غيره ولا يوصف به غيره [203] ،
لأن الألوهية والرحمة الواسعة الشاملة التي هي وصف لازم للراحم هذه لا تكون إلا لله ،
أما بقية الأسماء فهي إن قصد بها ما يقصد بأسماء الله من الدلالة على العلمية والوصفية فإنها ممنوعة ،
وإن قصد بها مجرد العلمية فليست ممنوعة ،
فالحكم والحكيم من أسماء الله فإذا سمينا شخص بالحكم أو الحكيم ولم نقصد معنى الحكمة فيه ولا معنى الحكم ، فهنا لا بأس به ،
وفي الصحابة من اسمه ( حكيم ) وفيهم من اسمه (الحكم ) ،
وإن قصدنا بذلك المعنى الذي اشتققنا منه هذا الاسم فهذا لا يجوز ،
لأن هذا من خصائص أسماء الله هي التي يراد بها الاسم والوصف ،
ولهذا إذا سمينا رجلاً بـ ( صالح ) فإنه جائز ولا يغير الاسم ،
لأننا لم نقصد بذلك التزكية – أي وصفه بالصلاح – وإنما سمينا ( صالح ) مجرد عَلَم ،
وكذلك لو سمينا شخصاً بـ ( سلمان ) هل لأنه سالم ؟
لا ، قد يكون من أتعس الناس ومع ذلك نسميه ( سلمان ) وكذلك ( سليمان ) ،
فالمهم : أنه إذا لم يقصد المعنى في الاسم فإنه جائز مجرد علم فقط ،
(70/110)
المبحث السادس : هل أسماء الله تعالى توقيفية أو لنا أن نسمي الله عز وجل بما لم يسمّ به نفسه ؟
قال السفاريني رحمه الله تعالى :
******************
35 – لكنها في الحق توقيفية ،
لنا بذا أدلة وفية ،
قوله : ( لكنها ) : أي أسماء الله عز وجل ،
قوله : ( في الحق ) : أي في القول الحق الصحيح ،
قوله : ( توقيفية ) : أي موقوفة على ورود الشرع بها [204] ،
والتوقيفي : هو الذي يتوقف إثباته أو نفيه على قول الشارع ،
فهي توقيفية لا يجوز لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه ،
بعض العلماء يقول : إن الأسماء ليست توقيفية بل هي قياسية ،
والصحيح : أنها توقيفية ،
ودليل ذلك من الأثر والنظر :
أما الأثر : فقوله تعالى : { قل إنما حرم بي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف 33 ) .
وإثبات اسم من أسماء الله لم يسم به نفسه هذا من القول عليه بلا علم ، فيكون حراماً ،
وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } ( الإسراء 36 ) ،
وإثبات اسم لم يسم الله به نفسه لله من قفو ما ليس لنا به علم ،
أما النظر : فلأن اسم المسمى لا يكون إلا بما وصفه لنفسه وإذا كان الناس يعدون من العدوان أن يسم الإنسان بما لم يسم به نفسه أو بما لم يسمه به أبوه فإن كون ذلك عدواناً في حق الخالق من باب أولى ،
ثانياً : من الدليل النظري : أن الله قال : { ولله الأسماء الحسنى } ( الأعراف 180 ) .
الحسنى : البالغة في الحسن كماله ،
(70/111)
وأنت إذا سميت الله باسم فهل عندك علم أنه بلغ كمال الحسن ؟ قد تسميه باسم تظن أنه حسن وهو سيئ ليس بحسن وهذا أيضاً دليل عقلي يدل على أنه لا يجوز أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه ،
فهذه أربعة أدلة : دليلان شرعيان ودليلان عقليان نظريان ،
ولهذا قال المؤلف : ( لنا بذا أدلة وفية ) ،
قوله : ( لنا بذا ) : المشار إليه : القول بأنها توقيفية ،
قوله : ( أدلة وفية ) : أي كافية وافية بالمقصود ،
فهذه ست مباحث في أسماء الله عز وجل ،
طيب هل الصفات كالأسماء توقيفية ؟
الجواب : سبق لنا القول في هذا ،
وذكرنا أن الصفات ثلاثة أقسام :
1 – كمال محض ،
2 – ونقص محض ،
3 – وكمال في حال دون حال ،
فالكمال المحض : يوصف الله به ،
والنقص المحض : لا يوصف الله به في حال النقص ولا على الإطلاق ،
إذن فليست كالأسماء توقيفية ولهذا ممكن أن نشتق من كل فعل من أفعال الله صفة ،
فنقول : إن الله مزجي السحاب ،
لقوله : { ألم تر أن الله يزجي السحاب ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبالٍ فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه أن يذهب بالأبصار } ( النور 43 ) .
ونقول : إن الله تعالى ماكر بمن يمكر به ،
لقوله :{ ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال 30 ) .
مستهزئ بمن يستهزئ به ،
لقوله : { الله يستهزئ بهم } ( البقرة 15 ) لما قالوا : { إنما نحن مستهزؤون } ( البقرة 14 ) .
خادع من يخدعه ،
لقوله : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } ( النساء 142 ) .
وعلى هذا فقس ،،، ،
الأسئلة
السؤال : ما حكم قول بعض الناس : ( يا ساتر ) ؟
الجواب : هم لو أخبروا خبراً لقلنا صحيح ،
لكن إذا قالوا : ( يا ساتر ) دعاء ، فالله عز وجل يقول : { فادعوه بها } ( الأعراف 180 ) .
(70/112)
فلا يدعي الله تعالى إلا بأسمائه الحسنى أو بالصفات التي لا يتصف بها إلا هو ،
السؤال : كيف يخبروا بها ؟
الجواب : أقول : ما قصدهم الخبر ،
لو قالوا : إن الله ساتر فهذا صحيح ،
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من ستر مسلماً ستره الله ) [205] ، فأضاف الستر إلى الله ،
لكن إذا دَعَوْهُ بها فإنه لا يدعى إلا باسمائه أو بصفاته التي لا يتصف بها إلا هو ،
مثل : قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ) [206] ، فدعا الله عز وجل بالصفات التي لا يتصف بها إلا هو ،
السؤال : هل المنتقم من أسماء الله عز وجل ؟
الجواب : المنتقم ليس من أسماء الله ونصفه على سبيل التقييد فهو من المجرمين منتقم ،
لكن لا على سبيل الإطلاق ،
لكن نصفه بأنه ذو انتقام يعني صاحب انتقام لكن ليس على سبيل الإطلاق ،
ولهذا لو قلت لك : إنك أنت ذو انفعال ، ذو انفعال يعني معناه يحصل منك انفعال ،
ولا شك أن الله يحصل منه انتقام { فانتقمنا منهم } ( الأعراف 136 ) كثير في القرآن ،
لكن أن نسميه المنتقم على الإطلاق هذا لا يجوز ،
السؤال : والذي يدعو فيقول : ( يا منتقم انتقم لي من فلان ) ؟
الجواب : نقول : لا تقل هكذا ، قل : ( يا عزيز يا ذا الانتقام ، انتقم لي من فلان ) ،
السؤال : الضابط في التفريق بين الأسماء والصفات ؟ يعني كيف نعرف ؟ مثلاً : النور هل هو اسم أو صفة ؟
الجواب : الصفة : ( ما دل على معنى ) ، والاسم : ( ما دل على معنىً وذات ) ،
ما دل على معنىً وذات فهو اسم ،
وما دل على معنىً فقط فهو صفة ،
هذا الفرق ،
السؤال : النور دل على معنىً وذات وما ألحقناه بالأسماء ؟
الجواب : بعض العلماء يقول : النور ليس من الأسماء ،
بعض العلماء يقول : النور من أسماء الله ،
لكن ما ورد بهذا اللفظ النور من أسمائه ،
بل ورد : { الله نور السماوات والأرض } ( النور 35 ) .
(70/113)
لكن هناك بعض المطوفين يقولون : يا نور النور ، هذه لا أدري من أين أتوا بها ،
السؤال : في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يكذب ثلاث كذبات في ذات الله ) [207] ، أليس معناها ( في نفس الله ) ؟
الجواب : لا ، لا ، في ذات الله في جهته أو يعني أو في حقه أو ما أشبه ذلك ، لأنه ما كذب في نفس الله ، كذب في الشيء المتعلق في الله ؟
السؤال : ذكرت أقسام الصفات ، التقسيم الأول والتقسيم الثاني ما الفرق بين التقسيمين ؟
الجواب : التقسيم الأول من جهة أن الصفات مثبتة لله أو منفية عنه ،
تنقسم بهذا الانقسام :
1 - إلى ثبوتية ،
2 - وسلبية ،
وذكرنا هذا أظن في أول المقدمة تكلمنا عليه في أول المقدمة على أننا إن شاء الله سنعود ونكمل البحث في الأسماء والصفات لأننا نرى أننا قصرنا في تقسيم الصفات ،
التقسيم الأخير :
1 - إلى ذاتية ،
2 - وفعلية ،
3 - وخبرية ،
والتقسيم الآخر :
1 - إلى كمال مطلق ،
2 - وإلى نقص مطلق ،
3 - وإلى كمالٍ مقيد ،
السؤال : هل توجد صفة مشتركة بين أن تكون خبرية وتكون ذاتية ؟
الجواب : ما معنى خبرية ذاتية ؟
السؤال : ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : لا ، نحن قسمناها بالأقسام الثلاثة :
1 - إلى المعنوية اللازمة لله ،
2 - الصفات الذاتية ، قلنا : هي الصفات المعنوية الثابتة لله أزلاً وأبداً ،
3 - الخبرية : هي الصفات التي مسماها أبعاض وأجزاء لنا ،
لكن هي باعتبار الثبوت كالصفات الأولى يعني أنها دائمة لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها ،
السؤال : يا شيخ العلو أليس كما ذكرت ؟
الجواب : كيف العلو ؟
السؤال : العلو أليس صفةً ذاتية خبرية ؟
الجواب : لا ، ليست خبرية ، صفةٌ ذاتية وعقلية حتى العقل دل على أن موصوفٌ بالعلو ،
فصل
في بحث صفاته تعالى
شرع المؤلف في بيان الصفات على سبيل التفصيل :
36 – له الحياة والكلام والبصر ،
(70/114)
سمع إرادة وعلم واقتدر ،
قوله : ( له ) : الضمير يعود على الله ،
قوله : ( سمع ) : هذا على تقدير عاطف أي ( وسمع ) ،
قوله : ( إرادة ) : كذلك على تقدير عاطف أي : ( وإرادة ، وعلم ، واقتدر بقدرة ) ،
فهذه سبع صفات أثبتها المؤلف - رحمه الله - لله عز وجل ،
وسنبين أن في كلامه إيهاماً بأنه لا يثبت إلا هذه الصفات السبع ،
ولكن له كلام آخر بأنه يجب إثبات كل ما وصف الله به نفسه في قوله فيما سبق :
فكل ما جاء من الآيات ،
أوضح في الأخبار عن ثقات ،
من الأحاديث نُمِرُّهُ كما ،
قد جاء فاسمع من نظامي واعلما ،
ولا نرد ذاك بالعقول ،
لقول مفتر به جهول ،
قول السفاريني رحمه الله تعالى :
والعلم والكلام قد تعلقا ،
بكل شيء يا خليلي مطلقا ،
وسمعه سبحانه كالبصر ،
بكل مسموع وكل مبصر ،
فإن كلامه السابق يدل على أننا نثبت لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الصفات ،
أولاً : له الحياة :
يعني أن الله تعالى موصوف بالحياة وهذا مذكور في القرآن في عدة مواضع ،
قال الله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( البقرة 255 ) .
وأثبتنا الحياة من قوله : ( الحي ) : لأنه سبق لنا أن الاسم يدل على الذات وعلى الصفة ،
الحي : يدل على أن هناك ذاتاً توصف بالحياة ،
إذن له الحياة وحياة الله عز وجل حياة كاملة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه ،
(70/115)
قال الله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم } ( البقرة 255 ) .
وقال تعالى : { وتوكل على الحي الذ ي لا يموت } ( الفرقان 58 ) .
فحياته عز وجل لم تسبق بعدم ولا يلحقها موت ولا يعتريها سنة ولا نوم ، لأنها حياة كاملة ،
حياة المخلوق ناقصة في أولها وآخرها وأثنائها ،
فهي حياة مسبوقة بعدم ملحوقة بموت مخلوطة بنوم وسنة ،
و ( الحياة ) : ( ال ) فيها للاستغراق يعني الحياة الكاملة ، أو لبيان الحقيقة وتعرف الحقيقة بحسب ما تضاف إليه الصفة ،
فالحياة المضافة حياة الله عز وجل أزلية أبدية ،
أي لم يزل ولا يزال حياً ثم حي أيضاً حياة كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه ،
قال الله تعالى : { وتوكل على الحي لا يموت } ( الفرقان 58 ) .
فهذا فبه الامتناع عن زوال هذه الحياة ،
وفي قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ( البقرة 255 ) منع لوصفها بالنقائص ،
فهي حياة كاملة ليس فيها سنة ولا نوم حياة دائمة ليس فيها موت حياة أزلية ، لأنها لم تسبق بعدم ،
وكل حياة المخلوق مسبوقة بعدم ، كذلك أيضاً قابلة للزوال جميع حياة الأحياء قابلة للزوال غير الله عز وجل حتى ما خلق للبقاء كالروح وغلمان أهل الجنة والحور هذه خلقت للبقاء وستبقى لكنها قابلة للزوال لو شاء لله تعالى لأهلكها ،
أما حياة الله عز وجل فإنها غير قابلة للزوال ولا للنقص ولا للابتداء فيستحيل عليه ابتداء الحياة وزوالها ونقصها ،
ولهذا قال عز وجل : { لا تأخذه سنة ولا نوم } بخلاف حياة الإنسان فإنه وإن امتنع عن النوم وحاول أن يبتعد عن النوم فلا بد أن يأخذه النوم أو يهلك ، ولهذا عبّر بقوله : { لا تأخذه } أي لا تغلبه ، ولم يقل : ( لا ينم ) ، لأن البشر قد يحاول ألا ينام ولكن لو حاول ألا ينام فلنقصه لا بد أن تأخذه السنة والنوم أو يهلك ،
(70/116)
وفي الحديث الصحيح : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) [208] ، فانتفى بذلك غلبة النوم والسنة عليه عز وجل بنص القرآن ، وأنه لا ينام ولا بإرادته ،
لأن ذلك من المستحيل عليه ، لقوله : ( ولا ينبغي له أن ينام ) .
لأن النوم نقص ونحن إنما ننام لنقصنا لا لكمالنا ننام من أجل الراحة عما مضى واستجلاب القوة لما يستقبل ، أما الله عز وجل فإنه لم يزل ولا يزال قوياً وخلق السماوات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب ،
فالحاصل : أن الله له الحياة الكاملة أزلاً ابتداءً وانتهاءً واستمراراً ،
ثانياً : له الكلام :
فهو سبحانه وتعالى يتكلم ، والكلام كمال ، ولهذا يعد الخرس عيباً ونقصاً ،
فله الكلام وكلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت ، لأننا نجد أن ما يتكلم الله به حروف ، ونعلم أن كلامه يسمع ويرد عليه ،
أما الأول : وهو أن كلامه بحرف فهو أشهر من أن يذكر ، كل الكلام الذي ذكره الله عن نفسه نجده بحروف ،
فمثلاً : القرآن الكريم سماه الله تعال كلاماً له ،
فقال : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون } ( التوبة 6 ) .
ومعلوم أن القرآن كله حروف ،
ثم إن الله يقول : { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم } ( المائدة 116 ) .
{ إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشراً من طين } ( ص 71 ) .
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } ( البقرة 35 ) .
كل هذه المقولات حروف ،
وهل هي حروف متتابعة أو متقارنة ؟
الجواب : متتابعة ،
فقوله : { يا عيسى } ( آل عمران 55 ) ، فـ ( عيسى ) بعد ( يا ) وقوله : { إني متوفيك } بعد ( عيسى ) ، فهي متتابعة بعضها بعد بعض وليست متقارنة ولا يمكن أن تكون متقارنة ،
وهل كلام الله بصوت ؟
الجواب : نعم كلام الله تعالى بصوت ،
{ وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياّ } ( مريم 52 ) .
فالمناداة بصوت مرتفع ،
والمناجاة بصوت منخفض ،
(70/117)
وكل ذلك وصف الله به نفسه : { وناديناه } ، { وقربناه نجياّ } .
ثم إن المحاورة التي تقع بين الله وبين رسله تكون بشيء مسموع بلا شك ،
فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما كان الله يحاوره { وما تلك بيمينك يا موسى ، قال هي عصاي أتوكأ بها وأهش عليها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ، قال ألقها يا موسى ، فألقاها فإذا هي حيةٌ تسعى ، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } ( طه 17 – 21 ) لا شك أن موسى كان يسمع هذا ،
وهل يمكن أن يُسمع شيء بلا صوت ؟
لا يمكن ، لا بد من صوت فكلام الله أيضاً يتعلق بمشيئته ابتداءً وانتهاءً وكيفية ،
يعني متى شاء تكلم ، ومتى شاء لم يتكلم ،
وكيفية : إن شاء تكلم بصوت مرتفع ، وإن شاء تكلم بصوت غير مرتفع ،
إن شاء تكلم بالعربية وإن شاء تكلم بغير العربية ،
فكلامه مع موسى بغير العربية ،
لأنه لو كلم موسى بالعربية ما فهم موسى شيئاً ،
وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم بالعربية ،
لو تكلم بغير العربية ما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم ،
إذن يتكلم كيف شاء ابتداءً وانتهاءً وكيفية ،
ولهذا المحاورة التي مع موسى له ابتداء وانتهاء { وما تلك بيمينك يا موسى } ( طه 17 ) ابتداءً بالواو وانتهاءً بالألف من قوله : { يا موسى } ، { قال ألقها } ، { ولا تخف } ابتداءً بالهمزة وانتهاء بالألف ،
المهم : أنه يبتدئ عز وجل بالكلام وينتهي بالكلام ، يتكلم كذلك كيف شاء بالنسبة للغة ، فيكلم محمداً بالعربية ويكلم موسى بالسريانية هذا هو الظاهر لنا ،
وإن كان من الجائز أن يكلمه الله بالعربية وأن يلقي له فهماً خاصاً في تلك اللحظة يفهم به اللغة العربية هذا جائز عقلاً لكنه خلاف الظاهر ، ونحن ليس لنا إلا الظاهر ، أما ما وراء الظاهر ما نعلم عنه ، فمن ادعاه فعليه الدليل ، فالله عز وجل يتكلم كيف شاء ،
(70/118)
ويتكلم عز وجل بما شاء بالأمر والنهي والخبر والاستخبار الذي هو الاستفهام وغير ذلك ، فهو يتكلم بما شاء ، لأن له الملك المطلق والتدبير المطلق فله أن يتكلم بما شاء من الكلام ، ومتى شاء كذلك ، لأن الكلام يتعلق بمشيئته فمتى شاء تكلم ،
فالكلام الذي حصل لموسى كان حين أرسله وكان حين جاء للميقات { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك } ( الأعراف 143 ) في أي وقت شاء ، وكلامه في أي وقت شاء ضروري ، أمر يوجبه العقل ، لأننا نشاهد المحدثات ، والمحدثات لا تحدث إلا بإرادته وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ،
إذن لا بد أن يتعلق الكلام بمشيئته ، فمتى شاء تكلم بما يريد عز وجل من الكلام الكوني والكلام الشرعي ،
المهم : أن كلام الله تعالى يتعلق بمشيئته ،
ولهذا قال أهل العلم من أهل السنة : إن الله يتكلم بحرف وصوت بما شاء متى شاء كيف شاء ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله عز وجل ،
وهو مذهب تؤيده الأدلة الشرعية والأدلة العقلية والأدلة اللغوية ، لأن الكلام لا يعقل إلا بحرف وصوت [209] ،
وقال أهل البدع قولاً كثيراً في الكلام بلغ إلى ثمانية أقوال بالإضافة إلى قول أهل السنة والجماعة ، ذكرها ابن القيم رحمه الله وتجدونها في ( مختصر الصواعق المرسلة ) ،
نذكر منها قولين مشهورين :
القول الأول : قول الجهمية [210] والمعتزلة [211] واتباعهما :
يقولون : إن الله تعالى يتكلم بكلام يسمع وبحرف ومتى شاء وبما شاء ، ولكن ليس كلامه صفة فيه بل كلامه مخلوق من مخلوقاته بائن منه يخلق كلاماً في الهواء كلاماً في جهة معينة ثم يسمع فيضاف إلى الله إضافة تشريف وخلق ،
كما أضاف الله إلى نفسه البيت في قوله : { وطهِّر بيتي } ( الحج 26 ) .
كما أضاف إلى نفسه الناقة وقال : { ناقة الله وسقياها } ( الشمس 13 ) .
(70/119)
وكما أضاف إلى نفسه المساجد في قوله : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } ( البقرة 114 ) .
فإضافة الكلام إليه لا لأنه تكلم به وأنه صفة من صفاته ولكن لأنه خلقه ،
أما الله عز وجل فمحال أن يتكلم بكلام وإنما يخلق كلاما في غيره ثم يضيفه إليه على سبيل التشريف والتكريم والتعظيم [212] ،
ما تقولون في مناداة الله لموسى ؟
الجواب : قالوا : نعم ، نقول : { وناديناه من جانب الطور الأيمن } ( مريم 52 ) خلق الله عز وجل في جانب الطور الأيمن صوتاً فسمعه موسى ناداه من الشجرة فهو خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى ،
فنقول : سبحان الله كيف يضيف الله تعالى الكلام إلى نفسه { وناديناه من جانب الطور الأيمن } ويضيفه إلى نفسه في محاورته لموسى ثم تقولون : إنه من الشجرة ؟
وعلى قاعدتكم هذه نقول : كل كلامٍ يمكن أن يكون كلام الله حتى كلام البشر يمكن أن نقول إنه كلام الله لأنه مخلوق في الإنسان ،
بل إن كلام البشر على قاعدتكم يكون أشرف من كلام الله لأنه مسموع من البشر الذي فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلا وكلام الله عندكم مسموع من شجرة أو من جبل أو ما أشبه ذلك ،
ومن ثَمَّ ادعى أهل الحلول أن كل كلام فهو كلام الله حتى نعيق الطيور وأصواتها كلام الله ،
وقال قائلهم [213] :
وكل كلامٍِ في الوجود كلامه ،
سواءٌ علينا نثره ونظامه [214] ،
كل كلامٍ في الوجود فهو كلام الله وهذا غير معقول يعني حتى الذي يتكلم باللعن والسب والشتم ويشتم الله ورسله وكتبه يعتبر كلامه كلام الله عند أهل الحلول لكن هذا القول ،
وإن كان الجهمية والمعتزلة ينكرونه لكنه لازمٌ لهم ،
لأنكم إذا صححتم أن ما يضاف إلى الله من الكلام يكون كلام غيره فلا فرق بين أن يكون كلام البشر أو كلام الشجرة وجانب الطور وما أشبه ذلك ،
(70/120)
وعلى هذا المذهب لا يوصف الله بالكلام في الواقع وإنما يوصف بأنه خالق الكلام ومن ثَمَّ بنوا على هذا قولهم : إن القرآن مخلوق [215] ،
واستدلوا بقوله تعالى : { الله خالق كل شيء } ( الزمر 62 ) .
والكلام شيءٌ فيكون مخلوقاً غير منزل ، ويقولون : حتى لو قلنا : إنه منزل فليس كل منزلٍ مخلوقاً ،
فالله أنزل من السماء ماءاً والماء النازل من السماء مخلوق { وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج } ( الزمر 6 ) والأنعام مخلوقة { وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد } ( الحديد 25 ) والحديد مخلوق فانظر كيف التلبيس وهو من تلبيس إبليس ،
فبماذا نجيبهم على شبهتم هذه ؟
الجواب : نقول : إن المنزل إما أن يكون عيناً قائمةً بنفسها وحينئذِ يكون مخلوقاً ،
لأنه بائنٌ من الله عز وجل ،
وإما أن يكون وصفاً لا يقوم إلا بغيره وحينئذِ يجب أن يكون من صفات الله ،
والكلام وصفٌ لا يقوم إلا بغيره ،
وحينئذِ إذا أضاف الله الكلام إلى نفسه فهو صفةٌ من صفاته ،
أما حديد يكون من صفات الله هذا غير معقول ،
كل إنسانٍ يعرف أن الحديد ليس من صفات الله ،
والماء النازل من السماء ليس من صفات الله ،
كذلك أيضاً الأنعام الإبل والبقر والغنم مع ضأنها ومعزها ليست من صفات الله ،
بل هي أعيانٌ قائمةٌ بنفسها أضافها الله تعالى على نفسه إضافة خلقٍ وتكوين وليس إضافة صفة إلى موصوفها ،
ونرد عليهم نقول : { الله خالق كل شيء } ( الزمر 62 ) تدل على خالقٍ ومخلوقٍ ،
فيجب أن يكون المخلوق بائناً منفصلاً عن الخالق ، كما لو قلنا : صانع ومصنوع ،
فإننا إذا قلنا مثلاً : هذا صانع للقِدر فالقِدر ليس من صفاته بل هو بائن عنه ،
إذن فالمخلوق الذي خلقه الله بائن عن الله عز وجل ،
ومن المعلوم أن الكلام معنى يقوم بالغير ليس عيناً قائمة بنفسها فإذا أضافه الله إليه فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ،
(70/121)
إذن ما احتجوا به فهو باطل ، وهم إذا أنكروا كلام الله الذي هو وصفه وقالوا : إنه مخلوق ،
فإن إنكارهم هذا في الحقيقة يقتضي إنكار الشرع والقدر ،
لأنه يقتضي أن تكون المخلوقات بغير كلام الله بل بمخلوق مثلها ،
ويقتضي أن يكون الشرع بغير وحي الله بل بمخلوق من المخلوقات ،
ولا يقتضي إلزام الناس به لأنه مخلوق ،
فلهذا ذكر ابن القيم في النونية أن هذا القول يترتب عليه إبطال الخلق والأمر جميعاً ،
لأنه لا يكون خلق بقوله { كن } ( البقرة 117 ) ولا الشرع بقول : ( افعلوا ) ،
وإنما بأشياء مخلوقة بمخلوقة وهذا إبطال للشرع والقدر ،
القول الثاني : قول الأشاعرة [216] :
قالوا : إن كلام الله صفة من صفاته وليس بمخلوق ،
ولكن الكلام الذي نقر به هو المعنى القائم بنفسه وليس الشيء المسموع الذي يكون بالحروف [217] ،
فإن هذا الشيء المسموع الذي يكون بالحروف خلق من مخلوقات الله خلقه الله تعبيراً عما في نفسه وليس هو كلام الله ،
لكن إضافته إلى الله من باب المجاز [218] ،
وتُجوِّز عما كان عبارة عن الشيء تجوّز به نسمي به الشيء فسمي كلام الله ، لأنه عبارة عنه وليس هو كلام الله ،
إذن الكلام هو المعنى القائم بالنفس وهو أزلي أبدي لا يتعلق بمشيئته ،
بل هو وصف لازم له ،
كلزوم الحياة والعلم والقدرة يعني أنه لا يتكلم متى شاء على زعمهم ،
كما أنه لا يعلم متى شاء علمه لازم لذاته ،
هم يقولون : الكلام لازم لذاته لا يتعلق بمشيئته [219] ،
الجهمية والمعتزلة خير منهم من هذا الوجه ،
لأنهم يقولون : إن كلام الله يتعلق بمشيئته لكنه مخلوق [220] ،
هم يقولون : لا يتعلق بمشيئته ولا بإرادته ،
ثم يقولون : إن ما يسمعه محمد عليه الصلاة والسلام وموسى وغيرهما من كلام الله إنما هو شيء مخلوق ،
فشاركوا الجهمية والمعتزلة في أن ما يسمع مخلوق ،
لكن الجهمية قالوا : هو كلام الله ،
وهؤلاء قالوا : عبارة عن كلام الله ،
(70/122)
فوافقوا الجهمية في أن المسموع مخلوق،
وخالفوهم في أنهم قالوا : إنه عبارة ، وهؤلاء قالوا : إنه حقيقة ،
فصار المعتزلة والجهمية خيراً منهم من هذا الوجه أيضاً ،
ونرد عليهم فنقول : دعواكم أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس هذا دعوى يكذبه الشرع وتكذبه اللغة ، وإذا كان يكذبه الشرع وتكذبه اللغة فهو باطل ،
أما الشرع : فلأن الله تعالى وصف القرآن بأنه كلام الله ،
والأصل أن الصفة حقيقة في موصوفها ، وهذا القرآن مسموع وبحروف ويتعلق بالمشيئة فكذب دعواكم بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ،
وأما مخالفته للغة : فإنه لا يقال في اللغة للكلام كلام حتى يخرج باللسان ،
وإنما يذكر الكلام القائم بالنفس كلاماً مقيَّداً .
فيقال : حدث نفسه .
ويقال :حديث النفس .
ويقال : يقول في نفسه [221] ،
أما عند الإطلاق : فإن القول والكلام لا يقال إلا لما يسمع ويكون بحروف ،
فإذا قالوا : إن الله تعالى يقول { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } ( المجادلة 8 ) قلنا : هذا رد عليكم وليس لكم بل هو دليل عليكم وليس لكم ،
لأن الله لما أراد حديث النفس قال : { ويقولون في أنفسهم } ، ولما أراد حديث اللسان قال : { بما نقول } فأطلق ولم يقولوا بما يقولون في أنفسهم ، لأنهم يقولون بألسنتهم لكن يحدثون أنفسهم ويقولون { لولا يعذبنا الله بما نقول } فحديث النفس لا يسمى قولاً ولا كلاماً ولا حديثاً إلا مقيداً ،
وأما القول والحديث والكلام عند الإطلاق فإنما هو قول اللسان وهذا بالنسبة للآدمي لكنه القول المسموع الذي يكون بالحروف ،
ثم إننا نقول لهم : أي فرق بين العلم والكلام على ما زعمتم ، لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان الكلام هو ما قدره الله في نفسه صار معناه العلم ، فلا فرق بين العلم والكلام على زعمهم ،
فإن قالوا : قال الشاعر [222] :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ،
(70/123)
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً [223] ،
قلنا : وهذا دليل عليكم أيضاً وليس لكم ،
لأن الشاعر يريد أن الكلام المعتبر هو الذي يخرج من القلب ،
ولكنه لا يسمى كلاماً ولا يضاف إلى الإنسان حتى يقوم عليه الدليل ، وبماذا يكون الدليل ؟ باللسان الذي ينطق فيسمع ويكون بحروف ، هذا إذا تنزلنا أن نوافق على الاستشهاد بهذا البيت ،
وأما إذا قيل : إن القائل لهذا البيت هو الأخطل [224] ؟
فإنه لا دليل فيه ، لأن الأخطل رجل من النصارى يجوِّزون من الوهميات ما لا تجيزه العقول ، فالنصارى يقولون : إن الله ثالث ثلاثة ، ويقولون : نحن موحدون ، وكيف يكون موحد من جعل الآلهة ثلاثة فهم عندهم خطأ وعندهم ضلال ولهذا وصفوا بأنهم ضالون ، وإن قولاً يستشهد له ويستدل له بأقوال النصارى لقول مبني على شفا جرف هار [225] ،
إذا قال قائل : على أي شيء بنى المعتزلة قولهم وعلى أي شيء بنى الأشاعرة قولهم ؟
الجواب : نقول : أما المعتزلة فبنوا قولهم على نفي الصفات عن الله ،
لأنهم ينفون صفة الكلام فهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات ،
وأما الأشاعرة فبنوا قولهم على امتناع قيام الحوادث بالله [226] ،
وقالوا : الشيء الحادث الذي يكون بالمشيئة لا يقوم بالله أبداً ، لماذا ؟
قالوا : لأن الحادث لا يقوم إلا بحادث ، فإذا قامت بالله الحوادث لزم من ذلك أن يكون حادثاً [227] ،
وهذا لا شك أنه خطأ ،
أما مذهب المعتزلة والجهمية فظاهرٌ خطؤه لأنهم ينكرون جميع الصفات ونحن نثبت لله جميع ما أثبته لنفسه ،
وأما الأشعرية فنقول : من قال : إن الحادث لا يقوم إلا بحادث ؟
قد يقوم الحادث بالقديم أي بالأزلي الأبدي ، وهذا من كمال الله أن يكون فعله متعلقاً بمشيئته وأن يحدث من أمره ما شاء ،
ونقول لهم : ماذا تقولون في قوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) فإن الآية واضحة بأنه عند إرادة الشيء يقول له : { كن فيكون } ،
(70/124)
والفاء تدل على الترتيب والتعقيب ؟
إذن فالأمر بالكون سابق للكون لكنه متصل به { كن فيكون } ،
فإن ادعوا أن المراد يقول في الأزل : { كن } ،
فالجواب : أن هذا خلاف الظاهر ، لأن { كن فيكون } تدل على أنه هذه عقب هذه ، وهذا يستلزم أن يكون قوله حادثاً عند وجود ما أراده عز وجل ،
ثالثا : قوله ( والبصر ) يعني : وله البصر ،
والبصر : هو ( رؤية الأشياء ) ،
وقد أثبت الله في كتابه أنه بصير بما يعمل العباد ،
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن لله بصراً في قوله : ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) [228] ،
وعلى هذا فالبصر ثابت لله بالكتاب والسنة ،
لكن هذا الحديث الذي ذكرناه هو بصر الرؤية ، أما بصر العلم فيستفاد من الآية ،
ولهذا نقول : إن بصر الله تعالى نوعان :
1. بصر رؤية ،
2. وبصر علم ،
كلاهما يشمله قوله تعالى : { والله بصيرٌ بالعباد } ( آل عمران 15 ) { والله بصيرٌ بما يعملون } ( الحجرات 18 ) وما أشبه ذلك ، فإن هذا البصر شامل لبصر العلم وبصر الرؤية ،
أما قوله عليه الصلاة والسلام : ( لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) [229] ، فإنه يختص ببصر الرؤية على حال ،
البصر ثابت لله عز وجل وهو من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها ، فهو لم يزل ولا يزال عليماً ولم يزل ولا يزال بصيراً بخلقه عز وجل أي يبصرهم ،
وهل يلزم من البصر العين ؟
الجواب : لا ، ولولا النصوص الدالة على ثبوت العين لم يجز أن نثبتها بثبوت البصر ،
ولهذا كانت الأشاعرة يثبتون لله البصر ، ولا يثبتون له العين [230] ،
يقولون : إن الله يُري ، لكن لا بعين ،
لكن لو قال قائل : هل يمكن عقلاً أن يجعل بصره بلا عين ؟
(70/125)
الجواب : نعم يمكن ، فقد قال الله تعالى عن الأرض : { يومئذٍ تحدِّث أخبارها } ( الزلزلة 4 ) أي تخبر بما عمل الناس عليها وعمل الناس قد يكون فعلاً يرى وقد يكون قولاً يسمع ، فالأرض تسمع بلا أذن ، وترى بلا عين ، والله على كل شيء قدير ،
فالمهم : أننا نثبت لله البصر بصر العلم وبصر الرؤية ،
ونرى أنه من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال سبحانه وتعالى متصفاً بها ،
رابعاً : السمع حيث ذكره بقوله : ( سمعٌ ) وهذه معطوفة على قوله : ( الحياة ) لكنها بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم ،
والسمع الذي أثبته الله لنفسه نوعان :
1. سمع إدراك المسموع ،
2. وسمع إجابة المسموع ،
وهناك فرق بين الإدراك وبين الإجابة : قال الله تعالى : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } ( الأنفال 21 ) ، : { سمعنا } يعني سمع إدراك : { وهم لا يسمعون } سمع استجابة سمع الله عز وجل يشمل سمع الإدراك وسمع الاستجابة ،
ففي قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك } ( المجادلة 1 ) سمع إدراك ،
وفي قوله تعالى : { إن ربي لسميع الدعاء } ( إبراهيم 39 ) سمع الاستجابة ،
وفي قول المصلي : ( سمع الله لمن حمده ) سمع الأمرين جميعاً يعني يسمع ويجيب من حمده بالإثابة ،
وهل هما من الصفات الذاتية أو لا ؟
الجواب : أما سمع الإدراك فهو من الصفات الذاتية ،
وأما سمع الاستجابة فهو من الصفات الفعلية ، لأنه إن شاء استجاب وإن شاء لم يستجب ،
فأولوا الألباب الذين يقولون : ربنا إننا آمنا ، قال الله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } ( آل عمران 195 ) ، { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } ( غافر 60 ) ،
فالاستجابة حصلت بعد الدعاء ،
وكل شيء من صفات الله يكون له سبب فهو من الصفات الفعلية ،
سمع الاستجابة من الصفات الفعلية ، فمن استجاب الله له فقد سمعه ،
لكن سمع الإدراك ذكرنا أنه من الصفات الذاتية لكن الحادث هو المسموع لا السمع ،
(70/126)
أنا مثلاً أسمع الصوت الآن وسمعي موجود من قبل ؟ لا ، سمعي لهذا الصوت المعين ، ولكن بمعنى أن القوة السمعية موجود فيَّ من قبل هذا الشيء ، فيمكن أن تكون الصفة قديمة ومتعلقها حادث ، ولا مانع ،
قال العلماء : والسمع بمعنى الإدراك ينقسم إلى عدة أقسام :
الأول : سمع عام لكل شيء ،
مثاله : قوله تعالى : { إنه سميعٌ عليم } ( الأعراف 200 ) فهذا يشمل المؤمن والكافر وما يرضاه الله وما لا يرضاه ،
الثاني : سمع خاص ،
مقتضاه النصر والتأييد ،
وهذا الخاص له أمثلة :
منها : قوله تعالى لموسى وهارون : { لا تخافا إني معكما أسمع وأرى } ( طه 46 ) فالمراد أسمع وأرى فأنتصر لكما ،
وقد يكون للتهديد والوعيد :
مثل : قوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء } ( آل عمران 181 ) .
وقوله تعالى : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } ( الزخرف 80 ) .
فصار الخاص قد يراد به النصر والتأييد وقد يراد به التهديد والوعيد ،
وقولي : ( قد يراد به ) أي قد يكون مقتضاه النصر والتأييد وقد يكون مقتضاه التهديد والوعيد ،
فإذا قال قائل : ما هو الضابط لما يقتضي هذا وهذا ؟
الجواب : أن الضابط القرائن أي قرائن الأحوال وسياق الكلام تدل على أن مقتضاه كذا وكذا ،
خامساً : الإرادة : وذكرها بقوله : ( إرادة ) ، بالرفع عطفاً على الحياة ، بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم ، يعني : أن الله عز وجل له الإرادة ،
ودليل ذلك :
قوله تعالى : { فعال لما يريد } ( البروج 16 ) .
وقوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } ( النساء 27 ) .
وقول الله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } ( النساء 26 ) ، والآيات في الإرادة كثيرة ،
قال أهل العلم : والإرادة تنقسم إلى قسمين :
1 – إرادة كونية وهي التي بمعنى المشيئة ،
2 – وإرادة شرعية وهي التي بمعنى المحبة [231] ،
(70/127)
مثال : قوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } ( النساء 27 ) .
هذه بمعنى المحبة وليست بمعنى المشيئة ،
لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لتاب الله على جميع الناس ،
لكنها بمعنى المحبة تتعلق بمشيئته إن شاء تاب وإن شاء لم يتب ،
إرادة بمعنى المشيئة :
مثل : قوله تعالى : { إن الله يفعل ما يريد } ( الحج 14 ) أي ما يشاء ،
بدليل قوله تعالى في الآية الثانية : { ويفعل الله ما يشاء } ( إبراهيم 27 ) .
هذه إرادة بمعنى المشيئة ،
فالإرادة إذن قسمان :
1 – كونية ،
2 – وشرعية ،
إذا قال قائل ما الفرق بينهما من حيث الحكم ؟
فالجواب : الفرق بينهما من وجهين :
الوجه الأول : أن الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد ،
والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد ، قد يريد الله شيئاً شرعاً ولا يقع ،
الفرق الثاني : الإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله ،
والإرادة الكونية تكون فيما يحبه وما لا يحبه ،
الفرق واضح ،
فإذا قال قائل : أعطوني أمثلة توضح ذلك ؟
قلنا : مثلاً : الإيمان والعمل الصالح مرادٌ لله كوناً أو شرعاً ؟ شرعاً ، لماذا ؟
لأن من الناس من لم يؤمن بالله ولم يعمل صالحاًَ ،
ولو كان مراداًَ لله كوناً وقدراً للزم أن يعمل الناس كلهم وأن يعملوا صالحاًَ ،
إذا قال قائل : الكفر الواقع من بني آدم هل هو مرادٌ لله ؟
مرادٌ كوناً لا شرعاً ، مرادٌ كوناً ،
لأنه واقع وكل شيءٍ يقع فهو مرادٌ لله عز وجل { إنما أمره إذا شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) فهو مرادٌ كوناً غير مرادٍ شرعاً ،
لأن الله لا يريد من عباده الكفر وإنما يريد منهم الإيمان ،
نمثل بالأشخاص : ما تقولون في كفر أبي جهلٍ ؟
مرادٌ كوناً لأنه واقع ، وكل شيءٍ واقع فهو مرادٌ كوناً ،
وليس مراداً شرعاً لأن الله لا يحبه ، وإذا كان الله لا يحب شيئاً فإنه وإن وقع غير مرادٍ لله شرعاً ،
إيمان أبي بكر :
مرادٌ شرعاً لأن الله يحبه ،
(70/128)
ومرادٌ كوناً لأنه واقع ،
كل شيءٍ مرادٌ كوناً فإنه واقع أي شيءٍ كان ،
وإيمان أبي بكر واقع ،
إذن هو مرادٌ كوناً لوقوعه ،
مرادٌ شرعاً لأنه محبوب إلى الله عز وجل ،
إيمان أبي لهب :
مرادٌ شرعاً لأنه محبوب إلى الله عز وجل ،
وليس مراداً كوناً لأنه لم يقع ،
يَرِدْ علينا إشكال : كيف يكون الشيء مراداً لله كوناً وهو لا يحبها ، وهل يكرهه على أن يوقع ما لا يحب ؟
هذا إشكال وارد ،
ولهذا أجاب بعض المعتزلة فقال : كل ما وقع فهو مرادٌ لله كوناً وشرعاً ، كل شيء واقع فهو مراد كوناً وشرعاً ،
حتى المعاصي قالوا : إن الله أرادها شرعاً ،
ولكن هذا فيه إشكال ، فما هو الجواب السديد عن مثل هذه المسألة ؟
إذا قال قائل : إذا كان الله يكره كفر هذا الكافر فلماذا وقع وهو يكرهه ؟ هل أحدٌ أكرهه على أن يوقع شيئاً يكرهه ؟
الجواب : لا ، لكنه مكروهٌ لذاته محبوبٌ لغيره ،
الكفر الواقع مكروهٌ لذاته محبوبٌ لغيره ،
ما هذا الكلام ؟ يكون الشيء محبوباً مكروهاً ؟
نعم ، يكون محبوباً مكروهاً باعتبارين لا باعتبار واحد ،
الممتنع أن يكون الشيء محبوباً مكروهاً باعتبارٍ واحد أو من وجهٍ واحد ،
أما إذا كان من وجهين فهذا يمكن ليس بممتنع ،
أرأيت الرجل يأتي بالحديدة مُحَمَّاةً حمراء من النار ويكوي بها ابنه المريض ،
هل كَيُّهُ لابنه مراد لذاته ؟
لا ، مراد لغيره ،
ولهذا تجده محبوباً له مكروهاً محبوباً من وجه مكروهاً ،
من وجه إيلامه مكروه ،
من وجه أنه سببٌ لشفائه محبوب ،
إذن هذا الكفر الواقع بإرادة الله عز وجل مكروهٌ إلى الله لذاته محبوبٌ إلى لغيره ،
كيف ؟
لولا الكفر ما عُرِفَ الإيمان لولا الكفر لم يكن جهاد لولا الكفر لم يكن امتحان ،
أليس كذلك ؟
لولا الكفر لكان خلق النار عبثاً إلى غير ذلك من المصالح العظيمة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يقع الكفر بحكمته ،
(70/129)
ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لا يعرف قدر الإسلام أو لا ينقض الإسلام عروةً عروة إلا من لم يدخل في الكفر ،
يعني أن من عرف قدر الإسلام هو الذي لا ينقضه ولا يعرف الإنسان قدر الإسلام إلا إذا كان قد دخل في الكفر ،
فـ ( بضدها تتبين الأشياء ) ،
فالحاصل : أن نقول جواباً على هذا الإيراد الشائك : كيف يكون في مُلْكِ الله عز وجل شيءٌ يكرهه وهو الذي أراده ؟
والجواب : أن هذا المكروه إلى الله مكروهٌ إليه لذاته محبوبٌ إليه لغيره فهو مكروهٌ محبوبٌ من وجهين ،
فإن قال قائل : هل هذا ممكن ؟
قلنا : نعم ،
ونضرب له مثلاً ،
بماذا ؟
بالرجل يكوي ابنه المريض لِيُشْفى ،
فالكي مكروهٌ لذاته لكنه محبوبٌ لغيره ،
خلاصة ما قلنا الآن :
أن الإرادة تنقسم إلى قسمين :
1 – إرادة كونية ،
2 – وإرادة شرعية ،
فما معنى كل واحدة ؟
الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة ،
والشرعية هي التي بمعنى المحبة ،
ما الفرق بينهما من حيث الحكم ؟
الفرق :
أولاً : الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد فما أراده الله كوناً فلا بد أن يقع ،
والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد أي أن الله قد يريد الشيء شرعاً وقد لا يقع ،
الفرق الثاني : الإرادة الكونية عامة لما يحبه الله وما لا يحبه ،
والإرادة الشرعية خاصة فيما يحبه الله ،
إذن الشيء الواقع نجزم أن فيه الإرادة الكونية لأنه واقع ،
ولكن ، هل فيه الإرادة الشرعية ؟
ننظر ، لا نقول : لا ، ولا نعم ، ننظر ،
إن كان هذا الواقع مما يحبه الله ففيه الإرادتان الكونية والشرعية ،
وإن كان مما لا يحب ففيه الإرادة الكونية وليس فيه الإرادة الشرعية ،
إذا كان الشيء لم يقع فإننا نجزم بانتفاء الإرادة الكونية فيه نقول : هذا ليس فيه إرادة كونية ،
لأنه ما وقع ،
هل ننفي الإرادة الشرعية عنه أو لا ؟
ننظر : هل يحبه الله فتكون الإرادة الشرعية ثابتة فيه أو يكرهه فتكون الإرادة الشرعية غير ثابتة فيه ،
(70/130)
فإذا كان لم يقع وهو مكروه إلى الله ،
انتفى عنه الإرادتان الكونية والشرعية ،
ولهذا كفر المؤمن غير مراد لا كوناً ولا شرعاً ،
لا كوناً لأنه لم يقع لأنه مؤمن ،
ولا شرعاً لأنه مكروه إلى الله عز وجل ،
ثم بحثنا ثانياً في إيراد : وهو كيف يكون في مُلْكِ الله عز وجل ما يكرهه الله ؟
أو كيف تقولون : إن هذا المكروه إلى الله واقعٌ بإرادة الله ؟ فهل لله أحدٌ يكرهه ؟
الجواب : لا ،
إذن يكون الكفر غير واقعٍ بإرادته كيف يريد الله عز وجل شيئاً يكرهه ؟
والجواب : أن الواقع مما يكرهه الله كائنٌ بلا شك بإرادة الله ،
لكنه مكروهٌ إلى الله من وجه محبوبٌ إليه من وجهٍ آخر ،
فمن حيث كونه كفراً مكروهٌ إلى الله ،
ومن حيث ما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة والحكم البالغة يكون محبوباً إلى الله عز وجل ،
من أمثلة الإرادة الكونية :
قوله تعالى : { إنْ كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم } ( هود 34 ) فهنا الإرادة كونية ،
لأن الله تعالى لا يريد شرعاً أن يغوي عباده بل يريد شرعاً أن يهديهم { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } ( النساء 26 ) .
من أمثلة الإرادة الشرعية :
قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر } ( البقرة 185 ) .
وقوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } ( النساء 27 ) .
قوله : ( وعلم ) : أي من صفات الله تعالى : العلم ،
والعلم صفة كمال ،
ولهذا يتمدح به الإنسان ويكره أن يوصف بضده ،
لو قلت شخصٍ : يا جاهل ، وأنت من أعلم الناس ، قال لك : الجاهل أنت ،
لأنه يرى أن وصفه بالجهل عيبٌ وقدح ،
فلو جاء مثلاً : رجل من أعلم الناس وقال لآخر : يا جاهل كيف تعمل هذا العمل ؟
قال الجاهل : أنت ، مع أنه من أعلم الناس لكنه لما سبه رد عليه مسبته ،
فالعلم صفة كمال بلا شك ،
وعلم الله عز وجل شاملٌ لكل شيء حاضراً مستقبلاً وماضياً ،
(70/131)
قال الله سبحانه وتعالى : { لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علما } ( الطلاق 12) .
وقال تعالى عن الملائكة : { ربنا وسعت كل شيءٍ رحمةً وعلما } ( غافر 7 ) .
قال تعالى : { وهو بكل شيءٍ عليم } ( البقرة 29 ) .
وكذلك أيضاً علم الله تعالى محيطٌ بكل شيءٍ تفصيلاً ،
قال الله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين } ( الأنعام 59 ) .
وعلمه سبحانه وتعالى شامل لما يتعلق بعلمه وما يتعلق بفعل عباده ،
قال الله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } ( ق 16 ) .
وقال تعالى : { والله عليمٌ بذات الصدور } ( آل عمران 154 ) .
وقال : { والله بما تعملون عليم } ( البقرة 283 ) .
فعلم الله شامل لكل ما يعمله العبد ،
إذن علم الله ثابت له بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والنظر الصحيح ،
الكتاب ما أكثر الآيات التي تصف الله بالعلم ،
والسنة كذلك مملوءة بما أن الله تعالى بكل شيءٍ عليم ،
كما في حديث الاستخارة وغيره ،
وإجماع المسلمين ثابت بأن الله بكل شيءٍ عليم ،
والنظر الصحيح يدل عليه ،
لقول الله تعالى مستدلاً على علمه بدلالة عقلية : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } ( الملك 14 ) .
فالخالق لا بد أن يكون عالماً بمخلوقه وعالماً بخلقه كيف يخلق ،
فالعلم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل جملةً وتفصيلاً ،
******************
37 – بقدرة تعلقت بممكن ، ،
كذا إرادة فَع ِ واستبن ،
قوله : ( واقتدر بقدرة تعلقت بممكن ) : أي من صفات الله تعالى القدرة ،
قوله : ( اقتدر ) : من باب المبالغة أبلغ من ( قدر ) ،
فإن ( اقتدر ) تدل على صفة ٍ ذاتيةٍ لازمة ،
(70/132)
قال الله تعالى : { إن المتقين في جنات ونهر ، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر } ( القمر 54 - 55 ) .
وقال تعالى : { وإن الله على كل شيءٍ قدير } ( البقرة 20 ) ، والآيات في هذا كثيرة ،
وقدرة الله تعالى قدرةٌ مقرونةٌ بالقوة فهو القوي القادر بخلاف المخلوق ،
فإن قدرته محدودة وقد تكون قدرة ًبقوة وقد تكون قدرة بلا قوة ،
لكن المؤلف قيد القدرة قال : ( تعلقت بممكن ) : وتعلقت بالواجب أيضاً ؟
نعم ، بالواجب من باب أولى ،
تعلقت بالمستحيل ؟
لا ، لأن المستحيل ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مقدوراً عليه ،
لكن المستحيل الذي يُتَصَوَّرُ ذهناً أنه مستحيل :
1 – مستحيلٌ لذاته ،
2 – ومستحيل لغيره ،
أما المستحيل لذاته فهو مستحيل لا يمكن ،
لو أن أحداً أراد أن يقول : هل الله قادر على أن يخلق مثله ؟
لقلنا : هذا مستحيل لكن الله قادر على أن يخلق خلقاً أعظم من الخلق الذي نعلمه الآن ونحن نعلم الآن أن أعظم مخلوقٍ نعلمه هو العرش ،
العرش أعظم من كل شيء من المخلوقات التي نعلمها ،
ومع ذلك نعلم أن الله قادر على أن يخلق أعظم من العرش ،
لكن الشيء المستحيل لذاته هذا غير ممكن ،
نعلم أنه يستحيل في العادة ليس في ذاته أنه لا يقع ،
خسوف القمر في أول الشهر هذا مستحيل حسب العادة ،
ونعلم أيضاً أنه لا يمكن أن يَهِلَّ الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبها بعد الغروب ،
هذا نعلم علم اليقين أنه لن يكون ،
لكن لذاته أو لغيره ؟
لغيره أي حسب ما أجرى العادة ،
(70/133)
وإلا فإن الله قادر على أن يكسف القمر في أول الشهر وعلى أن يهل الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبها ، هلال الهلال لا يمكن أن يكون قبل خسوف الشمس بمعنى أنه إذا خسفت الشمس في ليلةٍ قلنا إنها أول ليلة في الشهر فهذا شيءٌ مستحيل لأن من المعلوم أن كسوف الشمس سببه الذي جعله الله سبباً كونياً حيلولة القمر بين الشمس والأرض وحيلولة القمر بين الشمس والأرض يمنع أن يهل الهلال قبل الخسوف لأنه إذا هَلَّ الهلال قبل الخسوف لا يمكن أن يتجاوز ثم يحول بين الشمس والأرض لأن المعلوم أن القمر يتأخر عن الشمس ما هو سبب الخسوف الذي جعله الله سبباً لخسوف القمر ؟ حيلولة القمر بين الشمس والقمر ،
إذن الشمس لم تسبق أبداً في هذا الحال ،
إذن قول المؤلف : ( تعلقت بممكن ) : نقول : ضده المستحيل ،
فالمستحيل لا تتعلق به القدرة ،
لأنه على اسمه مستحيل ،
لكن يجب أن نعلم حتى لا يتوهم واهم أننا خصصنا ما عمه الله أو قيد ما أطلقه ،
يجب أن نعلم أن المستحيل نوعان :
1 – مستحيل لذاته ،
2 – ومستحيل لغيره ،
فالمستحيل لذاته : ما لا يمكن أن تتعلق به القدرة ،
كما مثلنا وقلنا : لو قال قائل : هل يقدر الله أن يخلق مثله ؟
قلنا : هذا مستحيل لذاته ،
لأن المماثلة مستحيل أدنى ما نقول : أن نقول : أن هذا مخلوق والرب خالق ،
فتنتفي المماثلة على كل حال ،
الشيء الثاني : المستحيل لغيره ،
بمعنى أن الله تعالى أجرى هذا الشيء على هذه العادة المستمرة التي يستحيل أن تنخرم ،
ولكن الله قادر على أن يخرمها ،
هذا نقول : إن القدرة تتعلق به ،
فيمكن للشيء الذي نرى أنه مستحيل بحسب العادة أن يكون جائزاً واقعاً بحسب القدرة ،
وهذا الشيء كثير كل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب مستحيل لغيره ،
انشقاق القمر للرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل لغيره لكن لذاته غير مستحيل ،
لأنه وقع والله قادر على أن يشق القمر نصفين ،
بل قادر على أن يشق الشمس نصفين ،
(70/134)
نحن الآن نرى أنه من المستحيل أن الشمس تنزل وتكون فوق المنارة ،
لو جاءنا واحد وقال : إنني مررت بمنارة ووجدت أن الشمس موضوعة فوق المنارة بالضبط ،
ماذا نقول ؟
هذا كذب مستحيل ،
لكن مستحيل لغيره أو لذاته ؟
حسب ما أجرى الله العادة ،
لكن الله قادر على أن تكون الشمس على مستوى منارة بل دون المنارة ،
فإنه يوم القيامة تكون على رؤوس الناس بقدر ميل ،
فعبارة المؤلف رحمه الله تحتاج إلى بيان في قوله : ( تعلقت بممكن ) ،
فإن ظاهر كلامه أن القدرة لا تتعلق بالمستحيل ،
ونحن نقول لا بد في ذلك من التفصيل :
وهو أن المستحيل لذاته لا تتعلق به القدرة ،
لأنه ليس بموجود ولا يمكن أن يوجد ولا يفرضه الذهن ،
هل يمكن أن يكون الشيء متحركاً ساكناً ؟
لا يمكن ،
لأنه إذا كان متحركاً فليس بساكن ،
إن كان ساكناً فليس بمتحرك ،
أما المستحيل لغيره يعني بحيث يكون بحسب العادة غير ممكن ،
فهذا تتعلق به القدرة ،
وإذا طُلِبَ منا مثلٌ لذلك ،
قلنا : ما أكثر الأمثلة ،
كل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب في العادة ،
لو أحد قال : أنا سأضرب هذا الحجر ، ضربه بعصاه قال : فانفلق اثني عشر عين ،
ماذا نقول ؟
هذا مستحيل حسب العادة ،
لو تضرب حجراً بعصاً من حديد حتى يتفتت الحجر ما جاءك اثني عشر عين ،
لكن هل هو مستحيل لذاته ؟
لا ، لأن الله جعله لموسى ،
إنسان معه عصا وقال أنا أضع هذا العصا ويكون حية ، ماذا نقول ؟
نقول : هذا ليس بصحيح ،
لا يمكن أن يكون حية ، حتى في السحر لا يمكن أن يكون حية ،
إنما يكون حية بالسحر حسب نظرنا ، لكن حقيقةً لا ليس بحية ،
لكن يمكن أن يكون العصا حية حقيقية حسب القدرة قدرة الله ،
فكون العصا حيةً مستحيل لغيره ،
لكنه لقدرة الله ليس مستحيلاً ،
ولهذا كان عصا موسى ينقلب حية حقيقية تلقف تأكل ،
(70/135)
الإنسان مخلوق من الطين لو واحد صنع تمثالاً على شكل إنسان أو على شكل طير ، على شكل طير أحسن لكي توافق الآية التي لعيسى صنع تمثالاً على شكل طير وقام ينفخ فيه وقال طار طير طار نصدقه ،
لأن هذا مستحيل حسب العادة لكنه مستحيل لغيره ،
وأما حسب القدرة فليس بمستحيل ،
ولهذا جعله الله آيةً لعيسى يخلق تمثالاً على شكل الطير ثم ينفخ فيه فيطير ،
لم يذكر المؤلف متعلقاً للحياة ،
لأن الحياة لا متعلق لها ،
قوله : ( بممكن ) : يخرج به المستحيل ،
المستحيل لغيره له أمثلة كثيرة منها :
فخلق عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب أمرٌ مستحيل في العادة ،
لا يمكن أن يوجد ولد بلا أب وخلق ولد بلا أم أيضاً مستحيل ،
ولد بلا أم مستحيل في العادة ما من ولد إلا وله أم ،
ولكن في حواء صار لها أبٌ وليس لها أم ،
كذلك يستحيل في العادة أن يوجد ولدٌ بلا أمٍّ ولا أب ،
فلو جاءنا رجل وقال : ابشروا وجدت ولداً نابتاًَ في السطح ،
ماذا نقول له ؟
نقول : هذا مجنون لا يمكن أن يكون هكذا ،
ولكن هذا مستحيل لغيره لو شاء الله أن يخلقه لخلقه ،
أليس الناس إذا دُفِنوا في القبور فإن الأرض تأكل أجسامهم كلها إلا عَجْبَ الذَّنَب ؟!!!
ومع ذلك يتكون من هذا التراب يتكون آدمي بشر ،
وآدم عليه الصلاة والسلام كان خُلِق من الطين ،
وهذا مستحيل لغيره حسب العادة ولكن الله قادر عليه ،
قوله : ( كذا إرادة ) : يعني كذلك الإرادة تتعلق بالممكن ،
أما المستحيل فلا يمكن ،
فالمستحيل لذاته لا يمكن أن يريده الله ،
لأن هذه الإرادة عبث والله منزهٌ عن العبث ،
لو قال قائل مثلاً : إن الله يريد هذا الشيء يكون متحركاً ساكناً ؟
فالجواب : لا ، لا يريد هذا ،
لأنه متى كان متحركاً لم يكن ساكناً ومتى كان ساكناً لم يكن متحركاً ،
وليس المراد أنه يكون متحركاً ثم يسكن أو ساكناً ثم يتحرك هذا ممكن ،
فالإرادة تتعلق بالممكن ،
(70/136)
ولهذا نقول : إن الإرادة إذا أراد الله أمراً فإنما يقول له كن فيكون ،
وهذا يدل على أن الإرادة تكون في الأشياء الممكنة التي يمكن أن يفعلها الله عز وجل ،
******************
38 – والعلم والكلام قد تعلقا ، ،
بكل شيء يا خليلي مطلقا ،ت
قوله : ( والعلم والكلام قد تعلقا بكل شيء ) : يعني يمكن أن الله يتكلم بالشيء المستحيل ويعلم الشيء المستحيل ،
فالله سبحانه وتعالى يقول : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ( الأنبياء 22 ) .
فقال : بالمستحيل يعني تكلم عن شيء مستحيل ،
{ وما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } ( المؤمنون 91 ) فتكلم بشيء مستحيل ،
والعلم يتعلق بالمستحيل والدليل هاتان الآيتان { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } هذا خبر يخبر الله أنه لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا ، هذا خبر عن شيء مستحيل ،
إذن الكلام يتعلق بالمستحيل ويتعلق بالواجب من باب أولى ،
فالله تعالى يتكلم بالشيء الواجب ومما تكلم به من الأمور الواجبة أن الله واحدٌ لا شريك له :
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } ( آل عمران 18 ) .
العلم أيضاً تعلق بالماضي والمستقبل والحاضر ، لأن الله بكل شيء عليم كل شيء فالله عليم به ،
******************
39 – وسمعه سبحانه كالبصر ،
بكل مسموع وكل مبصر ،
إذن السمع يتعلق بالمسموعات لا بكل شيء فلا يتعلق بالمرئيات ، ما يقال : سمع الله فلاناً أي نظر إليه إنما يتعلق السمع بالمسموعات والبصر بالمبصرات ، والأفعال من شأن البصر ، لأن الفعل يرى ولا يسمع بل الذي يسمع حركة الفاعل مثلاً والأقوال من متعلقات السمع ،
إذن الأفعال من متعلقات البصر والأقوال من متعلقات السمع ،
(70/137)
ولهذا قال : ( بكل مسموع ) ، كالأقوال ( وكل مبصر ) كالأفعال ،
ماذا بقي من الصفات السبع ؟
بقي واحدة وهي الحياة ،
الحياة لا تتعلق بشيء بائن عن الله عز وجل ،
لأن الحياة وصف لازم لذاته لا تتعدى لغيره فلهذا لم يذكر له المؤلف متعلقاً ،
فهذه سبع صفات ذكرها المؤلف ،
ولكن إذا قال قائل : لماذا لم يذكر غيرها ؟
الجواب : أنها هي الصفات التي اتفق عليها السلف وأهل التأويل من الأشعرية ونحوهم ،
فلهذا خصّها المؤلف بالذكر لأنها محل اتفاق ،
أما السلف فيثبتون لله تعالى أكثر من هذه الصفات أكثر من سبع أكثر من سبعين صفة يثبتونها لله يثبتون لله كل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والحفظ والرضا والغضب وغير ذلك مما وصف الله به نفسه ،
لكن الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع فقط ، لماذا ؟
الجواب : قالوا : لأن هذه الصفات السبع دل عليها العقل فأثبتناها لدلالة العقل عليها ،
وأما ما سواها فإن العقل لا يدل عليها فيجب أن نؤول ،
قيل لهم : اشرحوا لنا كيف دل عليها العقل ؟
قالوا : الإيجاد دل على القدرة فإيجاد الأشياء يدل على قدرة الموجد وهو الله عز وجل وأشياء موجودة ،
وإحكام هذه الأشياء إحكامها خلقاً وصنعاً يدل على العلم لأن الجاهل لا يحكم الشيء ،
بقي الإرادة ، التخصيص يدل على الإرادة ،
يعني كون هذا ذكر ، وهذه أنثى ، وهذه شمس ، وهذا قمر ، وهذه أرض ، وهذه سماء ، يدل على الإرادة ، أراد الله أن يكون السماء سماءً فكان أن تكون الأرض أرضاً ، فكانت أن يكون الإنسان إنساناً ، فكان أن يكون البعير بعيراً ،
فكان فالتخصيص يدل على الإرادة ،
كم هذه من صفات ؟
ثلاث ،
قالوا : وهذه الصفات الثلاث لا تقوم إلا بحي أي من لازم المتصف بهذه الصفات الثلاث أن يكون حياً فنثبت الحياة ، فتكون الصفات الآن أربعة ،
ثم يقولون : إذا ثبت أنه حي فإما أن يتصف بالسمع والبصر والكلام ،
(70/138)
أو بضد ذلك وضد ذلك ممتنع ،
لأن ضد السمع الصمم وضد الكلام الخرس وضد البصر العمى ،
وهذه الصفات صفات عيب لا يمكن أن يتصف بها الخالق ،
هذا وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع ،
الرحمة ؟ قالوا : ما فيه رحمة ، الرضى ؟ قالوا : ما فيه رضى ، الحكمة ؟ ما فيه حكمة ،
الوجه ؟ ما فيه وجه ، اليدان ؟ ما فيه يدان ، كيف ؟
قالوا : لأن هذه الصفات لا يدل عليها العقل ،
وإذا لم يدل عليها العقل فإنه لا يمكن أن نثبتها لله عز وجل ،
كيف نجيبهم ؟
نجيبهم بثلاثة أدلة :
أولاً : أن الرجوع إلى العقل في هذه الأمور باطل شرعاً وعقلاً :
أما الشرع :
فقال الله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } ( الإسراء 36 ) .
وقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما تعلمون } ( الأعراف 33 ) .
وأما بطلانه عقلاً :
فلأن هذه الأمور من الأشياء التي تتلقى بالخبر ،
لأن الخالق عز وجل ليس كمثل الخلق ،
فلا يجوز عليه ما يجوز عليهم ولا يمتنع عليه ما يمتنع عليهم ولا يجب له ما يجب لهم ،
فهو مخالف للخلق ،
وإذا كان مخالفا للخلق فهل يحكم الخلق عليه بعقولهم ؟
الجواب : لا ، كيف تحكم عليه لا شاهدت الله ولا شاهدت نظيراً له فكيف تحكم عليه بالعقل ؟
فكان في الشرع والعقل ما يبطل الاعتماد على العقل في هذه الأمور ،
ثم نقول : ثانياً : هب أن العقل لا يدل على سوى هذه الصفات السبع فقد دل عليها الشرع ،
وتعدُّد الدليل جائزٌ عقلاً وواقعاً ،
فإذا انتفى أحد الدليلين ثبت المدلول بالدليل الآخر ،
لأن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول ،
فقد يكون للمدلول دليلٌ آخر غير الدليل الذي انتفى ،
فإذا فرضنا جدلاً أن العقل لا يدل على هذه الصفات ، فإن الشرع دل عليها ،
وإذا دل عليها وجب إثباتها بدلالة الشرع لأن الشيء قد يكون له أكثر من دليل ،
(70/139)
فإذا انتفى الدليل المعين قام الدليل الثاني مقامه لأن بعض الأشياء تتعدد أدلته ،
الوجه الثالث : أننا يمكننا أن نثبت بالعقل ما نفيتم أن العقل دال عليه أي أننا نستدل بالعقل كما استدللتم بالعقل ،
ونقول : ما نفيتموه قد دل عليه العقل ،
مثال ذلك : هذه النعم التي نشاهدها وهذه النقم التي تندفع عنا مع وجود أسبابها تدل على الرحمة ،
فنزول المطر من آثار الرحمة ونبات الأرض من آثار الرحمة والنوم والراحة من آثار الرحمة والعلم والرزق من آثار الرحمة كل ما بنا من نعمه فهي من آثار الرحمة ،
كل ما بنا من نعمة فهو من آثار الرحمة ،
ودلالة هذه الأشياء على الرحمة عقلاً أوضح وأبين من دلالة التخصيص على الإرادة ،
لأن دلالة هذه الأشياء على الرحمة واضحةً للعامي والعالم ،
ودلالة التخصيص على الإرادة لا يفهمها إلا شخصٌ عالم ،
وأنتم الآن لولا أنكم عرفتم ذلك من كتب أهل العلم ما عرفتم كيف تستدلون بالتخصيص على الإرادة ،
ونقول : إثبات الطائعين وتعلية منازلهم دليل على الرضا عنهم ،
لأنه لو كرههم لعاقبهم وانتقامه تعالى من المجرمين يدل على الغضب { فلما آسفونا انتقمنا منهم } ( الزخرف 55 ) .
فالمهم أن ما ذكروا أن العقل لا يدل عليه فإنه يمكننا أن نثبته نحن بدلالة العقل وحينئذِ نجيبهم بثلاثة أجوبة ،
إثبات الأشاعرة لهذه الصفات السبع ليس كإثبات أهل السنة لها يختلف ،
فمن ذلك مثلاً : الكلام :
الكلام عند أهل السنة ليس هو الكلام عند الأشاعرة ،
سبق أن الأشاعرة قالوا في الكلام قولاً لا يقوله من له عقل ،
بل قالوا قولاً حقيقته نفي الكلام ،
لأنهم قالوا : أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس والمسموع عبارة عن هذا الكلام خلقه الله ليعبر عما في نفسه ،
وسبق بيان قولهم والرد عليهم ،
حتى أيضاً السمع والبصر يختلف إثباتها لها عن إثبات أهل السنة والجماعة ،
(70/140)
فلهذا نقول : إن مذهب أهل السنة والجماعة مع مذهب الأشاعرة متماثل في عد هذه الصفات السبع وثبوتها ،
وإن كان يختلف في كيفية إثباتها ،
صارت هذه الصفات الست :
اثنان منها تتعلق بكل شيء وهما العلم والكلام ،
واثنان تتعلقان بالممكن وجوداً وعدماً وهما القدرة والإرادة ،
والثالث يتعلق بالموجود السمع والبصر ،
الأسئلة
السؤال : الاستغراق إنما يكون في ما له أفراد مثل : { وخُلِقَ الإنسان ضعيفاً } ( النساء 28 ) ، { وخُلِقَ الإنسان } ، كل إنسان وهذا له أفراد كل واحدة متميزة عن الأخرى وحياة الله تعالى ليست كذلك الله واحد فكيف نقول للاستغراق ؟
الجواب : استغراق الصفات الكاملة .
لأن من كمال الحي أن يكون ذا صفات استغراق الحياة بمعنى الحياة الكاملة المتضمنة لجميع الصفات الكاملة فليس استغراق أعيان ، استغراق أوصاف في المعاني والكمال ، استغراق الحياة غير استغراق الحي فاستغراق الحياة هنا استغراق صفات يعني أن الحياة حياة الله عز وجل متضمنة لكل الأوصاف الكاملة التي هي من مقتضى كمال الحياة ،
السؤال : قوله تعالى : { إني أنا الله } ( القصص 30 ) ، ألا يرد عليهم في إثبات الكلام لله ؟
الجواب : نعم هذا من الرد عليهم قال لهم الإمام أحمد ، هم يقولون عندنا بابٌ يسمى باب المجاز فيقول إن الله خلق هذه الكلمة في هذه الشجرة وليست تعني نفسها ولكن هذا من باب التجوز كما لو قلت أنا محمد وأنا مرسلٌ منه ، يعني واحد أرسلني اسمه عبدالله فقلت أنا عبدالله لو مثلاً كلمت بكلام وقلت أعطني حق عبدالله أنا موكلني أقبض منك قلت اصبر دعني أراجع عبدالله قلت أنا عبدالله يعني وكيلاً عنه ، مشكل هذا ولهذا يجب أن نكسر المجاز قبل أن نتجوزه ،
السؤال : إن الأشاعرة يقولون : إن القرآن جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإذا جعلتموه صفةً من صفات الله فكيف تنفك الصفة عن الموصوف ؟
(70/141)
الجواب : الجواب على هذا بسيط عندما أقول لك يا هداية الله بلغ أحمد بكذا وكذا وكذا ،
الكلام ، من كلامه ؟
كلامي أنا وأنت الذي بلغته ،
فالكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدءاً لا إلى من قاله مبلغاً ،
أصل الكلام : كلام الله ،
لكن تكلم جبريل به هذا مخلوق ،
أما المُتَكَلَّم به فهو كلام الله ،
أنا الآن عندما أقرأ : { الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين } ( الفاتحة 2 – 4 ) ،
صوتي هذا مخلوق ،
لكن ما أُصَوِّتُ به هو صفة الله غير مخلوق .
ولهذا وصف الله القرآن بأنه قول محمد وقول جبريل ولا يمكن أن يكون قولٌ من قائلين .
فقال : { إنه لقول رسولٍ كريم ، ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين } ( التكوير 19 – 20 ) .
من المراد بالرسول هذا ؟
جبريل ،
{ إنه لقول رسولٍ كريم ، وما هو بقول شاعر } ( الحاقة 40 – 41 ) .
المراد بالرسول هنا محمد .
فأضاف القول إلى محمد .
وأضاف القول إلى جبريل .
ومن المعلوم أنه لا محمد ولا جبريل ،
القائل : الأول ، من هو ؟
الله عز وجل ، { وإنه لتنزيلٌ من رب العالمين } ( الشعراء 192 ) .
انظر الآية التي في الشعراء تبين : { وإنه لتنزيلٌ من رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين } ( الشعراء 192 – 194 ) ، ثلاثة ، { وإنه لتنزيلٌ من رب العالمين } ، هذا الأول ،
إذن فالكلام يضاف إلى من ؟
إلى أول من قاله ،
أنا لو قلت :
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل [232]
قلت الآن الكلام هذا ، من الذي قالها ؟
أمرئ القيس [233] ، الذي قالها أمرئ القيس ،
وأنا قلتها الآن لكن قلتها إما مبلغاًَ إن قد أمرت بتبليغها وإما حاكياً إن كنت لم أؤمر بتبليغها ،
السؤال : قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ( جملة غير واضحة ) يعني في آخر الحديث أنه أتاه الموت ،،،،،،،، فهذا يا شيخ يكون مراداً كوناً ؟
(70/142)
الجواب : ( وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره إساءته ولا بد له منه ) [234] ، هذا أمر لا يتعلق بالإرادة الشرعية مسألة موت المؤمن قد نقول إنه غير مرادٍ لله شرعاً لأن بقاء هذا المؤمن يتعبد لله خير ،
السؤال : ما يحبه يا شيخ بعد الموت الله سبحانه يحب أن يجزيه خيراً ؟
الجواب : الله عز وجل يكره هذا الموت للمؤمن لأن المؤمن يكرهه فهو سبحانه وتعالى يتردد في قبض نفس المؤمن لأن المؤمن يكره ذلك والله تعالى لا يحب أن يفعل ما يكرهه المؤمن لكن لما كان هذا أمراً لا بد منه تقتضيه الحكمة فعله الله عز وجل ،
السؤال : إذا قال قائل : أن نزول المطر وتعلية منازل الصالحين وجَعْلْ الكفار في النار أن هذا من علمه ، من علمه أن يجعل هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة وينزل المطر ويذل بالعقاب ؟
الجواب : ليس فيه شك ودال على القدرة ودال على الرضا ،
السؤال : لكن قد يقال : أن هذا يدل على العلم ولكن دلالتها على الرحمة مشكوك فيها فندخلها في العلم ؟
الجواب : غير مشكوك فيها واضحة هل الذي يعطيك النعم ويربيك بها ويدفع عنك النقم هل هذا من رحمته أو من غضبه وانتقامه ؟ الرجل إذا عمل له ولداً ثم أعطاه ماذا يدل عليه ؟ على رضاه بذلك ،
السؤال : أحسن الله إليكم ذكرنا حين بيَّنا المستحيل بذاته قلنا خلق الله مثله أقول يا شيخ التمثيل بهذا المثال ،،،، ؟
الجواب : هذا مشهور عند العلماء .
يعني لو قال قائل : هل يقدر الله أن يخلق مثله ؟
فليس فيه شيء نحن مثلنا به للمستحيل وليس بالجائز أي أن هذا ليس بإقرار أن الله يخلق مثله هذا إنكار بأن الله يخلق مثله ،
السؤال : لكن يا شيخ لو نترك هذا المثال ونمثل دائماً بالحركة والسكون ؟
الجواب : ليس بلازم ليس بلازم ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟
الجواب : هذه مشهورة حتى أن ابن القيم رحمه الله [235] ذكرها في مفتاح دار السعادة [236] وغيره .
(70/143)
وذكر أن الشيطان جاء للعابد لما قال جنود الشيطان للشيطان : لماذا تفرح بموت العالم أكثر مما تفرح بموت العابد ، والعابد يتعبد لله دائماً ليل ونهار ؟
قال : لأن هذا أضر علي العالم أضر علي من العابد .
وضرب لهم مثلاً قالوا لهم : تعالوا نذهب نمشي جاءوا للعابد .
قالوا له : يا أيها الرجل هل يستطيع الرجل أن يخلق مثله ؟
قال : يستطيع الله على كل شيء قدير حاكم الله واستدل المسكين جهل مركب قالوا طيب هل يستطيع الله أن يجعل السماوات والأرض كلها في قشر بيضة ؟
قال : لا يمكن ، لا يستطيع ، مستحيل .
وذهبوا للعالم وسألوه هذا السؤال .
قال : أما الأول فهذا مستحيل ولا يمكن أما الثاني فإن الله قادر على أن يكبر هذا القشر ويصغر السماوات والأرض فتكون السماوات والأرض فتكون السماوات والأرض في قشر البيضة .
أما يجعل السماوات والأرض بحالتها الحاضرة في قشر بيضة فهذا من المستحيل الذي لا تتعلق به القدرة أصلاً .
---
[1] - انظر في مسألة تقسيم التوحيد : رسالة الشيخ الدكتور عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد ( القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد ) فهي مفيدة في بابها ، وأضواء البيان للشيخ العلامة السلفي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ( 4 / 309 – 311 ) وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ص 3 ،
[2] - اقتضاء الصراط المستقيم ( 1 / 854 ) ،
[3] - انظر أصناف الناس في الأسماء والصفات عند شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 46 ) ،
[4] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 519 ، 542 ) ،
[5] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 273 ) ،
(70/144)
[6] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 50 ، 505 وما بعدها ، 550 ، 605 ، 618 ) والرسالة التدمرية ص 35 ، 40 ، 120 ، 133 وبغية المرتاد ص 424 – 429 والرد على المنطقيين ص 222 وما بعدها والفتوى الحموية الكبرى ص 54 وشرح حديث النزول ص 83 – 88 ، 113 – 114 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 144 ) ( 5 / 176 ، 418 – 419 ، 428 – 434 ) ( 13 / 146 ) ،
[7] - انظر رسالة الشيخ العلامة الدكتور صالح الفوزان ( نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد رمضان من هفوات ) ،
[8] - المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ( 1/ 351 وما بعدها ) وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن السلفية الشرعية في بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 536 ) ،
[9] - أخرجه الترمذي ( 1053 ) وقال : حديث حسن غريب .
[10] - أخرجه الللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 3 / 578 ) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 110 – 196 – 263 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 10 / 610 ) ( 13 / 299 ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 117 ،
[11] - أخرجه البخاري ( 2888 ) ومسلم ( 1637 ) .
[12] - أخرجه مسلم ( 1767 ) .
[13] - أخرج البخاري في صحيحه ( 6326 ) : عن ابن عباس قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه ، فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) .
[14] - ومنهم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في العقيدة النظامية له ص 32 – 33 ،
[15] - درء تعارض العقل والنقل ( 1 / 205 ) ،
[16] - انظر معنى أهل التخييل عند شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض المنطق ص 56 ،
[17] - أخرجه البخاري ( 7013 ) ومسلم ( 2786 ) واللفظ له .
[18] - أخرجه مسلم ( 2937 ) .
(70/145)
[19] - انظر رسالة الشيخ الدكتور محمد بن ربيع بن هادي المدخلي ( أضواء على كتب السلف ) ففيها ذكر جملة من كتب السلف رحمهم الله ،
[20] - أخرجه مسلم ( 598 ) .
[21] - انظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 25 وشأن الدعاء للخطابي ص 31 – 35 ،
[22] - منهاج السنة النبوية ( 2 / 123 ) والصفدية ( 2 / 47 ) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 112 ،
[23] - نفس الصباح في غريب القرآن للخزرجي ( 2 / 600 ) والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1095 ،
[24] - وقد ذكر هذا الاسم في حديث أبي هريرة وهو : ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) ،
أخرجه البخاري ( 2585 )، ومسلم ( 2677 ) ،
وذلك في الزيادة عليه التي سردت فيها الأسماء الحسنى ، من ثلاث طرق :
الأول : طريق عبد العزيز بن الحصين ، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ( 1/ 32 ) ، والحاكم في المستدرك ( 1 / 17 ) ،
والثاني : طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني ، أخرجه ابن ماجة في سننه ( 3860 ) ،
والثالث : طريق الوليد بن مسلم ، أخرجه الترمذي في سننه ( 3507 ) ، وابن مندة في كتاب التوحيد ( 2 / 205 ) ،
والصحيح : أن الزيادة في سرد الأسماء الحسنى لم يصح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من إدراج بعض الرواة ،
ويؤيد ذلك كلام كبار الحفاظ والمحققين من أهل العلم ،
انظر لزاماً : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 379 ) ، ( 8 / 96 ) ، ( 22 / 482 ) ، فتح الباري لابن حجر ( 11 / 218 ) ، وفيه كلام شاف كاف لا يحتاج إلى زيادة ، وفي تخريج حديث الأسماء الحسنى ، له ص 59 ، المحلى لابن حزم ( 8 / 31 ) ، وابن كثير في تفسيره ( 2 / 258 ) ، طرح التثريب للعراقي ( 7 / 147 – 156 ) ، تحفة الأحوذي للمباركفوري ( 4 / 260 ) ، المشكاة للألباني ( 2 / 708 ) ، وضعيف الجامع له ص 281 – 282 ،
(70/146)
[25] - ومن الذين ذهبوا إلى هذا الاشتقاق : الحليمي في كتابه المنهاج في شعب الإيمان ( 1 / 188 ) ،
[26] - مجمل اللغة لابن فارس ( 1 / 88 ) ،
[27] - مختار الصحاح لابن أبي بكر الرازي ص 101 ،
[28] - روى نحوه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( 6 / 14 ) .
[29] - اشتقاق الأسماء لأبي القاسم ص 102 والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للغزالي ص 102 ،
[30] - تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 39 والمنهاج في شعب الإيمان للحليمي ( 1 / 199 ) ،
[31] - كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي ( 2 / 1219 ) ،
[32] - شأن الدعاء للخطابي ص 85 وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 59 ،
[33] - انظر في القوة وأقسامها : كتاب جامع العلوم لأحمد نكري ص 717 ،
[34] - شرح العقيدة الطحاوية ص 256 ،
[35] - انظر الكلام على هذه الأدلة في درء تعارض العقل والنقل ( 8 / 46 ) وبغية المرتاد ص 373 – 374 وشرح حديث النزول ص 123 والفوائد لابن القيم ص 40 وما بعدها ( 13 / 272 – 274 ، 532 ) والمنهاج في شعب الإيمان للحليمي ( 1 / 188 ) ودعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس رحمه الله تعالى ص 29 ، 31 ومذكرة التوحيد للشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله تعالى ص 13 ،
[36] - أخرجه البخاري ( 968 ) ومسلم ( 897 ) .
[37] - معجم مقاييس اللغة لابن فارس ( 3 / 125 ) ،
[38] - اشتقاق الأسماء لأبي القاسم ص 60 وشأن الدعاء للخطابي ص 73 ،
[39] - التحفة العراقية ص 328 ،
[40] - أخرجه مسلم ( 335 ) ،
(70/147)
[41] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 8 / 92 – 93 ) ومنهاج السنة النبوية ( 1 / 141 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 163 – 217 ) والنبوات ( 1 / 467 ) ومفتاح دار السعادة لابن القيم ( 2 / 409 وما بعدها ) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 1 / 285 ) وكتاب الحكمة والتعليل للشيخ الدكتور محمد بن ربيع بن هادي المدخلي ص 41 وكتاب القضاء والقدر للدكتور عبدالرحمن المحمود ص 76 ، 166 – 167 ،
[42] - المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للغزالي ص 118 والأسماء والصفات للبيهقي ( 1 / 47 ) ،
[43] - جلاء الأفهام لابن القيم ص 76 – 77 ،
[44] - هو رفيع بن مهران البصري الإمام المقرئ الحافظ المفسر كان مولى لإمرة من بني رياح بن يربوع ثم من بني تميم ، ثقة كثير الإرسال أسلم في خلافة أبي بكر الصديق مات سنة تسعين وقيل : ثلاث وتسعين ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي ( 4 / 207 ) وتقريب التهذيب لابن حجر ص 238 ،
[45] - أخرجه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 / 392 ) تعليقا بصيغة الجزم ، ووصله إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي ( ص 80 ) ،
[46] - جزء من حديث طويل أخرجه البخاري ( 773 ) ومسلم ( 182) ،
[47] - جمهرة اللغة لابن دريد ( 3 / 211 ) ،
[48] - الصحاح للجوهري ( 6 / 2401 ) ،
[49] - الرد على البكري ص 329 – 330 ،
[50] - منهاج السنة النبوية ( 2 / 417 ) ،
[51] - أخرجه مسلم ( 532 ) وانظر في الكلام على هذا الحديث : التحفة العراقية ص 409 وما بعدها ،
[52] - أخرجه البخاري ( 3671 ) ،
[53] - أخرجه مسلم ( 211 ) ،
[54] - أخرجه مسلم ( 49 ) ،
(70/148)
[55] - هو الأمير نشوان بن سعيد بن سعد الحميري الصبري ، أبو سعيد المعتزلي القاضي ، عالم في اللغة والفرائض ، له مؤلفات من أشهرها كتابه ( شمس العلوم ) في اللغة ، ولاعتزاله تأثير واضح في بعض المسائل اللغوية المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته ، والصبري نسبة إلى جبل صَبِر _ بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة _ وهو جبل شامخ عظيم مطل على قلعة تعز في اليمن ، فيه عدة حصون وقرى ، قد استولى عليه في آخر عمره ، فقدمه أهل جبل صَبِر أميراً عليهم ، مات سنة 573 هـ . معجم الأدباء للحموي ( 19 / 217 ) ، انباه الرواة للقفطي ( 3 / 342 ) ، إشارة التعيين لليماني ( ص 362 ) ، البلغة للفيروزآبادي ( ص 231 ) ، كشف الظنون لحاجي خليفة ( 2 / 1061 ) ، هدية العارفين لإسماعيل باشا ( 2 / 489 ) ، بغية الوعاة للسيوطي ( 2 / 312 ) ، أسماء الكتب لرياضي زاده ( ص 188 ) ، هجر العلم ومعاقله للأكوع ( 1 / 541 ) ، الروض المعطار لعبد المنعم الحميري ( ص 354 ) ، مراصد الإطلاع لابن عبد الحق البغدادي ( 2 / 832 ) ، معجم المدن اليمنية للمقحفي ( ص 244 ) ، وفي أسماء الكتب لزاده : ( المعشرلي ) بدل ( المعتزلي ) وهو تصحيف ، وذكر القفطي ، واليماني ، والفيروزآبادي ، أن وفاته في حدود 580 هـ ، والأول عليه الأغلبية ، وهو الأضبط .
[56] - البيت موجود في كتابه شمس العلوم ( 1 / 377 ) ، وفيه : ( الغاوي ) بدل ( الطاغي ) ، والذي في الشرح كما في نيل الأوطار للشوكاني ( 2 / 291 ) .
[57] - القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 97 ،
[58] - الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر ( 1 / 158 ) ،
[59] - حتى وإن تخلل قبل موته على الإسلام ردة على الصحيح ،
انظر الإصابة لابن حجر ( 1 / 7 ) والنكت على نخبة الفكر للشيخ علي حسن عبدالحميد الحلبي ص 149،
[60] - الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي ( 1 / 333 ) ،
[61] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،
(70/149)
[62] - أخرجه ابن ابي شيببه في المصنف ( 2 / 165 ) ،
[63] - وهو عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كما أخرجه عنه البيهقي في السنن الكبرى ( 3 / 315 ) ،
[64] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،
[65] - المخصص لابن سيده ( 12 / 22 ) ،
[66] - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ، للتهانوي ( 2 / 1579 ) ، مفتاح السعادة ، لطاش كبري زاده ( ص 794 ) ،
[67] - المخصص ، لابن سيده ( 13 / 93 ) ، الصحاح ، للجوهري ( 6 / 2527 ) ،
[68] - أخرجه مالك في الموطأ ( 676 ) وانظر مجموع الفتاوى ( 20 / 572 ) .
[69] - المقرب لابن عصفور ( 1 / 214 ) ، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام ( 2 / 370 ) ،
[70] - لم نهتدي إلى قائله ، والبيت موجود في : فيض نشر الانشراح لابن الطيب الفاسي ( 1 / 371 ) .
[71] - اخْتُلِفَ في نسبة البيت ، كما اخْتُلِفَ في عجزه .
فنسبه العيني في المقاصد النحوية ( 3 / 435 ) ، إلى عبد الله بن يعرب ، وعجزه : ( أكاد أغص بالماء الحميم ) .
ووافقه في النسبة والعجز : الجرجاوي في شرح شواهد ابن عقيل ( ص 166 ) ، والعدوي في فتح الجليل ( ص 166 ) .
ووافقه في النسبة دون العجز : الشنقيطي في الدرر اللوامع ( 3 / 112 ) ، وعجزه : ( أكاد أغص بالماء الفرات ) ، وابن حمدون في حاشيته على شرح المكودي ( 1 / 345 ) ، وعجزه : ( أكاد أغص بالماء الزلال ) .
ونسبه البغدادي في خزانة الأدب ( 1 / 204 ) ليزيد بن الصعق ، وعجزه : ( أغص بنقطة الماء الحميم ) .
والرواية المحفوظة : ( الحميم ) ، ولكن رواية : ( الفرات ) هي المشهورة ، كما قال ابن يعيش في شرح المفصل ( 4 / 88 ) ، وهي التي رجحها العيني ، والجرجاوي ، والعدوي .
ويرى ابن حمدون أن رواية : ( بالماء الزلال ) مناسبة لمعناها .
(70/150)
والسبب في تفضيلهم رواية : ( الفرات ) على الرواية المحفوظة أن الحميم هو الحار ، والفرات هو العذب ، وهو الأنسب لمعنى البيت ، وأما القائلون بالرواية المحفوظة يقولون أن الشاعر لم يكن مراده بالحميم الماء الحار ، وإنما أورده للقافية ، حيث أن البيت كان آخر أبيات خمسة له .
وقال آخرون أن الحميم من الأضداد ، فيطلق على الحار والبارد ، فيقصد به هنا الماء البارد ، نُقِلَ ذلك عن ابن الأعرابي في تهذيب اللغة للأزهري ( 4 / 15 ) مادة ( حم ) ، ولسان العرب لابن منظور ( 3 / 341 ) مادة ( حمم ) .
وذُكِرَ للبيت عجزاً آخر بلا نسبة : ( أكاد أغص بالماء المعين ) رواه أبو حيان في تذكرته عن الكسائي ، كما نقل ذلك البغدادي في خزانة الأدب ( 1 / 206 ) .
وذكره أيضاً بلا نسبة : الفراء في معاني القرآن ( 2 / 320 ) ، والأزهري في تهذيب اللغة ( 4 / 15 ) مادة ( حم ) ، وابن منظور في لسان العرب ( 3 / 341 ) مادة ( حمم ) ، وابن الناظم في شرح ألفية أبيه ابن مالك ( ص 401 ) ، وابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك ( 2 / 73 ) ، والرضى في شرح الكافية ( 1 / 249 ) و ( 4 / 107 ) ، وأبو حيان في تذكرة النحاة ( ص 527 ) ، والمرادي في شرحه على ألفية ابن مالك ( 2 / 278 ) ، والصفدي في تصحيح التصحيف ( ص 130 ) كلهم برواية : ( الحميم ) ، وذكره الزمخشري في المفصل ( ص 210 ) ، وابن الشجري في الأمالي ( 3 / 203 ) ، وابن هشام في قطر الندى ( ص 21 ) ، والجرجاني في شرح أبيات المفصل ( ص 381 ) ، والأشموني في شرح ألفية ابن مالك ( 2 / 169 ) ، والسيوطي في المطالع السعيدة ( 1 / 83 ) ، كلهم برواية : ( الفرات ) ، وفي لسان العرب لابن منظور ، وتصحيح التصحيف للصفدي :
( وكنت قِدْماً ) بدل ( وكنت قبلاً ) .
[72] - الحدود الأنيقة للأنصاري ص 73 – 75 ،
(70/151)
[73] - التعريفات ، للجرجاني ص 151 ،
[74] - معجم مقاييس اللغة ، لابن فارس ( 3 / 127 ) ،
[75] - انظر في تعريفه مفتاح السعادة ، لطاش كبري زادة ص 530 ومعجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص 256 وللزيادة كتاب ميزان الذهب في صناعة شعر العرب لأحمد الهاشمي ،
[76] - المعيار في أوزان الأشعار للشنتريني ص 62 والعيون الغامزة للدماميني ص 182،
[77] - التكملة والذيل والصلة ، للصغاني ( 6 / 155 ) والتعريفات للجرجاني ص 261 ،
[78] - المنجد لأبي الحسن الهنائي ص 152 ومعجم مقاييس اللغة ، لابن فارس ( 4 / 86 ) ،
[79] - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية ص 429 ،
[80] - أخرجه ابن ماجة ( 4308 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ( 3 / 402 ) برقم 4384 وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 4 / 99 – 100 – 101 ) برقم 1571 ،
[81] - أخرجه البخاري ( 4716 ) ، ومسلم ( 2463 ) ،
[82] - شرح ألفية ابن مالك ، لابن الناظم ص 18 ، وقد شرح الشيخ رحمه الله ألفية ابن مالك شرحاً وافياً ، يسر الله لنا إخراجه ،
[83] - الاستعارة : هي أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه ،
انظر قواعد الشعر لثعلب ص 53 وأسرار البلاغة للجرجاني ص 27 وتحرير التحبير لابن أبي الإصبع ( 1 / 97 ) وخزانة الأدب لابن حجة ( 1 / 109 ) والمثل السائر لابن الأثير ( 1 / 342 ) والصناعتين للعسكري ص 268 ،
[84] - أساس البلاغة ، للزمخشري ص 206 ،
[85] - هو الإمام حقا ، وشيخ الإسلام صدقا ، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي ، ثقة حافظ فقيه حجة ، هو أفضل أهل زمانه ، وهو من الذين انتهى العلم إليهم ، المناضل عن السنة ، الصابر في محنة خلق القرآن ، مات سنة 241 هـ رحمه الله رحمة واسعة ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي ( 11 / 177 ) وتقريب التهذيب لابن حجر ص 98 ،
[86] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 91 وما بعدها ) ،
(70/152)
[87] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 518 ) ( 18 / 313 ، 314 ) ، شرح العقيدة الطحاوية ص 537 – 538 .
[88] - البداية والنهاية لابن كثير ( 7 / 345 – 350 ) ، وقال علي بن المديني : " إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق يوم الردة ، وأحمد بن حنبل يوم المحنة " تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ( 4 / 418 ) ،
[89] - انظر في محنته : سيرة الإمام أحمد بن حنبل ، لابنه أبو الفضل صالح ( ص 48 ـ 65 ) ، والطبقات الكبرى لابن سعد ( 7 / 253 ) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 1 / 309 ) وحلية الأولياء لأبي نعيم ( 9 / 193 - 206 ) وتاريخ الأمم والملوك للطبري ( 5 / 186 - 194 ) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ( 2 / 218 - 223 ، 230 ) والكامل في التاريخ لابن الأثير ( 6 / 3 ) والمنتظم لابن الجوزي ( 6 / 267 ، 274 – 288 ) وغيرهم ،
وأما الذين أفردوا مصنفات في محنته : كابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل ، ذكر ( محنة الإمام أحمد بن حنبل ) وهو مطبوع ، وعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ( محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ) وهو مطبوع ،
[90] - لسان العرب ، لابن منظور ( 3 / 14 ) ،
[91] - قال إبراهيم الحربي : ( كأن الله قد جمع له علم الأولين من كل صنف ، يقول ما يرى ، ويمسك ما شاء ) طبقات الحنابلة لأبي يعلى ( 1 / 6 ) ،
[92] - قال الخلال : ( كان أحمد قد كتب كُتُب الرأي وحفظها ، ثم لم يلتفت إليها ) سير أعلام النبلاء للذهبي ( 11 / 188 ) ،
[93] - جامع البيان للطبري ( 3 / 325 – 326 – 327 ) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 4 / 79 ) ومعالم التنزيل للبغوي ( 2 / 60 ) ،
[94] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 9 / 82 ) ،
(70/153)
[95] - وشيبان التي ينسب إليها الإمام أحمد من بني بكر بن وائل ، انظر جمهرة النسب للكلبي ص 483 والأنساب للسمعاني ( ورقة 343 / أ ) واللباب في الأنساب لابن الأثير ( 2 / 219 ) والأنساب المتفقة للقيسراني ص 84 ،
وانظر في نسبته إلى شيبان : تهذيب الكمال للمزي ( 1 / 442 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 11 / 178 ) والمنهج الأحمد للعليمي ( 1 / 70 ) والإكمال لابن ماكولا ( 2 / 563 ) وطبقات المفسرين للداودي ( 1 / 70 ) والمقصد الأرشد لابن مفلح ( 1 / 64 ) وطبقات الحنابلة لأبي يعلى ( 1 / 4 ) والوافي بالوفيات للصفدي ( 6 / 363 ) ووفيات الأعيان لابن خلكان ( 1 / 63 ) ،
[96] - منها على سبيل المثال لا الحصر ( سيرة الإمام أحمد ) لابنه صالح ، و ( مناقب الإمام أحمد ) لابن الجوزي ، و ( الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل ) لابن أبي بكر السعدي وهي مطبوعة ، و ( مناقب أحمد بن حنبل ) لتقي الدين المقريزي ، و ( امتحان أحمد بن حنبل ) لأبي طاهر القرشي وهما مخطوطان ،
[97] - هو عبدالله بن هارون الرشيد تولى الخلافة بعد قتل أخيه واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر ، وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة ، وقد أضاف إلى بدعتيه هاتين البدعة النكرى والطامة الكبرى وهي القول بخلق القرآن، وفتن المسلمين بها ، وتوفي سنة 218 هـ ، وهو على عقيدته الباطلة التي أوصى أخيه المعتصم بأن يجمع الناس عليها بالقوة والإكراه ، فالله حسيبه ، انظر بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 80 ) والبداية والنهاية لابن كثير ( 7 / 280 ) ،
[98] - وهي في سنة 217هـ ، البداية والنهاية لابن كثير ( 7 / 278 ) ،
(70/154)
[99] - سير أعلام النبلاء للذهبي ( 10 / 273، 278 ) ، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي ( 2 / 225 ) ، تاريخ الخميس للديار بكري ( 2 / 334 ) ، فوات الوفيات للكتبي ( 2 / 235 ) صون المنطق والكلام للسبوطي ص 8 نقلاً عن الصفدي من كتابه شرح لامية العجم ، الفهرست لابن النديم ص 504 وتاريخ ابن خلدون ( 1 / 646 ) ، طبقات الأمم لصاعد ص 128 طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل ص 67 ،
[100] - هو محمد بن نوح المضروب ، كان أحد المشهورين بالسنة ، صبر مع الإمام أحمد في المحنة ، توفي سنة 218 هـ ، وصلى عليه الإمام أحمد ، رحمهما الله ، انظر تاريخ بغداد للخطيب ( 3 / 322 ) ،
[101] - سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص 60 ، 62 ،
[102] - قال إسحاق بن راهويه : " لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام " طبقات الحنابلة ( 1 / 13 ) ،
[103] - حلية الأولياء ، لأبي نعيم ( 9 / 206 ) ،
[104] - المحيط في اللغة ، للصاحب ( 8 / 201 ) ،
[105] - زاد المعاد ( 4 / 376 ) لابن القيم ،
[106] - أخرجه مسلم ( 2985 ) .
[107] - أخرجه مسلم ( 2726 ) .
[108] - التعريفات ، للجرجاني ( ص 101 ) ،
[109] - انظر تعريف السنة في فتح الباري لابن حجر ( 7 / 159 ) ( 9 / 105 ) ، نزهة النظر لابن حجر ص 52 ، اختصار علوم الحديث لابن كثير ( 1 / 147 ) ، شرح على شرح النخبة لعلي القاري ص 153 ،
[110] - فتح الباري لابن حجر ( 11 / 112 ) ،
[111] - المحكم ، لابن سيده ( 6 / 354 ) ،
[112] - جمهرة اللغة لابن دريد ( 1 / 21 ) ،
[113] - أخرجه الترمذي ( 2640 ) وقال حديث حسن صحيح ، وأبو داود ( 4596 ) وابن ماجة ( 3991 ) وأحمد ( 16329 – 27510 ) والدارمي ( 2518 ) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 1 / 402 – 414 ) برقم 203 – 204 .
[114] - أخرجه البخاري ( 6889 ) ومسلم ( 2669 ) ،
[115] - السيرة النبوية لابن هشام ( 1 / 276 ) ،
(70/155)
[116] - وذلك في قوله تعالى عنه : â (#r??ysy_ur $pk?5 !$yg÷FsYs)??oK??$#ur ?N?k?¦à?Rr& $VJù=à? #vqè=??ur 4 ? ( النمل : 14 ) ،
[117] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 109 ) ،
[118] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 109 ، 476 – 477 ) ( 2 / 135 ) ،
[119] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 380 ) ،
[120] - العقيدة الواسطية ( ص 4 ) ،
[121] - الرسالة التدمرية لابن تيمية ( ص 271 التحفة المهدية ) ،
[122] - أخرجه الللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة عن الأوزاعي والثوري ومالك والليث ( 3 /431، 503 ، 527 ، 558 ) وكتاب الصفات للدارقطني ص 69- 72 ، 75 والرد على من يقول القرآن مخلوق للنجاد ص 31 ، 32 ،
[123] - درء تعارض العقل والنقل ( 1 / 205 ) ،
[124] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 46 – 49 ) ( 2 / 90 ) ،
[125] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 264 ) ،
[126] - الرسالة التدمرية ص 69 والقواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين ص 47 ،
[127] - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي ( 3 / 398 ) ،
[128] - الإرشاد للجويني ص 301 ، أساس التقديس ص 220 ، والمحصل ص 142 كلاهما للرازي ،
وانظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ( 1 / 4 ) ، والصواعق المرسلة لابن القيم ( 1/ 107 ـ المختصر ) ،
[129] - أخرجه الللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 3 / 587 – 588 ) ،
[130] - الرسالة التدمرية ص 79 والتسعينية ( 3 / 751 ) ،
[131] - الجهمية : من الفرق المبتدعة الضالة ، وهم ينسبون إلى الجهم بن صفوان ، أُسُّ الضلال وأكبر شياطينهم ، ينفون عن الله جميع الأسماء والصفات ، ويقولون أن الإنسان مجبور لا اختيار له ، وأن الإيمان بالله هو المعرفة فقط ، والكفر هو الجهل به ، فأصبح اسمهم علم على من عطل الصفات ، وإن كانت قليلة يقال : فيه تجهم ،
(70/156)
انظر : عقائد الثلاث والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني ( 1 / 273 ) والفرق بين الفرق لابن طاهر البغدادي ص 211 وتلخيص البيان للفخري ص 187 ومقالات الإسلاميين للأشعري ( 1 / 214 ) والحور العين للحميري ص 255 والتبصير بالدين لأبي المظفر ص 97 والبرهان للسكسكي ص 34 وتاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي ص 9 ،
[132] - المعتزلة : من الفرق الضالة المعادية لأهل السنة والجماعة ، ورأس الاعتزال فيها هو واصل بن عطاء وتبعه عمرو بن عبيد ، وأرجح ما قيل في سبب تسميتهم أن واصلا كان تلميذا عند الحسن البصري فخالفه في حكم مرتكب الكبيرة وقال أنه في منزلة بين منزلتين ، فاعتزل حلقة الحسن ، فقال الحسن : " اعتزلنا واصل " فأطلق عليه وعلى من تبعه معتزلة ، وهم يقولون بخلق القرآن ، وبنفي الصفات ، وأن العبد يخلق أفعاله ، ولهم أصول ظواهرها تخالف بواطنها ، قالوا بالتوحيد ، وأرادوا به نفي الصفات ، وقالوا بالعدل وأرادوا به نفي القدر ، وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين وأرادوا بها أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، وقالوا بالوعد والوعيد وأرادوا به أن مرتكب الكبيرة إذا مات خلد في النار ، وقالوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأرادوا به وجوب الخروج على الحكام عند الظلم ،
ذكر مذاهب الفرق لليافعي ( ص 49 ) ، الملل والنحل للبغدادي ( ص 82 ) ، التبصير بالدين لأبي المظفر ( ص 24 ، 57 ) ، التنبيه والرد للملطي ( ص 49 ) ، البرهان للسكسكي ( ص 49 ) ، الملل والنحل للشهرستاني ( 1 / 48 ) ، اعتقادات الفرق للرازي ( ص 34 ) ، الصفات الإلهية للوكيل ( ص 104) ، تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي ( ص 56 ) ، المنية والأمل للمرتضي ( ص 3 ) ، وانظر المعتزلة للمعتق ،
(70/157)
[133] - الأشاعرة : هي فرقة تنسب إلى علي بن إسماعيل ، المشهور بأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني الذي سلك فيه طريقة ابن كلاب بعد أن رجع عن الإعتزال وقبل أن يستقر أمره على مذهب السلف ، حيث صرح في كتابه الإبانة ـ وهو ثابت النسبة إليه ـ اتباعه لمذهب السلف ، ولكنه لم يسلم من والوقوع في بعض الأخطاء ، وقد سلك منهج الأشعري رحمه الله - قبل توبته - وقال بأقواله وحمل مذهبه جيلا بعد جيل جماعة ، كالغزالي ، والجويني ، والشهرستاني ، والرازي - قبل توبتهم - وغيرهم ، الذين عرفوا بالأشاعرة ، وقد اثبت الأشاعرة بعض صفات الله بالعقل مع تأويلهم لبعضها ونفوا باقي الصفات ، وهم في الإيمان مرجئة ، وفي القدر جبرية ، وينكرون السببية في أفعال المخلوقات ، وينكرون المعرفة الفطرية لله سبحانه ويشترطونها بالنظر ، ويرون أنفسهم بأنهم أهل السنة والجماعة ! انظر الإبانة للأشعري ص 20 والملل والنحل للشهرستاني ( 1 / 94 ) وتبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 152 ، 177 والفرق بين الفرق للبغدادي ص 323 والتبصير في الدين لأبي المظفر ص 139 والصفات الإلهية للوكيل ص 12 وانظر منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف ،
[134] - شرح حديث النزول ص 72 وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 505 وما بعدها ، 550 ، 618 ) ،
[135] - انظر كلام شيخ الإسلام في شبهة التجسيم في : بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 29 ، 50 ، 505 وما بعدها ، 550 ، 605 ، 618 ) ( 2 / 93 ) والرسالة التدمرية ص 35 ، 120 ، 133 ومجموع الفتاوى ( 4 / 144 ) ( 5 / 176 ، 418 – 419 ، 428 – 434 ) ( 13 / 146 ) والرد على المنطقيين ص 224 وما بعدها والفتوى الحموية الكبرى ص 54 ،
[136] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 520 ) ( 2 / 115 – 130 ، 217 ، 202 ) والتسعينية ( 1 / 187 ، 221 وما بعدها ) والرسالة التدمرية ص 67 ،
[137] - أخرجه مسلم ( 537 ) ،
(70/158)
[138] - أخرجه البخاري ( 2457 ) وأخرجه مسلم ( 1832 ) بلفظ : ( ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال : اللهم هل بلغت مرتين ) .
[139] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 520 ، 582 – 593 – 608 ) ( 2 / 115 – 130 ، 202 ، 217 ) والتسعينية ( 1 / 187 ، 226 وما بعدها ) والرسالة التدمرية ص 67 ،
[140] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 48 ، 511 ) ( 2 / 248 ) ،
[141] - هو قيس بن عمرو بن مالك الحارثي ، الملقب بالنجاشي نسبة إلى أمه كانت من الحبشة ، وهو شاعر مخضرم ، اشتهر في الجاهلية والإسلام ، توفي في حدود سنة 40 هـ ، سمط اللآلي للبكري ( 2 / 890 ) والبيت ذكره ابن قتيبة في الشعر والشعراء ( 1 / 331 ) ،
[142] - هو قُرَيْط بن أُنَيْف العنبري ، من بني العنبر بن عمرو بن تميم ، من شعراء الحماسة ، قد أغار عليه أناس من بني شيبان فأخذوا له ثلاثين بعيراً ، فاستنجد قومه فلم ينجدوه ، فأتى مازن تميم فركب معه نَفَرٌ فأَطْرَدُوا لبني شيبان مائة بعير فدفعوها إليه ، فقال هذه الأبيات . هذا ما يعرف عنه ، وذكر العيني في المقاصد النحوية ( 3 / 72 ، 277 ) ، والبغدادي في خزانة الأدب ( 3 / 332 ) ، وحاشيته على شرح بانت سعاد ( 1 / 432 ) أنه شاعر إسلامي ، وجعله الدكتور يحيى شامي في موسوعة شعراء العرب ( ص 147 ) من شعراء صدر الإسلام ، إلا أن الزركلي ذكر في الأعلام ( 5 / 195 ) أنه شاعر جاهلي ! ولم يتعقبه محمد الرشيد في كتابه : " الإعلام بتصحيح كتاب الأعلام " .
(70/159)
[143] - ذُكِرَت هذه الأبيات وغيرها منسوبة إليه باسمه كما في شرح الحماسة للتبريزي ( 1 / 10 ) ، والمثل السائر لابن الأثير ( 2 / 273 ) ، والبغدادي في خزانة الأدب ( 3 / 332 ) ، وحاشيته على شرح بانت سعاد ( 1 / 432 ) ، وشرح الجرجاوي على شواهد ابن عقيل ( ص 118 ) ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ( 1 / 68 ) ، والدرر اللوامع للشنقيطي ( 3 / 80 ) ، والمقاصد النحوية للعيني ( 3 / 72 ، 277 ) ، وسمط اللآلي للبكري ( 1 / 545 ) ، وفتح الجليل للعدوي ( ص 118 ) ، والمفضل لأبي فراس الحلبي ( ص 42 ، 301 ، 329 ) ، وتارة نسبة إليه بنسبه ( العنبري ) كما في شرح الحماسة للمرزوقي ( 1 / 24 ) ، والخصائص لابن جني ( 2 / 270 ) ، ولسان العرب لابن منظور ( 5 / 259 ) مادة ( ركب ) ، وشرح المفصل لابن يعيش ( 6 / 102 ) ، وتارة بوصفه ( الحماسي ) كما في جواهر الأدب للإربلي ( ص 46 ) ، ومغني اللبيب لابن هشام ( 1 / 121 ) ، والغيث المسجم للصفدي ( 1 / 330 ) ، وهمع الهوامع للسيوطي ( 2 / 336 ) ، وصبح الأعشى للقلقشندي ( 1 / 286 ) ، والتبيان للطيبي ( ص 344 ) ، وشرح الكافية البديعية للحلي ( ص 85 ) ، والجنى الداني للمرادي ( ص 40 ) ، وقراضة الذهب للتائب ( ص 107 ) ، وتارة إلى بعض شعراء ( بني العنبر ) كما في عيون الأخبار لابن قتيبة ( 1 / 188 ) ، وبلا نسبة كما في مجالس ثعلب لأبي العباس ( 2 / 405 ) ، وارتشاف الضرب لأبي حيان ( 4 / 1696 )، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ( ص 316 ) ، والعقد الفريد لابن عبد ربه ( 2 / 331 ) ، وشرح ابن عقيل ( 2 / 189 ) ، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك ( 2 / 88 ) ، والتهذيب الوسيط لابن يعيش _ وهو غير ابن يعيش شارح المفصل _ ( ص 157 ) ، ومقاييس اللغة لابن فارس ( 5 / 219 ) ، وشرح أبيات المفصل للزجاجي ( ص 137 ) ، وتوضيح المقاصد للمرادي ( 2 / 207 ) ، ونكتة الأمثال للكلاعي ( ص 159 ) ، والبلغة للقنوجي ( ص 106 ) .
(70/160)
ويقول في مطلعها :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي .
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا .
ويروى : ( بنو الشقيقة ) بدل ( بنو اللقيطة ) كما في مجالس ثعلب ، وهو ما رجحه البغدادي ، ورجح التبريزي رواية ( بنو اللقيطة ) ، ويروى : ( شدوا الإغارة ) بدل ( شنوا الإغارة ) كما في قراضة الذهب ، وديوان الحماسة بشرح التبريزي ، أما ما في شرح المرزوقي فهي على رواية ( شنوا ) ، وقال العيني عن رواية ( شدوا ) : هي الأصح .
[144] - أخرجه البخاري ( 2385 ) ،
[145] - الرسالة التدمرية ص 31 ومسألة القرآن لابن عقيل ص 77 ،
[146] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 397 ) ،
[147] - التسعينية ( 1 / 232 وما بعدها ) وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على القرامطة ( 2 / 79 وما بعدها ) ،
[148] - الرسالة التدمرية ص 13- 17 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 2 / 26 ) ( 5 / 197 ، 209 ، 274 ، 303 ، 327 ) ( 6 / 35 ، 515 ) ( 12 / 355 ) ومقدمة في أصول التفسير ص 10 – 11 وجواب أهل العلم والإيمان ص 135 – 136 وبغية المرتاد ص 490 – 492 ،
[149] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 12 / 356 – 357 ) ،
[150] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 135 ) ،
[151] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 5 ) (6 / 46 ، 348 ) والرسالة التدمرية ص 43 ،
[152] - حديث قدسي أخرجه البخاري ( 6137 ) ،
[153] - أخرجه البخاري ( 6137 ) .
[154] - حديث قدسي أخرجه مسلم ( 2569) ،
[155] - مجمل اللغة لابن فارس ( 2 / 590 ) ،
[156] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 556 – 592 ) ،
(70/161)
[157] - منهاج السنة النبوية ( 2 / 520 – 522 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 87 ، 89 ، 146 ) ( 3 / 186 ) ( 12 / 176 ) ،
[158] - وهو العلم الذي يقوم على إثبات العقيدة عن طريق العقل ، المواقف للإيجي ص 7 ، شرح المقاصد للتفتازاني ( 1 / 165 ) ، وانظر إحصاء العلوم للفارابي ص 86 ،
[159] - هو محمد بن عمر بن الحسين القرشي ، الرازي المولد ، أبو عبد الله ، وقيل : أبو المعالي ، المعروف بابن خطيب الري ، إمام أهل الكلام في وقته ، صاحب التصانيف في علم الكلام والمنطق المشهورة ، تاب ورجع عن علم الكلام ، وقد ذم الخوض فيه وندم على الاشتغال به كما بَيَّنَ ذلك في وصيته التي أوصى بها في آخر عمره ، مات سنة 606 هـ ، وقيل : مات مسموما ، انظر بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 56 ، 122 ، 625 ) والعبر للذهبي ( 5 / 18 ) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ( 6 / 197 ) ،
[160] - سير أعلام النبلاء للذهبي ( 21 / 501 ) ،
[161] - القائل هو فخر الدين الرازي ، أقسام اللذات للرازي ، عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص 468 ، الإحاطة لابن الخطيب ( 2 / 222 ) ، طبقات الشافعية للسبكي ( 8 / 96 ) ، وفيات العيان لابن خلكان ( 4 / 250 ) ، شذرات الذهب لابن العماد ( 7 / 42 ) ، مرآة الجنان لليافعي ( 4 / 10 ) ، الوافي بالوفيات للصفدي ( 4 / 257 ) ، الفتوى الحموية الكبرى ص 15 ، الصواعق المرسلة لابن القيم ( 1 / 167 ) ،
[162] - في عيون الأنباء وطبقات السبكي : " في غفلة " ، والمثبت في : الإحاطة والوفيات والشذرات والمرآة والوافي ،
[163] - في الوافي : " طول دهرنا " ، والمثبت في باقي المراجع ،
[164] - القول الأول والثاني لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني الفتوى الحموية الكبرى ص 15 والصواعق المرسلة لابن القيم ( 1 / 167 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 122 ) .
(70/162)
[165] - وانظر أقوال السلف في ذم الكلام وأهله في : ذم الكلام للهروي ، وشرح أصول السنة للالكائي ( 1 / 114 - 115 ) و ( 3 / 528 - 533 ) و ( 4/627- 634 ، 706 - 737 ) ، والحجة في بيان المحجة لقوام السنة (1/102 - 106 ) ، والإبانة لابن بطة (1/324 ،390 ) ، وخلق أفعال العباد للبخاري ( ص 118 ) ، والرد على الجهمية للدارمي ( ص 346 - 352 ) ، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ( ص 12 ) ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية ( 5/ 336 ، 337 ، 17 / 304 - 306 ) ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ( 2/92 - 95 ) ، وانظر أيضاً لغيرهم : صون المنطق للسيوطي ، وقواعد العقائد للغزالي ( ص 82 - 111 ) ، وشرح الفقه الأكبر للملا علي القاري ( ص 5 - 12 ) .
[166] - ارجع إلى كلام يُكتب بماء الذهب لشيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 112 ،
[167] - أخرجه البخاري ( 1094 ) ومسلم ( 758 ) .
[168] - أخرجه البخاري ( 629 ) ومسلم ( 1031 ) .
[169] - وإن تخلل قبل موته على الإسلام ردة على الصحيح ، انظر الإصابة ( 1 / 7 ) ، ونخبة الفكر ص 149 – النكت على النزهة ) كلاهما لابن حجر والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح ( 2 / 486 ) للأبناسي وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ( ص 519 ) لزكريا الأنصاري ،
[170] - أخرجه البخاري ( 3470 ) ومسلم ( 2540 ) ،
[171] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 246 ،
[172] - أخرجه الترمذي ( 2641 ) وقال : حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 3 / 334 ) برقم ( 1348 ) .
[173] - ذكر هذا البيت الجويني في لمع الأدلة ص 95 والنسفي في تبصرة الأدلة ( 1 / 184 ) والرازي في أساس التقديس ص 202 والعز بن عبد السلام في الإشارة إلى الإيجاز ص 110 ،
والقاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 226 وزاد فيه : ( فالحمد للمهيمن الخلاق ) ،
(70/163)
وفي المختصر في أصول الدين ( 1/ 216 ) له ضمن رسائل العدل والتوحيد ،
والإيجي في المواقف ص 297 ولكن فيه : ( قد استوى عمرو ) ،
ولم يتعقبه الجرجاني في شرحه له ( 3 / 150 ) ،
وابن القيم في الصواعق المرسلة ( 1 / 359 المختصر ) ولكن بلفظ : ( بشر قد استولى على العراق ) ،
وكلهم ذكروه مجهول النسبة ،
ولكن ذكر الزبيدي في شرحه للإحياء ( 2 / 173 ) أنه منسوب إلى الأخطل ،
وأرجع هذا القول إلى الجوهري ،
وفي الصحاح للجوهري ( 6 / 2385 ) لم ينسبه لأحد ! ،
وانظر لسان العرب لابن منظور ( 6 / 447 ) وجعله محقق ديوانه ضمن ما نسب إليه وليس من أصل ديوانه ( ص 557 ) ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 5 / 146 ) : (أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى ; إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور :
ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا : إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة ; وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه ( الإفصاح ) قال : سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى ؟ فقال : هذا ما لا تعرفه العرب ; ولا هو جائز في لغتها وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل ) ،
[174] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 50 ، 100 ، 505 وما بعدها ، 550 ، 618 ) ،
[175] - شرح حديث النزول ص 74
(70/164)
[176] - ومذهب أهل السنة والجماعة هو أن أول واجب على المكلف هو النطق بالشهادتين انظر درء تعارض العقل والنقل ( 7 / 405 – 464 ) ( 8 / 357 ) ( 9 / 3 – 66 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 16 / 330 – 348 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 2 / 471 وما بعدها ) والاستقامة ( 1 / 142 وما بعدها ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 77 – 78 ،
[177] - درء تعارض العقل والنقل ( 8 / 441 ) وكتاب فطرية المعرفة وموقف المتكلمين منها للدكتور أحمد بن سعد الغامدي ،
[178] - أخرجه البخاري ( 1319 ) ،
[179] - أخرجه مسلم ( 2865 ) ،
[180] - أخرجه مسلم ( 2670 ) ،
[181] - هو عدي بن زيد العبادي شاعر جاهلي نصراني ، وهو أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى ، تزوج هنداً بنت النعمان بن منذر ، ووشى به أعداء له إلى النعمان فسجنه وقتله في سجنه بالحيرة نحو سنة 35 ق هـ ، وقد ابعد النجعة ابن تغري بردي لما اختار أن وفاته في سنة 102هـ ! النجوم الزاهرة ( 1 / 249 ) ، معجم الشعراء للمرزباني ( ص 72 ) ، الأغاني لأبي الفرج ( 2/89 ) ، الإشتقاق لابن دريد ( ص 217 ) شعراء النصرانية قبل الإسلام للويس شيخو ( ص 439 ) ، وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من كتابه طبقات فحول الشعراء ( 1/137 ) ، وقارن ما في كتاب سؤالات أبي حاتم للأصمعي في فحولة الشعراء ( ص 37 ) ،
[182] - الشعر والشعراء لابن قتيبة ( 1 / 227 ) ، وصدره : وقدمت الأديم لراهشيه ،
[183] - نجعة الرائد لليازجي ( 2 / 84 ) ،
[184] - نفس الصباح للخزرجي ( 2 / 489 ) ،
[185] - لمزيد من الفائدة : انظر كتاب الصفات الإلهية للشيخ العلامة السلفي محمد أمان الجامي رحمه الله تعالى ص 207 – 208 ،
[186] - مسألة القرآن لابن عقيل ص 77 ،
[187] - انظر رسالة في هذا النوع من الصفات بعنوان ( رسالة في الصفات الاختيارية ) وهي موجودة في ( جامع الرسائل والمسائل ) ،
(70/165)
[188] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 46 – 49 ) ( 2 / 90 ، 264 ) ،
[189] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 47 ) ،
[190] - أخرجه الترمذي ( 1264 ) وقال : حديث حسن غريب ، وأبو داود ( 3545 ) وأحمد ( 14998 ) والدارمي ( 2597 ) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 4230 ،
[191] - أخرجه البخاري ( 2864 ) ومسلم ( 1066 ) ،
[192] - الحدود الأنيقة للأنصاري ص 71 ،
[193] - لسان العرب لابن منظور ( 5 / 5 ) ،
[194] - انظر منطق المشرقيين لابن سينا ص 78 والرد على المنطقيين ص 225 ،
[195] - اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 279 ، مختصر العلو للحافظ الذهبي ص 255 ،
مع أن لفظ الذات وردت في عدة أحاديث وإثباتها لله تعالى ،
منها : ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ، اثنين منهن في ذات الله عز وجل ) ،
[196] - انظر بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 30 ) ،
[197] - بدائع الفوائد لابن القيم ( 1 / 170 ) ،
[198] - معجم المصطلحات العربية ص 329 ،
[199] - معجم المصطلحات العربية ص 86 ،
[200] - الفتاوى الكبرى ( 6 / 569 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 22 / 482 – 486 ) وبدائع الفوائد لابن القيم ( 1 / 170 – 171 ) ،
[201] - أخرجه أحمد ( 3704 ) ،
[202] - أخرجه البخاري ( 2585 ) ومسلم ( 2677 ) .
[203] - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 1 / 72 ) ،
[204] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 26 ) وبدائع الفوائد لابن القيم ( 1 / 170 ) ورياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين تحقيق عبدالله بن محمد البخاري ص 60 والقواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ص 16 ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 1 / 124 – 125 ) ،
[205] - أخرجه البخاري ( 2310 ) ومسلم ( 2580 ) .
(70/166)
[206] - أخرجه البخاري ( 2804 ) ومسلم ( 1742 ) .
[207] - اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ( ص 279 ) ، مختصر العلو ( ص 255 ) ،
مع أن لفظ الذات وردت في عدة أحاديث وإثباتها لله تعالى ، منها :
ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ، اثنين منهن في ذات الله عز وجل " ،،،،، ،
[208] - أخرجه مسلم ( 179) ، وانظر بغية المرتاد ص 201 ،
[209] - وقد ورد حديث صريح في أن الكلام بصوت وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( فينادى بصوت ) أخرجه البخاري ( 4464 ) .
[210] - الجهمية : من الفرق المبتدعة الضالة ، وهم ينسبون إلى الجهم بن صفوان ، أُسُّ الضلال وأكبر شياطينهم ، ينفون عن الله جميع الأسماء والصفات ، ويقولون أن الإنسان مجبور لا اختيار له ، وأن الإيمان بالله هو المعرفة فقط ، والكفر هو الجهل به ، فأصبح اسمهم علم على من عطل الصفات ، وإن كانت قليلة يقال : فيه تجهم ،
عقائد الثلاث والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني ( 1/ 273 ) ، الفرق بين الفرق لابن طاهر البغدادي (ص 211 ) ، تلخيص البيان للفخري ( ص 178 ) ، مقالات الإسلاميين للأشعري ( 1 / 214 ) ، الحور العين للحميري ( ص 255 ) ، التبصير بالدين لأبي المظفر ( ص 97 ) ، البرهان للسكسكي ( ص 34 ) تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي ( ص 9 )،
(70/167)
[211] - المعتزلة : من الفرق الضالة المعادية لأهل السنة والجماعة ، ورأس الاعتزال فيها هو واصل بن عطاء وتبعه عمرو بن عبيد ، وأرجح ما قيل في سبب تسميتهم : أن واصلا كان تلميذا عند الحسن البصري فخالفه في حكم مرتكب الكبيرة وقال أنه في منزلة بين منزلتين ، فاعتزل حلقة الحسن ، فقال الحسن : ( اعتزلنا واصل ) فأطلق عليه وعلى من تبعه معتزلة ، وهم يقولون بخلق القرآن ، وبنفي الصفات ، وأن العبد يخلق أفعاله ، ولهم أصول ظواهرها تخالف بواطنها ، قالوا بالتوحيد ، وأرادوا به نفي الصفات ، وقالوا بالعدل وأرادوا به نفي القدر ، وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين وأرادوا بها أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، وقالوا بالوعد والوعيد وأرادوا به أن مرتكب الكبيرة إذا مات خلد في النار ، وقالوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأرادوا به وجوب الخروج على الحكام عند الظلم ،
ذكر مذاهب الفرق لليافعي ص 49 ، الملل والنحل للبغدادي ص 82 ، التبصير بالدين لأبي المظفر ص 24 ، 57 ، التنبيه والرد للملطي ص 49 ، البرهان للسكسكي ص 49 ، الملل والنحل للشهرستاني ( 1 / 48 ) ، اعتقادات الفرق للرازي ص 34 ، الصفات الإلهية للوكيل ص 104 ، تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي ص 56 ، المنية والأمل للمرتضي ص 3 ، وانظر المعتزلة للمعتق ،
[212] - شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ( ص 528 ) ، الملل والنحل للشهرستاني ( 1 / 45، 88 ) ، الفصل في الملل لابن حزم ( 3 / 11 ) ، الصفدية لابن تيمية ( 2 / 54 ) ،
(70/168)
[213] - هو الحلولي الإتحادي المتهم بالإلحاد والزندقة محمد بن علي الحاتمي المعروف بابن عربي النكرة الذي فاقت مقالاته مقالات الأديان والفرق الخارجة عن الإسلام مجتمعة ، حيث يرى أن الله إنسان كبير ، وأن الله مفتقر إلى خلقه ، وأن كل شيء هو رب وإله ، فيرى أن الطبيعة هي الله ، وأن الكون هو الرب ، وأن الهوى رب أيضاً ، وتمجيده لليهودية عباد العجل ، والنصارى عباد عيسى ، والمجوسية عباد النار ، والوثنية عباد الأصنام، وزعم أنه اجتمع بالأنبياء ، ويرى أنه يتلقى الوحي من الله تعالى ، وقوله بوحدة الأديان ، وأنه يعلم الغيب ، وأن الكعبة طافة به ، ويرى بإيمان فرعون وربوبيته ، ويعتقد بعقيدة التثليث التي اخترعها ، وهي : ( حق - رجل - امرأة ) ، ويرى أن أكمل صورة لله هي المرأة، ويرى أن الأنوثة صفة الإله ، وكان يعمل بالسحر ، وكان باطني المذهب ، وكان لا يحرم فرجاً ، ولقد أعانه إبليس على جمع كفره وزندقته في كتابين سماهما بهتاناً وزوراً ( الفتوحات المكية )، وهو بالفتوحات الشيطانية أصدق ، و ( فصوص الحكم ) وهو بفصوص الظُّلم أحق ، الذي قال عنه الذهبي ( فإن كان لا كفر فيه ، فما في الدنيا كفر ! ) ، ولقد أطبق العلماء – جزاهم الله عن الإسلام خيراً - على تكفيره ، بل وقال بعضهم بتخليده في النار إن كان مات على زندقته ، وقد تبشر المسلمون بهلاكه سنة 638 هـ ،
انظر نفح الطيب للتلمساني ( 2 / 161 ) وشذرات الذهب لابن العماد ( 7 / 332 ) وجامع كرامات الأولياء للنبهاني ( 1 / 198 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 23 / 48 ) ، والعقد الثمين للفاسي ( 2 / 160 ) وطبقات الأولياء لابن الملقن ( ص 469 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 491 ) ، ( 10 / 162 ) ، وانظر كتاب تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للبقاعي ،
(70/169)
[214] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 2 / 352 ) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ( ص 172 ) ، الصواعق المرسلة لابن القيم ( 2 / 472 - المختصر ) ، شرح نونية ابن القيم للهراس ( 1 / 135 ، 151 ) ، الفتوحات المكية لابن عربي ( 3 / 132 ) ، ( 4 / 141 ) والذي في الفتوحات : ( ألا كل قول ،،،،، أو نظامه ) ، والمثبت كما في المراجع الأخرى ،
[215] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 81 ، 86 ) ،
[216] - الأشاعرة : هي فرقة تنسب إلى علي بن إسماعيل ، المشهور بأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني الذي سلك فيه طريقة ابن كلاب بعد أن رجع عن الإعتزال وقبل أن يستقر أمره على مذهب السلف ، حيث صرح في كتابه الإبانة ـ وهو ثابت النسبة إليه ـ اتباعه لمذهب السلف ، ولكنه لم يسلم من والوقوع في بعض الأخطاء ، وقد سلك منهج الأشعري رحمه الله ـ قبل توبته ـ وقال بأقواله وحمل مذهبه جيلا بعد جيل جماعة ، كالغزالي ، والجويني ، والشهرستاني ، والرازي ـ قبل توبتهم ـ وغيرهم ، الذين عرفوا بالأشاعرة ، وقد اثبت الأشاعرة بعض صفات الله بالعقل مع تأويلهم لبعضها ونفوا باقي الصفات ، وهم في الإيمان مرجئة ، وفي القدر جبرية ، وينكرون السببية في أفعال المخلوقات ، وينكرون المعرفة الفطرية لله سبحانه ويشترطونها بالنظر ، ويرون أنفسهم بأنهم أهل السنة والجماعة ! ، الإبانة للأشعري ( ص 20 ) ، الملل والنحل للشهرستاني ( 1 / 94 ) ، تبيين كذب المفتري لابن عساكر ( ص 152 ، 177 ) ، الفرق بين الفرق للبغدادي ( ص 323 ) ، التبصير في الدين لأبي المظفر ( ص 139 ) ، الصفات الإلهية للوكيل ( ص 12 ) ، وانظر منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف ،
[217] - التسعينية ( 1 / 228 ) جامع الرسائل والمسائل ( 2 / 4 وما بعدها ) ومسألة القرآن لابن عقيل ص 61 – 109 ،
[218] - كتاب الإيمان ص 162 ،
(70/170)
[219] - الإنصاف للباقلاني ص 109 ، لمع الأدلة للجويني ص 91 ، المواقف للإيجي ص 293 ، الأربعين في أصول الدين للرازي ( 1 / 250 ) ، شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 41 ،
وانظر منهاج السنة النبوية ( 3 / 353 ) وجامع الرسائل والمسائل ( 2 / 11 – 13 ) ،
[220] - بغية المرتاد ص 302 ،
[221] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 12 / 29 ) .
[222] - هو غياث بن غوث التغلبي النصراني ، شاعر بني أمية ، الملقب بالأخطل ، ومعناه : السفيه ، ومن سفهه أنه هجا نفسه ، وكان من المولدين ، بذيء اللسان ، كثير الهجاء ، ولما دعاه الخليفة إلى الإسلام رفض في إباء ، وهجا الإسلام وخصومه من المسلمين ، ومع ذلك لم يكن أكثر مراعاة للتعاليم النصرانية ، ولم يجمع النحاة على تفضيله على غيره من شعراء عصره ، ولم يكن شاعراً مطبوعاً ، كان يعد لقصيدته ثم يختار منها أبياتاً لنشرها ، وعده بعضهم من فحول شعراء وقته ، مات سنة 90 هـ ، طبقات فحول الشعراء للجمحي ( 1 / 298 ، 462 ، 471، 493 ) ، الشعر والشعراء لابن قتيبة ( 1 / 483 ) ، الأغاني لأبي الفرج ( 8 / 290 ) ، دائرة المعارف الإسلامية ( 1 / 515 ) ، شعراء النصرانية بعد الإسلام للويس شيخو ( ص 170 ) ،
[223] - نسبه إلى الأخطل : الوشاء في الموشّى ( ص 8 ) وفيه ( من الفؤاد ) ، وابن هشام في شذور الذهب ( ص 35 ) ، والباقلاني في الإنصاف ( ص 110 ) ، وفي التمهيد ( ص 284 ) له ، لكن برواية : ( من الفؤاد ) ، والجويني في لمع الأدلة ص 91 ، والنسفي في تبصرة الأدلة ( 1 / 283 ) واعتمد رواية : ( من الفؤاد ) بدلا من : ( لفي الفؤاد ) والتفتازاني في شرح العقائد النسفية ص 41 ،
وجعله محقق ديوانه ضمن ما نسب إليه وليس من أصل ديوانه ص 560 ،
(70/171)
ومن أبطل نسبته وأثبت أنه ليس في ديوانه : أبو محمد الخشاب اللغوي النحوي ، كما في البرهان في بيان القرآن لابن قدامة ( ص 74 ) وكتاب الإيمان لابن تيمية ( ص 132 ) ، ومختصر العلو للذهبي ( ص 285 ) ، وأبطله العلاء المرداوي أيضاً ، كما في شرح الإحياء للزبيدي ( 2 / 232 ) ،
وعلى فرض ثبوته له ، أن نص البيت هو : ( إن البيان من الفؤاد ) ، ولكنه حُرِّفْ ، كما قال السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( ص 82 ) وابن أبي العز في شرح الطحاوية ( ص 184 ) وأبو البيان كما في الصواعق المرسلة لابن القيم ( 1 / 344 ) ،
ومنهم من أثبته لابن ضمضم وليس للأخطل على رواية : ( إن البيان ) : كالفتوحي في شرح الكوكب المنير ( ص 173 ) ، وفي شرح الإحياء للزبيدي ( 2 / 232 ) ،
ومنهم من لم ينسبه لأحد : كابن يعيش في شرح المفصل ( 1 / 21 ) والغزالي في الإحياء ( 2 / 231 ـ الشرح ) ،
[224] - انظر ما سبق ،
[225] - وانظر ردود العلماء الشافية على هذا في البرهان في بيان القران لابن قدامة ( ص 75 ــ 77 ) ، وكتاب الإيمان لابن تيمية ( ص 132 ) ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ( ص 184 ) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم ( 3 / 261 ) ، والعلو للذهبي ( ص 284 – المختصر ) ، وشرح نونية ابن القيم ( 1 / 270 ) لابن عيسى ، وشرح نونية ابن القيم ( 1 / 112 ) للهراس ، والماتريدية لشمس الأفغاني ( 3 / 144 ) ،
[226] - الرد على المنطقيين ص 229 – 233 ،
[227] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 529 ) ( 12 / 44 ) ( 16 / 329 ) وجامع الرسائل والمسائل ( 2 / 221 ) ،
[228] - أخرجه مسلم ( 179 ) ،
[229] - أخرجه مسلم ( 179 ) ،
[230] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 345 ) ،
[231] - الاستقامة ( 1 / 433 ) ،
(70/172)
[232] - البيت موجود في ديوانه ( ص 25 ) ، وعجزه : ( بقسط اللوى بين الدخول فحومل ) ، وقصيدته أولى المعلقات السبع ، والبيت هو مطلعها ، شرح المعلقات السبع للزوزني ( ص 13 ) ، وانظر للفائدة اختلافهم في قوله : ( قفا ) ، في شرح القصائد العشر للتبريزي ( ص 2 ) ، وانظر في سبب تسميتها بالمعلقات ، شرح القصائد المشهورات لابن النحاس ( 2 / 125 ) .
[233] - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي ، وهو من أشهر شعراء العرب في الجاهلية ، وأحد أصحاب المعلقات المشهورة ، وامرؤ القيس لقبه ، واسمه خندج ، وقيل غيره ، مات نحو 80 ق هـ ، جعله ابن سلام في الطبقة الأولى من فحول الجاهلية . طبقات فحول الشعراء لابن سلام ( 1 / 51 ) ، الشعر والشعراء لابن قتيبة ( 1 / 105 ) ، المؤتلف والمختلف للآمدي ( ص 10 ) ، الأغاني لأبي الفرج ( 9 / 93 ) ، خزانة الأدب للبغدادي ( 1 / 160 ) و ( 3 / 609 ) .
[234] - أخرجه البخاري ( 6137 ) .
[235] - هو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، المشهور بـ ( ابن قيم الجوزية ) نشأ في بيت علم ، فبرع في العلوم والفنون ، عني بالحديث متونه ورجاله والتفسير والأصول من المنطوق والمفهوم والفقه واللغة والنحو ، وكان أديباً واعظاً خطيباً، فصنف وناظر واجتهد وصار من الأئمة الكبار ، ففاق أقرانه واشتهر في الآفاق ، فكان واسع العلم عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف ، وكان من أبرز تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث أنه لازمه إلى أن مات ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما حواه من علوم فصار فريدً في بابه ، توفي رحمه الله سنة 751 هـ ،
(70/173)
انظر البداية والنهاية لابن كثير ( 9 / 491 ) وجلاء العينين للآلوسي ص 44 والبدر الطالع للشوكاني ( 2 / 143 ) والنجوم الزاهرة لابن تغري ( 10 / 249 ) وبغية الوعاة للسيوطي ( 1 / 62 ) والرد الوافر لابن ناصر ص 124 والمعجم المختص للذهبي ص 269 والدرر الكامنة لابن حجر ( 4 / 21 ) والفتح المبين للمراغي ( 2 / 161 ) ،
[236] - مفتاح دار السعادة لابن القيم ( 1 / 268 ) ،
(70/174)
فصل
في مبحث القرآن العظيم
وبيان اختلاف الناس فيه ومذهب السلف
40 – وأن ما جاء مع جبريل ،
من محكم القرآن والتنزيل ،
لما ذكر المؤلف ما ذكر من صفات الله عز وجل وهي الصفات الني اتفق عليها أهل السنة والأشاعرة على خلافٍ بينهم في الإيمان بهذه الصفات أي في كيفية الإيمان بها ذكر الكلام على القرآن الكريم ،
قوله : ( وإن ) : يجوز في : ( إن ) : الفتح عطفاً على قوله : ( بأنه واحد ) : أي ومن الواجب أن ما جاء مع جبريل من محكم الآيات كلامه ويجوز الكسر ولعله أظهر ،
قوله : ( وأن ما جاء مع جبريل ) : من عند الله عز وجل كما قال تعالى : : { وإنه لتنزيلٌ من رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك } ( الشعراء 192 – 194 ) .
وجبريل أحد الملائكة الكرام العظام وهو موكل بالوحي تنزل به على الأنبياء .
وربما وكل بغير ذلك كما في قوله تعالى في قصة مريم : { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياَّ } ( مريم 17 ) .
لكن العمل الموكل إليه في الأصل هو نزول الوحي على الأنبياء ،
ولهذا يقال : ثلاثة من الملائكة علمنا بأنهم موكلون بما فيه الحياة : جبريل وميكائيل وإسرافيل :
فجبريل موكل بما فيه حياة القلوب ،
وميكائيل موكل بما فيه حياة النبات بالقطر ،
واسرافيل موكل بما فيه بعث الأجساد بعد الموت وهو النفخ في الصور ،
وأشرفها وأعلاها ما فيه حياة القلوب ،
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر هؤلاء الثلاثة في افتتاح صلاة الليل حيث يقول في افتتاح صلاة الليل : ( اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم ) [1] ،
(71/1)
وصف الله تعالى جبريل بأنه أمين فقال : { إنه لقول رسولٍ كريم ، ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين ، مطاعٍ ثم أمين } ( التكوير 19 – 21 ) .
ووصفه بالقوة { علمه شديد القوى ، ذو مرة فاستوى } ( النجم 5 – 6 ) .
فاجتمع في حق جبريل عليه السلام القوة والأمانة ،
فبأمانته نعلم أنه لا زيادة ولا نقص في القرآن الذي أوحاه الله إليه ليلقيه على قلب النبي عليه الصلاة والسلام ،
وبالقوة نعلم انه لا أحد تسلط على القرآن حين نزول جبريل به أو غلبه عليه أو توانى جبريل في تنزيله لأنه قويٌ يستطيع الدفع ولا يقربه أحد فجبريل عليه الصلاة والسلام جاء بالوحي من الله عز وجل ولهذا قال : ( من محكم القرآن والتنزيل ) ،
قوله : ( محكم القرآن ) : من باب إضافة الصفة إلى موصوفها أي من القرآن المحكم والقرآن المحكم أي متقن من كل وجه ،
أخباره محكمة ليس فيها كذب ،
أحكامه محكمة ليس فيها جور ،
مدلولاته محكمة ليس فيها تناقض ،
واعلم أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه حكيم ،
ووصفه كله بأنه متشابه ،
ووصفه بأن بعضه محكم وبعضه متشابه [2] ،
فهذه ثلاث صفات :
1. وصفه بأنه محكم في قوله : { كتابٌ أحكمت آياته } ( هود 1 ) ، وفي قوله : { تلك آيات الكتاب الحكيم } ( يونس 1 ) .
2. ووصفه بأنه متشابه في قوله : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } ( الزمر 23 ) .
3. ووصفه بأن بعضه محكم وبعضه متشابه في قوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأُخَرُ متشابهات } ( آل عمران 7 ) .
ولكل من هذه الأوصاف وجه :
أما وصف كونه بأنه محكم : فلأن القرآن كله متقن لا يكذب بعضه بعضا ولا يناقض بعضه بعضاً وليس فيه شيءٌ من الباطل { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } ( فصلت 42 ) .
وأما وصفه كله بأنه متشابه : فلأنه يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة والمنافع العظيمة ،
(71/2)
وإن كان يتفاوت في هذا الوجه لكنه يشبه بعضه بعضاً [3] ،
والتفاوت باعتبار المتكلم به ممنوع ،
لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل ،
وأما باعتبار مدلول الكلام فإنه واقع الاختلاف بينه ،
فأعظم سورة في كتاب الله : الفاتحة ،
وأعظم آية : آية الكرسي .
و { قل هو الله أحد } ( الإخلاص 1 ) تعدل ثلث القرآن ،
وليست السورة التي قبلها بمنزلتها في الدلالة العظيمة ،
فسورة { تبت } ليست في موضوعها ومدلولها كسورة { قل هو الله أحد } مثلاً ،
إذن هو متشابه من حيث الكمال والجودة ،
أما وصف بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه :
فأرجح الأقوال أن المحكم : ( ما اتضح معناه ) ،
والمتشابه : ( ما خفي معناه ) [4] ، لأنه يشتبه على بعض الناس دون بعض ولكن الذين آتاهم الله العلم يردون هذا المتشابه الخفي المعنى إلى المحكم الواضح فيكون القرآن كله واضحاً بهذا الاعتبار ،
قوله : ( من محكم التنزيل ) : التنزيل بمعنى المنزل ،
لأن التنزيل فعل المنزل وهنا منزل وتنزيل ومنزل إليه وواسطة ،
المنزل الله عز وجل ،
والتنزيل فعله ،
والمنزل إليه محمد صلى الله عليه وسلم ،
والواسطة جبريل عليه السلام ،
قوله : ( من محكم القرآن ) : القرآن ما يقرأ فهو مصدر بمعنى اسم المفعول .
فإن قلت : هل يأتي المصدر على وزن فعلان ؟
الجواب : نعم يأتي على وزن فعلان كالغفران والشكران والكفران والطغيان وما أشبه ذلك .
فالقرآن مصدر بمعنى اسم المفعول .
لأنه مقروء .
وقيل : بمعنى اسم الفاعل .لأنه قارئ أي جامع لكل ما تتضمنه الكتب السابقة .
كما قال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } ( المائدة 48 ) .
******************
41 – كلامه سبحانه قديم ،
أعيى الورى بالنص يا عليم ،
(71/3)
هذا القرآن كلام الله عز وجل تكلم به حقيقة بحروفه ومعانيه فهو كلام الله الحروف والمعاني ليس كلام الله هو الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف كلام الله حقيقة سمعه جبريل من الله ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ،
قوله : ( سبحانه ) : أي تنزيهاً له عن صفات النقص وعن نقص كماله وعن مماثلة المخلوقين ،
لأن الله ينزه عن هذه الأشياء الثلاثة ،
فمثال نقص الكمال الذي ينزه الله عنه : ما ادعاه اليهود عليه لعنة الله حيث قالوا إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فتعب واسترح وقد كذب الله قولهم هذا في قوله : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لغوب } ( ق 38 ) هؤلاء أثبتوا له القدرة لكن قدرة ناقصة ،
ومثال النقص المحض : قول اليهود أيضاً : { إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء } ( آل عمران 181 ) إن الله بخيل { يد الله مغلولة } ( المائدة 64 ) هكذا قالوا ،
ومثال مماثلة المخلوقات : كقول النصارى : { إن الله ثالث ثلاثة } ( المائدة 73 ) فأثبتوا له مثيلاً والله تعالى قد كذبهم في قوله : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) وقوله : { إنما الله إلهٌ واحد } ( النساء 171 ) .
قوله : ( قديم ) : أي أن القرآن قديم ، وهذا ليس بصحيح ،
فالقرآن ليس بقديم بل إن الله عز وجل تكلم به حين إنزاله صحيح أن الكلام جنسه قديم ولكن آحاده حادثة وليست قديمة ، الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء { ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٌ إلا استمعوه وهم يلعبوه } ( الأنبياء 2 ) .
فالقرآن ليس بقديم ، أما كلام الله من حيث هو كلام الله فهو قديم النوع فإن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ،
فلو أن المؤلف قال بدل ( قديم ) ( كلامه سبحانه عظيم ) ،
لأن الله قال : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } ( الحجر 87 ) ، أو كريم ، لأن الله قال : { إنه لقرآنٌ كريم } ( الواقعة 77 ) .
(71/4)
أما ( قديم ) : فهي كلمة محدثة غير صحيحة بالنسبة للقرآن أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ ونزل إلى بيت العزة في السماء ثم صار ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب الذي يؤمر بتنزيله فيه ؟
الجواب : نعم ، روي ذلك عن ابن عباس ولكن ظواهر القرآن ترده ونحن لا نطالب إلا بما دل عليه القرآن ،
فأما قوله تعالى : { بل هو قرآنٌ مجيد ، في لوحٍ محفوظ } ( البروج 21 – 22 ) ، فإنه لا يتعين أن يكون القرآن نفسه مكتوباً في اللوح المحفوظ [5] بل يكون الذي في اللوح المحفوظ ذكره دون ألفاظه ،
وهذا لا يمتنع أن يقال إن القرآن فيه كذا والمراد ذكره كما في قوله تعالى : { وإنه لفي زبر الأولين } ( الشعراء 196 ) وإنه : أي القرآن ، { وإنه لفي زبر الأولين } : والمراد بلا شك ذكره في زبر الأولين ، لأنه ما نزل على أحد قبل محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن المراد ذكره ،
والدليل على ذكره أو لم يكن لهم آية أن يعلم علماء بني إسرائيل وكلنا يقرأ قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ( المجادلة 1 ) ولو كان القرآن العظيم مكتوباً في اللوح المحفوظ بهذا اللفظ لأخبر الله عن سمع ما لم يكن ، والله قال : { قد سمع } ثم قال : { والله يسمع } بالمضارع الدال على الحال والحاضر ،
يعني لو قال قائل : قد سمع عبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه ؟
قلنا : هذا قد نسلِّمه لكن يمتنع مثل هذه الدعوى في قوله : { والله يسمع } فإن { يسمع } فعل مضارع تدل على الحاضر ،
فالراجح عندي : أن القرآن تكلم الله به عز وجل حين نزوله وأن ما في اللوح المحفوظ إنما هو ذكره وأنه سيكون ويمكن فيه ثناء أيضاً كما قال تعالى : { بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ } ( البروج 21 – 22 ) يعني أنه ذكر في اللوح المحفوظ بالمجد والعظمة وما أشبه ذلك ،
(71/5)
وعلى كلٍّ فقول المؤلف : ( قديم ) : كلمة ضعيفة لا يجوز أن يوصف بها القرآن الكريم ، فإن القرآن الكريم يتكلم الله به عز وجل حينما ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم ،
وأن ما جاء مع جبريل ،
من محكم القرآن والتنزيل ،
يعني نؤمن بأن ما جاء مع جبريل هو كلام الله سبحانه وتعالى ،
قوله : ( مع جبريل ) : بالكسر ، مع أن ( جبريل ) لا ينصرف ،
قال الله تعالى : { من كان عدواًّ لله وملاءكته وكتبه ورسله وجبريل وميكال } ( البقرة 98 ) .
فخبره بالفتحة ، والمؤلف هنا جره بالكسرة ، وذلك لضرورة الشعر ،
قال ابن مالك رحمه الله :
ولاضطرار أو تناسب صُِرفْ ،
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف[6] ،
يعني عند الضرورة يصرف ما لا ينصرف ،
وقوله : ( من محكم القرآن ) : من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي من القرآن المحكم ، فالقرآن محكم بلا شك لأنه من لدن حكيم خبير ،
ولكن لو قال قائل : كيف نطلق على القرآن كله بأنه محكم مع أن الله قال في كتابه : { هو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق منه آياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } ( آل عمران 7 ) فجعل منه آيات محكمات وجعل منه أُخَر متشابهات ؟
فالجواب : أن نقول : إن الله قال في المحكمات { هن أم الكتاب } أي مرجع الكتاب فإذا وجدنا متشابهات رددناه إلى الأم والأم محكم فيكون هذا المتشابه محكماً وحينئذٍ يكون التشابه في ابتداء الأمر ، أما في النهاية فيكون محكماً وهذا تجد آيات ظاهرها التعارض يجمعها دليل آخر ، وهلم جراّ !
وبهذا يكون القرآن كله محكماً ،
قوله : ( القرآن والتنزيل ) : هذا من باب عطف المترادفين ، فإن التنزيل هو القرآن ،
قوله : ( كلامه سبحانه ) : هذا خبر ( أن ) ، يعني ما جاء مع جبريل من محكم القرآن ،
(71/6)
والتنزيل الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه عز وجل – أي كلام الله لفظاً ومعنى تكلم الله به عز وجل فسمعه جبريل ، فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ،
قال الله تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين } ( الشعراء 192 - 196 ) .
وقال تعالى : { وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ( التوبة 6 ) .
وعلى هذا فهذا القرآن كلام الله عز وجل تكلم به نفسه بحروفه وألفاظه وسمعه جبريل فنزل به كما كان على محمد صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص ،
ولهذا قال الله تعالى : { وإنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين } ( التكوير 19 – 20 ) وقال : { نزل به الروح الأمين } ( الشعراء 196 ) فوصفه بالأمانة ووصفه بالكرم ووصفه بالقوة ،
وبهذا نعلم علم اليقين أن هذا القرآن الكريم لم يتغير فيه شيء بل هو كلام الله نفسه عز وجل ،
وإذا علمت أنه كلام الله لزم من ذلك أن تعظِّم هذا الكلام ،
ولهذا أمرنا بل نهينا عن أن نمس هذا القرآن بلا طهارة كما في حديث عمرو بن حزم المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول : ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ) [7] ،
أي إلا متطهر متوضئ ، لأن الوضوء طهارة ، كما قال تعالى : { ما يريد ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } ( المائدة 6 ) .
وأما من فسّر الطاهر في قوله : ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، بالمؤمن فقد أبعد ،
لأننا لا نجد في القرآن ولا في السنة التعبير بالطاهر عن المؤمن أبداً وإن كان المؤمن لا ينجس لكنه لم يعبر عنه بالطاهر المؤمن يعبر عنه بالإيمان ، بالتقي وما أشبه ذلك ،
قوله : ( سبحانه ) : جملة معترضة يراد بها التنزيه تنزيه الله عز وجل ،
ولهذا يقولون : التسبيح بمعنى التنزيه ،
ويقولون : إن ( سبحان ) اسم مصدر فعله سبّح ، والمصدر : تسبيح ، و ( سبحان ) اسم مصدر ،
(71/7)
واسم المصدر : ( كل ما دل على معنى المصدر وليست فيه حروفه ) ،
( الكلام ) اسم مصدر ، ففعله ( كلّم ) ،
( والسلام ) اسم مصدر ، وفعله ( سلّم ) ،
( سبحان ) اسم مصدر ، وفعله ( سبّح ) ،
وما الذي ينزه الله عنه ؟
ينزه الله تعالى عن أمرين :
1. عن النقص ومماثلة المخلوقين عن النقص في صفاته التي اتصف بها ،
2. وعن مماثلة المخلوقين فيها ،
فمن أثبت لله علماً ولكنه قال : إن الله قد يخفى عليه شيء فإنه لم يسبح الله ،
ومن قال : إن قدرة الله كقدرة المخلوق فإنه لم يسبح الله ،
قوله : ( قديم ) : القديم عندهم : ( ما ليس له أول ) ، يعني الموجود في الأزل ،
وليس القديم عندهم هو : القديم في اللغة ،
لأن القديم في اللغة : ( ما تقدم على غيره ) ، وإن كان حادثاً غير أزلي ،
قال الله تعالى : { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } ( يس 39 ) .
العرجون : هو ما يكون فيه ثمر النخل يعني القنو ، القنو القديم ينحني ويتقوّس لكن هذا القنو القديم غير أزلي ، لأنه حادث بعد أن لم يكن ،
يقول المؤلف : إن القرآن كلام الله القديم يعني الأزلي ،
أي أن القرآن قديم بقدم الله عز وجل أزلي ،
فلم يزل هذا القرآن على زعمه موجوداً من قبل كل شيء ،
ولا شك أن هذا القول باطل ، لأن القرآن يتكلم الله به حيث إنزاله ،
والدليل على هذا : أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن أشياء وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة الماضي ، وهذا يدل على أن كلامه بها كان بعد وقوعها ،
قال الله تعالى : { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } ( آل عمران 121 ) ، { غدوت } : ماضي ،
إذن هذا القول قاله الله بعد غدو الرسول صلى الله عليه وسلم ،
وقال تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ( المجادلة 1 ) ، فقال : { قد سمع } وهل يمكن أن يخبر الله عن شيء أنه سمعه وهو لم يقع ؟ هذا لا يمكن ،
(71/8)
فقوله : { قد سمع } يدل على أن هذا الكلام كان بعد وقوع الحادثة وهذا هو الحق أن الله تكلم بالقرآن حديثاً ،
كما قال تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } ( الأنبياء 2 ) .
والقول بأن المراد ( محدث ) : أي محدث إنزاله خطأ بل هو محدث هذا الذر لأن الله يتكلم متى شاء ما شاء ،
وعلى هذا فنقول : لو أن المؤلف – عفا الله عنه – قال بدل قوله : ( قديم ) لو قال : ( كلامه سبحانه عظيم ) لكان أنسب وأبعد عن الخطأ ،
ويكون قوله : ( أعيى الورى بالنص ) : مبنياً على عظمه أي لعظمه أعيى الورى وأعجزهم ، فصار كلام المؤلف رحمه الله بأن القرآن قديم كلام خطأ ،
والصواب : أن الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله ،
بقي النظر في كلام الله من حيث هو لا في القرآن نفسه ، هل كلام الله من حيث هو قديم ؟
الجواب : لا ليس بقديم ، لكن مصف الله تعالى بالكلام هذا أزلي أعني أنه وصف أزلي ، فالله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً ،
كما قال ابن القيم [8] في النونية :
والله ربي لم يزل متكلما [9]
فالله لم يزل متكلماً وكلامه سبحانه أزلي من حيث النوع .
أما من حيث الآحاد فإنه متعلق بمشيئته وليس أولياً .
والفرق بينهما ظاهر فالله لم يزل متكلماً لكن آحاد كلامه ليست أزلية .
{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) .
والمراد لله متجدد يرد أن ينزل المطر فينزل ويريد أن تنبت الأرض فتنبت إذا أراد شيئاً قال .
إذن فالقول يحدث بعد الإرادة فتكون آحاد الكلام حادثة وليست أزلية .
لكن الأصل في الكلام أنه أزلي فإن الله لم يزل ولا يزال متكلماً كلامه لا ينفذ { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } ( الكهف 109 ) ، { ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } ( لقمان 27 ) .
قوله : ( أعيى ) : بمعنى أعجز ،
(71/9)
قوله : ( والورى ) : الخلق فلم يأتي الخلق بمثل هذا القرآن ،
قال الله تعالى : { قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ( الإسراء 88 ) .
وقال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة 23 ) .
وقال تعالى : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات } ( هود 13 ) .
فعجز العرب وهم أهل البلاغة أن يأتوا بمثل القرآن إذن يكون هذا القرآن كلام الله لأنه لو كان كلام المخلوق لأمكن للمخلوق أن يأتي بمثله فلما عجز المخلوقون أن يأتوا بمثله علم أنه صفةٌ من صفات الله التي لا تماثلها صفات المخلوقين ،
قوله : ( بالنص ) : النص هو ما ذكرنا من الآيات السابقة ،
قوله : ( يا عليم ) : أي يا ذا العلم كأنه يقول : اعلم أنه أعيى الورى بالنص ،
******************
42 – وليس في طوق الورى من أصله ،
أن يستطيعوا سورةً من مثله ،
قوله : ( وليس في طوق الورى من أصله ) :فيه إشارة إلى رد قول من يقول : عن الورى لا يستطيعون مثله بالصرفة يعني أن الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله أما في الأصل فإنهم قادرون على أن يأتوا بمثله ،
ولا شك أن هذا القول قولٌ باطل .
وذلك لأن القرآن كلام الله وكلام الله صفةٌ من صفاته .
وإذا كانت جميع صفات الله لا يمكن أن يتصف بمثلها المخلوق .
فكذلك الكلام لا يمكن أن يأتي بمثله المخلوق .
وليس لأن الله صرفهم عن معارضته ،
بل لأنهم عاجزون من أصلهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن .
وعلى فرض أن الله صرفهم فإن صرف الله عن معارضته دليلٌ على أن القرآن حق وإلا لسلط عليهم من يعارضهم ،
لكن هذا القول ضعيف والذين أنكروه وقالوا : إن إعجاز القرآن ليس بالصرفة .
قالوا : لأنه لو كان بالصرفة لكان باستطاعة الخلق أن يأتوا بمثله فلا يكون آية .
(71/10)
نقول لهم : لو صح أنه بالصرفة كان آية من وجهٍ آخر أن الله لم يسلطهم على معارضته بل منعهم ،
لكننا من الأصل نقول : هذا القول ضعيف ،
والصحيح الذي لا شك فيه : أن الخلق عاجزون عن معارضة القرآن أن يأتوا بمثله لا لأنهم صرفوا عن ذلك ومنعوا منه قدراً ولكن لأنهم عاجزون من الأصل ، لأن القرآن كلام الله صفته وصفات الله لا يمكن أن يشابهها صفات ،
قوله : ( أن يستطيعوا سورةً من مثله ) : قال بعض العلماء : بل أن يستطيعوا آيةٌ من مثله ،
وقالوا : أن الله سبحانه وتعالى تحدى الخلق بأربعة وجوه :
1. بمثل القرِآن كله ،
2. وبعشر سور منه ،
3. وبسورة منه ،
4. وبحديث ،
والحديث يشمل ما دون السورة ،
بالقرآن كله في قوله تعالى : { قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ( الإسراء 88 ) .
بعشر سور : في سورة هود : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات } ( هود 13 ) .
بسورة : في سورة البقرة : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة 23 )
بما دون السورة : في سورة الطور : { أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون ، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } ( الطور 33 – 34 ) .
خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله ، أننا نؤمن بأن ما نزل به جبريل من عند الله كلام الله عز وجل ، لكن كوننا نقول : قديم هذا ليس بصحيح ،
ولا يجوز أن نقول ذلك ، لأنه مخالف للقرآن ،
ثانيا : أن نؤمن بأن هذا القرآن لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله من الأصل لا عن طريق الصرف ،
لأنه صفة الله وصفة الله لا يمكن أن يتصف بها المخلوق ، لا لأن المخلوق يمكن أن يقول مثله لكنه صرف ، بل نقول لأن المخلوقين عاجزون عن أن يأتوا بمثله ،
(71/11)
لو قال قائل : عبَّر الله عن الماضي بقوله : { قد سمع } ( المجادلة 1 ) لتحقق وقوعه فهو كقوله : { قد أتى أمر الله } ( النحل 1 ) ؟ لو أن أحداً قال هذا القول ؟
نقول هذا القول : لا يصح لأن الله تعالى قال : { قد سمع } ،
وإذا قلنا : إنه عبر عنه قبل وقوعه صح أن نقول إنه لم يسمعه ، ولا أحد يتجرأ أن يقول مثل هذا القول ،
وأما { أتى أمر الله } فإن الله ذكر في الآية على أنه لم يأت حيث قال : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } إذن هو لم يأت ،
ويصح أن نقول في { أتى أمر الله } إنه لم يأت ، لأن الله قال : { فلا تستعجلوه } ،
إذًا نحن نؤمن بأن القرآن كلام الله تكلم به لفظاً ومعنى بحروفه ومعانيه ،
ليس الكلام هو المعاني دون الحروف ولا الحروف دون المعاني ،
ونؤمن بأنه منزل من عند الله والآيات في هذا كثيرة ،
ونؤمن بأنه غير مخلوق ،
لأنه لو كان مخلوقاً لم يكن صفة من صفاته ،
ولو جاز أن يكون مخلوقاً لكان الخلق من صفات الله ،
ومعلوم أن هذا منكر ولم يقل به أحد ،
يقول العلماء : منه بدأ وإليه يعود [10] ،
معنى ( إليه يعود ) على وجهين :
الوجه الأول : إليه يعود وصفاً فلا يوصف به غيره ،
الوجه الثاني : إليه يعود في آخر الزمان ،
حيث جاء في الآثار : أن هذا القرآن ينزع من صدور الناس ومن بطون المصاحف حتى يصبح الناس وليس بين أيديهم ،
كما أن الكعبة تُهدم وتُمحى من الأرض وذلك فيما إذا أعرض الناس عن هذا القرآن إعراضاً كلياً فإن الله تعالى يغار على كلامه أن يبقى بين أناس معرضين عنه إعراضاً والكعبة أيضاً لا يسلط عليها أحداً إلا إذا لم يقم أهلها بما يجب لها من التعظيم فإن الله يسلط عليها الرجل الحبشي ، فينقضها حجراً حجراً حتى تلقى في البحر نسأل الله العافية ،
الأسئلة
السؤال : ( غير واضح ) ؟
(71/12)
الجواب : والله هذا فيه بُعْد يعني لو هذه مسألة حتمية أو خبرية لكن كون التحدث عن القرآن الكريم قد لا نسلم أن هذا القول مذكور في كتب الإسرائيليات ،
السؤال : أورد أحدهم فقال : الله سبحانه وتعالى يقول : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ( القدر 1 ) ، فكيف نرد عليه ؟
الجواب : نقول : لا شك أن هذا ليس على ظاهره فإن { قد سمع } ( المجادلة 1 ) ، لم تنزل في ليلة القدر ويكون معنى : { إنا أنزلناه } : أي ابتدأنا إنزاله ،
السؤال : تكلم الله بالقرآن بمعانيه وحروفه ، بعضها ألا ينفصل عن بعض ؟
الجواب : لا ، عند الأشاعرة ينفصل بعضها عن بعض ،
ألم تعلم أن الأشاعرة قالوا : القرآن معناه كلام الله ولفظه خلقٌ من مخلوقاته ؟
فإن قولنا هذا دفعاً لقول الأشاعرة ،
الأشاعرة الحقيقة قالوا في الكلام قولاً لا يُعقل ،
قالوا : كلام الله هو المعنى القائم بالنفس وما سمعه جبريل مخلوق ،
المعتزلة ماذا قالوا ؟
قالوا : القرآن مخلوق ، وهذا القرآن الذي بين أيدينا هو كلام الله وأضيف إلى الله على سبيل التشريف ،
والأشاعرة قالوا : القرآن الذي بين أيدينا عبارةٌ عن كلام الله وليس كلام الله وأضافه الله إليه لأنه عبارةٌ عن كلامه ولهذا قال بعضهم كما مر علينا قال بعضهم إنه في الحقيقة لا فرق بيننا وبين المعتزلة فإننا جميعاً متفقون على أن هذا القرآن مخلوق ،
السؤال : لو قيل أن القرآن ( جملة غير واضحة ) ابتداءً في اللوح المحفوظ ثم حين إنزاله تكلم به ؟
الجواب : هذا خلاف الظاهر في قوله : { قد سمع } ، والله يسمع ،
السؤال : باعتبار علم الله ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : ما يستقيم ، ما يستقيم ، كيف الله يقول : الله يسمع ، وهو ما خلق المتكلم فضلاً عن صوته بعيدة هذه ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : لا ما يستقيم لأن ( كلام ) خبر ( إن ) ،
(71/13)
السؤال : الخبر : ( مع جبريل ) ، يعني أن ما جاء ثابت مع جبريل ، و ( بعض ) بيان من ( محكم القرآن ) ؟
الجواب : لا ما يصلح ما يستقيم أنت تريد أن نجعل كلام الله عموماً ؟
السؤال : نعم ،
الجواب : هذا لا يستقيم حتى كلام الله عموما لا يصح أن نقول أنه قديم الآحاد هو قديم النوع فقط أو الجنس ،
فصل
في الصفات التي يثبتها السلفيون ويجحدها غيرهم
43 – وليس ربنا بجوهر ولا ،
عرض ولا جسم تعالى ذو العلا ،
قوله : ( وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم ) : هذا الكلام من المؤلف يحتمل معنيين :
المعنى الأول : ولسنا نقول : ربنا جوهراً أو عرضاً أو جسماً ،
يعني لا نقول بذلك بل نسكت ، وهذا الوجه صحيح ،
يعني لا يجوز لنا أن ننفي أن الله جوهر أو عرض أو جسم ، كما لا يجوز لنا أن نثبت ذلك ،
لأنه لم يرد في القرآن ولا السنة إثبات ذلك ولا نفيه ،
والمعتمد في صفات الله هو الكتاب والسنة ،
فإذا لم يرد فيهما إثبات ولا نفي وجب علينا أن لا نقول بالإثبات ولا بالنفي ،
الوجه الثاني لكلام المؤلف : نفي الجوهر لا نفي القول به ،
وعلى هذا الوجه يكون معناه القول بنفي الجوهر ،
يعني : أننا نقول : إنه ليس بجوهر ،
والفرق بين الوجهين ظاهر :
أما الوجه الأول : فهذا صحيح وهو أن ننفي القول بأنه جوهر ،
لأنه ليس لنا أن نقول : إنه جوهر ، ولا لنا أن نقول : إنه ليس بجوهر ،
وأما الوجه الثاني : وهو القول : بأنه ليس بجوهر ، فهذا غير صحيح ،
وظاهر كلام المؤلف هو الثاني ،
يعني أن المؤلف رحمه الله يرى أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : ( إن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ) ،
ولا شك أن هذا النفي ليس بصحيح ولم يقل أهل السنة بذلك ، وليس هذا مذهبهم ،
لأنهم لا يجزمون بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل وهذا ليس فيه دليل لا إثبات ولا بنفي [11] ،
أما عن تفسير جوهر وعرض وجسم فكالآتي [12] :
(71/14)
الجوهر : ما قام بنفسه [13] ،
والعرض : ما قام بغيره [14] ،
والجسم : القائم المجسم [15] ،
فالمؤلف يرى أن من عقيدتنا أن ننفي هذه الثلاثة عن الله عز وجل ، ولكن هذا ليس بصحيح ،
وليس من مذهب أهل السنة والجماعة ،
وذلك أن هذه الألفاظ ألفاظ حادثة لم تكن معروفة عند السلف ،
فما في أقوال السلف قول يقول : إن الله جسم ولا أنه ليس بجسم ولا أن الله عرض ولا أنه ليس بعض ولا أن الله جوهر ولا أنه ليس بجوهر لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف ،
لكن المتكلمين لما حدثت بدعتهم صاروا يذكرون هذه الكلمات للتوصل بنفيها إلى نفي الصفات عن الله ،
فمثلاً يقول : النزول لا يكون إلا بجسم ،
والله تعالى ليس بجسم ،
وإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم ،
إذن فننفي استواء الله على العرش ، فهم – أعني المتكلمين – أتوا بمثل هذه العبارات ليتوصلوا بها إلى نفي صفات الله عز وجل ، وإلا فليس لهم غرض في نفي هذا أو إثباته إلا هذه المسألة ،
ولما كانت هذه الكلمات لم تكن موجودة لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة لا نفياً ولا إثباتاً ،
فالواجب علينا أن نتوقف لا ننفي أن الله جسم ولا نثبت ولا أن الله عرض ولا نثبت ولا أن الله جوهر ولا نثبت ،
ولكننا نستفصل في المعنى فنقول : لمن نفى أن يكون الله جسماً نقول له : ما تعنى بالجسم ؟
إن أردت بالجسم ما كان حادثاً مركباً من أجزاء وأعضاء فنحن معك في نفيه ،
فالله ليس بحادث ولا مركب من أعضاء وأجزاء بحيث يجوز أن يفقد شيء منها ،
هذا نوافقك في نفيه ،
لكن لا ننفي الجسم ،
نقول : إن الله منزه عز وجل عن أن يكون له أبعاض كأبعاض المخلوقين ، بحيث يكون جسماً مركباً منها ويفقد بعضها مع بقاء الأصل وما أشبه ذلك ،
وإن أردت بالجسم الذات الموصوفة بالصفات اللائقة بها فهذا حق نثبته ولا يجوز لنا أن ننفيه ،
لكن مع ذلك ما نقول : إن الله جسم ،
حتى وإن أردنا هذا المعنى ،
(71/15)
وذلك لأن لفظ الجسم لم يرد في الكتاب والسنة لا إثباتاً ولا نفياً ،
ولأن إثبات الجسم إن أثبتناه فهو مستلزم للتشبيه على رأي بعض الناس ،
وإن نفيناه فهو مستلزم للتعطيل على رأي آخرين ،
إذن فلا نثبته ولا ننفيه ،
وهذا هو العقيدة السليمة ألا تثبت باللفظ : أن الله جسم أو ليس بجسم ، اسكت !
ما دام الله قد سكت عنه ورسوله سكت عنه والصحابة سكتوا عنه لا تثبت ولا تنفي ،
لكن تؤمن بأن الله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها وإن الله يقبض ويبسط ويأخذ بيمينه الصدقة ويربيها وينزل ويأتي ،
يجب عليك أن تؤمن بهذا وما وراء ذلك لا تتعرض له [16] ،
قوله : ( تعالى ذو العلا ) : ( تعالى ) : ترفع عن كل ما يليق به ترفُّعاً معنوياً ، وترفع بذاته ترفُّعاً حسياً فهو سبحانه متعالٍ حساً ووصفاً عن كل نقص ،
قال الله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش } ( غافر 15 ) .
******************
44 – سبحانه قد استوى كما ورد ،
من غير كيفٍ قد تعالى أن يُحَدّ ،
قوله : ( سبحانه ) : أي تنزيهاً له عن أن يكون جسماً أو جوهراً أو عرضاً وهذا التنزيه ينبغي التنزه منه لا الاتصاف به ،
لأنه كما قلنا : لا يجوز لنا نثبت ولا ننفي ،
ونفينا ذلك عن الله وادعاء أن ذلك تنزيه خطأ ،
قوله : ( قد استوى ) : ولم يذكر المؤلف متعلق الاستواء [17] ،
لكن من المعلوم أن المراد استوى على العرش كما ورد ،
وقد ذكر الله سبحانه الاستواء على العرش في سبعة مواضع من كتابه :
في سورة الأعراف قال : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) .
وفي سورة يونس : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش } ( يونس 3 ) .
(71/16)
وفي سورة الرعد : { الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها ثم استوى على العرش } ( الرعد 3 ) .
وفي سورة طه : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) .
وفي سورة تنزيل : { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش } ( السجدة 4 ) .
وفي سورة الفرقان : { ثم استوى على العرش الرحمن فاسئل به خبيرا } ( الفرقان 59 ) .
وفي سورة الحديد ،
ففي سبعة مواضع ذكر الله الاستواء على العرش نصاً صريحاً واضحاً ،
فأضاف الاستواء على العرش بـ ( على ) الدالة على العلو أي علوت عليه واستقررت عليه ،
وقال تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره } ( الزخرف 12 – 13 ) ، أي تعلوا عليها وتستقروا عليها ،
واعلم أن الاستواء يرد في اللغة العربية على أربعة وجوه :
1. مطلق ،
2. ومقيد بـ ( إلى ) ،
3. ومقيد بـ ( على ) ،
4. ومقيد بالواو ،
فإذا كان مطلقاً فالمراد به الكمال كما قال الله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } ( القصص 14 ) أي كمل ،
وإذا ورد مقروناً بـ ( إلى ) صار معناه الانتهاء إلى الشيء في كمال ، كقوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } ( فصلت 11 ) .
وإذا كان مقيداً بـ ( على ) كان معناه العلو والاستقرار ،
كهذه الآيات التي ذكرناها في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } .
وإذا اقترن بالواو صار معناه المساواة ، كقولهم : استوى الماء والخشبة ، أي ساوى الماء الخشبة ،
{ ثم استوى على العرش } في جميع مواقعها في اللغة العربية لا تقتضي إلا العلو والاستقرار ،
فمن أصول أهل السنة والجماعة : الإيمان بأن الله تعالى استوى على عرشه ،
أي علا عليه واستقر عليه علواً واستقرارًا يليق بجلاله عز وجل [18] ،
لا يماثل استواء الإنسان على البعير أو على الفلك ،
ولهذا قال : ( كما ورد ) : ويجوز أن تكون الكاف للتشبيه يعني استواءً كالوارد ،
(71/17)
والوارد في استواءه أنه استواء يليق بجلاله ،
ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل أي استوى لأنه ورد في كتاب الله ،
والكاف تأتي للتعليل ،
كما قال ابن مالك :
شبِّه بكاف وبها التعليل قد [19]
ومنه : قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } ( البقرة 198 ) .
على أحد الوجهين : أي لهدايته إياكم ،
وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولاً } ( البقرة 151 ) .
وفي حديث التشهد : ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) [20] ،
وعلى كلٍّ : فمراد المؤلف رحمه الله أن نؤمن بأن الله استوى على العرش استواء يليق بجلاله ،
ولكن هل نعلم هذا الكيف أي كيفية هذا الاستواء ،
قوله : ( من غير كيف ) : والمراد بقوله : ( من غير كيف ) أي من غير تكييف ،
وليس المراد : من غير كيفية ،
لأننا نعلم أن الله استوى على العرش على كيفية يعلمها ونحن لا نعلمها .
ولا يصح أن يراد بذلك نفي الكيفية ،
لأننا إذا نفينا الكيفية نفينا الأصل ، إذ ما من شيء يكون إلا وله كيفية ، لكن المنفي التكييف ،
وعلى هذا يجب أن نصرف كلام المؤلف إن كان ظاهره خلاف ذلك إلى هذا المعنى ،
ونقول : ( من غير كيف ) : أي من غير تكييف وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو الذي عليه أئمة السلف ،
فإن مالكاً رحمه الله سئل وهو في مجلسه فقال له قائل : يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، استوى كيف استوى ؟ فأطرق رحمه الله برأسه حتى علاه العرق من شدة وقع السؤال على قلبه ثم رفع رأسه وقال : يا هذا الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعاً ثم أمر به فأخرج [21] ،
وهكذا ينبغي لأهل العلم إذا رأوا في صفوفهم مبتدعاً أن يطردوه عن صفوفهم ، لأن المبتدع وجوده في أهل السنة شر ، لأن البدعة مرض كالسرطان لا يرجى برؤه إلا أن يشاء الله ،
(71/18)
قوله : ( إلا مبتدعاً ) : يحتمل أنه أراد ( إلا مبتدعاً ) بهذا السؤال أو ( إلا مبتدعاً ) إلا أنك من أهل البدع ،
لأن أهل البدع هم الذين يكون دينهم عن المشتبهات من أجل التشويش على الناس ،
وأياً كان المعنى فهو يدل على أن من هدي السلف طرد المبتدعين عن صفوف المتعلمين ،
وهكذا ينبغي أن يطردوا عن المجتمع كله وأن يضيق النطاق عليهم حتى لا تنتشر بدعهم ،
ولا يقال : إن الإنسان حر ،
نعم هو حر لكن في حدود الشرع ،
أما إذا خالف الشرع فإنه يجب أن يضيق عليه ويبين له الحق ،
فإن رجع إليه فذاك ،
وإلا عومل بما تقتضيه بدعته من تكفير أو تفسيق ،
فمعنى الاستواء على العرش العلو عليه لكنه علو خاص ليس كالعلو المطلق على جميع الكون ،
لأن علو الله على العرش علو خاص ليس هو العلو المطلق على جميع الكون ،
فإن الله تعالى عالٍ علواً مطلقاً على جميع الكون [22] ،
ونضرب مثلاً يبين لنا الفرق بين العلو العام والخاص :
لو أن رجلاً على السطح على السرير كان علوه على السرير علواً خاصاً وعلوه على ما تحت السقف علو عام ،
فالاستواء على العرش أخص من مطلق العلو الشامل لجميع الكون ،
ولذلك نقول : إن الله تعالى علا على الأرض وعلى السماء ، ولا نقول : استوى على الأرض أو على السماء ،
وفي الاستواء عدة مباحث :
المبحث الأول : أن الاستواء بمعنى العلو لكنه علو خاص ،
وسبق الكلام على هذا المبحث ،
المبحث الثاني : على أي كيفية كان الاستواء ؟
الجواب : الله أعلم ، له كيفية لكننا لا نعلمها وحينئذ لا يحل لنا البحث فيها لا سؤالاً ولا إجابةً ،
لأن الله يقول : { ولا تقف ما ليس لك به علم } ( الإسراء 36 ) .
ويقول : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف 33 ) ( الأعراف 33 ) .
فإننا نقول له : هذا السؤال لا يجوز ،
(71/19)
وإذا قال : أنا أحب أن أعرف كيفية الاستواء ،
نقول : لو كان لنا في معرفة هذا خير لبينه الله لنا ولا يمكن أن ندرك هذا ، لأن كيفية صفات الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا ،
المبحث الثالث : هل استوى الله على العرش بمماسة أو بغير مماسة ؟
الجواب : أن نقول في هذا كما قلنا في الأول ، السؤال عن هذا بدعة وليس لنا أن نقول بمماسة أو بغير مماسة ،
نقول : استوى ولا نتجاوز القرآن والحديث ،
لأن هذه الأمور الغيبية لا يجوز لك أن تسأل عن شيء إلا عن معناها فقط ،
أما عن كيفيتها وما زاد عن المعنى فلا يحل لك أن تبحث فيه لا سؤالاً ولا إجابة ،
ولهذا نقول : يخطئ بعض العلماء الذين قالوا : إن الله استوى على العرش بدون مماسة [23] ،
نقول : ليس لك الحق أن تقول : بدون مماسة ، ولا أن تقول : بمماسة ، دع هذا يسعك ما وسع الصحابة الذين هم أحرص منك على العلم وأشد منك تعظيماً لله عز وجل ،
المبحث الرابع : هل نقول استوى على العرش بذاته أو لا ؟
الجواب : نقول كلمة ( بذاته ) ليس لنا فيها حاجة ،
لأن كل فعل أضافه الله إلى نفسه فهو إلى ذاته بلا شك ،
ولهذا لا تقول : إن الله خلق السموات بذاته ، لأنه هو نفسه الذي خلق السموات ،
ولا تقول : ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، مادام أن الفعل مضاف إلى الله فهو صادر منه ،
لكن ورد في كلام بعض السلف ، قولهم : إن الله استوى على العرش بذاته ،
ومرادهم بهذا الرد على قول من قال : إن الله استولى على العرش ،
كما قالوا : إن الله تعالى عالٍ بذاته ، رداً على قول من يقول : إن الله عالٍ بصفاته لا بذاته ،
وإلا فإن القاعدة التي ليس فيها إشكال أن كل شيء أضافه إلى نفسه فهو إليه نفسه ،
فلا حاجة إلى أن نقول : استوى على العرش بذاته ، لأن الله قال : { استوى على العرش } والله نفسه هو الذي على العرش ،
لكن لو جاء أحد يشككنا ويقول : إن ( استوى ) بمعنى ( استولى ) وليس هناك استواء ذاتي ،
(71/20)
حينئذ نضطر إلى أن نقول : ( بذاته ) : ( ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ) [24] ،
لا نزيد ونقول : ينزل بذاته ،
لأن الله أضاف النزول إليه نفسه ،
فإذا قال : ( ينزل ) يعني هو نفسه ينزل ،
ما حاجه إلى أن نقول : ( بذاته ) ،
لكن لما قال المعطلون : إنه ينزل أمره ،
احتاج أهل السنة أن يقولوا : إنه ينزل بذاته يعني ينزل ذاته [25] ،
المبحث الخامس : هل يجوز أن نفسر الاستواء بالاستيلاء كما قاله أهل التعطيل ،
وقالوا : إن الله استوى على العرش يعني استولى عليه وليس معناه علا عليه ، لماذا ؟
قالوا : لأننا لو قلنا : إن استوى على العرش أي علا عليه لزم أن يكون الله محدوداً ،
ويقال : إن امرأة جهم بن صفوان قدمت البصرة فقيل لها إن الله استوى على العرش ، فقالت منكرة : محدود على محدود ، إنها تكفر بذلك [26] ،
يعني إذا استوى على العرش لزم أن يكون محدوداً ،
ولزم أن يكون جسماً ،
والحد ممتنع ،
والجسمية – على زعمهم – ممتنعة [27] ،
فلهذا نقول : استوى يتعين أن تكون بمعنى استولى ،
نقول : هذا التحريف خطأ من عدة وجوه :
الوجه الأول : أنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ،
فظاهر اللفظ { استوى على العرش } لا يوجد ( استولى ) ،
السلف أيضاً مجمعون على أن استوى بمعنى علا ،
فإن قال قائل : ما الذي أعلمكم بأنهم مجمعون ؟
نقول : لأن هذا هو معنى استوى على الشيء في اللغة العربية ،
والسلف لغتهم عربية ،
ولو كان مراد الآية سوى ما تقتضيه اللغة العربية لبينوه ،
فلما لم يأت عنهم ما يخالف مقتضى اللغة العربية بهذه الكلمة علم بأنهم يقولون فيها بمقتضى اللغة العربية ،
فهم مجمعون على أن استوى بمعنى علا على العرش واستقر ،
وقد ذكر ابن القيم في النونية أنه ورد عن السلف في ذلك أربعة معاني :
1 - علا ،
2 - واستقر ،
3 - وارتفع ،
4 - وصعد ، [28]
الوجه الثاني : أننا إذا قلنا : استوى بمعنى استولى ،
(71/21)
لزم أن يكون العرش قبل استواء الله عليه ملكاً لغيره ،
وهذا لا شك أنه معنى باطل ، لا يمكن أن يقول به قائل ،
الوجه الثالث : أننا لو قلنا : استوى بمعنى استولى ،
لصح أن يقال : إنه استوى على الأرض وعلى الشمس وعلى السماء وما أشبه ذلك مما هو ملك لله ،
ولا يمكن أن يقول به قائل ،
لا يمكن أن تقول : إن الله استوى على الشمس وعلى السماء وعلى الأرض وما أشبه ذلك ،
الوجه الرابع : أن نقول : من أين لكم في اللغة العربية أن استوى تأتي بمعنى استولى ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ؟
وهاتوا موضعاً واحداً من السبعة المواضع ، ذكر الله فيه أنه استولى على العرش ،
سبعة مواضع كلها جاءت على وتيرة واحدة أنه استوى على العرش ،
فإذا قالوا : عندنا دليل ،
وهو قول القائل :
قد استوى بشر على العراق ،
من غير سيف أو دم مهراق [29] ،
ومعنى ( استوى بشر على العراق ) : يعني استولى على العراق ،
فالجواب على ذلك :
أولا : أن هذا البيت قائله مجهول [30] ،
ولا يمكن أن يستدل على شيء من العقيدة المتعلقة بالله ببيت شعر مجهول قائله ،
فالاحتجاج به مردود من الأصل [31] ،
ثانيا : أن نقول : لو ثبت أن قائله من العرب العرباء الذين لم تغيرهم اللكنة ولا العجمة ،
فإن المانع من جعل الاستواء هنا بمعنى العلو : قرينة ظاهرة وهو أن بِشْراً لم يكن يرتفع على العراق حتى يكون العراق تحته كالكرسي ،
فيكون لدينا قرينة تمنع من إرادة العلو ،
ولم توجد هذه القرينة في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } [32] ،
ثالثاً : يمكن أن نجعل استوى بمعنى علا ،
فنقول : قد علا بشر على العراق لكنه علو معنوي ،
كقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } ( محمد 35 ) أي علو معنوي ،
هذا إن صح أن قائل هذا البيت من العرب العرباء ،
(71/22)
مع أنه لم يصح فبطل الاستدلال بهذا البيت على أن استوى بمعنى استولى [33] ،
إذن فعقيدتنا التي ندين الله بها ، ونسأل الله أن نكون عليها حتى نموت :
هو أن استوى على العرش أي علا عليه علواً خاصاً كما يليق بجلاله وعظمته ، لا نكيفه ولا نمثله ،
أما العرش : فإن العرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي هو فوق جميع المخلوقات ،
واختصه الله تعالى لنفسه وهو محيط بالكون كله ،
وقد ورد أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي الذي وسمع السماوات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، فماذا تكون ؟
لا شيء ، ولا تنسب إليه ،
قال : ( وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة ) ،
إذن فالعرش لا يقدر قدرة إلا الله عز وجل ، ولا يمكن أن نتصور عظمة هذا العرش ،
ولهذا وصفه الله بأنه مجيد وإنه عظيم ،
لأنه أكبر المخلوقات التي نعلمها وأعلى المخلوقات التي نعلمها ، ولذلك هو عرش يليق بالله تعالى ،
المبحث السادس : هل الله عز وجل باستوائه على العرش يكون العرش مقلاً له حاملاً له كما يستوي الإنسان منا على السرير ؟
الجواب : لا ، ليس كذلك ، لأننا لو قلنا : إنه حامل له كحمل السرير لأحدنا ،
لزم من هذا أن يكون محتاجاً إلى العرش [34] ،
والله عز وجل مستغنٍ عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه ،
فلا يمكن أن نقول : إن العرش يُقِلُّ الله أبدًا ،
الله أعظم من أن يُقِلُّهُ شيء من مخلوقاته ،
لكن هو الذي اختصه الله لنفسه بالاستواء فقط ،
وأما أن يكون مُقِلُّهُ فلا والله ما يُقِلُّهُ ،
لأنه لو قلنا بذلك لزم منه معنى فاسداً لا يدل عليه القرآن ،
وهو احتياجه كاحتياج الإنسان إلى السرير ،
ولهذا قال العلماء : إن العرش لا يُقِلُّ الله ،
بمعنى أنه ليس محتاجاً إليه كما يحتاج الإنسان منا إلى السرير يجلس عليه ،
والسرير الذي نجلس عليه لو أزيل من تحتنا لسقطنا ،
قوله : ( تعالى ) : يعني ترفع وتباعد عن الحد ،
(71/23)
قوله : ( أن يحد ) : يعني عن أن يحد ،
فـ ( أن ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوبة بنزع الخافظ ،
لأن نَزْعَ الخافض مع ( أن ) و ( أن ) مضطرد ،
كما قال ابن مالك رحمه الله :
وفي أن وان مضطرد ،
مع أمن لبس لعجبت أن يدوا [35] ،
وتقدير العبارة : تعالى عن أن يحد ،
أي تعالى عن الحد ،
يعني : أن الله لا يحد ،
وهذا ( الحد ) من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة ،
ليس في الكتاب أن الله يحد ولا أنه لا يحد ،
ولا في السنة أن الله يحد ولا أنه لا يحد ،
وإذا كان كذلك فالواجب السكوت عنه ،
لا تقل : إنه يحد ، ولا أنه لا يحد ،
ما الذي حَدَّك على أن تقول : إنه يحد أو لا يحد ؟
ليس هناك ضرورة لو كان من الضروري أن نعتقد أن الله يحد أو لا يحد لكان الله يبينه أو السنة تبينه ، لأن الله تعالى يقول : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } ( النحل 89 ) ،
ولذلك اختلف كلام من تكلم به من السلف : هل نقول : إن الله يحد ، أو نقول : إن الله لا يحد ،
فمنهم من أنكر الحد وقال : لا يجوز أن نقول : إن الله محدود ،
ومنهم من قال : يجب أن نقول : إن الله محدود وأن له حداً [36] ،
ولكن يجب أن نعلم أن الخلاف يكاد يكون لفظياً ،
لأنه يختلف باختلاف معنى الحد المثبت والمنفي ،
فمن قال : إن الله محدود ، أراد بائنٌ من الخلق ومحادٌّ لهم ليس داخلاً فيهم ولا هم داخلين فيه ،
كما نقول : هذه أرض فلان وهذه أرض فلان كل واحدةٍ منهما محدودة عن الأخرى بينهما حد ،
فمن أثبت الحد أراد به هذا المعنى أي أن الله تعالى منفصل بائن عن الخلق ليس حالاًّ فيهم ولا الخلق حالُّون فيه وهذا المعنى صحيح ،
(71/24)
ومن قال : إنه غير محدود ، أراد أن الله تعالى أكبر من أن يحد ولا يحده شيء من مخلوقاته ولا يحصره شيء من مخلوقاته فقد وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يمكن أن يحده شيءٌ من المخلوقات ،
وهذا المعنى صحيح ، وكل السلف متفقون على هذا ،
وعليه فيكون الخلاف بينهم لفظياً بحسب هذا التفصيل ،
فقول المؤلف : ( قد تعالى أن يُحَدّ ) : هو ممن ينكر أن يوصف الله بالحد ،
فيُحمل كلامه على أن المراد بالحد : الحد الحاصر الذي يحصر الله عز وجل ،
فنقول : إن الله تعالى بهذا المعنى غير محدود ،
الله واسع عليم { وسع كرسيه السماوات والأرض } ( البقرة 255 ) ،
والسماوات والأرضين كلها في كف الرحمن عز وجل كخردلةٍ في كف أحدنا ،
وهذا على سبيل التقريب وإلا فيه أعظم وأعظم ،
ما بين الخالق والمخلوق أعظم مما بين كف الإنسان والخردلة ،
على كل حال أراد المؤلف بنفي الحد هنا ما ذكرناه ،
يعني : الحد الذي يحصر الله عز وجل ،
ولم يُرِدْ الحد الذي يجعله بائناً من الخلق ،
فإن الحد الذي يراد به بينونة الله من خلقه أمر ثابت واجب اعتقاده ،
على أن كما قلنا : إن الكلام في الحد إثباتاً ونفياً من الأمور التي ينبغي السكوت عنها ،
لأنها لم ترد لا في القرآن ولا في السنة ، لكن إذا ابتلينا وجب أن نفصِّل ،
******************
45 – فلا يحيط علمنا بذاته ،
كذاك لا ينفك عن صفاته ،
قوله : ( فلا يحيط علمنا بذاته ) : هذا مما يدل على أنه أراد بقوله : ( تعالى أن يحد ) أنه لا يمكن أن يكون محصوراً يحاط به ،
فلهذا قال : ( فلا يحيط علمنا بذاته ) : فذات الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يحيط بها العلم ،
وإذا كان الحس لا يحيط بها فالعلم من باب أولى ،
قال الله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } ( الأنعام 103 ) ، فإذا كان البصر لا يدرك الله مع مشاهدته له ،
(71/25)
فكذلك العلم المبني على مجرد التخيل والتصور لا يمكن أن يحيط بالله عز وجل ، لأن الله أكبر وأعظم من كل شيء تقدره مهما قدرت فالله أعظم ، ومهما قدرت فأنت كاذب في تقديرك ، لأن الله يقول : { ولا يحيطون به علما } ( طه 110 ) فكل ما يقدره ذهنك من تصور في ذات الله عز وجل فإنه كذب ، وكل ما يقدره فالله أعظم وأجل ،
ولهذا نهى بعض السلف أن يفكر الإنسان في ذات الله ، وقال : إنما التفكر في آيات الله { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } ( آل عمران 191 ) ولم تأت آية ولا حديث أن نتفكر في الله نفسه ، فالتفكر إنما يكون في آياته في أسمائه في صفاته أما في ذاته فلا ، لأنه لا يمكن أن تصل إلى نتيجة إلا إلى نتيجة محرمة وهي أن تتصور مثالاً ليس لك به علم ،
وقد قال الله تبارك وتعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } ( الإسراء 36 ) .
إذن دع التفكر في هذا تفكر في أسمائه ،
ما معنى الاسم ؟ ماذا يتضمن من صفة ؟ تفكر أيضاً في آياته ، ماذا تدل عليه ؟ ماذا تدل عليه الشمس والقمر اختلاف الليل والنهار ؟ مداولة الأيام بين الناس ؟ وما أشبه ذلك ،
أما أن تجعل ذات الله عز وجل هي محط التفكر فهذا خطأ وضلال ، لأنه مهما كان لا يمكن أن تدركها ،
قوله : ( لا ينفك عن صفاته ) : أي لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال ،
وإذا كان متصفاً بصفات الكمال فلنا أن نبحث عن الصفة من حيث المعنى لا من حيث الكيفية والكُنْهْ التي هي عليه ،
لأن هذا غير مدرك أيضاً لكن من حيث المعنى لنا أن نبحث عن الصفة ،
ما معنى الرحمة ؟ ما معنى العزة ؟ ما معنى الحكمة ؟ وهكذا ،،
قوله : ( كذاك لا ينفك عن صفاته ) : فيه شيء من الإجمال يحتاج إلى تفصيل ،
وذلك أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين :
1- قسم لازم لذاته لا ينفك عنه أبداً [37] ،
وهذا ما يعرف عند العلماء : بالصفات الذاتية ، فهذا لا ينفك الله عنه ،
(71/26)
مثل : العلم ، القدرة ، والحكمة ، والعزة ، وما أشبه ذلك ،
كذلك أيضاً لا ينفك عن الصفات الخبرية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء ،
مثل : اليد ،
فاليد صفة ثبتت بالخبر ،
ولولا الخبر لم يهتد العقل إليها إطلاقاً ،
بخلاف القدرة ،
فالقدرة ثبتت بالنص وثبتت أيضاًِ بالعقل ،
فالعقل يهتدي إلى أن الله لا بد أن يكون قادراً ،
أما اليد فالله لا بد أن يكون له يد لا ما يثبت ذلك العقل ، إلا بعد ورود الشرع به ،
فهذه تسمى صفات خبرية يعني أن مدارها على الخبر المحض ، فليس للعقل فيها مجال إطلاقاً ،
قلنا : إن مسماها لنا أبعاض وأجزاء ، فاليد بالنسبة لنا جزء وبعض منا ،
لكن لا يجوز أن تقول : إنها بالنسبة للخالق بعض وجزء ،
لأن البعض أو الجزء : هو ( ما صح انفصاله عن الكل ) [38] ،
ومعلوم أن صفات الله تعالى كاليد والقدم لا يمكن أن نصور فيها أو أن نحكم فيها بجواز الانفصال ،
إذن فلا يصح أن تطلق عليها إنها بعض من الله أو جزء من الله قل هي صفة من صفات الله الذاتية أخبر الله بها عن نفسه فوجب علينا قبولها والإيمان بها ،
القسم الثاني من الصفات : صفات فعلية :
فهذه باعتبار الجنس صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً ،
أفعاله لا تنقضي ، وكذلك أقواله { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا } ( الكهف 109 ) .
لكن آحاد الفعل أو نوع الفعل فهذا ينفك الله عنه يعني ليس لازماً لذاته ،
مثال ذلك : النزول إلى السماء الدنيا هذا نوع وآحاد نوع ،
لأنه لم يثبت له نظير قبل خلق السماء آحاد ، لأنه يتجدد كل ليلة ،
فالأفعال نوعها قد يكون حادثاً آحادها تكون حادثة لكن جنسها أزلي أبدي لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً ،
النزول فعل نوعه حادث أفراده كل ليلة هذا آحاد ،
وكذلك الاستواء على العرش نوع فهو باعتبار أصل الفعل صفة ذاتية وباعتبار النوع ،
(71/27)
لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش يكون فعلياً ،
أما آحادية فلا نستطيع أن نقول : آحادية لأن استواء الله على العرش ثابت ،
ولا يمكن أن نقول : إن الله قد لا يستوي على العرش ،
لا نقول هذا لأننا ليس عندنا علم بذلك الشيء ،
بخلاف النزول إلى السماء الدنيا لما كان مقيدًا بزمن ، قلنا : إنه يحدث كل ثلث ليلة بالنسبة للسماء الدنيا ،
إذن قول المؤلف : ( كذاك لا ينفك عن صفاته ) :
يجب أن يحمل على الصفات الذاتية والصفات الخبرية وعلى جنس الصفات الفعلية ،
******************
46 – فكل ما قد جاء في الدليل ،
فثابت من غير ما تمثيل ،
هذه قاعدة نافعة في باب الصفات ،
لكن ما هو الدليل الذي يعتمد عليه في صفات الله عز وجل ؟
الدليل الذي يعتمد عليه في صفات الله هو الأثر فقط عند أهل السنة والجماعة ،
الأثر المتمثل في أمور ثلاثة :
1 – الكتاب ،
2 – والسنة ،
3 – وأقوال الصحابة ،
هذه مصادر التلقي بالنسبة للصفات ،
عند غير أهل السنة والجماعة الدليل المعتمد عليه في هذا الباب هو العقل ،
وهذا مذهب الأشاعرة ،
فيقولون : ما اقتضى العقل إثباته أثبتناه ، وإن لم يوجد في الكتاب والسنة وما اقتضى العقل نفيه نفيناه وإن وجد في الكتاب والسنة وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه ،
فأكثرهم نفاه لعدم الدليل المثبت ،
وبعضهم توقف فيه لعدم الدليل المثبت والنافي ،
ما جاء في الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أقوال الصحابة فإنه ثابت ،
لا يجوز أن ننفيه لا تكذيباً ولا تحريفاً المسمى بالتأويل ،
وإن شئت فقل : لا تكذيباً ولا تأويلاً بمعنى التحريف ،
فمثلا : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) هذا ثابت بالدليل وهو قوله : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) لا يجوز أن ننفيه بتكذيب فنقول : إن الله لم يستوي ،
(71/28)
لأن من قال : إن الله لم يستوي فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة ،
لأنه مكذب ولا تأويل يكون تحريفاً ،
فمن قال : إن الله استوى بمعنى استولى .
فهذا أثبت الاستواء لكن حرف معناه .
فنحن نثبته ولا ننفيه لا تكذيباً ولا تأويلاً حقيقته التحريف ،
هذا معنى قول المؤلف : ( فثابت ) : أي ثابت ثبوتاً حقيقياً لا تكذيب فيه ولا تحريف ،
ما هو الدليل ؟
الجواب : الدليل على وجوب ثبوته : السمع والعقل ،
أما السمع :
فلأن الله أثبت هذه الأسماء والصفات .
فقال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } ( الأعراف 180 ) .
وقال : { وربك الغفور ذو الرحمة } ( الكهف 58 ) .
وقال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ( الرحمن 27 ) .
فأثبت الأسماء والصفات الخبرية والذاتية ،
والدليل العقلي :
أن صفات الله عز وجل وأسمائه أمور خبرية غيبية ، لا مدخل للعقل في تفصيلها ، فوجب الاعتماد فيها على النقل فما أثبته النقل أثبتناه وما نفاه نفيناه وما سكت عنه توقفنا فيه لا نثبت ولا ننفي ،
قوله : ( من غير ما تمثيل ) : لأنه لما كان الثبوت قد يستلزم التمثيل نفي هذا [39] ، وقال : ( من غير ما تمثيل ) فلا نمثّل نثبت لله وجهاً بدون تمثيل ، يداً بدون تمثيل ، وهكذا بقية الصفات ،
والتمثيل : دل على نفيه عن الله :
السمع .
والعقل .
والحس .
فأما السمع : فقد قال الله تعالى : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) ، وهذا نفي عام لا يماثله شيء في أي شيء من صفاته ، وقال : { هل تعلم له سمياّ } ( مريم 65 ) ، وقال : { فلا تضربوا لله الأمثال } ( النحل 74 ) وقال : { فلا تجعلوا لله أندادا } ( البقرة 22 ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن الله ليس له مثل ولا يجوز أن يجعل له مثل .
ليس له مثل ، للأدلة الخبرية .
ولا يجوز أن يجعل له مثل ، للأدلة الطلبية .
لأن فيه نفي المماثلة وفيه نهي عن المماثلة .
(71/29)
نفي المماثلة مثل : { ليس كمثله شيء } ، { هل تعلم له سمياّ } .
والنهي عن التمثيل { فلا تضربوا لله الأمثال } ، { فلا تجعلوا لله أندادا } .
الدليل العقلي على امتناع التمثيل : أن الخالق مباين للمخلوق في ذاته ووجوده ومنزلته ،
أما في ذاته : فإن كل أحد يعلم بأن الخالق ليس كالمخلوق ، المخلوق خلق من مادة مكونة يقوم بعضها ببعض ، والخالق ليس كذلك ، من جنس العناصر الموجودة ، لا من جنس الذهب ولا الحديد ولا الزجاج ولا الرصاص ولا اللمم ولا التراب ، يعني مخالف طبيعة الأجناس المخلوقة ، يعني مخالف لجميع الأجناس المخلوقة ،
كذلك أيضاً في الوجود : المخلوق وجوده ممكن ، والخالق موجود واجب ، فالمخلوق يجوز عليه العدم وكل ما نشأ من عدم فإنه يجوز عليه العدم ، أما الخالق فلا ، وجوده أزلي أبدي ،
ثالثاً : الخالق فاعل ، والمخلوق مفعول ،
والفاعل أكمل من المفعول ، فلا يمكن أن يجعل البناء كالباني ،
فلما كان مخالفاً للمخلوق في ذاته ووجوده ومرتبته لزم من ذلك أن يكون مخالفاً له في صفاته ،
لأن الاختلاف في الذات يستلزم الاختلاف في الصفات ،
ولهذا نقول : إن الله لا يماثله شيء من مخلوقاته سمعاً وعقلاً ،
والحس : يشهد بالمخالفة أيضاً فالرب عز وجل إذا أراد شيئاً قال له : كن فيكون ، الرب عز وجل كل المخلوقات في يده كخردلة في يد أحدنا ،
إذن لا يمكن أن يكون مماثلاً للمخلوق ،
كذلك أيضاً نشاهد أن الناس يدعون الله فيستجيب لهم بأمور لا يمكن أن يطيقها المخلوق ،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أغثنا ) ، فنشأت سحابة وأمطرت قبل أن ينزل من المنبر [40]
فلا يمكن للمخلوق أن يصنع ذلك ، إذا الحس يشهد بمخالفة المخلوق للخالق ،
ولا يلزم من التماثل في الاسم أن يتماثل الشيء في الصفة ،
ولهذا نقول : للإنسان يد ورجل ، وللثور يد ورجل ، وللفيل يد ورجل ، وللنمل يد ورجل ، هل يلزم من هذا التماثل في الاسم أن يتماثل في الحقيقة ؟
(71/30)
لا يلزم كل يعرف أن رجل الفيل ليس كرجل الذرة وهذا في المخلوقات مع بعضها فكيف بالخالق عز وجل ،
فتبين إذن نفي مماثلة الخالق للمخلوق بدليل السمع والعقل والحس ،
والتعبير بنفي التمثيل أولى من التعبير بنفي التشبيه ،
يعني أن تقول ( من غير تمثيل ) ولا نقول : ( من غير تشبيه ) ،
وهذا أولى وأحسن لوجوه :
الوجه الأول : أن هذا هو اللفظ الذي جاء به القرآن ، فقال الله تعالى : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) ولم يقل : ( ليس كشبهه شيء ) ،
ومعلوم أن التعبير الذي جاء به النص أولى من التعبير الذي لم يأت به النص ،
الوجه الثاني : أن نفي التشبيه من كل وجه لا يصح ،
يعني معناه أن الله لا يشابه خلقه في أي شيء من الأشياء غير صحيح ،
لأنه ما من شيئين إلا وقد اتفقا في أصل ما يجمع بينهما لكن يمتاز كل واحد منهما بما يختص به ،
فمثلا : الوجود ، صفة مشتركة بين الخالق والمخلوق ، ولاشتراك يقتضي التشابه فيما اشترك فيه ، فأصل الوجود الآن مشترك بين الخالق والمخلوق وهذا نوع مشابهة ،
لكن يتميز الخالق بنوع لا وجود ،
فوجود الخالق واجب ووجود المخلوق جائز ، يعني غير واجب ،
والدليل على أنه غير واجب حدوثه وما جاز حدوثه جاز عدمه ،
أما وجود الخالق فإنه واجب ،
وكذلك السمع :
الله عز وجل يسمع والمخلوق يسمع فاشتركا في أصل الصفة ،
وهذا نوع من التشابه ،
لأنه المشتركين في شيء يتشابهان فيما اشتركا فيه ،
فأصل الصفة مشتركة [41] ،
لكن فرق بين هذا وهذا ،
سمع الله تعالى محيط بكل شيء أزلي أبدي لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه ،
وسمع المخلوق محدود ناقص قابل للزوال والتغير ،
محدود لأنك ما تسمع البعيد ناقص ،
لأنه حتى وإن أدرك الشيء أحياناً لا تدركه على ما هو عليه ،
قد يسمع كلمات القارئ ولكن لا تدري بالضبط ما يقول ،
كذلك أيضاً هو قابل للتغير كم من إنسان كان يسمع ثم ضعف سمعه حتى كان أصم ،
(71/31)
وسمع الخالق سبحانه وتعالى على العكس من ذلك ،
سمعه شامل كامل لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه ،
إذن لو نفينا المشابهة وأردنا المشابهة من كل وجه فهذا لا يصح ،
لا بد من تشابه لكن تشابه لا يقتضي التماثل ،
الوجه الثالث : أن نفي التشبيه صار يطلق عند بعض الناس على نفي الصفات ، ولهذا يقولون لكل من أثبت الصفات يقولون : إنه مشبِّه ،
المعطِّلة يسمون المشتبه مشبهة يعني نحن أهل السنة والجماعة والحمد الله ،
يسمينا أهل التعطيل : المشبهة – المجسمة – الحشوية – النوابت – الغثاء ،
كل هذه يصفوننا بها أهل التعطيل [42] ،
فإذا قلنا : ( من غير تشبيه ) ،
وكان مفهوم التشبيه عند هذا السامع يعني إثبات الصفات ،
صار معنى قولنا : ( من غير تشبيه ) أي يساوي قولنا : ( من غير إثبات صفات ) وهذا معنى باطل غير مراد ،
وبهذا نعرف أن نفي التمثيل أولى من نفي التشبيه لهذه الوجوه الثلاثة ،
فإذا قال قائل : نحن نسمع في كلام السلف والخلف نفي التشبيه قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : ( من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً ) فذكر التشبيه ؟
الجواب : نقول : إنه يريد بذلك التمثيل ولا بد ،
وأيضاً ليس هو بمعصوم ،
وإذا كان لدينا عبارة في كتاب الله فهي أولى من عبارة أي معبر ،
والمؤلف رحمه الله سلك نفي التمثيل حيث قال : ( من غير ما تمثيل ) ،
قوله : ( ما ) : في قوله ( من غير ما تمثيل ) زائدة ،
والدليل على زيادتها : أنك لو حذفتها لاستقام الكلام وصح المعنى ،
يقول علماء البلاغة : إن فائدة الزوائد زوائد ،
فكل حرف زائد فهو مؤكد للمعنى الذي هو في سياقه ،
وعلى هذا فتكون ( ما ) هنا زائدة لتوكيد النفي أي نفي التمثيل ،
******************
47 – من رحمة ونحوها كوجهه ،
ويده وكل ما من نهجه ،
(71/32)
قوله : ( من رحمة ) : الرحمة : صفة من صفات الله عز وجل أثبتها الله لنفسه في آيات كثيرة من القرآن :
1. فتارة بذكر هذه الصفة نفسها ، مثل قوله : { وربك الغفور ذو الرحمة } ( الكهف 58 ) .
2. وتارة بذكر الاسم المتضمن لها ، مثل قوله : { وهو الغفور الرحيم } ( يونس 107 ) .
3. وتارة بذكر الأثر وهو الفعل المشتق منها ، مثل قوله تعالى : { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } ( العنكبوت 21 ) .
فصفة من صفات الله تتنوع هذا التنوع ،
لاشك أنها حقيقة وأن الله تعالى متصف بها اتصافاً حقيقياً لا يحتاج إلى تحريف ،
ورحمة الله سبحانه وتعالى ،
ولا يشكل عليك قوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيما } ( النساء 96 ) في أن الرحمة أزلية ،
لأنه قد يقول قائل : ( كان ) فعل ماض يدل على شيء مضي ؟
الجواب عن هذا الإشكال : أن نقول : إن كان أحيانًا تسلب منها الدلالة على الزمنية ،
ويكون المراد بها إثبات الصفة دون الزمن ،
فـ { وكان الله غفوراً رحيما } ، معناه أن الله متصف بالمغفرة والرحمة ،
لا أنه ( كان ) و ( زال ) ، فـ ( كان ) هنا مسلوبة الدلالة على الزمان ،
والغرض منها إثبات الصفة على وجه الاستقرار والدوام ،
والرحمة صفة ذاتية لم يزل ولا يزال ،
الله تعالى راحم دل عليها السمع والعقل ،
أما السمع : والآيات التي ذكرنا آنفاً وهي لا تحصى كثيرة جداً في القرآن والسنة ،
أما العقل : موجه الدلالة على رحمة الله ما فينا عن النعم العظيمة ودفع النقم ،
كل هذا يدل على الرحمة فجلب النعم والأرزاق من آثار رحمة الله ،
قال الله تعالى : { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } ( الشورى 28 ) .
وقال الله تعالى : { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير } ( الروم 49 – 50 ) ،
(71/33)
إذ أن غير الرحيم لا ينعم ، بل ينتقم ويهين ويؤذي ويتعدى لكن الذي ينعم هو الرحيم ،
وما اندفع عنا من النقم من الأدلة على ثبوت الرحمة لله ،
والعجب أن من يدعون العقل يقولون إن العقل يدل على امتناع ثبوت الرحمة لله ، وإن الله لا يوصف بالرحمة عقلاً ، الرحمة تدل على الرقة واللين ، والرقة واللين ضعف ، والله عز وجل منزه عن الضعف ، وهذا الكلام موهم ،
ولكن نقول : هذا الذي ادعيته في الرحمة إنما هو إن صح أنه ملازم للرحمة في رحمة المخلوق ،
أما الخالق فهو يرحم مع كمال سلطانه وعزته وقوته ،
على أننا لا نسلم لك أن الرحمة تقتضي الرقة واللين والضعف ،
فها هو الملك ذو السلطان العظيم ، في سلطانه المناسب للبشر من أقوى الناس ويكون من أرحم الناس وهذا يمكن فلا تلازم بين الرحمة والضعف فدعواك أن الرحمة تقتضي الرقة واللين والضعف دعوى مجردة لا دليل عليها ، ثم على فرض أن يكون عليها دليل فهي بالنسبة للمخلوق ،
والعجب أيضاً من هؤلاء الذين يدعون العقل ، أنهم يقولون : إن الإرادة دل عليها العقل والرحمة لم يدل عليها العقل ،
فيثبتون لله الإرادة ويقولون : إن العقل دل عليها ،
ولا يثبتون الرحمة ويقولون : إن العقل دل على نفيها ،
ولو سألتهم : أيما أكثر في القرآن ذكر الإرادة لله أو ذكر الرحمة ؟
الجواب : ذكر الرحمة أكثر بكثير من ذكر الإرادة ،
ثم إن دليل العقل على الإرادة دليل خفي لا يفهمه إلا الجهابذة من طلبة العلم ،
لأن الدليل العقلي على ثبوت الإرادة عندهم هو التخصيص ،
ما هو التخصيص ؟
كون السماء سماءً والأرض أرضاً والشمس شمساً والقمر قمراً والبعير بعيراً والحمار حماراً ،
هذا تخصيص ،
ما الذي خصص أن يكون هذا البعير بعيراً وهذا الحمار حماراً ؟
إرادة الله ، أراد الله أن يكون البعير على هذا الشكل فصار على هذا الشكل ، والحمار على هذا الشكل فصار على هذا الشكل ، فالتخصيص يدل على الإرادة ،
(71/34)
ودلالة التخصيص على الإرادة أخفى بكثير من دلالة النعم على الرحمة ،
أي عامي تسأله وتقول : الحمد لله مطرنا البارحة مطراً كثيراً خالياً من العواصف والقواصف ، من أين هذا ؟ وماذا يدل عليه ؟
الجواب : سيقول لك الحمد لله مطرنا بفضل الله ورحمته ،
ويستدل بهذا المطر على رحمة الله استدلالاً لا يحتاج إلى تعب ،
فهذه الدلالة العقلية الجلية الواضحة التي يستوفيها العام والخاص يقولون : إنها منتفية عن الله ، ولا يوجد دليل يدل على الرحمة ، بل الدليل يدل على نفي الرحمة ،
والتخصيص الخفي يقولون : هذا هو الذي نثبت به الإرادة عقلاً ،
وهؤلاء أنكروا الرحمة ولكن على أي شيء يفسرون الرحمة ؟
الجواب : قالوا : إما الإحسان وإما إرادة الإحسان ،
إذا فسروها بالإحسان فسروها بمفعول منفصل عن الله لا من صفاته ،
وإذا فسروها بالإرادة فسروها بصفة يقررونها ، لأنهم يثبتون لله سبع صفات ومنها الإرادة ،
فيفسرون الرحمة بإرادة الإحسان ،
فيقول : الرحمن الرحيم يعني المريد الإحسان أو يعني المحسن ،
فيفسرون الرحمة بلازمها ومقتضاها ،
ولا شك أن هذا تحريف ،
ونقول لهم : إذا أثبتم الإرادة فلماذا لا تثبتون الرحمة ؟
إذا قالوا : إن الرحمة رقة ولين وضعف ،
فقد سبق لنا الجواب عن هذا وقلنا إن الجواب عن هذا بأمرين :
الأول : منع أن تكون الرحمة دالة على الرقة واللين والضعف ،
الثاني : لو قدر أن هذا مقتضاها باعتبار رحمة المخلوق فإن ذلك لن يكون مقتضاها باعتبار رحمة الخالق ،
قوله : ( ونحوها ) : نأتي بمثال ويكفي :
( الحكمة ) الحكمة ممنوعة عند أهل التعطيل [43] ،
يقولون : إن الله ليس له حكمه لا في ما شرع ولا في ما خلق ،
قالوا : لأن الحكمة غرض ، والله تعالى منزه عن الأغراض منزه عن الأبعاض ومنزه عن الأعراض ،
فيقول القائل منهم في الثناء على الله : ( سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض )
عن الأعراض : يعني عن الصفات ،
(71/35)
والأغراض : عن الحكمة ،
والأبعاض : عن اليد والوجه والعين وما أشبهها ،
فهم ينكرون الحكمة ويقولون : إن الله لا يفعل الشيء لحكمة ، ولكنه لمجرد المشيئة ، شاء أن يفعله ففعله ، شاء أن لا يفعل فلم يفعل ، أما أن يكون لحكمة وغاية محمودة فهذا لا يمكن ،
قالوا : لأن الحكمة غرض ،
والغرض فيه منفعة لصاحب الغرض أو دفع مضرة ، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى المنفعة ولا إلى دفع المضرة ،
ولا شك أن هذا القول من أنكر الأقوال وفيه سلب صفة عن الله من أجل الصفات وهي الحكمة ، وعلى قولهم يكون الله تعالى قد خلق السماوات والأرض باطلاً ويكون قد خلق الإنسان سدى وقد شرع الرائع والأرض عبثاً ،
وكل هذا يكذبه القرآن ،
قال الله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } ( المؤمنون 115 ) ولو كان خلق الخلق لغير حكمة لكان عبثاً ،
وقال تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما إلا بالحق } ( الدخان 38 – 39 ) .
وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار } ( ص 27 ) .
وإذا قُدِّرَ أن الغرض : ( دفع مضرة أو جلب منفعة ) فإنما هذا بالنسبة للمخلوق ، أما الخالق عز وجل فلا ، على أننا نمنع أن يكون هذا مضطرداً في المخلوق ، فقد يريد الإنسان الشيء لجلب منفعة لغيره أو دفع مضرة عن غيره ، فلو وجد الإنسان شخصاً غريقاً في الماد ونزل لإنقاذه فهل له هو منفعة ؟
الجواب : منفعة مادية لا أول وارد يرد على الإنسان في هذا إنقاذ أخيه ، قد يكون حين الإنقاذ لم يتصور أو لم يفكر في الثواب ، فيكون الغرض من ذلك دفع مضرة عن الغير ،
ومع هذا نقول : لو سلمنا جدلاً أن الإنسان لا يريد بأفعاله وأقواله إلا ما يتعلق بمصلحته من جلب منفعة أو دفع مضرة فهذا بالنسبة للمخلوق ،
(71/36)
أما الله عز وجل فإنه غني عن العباد ، قال الله تعالى : { ومن كفر فإن الله غنيٌّ عن العالمين } ( آل عمران 97 ) فهو يفعل الشيء لا لمصلحته ولا لمنفعته ولا لدفع الضرر عنه ولكن للإحسان إلى المخلوق ، والإحسان إلى الغير صفة مدح ،
فإذن حكمة الله عز وجل متعلقة بفعله ومتعلقة بمفعوله ،
بفعله فلا ينسب إلى العبث ،
وبمفعوله بما يحسن به إلى الفاسدة من جلب المنفعة ودفع المضرة ،
إذن نحن نثبت الحكمة لله عز وجل ،
لا على أنه محتاج إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ،
ولكن لأن فعله ليس بعبث وليس بباطل ،
وهو سبحانه إنما يفعل الفعل لمصلحة العبد ،
فلهذا نثبت لله الحكمة [44] ،
فهم يقولون : لا نثبت الحكمة ، ونقول : إن فعله لمجرد المشيئة ،
ولهم شبهات :
منها مثلاً : قوله تعالى : { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } ( النساء 96 ) ( الأنبياء 23 ) ،
ولكن هذا ليس فيه دليل ،
1 - لأن الآية في إبطال ألوهية الأصنام ومن خصائص ألوهية الأصنام أنها تسأل إذا كانت ممن يتوجه إليه السؤال أما الله فإنه لا يسأل ،
2 - ثانياً : أن معنى الآية : { لا يسأل عما يفعل } سؤال مناقشة بحيث يمنع أو يؤذن له لأنه تام السلطان سبحانه وتعالى فله أن يفعل ما شاء لكن نعلم أن فعله مقرون بالحكمة فليس في الآية ما يشير إلى أن فعل الله عز وجل ليس له حكمة بل في الآية ما يدل على كمال سلطانه وإنه لا أحد يسأله أو على كمال فعله وحكمته لأنه لا يحتاج أن نسأل لماذا فعل ؟
لأننا نعلم أنه ما فعل إلا لحكمة ،
فالآية منزلة على أحد وجهين :
قوله : ( كوجهه ) : من صفات الله ( الوجه ) وقد أثبت الله لنفسه الوجه في عدة آيات :
منها : قوله تعالى : { كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ( الرحمن 26 – 27 ) فأثبت الله لنفسه وجهاً ،
ووصف هذا الوجه بأنه ذو جلال وإكرام ، أي ذو عظمة وبهاء وحسن ،
وذو إكرام : اكرام أي يكرم ويكرِم سبحانه ،
(71/37)
وقال الله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } ( القصص 88 ) .
وقال تعالى : { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } ( الرعد 22 ) والآيات في هذا متعددة ،
وأما قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } ( البقرة 115 ) .
ففيها قولان للسلف :
القول الأول : أن المراد بوجه الله وجه الله الحقيقي ،
وقالوا : إن الآية نزلت في الصلاة والمصلي أينما توجه فالله قبل وجهه [45] ،
وقال آخرون : بل المراد بالوجه : الجهة ،
كقوله تعالى : { ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها } ( البقرة 148 ) [46] ،
فالمراد أينما تكونوا فثم جهة الله التي أمركم باستقبالها وتكون الآية نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة فاتجه إلى غير القبلة وهو يريد القبلة ،
فنقول : هذه جهة صحيحة لأنك اجتهدت وأداك اجتهادك إلى ذلك أو لصلاة النافلة على السفر فإنك تصلي حيث كان وجهك لكن بقية الآيات لا يراد بها إلا الوجه ،
الوجه : صفة حقيقية ثابتة لله منزه عن مماثلة أوجه المخلوقين ،
والدليل على أنها حق ثابتة لله : أن الله أثبتها لنفسه ،
والدليل على أنها لا تماثل أوجه المخلوقين : أن الله قال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) .
فإن قال قائل : إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ) [47] ، وهذا يدل على أن وجه أدم مماثل لوجه الله وأنتم تقولون إن لله وجهاً لا يماثل أوجه المخلوقين فما هو الجواب عن هذا الحديث ؟
الجواب : قلنا : هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة فمن كان من قلبه زيغ اتبعه وجعله مناقضاً للقرآن ، وضرب القرآن بعضه ببعض ، وقال : هذا القرآن يقول : { ليس كمثله شيء } ، وهذا الحديث يقول : إن الله خلق آدم على صورته ، فأيهما نصدق ؟ فيتبع المتشابه .
وأما الراسخون في العلم فيفتح الله عليهم ويعرفون وجه الجمع بين النصوص ،
ويقولون في الجواب عن هذا الحديث :
(71/38)
1 - إن معنى قوله : ( خلق الله آدم على صورته ) : أي على الصورة التي اختارها سبحانه وتعالى وخلقها في أحسن صورة ،
فتكون إضافة الصورة إلى الله إضافة خلق وتشريف ،
كقوله : ناقة الله ، وبيوت الله ، ومساجد الله ، وما أشبه ذلك ،
وهذا وارد في القرآن ولا يمتنع على الله عز وجل ،
2 - الوجه الثاني : أن نقول : ( على صورته ) : أي على صورة الله التي هي صفته ،
ولا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء [48] ،
والدليل على هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر [49] ،
ومعلومٌ أنها ليست على صورة القمر من كل وجه ، فليس في القمر عين ولا أنف ولا فم ، ومن دخل الجنة فهو له عين وأنف وفم ، فهذا يدل على أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء ،
فصار قولنا : ( إن الله خلق آدم على صورته ) ، لا ينافي قولنا : إننا نثبت لله وجهاً لا يماثل أوجه المخلوقين ،
س : هذه الصفة هل هي معنوية ؟
الجواب : ليست معنوية ولكنها موافقة لمسمى هو منا أبعاض وأجزاء ، فالوجه بالنسبة لنا بعض منا لكن بالنسبة لله لا نقول : إنه بعض ،
لأن البعض في اللغة : ( ما جاز انفكاكه عن أصله وانفصاله عنه ) [50] ،
ومثل هذا في صفات الله لا يمكن [51] ،
فلهذا نقول : إن هذه الصفات صفات خبرية مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء ،
ولكن بماذا يفسرون الوجه ؟
الجواب : قالوا : إنه الثواب : وفي قوله : { ويبقى وجه ربك } ( الرحمن 27 ) قالوا : أي ثوابه ، ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه ،
فالثواب : لا يوصف بأنه ذو جلال وإكرام الثواب نعم ،
إذا كان لا ينقطع كثواب الجنة لكنه لا يوصف بأنه ذو جلال وإكرام ،
بل وجه الله هو الذي يوصف بالجلال والإكرام ،
وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ) ،
(71/39)
فقال : بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض ، وهذا لا يمكن أن يكون للثواب ،
المهم : أن الذين فسروه بالثواب اخطئوا الطريق وضلوا عنه وحرفوا الكلم عن مواضعه ،
فجمعوا بين الجهل والضلال حيث وصفوا الثواب بما لا يصح إلا لوجه الله ،
والعدوان على النصوص حيث حرفوها عن مواضعها بشبهة هي شبهة ليست بحجة ،
يقولون : لو أثبتنا لله وجهاً لكان جسماً ،
وجوابنا على ذلك سهل جداً : أن نقول : أأنتم أعلم أم الله ؟
إن قالوا : نحن أعلم كفروا ، وإن قالوا : الله أعلم ،
نقول : إن الذي هو أعلم هو الذي وصف نفسه بأن له وجهاً ، فلماذا تنكرون ما وصف به نفسه ؟ ثم نقول : إن تفسير الوجه بالثواب أو نحوه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ،
والواجب علينا في الأمور الخبرية اتباع النص والأخذ بظاهره واتباع السلف في هذا ،
لأن العقول ليس لها مجال في هذا الباب ،
قوله : ( ويده ) : يعني : وكذلك نؤمن بيد الله عز وجل بدون تمثيل ،
والبحث في ( اليد ) من أمور :
البحث الأول : هل ثبتت اليد لله ؟
الجواب : نعم ثبتت اليد لله بالكتاب والسنة وإجماع السلف ،
قال الله تعالى لإبليس : { ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ } ( ص 75 ) .
وقال عز وجل عن اليهود : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) وأثبت له يدين ،
أما السنة : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يد الله ملأى سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ) [52] ،
وقال : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) [53] ،
فقوله في الحديث الأول : ( ملأى ) : أي فيها الخير الكثير ،
( سحاء ) أي معطاء تعطي ،
وذلك لأن اليد قد تكون خالية فلا يمكن العطاء منها ،
وقد تكون ملأى ويكون صاحبها بخيلاً ،
(71/40)
فإذا كانت ملأى ولكنه لا ينفق صارت غير سحاء ، وإذا لم يكن فيها شيء فلا إنفاق لأنها خالية ،
فيد الله تعالى ملأى سحاء دائماً تعطي الليل والنهار ،
ومع ذلك فإنه لم ينقص ما فيه يمينه ،
أما إجماع السلف فهذا أمر معلوم ،
ولكن لو قال قائل : كيف الطريق إلى العلم به ؟
الجواب : نقول : إن القرآن نزل باللسان العربي الذي يفهمه الصحابة ،
فإذا لم يأت عنهم ما يخالف هذا القرآن فهم مجمعون عليه ،
لأنهم لو فهموا أن المراد خلاف ما جاء به لكان ينقل عنهم ،
فلما لم ينقل عنهم قول مخالف لما كانوا يتلونه في الليل والنهار عُلِمَ أنهم يقولون به ،
فهذا وجه قولنا : إن السلف أجمعوا على ذلك ،
وإلا فقد يصعب عليك أن تجد نقلاً في كل مسألة من مسائل العقيدة عن الصحابة ،
البحث الثاني : هل هي حقيقة أو مجاز [54] ؟
الجواب : نقول : هي حقيقة ،
ونقول قبل أن نجيب : ليس في القرآن مجاز أصلاً ،
وذلك لأن من أبرز علامات المجاز جواز نفيه ،
وليس في القرآن شيء يجوز نفيه أبداً ،
مثال ذلك : إذا قلت رأيت أسداً يحمل حقيبته ويحفظ درسه ، وتعني بالأسد طالباً شجاعاً ،
فإذا قال لك المخاطب : هذا ليس بأسد ، هذا بشر ،
فهنا صح كلامه فنفينا ،
فالمجاز يصح نفيه ، وليس في القرآن شيء يصح نفيه ،
وهذا الدليل دليل واضح وعليه اعتمد الشنقيطي رحمه الله [55] في كتابه منع المجاز في القرآن [56] ،
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ذهبا إلى أبعد من ذلك ،
وقالا : ليس في اللغة العربية مجاز ، والمجاز الذي ادعاه من ادعاه لطاغوت أرادوا به أن يحرفوا آيات الصفات وأحاديثها عن ما أراد الله بها ورسوله [57] ،
ولهذا عنون ابن القيم في النونية على هذه المسألة قال : ( كسر الطاغوت ) [58] ،
يعني المجاز الذي كانوا يلهجون به ويحتجون به ،
فقالوا : المجاز ممنوع في اللغة العربية كلها ،
(71/41)
وعلى العكس من ذلك رأيت كلاماً لبعض أهل اللغة نقله ابن القيم في ( الصواعق المرسلة ) يقول : جميع الكلام في اللغة العربية مجاز [59] ،
فإذا قال : قلت إن زيداً قائم ،
قال : هذا ليس حقيقة ،
لأنه لا يقع الفعل على نفس الجملة يقع على مدلولها أما ( إن زيداً قائم ) ما وقع الفعل عليه ،
وعلى كل حال : فإذا قلنا : هل يد الله حقيقة أو مجاز ؟
نقول : حقيقة ،
ولكن قبل أن نجيب عن هذا السؤال ،
نقول : ليس في القرآن مجاز بل ولا في اللغة العربية مجاز للتعليل السابق ،
وهو إن المجاز أبرز علاماته : أن يصح نفيه ،
ومن المعلوم أن الكلمة في مكانها ومعناها الذي دلت عليه وضعاً أو بقرينة لا يمكن نفيه ،
فإذا قال قائل : مثلاً : { واسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } ( يوسف 82 ) ، لو قال قائل : هذا مجاز ، لأن القرية سئل ؟
قلنا : ليس مجازاً ،
لأن المخاطب يعرف المعنى ،
ولو أردت أن تحول القرية إلى الجدران والبيوت ،
لقال : إنك مجنون ،
أولاد يعقوب لما قالوا : { واسئل القرية } هل يريدون من أبوهم أو يمكن أن يفهم أبوهم أنهم يريدون أن يذهب إلى القرية ويقف عند كل جدار ، ويقول : ما تقولون في ابني هل سرق أم لا ؟
أبداً ، ولا كان يريدون هذا ولا خطر ببالهم وهو أيضاً يفهم أنهم لم يريدوا هذا ،
فإذا كان المتبادر من هذا السياق أن المراد سؤال من يصح توجيه السؤال إليه ، بقي الكلام حقيقة ،
البحث الثالث : هل اليد واحدة أو متعددة ؟
الجواب : أنها متعددة ، فلله تعالى أكثر من يد ،
فإذا قال قائل : كم لله من يد ؟
الجواب : نقول له يدان اثنتان ،
والدليل : قوله تعالى وهو يتمدح بكمال القدرة { ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ } ( ص 75 ) .
ولو كان له أكثر من اثنتين لقال : ( بأيدينا ) ،
لأن الأكثر أبلغ في القدرة من الأقل ،
(71/42)
فلما قال في مقام التمدح بالقدرة والقوة والتشريف لآدم لما قال : { بيديَّ } علم أنه ليس له إلا يدان اثنتان ،
ولما قالت اليهود : { يد الله مغلولة } ( المائدة 64 ) قال : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) وهذا في مقام الثناء على الله بكثرة العطاء ، ولو كان له أكثر من اثنتين لذكرها ، لأن المعطي بثلاث أكثر من المعطي باثنتين ،
ولكن الكمال كله لله عز وجل باليدين الاثنتين ،
فإذن لله تعالى يدان اثنتان ،
فإن قال قائل : قد جاءت النصوص بأن لله يداً واحدة كقوله تعالى : { تبارك بيده الملك } ( الملك 1 ) ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يد الله ملأى سحاء ) [60] ، فكيف تجمع بين النصوص ولماذا لم تقل إنه له يداً واحدة ؟
الجواب : نقول : من المقرر عند العلماء في الاستدلال : ( أنه إذا جاء دليلان أحدهما فيه زيادة أخذ بالزائد ) ،
لأن الأخذ بالزائد أخذٌ بالناقص وزيادة ،
ولو اقتصرت على الأخذ بالناقص لألغيت الزيادة التي جاء بها الزائد وهذا خطأ ،
فنقول : النصوص الدالة على اثنتين فيها زيادة فيؤخذ بها ،
فإذا قال قائل : هل يلزم من أخذك للزيادة وأن تجعل لله يدين ثنتين أن يهدر دلالة اليد التي جاءت بالإفراد ؟
الجواب : أقول : لا يلزم ،
وذلك لأن اليد التي جاءت مفردة جاءت مضافة : ( يد الله ملأى ) ، { بيده الملك } .
والمفرد إذا أضيف يكون عاماً ،
فيشمل كل ما لله من يد ولو زادت على الواحدة ،
وحينئذ لا معارضة بين مجيئها مفردة ومجيئها مثناة ،
فإن قال : أين الدليل على أن المفرد إذا أضيف يكون للعموم ؟
الجواب : فأقول : الأدلة كثيرة ،
ومنها : قوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ( إبراهيم 34 ) ونعم الله كثيرة وليست واحدة فقط .
بدليل : قوله : { لا تحصوها } ولو كانت واحدة لكانت محصاة ،
(71/43)
فإذا قال قائل : أنت أصَّلْتَ قاعدة وألزمتنا بها ونحن نقبلها وهو أنه إذا جاءت النصوص بزائد وناقص أخذ بالزائد ونحن نلزمك بناء على هذه القاعدة أن تجعل لله أكثر من يدين لأنه تعالى يقول : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا } ( يس 71 ) ويقول : { والسماء بنينها بأيدٍ وإنا لموسعون } ( الذاريات 47 ) فأثبت لله أكثر من اثنتين [61] ؟
الجواب : فأقول : قد ذكرنا أن اليدين الاثنتين ذكرتا في مقام التمدح والثناء ،
وهذا يمنع أن يكون هناك زيادة عليهما ،
لأنه لو كان هناك زيادة عليهما لم يكمل التمدح والثناء ،
لأننا أثنينا عليه بما هو أنقص من كماله ،
إذا جعلنا الكمال في أكثر من اثنتين ،
فإذا قال : أنا أسلم ذلك لكن أجيبوني عن الجمع ؟
الجواب : فنقول : إن الجمع هنا نجيبك عنه بأحد أمرين :
إما أن نسلك طريق من قالوا : إن أقل الجمع اثنان :
وقالوا : إن أقل الجمع اثنان شرعاً ولغة :
أما لغة : فقد قال الله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } ( التحريم 4 ) وهما اثنتان وليس لهما إلا قلبان بنص القرآن ، قال الله تعالى : { ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه } ( الأحزاب 4 ) فليس لهما إلا قلبان وقد جمع فقال : { قلوبكما } وهذا يدل على أن الجمع قد يراد به الاثنان ،
وأما شرعاً : فلأن الإنسان مأمور بصلاة الجماعة وإذا صلى اثنان أحدهما بالآخر صلى جماعة وهذه جماعة شرعية وهما اثنان ،
فإذن يكون قوله تعالى : { مما علمت أيدينا أنعاماً } كما لو قال : ( مما عملت يدانا أنعاماً ) ،
لأن المدلول واحد ،
أو نقول : إن أقل الجمع ثلاثة ،
لكن الجمع هنا لا يراد به حقيقته وإنما المراد به التعظيم ، كما قال الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ( الحجر 9 ) .
فقوله : â ?`?twU $uZ?9¨?tR ? هذه ضمائر جمع ،
لكن المراد بها التعظيم ،
فالأيدي هنا المراد بها التعظيم تعظيم اليد ،
(71/44)
وهناك أيضاً مناسبة لفظية وهي أن أيدي أضيفت إلى ( نا ) الدالة على الجمع ،
فكان جمعها أنسب للمضاف إليه من التثنية ،
ولهذا قال : { بل يداه } ( المائدة 64 ) ولم يقل : ( لما خلقت بيدينا ) ، بل قال : { بيديَّ } ( ص 75 ) .
أما لما أضافها الله عز وجل إلى ضمير الجمع الدال على العظمة فكان المناسب أن يجمعها ليتطابق اللفظان ، ولا يحصل بينهما تناقض ،
وهناك وجه ثالث : لم يرد صيغة الجمع ورود صيغة المثنى ولا المفرد ورود صيغة المثنى ،
المثنى فيه التصريح بأن الخلق كان باليدين ،
والجمع ليس فيه التصريح بأنه بالأيدي ،
الآية الثانية : وهي قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيدٍ } ( الذاريات 47 ) والباني هو الله عز وجل ،
وعلى هذا فيكون لله أيدي كثيرة ؟
والجواب عن هذه الآية سهل جداً :
وهو أن نقول : ( أيد ) هنا ليست جمعاً ،
ومن قال : إنها جمع فهو واهم لا يعرف سياق الكلام ولا يعرف اللغة العربية ،
فـ ( أيد ) ، هنا مصدر ،
وليست اسماً لليد ( أيد ) مصدر فعلها آد يأيد ،، ،
والمصدر أيداً كباع ، يبيع بيعاً ، هي مصدر ( آد ) ،
ومعنى ( آد ) أي قوي فمعنى بأيد أي بقوة [62] ،
فيكون المعنى أن السماوات قوية كما قال تعالى : { وبنينا فوقكم سبعاً شدادا } ( النبأ 12 ) .
ويدل لذلك : أن الله لم يضف الأيد إلى نفسه ،
فإذا قلت : إن ( أيد ) هنا المراد بها يد الله فقد أخطأت خطأ عظيماً وقلت على الله ما لا تعلم ، لأن الله ما أضاف الأيد إليه ،، فكيف يصح منك أن تضيفها إلى الله ؟
فإن قال قائل : نوافقك على أن ما لم يضفه الله إلى نفسه فإننا لا نضيفه إليه ، لكنك نقضت قاعدتك ،
فقلت في قوله تعالى : { يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } ( القلم 42 ) .
قلت : إن المراد بذلك ساق الله مع أن الله لم يضفه إلى نفسه فكيف تؤصل قاعدة ثم تنقضها ؟
(71/45)
الجواب : فأقول : أنا لم أنقض القاعدة وأقول في الآية : { يوم يُكشف عن ساق } :
1. يحتمل أن يراد بذلك ساق الله [63] ،
2. ويحتمل أن يراد بالساق الشدة [64] ،
وقد قال بهذين القولين السلف ،
فليس علي جناح إذا قلت : إن المراد بالساق في قوله تعالى : { يوم يُكشف عن ساق } أن المراد به الشدة ، يعني يوم تتبين الشدة ويكشف عنها حتى تظهر كما يكشف عن الوجه حتى يتبين ،
فإذا قلت بهذا فإنه لا يصح أن تورد علىّ هذه الآية ،
لأنها جارية على القاعدة ،
أنا لم أضف الساق إلى الله لأن الله ما أضافه إلى نفسه ،
بل المراد بالساق هو الشدة ،
ولو ذهبت إلى أن المراد بالساق ساق الله ،
فإنني لم أذهب إلى ذلك إلا بدليل كما هو القول الثاني للسلف في الآية [65] ،
والدليل : حديث أبي سعيد الطويل وفيه : ( أن الله يأتي عز وجل فيكشف عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا ) [66] ،
فإن سياق الحديث يجاري سياق الآية تماماً فتحمل الآية على ما جاء في الحديث ، وتكون إضافتنا الساق لله في الآية بناء على الحديث ،
ومن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن ، وبهذا تكون القاعدة مضطردة ليس فيها نقص ،
هل خالف أحد من المسلمين في تفسير اليد بأنها اليد الحقيقية ؟
الجواب : نعم ،
خالف الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل في إثبات اليد الحقيقية ،
وقالوا : ليس لله يد حقيقية ،
ومن أثبت لله يداً حقيقية فقد شبه الله بخلقه فهو كافر ،
لو أثبت اليد الحقيقية لله أثبت أن الله جسم وأثبت أن له أبعاضاً وهذا حرام ،
والله يقول : { فلا تضربوا لله الأمثال } ( النحل 74 ) .
وأنت إذا أثبت يداً حقيقية فقد ضربت له الأمثال ، وقال : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) .
وإذا أثبت له يداً حقيقية كذبت مقتضى هذا الخبر ، وجعلت الله مثيلاً ،
إذن ما المراد بها ؟
الجواب : قالوا : المراد باليد النعمة ،
ألم تسمع إلى قول الشاعر [67] :
(71/46)
وكم لظلام الليل عندك من يد ،
تُحَدِّثُ أن المانوية تكذب [68] ،
قوله : ( من يد ) : أي من نعمة ،
وكذلك قال مندوب قريش لأبي بكر رضي الله عنه : ( لولا يد لك عليّ لم أجزك بها لأجبتك ) [69] ، ومعنى ( يد ) أي نعمة ومنة ،
فالمراد بـ ( يد ) : الله نعمته ومنته ،
أو المراد بها : القوة والقدرة ، لأنه يقال : ما لهذا بهذا يد أي طاقة وقدرة ،
ومنه : حديث النواس بن سمعان الطويل في قصة يأجوج ومأجوج أن الله تعالى يوحي إلى عيسى بن مريم : ( أني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم ) [70] ، أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم ، فالمراد باليد إما القدرة والقوة أو النعمة ، وهذه شواهدها ،
فما الجواب عن هذه الشبهة ؟
الجواب : نقول : الجواب ولله الحمد واضح ،
أما قولكم : ( إن إثبات اليد الحقيقية يستلزم التمثيل ) : فقول باطل بنص القرآن ،
لأن الذي قال : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) .
هو الذي قال : { بل يداه مبسوطتان } ( المائدة 64 ) .
وإذا قلتم : إن إثبات اليدين يستلزم التمثيل لزم أن يكون القرآن يكذب بعضه بعضاً ، وهذا لا تقولون به أنتم ،
ثانيا : أن نقول : إنه لا يلزم من إثبات اليد أن تكون مماثلة ليد المخلوق ،
كما أنكم تثبتون لله ذاتاً ولا ترون من اللازم أن تكون مماثلة لذوات المخلوقين ،
والصفات يُحذى بها حذو الذوات ،
وأنتم الآن نسألكم بالله ألكم أيدي ؟
سيقولون : نعم ، لنا أيدي ،
هل أيديكم تشبه أيدي الفيلة والقردة ؟
سيقولون : لا ،
إذن لا يلزم من إثبات اليد أن تكون مماثلة لأيدي المخلوقين ،
كما لا يلزم من إثبات يدك أنت أن تكون مماثلة ليد الفيل ،
فلا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في حقيقة المسمى [71] ،
إذن دعواهم أن إثبات اليد يستلزم التمثيل باطل بالشرع والعقل والحس ،
بالشرع : في القرآن : أثبت الله له اليدين ونفى المماثلة ،
(71/47)
بالعقل : كما أثبتم ذاتاً لا تماثل الذوات فيلزم أن تثبتوا صفات لا تماثل الصفات ،
بالحس : المشاهد كما تثبتون لأنفسكم أيدياً حقيقية وللفيل أيدياً حقيقية ولا تتماثل ، هذا دليل حسي واضح ،
وأما دعواكم : أن المراد باليد القدرة أو النعمة فهذا يكذبه النص ، فإن الله تعالى يقول : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ( ص 75 ) وذلك لإبليس ،
إذا جعلنا اليد بمعنى القوة أو القدرة فإنه لا حجة على إبليس بهذا ،
لأنه هو أيضاً مخلوق بالقدرة ،
والله عز وجل ذكر ذلك احتجاجاً عليه ،
وإذا كان الله ذكر ذلك احتجاجاًِ على إبليس دل هذا على أن اليد ليست هي القدرة ،
فإذا قال قائل : هل يد الله عز وجل تماثل أيدي المخلوقين ؟
الجواب : لا ،
لأن لدينا قاعدة ذكرها الله تعالى في كتابه مقرراً بها ونافياً عن مخالفتها ،
وهي قوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) .
وقال : { فلا تضربوا لله الأمثال } ( النحل 74 ) يعني لا تمثلوا لله بخلقه ،
قوله : ( وكل ما عن نهجه ) : أي طريقه يعني كل ما كان على هذا النحو من صفات الله فإن الواجب أن نؤمن به ونثبته لله عز وجل ، لكن من غير تمثيل ،
بل نقول : إن الله { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) .
*****************
48 – وعينه وصفة النزول ،
وخلقه فاحذر من النزول ،
قوله : ( وعينه ) : يعني : ونؤمن أيضاً بما جاء في الدليل من ثبوت العين لله عز وجل ،
والعين لله سبحانه وتعالى البحث فيه من عدة وجوه :
الوجه الأول : هل هي عين حقيقية أو هي كناية عن الرؤية ؟
الجواب : أنها عين حقيقية ،
ودليل ذلك : أن الله أثبتها لنفسه في غير موضع وأثبت الرؤية في غير موضع ،
وإثبات هذا تارة وهذا تارة ، يدل على التغاير بينهما ،
فالرؤية شيء والعين شيء آخر ،
(71/48)
فقوله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } ( التوبة 105 ) هذه رؤية ،
وقوله : { ألم يعلم بأن يرى } ( العلق 14 ) هذه رؤية ،
لكن قوله : { تجري بأعيننا } ( القمر 14 ) ، { ولتصنع على عيني } ( طه 39 ) ليست هي الرؤية بل هي عين مخالفة له أي للرؤية ،
ولهذا نقول : إن العين صفة حقيقية نظير مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء ،
لكننا لا نقول : إن العين بعض من الله أو جزء منه ،
لأن ذلك ممتنع على الله حسب فهم البعض والجزء ،
فإن البعض والجزء : هو ( ما جاز أن ينفصل عن الكل ) [72] ،
وهذا بالنسبة لصفات الله ممتنع ،
البحث الثاني : هل العين تماثل أعين الخلق بحيث يكون فيها بياض وسواد أو سواد وصفراء أو ما أشبه ذلك من أعين الخلق ؟
الجواب : لا ، لا نقول بهذا ،
بل نقول : هذا ممتنع ، لأن الله يقول : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) ،
وإن كان أهل التحريف والتعطيل يشنعون على الذين يثبتون لله العين حقيقة ،
ويقول : إذا أثبتها فلا بد أن تقول : هل هي مستديرة أو مستطيلة ؟ هل هي بيضاء أو سوداء ؟ هل فيها بياض وسواد أم ليس فيها ؟
الجواب : نقول : هذا لا يلزمنا نحن نثبت لله العين ،
ولكن لا نقول : إن لها مثيلاً حتى تلزمونا بذلك ،
وأنتم إذا ألزمتمونا بذلك ألزمناكم أيضاً بذات الله ،
وقلنا : ذات الله هل هو طويل أو قصير أسود أو أبيض سمين أو هزيل أو ما أشبه ذلك ،
فإذا ألزمتمونا بأن نقول في العين ما تدعون ،
إذن نلزمكم بأن تقولوا في الذات مثل ما تقولوا في العين ،
إذن لا نعلم حقيقة هذه العين ولا كيفية هذه العين ،
لكن نعلم أنها حقيقة إلا أنها لا تماثل أي حقيقة من حقائق المخلوقات ،
لأن الله تعالى مباين للخلق غاية المباينة في ذاته وصفاته عز وجل [73] ،
البحث الثالث : هل هي واحدة أو متعددة ؟ وإذا قلنا متعددة فهل هي اثنتان أو أكثر ؟
الجواب : أنها ليست واحدة ، بل أكثر ،
وهي قد جاءت بلفظ الأفراد ،
(71/49)
وجاءت بلفظ الجمع ،
ولم تأت في القرآن بلفظ التثنية كما جاء في اليد ،
1. فمن مجيئها بلفظ الإفراد : قوله تعالى لموسى : { وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني } ( طه 39 ) هذه مفرد ،
2. ومن مجيئها بلفظ الجمع : قوله تعالى عن سفينة نوح : { تجري بأعيننا } ( القمر 14 ) .
وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } ( الطور 48 ) .
3. أما مثناة : فلم تأت في القرآن ،
ولكنها جاءت في حديث ذكره ابن القيم رحمه الله في مختصر الصواعق [74] ولم يعزه قال : ( إذا قام أحدكم يصلي فإنه بين عيني الرحمن ) [75] ،
ولكن جاءت في السنة بما يدل دلالة واضحة على أن العين اثنتان ، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الدجال : أنه أعور العين اليمنى وأن ربكم ليس بأعور [76] ،
فإن هذا كالنص الصريح على أنها اثنتان ،
ووجهه : أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر علامة فارقة بين الدجال وبين الرب عز وجل ، لأن الدجال أعور العين اليمنى ، والرب ليس بأعور ، ولا عَوَر إلا لذي عينين ، ولو كان لله أكثر من اثنتين لوجب أن يقول : إن له عينان عوراوان وأن لربكم أكثر ،
لأنه لو ثبت أن لله أكثر من عينين لكان الزائد كمالاً وإذا كان كمالاً كان ذكر الكمال الفارق أولى من ذكر النقص الفارق ،
إذن تَعَيَّنَ أن تكون العينان الثابتتان لله اثنتين وهذا واضح جداً ،
يبقى النظر !
أتت العينان بصيغة الجمع : { فإنك بأعيننا } ( الطور 48 ) ، { تجري بأعيننا } ( القمر 14 ) .
فكيف نجمع بين الجمع وبين المثنى ؟
الجواب : نقول : الجمع بينهما سهل ،
هو نظير الجمع بين اليدين الوارد مجيئهما بصيغة التثنية وبصيغة الجمع ، وهو :
أن نقول : إما أن يراد بالجمع ما دون الثلاثة ،
لأن اللغة العربية قد جاءت بالجمع مراداً به ما دون الثلاثة ،
فيكون قوله : { بأعيننا } ، كقوله : ( بعيننا ) ،
لأن أقل الجمع اثنان ،
(71/50)
وإما أن يقال : أقل الجمع ثلاثة – كما هو الأكثر – ،
ولكن الجمع هنا لا يراد به مدلوله التعددي ،
وإنما يراد به مدلوله المعنوي وهو التعظيم ،
فيكون الله جمع العينين فقال : { بأعيننا } تعظيماً لهما ،
وأيضاً يضاف إلى التعظيم المناسبة ،
لأن ( نا ) دالة على الجمع في أصل الوضع ،
وإن كان المراد بها هنا التعظيم ،
لكن هي في أصل الوضع للجمع فناسب أن يكون المضاف إليها مجموعاً للتعظيم ،
كما أنها هي الآن في قوله : { بأعيننا } للتعظيم فيتناسب هنا المضاف والمضاف إليه ،
وهذه مناسبة لفظية ،
البحث الرابع : هل الله تعالى يبصر بهما أو بصره بغير العين ؟
الجواب : يبصر بهما
ودليل ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) [77] ،
فإن هذا يدل على أن لله بصراً كما أن قوله : { وهو السميع البصير } ( الشورى 11 ) يدل على ذلك ،
والبصر حسب مقتضى اللغة العربية يكون بالعين ،
ولولا أن الله أثبت له العينين لقلنا : إنه يمكن أن يكون البصر بغير العين كما أن الأرض تحدث أخبارها مع أنها ليس لها أعين ،
على كل حال : الله تعالى يبصر بعينيه كما قال ذلك السلف رحمهم الله في كتبهم ،
فله عينان يبصر بهما لكنه ليس كبصر المخلوق يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء والسوداء في الليلة الظلماء ، يعني لو كانت أخفى ما يكون فإن الله يبصرها ،
أما نحن فبصرنا محدود ولا يمكن أن يكون كبصر الله سبحانه وتعالى ،
إذا قال قائل : قد ورد في تفسير بعض السلف لقوله تعالى : { بأعيننا } قال : تجري بمرأى منا [78] ، فهل يعتبر هذا تحريفاً أم ماذا ؟
الجواب : لا ، ليس هذا تحريفاً ،
لأنهم يقولون : ( تجري بمرأى منا ) مع إقرارهم بالعين ،
نعم لو أن هذا جاء من شخص فسَّر ( بمرأى منا ) وهو ينكر العين ،
لقلنا : هذا تحريفاً ،
(71/51)
أما إذا قال : بمرأى منا فإن معنى كلامهم أنها تجري ونحن نراها بأعيننا ،
وكأنهم يريدون بذلك الرد على من زعم بأن ظاهر الآية أن السفينة تجري في نفس العين ، حاشا وكلا !!
وجاء بها مشبهاً على مذهب أهل السنة والجماعة ،
وقال : أنتم يا أهل السنة والجماعة ، تقولون : إننا نجري نصوص الصفات على ظاهرها ، وظاهر الآية أن السفينة في نفس عين الله ،
وهذا لا شك أنه إلزام باطل وأن السلف لا يلتزمون بهذا ،
بل يقولون : إن هذا ليس مدلول اللفظ اللغة العربية ،
يقول الإنسان لآخر : اذهب فأنت في عيني ، يعني أراك ألحظك ولا تغيب عيني ،
ولا أحد يقول : إن الرجل لذا قال لصاحبه : أنت بعيني يعني أنك في نفس العين ،
ولا هذا مقتضى اللغة العربية ،
ثم إن في الآية ما إذا يدل على المنع من ذلك ،
فقوله : { تجري بأعيننا } ( القمر 14 ) والسفينة في الأرض على الماء ،
فكيف تكون إنها تجري في عين الله ؟
لكن هم يتشبثون بكل شيء من أجل التشنيع على أهل السنة ،
ادعى بعض المجادلين قال : إن المراد بالعَور : في حديث الدجال : العيب ،
فنقول له : هذا تحريف لأن لفظ الحديث : ( أعور العين اليمنى ) [79] ، وهذا صريح بأن المراد عور العين لا العور الذي هو العيب العام الذي ينزه الله عنه على سبيل العموم ، وهذا القول تحريف ،
ولكني أتيت به لأبين لك أن أهل التحريف كلهم أصحاب جدل ، لكن من آتاه الله علما وفهماً فإنه يرد جدلهم في نحورهم ،
قوله : ( في صفة النزول ) : يعني : ومن الأمور التي نثبتها لله وهي ثابتة له من غير تمثيل [80] ،
(71/52)
صفة النزول : والنزول يعني إلى السماء الدنيا وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو اشتهر اشتهاراً إلى قرب التواتر بأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر [81] ، ينزل نزولاً حقيقياً بذاته إلى السماء الدنيا ، لأن أعلم الخلق به وأفصح الخلق نطقاً وأنصحهم قصداً ، قال : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ، حتى يطلع الفجر ) [82] ،
وقائل هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب علينا أن نؤمن بأنه أعلم الناس بالله ،
وأنه أصدق الخلق مقالاً ،
وأنصحهم مقصداً ،
فلا أحد أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق ،
ولا أحد من الخلق أفصح منه بالله ،
هذه أربع صفات كلها في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبها يتم الكلام :
العلم ، والصدق ، والقصد ، والفصاحة ،
1. فالعلم : لا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
2. الصدق : لا أحد أصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
3. القصد : لا أحد من الخلق أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
4. البلاغة : لا أحد من الخلق أفصح ولا أبلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فإذا قال : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ، فيقول : صار المراد نزوله تعالى بذاته ،
وقد صرح أهل السنة بأن المراد : نزوله بذاته ، وصرحوا بكلمة : ( بذاته ) [83] ، مع أننا لا نحتاج إليها ،
وذلك لأن الأصل أن كل فعل أضافه الله إليه فهو إلى ذاته ، هذا هو الأصل ،
لو قلت في المخلوقين : هذا كتاب فلان ، هل المعنى هذا كتاب خادم فلان أو فلان نفسه ؟
لا شك أن المراد فلان نفسه ،
ولو قلت : جاء فلان ، فالمراد جاء هو بنفسه ، لا خادمه ولا رسوله ،
وهكذا كل ما أضافه الله إلى نفسه من فعل أو اسم ، فالمراد إليه ذاته ، لكن على وجه لا نقص فيه ،
(71/53)
فمثلاً : نقول : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ،
أضافه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذات الله ( ربنا ) ،
فوجب أن يكون المراد نزوله بذاته ،
وقد أجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، على أن المراد ينزل ربنا بذاته ،
والدليل على إجماعهم : أنه لم يأت عنهم حرف واحد يقولون : إن المراد ينزل شيء آخر غير الله ، وهم يقرؤون هذا الحديث ، فإذا قرأت ولم يرد عنهم أنهم قالوا إن المراد ينزل رحمة من رحمته أو ملك من ملائكته ، عُلم أنهم اثبتوا نزوله بذاته ،
لكن لا حاجة إلى أن يقولوا : ( بذاته ) ،
لم يظهر في زمنهم محرِّفة ،
قالوا : إن المراد ينزل أمره أو رحمته أو ملك من ملائكته ،
حتى يحتاجوا إلى القول (ينزل بذاته ) ،
لكن لما حدث هؤلاء المحرفون احتاج أئمة المسلمين إلى أن يقولوا : ( ينزل بذاته ) ، ولكل داء دواء يناسبه ،
إذن ينزل ربنا عز وجل نزولاً حقيقياً ،
البحث الثاني : هل الذي ينزل هو الله أو رحمة من رحمته أو ملك من ملائكته أو ماذا ؟
الجواب : الذي ينزل هو الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ربنا ) ،
البحث الثالث : هل النزول يستلزم أن تكون السماء تقله وإن السماء الأخرى فوقه ؟
الجواب : لا يلزم ، بل نعلم أنه لا يمكن ،
وذلك لأنه لو أقلته السماء لكان محتاجاً إليها ،
ولو أظلته السماء الثانية لكانت فوقه ،
والله عز وجل له العلو المطلق أزلاً وأبداً ،
إذن فليست السماء تقله ولا السماء الأخرى تظله ،
البحث الرابع : هل إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلو منه العرش أو لا يخلو ؟
الجواب : في هذا ثلاثة أقوال لعلماء السنة :
1. فمنهم من قال : إن العرش يخلو منه ،
2. ومنهم من قال : إن العرش لا يخلو منه ،
3. ومنهم من توقف ، [84]
فأما الذين قالوا : إن العرش يخلو منه فقولهم باطل ،
(71/54)
لأن الله أثبت أنه استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض ولم ينفِ هذا الاستواء في الحديث ، حين قال : ( ينزل إلى السماء الدنيا ) ، لم ينفه الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب إبقاء ما كان على ما كان ، وليس الله عز وجل كالمخلوقات ، إذا شغل حيِّزًا فرق منه الحيّز الآخر ، فالقول هذا باطل لا شك فيه ،
يبقى النظر في القولين الآخرين وهما :
1 - التوقف ،
2 - أو أن نقول : إنه لا يخلو منه العرش ،
فذهبت جماعة من العلماء إلى التوقف ،
وقالوا : ما لنا ولهذا السؤال لا ينبغي أصلاً أن نورد هذا السؤال ، لأننا لسنا أشد حرصاً على العلم بالله من الصحابة ولم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام ،
فنقول : هذا السؤال من أصله غير وارد ،
ونقول لمن أورده : أنت مبتدع ، دعنا من هذا ،
وأنا عندي أن هذه الطريقة أسلم طريقة ،
فأسلم طريقة أن لا نسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة ، وأن نلقم من سأل حجراً ،
فإذا قال : أنا أريد المعقول ؟
قلنا : اجعل عقلك في نفسك فكر في نفسك أما غيرك فلا تفكر فيه ولم يأتك خبر عنه ،
والقول الثاني : أنه لا يخلو منه العرش ،
لأنه تعالى ذكر أنه استوى على العرش حين خلق السماوات والأرض ،
ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل خلا منه العرش ،
فالواجب بقاء ما كان على ما كان ،
نقول : استوى على العرش ولم يزل مستوياً عليه ،
ينزل إلى السماء الدنيا في هذا الوقت ،
فالله على كل شيء قدير ،
ولا يقاس بخلقه ،
كما أننا نقول جزماً : إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا لم يكن نازلاً على المخلوقات بل هو فوق كل شيء ،
وإن كان نازلاً إلى السماء الدنيا لأن الله لا يقاس بخلقه ،
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن العرش لا يخلو منه [85] ،
ولكن أنا أميل إلى القول الثاني وهو التوقف وألا يورد هذا السؤال أصلاً ،
(71/55)
وإذا كان الإمام مالك رحمه الله لما قال له القائل : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ قال : السؤال عن هذا بدعة ، فإننا نقول السؤال عن هذا بدعة ،
البحث الخامس : استشكل كثير من الناس في عصرنا : كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ونحن نعلم أن ثلث الليل الآخر لا يزال سارياً على الأرض وتحت السماء فيلزم من ذلك أن يكون النزول إلى السماء الدنيا دائماً ؟
الجواب : أن نقول : ما أسفهك أنت رجل سفيه ألم تؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ............ حتى يطلع الفجر ) ؟
فإذا قال : بلى ، أقول : قل بهذا ولا تتجاوز ، فما دام ثلث الليل الآخر باقياً في منطقة من المناطق الأرضية فالنزول باقي وحتى طلع الفجر في هذه المنطقة فلا نزول ،
وإن كان في الجهة الأخرى فيه نزول والله على كل شيء قدير ،
ولا يقاس بالخلق ينزل في جهة من الأرض حين يكون ثلث الليل الآخر ولا ينزل بالنسبة للجهة الأخرى ليس فيها ثلث الليل [86] ،
والحقيقة أن الإنسان إذا لزم الأدب مع الله ورسوله اطمئن قلبه واستراح من التقديرات ،
أما إذا كان يفجر المشاكل من مشكلة إلى أخرى فإنه يخشى عليه من الشك – نسأل الله العافية وأن يرزقنا اليقين – يخشى عليه من الشك ،
ولهذا يقول بعض السلف : ( أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام ) ،
لأنهم فجروا هذه المشاكل على أنفسهم وعجزوا عن حلها ،
لكن لو لزموا الأدب وقالوا ما قال الله ورسوله وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله لسلموا من هذا كله ،
وهذا هو الذي تستريح فيه أيها الإنسان أن تلزم الأدب مع الله ورسوله ،
قل ما قال الله ورسوله واسكت عما سكت الله ورسوله ،
(71/56)
إذا كنت الآن في المنطقة الشرقية وقد أذّن الفجر والآخر في المنطقة الغربية وهو في آخر الليل نقول الرب عز وجل بالنسبة للذي في المنطقة الغربية هذا وقت نزوله ونقول للآخر : انتهى وقت النزول ونسلم ، وهذا ليس فيه إشكال الذين هم في ثلث الليل يجتهدون في الدعاء ، لأنه وقت إجابة والآخرون انتهى الوقت ، ونسلم من هذا كله ونتشوف كل ليلة إلى ثلث الليل متى يأتي لكي ندعو الله فيه ،
أما هذه الإشكاليات التي تورد فهي في الحقيقة من سفه الإنسان وقلة رشده ومن قلة أدبه مع الله ورسوله ،
وأسلم تسلم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أسلم تسلم ) [87] ،
فنحن نقول : أسلم تسلم أي استسلم للنصوص حتى تسلم ،
البحث السادس : هل النزول من الصفات الفعلية أو من الصفات الذاتية ؟
الجواب : من الصفات الفعلية ، لأنه فعل يتعلق بالمشيئة [88] ،
وكل فعل يتعلق بالمشيئة ، فإنه من الصفات الفعلية ،
قال بعض الناس منكراً لصفات الأفعال : صفات الأفعال لله باطلة ،
ولا يمكن أن نثبت لله فعلاً يتعلق بالمشيئة إطلاقاً ، لا ينزل ولا يجيء يوم القيامة ، ولا يتكلم بكلام محدث ، لا يمكن ،
لماذا ؟
قال : لأن هذا الفعل أو هذا الكلام إن كان صفة كمال وجب أن يتصف الله به دائماً وإن كان صفة نقص فإنه لا يجوز أن يوصف به ،
فيقول : إن الله لا تقوم به الأفعال الاختيارية [89] ،
فنقول لهم : هي صفة كمال في محلها ، والحكمة لا تقتضيها في غير محلها ، فلو جاءت في غير محلها لكانت نقصاً
أرأيت أن ولدك أساء فضربته كان ضربك إياه في هذا الوقت حكمة وكمالاً لكن ضربك له وهو يطيع نقص ،
فنقول : هذه الأفعال الاختيارية هي كما لله في محلها الذي تقتضيه الحكمة وفي غير محلها لا يمكن أن يتصف الله بها ،
لأنها في غير محلها لا تقتضيها الحكمة ،
والله تعالى أفعاله مقرونة بالحكمة ،
وبهذا تزول هذه الشبهة ،
(71/57)
واعلموا أن جميع ما يتشبث به أهل الباطل في إبطال الحق فهو شبهات وليس بحجج ،
لقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه } ( آل عمران 7 ) وهذا نظير من بعض الوجوه ،
لقول من قال من أهل الفلسفة الدعاء لا فائدة منه ،
قال : إن كان الله قدر لك ذلك فسيحصل بدون دعاء ، وإن كان الله لم يقدره فلن يحصل ولو دعوت إذن لا فائدة منه ، علمه بحالي كفاه عن سؤالي ،
فنرد عليهم بشيء بسيط : نقول : إن الله قدره بهذا الدعاء وجعل له سبباً وهو الدعاء وإلا لقل أنا لن أتزوج إن كان الله قدر لي ولد فسيخرج من الأرض ، وإن كان الله ما قدر لي ولد فلن يخرج ولو أتزوج مائة امرأة ، ولا أحد يقول هذا الكلام إن قاله قلنا أنت مجنون ،
إذن : النزول من صفات الأفعال :
س : هل أحد من أهل القبلة خالف في تفسير النزول على ما قلناه ؟
الجواب : نعم ،
منهم من قال : ( ينزل ربنا ) ، أي تنزل رحمة ربنا ،
ومنهم من قال : ( ينزل ربنا ) ، أي ملك من ملائكته ، لأنهم ينكرون النزول الحقيقي ،
فنقول لهم في الرد عليهم :
1. قولكم هذا مخالف لظاهر النص ، لأن ظاهره أن الذي ينزل الله عز وجل ،
2. ثانياً : مخالف لصريح النص ، في قوله ( فيقول من يدعوني ) ، إذ أن الملك لا يمكن أن يقول للخلق : ( من يدعوني فأستجيب له ) ، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ،
ولو أن أحداً قاله من الخلق لقلنا : إنه نزّل منزلة الخالق والملائكة مكرمون عن هذا ، الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ويتبرءون ممن يدعون غير الله ، كذلك أيضاً إذا قلنا : إنها الرحمة تنزل إلى السماء الدنيا فإننا نقول : هذا غلط ، لأن رحمة الله ليس غايتها السماء الدنيا ، الرحمة تنزل إلى الأرض حتى تبلغ الخلق ، فأي فائدة لنا إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ،
(71/58)
ثانياً : الرحمة تنزل كل وقت ، لا تختص بثلث الليل الآخر ، بل هي تنزل كل وقت ، فإذا خصصناها بثلث الليل الآخر معناه بقي الزمن أكثره ليس فيه رحمة ،
ثالثاً : لا يمكن للرحمة أن تقول ( من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ) ،
لأن الرحمة صفة من صفات الله ،
ولو قالت هذا القول لكانت إلهاً مع الله ،
ولهذا لا يصح لنا أن ندعو صفات الله ،
حتى إن من دعا صفات الله فهو مشرك ،
لو قال : يا قدرة الله اغفر لي ، يا مغفرة الله اغفر لي ، يا عزة الله أعزيني ، هذا لا يجوز بل هو شرك ، لأنه جعل الصفة بائنة عن الموصوف مدعوة دعاءً استقلالياً ، وهذا لا يجوز ،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( برحمتك أستغيث ) [90] ، فهذا من باب التوسل يعني أستغيث بك برحمتك ، فالباء هنا للاستغاثة ، والتوسل وليست داخلة على المدعو حتى نقول إن الرسول استغاث برحمة الله ، لكن استغاث بالله ، لأنه رحيم ، هذا هو معنى الحديث الذي يتعين أن يكون معناً له ،
قوله : ( وخلقه ) : يعني : ومما يجب إثباته بالدليل القاطع إثبات الخلق ، والخلق صفة من صفات الله عز وجل الفعلية ، من حيث آحادها وأنواعها ،
أما من حيث الأصل فهي صفة ذاتية ، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خلاّقاً ،
وقد ثبت هذه الصفة بقوله تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، هو الله الخالق البارئ } ( الحشر 22 - 24 ) .
وقال تعالى : { إن ربك هو الخلاق العليم } ( الحجر 86 ) .
فالخلاّق والخالق يؤخذ منهما صفة الخلق ،
بناءً على القاعدة التي سبقت في هذا الباب :
( وهو أنه كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ، وليست كل صفة متضمنة لاسم ) ،
ولهذا كانت الصفات أوسع من باب الأسماء ،
لأن كل اسم يتضمن صفة ولا عكس ،
(71/59)
فالخلق صفة لله ، فهو يخلق ما يشاء إيجاداً وإعداماً ،
كما قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } ( الملك 2 ) فجعل الموت مخلوقاً مع أن الموت عدم ، لكنه عدم على وجه معين ليس عدماً محضاً إنما هو مفارقة الروح للجسد ، هذا موت لكنه ليس عدماً بل مفارقة تفقد بها الحياة ،
المهم : أن من صفات الله الخلق ، ونص المؤلف عليه ،
لأن الأشاعرة لا يثبتون هذه الصفة لله إنما يثبتها الماتريدية ،
فالماتريدية يقولون : إنهم يثبتون ثماني صفات ،
والأشاعرة يثبتون سبعاً ،
الخلق إذًا صفة ذاتية من حيث الأصل ، صفة فعلية من حيث النوع والآحاد ،
فالله تعالى يخلق ما يشاء بالنوع ، ويخلق ما يشاء بالآحاد ،
فالإنسان مثلاً مخلوق بالنوع ،
وبالآحاد كل إنسان على حده ،
خلق الله للإنسان من حيث هو هذا يعتبر بالآحاد ،
أما من حيث الفعل لله عز وجل الذي هو صفة الخلق :
فإن الله لم يزل ولا يزال خلاّقاً فهو من الصفات الذاتية ،
قوله : ( فاحذر من النزول ) : يعني النزول الخلقي والنزول العلمي والنزول السلوكي ، النزول صفة ذم في كل حال ،
1. النزول الخلقي : ألا تخالق الناس بخلق حسن ، فإن من الناس من قد يرزق علماً وفهماً لكنه لا يخالق الناس بخلق حسن ، تحمله الغيرة وما عنده من العلم على الشراسة والعنف وتضليل الناس ، وربما تصل به الحال إلى تكفيرهم ،
2. كذلك النزول العلمي : أي أنك لا تحرص على العلم ولا تبتغي العلم ولا تطلبه فإن العلم إذا تركته تركك ، بل إذا تهاونت في طلبه فاتك ،
ولهذا قال بعض السلف : لا ينال العلم براحة الجسم ، وقال بعضهم : أعط العلم كلك يعطيك بعضه [91] ، وأعطه بعضك يَفُتْكَ كله ،
ولم ينل العلماء الذين اشتهروا بالإمامة العلم لم ينالوا العلم هذا الذي نالوا به الإمامة إلا بدأب عظيم وتعب على ما هم عليه من شظف العيش [92] وقلة المساعد ،
(71/60)
3. وكذلك النزول السلوكي : وهو قريب من النزول الخلقي لكنه يشمل العبادة والتعبد لله عز وجل ، بأن تكون عالي إلهه بالنسبة للعبادة لا تواني ولا تتكاسل ، تتقي الله ما استطعت ،
4. ومن النزول أيضاً النزول الفكري : أن تنزل بفكرك إلى ما يخالف السلف الصالح كما نزل أهل التعطيل وأهل التمثيل ،
فإن أهل التعطيل نزلوا بأفكارهم وانحدروا بها إلى الهاوية ،
وأهل التمثيل كذلك كلّ منهم نزل ،
هؤلاء غلوا في التنزيه ،
وهؤلاء غلوا في الإثبات ،
فتطرفوا جميعاً فنزلوا عن مستوى الحق والصراط المستقيم ،
******************
49 – فسائر الصفات والأفعال ،
قديمة لله ذي الجلال ،
قوله : ( فسائر الصفات والأفعال ) : ( سائر ) : ترد بمعنى ( باقي ) وترد بمعنى ( جميع ) [93] ،
فأما ورودها بمعنى ( باقي ) : فإنها مأخوذة من السئور وهو البقية ،
كما يقال : مثلاً : سئور البهائم طاهر ، يعني بقية شرابها مثلاً ،
وتقول : شربت سئور فلان أي بقية شرابه ،
وعلى هذا فتكون ( سائر ) بمعنى باقي ،
أما سائر بمعنى ( جميع ) : فهي مشتقة من السور لأنه يحيط بالقصر مثلاً،
والمؤلف هنا يتنزل على المعنى الثاني ،
فتكون ( سائر ) بمعنى ( جميع ) ،
سائر الصفات والأفعال قديمة لله وكلامه هذا في إطلاقه نظر ظاهر ،
وذلك أن صفات الله عز وجل تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
إلى خبرية وذاتية وفعلية ،
1. أما الفعلية : فنص عليها المؤلف بقوله : ( والأفعال ) ،
فيبقى قوله : ( الصفات ) شاملاً للخبرية والذاتية ، ونحن نوافقه على أن الصفات الذاتية والصفات الخبرية قديمة لله يعني أزلية لم تزل موجودة وهي كذلك أبدية لا تزال موجودة ،
(71/61)
2. الصفات الخبرية : كاليد والوجه الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والعزة وما أشبه ذلك هذه أيضاً قديمة لله عز وجل أزلية أبدية ،
أما الصفات الفعلية : التي أشار إليها المؤلف بقوله : ( والأفعال ) فيبقى قوله : ( الصفات ) شاملاً الخبرية والذاتية ونحن نوافقه على أن الصفات الذاتية والصفات الخبرية قديمة لله يعني أزلية لم تزل موجودة وهي كذلك أبدية لا تزال موجودة الصفات الخبرية كالعين واليد والوجه والقدم ، هذه صفات أزلية قديمة وهي أيضاً أبدية ،
3. الصفات الذاتية : كالعلم والقدرة والعزة وما أشبه ذلك ، هذه أيضاً قديمة لله عز وجل أزلية أبدية ،
أما الصفات الفعلية التي أشار المؤلف بقوله : ( والأفعال ) :
فلا يطلق عليها أنها قديمة على سبيل الإجمال ولا أنها حادثة ،
بل في ذلك تفصيل :
فباعتبار الجنس هي قديمة ، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالاً لم يأت عليه وقت كان معطلاً عن الفعل ،
وباعتبار النوع والآحاد ليست قديمة ،
واضرب مثلاً للنوع : استواء الله على العرش نوع من أنواع الفعل ، ولا يمكن أن نقول إنه قديم ، لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش ، وخلق العرش حادث ،
فيلزم منه أن الاستواء حادث وأنه ليس بقديم ،
هذا باعتبار النوع باعتبار الآحاد كثير جداً ، فخلق الله لزيد وعمرو وبكر وخالد ، هذا حادث خلقه حين خلقه ، ومن له عشر سنوات فهو قبل أحد عشر سنة لم يكن شيئاً مذكوراً ولا تعلقت به صفة الخلق ،
إذًا : فكلام المؤلف باعتبار قوله ( الصفات ) صحيح باعتبار قسمين من الصفات : وهما الخبرية والذاتية ، والأفعال صحيح باعتبار الجنس وأما أنواعها وآحادها فليست قديمة ،
ومن الصفات الخبرية ما سبق من الأمثلة مع الساق والإصبع وما أشبه ذلك ،
كل ما ورد فيه النص فأثبته على أنه قديم ولا تستوحش من إثباته لا تقل كيف يكون لله كذا ؟ كيف يكون لله كذا ؟
(71/62)
لأن الذي تكلم بهذه الصفة إما الله نفسه إذا كانت الصفة ثابتة بالقرآن ، وإما رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق به ، فلا تستوحش مما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ،
استوحش من تحريف ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله الأفعال كثيرة نوعها وجنسها فالكلام صفة فعل باعتبار آحادها وهو صفة ذات باعتبار أصله ، الكلام ليس له حصر ، ولا يمكن أن يحاط به لأن الله تعالى يقول : { ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } ( لقمان 27 ) أي لو أن الذي في الأرض من الأشجار أقلام أي جعل أقلاماً وكتب به وجعل المداد البحر يمده من بعده سبعة أبحر لنضب الماء وتكسرت الأقلام ولم تنفد كلمات الله ،
إذن لا حصر لها ولا يمكن الإحاطة بها ، والكلام من صفات الأفعال ،
قوله : ( لله ذي الجلال ) : ( ذي ) : صفة لله ، و ( الجلال ) : بمعنى العظمة الكبرياء ،
وقد وصف الله نفسه بأنه ذو الجلال والإكرام ، وأنه مع عظمته وكبريائه ، يُكرمه المؤمنون من عباده ، ويكرم هو من يستحق الإكرام من العباد ،
ولهذا نقول : الإكرام صالحة لصدوره من الله ولصدوره لله ، صدوره من الله يكرم من يستحق الإكرام من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،
ولهذا يقال في الجنة : إنها دار كرامة ،
وهو سبحانه وتعالى مكرم من قبل عباده الخُلَّصْ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،
******************
50 – لكن بلا كيف ولا تمثيل ،
رَغْماً لأهل الزيغ والتعطيل ،
قوله : ( لكن بلا كيف ) : يعني هي قديمة وثابتة لله ، لكن بلا كيف ،
(71/63)
والمراد بقوله : ( بلا كيف ) : أي بلا تكييف منالها وليس مراده أنه ليس لها كيفية وذلك أنه ما من شيء ثابت إلا وله كيفية ، فاليد لها كيفية ، الوجه له كيفية ، والعين لها كيفية ، لكن نحن لا نكيِّفها ، فتكييفنا لها حرام بل السؤال عن الكيفية بدعة ،
كما نص على ذلك الإمام مالك رحمه الله ، وأقره أهل العلم عليه [94] ،
فلا نسأل عن الكيفية ولا نكيِّف ،
والتكييف باطل بدلالة السمع ودلالة العقل ،
أما دلالة السمع :
فمنه قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف 33 ) .
فالشاهد قوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فإذا كيَّف أحد صفة من صفات الله فقد قال على الله ما لا يعلم ،
لأن الله أخبرك بالصفة ولم يخبرك عن كيفيتها ،
وهذا من الأمور الغيبية التي لا يمكن أن تدرك بالحس ،
ولا يمكن بحسب إضافتها إلى الله أن تدرك بالعقل أيضاً ،
لأنه ليس هناك علة جامعة بين الخالق والمخلوق حتى نقيس ما غاب عنا من صفات الخالق على صفات المخلوق ،
صحيح لو أن شخصاً من الناس قالوا عن وجهه وعن عينه وعن يده لكنت أعرف كيفيتها لأني أرى نظيرها ،
لكن بالنسبة للخالق ليس هناك علة تجمع بينه وبين المخلوق حتى يقاس على المخلوق ويدعي المدعي أنه يعرف الكيفية هذا دليل ،
الدليل الثاني : قول الله تعالى : { ولا تقف ما ليس له به علم } ( لقمان 36 ) ، تقفو : يعني تتبع ما ليس لك به علم [95] ،
ومنه : تكييف صفات الله فإنه لا علم لنا به ،
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ( الإسراء 36 ) .
السمع والبصر والفؤاد هذه طرق الإدراك ،
يسأل الإنسان عنه إذا استمع لما لا يعنيه أو نظر إلى ما لا يعنيه أو فكَّر فيما لا يعنيه فإنه سوف يسأل عن ذلك يوم القيامة ،
أما الأدلة العقلية :
(71/64)
فإننا نقول : إن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه ،
فكل شيء لا يمكنك إدراكه إلا بواحد من هذه الأمور الثلاثة :
أن تشاهده ، وهذا عين اليقين ،
أو تشاهد نظيره وهذا أدني مرتبة من الأول ، لأن هذا تدركه بالقياس ،
أو تدركه بالخبر الصادق عنه ، لكن ليس الخبر كالمعاينة فهو أدنى من الأول ،
وليس واحد من هذه الطرق الثلاثة حصل بالنسبة لصفات الله عز وجل ،
فنحن لم نشاهد شيئاً من هذه الصفات ، ولو شاهدنا شيئاً منها لم ندركه ،
لأن الله قال : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } ( الأنعام 103 ) ، وقال : { ولا يحيطون به علما ) ( طه 110 ) ، فانتفى الأول ، ولم نشاهد نظيرها ، لأن الله يقول : { ليس كمثله شيء } ( الشورى 11 ) إذن لم نشاهد مثيلاً لله عز وجل ، ولم يخبرنا الله ولا رسوله عن كيفية هذه الصفات ، إذن يتعذّر أن نعلم كيفيتها ، لأن وسائل العلم انتفت ، وإذا انتفت الوسيلة انتفت الغاية ، فحينئذ نقول لا يمكن أن نكيّف صفات الله ،
وهل ينبغي أن نسأل عن الكيفية ؟
الجواب : لا ، لا يجوز أن نسأل عن الكيفية ، ومن سأل عن الكيفية نهيناه ،
لأن السؤال عن الكيفية هَلَكَه ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) [96] ،
والسؤال عن الكيفية من التنطع ، لأنه لو كان لك فائدة في علم الكيفية لبينها الله ورسوله ،
بل نقول : لأن الوصول إلى حقيقة كيفية صفات الله أمر مستحيل لأن الإنسان أقل من أن يحيط بصفات الله ،
(71/65)
وانظر إلى موسى عليه السلام حين قال لله : { رب أرني أنظر إليك } ( الأعراف 143 ) ، يطلب النظر إلى الله شوقاً إلى الله عز وجل لا شكاً في وجوده ولكن شوقاً إليه ، { قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } ( الأعراف 143 ) فنظر للجبل فلما تجلى الله عز وجل للجبل جعله دكاً اندك صار رمل فلما رأى موسى هذا المشهد العظيم خر صعقاً وغشي عليه ، وأنت تصور نفسك لو أنك في هذا الحال يغشي عليك من باب أولى ،
لما تجلى ربه للجبل عجز الجبل عن أن يقاوم هذه الرؤية العظيمة وخر صعقاً واندك ، والله عز وجل يقول عن كلامه وهو صفة من صفاته { لو انزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } ( الحشر 21 ) يهبط ويتصدع لكن لا يكون دكاً ، لأن التجلي أعظم من نزول الكلام ، وكل صفات الله عظمى ،
إذن لا يمكننا إدراك كيفية صفات الله وكنهها ، فالسؤال عنه يكون لغواً من القول وتنطعاً في الدين ، ولهذا لما ورد هذا السؤال على الإمام مالك رحمه الله عجز عن تحمله أطرق برأسه وجعل يتصبب عرقاً ،
فالكيفية ثابتة والتكييف ممنوع ولو نفيت الكيفية على الإطلاق لكنت نفيت الوجود ،
وعلى هذا نحمل كلام السلف حيث قالوا في آيات الصفات وأحاديثها : ( أمرّوها كما جاءت بلا كيف ) ، أي بلا تكييف [97] ،
قوله : ( ولا تمثيل ) [98] : يعني : وكذلك ثابتة بلا تمثيل ،
وقد سبق الكلام على نفي التمثيل ،
وبينا أنه ثابت بدلالة السمع والعقل ،
وبينا أن التعبير بقول القائل : ( بلا تمثيل ) أولى من التعبير بقوله ( بلا تشبيه ) ،
وبينا أنه أولى من ثلاثة أوجه ،
قوله : ( رغماً لأهل الزيغ والتعطيل ) : ( رغماً ) : مصدر عامل عمله ، فهو كقولك : شكر لك ، فرغماً بمعنى إرغاما لأهل الزيغ يعني أننا نثبت ذلك مراغمين أهل الزيغ ،
وما معنى الرَّغْم ؟
الرَّغْم معناه : الإذلال والإهانة ، مأخوذ من قولهم : ( رغم أنفه ) ،
(71/66)
إذا سقط في الرغام وهو التراب .
ومعلوم أنه من أذل ما يكون أن ينزل أنف الرجل في الرغام [99] ،
وانظر إلى سجود المصلي كيف حصل به الذل لله عز وجل والتطامن والتواضع ،
ولكنه صار سبباً للرفعة ، لما تواضع لله رفعه الله فأقرب ما يكون العبد لله وهو في علاه عز وجل في حال السجود ،
فسبحان الله لما نزل هذا حساً ارتفع معنى فكان أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ،
قوله : ( الزيغ ) : معناه : الميل ، ومن ذلك قولهم : زاغت الشمس أي مالت عن كبد السماء [100] ،
قوله : ( الزيغ ) : معناه الانحراف عن الصراط المستقيم الذي هو صراط الذين أنعم الله عليهم ، فكل من انحرف عن طريقهم فهو زائغ ،
واعلم أن كل زيغة من قلبك تبعدك عن الهدى وتهوي بك في الهوى ، لأن الله قال : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ( الصف 5 ) كل زيغة لا تظن أنها تذهب هكذا تصرفك ،
والزيغة الثانية كذلك ،
والثالثة : حتى تحيط بقلبك وتحيط بك خطيئتك ،
ألم تسمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه ) [101] ،
الزيغة الأولى : لم تؤثر هذا الطبع ،
والثانية : لم تؤثر لكنها أدنته واقربت ،
والثالثة : طبع على قلبه ،
إذن تجب عليك أن تحرص على مسيرك إلى كل زيغة منك تبعدك عن الله عز وجل ،
قوله : ( والتعطيل ) : التعطيل : ( التخلية والترك ) ،
ومنه : كقولكم : عُطلت الدراسة يعني تركت وخلّيت ،
ومنه : قوله تعالى : { وبئرٍ معطلة } ( الحج 45 ) أي متروكة مخلاة [102] ،
أما في الاصطلاح : فالتعطيل : ( تعطيل الله عما يجب له ) وهو مع الله غيره عطلوا الله عما يجب له من العبادة ، لأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده ،
1. وهؤلاء الذين يعبدون مع الله غيره ، عطلوا الله عن التوحيد الخالص ،
(71/67)
2. والمنكرون لوجود الرب أيضاً عطلوا وهذا أعظم تعطيل ، يعني : يقولون : لا رب ، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع هؤلاء عطلوا وجود الله رأساً ،
3. وتعطيل ثالث : عطلوا أسماء الله وقالوا : إن الله تعالى ليس له أسماء وإنما نسب إليه من الأسماء فإنما هي أسماء لمخلوقاته وليست له ، وهذا تعطيل شديد ،
4. وتعطيل رابع : تعطيل الصفات ، يقولون : إن الله له أسماء لكن ليس له صفات ، لا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة ولا قدرة ، وينكرون أشياء من الصفات هذا أيضاً تعطيل ،
وهذا تحته أنواع :
منهم من يعطل صفات الأفعال فقط ،
ومنهم من يعطل كل صفة ، لا يدل عليها العقل على زعمه ، فيختلفون في هذا ،
فصار التعطيل أنواعاً خمسة :
1. التعطيل المطلق : وهو تعطيل وجود الخالق ،
2. تعطيل ألوهيته : بأن يعبد معه غيره ،
3. تعطيل أسمائه : بأن تنفي عنه الأسماء ، والذي ينفي الأسماء ينفي الصفات من باب أولى ،
4. تعطيل الصفات : فيقولون : إن الله له أسماء وليس له صفات ،
5. تعطيل بعض الصفات ، وهذا يختلف فيه الناس كثيراً :
منهم من يعطل كثيراً ،
ومنهم من يعطل قليلاً ،
كل أنواع التعطيل منفية في قول المؤلف ( رغماً لأهل الزيغ والتعطيل ) ،
والجهمية والمعتزلة :
فالجهمية المقتصدون منهم عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء ،
والغلاة منهم عطلوا الأسماء والصفات [103] ،
والمعتزلة : عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء أسماءً مجردة لا معنى لها ، سميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر [104] ،
والأشاعرة : أثبتوا الأسماء وأنكروا الصفات إلا سبعاً ،
وأهل السنة والجماعة : أثبتوا توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ،
وأثبتوا لله الأسماء والصفات كلها بدون قيد وبدون تفصيل ،
لأنهم يقولون : إن الواجب علينا أن نمرها كما جاءت ،
ولهذا قال المؤلف :
******************
51 – فمرّها كما أتت في الذكر ،
(71/68)
من غير تأويل وغير نُكْرِ ،
قوله : ( مرّها ) : يعني أقبلها وأمرها بلسانك وبقلبك كما أتت في الذكر ،
يعني في القرآن سواء أتت في القرآن مباشرة أو بالإحالة :
1. مباشرة بأن تكون الأسماء والصفات في القرآن ،
2. أو بالإحالة بأن تكون الأسماء والصفات في السنة لأن ما جاء في السنة فقد أتى في القرآن لكن عن طريق الإحالة { وما أتاكم الرسول فخذوه } ( الحشر 7 ) .
قوله : ( مرها كما أتت في الذكر ) : هذه العبارة ورد معناها عن السلف ،
فقالوا في آيات الصفات وأحاديثها : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) [105] هكذا جاء عن السلف ،
وهذه العبارة تجاذبها طائفتان :
طائفة ادعت أن السلف أرادوا بهذه العبارة التفويض يعني أننا نمر النص ونفوض معناه ،
وتقول : الله أعلم بما أراد فنقرأ { الرحمن على العرش استوى } ( لقمان 27 ) ولكننا لا نعلم ما معنى استوى ؟
نقرأ : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) ، ولا نعلم معنى ( ينزل ) ،
نقرأ : { ويبقى وجه ربك } ( الرحمن 27 ) ولا نعلم معنى الوجه ،
وعلى هذا فقس ،
وادعوا أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنه مذهب السلف ،
والغريب ، أن هذه الدعوى تصدر من علماء أجلاء يشهد لهم بالخير لكننا نشهد لهم بالخير ونشهد عليهم بالخطأ في نقل مذهب السلف على هذا الوجه ، ونرى أنهم مخطئون لكن عن غير عمد ، لأن نيتهم حسنة بلا شك ، لكنهم فهموا عن السلف فهماً خاطئاً فليس في معنى آيات الصفات وأحاديثها ، لكنهم من أبعد الناس أن يقولوا فيها ما لا يعلمون ،
لو أننا قلنا : إن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها هو التفويض الذي أراده هؤلاء لكان أجهل الخلق بالله هم السلف ،
لأن من لا يعرف معنى الصفات كيف يعرف الله ،
الذي لا يعرف ما معنى السميع والبصير والعزيز والحكيم كيف يعرف الله ؟!!!
وهذا اللازم : إنه لازم باطل ،
وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم ،
(71/69)
ومن ثم أطلق بعض العلماء من هؤلاء القول الآتي :
( طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم )
وهذا القول فيه حق وباطل ، فقولهم : ( أسلم ) صحيح أنه أسلم لكن لا على الوجه الذي أرادوه ، لو كان مذهب السلف هو الوجه الذي أرادوه ما كان أسلم بل كان أثلم لأن مذهبا يقول : أنا أقرأ آيات الصفات وأحاديثها ولا أعرف معناها ، أين السلامة ؟
إذا لم تعرف المعنى وتثبته فأنت غير سالم ، لكن هم قالوا : إن كون الإنسان يقول : والله ما أدري هذه سلامة ،
طريقة الخلف يقولون : إنها أعلم وأحكم ،
أعلم : لأنهم يثبتون معنى وأحكم لأنهم قالوا : من المحال أن ينزل الله علينا كتاباً في أعظم ما نحتاج إليه ثم لا يكون له معنى معلوماً هذا من السفه وقد بينا أن هذه القولة باطلة متناقضة كذب على السلف فيما فهموا من مذهبهم ،
فنرجع إلى كلام المؤلف : قال السلف في آيات الصفات وأحاديثها : ( أمرّوها كما جاءت بلا كيف ) ، هل هذه العبارة تدل على أن السلف يفوِّضون المعنى ؟
لا ، هذه تدل على أن السلف يثبتون المعنى معنى آيات الصفات وأحاديثها ،
تدل على هذا من وجهين :
الوجه الأول : قولهم : ( أمروها كما جاءت ) : ومن المعلوم أنها جاءت ألفاظاً لمعان ، لم تأت ألفاظا لغير معنى كالحروف الهجائية أبداً جاءت ألفاظا لمعاني فإذا مررناها كما جاءت معناه أننا نثبت اللفظ والمعنى ،
الوجه الثاني : قولهم : ( بلا كيف ) : يعني بلا تكييف تدل على ثبوت المعنى .
لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتججنا إلى قول : ( بلا كيف ) .
إذ نفي الكيف عن ما ليس بموجود لغو من القول .
فإذا قالوا : ( أمروها كما جاءت بلا تكييف ) : يدل على أنهم أثبتوا المعنى .
ووجه ذلك : أن نفي التكييف يدل على ثبوت أصل المعنى .
لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتيج إلى أن نقول : ( بلا تكييف ) .
(71/70)
لأن قولنا : ( بلا تكييف ) عن شيء ليس له أصل وليس موجوداً يعتبر لغواً من القول ، وهذا واضح جداً في أن السلف يثبتون لنصوص الصفات معنى ،
ووالله لولا أثبتنا للمعنى ما ذقنا طعم هذه النصوص للصفات وفي الأسماء ،
ولهذا كان دعوى أن السلف لا يثبتون المعنى دعوى باطلة وقدحاً في السلف عظيماً ،
مهما صدر هذا القول أو من أي جهة صدر هذا القول فهو خطأ ،
إذن إذا كان السلف يثبتون المعنى بلا تكييف صاروا أسلم وأعلم وأحكم ، وهذا هو المطلوب ،
******************
52 – ويستحيل الجهل والعجز كما ،
قد استحال الموت حقاً والعمى ،
الاستحالة : معناها : ( التعذر وعدم الإمكان ) ،
1- الجهل على الله عز وجل :
ودليل استحالته أثري ونظري :
أما الأثري : ففي قوله تعالى : { إن الله لا يخفى شيء في الأرض ولا في السماء } ( آل عمران 5 ) .
وقوله تعالى : { لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً } ( الطلاق 12 ) .
وقوله : { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين } ( يونس 61 ) .
والنصوص في أنه يستحيل الجهل على الله كثيرة ، لأن الأخبار على هذا الوجه يدل على عموم إحاطة علم الله عز وجل بكل شيء ، وإذا أحاط بكل شيء استحال الجهل ،
وأما النظري : فلأن الجهل صفة نقص حتى إن الإنسان يعير به فيقال : يا جاهل ، أو يقال : فلان جاهل ، وإذا كان صفة نقص فإنه ينزه عنه الخالق ،
وقد استدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على أبيه بهذا ، فقال : { يا أبتِ لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } ( مريم 42 ) .
إذن هذا وجه استحالته نظرياً ،
(71/71)
إذا استحال الجهل فإنه يكون من الصفات السلبية ( المنفية ) وقد سبق أنه لا يوجد في صفات الله صفة سلبية محضة [106] ، بل لا بد أن تكون متضمنة لكمال ضدها ، فإذا استحال الجهل صار كمال العلم واجباً ، ولهذا يجب أن يكون الله متصف بكمال العلم ،
والجهل قد يكون سابقاً للعلم ، وقد يكون لاحقاً ، وكلاهما مستحيل ،
فما كان سابقاً للعلم فهو جهل ، وما كان لاحقاً فهو نسيان ، وكلاهما مستحيل على الرب عز وجل ، قال موسى لفرعون حين قال : { فما بال القرون الأولى } ( طه 52 ) قال موسى : { علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } ( طه 52 ) .
الثاني مما يستحيل على الله : ( العجز ) ،
وهذا مستحيل بدلالة السمع ودلالة العقل ،
أما السمع : فقد قال تعالى : { وما كان الله ليعجزه من شيءٌ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً } ( فاطر 44 ) .
ومثل هذا النفي : { وما كان الله لعجزه من شيء } إنما يصاغ ممتنعاً غاية الامتناع ،
كما في قوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ } ( هود 117 ) .
{ وما كان ليعذبهم وأنت فيهم } ( الأنفال 33 ) وما أشبه ذلك ،
وقال تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } ( العنكبوت 4 ) .
وقال تعالى : { وما أنتم بمعجزين } ( الأنعام 134 ) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ،
هذا دليل سمعي على استحالة العجز ،
أما الدليل العقلي : فهو أن العجز صفة نقص والرب تعالى منزه عن النقص ، فيجب أن ينزه عن العجز ،
إذن العجز مستحيل سمعاً وعقلاً ،
إذا استحال العجز تجب القدرة سمعاً وعقلاً ،
أما السمع : فما أكثر الآيات التي يقول الله فيها : { إن الله على كل شيءٍ قدير } ( البقرة 20 ) .
(71/72)
أما الدليل العقلي : فنقول : إن الخلق يدل على الخالق وعلى القدرة ، لأنه لا يمكن أن يوجد خلق إلا بقدرة عليه ، فإثبات المخلوقات ووجود المخلوقات دليل على قدرة الخالق عز وجل ، مضار العجز مستحيلاً سمعاً وعقلاً ، وإذا استحال العجز ثبت ضده وهي القدرة ،
قوله : ( كما قد استحال الموت حقاً ) :
3 - أيضاً الموت مستحيل سمعاً وعقلاً :
أما استحالته سمعاً : فقد قال الله تعالى : { كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ( الرحمن 26 - 27 ) .
وقال تعالى : { وتوكل الحي الذي لا يموت } ( الفرقان 58 ) .
بل نفى الله عنه الميتة الصغرى في قوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ( البقرة 255 ) .
النوم هو الميتة الصغرى ،
أما عقلاً : فلأن الموت لا يلحق إلا الناقص – أي ناقص الحياة – لأن الموت لا شك أنه فقد الحياة ، والحياة صفة كمال ، فإذا فقدت زال الكمال ، والله تعالى منزه عن كل نقص ،
قوله : ( حقاً ) : مصدر ، عامله محذوف ، تقديره : ( أُحق ذلك حقاً ) ، يعني : أثبته إثباتاً لا شك فيه ،
قوله : ( والعمى ) : العمى : هو ضد البصر ، والله عز وجل منزه عن العمى وعن العور الذي هو فقد إحدى العينين ،
ودليل ذلك من السمع والعقل :
أما السمع : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) [107] ،
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في وصف الدجال : ( إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ) ،
وأما العقل : فلأن من لا يبصر ناقص ، والنقص منزه عنه الله عز وجل ، ولهذا قال إبراهيم لأبيه : { يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } ( مريم 42 ) .
******************
53 – فكل نقص قد تعالى الله ،
عنه فيا بشرى لمن والاه ،
كل نقص على سبيل العموم ، فإن الله تعالى قد تعالى عنه ،
(71/73)
سواء كانت هذه الصفة نقصاً في ذاتها ، أو كان النقص في كمال اتصف به ،
فمثال الصفة التي هي نقص في كمالها ، كالعمى ، والجهل المطلق ،
مثال النقص في صفة اتصف بها : كالعور ، فالعور ينظر الأعور بعين واحدة وتمشي أموره ، لكن هذه الرؤية ناقصة ،
ولهذا يستدل بعض الناس – بعض أهل القيافة [108] – يستدلون على أن هذه البهيمة عوراء بالرعي برعيها الشجرة ، العوراء إذا وقفت عند الشجرة ترعى من جانب واحد ، لأنها لا ترى الجانب الآخر ، فإذا أقبل على بعير [109] ترعى شجرة ووصل إليها ووجدها قد أكلت من اليمين ، عرف أنها عوراء من اليسار ، كذلك أيضاً يستدل كل إنسان على الأعور ، إذا أتاه من جهة العوراء لا يبصره ، لأنه لا تنظر إلا من جهة واحدة ، فالعور نقص في كمال ،
كذلك أيضاً القوة ، لو كان الله ليس فيه قوة إطلاقاً لكان هذا نقصاً ، فإذا كان فيه قوة ، ولكنه لا يقوي على بعض الأشياء فهذا نقص كمال ،
فالله عز وجل منزه عن الأمرين :
1. منزه عن النقص الذي هو فقد الكمال بالكلية ،
2. وعن النقص الذي هو نقص في كماله ، ومماثلة المخلوقين نقص في كماله ،
لو قال : لله عينان مثل عيني المخلوق ،
لكان هذا نقصاً في كمال ،
لله علم مماثل لعلم المخلوق ،
صار أيضاً نقصاً في كماله ،
فالحاصل : أن الله تعالى منزه عن كل نقص سواء كان نقصاً بحسب الأصل أو نقصاً بحسب الكمال ، فالله تعالى منزه عنه ،
قوله : ( فيا بشرى لمن والاه ) : ( يا ) حرف نداء ، لكن ( بشرى ) منادى وهو غير عاقل ، فكيف يوجه النداء لغير العاقل ؟
اختلف النحويون في هذا :
1 – فقالوا : إذا وجّه النداء لغير العاقل فهو للتمني ، أو يكون المنادى محذوفاً يُقَدَّر بحسب السياق ،
ففي قول الشاعر [110] :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ،
بصبح وما الإصباح منك بأمثل [111] ،
(71/74)
وقال الله تعالى : { قال يا ليت قومي يعلمون } ( يس 26 ) ، هذه للتنبيه ،
لأن ( ليت ) حرف لا ينادى فتكون للتنبيه ،
2 – وقال بعضهم : إن المنادى محذوف ، والتقدير : ( يا قوم ) أو يا رب ليت { قومي يعلمون ، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } ( يس 26 – 27 ) .
قوله : ( فيا بشرى ) : البشرى بمعنى البشارة وهي الخبر السارّ ،
وسمي بشرى لأن البشرة تتغير به ، ولهذا إذا سر الإنسان استنار وجهه ،
كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم حين مر محرز المدلجي بزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما رداء قد بدت منه أقدامهما فقال : ( إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) ، فسُرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى صارت أسارير وجهه تبرق [112] ،
فلذلك كل خبر سار يسمى بشرى ،
وقد تطلق البشرى على الخبر المسيء بجامع التغير في كل منهما ،
كما في قوله تعالى : { فبشرهم بعذابٍ أليم } ( الانشقاق 24 ) .
قوله : ( لمن والاه ) : أي والاه الله أي صار له ولياً ، فيا بشرى لمن كان ولياً لله ، لأن ولي الله قد أمنه الله من كل خوف ، { ألا إن أولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وهم يتقون } ( يونس 62 – 63 ) ، ولي الله عز وجل إذا عاداه أحد فقد حارب الله ،
قال الله تعالى في الحديث القدسي : ( من عادا لي وليا فقد آذنته بالحرب ) [113] ،
ومن آذنه الله بالحرب فهو مغلوب على كل حال ، لأن الله تعالى عزيز قوي ، لا يغلبه شيء ،
ولهذا نقول : ( يا بشرى ) : في الدنيا والآخرة : ( لمن والاه ) : الله أي صار له وليا بالمعنى الخالص ، لأن الله ولي كل شيء ولكن المعنى الخاص لأهل الإيمان والتقوى ،
(71/75)
ثم قال المؤلف منتقلاً عن ذكر الصفات إلى ذكر بعض الأحكام في التقليد ، ومن المعلوم أن إدراك المعلومات قد يكون عن اجتهاد ونظر في الأدلة فهذا ما توصل إليه الإنسان باجتهاده ونظره ، فإنه يجب عليه أن يعمل بمقتضاه لكن بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد ذوي العلم ليس من أهل الاجتهاد ذوي الجهل لأن اجتهاد ذوي الجهل خطأ على كل حال حتى لو أصاب فهو مخطئ ، لأن استعمال اجتهاده مع عدم القدرة والأهلية خطأ ،
فلو قال قائل : رجل وجب عليه إعتاق رقبه فقال شخص اذهب إلى السجناء وأخرج واحداً محبوساً بدينه ولو كان دينه عشرة ريالات أوف عشرة ريالات فتعتق رقبة قال لأنك فككته من الأسر الحبس ،
والفقهاء يقولون : إنه يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسير [114] ،
هذا الاجتهاد في غير محله ،
شخص آخر أفتى إنساناً أنقذ شخصاً من الغرق قال أنقذته قال : نعم ، قال : هل عليك رقبة كفارة في قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان فقال : اذهب فك الله أسرك ، لأنك أنقذت هذا من الغرق ، إذن فهذا عتق رقبة ،
هذا الاجتهاد لا يقبل ولا يعتبر اجتهاده لكن المجتهد الذي فيه أهلية الاجتهاد عنده علم وبصر في كلام أهل العلم ،
الأسئلة
السؤال : المآخذ التي تؤخذ على المؤلف ألا تقدح في عقيدته ؟
الجواب : لا ، لا تقدح في عقيدته ،
لأن الأصل أنه من أهل السنة لكن قد يخطئ ويصيب ،
وإلا فالأصل أن العقيدة سليمة ،
السؤال : العرض : ( هو ما قام بغيره ) ، فلماذا لا ننفيه عن الله ؟
الجواب : لأنه ما ورد نفيه ،
لأنه قد يقول العرض هذا اصطلاح عندنا ويكون المعنى الثاني غير هذا ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : بنفسه ليس فيه شك ، قائم بنفسه ،
لكن مع ذلك لماذا نقول ؟
نقول : إن الله غنيٌ عن كل شيء فقط يعني ننفي القول به ،
لكن معناه ننفيه ،
نعم ،
نقول : إنه قائمٌ بنفسه ،
لكن نقول : ليس بعرض ،
ما نتكلف في هذا الثبوت هذا التكلف ،
(71/76)
السؤال : إذا وجدنا شخصاً يعني يخوض يتكلم في الجوهر والجسم والعرض فهل ننهاه أو نقول ماذا تريد بالجسم والعرض ؟
الجواب : نقول له أولاً : يجب عليك الإعراض عن هذا وعدم الخوض فيه ،
فإن أصر إن يتكلم تكلمنا معه يعني ما نتركه ،
ولهذا بعض الناس يقول : لماذا يتكلم أهل السنة في هذه الأمور ؟
فنقول : مكره أخاك لا بطل ،
إذا تكلم فيها أهل البدع ما يمكن أن نتركهم في الميدان يرتعون كما يشاءون ،
لا بد أن ننزل معهم في الميدان ونتكلم ،
السؤال : أحياناً الإنسان يكيف بعض صفات الله سبحانه وتعالى ( كلمة غير واضحة ) أو العرش في ذهنه ويذهب به ذهنه كل مذهب لا يستطيع أن يحدد شيء معين ؟
الجواب : لا تحدد ،
أن تؤمن بأن لله يداً وله وجه ،
ولكن لا تدري عن هذا الوجه وكيفيته ،
كل ما تصورت وقدَّرت بذهنك فهو كذب وكل ما تصورت وقدَّرت بذهنك فالله أعظم ،
ولهذا ما يمكن التكييف أبداً ،
السؤال : يكثر هذا في الذهن ؟
الجواب : لا ، يجب أن تطرد نفسك عنه ،
لا يمكن أبداً أي شيء أي كيفية فاعلم أنها كذب ،
لأنك لم تقدر الكيفية إلا مقرونةً بمماثل ،
وهذا لا يمكن ،
السؤال : حاول أحدهم عندما كان يتكلم عن ساق الله تعالى ولما تكلم دفع بساقه في قوله صلى الله عليه وسلم : ( عندما يضع رب العزة ساقه في النار ) [115] ،،،، ؟
الجواب : ( رجله وقدمه ) ،
السؤال : نعم يعني مثَّل بساقه فدفع بساقه فأنكر أحدهم وقال ،،،،، ؟
الجواب ( الشيخ ممازحاً ) : ما بترها أحدهم ؟ ( فضحك الطلبة ) ،
السؤال : حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كلمة غير واضحة ) السماوات والأرض ( كلمة غير واضحة ) بيده ) ؟
الجواب : هذا لكيفية الهز ،
لا كيفية ساق الله ،
وهذا أيضاً ورد به النص ،
لكن ما لم يَرِد به النص ما يجوز أن تتكلم به ،
أنت لو قال واحد مثلاً : ( يضع رجله عليه ) ومد رجله على الكرسي وضغط على شيءٍ تحته ،
(71/77)
نقول : حرام عليك من قال لك أن هذه الكيفية ؟
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا تحقيقاً للهز وأنه حسي وليس معنوي ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : آحاد لأنه يتجدد سمي آحاد مثلاً في الشهر ثلاثين ليلة كم يكون النزول ؟ ثلاثين مرة لكن نوع النزول هذا نوع ،
السؤال : اصطلاح ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : هذا مقتضى اللغة العربية أن الفعل له جنس ونوع وآحاد ،
الآن فعلك أنت يا الإنسان ( مشي ) و ( بطش ) ،
المشي والبطش كلاهما فعل هذا جنس ،
كون هذا بطش باليد وهذا مشي بالرجل هذا نوع ،
كونك تمسك شيء الآن تبطش به أو تمشي اليوم وغداً ،
كذلك هذا يسمى آحاد ،
السؤال : ( جملة غير واضحة ) صفات الله عز وجل فما تفسير حديث الصحابة ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : هذا ما يلقيه الشيطان في قلب الإنسان من الوسوسة ،
ومنه ما أخبر به الرسول قال : ( لا يزال الناس يتحدثون ، يقولون : من خلق كذا من خلق كذا حتى يقولوا من خلق الله ) [116] ، من هذا الجنس هذا يجب الإعراض عنه ،
السؤال : ( جملة غير واضحة ) يعني الجوهر مثلاً والجسم يقول أنه لو أراد كذا فالمعنى صحيح ولو أراد كذا فالمعنى خطأ والحد كذلك لكن السلف اختلفوا في إثباته فمنهم من أثبت الحد ولم يثبتوا الجسم إطلاقاً ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : الظاهر أن هذه المسألة قضية عين وقتية أحياناً ،
حتى بعض السلف أنكر أن تقول : أن الله استوى على العرش بذاته أو أن الله ينزل بذاته ،
لكن الذين قالوها اضطروا في ذلك الوقت إلى أن يقولوا هذا ،
فمثلاً الذين قالوا : إنه بحد ،
لعلهم يخاطبون قوماً يقولون : إن الله داخل العالم ،
وكذلك الذين قالوا : إنه بغير حد ،
لعلهم يخاطبون قوماً يمثلون ،
السؤال : ورد أثر عن ابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب أن العرش يئط من الرحمن أطيط الرحل [117] ، فماذا يعني هذا ؟
(71/78)
الجواب : هذا إذا صح ، الحديث فيه مقال ، لكن إذا صح فهو تمثيل لعظمة الله عز وجل ولا يمكن أن نقول إنه يقل الله على وجهٍ يحتاج إليه هذا شيء مستحيل ،
السؤال : قوله تعالى : { وكان الله عليماً حكيما } ( النساء 104 ) ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : نعم ،
يقولون : الحكيم ليس معناه : ( المتصف بالحكمة ) ،
لكن الحكيم : ( الذي أحكم الشيء ) ،
يعني جعله متقناً سواءٌ وافق الحكمة أو لم يوافقها ،
مع العلم بأن الله قال : { حكمةٌ بالغة } ( القمر 5 ) .
السؤال : قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } ( الرحمن 27 ) ، هنا خصص الوجه مع أنه يبقى الوجه واليد والساق ،،،،، ؟
الجواب : سيبقى كل الله ،
كل الله عز وجل ،
لكن القرآن بالأسلوب العربي ،
والغالب في صفات الثناء أن تضاف إلى الوجه ،
لهذا صفة البقاء لا شك أنها صفة ثناء ،
فأضيفت إلى وجه الله ،
السؤال : بعض العامة يقول : ( يا وجه الله ) هل هذا صحيح ؟
الجواب : ليس فيه بأس ،
السؤال : المناداة بالصفة أو بالوجه ؟
الجواب : لا ،
هم يريدون ( يا وجه الله ) يتوسلون إلى الله تعالى بصفة من صفاته ،
ليس يريدون الوجه على أنه منفصل عن الله ،
لا يريدون هذا إطلاقاً ،
لو تسأل العامي لقال : ما أردت هذا ،
لكن يقول : ( يا وجه الله ) ، يعني أنني أتوسل إلى الله تعالى بوجهه ،
مثل : قوله : ( برحمتك أستغيث ) الاستغاثة بالله ،
لكن هذا من باب التوسل بالرحمة ،
السؤال : القول الأول بالنسبة لحديث : ( خلق آدم على صورته ) أنه ما خلقه على صورته التي خلقه عليها وإنما أضيف إليه إضافة تشريف هل هذا من أقوال أهل السنة ؟
الجواب : لا ، لا ، لا ، ليس على صورة آدم ،
لا نقول : خلق آدم على صورة آدم ،
هذا شيء معلوم ،
نقول : خلق آدم على صورة الرحمن ،
فالضمير يعود على الرحمن على كل حال ،
أما الذين قالوا : إن الضمير يعود على آدم ،
فهذا يبقي الكلام لغواً ،
كل شيء مخلوق على صورته ،
(71/79)
حتى الكلب خلقه الله على صورته ،
لكن معنى : ( على صورة الرحمن ) ،
لكن لماذا أضيفت الصورة إلى الرحمن ؟
لأنه خلقها واعتنى بها عز وجل وجعلها صورةً أحسن صور المخلوقات ،
السؤال : أقل الجمع واحد ،،،،،، ؟
الجواب : أقل الجمع واحد ما قال به أحد ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟
الجواب : أولاً هذا غير مسلَّم ،
يعني من قال : أن الطائفة التي تشهد جلد الزاني واحد تكفي ،
لا نسلم له ،
ونقول : إن هذا خلاف ظاهر القرآن ،
فلا نسلم ،
السؤال : ذكرنا يا شيخ أن المجاز يُنفى من اللغة بسبب أن واضعه أراد نفي الصفات أو آيات وأحاديث الصفات ، فالذي وضع المجاز معروف أنه من أهل اللغة ما لهم صنعة في آيات وأحاديث الصفات يعني ما يتبين مقصدهم ؟
الجواب : أولاًَ : أن أئمة اللغة الذين تكلموا في المجاز ،
فسر شيخ الإسلام رحمه الله معنى المجاز ،
يعني أنه جائز في اللغة وسائغ ،
مأخوذة من جاز الطريق إذا نفذ فيه ،
فإذا قالوا : من مجاز اللغة ،
ليس المجاز الذي اصطلح عليه المتأخرون ،
ولهذا ما ظهر تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز إلا في القرن الثالث ،
يعني بعد أن مضى من الأمة الإسلامية مائتا سنة ،
فالذين تكلموا في المائتين من الأئمة أئمة اللغة يريدون بالمجاز أن هذا مما تجيزه اللغة فقط ،
يعني مثل قولنا هذا واسع هذا سائغ وما أشبه ذلك ،
السؤال : والذين هل يقصدون هذا القصد … ؟
الجواب : والله ربما يعني على كل حال يعني كلام ابن القيم وغيره ،
لما قالوا : أن هذا من أجل حمل آيات الصفات على غير الحقيقة ،
يعني أنهم توصلوا إلى هذه الحجة بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ،
وإن كان قد يكون أول من أسس هذا القول بالحقيقة والمجاز ،
قد لا يكون خطر على باله مسألة الصفات ،
لا ندري ينظر ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : هذا بسيط ، نحن نقول : لا نثبت يداً تماثل ، نثبت يد لا تماثل ، ولا نقول هي سوداء أو بيضاء ، هذا حرام ،
(71/80)
السؤال : وإذا أخذنا من اللفظ هذا معنى الالتزام ؟
الجواب : أصله : لا يلزم لظهور الفرق بين الخالق والمخلوق ،
الالتزام لو كان هناك مناسبة بين الخالق والمخلوق ،
إذا قلت مثلاً : فلان له يد ،
وفلان من البشر أعرف أن يد الرجل هذا مثل يد الرجل الآخر ،
لأن الجنس واحد ،
لكن إذا اختلف الجنس ،
أما إذا قال : فلان له يد ،
لا يمكن أن أتصور أن يده كيد الفيل أو يد الذرة ما أتصور ،
فإذا قلنا : لله يدٌ حقيقية لا يمكن أن نتصور أنها مثل أيدينا ،
السؤال : لكن هذا عند علمائنا معلوم لا تقولون بالحقيقة ؟
الجواب : أعوذ بالله ،
السؤال : حتى لا يثبتون الجسم ؟
الجواب : الجهلاء اتركهم فقط دعهم على عقيدتهم ،
لو تأتي بامرأة عجوز عامية لا تعرف إلا الشمس والقمر ،
لكانت تقرأ القرآن وتأخذه على ظاهره ولا تعرف هذا التأويل ،
نحن نقول : لا تفتح هذا الباب للعامة إطلاقاً ،
ولهذا ينبغي لطالب العلم ،
وانتبهوا لهذا أن مسائل الصفات لا يبحث فيها عند العامة ،
كما قال علي بن أبي طالب : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله [118] ،
وقال ابن مسعود : إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة [119] ،
تأتي العامي مثلاً تريد تتحدث عن شيء من الصفات ولا سيما الصفات الخبرية ،
سوف يأخذ بالتمثيل على طول ،
يعني حتى بما وردت به السنة ،
لما قال الرسول : ( يقبض السماوات بيمينه ويهزها ) [120] وهز يده عند العامي أرى ألا تفعل ،
لأن العامي ماذا يتصور ؟
على طول يريد أن يتصور أن يد الله عز وجل مثل يد الإنسان ،
فالمسائل التي يخشى منها مفسدة أكبر من المصلحة ،
مع أن المصلحة سوف تتحقق بدون هذا ،
السؤال : الدليل يا شيخ في حديث : ( استوت على الجودي ) [121] ، هذا دليل على ،،،،، ؟
الجواب : نعم هذا ليس فيه شك لكن الملبس يتشبث بكل شيء ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : هذا خطأ ،
هذا تحريف لا شك ،
(71/81)
لكن ( بمرأىً منا ) أحسن منه ،
السؤال : الحديث ( لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره ) [122] ، هذا الحديث قد يستدل به على أن نظر الله يحد بمكان والله سبحانه وتعالى ؟
الجواب : لا ،
إذا قال : ( ما انتهى إليه بصره من خلقه ) وبصره محيط بكل شيء ،
لأن جميع المخلوقات محدودة ، المخلوقات يعني المبصرة محدودة ،
السؤال : البعض من الإخوان يقولون إن تقسيمات شيخ الإسلام ابن تيمية في توحيد صفات الرب سبحانه وتعالى ( كلمة غير واضحة ) إشكال ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : والله الذي في دوامة يصب عليه رصاص ويثبت ،
سبحان الله ،
هؤلاء أنا أشك في صدقهم في صدق نيتهم ، نعم ،
أنا أشك في صدق نيتهم ،
هل جاء في الشرع شروط الصلاة كذا وأركان الصلاة كذا وواجبات الصلاة كذا وشروط الحج كذا وواجباته كذا ؟
هذا ما جاء في السنة ،
لكن علم هذا بالتتبع ،
كذلك صفات الله عز وجل بالتتبع ، وجدناها لا تخرج عن هذا ،
التوحيد بالتتبع وجدناه لا يخرج عن ثلاثة أقسام ،
يعني الشارع كما تعرفون ليس بمصنف ،
الشارع يطلق الشرع أحياناً يكون فيه تقسيم ،
وأحياناً لا يكون فيه تقسيم ،
حتى في الأمور الكونية :
أحياناً تأتي مطلقة ،
وأحياناً تأتي مقسمة : { فمنهم شقيٌّ وسعيد } ( هود 105 ) ، { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ( لقمان 27 ) .
وأحياناً لا تأتي مقسمة ،
فإذا كان هذا التقسيم يؤدي إلى إبطال شيءٍ من النصوص رددناه على قائله ،
وإذا كان يحصر لنا النصوص ويضبطها لنا فهذا خير ، هذا خير ولا مانع منه ،
أما لو يريد أن يرد النصوص ،
مثل : تقسيم بعض الأشاعرة الآن الصفات إلى أربعين صفة وهذه صفة معنى وهذه صفة كذا ،
ويتضمن هذا التقسيم إبطال هذه الصفات فهذا نرده ،
لكن هذا التقسيم الذي قسمه شيخ الإسلام وغيره ليس شيء يبطل ما جاءت به النصوص ،
إنما هو حصر للمعاني حتى لا تتشتت على طالب العلم ،
السؤال : يا شيخ هل سبق إلى هذا التقسيم ؟
(71/82)
الجواب : لا أدري هل سبق أو لم يسبق ،
لأني ما تتبعت هذا ،
وأنا طريقتي الشيء الذي أقتنع به لا أبحث طلباً لخلافه أو أحد قال به أو ما قال به ،
ما دام الإنسان مقتنع بدلالة الكتاب والسنة في الشيء ،
لا حاجة أن يطلب البحث ،
قال أحد الطلبة : كما أنه لا ينبغي لطالب العلم أن يسأل عن صفات الله إلا ما سأل عنه السلف ،
لأنه أحياناً تعرف الطالب يقول بها بعض الناس ولا يعلم هل قال بها السلف أو لم يقولوا بها ،
قال الشيخ رحمه الله تعالى : أصله إذا عرضت لك صفة وأنت لا تدري هل ثبتت بالكتاب والسنة أو لا فلا تثبتها إطلاقاً ،
السائل : لكن أقصد السؤال عنها ؟
الجواب : لا بأس أن تسأل عنها عالم هل ثبتت في السنة فلا بأس ، هذا غير ،
يعني واحد مثلاً انقدح في ذهنه صفةٌ من صفات الله ،
ولا يدري هل جاءت بالكتاب والسنة أو لا ،
فهو أولاً من جهة العقيدة لا يعتقدها ،
لأن الأصل أن الصفات توقيفية ،
وهو لم يكلف ما لا علم له به فيجب أن يكف عنها ،
ولا مانع من أن يسأل عالماً يظن أن عنده علماً منها ،
لا مانع هذا سؤال عن علم ،
جاهل يريد أن يسأل ،
لكن كوننا نتعمق ونتنطع في صفةٍ جاءت مطلقة عن الشرع ،
نذهب ننقب وننقش هذا هو الذي كرهه السلف ،
السؤال : الإيمان بالأسماء والصفات هو التصديق ؟
الجواب : هو التصديق ، التصديق والإيمان سواء ،
السؤال : التصديق بالأسماء والصفات التي أثبتها الله لنفسه أو جاءت بها السنة ألا يكلف الله بها أكثر من ذلك أي التصديق ؟
الجواب : أبداً لا يكلف أكثر من ذلك ،
لا يكلف أكثر من هذا خصوصاً في مسألة الصفات ،
لأن مسألة الصفات أمور غيبية ليس للعقل فيها مدخل ،
فلا يمكن للإنسان أن يقيس ،
فإذا كان ليس هناك مدخل للعقل فقف عليها ،
فصل
في إيمان المقلد [123]
54 – وكل ما يُطْلَبُ فيه الجزم ،
(71/83)
فَمَنْعُ تقليد بذاك حتم ،
كل شيء يطلب فيه الجزم يجب أن يجتهد الإنسان فيه كل شيء يطلب فيه الجزم فإنك لا تقلد فيه يجب أن تعرف الحكم من الكتاب والسنة ،
وعلى هذا فالعوام الآن الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ، لو قالوا : نحن لا نعرف ، لكن نسمع علماؤنا يقولون هكذا فآمنا ،
نقول على كلام المؤلف : أن إيمانهم ليس بصحيح ،
لأن الذي يطلب فيه الجزم لا بد أن يكون عن اجتهاد ولا يصح أن يكون عن تقليد ،
لكن هذا القول ضعيف جداً ،
ولهذا قال :
وقيل : يكفي الجزم إجماعاً بما ،
يطلب فيه عند بعض العلما ،
يعني : قال بعض العلماء : بل يصح التقليد فيما يطلب فيه الجزم وهذا القول هو الراجح ،
المسائل العملية يجوز فيها التقليد بالاتفاق [124] ، كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ، فهذه يجوز فيها التقليد بالاتفاق ، ولا يمكن أن يلزم الإنسان الناس بالاجتهاد ، لأن الاجتهاد في هذا صعب ، والعامة لا يمكن أن يقرؤوا كتب الفقه ،
أما مسائل العقيدة التي يجب على الإنسان فيها الجزم :
فقد اختلف العلماء : هل يجوز فيها التقليد أو لا بد من الوقوف على الدليل ؟
ولا شك أن الوقوف على الدليل أولى حتى في المسائل العملية ،
لأن الإنسان إذا بني عقيدته أو عمله على الدليل استراح وصار يعلم الآن أنه يمشي في طريق صحيح ،
لكن إذا لم يمكن فهل يكفي التقليد أو لا يكفي ؟
في هذا خلاف بين أهل العلم :
1. فمنهم من قال : إنه يكفي [125] ،
2. ومنهم من قال : إنه لا يكفي [126] ،
ولكن الحقيقة أنه لا يمكن أن نقول : إن جميع مسائل العقيدة يجب فيها اليقين ،
لأن من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء ،
وما كان مختلفاً فيه بين أهل العلم فليس يقينياً ، لأن اليقين لا يمكن نفيه أبداً ،
فمثلاً اختلف العلماء في عذاب القبر هل هو على البدن أو على الروح ؟
(71/84)
واختلف العلماء في الذي يوزن هل هي الأعمال أو صحائف الأعمال أو صاحب العمل ؟
واختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم هل هي جنة الخلد أو جنة في الدنيا ؟
واختلف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه هل رآه بعينه – يعني في الحياة – أو رآه بقلبه ؟ [127]
واختلف العلماء في النار هل هي مؤبدة أو مؤمدة ؟
وكل هذه من العقائد ، والقول : بأن ( العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق ) غير صحيح ،
فيه من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن ،
مثلاً : في قوله تعالى : ( من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً ) [128] ، لا يجزم الإنسان بأن المراد القرب الحسي ، فإن الإنسان لا شك ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي ،
( من أتاني يمشي أتيته هرولة ) ، هذا أيضاً لا يجزم الإنسان بأن الله يمشي مشياً حقيقياً هرولة ، ينقدح في ذهنه أن المراد الإسراع في إثابته وأن الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل ،
ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسألة هل هو هذا أو هذا ؟
فأنت إذا قلت هذا أو هذا لست تتيقنه كما تتيقن نزول الله عز وجل الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) [129] هذا لا يشك فيه الإنسان أنه نزول حقيقي ،
وكما في قوله : { استوى على العرش } ( الأعراف 54 ) ، لا يشك الإنسان أنه استواء حقيقي ،
فالحاصل : أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين ،
لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه ،
قد يكون هذان الدليلان متجاذبين عند شخص ، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقاً وقد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه ،
فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة بل عنده يقين ، والأول يكون عنده إشكال ،
وإذا رجّح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن ،
(71/85)
لهذا لا يمكن أن نقول : إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم ، ومما لا خلاف فيه ،
لأن الواقع خلاف ذلك ، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف ،
وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به ، لكن يترجح عنده ،
إذًا هذه الكلمة التي نسمعها بأن ( مسائل العقيدة لا خلاف فيها ) هذه ليست على إطلاقها ،
لأن الواقع يخالف ذلك ، كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقاد الإنسان ليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزماً لا احتمال فيه في بعض المسائل حديث أو آيات قد يشك الإنسان فيها ،
فمثلاً : { يوم يُكشف عن ساقٍ } ( القلم 42 ) .
هذه من مسائل العقيدة وقد اختلف فيها السلف :
هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة [130] ؟
وعلى هذا فقس ،،،
نرجع الآن إلى كلام المؤلف :
فقوله : ( كل ما يطلب فيه الجزم ) : يريد بذلك مسائل العقيدة وغيرها ،
كل شيء يطلب فيه الجزم ،
قوله : ( فمنع تقليد بذاك حتم ) : مما يجب فيه الجزم أن نجزم بأن الصلوات الخمس مفروضة ،
ولهذا لو أنكر الإنسان فرضية الصلوات الخمس كفر ، يجب أن نجزم بأنها مفروضة وأن الزكاة مفروضة وأن الصيام مفروض وأن الحج مفروض وجوباً ،
******************
55 – لأنه لا يُكتفى بالظن ،
لذي الحجا في قول أهل الفن ،
ثم علل المؤلف فقال : ( لأنه لا يكتفي بالظن ) : لأن التقليد ظن ،
ولهذا تقول للمقلِّد : هل تجزم بهذا ؟ قال لك : يقوله فلان ،
إذن ليس عنده جزم ،
التقليد يفيد الظن ولو حسن ظن المقلد بالمقلد ما قلده ،
إذن نقول :كل شيء يطلب فيه الجزم فلا تقلد فيه ، لأن هذا ينافي المطلوب ،
فالمطلوب الجزم ، والتقليد يفيد الظن فلا يجوز أن نقلد ،
******************
56 – وقيل : يكفي الجزم إجماعا بما ،
يُطْلَبُ فيه عند بعض العلما ،
(71/86)
يعني : قول ثاني : أنه يكفي الجزم بما يطلب فيه الجزم ولو عن طريق التقليد ،
فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، هذا مما يجب فيه الجزم ،
ولكن هل العامي يدرك ذلك بدليله ؟
الجواب : لا يدرك ذلك بدليله ،
ومع ذلك نصحح إيمانه ، ونقول : هو مؤمن وإن كان لا يدرك ذلك بدليله ،
قوله : ( يكفي الجزم إجماعاً بما يطلب فيه ) : يعني يكفي الجزم بما يطلب فيه الجزم بالإجماع ،
وقال هذا بعض العلماء ولهذا قال : ( عند بعض العلماء ) ، وهذا القول هو الصحيح ،
والدليل على ذلك :
1 - أن الله أحال على سؤال أهل العلم في مسألة من مسائل الدين التي يجب فيها الجزم ، فقال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( النحل 43 ) ونسألهم لنأخذ بقولهم ،
ومعلوم أن الإيمان بأن الرسل رجال من العقيدة ومع ذلك أحالنا الله فيه إلى أهل العلم ،
2 - وقال تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } ( يونس 94 ) ، ويسألهم ليرجع إليهم ،
وإذا كان الخطاب هذا للرسول ولم يشك فنحن إذا شككنا في شيء من أمور الدين نرجع إلى الذين يقرؤون الكتاب إلى أهل العلم لنأخذ بما يقولون ،
إذن هذا عام يشمل مسائل العقيدة ،
3 - ثالثاً : أننا لو ألزمنا العامي بمنع التقليد والتزام الأخذ بالاجتهاد لألزمناه بما لا يطيق ،
وقد قال تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ( البقرة 286 ) .
وقال : { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ، ولا نكلف نفساً إلا وسعها } ( المؤمنون 61 – 62 ) .
فالصواب المجزوم به القول الثاني : أن ما يطلب فيه الجزم يكتفي فيه بالجزم سواء عن طريق الدليل أو عن طريق التقليد ،
******************
57 – فالجازمون من عوام البشر ،
فمسلمون عند أهل الأثر ،
(71/87)
قوله : ( فالجازمون من عوام البشر ) : يعني الذين يجزمون من العوام ليس عندهم علم ، عوام !!! ،
قوله : ( فمسلمون ) : وإنْ كانوا لم يأخذوا ما يطلب فيه الجزم عن طريق الاجتهاد ،
قوله : ( عند أهل الأثر ) : وكفى بهم قدوة أهل الأثر ،
إذا كان أهل الأثر يرون أنه يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم - والمقصود أن يحصل الجزم سواءاً عن طريق التقليد أو عن طريق الاجتهاد إذا كان هذا ما يراه أهل الأثر - فهو الذي نراه نحن فهو الصحيح ،
بقي في كلام المؤلف رحمه الله إشكال :
قوله : ( فمسلمون ) : إعراب ( مسلمون ) : خبر لقوله : ( فالجازمون ) ،
ودخلت الفاء في الخبر ،
لأن ( الجازمون ) فيه ( أل ) الموصولة ،
والموصول يشبه الشرط في العموم ،
فيجوز أنْ تدخل الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ اسماً موصولاً ،
ومنه : قوله ( الذي يأتيني فله درهم ) ،
ودليل ذلك في القرآن : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم } ( البقرة 274 ) .
فهنا جاءت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لأنه يشبه الشرط في العموم ،
الباب الثاني
في الأفعال المخلوقة
الأَوْلى أنْ يقول المؤلف رحمه الله : ( القول الثاني في الأشياء المخلوقة ) ،
لأن قوله : ( في الأفعال المخلوقة ) توهم أن المراد بذلك : أفعال الله ،
وأفعال الله ليست مخلوقة ،
المخلوق هو المفعول ،
وأما الفعل فهو صفة الله وصفات الله ليست بمخلوقة ،
كل الأشياء يعني كل ما عدا الخالق فهو مخلوق من الأعيان والصفات والزمان والمكان وكل شيء ،
كل ما عدا الخالق فهو مخلوق { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) .
فالرب غير مخلوق والعالم مخلوق ،
******************
58 – وسائر الأشياء غير الذات ،
وغير ما الأسماء والصفات ،
(71/88)
قوله ( سائر ) : هنا بمعنى جميع ، و ( سائر ) اسم فاعل مأخوذة من السور وهو الجدار المحيط بالبيت وهي على هذا الوجه بمعنى ( جميع ) ،
و قوله ( سائر ) : من السؤر وهي بقية الطعام والشراب ، وهي على هذا بمعنى ( باقي ) ،
فهنا ( سائر الأشياء ) يعنى جميع الأشياء كما قال المؤلف ،
ومن ذلك : قول عائشة رضي الله عنها لما ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل يفيض على رأسه ثلاث مرات قالت : ( ثم غسل سائر جسده ) [131] ، ( سائر ) بمعنى : ( باقي ) والله أعلم [132] ،
قوله : ( الأفعال المخلوقة ) : لو قلنا ( الأفعال المخلوقة ) اختص بالأفعال ، وإذا قلنا : ( الأشياء المخلوقة ) شمل الأعيان والأفعال والأوصاف ،
فمثلاً : الآدمي هو عين وفعله فعل بطشه أكله شربه هذا فعل وأوصافه أوصاف ،
قوله : ( الأشياء المخلوقة ) : الأشياء الموجودة إما خالق وإما مخلوق ،
فالخالق رب العالمين عز وجل والمخلوق ما سواه ،
ولهذا قال المؤلف : ( وسائر الأشياء غير الذات ) : أي غير ذات الله ،
قوله : ( وغير ما ) : زائدة من أجل الوزن ،
قوله : ( وغير ما الأسماء ) : أي أسماء الله ،
قوله : ( والصفات ) : يعني صفات الله ،
******************
59 – مخلوقة لربنا من العدم ،
وضل من أثنى بالقدم ،
قوله : ( مخلوقة ) : هذا خبر المبتدأ ، أعني قوله : ( سائر ) ،
قوله : ( لربنا ) : يعني لله يعني بعد أن كانت عدماً ،
قوله ( ضل ) : يعني تاه وضاع عن الطريق المستقيم ،
قوله ( من أثنى عليها ) : يعني من وصفها بالقدم ،
قوله : ( وسائر الأشياء ) : يعني جميع الأشياء ولا يصح أن تقولون : بمعنى باقي ،
قوله : ( الأشياء ) : يعني من الموجودات غير ذات الله وأسمائه وصفاته ولم يذكر أفعاله لأن أفعاله من صفاته ،
(71/89)
إذن ذات الله وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة وما عداها فهو مخلوق ، فالآدمي مخلوق بعد أنْ لم يكن والروح مخلوقة بعد أنْ لم تكن بلا شك [133] ، والسماء مخلوقة بعد أنْ لم تكن والأرض مخلوقة بعد أنْ لم تكن وكل شيء مخلوق من العدم بعد أنْ لم يكن ،
وهذه المسألة ضل فيها من ضل من الناس ،
وزعموا أن المخلوقات قديمة النوع وأن المادة أزلية كما أنها لا تفنى ،
ولهذا يقولون : إن المادة لا تفنى فليست معدومة من قبل ولا تفنى من بعد [134] ،
وكل هذا ضلال لأنك إذا قلت : بقدم الأشياء وأنها لم تكن حادثة أشركت بالله وجعلت لله شريكاً في القدم وهذا شرك ،
ولكن هل الله عز وجل أتى عليه وقتُ لم يكن يفعل شيئاً ؟
قال بعض العلماء : نعم ، أتى عليه وقتٌ لم يكن يفعل شيئاً ثم حدث الفعل ،
لأنك إنْ لم تقل بذلك لزم أنْ تجعل المفعول قديماً ،
فإنك إذا أثبتّ لله فعلاً فلا فعل إلا بمفعول ،
وحينئذٍ يلزمك أنْ تقول بقدم المفعولات فتقع في الضلال ،
ولهذا اختلف الناس كما قلت لكم في هذه المسألة [135] :
فمنع قومٌ التسلسل في الماضي كما منعوه في المستقبل :
فجعلوا التسلسل ممنوعاً في الماضي والمستقبل ،
وقالوا : إن الله تعالى في الأزل لم يكن يفعل وفي النهاية أيضاً لا يفعل ،
وبنوا على ذلك أن الجنة تفنى والنار تفنى تعدم مرة ، لا يبقى إلا الله عز وجل ،
وهذا مذهب الجهمية قالوا : بأن الأشياء لا تدوم كما أن لها ابتداءً فلها انتهاءً [136] ،
وقال بعضُ منهم : بل تفنى الحركات دون الذوات حركات الحي تفنى دون ذاته فيبقى الناس كأنهم أصنام ،
وهذا مذهب العلاف [137] من المعتزلة [138] ،
وقد سخر به ابن القيم رحمه الله في النونية [139] ،
(71/90)
فقال له على زعمه : إن الإنسان من أهل الجنة إذا رفع إلى فمه فاكهة وجاء وقت الفناء على ما هو عليه وبقيت الفاكهة بيده لم تصل إلى فمه إلى أبد الآبدين وإذا كان على أهله من الحور العين أو من نساء الدنيا وأتى وقت الفناء وقت فناء الحركات وهو على أهله بقي لاصقاً بهم إلى أبد الآبدين ،
هل هذا كلام معقول ؟؟؟؟!!!!!
لكن الضلال والعياذ بالله الذي لا يُبنى على علمٍ من الشرع دائماً يكون أضحوكة ،
هذا المذهب يقول : لا تسلسل في الابتداء ولا تسلسل في الانتهاء ،
وبنوا على ذلك أن الجنة والنار تفنيان [140] ،
ولا يبقى شئٌ أبداً السماء والأرض والنجوم والشمس والقمر والجنة والنار ومن فيهما كله يفنى هذا قول ،
القول الثاني عكسه : قالوا بالتسلسل في الابتداء والانتهاء وأن الخلق قديم كما أنه لا نهاية له ،
فطرَّدوا المسألة من الوجهين ،
يعني قالوا : إذا كنا نقول بإمكان تسلسل الحوادث في المستقبل وأن الجنة والنار باقية إلى أبد الآبدين فكذلك في الماضي ،
وقال آخرون زعموا أنهم أهل السنة : التسلسل في المستقبل واجب وفي الماضي مستحيل ،
فالجنة والنار لا تفنى ومن فيها لا يفنى وأما في الماضي فالتسلسل ممنوع مستحيل ،
لأنه يلزم منه أن تكون الحوادث قديمة كقدم الله وهذا شرك ،
وهذا ادعى بعض الناس أنه مذهب أهل السنة ،
والقول الرابع : أن التسلسل في المستقبل ممكن في الذوات نفسها وفي ذواتٍ أخرى تستجد فيما بعد ،
وأما التسلسل في الماضي ففي الذوات مستحيل ،
يعني بمعنى أنْ نقول : هذه الذات لم ولا تزال موجودة فهذا مستحيل ،
لأنه ليس هناك شيء من المخلوقات يوصف بالقدم كقدم الله ،
لكننا نعلم أن لم يزل ولا يزال خلاّقاً وأن هناك مخلوقات غير السماء والأرض ،
لأن المصلي يقول : ( ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ) [141] ، هناك مخلوقات قبل السماوات وقبل العرش ما نعرف ما هي ،
(71/91)
لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً ولا يلزم من هذا قدم المفعول كقدم الفاعل ،
لأنه باتفاق العقلاء أن المفعول مسبوقٌ بالفاعل ،
لأن المفعول نتيجة فعل الفاعل وفعل الفاعل وصفٌ له ،
ولا بد أنْ يكون الموصوف سابقاً على الصفة ثم المفعول بعد الصفة ،
لأن عندنا مفعول وفعل وفاعل ،
المفعول لا شك أنه متأخر عن فعل الفاعل ،
وفعل الفاعل متأخرٌ عن الفاعل ،
فإذن لا يلزم من قولنا : بقدم الحوادث أنْ تكون قديمةً كقدم الله وأنْ تكون شريكةً لله في الوجود ،
وهذا هو الحق الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية [142] ،
وقد شنع عليه خصومه تشنيعاً عظيماً شنعوا عليه وقالوا : هذا قول الفلاسفة ،
وهذا قولٌ باطل [143] ،
ولكنه رحمه الله تخلص منهم بما ذكرتُ لكم بأنه لا يلزم من قدم المفعول أنْ يكون مساوياً للفاعل ،
لأنه بضرورة العقل أن المفعول لا بد أنْ يكون مسبوقاً بفعل والفعل لا بد أنْ يكون مسبوقاً بفاعل وهذا هو الحق ،
إذن قول المؤلف : ( ضل من أثنى عليها بالقدم ) :
إنْ أراد من أثنى عليها بالنوع فليس بصحيح ،
إنْ أراد من أثنى بالشخص بالعين فهذا صحيح ،
ما من شيء من المخلوقات يكون قديماً ليس له أول أبداً ،
وهل هذه المخلوقات أبدية ؟
نقول : فيه تفصيل :
منها شيء أبدي خلقه الله للبقاء ،
ومنها شيء أمدي يعني له مدة وينتهي ،
فمن الأشياء الأبدية : الروح ، فإن الله تعالى خلق الروح للأبد ،
ولا يقال : إن الحيوان يموت فتفقد روحه ،
لأن موت الحيوان ليس فقداً لروحه ،
بل مفارقة روح للبدن اللهم إلا روح من لم يُخلق للأبد فهذا قد تفنى ،
وليس عندي أثارةٌ من علم ،
لكن هذا هو الظاهر مثل أرواح الحيوان ،
أرواح الحيوان سوف تعاد في أجسادها يوم القيامة ،
كما قال تعالى : { وإذا الوحوش حُشِرَتْ } ( التكوير 5 ) .
ولكن يأمرها الله عز وجل بعد أنْ يقضي بينها بعدله يأمرها أنْ تكون تراباً فتكون تراباً ،
(71/92)
وظاهر هذا أنها تفنى الأرواح والأجساد ،
لأن بقاء الأرواح بعد هذا الفصل والحكم لا فائدة منه فيما يظهر لنا [144] ،
إذن فالذي خُلِقَ للبقاء من الأرواح هو أرواح المكلفين يعني بني آدم والجن ،
كذلك الحور والولدان الذين في الجنة هؤلاء خُلِقوا للبقاء فلا يموتون ،
إذن نقول : من جهة الأزلية ليس هناك مخلوق يكون أزلياً أبداً ،
من جهة الأبدية فيه تفصيل :
منه ما خُلِقَ على أنه أبدي ومنه ما خُلِقَ على أنه أمدي يفنى ويزول ،
******************
60 – وربنا يخلق باختيار ،
من غير حاجة ولا اضطرار ،
هذا بالنسبة لأفعال الله عز وجل ،
أفعال الله سبحانه وتعالى اختيارية ،
كما قال الله تعالى : { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } ( إبراهيم 27 ) ، وقال : { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } ( الشورى 29 ) ، يعني إذا شاء جمعه فهو قدير عليه لا يعجز عنه ،
وليست المشيئة هنا تابعة للقدرة ،
يعني أنه قدير إذا شاء ، لا بل هو يجمع إذا شاء الجمع فإنه لايستعصي عليه بل هو قادر عليه فالله تعالى يفعل باختيار ،
وليس يفعل لذاته بدون اختيار كما زعمه بعض أهل البدع ،
بل فعله تابعٌ لمشيئته إنْ شاء فعل وإنْ لم يشأ لم يفعل ،
ولو قلنا : إن فعله ذاتيٌ ،
لزم أن يفعل الشيء كرهاً عليه وهذا شيء مستحيل ،
بل هو يفعل ما يشاء من إيجاد أو إعدام ،
من إيجاد على سبيل البقاء ،
أو إعدام على سبيل الزوال ،
فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء باختياره ،
قوله ( من غير حاجة ولا اضطرار ) : يعني أنه لا يحتاج ولا يضطر إليه ،
والفرق بين الحاجة والضرورة :
أن الضرورة : ( ما يحصل الضرر بفقده ) ،
والحاجة : ( ما يفوت الكمال بفقده ) ،
فالأمور الضرورية : ( ما يحصل الضرر بفقدها ) ،
والحاجية : ( ما يفوت الكمال بفقدها ) ،
(71/93)
فمثلاً : الكتب التي نقرأ بها في المقررات ضرورية ،
لأنه لو لم يكن عندنا كتب صار علينا ضرر والكتب التي للمراجعة وزيادة العلم حاجية لأنه يفوت بفقدها الكمال ولا يحصل بفقدها الضرر ،
فهل الله عز وجل محتاج إلى الخلق [145] بمعنى أنه لو لم يوجد هذا الخلق لفات كماله ؟
لا ،
هل هو في ضرورة إلى وجودهم ؟
لا ، من باب أَوْلى ،
أفعاله التي يفعلها هل يفعلها لحاجته إليها ؟ لضرورته إليها ؟
لا ، أنا أفعل الأفعال لحاجتي ، أكتسب ليزداد مالي هذا حاجة ، أكتسب لأنقذ نفسي من الهلاك هذا ضرورة ،
لكن الله عز وجل يفعل بلا حاجة ولا اضطرار ،
لأن الله عز وجل يقول : { والله هو الغني الحميد } ( فاطر 15 ) .
فهو غني عن كل أحد حميد على كل فعل وعلى كل صفة فلا يفعل لحاجة ولا يفعل لضرورة ،
فإنْ قال قائل : هل تنفون حكمة الله في أفعاله ؟
الجواب : لا ، لكن الحكمة لا تعود لنفسه بل تعود لغيره ،
ولهذا قال المؤلف نافياً لهذه الشبهة :
******************
61 – لكنه لم يخلق الخلق سدى ،
كما أتى في النص فاتبع الهدى ،
يعني لما قال بالأول إنه يفعل بلا حاجة ولا اضطرار ،
كأنْ قائلاً يقول : إذن خلق الخلق عبث ،
لأنه ما دام ليس فيه حاجة ولا اضطرار فإنه يكون عبثاً فنفى المؤلف رحمه الله هذا الوهم ،
قوله ( لم يخلق الخلق سدى ) : ودليل هذا أنه لم يخلق الخلق سدى دليله أثريٌ ونظري :
أما الأثري : فقوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن يُترك سدى } ( القيامة 36 ) .
وقوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون } ( المؤمنون 115 ) .
وقوله : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } ( الأنبياء 116 ) .
وقوله : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } ( ص 28 ) .
وقوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } ( الحجر 85 ) .
(71/94)
والآيات في هذا كثيرة ،
أما الدليل النظري : فهو أنه لم يخلق الخلق إلا لحكمة ،
لكن هذه الحكمة هل هو محتاج لها هو أو مضطر إليها أو يحتاج إليها الخلق ؟
الثاني : يحتاج إليها الخلق ، فالله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لحاجة الخلق إليه لا لحاجته هو إلى الفعل هو كامل على كل حال لكن الخلق هم الذين يحتاجون إلى ما يكون به كمالهم ودفع ضرورتهم ، ولذلك لا ينتفع بأفعال الله إلا الخلق ، يستدلون بها على آياته وعلى فضله وعلى عدله وعلى عقابه وانتقامه وما أشبه ذلك فالحاجة إذن لمن ؟ للخلق وليس للخالق ، وأما الخالق عز وجل فإنه يفعل بلا حاجة ولا اضطرار ،
قوله : ( كما أتى في النص فاتبع الهدى ) : النص : الكتاب والسنة يعني ولا تتبع الهوى ،
كما قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } ( ص 26 ) .
******************
62 – أفعالنا مخلوقة لله ،
لكنها كسبٌ لنا يا لاهي ،
قوله ( أفعالنا ) : يعني ما نفعله من طاعة أو معصية سواءٌ كان باليد أو بالرجل أو العين أو الأنف أو الأذن كلها مخلوقة لله وذلك لأن الأفعال من صفاتنا ونحن مخلوقون لله وخالق الأصل خالقٌ للصفة فإذا كان الإنسان مخلوقاً لله فإن صفاته أيضاً مخلوقة لله فأفعالنا صفاتٌ لنا وخالقُ الذات خالقٌ للصفة ،
ولهذا صح أنْ نقول : إن أفعالنا مخلوقة لله هذا وجه ،
الوجه الثاني : أن فعل الإنسان ناتجٌ عن أمرين : عن إرادة وقدرة ،
أما القدرة : فالله تعالى الذي خلقها ولا إشكال فيها ، لو شاء الله عز وجل سلب الإنسان القدرة وصار عاجزاً عن الفعل ،
(71/95)
الإرادة كذلك : نقول : إن الله هو الذي خلقها لأنه هو الذي يودع في القلب هذه الإرادة ، وما أكثر ما يريد الإنسان شيئاً وفي آخر لحظة يتجه إلى غيره وهذا شيء كثير أحياناً تمشي على أنك ذاهبٌ إلى صديقٍ لك لتزوره في أثناء الطريق ترجع وتترك الزيارة ، تقول : أذهب له غداً أو بعد غد ،
وقد سئل أعرابيٌ : بما عرفتَ ربك ؟ قال : بنقض العزائم وصرف الهمم ، انظر الأعرابي ، غريب ، فطرة ، بنقض العزائم يعني أحياناً يعزم على الشيء عزماً أكيداً ما فيه إشكال ولا واحد في المائة ثم يتراجع بدون أي سبب ، أيضاً صرف الهمم يهمُّ الإنسان بالشيء ويفعل ويباشر ثم ينصرف ، قال بذلك أعرف الله لأن نقض العزائم وصرف الهمم ليس له سببٌ معلوم يُضافٌ إليه إذن فلا بد أنْ يكون السبب إلهياً ،
نعود مرة ثانية نقول : أفعالنا مخلوقة لله ودليل ذلك أمران :
الأمر الأول : أن أفعالنا صفات لنا وخالقُ الذات خالقٌ للصفات ،
الأمر الثاني : أن أفعالنا ناتجةٌ عن إرادةٍ جازمة وعن قدرة ، والذي خلق الإرادة وخلق القدرة فينا هو الله ، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب وهو الفعل الناتج عن الإرادة والقدرة ،
قوله ( كَسْبٌ لنا ) : يعني معناه أن ثوابها وعقابها لنا كما قال تعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } ( فصلت 46 ) ، فالأفعال مخلوقة لله لكنها بالنسبة للثواب والعقاب كسبٌ لنا { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت } ( البقرة 286 ) .
وإذا كانت كسباً لنا فإنها تُضافُ إلينا حقيقةً مباشرة وتُضافُ إلى الله خَلْقاً وتقديراً فهي لنا مضافة مباشرةً وكسباً وهي لله مضافة مضافة خَلْقاً وتقديراً فلما انفكت الجهة أمكن الاجتماع ،
وإلا فقد يقول القائل : كيف تضيف أفعالك إلى الله وإلى نفسك ؟ هذا تناقض ، لأنك إذا أضفتها إلى الله لزم ألاَّ تضيفها إلى نفسك وإنْ أضفتها إلى نفسك لزم ألاَّ تضيفها إلى الله ؟
(71/96)
وقد ذهب إلى هذين الاحتمالين طائفتان :
فالجبرية قالوا : أضفها إلى الله وإذا أضفتها إلى الله لا يمكن أنْ تضيفها إلى نفسك ،
والمعتزلة القدرية قالوا : أضفها إلى نفسك وإذا أضفتها إلى نفسك لا يمكن أنْ تضيفها إلى الله ،
ولهذا جعلوا أعني المعتزلة جعلوا فعل العبد منفصلاً عن الله عز وجل ،
والجبرية بالعكس جعلوا فعل العبد منفصلاً عن العبد فهو مجبورٌ عليه ،
وجه الشبهة عندهم قالوا : كيف نضيف فعلاً واحداً إلى فاعِلَيْنْ ، هذا لا يمكن ،
لا يمكن أنْ تضيف هذا إلى الله وإلى الإنسان لأنه فعل واحد لا يصدر من فاعِلَيْنِ ،
ولكن نقول نحن في الجواب عن ذلك :
إن الإضافة مختلفة ففعلنا مُضافٌ إلى الله تقديراً وخَلقاً مُضافٌ إلينا فِعْلاً وكسباً نحن الذين باشرنا الكسب [146] ،
فأنت إذا صليتَ ليس الله هو المصلي ، إذا صمتَ فليس الله هو الصائم ، إذا تصدقتَ فليس الله هو المتصدق ، بل الصائم والمصلي والمتصدق أنتَ المباشر وأنتَ الذي لك ثمرة هذا العمل من ثوابٍ أو عقاب ،
أما الله فإنه عز وجل مُقَدِّرْ وخالق فقط فلما انفكت الجهة صحت النسبة إلى الله وإلى الإنسان ،
إذا قال قائل : ما الدليل على أن أفعالنا مخلوقة لله ؟
قلنا : الأدلة في هذا كثيرة :
قال الله تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } ( البقرة 253 ) .
إذن اقتتالهم بمشيئة الله ولكن الله يفعل ما يريد ، ففعلهم منسوب إلى الله خَلْقاً كما أنه منسوب إلى الله تعالى إرادةً وتقديراً ،
وقال تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } ( الأنعام 112 ) ، فأضاف فعلهم إلى الله وأنه واقعٌ بمشيئته ،
وأما إضافته إلى العبد فكثير جداً :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم } ( البقرة 277 ) أضاف الفعل إليهم .
(71/97)
{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } ( البقرة 286 ) ، { وتُوَفَّى كل نفس ما عملت } ( النحل 111 ) فأضاف الله تعالى الأفعال والكسب إلى الفاعل المكتسب ،
وجعل ذلك بمشيئته وتقديره في قوله : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ( البقرة 286 ) .
وفي قوله : { ولو شاء الله ما فعلوه } ( الأنعام 137 ) وغير ذلك من الآيات ،
فَصَحَّ الآن أن أفعالنا منسوبةٌ إلى الله خلقاً وتقديراً وإلينا فعلاً وكسباً [147] ،
ولهذا قال : ( لكنها كسبٌ لنا يا لاهي ) يا لاهي !!! ما معنى يا لاهي ؟ يا غافل ،
كأنه يشير رحمه الله إلى أنه يجب التفطن هنا والتنبه لئلا نقع في فخ المعتزلة أو فخ الجبرية لأن المسألة خطيرة ،
الجبرية قيل لهم : إذا كان الله تعالى يجبر العبد والفعل فعل الله كيف يُثابُ العبد ويُعاقَبْ ؟
قالوا : لأن الله يفعل ما يشاء ، قد يثيب من لا يستحق الثواب وقد يعاقب من لا يستحق العقاب ،
قيل لهم : هذا ظلم ،
قالوا : كيف يكون ظلماً ، الظلم : ( تصرف الغير في غير ملكه ) [148] ،
وإذا تصرف الله في ملكه فليس بظلم لو عاقب إنسان مصلي ليلاً ونهاراً يقوم الليل ويصوم النهار ويتصدق بالمال فعاقبه في نار جهنم ،
قالوا : هذا ليس بظلم ،
لأن الظلم : أنْ المُتَصَرِّفُ في غير ملكه ،
والكل ملك الله { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } ( الأنبياء 23 ) .
فيقال : هذا ظلمٌ بنص القرآن ،
قال الله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما } ( طه 112 ) .
وقال الله عز وجل : { لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يُبَدَّلُ القول وما أنا بظلامٍ للعبيد } ( ق 28 ) .
كيف تقولون : يأمر هذا الشخص أنْ يفعل فيفعل ثم يعاقبه ؟! ،
هذا لو جرى من مخلوق مع مخلوق لَعُدَّ ذلك ظلماً ، فكيف مع الخالق عز وجل الذي هو أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين هذا ظلم ،
(71/98)
المعتزلة أقرب من الجبرية من وجه ، من جهة المعقول ،
قالوا : الإنسان يفعل ما شاء يروح ويأتي ويجلس ويقوم ويقعد ولا يشعر أن أحداً يجبره ، والجزاء على عمله مطابق تماماً ،
وهم من هذه الناحية أقرب من الجبرية لكن الجبرية من ناحية تقدير الله أقرب من هؤلاء ،
أهل السنة والحمد لله أخذوا بهذا وهذا ،
وقالوا : هي تُضافُ إلى الله تعالى خلقاً وتقديراً وإلينا مباشرةً وكسباً ، ليس فعل الإنسان هو فعل الله فالصائم هو العبد والمصلي هو العبد والمتطهر هو العبد ، لكن هذا الفعل مخلوقٌ لله ،
الأمر الثالث الذي يدل على أن أفعالنا مخلوقة لله : أن الله خالق كل شيء [149] ،
كما قال تعالى : { الله خالق كل شيء } ( الزمر 62 ) .
وهذا العموم يشمل أفعال العباد لأن أفعال العباد من الشيء ،
******************
63 – وكل ما يفعله العباد ،
من طاعة أو ضدها مرادٌ ،
قوله : ( وكل ما ) : والنسخة التي عندكم ( كلما ) ،
يعني أنها مشبوكة مع ( كل ) ،
وهذا غلط ،
لأن ( كلما ) أداة شرط تفيد التكرار ،
وأما ( كل ما ) التي اسم موصول فيجب الفك ،
يعني تكتب ( كل ) وحدها و ( ما ) وحدها ،
والتقدير : وكل الذي يفعله العباد ،
قوله ( لربنا ) : كل ما يفعله العباد من الطاعة وضدها فهو مراد لله أي واقعٌ بإرادته الكونية ،
ثم إنْ كان طاعةً فهو واقعٌ بإرادته الكونية والشرعية ،
وإنْ كان غير طاعةً فهو واقعٌ بالإرادة الكونية دون الشرعية ،
كل ما يفعله العباد فهو مراد لله ،
ودليل ذلك السمع والعقل :
أما السمع :
فمنه : قوله تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } ( البقرة 253 ) .
(71/99)
فدل هذا على أن قتالهم كان بمشيئة الله ولكن الله يفعل ما يريد بإرادته أيضاً ،،،،،،
وأما العقل :
فإننا نقول : إن فعل العبد فعل لمخلوق وهو مخلوق هذا الفعل كما سبق ،
فإذا كان مخلوقاً فهل خُلِقَ بإرادة الله أمْ خُلِقَ بغير إرادة منه ؟
الجواب : بإرادة من الله ، ما دام مخلوقاً فإن الله لا يجبره أحد على شيء فلا يكون هذا الفعل إلا بإرادة الله عز وجل هذا دليل عقلي ،
والناس قد اختلفوا في هذه المسألة :
فالجبرية قالوا : بإرادة الله المجبرة تجبر الإنسان على أنْ يفعل ،
والقدرية قالوا : ليس بإرادة الله إطلاقاً والإنسان مستقلٌ بعمله ،
وأهل السنة قالوا : إنه بإرادة الله غير المجبرة لأن الإنسان يفعل الفعل باختياره ليس مُجْبَراً عليه ولا فرق في هذا بين الطاعة والمعصية ، فالطاعة التي تقع من العبد تقع بإرادة الله والمعصية التي تقع من العبد تقع بإرادة الله ، لأن اقتتال الكفار والمؤمنين لأنه سبق أنْ بَيَّنا أنه بمقتضى الآية الكريمة واقعٌ بإرادة الله فيه شيءٌ حلال بل واجب وفيه شيءٌ حرام ، الواجب قتال المؤمنين للكفار هذا واجب ، والحرام قتال الكفار للمؤمنين ، ومع ذلك أخبر الله أنه وقع بمشيئه { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ( البقرة 253 ) .
إذن فالله مريدٌ للمعصية كما أنه مريدٌ للطاعة ،
فإن قال قائل : إن الله مريدٌ للمعصية ؟ أليست شراَّ ؟
فالجواب : بلى ، هي شر لكن الله تعالى قد يريد هذا الشر لمصلحة عظيمة وبكونه مصلحة ينتفي عنه أنْ يكون شراَّ محضاً ،
فالشر المحض ليس إلى الله ولا يريده الله ،
لكن هذه المعصية هي بنفسها شر ،
لكن بما تؤدي إليه تكون خيراً فليست شراًّ محضاً لأن المعصية فساد { والله يحب الفساد } ( البقرة 205 ) ولا يريد الفساد المَحْضْ لكن فيه خير ليست شراًّ محضاً ،
فمن الخير في المعاصي :
(71/100)
أولاً : أن الله تعالى يقدرها ليتبين بذلك فضل الطاعة لأنه لولا تقدير المعصية ما عُرِفَ فضل الطاعة ، فإذا حصلت المعصية وحصل من نتائجها ما يحصل من العقوبات العامة والخاصة والظاهرة والباطنة عُرِفَ بذلك قَدْرُ الطاعة وأن الطاعة خير ،
ثانياً : يُعْرَفُ بها تمام قدرة الله وحكمته حيث أراد الطاعة التي فيها الخير وأراد المعصية فإن هذا من الحكم التي يتبين بها قدرة الله عز وجل على الجمع بين النقيضين بين الطاعة والمعصية ،
ثالثاً : قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذْ لولا المعصية ما كان هناك منكر يحتاج إلى النهي عنه ولم يُعْرَفْ المعروف حتى يُؤْمَرْ به ،
رابعاً : إقامة الجهاد ، إذا كانت المعصية كفراً فإن المسلمين يجب عليهم مجاهدة الكفار حتى تكون كلمة الله هي العليا إما بإسلامهم وإما بإخضاعهم لأحكام الإسلام وبذل الجزية ،
خامساً : أن المعصية يكون فيها أحياناً خير للعاصي ، وذلك أنه ينتبه إذا رأى آثارها ، فيقلع عن المعصية ويزداد عملاً صالحاً ، ويكون بعد المعصية خيراً منه قبل المعصية ،
إذن فصارت المعاصي مرادةً لله من أجل ما يترتب عليها من المصالح لا لذاتها لأن ذاتها شر ، لكن الله يريدها لأنه يترتب عليها خيرٌ كثير ، كما لو أراد الأب الحنون أنْ يكوي ابنه من مرضٍ أَلَمَّ به فَالكَيُّ شر لكن لما يترتب عليه من المصالح يكون مراداً للأب ولهذا لو أراد أحدٌ أنْ يَكْوِيَ ابنه بدون سبب لمنعه بقدر ما يستطيع ،
وكان بعض المعتزلة يقول : إن الله يريد الطاعة لأنها خير ، ولا يريد المعصية لأنها شر والله تعالى لا يحب الشر ولا يحب الفساد ،
فقال ذات يومٍ عند رجلٍ من أهل السنة : سبحان من تَنَزَّهَ عن الفحشاء ، الكلام هذا طيب ،
(71/101)
هل الله يفعل الفحشاء ؟ حاشا وكلا ، هذه الكلمة إذا سمعها العامي قال : إن هذا الرجل قد قدس ربه ونَزَّهَهْ عما لا يليق ، ولكن هذه الكلمة ظاهرها رحمة وباطنها عذاب ، فالله عز وجل تَنَزَّهَ عن الأمر بالفحشاء { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } ( الأعراف 128 ) ، ولم يقل قل : إن الله لا يقدر الفحشاء ،
وفرق بين الأمر بالفحشاء وبين تقدير الفحشاء ،
المهم أنه لما قال : سبحان من تَنَزَّهَ عن الفحشاء ،
قال له السني : سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء ،
الأصح الثانية لأن العاصي مملوكٌ لله ومعصيته داخلة في ملك الله ،
فهل يمكن أنْ تكون معصية لم يَشَأْها الله ؟
إنْ قلنا : نعم ، فقد حكمنا بأنه يكون في ملك الله ما لا يشاء ،
فقال له المعتزلي : أرأيت إنْ منعني الهدى وقضى علي بالردى أَحْسَنَ إلي أمْ أساء ؟ مشكل ، إنْ منعني الهدى يعني جعلني كافراً فهل أحسن إليًّ أمْ أساء يعني لأجل يلزم السني ، يقول إذا كنتَ ترى أنه بإرادة الله أن كفره بإرادة الله فقد أساء إلي ، وهل الله يسيءُ إلى أحد ؟
فقال له السني : إنْ منعه ما هو عليه فقد أساء وإنْ منعه فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، أجاب بجواب سديد ، قال : هل الله واجب عليه أن يهدي الناس ؟ الهداية فضلٌ من الله ، إنْ تفضل به عليك فقد أَحْسَنَ وإنْ منعك فإنه لم يمنع حقاً واجباً عليه لك ،
فَقُطِعَ المعتزلي وبُهِتْ وعجز عن الجواب وهذا هو الحق ،
كل ما في الكون من طاعة أو ضدها فهو مرادٌ لله ويأتي إنْ شاء الله بقية الكلام عليها ، إذا أمرتَ شخصاً وقلت : افعل كذا فقد أطاعك ، وإذا قلت : لا تفعل كذا فانتهى فقد أطاعك ،
إذن فالطاعة تشمل فعل الأوامر وترك النواهي ،
قوله ( أو ضدها ) : أي المعصية ، فالمعصية مرادةٌ لله لكنها مرادةٌ لله قدراً لا شرعاً ،
وأما الطاعة فمرادةٌ شرعاً وقدراً إذا وقعت من العبد فهي مرادةٌ لله شرعاً وقدراً ،
(71/102)
مثال ذلك : قام رجلٌ فتوضأ وصلى ، فنقول : هذا الوضوء وهذه الصلاة مرادة لله شرعاً وقدراً ، أما كونها مرادةً شرعاً فلأنها محبوبة إلى الله ، وأما كونها مرادةً قدراً فلأنها وقعت ،
مثالٌ آخر : رجل سرق هذه معصية مراد لله لكنه مرادٌ قدراً لا شرعاً ،
ومن ثم نقول : إن إرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين :
1. إرادةٌ شرعية ،
2. وإرادةٌ كونية [150] ،
فما كان بمعنى المحبة فهو إرادة شرعية وما كانت بمعنى المشيئة فهي إرادة كونية [151] ،
تنقسم الإرادة إلى قسمين : شرعية وكونية ،
الشرعية ما كانت بمعنى المحبة ، والكونية ما كانت بمعنى المشيئة ،
فكل شيءٍ محبوب إلى الله فهو مرادٌ له شرعاً ،
وكل شيءٍ واقع فهو مرادٌ كوناً لأنه لم يقع إلا بمشيئته ،
إذن الفرق بينهما : أن الإرادة الشرعية بمعنى المحبة هذا واحد يعني تختص بما يحبه الله ،
الإرادة الشرعية قد يقع فيها المراد وقد لا يقع فالله تعالى يريد الصلاة شرعاً لكن قد يصلي الإنسان وقد لا يصلي مع أن الله قد أراد الصلاة شرعاً ،
1. إذن تختص الإرادة الشرعية بما يحبه الله ،
2. ثانياً : لا يلزم فيها وقوع المراد ،
الإرادة الكونية على العكس يلزم فيها وقوع المراد ولا تختص بما يحبه الله ، بل تكون فيما يحبه وما يكرهه ،
1. قلنا : إنها أي الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد فإذا أراد الله تعالى شيئاً كوناً وجب ، { إنما إمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) .
2. ثانيا : أن الإرادة الكونية لا تختص فيما يحبه الله ، بل تكون فيما يحبه الله وفي غير ما يحب ،
ولهذا لو سئلت : هل أراد الله من الزاني أنْ يزني ؟ نعم كوناً أراد ذلك ،
فكل شيءٍ واقع فإننا نعلم أنه قد تعلقت به الإرادة الكونية ،
ولنضرب لهذا أمثلة :
أولاً : إيمان أبي بكرٍ رضي الله عنه من أي الإرادتين ؟
إرادة شرعية وكونية ،
(71/103)
كفر أبي لهب : هل هو مرادٌ بالإرادة الشرعية أو بالإرادة الكونية ؟
الكونية لأنه واقع ووقوعه يدل على أنه مرادٌ كوناً ،
لماذا لم يكن مراداً شرعاً ؟
لأنه غير محبوب لله ، كل شيءٍ يقع في الكون وهو غير محبوب إلى الله فهو مرادٌ كوناً لا شرعاً ،
إيمان أبي لهب : الله تعالى يريد من أبي لهب أنْ يؤمن يريد شرعاً ، لكن كوناً لا ، لأنه لو أراد كوناً أنْ يؤمن لآمن ،
كفر أبي سفيان : فيه تفصيل :
كفر أبي سفيان حال كفره مراد كوناً لا شرعاً ،
وكفره بعد إسلامه غير مرادٍ لا شرعاً ولا كوناً هذا هو الواقع ،
قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } ( الأنعام 125 ) ، من أي الإرادتين هذه ؟
إذا قلت : أنها شرعية صار معناها أنْ الكافر يلزم أنْ يشرح الله صدره للإسلام ، الإرادتان كونيتان ،
لأن { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } .
وليس المعنى : ( فمن يحب الله أنْ يهديه يشرح صدره للإسلام ) ،
لأن الله يحب أنْ يهدي كل أحد ويلزم من هذا أنْ يشرح صدر كل أحد ،
إذن الإرادة في الآية كونية في الجملة الأولى والثانية ،
{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } ( النساء 26 ) الإرادة كونية وشرعية ،
إذن البيان كوني شرعي ،
قوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } ( النساء 27 ) الإرادة هنا شرعية لأن يريد أنْ يتوب على الجميع ،
لكن هل يتوب عليهم أو لا ؟
هذا يرجع إلى مشيئته ، لأنه لو كانت قدرية لتاب الله على كل الناس ،
قول هود : { إن كان الله يريد أن يغويكم } ( هود 34 ) الإرادة هنا كونية ،
1. الإرادة الكونية شاملة لما يحبه الله وما لا يحبه ، هذا واحد ،
2. الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد ،
الإرادة الشرعية بخلاف ذلك :
فإن الإرادة الشرعية تختص بما يحبه الله ، ولا يلزم منها وقوع المراد ،
(71/104)
فيه إشكال : إذا قال قائل : إذا قلتم إن الله يريد المعاصي بالإرادة الكونية ولكنه يكرهها بالإرادة الشرعية ، فكيف يكون في ملكه ما يكرهه ؟ هل الله مجبر ؟
الجواب : ليس بمجبر لا شك ،
لكن كيف يكون في ملكه ما يكرهه ؟
فالجواب : لا يكون في ملكه ما يكرهه كراهة مطلقة ، لكنه يكون في ملكه ما يكرهه إضافية فيكرهه من وجه ويحبه من وجه آخر ،
فالمعاصي مكروهة لا شك كما قال تعالى : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } ( الإسراء 38 ) لكنه قد يريدها كوناً مع كراهته لها شرعاً لحكمة بالغة فإن وجود المعاصي في بني آدم له حكمة عظيمة منها ما ذكرناه في الليلة الماضية فإن المعاصي يتبين فيها فضل الطاعات ، المعاصي يكون بها الفتنة ، لأنه لولا وجود من يعصي الله ما عصى أحدٌ الله لأنه لو كان المجتمع كله ما يعصي الله لعد الإنسان نفسه شاذاً وحينئذٍ لا يعصي الله ،
ومن ثم تجدون المعاصي تنتشر شيئاً فشيئاً من شخص إلى شخصين إلى ثلاثة إلى أربعة وهكذا فإذا مَنَّ الله على العبد وتجنب هذه المعاصي استفاد ، استفاد وكسب كسباً عظيماً ،
وفيه فوائد ذكرناها أيضاً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والصبر وغير ذلك
فصار الجواب على هذا أنْ نقول : إن الله يريد المعاصي مع كراهته لها لحكمة بالغة كما أن الإنسان يأخذ بابنه الذي هو من أحب الناس إليه ويكويه بالنار وهو يكره أنْ يكويه لأنها تؤلمه لكن يفعل ذلك لما يترتب عليه من المصالح ،
******************
64 – لربنا من غير ما اضطرارِ ،
منه لنا فافهم ولا تمارِ ،
قوله : ( لربنا ) : أتى بقوله ( لربنا ) لأن هذا من مقتضى ربوبيته أنْ يكون كل شيءٍ مراداً له ،
قوله : ( من غير ما اضطرار منه لنا ) : ( ما ) هذه زائدة لتوكيد النفي ، يعني من غير أن يضطرنا نحن إلى ما نفعله ،
(71/105)
يريد بذلك الرد على الجبرية الذين يقولون : إن الإنسان مجبر على عمله ،
فالمؤلف رحمه الله يقول : إنه يريد من ذلك ولكن لم يضطرنا إلى هذا ، نحن نفعل الطاعات باختيارنا ، ولا نشعر بأنْ أحداً يجبرنا عليها ، ونفعل المعاصي كذلك باختيارنا ، ولا نشعر أن أحداً يجبرنا عليها والآيات في هذا المعنى كثيرة ،
أي بأن فعل الإنسان صادرٌ عن إرادةٍ منه :
كقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } ( آل عمران 152 ) .
{ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } ( البقرة 272 ) .
( إنما الأعمال بالنيات ) [152] ،
والأدلة أكثر من تُحْصَر بأن فعل العبد صادرٌ باختياره لكن هذا الاختيار تابعٌ لمشيئة الله :
لقوله تعالى : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } ( الإنسان 30 ) .
إذن الدليل على أن فعل الإنسان اختياري لا اضطراري الدليل سمعي وواقعي :
السمعي : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } ( آل عمران 152 )،
{ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } ( البقرة 272 ) .
( إنما الأعمال بالنيات ) ،
وما أشبه ذلك هذا دليل سمعي ،
أما الدليل الواقعي : فإن كل إنسان يفعل الأفعال وهو لا يشعر أن أحداً يجبره عليهاضذ ، يحضر إلى الدرس باختياره يغيب عن الدرس باختياره ،
ولهذا إذا وقع الفعل من غير اختيار لم يُنسب إلى العبد بل يُرفع عنه .
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ( رُفِعَ القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ) [153] ،
ولم ينسب الله عز وجل تقلب أصحاب الكهف إلى أنفسهم بل نسبه إليه فقال : { وَنُقَلِّبُهُمْ } ( الكهف 18 ) ، ولم يقل : ( يتقلبون ) ، لأنه ليس منهم إرادة ، النائم لا إرادة له ، ولهذا لا يقع طلاقه لو طَلَّقْ ،
(71/106)
لو فرضنا واحد في النوم يكلم زوجته : يا فلانه أنتِ طالقٌ ثلاثاً بتاتاً ، يقوله وهو نائم ثم أصبح فجاءت زوجته إليه ، فقال : أبعدي عني قد طلقتك ثلاثاً بتاتاً ، لم تطلق ،
على كل حال هذا النائم لا يُنسب فعله إليه ، لأنه وقع بغير إرادة ، هذه قاعدة مضطردة ،
لو طَلَّقَ السكران وهو سكران وهو لا يعي ما يقول فإن طلاقه لا يقع ، لو طَلَّقَ الغضبان غضباً شديداً لا يملك نفسه فإن طلاقه لا يقع لأنه بغير إرادة ،
فإذا كان الشيء بغير إرادة فإنه لا حكم له شرعاً فتبين بهذا أن وقوع الشيء بإرادة منا ثابتٌ بالقرآن والواقع ،
قوله : ( فافهم ولا تمارِ ) : أي لا تجادل لأن المراء بغير حق ولكن من أجل أن ينتصر الإنسان هذا مراءٌ محرم لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق أما الذي يماري لإثبات الحق فإن ذلك من الجدال المأمور والله الموفق ،
******************
65 – وجَازَ للمولى يعذب الورى ،
من غير ما ذنبٍ ولا جرمٍ جرى ،
قوله : ( وجَازَ للمولى يعذب ) : هذه فيها إشكال من جهة اللغة العربية :
وهي أنَّ ( يعذب ) قائمةٌ مقام الفاعل ، أي ( جاز للمولى تعذيب ) ، مع أن الحرف المصدري محذوف منها ، فهل يعتبر هذا شاذاً ؟
الشذوذ أنْ يُحذفَ الحرف المصدري ويُنصبَ الفعل بعده ،
فيقال : ( وجاز لمولى يعذبَ ) هذا الشاذ ،
ومنه : قولهم : ( تسمع بالمعيدي خير من أنْ تراه ) [154] ،
( تسمع ) ، التقدير : ( أنْ تسمع ) ،
فالشذوذ هنا كون ( أنْ ) تنصب وهي محذوفة ،
أما أنْ يُرفعَ الفعل ولكنه يَحِلَّ محل المصدر فهذا لا بأسَ به ،
فهذا جائز وسائغ باللغة العربية وكثير ،
ومنه : قوله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } ( الرعد 12 ) .
{ يريكم } أي إراءتكم ( ومن آياته إراءتكم البرقَ خوفاً وطمعا ً) ،
(71/107)
فهنا يُؤول الفعل بالمصدر وإنْ لم يوجد فيه حرفٌ مصدري ولا بأس بذلك ،
ما دام حرف المصدر لم يعمل مع الحذف فإنه لا بأس به ،
وسبك المصدر دون حرف مصدر كثير ،
ومنه : قوله تعالى أيضاً : { سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ( البقرة 6 ) ، أي سواءٌ عليهم إنذارهم أمْ عدمه ،
قوله : ( وجَازَ للمولى يعذبُ الورى ) : هكذا شاذ أمْ غير شاذ ؟
غير شاذ ، ( وجَازَ للمولى يعذبَ الورى ) شاذ ،
لأننا إذا قلنا : يعذبَ ، أعملنا حرف المصدر مع حذفه ،
وإذا قلنا : ( يعذب ) لم يُعْمِلْهْ ، بل ولا نقدره أيضاً ،
قوله ( وجاز للمولى ) : وهو الله عز وجل ،
والله سبحانه وتعالى مولى كل أحد بالمعنى العام ، ومولى المؤمنين بالمعنى الخاص
قال تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } ( محمد 11 ) .
هذه هي الولاية الخاصة ،
وقال الله عز وجل : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ، ثم رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق } ( الأنعام 61 – 61 ) ، وهم كفار ،
ولكن هذه الولاية العامة هنا ،
قوله ( وجاز للمولى ) : من أي الولايتين ؟
الولاية العامة الذي يكون الله فيه مولى لكل أحد ،
قوله ( الورى ) : الخلق ،
قوله ( من غير ما ذنبٍ ) : أي من غير ذنب فـ ( ما ) هنا زائدة ،
قوله ( ولا جرمٍ جرى ) : يعني ولا إجرام أي أن الله يجوز أن يعذب الناس دون ذنبٍ بترك واجب أو إجرام بفعل محرم ،
فإذا قَدَّرْنا أن رجلاً مؤمناً تقياًّ يقوم الليل والنهار بطاعة الله توفي ، فإن الله يجوز أنْ يعذبه ويخلده في النار ، كيف ذلك ؟
قال المؤلف :
******************
66 – فكل ما منه تعالى يجمل ،
لأنه عن فِعْلِهِ لا يُسْأَلُ ،
فَعَلَّلْ بتعليلين :
التعليل الأول : أن كل شيءٍ من الله فهو جميل ،
(71/108)
التعليل الثاني : أن الله لا يُسْأَلُ عن فعله ، كما قال تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ( الأنبياء 23 ) .
ولكن هذا القول والتعليل لهذا القول كلاهما باطل ، لا نقول : ضعيف ، بل نقول : إنه باطل ،
لأنه مخالف للنص الصريح في كتاب الله :
قال تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون } ( هود 117 ) .
وقال تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } ( طه 112 ) .
وقال تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } ( يونس 44 ) .
وقال : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلامٍ للعبيد } ( فصلت 46 ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة ،
فإذا قلنا : إن من آمن واتقى ومات على ذلك جاز أنْ يعذبه الله صار مخالفاً لنص القرآن ، ثم هل هذا الفعل جميل أو غير جميل ؟
غير جميل والله سبحانه تعالى لا يفعل إلا الجميل وفي الحديث القدسي الصحيح : ( أن الله تعالى قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ) [155] ، ولا أحد يشك في أن من عذب المطيع القائم بأمر الله ليلاً ونهاراً حتى مات لا أحد يشك في أن هذا ظلم وأنه غير جميل ،
إذن سقط التعليل الأول في قوله : ( فكل ما منه تعالى يجمل ) ،
نقول هذا : ليس على إطلاقه ، فإن عقوبة المطيع ليست جميلة ، فلا يصدق عليها هذا التعليل ،
التعليل الثاني : في أنه عن فعله لا يُسْأَلُ ، صحيح هو لا يُسْأَلُ عما يفعل ،
فلا يُسْأَلُ لماذا هديتَ هذا الرجل حتى استقام على أمر الله وأضللتَ هذا الرجل حتى انحرف ، لا يُسْأَلُ عن هذا لأن الله له حكمة فيما قَدَّرْ لكن بعد أنْ يوجد السبب المقتضي للثواب لو أن الله عاقبه لكان هناك سؤال : لماذا يعاقبه الله ؟ لا بد أنْ نعرف ،
لهذا أيضاً يسقط هذا التعليل ، ويُحْمَلْ إذا أردنا أنْ نجعله صحيحاً أنه لا يُسْأَلُ عن فعله في أيجاد الأسباب المقتضية للعذاب أو للثواب ،
(71/109)
فإذا قال قائل : أليس الخلق كله ملكاً لله ؟
فالجواب : بلى ،
وإذا كان ملكاً له أفلا يمكن أنْ يقال : إن له أنْ يفعل في ملكه ما يشاء ؟
بلى ،
ولكن نقول : هو نفسه عز وجل أخبر بأنه لا يمكن أنْ يظلم أحداً ،
ولا يمكن أنْ يعذب طائع فيكون هذا الشيء أعني تعذيب المطيع يكون هذا ممتنعاً بمقتضى خبر الله عز وجل وبمقتضى أسمائه وصفاته وأنه عز وجل أحكم الحاكمين وأعدل العادلين ،
فحينئذٍ يكون ممتنعاً لأخبار الله أنه لا يظلم أحداً وأن { من عمل صالحاً فلنفسه } ( فصلت 46 ) وأن { فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره } ( الزلزلة 7 ) إلى غير ذلك من الآيات ،
فهو ممتنع لهذا الوعيد وإلا فمن المعلوم أن يفعل في خلقه ما يشاء ،
لكن هو نفسه سبحانه وتعالى حرم على نفسه الظلم وأوجب على نفسه أنْ يثيب المطيع ،
قال الله عز وجل : { كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل سوءً بجهالةٍ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفورٌ رحيم } ( الأنعام 54 ) .
صار قول المؤلف : ( وجَازَ للمولى يعذب الورى من غير ما ذنبٍ ولا جرمٍ جرى ) : قولاً باطلاً مخالفاً للكتاب والسنة مخالفاً لما تقتضيه أسماء الله وصفاته ،
وأما التعليلان المذكوران فهما أيضاً غير صحيحين بالنسبة لهذه المسألة ،
لأنه إذا قال : كل فعل من أفعال الله فهو جميل ،
قلنا : لا جميل في تعذيب المطيع ،
وإذا قال : هو عن فعله لا يُسْأَلُ ،
نقول : هذا في منع السبب المقتضي للثواب أو العقاب ،
فإذا هدى شخصاً وأضل شخصاً فإنه لا يُسْأَلُ لا يقال : يا رب لِمَ هديتَ فلاناً وأضللتَ فلاناً ؟
لكن إذا وُجِدَ الضلال أو الهدى فإنه لا بد أنْ يترتب عليهما مقتضاهما من ثوابٍ في الهدى وعقابٍ في الضلال ،
******************
67 – فإنْ يُثِبْ فإنه من فضله ،
وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ،
(71/110)
قوله ( فإنْ يُثِبْ ) : يعني يثيب المطيع فإنه من فضله ، هذا صحيح ، إذا أثاب المطيع فذلك فَضْلُهُ ،
ولكن هذا الفضل : هل أوجبه الله على نفسه أو لا ؟ إثابة المطيع هل أوجبها الله على نفسه ؟ إذا كان الله أوجبها على نفسه هل يمكن أنْ يتخلف هذا الموجب ؟
لا يمكن ، ولهذا قوله ( فإنْ يُثِبْ فإنه من فضله ) نقول : نعم صَدَقْتَ إنْ يُثِبْ فإنه من فضله بل هو عز وجل يثيب على العمل أكثر من العمل ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فعشر الأمثال ثابتة وما زاد فهو فضل الله عز وجل ،
إذن نقول : إنْ يُثِبْ فإنه من فضله ، نُسَلِّمْ لهذا أو لا ؟ نُسَلِّمْ ،
ولكننا نقول : هذا الفضل كان واجباً على الله ، بإيجابه إياه هو على نفسه سبحانه وتعالى ، هو الذي أوجب على نفسه أنْ يثيب المطيع ، وإذا كان لكرمه عز وجل أوجب على نفسه على نفسه أنْ يثيب المطيع فإن هذا الإيجاب لن يتخلف ،
لأنه لو تخلف وحاشاه من ذلك لكان مُخْلِفاً للميعاد ،
والله عز وجل { لايخلف الميعاد } ( آل عمران 9 ) ، { من عمل صالحاً فلنفسه } ( فصلت 46 ) ، { فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره } ( الزلزلة 7 ) ،فلا بد أنْ يوجد هذا الذي وعد الله به ،
قوله : ( وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ) : صحيح ، إذا عذب فبعدله ،
لكن متى يكون العذاب عدلاً ؟
إذا وُجِدَ سببه صار عدلاً ، أما إذا لم يوجد فإنه يكون ظلماً ، وأراد المؤلف بقوله هذا احتجاجاً لقوله ، وفي الحقيقة أنه حجةٌ عليه ،
لأننا نقول : التعذيب يكون عدلاً إذا وُجِدَ سببه وإذا لم يوجد فإنه فليس بعدل ،
ونضرب مثلاً لذلك : إذا كان الله عز وجل قال : من فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا فله الجنة ثم قام الإنسان بفعله ثم عاقبه الله بالنار هل هذا عدل ؟
لا ، ليس بعدل ، كلنا يقول : ليس هذا بعدل ، وإذا لم يكن عدلاً ،
(71/111)
فقول المؤلف : ( وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ) : لا يصح في مثل هذه الصورة ، وإنما يصح فيما إذا خالف المكلف فإنه إذا خالف وعُذِّبَ على المخالفة إما بترك واجب أو فعل محرم حينئذٍ يكون هذا عدلاً ، ويكون تعذيب الله له عدلاً ، وانظروا إلى تمام العدل وتمام الفضل السيئة بمثلها لا تزيد والحسنة بعشر أمثالها ،
والعدل أنْ تكون الحسنة بمثلها أو السيئة بعشر أمثالها ؟
إذا كنت إذا فعلتَ حسنة أعطيتك عشر فمقابل ذلك إذا فعلتَ سيئة بعشر ، لكن مع هذا ليتبين فضل الله صارت الحسنة بعشر والسيئة بواحدة ومع ذلك هذه السيئة قابلة للمغفرة ، إن الله لا يقبل أن يغفر أنْ يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ،
أما ثواب الحسنة فهل هو قابل للإسقاط ؟
لا غير قابل للإسقاط ، إنْ لم يزد لم ينقص ،
وهذا أيضاً يظهر به تمام فضل الله عز وجل ،
أن السيئة بسيئةٍ قابلة للعفو ، والحسنة بعشر أمثالها غير قابلةٍ للنقص بل هي باقية ، لكن ما زاد على العشر ممكن إلى سبع مائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة ،
فالحاصل : أن ما قاله المؤلف رحمه الله من الحكم والتعليل كله غير صحيح ،
أما التعليل فهو مجمل يحتاج إلى تفصيل ،
قوله : ( فكل ما منه تعالى يجمل ) : يحتاج إلى تفصيل :
يجمل إذا لم يتضمن نقصاً ، لا يجمل إذا تضمن نقصاً بل لا يمكن أنْ يكون يعني فعل من أفعال الله غير جميل ،
قوله : ( لأنه عن فِعْلِهِ لا يُسْأَلُ ) : فيه التفصيل :
عن فعله الذي هو سبب العقوبة أو الثواب لا يُسْأَلُ عنه ، سبب الثواب الهداية وسبب العقوبة الضلال هذا لا يُسْأَلُ عنه ،
لكن لو أنه عذب من اهتدى فهنا قد يَرِدُ السؤال كيف يكون ذلك والله عز وجل قد ضمن أن â ô`¨B ?@IHx? $[sI=»|¹ ¾Im????uZI=sù ( ? ( فصلت 46 ) وأنه لا يظلم أحداً ،
قوله : ( إنْ يُثِبْ فبمحض فضله ) : هذا صحيح إذا أثاب فهذا بمحض فضله ،
قوله : ( إنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ) : هذا فيه التفصيل :
(71/112)
إنً عذب من يستحق العذاب فهذا بِمَحْضِ عدله أما أنْ يعذب من لا يستحق فهذا غير وارد إطلاقاً ، وكل أحد يعرف أن هذا ظلمٌ يُنَزَّهُ الله عنه ،
قوله : ( فإنْ يُثِبْ فإنه من فضله ) : نعم ، فإنْ يُثِبْ فإنه من فضله ، سواءٌ أثاب المطيع على عمله بالطاعة أو عفا عن المجرم ، فإن عفوه عن المجرم يعتبر إثابة ،
لأن ترك العقوبة إحسان ، وإذا عفا عن المجرم فهو بفضله العفو عن المجرم محتمل إلا إذا كان الإجرام شركاً ،
ودليله : قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء 48 ) فهو إذا أثاب فإنه من فضله ،
وقلتُ لكم : الثواب قد يكون بالجزاء على العمل الصالح بالفعل الصالح وقد يكون بالعفو عن العمل السيء لأن ترك العقوبة إحسان ،
قوله : ( وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ) : ظاهر كلام المؤلف : إنْ يعذب مطلقاً لقوله : ( وجاز لذي المولى أنْ يعذب الورى ) ،
ولكننا نقول : إن هذا الظاهر إنْ كان مراداً للمؤلف فهو غير صحيح ،
بل ( إنْ يعذب على الإساءة ) ، هذا هو الصحيح ، إنْ يعذب على الإساءة فبمحض العدل ،
نعم لأنه لا يعذب على الإساءة إلا بمثل السيئة { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يُظلمون } ( الأنعام 160 ) : يعني لو جوزي بالأكثر لكان ظلماً لكنهم لا يُظلمون ،
إذن قول المؤلف : ( وإنْ يعذب فَبِمَحْضِ عدله ) : صحيحٌ إنْ أراد به من أساء ، أما إنْ أراد به أنْ يعذب حتى من أحسن فليس بصحيح ،
لأنه لو عذب المحسن لكان هذا ظلماً والله عز وجل منزه عن الظلم ،
******************
68 – فلم يجب عليه فعل الأصلح ،
ولا الصلاح ويح من يفلح ،
يعني لا يجب على الله أن يفعل الأصلح ولا يجب عليه أنْ يفعل الصلاح [156] ،
والمراتب أربع :
1. صلاح ،
2. وأصلح ،
3. وسيء ،
4. وأسوأ ،
(71/113)
أما والسيء والأسوأ فهذا لا يمكن أنْ يفعله الله عز وجل ، لا يمكن أنْ يفعل السيء ولا يمكن أنْ يفعل الأسوأ لأن هذا نقصٌ في الإرادة أنْ يفعل السيء والأسوأ ولأنه منافٍ للحكمة ، إذْ أن الحكمة تمنع أنْ يفعل الفاعل ما هو سيء أو أسوأ ،
فإنْ قال قائل : إن الكلام هذا منقوض بما يحصل من الجَدْب والفسوق ، من الجَدْب وهو المتعلق بالكون ومن الفسوق المتعلق بالشرع وهذا حاصلٌ بإرادة الله ؟
فالجواب عن ذلك أنْ نقول : إن هذا سيء من وجه صالحٌ من وجه ،
فالجَدْب مثلاً : هو نفسه السيء لكن الله يقدره لأمرٍ أعظم وأنْفع للعباد من الخصب { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } ( الروم 41 ) بقاء الناس على فسوقهم وعتوهم وضلالهم مفسدة عظيمة أعظم من مفسدة الجَدْب فإذا جاءت مفسدة الجَدْب من أجل استقامة الناس على دين الله صار وجود الجَدْب صلاحاً صار صلاحاً عظيماً ،
أرأيتَ إذا كان عندك صبي مريضٌ بمرض يُشْفى بالكي منه ، ثم كَوَيْتَهُ فالكي إساءة ولكنه رجاء مصلحةٍ أعظم ، لأن الكي لا يقتله والمرض الذي أصابه ربما يقتله فإذا كَوَيْتَهُ لم يقل الناس : أسأتَ التصرف ، بل يقولون : أحسنتَ ،
وجدتَ صَبِيَّكَ يلعب في السوق ، فأخذته وكَوَيْتَهُ قلتَ : لماذا تلعب في السوق ؟ وكَوَيْتُكَ من أجل أنك تلعب ، هذا لا يجوز لأنه لا يعذب بالنار ، والنار ليست هنا هي السبب بصلاحه قد يُكْوى ويطلع ، لكن الكي سببٌ في الشفاء من المرض ،
ولهذا جاز الكي للاستشفاء من المرض ولمْ يجزْ الكي من أجل أنْ يصلي أوْ أنْ لا يخرج إلى السوق وما أشبه ذلك ،
على كل حال : من هنا ننتقل إلى قول المؤلف : ( فلم يجب عليه فعل الأصلح ولا الصلاح ) ،
فإذا كان فعل فيه صلاح وفعل فيه أصلح وفعل ليس فيه صلاحٌ ولا أصلح وفعل فيه سوء وفعل فيه أسوأ ، خمسة أقسام [157] ،
(71/114)
فَفعل الله عز وجل وحاشاه من ذلك سبحانه وتعالى فعل الأسوأ فإنه في نَظَرِ المؤلف جائز على الله ، جائز على الله أنْ يفعل الأسوأ ،
ولكن كلام المؤلف هذا أيضاً فيه نَظَرْ ، نَظَرٌ ظاهر ، لأن فعل الأسوأ مع إمكان الصلاح منافٍ للحكمة لكن قد يخطئ الإنسان في الفهم ، فيظن أن الأصلح خلاف كذا ولكن الأمر خلاف ما ظن ، فيظن الله تعالى في هذه الحال فعل الأسوأ وليس كذلك ، لكن لو كان الأسوأ حقيقةً وتقديراً وتصوراً ،
فإننا نقول : إن الله لا يمكن أنْ يفعله لأنه منافٍ للحكمة والله سبحانه وتعالى حكيم ، لا يمكن أنْ يفعل إلا ما فيه الخير إما بذاته وإما بغيره ، قوله : ( فلم يجب عليه ) أي على الله فعل الأصلح ولا الصلاح ،
قوله : ( ويح من لم يفلح ) : الأصلح والصلاح والأسوأ والسيء وما لا صلاح فيه ولا سوء ،
الأقسام خمسة ،
الأصلح والصلاح أيهما أعلى ؟ الأصلح ، السيء والأسوأ أيهما أدنى ؟
الأسوأ ، ما لا صلاح فيه ولا سوء هذا مستوي الطرفين ، لله عز وجل أنْ يفعل ما شاء كما قال تعالى : { ويفعل الله ما يشاء } ( إبراهيم 27 ) ، لكن ما كان من مقتضى حكمته وكماله ، فلا بد أنْ يكون وما خالف مقتضى الحكمة والكمال ، فإنه مستحيل ،
فمثلاً : تعذيب المطيع هذا مستحيل لماذا ؟
لأن مقتضى الحكمة أنْ يُثاب المحسن على إحسانه ولأنه لو عذب المحسن لكان فيه إخلافٌ لوعده والله عز وجل { لا يخلف الميعاد } ( آل عمران 9 ) ، لأنه ليس عاجزاً وليس كاذباً سبحانه ، بل الصادق القادر فلا يخلف الميعاد ،
إذن نقول : هذا الذي عمل صالحاً ، يجازيه الله تعالى بالأصلح وجوباً بمقتضى الحكمة والكمال لأنه وعد عز جل بأنه يثيب الطائع ،
فيجب عليه بإيجابنا أو بإيجابه هو على نفسه ؟
بإيجابه هو على نفسه ،
لو قال قائل : الجَدْب الذي يصيب الناس صلاح ؟
(71/115)
لا شك هو في الحقيقة غير صلاح { ظهر الفساد في البر والبحر } ( الروم 41 ) ومنه الجَدْب ، هو غير صلاح في حد ذاته لكنه صلاحٌ لغيره بدليل : { لعلهم يرجعون } ( الروم 41 ) .
ولهذا اختلف العلماء : هل يجب على الله فعل الأصلح أو لا يجب ؟ وهل يجب على الله فعل الصلاح أو لا ؟
نحن نقول : إنه يمتنع عليه عز وجل فعل الأسوأ وفعل السيء لأنه منزهٌ عن النقص وهذا نقص ،
فعل ما ليس فيه صلاح ولا سوء أيضاَ منزه عنه ، لماذا ؟
لأن مثل هذا الفعل سَفَهْ ولعب ، والله تعالى منزه عن ذلك ، بقي عندنا الصلاح والأصلح ،
ولكن ما ميزان الصلاح والأصلح ؟
إنْ كان عقولنا فربما نتوهم أن الله تعالى فعل الأسوأ أو السيء وإنْ كان المقصود الواقع فإنه عز وجل لا يفعل إلا الصلاح أو الأصلح ، بل مقتضى الكمال أنه إذا كان صلاح وأصلح فإنه يفعل الأصلح ،
مثلاً إذا قال قائل : إنْ قلتم إنه يجب عليه فعل الأصلح أو الصلاح ، وَرَدَ عليكم خَلْقُ إبليس ، لو سَلِمَ الناس من إبليس لكانوا في خير ، وكان أصلح لهم والله تعالى قد خلقه ، فإنْ قلتم إنه يجب عليه فعل الأصلح انتقض عليكم بخَلْقِ إبليس ، فماذا نقول ؟
نقول : نعم ، خَلْقُ إبليس لا شك أنه شر لكن وجود شرٍّ يُصارع بِخَيْرْ هذا أصلح لأن الناس كانوا على طريقةٍ واحدة ، لا أحد يضلهم لم يتبين الصادق من غير الصادق ، لأنه ليس هناك سبيل إلى أنْ يكون فاجراً لأنه لم لو يوجد إبليس ولا نفس أمَّارة بالسوء ما كان فيه طريق للإنسان فيكون فاجراً حتى يُعْرَفْ حسن نِيِّتِهِ من سوء نِيِّتِهِ ،
فالحكمة إذن أنْ يُخْلَقَ إبليس الحكمة والأصلح أنْ يُخْلَقَ إبليس ، لماذا ؟
لأنه لا يمكن امتحان العبد ومعرفة كونه عبداً خالصاً لله أو عابداً لهواه إلا بوجود إبليس والشر والنفس الأمَّارة بالسوء ،
إذن هذا ليس صلاحاً في نفسه ولا أصلح في نفسه ولكن لغيره ،
(71/116)
الجَدْبْ لا شك أنه فساد ، فساد للناس تعطل مصالح هلاك مواشي وربما هلاك أنفس أيضاً ،
والله عز وجل يُقَدِّرُ الجَدْبْ ،
إذا قال قائل : كيف يستقيم مع هذا قولك إن الله لا يفعل إلا الأصلح أو الصلاح ؟
نقول : هذا صلاحٌ لغيره ،
لأن الله بَيَّنَ الحكمة منه فقال : { لعلهم يرجعون } ( الروم 41 ) .
ولو بقي الناس قد بُسِطَ لهم الرزق ، لكان الأمر كما قال الله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكنَّ اللهَ يُنزِّل بِقَدَرٍ ما يشاء } ( الشورى 27 ) .
ونضرب مثلاً : بإنسان أراد أنْ يعطي شخصاً ألف درهم ، لكن يعلم لو أنه أعطاه ألف درهم لذهب يشتري بها أشياء لا تنفعه ويتمرد بها ، لكن يعطيه كل يومٍ درهماً وربما في بعض الأيام يمنعه ويكون في ذلك صلاح أو أصلح له ، فالرجل الثاني الذي كان لا يعطيه إلا درهماً وربما منعه بعض الأحيان ،
نقول : إن إصلاحه للمُعْطَى أحسن من إصلاح الرجل الأول الذي أعطاه ألف درهم وذهب ينفقها في أشياء ليس فيها نفع أو في أشياءٍ فيها ضرر ،
والحاصل أن هذه المسألة فيها نزاع طويل بين أهل السنة وأهل الاعتزال ،
المعتزلة يرون : أن الله يجب عليه أنْ يفعل الأصلح والصلاح ،
وأهل السنة يقولون : لا يجب ،
والصحيح : التفصيل : وهو أنْ نقول : إن الله تعالى يفعل ما كان من مقتضى كماله ،
ولكن الميزان في الأصلح أو عدمه ليست عقولنا كما تقوله المعتزلة ،
ولكن الميزان للأصلح والصلاح هو الواقع الذي يتبين به أن هذا الفعل الذي أجراه الله عز وجل هو الأصلح ،
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شِيَعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } ( الأنعام 65 ) ، كل هذه في ظاهرها مفاسد ومساوئ ، العذاب من فوقنا أو من تحت أرجلنا ، من فوقنا صاحب من السماء ، من تحتنا زلازل براكين ، { أو يلبسكم شِيَعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } ( الأنعام 65 ) يعني قتال فيما بينهم ،
(71/117)
كل هذه في ظاهرها سيئة ولكن فيها مصلحة عظيمة من أجل أنْ نتوب إلى الله ونرجع إليه حتى نتقي هذه العقوبات على أنْ النبي صلى الله عليه وسلم :
قال في الأول : { أو من تحت أرجلكم } : ( أعوذ بوجهك ) .
وفي الثانية قال : ( هذه أهون أو أيسر ) [158] ، ولهذا وَقَعَتْ في الأمة ،
الثالثة وَقَعَتْ في الأمة ،
أما الأول والثاني فلم تقع في الأمة على سبيل العموم ، وربما يوجد في أجزاء من الأرض زلازل أو ما أشبه ذلك لكنها ليست عامة والله أعلم ،
فلم يجب عليه فعل الأصلح ،
ولا الصلاح ويح من يفلح ،
سبق لنا أن المؤلف رحمه الله مشى على ما مشى عليه أهل السنة من جهة وخالف المعتزلة من جهة أخرى ،
المعتزلة يقولون : إنه يجب على الله فعل الأصلح بجانب الصلاح ، وفعل الصلاح بجانب الفساد ،
ولكننا قلنا : إنه إنْ كان المراد بالصلاح والفساد والأصلح ما يُناطُ بالعقل ،
فقول المعتزلة خطأ ، وذلك لأن عقولنا تقصر عن إدراك الصلاح والفساد ، قد نظن هذا الشيء فساداً ويكون صلاحاً ، وقد نظنه صلاحاً ويكون فساداً ،
وإن أرادوا بالأصلح ما تقتضيه حكمة الله عز وجل ، وإنْ كان بالنسبة لنا سيئاً فإنْ هذا هو ما تقتضيه حكمة الله عز وجل ، لأن الله لا يفعل شيئاً يكون فساداً ، كيف يفعل ذلك وهو يقول : { والله لا يحب الفساد } ( البقرة 205 ) ، ولكننا نحن قد نظن هذا الشيء فساداً وهو صلاح ، كخلق إبليس مثلاً ،
خلق إبليس ، يقول أهل السنة للمعتزلة : خلق إبليس فساد فهذا ينقض عليكم قولكم إنه يجب على الله فعل الأصلح ،
المعتزلة يقولون : يجب على الله فعل الأصلح ،
أهل السنة كما قال المؤلف يقولون : لا يجب ،
لكن نحن نريد أنْ نُفَصِّلْ كما فَصَّلْنا بالأمس ،
خلق إبليس يقول أهل السنة للمعتزلة : إنه فساد وشر ،
(71/118)
وأنتم تقولون : إنه يجب على الله فعل الأصلح أو الصلاح ، فكيف يتفق قولكم مع خلق إبليس ؟
نقول : يمكن الجواب عن هذا ، بأنْ يقال : إن خلق إبليس شرٌ من وجه ، خير من وجهٍ آخر ، لولا خلق إبليس ما وُجِدَ الكفر ولا الفسوق والعصيان ، ووجود الكفر والفسوق والعصيان هو مقتضى حكمة الله عز وجل الذي به تتم كلمته ويصدق وعده قال الله تعالى : { لو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأنَّ جهنم من الجِنَّةِ والناس أجمعين } ( هود 118 – 119 ) ( هود 118 – 119 ) ،
لو كان الناس كلهم على الصلاح ، هل تتم كلمة الله بِمَلأِ النار ؟
لا ، إذن فوجود إبليس وإنْ كان فيه الشر والفساد ، لكن خلقه وإيجاده مصلحة ، لأن ذلك مُقَتَضى الحكمة الذي يتم به غاياتٌ أرادها الله عز وجل ،
*****************
69 – فكل من شاء هداه يهتدي ،
وإنْ يُرِدْ إضلال عبدٍ يعتدي ،
هذا البيت يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يَهْدِ الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ) [159] ،
بل يشهد له قوله تعالى : { من يهدِ الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا } ( الكهف 17 ) .
ولكن سبب الهداية وسبب الإضلال ، سببه من العبد ،
لأن الله تعالى يقول : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } ( محمد 17 ) .
فإذا علم الله من العبد أن نيته الهدى وطلبه الهدى هداه ،
وإذا زاغ القلب أزاغه الله كما قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ( الصف 5 ) .
وقال تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرِّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به } ( المائدة 13 ) .
(71/119)
فسبب الإضلال سببه من العبد لو علم الله من العبد أنه أهلٌ للهداية هَداهْ كما أنه إذا علم أن هذا العبد أهلٌ للرسالة أرسله قبل خَتْمِ النبوة ،
قال الله تعالى : { الله أعلم حيث رسالته } ( الأنعام 124 ) .
الأسئلة والمناقشة
- وليس كل خلافٍ جاء معتبراً إلا خلاف له حظٌ من النظر
الخلاف إذا كان له حظ من النظر فهو معتبر فما خالف إجماع السلف مثلاً فهو غير معتبر ، الخلاف غير المعتبر معناه ألا ننظر فيه إطلاقاً لأنه غير معتبر ،
- الخلاف في فناء النار [160] ليس في صلب العقيدة ، كلهم يؤمنون بأن النار موجودة ولا بد من عذاب فيها لكن الخلاف هل تبقى أو لا تبقى ؟
كلهم يؤمنون أن الرسول رأى ربه لكن هل رآه حقيقة أو رآه بفؤاده وهكذا [161] ؟ ،
- إذا شك الإنسان في وجود الله فهو كافر ، لكن المسائل التي فيها الخلاف لا بد أن يكون فيها شك ، لكن قد يكون فيها شك عند بعض الناس ويقين عند آخرين ،
- مسألة نفي الصفات لا تلحق بالمسائل السابقة ،
فمثلاً : نفي المعتزلة للصفات أو إثبات الصفات عن طريق العقل تختلف عن المسائل السابقة ،
وهي طريقة منكرة لأمرين :
أولاً : لمخالفتها لطريقة السلف ،
ثانياً : أن هذه تنقض العقيدة رأساً على عقب ،
ليس هناك صفات إطلاقاً فرق عندما نقول : ليس هناك صفات أو نقول : هل رآه بفؤاده أو بعينه هذه مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مسألة جزئية ثم خلاف في صفة هذه المسألة فقط ،
- لو كان شيء مع الله لزم أنْ يكون مثل الله لفظ الحديث : ( ولم يكن شيء معه ) [162] ، في بعض الألفاظ : ( ولم يكن شيء قبله ) [163] ، كما جاء في الحديث : ( أنت الأول فليس قبلك شيء ) [164] ،
وعلى اللفظين لا تنافي يعني لا شيء قبل الله ولا شيء مقارن لله لأن الشيء هو المفعول والمفعول لا بد أن يكون بعد الفاعل كما قررنا ،
(71/120)
- أفعال الله لا نهاية لها ولكننا لا نعلم كل أفعال الله ،
- ليس في الوجود إلا خالق ومخلوق ، ليس هناك من المخلوقات يكون أزلياً أبداً ،
ما من مخلوق إلا وهو حادث بعد أنْ لم يكن ، ولم يقل أحدٌ بقدمه إلا الفلاسفة ،
الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم وأن العالم لم يَزَلْ ولا يزول [165] ،
ولهذا يقولون : إن المادة لا تفنى كما أنها ليست حادثة ،
وهذا لا شك أنه شرك مخرج عن الملة ، من ادعى أن مع الله شريكاً في الوجود فهو مشرك [166] ،
السؤال : أحسن الله إليك إذا قال قائل : إن الله سبحانه وتعالى قد يحتاج إلى بعض صفاته فلولا كلام الله سبحانه وتعالى لما فهم الناس مراده ؟
الجواب : إذن من الذي يصلح ؟ من الذي انتفع ؟ الناس ،
ما يحتاجه الله يعني لو كفر الناس كلهم ، يحتاج الله إلى إيمانهم ؟
ما يحتاج ما فيه حاجة لله لا تتصور هذا ، إنما يفعله الله عز وجل لمصلحة العباد ، لكن هو حاجة بل ضرورة إلى العباد ،
- إذا نُفِخَ في الصور عادت الأرواح إلى أجسادها ، والحي يُصْعَقْ يموت ،
السؤال : قول بعض الناس ( لا سمح الله ) ؟
الجواب : والله ما أرى هذا ، لأن كلمة ( لا سمح الله ) تشعر بأنه يُكْرَهْ على الشيء ولكن قل : ( لا قَدّرَ الله ذلك ) لا بأس ، ( لا قَدّرَ الله ) يعني تسأل الله ألا يُقَدّرَ هذا الشيء ،
- قولهم : ( يُنْقَلْ إلى مثواه الأخير ) هذا حرام أنك تقوله لأنك إذا قلت : ( إلى مثواه الأخير ) لزم من ذلك ألا يكون بعث ، لأن القبور ليست هي المثوى الأخير { ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر } ( التكاثر 1 – 2 ) سمع أعرابيٌ رجلاً يقرأ هذه الآية قال : ( والله ما الزائر بمقيم ) ،
- أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الشهداء في قناديل معلقة تحت العرش وأرواح الكفار في النار لأن النار والجنة موجودتان الآن ،
- البرزخ : معناه ( الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ) هذا البرزخ ،
(71/121)
البرزخ ما هو اسم مكان البرزخ معناه ( الشيء الفاصل ) ،
- الآن الأرواح موجودة في الجنة الآن ، الآن الأرواح موجودة في الجنة الآن ،
السؤال : الذين في القبر ما تكون الأرواح معهم ؟
الجواب : ما تكون معهم ، لكن تعاد إليهم عند الفتنة فتنة القبر ،
- قوله تعالى : { إلا من شاء الله } ( النمل 87 ) ، قال السلف : يدخل فيها الولدان والحور التي في الجنة ممن استثني والملائكة أيضاً ،
- صفات الله ليست بمخلوقة :
أولاً : الصفات تابعة للموصوف ، فالموصوف هو الخالق وليس بمخلوق ،
إذن صفاته ليست بمخلوقة ،
ثانياً : أن المخلوق شيء بائنٌ عن الخالق منفصلاً عنه والصفات ليست بائنةً من الموصوف وليست منفصلة عنه ،
- قوله ( ضل من أثنى عليها بالقدم ) :
يشير إلى من قالوا بقدم المخلوقات وأنها قديمة النوع ، وأن هذه المخلوقات التي نشاهد هي أزلية أبدية ،
ولهذا عندهم من جملة ما يتفرع على هذا : أن المادة ليست حادثة وأنها لا تفنى ،
وهذا قولٌ باطل كما شرحنا ،
- لو قال قائل كيف تصفون الله بالاختيار ؟ هل جاء في النص ما يدل على أن الله يُوصَفُ بالاختيار ؟ قال تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } ( القصص 68 ) .
الفرق بين الحاجة والاضطرار : أن الحاجة يمكن الاستغناء عنها والضرورة لا يمكن الاستغناء عنها ،
- خطر على بالي ما جاء في الحديث : ( إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لَعَذَّبَهَمْ وهو غير ظالمٍ لهم ) [167] ، فكيف نجيب عن هذا الحديث ؟
الجواب عنه : نقول من أوجه :
أولاً : نطالب بصحته ،
ثانياً : فإذا صح كان المعنى : إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان تعذيبه إياهم في غير ظلم ، أي لكان تعذيبه إياهم بسبب منهم وهو المعصية ،
ثالثاً : لو عذبهم لَعَذَّبَهَمْ وهو غير ظالمٍ لهم وذلك بأنْ يقابل إحسانه بإحسانهم فإنه إذا قابل إحسانه بإحسانهم لصار إحسانهم ليس بشيء ،
(71/122)
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله ) [168] ، أي من باب المقابلة ،
لأننا لو أن الله حاسبنا على وجه المناقشة لكان فِعْلُنا للخيرات دَيْناً علينا ،
لأنه هو الذي منَّ علينا بذلك ،
وحينئذٍ لو عذبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه ، لكان عذبنا وهو غير ظالمٍ لنا ،
هذا إذا صح الحديث ، فلا يكون في هذا إشكال ،
فصل
في الكلام على الرزق
70 – والرزق ما ينفع من حلال ،
أو ضده فَحُلْ عن المُحَالِ ،
قوله : ( الرزق ) : بمعنى العطاء ، والله سبحانه وتعالى هو الرزاق ، وهو الذي يرزق العباد ،
فهل الرزق شامل للحلال والحرام ، أو هو خاصٌ بالحلال ؟
نقول : الرزق نوعان :
1. رزق ما يقوم به البدن ،
2. ورزق ما يقوم به الدين ،
أما رزق ما يقوم به البدن فشاملٌ عام ، يشمل الحلال والحرام ويشمل رزق البهائم والإنسان ، هذا عام وهو الذي ما يقوم به البدن هذا عام ، حتى لو فُرِض أن الرجل لا يأكل الخنزير والميتة فهو رزق ، لو فرض أنه لا يأكل إلا الربا وما يكون بالغش والخيانة فهو رزق ،
النوع الثاني : رزق ما يقوم به الدين ، فهذا خاصٌ بالرزق الحلال ، لأن رزق الحرام وإنْ قام به البدن لكن ينقص به الدين ،
فقول المؤلف : ( والرزق ما ينفع من حلال أو ضده ) : يريد به الرزق الذي يقوم به البدن ، فهذا عام للحلال والحرام والناطق والبهيم وكل شيء ،
******************
71 – لأنه رازق كل الخلقِ ،
وليس مخلوقٌ بغير رزقِ ،
ثم علل المؤلف : ( لأنه رازق كل الخلق ) : ولو قلنا : إن الرزق خاصٌ بالحلال لخرج قسم كبيرٌ من الخلق عن كَوْنِ الله يرزقهم ،
(71/123)
لو قلنا : إن الرزق هو الحلال فقط وأما الحرام فليس برزق ،
لكان هذا القول : يخرج كثيراً من الخلق عن كَوْنِ الله تعالى رازقهم ، مع أن الله رازق كل الخلق ، فـ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبين } ( هود 6 ) .
أما إذا كان الرزق مطلوباً من العبد كقول العبد : اللهم ارزقني ، فلا ريب أن إنما يطلب الرزق الحلال الذي به قوام الدين ، ولا يخطر ببال أي إنسان دعا الله أن الله يرزقه لا يخطر بباله أنه يريد الحلال والحرام ، أبداً إنما يريد الرزق الحلال ،
لكن قد يقول قائل : أليس الإنسان يقول : ( اللهم ارزقني رزقاً حلالاً طيباً ) ؟
فالجواب : بلى ، ولكنه يقول ذلك من باب التأكيد ،
كما يقول القائل : ( اللهم اغفر ذنبي كله دِقَّهُ وجِلَّهْ علانيته وسره وأوله وآخره ) [169] ، مع أنه يغني عن ذلك أنْ يقول : ( اللهم اغفر ذنبي ) ، لكن يقول هذا من باب التأكيد ، ومن باب الإلحاح على الله في الدعاء ، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء ، ومن باب كثرة مناجاة الله عز وجل لأن الإنسان المحب لله يحب أنْ يكثر مناجاته ، لأن الحبيب يحب طول المناجاة مع حبيبه ،
إذن الرزق ينقسم إلى قسمين :
1. ما يقوم به البدن ،
2. وما يقوم به الدين ،
فالذي يقوم به البدن عام يشمل الحلال والحرام ورزق الناطق والبهيم ،
والذي يقوم به الدين خاصٌ بالرزق الحلال ومنه رزق العلم والإيمان ، هذا مما يقوم به الدين ،
أما الرزق المطلوب الذي يطلبه العبد من الله فهو يختص بالرزق الحلال بقرينة السؤال ، لأنني لا أظن أن أحداً من المؤمنين يسأل الله رزقاً على أي وجهٍ كان أبداً ، وإنما الرزق الحلال ،
قوله : ( وليس مخلوقٌ بغير رزقِ ) : ( رَزْقِ ) أو ( رِزْقِ ) يجوز هذا وهذا ،
فـ ( الرَّزْقُ ) : بالفتح هو الفعل ، و ( الرِّزْقِ ) : بالكسر هو المرزوق ،
(71/124)
لا يوجد مخلوق بغير رِزْق أبداً ، كل المخلوقات رزقها الله عز وجل { الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى } ( طه 50 ) .
******************
72 – ومن يَمُتْ بِقَتْلِهِ من البشر ،
أو غيره فبالقضاء والقدر ،
قوله : ( ومن يَمُتْ بِقَتْلِهِ من البشر ) : ( من البشر ) بيانٌ لـ ( من ) ، يعني من يموت من البشر بالقتل فبالقضاء والقدر ،
قوله : ( أو غيره ) : ( غير ) يحتمل أنْ تكون عائدةً إلى البشر ، فيكون المعنى : ( من يَمُتْ من البشر بقتله من البشر وغير البشر ) ، ويحتمل أنْ تكون عائدة على القتل ،
أيْ : ومن يَمُتْ بقتله من البشر أو بغير قتله بل يموت موتاً طبيعياً فبالقضاء والقدر ، واللفظ الذي يحتمل هذين المعنيين صحيح والمعنيان لا يتنافيان فيكون شاملاً .
يعني : من يمت بقتلٍ أو بغير قتل ومن يمت من البشر أو غيرهم بالقتل فبالقضاء والقدر ،
قضاء من ؟
قضاء الله عز وجل وقدره ،
القضاء والقدر بمعنىً واحد إنْ انفرد أحدهما عن الآخر ،
ويختلف عند الاجتماع ويكون القدر ما قَدَّرَهُ الله في الأزل والقضاء ما حَكَمَ به فعلاً ، هذا يكون عند الاجتماع ،
أما إذا قيل : ( قضاء الله ) وحده ، أو قيل ( قدر الله ) وحده ، فهو شاملٌ للمعنيين جميعاً [170] ،
******************
73 – ولم يَفُتْ من رزقه ولا الأجل ،
شيءٌ فدع أهل الضلال والخطل ،
لم يَفُتْ من رزقه الذي قَدَّرَهُ الله شيء ، ولا من أجله الذي كتبه الله له شيء ،
(71/125)
ودليل هذا : قوله تعالى : { ولكلِّ أمةٌ أجل فإذا أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } ( الأعراف 34 ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها ) ، لا يبقى من الأجل ولا لحظة ولا من الرزق ولا حبة ، كلها يستكملها ينتهي فإذا كان كذلك علمنا بأن الذي يُقْتَلْ يكون قد مات بأجله ، والذي يُقْتَلْ يكون قد استكمل رزقه ،
مثال ذلك : رجل قُتِلَ عند زوال الشمس مثلاً ، لا يقول قائل : إن هذا الرجل فاته الغداء من الرزق ولو بقي لتَغَدَّى ، لفاته من رزقه الغداء ،
نقول : هذا لا يمكن ، لأن الله قَدَّرَ لأنْ يموت هذا الرجل قبل أنْ يأتي موعد الغداء ،
إذن فالغداء ليس له لم يُكْتَبْ له ، كذلك الأجل ،
لو قائل : هذا الرجل يبقى إلى الليل لو لم يُقْتَلْ ؟
لقلنا : هذا محال ، لأن الله قَدَّرَ أنْ يموت بهذا السبب في هذه الساعة ، فلا يفوت الأجل أبداً بالقضاء ،
لو قال : لو لم يُقْتَلْ لبقي إلى الليل ؟
نعم لو لم يُقْتَلْ لم يمت بالقتل هذا صحيح ، لكن كونه يمتد الأجل إلى الليل أو لا يمتد هذا شيء ثاني ، مجهول لنا إنما المعلوم لنا أنه لو لم يُقْتَلْ لم يمت بالقتل هذا ،
ولكن هل هذا فرض أمرٍ يمكن أنْ يقع أم لا ؟
نقول : هذا فرض أمرٍ لا يمكن أنْ يقع ما دام قد قُتِلْ لأننا نعلم أن الله قَدَّرَ أجله إلى هذه الساعة بل إلى هذه اللحظة وبهذا السبب ،
لو قال قائل : يمكن لأنْ يموت قبل أنْ يُقْتَلْ بِلَدْغَةِ حية أو أكل سُمّ أو بَغْتَةْ أو بمرض ، ماذا نقول ؟
لا يمكن ، لأن الله كتب أن يموت بالقتل وفي هذه الساعة ،
إذن فهذا الإيراد وهو قوله : ( لو لم يُقْتَلْ لبقي ) ،
نقول : هو إيراد شيءٍ محال ، كقوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين } ( الزخرف 81 ) هذا شيء محال ،
فمحالٌ أنْ يبقى بعد هذا الزمن الذي قُتِلَ فيه ولا لحظة ،
(71/126)
ومحالٌ أنْ يموت بغير هذا السبب لأنه لما وقع ، علمنا أن الله قد كتبه في الأزل ،
فإنْ قال قائل : ماذا تجيبون عن قول النبي عليه الصلاة والسلام ( من أحب أنْ يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فَلْيَصِلْ رَحِمَهْ ) [171] ؟ فجعل صلة الرحم سبباً في بسط الرزق وللتأخير في الأثر ماذا تجيبون ؟
نُجِيبْ : نقول : قول النبي صلى الله عليه وسلم حق ، وصلة الرحم من أسبابه ، من أسباب طول العمر ، ومن أسباب سعة الرزق ، وإذا قُدِّرَ أن الإنسان وَصَلَ رَحِمَهُ ، علمنا أنه فعل السبب الذي يكون به طول العمر وسعة الرزق ، ولا يختلف هذا عن قوله تعالى فيمن عَمِلَ صالحاً بأنه يدخل الجنة ، لا يختلف لأننا نعلم أنه متى فعل السبب وُجِدَ المسبب ، وإذا لم يفعله لم يوجد المسبب ، هذا الرجل إذا يصل رَحِمَهْ لم يَطُلْ عمره ، ولم يُبْسَطْ له في رزقه لأنه لم يفعل السبب ، لكن إذا وَصَلَ رَحِمَهُ طال عمره واتسع رزقه ، ونعلم أن هذا الرجل قد كُتِبَ أصلاً عند الله بأنه وصولٌ لرَحِمَه وعمره ينتهي في الوقت الفلاني ورزقه يكون إلى الساعة الفلانية ، ونعلم أن الرجل الآخر لم يُكْتَبْ أنْ يصل رَحِمَه فكُتِبَ رزقه مضيقاً ، وكُتِبَ عمره قاصراً من الأصل ليس فيه شيء يزيد وينقص عن الذي كُتِبَ في الأزل ،
إذن ما الفائدة من قوله عليه الصلاة والسلام من هذا الكلام ؟
نقول : الفائدة من ذلك : الحث على صلة الرحم ،
وإذا كان الله قد كتب هذا الرجل وصولاً لرَحِمَه سيصل رَحِمَه ،
لكن كتابة الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل أنْ يكون وصولاً للرحم أمرٌ مجهول لنا ، لا نعلمه ،
الأمر الذي بين أيدينا هو أنْ نعمل ،
وما وراء ذلك فهو عند الله عز وجل ،
وبهذا التقرير نسلم من قول من قال من العلماء : إن المراد بطول العمر البركة فيه ، والمراد بسعة الرزق ( أنْ يُبْسَطَ له في رزقه ) أي في البركة ،
(71/127)
لأنهم لو قالوا هذا القول ما أجدى عنهم شيئاً لأن البركة أيضاً وجودها كطول العمر ونَزْعُها كقصر العمر ، نفس الشيء ، إنْ كان الله قد كتب أنْ يكون عمرك مُبارَكاً كان مُبارَكاً وإنْ كان الله قد كتب أنه غير مُبارَك صار غير مُبارَك ، وكذلك الرزق إن كان الله قد كتبه مُبارَكاً كان مُبارَكاً وإنْ يكن كتبه مُبارَكاً لم يكن مُبارَكاً ،
فالمسألة هي هي ، هم فروا من شيء ووقعوا فيه ، لأن كل شيءٍ مُقَدَّرْ ، بركة المال وبركة العمر وبسط الرزق وطول العمر كله مكتوب ،
والمهم أن الذين يقولون هذا القول قولهم غير صحيح ،
كذلك أيضاً الذين قالوا : إن للإنسان عمرين ، عمراً إنْ وصل وعمراً إنْ قطع ، ورزقين رزقاً إنْ وصل ورزقاً إنْ قطع ، هذا أيضاً غير صحيح ، لأن هذا يؤدي إلى أنْ يكون الله تعالى غير عالمٍ بالمآل ، وهذا خطأ ،
نقول : إن الله عالمٌ بالمآل ، عالمٌ بأن هذا يصل ويطول عمره ويُبْسَطَ له في رزقه ، وهذا لا يصل فيقصر عمره ويُقَصَّر في رزقه ، ينقص رزقه ، هذا عند الله معلوم وهو شيءٌ واحد ما يتغير لكنه عندنا غير معلوم ، ولهذا حثَّنا الرسول عليه الصلاة والسلام أنْ نصل الرحم ،
ونظير ذلك أيضاً في مسألة الزواج ، قال < أي الرسول صلى الله عليه وسلم > : ( من أحب أنْ يولد له فليتزوج ) ، نفس الشيء ،
المراد بهذا الحث على الزواج ، وإلا فنحن نعلم الله قد كتب لهذا الرجل أنْ يتزوج وأنْ يولد له أو أن لا يتزوج ولا يولد له ، فنحن فرضنا هذا لأنه سببٌ للولادة كما أن صلة الرحم سببٌ لطول العمر ،
والحاصل : أن الإنسان إذا علم أن الشيء مكتوب بأسبابه طول العمر مكتوب بسببه سعة الرزق مكتوب بسببها الذي هو الصلة ، لكننا نحن لا نعلم صار المقصود من مثل هذا القول من رسول صلى الله عليه وسلم صار المقصود منه الحث على صلة الرحم وأنه سبب ، الدعاء أيضاً سبب لحصول المقصود ، من أحب أنْ يُرزق فليسأل الله الرزق ، السؤال سبب ،
(71/128)
لو قال قائل : إذا كان الله كتب لك الرزق فلا حاجة للسؤال ؟
نقول : غلط ففعل الأسباب التي جاءت بها الشريعة أو شهد بها الواقع أمرٌ مطلوب للشرع ، والله تعالى بحكمته قد ربط المسببات بأسبابها ،
فلا إشكال والحمد لله في الحديث ، إنما هو ذكرٌ لسببٍ يكون عند الله معلوماً مكتوباً ، وعندك غير معلوم ، إنما الشيء الذي تُخاطَبُ به أن تفعل السبب ،
قوله: ( إن الرزق هو من الحلال أو ضده ) : ضده الحرام ،
والحرام رزقٌ بالمعنى العام ، ولو لم نقل بذلك لكان الذي لا يأكل إلا الحرام غير مرزوق إذا قلنا : إن الرزق ، لزم من هذا أن الذي يتغذى بالحرام غير مرزوق وهذا مخالفٌ للآية ،
ولهذا قال :
******************
71 – لأنه رازق كل الخلقِ ،
وليس مخلوقٌ بغير رزقِ ،
إذا كان المرزوق مؤمناً تقياً فليس عليه تبعة في رزقه لأن هذا المؤمن التقي لن يأكل إلا الحلال ، فلا يكون عليه شيء ،
أما الكافر فإنه يعاقب على رزقه لأنها لا تكون خالصةً لهم لقوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا } ( المائدة 93 ) ، فمفهومه أن غير المؤمنين عليهم جناح ،
الأسئلة والمناقشة
ما فيه شك أنك إذا ألقيت نفسك في النار مُتَّ ، لكن هل ستلقي نفسك في النار ؟ هذا مكتوب عن الله ونحن منهيون أن نلقي أنفسنا إلى التهلكة ، الجدار المايل ما يجوز أن تجلس تحته ولهذا يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدارٍ فأسرع خوفاً من أن يسقط عليه فنحن مأمورون بفعل الأسباب أما الشيء المكتوب عن الله فإنه لا يتغير ، فهذا الرجل الذي مر من عند جدارٍ مائل وسقط عليه ،
لو قال قائل : لو ذهب مع الطريق الثاني نجا ؟
نقول : ما يمكن ، لا بد أنْ يمر من هذا الطريق ويسقط عليه الجدار ، هذا هو المكتوب عند الله ،
(71/129)
- حديث ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) [172] صحيح ، وإذا كان مُقَدَّر عليه شيء معين فإنه بالدعاء يرفعه الله ، إنما المكتوب في الأصل أنك تدعوا فيعود ، هذا المكتوب ، كما قال الرسول لما أخبر : ( أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يُخَوِّفُ الله بهما عباده ) [173] ، كأن هذا معناه إنذار من الله أنه سيصيبنا عذاب فإذا لجأنا إلى الله وصلينا وتصدقنا ودعونا رُفِعَ هذا الشيء المهم أنت اجعل بالك للمكتوب في الأزل ، وأن ما دونه فهو أسباب فقط فالمكتوب في الأزل ما يتغير ،
يقول المؤلف : ( إن الله تعالى يجوز له أنْ يعذب بدون ذنب ولا جرم ) [174] :
دليله : قوله تعالى : { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } ( الأنبياء 23 ) :
ومن السنة : حديث : ( إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لَعَذَّبَهَمْ وهو غير ظالمٍ لهم ) [175] ،
والقول الثاني في هذه المسألة ، مسألة : ( أن الله يعذب الناس بدون ذنب ) : أن الله لا يعذب الناس بدون ذنب ،
دليلهم : { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقا } ( الجن 13 ) ، { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما } ( طه 112 ) .
نجيب عما استدل به المؤلف : بأنه قد يتوجه هذا السؤال وهو : ( هل يمكن الله يعذب الناس بدون ذنب ؟ ) ، ولكن لا حاجة له لأن الله قد وعد بأنه يثيب المطيع ويعاقب العاصي ،
أما الحديث أنه إذا عذبهم وهم مستحقون للعذاب فلا يكون ظالماً لهم ،
الثاني : أنه لو عذبهم لكانت أعمالهم لا تفي بحق الله ،
الثالث : أننا نطالب بصحته ، المطالبة بصحة الحديث ،
الباب الثالث
في الأحكام والإيمان ومتعلقات ذلك [176]
الأحكام جمع حكم ،
والمراد به الأحكام الشرعية والأحكام الكونية والأحكام الدينية في الأسماء كما سيأتي والأحكام الدنيوية والأحكام الأخروية ،
المهم الأحكام عامة ، كما سيتبين من الشرح ،
******************
(71/130)
74 – وواجبٌ على العباد طراًّ ،
أنْ يعبدوه طاعةً وبراًّ ،
قوله : ( واجب ) : خبر مقدم ،
قوله : ( أنْ يعبدوه ) : مبتدأ مؤخر ، وإنما قلنا بذلك لأن ( واجب ) حكم ، و ( العباد ) محكوم عليه ،
ويجوز على لغة قليلة أو على قولٍ لبعض النحويين أنْ نجعل ( واجب ) مبتدأ و ( أنْ يعبدوه ) فاعلٌ أغنى عن الخبر لأنه يجوز إذا كان الخبر وصفاً وتأخر المبتدأ يجوز أنْ يكون الوصف مبتدأ ويكون ما بعده فاعلٌ به أو نائب فاعل أغنى عن الخبر ،
لكن المشهور أن هذا لا يجوز إذا اعتمد على نفي ٍ أو استثناء ،
قوله : ( وواجب ) : الواجب عند أهل العلم ، ( ما أُمِرَ به على سبيل الإلزام ) أو ( ما أُلْزِمَ به المكلف ) [177] ،
قوله : ( على العباد ) : المراد بهم كل الناس ،
فالعبادة هنا بالمعنى العام ليست العبودية الخاصة ،
وقد مر علينا كثيراً أن العبودية :
1 – تكون عامة وهي التعبد الكوني ،
2 – وتكون خاصة وهي التعبد الشرعي ،
والمراد هنا التعبد الكوني يعني يجب على كل العباد أنْ يعبدوا الله عز وجل ،
قوله : ( طراًّ ) : أي جميعاً ،
قوله : ( أن يعبدوه ) : الهاء في قوله ( يعبدوه ) ليس لها مرجع سابق ولا لاحق ولكن مرجعها معلوم من السياق لأن الذي يجب أنْ يُعْبَد هو الله عز وجل ، فالهاء إذن عائدة على الله عز وجل ،
قوله : ( طاعةً وبراًّ ) : يعني أنْ يعبدوه امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه ،
قوله : ( وبراًّ ) : أي رجاءً لبِرِّهِ وثوابه ، فيشعر الإنسان عند فعل العبادة بأنه فعلها طاعةً لله ورجاءً لثوابه فالصلاة مثلاً يقيمها طاعةً لله ورجاءً لثوابه ،
وقد سبق أنه ينبغي للإنسان أن ينوي في عبادته الوصول إلى الله عز وجل وإلى دار كرامته ،
(71/131)
فيجمع بين الأمرين بين إرادة الخالق عز وجل كما قال تعالى : { يريدون وجهه } ( الأنعام 52 ) ، وبين إرادة ثوابه كما قال تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } ( الفتح 29 ) .
هذا واجب على كل مخلوق أنْ يعبد الله عز وجل ،
والمراد بالعبادة هنا : ( التذلل لله عز وجل محبةً وتعظيماً بفعل أوامره وترك نواهيه ) ،
ولهذا قال :
******************
75 – ويفعل الذي به أمر ،
حتماً ويترك الذي عنه زجر ،
يعني وواجبٌ عليهم أنْ يفعلوا الفعل الذي أمر به حتماً ،
قوله : ( حتماً ) : وصف يعود على الأمر يعني الذي أمر به أمر حتمٍ ،
لأن مأمورات الله عز وجل قسمان :
1. قسم مأمورات حتم ،
2. وقسم مأمورات تطوع ،
والذي يجب أنْ يُفعل ما أمر به حتماً ،
ولكن ما أمر به تطوعاً قد يكون القيام به فرض كفاية إذا كان التبليغ ، تبليغ الرسالة يتوقف عليه بمعنى أننا لو تركناه لماتت السُّنَّة ،
فهنا ربما يقول قائل : إنه يجب أنْ يقوم الإنسان بما لم يؤمر به حتماً ، ويكون وجوبه هنا لغيره ، يعني لئلا تموت السُّنَّة ، لا لايجاد الفعل ،
أما إذا كانت السُّنَّة مشهورة فمعلومٌ أن القيام بها ليس على سبيل الوجوب ،
قوله : ( ويترك الذي عنه زجر ) : يعني يترك ما زجر عنه من النواهي ،
هذا هو الواجب على كل مؤمن أنْ يفعل ما أمر الله به وجوباً فيما حَتَّمَهُ واستحباباً فيما ندب إليه ،
ويترك الذي عنه زجر وجوباً فيما حَرَّمَهُ ، وندباً فيما هو مكروه ،
ما خُلِقَ الإنسان إلا للعبادة فقط ،
وما عدا ذلك فإنه مُكَمِّل للعبادة ،
حتى تناول المباحات إنما أباحها الشارع لئلا تَمَلَّ النفوس ،
لأن النفوس إذا بقيت مُلْزَمَة بفعل شيء وترك شيء لَكَلَّتْ ومَلَّتْ ،
لكن فُسِحَ لها فيما أحل الله عز وجل ،
(71/132)
ولهذا نَجِدُ أن الشارع فَسَحَ للنفوس في أيام الفرح أنْ تتناول ما يفرح ويُطْرِبْ ،
مثل : الدُّفْ في الأعياد وكذلك في الأعراس ،
وأباح للنفس أنْ تنال مطلوبها عند الأحزان ،
فأباح للإنسان أنْ يُحِدَّ على الميت ثلاثة أيام ،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لأمرأةٍ أنْ تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوجها أربعة أشهرٍ وعشراً ) [178] ، فثلاثة الأيام يجوز في الإحداد على الميت لأن النفس تكون حزينة كئيبة ما تنبسط للأمور الترفيهية ،
فلا يُقال للإنسان : لماذا مثلاً ما تجملت ، لماذا ما خرجت مثلاً للنزهة ؟ لماذا ما فعلت كذا ما فعلت كذا من الأمور الترفيهية العادية ؟ ، والله أنا محزون ، فينطوي على نفسه ،
هذا لا بأس به ، بشرط أنْ لا يكون الحامل له على ذلك التسخط ، التسخط من قضاء الله وقدره ، فإنْ كان الحامل له على ذلك التسخط فهو حرام ،
إذن نقول : الواجب العبادة هذا الواجب لكن الشرع أباح للإنسان ما يترفه به في حدودٍ معينة ، لماذا ؟
لئلا يلحقه الملل والسآمة ، والإنسان لنفسه عليه حق ، هذا الحكم الشرعي ، فهمنا الآن الأحكام الشرعية واجبة أم غير واجبة ، القيام بالواجب منها واجب وبالمستحب منها مستحب ،
إلا أننا قلنا : إنْ خُشِيَ أنْ تنقرض السنة وتخفى معالمها فقد يكون فعلها واجباً لغيره ،
******************
76 – وكل ما قدَّر أو قضاه ،
فواقعٌ حتماً كما قضاه ،
قوله : ( كل ) : مبتدأ ،
قوله : ( فواقع ) : خبره ، لو سألنا لماذا وقعت الفاء في خبر المبتدأ ؟
لأن المبتدأ متضمن لمعنى الشرط ، ومعنى الشرط العموم ( كل ) ، فإذا كان عاماً فإنه يجوز أنْ تقترن الفاء في خبره ،
فلو قلت : كل أحدٍ فقائم ، صح ،
لكن لو قلت : زيد فقائم ، ما صح ،
(71/133)
لأن الأول بمعنى الشرط والثاني ليس كذلك ،
قوله : ( كل ما قدَّر ) : كل الذي قدَّره أو قضاه ،
قوله : ( فواقع ) : يعني فلابد أنْ يقع ،
قوله : ( حتماً ) : أي جزماً ،
قوله : ( كما قضاه ) : أي على الوجه الذي قضاه سواءٌ كان هذا الشيء من فعله عز وجل أو كان متعلقاً بأفعال العباد فلابد أنْ يقع ،
فإذا قدَّر الله على شخصٍ لأنْ يهتدي اهتدى ،
وإذا قضى على شخصٍ بالضلال ضل ،
وإذا قضى له بالرزق رزق وإذا قضى بالفقر افتقر ،
وإذا قضى الله تعالى بالخصب والرخاء حصل الخصب والرخاء ،
وإذا قدَّر الله الجدب والضيق حصل الجدب والضيق ،
وإذا قُدًّرَتْ الفتن والقتال وقع ذلك ،
وإذا قُدِّرَ رَفْعُهُ وقع ،
المهم على كل حال كل شئٍ يقضيه الله فلابد أنْ يقع ،
ولكن لاحظوا أنه قد يكون لهذا المقضي موانع قضاها الله عز وجل ، قد يكون موانع قضاها الله ، كما جاء في الحديث : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) [179] ، فنقول : هذا مُقَدَّر ثم قُدِّرَ له مانع بأمر الله عز وجل فمنع ،
إذن كل ما قضاه أو قَدَّرَه حتى ما كان مقضياً ثم وُجِدَ له المانع فإنه داخل في عموم كلام المؤلف ،
ولهذا نرى من الجهل : أنْ يقول بعض الناس في دعائه : ( اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه ) ، كأنه يقول : ابتلني بما شئت ما يهم ولكن ألطف بي ، سبحان الله !!! ، من قال هذا الدعاء ؟ من أين جاء هذا الدعاء ؟ ،
هذا الدعاء لا يصح نقلاً عن السلف ، وإنْ صح عن بعضهم ، فلا يمكن أنْ يصح عن الصحابة الذين أقوالهم مأثورة مشهورة ، قل : اللهم إني أسألك اللطف في قضائك ، صح ،
أما ( لا أسألك رد القضاء ) الله عز وجل ما يقضي شئ سواءً لَطَفَ بك أو شدد عليك إلا وهو قد قضاه ، لذلك ينبغي أنْ ننبه من يقول هذا الدعاء ،
نقول : تعال يا أخي ، الدعاء ما الفائدة منه ؟
إذا قلت : ( اللهم قني عذابك ) معناه أنك تريد ألا يعذبك الله ،
(71/134)
تريد أن تقول : يا ربي إنْ كنت مقدِّراً عذابي ، فالطف بي في العذاب ،
هذا معنى الجملة الدعائية هذه : ( إني لا أسألك رد القضاء ) يعني معناه إذا كنت قَدَّرْتَ شقائي فاجعلني شقياً لكن هَوِّنْ قليلاً ،
على كل حال بعض الناس إذا رأوا الكلام كما يقولون : حلو ، تركيبه طيب أخذوا به ولا يعلمون معناه ، وهذا من الغفلة ، فالواجب أنْ نتأنى في كل ما نسمع حتى نزنه بميزان الكتاب والسنة ،
قوله : ( وكل ما قدَّر أو قضاه فواقعٌ حتماً كما قضاه ) : المعاصي ، إذا قَدَّرّ أنْ تكون تقع ؟ تقع كما قضاه ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان ، قال : ( وتؤمن بالقدر خيره وشره ) [180] ،
وأجمع المسلمون على قولهم : ( ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن ) [181] ،
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( احرص على ما ينفعك … - إلى أنْ قال : - ،،، ولكن قل قَدَرُ الله وما شاء فعل ) [182] ، والحديث مشهور ،
إذن ما قَدَّرَهُ الله فلابد أنْ يقع ، وأنت إذا آمنت بذلك حصل لك طمأنينة كاملة فيما يصيبك ، لأنك تعلم أنه لن يتغير الواقع أبداً ، لن يتغير الواقع ،
فلو قُدِّرَ أن شخصاً صار يعمل في التجارة ثم خسر حتى فَنِيَ ماله ، يجب أنْ يعلم أن هذا الذي حصل بقضاء الله وقدره وحينئذٍ يطمئن ويسلم لأنه يرضى بالله رباًّ ،
رجل خرج ابنه إلى السوق ، فأصابه حادثٌ ومات ، لا يجوز أنْ يورد على قلبه أنه لو لم يخرج لم يمت ، هذا غير واقع ، هذا يجب أنْ تطرده عن قلبك ، لماذا ؟
لابد أنْ يكون كما حصل ، لا يمكن أبداً أنْ تسير الأمور إلا على هذا الذي حصل ،
(71/135)
ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين : { ما ماتوا وما قتلوا } ( آل عمران 156 ) ، ماذا قال الله ؟ قال : { ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يحيي ويميت } ( النمل 87 ) ، هذه الأمور لا تُوَلِّد إلا الحسرة ، والإحياء والإماتة بيد من ؟ بيد الله { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ( آل عمران 154 ) ، فأنت إذا آمنت بهذا الكلام الذي جاء في الكتاب والسنة وقرره المؤلف رحمه الله ، فإنك سوف تستريح ولا تسأم ولا تَمَلَّ ولا تتضجر والله أعلم ،
من جملة الأحكام وجوب عبادة الله عز وجل على جميع العباد ،
ودليلها : قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } ( النساء 36 ) ، وقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات 56 ) ، وكذلك فعل ما أمر به وتَرْكُ ما نهى فإنه هو عبادته سبحانه وتعالى ،
ما قَدَّرَهُ الله أو قضاه فإنه واقع ، واقعٌ حتماً كما قضاه لا يختلف عما قضاه في الأزل وهذا يعود إلى وجوب الرضا بالقدر ،
والإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة والرضا بالقدر من الرضا بالله رباًّ ، والإنسان يجب أنْ يرضى بالله رباًّ مدبراًّ يفعل ما يشاء عز وجل ،
الأسئلة
السؤال : ما الرد على من يفعل المعاصي ونقول له لماذا فعلت ؟ ويقول : هذا مقدر عليَّ ومكتوب عليَّ أن أفعل هذه المعاصي ، ؟
الشيخ رحمه الله : هل تزوجت ؟
السائل رحمه الله : لا ،
الشيخ رحمه الله : أنا أرى ألا تسعى في الزواج ،
السائل رحمه الله : لماذا ؟
الشيخ رحمه الله : إذا كان مكتوب عليك سيقع ، القضاء والقدر أمر مكتوب عند الله ، لا يُعْلَمْ ، فالذي أقدم على المعصية هل أقدم على المعصية حين إقدامه وهو يعلم أن الله كتبها عليه ؟ يقيناً لا يعلم { وما تدري نفسٌ ما تكسب غدا } ( لقمان 34 ) ، لكن لمإذن أقدمت وأنت منهيٌ عنها ؟!
فصل
في الكلام على القضاء والقدر غير ما تقدم
(71/136)
وهنا مسألة مهمة جداًّ : هل الواجب بالنسبة للقضاء والقدر ، الرضا بالقضاء والمقضي أو الرضا بالقضاء ويُسْتَفْصَل في المقضي ؟
بَيَّنَ المؤلف ذلك في قوله :
******************
77 – وليس واجباً على العبد الرضا ،
بكل مقضي ولكن بالقضا ،
78 – لأنه من فعله تعالى ،
وذاك من فعل الذي تقالا ،
قوله : ( وليس واجباً ) : أنتم عندكم : ( وليس واجبٌ ) ،
والظاهر أن الأَوْلى النصب ،
ويجوز الرفع ،
لاحظ أنه يجوز الوجهان ،
فإنْ أردت أن تخبر عن الواجب فـ ( الواجب ) مرفوع و ( الرضا ) منصوب خبر ( ليس ) ،
يعني : ( وليس الواجب الرضا بكل مقضي ) ،
وإنْ كنت تريد أنْ تخبر عن الرضا ،
فإنك تقول : وليس واجباً ، وتقدير الكلام على هذا ( وليس الرضا واجباً ) ،
فالوجهان جائزان ،
يعني لا يجب على الإنسان أنْ يرضى بكل مقضي ،
وإنما يجب أنْ يرضى بالقضاء الذي هو فعل الله عز وجل ،
فالمقضي يحتاج إلى تفصيل :
أولاً : أنْ يكون المقضي حكماً شرعياً ، فهذا يجب الرضا به ،
إذا كان المقضي حكماً شرعياً وجب الرضا به والسخط به أو منه منافٍ للإسلام ،
فيجب علينا مثلاً أنْ نرضى بِفَرْضِ الله للصلاة والزكاة والصوم والحج والبر والصلة وغير ذلك ،
يجب علينا ،
لأن ذلك محبوبٌ إلى الله عز وجل والمحبوب يجب أنْ نحبه ،
ثانياً : وإنْ كان المقضي أمراً كونياً ،
فإن الأمر الكوني منه ما يلائم النفوس ،
وهذا الرضا به أمرٌ فطري ،
ومنه ما لا يلائم النفوس ،
والناس فيه على أربع مراتب ،
المقضي إذا كان أمراً كونياً فهو قسمان :
الأول : ما يلائم النفوس ، فالرضا به أمرٌ فطري ،
والثاني : ما لا يلائم النفوس ،
والناس فيه على أربع مراتب ،
(71/137)
مثال ذلك : إذا قضى الله للإنسان بولد ورزقٍ واسع ودارٍ مهيئة ومركوبٍ فخم وعلم وإيمان ،
يرضي به الإنسان أم لا ؟
يرضى به ،
لأنه يلائم نفسه ،
رضاه بذلك أمرٌ فطري ،
لا يحتاج أنْ نقول : يجب أنْ ترضى به لأنه سيرضى به ،
أما إذا كان المقضي لا يلائم النفوس فإن الناس فيه على أربع مراتب :
مرض إنسانٌ قضى الله عليه بمرض ، المرض ملائم أم غير ملائم ؟
غير ملائم ،
ينقسم الناس فيه إلى أربع مراتب [183] :
المرتبة الأولى : مرتبة السخط ،
والثانية : مرتبة الصبر ،
والثالثة : الرضا ،
والرابعة : مرتبة الشكر ،
أربع مراتب :
مرتبة السخط : أنْ يسخط هذا الذي قضاه الله ، يسخطه ،
وعلامة السخط : أنْ يقول قولاً منكراً أو يفعل فعلاً منكراً ،
مثال القول : أنْ يقول : يا ويلاه ، واثبوراه ، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تنبئ عن التسخط ، وأما الفعل المنكر : فمثل : لطم الخدود ، شق الجيوب ، نتف الشعور ، القفز حتى يسقط على الأرض ، وما أشبه ذلك ، هذا تسخط فعلي أم قولي ؟
تسخط فعلي ،
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) [184] ، الأولان فعلان ، والثالث قول ،
المرتبة الثانية : مرتبة صبر [185] ، يتألم الإنسان نفسياً ولكنه يصبر ، لا يشق ثوباً ولا يلطم خداًّ ولا يقول منكراً ،
وهذه المرتبة واجبة [186] ، يعني يجب على الإنسان أنْ يصبر إذا أُصِيبَ بالمصائب ،
المرتبة الثالثة : الرضا ، أنْ يرضى بقضاء الله معناه أنْ يكون مطمئناً منشرح الصدر بما قضى الله عز وجل ، لا يتألم نفسياً ، هو يكره هذا الشيء لاشك ،
لأنه لا يلائم النفوس لكنه لا يتألم ، لا يتألم نفسياً ، يقول : هذا قضاء الله وأنا ملكٌ من جُمْلَةِ من ملك الله عز وجل له أنْ يفعل فيَّ ما شاء ، مطمئن ،
هذه المرتبة اختلف فيها العلماء على قولين :
1. منهم من قال : إنها واجبة ،
(71/138)
2. ومنهم من قال : أنها مستحبة [187] ،
والصحيح : أنها مستحبة وليست بواجبة ، لأنها صعبة على كثير من النفوس ،
علامة الرضا أنك لو سألته فقلت : هل أنت تأثرت بهذا الذي قضاه الله عليك لقال : لا ، لأني أعلم أن الله لم يُقَدِّرْ لي شيئاً إلا كان خيراً لي أنا مؤمن والله لا يقضي لعبده المؤمن قضاءاً إلا كان خيراً له ،
المرتبة الرابعة : مرتبة الشكر ، هذه المرتبة أعلى من الأولى [188] ،
أعلى التي قبلها ، لأنها رِضاً وزيادة ،
فإذا قال قائل : كيف يشكر الله على المصيبة ؟
قلنا : يشكر الله على المصيبة لأنه يعلم أن ثوابها وأجرها إذا صبر عليها واحتسب الأجر أكثر من مصيبتها ، فيشكر الله على هذا ، لأن ما يترتب عليه من الخير أكثر مما يترتب عليه من الأذى ، فمن هذه الناحية يشكر الله ،
وقد قال أهل العلم أو بعضٌ منهم : إن هذه المرتبة أعلى من التي قبلها أعلى من الرضا ،
فهذا حكم الرضا بالمقضي ،
وقال المؤلف ( ولكن بالقضا ) : يعني : ولكن يجب أنْ يرضى بالقضاء ، قضاء من ؟
قضاء الله عز وجل الذي هو فِعْلُه ،
إذا قال قائل : ماذا تقولون في المعاصي ، أواقعةٌ هي بقضاء الله أو لا ؟
نقول : بلى ، هي واقعة بقضاء الله ،
كيف ترضون بقضاء الله ؟
نقول : نعم ، نرضى بقضاء الله وإنْ كرهنا المقضي ،
هذه المعصية لا نرضاها ونكرهها ونؤدب عليها ، ولكن نرضى لكون الله قضاها ، ولا نعترض على الله عز وجل في قضائها ، لا نعترض على الله ،
فإذا رأينا العصاة مثلاً والفساق وأهل المجون يجب علينا أنْ نرضى بما وقع منهم باعتباره من قضاء الله ،
لكن لا يجوز أنْ نرضى بما صدر منهم باعتباره من فعلهم ،
فنسخط فعلهم ونرضى فعل الله الذي هو قضاؤه ، وبهذا التفصيل تزول عنك إشكالاتٌ كثيرة ،
إذا قال قائل : في الخلق شر مثل إبليس ، إبليس أصل الشر ، فهل يجب علينا أنْ نرضى بإيجاد إبليس ، خلق إبليس ؟
(71/139)
يجب أنْ نرضى بإيجاد إبليس بدون تفصيل ، لكننا لا نرضى بما يأمر به إبليس ، لا نرضى بذلك ، لأن إبليس يأمر بالشر والفحشاء والمنكر { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } ( النور 21 ) .
إذن نرضى بأن الله خلقه ، ونقول : لا شك أن الله خلقه لحكمة ، ولكن نرضى بما يكون من فعل إبليس من الشر والفساد … الخ ،
قوله : ( لأنه من فعله ) : ( لأنه ) أي القضاء ، ( من فعله ) أي من فعل الله ولهذا قال : ( من فعله تعالى ) ،
قوله : ( وذاك ) : أي المقضي ،
قوله : ( من فعل الذي تقالى ) : أي تباعد وفعل ما يُبْغَضُ عليه ، وهذا التعليل الذي ذكره المؤلف ينطبق على المعاصي ، ينطبق تماماً على المعاصي ،
فالمعاصي واقعةٌ بقضاء الله وقدره نرضى بها من هذه الناحية ، وواقعةٌ من فعل الشخص ، العاصي من هذه الناحية لا نرضاه ، ولهذا قال ( وذاك ) أي المقضي ( من فعل الذي تقالى ) ،
إذا قال قائل : ما الجمع بين قوله تعالى : { من شر ما خلق } ( الفلق 2 ) ، وبين قوله الله صلى الله عليه وسلم : ( والشر ليس إليك ) [189] ؟
نقول : الفرق بينهما ظاهر ،
لأن { من شر ما خلق } أضاف الشر إلى من ؟ إلى المخلوق أما إلى الله فلا يضاف الشر ، كيف يُتَصَوَّرُ هذا ؟ يُتَصَوَّرُ لا شك أن الله هو الذي قَدَّرَ الشر لكن قَدَّرَ الشر في مفعولاته أما تقديره لهذا الشر خير حكمة حكمة عظيمة يترتب عليها من المصالح ما يجعلها غير مكروهة [190] ،
لكن فرق بين المفعول وبين الفعل والفاعل ،
الفاعل هو الله عز وجل والمقدر هذا لا شك نحبه على كل حال ،
وفعله أيضاً خيرٌ على كل حال ومفعوله فيه خير وفيه شر ، نعم ، والله أعلم ،
الأسئلة والمناقشة
- اشترط المؤلف للعبادة شرطين أو ذَكَرَ لها وصفين : الطاعة يمكن أنْ ندخل فيها الوصفين الإخلاص والمتابعة لأنه لا يمكن أنْ يَصْدُق عليه أنه أطاع الله إلا بإخلاص ومتابعة ،
(71/140)
- يقول المؤلف : إن كل شيء قَدَّرَهُ الله وقضاه فلابد أنْ يقع حَتْماً ،
والدليل : قوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس 82 ) ، فأخبر أنه لابد أنْ يكون ،
ما الفرق بين القضاء والمقضي ؟
القضاء فعل الله ، والمقضي مفعول الله ،
- هل الواجب على الإنسان الإيمان بالقضاء أو المقضي ؟
يجب الإيمان بالقضاء ،
أما المقضي ففيه التفصيل .
المقضي شرعاً يجب الرضا به ،
فإنْ كان حكماً شرعياً وجب الرضا به فيجب علينا أنْ نرضى بوجوب الصلاة ونرضى تحريم الزنا وجوباً ،
إذا كان كونياًّ فإما أنْ يكون ملائماً للنفس أو مؤلماً للنفس ،
إنْ كان ملائماً فالرضا به طبيعي فطري ،
وإنْ كان مؤلماً ،
فالناس فيه على أربعة مراتب :
1. ساخط ،
2. وصابر ،
3. وراضٍ ،
4. وشاكر ،
، وإذا كان المقضي شرعياًّ فهو باعتبار فعل العبد ،
مرضيٌ به إذا كان طاعة ،
ومسخوط إنْ كان معصية ،
فهذا أيضاً يُضافُ إلى المقضي كوناً ، يعني ما قضاه الله كوناً من الأمور الشرعية ليس باعتبار فِعْلِهِ وتشريعه ، باعتبار وقوعه من العبد ،
نقول : إذا كان طاعة فهو مرضي ، إذا كان معصية فهو مسخوط يجب السخط به ، ولهذا يجب علينا أنْ ننكر على العاصي ،
فإذا قال : هذا قضاء الله وقدره ،
قلنا : نعم نحن نرضى بقضاء الله وقدره ، نرضى بأن الله قَدَّرَه عليك ، هذا من باب إثبات فعل الله لكن باعتبار فِعْلِك لا نرضى به ،
فصار الآن المقضي إنْ كان شرعياً باعتبار فعل الله فالرضى به واجب ،
مثاله : الرضا بوجوب الصلاة وبتحريم الزنا مثلاً ،
وإذا كان كونياً يعني قضاه الله كوناً فإما أنْ يكون ملائماً للنفس أو مؤلماً لها ،
إنْ كان ملائماً للنفس مثل : الصحة والرزق والولد والزوجة وما أشبه ذلك فهذا الرضى به فطري لا يحتاج أنْ نقول : واجب أو غير واجب ،
(71/141)
إذا كان مؤلماً فالناس فيه على أربعة مراتب والواجب فيه الصبر ، الواجب فيه من هذه المراتب هو الصبر ، وإذا كان أمراً شرعياً باعتبار وقوعه من العبد ففيه التفصيل الذي قلتُ ،
ولنا أنْ نقول : نجعل الأمر الشرعي يُنْظُرُ فيه من وجهين :
الوجه الأول : باعتباره واقعاً من الله ،
الثاني : باعتباره واقعاً من العبد ، لنجعل الكوني لوحده والشرعي لوحده ،
فنقول : الرضا بالأمر الشرعي من حيث وقوعه من الله واجب بلا تفصيل ، من حيث وقوعه من العبد إنْ كان طاعةً وَجَبَ الرضا به ، وإنْ كان معصية وَجَبَ سَخَطُهُ ،
وبهذا إذن نقسم هذا إلى قسمين ، ينقسم إلى قسمين ،
إلى قسمين : باعتباره واقعاً من العبد فهذا يجب الرضا ،
واقعاً من العبد إنْ كان طاعة وَجَبَ الرضا به ،
وإنْ كان معصية وَجَبَ سَخَطُهُ ،
فصل
في الكلام على الذنوب ومتعلقاتها
ما المراد بالأحكام ؟
الأحكام الشرعية والكونية والحكمية هل يصبح الإنسان أو كافر وما أشبه ذلك [191] والجزائية ، كل هذا الباب ، هذا عام هذا فيه أحكام متعددة ،
******************
79 – ويَفْسُقُ المذنب بالكبيرة ،
كذا إذا أَصَرَّ بالصغيرة ،
قوله : ( ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أَصَرَّ بالصغيرة ) : هذا من الأحكام أيضاً وهو أمرٌ مهم لأن الناس تنازعوا فيه فابتدعت فيه طائفتان وسلمت الثالثة ،
المذنب إذا أذنب بكبيرة فهو عندنا معشر أهل السنة أنه يكون فاسقاً مؤمناً ، كيف ؟
يكون فاسقاً بمعصيته مؤمناً بإيمانه ، هذا مذهب أهل السنة والجماعة ،
وهو المذهب الذي تؤيده النصوص ويؤيده النظر والعدل [192] ، العدل أنْ نعامل كل إنسانٍ بما يستحق ، فهذا الرجل مؤمن لكن فعل كبيرة ولم يَتُبْ منها نقول : أنتَ باقٍ على إيمانك لكنك فاسقٌ بِكَبيرَتِك ،
(71/142)
أو نقول : إنه مؤمن ناقص الإيمان ، مؤمن بما معه من أصل الإيمان ، ناقص الإيمان بما ثَلَمَهُ من معصيته ، هذا مذهب أهل السنة والجماعة ، وهو المذهب الحق كما سنذكره إن شاء الله ،
وقالت الخوارج : إنه ليس بمؤمن بل هو كافر فإذا زنا فقد كفر ، وإذا سرق فقد كفر ، وإذا قتل نفساً بغير حق فقد كفر ، وإذا عقَّ والديه فقد كفر ، وإذا قطع أرحامه فقد كفر ، وهكذا ، إذا فعل أي كبيرة صار كافراً خارجاً عن الإيمان ،
وإذا كافراً خارجاً عن الإيمان ، فما حكمه في الآخرة ؟
أنه يُخَلَّدُ في النار ، أنه يُخَلَّدُ في النار ،
ووافقتهم المعتزلة على التخليد في النار لكن خالفتهم في الحُكْم في الدنيا ، يعني وافقتهم في حكم الآخرة ، وخالفتهم في حكم الدنيا ،
فقالوا أي المعتزلة : إن فاعل الكبيرة مُخَلَّدٌ في النار لكنه في الدنيا في منزلةٍ بين المنزلتين ، لا نصفهُ بالإيمان ولا بالكفر ، فلا نقول : مؤمن ولو بِقَيْدِ النقص ، ولا نقول : كافر ولو بِقَيْدِ أصل الإيمان ، بل نقول : في منزلة بين المنزلتين ،
إذن توافق الخوارج والمعتزلة في شيء وتخالفوا في شيء ، توافقوا في أحكام الآخرة فجعلوا فاعل الكبيرة خالداً في النار واختلفوا في أحكام النار :
فحكمت الخوارج بأنه كافر وحكمت المعتزلة بأنه ليس بمؤمن ولا كافر في منزلة بين المنزلتين على رأي الخوارج إذا رأينا فاعل كبيرة فلنا قتله لأنه مرتد مباح الدم وعلى رأي المعتزلة لا ما نقتله لأنه ليس بكافر ولا نكرمه إكرام المؤمن لأنه ليس بمؤمن عرفتم ؟ ،
فيه مبتدعة ثالثة المرجئة :
المرجئة يقولون : أن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ولا يستحق العقاب ما عليه شيء ، مؤمن كامل الإيمان ، لو زنا وسرق وشرب الخمر وقتل وعق وقطع وغش وكذب ، كل شيء ، هل أنت مؤمن بالله ؟ قال : نعم ، أنت مؤمن كامل الإيمان إيمانك كإيمان جبريل ومحمد ، أعوذ بالله ، هذا معقول ؟ لكنه عندهم هذا مذهبهم ،
(71/143)
ما الذي يصلح لكثير من أبناء هذا الزمان مذهب المرجئة أم مذهب الخوارج ؟
الذي يناسبهم مذهب المرجئة ،
لكن الذي يتناسب معهم للتأديب ؟
مشكلة الخوارج في هذا ، مذهبهم مشكل ، كل من فعل كبيرة ما نصلي عليه ونقتله ، هذا صعب ، هذا فيه شدة ،
على كل حال الذي يناسب الزمان ما جاءت به السنة :
أنه نعامله بما يستحق نقول : هو مؤمن ناقص الإيمان أم مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته هذا الحق ،
ولهذا قال المؤلف رحمه الله :
ويَفْسُقُ المذنب بالكبيرة ،
كذا إذا أَصَرَّ بالصغيرة ،
لا يخرج المرء من الإيمان ،
بموبقات الذنب والعصيان ،
قال : ( ويَفْسُقُ ) : الفسق في اللغة : الخروج ، ومنه فسقت الثمرة عن قشرها أي برزت وخرجت منه ،
وفي الاصطلاح : ( فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة ) [193] ، هذا الفسق ،
فعل الكبيرة كما قال المؤلف : ( ويَفْسُقُ المذنب بالكبيرة كذا إذا أَصَرَّ بالصغيرة ) يعني على الصغيرة ، فالفسق شرعاً ( فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة ) [194] ،
إذا زنا المرء صار فاسقاً ، إذا أصر على شرب الدخان صار فاسقاً ، إذا شرب الخمر مرة واحدة فقط صار فاسقاً لأنه كبيرة ،
ما هي الكبيرة ؟
الكبيرة في الحقيقة في المعنى ضد الصغيرة ،
لكن ما هو الميزان ؟
قال بعض العلماء : ( ما نص الشارع على أنه كبيرة ) فهو كبيرة وما لم ينص عليه فهو صغيرة ،
فمثلاً : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) [195] ، هذا يكون كبيرة ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ) [196] ، يكون كبيرة ، المهم ما نص الشارع على أنه كبيرة يكون كبيرة وما لا فلا ،
وقال بعض العلماء : ( ما تُوُعِّدَ عليه بلعن أو غضب ) فهو كبيرة ،
(71/144)
وقال آخرون : ( ما فيه حدٌ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة ) فهو كبيرة ،
واختلفوا اختلافاً كبيراً [197] ،
وشيخ الإسلام رحمه الله ذكر أن ( الكبيرة ما رُ تّبَتْ عليه عقوبةٌ خاصة ) [198] ،
يعني ما جُعِل عليه عقوبة خاصة فهو كبيرة وما نهيَ عنه فقط ولم يُعَيَّنْ له عقوبة خاصة فهو صغيرة ،
ومع ذلك يقول : إن الكبائر تتفاوت بعضها أشد من بعض ،
وقوله أقرب إلى الصواب ،
من فعل الكبيرة ولم يتب منها صار فاسقاً ،
من أصر على الصغيرة والإصرار ليس فيه إقلاع صار فاسقاً ،
قوله : ( ويفسق المذنب ) : خلافاً للمرجئة ،
لأن المرجئة يقولون : إن المذنب لا يفسق بالكبيرة ولا بالإصرار على الصغيرة بل هو مؤمن كامل الإيمان ،
قال ابن القيم مبيناً مذهبهم :
والناس في الإيمان شيءٌ واحدٌ ،
كالمشط عند تماثل الأسنان [199] ،
ثم قال :
******************
80 – لا يخرج المرء من الإيمان ،
بموبقات الذنب والعصيان ،
قوله : ( الموبقات ) : المهلكات ،
قوله : ( لا يخرج المرء من الإيمان ) : بفعل الموبقات ، وهذا رد على من ؟
الخوارج والمعتزلة لأن الخوارج والمعتزلة يقولون : إنه يخرج من الإيمان ،
لكن الفرق بينهما :
أن الخوارج قالوا : إذا خرج من الإيمان دخل في الكفر ما فيه وسط ،
والمعتزلة قالوا : إذا خرج من الإيمان فهو في منزلة بين المنزلتين ، كرجل سار إلى المدينة يريد مكة فَنَزَلَ في بدر ، صار في منزلة بين المنزلتين ، ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة ،
(71/145)
لكن الخوارج أقرب إلى الصواب منهم في أنه ليس هناك واسطة ، قال الله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ( يونس 32 ) ، وقال : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ( التوبة 66 ) ولم يذكر منزلة ، فالمنزلة هذه بدعة ، بدعةٌ مردودة على صاحبها ،
المهم أن قوله : ( لا يخرج المرء من الإيمان ) رد لقول من ؟ الخوارج والمعتزلة ،
******************
81 – وواجب عليه أنْ يتوبا ،
من كل ما جََّر عليه حوبا ،
قوله : ( واجب عليه ) : أي على المرء المذنب ،
قوله : ( أنْ يتوبا ) : بالألف ، والألف هنا يقولون : إنها للإطلاق ، أي لإطلاق الروي ، والروي : آخر البيت ، وكان لولا ذلك أنْ يقول : أنْ يتوبْ ، لأن المتحرك يُوقَف عليه بالسكون ،
قوله : ( من كل ما جر عليه ) : أي على الفاعل ( حوبا ) أي إثماً ، يجب على الإنسان أنْ يتوب من كل شيء حصل له به إثم ، إنْ كان ترك واجب فبفعله ، إنْ كان فعل محرم فبتركه ، لأن ترك الواجب يجر عليه الإثم ، وفعل المحرم يجر عليه الإثم أيضاَ ،
قوله : ( واجب عليه ) : فوراً لأن الأصل في الواجبات الفورية ،
ولأن الإنسان لا يأمن أنْ يموت ، فقد يأتيه الموت بغتة قبل أن يتوب
ولو تاب عند الموت لم تنفعه التوبة .
لقوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } ( النساء 18 ) .
ولم يبعد عنا ذكر شروط التوبة وقد ذكرناها قريباً ، فلا بد من التوبة من كل ذنب ،
******************
82 – ويقبل المولى بمحض الفضل ،
من غير عبد كافر منفصل ،
(71/146)