فِقهُ الصَّائمِين من مِنهَاج الطَّالبِين
تصنيف
فهد بن عبد الله الحزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.
فلما كان الفقه في الدين من أعظم المطلوبات الدينية، ولما كان فقه العبادات مما يجب على الإنسان تعلمه، وإكثار السؤال فيما يجهله منها، كان هذا الشرح الجامع بإذن الله تعالى لكتاب هو من أهم كتب تراثنا الفقهي الذي نفاخر به، وهو كتاب منهاج الطالبين للإمام يحيى النووي والذي أبدع في تقريبه واختصاره من أصله "المحرر" للإمام عبد الكريم الرافعي، والذي بدوره اختصره من "الوجيز" للغزالي، الذي اختصره من الوسيط ثم من البسيط للغزالي نفسه والذي اختصر البسيط من كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، والذي جمعه من كتب الشافعي، هذا هو نسب المنهاج.
ونظرا لعلو مرتبة الإمام النووي كونه محررا للمذهب مع الإمام الرافعي -وإن كان الأخير متقدم الزمن إلا أنه متأخر الرتبة حيث اختلفا- لقي هذا الكتاب رواجا وقبولا لدى علماء المذهب وصار معتمد الفتوى لمتأخري الشافعية ممن جاء بعد النووي، وإن كان لا يخلو من مسائل ضعيفة إلا أنها قليلة، وقد بيّنها المتأخرون.
وللمنهاج مزية أخرى كونه واضح العبارة لم تدخله تعقيدات المتأخرين في صياغة المتون، بحيث يمكن للقارئ له الاستغناء عن الشروح في معظمه.
وكان من مظاهر اعتناء المتأخرين به أن أكثروا من شرحه واختصاره والنسج على منواله، وخدمته بأنواع شتى.(1/1)
ومن أبرز وأهم شروحه: تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي، ونهاية المحتاج لمحمد الرملي، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني، وهذه هي الشروح المعتمدة التي يعول عليها المتأخرون، وكل شرح من هؤلاء له مزية ينفرد بها عن غيره، فالتحفة يتميز بتركيز عبارته وسبكها الفقهي، مما استدعى وضع حواش عليه تبين مشكله وتوضح موهمه ، وقد كتبها في مدة وجيزة تقارب الثمانية أشهر، وتتميز النهاية بالتبسيط والوضوح، وكذلك المغني إضافة إلى توسعه قليلا على غيره، ويجمعها أن كلا يأخذ من الآخر.
ولم تتوقف بهذه الشروح عجلة خدمة المنهاج، بل استمرت، إلى وقتنا الحاضر، ومنها ما أقدمه اليوم في فقه الصيام شارحا فيه كتاب الصيام من المنهاج، مستفيدا من الشروح السابقة والحواشي التي عليها إضافة إلى شروح وحواشي معتمدة أخر.
ولقد دارت بخلدي –كثيرا- فكرة مشروع شرح "المنهاج" شرحا يتميز بما يلي:
الجمع لمتفرقات أقوال علماء المذهب في شروحهم وحواشيهم المعتمدة، خاصة شروح المنهاج الثلاثة السابقة حيث تجمع في كتاب واحد مشيرا إلى الخلاف بينهم، والترجيح بقوة المدرك أو يترك دون ترجيح، مع الاستفادة من حواشي المتأخرين المعتمدة أمثال: علي الشبراملسي، والرشيدي، والبجيرمي في حاشيتيه على الفتح والإقناع، والجمل في حاشيته على الفنح، والشرقاوي والبيجوري وغيرهم، إذ فيها علم جم، وخاصة فيما يتعلق: بالضوابط والقيود وجمع الشروط، والتلخيصات (الحواصل) لصور المسألة الواحدة، أو لمسائل من نوع واحد ونحو ذلك، بحيث يكون هذا الشرح جامعا لخلاصات الشروح والحواشي مغنيا عنها في معظم الأحيان وفي كثير من جوانبه، ويعين طالب العلم في حصوله على متفرقات كلام أهل المذهب في موضع واحد، مما يوفر الجهد والمال.(1/2)
أن يشتمل على الصور والمسائل والواقعات الحديثة في شتى أبواب الفقه، مع إدخال بعض القضايا غير المذكورة ضمن الأبواب أو المباحث الفقهية المندرجة تحتها، أو المقاربة لها، وتخريجها على قواعد وفروع المذهب.
أن يشتمل على مشجرات ورسوما توضيحية لما أشكل تصوره، بسبب كثرة صوره ومسائله كما في: الاستحاضة، والمواريث، والجنايات وغيرها، أو لما جهل معرفته: كأعمال الحج.
أن يقل الحديث فيه جدا بحيث يقتصر على الضروري في الكلام على مسائل لا علاقة لها بوقتنا الحاضر والتي قد يضيع الكثير من الوقت في فهمها، رغم انعدام مجال تطبيقها، والتي تكثر أحيانا بدرجة كبيرة، كقضايا العبيد والإماء، ومن يريد الاستزادة منها فعليه بمراجعة الشروح القديمة التي ناقشت هذه القضايا باستفاضة.
للأمثال وقع في النفس ومن فوائده أنه يقرب المعاني البعيدة، ولهذا اهتم علماؤنا بالتمثيل لما يذكروه من مسائل، إلا أننا نواجه إشكاليتين: الأولى: كون الكثير من هذه الأمثلة بعيدة عن التطبيق الواقعي اليوم، أو أنها ليست الوحيدة أو الغالبة الثانية: أن أمثلة العبيد والإماء تلاحقنا أينما قرأنا بحيث يحتاج القارئ أولا أن يفهم المثال ثم يحاول قياس الواقع عليه، مما يهدر الكثير من الوقت والجهد، وعليه فالمنتظر من هذا الشرح أن يستبعد كل أمثلة العبيد والإماء، وكل الأمثلة غير الواقعية حاليا وأن يستبدل بها الأمثلة العصرية بحيث يستطيع الطالب فهم المتن وتنزيله على الواقع، كما يستفيد المعرفة بواقعه مما يجهله، وكيفية تنزيل الأحكام عليه.(1/3)
أن يكتب الشرح بلغة وسط فلا هي بالمعقدة بحيث يصعب فهمها إلا بعد الاستعانة بالحواشي والشروح الأخرى، فلا تشتمل على موهم أو مشكل أو غريب، ولا هي بالسهلة اليسيرة التي يغلب عليها طابع الصحف والمجلات، بل هي لغة فقهية قريبة واضحة يستخدم فيها بعض المصطلحات المعاصرة، والأسلوب المعاصر بعيدا عن الحشو والتكرير، وأقرب هذا بأن أمثل بشرح الشمس الرملي من حيث الأسلوب السهل الواضح.
أن يشتمل على العناوين الجزئية لأصول أو مهمات الباب بحيث يسهل على الباحث الوصول لمراده بيسر.
كان هذا ما أوءمله في هذا الشرح الماتع الجامع، وقد توخيت في شرحي هذا شيئا مما سبق، ولعله يتيسر لي ما أرجوه والله المستعان.
بقي شيء، وهو أنني استخدمت الترميز لبعض العلماء أذكرها هنا مبينا مدلولها:
حج أحمد بن حجر الهيتمي.
م ر محمد الرملي.
خط الخطيب الشربيني
ق ل القليوبي.
بج البجيرمي.
ع ش علي الشبراملسي.
اسأله تعالى التوفيق والسداد، وأرجو من قارئه أن يدعو لي بظهر الغيب والحمد لله أولا وآخرا.
كتاب الصيام
الصوم لغة: الإمساك.
وشرعا: إمساك عن المفطر على وجه مخصوص.
وفرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة.
- متى يجب صوم رمضان:
يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلاثين يوما أو رؤية الهلال.
حكم الصوم الوجوب لقوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } ولما ثبت في الصحيحين: "بني الإسلام على خمس" وذكر منها "صوم رمضان".
الصوم ركن من أركان الإسلام، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، فمن جحد وجوبه فهو كافر إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيد عن العلماء، أما من ترك صومه غير جاحد وجوبه فهو مسام عاص.
ويجب صوم رمضان بأحد الأسباب التالية:
إكمال شعبان ثلاثين يوما.
رؤية الهلال ليلة الثلاثين منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" رواه البخاري.(1/4)
ببلوغ الخبر بالرؤية في حق من بلغه الخبر متواترا أو مستفيضا.
بالحساب للحاسب ولمن صدقه عند م ر إن لم يخالف الرؤية كما سيأتي.
شهادة عدل رواية سواء وقع في القلب صدقه أم لا.
شهادة غير موثوق به كفاسق إن وقع في القلب صدقه.
بحكم القاضي المجتهد عن بين مستنده.
الأمارات الدالة على ثبوته في الأمصار كرؤية القناديل المعلقة بالمنائر وضرب المدافع.
السماع في المذياع أو المرئي (التلفزيون).
ظن دخوله بالاجتهاد عند الاشتباه، وسيأتي في كلامه.
وهذه الأسباب ليست خاصة برمضان بل هي شاملة لبقية الشهور ولا يتميز رمضان إلا في كون دخوله بعدل واحد، وأما ما يعتمدونه في بعض البلدان من أنهم يجعلون ما عدا رمضان من الشهور بالحساب ويبنون على ذلك حل الديون والتعاليق ويقولون اعتماد الرؤية خاص برمضان فخطأ ظاهر.
وأفهم كلام المصنف أنه لا يجب صوم رمضان بقول المنجم ولا يجوز، والحاسب (الميقاتي) وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني.
وفي التحفة: يجوز لهما الصوم لكن لا يجزيهما عن رمضان، واعتمد الخطيب الإجزاء بل اعتمد الرملي تبعا لوالده الوجوب عليهما وعلى من اعتقد صدقهما.
وإن خالف الحساب الرؤية فالعمل عليها لا عليه على كل قول.
وثبوت رؤيته يحصل بعدل، وفي قول عدلان.
تثبت رؤية الهلال في حق من لم يره بشهادة عدل برؤيته سواء كانت السماء مصحية أم لا؛ وإن قال المنجمون إن الحساب القطعي قد دل على عدم إمكان الرؤية خلافا لـ (ق ل) القائل بأنها لا تقبل شهادته حينئذ وحده، لأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رآه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان.(1/5)
وتكون الشهادة بلفظ: أشهد أني رأيت الهلال، ولا يكفي قوله: اشهد أن غدا من رمضان، ولا يكلف ذكر صفة الهلال، ولا محله، نعم إن ذكر محله مثلا وبان الليلة الثانية بخلافه فإن أمكن انتقاله عادة –وإن كان الغالب خلافه- لم يؤثر وإلا علم كذبه فيجب قضاء بدل ما أفطروه برؤيته.
والثبوت هنا بمنزلة الحكم وقياسه أنه لا أثر لرجوع الشاهد بعده كما لا أثر له بعد الحكم.
ومحل ثبوته بعدل إنما هو في الصوم وتوابعه كالتراويح والاعتكاف دون نحو طلاق وأجل علق به نعم إن تعلق بالرائي عومل به.
ولو شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته قال السبكي لا تقبل هذه الشهادة لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية والظني لا يعارض القطعي، والمعتمد قبولها إذ لا عبرة بقول الحاسب كما مر.
ورؤيته الهلال نهارا لليلة المستقبلة لا الماضية فلا نفطر إن كان في ثلاثي رمضان ولا نمسك إن كان في ثلاثي شعبان.
وشرط الواحد صفة العدول في الأصح لا عبد وامرأة.
المراد عدالة الشهادة، فيخرج العبد والمرأة احتياطا للعبادة، نعم يكتفى بالمستور ولا تشترط سلامته من خوارم المروءة ولا ينافيه كونه شهادة لأنهم سامحوا في ذلك كما سامحوا في العدد احتياطا للصوم، وهي شهادة حسبة فلا تحتاج إلى سبق دعوى، والمستور هو من ظاهره التقوى ولم يعدل عند قاض وتقبل شهادة عدلين على شهادته.
وإذا صمنا بعدل ولم نر الهلال بعد ثلاثين أفطرنا في الأصح، وإن كانت السماء مصحية.
إذا دخل رمضان بشهادة عدل ولو مستورا، ولم نر الهلال إلا بعد ثلاثين يوما وجب الإفطار، وأن كانت السماء مصحية أي لا غيم فيها بحيث يمكن رؤية الهلال، لإكمال العدد ثلاثين بحجة شرعية
وهي الشهادة.
- رؤية الهلال ببلد دون آخر:
وإذا رؤي ببلد لزم حكمه البلد القريب دون البعيد في الأصح.
إذا رؤي الهلال في بلد وجب على البلدان القريبة الصوم، كصنعاء وعمران، ولا يلزم البلدان البعيدة في الأصح كصنعاء ومكة.(1/6)
والبعيد مسافة القصر وقيل باختلاف المطالع، قلت هذا أصح والله أعلم.
قلنا بأن البلد البعيد لا يلزمه الصوم، وفي تحديد البعيد وجهان:
الأول: ما يبعد مسافة القصر، وهو ما صححه الرافعي، والنووي في شرح مسلم، لأن الشرع علق بها كثيرا من الأحكام.
الثاني: باختلاف المطالع، وهم ما صححه النووي هنا، ويقصد بذلك كون البلدين على خط طول واحد(1)، وقال (ق ل): "بأن يكون غروب الشمس وطلوعها في البلدين في وقت واحد فإن غرب شيء من ذلك أو طلع في أحد البلدين قبله في الآخر أو بعده لم يجب، وهذا مرجعه إلى طول البلاد وعرضها سواء قربت المسافة أو بعدت، ولا نظر لمسافة القصر وعدمها" لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ولما روى مسلم عن كريب قال رأيت الهلال بالشام ثم قدمت المدينة فقال ابن عباس متى رأيتم الهلال قلت ليلة الجمعة قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقياسا على طلوع الفجر والشمس وغروبهما
قال بعضهم: واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخا وبه أفتى الشهاب الرملي وولده، قال علي السبراملسي: وقدره ثلاثة أيام أي حوالي 130كم أي تحديدا، لكن قال (ق ل): وهذا غير مستقيم بل باطل" وجاء في بغية المسترشدين أن عدن وتعز وصنعاء وزبيد مطلع، وبين صنعاء وعدن قريب الثلاثمائة كيلو.
__________
(1) قال بعض المتأخرين: ومعنى اختلاف المطالع أن يكون طلوع الفجر أو الشمس أو الكواكب أو غروبها في محل متقدما على مثله في محل آخر أو متأخرا عنه وذلك مسبب عن اختلاف عروض البلاد أي بعدها عن خط الاستواء.(1/7)
وإذا ثبت الهلال ببلد عم الحكم جميع البلدان التي تحت حكم حاكم بلد الرؤية، وإن تباعدت إن اتحدت المطالع، وإلا لم يجب صوم ولا فطر مطلقا، وإن اتحد الحاكم ولو اتفق المطلع ولم يكن للحاكم ولاية لم يجب إلا على من وقع في قلبه صدق الحاكم.
وإذا لم نوجب على البلد الآخر فسافر إليه من بلد الرؤية فالأصح أنه يوافقهم في الصوم آخرا.
إذا سافر من بلد الرؤية وقد أكمل صوم رمضان تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما إلى بلد بعيد ووجدهم صائمين فهل يجب عليه الصوم أو لا، وجهان:
الأول: يجوز له الفطر لأنه قد أكمل الشهر ولا يمكننا أيجاب صوم واحد وثلاثين يوما إلا بدليل، ولأنه لزمه حكم البلد الأول فيستمر عليه، وهذا ما انتصر له الأذرعي.
الثاني -وهو الأصح-: يجب عليه موافقتهم في الصوم، وإن كان قد أتم ثلاثين، لأنه بالانتقال على بلدهم صار واحدا منهم فيلزمه حكمهم.
ومن سافر من البلد الآخر إلى بلد الرؤية عيد معهم وقضى يوما.
من سافر من البلد البعيد الذي لم ير فيه إلى بلد الرؤية فإذا هم معيدون عيّد معهم وجوبا لما مر سواء أصام ثمانية وعشرين بأن كان رمضان أيضا عندهم ناقصا فوقع عيده معهم في التاسع والعشرين من صومه أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تاما عندهم، وقضي يوما إن صام ثمانية وعشرين، لأن الشهر لا يكون كذلك بخلاف ما إذا صام تسعة وعشرين لا قضاء عليه، لأن الشهر يكون كذلك.
ومن أصبح معيدا فسارت سفينته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام فالأصح أنه يمسك بقية اليوم.
أي وجوبا لما مر، والوجه الثاني: لا يجب إمساكه، لأنه لم يرد فيه أثر، وتجزئة اليوم الواحد بإمساك بعضه دون بعض بعيد.
فصل: أركان الصوم:
أركان الصوم ثلاثة: نية وإمساك عن المفطرات وصائم.
- النية:
النية شرط للصوم، ويشترط لفرضه التبييت.
النية هي الركن الأول للصوم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" ومحلها القلب، ولا تكفي باللسان ولا يشترط التلفظ بها.(1/8)
ويشترط تبييت النية في صوم الفرض كرمضان أداء وقضاء وكفارة ونذر وصوم استسقاء أمر به الإمام، وهو إيقاع النية في أي جزء من أجزاء الليل من الغروب إلى الفجر لقوله- صلى الله عليه وسلم -- فيما رواه الدارقطني-: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" فقوله- صلى الله عليه وسلم -: "يبيت" دليل لقوله: "ليلا".
وقوله- صلى الله عليه وسلم -: "لا صيام له" أي صحيح كما هو الأصل في النفي من توجهه على الحقيقة خلافا للحنفية فلا يقع صومه عن رمضان، ولا نفل على الأوجه ولو من جاهل، ويفرق بينه وبين نظرائه بأن رمضان لا يقبل غيره، ومن ثم كان الأوجه فيما لو نوى في غير رمضان صوم نحو قضاء أو نذر قبل الزوال انعقاده نفلا إن كان جاهلا.
ولا بد من تبييت النية، فلو نوى قبل الغروب أو مع طلوع الفجر لم يجزه لظاهر الحديث السابق، وكذا لو شك حال النية هل طلع الفجر أو لا.
وتبييت النية لازم لكل يوم، لظاهر الحديث، إذ ظاهره التبييت لكل يوم لعدم المخصص، ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة لتخلل اليومين بما يناقض الصوم كالصلاة يتخللها السلام، فلو نوى ليلة أول رمضان صوم جميعه لم يكف لغير اليوم الأول، لكن ينبغي له ذلك ليحصل له صوم اليوم الذي نسيها فيه عند مالك، كما يسن له أن ينوي أول اليوم الذي نسيها فيها ليحصل له صومه عند أبي حنيفة، وواضح أن محله إن قلد وإلا كان متلبسا بعبادة فاسدة في اعتقاده وهو حرام.
ولو شك نهارا هل نوى ليلا أو لا فإن تذكر قبل الغروب أو بعده صح وإلا فلا.
ولو شك هل وقعت نيته قبل الفجر أو بعده لم يصح لأن الأصل عدم وقوعها ليلا، إذ الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن.
والصحيح أنه لا يشترط النصف الآخر من الليل، وأنه لا يضر الأكل والجماع بعدها.(1/9)
لا يشترط في التبييت أن يكون في النصف الأخر كما هو وجه ضعيف، بل يكفي ولو من أوله، لإطلاق التبييت في الحديث من الليل، ولما فيه من المشقة، كما لا يضر الأكل والجماع بعد النية وقبل الفجر، نعم إن رفض النية قبل الفجر ضر لأنه ضدها.
وانه لا يجب التجديد لها إذا نام ثم تنبه.
إذا نوى ثم نام ثم تنبه قبل الفجر لا يجب عليه تجديد النية، لأن النوم ليس منافيا للصوم.
ويصح النفل بينة قبل الزوال، وكذا بعده في قول.
ذكرنا أنه يشترط تبييت النية في الفرض أما صوم النافلة فلا يشترط ذلك، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوما: هل عندكم من غداء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم.
قالت: وقال لي يوما آخر: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر، وإن كنت فرضت الصوم. رواه الدارقطني وصحح إسناده.
واختص بما قبل الزوال للحديث إذ الغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال، وإن كان هناك قول للشافعي بصحة النية بعد الزوال قياسا على ما قبله.
والصحيح اشتراط حصول شرط الصوم من أول النهار.
ذكر هنا شرط صحة النية قبل الزوال في النفل وهو ألا يسبقها مناف للصوم ككفر وجماع وأكل وجنون وحيض ونفاس وإلا لم يحصل مقصود الصوم وهو خلو النفس عن الموانع في اليوم بكماله.
وخرج بالمنافي للصوم ما لا ينافيه، فلو أصبح ولم ينو صوما ثم تمضمض ولم يبالغ فسبق ماء المضمضة إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع صح، وكذا كل ما لا يبطل الصوم كالإكراه على الأكل والشرب، وما إذا بالغ لإزالة نجاسة فمه أو أنفه فسبقه الماء فإنه لا يضر.
ويجب التعيين في الفرض.
يجب في النية التعيين بأن ينوي كل ليلة أنه صائم غدا من رمضان أو عن نذر أو عن كفارة؛ لأنه عبادة مضافة إلى وقت فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس.
وكماله في رمضان أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى.
أي كمال التعيين أن ينوي هذه النية.
وفي الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى الخلاف المذكور في الصلاة.(1/10)
صحح النووي في الصلاة اشتراط الفرضية دون الأداء والإضافة على الله تعالى، وعبارته هنا تقتضي ذلك، لكنه صحح في المجموع عدم اشتراطها هنا هو المعتمد.
والصحيح انه لا يشترط تعيين السنة.
أي في قوله في كمال النية: "هذه السنة" كما لا يشترط الأداء لأن المقصود منهما واحد.
ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد عن رمضان إن كان منه فكان منه لم يقع عنه إلا إذا اعتقد كونه منه بقول من يثق به من عبد أو امرأة أو صبيان رشداء.
يشترط في النية أن تكون منجزة، فلو علقها بأن نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد إن كان منه وصامه فتبين أنه منه لم يقع عنه فيجب عليه قضاؤه، إلا إذا اعتقد كونه منه تبعا لقول موثوق به ولو كان عبدا أم امرأة أم فاسقا أم صبيا راشد أي مختبرا بالصدق، لأن غلبة الظن هنا كاليقين.
ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان أجزأه إن كان منه.
لأن الأصل بقاء رمضان.
ولو اشتبه صام شهرا بالاجتهاد.
لو اشتبه رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه صام شهرا بالاجتهاد كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت ويكون بأمارة كالربيع والخريف والحر والبرد
فلو صام بلا اجتهاد فوافق رمضان لم يجزه لتردده في النية، ولو تحير لم يلزمه شيء لعدم تيقن دخول الوقت.
فإن وافق ما بعد رمضان أجزأه وهو قضاء على الأصح.
إذا اجتهد المحبوس وصام فوافق رمضان وقع صومه أداء بل وإن نوى قضاء لظنه خروجه، وكذلك إن وافق بعد رمضان وإن نوى الأداء، ويكون في هذه الحالة قضاء في الأصح لوقوعه بعد الوقت، والوجه الثاني: أداء، وفائدة الخلاف ذكرها المصنف بقوله:
فلو نقص وكان رمضان تاما لزمه يوم آخر
فلو نقص الشهر الذي صامه بالاجتهاد، وكان رمضان تاما لزمه صوم يوم آخر بناء على أنه قضاء، ولو قلنا أداء لم يلزمه.
ولو غلط بالتقديم وأدرك رمضان لزمه صومه، وإلا فالجديد وجوب القضاء.(1/11)
ولو اجتهد فغلط بالتقديم أي صام رمضان في رجب مثلا، ثم تبين له غلطه وأدرك رمضان وجب عليه الصوم لأنه وقته، فإن لم يتبين الغلط إلا بعد خروج رمضان وجب عليه القضاء لما فاته لأنه أتى بالعبادة في غير وقتها فلا يجزئه.
ولو نوت الحائض صوم غد قبل انقطاع دمها ثم انقطع ليلا صح إن تم لها في الليل أكثر الحيض، وكذا قدر العادة في الأصح.
لو بيتت الحائض أو النفساء صوم غد فلا تخلو من حالات:
الأولى: أن يتم لها في الليل أكثر الحيض أو النفاس فتجزئ النية، لأنها جازمة بأن غدا كله طهر، سواء انقطع الدم أم لا لأن الزيادة على أكثر الحيض استحاضة وهو لا يمنع الصوم.
الثانية:تم لها قدر العادة ليلا والتي هي دون أكثر الحيض أوالنفاس فيصح لها الصوم بتلك النية أيضا، لأن الظاهر استمرار العادة.
الثالثة: ليس لها عادة ولم يتم لها أكثر الحيض أو النفاس ليلا أو كان لها عادة غير متسقة أو متسقة ونسيت اتساقها ولم يتم أكثر عاداتها ليلا فلا تجزئ نيتها حينئذ لأنها لم تجزم ولا بنت على أصل أو أمارة.
فصل: في بيان المفطرات:
شرط صحة الصوم الإمساك عن الجماع والاستقاءة، والصحيح أنه لو تيقن أنه لم يرجع شيء إلى جوفه بطل، وإن غلبه القيء فلا بأس.
يشترط لصحة الصوم من حيث الفعل الإمساك عن الجماع بالإجماع ولو بغير إنزال.
كما يجب الإمساك عن الاستقاءة وهو طلب القيء كأن يدخل أصبعه في فمه طلبا للقيء فإنه يفطر حتى ولو لم يرجع إلى جوفه شيء بخلاف من غلبه القيء فلا يفطر، لحديث "من ذرعه القيء -أي غلب عليه- وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض" صححه ابن حبان.
هذا إذا كان عالما بالتحريم عامدا مختارا لذلك فإن كان جاهلا لقرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء أو ناسيا أو مكرها فإنه لا يفطر.
وكالقيء التجشي فإن تعمد وخرج منه شيء من معدته إلى حد الظاهر أفطر وإن غلبه فلا.
ولو احتاج للتقيؤ للتداوي بقول طبيب يفطر به.(1/12)
وكذا لو اقتلع نخامة ولفظها في الأصح.
لو اقتلع الصائم النخامة ورماها فلا بأس به، لأن الحاجة إليه تتكرر فرخص فيه.
فلو نزلت من دماغه وحصلت في حد الظاهر من الفم فليقطعها من مجراها وليمجها فإن تركها مع القدرة فوصلت الجوف أفطر في الأصح.
لو نزلت النخامة من الأعلى ووصلت أقصى الفم فوق الحلقوم وهو مخرج الحاء –هذا بالنظر للنخامة لكنه باطن بالنظر للريق- فما بعده باطن فليخرجها ويمجها إن أمكنه ذلك حتى لا يصل شيء على الباطن، فإن تركها مع القدرة على ذلك حتى جاوزت الحد السابق فوصلت الجوف أفطر، فالحاصل أنها لا تفطر إلا بشرطين: وصولها إلى الظاهر ومجها.
وعن وصول العين إلى ما يسمى جوفا.
ويجب الإمساك عن وصل عين وإن قلّت كسمسمة أو لم تؤكل كحصاة إلى ما يسمى جوفا، لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف كحلق ودماغ وباطن أذن وبطن وإحليل ومثانة، وأمعاء وصدر.
خرج بالعين الأثر كالريح بالشم وحرارة الماء وبرودته بالذوق.
ومثل الشم وصول دخان لا عين فيه نحو البخور إلى الجوف وإن تعمد فتح فيه لذلك، لأنه ليس عينا في العرف، وهذا بخلاف الدخان المعروف اليوم فإنه مفطر؛ لأنه عين بدليل ما يتجمد من أثر الدخان في القصبة التي يشرب بها.
ومن الأثر كالبخور: غاز الأكسجين، وبخاخ الأنف والتخدير الجزئي عن طريق الأنف بأن يشم المريض مادة غازية تؤثر على أعصابه فيحدث التخدير فهذا لا يفطر.
وخرج بالجوف التالي:
ما لو داوى جرحه الذي على لحم الساق أو الفخذ فوصل الدواء إلى داخل المخ أو اللحم.
لو غرز في الفخذ أو الساق حديدة كإبر التخدير الصينية فإنه لا يفطر؛ لأنه ليس بجوف.
الحقنة التخديرية والتي تتم بحقن الوريد بعقار معين، لا تفطر.(1/13)
الحقن العلاجية سواء جلدية أم عضلية أم وريدية فإنها جميعها لا تفطر، لأنها لم تصل إلى الجوف، ولا فرق بين المغذية وغيرها، لنفس العلة، إضافة غلى أن التفريق غير واقعي فالإبر غير المغذية ليست مجرد دواء فقط لأنه لا يحقن دواء ما في الوريد بمفرده وإنما لا بد من أن يكون الدواء المحقون ممزوجاً بكمية ولو قليلة من السائل الملحي أو السكري (وهو السائل المغذي) وهذا ينطبق على الإبر الوريدية والعضلية وتحت الجلد.
الحقن التطعيمية كحقن تطعيم الجدري والكوليرا، لا تفطر سواء كانت لراغب في الحج أم لا.
وضع أية قثطرة في عرق من عروق المريض الشريانية أو الوريدية ولو رافقه حقن كمية كثيرة أو قليلة من المحلول الملحي.
الحقن داخل العظم عن طريق إبر خاصة تغرز في العظم يؤدي بالمادة المحقونة إلى الامتصاص مباشرة عبر العروق الدموية للعظم.
غسيل الكلى بواسطة آلة تسمى " الكلية الصناعية " حيث يتم سحب الدم إلى هذا الجهاز , ويقوم الجهاز بتصفية الدم من المواد الضارة ثم يعود إلى الجسم عن طريق الوريد، وفي أثناء هذه الحركة قد يحتاج إلى سوائل مغذية تعطى عن طريق الوريد .
المراهم والدهانات واللاصقات العلاجية والتي توضع على الجلد فيقوم بامتصاصها ببطء، ولا فرق بين أن يكون الجلد سليما أو مصاباً بحيث تزيد نسبة امتصاص المادة عن الحد الطبيعي كما هو الحال في حروق الدرجة الثانية والثالثة وفي التقرحات غير السطحية ونحوها.
عمليات القسطرة:وهي عبارة عن أنبوب دقيق يدخل على المكان المراد علاجه كالشرايين، فإذا وصل إلى الجوف مما ليس جوفا لا يفطر، أما لو أخل مما يسمى جوفا كالبطن فإنه مفطر.
تنظير المفصل والذي يستلزم إدخال المناظر إلى جوف المفصل مع ما يرافق ذلك من حقن سوائل ونحوه.
حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق، ولهذا ويكره تعاطي ما سبق.(1/14)
المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
ودخل تحت قاعدة وصول العين لمسمى جوفا فيفطر به الصائم ما يلي:
منظار المعدة : وهو عبارة عن جهاز طبي يدخل عن طريق الفم إلى البلعوم ثم إلى المريء ثم إلى المعدة ليصوِّر ما في المعدة من قرحة أو استئصال بعض أجزاء المعدة لفحصها أو غير ذلك من الأمور الطبية .
الأقراص التي توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية ، وهي تُمتص مباشرة ويحملها الدم إلى القلب فتتوقف الأزمة المفاجئة التي أصابت القلب، وهذه إذا جاوز جزء منها الحلق أفطر، وإلا فلا، وبما أنه يستحيل عدم وصول شيء إلى الحلق فهي مفطرة.
بزل الجنب (جوف الصدر) إلى الفطر بأن يقوم الطبيب بإدخال إبرة إلى داخل جوف الصدر ثم يقوم بسحب السوائل والأخلاط الفاسدة المتراكمة فيه، وقد يضع بعد ذلك أنبوباً لتفريغ ما يتراكم تباعاً أو لا يحتاج الأمر لذلك. أما الحكم ففيه تفصيل على النحو التالي:
إذا أدخل الطبيب الإبرة أو أنبوب التصريف في جوف الصدر بعلم المريض واختياره (أي موافقته) أثناء الصوم فإن هذا يؤدي إلى الفطر.
إذا وضع الأنبوب قبل الفجر وأراد المريض صيام ذلك اليوم فلا يفطر بذلك بشرط ألا يُحقن فيه دواء أو سائل أو نحوه وبشرط ألا يتم دفع الأنبوب إلى داخل تجويف الصدر أكثر مما كان وقت إدخال الأنبوب لأن حقيقة ذلك إدخال الجزء الذي كان خارجاً فأشبه إدخال شيء جديد إلى الجوف.(1/15)
إذا أُدخل الأنبوب أو الإبرة بعد الفجر في الجوف فإن صومه يفسد، ولكن لو بقي هذا الأنبوب في مكانه لعدة أيام لتصريف الأخلاط المتراكمة وأراد المريض أن يستأنف الصوم في الأيام التالية فإن صومه صحيح بشرط ألا يحقن أي دواء أو سائل في الأنبوب وبشرط ألا يتم دفع الأنبوب وتحريكه إلى داخل أما لو سحب الأنبوب قليلاً إلى الخارج لتعديل وضعيته فيمكن أن يعفى عنه لمكان الضرورة(1).
كل طعام أو دواء أو أداء يدخل عن طريق الفتحات الصناعية الموصلة للأمعاء -بل الجوف مطلقا- سواء أكانت تصل القسم العلوي للجهاز الهضمي (كفتحات المعدة والمعي الدقيق ) أو القسم السفلي منه (كفتحات الكولون ).
الدواء أو السائل ونحوه عبر الفتحات الصناعية الموصلة للمثانة أو الحالب أو الكلية.
غسيل الكلى عن طريق عن طريق الغشاء البريتواني بأن يدخل أنبوب صغير في جدار البطن فوق السرة , ثم يدخل عادة لتران من السوائل تحتوي على نسبة عالية من السكر الجلوكوز إلى داخل البطن , وتبقى في الجوف لفترة ثم تسحب مرة أخرى ويكرر هذا العمل عدة مرات في اليوم.
إحداث فتحة صناعية بين المثانة وجدار البطن لتصريف البول في حالات إنسداد عنق المثانة أو الإحليل إلا إذا أُحدثت فتحة صناعية دائمة أو مؤقتة بين جدار المثانة وجدار البطن في الليل مثلا أو في اليوم الأول بحيث يتم تصريف البول إلى الخارج عبر هذه الفتحة فإن وجود هذه الفتحة بعد ذلك لا يؤدي إلى الفطر، لكن لو تم إدخال قثطرة أو دواء أو سائل عبر هذه الفتحة فإن هذا يؤدي إلى الفطر لوصوله إلى الجوف.
المنظار الشرجي: قد يدخل الطبيب المنظار في فتحة الدبر ليكشف على الأمعاء.
__________
(1) انظر رسالة في المفطرات الطبية العلاجية والتشخيصية، وقد أخذت منه كثيرا من الصور العلاجية والتشخيصيه المعاصرة، ومن كتاب المفطرات المعاصرة للمشيقح.(1/16)
بخاخ الربو، لأنه عين بدليل أنه دواء سائل ، يحتوي على ثلاث عناصر : الماء والأكسجين ، وبعض المستحضرات الطبية، ويحتمل عدم الفطر به تشبيها له بالدخان، والأقرب مذهبا الأول.
وقيل يشترط مع هذا أن يكون فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء.
اشترط بعضهم مع شرط وصل الجوف أن يكون الجوف محيلا للغذاء والدواء؛ لأن ما لا تحيله لا ينتفع به البدن فكان الواصل إليه كالواصل لغير جوف، وردوه بأن الواصل للحلق مفطر مع أنه غير محيل فالحق به كل جوف كذلك.
فعلى الوجهين باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مفطر بالاستعاط أو الأكل او الحقنة أو الوصول من جائفة أو مأمومة ونحوهما.
على الوجهين السابقين يدخل الآتي:
الدماغ -وقوله باطن ليس بشرط- والإفطار فيه بالاستعاط ومنه قطرة الأنف،أو وصول عين كدواء من مأمومة، ومثله دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي، أما وصول الدواء من الجرح الغير النافذ فلا يفطر لأنه لا يكون إلا بتشرب المسام، كما لا يضر اغتساله بالماء وإن وجد أثرا بباطنه، ولا يلزمه أن يميل أذنه ويضع فيها الماء للمشقة.
البطن، والإفطار فيه يكون بالأكل أو وصول عين كدواء من جائفة، ومنه حقن أو غسيل تجويف جدار الصدر، وغسيل الكلى عن طريق الغشاء البريتواني كما سيأتي بيانه.
المثانة، " " " فيها بالاحتقان.والحقنة دواء يجعل للمريض ويصب في دبره ببوصة مثلا للإسهال أي إخراج الرطوبات المنعقدة في المعدة، بل وضع الآلة مفطر وإن لم ينزل الدواء إلى جوفه.
الباطن من فتحة الشرج، فيفطر إذا أدخل جزءا من أصبعه، ومثله الحقن الشرجية المستعملة لتخفيف الحرارة وآلام البواسير.(1/17)
باطن فرج المرأة فتفطر بالتحاميل التي تستخدم عن طريقه، ومثله الغسول أو المنظار المهبلي، أو الإصبع للفحص الطبي، وإدخال اللولب ونحوه إلى الرحم،أما الدواء أو المرهم الذي يضع على الجزء الظاهر من الفرج فلا يضر، وضابط الدخول المفطر أن يجاوز الداخل ما لا يجب غسله في الاستنجاء، بخلاف ما يجب غسله في الاستنجاء فلا يفطر.
والتقطير في باطن الإذن والإحليل مفطر في الأصح.
التقطير في باطن الأذن ولو لم يصل إلى الدماغ، وفي باطن الإحليل وهو مخرج البول من الذكر واللبن من الثدي وإن لم يصل على المثانة ولم يجاوز الحشفة أو الحلمة ومثله ما يدخل في الجسم عبر مجرى الذكر من منظار أو محلول أو دواء فهذا كله مفطر بناء على الوجه الأول، لا على الثاني بناء على اشتراط قوة الإحالة.
وشرط الواصل كونه من منفذ مفتوح، فلا يضر وصول الدهن بتسرب المسام، ولا الاكتحال وإن وجد طعمه بحلقه.
يشترط في الواصل إلى الجوف أن يصل إليه من منفذ مفتوح كالأنف والحلق والقبل والدبر، فقطرة الأنف مفطرة لأنها دخلت من منفذ مفتوح.
وعليه فلا يضر ما يلي:
وصول الدهن إلى الجوف بتسرب المسام.
الدهانات والمراهم واللاصقات العلاجية.
اغتساله بالماء البارد وإن وجد له أثر بباطنه.
الاكتحال ومثله قطرة العين وإن وجد طعمه الكحل أو الدواء بحلقه.
وكونه بقصد فلو وصل جوفه ذباب أو بعوضة أو غبار الطريق أو غربلة الدقيق لم يفطر.
ويشترط في الواصل على الجوف أن يكون بقصد، فلو وصل جوفه نحو ذباب لم يفطر وإن أمكنه اجتناب ذلك بإطباق الفم أو غيره لما فيه من المشقة.
كان ما سبق بيان للمفطرات، وقد نظم بعضهم أصولها فقال:
عشرة مفطرات الصوم فهاكها إغماء كل يوم
إنزاله مباشرة والردة والوطء والقيء إذا تعمده
ثم الجنون الحيض مع نفاس وصول عين بطنه مع راس
- حكم الريق:(1/18)
ولا يفطر ببلع ريقه من معدنه، فلو خرج عن الفم ثم رده وابتلعه أو بل خيطا بريقه ورده إلى فمه وعليه رطوبة تنفصل أو ابتلع ريقه مخلوطا بغيره أو متنجسا أفطر.
لا يفطر الصائم إذا بلع الريق من معدنه الذي ينبع منه وهو الحنك الأسفل تحت اللسان.
أما إذا بلعه من غير معدنه فإنه يفطر ويدخل في هذا الحكم صور:
لو خرج الرق عن الفم ولو إلى ظاهر الشفة ثم رده إليه بلسانه أو غيره وابتلعه.
بل خيطا بريقه ورده إلى فمه كما يعتاد عند الفتل وعلى الخيط رطوبة تنفصل وأبتلعها.
أو ابتلع ريقه حال كونه مخلوطا بغيره الطاهر كأن فتل خيطا مصبوغا تغير بريقه.
أو ابتلع ريقه وهو متنجس بدم خرج من لثته أو أكل شيئا نجسا ولم يغسل فمه في كلتا الحالتين.
ولو جمع ريقه فابتلعه لم يفطر في الأصح.
لو جمع الصائم ريقه ثم ابتلعه لم يفطر لأنه لم يخرج عن معدنه.
- سبق ماء المضمضة والاستنشاق:
ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه فالمذهب أنه إن بالغ أفطر وإلا فلا.
المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء والغسل فلو توضأ الصائم وتمضمض أو استنشق فلا يخلو من حالين:
أن يأتي بالسنة في المضمضة بألا يزيد على ثلاث، وفي الاستنشاق بألا يزيد على ثلاث بلا مبالغة في استنشاق الماء فدخل ماء إلى جوفه، فلا بفطر لأن هذا الدخول تولد من مأمور به وهو سنية المضمضة والاستنشاق بغير اختياره.
أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق ودخل ماء جوفه فإنه يفطر لأن الصائم منهي عن المبالغة كما في الحديث الصحيح: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما.
- حكم بقايا الطعام في الفم:
ولو بقي طعام بين أسنانه فجرى به ريقه لم يفطر إن عجز عن تمييزه ومجه.
لا تخلو الصائم الذي بقي في فمه بقايا طعام من حالات:
أن يجري به ريقه وعجز عن تمييزه ومجه فلا يفطر إذا ابتلعه مع الريق، لأنه معذور فيه غير مقصر.
أن يجري به ريقه ولم يعجز عن تمييزه ومجه فابتلعه أفطر لتقصيره.(1/19)
لم يجر به الريق وابتلعه قصدا أفطر جزما.
- المفطر مكرها:
ولو أوجر مكرها لم يفطر.
لو أوجر الصائم كأن صب ماء في حلقه، وهو مغمى عليه أو نائم، أو أمسك فمه وصب فيه ماء أو طعام مكرها لم يفطر لانتفاء الفعل والقصد، وحكم سائر المفطرات حكم الإيجار.
وإن أكره حتى أكل أفطر في الأظهر، قلت: الأظهر لا يفطر، والله أعلم.
صحح الرافعي أن الصائم لو أكره على الفطر فأكل أو شرب أفطر لأنه يفعله دفعا لضرر نفسه كما لو أكل لدفع ضرر الجوع أي حيث يفطر به.
ولكن صحح النووي أنه لا يفطر لأن حكم اختياره ساقط، ولرفع القلم عنه كما في الحديث الصحيح، فصار فعله كلا فعل، وبه فارق من أكل لدفع الجوع، ولم يفرقوا هنا بين الإكراه بحق وغيره.
ويجري القولان فيما لو أكرهت أو أكره على الوطء وتصحيح النووي أن المكره على ذلك لا يفطر، لكن يتنبه إلى شرط وهو ألا يتناول ما أكره عليه لشهوة نفسه بل لداعي الإكراه لا غير، كما أن بعضهم كـ"عميرة" خص الإكراه هنا بمن يحل له وطؤها كزوجته، بخلاف ما لو أكره على الزنا فإنه يفطر، ولكن اعتمد العزيزي الإطلاق ووجهه بأن عدم الإفطار لشبهة الإكراه على الوطء والحرمة من جهة الوطء.
- حكم الآكل والمجامع ناسيا:
وإن أكل ناسيا لم يفطر إلا أن يكثر في الأصح، قلت الأصح لا يفطر والله أعلم.
إن أكل أو شرب الصائم ناسيا لم يفطر " لحديث الصحيحين: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وفي صحيح ابن حبان وغيره "ولا قضاء عليه ولا كفارة".
وهل يفرق بين الأكل القليل والكثير؟ صحح الرافعي التفريق، فيفطر بالقليل دون الكثير وضابط الكثير ثلاث لقم فما فوق، لأن النسيان مع الكثرة نادر، وكما أبطلنا الصلاة بكثير الكلام ناسيا دون قليله.(1/20)
لكن صحح النووي عدم التفريق بين القليل والكثير لعموم الحديث السابق، والفرق بينه وبين الصلاة أن لها حالا تذكر المصلي أنه فيها فيندر ذلك فيه وإلا كان مقصرا، بخلاف الصوم فليس له حاله مذكرة.
وكالأكل فيما ذكر كل مناف للصوم فعله ناسيا لا يفطر إلا الردة.
أما الجاهل بتحريم الأكل فحكمه كالناسي إذا كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء أي بهذه المسألة وهي حرمة الأكل في نهار رمضان وإن لم يحسنوا غيرها.
والجماع كالأكل على المذهب.
الكلام في الجماع كالكلام فيما مر في الأكل من النسيان والإكراه والجهل.
- إنزال المني في الصوم:
وعن الاستمناء فيفطر به وكذا خروج المني بلمس وقبلة ومضاجعة لا فكر ونظر بشهوة.
ويشترط لصحة الصوم الإمساك عن الاستمناء وهو إخراج المني بغير جماع، فبفطر به مطلقا ولو بحائل
كما يفطر بخروج المني إذا كان بلمس ولو لذكر وقبلة ومضاجعة بلا حائل بأن يباشر شيئا ينقض الوضوء مطلقا أو لا ينقض كمحرم إن كان بشهوة من بدن من ضاجعه أو لمسه؛ لأنه أنزل بمباشرة، وهذا بخلاف ما لو كان بحائل ولو رق، فلو ضم امرأة مع حائل فانزل لم يفطر، قال (سم): والوجه أن محل ذلك ما لم يقصد الضم مع الحائل إخراج المني أما إذا قصد ذلك وانزل فهذا استمناء مبطل.
وحاصل الإنزال أنه إن كان بالاستمناء أي بطلب خروج المني سواء كان بيده أم بيد زوجته أم بغيرهما بحائل أم لا يفطر مطلقا.
وأما إذا كان الإفطار باللمس من غير طلب الاستمناء أي خروج المني فتارة تكون مما تشتهيه الطباع السليمة أو لا، فإن كان لا تشتهيه الطباع السليمة كالأمرد الجميل والعضو المبان فلا يفطر بالإنزال مطلقا سواء كان بشهوة أم لا بحائل أم لا.
وأما إذا كان الإنزال بلمس ما يشتهى طبعا فتارة يكون محرما وتارة يكون غير محرم.
فإن كان محرما وكان بشهوة وبدون حائل أفطر وإلا فلا.
وأما إذا كان غير محرم كزوجته فيفطر الإنزال بلمسه مطلقا بشهوة أو لا بشرط عدم الحائل.(1/21)
وأما إذا كان بحائل فلا فطر به مطلقا بشهوة أو لا(1).
أما إذا أنزل بسبب تفكر أو نظر بشهوة فلا يفطر، بشرط ألا يعلم من نفسه أنه إذا تفكر أو نظر بشهوة أنزل فإذا علم ذلك أفطر، ولا يفطر محتلم إجماعا لأنه مغاوب.
ومن هذا الباب كشف العورة أو غيرها لإجراء الفحص الطبي وله حالات:
أولا: أن يرى الطبيب أو الطبيبة دون لمس العورة لغرض العلاج مراعيا الضوابط الشرعية في كشف العورة فينزل الطبيب، فلا يخلو من حالتين:
أن يعلم من نفسه أنه ينزل بمجرد النظر غالبا فيفطر حينئذ إلا إذا صار الإنزال علة ملازمة له فلا يفطر.
ألا يعلم من نفسه ذلك لكنه انزل لم يفطر، ، والكلام نفسه في الطبيبة.
ثانيا: أن يلمس الطبيب المريض، أو المريض تلمسه الطبيبة فأنزل، فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يلمس الطبيب زوجته، أو المريض زوجته الطبيبة فأنزل الطبيب والمريض، فيفطر بشرط عدم الحائل ولو بلا بشهوة.
الثانية:أن يلمس الطبيب أجنبية، أو المريض تلمسه طبيبة أجنبية، سواء موضع الحاجة أم زيادة عليه، فإذا كان بشهوة وبدون حائل أفطر، وإذا كان بغير شهوة وبدون حائل أو بشهوة مع حائل لا يفطر.
الثالثة: أن يلمس الطبيب ذكرا، أو المريضة تلمسها طبيبة، فلا يفطر، سواء بشهوة أم لا، وبحائل أم لا.
ويقال في الطبيبة أو في المريضة مسها طبيب ما قلناه في الطبيب والمريض، ولا نفرق بين اللامس والملموس، لما سبق في المنهاج في نواقض الوضوء قوله: "والملموس كلامس في الأظهر".
هذا وتحرم القبلة إن حركت شهوته، والأولى لمن لم تحرك شهوته تركها.
- الفصد والحجامة:
ولا يفطر بالفصد والحجامة.
لا خلاف في أنه لا يفطر بالفصد، أما الحجامة فلما في البخاري وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم.
والاحتياط ألا يأكل آخر النهار إلا بيقين.
__________
(1) انظر مشجرة هذا الحاصل في آخر الكتاب.(1/22)
أي لا يفطر غلا بيقين كمعاينة الغروب لقوله- صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وليأمن الغلط.
- الاجتهاد في الإفطار:
ويحل بالاجتهاد في الأصح.
ويجوز للصائم الأكل آخر النهار بما يلي:
بسماع أذان عدل عارف.
بإخبار العدل العارف بالغروب.
بالاجتهاد كأن يعلم أنه يقرأ خمسة أجزاء بين العصر والمغرب فقرأها ثم أفطر، أما بغير اجتهاد فلا يجوز ولو بظن لأن الأصل بقاء النهار.
ويجوز إذا ظن بقاء الليل قلت: وكذا لو شك والله أعلم.
ويجوز له الأكل إذا ظن بقاء الليل، وكذا لو شك في خروجه لأن الأصل بقاؤه، ولو أخبره عدل بطلوع الفجر لزمه الإمساك.
- أكل باجتهاد وبان غلطه:
ولو أكل باجتهاد أولاَ وآخرا وبان الغلط بطل صومه أو بلا ظن ولم يبن الحال صح إن وقع في أوله وبطل في آخره.
لو أكل باجتهاد أول النهار أي قبل الفجر في ظنه، أو آخره أي بعد الغروب في ظنه كذلك ثم بان له خطؤه وأنه أكل نهارا بطل صومه إذ لا عبرة بالظن البيّن خطؤه.
فإن لم يبن شيء من الخطأ والإصابة، أو بان الأمر كما ظنه صح صومه، قال ع ش: والأقرب أنه لا يجب عليه السؤال عما يبين غلطه أو عدمه.
أو بلا ظن ولم يبن الحال صح إن وقع في أوله وبطل في آخره.
لو هجم على الطعام دون اجتهاد أو ظن بلا أمارة فلا يخلو من حالتين:
أن يكون ذلك أول النهار صح صومه لأن الأصل بقاء الليل.
" " " آخر " بطل صومه " " " النهار.
وإن بان الغلط في هاتين الحالتين قضى، أو بان صواب فعله لم يقض.
- طلع الفجر وهو يأكل أو يجامع:
ولو طلع الفجر وفي فمه طعام فلفظه صح صومه.
وكذا لو كان مجامعا فنزع في الحال فإن مكث بطل.
لو طلع الفجر الصادق وفي فمه طعام فرماه ولم ينزل منه شيء لجوفه بعد الفجر لم يفطر ولو سبق إلى جوفه منه شيء دون اختياره.(1/23)
وخرج بقوله: "فلفظه" ما لو أمسكه في فيه فإنه وإن صح صومه لكنه لا يصح مع سبق شيء منه إلى جوفه كما لو وضعه في فيه نهارا فسبق منه شيء إلى جوفه فلا يعذر لتقصيره بإمساكه.
وكذا يصح صومه لو كان عند طلوع الفجر مجامعا فنزع في الحال فلا يفطر وإن أنزل حال النزع أولا لتولده من مباشرة مباحة، لكن يشترط في النزع أن يقصد به ترك الجماع فإن قصد به التلذذ لم يصح صومه، وكذا لو مكث ولم ينزع لم ينعقد صومه وتلزمه الكفارة، أما لو مضى زمن بعد طلوع الفجر وهو مجامع ثم علم به ثم مكث فلا كفارة لأن مكثه مسبوق ببطلان الصوم.
فصل: في شروط الصوم من حيث الفاعل والوقت وكثير من سننه ومكروهاته:
شروط الصوم من حيث الفاعل والزمن:
شرط الصوم الإسلام والعقل والنقاء عن الحيض والنفاس جميع النهار.
شروط صحة الصوم من حيث الفاعل والزمن ما يلي:
الإسلام: فلا يصح الصوم من كافر أصلي أم مرتد، أما قولهم: يجب على المرتد الصوم فمعناه انعقاد سببه في حقه لوجوب القضاء عليه إن عاد إلى الإسلام، أما الكافر الأصلي فليس كذلك، ولهذا قالوا: لو قضاه بعد إسلامه لم ينعقد، وحله في غير اليوم الذي أسلم فيه أما هو فيستحب قضاؤه؟
العقل: أي التمييز، فلا يصح صوم المجنون والصبي غير المميز لفقدان النية، ويصح من المميز.
النقاء عن حيض .
" " نفاس وولادة ولو بلا بلل، ومنها أيضا إلقاء العلقة والمضغة: فلا يصح صومهما بالإجماع، ويحرم عليهما الإمساك بنية الصوم، فلو أمسكتا لا بنية الصوم لم يحرم.
قابلية الوقت، فيخرج العيدان وأيام التشريق.
أما شروط الوجوب فهي:
الإسلام ولو فيما مضى فيدخل المرتد.
البلوغ، فلا يجب على صبي كالصلاة .
العقل فلا يجب على المجنون إلا إذا أثم بمزيل عقله من شراب أو غيره فيجب ويلزمه قضاؤه بعد الإفاقة.
إطاقة الصوم فلا يجب على من لم يطقه حسا أو شرعا لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه أو حيض ونفاس.(1/24)
وقوله: "جميع النهار" قيد في الأربعة، فلو طرأ في أثناء النهار ردة أو جنون أو حيض أو نفاس بطل صومه.
ولو ترك المسلم صوم رمضان مع اعتقاد وجوبه لا يقتل بل يحبس ويمنع الطعام والشراب نهارا لتحصل له صورة الصوم، وربما حمله ذلك على تبييت النية فتحصل له حقيقة الصوم، فإن تركه جاحدا لوجوبه كفر لأنه مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة ما لم يكن جاهلا معذورا لقرب عهده بالإسلام أو نشئه بعيدا عن العلماء.
- النوم المستغرق:
ولا يضر النوم المستغرق على الصحيح.
لا يضر النوم المستغرق لجميع النهار على الصحيح لبقاء أهلية الخطاب فيه، وبهذا فارق المغمى عليه إذا لم يفق لحظة.
- الإغماء:
والأظهر أن الإغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من نهاره.
لا يخلو المغمى عليه في نهار رمضان من حالتين:
الأولى: أن يغمى عليه ويفيق ولو لحظة في النهار فلا يضر، اكتفاء بالنية مع الإفاقة في جزء لأن الإغماء في الاستيلاء على العقل فوق النوم ودون الجنون، فلو قلنا إن المستغرق منه لا يضر كالنوم لألحقنا الأقوى بالأضعف، ولو قلنا: إن اللحظة منه تضر لألحقنا الأضعف بالأقوى، فتوسطنا وقلنا: إن الإفاقة في لحظة كافية، ويدخل في حكم الإغماء المخدر تخديرا كليا.
الثانية: أن يغمى عليه جميع النهار فيضر، أي لا يصح صومه ويجب عليه القضاء.
والفرق بين وجوب قضاء الصوم دون الصلاة تكرر الصلاة بخلاف الصوم، فلو ألزمناه بقضاء الصلاة لشق، كما قلنا في الحائض.
- صوم العيد وأيام التشريق:
ولا يصح صوم العيد وكذا التشريق في الجديد.
يشترط لصحة الصوم قابلية الوقت له، فيصح الصوم في أيام السنة كلها إلا:
يوم العيد: أي الفطر والأضحى للنهي عنه.
أيام التشريق: وهي ثلاثة بعد الأضحى، ولو لمتمتع لما صح في مسلم: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى".
- التطوع يوم الشك:
ولا يحل التطوع يوم الشك بلا سبب.(1/25)
يوم الشك: يحرم صومه -بلا سبب كما سيأتي- ولا يصح لقول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -" رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي، والنهي عن صوم يوم الشك أعظم من النهي عن بقية أيام النصف الثاني من شعبان،لأنه اجتمع فيه أمران: أ،ه يوم الشك ولأنه من النصف الثاني من شعبان
النصف الثاني من شعبان: لا تختص الحرمة بيوم الشك بل يحرم صوم النصف الثاني من شعبان لحديث " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" قال الترمذي حسن صحيح، إلا إذا وصله بما قبله أو صام لسبب مما يأتي.
ولو افطر بعد صومه المتصل بالنصف امتنع عليه الصوم بعده بلا سبب لزوال الاتصال المجوز لصومه، فلو صام الخامس عشر وتاليه ثم أفطر السابع عشر ولو لعذر حرم عليه الثامن عشر.
وله صومه عن القضاء والنذر، وكذا لو وافق عادة تطوعه .
ذكر هنا الأسباب المجوزة للصوم الواقع في النصف الثاني من شعبان بما فيه يوم الشك دون كراهة وهي:
القضاء: فيجوز أن يصوم قضاء لما فاته من الصوم الواجب أو النفل الذي شرع فيه ثم أفسده، نظير ما قالوه في جواز قضاء صلاة النفل في الأوقات المكروهة.
النذر: كأن نذر صوم يوم كذا فوافق يوم الشك.
الكفارة: مسارعة لبراءة ذمته، ولأن له سببا فجاز كالصلاة في الوقت المكروه.(1/26)
موافقة عادة تطوعه: كان اعتاد صوم الإثنين أو صوم يوم وفطر يوم فوافق يوم الشك يوم صومه لحديث الصحيحين: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه" وتثبت عادته بمرة فلو صام في أول شعبان يومين متفرقين ثم أفطر باقيه فوافق يوم الشك يوما لو دام على حاله الأول من صوم يوم وفطر يوم لوقع يوم الشك موافقا موافقا لصوم اليوم صح صومه، ومثله ما لو صام يوما قبل الانتصاف علم أنه يوافق آخر شعبان واتفق أن آخر شعبان حصل فيه شك فلا يحرم صومه لأنه صار عادة له (ع ش) وفي فتاوى (حج) اشتراط عدم تخلل فطر مثل ذلك اليوم الذي اعتاده.
- تعريف يوم الشك:
وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته أو شهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة.
ويوم الشك هو ما توفر فيه أمران:
أن يكون يوم الثلاثين من شعبان.
أن يتحدث جمع من الناس برؤية الهلال، ولم يُعلم من رآه، ولم يشهد به أحد، أو شهد بها غير مقبولي الشهادة: صبيان أو عبيد او فسقة أو نساء وظُن صدقهم ويكفي اثنان من كلٍ، واشترط العدد هنا احتياطا، لكن من اعتقد صدق من أخبره من هؤلاء لزمه الصوم ويقع عن رمضان.
والحاصل: أن يوم الثلاثين تارة يحكم عليه بأنه يوم شك فيحرم صومه، وتارة يحكم عليه بأنه من رمضان فيجب صومه على من اعتقد الصدق أو يجوز لمن ظن الصدق.
وننبه هنا إلى أن الفطر بين الصومين واجب إذ الوصال في الصوم فرضا كان أم نفلا حرام للنهي عنه في الصحيحين، وهو أن يصوم يومين فأكثر بأن يستديم جميع أوصاف الصائمين.
وليس إطباق الغيم بشك.
إذا أطبق الغيم ليلة الثلاثين لا يكون اليوم التالي يوم شك بل هو من شعبان لحديث: "فإن غم عليكم".
- سنن الصوم ومكروهاته:
ويسن تعجيل الفطر على تمر وإلا فماء.
يسن تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس ولو مارا بالطريق ولا تنخرم مروءته به، لحديث الصحيحين: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر".(1/27)
وخرج بتحقق الغروب ظنه باجتهاده فلا يسن تعجيل الفطر، وظنه بلا اجتهاد وشكه فيحرم بهما.
ويكره أن يؤخره إن قصد ذلك ورأى أن فيه فضيلة وإلا فلا يكره.
ويسن أن يكون إفطاره على: رطب فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء لحديث: " كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء" روا الترمذي وحسنه.
وفي (بج) عن (ق ل) ويقدم ماء زمزم على غيره وبعد الماء شيء حلو كزبيب وحلو، ويقدم اللبن على العسل لأنه أفضل منه، ويقدم العسل على غيره، ولم لم يجد إلا الجماع أفطر به، وقول بعضهم لا يسن الفطر عليه محمول على ما إذا وجد غيره.
ويسن تثليث ما يفطر عليه من رطب وغيره لجمعها في الحديث، وتعبير جمع بتمرة محمول على أنه يحصل به أصل السنة.
وتأخير السحور ما لم يقع في شك.
يسن السحور لحديث الصحيحين: "تسحروا فإن في السحور بركة" ويسن تأخيره ما لم يقع في شك في طلوع الفجر للحديث الصحيح الذي أخرجه الطبراني عن أم حكيم: " عجلوا الإفطار و أخروا السحور" فإن تردد في بقاء الليل لم يسن التأخير بل الأفضل تركه لحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
وليصن لسانه عن الكذب والغيبة.
يندب للصائم - من حيث الصوم فلا يبطل صومه به، وإن وجب من جهة أخرى- صون لسانه عن الكذب والغيبة حتى المباحين كالكذب لإصلاح البين والغيبة لتظلّم، بخلاف الواجبين ككذب لإنقاذ مظلوم وذكر عيب خاطب .
ويثاب على صونه لسانه ثوابين: ثواب الواجب من حيث وجوب صون اللسان عن المحرمات، وثواب المندوب من حيث الصوم.
كما يندب أن يصون جميع جوارحه عن كل محرم لحديث البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
والغيبة المحرمة ونحوها تبطل ثواب الصوم، لا أصل الصوم وحديث: "خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة" باطل كما في المجموع.
ونفسه عن الشهوات.(1/28)
يستحب أن يصون الصائم نفسه عن الشهوات التي لا تبطل الصوم من المشمومات والمبصرات والملموسات والمسموعات، كشم الرياحين والنظر إليها، لما فيها من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم.
ويستحب أن يغتسل عن الجنابة قبل الفجر.
يستحب أن يغتسل عن الجنابة والحيض والنفاس قبل الفجر ليكون على طهر من أول الصوم، ولئلا يصل الماء إلى باطن أذنه أو دبره، ولا يفهم من هذا أن وصوله لذلك مفطر بل يجمل هذا على مبالغة منهي عنها أو نحوها كما قلنا في المضمضة والاستنشاق.
وأن يحترز عن الحجامة والقبلة وذوق الطعام والعلك.
ويسن أن يحترز عما يلي:
الحجامة والفصد له ولغيره ونحوهما كالتبرع بالدم وأخذ شيء من الدم للتحليل وهو أخف من الحجامة، لأن ذلك يضعف الصائم فهو خلاف الأولى كما في المجموع وإن جزم في أصل الروضة بكراهتها.
القبلة المكروهة السابق ذكرها، وكررهها هنا لكثرة الابتلاء بها.
ذوق الطعام وغيره: يكره خوفا من وصوله إلى حلقه، إلا إن احتاج إلى مضغه لطفل، أو لإصلاح الطعام لم يكره.
العَلك: ويكره لأنه يعطش، ومحله في علك لم تنفصل منه عين بأن مضغ قبل ذلك حتى ذهبت رطوبته أو مضغ وفيه عين لكن لم يبتلع من ريقه المخلوط شيئا، فإن تيقن وصول عين عمدا على جوفه أفطر، وحينئذ يحرم مضغه، بخلاف ما إذا شك فلا يفطر.
وأن يقول عند فطره: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
ويستحب أن يقول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك افطرت" عقب فطره أخذا من قوله: "وعلى رزقك أفطرت" رواه أبو داود مرسلا، وروى أبو داود والنسائي أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حينئذ اللهم ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى"قال الدارقطني إسناده حسن.
وأن يكثر الصدقة وتلاوة القرآن في رمضان وأن يعتكف لا سيما في العشر الأواخر منه.
ويستحب إكثار الصدقة في رمضان لأن الحسنات مضاعفة فيه.(1/29)
وإكثار تلاوة القرآن في كل مكان غير نحو الحش حتى الحمام (البخار) والطريق إن لم يلته عنها بأن أمكنه تدبرها، والتلاوة في المصحف أفضل وإن قوي حفظه؛ لأنه يجمع فيه بين النظر في المصحف والقراءة، ومحله ما لم يذهب خشوعه وتدبره بقراءته في المصحف وإلا فلا يكون افضل.
ويسن استقبال القبلة والجهر إن أمن الرياء ولم يشوش على نحو مصل أو نائم
كما تسن مدارسته بأن يقرأ على غيره ويقرأ عليه غيره ما قراه أولا، لأن حقيقة المدارسة ان يقرأ الثاني ما قرأه الأول، أما القراءة المشهورة الآن فهي إدارة لا مدارسة.
ودليل سنية المدارسة ما في الصحيحين أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.
قال الشاطبي:
وكل عام على جبريل يعرضه وقيل آخر عام مرتين قرا
كما يستحب أن يعتكف كثيرا في رمضان، لأنه أقرب لصون النفس وتفرغها للعبادة لا سيما في العشر الأواخر منه فيتأكد له إكثار الثلاثة المذكورة للاتباع ورجاء مصادفة ليلة القدر.
ويسن أن يمكث معتكفا إلى صلاة العيد وأن يعتكف قبل دخول العشر بان يدخل المسجد قبل غروب الحادي والعشرين ويخرج منه بعد الغروب ليلة العيد، ويسن اعتكاف يوم قبل العشر لاحتمال النقص فيحصل له فضل ذلك اليوم.
فصل: في شروط وجوب صوم رمضان وما يبيح ترك صومه.
شرط وجوب صوم رمضان: العقل والبلوغ وإطاقته.
يشترط لوجوب صوم رمضان شروط:
الإسلام: فلا يجب على كافر أصلي.
العقل: فلا يجب على مجنون لرفع القلم عنه، ومغمى عليه وسكران تعدى بسكره.
البلوغ: فلا يجب على صبي لرفع القلم عنه.
الإقامة: " " " مسافر.
إطاقة الصوم: فلا يجب على:
من لا يطيقه حسا: كعاجز بمرض لا يرجى برؤه، أو كبر.
" " " شرعا: كحائض ونفساء، ووجوب القضاء عليهما، وعلى المريض والمسافر والسكران والمغمى عليه إنما هو بأمر جديد.
ويؤمر به الصبي لسبع إذا أطاق.(1/30)
يجب على الولي أن يأمر الصبي ذكرا أم أنثى بالصوم إذا أطاقه وميّز، ويضربه وجوبا على تركه لعشر كالصلاة.
صوم المريض:
ويباح تركه للمريض إذا وجد به ضررا شديدا.
لا يخلو المريض من حالات ثلاث:
أن يصعب عليه الصوم أو خاف حصول مشقة شديدة –وهي ما تبيح التيمم-: يباح له الفطر.
أن تتحقق المشقة الشديدة أو غلبت على ظنه حرم الصوم ووجب الفطر، كما إذا انتهى به الأمر على الهلاك.
أن يكون المرض يسيرا بان لم يحصل منه مشقة تبيح التيمم كصداع ووجع أذن أو سن لم يجز الفطر إلا أن يخاف الزيادة بالصوم، فللمريض ثلاثة أحوال:
إن خاف –أي توهم- ضررا يبيح التيمم كره له الصوم وجاز الفطر.
أن يتحقق الضرر المذكور ولو بغلبة ظنه، أو انتهى به العذر إلى الهلاك أو ذهاب منفعة عضو حرم عليه الصوم ووجب عليه الفطر، فإن صام صح صومه مع الإثم.
أن يكون المرض خفيفا: حرم الفطر ووجب الصوم،لأن الزيادة للمرض الخفيف لا تؤثر.
ثم المرض إن كان مطبقا فله ترك النية، وغلا بأن كان يحم وقتا دون وقت فإن كان محموما وقت الشروع أي وقت صحة النية جاز له تركها، وإلا فعليه أن ينوي، فإن عاد المرض واحتاج إلى الإفطار أفطر.
ولمن غلب عليه الجوع والعطش حكم المريض، ومنه الحصاد والبناء لنفسه أو لغيره تبرعا أو بأجرة، خاف على المال إن صام -فتعذر عليه العمل نهارا- وتعذر العمل ليلا أو لم يغنه فيؤدي لتلفه أو نقصه نقصا لا يتغابن الناس به.
ويلحق بالحصادين في ذلك سائر أرباب الصنائع المشقة، ولا فرق بين المالك والأجير الغني وغيره والمتبرع.
فيجب على الحصادين ونحوهم تبييت النية في رمضان كل ليلة ثم من لحقه منهم مشقة شديدة أفطر، وإلا فلا، وهل المشقة الشديدة مضبوطة بما تبيح التيمم؟ قياس طريقة (م ر) انه مضبوطة بذلك، وقال (ع ش): وظاهره وإن لم تبح التيمم كما يفهم من قول (حج).(1/31)
ولو توقف كسبه لنحو قوته المضطر إليه هو أو ممونه على فطره فظاهر أن له الفطر لكن قدر الضرورة، قاله (حج) وأقرّه (ع ش).
وللمسافر سفرا طويلا مباحا.
يباح للمسافر الفطر لكن بشرطين:
أن يكون طويلا: أي مسافة قصر وهي 88كم.
" " مباحا: فيخرج سفر المعصية، لأن الرخص لا تناط بالمعاصي.
أما أيهما أفضل؟ فالفطر أفضل إن تضرر، وإلا فالصوم، ولا فرق في ذلك بين من يديم السفر أو لا.
وهذا في صوم رمضان المؤدى أما القضاء الذي على الفور فالأصح أنه لا يباح له فطره في السفر.
ومن نذر صوم شهر رمضان فسافر فيه لا يباح له الفطر عند (مر) تبعا للبغوي، وجوز له الفطر (حج) و (خط) تبعا للقاضي حسين شيخ البغوي.
ولا يباح الفطر حيث لم يخش مبيح تيمم لمن قصد بسفره محض الترخص، لكن قال (مر): ينبغي أن يباح الفطر لمن شق عليه الصوم حضرا لنحو مزيد حر فسافر ليترخص بالفطر لدفع مشقة الصوم حضرا وقصد القضاء إذا اعتدل الزمن.
ويشترط في حل الفطر بالعذر قصد الترخص فيأثم إذا لم ينو ذلك، ليتميز الفطر المباح من غيره.
وكذا يجب الترخص في حل ترك النية قبيل الفجر لنحو المريض فإن تركها بدون قصد الترخص حتى طلع الفجر ثم أراد الفطر فالوجه –كما قال (مر)- أنه لا بد من قصد الترخص ليجوز له ترك الإمساك.
ولو أصبح صائما فمرض أفطر، وإن سافر فلا.
لو أصبح المقيم صائما فمرض أفطر لوجود المبيح للإفطار.
أما إذا سافر المقيم فلا يجوز له الإفطار، لأنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر فغلّب جانب الحضر لأنه الأصل.
ولو نوى وسافر ليلا فإن جاوز قبل الفجر ما اعتبر مجاوزته في صلاة المسافر أفطر وإلا فلا .
ولو أصبح المريض والمسافر والمريض صائمين ثم أرادا الفطر جاز.
أي الفطر بلا كراهة لدوام عذرهما.
فلو أقام وشفي حرم الفطر على الصحيح.
لو أقام المسافر الذي نوى وشفي المريض كذلك قبل أن يتناولا مفطرا حرم عليهما الفطر، لانتفاء المبيح.
- من يجب عليه قضاء ما فاته:(1/32)
وإذا أفطر المسافر والمريض قضيا، وكذا الحائض والمفطر بلا عذر، وتارك النية، ويجب ما فات بالإغماء والردة دون الكفر الأصلي والصبا والجنون.
يجب على من فاته صوم رمضان قضاؤه وهم:
المسافر.
المريض إذا أفطرا، لقوله تعالى: { ومن كان مريضا أو على سفر } أي فأفطر { فعدة من أيام أخر }
الحائض.
النفساء، للإجماع فيهما.
المفطر بلا عذر، لأنه إذا وجب على المعذور فغيره أولى.
تارك النية: سواء تركها عمدا أم سهوا، لأنه لم يصم إذ صحة الصوم متوقفة عليها، وإنما لم يؤثر الأكل ناسيا لأنه منهي عنه والنسيان يؤثر فيه، بخلاف النية فإنها مأمور بها والنسيان لا يؤثر فيه.
المغمى عليه: أي الذي لم يستيقظ لحظة كما مر،وإن لم يتعد به، لأنه مرض فاندرج تحته.
الردة: يجب قضاء ما فات بالردة إذا عاد على الإسلام، لأنه التزم الوجوب بالإسلام وقدر على الأداء.
السكران: فيجب على السكران قضاء ما فات بالسكر.
ولا يجب قضاء رمضان على الفور، إلا إن ضاق الوقت أو تعدى بالفطر كأن أفطر بلا عذر.
ولا يجب قضاء ما فات بما يلي:
الكفر الأصلي: للإجماع وترغيبا له في الإسلام، فلو خالف وقضاه لم ينعقد.
الصبا.
الجنون: لرفع القلم عنهما، إلا إذا تعدى بالجنون كأن شرب دواء يزيل العقل حال كونه عالما عامدا مختارا فيلزمه حينئذ القضاء لتعديه.
وإذا بلغ بالنهار صائما وجب إتمامه بلا قضاء، ولو بلغ فيه مفطرا أو أفاق أو أسلم فلا قضاء في الأصح.
إذا بلغ الصبي أو الصبية في نهار رمضان فلا يخلو من حالتين:
أن يكون صائما: فيجب عليه إتمام الصوم، بلا قضاء؛ لأنه صار من أهل الوجوب، قال (عش): ويثاب على ما فعله في زمن الصبا ثواب المندوب، وما فعله بعد البلوغ ثواب الواجب، لأن الصوم وإن كان خصلة واحدة لا تتبعض لكن الثواب المترتب عليها يمكن تبعيضه.
أن يكون مفطرا: لم يجب عليه القضاء.(1/33)
كما لا يجب القضاء على من أفاق من الجنون أو أسلم الكافر في نهار رمضان وهما مفطران، ولا يجب عليهما القضاء، لعدم التمكن من زمن يسع الأداء والتكميل عليه لا يمكن، فهو كمن أدرك من أول الوقت ركعة ثم جن.
ولا يلزمهم إمساك بقية النهار في الأصح.
لا يلزم هؤلاء الثلاثة الثلاثة الإمساك بقية النهار في الأصح؛ لأنهم أفطروا لعذر فأشبهوا المسافر والمريض، لكن يستحب لحرمة الوقت خروجا من الخلاف.
ويسن لمن زال عذره إخفاء الفطر عند من يجهل حاله لئلا يتعرض للتهمة والعقوبة.
من يلزمه الإمساك رغم فطره:
ويلزم من تعدى بالفطر أو نسي النية.
يلزم الإمساك بقية النهار من يلي:
من تعدى بالفطر: :كأن ارتد، أو أكل؛ عقوبة له ومعرضة لتقصيره.
من نسي النية من الليل: لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة فهو ضرب من التقصير.
من ظن بقاء الليل فأكل ثم بان خلافه.
لا مسافرا أو مريضا زال عذرهما بعد الفطر.
ولا يلزم الإمساك معذورين إذا زال عذرهما بعد أن أفطرا كأن أقام المسافر أو شفي المريض، لأن زوال العذر بعد الترخص لا أثر له وهم كما يلي:
المسافر.
المريض.
الحائض.
النفساء.
من أفطر لعطش أو جوع خشي منه مبيح تيمم.
ويسن لهم الإمساك، فإن أكلوا سن لهم إخفاؤه لئلا يتهموا، وحل هذا فيمن يخشى عليه ذلك دون من ظهر سفره أو مرضه.
ولو زال قبل أن يأكلا أو ينويا ليلا فكذا في المذهب.
ولو زال عذر المسافر والمريض قبل أن يأكلا أو يتناولا مفطرا، لكنهما لم ينويا الصيام من الليل، فلا يلزمهم الإمساك، لأن تارك النية مفطر حقيقة، فكان كمن أكل.
أما إذا نويا ليلا فيلزمهما إتمام صومهما.
والأظهر أنه يلزم من أكل يوم الشك ثم ثبت كونه من رمضان.
من أكل يوم الشك ثم بان أنه من رمضان فيلزمه الإمساك، لأنه صوم واجب عليه إلا أنه جهله، فإذا بان له لزمه الإمساك.(1/34)
أما إذا لم يأكل فيمسك من باب أولى، وندب له نية الصيام خروجا من خلاف أبي حنيفة القائل بوجوبها حينئذ إذا كان قبل الزوال، ولا يجزئه هذا عن صيام ذلك اليوم، إلا إن قلد أبا حنيفة.
ويثاب من وجب عليه الإمساك على إمساكه لا على صومه، لأنه غير محسوب له، وتثبت له أحكام الصائمين، فيشرع له ما يشرع للصائم من السنن والآداب.
ويوم الشك هنا هو يوم ثلاثين شعبان وإن لم يتحدث فيه برؤية.
وإمساك بقية اليوم من خواص رمضان بخلاف النذر والقضاء.
ووجوب الإمساك إنما هو من خواص رمضان بخلاف ما لو نذر صوم يوم، أو أراد قضاء يوم عليه ثم أفطر فلا يلزمه الإمساك، لانتفاء شرف الوقت، ولذا لم تجب في إفسادهما كفارة.
فصل: في فدية الصوم الواجب:
- من مات قبل التمكن من القضاء:
من فاته شيء من رمضان فمات قبل إمكان القضاء فلا تدارك له ولا إثم.
من فاته شيء من رمضان لم يصمه لعذر كمرض أو سفر مباح واستمر العذر إلى موته بأن مات في رمضان أو قبل غروب ثاني العيد، أو زال عذره وحدث به عذر آخر قبل فجر ثاني شوال فلم يتمكن من القضاء، فلا تدارك لهذا الفائت بالفدية ولا بالقضاء لعدم تقصيره، وليس عليه إثم، لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج.
ولا يشكل على هذا الشيخ الهم إذا مات قبل التمكن، لأن واجبه أصالة الفدية بخلاف هذا.
- من مات بعد التمكن من القضاء ولم يقض:
وإن مات بعد التمكن لم يصم عنه وليه في الجديد بل يخرج من تركته لكل يوم مد طعام، وكذا النذر والكفارة.
أما إذا مات بعد التمكن من القضاء ولم يقض، بأن كان عليه يوم مثلا، وتمكن من قضائه ثاني العيد ولم يفعل ومات في اليوم الثالث، فللشافعي فيه قولن:
الأول: وهو الجديد من قولي الشافعي أنه لا يصوم عنه وليه، وعلل بأنه عبادة بدنية لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك بعد الموت كالصلاة، وأن الواجب إخراج مد طعام عن كل يوم من تركته، ولا فرق في هذا القسم أن يفوته بعذر أو بغيره.(1/35)
وذات الحكم يقال إذا نذر بصوم يوم أو أيام، أو كان عليه كفارة كصو ثلاثة أيام كفارة يمين وتمكن من صومها ولم يفعل يجب إخراج مد طعام عن كل يوم.
ولا يجوز للأجنبي الإطعام عنه، لأنه بدل عن بدني محض بخلاف الحج.
واحترز بقول: "إن مات" عن الحي الذي تعذر صومه لمرض ونحوه فلا يصام عنه بلا خلاف.
الثاني: وهو القديم من قولي الشافعي أنه يجوز أحد أمرين: أن يصوم عنه وليه، أي يجوز له ذلك بل يندب له، كما يجوز له الإطعام أيضا، عن رمضان أو النذر والكفارة.
وعلى القولين لا بد من التدارك سواء كان بعذر أم بغيره.
قلت القديم هنا أظهر.
اعتمد النووي ترجيح القديم، وقد نص عليه في الجديد أيضا فقال: عن ثبت الحديث قلت به، وقد ثبت من غير معارض ففي الصحيحين: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" .
قال المصنف: وليس للجديد حجة من السنة والخبر الوارد بالإطعام ضعيف ومع ضعفه فالإطعام لا يمتنع عند القائل بالصوم كما سبق.
والولي كل قريب على المختار.
والولي الذي يصوم عنه هو: كل قريب للميت، بأي قرابة كان وإن لم يكن عاصبا ولا وارثا ولا ولي مال على المختار من احتمالات للإمام الجويني لما في خبر مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة قالت له: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟:صومي عن أمك.
ويشترط أن يعرف نسب القريب من الميت، ويعد في العادة قريبا له، واشترط (مر) بلوغه تبعا للزركشي.
ولو كان عليه ثلاثون يوما أو أكثر فصامها أقاربه أو مأذون لهم –كما سيأتي- في يوم واحد أجزأت.
وظاهر كلام المصنف أنه لا يلزم الولي صيام ومحله إن كان غير وارث أو حيث لا تركة، فإن كان وارثا وهناك تركة لزمه أحد أمرين: الإطعام والصوم بنفسه أو من أذن له بالصوم بأجرة أو غيرها، وتدفع من التركة، إلا إن زادت الأجرة على الفدية اعتبر رضا الورثة في الزائد لعدم تعين الصوم.(1/36)
ولو قال أحد الورثة: أنا أصوم وآخذ الأجرة جاز إذا رضي بقية الورثة بصومه واستأجروه هم أو الوصي لذلك.
وإن تنازعوا بأن قال كل واحد: "لا أصوم" قسمت الأمداد بينهم على قدر إرثهم، إذا لم يكن هناك من الأقارب إلا الورثة، وامتنع غير الورثة من الصوم.
ولو قال بعضهم: نصوم، وقال بعضهم: نطعم، أجيب من دعا إلى الإطعام.
ولو صام أجنبي بإذن الولي صح، لا مستقلا على الأظهر.
لو صام أجنبي بإذن الميت بأن يكون أوصاه به أو بإذن الولي صح صومه ولو بأجرة قياسا على الحج، وهي عند استئجار الوارث من رأس المال، هذا إذا كان الوارث حائزا أما إن كان غير حائز واستأجر بإذن الورثة فكذلك، وإلا كان ما زاد على ما يخصه تبرعا منه.
فالوارث مخير بين: إخراج الفدية، والصوم والاستئجار، والولي غير الوارث مخير بين: الصوم والاستئجار فقط.
وخرج بقوله: "بإذن الولي" ما لو أذن الأجنبي المأذون له لأجنبي آخر فلا يعتد بإذنه.
أما لو صام الأجنبي مستقلا أي بغير إذن الميت أو الولي فلا يجزئ في الأصح، لأنه لم يَرد في جوازه دليل.
ولو امتنع الولي من الإذن ولم يصم ولم يطعم، أو لم يتأهل كما لو كان صبيا أو مجنونا، أو لا يوجد قريب أصلا، لم يأذن الحاكم على ما استوجهه (حج) و (خط) خلافا لـ(مر) قال (حج) و (خط): لأنه على خلاف القياس، بل إن كانت تركة تعين الإطعام وإلا لم يجب شيء.
ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يفعل عنه ولا فدية، وفي الاعتكاف قول، والله أعلم.
بما أن إخراج الفدية أو القضاء عن الميت خاص بالصوم، اقتصرنا عليه، فلا فدية وليس على الولي قضاء الصلاة أو الاعتكاف الفائتين، وإن كان في الصلاة قول للشافعي أنها تفعل عنه أوصى بها أم لا، وكذلك له في الاعتكاف قول أنه يعتكف عنه قياسا على الصوم، لأن كلا منهما كف ومنع، وفي رواية عن الشافعي أنه يطعم عنه وليه عن كل يوم بليلته مدا.
- فدية من أفطر لكبر أو مرض:
والأظهر وجوب المد على من أفطر لكبر.(1/37)
من أفطر لعذر كِبَر أو مرض لا يرجى برؤه بقول أهل الخبرة من الأطباء، بأن يلحقه بالصوم مشقة شديدة لا تطاق عادة وجب عليه إخراج مد عن كل يوم، لأن هذا جاء عن جمع من الصحابة ولا مخالف لهم.
وفارق المريض المرجو البرء والمسافر بأنهما يتوقعان زوال عذرهما.
وخرج بقوله: "أفطر" ما لو تكلف وصام فلا فدية، فالمعذور مخاطب بالمد ابتداء، ولو أخرج المد ثم قدر بعد الفطر على الصوم لم يلزمه القضاء.
- فدية الحامل والمرضع إذا أفطرتا ومن ألحق بهما:
وأما الحامل والمرضع فإن أفطرتا خوفا على نفسهما وجب القضاء بلا فدية، أو على الولد لزمتهما الفدية في الأظهر.
لا تخلو المرضع والحامل من حالتين:
الأولى: أن تفطرا خوفا على نفسيهما، فيجب –حينئذ- عليهما القضاء ولا فدية، لأن الخوف على النفس في معنى المرض..
الثانية: أن يخافا على الجنين بأن تخاف إسقاطه أو الرضيع بأن يقل اللبن فيتضرر الولد بمبيح تيمم مع خوفهما على نفسيهما أو بدونه، فيجب القضاء وتلزمهما الفدية من مالهما، وإن كانت مسافرتين أو مريضتين، فوجب به أمران كالجماع لما حصل به مقصود الرجل والمرأة وجب به أمران: القضاء والكفارة.
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية } أنه نسخ حكمه إلا في حقهما حينئذ والناسخ له قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } والقول بنسخه قول أكثر العلماء.
والأصح أنه يلحق بالمرضع من أفطر لإنقاذ مشرف على هلاك.
يلحق بالمرضع في إيجاب الفدية مع القضاء من أفطر لإنقاذ آدمي معصوم أو حيوان محترم مشرف على الهلاك بغرق أو غيره فيجب عليه الفطر إذا لم يمكنه تخليصه إلا بفطره.(1/38)
والجامع أنه فطر ارتفق به شخصان وهو حصول الفطر للمفطر والخلاص لغيره أي الغريق والمفطر وارتفاق المفطر تابع لارتفاق الغريق كما في المرضع، فلو أفطر لتخلص مال لا فدية عليه، لأنه لم يرتفق به إلا شخص واحد ولا يجب الفطر لأجله بل هو جائز
بخلاف الحيوان المحترم فإنه يرتفق بالفطر شخصان.
لا المتعدي بفطر رمضان بغير جماع.
المتعدي بفطر رمضان بغير جماع لا يلحق بالحامل والمرضع في لزوم الفدية مع القضاء في الأصح بل يلزمه القضاء فقط لأنه لم يرد في الفدية توقيف والأصل عدمه.
- تأخير قضاء رمضان حتى دخول رمضان آخر:
ومن أخر قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد.
لا يخلو من ترك رمضان أو شيئا منه من حالتين:
الأولى: أن يتركه بعذر: فإن أخر قضاء رمضان أو شيئا منه مع إمكانه بأن لم يكن له عذر من سفر أو غيره حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد بمجرد دخول رمضان، دليل ذلك أن ستة من الصحابة قالوا بذلك ولا مخالف لهم فصار إجماعا سكوتيا.
ويأثم بهذا التأخير، أما من نسي القضاء أو جهل حرمة التأخير –وإن كان مخالطا للعلماء لخفاء ذلك- حتى دخل رمضان آخر فيسقط عنه الإثم والفدية على معتمد: (م ر) و (حج) لأن كل من الجهل والنسيان عذر مطلقا، وقال (خط): يسقط عنه الإثم فقط لا الفدية.
فإن لم يمكنه القضاء لاستمرار عذره كأن استمر مسافرا أو مريضا أو المرأة حاملا أو مرضعا حتى دخل رمضان فلا فدية عليه بهذا التأخير، لأن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى.
وعلم منه أنه متى تحقق الفوات وجبت الفدية ولو لم يدخل رمضان، فلو كان عليه عشرة أيام فمات لبواقي خمس من شعبان لزمه لزمه خمسة عشر مدا عشرة لأجل الصوم وخمسة للتأخير، لأنه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة.(1/39)
ووجوب الفدية هنا للتأخير، ولا يجزئ الصوم عن مد التأخير، لأن المد ليس بدلا عن الصوم، وفدية الشيخ الهرم ونحوه لأصل الصوم، وفدية المرضع والحامل لتفويت فضيلة الوقت.
الثانية: أن يتعدى بفطره أي يتركه بغير عذر: وهذا يحرم تأخير بعذر السفر، وتجب الفدية.
والأصح تكرره يتكرر السنين.
يتكرر المد الذي لم يُخرج بتكرر السنين، فلو مضى عليه رمضانان وجب مدان وهكذ، لأن الحقوق المالية لا تتداخل، وكذا إن أخرجها ثم لم يقض حتى دخل رمضان آخر وجبت ثانيا.
وأنه لو أخر القضاء مع إمكانه فمات أخرج من تركته لكل يوم مدان: مد للفوات ومد للتأخير.
لو أخر رمضان مع إمكان قضائه ولم يقضه حتى دخل رمضان آخر فمات، أخرج عنه لكل يوم مدان: مد لفوات الصوم ومد لتأخير القضاء، لأن كلا منهما موجب عند الانفراد فكذا عند الاجتماع.
- مصرف الفدية وجنسها:
ومصرف الفدية الفقراء والمساكين.
مصرف الفدية هو الفقراء والمساكين فقط دون بقية الأصناف الثمانية الآتية في قسم الصدقات لقوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } والفقير أسوأ حالا منه فإذا جاز صرفها إلى المسكين فالفقير أولى ولا يجب الجمع بينهما.
وله صرف أمداد إلى شخص واحد.
لأن كل يوم عبادة مستقلة فالأمداد بمنزلة الكفارات بخلاف المد الواحد فإنه لا يجوز صرفه إلى شخصين لأن كل مد فدية تامة وقد أوجب الله تعالى صرف الفدية إلى الواحد فلا ينقص عنها.
وجنسها جنس الفطرة.
وجنس الفدية هو جنس الفطرة، وهو القوت المعشر من غالب قوت البلد.
فصل: في موجب كفارة الصوم:
تجب الكفارة بإفساد صوم يوم من رمضان بجماع أثم به بسبب الصوم.(1/40)
تجب الكفارة والتعزير –وسيأتي بيانهما- على كل مكلف أفسد على نفسه صوم يوم من رمضان بجماع أثم به بسبب الصوم بلا شبهة، والدليل ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت امرأتي في رمضان... وسيأتي بتمامه.
وجملة الشروط سبعة عشر شرطا:
أنها على الواطئ فخرج المرأة الموطوءة والرجل الموطوء.
وطء: فخرج غيره كالأكل والشرب والاستمناء والمباشرة فيما دون الفرج المفضية على الإنزال فلا كفارة به.
بجميع الحشفة أو قدرها من مقطوعها: فخرج إدخال بعضها، فلا كفارة لعدم فطره به.
عامدا: فخرج الناسي.
مختارا: فخرج المكره.
عالما بالتحريم: فخرج جهله لقرب عهده بالإسلام أو نشئه بمكان بعيد عن العلماء، فلا كفارة عليه لعدم فطره.
في الفرج سواء في القبل أم الدبر ولو من بهيمة، ولو مع وجود خرقة لفها على ذكره، وسواء كان الوطء بنكاح أم شبهة نكاح أم زنا: وخرج الوطء فيما دونه.
أن يكون صوم نفسه: فخرج المفطر إذا جامع زوجته النائمة.
أن ينفرد الوطء: فخرج ما إذا أفسده بالوطء وغيره معا.
في نهار رمضان: فخرج غيره كصوم نذر أو كفارة، لأن ذلك من خصوص رمضان.
يقينا –أي ظنا مستندا على رؤية، لأن الشارع أقام خبر العدل مقام اليقين- وخرج به: الوطء في أوله إذا صامه بالاجتهاد ولم يتحقق أنه منه أما لو تحقق أنه منه لزمته الكفارة، أو في صوم يوم الشك حيث أجزناه بأن أخبره موثوق به برؤية الهلال فصام اعتمادا على ذلك فبان من رمضان.
وهو مكلف: فخرج الصبي فلا قضاء عليه ولا كفارة، لأنه غير مكلف.
صائما: خرج ما لو أفطر بغير وطء أو نسي النية وأصبح ممسكا ووطء فلا كفارة.
أثم بالوطء:خرج ما لو وطء المريض أو المسافر ولو بغير نية الترخيص، وما لو ظن وقت الجماع بقاء الليل أو شك فيه، أو ظن باجتهاده دخوله فبان جماعه نهارا لم تلزمه كفارة لانتفاء الإثم.(1/41)
بلا شبهة: فخرج من أكل ناسيا فظن أنه أفطر فوطئ عامدا فيفطر ولا كفارة عليه.
بسبب الصوم، فخرج الصائم المسافر الواطء زنا أو لم ينو ترخصا بالإفطار، لأنه لم يأثم به للصوم بل للزنا وعدم الترخص.
أن يكون أفسد بصومه يوما من رمضان يقينا: خرج ما لو وطء بلا عذر ثم جن أو مات في اليوم، أنه بان أنه لم يفسد صوم يوم.
وسيأتي بيان معظم هذه المحترزات، وقد نظم بعضهم بعض هذه الشروط فقال:
كفارة الجماع عندهم على مفسد صومه ليوم كملا
من رمضان في الأدا إن أثم للصوم بالوطء وشبهة عدم
- من جامع ناسيا:
فلا كفارة على ناس.
لا كفارة على من جامع ناسيا للصوم أو للنية ليلا أو مكرها أو جاهل لتحريم الجماع بأن قرب إسلامه، أو نشأ ببادية بعيد عن العلماء، ولو علم التحريم وجهل وجوب الكفارة، أو جهل أبطاله الصوم وجبت الكفارة، فهذا محترز قوله: "بإفساد" لأن صومه لم يفسد بذلك، ومن نسي النية وأمر بالإمساك فجامع لا كفارة عليه قطعا.
- جامع في صوم غير رمضان:
ولا مفسد غير رمضان.
ولا كفارة على مفسد غير رمضان من نفل أو نذر أو قضاء أو كفارة، وهذا محترز قوله: "رمضان" أن النص ورد فيه وهو أفضل الشهور ومخصوص بفضائل لم يشاركه فيها غيره فلا يصح قياس غيره عليه.
- من أفسد صومه بغير الجماع:
أو بغير الجماع.
كذلك لا كفارة على من أفسد رمضان بغير الجماع كالأكل والشرب والاستمناء باليد والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الإنزال.
وهذا محترز قوله بجماع لأن النص ورد في الجماع وهو أغلظ وما عداه ليس في معناه.
ولا مسافر جامع بنية الترخص، وكذا بغيرها في الأصح.
ولا كفارة على مسافر صائم ومثله مريض صائم جامع بنية الترخص، بل ولو لم ينو وإن قلنا يأثم بتركه النية، لأن الإفطار مباح له فيصير شبهة في درء الكفارة.
وهذا محترز قوله "أثم به" لأنه لم يأثم لوجود القصد مع الإباحة.
ولا على من ظن الليل فبان نهارا.(1/42)
من ظن وقت الجماع بقاء الليل أو لم يظن شيئا، أو شك فيه هل خر ج أولا، أو ظن باجتهاده دخول الليل فجامع فبان أن جماعه كان نهارا فلا كفارة لانتفاء الإثم، بل وإن أثم كأن ظن الغروب بلا أمارة أو شك فيه فجامع فبان نهارا لأنه لم يقصد الهتك والكفارة تدرأ بالشبة كالحد فلا نظر لإثمه.
ولا على من جامع بعد الأكل ناسيا وظن أنه أفطر به، وإن كان الأصح بطلان صومه.
ولا كفارة على من جامع عامدا بعد الأكل أو الجماع ناسيا وظن أنه أفطر بالأكل، لأنه يعتقد أنه غير صائم، وإن كان الأصح بطلان صومه بهذا الجماع كما لو جامع على ظن بقاء الليل فبان خلافه، وقوله: "ناسيا" متعلق بالأكل لا بـ"جامع".
أما إذا لم يظن ذلك فعليه الكفارة إذ لا عذر له بوجه، هذا إن علم وجوب الإمساك بعد الفطر.
ولا من زنا ناسيا ولا مسافرا أفطر بالزنا مترخصا.
لا كفارة على من زنا ناسيا، لأنه لم يأثم بسبب الصوم، وهذا داخل في قوله السابق: "ولا كفارة على ناس" لكنه صرح به لأنه مما يخفى.
ولا كفارة أيضا على مسافر أفطر بالزنا ناويا الترخص بالفطر،أم لم ينو؛ لأن الفطر جائز له، وإثمه بسبب الزنا لا الصوم
- من تجب عليه الكفارة:
والكفارة على الزوج عنه، وفي قول عنه وعنها، وفي قول عليها كفارة أخرى.
اختلفت أقوال الشافعي فيمن تجب عليه الكفارة على ثلاثة أقوال:
الأول: -وهو المعتمد- تجب على الزوج عنه فقط دونها، وأدلة ذلك:
أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بها زوجة المجامع مع مشاركتها له في السبب.
لنقصان صومها بتعرضه للبطلان بعروض الحيض أو نحوه فلم تكمل حرمته حتى تتعلق بها الكفارة فتختص بالرجل الواطىء .
أنها غرم مالي يتعلق بالجماع كالمهر فلا يجب على الموطوءة.
الثاني: يلزمهما كفارة واحدة، ويتحملها الزوج لمشاركتها له في السبب.
الثالث: عليها كفارة أخرى، قياسا على الرجل لتساويهما في السبب والإثم كحد الزنا.(1/43)
ومحل الخلاف فيما إذا كانت المرأة صائمة ومكنته طائعة عالمة فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره أو لم يبطل صومها لكونها نائمة مثلا فلا كفارة عليها قطعا.
وتلزم من انفرد برؤية الهلال وجامع في يومه.
قلنا من رأى هلال رمضان ولم تقبل شهادته مثلا وجب عليه الصوم، وعليه إذا جامع في يومه لزمته الكفارة، لهتك حرمة يوم من رمضان عنده بالجماع، ويلحق به من أخبره من يعتقد صدقه لما مر أنه يلزمه الصوم كالرائي.
ومن جامع في يومين لزمه كفارتان.
لأن كل يوم عبادة مستقلة فلا تتداخل كفارتاهما، فلو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها فإن تكرر الجماع في يوم واحد فلا تعدد وإن كان بأربع زوجات على المذهب، لأن الإفساد لم يتكرر.
وحدوث السفر بعد الجماع لا يسقط الكفارة، وكذا المرض على المذهب.
لو جامع زوجته ثم أحدث سفرا ولو طويلا فلا تسقط الكفارة، أنها قد وجبت في ذمته، ولأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة.
وكذلك لا يسقطها المرض بعد الجماع، لأن المرض لا ينافي الصوم فيتحقق هتك حرمته.
وهذا بخلاف حدوث الجنون والموت –ولو بقتل نفسه- فإنه يسقطها لأنه يتبين بهما زوال أهلية الوجوب من أول اليوم، فلم يكن من أهل الوجوب حالة الجماع.
وكذلك حدوث انتقاله في ذلك اليوم لبلد مخالف مطلعه مطلع بلده فوجدهم معيدين فعيد معهم، لتبين عدم وجوب صوم هذا اليوم عليه بل عدم جوازه.
فهذه أمور ثلاثة تسقط الكفارة: الجنون، والموت، وانتقاله بشرطه السابق.
والوجه الثاني: يسقطها المرض؛ لأن حدوث المرض يبيح الفطر فيتبين به أن الصوم لم يقع واجبا
ويجب معها قضاء يوم الإفساد على الصحيح.
يجب على الزوج مع الكفارة قضاء يوم أو أيام الإفساد، لأنه إذا لزم المعذور القضاء فغيره أولى.
والثاني: لا يجب لأن الخلل الحاصل قد انجبر بالكفارة.
- الكفارة:(1/44)
وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
والكفارة على هذا الترتيب:عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فلو أفطر يوما بطل تتابعه وحسب ما صامه نفلا مطلقا إن أفطر ناسيا أو جاهلا وإلا فلا، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
ولو شرع في الصوم ثم وجد الرقبة ندب عتقها ولو شرع في الإطعام ثم قدر على الصوم ندب له.
والحكمة في ترتيب هذه الكفارة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه وفي السنة: "ومن أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار عضوا بعضو" رواه النسائي بإسناد صحيح، وأما الصيام فهو كالمقاصة بجنس الجناية، وكونه شهرين، لأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث إنه كعبادة واحدة بالنوع وكلف شهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده، وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأن مقابل كل يوم إطعام مسكينين مدين تغليظا عليه بسبب المعصية، قاله القسطلاني.
فلو عجز عن الجميع استقرت في ذمته على الأظهر، فإن قدر على خصلة فعلها.
لو عجز عن جميع الخصال المذكورة استقرت الكفارة في ذمته على الأظهر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بأن يكفر بما دفعه إليه مع إخباره بعجزه فدل على أنها ثابتة في الذمة، لأن حقوق الله تعالى المالية إذا عجز عنها العبد وقت وجوبها: فإن كانت لا بسبب منه كزكاة الفطر لم تستقر، وإن كانت بسبب منه استقرت في ذمته.
أما عدم ذكره - صلى الله عليه وسلم - الاستقرار للأعرابي إما لفهمه من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، أو لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة –وهو وقت القدرة- جائز.
ثم لو قدر عل خصلة من خصال الكفارة فعلها فورا وجوبا، لأنكل كفارة تعدى بسببها يجب الفور فيها، ولو قدر على أكثر من خصلة رتّب.(1/45)
والأصح أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لشدة الغلمة.
الغلمة -بغين معجمة مضمومة ولام ساكنة-: شدة الحاجة للنكاح، فمن كان شديد الغلمة يجوز لع العدول عن الصوم على الإطعام، لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع، ولو في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافهما لبطلان التتابع وهو حرج شديد، وورد أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمر المكفر بالصوم قال: يارسول الله وهل أتيت إلا من الصوم، فأمره بالإطعام.
وأنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله.
ألأصح أنه لا يجوز للفقير المكفر صرف كفارته على عياله كالزكاة وسائر الكفارات.
أما قوله- صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "أطعمه أهلك" فيحتمل أنه لما أخبره بفقره صرفه له صدقة، أو أنه ملكه إياه وأمره بالتصدق به فلما أخبره بفقره أذن له في صرفها لهم للإعلام بأنها إنما تجب بعد الكفاية وأنه تطوع التكفير عنه، وسوغ له صرفها لأهله للإعلام بأن لغير المكفر التطوع بالتكفير عنه بإذنه، وأن له صرفها لأهل المكفر عنه، أي وله فيأكل هو وهم.
لكن يبقى الكلام على ما تقرر في العدد المصروف إليه قال (مر): يجوز كون عدد الأهل ستين مسكينا، أي لا يشترط أن يكونوا جميعا ممن تلزمه نفقتهم كما قاله (ع ش) وبه يندفع قول (سم): إن كون أهله ستين مسكينا من أبعد البعيد.
خاتمة: من فاته شيء من رمضان استحب أن يقضيه متتابعا، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم.
باب صوم التطوع
التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات.
وللصوم من الفضائل والمثوبة ما لا يحصيه إلا الله ولهذا أضافه تعالى إليه دون غيره من العبادات، فقال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وهو ينقسم إلى قسمين: قسم لا يتكرر كصوم الدهر، وقسم يتكرر في أسبوع أو سنة أو شهر.
يسن صوم يوم الإثنين والخميس.(1/46)
يسن صوم هذين اليومين والمحافظة على صومهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صومهما وقال: "إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" رواه الترمذي وقال حديث حسن،والمراد عرضها على الله تعالى.
وعرفة.
ويسن بل يتأكد صوم يوم عرفة وهو تاسع ذي الحجة لغير الحاج لحديث مسلم: "صيام يوم عرفة احتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".
وهو أفضل الأيام لحديث مسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة".
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر، والمكفر الصغائر دون الكبائر، قال (ق ل): "عممه ابن المنذر في الكبائر أيضا، ومشى عليه صاحب الذخائر –أي مجلي- ومال إليه شيخنا الرملي في شرح المنهاج".
ويسن صوم ما قبل يوم عرفة من الثمانية أيام للحاج وغيره.
وعاشوراء وتاسوعاء
ويسن صوم عاشوراء، وهو عاشر المحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه" "أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله" أخرجه مسلم، أي سنة كاملة أخرها عاشوراء، ومن صامه مثلا عن قضاء أو نذر حصل له ثواب يوم عاشوراء.
وفارق عرفة بأنه من خواص هذه الأمة بخلاف عاشوراء لمشاركة موسى لنا فيه.
و يسن صوم تاسوعاء وهو تاسع المحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع فمات قبله" رواه مسلم .
وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء:
الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر.
مخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر .
الاحتراز من إفراده بالصوم كما في يوم الجمعة
فإن لم يصم معه تاسوعاء سن أن يصوم معه الحادي عشر بل نص الشافعي على استحباب صوم الثلاثة وعاشوراء وتاسوعاء.
وأيام البيض(1/47)
ويسن صوم أيام البيض وهي: اليوم الثالث عشر وتالياه من كل شهر، للأمر بصومها في النسائي وصحيح ابن حبان، وفي ذي الحجة يصوم السادس عشر أو يوما بعده بدل الثالث عشر كما بحثه (حج) لحرمة صوم الثالث عشر.
والحكمة في ذلك أن الحسنة بعشرة أمثالها فصومها كصوم الشهر، ومن ثم سن صوم ثلاثة من كل شهر ولو غير أيام البيض، فإن صامها في أيام البيض أتى بالسنتين، والأحوط صوم الثاني عشر معها أيضا للخروج من خلاف من قال إنه أول الثلاثة.
ويسن صوم أيام الليالي السود وهو الثامن والعشرون وتالياه وينبغي أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطا.
وخصت أيام البيض والسود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية بالسواد، وخوفا ورهبة من ظلمة الذنوب
وستة من شوال، وتتابعها أفضل.
ويسن صوم ست من شوال لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر" رواه مسلم، أي من صامها مع رمضان كل سنة تكون كصيام الدهر، أما لو صام ستا من شوال في بعض السنين دون بعض فالسنة التي صام الست فيها يكون كصومها سنة والتي لم يصم فيها تكون كعشرة أشهر.
وقوله في الحديث: "كصيام الدهر" أي فرضا أي ثوابه كثواب الفرض وإلا لم يكن لخصوصية رمضان وستة من شوال معنى، إذ من صام شهرا غير رمضان مع ستة من غيره يحصل له ثواب الدهر أي السنة، لأن الشهر بعشرة أشهر والستة أيام بشهرين، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وحاصله أن من صامها مع رمضان كل سنة يكون كصيام الدهر فرضا بلا مضاعفة،ومن صام شهرا وستة غيرها يكون كصيامه نفلا بلا مضاعفة (بج).
وهل يكون هذا الأجر لمن صام رمضان أم لغيره كذلك؟
هنا صور:(1/48)
الأولى: أن يفطر رمضان كله بغير عذر، فيلزمه قضاء رمضان فورا، أي من ثاني العيد، قال (م ر) و (خط) و (سم) -خلافا لـ(حج)- :يحصل له ثواب الست في ضمن القضاء الفوري إذا قصدها أيضا أو أطلق فهم يقولون بتداخل الصيامين، إلا أن ثوابه هنا لا يكون كاملا، وقال (حج) يصوم شوال عن رمضان ثم يقضي الست في ذي القعدة، لأن ما فاته صوم راتب يسن له قضاؤه.
الثانية: أن يفطر بعض رمضان بغير عذر،وهذا إذا بقي من شوال ستة أيام وصامها كان له الثواب لكنه ليس كاملا، وهو أكمل من السابق.
الثالثة: أن يفطر رمضان كله بعذر، يندب له صوم الست وله ثوابها، وهو كمن صام رمضان لعذره، إذ لو لم يكن هناك عذر لصامه، فله أجره كاملا إلا أن من صامه حقيقة أكمل، ولو قضى رمضان في شوال حصل له الأجر غير الكامل.
الرابعة: أن يفطر بعض رمضان بغير عذر، لو قضى ما عليه ثم صام الست كان أجره أكمل من السابق ودون من صامه حقيقة.
وحصول الثواب لمن صام في شوال قضاء عن رمضان أو غيره كعاشوراء أو نذرا أو نفلا آخر حصل له ثواب تطوعها، لأن المدار على حصول الصوم في ستة أيام من شوال.
لكن لا يحصل له الأجر الكامل أي المترتب على المطلوب إلا بنية صومها عن خصوص الست من شوال، لاسيما من فاته رمضان وصام عنه شوالا؛ لأنه لم يصدق عليه أنه صام رمضان وأتبعه ستا من شوال.
وتحصل السنّة بصومها متفرقة لكن تتابعها أفضل عقب العيد مبادرة للعبادة ولما في التأخير من آفات.
تنبيه: قد يوجد للصوم سببان كوقوع عرفة وعاشوراء يوم اثنين أو خميس وكوقوعهما في ستة شوال فيتأكد صوم ما له سببان رعاية لكل منهما، فإن نواهما حصلا كالصدقة على القريب صدقة وصلة، وكذا لو نوى أحدهما فيما يظهر (بج).
ويكره إفراد الجمعة
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" رواه الشيخان، وليتقوى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه.
وإفراد السبت.(1/49)
ويكره أيضا إفراد السبت أو الأحد بالصوم لحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" رواه الترمذي وحسنه، ولأن اليهود تعظم يوم السبت والنصارى يوم الأحد.
وخرج بإفراد كل من الثلاثة جمعه مع غيره ولو الجمعة مع الأحد، أو جمع غيرها معها قلها أو بعدها فلا يكره جمع الجمعة مع السبت ولا السبت مع الأحد لأن المجموع لا يعظمه أحد.
وتندفع الكراهة لو عزم على صوم الجمعة والسبت معا أو السبت والأحد معا ثم صام الأول و عنّ له ترك اليوم الثاني، وإلا لزم الحكم بكراهة الفعل بعد انقضائه، لانتفائها حال التلبس به ما دام عازما على صوم ما بعده وهو بعيد.
ومحل كراهة إفراد ما ذكر إذا لم يوافق عادة له فإن كان له عادة كأن اعتاد صوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوما منها لم يكره كما في صوم يوم الشك ولحديث مسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" وقيس بالجمعة الباقي.
وصوم الدهر غير العيد والتشريق مكروه، لمن خاف به ضررا أو فوت حق، ومسنحب لغيره.
لا يخلو صائم الدهر من حالتين:
الأولى: أن يصوم الهر كله بما فيه أيام العيد والتشريق فهذا حرام لحديث: "لا صام من صام الأبد"
الثانية: أن يصوم الدهر غير الأيام التي يحرم صومها فلا يخلو من حالتين:
أن يخاف ضررا أو تفويت حق واجب أو مندوب،بسبب الصوم، فهذا مكروه، كما في حديث أبي الدرداء وفيه: "إن لربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا...الخ" أخرجه البخاري.
ألا يخف ضررا أو تفويت حق، فيستحب له، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين رواه البيهقي.
ومعنى "ضيقت عليه" أي عنه فلم يدخلها أو لا يكون له فيها موضع.
ومع استحبابه فصوم يوم وفطر يوم أفضل منه لحديث الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص: "أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما".
ومن تلبس بصوم تطوع أو صلاته فله قطعهما ولا قضاء.(1/50)
لا يخلو المتلبس بصوم أو صلاة أو غيرهما من التطوعات -لا النسك- من حالتين:
الأولى: أن يكون نافلة، فيجوز قطعها، لأن المتطوع أمير نفسه.
لكنه يكره لقوله تعالى: { ولا تبطلوا أعمالكم } فإن كان هناك عذر كمساعدة الصائم ضيفه في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه وعكسه كذلك فلا يكره بل يستحب، لحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، ولا يجب عليه القضاء لما قطعه، لكنه بندب خروجا من خلاف من أوجبه.
وإذا أفطر لم يثب على ما مضى إن خرج بغير عذر، ويثاب عليه إن خرج بعذر.
واعتمد (م ر) و (سم) و (ع ش) فيمن فاته يوم له عادة بصيامه كالإثنين أنه يسن له قضاؤه، خلافا لـ (خط).
ومن تلبس بقضاء حرم عليه قطعه إن كان على الفور، وهو من تعدى بالفطر، وكذا إن لم يكن على الفور في الأصح بأن لم يكن تعدى بالفطر.
الثانية: من تلبس بقضاء لواجب سواء مما وجب فيه القضاء الفوري وهو من تعدى بفطره في رمضان أو أفطر يوم الشك فلا يجوز له التأخير ولو بعذر بل يجب عليه القضاء فورا من ثاني شوال، أم لم يجب عليه الفور كمن لم يتعد بفطره أو نسي النية ، ففي كلتا الحالتين لا يجوز له قطع القضاء لقوله تعالى: { ولا تبطلوا أعمالكم } فهو قد تلبس بالفرض ولا عذر له في الخروج فلزمه إتمامه كما لو شرع في الصلاة في أول الوقت.
والوجه الثاني: لا يحرم لأنه متبرع في الشروع.
والحمد لله رب العالمين
تخطيط هيكلي(1/51)