مقدمة هناك عظماء كثيرون، يقرأ الناس قصص حياتهم ليتملوا من عناصر النبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها فى الحياة ومواقفها بإزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، وقد تكون هذه القراءة المجردة هى الرباط الفذ بين أولئك العظماء ومن يتعرف عليهم، وربما تطورت فأصبحت دراسة عميقة أو صلة إنسانية وثيقة. وأبادر إلى القول بأنى لم أكتب عن صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وفى نفسى هذا المعنى المحدود. فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا آمنت بالته رب العالمين، ولماذا صدقت بنبوة محمد ، ولماذا اتبعت الكتاب الذى جاء به، بل لماذا أدعو الآخرين الى الإيمان بما سكنت إليه نفسى من هذا كله. وقد سبق لى أن نشرت فى السيرة فصولا منوعة، وهل ابتعدت عنها فى شىء مما كتبته؟ إن الرسائل التى عالجت فيها بحوث العقيدة والخلق والمعاملة والحكم اعتمدت على سيرة النبى الكريم فى كيانها وسياقها. ولذلك يصح أن أقول: إن هذا الكتاب ليس صلة محدثة برسول الإسلام، ولا جملة من الدلائل على صدقه، ولا لمحات تكشفت للمؤلف عن عبقريته وسناء دعوته. فإن ذلك قد استفاض به الكلام فى مواضع أخرى! ولكنى توفرت على إخراج هذا الكتاب وأمامى غاية معينة أرجو أن أكون بلغتها. إن المسلمين الآن يعرفون عن السيرة قشورا خفيفة، لا تحرك القلوب ولا تستثير الهمم، وهم يعظمون النبى وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤنته من عمل. ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوى الجهل بها. إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة. ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض فى أكفان
ص _006(1/1)
الموتى. إن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا، إنها مصدر الأسوة الحسنة التى يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التى يدين بها، فأى حيف فى عرض هذه السيرة، وأى خلط فى سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه. وقد بذلت وسعى فى إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، واجتهدت فى إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوة أن تدع آثارها فى النفوس دون افتعال أو احتيال. وقد استفدت من السير التى كتبها القدامى والمحدثون استفادة حسنة. إن المؤرخين المحدثين يميلون إلى التعليل والموازنة وربط الحوادث المختلفة فى سياف متماسك. وذاك أحسن ما فى طريقتهم.. والمؤرخون القدامى يعتمدون على حشد الآثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دق وجل من الوقائع والشئون، وفى هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو احسن الاستشهاد بها وإيرادها فى مواضعها. ولعلى هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما فى كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشد أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الأخرى بحيث تتسق مع وحدة الموضوع وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته. وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئا يُنقى الإيمان، ويُزكى الخلق، ويلهب الكفاح، ويغرى باعتناق الحق والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله. إننى أكتب فى السيرة كما يكتب جندى عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست- كما قلت- مؤرخا محايدا مبتوت الصلة بمن يكتب عنه. ثم إننى أكتب وأمام عينى مناظر قائمة من تأخر المسلمين العاطفى والفكرى. فلا عجب إذ قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو بعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل فى طياتها شحنة من صدق العاطفة وسلامة الفكر وجلال العمل، كى أعالج هذا التأخر(1/2)
المثير. * * * ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس قصة تتلى فى يوم ميلاده كما يفعل الناس الآن، ولا التنويه به يكون فى الصلوات المخترعة التى قد تضم إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوهون أو لا يتأوهون! فرباط المسلم برسوله ص _007
الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين. وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير- فى الإبانة عن تعلقهم بنبيهم- إلا يوم أن تركوا اللباب الملىء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال. ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة فى الإسلام، فقد افتنوا فى اختلاق صور أخرى ! ولا عليهم! فهى لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه. إن الجهد الذى يتطلب العزمات هو فى الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته. فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه حتى يكون قريبا من سنن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته. إن المسلم الذى لا يعيش الرسول فى ضميره، ولا تتبعه بصيرته فى عمله وتفكيره، لا يغنى عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة فى اليوم والليلة. وأريد هنا أن أنبه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل فى حياتنا. ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه. فإذا أراد أحد أن يغنى أو يستمع إلى غناء فليفعل. أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء، فيصبح القرآن ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تم هذا التحويل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب. وحق فيمن فعلوا ذلك قول الله عز وجل: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) الأنعام: 70 وتحول القرآن إلى تلاوة منغومة فحسب،(1/3)
يستمع إليها عشاق الطرب، هو الذى جعل اليهود والنصارى يذيعونه فى الآفاق، وهم واثقون أنه لن يحيى مواتاً. وتحول السيرة إلى قصص وقصائد غزل (!) وصلوات مبهمة جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسى أو الشذوذ الناشئ- فى نظرى- من اضطراب الغرائز وفساد المجتمع. وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجاد المهيب طلبوه من مصادره المصفاة : قرآناً يأمر وينهى ليفعل أمره ويترك نهيه وسنة تفصل وتوضح ليسار فى هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكى، والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة. وذلك هو الإسلام.. ص _008(1/4)
بدأت كتب هذه الصحائف وأنا فى المدينة المنورة، فى الجوار الطيب الذى سعدت به حينا، وأعاننى على إتمام دراسات جيدة فى السنة المطهرة والسيرة العطرة. ولله المنة على ما أولى من نعمة. ولعله- جل شأنه- يجعلنى ممن يحبونه ويحبون رسوله. ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا فى نطاق الصراحة، فلابد أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم، مهما أكنوا له من حب وأدمنوا من صلوات. لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهفين، ويعودون إلى مواطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظهم، ويود لو ظفر بما نالوا. أما أن محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجبة فهذا ما لا يمارى فيه مؤمن، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود. ولكن أن تكون هذه العاطفة وحدها مظهر الولاء له، فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان. إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطنا للأوس والخزرج فى الجاهلية الأولى. وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديما. وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج والزوار، وهم يؤثرون الجوار العاطل على العودة للعمل فى بلادهم! ويسمون ذلك هجرة. فهل ذلك إسلام أو حب لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ أذكر أنه قابلنى نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن ، فأفهمتهم أنهم فارون من الزحف، لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة. وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون وحدهم عبء هذا الكفاح (1). إن هذا الحب لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير مفهوم، وهذه الهجرة لمدينته غير متقبلة.. وصلة نبى الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعباد الله أشد وأحكم من أن تأخذ هذه السبيل الشاردة الملتوية. إن أعداء الإسلام تمكنوا- فى غفلة أهله- أن يصدعوا بناءه ويجعلوه أنقاضا. فكيف يترك تراث محمد نهبا للعوادى؟ وكيف يمهد للجاهلية الأولى أن تعود؟ وكيف يقع هذا التبدل الخطير فى سكون؟ بل فى مظهر من الحب(1/5)
لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليفقه المسلمون سيرة رسولهم العظيم. وهيهات أن يتم ذلك إلا بالفقه فى الرسالة نفسها والإدراك الحق لحياة صاحبها ـ صلى الله عليه وسلم ـ والالتزام الدقيق لما جاء به. ص _009
ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاما، وأغلاه عندما يكون قدرة وذماما! إننى أعتذر عن تقصيرى فى إيفاء هذا الموضوع حقه. فشأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كبير، والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أرق وذكاء أنفذ. وحسبى أن ذاك جهدى. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد * * * محمد الغزالى ص _011(1/6)
حول أحاديث هذا الكتاب سرنى أن تخرج هذه الطبعة الجديدة بعد أن راجعها الأستاذ المحدث العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى، وقد أثبت فيها كل التعليقات التى ارتآها على ما نقلت فى هذه السيرة من آثار نبوية. وأرجو أن أكون معينا على إبراز الحقيقة العلمية وضبط الوقائع التاريخية بإثبات هذا النقد، وشكره لمن تطوع به. إن آفة المؤرخين للسيرة الشريفة ولغيرها من أحداث الناس وأطوار الزمان: قلة التثبت وضعف التمحيص. وقد وقع كثير من الأقدمين والمحدثين فى هذا الخطأ على تفاوت بينهم فى دقة المأخذ وحدة الانتباه. وعندما شرعت أكتب سيرة لسيدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اجتهدت أن ألزم المنهج السوى، وأن أعتمد على المصادر المحترمة. وأظننى بلغت فى هذا المجال مبلغا حسنا، واستجمعت من الأخبار ما تطمئن إليه نفس العالم البصير. لكن القارئ سيرى فى تعقيبات الشيخ ناصر الدين ما يبعث ريبته فى هذا الظن. وهنا أرانى مكلفا بشرح المنهج الذى سرت عليه. قد يختلف علماء السنة فى تصحيح حديث أو تضعيفه، وقد يرى الشيخ ناصر- بعد تمحيصه للأسانيد- أن الحديث ضعيف، وللرجل من رسوخ قدمه فى السنة ما يعطيه هذا الحق، أو قد يكون الحديث ضعيفا عند جمهرة المحدثين، لكنى أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقا كل الاتفاق مع آية من كتاب الله ، أو أثر من سنة صحيحة فلا أرى حرجا من روايته، ولا أخشى ضيرا من كتابته. إذ هو لم يأت بجديد فى ميدان الأحكام والفضائل، ولم يزد على أن يكون شرخا لما تقرر من قبل فى الأصول المتيقنة. ص _012(1/7)
خذ مثلاً أول حديث حكم الأستاذ بتضعيفه: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبونى بحب الله ". قد يرى الأستاذ المحدث أن تحسين الترمذى وتصحيح الحاكم لا تعويل عليهما فى قبول هذا الحديث، وله ذلك. بيد أنى لم أجد فى المطالبة بحب الله ورسوله ما يحملنى على التوقف فيه، ولذلك أثبته وأنا مطمئن. وفى الوقت الذى فسحت فيه مكانا لهذا الأثر- على ما به- صددت عن إثبات رواية البخارى ومسلم مثلاً للطريقة التى تمت بها غزوة بنى المصطلق. فإن رواية الصحيحين تشعر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ باغت القوم وهم غارون ما عرضت عليهم دعوة الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوص، ولا عرف من أحوالهم ما يقلق! وقتال يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكر فى منطق الإسلام، مستبعد فى سيرة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ومن ثم رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو. وسكنت نفسى إلى السياق الذى رواه ابن جرير.. فهو- على ضعفه الذى كشفه الأستاذ الشيخ ناصر- يتفق مع قواعد الإسلام المتيقنة، أنه لا عدوان إلا على الظالمين. أما الغارون الوادعون فإن اجتياحهم لا مساغ له.. وحديث الصحيحين فى هذا لا موضع له إلا أن يكون وصفا لمرحلة ثانية من القتال، بأن يكون أخذ القوم على غرة جاء بعد ما وقعت الخصومة بينهم وبين المسلمين، وأمسى كلا الفريقين يبيت للآخر، ويستعد للنيل منه. فانتهز المسلمون فرصة من عدوهم- والحرب خدعة- وأمكنهم التغلب عليهم وهم غارون. وفى هذه الحالة لابد من التمهيد لرواية البخارى ومسلم، بكلام يشبه ما نقله ابن جرير ووهنه فيه الشيخ ناصر. ولست بدعا فى تلك الخطة التى اخترتها.. فإن أغلب العلماء جرى على مثلها فى مواجهة المرويات الضعيفة والصحيحة على سواء. وقرروا أن الحديث الضعيف يُعمل به ما دام ملتئما مع الأصول العامة، والقواعد الجامعة. ص _013(1/8)
وهذه الأصول والقواعد مستفادة- بداهة- من الكتاب والسنة. وعلى ضوء هذا النظر المنصف حكيت استشارة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحباب فى موقعة بدر- وإن وهن المحدثون سندها- لأنها تدور فى نطاق الفضائل التى أمر بها الله ورسوله، وليس فى سوقها ما يُحذر قط. ذلك بالنسبة إلى الأحاديث الضعاف. أما الصحاح فإن فى تفاوت دلالتها مجالاً رحبا للترجيح والرد. كما يعلم أستاذ الحديث. وما من إمام فقيه إلا رد بعض ما صح، إيثارا لما ظهر أنه أصح. ومعاذ الله أن نشغب على السنة، فهى الأصل الثانى للإسلام يقينا. بيد أنى إذا تتبعت السنن فعرفت أنها- فى جملتها- تتفق مع القرآن الكريم فى أنه لا حرب إلا بعد دعوة وإعذار وتعريف مشرق لا تبقى معه شائبة غموض، فكيف أقبل ما يوهم غير هذا؟ الله جل شأنه يأمر نبيه فى قرآنه الكريم: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) الأنبياء: 108، 109. بعد هذا الإعلام الذى يستوى فى الإحاطة به الداعون والمدعوون، وبعد أن سار النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مغازيه، وسار الخلفاء فى معاركهم على هذا النحو من توضيح للدعوة، وإتاحة الفرصة للناس كى يقبلوا أو يرفضوا... بعد هذا لا أرى أن يلزمنى أحد بقبول ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عون، قال: كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال. فكتب إلى إنما كان ذلك فى أول الإسلام (!) وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بنى المصطلق وهم غارون، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية. قال: حدثنى به عبد الله بن عمر، وكان فى ذلك الجيش! وكما تجاوزت هذا الحديث، تجاوزت عن مثله أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب أصحابه وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة. فقد صح من كتاب الله وسنة رسوله أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصل الشامل العجيب.(1/9)
ص _014
آثرت هذا المنهج فى كتابة السيرة، فقبلت الأثر الذى يستقيم متنه مع ما صح من قواعد وأحكام، وإن وهى سنده. وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة، لأنها- فى فهمى لدين الله، وسياسة الدعوة- لم تنسجم مع السياق العام. ولا أرى مكانا لبسط وجهة نظرى فى أمور كثيرة خالفت فيها الأستاذ المحدث. ولكنى أرى المكان متسعا لتسجيل تعقيباته كلها على ما أوردت من نصوص، فإنى عظيم الحفاوة بهذا الاستبحار العلمى، وهو يمثل وجهة نظر محترمة فى تمحيص القضايا الدينية. وأعتقد أن من حق القارئ على أن يعرف رأى أحد المحققين المتشددين فى المرويات التى أحصيتها هنا، سواء خالفته أم وافقته. وشكر الله له جهده فى المحافظة على تراث النبوة، وهدانا جميعا سواء السبيل. ص _015(1/10)
- 1 - رسالة وإمام الوثنية تسود الحضارات القديمة إن تاريخ الحياة مؤسف. منذ أن هبط آدم وبنوه فى الأرض، ثم بعد أن شب بهم الزمن واطرد العمران وتشعبت الحضارات وأدبرت أجيال وأقبلت على أنقاضها أخرى، منذ ذلك الحين السحيق والناس أخلاط متنافرون، لا تستقيم بهم السبل يوما إلا شردت أياما، ولا يشيمون بوارق الحق حينا إلا أطبقت عليهم ظلمات الباطل أحيانا. ولو تقصينا تاريخ البشر ـ على ضوء الإيمان بالله والاستعداد للقائه ـ لوجدنا العالم أشبه بمخمور تزيد فترات سكره على فترات صحوه، أو بمحموم غاب عنه ـ فى سورة الألم ـ رشده، فهو يهذى ولا يدرى. وقد كان فى تجارب الناس مع أنفسهم ودنياهم مزدجر يزع عن الشر ويرد إلى الخير. بيد أن الهوى الغالب لا تجدى معه معرفة. كم سلخت الدنيا من عمرها قبل أن يظهر محمد صلى الله عليه وسلم. لقد مرت عليها قرون طوال أفادت فيها علما كثيرا، ووعت تجارب، ونمت آداب وفنون، وشاعت فلسفات وأفكار. ومع ذلك فقد غلب الطيش، واستحكم، وسقطت أمم شتى دون المكانة المنشودة لها. فماذا كان مصير الحضارات فى مصر واليونان، وفى الهند والصين، وفى فارس وروما؟ لا أقصد مصيرها من ناحية السياسة والحكم، بل من ناحية العاطفة والعقل. إن الوثنية الوضيعة اغتالتها، وفرضت عليها السقوط فى هذه الوهدة الزرية. فأمسى الإنسان الذى استخلفه الله ليكون ملكا فى السموات والأرض، أمسى عبدا مسخرا لأدنى شىء فى السموات والأرض. ص _016(1/11)
وماذا بعد أن تقدس العجول والأبقار، وتعبد الأخشاب والأحجار، وتطبق شعوب بأسرها على هذه الخرافة؟ إن الوثنية هوان يأتى من داخل النفس لا من خارج الحياة، فكما يفرض المحزون كآبته على ما حوله، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة أشباحا جاثمة، كذلك يفرض المرء الممسوخ صغار نفسه وغباء عقله على البيئة التى يحيا فيها، فيؤله من جمادها وحيوانها ما يشاء. ويوم ينفسح القلب الضيق، ويشرق الفكر الخامد، وتثوب إلى الانسان معانيه الرفيعة، فإن هذه الانعكاسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها. ومن ثم كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه، فلو ذبحت العجول المقدسة، ونكست الأصنام المرموقة، وبقيت النفس على ظلامها القديم، ما أجدى ذلك شيئا فى حرب الوثنية! فيبحث العباد المفجوعون عن آلهة أخرى غير ما فقدوا، يوفضون إليها من جديد! وما أكثر الوثنيين فى الدنيا وإن لم يلتقوا حول نصب. وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق، وربه الأعلى، والجرى وراء وهم جديد! * * * * والخرافة لا تأخذ مجراها فى الحياة وهى تعلن عن باطلها أو تكشف عن هرائها. كلا، إنها تدارى مجونها بثوب الجد، وتستعير من الحق لبوسه المقبول، وقد تأخذ بعض مقدماته وبعض نتائجه، ثم تتزين بعد ذلك للمخدوعين. وكذلك فعلت الوثنية! لقد أغارت على الدين الصحيح وحقائقه الناصعة، لا كما يغير النحل على أزهار الربيع، بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد على الحدائق الغناء، فتحيلها قاعا بلقعا. وهى إذا أفسدت ما تركت لم تصلح ما أخذت. ولئن كان ما أخذته خيرا قبل أن تتصل به، لقد أصبح شرا بعد ما تحول فى جوفها إلى سموم. وهذا هو السر فى أن الوثنية التى لا تعرف الله تزعم أنها بأصنامها تتقرب إليه وتبغى مرضاته. جزء من الحق فى أجزاء من الباطل، فى سياق يصرف الناس آخر الأمر عن الله، ويبعدهم عن ساحته. وأعظم نكبة أصابت الأديان إثر عدوان الوثنيات عليها، ما أصاب شريعة عيسى بن مريم عليه السلام من(1/12)
تبدل مروع، رد نهارها ليلا، وسلامها ويلا، وجعل الوحدة شركة، وانتكس بالإنسان، فعلق همته بالقرابين، وفكره بالألغاز المعماة . إن خرافة الثالوث والفداء تجددت حياتها بعد ما أفلحت الوثنية الأولى فى إقحامها إقحاما ص _017
على النصرانية الجديدة، وبذلك انتصرت الوثنية مرتين: الأولى فى تدعيم نفسها، والأخرى فى تضليل غيرها. فلما جاء القرن السادس لميلاد عيسى عليه السلام، كانت منارات الهدى قد انطفأت فى مشارق الأرض ومغاربها، وكان الشيطان يذرع الأقطار الفيح فيرى ما غرس من أشواك قد نما وامتد. فالمجوسية فى فارس طليعة عنيدة للشرك الفاشى فى الهند والصين، وبلاد العرب وسائر المجاهل. والنصرانية التى تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز مآثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامى، فهى تجعل لله صاحبة وولدا، وتغرى أتباعها فى " رومة " ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أرقى مما ألف عباد النيران وعباد الأوثان: شرك مشوب بتوحيد يحارب شركا محضا. ولكن ما قيمة هذه النقائض التى جمعت النصرانية بين شتاتها؟ (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) يونس: 68 - 70. ويظهر أن آصرة الشرك بين المجوسية والديانات السماوية المشوهة هى التى جعلت هذه الأحزاب إلبا على المسلمين يوم بدءوا يقيمون جماعتهم على عبادة الواحد الحق. وقد نبأ الله هذه الأمة بأن الأذى سوف ينصب عليها من عبدة الأصنام، ومن أهل الكتاب فى آن، ووصاها بأن تتذرع بالصبر أمام هذا التحامل: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) آل عمران: 186. * * * * والظلام الذى ران على الأفئدة(1/13)
والعقول فى غيبة أنوار التوحيد طوى فى سواده أيضا تقاليد الجماعة، وأنظمة الحكم، فكانت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضعاف نعمة الأمان والسكينة. ص _018
وأى خير يرتجى فى أحضان وثنية كفرت بالعقل ونسيت الله ولانت فى أيدى الدجالين؟! لا غرابة إذا رفع الله عنها يده كما جاء فى الحديث: " إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ". وهذه البقايا هى التى ظلت مستعصية على الشرك برغم طوفان الكفر الذى طم البقاع والتلاع. لقد شملت الدنيا قبل بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيرة وبؤس، ناءت بهما الكواهل. أتيت والناص فوضى لاتمر بهم إلا على صنم قد هام فى صنم فعاهل الروم يطغى فى رعيته وعاهل الفرس من كبر أصم عمى حتى تأذن الله ليحسمن هذه الآثار، وليسوقن هدايته الكبرى إلى الأنام، فأرسل إلى الأمة محمدا عليه الصلاة والسلام. * * * طبيعة الرسالة الخاتمة وتمتاز بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنها عامة ودائمة. والله عز وجل كان يستطيع أن يبعث فى كل قرية نذيرا، ولكل عصر مرشدا. وإذا كانت القرى لا تستغنى عن النذر، والأعصار لا تستغنى عن المرشدين، فلم استعيض عن ذلك كله برجل فذ؟ الحق أن هذا الاكتفاء أشبه بالإيجاز الذى يحصل المعنى الكثير فى اللفظ اليسير، وبعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت عوضا كاملا عن إرسال جيش من النبيين يتوزع على الأعصار والأمصار، بل إنها سدت مسد إرسال ملك كريم إلى كل إنسان تدب على الأرض قدماه، ما بقيت على الأرض حياة، وما تطلعت عين إلى الهدى والنجاة. ولكن كيف ذلك؟ فى المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين : أغمض عينيك واتبعنى، أو لا تسلنى عن شىء يستثيرك! وربما تكون السلامة فى طاعته. فأنت تمشى وراءه حتى تبلغ مأمنك. إنه فى هذه الحال رائدك المعين، الذى يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك. فإن هلك هلكت معه. ص _019(1/14)
أما لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم خط السير، وحذرك مواطن الخطر، وشرح لك فى إفاضة ما يطوى لك المراحل ويهون المتاعب، وسار معك قليلا ليدربك على العمل بما علمت، فأنت فى هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك. إن الوضع الأول أليق بالأطفال والسذج. وأما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولى الرأى من الناس. والله عز وجل عندما بعث محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهداية العالم، ضمن رسالته الأصول التى تفتق للألباب منافذ المعرفة بما كان ويكون. والقرآن الذى أنزله على قلبه هو كتاب من رب العالمين إلى كل حى، ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد. لم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه فى خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها فى عالم المعانى ما لاكتشاف البخار والكهرباء فى عالم المادة. وإن بعثته لتمثل مرحلة من مراحل التطور فى الوجود الإنسانى، كان البشر قبلها فى وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شب الطفل عن الطوق. ورشح لاحتمال الأعباء وحده. وجاء الخطاب الإلهى إليه- عن طريق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشرح له كيف يعيش فى الأرض، وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ذهب، فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته. إن رسالته تفتيح الأعين والآذان، وتجلية البصائر والأذهان، وذلك مودع فى تراثه الضخم من كتاب وسنة. إنه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناسا- قلوا أو كثروا- إنما بعث صلة بين الخلق والحق الذى يصح به وجودهم والنور الذى يبصرون به غايتهم. فمن عرف فى حياته الحق، وكان له نور يمشى به فى الناس فقد عرف محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستظل بلوائه وإن لم ير شبحه أو يعش معه: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا(1/15)
مستقيما) النساء : 174. 175. * * * * فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ، ويتشبث بثيابه وهو حى، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه طفل غرير، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة، بله أن يستقيم على نهجها. فى مسجد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة رأيت حشدا من الناس يتلمس جوار الروضة الشريفة ويود أن يقضى العمر بجانبها. ولو خرج النبى حيا على هؤلاء لأنكر مرآهم وكره جوارهم. ص _020
إن رثاثة هيئتهم وقلة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم تجعل علاقتهم بنبى الإسلام أوهى من خيط العنكبوت. قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبى؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟ إن الذين يفقهون رسالته ويحيونها وراء الرمال والبحار أعرف بحقيقة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ منكم. إن القرابة الروحية والعقلية هى الرباط الوحيد بين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن يمتون إليه. فأنى للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع فى الأرواح والعقول عافية الدين والدنيا؟ أهذا الجوار آية حب ووسيلة مغفرة؟ إنك لن تحب لله إلا إذا عرفت أولا الله الذى تحب من أجله!! فالترتيب الطبيعى أن تعرف قبل كل شىء: من ربك؟ وما دينك؟ فإذا عرفت ذلك- بعقل نظيف- وزنت- بقلب شاكر- جميل من بلغك عن الله وتحمل العنت من أجلك؟ وذلك معنى الأثر: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبونى بحب الله.. " ومعنى الآية: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران: 31 ثم إن نبى الإسلام لم ينصب نفسه " بابا " يهب المغفرة للبشر ويمنح البركات، إنه لم يفعل ذلك يوما ما، لأنه لم يشتغل بالدجل قط! إنه يقول لك تعال معى، أو اذهب مع غيرك من الناس لنقف جميعا فى ساحة رب العالمين نناجيه: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين * ) الفاتحة: 7.. فإذا رضى عنك هذا النبى دعا الله لك.. وإذا رضيت أنت عنه ووقر فى(1/16)
نفسك جلال عمله وكبير فضله فادع الله كذلك له! فإنك تشارك ص _021
بذلك الملائكة الذين يعرفون قدره ويستزيدون أجره: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب: 56،. وليس عمل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجرك بحبل إلى الجنة، وإنما عمله أن يقذف فى ضميرك البصر الذى ترى به الحق. ووسيلته إلى ذلك كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ميسر للذكر، محفوظ من الزيغ. وذاك سر الخلود فى رسالته. * * * فلننظر كيف عالج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيئة التى ظهر فيها على ضوء هذه الطبيعة المفروضة فى رسالته، ولننظر قبل ذلك إلى أحوال هذه البيئة نفسها. العرب حين البعثة كان أهل مكة ضعاف التفكير أقوياء الشهوات : إذ لا صلة بين نضج الفكر ونضج الغريزة ، ولا بين تخلف الجماعات من الناحية العقلية وتخلفها من ناحية الأهواء والمطامع . إن عُرام الشهوات الذى نسمع عنه فى " باريس " و " هوليود " لا يزيد كثيرا عما وعته القرون الخالية من مفاسد الإنسان على ظهر الأرض . وتقدم الحضارة لا أثر له من هذه الناحية إلا فى زيادة وسائل الإغراء فحسب . أما الشهوات نفسها فهى هى من قبل الطوفان ومن بعده الأثرة والجشع والرياء والتهارش والحقد ، وغير ذلك من ذميم الخصال ، ملأت الدنيا من قديم ، وإن تغيرت الأزياء التى ظهرت بها على مر العصور . وإن الإنسان ليرى فى القرية التافهة ، وفى القبيلة الساذجة ، من التنافس على المال والظهور ما يراه فى أرقى البيئات ، وكثير من الناس تفوتهم أنصبة رائعة من العلم والفضل ولكن لا تفوتهم أنصبة كبيرة جدا من الاحتيال والتطلع والدس ، وقد تستغرب إذ ترى الشخص لا يحسن فهم مسألة قريبة من أنفه ، ومع ذلك فهو يفهم جيدا ألا يكون فلان أفضل منه ! من عهد نوح والحياة تجمع أمثلة شتى لهذا الغباء وهذا العناد . فعندما دُعِى قومُ نوح إلى الإيمان بالله وحده كانت إجابتهم(1/17)
لنوح لا تهتم بموضوع الدعوة قدر اهتمامها بشخص الداعى ، وما سيحرزه من فضل بهذه الرسالة ! ص _022
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) [المؤمنون :24] ما أكثر منافذ الهوى إلى الأعمال والأحكام، وما أعقد مخلفات الهوى فى الأخلاق والأفكار، والسير والسياسات!!! وقد كانت " مكة " فى عهد البعثة تموج بحركة عاصفة من الشهوات والمآثم، وكان الرجال الذين يحيون فيها أمثلة قوية لنضج الأهواء، وشلل الأفكار، أو نمائها فى ظل الهوى الجامح ولخدمته وحده... كفر بالله واليوم الآخر.. إقبال على نعيم الدنيا وإغراق فى التشبع منه.. رغبة عميقة فى السيادة والعلو ونفاذ الكلمة.. عصبيات طائشة تسالم وتحارب من أجل ذلك.. تقاليد متوارثة توجه نشاط الفرد المادى والأدبى داخل هذا النطاق المحدود!! من الخطأ أن تحسب "مكة " يومئذ قرية منقطعة عن العمران فى صحراء موحشة، لا تحس من الدنيا إلا الضرورات التى تمسك عليها الرمق. كلا، إنها شبعت حتى بطرت. وتنازعت الكبرياء حتى تطاحنت عليها، وكثر فيها من تغلغل الإلحاد فى أغوار نفسه حتى عز إخراجه منه. فهم بين عمٍ عن الصواب أو جاحد له . وفى هذا المجتمع الذى لم ينل حظا يذكر من الحضارة العقلية بلغ غرور الفرد مداه، ووجد من يسابق فرعون فى عتوه وطغواه. قال عمرو بن هشام- معللا كفره برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : زاحمنا بنو عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان ، قالوا: منا نبى يوحى إليه! والله لا نؤمن به، ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه!! وزعموا أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك! لأنى أكبر منك سنا وأكثر منك مالا! وهذه السفاهات العاتية، لم تنفرد مكة بها، فما كان كفر عبد الله بن أبى فى المدينة إلا لمثل هذه الأسباب. ذهب(1/18)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ- بعد الهجرة- يعود سعد بن عبادة فى مرض أصابه قبل وقعة بدر، فركب حمارا وأردف وراءه أسامة بن زيد، وسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبى. وإذا فى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود. وفى المسلمين عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خفر ابن أبى أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن.. فقال عبد الله: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به فى مجالسنا! وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. ص _023(1/19)
فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به فى مجالسنا، فإنا نحب ذلك.. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب وسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألم تسمع ما قال أبو حبان- يعنى ابن أبى-؟ قال سعد: وما قال؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قال كذا وكذا.. فقال سعد: اعف عنه يا رسول الله. فو الذى أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذى أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة- يعنى المدينة- على أن يتوجوه، ويعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذى أعطاك، شرق بذلك، فذلك الذى فعل به ما رأيت . إن ابن أبى غص بالإسلام لأنه رآه خطرا على زعامته، وكذلك فعل أبو جهل من قبل. ولئن كان هؤلاء قد ازوروا عن الحق بعد ما تبينوه، فإن هنا ألوفا غيرهم لا يدركون قيلا ولا يهتدون سبيلا، كرهوا الإسلام وحاربوه. ووسط هذه الجهالات البسيطة أو المركبة، والعداوات المقصودة أو المضللة، وسط نماذج لاحصر لها من الضلال والغفلة، أخذ الإسلام رويدا رويدا ينشر أشعته، فأخرج أمة من الظلام إلى النور، بل جعلها مصباحا وهاجا يضىء ويهدى. و الدروس التى أحدثت هذا التحول الخطير والتى رفعت شعوبا وقبائل من السفوح إلى القمم ليست دواء موقوتا أو مخصوصا بل هى علاج أصيل لطبيعة الإنسان وستظل ما بقى الإنسان وبقيت الحياة تكرم الإنسان وتجدد الحياة.. رسول معلم كانت الشائعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن نبيا قرب ظهوره. ولهذه الشائعات ما يبررها، فإن عهد الناس بالرسل أن يتتابعوا فلا تطول فترة الانقطاع بين أحدهم والآخر، وكثيرا ما تعاصر المرسلون فجمعتهم أقطار واحدة أو متجاورة، ولكن الأمر تغير بعد عيسى، فكادت المائة السادسة تتم بعد بعثته، ولم يأت نبى جديد. فلما اكتظت الأرض بالمفاسد والضلالات زاد التطلع إلى مقدم هذا المصلح(1/20)
المرتقب. وكان هناك رجال ممن ينكرون الجهالة السائدة يستشرفون للمنصب الجليل، ويتمنون لو اختيروا له! منهم (أمية بن الصلت) الذى حفل شعره بالتحدث عن الله وما يجب له من محامد، حتى قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : " كاد أمية أن يسلم " . وعن عمرو بن الشريد عن ص _024
أبيه : ردفت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن الصلت؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدت بيتا، فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت . غير أن القدر الأعلى تجاوز أولئك المتطلعين من شعراء وناثرين، وألقى بالأمانة الكبرى على رجل لم يتطلع إليها ولم يفكر فيها : (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين) القصص: 86،. إن الاصطفاء للرسالات العظيمة ليس بالأمل فيها ولكن بالطاقة عليها. وكم فى الحياة من طامحين لا يملكون إلا الجرأة على الأمل، وكم من راسخين يطويهم الصمت، حتى إذا كلفوا أتوا بالعجب العجاب. ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها. والذى يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة نفسا عظيمة، وقد كان العرب فى جاهليتهم يرمقون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإجلال، ويحترمون فى سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلا أنهم لم يتخيلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستنفجر من ذلك الفم الطهور، فتطوى السهوب والجدوب، وتثب الوهاد والنجاد. إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد. كان اصطفاء الله لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقى عليه، ومضى على النهج مسددا مؤيدا. ومكث الوحى ينزل ثلاثا وعشرين سنة، كانت الآيات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هى فترة تعلم وتعليم. الله عز وجل يعلم رسوله، والرسول يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها فى نفسه حتى(1/21)
يحيلها جزءا من كيانه، ثم يعلمها الناس ويأخذهم بها أخذا. ونزول القرآن على هذه الوتيرة مقصود للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس وسياسة الأمم وتقرير الأحكام. واتساق القرآن فى أغراضه ومعانيه- على طول المدة التى استغرقها تجمعه- يعتبر من وجوه إعجازه، فإن خواتيمه- بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضا ويكمله، كأنما أرسلت فى نفس واحد. ص _025
وقد تساءل العرب: لم نزل القرآن كذلك؟ (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) [الفرقان: 32. 33]. إن القرآن يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو- فى دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفندها، ويسوق أدلته وهو على بينة من آراء خصومه، ويتبع أقصى ما يثار ضده ثم يكر عليه بالحجة فيسحقه. وقد بدأ القرآن بين قوم تشعب الكفر فى نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، كأن القدر تخير هذه البيئة لتكون مجتمعا يمثل آخر ما يحيك فى القلوب من ريبة، وآخر ما يبذله الباطل من التحدى، فإذا أفلح الإسلام فى تبديد هذه الريب، وتذليل هذه العوائق، فهو على ما دونها أقدر! والأسئلة التى توجه للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو التى ينتظر أن توجه إليه فى مختلف العقائد والأحكام وجدت إجابتها الشافية فى القرآن، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه وحدها، بل حاجات الناس على مر الأيام. وفى هذا الجو الملىء بالتساؤل استفهاما أو استنكارا كان الإلهام يلاحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قل كذا، قل كذا. وما أكثر الآيات التى صدرت بهذا الأمر إجابة عن سؤال ورد أو سؤال مفترض. وأنت تحس- إذ تقرأ هذه الأجوبة المستفيضة- فيضا من اليقين ينساب إلى قلبك، كأنها حسمت وساوس عرضت لك أو فى الإمكان أن تعرض. والرسالة الخالدة هى التى تصلها بضمائر الناس هذه الأواصر المتينة. إن(1/22)
القرآن رسول حى، تسائله فيجاوبك، وتستمع إليه فيقنعك. انظر: كيف يؤسس عقيدة البعث والجزاء، وينوه بشمولى الإرادة والقدرة فى ثنايا إجابة عن سؤال موجه، وكيف صيغت المعانى فى أخذ ورد، واعتراض ودفع، كأنها حوار سيال، يتعدى أصحابه حتى يجمع الناس إلى آخر الدهر: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) [يس: 77- 83]. ص _026(1/23)
إن هذا مثل للاستدلال القائم على النظر الصائب، لا يختص به زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان. فهو خطاب للعقل العام فى البشر أجمعين، وهو بيان لحكمة نزول القرآن منجما إذ جاءت الآيات للرسول: قل كذا، ردا على ما عرض له من أسئلة فى أثناء تطوافه هنا وهناك يدعو إلى الله ، ثم ثبت السؤال والجواب ليكون منهما علم ينفع الناس إلى آخر الدهر. * * * وقد استوقف الأمر بـ (قل) نظر العلماء. إنه تعليم من الله لرسوله؟ وتعليم من الرسول للناس، وقد سيقت بعد هذا الأمر الأقوال التى تضمنت ما شاء الله من النصائح والعظات والأحكام. فعندما أحب المشركون- على عاداتهم- أن ينقلوا ميدان الجدل من حقيقة الدين، إلى شخص الرسول وأتباعه نزلت، الآيات: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم * قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين) [الملك: 28. 29]. فانظر كيف يستخلص اللباب وسط غبار الجدل! ما يجديكم تنفص الرسول ومن معه؟ فكروا فى أنفسكم كيف أهلكتها الخرافات وشردت بها عن الجادة؟ إنه ليس لرسول الله ومن معه تفكير فى أنفسهم وحظوظها، إنهم دعاة الرحمن، آمنوا به، وتوكلوا عليه. فإن شئتم فالطريق إلى الرحمن ميسرة!! وليس من الضرورى أن يقع سؤال ما لتأتى الإجابة عنه من لدن الله (قل)!! فربما يجىء السياق على هذا النحو ابتداء عند عرض أصول الدعوة وآدابها، وتكون الغاية منه التعريف بالإسلام ونبيه تعريفا مشبعا مقنعا يستأصل الريب قبل أن تولد : (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) [ الأنعام: 161- 164]. فالخطاب للرسول هنا يتضمن أمرا إلى كل حى وجد فى عهده، أو يوجد من(1/24)
بعده أن يتدبرـ بعقله ـ ما يلقى إليه، وأن يحكم ـ بضميره ـ على مدى صحته وإخلاصه. ص _027
فإذا تعلق بقلبه إيمان فهو إيمان برب كل شىء، وعمل الرسول ينتهى عند هذا الحد، عند وصل العقول والقلوب ببارئها وإيضاح الصراط المستقيم لها، وعلى كل إنسان تحمل تبعته فى فعل الخير أو الشر بعد ذلك. فليس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيطا يحمل لك خيرا قدمته، ولا قربانا يحمل عنك عقابا استحققته، لأنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.. وهنا يبدو بعد الشقة بين المسيحية والإسلام. الإسلام يغالى بقدر الإنسان، ويعطيه جزاءه الحق على الرفعة والضعة. أما النصرانية فالمرء عندها أنزل قدرا من أن يتصل برب العالمين من تلقاء نفسه. لابد من آخر يحمل قربته ويقبل توبته. ومن ذلك الآخر؟ شخص دعى! فإذا اقترف ذنباً فليس هو الذى يلقى قصاصه، إن القربان ذبح قديما من أجل خطيئته تلك، وعليه أن يصدق بذلك لينجو إن أراد النجاة..!! هذا الخبط يحتاج إلى جرارات ثقيلة ليسير فى الحياة مراغما للمنطق والعدالة! أما الإسلام فإن الله يقول لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولا تفتح له الأعين والأفهام: (قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) [الرعد: 16]. إن هذه الاستفهامات المترادفة سياط تلذع الباطل، وتجعل النائم يصحو من سباته، وتحفز الإنسان الى اعتناق الحقيقة، والتسامى بها. وذلك ما يعلنه ويعمل له رسول الإسلام. * * * وقد لقى الإسلام مقاومة عنيفة أشد العنف من الوثنية السائدة، فهى لم تلفظ أنفاسها فى معركة أو معركتين؟ بل قاتلت بيأس شديد على كل شبر من الأرض. وكان الظن أن قواها خارت وانماعت عندما أدى الرسول أمانته وذهب إلى الرفيق الأعلى، بيد أن(1/25)
الجزيرة انتفضت بأسرها فى عهد أبى بكر، وانحصر المسلمون وسط طوفان من الردة العمياء شرعوا يكافحونه مرة أخرى فما استطاعوا كسر شوكته إلا بعد ما تكبدوا من الخسائر أكثر مما فقدوا على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مقاتلة أولئك المشركين. ص _028
إن الرجال الذين ثبتوا على الحق بعد رحيل نبيهم عنهم هم المسلمون حقا فإن الإسلام رباط بمبادئ لا بأشخاص. وقد علم الله نبيه وعلم المسلمين فى شخصه أن يلتزموا الحق الذى عرفوا، وأن يتشبثوا به مهما غُلبوا وحوربوا. والدنيا طافحة بأسباب الزيغ، وهى تحاول أولا ألا تبقى للإيمان مكانا بها، فإذا ظفر بكسب بعد طول عناء حاولت أن تلاينه حتى ينزل عن شىء ويكتفى بشىء، ولو أفلحت فى استدراجه إلى هذه المنزلة لأمكنها الإجهاز عليه ، ولذلك جاءت أوامر الله فى كتابه حاسمة تقضى بأن الإيمان كل لا يتجزأ، وأن مناجزة الكافرين على هذه الحقيقة لا يجوز أن تهدأ، فلابد من الاستمساك بهذه التعاليم المترابطة! والحب والبغض عليها، والمسالمة أو المحاربة دونها، فإن نصيب العاطفة فى خدمة العقيدة، لا يقل عن نصيب العقل. والآيات الواردة فى ذلك هى أوامر للمسلمين تنزلت فى شكل خطاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) [الأحزاب: ا- 3] فليس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مظنة أن يطيع الكافرين والمنافقين حتى ينبه إلى التحرز منهم ! ولكننا ـ نحن ـ المعنيون بهذا الإرشاد. ومن ذلك: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين * ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) [ القصص: 87. 88]. لقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بدء دعوته حربا على الشرك، وعلى الآلهة(1/26)
الأخرى. ومنه تعلم الناس هذه الخصومة ويستحيل أن يتوقع منه غيرها. ومن ذلك: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) [الحجر: 88]. (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) [الكهف: 28] (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) [يونس: 94. 95]. ص _029(1/27)
قال المفسرون: خوطبت الأمة فى شخص رسولها كما تصدر الأوامر إلى القائد مع أن الجند هم المنفذون. وقيل: بل الخطاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طريق الإهاجة واستثارة الهمة. يقال للقوى البادى العزم: لا تهن، وللعاقل الصحيح الذهن: لا تغفل، وليس يخاف عليهما وهن ولا غفلة، ولكن الأمر تحريض على استدامة القوة والذكاء. والشجاع يزداد على الموت إقبالا إذا قيل له: لا تجبن.. وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مناط الأسوة الحسنة، ومن سلوكه يأخذ الناس مثلهم الأعلى. وقد أُمر وأُمرنا بالتوجس من الضالين، والتنائى عن خلقهم وعملهم، وازدراء متاعهم وغرورهم. وذلك لأن هناك أحيانا شتى يضعف فيها الحق ويعز التمسك به، ويقوى فيها الباطل وتكثر المغريات على مصادقته، أو مهادنته. ومن حق العقائد على أصحابها أن يتشددوا فى تدعيم جانبها، وأن يتنكروا لما يمسها من بعيد. والأوامر التى تنظم هذه المشاعر لن تنقصها الصرامة، وماذا بعد أن يقول الله لنبيه: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) [الزمر: 65، 66]. إن هذا الخطاب يقرع آذاننا وله مغزاه، كما قيل: " إياك أعنى واسمعى ياجارة ". وقد كان لهذا الأسلوب أثره فى تأليب المسلمين على الفساد وترهيبهم من الركون إليه، بله الوقوع فيه. وأقوال المفسرين التى سردناها تنطبق أيضا على الآية: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) [يونس: 94.] الخطاب للقارئ، أو السامع أو للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على جهة التهييج والتحريض كما علمت؟ إذ إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن يقع منه شك فى أمر نبوته، والكلام هنا فرض للمستحيل كما قيل نى سورة أخرى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) [الزخرف: ا 8] ولكن ما معنى سؤال أهل(1/28)
الكتاب! قالوا: المراد الثقات المنصفون منهم، فهم لن يكتموا شهادة الحق إذا طلبت إليهم. وعندى أن العدول الصادقين من أهل الكتاب قلة لا يعول على حكمها، وما أظن الآية تعنى ذلك. ص _030
ولكن المرء يزداد تبصرا بنفاسة ما عنده من خير إذا رأى ما عند غيره من خلط. ولو ارتبت لحظة فى أن القرآن من عند الله، ثم تصفحت كتب العهدين القديم والجديد، لعدت- على عجل- إلى كتابك تتشبث به، وتحمد الله ألف مرة أن هديت إليه!! وأحسب أن هذا ما تشير إليه الآية، فإن تبين ما فى الإسلام من حق يزداد قوة عند اكتشاف ما طرأ على الأديان الأولى من تشويه. وهذا يتفق مع قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة: 120]. ويزكى فهمنا هذا فى الآية الكريمة ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال: " يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذى أنزل على نبيكم أحدث الكتب بالله، تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ ولا.. والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذى أنزل عليكم!! * * * إن الإسلام من الناحية العقلية معرفة للحقيقة، ومن الناحية العاطفية حب لها وإعزاز، وكراهية للباطل وعداء صريح. إن هناك أناسا فى مشاعرهم برودة يلقون بها الرأى وضده! وقد يتصور هذا فى بعض المسائل التافهة. أما أن يتعلق الأمر بالإيمان والإلحاد، والفجور والعفاف، فلا.. إن الله علم رسوله الكتاب، والإيمان، فكان من عرفان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الفضل الإلهى أن غالى بإيمانه واعتز بقرآنه، فعاش بهما وعاش لهما، وخاصم وسالم فيهما وطالما تمنى عداته أن يركن إليهم شيئا فليلا، ولكن هيهات! (ودوا(1/29)
لو تدهن فيدهنون) القلم: 9،. والأمة الجديرة بالانتماء إليه هى الأمة التى تناضل على الحق فلا تسمح بانتقاص له ولا حيف عليه، ومن خصائصها أنها أمة فكرة ومنهاج، يقوم كيانها المادى والأدبى على ما تبذل فى ذلك من جهد وتثمر من نتاج. منزلة السنة من الكتاب الكريم من حق المسلم أن يرتب المصادر التى يأخذ عنها دينه ، وأن يدرك الوضع الصحيح للمحفوظ من قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله إلى جوار السجل الثابت للوحى الإلهى الذى خصت به الرسالة الخاتمة . ص _031(1/30)
منزلة السنة من الكتاب الكريم من حق المسلم أن يرتب المصادر التى يأخذ عنها دينه، وأن يدرك الوضع الصحيح للمحفوظ من قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله إلى جوار السجل الثابت للوحى الإلهى الذى خصت به الرسالة الخاتمة. إن القرآن روح الإسلام ومادته، وفى آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته، وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين، وكتب لها الخلود أبد الآبدين، والرجل الذى اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته، كان " قرآنا " حيا يسعى بين الناس، كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات، وسعى وجهاد، وحق وقوة، وفقه وبيان، فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره، وأخلاقه وأحكامه، ونواحى حياته كلها تعد ركنا فى الدين، وشريعة للمؤمنين. إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه، فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال؟ ومن أولى منه بتحديد المسلك الذى يتواءم مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة؟ إن تطبيق القانون لا يقل خطرا عن صياغته، وللقانون نص وروح، وعند علاج الأحداث المختلفة لتسير وفق القانون العتيد، تجد فتاوى وتدون نصائح وتحفظ تجارب وعبر، وتثبت أحكام بعضها أقرب إلى حرفية النص وبعضها أدنى إلى روحه.. وهكذا. والقرآن هو قانون الإسلام، والسنة هى تطبيقه، والمسلم مكلف باحترام هذا التطبيق تكليفه باحترام القانون نفسه، وقد أعطى الله نبيه حق الاتباع فيما يأمر به وينهى عنه لأنه- فى ذلك- لا يصدر عن نفسه بل عن توجيه ربه، فطاعته هى طاعة الله ، وليست خضوعا أعمى لواحد من الناس. قال الله عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) [النساء: 80] وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل: 44،. وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] على أن الإلهام الأعلى لا يعطل مواهب الإنسان الراقى، فمن الخطأ أن نتصور المرسلين أناسا مسخرين تنطقهم الملائكة(1/31)
أو تسكتهم. إنهم لو لم يكونوا أنبياء لكانوا رجالا يرمقون باحترام ويُقدمون عن جدارة. إن الوحى لا يصيب الناس اتفاقا، بل يرشح له أكمل الناس رشدا وأسبقهم فضلا، وأنبلهم خلقا، وأنضجهم رأيا. وسيرة هؤلاء فى الحياة ليست مما ينبذ، وكلهم ليس مما يهمل. فكيف إذا تأيدت هذه العراقة بالعصمة، وهذا الذكاء بالتسديد؟ إن السير فى ركاب المرسلين هو الخير كله، ومن ثم كانت سنة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصدرا لشريعته مع الكتاب الذى شرفه الله به. وجمهور المسلمون على هذا الفهم. ص _032(1/32)
إلا أن السنن المأثورة عرض لها ما يوجب اليقظة فى تلقيها، فليس كل ما ينسب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة تقبل. ولا كل ما صحت نسبته صح فهمه، أو وضع موضعه!! والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة قدر ما أوذوا من الأحاديث التى أسىء فهمها واضطربت أوضاعها. حتى جاء أخيرا من ينظر إلى السنن جمعاء نظرة ريبة واتهام، ويتمنى لو تخلص المسلمون منها. وهذا خطأ من ناحيتين : إهمال الحقيقة التاريخية أولا. فإن الدنيا لم تعرف بشرا أحصيت آثاره، ونقدت بحذر، ومحصت بدقة كما حدث ذلك فى آثار محمد ابن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكيف ترمى بعد ذلك فى مطارح الإهمال؟ والناحية الأخرى أن فى السنة كنوزا من الحكمة العالية لو نسب بعضها إلى أحد الناس لكان من عظماء المصلحين، فلماذا تضيع على صحبها ويحرم الناس خيرها؟! عندما درسنا تراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى " الأخلاق " وذاكرنا أحاديثه التى تربو على الألوف فى شتى الفضائل، خيل إلينا : لو أن جيشا من علماء النفس والتربية اجتمع ليسوق للعالم مثل هذا الأدب لعجز، والأخلاق شعبة واحدة من رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الضخمة. إلا أن الاشتغال بالسنة ـ مع هذا ـ يجب أن يحظر على من لم يستجمع الشروط التى تجعل مثل الاشتغال مفيدا للإسلام والمسلمين. أ- فلا يجوز أن يشتغل بالسنة من لم يدرس علوم القرآن ويضرب فيها بسهم وافر، فإن القرآن هو الدستور الأصيل للإسلام، وهو الذى يحدد للمسلم بدقة تامة واجباته، وحقوقه، ويرتب التكاليف المنوطة به، ويوزع العبادات على حياته، فلا تطغى عبادة على أخرى، ولا تطغى كلها على عمله للحياة ومكانه فيها. والمرء الذى يعجز عن تحصيل هذه الحقائق من القرآن لن يعوضه عن فقدانها شىء آخر، والصورة التى تستقر فى نفسه للإسلام- من غير القرآن- تضطرب فيها النسب والألوان، وربما لحقها اختلاف كبير. ولذلك حرص أئمة الصحابة على أن يخلوا الطريق للقرآن الكريم(1/33)
كى يحتل مكانته الأولى فى القلوب، وحرصوا على ألا يزاحمه فى موضع الصدارة شىء. روى ابن عبد البر فى كتابه " جامع بيان العلم وفضله " بأسانيده التى ذكرها، قال: عن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليا يقول: أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم. ص _033
وعن الزهرى عن عروة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا. ثم أصبح يوما، وقد عزم الله له ، فقال : إنى كنت أريد أن أكتب السنن ، وإنى ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وانى- والله- لا أشوب، وفى رواية: لا أنسى كتاب الله بشىء أبدا. وعن ابن سيرين قال: إنما ضل بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم. ودخل علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود ومعهما صحيفة فيها حديث حسن، فقال عبد الله بن مسعود: يا جارية هاتى بطشت واسكبى فيه ماء، فجعل يمحوها بيده ويقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ) (يوسف : 3) . فقالا له: انظر فيها حديثا عجيبا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره- كانت الصحيفة تضم طرفا من علوم أهل الكتاب. وعن عامر الشعبى عن قرظة بن كعب قال : خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى (صرار) ثم قال : أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مشيت معنا تريد أن تشيعنا وتكرمنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوى بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم. جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، امضوا وأنا شريككم. فلما قدم " قرظة " قالوا: حدثنا. قال: نهانا عمر بن الخطاب. وعمر وعلى وغيرهما من الأئمة لا يجحدون السنة. ولكنهم يريدون(1/34)
إعطاء القرآن حظه الأوفر من الحفاوة والإقبال، وذلك هو الترتيب الطبيعى، فلابد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض فى شروح وتفاصيل لبعض أجزائه، إذ إن هذه التفاصيل والشروح لا يحتاج إليها كل أحد، وربما شحنت الأذهان فلم تترك بها فراغا للأصول اللازمة والقواعد المهمة. وخصوصا لأن الطريقة التى تروى بها الأحاديث تجمع فى صعيد واحد ما صدر عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ متناثرا فى أمكنة وأزمنة شتى وملابسات شتى. عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء يجلس إلى جانب حجرتى يحدث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يسمعنى. وكنت أسبح فقام قبل أن أقضى سبحتى ـ أنهى صلاتى ـ ولو أدركته لرددت عليه. إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يسرد الحديث كسردكم ..!! ص _034(1/35)
2- ويجىء بعد رسوخ القدم فى- فهم القرآن- فهم ما يرد من السنن على وجه الحق، فخير لمن فهم السنن أن يحبس لسانه فى فهمه فلا يقول : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يسوق حديثا لا يعرف ما المقصود منه؟ وإن كان يفهم عبارته الظاهرة وحدها. وقد بليت السنة من قديم بمن يحفظ منها الكثير ولا يعى إلا اليسير، وتعجب السيدة عائشة من أبى هريرة حين جلس يروى، ليس لأنها تتهمه بكذب، بل لأن أسلوب تحديثه يهدر الملابسات التى قيلت فيها هذه الأحاديث بعدما طويت طيا فى سرده الموصول. وقد روى مسلم فى صحيحه أن عمر ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة!. ولعل عمر فعل ذلك لأنه وجد أبا هريرة، يذكر الحديث لمن لا يعى منه إلا أن الاسلام كلمة تقال باللسان ولا عمل وراءها. ومنع الحديث ـ ولو صح ـ إذا أوحى بهذه الجهالة أفضل من إباحة روايته. وروى ابن عبد البر عن أبى هريرة نفسه قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربنى عمر بالدرة!! وفقه عمر فى هذا المنع أنه يريد- كما علمت- بناء المجتمع على تعاليم القرآن وشغل الأفكار بتدبرها والاستنباط منها، فإذا رويت السنن بعدئذ تلقفتها أذهان نيرة، فلم تعد بها معناها الصحيح. يستطيع أبو هريرة لجودة حفظه- أن يسرد مائة حديث فى الصلاة مثلا، وعمر ربما لا يرى حرجا من سرد هذه السنن فى مدرسة خاصة، ولكنه يكره أن يشغل جمهور المسلمين بأمر يكفيهم منه القليل. ثم ينصرفون بعده إلى عمل أجدى على الإسلام وأهله. وذلك سر مطاردته للرواة المكثرين! لقد روى ابن حزم قرابة ألف صفحة من الأحاديث فى الوضوء ولمن شاء أن يتوفر على هذا اللون من العلم، لكن شغل عامة المسلمين به حمق! فماذا يبقى بعدئذ للقرآن نفسه؟ بل إن شغل المسلمين بالقرآن على هذا النحو ليس من الدين. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اقرءوا القرآن، ولا تغلوا(1/36)
فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به" ..!! وإن لم يكن لهؤلاء الحفاظ فضل فلأنهم حملوا العلم إلى من يحسن الإفادة منه، على نحو ما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " رب حامل فقه ليس بفقيه، رب حامل فقه إلى من هو أفقه ص _035
منه " . عن أبى يوسف قال: سألنى الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال لى: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذى حدثتنى أنت! ثم حدثت! فقال لى: يا يعقوب إنى لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك. ما عرفت تأويله إلا الآن..!! وقد يبصر أبو يوسف الفقيه ما يغيب عن الأعمش الحافظ، ولكن المحذور ليس فى الحفظ بلا فهم، بل أن يفهم الأمر على غير وجهه. والترتيب الفنى للسنن- كما دونت وتلقيناها- يجعل ما ورد فى الأيمان بابا وما ورد فى القضاء بابا.. وهكذا. ولما كان الإسلام جملة هذه الحقائق، فإن السنة أصبحت كمتجر كبير للملابس وزعت فيه أنواعها على مختلف الجوانب، هنا أغطية الرأس، وهنا سراويل، وهنا قمصان، وهنا حلل سابغة.. إلخ. والطبيعى أن من يريد كسوة كاملة يمر بهذه الجوانب كلها ليأخذ ما يغطيه من رأسه إلى قدميه، ولكن يحدث كثيرا أن ترى من يشترى قلنسوتين ويخرج حافيا، أو من يشترى منديلاً ويخرج عاريا!! إن هذا مثل طوائف اشتغلت بالسنة، ثم ـ بعد طول تطواف ـ خرجت على الناس، وفى يديها من السنن سواك وعمامة مقطوعة الذنب اعتبروها شعار الإسلام، وسر ذلك أنهم دخلوا المعرض الحافل ثم خرجوا منه بعد أن ظنوا الدين كله فى حديث أو سنة محدودة، فأساءوا بذلك إلى القرآن والسنة جميعا. 3- إن قصر الباع فى السنة ـ على كثرة الاشتغال بها ـ أضر بتوجيه المسلمين، وأشاع بينهم طائفة من الأحكام المبتسرة والتقاليد الضيقة، تنبو عنها روح القرآن والسنة وإن اعتمدت على حديث لم يفهم، أو أثر لم يفقه.. وذلك أن الإسلام ـ فى الشئون المهمة ـ جاء بطائفة من الأحكام، ذكرت فى الكتاب العزيز أو وردت على لسان النبى ـ صلى(1/37)
الله عليه وسلم ـ وهى جميعا متكاملة يصدق بعضها بعضا ويوثقه، فإذا ظهر فى دليل منها ما يعارض سائر الأدلة، بحث فى تأويله حتى يتم الجمع بينها كلها، أو قبل الأرجح سندا ورد الآخر. ولذلك يرى المحققون أن سنن الآحاد ترفض إذا خالفت ظواهر الآى، وعموم النص، أو خالفت قياسا يعتمد على أحكام القرآن نفسه. وهم يفرقون بين الأحاديث التى يرويها رجال فقهاء والتى يرويها رجال حفاظ فحسب. ص _036
ولنضرب لك مثلاً يكشف عما يصيب المسلمون من عقم وضياع، نتيجة فهمها الخاطىء لأثر وارد. كثير من المسلمين يحكمون على المرأة ألا ترى أحدا ولا يراها أحد، وفى المدينة تسيح النسوة فى الطرق يرتدين خياما مغلقة طامسة بها خرقان من أعلى لإمكان الرؤية. وقد تختفى هذه الخروق وراء قطع من الزجاج أو الباغة.. وهذا التقليد السائد يعتمد على حديث سمعت إمام الحرم النبوى يردده من فوق المنبر فى خطبة الجمعة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره لنسوته أن يرين عبد الله بن أم مكتوم، فلما احتججن بأنه أعمى لا يراهما! قال لهما: ! أفعمياوان أنتما "؟ وقد استنكرت على الخطيب إيراده لهذا الحديث، فإن علماء السنة تكلموا فى معناه، ومن الجهل بالسنة تقريره عند بيان وظيفة المرأة، وأسلوب حياتها، وقواعد اتصالها بالمجتمع العام. ولم لا نذكر السنن التى رواها البخارى فى ذلك وهى أدق وأصح؟! أثبت البخارى تحت عنوان ! باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال " عن أنس رضى الله عنه قال: لما كان يوم أحد " انهزم الناس عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ـ ظهورهما ـ ثم تفرغانه ـ الماء ـ فى أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها فى أفواه القوم. وذكر تحت " باب غزو المرأة فى البحر ".. سمعت أنسا رضى الله عنه يقول : دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على " ابنة(1/38)
ملحان " فاتكأ عندها ثم ضحك. فقالت : لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتى يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله مثلهم مثل الملوك على الأسرة. فقالت: يا رسول الله؟ ادع الله أن يجعلنى منهم! قال: اللهم اجعلها منهم. ثم عاد فضحك. فقالت له: عم ذلك؟ فقال لها مثل ذلك! فقالت: ادع الله أن يجعلنى منهم! قال: أنت من ص _037
الأولين، ولست من الآخرين. قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرظة، فلما قفلت ركبت دابتها، فوقعت بها فسقطت عنها فماتت.. وذكر تحت عنوان " باب حمل النساء القرب إلى الناس فى الغزو ".. أن عمر بن الخطاب قسم مروطا بين نساء المدينة. فبقى مرط جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى عندك- يريدون أم كلثوم بنت على- فقال عمر: أم سليط أحق (وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )، قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم " أحد " أى تخيطها. وذكر تحت عنوان " باب مداواة النساء الجرحى فى الغزو" عن الربيع بنت معوذ قالت : كنا مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسقى، ونداوى الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة.. إلخ. ولنفرض أن البخارى لم يرو هذه الأحاديث الصحيحة أفكان حديث العمياوين يسلط على المجتمع، ويحجر به على النساء فى دورهن فلا يخرجن من هذا السجن أبدا؟ إن حكما مثل هذا لا يعرف من القرآن. بل إن القرآن يجعل هذا الحكم عقوبة للنسوة اللاتى يرتكبن الفواحش : (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) [النساء: 15] لكن المسلمين لما استوعروا سبل التربية المهذبة للذكور والإناث ـ بسبب انحرافهم عن القرآن ـ لجئوا إلى السجن والقصر فكان ما كان. هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث. ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة. ثم هجروا أقوال(1/39)
الأئمة إلى أسلوب المقلدين. ثم هجروا المقلدين وتزمتهم إلى الجهال وتخبطهم. وكان تطور الفكر الإسلامى، على هذا النحو وبالاً على الإسلام وأهله. روى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم: " يأتى على الناس زمان يعلق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث ". وسبيل الرشد فى هذه العماية أن نعود إلى القرآن، فنجعله دعامة حياتنا العقلية والروحية، فإذا وصلنا إلى درجة التشبع منه، نظرنا فى السنة فانتفعنا بحكمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته وعبادته وخلقه وحكمه، ولا يجوز أن يتكلم فى السنة رجل قليل الخبرة بالقرآن، أو قليل الخبرة بالمرويات أو ضعيف البصر بمواقعها ومناسباتها. ص _038(1/40)
النبى وخوارق العادات جرت حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخاصة والعامة ـ على قوانين السكون المعتادة، فلم تخرج ـ فى جملتها ـ عن هذه السنن الدائمة. هوـ من حيث إنه بشرـ يجوع ويشبع، ويصح ويمرض، ويتعب ويستريح، ويحزن ويسر، ولكن الناس أنفسهم، فى هذه النواحى، صنوف لا تجمعها قاعدة عامة، منهم المتهالك على ضروراته، فلو نقص حظه منها قليلا طاش لبه وخارت قواه، ومنهم الجلد الصبار يجزئه النزر اليسير، ويمضى لغايته رافع الرأس موطد العزم. إن الآلات التى تدار بالزيوت تتفاوت، منها الردىء الذى يستهلك أثقال الوقود ولا يجدى فتيلا، ومنها الجيد الذى يروع إنتاجه على قلة إمداده.. والبشر كذلك مع أبدانهم وضروراتها ومرفهاتها.. والمطالع لسيرة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى من طبيعة حياته الخاصة صلابة المعدن الذى صيغ منه بدنه صياغة أعجزت العمالقة، وأمكنت صاحبه من أن يحمل أعباء الحياة ومشاق الجهاد، ولأواء العيش، وهو منتصب مقدام. نعم: هناك من العباقرة عمى وصم وممعودون ومصدورون. غير أن العبقرية شأن دون النبوة، ومن تمام نعمة الله على امرئ ما أن يرزق العافية من هذه الأدواء كلها لتتم بهذه العافية السابغة العناصر التى تصحح نظرته إلى الحياة ومسلكه فيها. وقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذه الناحيةـ بشرا كاملا. وكانت حياته متسقة مع سنن الله الكونية فى البطولات الممتازة. * * * * أما حياته العامة ـ رسولا يبلغ عن الله ويربى المؤمنين، ويقاوم الكافرين، ويدأب على نشر دعوته حتى تؤتى ثمارها فى الآفاق ـ فلا شك فى أن القرآن العزيز هو مهادها وبناؤها. ومع أن القرآن كتاب معجز، إلا أنه يقوم على إيقاظ المواهب العليا فى الإنسان، فهو أشبه بالأحداث الجليلة التى تعرض لك فتحملك على التفكير بأصالة وبصر؟ ومن ثم فهو كتاب إنسانى يعين الوعى العام على النضج والسداد: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [الزخرف: 3]،(1/41)
(كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا) [ فصلت: 3. 4]. ص _039
والفارق بين توجيه العرب بالقرآن وتوجيه اليهود بنتق الجبل، كالفارق بين صوت الإرشاد يهدى العاقل إلى الطريق، وسوط العذاب يلسع الدابة البليدة لتمضى إلى الأمام، فلا تسير خطوة إلا رمت بعجزها إلى الوراء خطوات. وكان عبد الله بن رواحة ينشد: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق مكنون من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع * * * ومن المحققين من يرى أن القرآن هو المعجزة الفريدة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهم يلحظون فى هذا الحكم التعريف اللفظى للمعجزة من أنها خارق للعادة مقرون بالتحدى، ولم يعرف هذا التحدى إلا بالقرآن. وقد ملنا إلى قريب من هذا الرأى لا بالنظر إلى التعريف اللفظى للمعجزة بل بالنظر إلى القيمة الذاتية للخوارق الأخرى بالنسبة إلى الأهداف الرفيعة التى جاء بها الإسلام. على أنه لا صلة للعقيدة ولا للعمل بهذه البحوث، فالرجل الفاسد لا يغفر له فساده إيمانه بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أظلته غمامة، أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق.. فإن هذه البحوث ترجع إلى التقدير العلمى لأدلة الإثبات، والتقويم المحض لما فى الوقائع نفسها من معان، وليس للخطأ والصواب فيها مساس بإيمان. * * * وقد سرت فى المسلمين لوثة شنعاء فى نسبة الخوارق إلى الصالحين منهم، حتى كادت جمهرتهم تقرن بين علو المنزلة فى الدين وخرق قوانين الأسباب والمسببات، وحتى جاء من المؤلفين فى علم التوحيد من يقول: وأثبتن للأوليا الكرامة ومن نفاها فانبذن كلامه!! وصلة هذا الإثبات بعلم التوحيد كصلته بعلم النحو أو علم الفلك!! أى أن حقيقة الدين بعيدة عن هذه البحوث، سواء انتهت بالسلب أو بالإيجاب. ص _040(1/42)
والخوارق التى يتهامس بها المفتونون لأوليائهم هى تعبير سئ عن رذائل الكسل والحمق التى تكمن فى طواياهم، كما أن الأحلام الطائشة التى تعترى النائم تعبير عن الاضطراب الذى يملأ نفسه ويرهق أعصابه. هذا فتح الباب الموصد من غير مفتاح، وهذا طار فى الهواء بغير جناح، وهذا بال على الحجر فانقلب ذهبا، وهذا اطلع الغيب واتخذ عند الرحمن عهدا..!! وأمثال هذه السخافات كثير.. وهى تدل على جهل بحقيقة الدين وحقيقة الدنيا، وتدل على أن مروجيها أضل عقولا وقلوبا من أن يعرفوا سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرة أصحابه. ما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل خيال يتيه فى مذاهبه ثم يبنى حياته ودعوته على الخرافة. بل كان رجل حقائق يبصر بعيدها كما يبصر قريبها. فإن أراد شيئا هيأ له أسبابه وبذل فى تهيئتها ـ على ضوء الواقع المر ـ أقصى ما فى طاقته من حذر وجهد، وما فكر قط ولا فكر أحد من صحابته أن السماء تسعى له حيث يقعد، أو تنشط له حيث يكسل، أو تحتاط له حيث يفرط. ولم تكن خوارق العادات ونواقض الأسباب والمسببات أساسا ولا طلاء فى بناء رجل عظيم أو أمة عظيمة. إن محمدا وصحبه تعلموا وعلموا، وخاصموا وسالموا، وانتصروا وانهزموا، ومدوا شعاع دعوتهم إلى الآفاق، وهم على كل شبر من الأرض يكافحون. لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض، ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة، بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم، وحملوا المغارم الباهظة فى سبيل ربهم، فكانوا فى ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين. وقد لقنهم الله عز وجل هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقعوا محاباة من القدر فى أى صدام، وإن كانوا أحصف رأيا من أن يتوقعوا هذا. قال الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو(1/43)
تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) [النساء: 102]. ص _041
فانظر: كيف يكلفون - وهم فى الصلاة وبين يدى الله - بأشد الحذر والانتباه؟ إن الله لم يدع أملاً يخامر أنفسهم بأن الملائكة سوف تنزل لعونهم إن لم يخدموا أنفسهم فلن يخدمهم أحد ذلك هو خطاب الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه.. وعندما ذهل المسلمون عن هذا الدرس فى غزوة " أحد " لطموا لطمة موجعة جندلت من أبطالهم سبعين، وأمضهم خزى الهزيمة، فوقف زعيم الكفر يومئذ - أبو سفيان - يقول: اعل هبل... وأبلى النبى - صلى الله عليه وسلم - بلاء شديدا لينقذ الموقف، وقاتل وقتل، وأصيب فى نفسه. عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه هكذا - ويشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سبيل الله". وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد وشج رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل قوله : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) [آل عمران: 128]. أرأيت التفريط فى أسباب النصر جلب شيئا غير الهزيمة ؟ أولو كان الذين انهزموا هم ممثلى التوحيد الحق؟! أولو كان الذين انتصروا هم سدنة الوثنية المحضة؟! * * * وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورى بغيرها ويقول : "الحرب خدعة " ، ومع قيامه بالأسباب على ما أوجب الله، واحترامه للقوانين الطبيعية التى تنظم حياة البشر، مع ذلك فقد استطاعت بعض قبائل العرب أن تخدعه، وأن تستدرج طائفة من القراء من أفضل أصحابه ليقتلوهم عن أخرهم فى بئر معونة، فما دلت على مصارعهم إلا(1/44)
الطيور تحلق فى الجو مرفرفة على أشلاء الشهداء.. إن هؤلاء الرجال الذين ذهبوا ضحية الغدر من أحب خلق الله إلى الله، ومع ذلك فما أذن ص _042
لأحد منهم أن يطير بغير جناح، أو يتحول عن هذا القدر المتاح كما يفكر متأخرة المسلمين اليوم. ولئن كان الحذر والحيطة من سنن النبوة، فإن الإعداد واستنفاد الجهد فيه من آكد هذه السنن. وبماذا تحسب محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتصر على الناس؟ لقد أنضج رجاله بالإيمان كما ينضج الصيف بلهبه البطىء أطايب ثماره، فلما أرسلهم إلى أنحاء الدنيا طوفوا بها، ولهم زئير كزئير العاصفة المكتسحة المهتاجة.. بل إن الإسلام ـ من يوم بدئه ـ كان معركة يقودها الوحى، ولذلك شبه بوادره الهامية بعاصفة ذات صواعق ورعود : (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) [البقرة: 19] أترى للتراخى والتواكل ثغرة فى هذه الصفوف المتزاحفة؟ يا ويل مسلمى اليوم من انتظارهم لخوارق العادات فى دنيا كشرت عن أنيابها لاستئصال شأفتهم. نحن لا ننكر أن هناك عجائب خارقة تقع للناس، بيد أنها تقع للمؤمن والكافر، والبار والفاجر. فلو أن رجلا سار على الماء دون أن تبتل قدماه ما دل ذلك على صلاحه، لأن مناط الصلاح بما شرع الله من عمل وإيمان فحسب. وإثبات هذه الخوارق لأصحابها مسألة تاريخية بحتة لمن شاء تقصى العجائب، ولا ارتباط لها بأصل الإيمان والتكليف، وذلك ـ بداهة ـ غير المعجزات المشاهدة للمرسلين بصحة التبليغ عن الله. على أن النبوات بما قارنها من خوارق قد انتهت مع الماضى البعيد، فليس للتحكك بها من جدوى ـ وقد علمت أن معجزة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن على غرار ما سبقها، بل كانت معجزة إنسانية عقلية دائمة، ثم نظم الله له حياته ودعوته وفق قوانين الأسباب والمسببات كما رأيت. * * * ولم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف الغيب. كان كأى بشر(1/45)
حى لا يدرى ماذا يكسب غدا!! ولا ينبغى أن ينتظر منه شىء من ذلك بعد أن انتهى إليه أمر الله : (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) [الأعراف: 188] وربما اقترب منه من يضمر له الشر ويظهر الود ـ وهو لا يعلم به ـ حتى تفضحه التجارب: ص _0 ص
(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) [التوبة: 101]. وسيفاجأ يوم القيامة برجال تركهم وهو يعدهم مؤمنين ثابتين ، ثم تكشفت الفتن عن سواد باطنهم وسوء عقباهم. فيقول ما قال عيسى من قبل : (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) [المائدة: 117]. وقد يطلعه الله على بعض الغيوب لحكم خاصة. كما جاء فى التنزيل الإنباء بهزيمة الفرس أمام الروم بعد النصر الكبير الذى سبق لهم أن أحرزوه وسارت بحديثه الركبان، وشمت له الوثنيون، وحزن له المسلمون لمظاهرة منهم لأهل الكتاب. وقد وردت أحاديث صحاح تحسب على ظاهرها كأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف ما يكون، مثل ما ورد عن عدى بن حاتم قال : بينما أنا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل : فقال: " يا عدى هل رأيت الحيرة؟ "، قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. فقال : " إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله ". قلت فى نفسى: فأين ديار طئ الذين سعروا فى البلاد؟ ! ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى ". قلت : كسرى بن هرمز؟! قال : كسرى بن هرمز!! قال: فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله. وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. والحق أن هذه الأحاديث وأشباهها لم تكن إخبارا بغيب ، إنما كانت تصديقا لوعد الله بأن(1/46)
المستقبل للإسلام، وبأن هذا الدين سيسود المشارق والمغارب، فكانت تفسيرا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقول الله تعالى فى كتابه: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) . (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) ص _044
وقريب من ذلك الأحاديث المنبئة عن الفتن.. إن الرجل الخبير بالأسواق لا يلبث ـ بعد استعراض يسير لأحوالها ـ حتى يصدر حكما صائبا عليها، والخبير بطوايا النفوس يستطيع من نظرة خاطفة أن يستشف ما وراءها ويستكشف خباياها، ومن ذلك قول الشاعر: الألمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا! وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبيرا بالنفوس ومعادنها، والدنيا وأطوارها، والزمان وتقلبه، والأديان الأولى وما عانت وعانى رجالها وهم يشقون طريقهم فى الحياة وعقول الأنبياء من ورائها فطرة مجلوة، والهام لماح، فكيف بشيخ الأنبياء الذى تعهده القدر من نشأته ليحمل رسالة معجزتها فى أسلوبها، وأسلوبها يقوم على ترقية الفطر وتفتيق الألباب؟! إن هذا يجعله أشد الناس تقديرا للواقع وانتظارا لما يفد به، هل يستطيع السائر فى مناطق الشمال أن يقدر خلو الجو من الضباب الداكن؟ أو هل يستطيع السائر فى مناطق خط الاستواء ألا يتوقع عواصف القيظ؟! فكيف يليق بصاحب دين خطير أن يتناسى الفتن العارضة لتعاليم دينه ولرجاله، ما قرب منها وما بعد، ما ظهر منها وما بطن؟! لذلك كثر كلام الرسول عن الفتن، وليس القصد الإخبار عنها، بل التحذير منها: تحدث عن الفتن التى تلحق الأشخاص من اختلاف أفكارهم وتنافر أمزجتهم، وتحدث عن الفتن التى تصيب القلوب من إقبال الدنيا والتحاسد عليها.. وتحدث عن الفتن التى تصيب الأمة بعد أن يثوب الكفر من هول الهزائم التى منى بها. ويتماسك مرة أخرى بعدما انحلت عراه. فكان أن خوف أصحابه(1/47)
من ذلك كله فى أحاديث يطول سردها. وأخطر هذه الفتن ما يصيب تعاليم الإسلام نفسها من ذبول واضمحلال!. فالصلاة تفقد روحها، وهو الخشوع، ثم يتآكل جسمها فتتحول نقراً سخيفا. والجهاد يفقد روحه، وهو الإخلاص، ثم يتحول انتهابا للغنائم واستعبادا للأحرار، ثم تفتر حدته ، ثم يبطل... والصيام ينتهى من صبر على الحرمان وتأديب الغرائز المتطلعة إلى استعداد للولائم ومضاعفة للنفقة... والحكم يتطور من خدمة الجمهور برضاه إلى تأله عليه عن بغى واستكراه، ثم يسقط ويضيع الحاكم والمحكوم معا.. ص _045(1/48)
وحتى محبة المسلمين لرسولهم تتحور بعد موته إلى سوق حول قبره تضج بالصياح المنكر والهمهمة الحائرة. * * * * وعندما زرت المدينة توجهت إلى قبر الرسول الجليل، وكانت المشاعر التى تنبعث من قلبى تطن فى أذنى. فلما تبينت لى معالم الضريح يممت شطره وأنا أتضاءل فى نفسى، وكأنى كرة تتدحرج تحت أقدام عملاق... وسلمت بالعبارة التى شرع الله، لم أزد عليها إلا بيتا من الشعر، لم أدر ما وراءه لما عرانى من اضطراب غمغمت به شفتاى ولم تسمعه أذناى: يا خير من دفنت فى الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم ثم انصرفت... بيد أنى لاحظت أمواجا تفد فتصرخ بكلام طويل؟ هذا يقرأ فى كتاب، وهذا يسمع من حافظ، وهذا يشوش على ذلك، والكل يشوش على المصلين، وتتواكب هذه الوفود فى هرج ومرج لا ينقطعان. ألم يكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعنى تلك الحال عندما قال: " اللهم لا تجعل قبرى بعدى وثنا يعبد"؟000 . وما أن تعرفت أحوال العاكفين فى المسجد والبادين، حتى كدت أدع الصلاة فيه، فإنى أكره أشد الكراهية البدع والفوضى والجهل. وقد تذكرت قصة عروة بن الزبير لما بنى قصرا بوادى العقيق وابتعد عن المدينة، فقال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !! فقال: إنى رأيت مساجدكم لاهية، وأسواقكم لاغية، والفاحشة فى فجاجكم عالية، وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية. وقيل: إنه لما عوتب فى ذلك، قال: وما بقى؟ إنما بقى شامت بنكبة، أو حاسد على نعمة! نسأل الله العفو والعافية. ص _046(1/49)
من الميلاد إلى البعث ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - من أسرة زكية المعدن نبيلة النسب، جمعت خلاصة ما فى العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من أوضار. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم " . وعراقة الأصل لا تمنح الرجل الفاشل فضلا، كالصلب إذا ترك للصدأ يمسى لا غناء فيه، أما إذا تعهدته اليد الصناع فإنها تبدع منه الكثير. ولذلك لما سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - : أى الناس أكرم؟ قال: "... فعن معادن العرب تسألونى؟ ! قالوا: نعم. قال: " فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا" . وكان منبت محمد - صلى الله عليه وسلم - فى أسرة لها شأنها، بعض ما أعد الله لرسالته من نجاح. فالمجتمع العربى الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، العصبيات التى تفنى القبيلة كلها دفاعا عن كرامتها الخاصة، وكرامة من يمت إليها. وقد ظل الإسلام حينا من الدهر يعيش فى حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغنى الشجرة عما يحملها بعد ما تغلظ وتستوى... وكان " لوط " يتمنى شيئا من هذه التقاليد، عندما أحس الخطر على الأضياف النازلين به، ولم يجد عشيرة تدفع أو أهلاً تهيجهم الحمية، فقال لقومه: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) . ثم: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ص _047(1/50)
لكن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كرم محتده، لم يرزق حظا وافرا من الثراء، فكانت قلة ماله مع شرف نسبه سببا فى أن يجمع فى نشأته خير ما فى طبقات الناس من ميزات. إن أبناء البيوتات الكبيرة تغريهم الثروة بالسطوة،، فإذا فقدوا هذا السلاح، وكانت لهم تقاليد كريمة بذلوا جهودا مضنية ليحتفظوا بمكانتهم وشممهم. ولذلك يقول قائلهم: وإنا ـ على عض الزمان الذى بنا ـ نعالج من كره المخازى الدواهيا وربما لا يرى بعض الناس حرجا من أن يعلن فاقته ويكشف صفحته. غير أن هناك بعضا آخر يطوون همومهم فى همتهم، ثم يبرزون للدنيا مشمرين، ومن هؤلاء عبد المطلب... كان عبد المطلب سيد مكة، بيد أن هذه السيادة التى انتهت إليه انتهت به ولم تستقر فى عقبه، إذ اشتد ساعد منافسيهم فى زعامة أم القرى، وبدا كأن الأمر سيئول إليهم. بل إن هى إلا أعوام حتى تصدرت أسرة عبد شمس، ثم تمر أعوام أخرى فإذا أبو سفيان يتزعم مكة، وبذلك تنتقل السيادة عن بنى هاشم. و" عبد الله " أصغر أبناء عبد المطلب وله فى قلبه منزلة جليلة، وقد زوجه بآمنة بنت وهب، ثم تركه يسعى فى الحياة وحده، فخرج وهو عروس بعد أشهر من بنائه بآمنة، خرج يضرب مناكب الأرض ابتغاء الرزق، وذهب فى رحلة الصيف إلى الشام، فذهب ولم يعد... عادت القافلة تحمل أنباء مرضه، ثم جاء بعد قليل نعيه. وكانت آمنة تنتظر رجلها الشاب الجلد لتهنأ بمحياها معه، ولتشعره بأن فى أحشائها جنينا يوشك أن تقر به عينهما. غير أن القدرـ لحكمة عليا ـ حسم هذه الأمانى الحلوة، فأمست الزوج المحسودة أيماً. تعد الليالى لتودع الحياة الموحشة " يتيمها " الفريد... قال الزهرى: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات بها. وقيل: بل كان بالشام، فأقبل فى عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فتوفى بها ودفن فى دار النابغة الجعدى وله خمس وعشرون سنة، وتوفى قبل أن يولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولد محمد ـ(1/51)
صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعى العجب أو يستلفت النظر، ولم يمكن المؤرخين تحديد اليوم والشهر والعام الذى ولد فيه على وجه الدقة؟ وأغلب الروايات تتجه إلى أن ذلك كان عام هجوم الأحباش على مكة سنة 575 م فى الثانى عشر من ربيع الأول عام 53 ق. هـ. وتحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شىء ذو بال؟ فالأحفال التى تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوى لا صلة له بالشريعة. ص _048(1/52)
وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد؟ فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التى يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة " ساوة " بعد أن غاضت. قال البوصيرى: أبان مولده عن طيب عنصره يا طيب مبتدأ منه ومختتم يوم تفرس فيه الفرس أنهم قد : أنذروا بحلول البؤس والنقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع : كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنار خامدة الأنفاس من أسف : عليه؟ والنهر ساهى العين من سدم وساء ساوة أن غاضت بحيرتها : ورد واردها بالغيظ حين ظمى وهذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة. فإن ميلاد محمد كان حقا إيذانا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه. وكذلك كان ميلاد موسى، ألا ترى أن الله الوافد الجديد يكلؤه ويغالى به. لما وصف جبروت فرعون، واستكانة الناس إلى بغيه. ثم أعلن عن إرادته فى تحرير العبيد واستنقاذ المستضعفين. قص علينا قصة البطل الذى سيقوم بهذه الأعمال فقال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) [القصص: 7]. وقد كانت رسالة محمد بن عبد الله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلى والمادى وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ، وأحصى فعالهم فى تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم، طاغية إثر طاغية. فلما أحب الناس ـ بعد انطلاقهم من قيود العسف ـ تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات، وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ غنى عن هذا كله. فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف يزهدنا فى هذه الروايات وأشباهها. استقبل " عبد المطلب " ميلاد حفيده باستبشار وجذل، لعله رأى فى مقدمه عوضا عن ابنه الذى هصرت المنون شبابه. فحول مشاعره عن الراحل الذاهب إلى ومن الموافقات الجميلة أن يلهم " عبد المطلب " تسمية حفيده " محمدا " إنها تسمية أعانه عليها ملك كريم. ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام، لذلك سألوه: لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله فى السماء، وأن يحمده الخلق فى(1/53)
الأرض، فكأن هذه الإرادة كانت استشفافا للغيب، فإن أحدا من خلق الله لا يستحق إزجاء عواطف الشكر والثناء على ما أدى وأسدى كما يستحق ذلك النبى العربى المحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ص _049
عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد " . لكن الحقيقة القاسية ـ برغم حفاوة الجد الحنون ـ باقية. فإن " محمدا " يتيم. برز إلى الدنيا بعدما غادر أبوه الدنيا. ليكن.. ولنفرض أن عبد الله بقى حيا.. فماذا عسى كان يفعل لابنه؟ أكان يربيه ليهب له النبوة؟ ما كان له ذلك. إن الأب عنصر واحد من عناصر شتى تتحكم فى مستقبل الطفل وتحفر له فى الحياة مجراه. ولو كانت النبوة بالاكتساب ما قربتها حياة الوالد شبرا فكيف وهى اصطفاء؟ كان يعقوب حيا يرزق، له شيخوخته وتجربته وحكمته؟ بل له نبوته. وقد نظر يوما ما فلم يجد يوسف قريبا منه. إنه فقده فى أخطر فترات العمر، فترة الصبا اللدن واليفاعة الغضة. ومع فساد البيئات التى احتوت يوسف، فقد كان باطنه ينضح بالتقى والعفاف، كما يتقد المصباح فى أعماء الليل المدلهم، فلما التقى الابن بوالده بعد لأى، رأى يعقوب ابنه نبيا صديقا. لقد ولى عبد الله وترك ابنه يتيما، بيد أن هذا اليتيم كان يُعد من اللحظة الأولى لأمر جلل، أمر يصبح به إمام المصطفين الأخيار. وما الأب والجد، ما الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسماء إلا وسائل مسخرة لإتمام قدر الله، وإبلاغ نعمة الله من اصطنعه الله. أقبلت " آمنة " على ابنها تحنو عليه فى انتظار المراضع المقبلات من البادية، يتلمسن تربية أولاد الأشراف. والأعرابيات اللاتى يقصدن مكة لهذه الغاية هن طالبات رزق ويسار. ولم يكن لمحمد أب تُرقب عطاياه، أو غنى تغرى جدواه. فلاعجب إذا زهدت فيه المراضع وتطلعن إلى غيره. وكانت " حليمة ابنة أبى ذؤيب " من قبيلة بنى سعد إحدى القادمات إلى(1/54)
مكة ابتغاء العودة برضيع تستعين على العيش بحضانته. ولم يرض طموحها أول الأمر طفل يتيم. إنها لم تجد طلبتها واستحيت أن تعود صفر اليدين فرجعت إلى "آمنة " تأخذ منها " محمدا ". وكانت البركة فى مقدمه معها. كانت سنواتها عجافا من قبله. فامتن الله عليها بخير مضاعف: درت الضروع بعد جفاف ولان العيش وأخصب، وشعرت حليمة وزوجها وولدها بأن أوبتهم من مكة كانت باليمن والغنم، لا بالفقر واليتم، مما زاد تعلقهم بالطفل وإعزازهم له. ص _050(1/55)
وتنشئة الأولاد فى البادية، ليمرحوا فى كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا فى شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. ولا شك ان اضطراب الأعصاب الذى قارن الحضارة الحديثة يعود - فيما يعود إليه - إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق فى التصنع. ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرضاتها الفساح مدارج طفولتهم. وكثير من علماء التربية يود لو تكون الطبيعة هى المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذى وجد فيه. ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق. شق الصدر مكث " محمد " - صلى الله عليه وسلم - فى مضارب " بنى سعد " خمس سنوات، صح فيها بدنه واطرد نماؤه، وهذه السنوات الخمس هى عمر الطفل. فلا ينتظر أن يقع فيها شىء يذكر. غير أن السنن الصحاح سجلت فى هذه الفترة ما عرف بعد بحادث " شق الصدر". عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعنى مرضعته - أن محمدا قد قتل. فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون. وهذه القصة التى روعت حليمة وزوجها، ومحمد مسترضع فيهم، نجدها قد تكررت مرة أخرى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رسول جاوز الخمسين من عمره. فعن مالك بن صعصعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسرى به قال: بينا أنا فى الحطيم - وربما قال فى الحجر - مضطجع بين النائم واليقظان أتانى آت، فشق ما بين هذه إلى هذه - يعنى ثغرة نحره إلى شعرته - قال: فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبى، ثم حشى ثم أعيد ... ص _051(1/56)
ولو كان الشر إفراز غدة فى الجسم ينحسم بانحسامها، أو لو كان الخير مادة يزود بها القلب كما تزود الطائرة بالوقود فتستطيع السمو والتحليق.. لقلنا : إن ظواهر الآثار مقصودة. ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك، بل البديهى أنه بالناحية الروحية فى الإنسان ألصق. وإذا اتصل الأمر بالحدود التى يعمل الروح فى نطاقها، أو بتعبير آخر عندما ينتهى البحث إلى ضرورة استكشاف الوسائل التى يسبر بها الروح هذا الغلاف المنسوج من اللحم والدم، يصبح البحث لا جدوى منه، لأنه فوق الطاقة. وشىء واحد هو الذى نستطيع استنتاجه من هذه الآثار، أن بشرا ممتازا كمحمد لا تدعه العناية غرضا للوساوس الصغيرة التى تناوش غيره من سائر الناس. فإذا كانت للشر (موجات) تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها فقلوب النبيين - بتولى الله لها- لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها. وبذلك يكون جهد المرسلين فى متابعة الترقى لا فى مقاومة التدلى وفى تطهير العامة من المنكر لا فى التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا : وإياك يا رسول الله. قال: وإياى، إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير" . وفى حديث عائشة، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أغرت؟ قالت: وما لمثلى أن يغار على مثلك! فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد جاءك شيطانك! قالت: أو معى شيطان؟ قال: ليس أحد إلا ومعه شيطان. قالت: ومعك؟ قال: نعم، ولكن أعاننى الله عليه فأسلم " . أى انقاد وأذعن فلا يستطيع أن يهجس بشر. ولعل أحاديث شق الصدر تشير إلى هذه الحصانات التى أضفاها الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - فجعلته من طفولته بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنسانى ومفاتن الحياة الأرضية. وقد أورد الخازن(1/57)
فى تفسيره القصة الأولى - أيام الرضاعة - عند تفسيره لقول الله عز وجل : (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك) . ص _052
وشرح الصدر الذى عنته الآيات ليس نتيجة جراحة يجريها ملك أو طبيب. ويحسن أن تعرف شيئا من أساليب الحقيقة والمجاز التى تقع فى السنة. عن عائشة أن بعض أزواج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلن: " يا رسول الله، أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن قصبة يذرعنها (!) فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد أنما كان طول يدها بالصدقة. وكانت تحب الصدقة وكانت أسرعنا لحوقا به... ! . * * * * آب " محمد " إلى مكة بعد أعوام طيبة قضاها فى البادية، آب ليجد أماً كريمة حبست نفسها عليه، وشيخا مهيبا يلتمس مع مرآه العزاء عن ابنه الذى خلى مكانه فى شرخ الشباب وكأن الأيام أبت له قرارا بين هذه الصدور الرقيقة، فأخذت تحرمه منها واحدا بعد الآخر. رأت " آمنة "ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بـ " يثرب " فخرجت من " مكة " قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متر فى الذهاب غير مثيلتها فى الإياب ومعها فى هذه السفرة الشاقة ابنها " محمد " ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها " أم أيمن !. وعبد الله لم يمت فى أرض غريبة، فقد مات بين أخواله بنى النجار. قال ابن الأثير: إن هاشما شخص فى تجارة إلى الشام فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجى، فرأى ابنته " سلمى " فأعجبته، فتزوجها، وشرط أبوها ألا تلد ولدا إلا فى أهلها، ثم مضى هاشم لوجهه. وعاد من الشام فبنى بها فى أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت. فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بـ " غزة " وولدت له " سلمى " عبد المطلب فمكث فى المدينة سبع سنين.. وقد ظل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدى أخواله قريبا من قبر أبيه نحو شهر. ثم قفل عائدا إلى مكة. وإذا المرض يلاحق أمه ويلح عليها فى أوائل الطريق فماتت بـ " الأبواء" وتركته وحيدا مع الخادم(1/58)
المشدوهة لحال طفل يفقد أباه وهو جنين، ويفقد أمه وهو ابن خمس سنين. إن المصاب الجديد نكأ الجروح القديمة مما جعل مشاعر الحنو فى فؤاد" عبد المطلب " تربو نحو الصبى الناشئ فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثر أن يصحبه فى مجالسه العامة. كان إذا جلس على فراشه بجوار الكعبة، أدناه منه فى حين يجلس الشيوخ حوله. ص _053
وقد تأخرت سن عبد المطلب حتى قيل: إنه توفى وله مائة وعشرون سنة إلا أنه فارق الحياة وعمر " محمد " يناهز الثمانية. فرأى ـ قبل وفاته ـ أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبى طالب. ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، ضمه إلى ولده وقدمه عليهم، واختصه بفضل احترام وتقدير. وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله. ودرج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بيت أبى طالب والسن تمضى به قدما إلى الوعى العميق بما حوله. فأصر على أن يشارك عمه هموم العيش، إذ كان أبو طالب ـ على كثرة أولاده ـ قليل المال، فلما قرر أن يمضى على سنن آبائه فى متابعة الرحيل إلى الشام ابتغاء الاتجار والربح قرر أن يكون معه. وكان عمره نحو الثلاث عشرة سنة. بحيرا الراهب ولا نجد فى السنن الصحاح أنباء تصف هذه الرحلة. إن الأسفار من أخصب أبواب المعرفة، وأعمقها أثرا. ومثل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى صفاء ذهنه ونقاء قلبه، لا يعزب عنه وجه العبرة فيما يرى، فى حله أو ترحاله، على أن من المقطوع به أنه لم يخرج لدراسة دين أو فلسفة، ولم يلق من يتحدث معه فى ذلك. وقد روت كتب الأخبار بعض خوارق، ذكرت أنها وقعت له. من ذلك التقاؤه بالراهب " بحيرا " الذى تفرس فيه ورأى معالم النبوة فى وجهه وبين كتفيه، فلما سأل أبا طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى. قال : ما ينبغى أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخى مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود. وقد تكون هذه القصة صحيحة. فإن البشارة بعد عيسى(1/59)
عليه السلام موجودة فى الكتاب المقدس عند النصارى. وهم ـ منذ تكذيبهم برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ يرقبون هذا النبى المنتظر. ولن يجىء أبدا.. لأنه جاء فعلاً..! وسواء صحت قصة "بحيرا " هذه أم بطلت ، فمن المقطوع به أنها لم تخلف بعدها أثرا، فلا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشوف للنبوة أو استعد لها ـ لكلام الراهب ـ ولا أصحاب القافلة تذاكروا هذا الحديث أو أشاعوه. لقد طويت كأن لم تحدث، مما يرجح استبعادها. وقيل أيضا إن كوكبة من فرسان الروم أقبلت على " بحيرا " كأنها تبحث عن شىء فلما ص _054
سألها: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأن نبيا يخرج هذا الشهر. فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس ـ للقبض عليه . فجادلهم " بحيرا " حتى أقنعهم بعبث ما يطلبون. والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لما يذكر الإنجيليون من أن ناسا طلبوا المسيح عقب ولادته لقتله، وهى عند المسيحيين مضاهاة لما عند الوثنيين من أن بوذا لما وضعته أمه العذراء (!) طلبه الأعداء ليقتلوه.. إن علماء السنة يهتمون بالأخبار الواردة ـ من ناحيتى المتن والسند ـ فإذا لم تفد علما ثابتا، أو ظنا راجحا لم يكترثوا بها. وقد انضمت أساطير كثيرة إلى سير المرسلين، عندما تعرض على القواعد المقررة فى فن التحديث يظهر عوارها ويساغ اطراحها. حياة الكدح عاد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذه الرحلة ليستأنف مع عمه حياة الكدح ، فليس من شأن الرجال أن يقعدوا . ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم ، ويحترفون مهناً شتى ليعيشوا على كسبها . وقد صح أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتغل صدر حياته برعى الغنم وقال : " كنت أرعاها ص _055(1/60)
على قراريط لأهل مكة ".. كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها ، أترى ذلك تعويدا لهم على سياسة العامة، والرفق بالضعفاء والسهر على حمايتهم؟ وقد تسأل: أتنقدح المعارف المتصلة بالكون وما وراءه، والناس وما يفيضون فيه ـ أتنقدح حقائقها فى نفوس المرسلين فجأة، دون إعداد سابق أو تهيئة حكيمة؟ والجواب: كلا. فالأنبياء ـ وإن لم يتعلموا بالطرق والقوانين التى يتعلم بها أمثالنا ـ لهم من سلامة فكرهم واستقامة نظرهم ما يجعلهم فى طليعة العلماء وإن لم يتعلموا بما نعهد من أساليب. ما العلم الذى ترقى به النفس؟ أهو حفظ الدروس واستيعاب القواعد والقوانين؟ إن هناك ببغاوات كثيرة تردد ما تسمع دون وعى. وقد نرى أطفالا صغارا يلقون ـ بإتقان وتمثيل ـ خطبا دقيقة لأشهر الساسة والقادة. فلا الأطفال ـ بما استحفظوا من كلام الأئمة ـ أصبحوا رجالا، ولا الببغاوات تحولت بشرا. وقد تجد من يحفظ ، ويفقه ، ويجادل ويغلب ، ولكن العلم فى نفسه كعروق الذهب فى الصخور المهملة ، لا يبعث على خير ولا يزجر عن شر. وقد شبه القرآن أحبار اليهود الذين يحملون التوراة ولا يتأدبون بها بالحمير: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) . وهذه الطبائع التى تحمل العلم لا تصلح به إنما تسىء إليه، ولذلك يحسن الضن به عليها. وفى الأثر " واضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب " . ثم هناك الخرافيون الذين يغالطون فى الحقائق أنفسهم كأن عقولهم ميزان ثقلت إحدى كفتيه ـ لغير سبب ـ فهو لا يضبط وزنا أبدا، ينبسطون للمستحيلات ويقبلونها. ويتجهمون للوقائع ويرفضونها. وقد بلونا أناسا ظلوا يتعلمون قرابة عشرين سنة تعرض عليهم القضية فيخبطون فيها خبط عشواء، فإذا عرضت القضية نفسها على أمى سليم الفطرة نقى العقل صدع فيها بالحق لأول وهلة. ومعنى ذلك أن هناك من تبذل فى إقامة عوجه العقلى عشرين سنة، حافلة بالبحث والدرس، فتعجز عن(1/61)
الوصول به إلى مرتبة رجل أوتى رشده بأصل الخلقة. ونحن موقنون من مطالعة سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه طراز رفيع من الفكر الصائب والنظر السديد وأنه ـ قبل رعى الغنم وبعده ، وقبل احتراف التجارة وبعدها ـ كان يعيش يقظ القلب فى أعماق الصحراء، صاحيا بين السكارى والغافلين. ص _056
وجو الجزيرة العربية يزيد خمول الخامل وحدة اليقظان، كالشعاع الذى ينمى الأشواك والورود معا، وقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعين بصمته الطويل.. صمته الموصول بالليل والنهار، صمته المطبق على الرمال الممتدة والعمران القليل. كان يستعين بهذا الصمت على طول التأمل، وإدمان الفكر، واستكناه الحق. ودرجة الارتقاء النفسى التى بلغها من النظر الدائم أرجح يقينا من حفظ لا فهم فيه، أو فهم لا أدب معه. ومثله فى احترام حقائق الكون والحياة أولى بالتقديم من أولئك الذين اعتنقوا الأوهام وعاشوا بها ولها. ولا شك فى أن القدر حاطه بما يحفظ عليه هذا الاتجاه الفذ. فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا ـ وذلك من قبيل الصغائر التافهة ـ تتدخل العناية للحيلولة بينه وبين هذه الأمور. روى ابن الأثير: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته. قلت ليلة للغلام الذى يرعى معى بأعلى مكة: لو أبصرت لى غنمى حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب! فقال: أفعل. فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة. فجلست أسمع، فضرب الله على أذنى، فنمت فما أيقظنى إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبى، فسألنى، فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابنى مثل أول ليلة.. ثم ما هممت بعده بسوء...! . ص _057(1/62)
إن مراتب التعليم المختلفة هى مراحل جهاد متصل لتهذيب العقل وتقوية ملكاته، وتصويب نظرته إلى الكون والحياة والأحياء. فكل تعليم يقصر بأصحابه عن هذا الشأو لا يؤبه له، مهما وسم بالشهادات والإجازات. وأحق منه بالحفاوة، وأسبق منه إلى الغاية المنشودة، أن ينال المرء حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف. وقد أشار القرآن الكريم إلى نصيب "إبراهيم " من هذه الخصال عندما قال: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) . ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا المنهج كجده إبراهيم؟ إنه لم يتلق علما على راهب أو كاهن أو فيلسوف ممن ظهروا على عهده، ولكنه بعقله الخصب وفطرته الصافية، طالع صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف منها ما ساءه من خرافة ونأى عنها ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم. فما وجده حسنا شارك فيه بقدر، والا عاد إلى عزلته العتيدة، يتابع النظر الدائم فى ملكوت السموات والأرض، وذلك أجدى عليه من علوم هى بالجهل المركب أشبه، ومن مجتمع فقد الهداة من قرون فهو يضم ضلالا جديدا إلى الضلال القديم كلما مرت عليه ليلة وطلع صباح. وقد رأى أن يشهد الأعمال العامة التى اهتم بها قومه، لأنه لم يجد أى حرج إذ يشارك فيها، ومن ذلك خوضه مع عمومته وقبيلته " حرب الفجار" ثم شهوده من بعد " حلف الفضول ". حرب الفجار كانت حرب الفجار بالنسبة إلى قريش دفاعا عن قداسة الأشهر الحرم، ومكانة أرض الحرم. وهذه الشعائر بقية مما احترمه العرب من دين إبراهيم، وكان احترامها مصدر نفع كبير لهم، وضمانا لانتظام مصالحهم وهدوء عداوتهم. كان الرجل يلقى قاتل أبيه خلالها فيحجزه عن إدراك ثأره شعوره بهذه الحرمات. وقد جاء الإسلام بعده، فأقر هذه المكانة الموروثة عن ديانة إبراهيم: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات(1/63)
والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [التوبة: 36]. ولكن أهل الجاهلية ما لبثوا أن ابتلوا بمن استباحها، فظلموا أنفسهم فيها، وكانت حرب الفجار من آثار هذه الاستباحة الجائرة. وليس هنا تفصيل خبرها، وقد ظلت أربعة أعوام كان عمر " محمد " فى أثنائها بين الخمسة عشر والتسعة عشر، قيل: قاتل فيها بنفسه. وقيل: بل أعان المقاتلين... ص _058
حلف الفضول أما " حلف الفضول " فهو دلالة على أن الحياة مهما اسودت صحائفها، وكلحت شرورها، فلن تخلو من نفوس تهزها معانى النبل، وتستجيشها إلى النجدة والبر. ففى الجاهلية الغافلة نهض بعض رجال من أولى الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة وحرب المظالم، وتجديد ما اندرس من هذه الفضائل فى أرض الحرم!.. قال ابن الأثير: "... ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا فى دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وبنى أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة. فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه؟ وكانوا على من ظلمه، حتى ترد مظلمته. فسمت قريش ذلك الحلف " حلف الفضول "، فشهده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال ـ حين أرسله الله تعالى ـ : " لقد شهدت مع عمومتى حلفا فى دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لى به حمر النعم ولو دعيت به فى الإسلام لأجبت " . إن بريق الفرح ـ بهذا الحلف ـ يظهر فى ثنايا الكلمات التى عبر بها رسول الله عنه. فإن الحمية ضد أى ظالم مهما عز، ومع أى مظلوم مهما هان، هى روح الإسلام. الآمر بالمعروف، الناهى عن المنكر، والواقف عند حدود الله. ووظيفة الإسلام أن يحارب البغى فى سياسات الأمم، وفى صلات الأفراد على سواء.. وقيل فى سبب الحلف: إن رجلا من بنى " زبيد" أتى بتجارة، فاشتراها العاص بن وائل السهمى، ثم حبس حقها وأبى أن يدفعه. فاستعدى عليه قبائل قريش(1/64)
والأحلاف فلم يكترثوا له. فوقف الغريب المظلوم عند الكعبة وأنشد: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائى الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت كرامته ولا حرام بثوب الفاجر الغدر فقام الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك؟ فاجتمع الذين ذكرهم ابن الأثير آنفا. وذهبوا إلى العاص بن وائل واستخلصوا منه حق الزبيدى بعدما أبرموا حلف الفضول. ص _059
ويظهر أن العاص هذا رجل مماطل سمج. فهو صاحب القصة كذلك مع خباب بن الأرت. وكان خباب قينا، فصنع سيفا للعاص وأتاه به لينقده ثمنه. فقال له العاص : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقال له خباب : لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث. قال العاص: وإنى لميت ثم مبعوث؟! قال: بلى. قال: دعنى حتى أموت وأبعث. فسأوتى مالا وولدا، فأقضيك ـ حق السيف ـ فنزلت الآيات: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) . وأمثال العاص هذا فى ميدان التجارة والسياسة كثير.. ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى الناس بخصومتهم. وأولى الناس بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعان عليهم ووثق على حربهم. قوة ونشاط عندما انتهت حرب الفجار وأبرم حلف الفضول كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستقبل المرحلة الثالثة من عمره. وهذه الفترة وما قبلها هى عهد الشباب الحار، والغرائز الفائرة، والطماح البعيد. ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل قوى البدن، عالى الهمة، رفيع المكانة. وقد لوحظت طاقته الواسعة حتى بعد هذه السن بنحو أربعين سنة. قال أبو هريرة: " ما رأيت أحسن من رسول الله. كأن الشمس تجرى فى وجهه! وما رأيت أحدا أسرع فى مشيته من رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكأنما الأرض تطوى له، كنا إذا مشينا معه نجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث ".. ومثل هذا الرجل تقبل عليه الحياة(1/65)
لو لم يقبل هو عليها. وعلى من تقبل الحياة بعده؟ على الواهمين والمنكمشين والمتشائمين؟ لكن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما يملك من وسائل المتاع ـ ما أثرت عنه قط شهوة عارضة أو نزوة خادشة، أو حكيت عنه مغامرة لنيل جاه أو اصطياد ثروة. بل على العكس، بدأت سيرته تومض فى أنحاء مكة بما امتاز به على أقرانه ـ إن صحت الإضافة ـ من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين... وليس شرف النفس أن تنتفى شهوة الإنسان إلى الحياة. أو توجد الشهوة وتنتفى وسائل بلوغها. بل الشرف أن تكون قوة العفاف أربى من نوازع الهوى، فإذا ظلت النفس فى حالة ص _060(1/66)
سكون فلتعادل القوى السالبة والموجبة فيها. وقد تجد رجلا تافها هزيلا لا يخفى له طمع ولا تنحبس له شهوة لو قست غرائزه المنفلتة بغرائز غيره المضبوطة ما بلغت عشر قوتها، لكن هذه وجدت زماما من الرشد فكظم عليها. وتلك لم تجد عقلا يردع ولا خلفا يعصم فثارت و تمردت.. وقد كانت رجولة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى القمة، بيد أن قواه الروحية وصفاءه النفسى جعلا هذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع. ثم إنه كان معافى من العقد الكريهة التى تزين للشباب تعشق العظمة عن طريق التظاهر والرياء، أو تطلب الرياسة عن طريق المداهنة واشتراء العواطف، فإذا انضم لهذا كرهه الشديد للأصنام التى عكف عليها قومه، وازدراؤه للأوهام والأهواء التى تسود الجزيرة وما وراءها، وإدراكه أن الحق شئ آخر وراء هذه الخرافات الغالبة.. تبينا السر فى استئناسه للجبال والفضاء، واستراحته إلى رعى الغنم فى هذه الأنحاء القصية، مكتفيا بالقليل الذى يعود عليه من كسبها. أهذا زهد فى المال أو إعراض عن الحياة الدنيا؟ كلا. إنما هو انشغال بالحقائق العليا التى تصلح بها ويسخر فيها المال. والرجال الكبار لا تشبعهم كنوز الذهب والفضة إذا ظمئوا إلى الحق. ولا يريحهم أن يكونوا ملوك قومهم أو ملوك الحياة، إذا رأوا المساخر الشائنة تسير بالحياة كلها إلى منحدر تسقط فيه أقدار الناس؟ وتتعرى فيه الدنيا جمعاء من كل خير وبر. كذلك استقبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرحلة الثالثة من عمره. وهى المرحلة التى تعرف فيها إلى زوجته الأولى "خديجة بنت خويلد ". خديجة و " خديجة " مثل طيب للمرأة التى تكمل حياة الرجل العظيم. إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبا شديدة الحساسية. ويلقون غبنا بالغا من الواقع الذى يريدون تغييره، ويقاسون جهادا كبيرا فى سبيل الخير الذى يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، بله الإدراك والمعونة! وكانت خديجة(1/67)
سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها فى حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثر كريم. قال ابن الأثير: " كانت ـ خديجة ـ امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال فى مالها وتضاربهم إياه بشىء تجعله لهم منه. فلما بلغها عن رسول الله صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج فى مالها إلى الشام تاجرا وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره، ومعه غلامها ميسرة " . وقد قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا العرض ورحل إلى الشام عاملا فى مال السيدة التى اختارته. ويظهر أن التوفيق حالفه فى هذه الرحلة، أكثر من سابقتها مع عمه أبى طالب، فكان ربحها ص _061(1/68)
أجزل. وسرت خديجة بهذا الخير الذى أحرزته ولكن إعجابها بالرجل الذى اختبرته كان أعمق. إنها امرأة عريقة النسب ممدودة الثروة، وقد عرفت بالحزم والعقل؟ ومثلها مطمح لسادة قريش لولا أن السيدة كانت تحقر فى كثير من الرجال أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس. وأن أبصارهم ترنو إليها بغية الإفادة من ثرائها وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع! لكنها عندما عرفت محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجدت ضربا آخر من الرجال؟ وجدت رجلا لا تستهويه ولا تدنيه حاجة. ولعلها عندما حاسبت غيره فى تجارتها وجدت الشح والاحتيال. أما محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد رأت رجلا تقف كرامته الفارعة موقف النبل والتجاوز، فما تطلع إلى مالها ولا إلى جمالها! لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيا مرضيا. ووجدت خديجة ضالتها المنشودة. فحدثت بما فى نفسها إلى صديقتها " نفيسة بنت منبه " وهذه ذهبت إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفاتحه فى أن يتزوج من خديجة، فلم يبطىء من إعلان قبوله. ثم كلم أعمامه فى ذلك فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد ـ إذ إن أباها مات فى حرب الفجارـ وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليها الصداق عشرين بكرة. ووقف أبو طالب يخطب فى حفل الزواج قائلا : " إن محمدا لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان فى المال قلا فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة. وله فى خديجة بنت خويلد رغبة. ولها فيه مثل ذلك ". فكان جواب ولى خديجة ـ عمها عمروـ : هو الفحل الذى لا يجدع أنفه ". وأنكحها منه... وقيل: إن العبارة الأخيرة جرت على لسان " أبى سفيان " عندما تزوج محمد رسول الله ابنته حبيبة، وكانت الحرب بينهما على أشدها. فاعتذر أبو سفيان عن ذلك بأن محمدا الرجل من الكفاءة بحيث يعتبر الاصهار إليه منقبة! والخصومة القائمة بينهما لا تنزل بقدر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبدا، ونكاحه لبنت أبى سفيان لا يشين أبا سفيان أبدا، وإن(1/69)
كان يومئذ ألد عدو له. كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الخامسة والعشرين عندما تزوج خديجة. وكانت هى قد ناهزت الأربعين. وظل هذا الزواج قائما حتى ماتت خديجة عن خمسة وستين عاما. كانت طوالها محل الكرامة والإعزاز، وقد أنجب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولاده جميعا منها ما عدا إبراهيم. ولدت له أولا " القاسم " وبه كان يكنى بعد النبوة، ثم " زينب " و " رقية " و " أم كلثوم " و " فاطمة " و " عبد الله ". وكان " عبد الله " يلقب بالطيب والطاهر. ومات "القاسم " بعد أن بلغ سنا تمكنه من ركوب الدابة والسير على النجيبة. ومات عبد الله وهو طفل. ومات سائر بناته فى حياته، إلا " فاطمة" فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به . ص _062(1/70)
كان قران محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخديجة خيرا له ولها. ولا شك فى أن هذا البيت الجديد قد اصطبغ بروح رب البيت، روح التطهر من أدران الجاهلية، والترفع عن تقديس الأوثان. وقد استأنف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمل والعزلة. وهجر ما كان عليه العرب فى أحفالهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار ونفار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته، وتدبير معايشه، والضرب فى الأرض والمشى فى الأسواق. إن حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضى ضروبا من الحذر والروية، وخصوصا إذا كان الرجل على خلق عظيم يتقاضاه لين الجانب وبسط الوجه. ولم يكن ثمة ما يقلق فى هذه الزيجة الموفقة إلا ألم خديجة لهلاك الذكور من بنيها مع ما للذكران من منزلة خاصة فى أمة كانت تئد البنات وتسود وجوه آبائهن عندما يبشرون بهن!! والغريب أن العرب بعد البعثة كانوا يعيرون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا، ويعلنون ارتقابهم لانقطاع أثره وانتهاء ذكره. فعن ابن عباس رضى الله عنه، أن قريشا تواصت بينها فى التمادى فى الغى والكفر. وقالت: الذى نحن عليه أحق مما عليه هذا الصنبور المنبتر ـ والصنبور النخلة التى اندق أصلها ـ يعنون أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مات لم يرثه عقب، ولم يحمل رسالته أحد: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) [الطور: 30، 31] ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورسالته فوق هذه الأمانى الصغيرة. إلا أن الأسى كان يغزو قلب الوالد الجليل وهو يودع أبناءه الثرى، فيجدد الثكل ما رسب فى أعماقه من آلام اليتم. إن غصنه تشبث بالحياة فاستطاع البقاء والنماء برغم فقدانه أبويه. وهاهو ذا يرى أغصانه المنبثقة عنه تذوى مع رغبته العميقة ورغبة شريكة حياته فى أن يرياها مزهرة مثمرة، وكأن الله أراد أن يجعل الرقة الحزينة جزءا من كيانه! فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت إلا إذا(1/71)
كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة وعاشت فى أفراح لا يخامرها كدر. أما الرجل الذى خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المخذولين ومداواة المجروحين . الكعبة ومن بقايا كلمة إبراهيم التى أجمع العرب فى جاهليتهم على احترامها "الكعبة" ، وهى أشبه بغرفة كبيرة مشيدة من أحجار قوية، يعتمد سقفها من الداخل على أعمدة من الخشب الثمين. وأول من قام فى بنائها أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل. والغرض من بنائها أن تكون معبدا لله، ومسجدا يذكر فيه اسمه وحده، فإن إبراهيم لقى العناء الأليم فى حرب ص _063(1/72)
الأصنام وهدم المعابد التى تنصب فيها، ثم ألهمه الله أن يبنى هذا البيت ليكون أساسا للتوحيد وركنا ومثابة للناس وأمنا. ومن البدهى أنه لا يسع القصاد جميعا فألحق ما حوله به وصار حرما مقدسا. ومعنى ذلك أن الكعبة نفسها حجارة لا تضر ولا تنفع، وأن الحرمة التى اكتسبتها هى من الذكريات والمعانى التى حفت بها. ولذلك أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تأمين الأعراض والأموال والدماء أقدس عند الله من هذه الكعبة، وأعظم حرمة وأكبر حقا. ومن الوثنية التى يعاديها الإسلام إلى آخر الدهر: الظن بأن الكعبة أو شيئا منها له أثر من نفع أو ضرر. وأنت خبير بأن الرؤساء والقادة والجنود عندما يحيون أعلام بلادهم ويتفانون دونها، فليس هذا عبادة لقطع معينة من القماش. إنما هو تقديس لمعان معينة ارتبطت بها. ومن الأمور التى يسهل فهمها أن تكون لأول مسجد فى الأرض مكانة تاريخية خاصة. وأن يكون قبلة لما يستجد بعده من مساجد. أما الوجهة فى كل صلاة والمقصود فى كل خشوع فهو الله وحده. عن أبى ذر: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع فى الأرض. قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أى؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاما. ثم الأرض لك مسجد ، فحيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه " . وقد تعرضت الكعبة - باعتبارها أثرا قديما - للعوادى التى أوهت بنيانها وصدعت جدرانها. وقبل البعثة بسنوات قلائل جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فلم تر قريش بدا من أن تجدد بناء الكعبة حرصا على مكانتها. وقد اشترك سادة قريش ورجالاتها الكبار فى أعمال التجديد ونقل الأحجار بعدما هدموا الأنقاض الواهية وشرعوا يعيدونها كما كانت. وبناء رفع إبراهيم واسماعيل من قواعده قبل قرون سحيقة لا يوكل أمره لصغار الفعلة، فلا غرو إذا أقبل عليه الشيوخ وأهل النهى والصدارة، ومن بينهم محمد - صلى الله عليه وسلم -(1/73)
وأعمامه. عن عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبى: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة. ص _064
ففعل - كان ذلك قبل أن يبعث - فخر إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء فقال: إزارى إزارى. فشد عليه فما رئى بعد عريانا.. . وتنافست القبائل فى هذا المضمار، كل يبغى الصدارة فيه والذهاب بفخره، حتى كاد هذا السباق يتحول إلى حرب ضروس فى أرض الحرم. واستفحل الشر بين المشتغلين بالبناء عندما بدءوا يستعدون لوضع الحجر الأسود فى مكانه من أركان الكعبة، لولا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى اقترح على المتطاحنين أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل من باب الصفا، وشاء الله أن يكون ذلك محمدا.. فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، ارتضيناه حكما. وطلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثوبا، فوضع الحجر وسطه، ثم نادى رؤساء القبائل المتنازعين، فأمسكوا جميعا بأطراف الثوب حتى أوصلوا الحجر إلى الكعبة، فحمله محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم وضعه فى مكانه العتيد . وهذا حل حصيف رضى به القوم، ومن قبل كانت رؤيتهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مثار تيمنهم واطمئنانهم، وهذا يدل على سناء المنزلة التى بلغها فيهم. ومع جهد قريش فى بناء الكعبة فقد عجزت عن إبلاغها قواعد إبراهيم، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن استقر له الأمر فى الجزيرة لم يجد ضرورة لتجديد زيادة بها. وآثر تركها على ما انتهت إليه. عن عائشة قالت: قال لى النبى - صلى الله عليه وسلم - : " ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد ابراهيم؟ قلت: يا رسول الله، ألا تردها إلى قواعد إبراهيم؟ فقال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت! قال ابن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين(1/74)
يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.. قال العلماء: والمراد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآنف، قرب العهد بالجاهلية وضعف استمكان الإيمان، مما يجعل العرب ينفرون من هدم الكعبة وتغيير هيئتها.. ولو كانت إعادة الكعبة كما بناها إبراهيم فريضة ما تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن الأمر أخف من أن تثار لأجله مشكلات عويصة. ص _065
باحثون عن الحق قلنا إن الوثنية تزين باطلها بطلاء من الحق ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة. فهى تزعم الإيمان بإله خلق السموات والأرض، وفى الوقت نفسه تشرك معه آلهة أخرى هى مزدلف إليه ووسيلة. ولما كان خلق السموات والأرض بعيدا عن مرأى الأعين، فقد أنس العباد المشركون بالآلهة القريبة من أيديهم والتى يترددون عليها صباحا ومساء، حتى صارت صلتهم بها أحكم من الصلة بالإله الأصيل، وأصبح ذكر هذا الإله - المتوسل إليه بغيره - لا يرد إلا فى معرض الجدال والاعتذار: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون * وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) [الزخرف: 87- 89]. غير أن التعصب لهذا السخف جاوز الحدود فأما العامة فهم بُهْمٌ ، أحلاس ما توارثوا، فقدوا نعمة العقل الحر، بل العقل المدرك وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون.. وأما الذين أوتوا حظا من التفكير، فإن تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرأ على التقاليد المستحكمة ، ويجهر بالحق. وأقل من ذلك من يعيش له ويضحى فى سبيله.. وقد وجد قبل البعثة من نظر إلى وثنية العرب نظرة استهزاء ومن عرف أن قومه يلتقون على أباطيل مفتراة ولكنه لم يجد الطريق أو الطاقة على كفهم. أخرج البخارى أن ابن عمر حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل " بلدح " - وذلك قبل أن ينزل الوحى على النبى - صلى(1/75)
الله عليه وسلم - - فقدم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرة فيها لحم. فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد : إنى لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر عليه اسم الله. ص _066
وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله ، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ. تذبحونها على غير اسم الله ـ إنكارا لذلك. وفى رواية أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقى عالما من اليهود ، فسأله عن دينهم. وقال: لعلى أن أدين دينكم! فقال : لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله !! قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيعه!! فهل تدلنى على غيره؟ فقال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقى عالما من النصارى. فذكر له مثل ذلك، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفر إلا من لعنة الله. ولا أحمل من لعنة الله شيئا أبدا وأنا أستطيع!!.. فهل تدلنى على غيره. فقال: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ فقال: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قوله فى إبراهيم عليه السلام خرج. فلما برز رفع يديه. وقال: اللهم إنى أشهدك أنى على دين إبراهيم عليه السلام. وهذا الحديث يبين مقدار الحيرة التى سادت الدنيا وغطت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة. اليهود يشعرون بأنهم مطاردون فى الأرض منبوذون من أقطارها، فعلى الداخل فى دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم. والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب فى طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرفا يلعن بعضها بعضا. وكان نصارى الشام الذين سألهم زيد " يعاقبة " يخالفون المذهب(1/76)
الرسمى لكنيسة الرومان. فلا غرابة إذا أشعروا زيدا بما يقع عليه من عذاب لو دخل فى دينهم أو لعل هذه اللعنة المرهوبة هى تبعات الخطيئة التى اقترفها آدم واستحقها من بعده بنوه كما يدعى النصارى وهم يبررون صلب المسيح، ومن حق زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السلام يبحث عن أصوله وفروعه. وأخرج البخارى عن أسماء بنت أبى بكر قالت: " رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم عليه السلام غيرى. وكان يحمى الموءودة، يقول للرجل ـ إذا أراد أن يقتل ابنته ـ : أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها " . ص _067(1/77)
إن زيدا واحد من المفكرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحريه الحق، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم. لكن القدر كان يتخير رجلا يبصر الحق، ويملك من الطاقة ما يدفعه به إلى آفاق العالمين فى وجه مقاومة تسترخص النفس والنفيس للإبقاء على الضلال والإمساك بليله البارد الثقيل. كان القدر يعد لهذه الرسالة الضخمة رجلها الضخم. والعظائم كفؤها العظماء فى غار حراء أخذت سن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصعد نحو الأربعين. وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، فأمست نظرته إليهم نظرة عالم الفلك ـ فى عصرنا ـ إلى جماعة يؤمنون بأن الأرض محمولة على قرن ثور، أو نظرة عالم الذرة إلى جماعة يتراشقون بالحجارة إذا تحاربوا، ويتنقلون بالمطايا إذا سافروا. ذلك من الناحية الفكرية. أما من الناحية النفسية، فإن الإلحاد الذى شاع فى الجاهلية، وجعل أهلها يقسمون بالله تجهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت. هذا الإلحاد المغرق الطامس غزا نفوس الأخيار بالقلق البالغ إلى أن تصير هذه القلة الحائرة؟ لئن كان الوجود ـ أولا وأخرا ـ هذه الأعمار المستنفدة على ظهر الأرض.. إن الفناء خير وأجدى!! أما من بصيص نور خلال هذا الظلام المخيم؟ وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهجر مكة كل عام ليقضى شهر رمضان فى غار حراء ، وهو غار على مسافة بضعة أميال من القرية الصاخبة ، فى رأس جبل من هذه الجبال المشرفة على مكة والتى ينقطع عندها لغو الناس وحديثهم الباطل ، ويبدأ السكون الشامل المستغرق. فى هذه القمة السامقة المنزوية كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ زاد الليالى الطوال ثم ينقطع عن العالمين متجها بفؤاده المشوق إلى رب العالمين! .. فى هذا الغار المهيب المحجب، كانت نفس كبيرة تطل من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم واعتداء وانكسار ثم تتلوى حسرة وحيرة لأنها لا تدرى من ذلك مخرجا، ولا(1/78)
تعرف له علاجا! فى هذا الغار النائى كانت عين نفاذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم المعتم لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه . ص _068
فى غار حراء كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعبد، ويصقل قلبه، وينقى روحه ويقترب من الحق جهده ويبتعد عن الباطل وسعه. حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح. فى هذا الغار اتصل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملأ الأعلى. ومن قبله شهد بطن الصحراء أخا لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ موسى ـ يخرج من مصر فارا متوحشا، ويجتاز القفار ملتمسا الأمن والسكينة والهدى، لنفسه وقومه، فبرقت له من شاطئ الوادى الأيمن نار مؤنسة، فلما تيممها إذا النداء الأقدس يغمر مسامعه ويتخلل مشاعره : (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) [طه: 14]. إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون لتتقد مرة أخرى فى جوانب الغار الذى حوى رجلا يتحنث ويتطهرـ نائيا بجسمه وروحه ـ عن أرجاس الجاهلية ومساوئها، لكن الشعلة لم تكن نارا تستدرج الناظر بل كانت نورا ينبسط بين يدى وحى مبارك يسطع على القلب العانى بالإلهام والهداية، والتثبيت والعناية، فإذا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصغى فى دهشة وانبهار الى صوت الملك يقول له : " اقرأ.. " فيجيب مستفسرا : " ما أنا بقارئ ". ويتكرر الطلب والرد لتنساب بعده الآيات الأولى من القرآن العزيز: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) [العلق: ا- 5] ورقة بن نوفل إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر مثلنا، لكن الوجود لا يعرف تفاوتا بين أفراد جنس واحد كما يعرف ذلك فى جنس الإنسان. إن بعضهم أرقى من الأفلاك الزاهرة وبعضهم الآخر لا يساوى(1/79)
بعرة.. وإن كان الكل بشرا !! وذلك التفاوت واقع بين من لم يؤيدوا بوحى. فكيف إذا اصطفى إنسان ما، وزيدت أطوار كماله المعتاد طورا آخر، تومض فيه أشعة التسديد والتوفيق والإرشاد والإمداد؟! (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [النحل: 2] . ص _069
إن الجنين بعد نفخ الروح فيه ينشئه الله خلفا آخر، يغاير الأطوار الستة الأولى التى مر بها، سلالة الطين، فالنطفة، فالعلقة، فالمضغة، فالعظام، فالجسم المكسو باللحم..!! والأنبياء بعد اتصال الوحى بهم وسريان روحه الجديدة فى أرواحهم يتحولون بشرا آخرين، لا يدانيهم غيرهم أبدا فى مجادة وإشراق. وهذا التغير الملحوظ سر تذكير الله لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقدرة التى خلقت الإنسان من علق. إن القدرة التى خلقت الإنسان العجيب من علقة طفيلية، هى التى ستنساق بنعمة الله إلى جعل محمد بشرا رسولا، يقرأ بعدما كان أميا (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) [الشورى: 52، 53]. عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله يتزود لذلك، ثم يرجع لخديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال : " اقرأ " قال : " ما أنا بقارئ " قال: فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: " اقرأ " قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق *(1/80)
خلق الإنسان من علق) [العلق: 1، 2] إلخ. فرجع بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجف بوادره! حتى دخل على خديجة بنت خويلد، فقال: " زملونى، زملونى " فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة " أى خديجة ما لى؟ " وأخبرها الخبر؟ ثم قال : " لقد خشيت على نفسى... ". قالت له خديجة: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عم خديجة ـ وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى. فقالت له خديجة : أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك! فقال له ورقة: يا ابن أخى ما ترى؟ فأخبره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبر ما رأى، فقال له ورقة : هذا ص _070(1/81)
الناموس الذى أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجى هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفى وفتر الوحى . لكأن الأربعين عاما السابقة يوم واحد، وبدأ الوحى صبيحة يوم جديد!! إن العقل الجوَّاب الباحث المستفسر أخذ يشيم أنوار الحق. والصدر المحرج المثقل بالتشاؤم والارتباك أخذ يحس برد اليقين وفسحة الأمل، والنقلة الطارئة بعيدة المدى.. إنها النبوة. ألا ما أجمل هذا الفضل المقبل، وما أعظم ما يواجه محمدا فيه من شئون وشجون..!! لذلك سرعان ما تراجعت إليه نفسه. وكان موقف زوجه خديجة منه من أشرف المواقف التى تحمد لامرأة فى الأولين والآخرين، طمأنته حين قلق، وأراحته حين جهد، وذكرته بما فيه من فضائل مؤكدة له : أن الأبرار أمثاله لا يخذلون أبدا، وأن الله إذا طبع رجلا على المكارم الجزلة والمناقب السمحة فلكيما يجعله أهل إعزازه وإحسانه. وبهذا الرأى الواضح والقلب الصالح، استحقت خديجة أن يحييها رب العالمين، فيرسل إليها بالسلام مع الروح الأمين.. . ص _071(1/82)
- 3 - جهاد الدعوة تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ معرفة اليقين أنه أضحى نبيا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحى ينقل إليه خبر السماء..! إلا أن الروعة التى انتابته من هذه الصلة بين إنسان وملك، تركت فى نفسه أثرا من الجهد، كأنما كان يعالج عملا مرهقا صعبا. ولا عجب، فقد ظل يعانى من التنزيل شدة أمدا طويلا، وشاء الله أن يفتر الوحى بعد ابتدائه على النحو الذى أسلفنا حتى يكون تشوف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وارتقابه لمجيئه سببا فى ثباته واحتماله عندما يعود. ومع ذلك ، فإن الطاقة البشرية ناءت أمام وطأته. جاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية. قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدث عن فترة الوحى، فقال لى فى حديثه : فبينا أنا أمشى سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالسا على كرسى بين السماء والأرض ، ففزعت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلى ، فقلت: زملونى زملونى ، فدثرونى.. فأنزل الله عز وجل: (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر) [المدثر: ا- 5]. كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الماضى قد انتهى بمنامه وهدوئه وسلامه، وأنه أمام عمل جديد يستدعى اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة وليواجه الناس، وليأنس بالوحى، وليقو على عنائه، فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته. والوحى إلهام ينضح على القلب بمراد الله فى صورة واضحة لا تحتمل الريبة، وله مراتب ص _072(1/83)
شتى بعضها أيسر من بعض. فعن عمر: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحى، يسمع عند وجهه كدوى النحل " . وكان أحيانا يأتى فى مثل صلصلة الجرس - وكان أشده عليه - فيلتبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به على الأرض إذا كان راكبها. ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه إلى فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . وقد يأتى أيسر من ذلك وأخف. وربما قيل: لم كانت أوائل الوحى بهذه المثابة من الشدة؟ ولماذا لم يبدأ نزول القرآن إلهاما فى منام، أو إلهاما فى يقظة على نحو ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب..... ! . أوليس هذا أبعد عن دواعى الفزع والإعياء؟! والجواب: أن نزول القرآن اتخذ هذه الطريقة أول الأمر، ونزل الملك به فى هذا المظهر قطعا لكل شبهة فى أنه ألفاظ ومعان من عند الله، وأن محمدا حمل تحميلا بعد أن اصطفى له ص _073(1/84)
واختص به. فهو ليس افتعال عابد منقطع تخيل فخال، ولا صناعة فيلسوف ماهر يجيد سوق الأدلة وتنميق المقال، إنما هو كلام الأحد الحق الكبير المتعال : (إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى) [النجم: 4- 12]. إلام يدعو الناس؟ شرع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكلم الناس فى الإسلام ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذى أرسله الله به. وسور القرآن الذى نزل بمكة تبين العقائد والأعمال التى كلف الله بها عباده وأوصى رسوله أن يتعهد قيامها ونماءها، وأول ذلك: ا- الوحدانية المطلقة : فالإنسان ليس عبدا لكائن فى الأرض أو عنصر فى السماء، لأن كل شىء فى السماء والأرض عبد الله ، يعنو لجلاله ويذل فى ساحته ويخضع لحكمه، وليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حق كل امرئ أن يهرع إلى ربه رأسا غير مستصحب معه خلقا آخر، كبر أو حقر. وحق على كل امرئ أن ينكر من أقاموا أنفسهم أو أقامهم غيرهم زلفى، وأن ينزل بهم إلى مكانهم المحدود إن كانوا بشرا أو حجارة أو ما سوى ذلك، ويجب أن تبنى جميع الصلات الفردية والجماعية على أساس تفرد الله فى ملكوته بهذه الوحدانية التامة. ونتيجة هذه العقيدة أن الحجارة التى يعبدها العرب أصبحت لا تزيد على الحجارة التى تبنى بها البيوت أو ترصف بها الطرق، وأن البشر الذين ألهوا فى ديانات أخرى صححت أوضاعهم، فعرفوا على أنهم عبيد لمن خلقهم ورزقهم، يتقدمون عنده بالطاعة، ويتأخرون بالمعصية. ولا شأن لهم فى خلق أو رزق. 2- الدار الآخرة : فهناك يوم لاشك فى قدومه، يلقى الناس فيه ربهم فيحاسبهم حسابا دقيقا على حياتهم الأولى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة: 7. 8]، فإما نعيم ضاحك يمرح فيه الأخيار ويستريحون، هاما جحيم مشئومة، يشقى فيها(1/85)
الأشرار ويكتئبون .. والنظر إلى الدار الآخرة فى كل عمل يأتيه المرء أو يذره من أصول السلوك الصحيح فى الإسلام. فكما أن راكب القطار موقن بأنه سينزل فى محط قادم فكذلك المسلم يعلم أن الأيام ص _074
الجارية به ستقف ـ حتما ـ لترده إلى مولاه، حيث يلقى جزاء العمر، ويجنى ما غرست يداه.. 3- تزكية النفس : وذلك بلزوم عبادات معينة شرعها الله عز وجل وترك أمور أخرى حذرا من مغبتها: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) [الأنعام: 151- 153]. قال أكثم بن صيفى: "إن ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو لم يكن دينا لكان فى أخلاق الناس حسنا". 4- حفظ كيان الجماعة المسلمة : باعتبارها وحدة متماسكة تقوم على الأخوة والتعاون : وذلك يقتضى نصر المظلوم واعطاء المحروم وتقوية الضعيف. وفى سورة " المدثر " ـ وهى أول سورة أمر الرسول فيها بالبلاغ ـ تقرأ قول الله تبارك وتعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 38- 48]. وكان أبو بكر لا يرى مستضعفا يعذب من المسلمين، إلا بذل جهده وماله فى سبيل فك إساره وإنقاذه مما به. وذلك حق الفرد على الجماعة .(1/86)
الرعيل الأول أخذت الدعاية للإسلام تنتشر فى مكة وتعمل عملها فى أصحاب الأفئدة الكبيرة، فسرعان ما يطرحون جاهليتهم الأولى ويخفون إلى اعتناق الدين الجديد وكانت آيات القرآن ص _075
تنزل على القلوب التى استودعت بذور الإيمان كما ينزل الوابل على التربة الخصبة: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) [الحج: ه] كان أصحاب العقائد يتجمعون ـ فى تؤدة ـ حول عقائدهم، ويلتفون ـ فى حب وإعجاب ـ حول إمامهم ، ويشرحون ـ فى حذر ـ أصول فكرتهم. والإيمان قوة ساحرة، إذا استمكنت من شعاب القلب وتغلغلت فى أعماقه تكاد تجعل المستحيل ممكنا. ولقد رأينا شبانا وشيوخا يلتقون عند فكرة من الفكر، ويحلونها من أنفسهم محل العقائد الراسخة. ومع أنها فكرة مادية بحتة، إلا أنهم يجعلون من حياتهم وقود حركتها، ويتحملون أقبح الأذى فى سبيل نصرتها. وفى السجون ـ الآن ـ رجال تخرجوا من جامعات الغرب، يقضون شطرا من أعمارهم مع القتلة وتجار المخدرات..! ويرون ذلك بعض الجهد الواجب لإنجاح مبادئهم ودفعها إلى الأمام. فكيف إذا كان الإيمان الذى ظهر فى صدر الإسلام إيمانا بالله رب السماوات والأرض، وايمانا بالدار الآخرة حيث ينفلت الإنسان من هذه الدنيا لتستقبله فى جوار الله الحدائق الغناء، والقصور الزهر، من تحتها الأنهار الجارية والنعيم المقيم؟.. إن الرعيل الأول يتكون ويتزايد على الأيام. ومن الطبيعى أن يعرض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ أولا ـ الإسلام على ألصق الناس به من آل بيته وأصدقائه. وهؤلاء لم تخالجهم ريبة قط فى عظمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجلال نفسه وصدق خبره، فلا جرم أنهم السابقون إلى مؤازرته واتباعه. آمنت به زوجته " خديجة " ومولاه " زيد بن ثابت "، وابن عمه " على بن أبى طالب " ـ وكان صبيا يحيا فى كفالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ وصديقه الحميم أبو بكر. ثم نشط أبو بكر فى الدعوة إلى الإسلام، فأدخل فيه أهل(1/87)
ثقته ومودته: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبى وقاص. وآمن القس ورقة بن نوفل، وقد روى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآه فى المنام ـ بعد مماته ـ فى هيئة حسنة تشهد بكرامته عند الله. وأسلم الزبير بن العوام، وأبو ذر الغفارى، وعمر بن عنبسة، وسعيد بن العاص. وفشا الإسلام فى مكة بين من نور الله قلوبهم . مع أن ص _076
الإعلام به كان يقع فى استخفاء، ودون مظاهرة من التحمس المكشوف أو التحدى السافر... وترامت هذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماما. ولعلها حسبت محمدا - صلى الله عليه وسلم - أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون فى الألوهية وحقوقها كما صنع أمية بن الصلت، وقس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره، وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته. واستمر هذا التطور السرى للدعوة ثلاث سنين. ثم نزل الوحى يكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمعالنة قومه، ومجابهة باطلهم، لمهاجمة أصنامهم جهارا. إظهار الدعوة قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما نزلت الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) [ الشعراء: 214]. صعد النبى - صلى الله عليه وسلم - على الصفا فجعل ينادى : "يا بنى فهر، يا بنى عدى ـ لبطون قريش ـ " حتى اجتمعوا، فجعل الذى لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر: ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا. قال: " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد!! ". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) [المسد: 1]. وعن أبى هريرة قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله عليه : (وأنذر عشيرتك الأقربين) فقال : " يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئا. يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا(1/88)
عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سلينى ما شئت من مالى، لا أغنى عنك من الله شيئا" . هذه الصيحة العالية هى غاية البلاغ. فقد فاصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه على دعوته، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة التى يقوم عليها العرب ذابت فى حرارة هذا الإنذار الآتى من عند الله . لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كبير المنزلة فى بلده مرموقا بالثقة والمحبة، وهاهو ذا يواجه مكة بما تكره. ويتعرض لخصام السفهاء والكبراء. وأول قوم يغامر بخسران مودتهم، هم عشيرته ص _077(1/89)
الأقربون. لكن هذه الآلام تهون فى سبيل الحق إى شرح الله به صدره. فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار، ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعد لحسم هذه الثورة التى اندلعت بغتة، ويخشى أن تأتى على تقاليدها وموروثاتها. وبدأت قريش تسير فى طريقها، طريق اللدد، ومجانبة الصواب. ومضى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك فى طريقه، يدعو إلى الله، ويتلطف فى عرض الإسلام ويكشف النقاب عن مخازى الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع.. غير أن حرصه على هداية آله الأقربين جعله يجدد مسعاه محاولا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإن منزلتهم الكبيرة فى العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج. وهم ـ قبل ذلك ـ أهله الذين يود لهم الخير، ويكره لهم الوقوع فى مساخط الله. وروى ابن الأثير: قال جعفر بن عبد الله بن أبى الحكم : لما أنزل الله على رسوله (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء : 214]، اشتد ذلك عليه، وضاق به ذرعا فجلس فى بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه فقال: ما اشتكيت شيئا. ولكن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى. فقلن له : فادعهم، ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك. فدعاهم فحضروا ومعهم نفر من بنى المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسة وأربعين رجلا، فبادره أبو لهب وقال : " هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة! واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة! وأنا أحق من أخذك! فحسبك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بنى أبيه بشر مما جئتهم به ". فسكت رسول الله ولم يتكلم فى ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية. وقال : الحمد لله أحمده وأستعينه. وأومن به وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله. والله الذى لا إله إلا هو، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة. والله لتموتن كما تنامون. ولتبعثن كما تستيقظون. ولتحاسبن بما تعملون. وإنها للجنة(1/90)
أبدا، أو النار أبدا ". فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك!! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون. وإنما أنا أحدهم، غير أنى أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به. فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسى لا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوءة!! خذوا على يديه قبل أن يأخذكم غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا . ص _078
أبو طالب إن أبا طالب برغم بقائه على الشرك واستمساكه بدين الآباء ـ ظل حى العاطفة ظاهر الحدب على ابن أخيه وهو مدرك كل الإدراك ما سوف تجره هذه الدعوة من متاعب عليه وعلى أسرته، بيد أن إعزازه لمحمد وتأذيه من مواجهته بما يكره حملاه على ضمان الحرية له . بل على التعهد بحمايته وهو يبلغ عن ربه!! وأبو طالب من رجالات مكة المعدودين. كان معظما فى أهله، معظما بين الناس فما يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته. وكان بقاؤه مع أهل مكة ـ محترما للأوثان ـ من أسباب امتداد نفوذه ورعاية حقوقه.. أما أبو لهب فصورة لأرباب الأسر المتهالكين على مصالحهم وسمعتهم من غير نظر إلى حق أو باطل. فأى عمل يعرض مصالحه لبوار، أو يخدش ما لاسمه من منزلة يهيج ثائرته، ويدفعه لاقتراف الحماقات.. وفى طبيعة أبى لهب قسوة تغريه باقتراف الدنايا. كان أبناؤه متزوجين ببنات محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأمرهم بفراقهن، فطلق عتبة وعتيبة. رقية، وأم كلثوم.. ولعل أبا لهب كان متأثرا فى هذه البغضاء المتنزية بزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان، وهى امرأة سليطة، توزها على كراهية محمد ودينه علل شتى، ولذلك بسطت فيه لسانها، وأطالت عليه الافتراء والدس! وإذا كانت أهواء الجاهلية تدفع عم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الإغلاظ معه على هذا النحو الوضيع، فكيف يكون مسلك الأباعد الذين يتمنون العثار للسليم والتهمة للبرىء؟ ولكن ما أبو لهب؟ وما قريش؟ وما العرب؟ وما الدنيا(1/91)
كلها؟ بإزاء رجل يحمل رسالة من الله الذى له ملك السموات والأرض يريد أن يعيد بها الرشد لعالم فقد رشده، وأن يمحو بها الأوهام، فى حياة مرغتها الأوهام فى الرغام؟ ما تجدى وقفة جهول، أو غضبة مغرور، فى منع هذه الرسالة الكبيرة من المضى إلى هدفها البعيد؟! إن الطحالب العائمة لا توقف السفن الماخرة. ولئن نقم الجاهليون على المسلمين مروقهم من بين قومهم بهذه الدعوة ـ حتى ليسموهم الصباة ـ فإن المسلمين لأشد نقمة عليهم ، أن سفهوا أنفسهم، وحقروا عقولهم، وتشبثوا بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان ! . إن الدعوة التى بدأ بها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بطن مكة لم تكن لبناء وطن صغير، بل كانت ص _079(1/92)
إنشاء جديدا لأجيال وأمم تظل تتوارث الحق وتندفع به فى رحاب الأرض إلى أن تنتهى من فوق ظهر الأرض قصة الحياة والأحياء. فماذا تصنع خصومة فرد أو قبيلة لرسالة هذا شأنها فى حاضرها ومستقبلها؟ ومن أولئك الخصوم؟ .. متعصبون تحجرت عقولهم، تزين لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) [الحج: 72] .. أم مترفون سرتهم ثروتهم يحبون الباطل لأنه على أرائك وثيرة، ويكرهون الحق لأنه عاطل عن الحلى والمتاع. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) [ مريم: 73] .. أم متعنتون يحسبون هداية الرحمن عبث صبية، أو أزياء غانية فهم يقولون: دع هذا وهات هذا. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) يونس: 15،!! .. أو مهرجون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما تقرأ الآيات، حتى لا تسمع فتفهم فتترك أثرا فى عقل نقى وقلب طيب. (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت: 26] لو أن أهل مكة ترددوا فى تصديق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يبحثوا أمره ويمحصوا رسالته، ويزنوا ـ على مهل ـ ما لديهم وما جاء به، لما عابهم على هذا عاقل. ولكنهم نفروا من الإسلام نفور المذنب من ساحة القضاء بعدما انكشفت جريمته وثبتت إدانته. وقد حزن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الإعراض المقرون بالتكذيب والتحدى، ومن حق كل رجل صدوق نبيل أن يأسف ويألم إذا ألفى نفسه مكذبا مهجورا. إلا أن الله واساه، فأبان له بواطن أولئك المكذبين المتألبين. (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام: 33] . إن المعتوه إذا اعترض طريقك ووقع فى عرضك بلسان حاد، سمعت من يقول لك: هذا لا يقصد العدوان عليك،(1/93)
ولكنه يستجيب لنوازع الجنون فى دمه. وكذلك أولئك المشركون. إن فظاظتهم وإنكارهم تمشى مع دواعى الجحود فى طباعهم قبل أن تكون انتقاضا للرجل ص _080
الذى يحدثهم أو طعئا فى خلقه. (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام: 33]. ومن ثم فعلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمضى فى سبيل البلاغ، وأن يجتاز ما يلقى أمامه من صعاب وعقاب، وعلى المؤمنين برسالته أن يثبتوا، وليس ثباتهم لمصلحتهم الخاصة فقط ولا حق الإيمان عليهم وكفى، بل هو لمصلحة الأجيال المقبلة. إن البنيان الشامخ الذى لا يرتكز على سطح الأرض، إنما يرتكز على دعائم غائرة فى الثرى. وهى التى تحمل ثقله وترفع عمده. وقد كان أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاول ـ بصلابة يقينهم وروعة استمساكهم ـ دعائم رسالته وأصول امتدادها من بعد، فى المشارق والمغارب. الاضطهاد قرر المشركون ألا يألوا جهدا فى محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام. ومنذ جهر الرسول بالدعوة إلى الله، وعالن قومه بضلال ورثوه عن آبائهم، انفجرت مكة بمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعد المسلمين عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت فى الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم تحملا للضيم وتوقعا للويل.. وصاحبت هذه السخائم المشتعلة حرب من السخرية والتحقير قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرمى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته بتهم هازلة وشتائم سفيهة. وتألفت جماعة للاستهزاء بالإسلام ورجاله، على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتا لاذعة وصورا مضحكة للحط من مكانتهم لدى الجماهير. وبهذين اللونين من العداوة وقع المسلمون بين شقى الرحى. فرسولهم ينادى بالمجنون: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) [الحجر: 6]، ويوصم بالسحر والكذب: (وعجبوا أن جاءهم(1/94)
منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) [سورة ص: 4]. ويشيع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) [القلم: 51] وليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم ـ فى غدوهم ورواحهم محل التندر واللمز : ص _081
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) [المطففين: 29- 32]. وانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دم بالنسبة إلى المستضعفين من المؤمنين، فمن ليست له عصبة تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شىء. بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء. عمار بن ياسر من هؤلاء عمار بن ياسر، وهو من السابقين الأولين فى الإسلام، وكان مولى لبنى مخزوم. أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها، ومر بهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يعذبون. فقال: صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة. فمات ياسر فى العذاب. وأغلظت امرأته "سمية " القول لأبى جهل فطعنها فى قبلها بحربة فى يديه، فماتت. وهى أول شهيدة فى الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو تقول فى اللات والعزى خيرا ففعل، فتركوه فأتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبكى فقال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا. قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئنا بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد. فأنزل الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106]. وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ص _082(1/95)
بلال ومن هؤلاء" بلال بن رباح " كان سيده أمية بن خلف ـ إذا حميت الشمس وقت الظهيرة ـ يقلبه على الرمال الملتهبة ظهرا لبطن، ويأمر بالصخرة الجسيمة فتلقى على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فما يزيد بلال عن ترديد: أحد.. أحد... خباب ولما اشتدت ضراوة قريش بالمستضعفين، ذهب أحدهم ـ خباب بن الأرت ـ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستنجد به، قال خباب: شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة فى ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ". ** ** ** ماذا عسى يفعل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأولئك البائسين؟ إنه لا يستطيع أن يبسط حمايته على أحد منهم، لأنه لا يملك من القوة ما يدفع به عن نفسه، وقد كان فى صلاته يرمى عليه ـ وهو ساجد ـ بكرش الجزور أو رحم الشاة المذبوحة، وكانت الأنجاس تلقى أمام بيته، فلا يملك إلا الصبر. إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل أو آجل، إنه أزاح الغشاوة عن الأعين، فأبصرت الحق الذى حجبت عنه دهرا، ومسح الران عن القلوب، فعرفت اليقين الذى فطرت عليه وحرمتها الجاهلية منه. إنه وصل البشر بربهم فربطهم بنسبهم العريق وسببهم الوثيق، وكانوا ـ قبلاـ حيارى محسورين. إنه وازن للناس بين الخلود والفناء، فآثروا الدار الآخرة على الدار الزائلة، وخيرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم. فازدروا الأوثان المنحوتة، وتوجهوا للذى فطر السموات والأرض. حسب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قدم هذا الخير الجزيل، وحسب أصحابه أن ساقته(1/96)
العناية لهم، فإذا أوذوا فليحتسبوا، وإذا حاربهم عبيد الرجس من الأوثان فليلزموا ما عرفوا. والحرب القائمة بين الكفران والإيمان سينجلى غبارها يوما ما، ثم تتكشف عن شهداء وعن هلكى، وعن مؤمنين قائمين بأمر الله، ومشركين مدحورين بإذن الله : ص _083
(وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) [هود: 121-123]. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبث عناصر الثقة فى قلوب رجاله، ويفيض عليهم ما أفاضه الله على فؤاده من أمل رحيب فى انتصار الإسلام، وانتشار مبادئه، وزوال سلطان الطغاة أمام طلائعه المظفرة فى المشارق والمغارب، وقد اتخذ المستهزئون من هذه الثقة مادة لسخريتهم وضحكهم. كان الأسود بن المطلب وجلساؤه... إذا رأوا أصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ يتغامزون بهم ويقولون : قد جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا على ملك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون. وتواصى المشركون بعد مصادرة الدعوة بهذا الأسلوب أن يمنعوا الوافدين إلى مكة من الاستماع إليها. قال الوليد بن المغيرة لرجالات قريش: إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتختلف فيه أقوالكم، يقول هذا : ساحر، ويقول هذا: كاهن، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس يشبه واحدا مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه : ساحر، لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته. وقد اقتسم هؤلاء المتآمرون مداخل مكة أيام الموسم، يحذرون الناس من الداعية الخارج على قومه، وينعتونه بما تواصوا به من سحر مفرق! ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يذهب إلى الحجيج فى مجامعهم، ويحدثهم عن الإسلام، ويطلب منهم النصرة. عن جابر بن عبد الله: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض نفسه بالموقف فيقول: " ألا رجل يحملنى إلى قومه! فإن قريشا(1/97)
منعونى أن أبلغ كلام ربى " . مفاوضات ظن المشركون أن بطشهم بالمستضعفين، ونيلهم من غيرهم سوف يصرف الناس عن الاستجابة لداعى الله، وظنوا أن وسائل السخرية والتهكم التى جنحوا إليها ستهدم قوى المسلمين المعنوية فيتوارون خجلا من دينهم ويعودون كما كانوا إلى دين آبائهم. غير أن ص _084
ظنونهم سقطت جميعا، فإن أحدا من المسلمين لم يرتد عن الحق الذى شرفه الله به، بل كان المسلمون يتزايدون! ولم تفلح طرق الاستهزاء فى الصد عن سبيل الله أو تشويه معالمها، إنها زادت شعور المسلمين بما تزخر به الوثنية من معرات ومخاز تستحق الفضيحة والاستئصال. ما تصنع سخرية الجهول بالعالم؟! (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) [هود: 38. 39]. رأت قريش أن تجرب أسلوبا آخر، تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذى يحميه، تحذره مغبة هذا التأييد، حتى يكلم هو الآخر محمدا أن يسكت، فلا يجر المتاعب على كاهله ووليه. **** ** أرسلت قريش " عتبة بن ربيعة " ـ وهو رجل رزين هادئ ـ فذهب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: يا ابن أخى، إنك منا حيث قد علمت من المكان فى النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالأ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. " وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا فلا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ". فلما فرغ من قوله تلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه صدر سورة فصلت : (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا(1/98)
يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) [ فصلت: ا- 7]. ص _085
حتى وصل إلى قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) [فصلت: 13] تخير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآيات من الوحى المبارك ليعرف محدثه حقيقة الرسالة والرسول. إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحمل كتابا من الخالق إلى خلقه يهديهم من ضلال وينقذهم من خبال. وهو ـ قبل غيره ـ مكلف بتصديقه والعمل به والنزول عند أحكامه. فإذا كان الله يطلب من عباده أن يستقيموا إليه ويستغفروه، فمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألهج الناس بالاستغفار وألزمهم للاستقامة وما يطلب ملكا ولا مالاً ولا جاها. لقد أمكنه الله من هذا كله فعف عنه وترفع أن يمد يده إليه، وبسط العطاء مما سيق إليه من خيرات، فأنفق واديا من المال فى ساعة من نهار، وترك الحياة غير معقب لذريته درهما. إن عتبة ـ باسم قريش ـ يريد أن يترك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعوة إلى الله وإقامة العدالة بين الناس! ماذا تصير إليه الحياة لو أن صخرة من الأرض انخلعت عنها وصعدت إلى دارات الفلك تطلب من الشمس أو أى كوكب آخر أن يقف مسيره وإشعاعه ويحرم الوجود من ضيائه وحرارته؟!! ألا ما أغرب هذا الطلب! وما أجدر صاحبه أن يرتد إلى مكانته لا يعدوها! ولذلك، بعدما استمع عتبة الى آيات القرآن توقظ ما كان نائما من فكره، استمع إلى الوعيد يهدر فيحرك ما كان هاجعا من عاطفته: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) [فصلت: 13] لقد وضع عتبة يده على جنبه وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمدا وشأنه! * ** ** أما وفد قريش إلى أبى طالب، فقد أخذ يقول: يا أبا(1/99)
طالب إن ابن اخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا. فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولا جميلا وردهم ردا رقيقا. فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما هو عليه ثم استشرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتآمروا فيه، فمشوا إلى أبى طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سنا وشرفا، وإنا قد استنهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك إلى أن يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه. عظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم له ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ص _086(1/100)
وخذلانه، وبعث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبق على نفسك وعلى، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قد بدا لعمه رأى، وأنه خذله وضعف عن نصرته، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يا عماه والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . ثم بكى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقام، فلما ناداه عمه أبو طالب أقبل عليه وقال: اذهب ابن أخى فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشىء أبدا وأنشد: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد فى التراب دفينا * * * وهكذا أخفق الإغراء والإرهاب فى تعويق الدعوة. وأدركت قريش أن ما تصبو إليه بعيد المنال فعادت سيرتها الأولى، تصب جام غضبها على المؤمنين، وتبذل آخر ما فى وسعها للتنكيل بهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم. وحزن الرسول الكريم للمآسى التى تقع لأصحابه وهو عاجز عن كفها، فأوعز إلى من قل نصيره، ونبا به المقام فى مكة أن يهجرها إلى الحبشة وكان ذلك لخمس سنين من مبعثه أو بعد سنتين من جهره بالبلاغ. الهجرة إلى الحبشة كان الرحيل إلى الحبشة تسللا فى الخفاء، حتى لا تستيقظ قريش للأمر فتحبطه. ولم يبدأ كذلك على نطاق واسع، بل كان الفوج الأول مكونا من بضع أسر، فيهم رقية ابنة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجها عثمان بن عفان، ونفر آخر من المهاجرين لم يزيدوا جميعا عن ستة عشر. وقد يمموا شطر البحر حيث قيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة. فلما خرجت قريش فى آثارهم إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين. ولم يمكث أولئك المهاجرون طويلا حتى ترامت إليهم الأخبار بأن المشركين هادنوا الإسلام وتركوا أهله أحرارا وأن ا لإيذاء القديم انقطع فلا بأس عليهم إن عادوا. ص _087(1/101)
وتركت هذه الشائعة أثرها فى قلوب المؤمنين، فقرروا العود إلى وطنهم، حتى إذا اقتربوا من مكة تبينت لهم الحقيقة المحزنة، وعرفوا أن المشركين أشد ما يكونون خصاما لله ورسوله والمؤمنين، وأن عدوانهم لم ينقطع يوما. ويزعم بعض المغفلين أنه وقعت هدنة حقا بين الإسلام والوثنية أساسها أن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم والاعتراف بمنزلتها (!) وأن هذه الهدنة الواقعة هى التى أعادت المسلمين من الحبشة. وماذا قال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مدح الأصنام؟ يجيب هؤلاء المغفلون بأنه قال : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى (؟!) وأين وضع هذه الكلمات؟ وضعها فى سورة (النجم) مقحمة وسط الآيات التى جاء فيها ذكر هذه الأصنام. فأصبحت هكذا: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [ النجم 19 ـ 23]. ويكون معنى الكلام على هذا: خبرونى عن أصنامكم: أهى كذا وكذا؟ إن شفاعتها مرجوة، إنها أسماء لا حقائق لها، خرافات ابتدعت واتبعت. ما لكم جعلتموها إناثا ونسبتموها لله وأنتم تكرهون نسبة الإناث لكم؟! تلك قسمة جائرة! فهل هذا كلام يصدر عن عاقل، فضلا عن أن ينزل به وحى حكيم؟ ولكن هذا السخف وجد من يكتبه وينقله! إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو كذب على الله باختلاق كلام عليه لقطع عنقه بنص الكتاب الذى جاء به. قال الله جل شأنه : (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) [الحاقة: 44-47] بيد أن كتب التاريخ والتفسير التى تركت للوراقين والزنادقة يشحنونها المفتريات اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح. ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم، إلا أنه ما كان يجوز أن يدون مثله. إنك تفتح " الخازن " فى(1/102)
تفسير القرآن (سورة هود) فتقرأ ما يلى: لما كثرت الأرواث فى سفينة نوح أوحى الله إليه أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، ومسح على الخنزير فوقع منه الفأرة، فأقبلوا على الروث فأكلوه. فلما أفسد الفأر فى السفينة وجعل يقرضها ويقطع حبالها، أوحى الله إليه أن اضرب بين عينى الأسد، فضرب فخرج من منخره قط وقطة. فأقبلا على الفأر فأكلاه . ص _088
أرأيت هذا الكلام الفارغ؟ أرأيت من قبله حديث الغرانيق؟ إن كثيرا من هذه الخرافات الصغيرة توجد فى كتب شتى عندنا، ولا ندرى متى تنظف هذه الكتب القديمة، منها، فهى لا ريب مدخولة عليها أيام غفلة المسلمين وغلبة الدسائس اليهودية على أفكارهم و مخطوطاتهم. والذى ورد فى الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ سورة " النجم " فى محفل يضم مسلمين ومشركين، وخواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب. فلما أخذ صوت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهدر بها ويرعد بنذرها، حتى وصل إلى قول الله: (والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأي آلاء ربك تتمارى * هذا نذير من النذر الأولى * أزفت الآزفة * ليس لها من دون الله كاشفة * أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون) [النجم: 53- 61]. كانت روعة الحق قد صدعت العناد فى نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين، مع غيرهم من المسلمين. فلما نكسوا على رءوسهم وأحسوا أن جلال الإيمان لوى زمامهم، ندموا على ما كان منهم، وأحبوا أن يعتذروا عنه، بأنهم ما سجدوا مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عطف على أصنامهم بكلمة تقدير (كذا) وليس يُستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون النكت للضحك من المسلمين ولا يستحى أحدهم ـ وهو ابن خال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ أن يقول له ساخرا: كلمت اليوم من السماء يا محمد؟ وليس أسمج من اعتذار المشركين عن سجودهم إلا تصديق هذا الاعتذار. قد حاول(1/103)
المشركون أن ينشروا فريتهم هذه ليعكروا على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويشوشوا على الوحى وليوهموا بأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بعض أحيانه مال إليهم، وهيهات فإن الحرب التى شنها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الوثنية لم تزدها الليالى إلا ضراما، ولم تزده من عبيدها إلا خصاما . ص _089
عاد من هاجر إلى الحبشة ليباغت بأن الاضطهاد الواقع على الاسلام أحد وأشد فدخل بعضهم مكة مستجيرا بمن يعرف من كبرائها، وتوارى الآخرون. لكن قريشا أبت إلا أن تنكل بالقادمين وأن تغرى سائر القبائل بمضاعفة الأذى للمسلمين، فلم ير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة مرة أخرى للحبشة. وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع فخرج منهم فى هذا الفوج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة. ويسر الله لهم السفر فانحازوا إلى نجاشى الحبشة ووجدوا عنده ما يبغون من أمان وطيب جوار وكرم وفادة. والظاهر أن هذا النجاشى كان رجلا راشدا نظيف العقل، حسن المعرفة لله، سليم الاعتقاد فى عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام، وكانت مرونة فكره سر المعاملة الجميلة التى وفرها لأولئك اللاجئين إلى مملكته فارين بدينهم من الفتن. * * * * عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى النجاشى وفدا منهم محملا بالهدايا والتحف، كى يحرم المسلمين وده، ويطوى عنهم بشره. وكان الوفد من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ واستعان الوفد على النجاشى برجال حاشيته بعد أن ساقوا إليهم الهدايا، وزودوهم بالحجج التى يطرد بها أولئك المسلمون! قالوا: إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم. واتفقوا معهم أن يشيروا على النجاشى بإقصائهم. فلما فوتح النجاشى(1/104)
فى الأمر وأشير عليه بإبعاد القوم، رأى أنه لابد من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعا. ثم أرسل إلى أصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه، فيما ساءه وسره. وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبى طالب فقال لهم النجاشى: ما هذا الدين الذين فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من الناس ؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وألا نشرك به شيئا، ونخلع ما كنا ص _090(1/105)
نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام. وعدد عليه أمور الإسلام. قال جعفر: فآمنا به وصدقناه وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نُظلم عندك. فقال النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله شىء؟! قال: نعم. فقرأ عليه سطرا من (كهيعص). فبكى النجاشى وأساقفته، وقال النجاشى: "إن هذا والذى جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة. انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبدا " يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه فخرجا وقال " عمرو " لعبد الله بن أبى ربيعة : والله لآتينه غدا بما يبيد خضراءهم. فلما كان الغد قال للنجاشى: إن هؤلاء يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما. فأرسل النجاشى يسألهم عن قولهم فى المسيح فقال جعفر: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشى عودا من الأرض وقال : ماعدا عيسى ما قلت قدر هذا العود فنخرت بطارقته! فقال: وإن نخرتم! وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لى جبلا من ذهب وأننى آذيت رجلا منكم! ورد هدية قريش وقال: ما أخذ الله الرشوة منى حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس فى حتى أطيعهم فيه . وأقام المسلمون عنده بخير دار. أخفقت حيلة عمرو، وعاد الوفد إلى مكة يجر أذيال الخيبة، وعرفت قريش أنها لن تشبع ضغينتها على الإسلام وأهله إلا فى حدود سلطانها، فعزمت أن تشفى غيظها ممن يقع تحت أيديها . إسلام حمزة وعمر إن الأفق المتلبد بالسحب قد يتولد منه برق يضىء. لقد غبرت على المسلمين فى مكة أيام غلاظ، اضطرت بيوتا عديدة إلى أن تفر بدينها، وبقى من بقى منهم(1/106)
يكابد العنت من شطط ص _091
المشركين وكيدهم، إلا أن عناصر جديدة دخلت فى الإسلام جعلت قريشا تتروى فى أمرها قبل أن تقدم على إساءاتها المبيتة. أسلم حمزة بن عبد المطلب، عم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخوه من الرضاع، وهو رجل أيد جلد قوى الشكيمة. وسبب إسلامه الغضب لما بلغه من تهجم أبى جهل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تهجما بذيئا. قالت له أمة لعبد الله بن جدعان: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك " محمد " من أبى الحكم بن هشام، فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد ـ وكانت المرأة قد شهدت هذا الحادث فى مسكن قريب ـ فأسرع " حمزة " محنقا لا يلوى على شىء وصعد إلى أبى جهل وهو فى مجلسه من قومه، ثم ضرب رأسه بالقوس، فشجه شجة منكرة وقال: أتشتمه وأنا على دينه؟! وكما يقول البعض: طلبنا العلم للدنيا فأبى الله إلا أن يكون للدين! كان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى. واعتز به المسلمون أيما اعتزاز. أما عمر بن الخطاب فكان من أول الفتانين المستهزئين بالإسلام، وكان معروفا بحدة الطبع، وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمون منه ألوان الأذى. روت زوجة عامر بن ربيعة قالت: إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض حاجته، إذ أقبل عمرـ وهو على شركه ـ حتى وقف علىَّ وكنا نلقى منه البلاء، فقال: أتنطلقون يا أم عبد الله؟ قالت: نعم، والله لنخرجن فى أرض الله، فقد آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا. قالت: فقال عمر: "صحبكم الله "، ورأيت له رقة وحزنا!! قالت: فلما عاد عامر أخبرته وقلت له: لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا.. قال: أطمعت فى إسلامه؟ قلت: نعم. فقال: " لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب!! " ـ لما كان يراه الرجل من شدته وغلظته على المسلمين. ولكن قلب المرأة كان أصدق من رأى الرجل، فإن غلظة عمر كانت قشرة خفيفة تكمن وراءها ينابيع من الرقة والعطف(1/107)
والسماحة. والظاهر أن عمر كانت تصطرع فى نفسه مشاعر متناقضة : احترامه للتقاليد التى سنها الآباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التى ألفها.. ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء فى سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التى تساوره ـ كأى عاقل ـ فى أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور. ذهب ليقتل محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ثنته عن عزمه كلمة. ولما علم بإسلام أخته وزوجها اقتحم عليهما البيت صاخبا متوعدا وضرب أخته فشجها، وأعاده منظر الدم المراق إلى صوابه فرجحت ص _092(1/108)
نواحى البر والخير فى نفسه، وتناولت ورقة كتبت فيها بعض الآيات، وتلاها، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه..؟ واستكان عمر للحق فمشى إلى رسول الله يعلن إسلامه. فلما خلصت نفسه من شوائبها، وتمحصت للإسلام، كان مددا عظيما لجند الله، فازداد المسلمون به منعة، ووقعت فى نفوس الكافرين منه حسرة. ورأت قريش أن أمر الإسلام ينمو ويعلو، وأن وسائلها الأولى فى محاربته لم تمنع انتشاره أو تنفر أنصاره، فأعادت النظر فى موقفها كله لترسم خطة جديدة أقسى وأحكم وأدق وأشمل. المقاطعة العامة وتمخض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم، أو يحمى أحدا منهم حزبا واحدا دون سائر الناس، ثم اتفقوا على ألا يبيعوهم أو يبتاعوا منهم شيئا وألا يزوجوهم أو يتزوجوا منهم، وكتبوا ذلك فى صحيفة وعلقوها فى جوف الكعبة، توكيدا لنصوصها. ولا شك فى أن المتطرفين من ذوى النزق والحدة نجحوا فى فرض رأيهم وإشباع ضغنهم، فاضطر الرسول ومن معه إلى الاحتباس فى شعب بنى هاشم، وانحاز إليهم بنو المطلب كافرهم ومؤمنهم على سواء، ما عدا أبا لهب فقد آزر قريشا فى خصومتها لقومه. وضيق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقل الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب وعضتهم الأزمات العصيبة حتى رثى لحالهم الخصوم. ومع اكفهرار الجو فى وجوههم، فقد تحملوا فى ذات الله الويلات. ولم تفتر حدة الوثنيين فى الحملة على الإسلام ورجاله، وفى تأليب العرب عليهم من كل فج!. قال السهيلى: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة، يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من الطعام قوتا لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لا يدركوا معكم شيئا. وقد علمتم مالى ووفاء ذمتى، فأنا ضامن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس(1/109)
فى يده شىء يطعمهم به. ويغدو التجار على أبى لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعا وعريا. وروى يونس عن سعد بن أبى وقاص قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت ص _093
البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فآخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ورضضتها بالماء، فقويت بها ثلاثا. فانظر كيف انتهى الحصار بالمسلمين. وكيف أضناهم الحرمان وألجأهم أن يطعموا ما لا مساغ له؟ وقد أحزنت تلك الآلام بعض ذوى الرحمة من قريش فكان أحدهم يوقر البعير زادا ثم يضربه فى اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين فيخفف شيئا مما بهم من إعياء وفاقة. كم بقيت هذه الضائقة؟ ثلاث سنين كالحة، كان رباط الإيمان وحده هو الذى يمسك القلوب ويصبر على اللأواء. ومن الطبيعى أن يستعجل المسلمون الخروج من هذه المآزق. لطالما وعدوا بالنصر والتمكين فما وجدوا إلا الروع والشغب! وهاهم أولاء مخرجون فى أرض تنكرت لهم، واقشعرت تحت أقدامهم، ولا ريب فى أن قلوبهم امتلأت غيظا على أولئك المشركين الذى سخروا من جميع القيم الفاضلة، وكفروا بانتصارها فى الدنيا كفرهم بمجىء اليوم الآخر. ولو لم يطلب أولئك المعذبون النصر لينقذهم من بأسائهم لطلبوه، كى يخزوا به المكذبين ويؤدبوا المتوقحين، بيد أن الوحى كان ينزل فيطالب المسلمين باليقين والثبات دون ارتقاب لهذه النتائج المتوقعة، يجب أن يحمدوا على حقائق الإيمان التى عرفوها، وأن يستمدوا من سموها وصدقها ما يراغمون به الأيام والأحداث : (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون * ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) [يونس: 46، 47]. وكان المشركون أيضا يتعجلون خاتمة الصراع بينهم وبين أولئك المسلمين. يتعجلون لأنهم يضحكون منها فما يثقون ببعث أو جزاء، ولا يظنون أبدا أن يوما قريبا أو بعيدا سينشق فجره فإذا مكة خالية من الأصنام،(1/110)
وإذا أذان التوحيد يرن فى أرجائها، وإذا المحصورون فى الشعب هم أصحاب الأمر والنهى والسادة الحاكمون بأمرهم اليوم أسرى يرجون العفو!! وكان يقينهم من أن اليوم والغد لهم يزين لهم الاستهزاء بهذا الوعد وألتعريض به: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون) ص _094(1/111)
وكان الدخول فى الإسلام والبقاء عليه أبعد ما يكون عن التهمة، ربما اعتنق فريق من الناس مبدأ ما ـ عن صدق واقتناع ـ وليس يمنعهم ذلك من التماس النفع به والتقدم من ورائه. أما أولئك السابقون الأولون فقد علموا أن فقدان المنافع وهلاك المصالح الخاصة أول ما يلقون من تضحية فى سبيل عقيدتهم. ولا أحسب شيئا يربى النفوس على التجرد كهذا التفانى فى الحق، للحق ذاته، ثم إن القرآن كان صارما فى قمع المتاجرة بالعقائد. والإثراء على حسابها والعلو فى الأرض باسمها: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15، 16]. وقد أفاد الصحابة من ذلك عفة ونقاء وإخلاصا لا يعرف لها فى التاريخ نظير، فلما تعثرت تيجان الملوك بأقدامهم، واستسلمت الأقطار المكتظة بالخير لجيوشهم، كانت دوافع العقيدة وأهدافها هى التى تشغل بالهم قبل الفتح وبعده. فلم يكترثوا لذهب أو فضة.. إنما عناهم ـ أولا وآخرا ـ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. * * * * وفى أيام الشعب كان المسلمون يلقون غيرهم فى موسم الحج، ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة وعرضها على كل وفد، فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات بل يزيد جذورها عمقا وفروعها امتدادا. وقد كسب الإسلام أنصارا كثيرا فى هذه المرحلة، وكسب ـ إلى جانب ذلك ـ أن المشركين قد بدءوا ينقسمون على أنفسهم ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة ونقض الصحيفة التى تضمنتها. وأول من أبلى فى ذلك بلاء حسنا (هشام بن عمرو) فقد ساءته حال المسلمين ورأى ما هم فيه من عناء، فمشى إلى زهير بن أبى أمية، وكان شديد الغيرة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب، وتنكح النساء(1/112)
وأخوالك حيث قد علمت؟ أما إنى أحلف بالله، لو كانوا أخوال أبى الحكم ـ يعنى أبا جهل ـ ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبدا! فقال: فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لنقضتها! فقال: فقد وجدت رجلا، قال: ومن هو؟ قال: أنا. قال زهير: أبغنا ثالثا فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد ذلك ص _095
موافق عليه؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إلى مثلها منكم أسرع!! قال: ما أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: وقد وجدت ثانيا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو! قال: زهير بن أبى أمية. قال: أبغنا رابعا. فذهب إلى أبى البخترى بن هشام. وقال له نحوا مما قال للمطعم. قال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: أنا وزهير والمطعم. قال: ابغنا خامسا فذهب إلى زمعة بن الأسود فكلمه وذكر له قرابته. قال: وهل على هذا الأمر معين؟ قال: " نعم " وسمى له القوم. فاتعدوا " خطم الحجون " الذى بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعهدوا على القيام فى نقض الصحيفة، فقال زهير: أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!! قال أبو جهل: كذبت، والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت!! قال أبو البخترى: صدق والله زمعة لا نرضى ما كتب فيها. قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك!! وقال هشام بن عمرو نحوا من هذا. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل! فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا كلمة "باسمك اللهم ". وكان العرب تفتتح بها كتبها. عام الحزن انطلق المسلمون من الشعب يستأنفون نشاطهم القديم بعدما قطع(1/113)
الإسلام فى مكة قرابة عشرة أعوام مليئة بالأحداث الضخمة، وما إن تنفس المسلمون من الشدة التى لاقوها حتى أصيب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوفاة زوجته خديجة ثم بوفاة عمه أبى طالب. أى أنه نكب فى حياته الخاصة والعامة معا. إن " خديجة " من نعم الله الجليلة على " محمد " عليه الصلاة والسلام ، فقد آزرته فى أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وشاركته مغارم الجهاد المر، وواسته بنفسها ومالها، وإنك لتحس قدر هذه النعمة عندما تعلم أن من زوجات الأنبياء من خن الرسالة وكفرن برجالهن، وكن مع المشركين من قومهن وآلهن حربا على الله ورسوله : (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [التحريم: 10]. أما خديجة فهى صديقة النساء، حنت على رجلها ساعة قلق، وكانت نسمة سلام وبر، رطبت جبينه المتصبب من آثار الوحى، وبقيت ربع قرن معه، تحترم قبل الرسالة تأمله وعزلته ص _096(1/114)
وشمائله، وتحمل بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة، وماتت والرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الخمسين من عمره، وهى تجاوز الخامسة والستين. وقد أخلص لذكراها طول حياته. أما أبو طالب، فإن المرء يحار فى أمره! وبقدر ما ينحنى إعجابا لنبله فى كفالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لبطولته فى الدفاع عنه حين نبئ، وحين صدع بأمر ربه، وأنذر عشيرته الأقربين. إنه - بقدر ذلك - يستغرب المصير الذى ختم حياته، وجعله يصرح - قبل موته - أنه على ملة الأشياخ من أجداده. وقد حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموت أبى طالب حزنا شديدا. ألم يكن الحصن الذى تحمى به الدعوة من هجمات الكبراء والسفهاء؟ وها قد ولى الرجل الذى سخر جاهه وسلطانه فى الذود عن ابن أخيه وكف العوادى أن تناله. إن قريشا أصبحت لا تهاب فى محمد - صلى الله عليه وسلم - أحدا بعده. روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك أنهم تجرءوا عليه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه. وعن ابن مسعود قال: " بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس. فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بنى فلان فيضعه بين كتفى محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لى منعة طرحته عن ظهره. والنبى - صلى الله عليه وسلم - ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة. فجاءت - وهى جويرية - فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاث مرات، وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال: " اللهم عليك بقريش " ثلاثا. فلما سمعوا، ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته. ثم قال: "(1/115)
اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط "، وذكر السابع ولم أحفظه. فوالذى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم " بدر" ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر". لقد مضت مكة فى طريق الكفر حتى أوغلت فيه وبلغت نهايته، فهى الآن تستمرئ تلويث الساجدين بالأقذار، وتتمايل - ضحكا - من منظر الأنجاس، وهى تسيل على كتفى المصلى. لم يبق فى هذه القلوب مكان لذرة من الخير. ص _097(1/116)
والبنت- فى المجتمع العربى- تعيش فى كنف أبيها، وتفخر بقوته، وتأنس بحمايته. فما يحز فى قلب الرجل أن يرى نفسه فى وضع تدفع عنه ابنته، وتشعر بالعجز وقلة الناصر. وقد كظم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ألمه، وتحمل فى ذات الله ما لقى، إلا أنه أخذ يفكر فى التوجه برسالته إلى قرية أخرى، علها تكون أحسن قبولا وأقرب استجابة، فاستصحب معه زيد بن حارثة وولى وجهه شطر ثقيف " يلتمس نصرتها. فى الطائف ذهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف حيث تقطن ثقيف، وهى تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلا. سارها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قدميه جيئة وذهوبا. فلما انتهى إليه، قصد إلى نفر من رجالاتها الذين ينتهى إليهم أمرها، ثم كلمهم فى الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوه ـ جميعا ـ ردا منكرا، وأغلظوا له الجواب. ومكث عشرة أيام، يتردد على منازلهم دون جدوى. فلما يئس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خيرهم، قال لهم: إذا أبيتم، فاكتموا علىَّ ذلك ـ كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم ـ لكن القوم كانوا أخس مما ينتظر. قالوا له: اخرج من بلدنا وحرشوا عليه الصبيان والرعاع، فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة و " زيد بن حارثة " يحاول ـ عبثا ـ الدفاع عنه حتى شج فى ذلك رأسه. وأصيب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أقدامه، فسالت منها الدماء، واضطره المطاردون أن يلجأ إلى بستان لعتبة وشيبة ابنى ربيعة، حيث جلس فى ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن. وكان أصحاب البستان فيه، فصرفوا الأوباش عنه، واستوحش الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الحاضر المرير، وثابت إلى نفسه ذكريات الأيام التى عاناها مع أهل مكة، إنه يجرر وراءه سلسلة ثقيلة من المآسى المتلاحقة، فهتف يقول: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس.. أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى.. إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم(1/117)
يكن بك غضب على فلا أبالى، غير أن عافيتك هى أوسع لى..! ص _098
أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل على غضبك، أو أن ينزل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ". وتحركت عاطفة القرابة فى قلوب ابنى ربيعة، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يدعى " عداسا " وقالا له: خذ قطفا من العنب، واذهب به إلى الرجل. فلما وضعه بين يدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مد يده إليه قائلا: باسم الله، ثم أكل. فقال " عداس ": إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له النبى: من أى البلاد أنت! قال: أنا نصرانى من (نينوى). فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ذلك أخى، كان نبيا وأنا نبى. فأكب " عداس " على يدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجليه يقبلهما. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاء "عداس " قال له: ويحك ماهذا؟ قال ما فى الأرض خير من هذا الرجل. فحاول الرجلان توهين أمر محمد، وتمسك الرجل بدينه القديم، كأنما عز عليهما أن يخرج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف بأى كسب. * ** ** وقفل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عائدا إلى مكة، إلى البلد الذى لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة وأكره الباقى على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعف الجبال. وقال زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا. ولابد أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش، ومن ثم رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته. فبعث إلى " المطعم بن عدى " يعرض عليه أن يجيره حتى يبلغ رسالة ربه، فقبل " المطعم "، واستنهض أبناءه فحملوا أسلحتهم ووقفوا عند أركان البيت الحرام.(1/118)
وتسنم " المطعم " ناقته ثم نادى : يا معشر قريش، قد أجرت محمدا ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ فلا يهجه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الكعبة صلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته و " مطعم " وأهله يحرسونه بأسلحتهم . ص _099
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أم متابع ـ مسلم؟ قال: بل مجير! قال: قد أجرنا من أجرت! وحفظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمطعم هذا الصنيع، فقال يوم أسرى بدر: لو كان المطعم حيا لتركت له هؤلاء النتنى. كان المطعم ـ كأبى طالب ـ على دين أجداده وكان كذلك مثله فى المروءة والنجدة. وقد أراد أبو جهل أن يتهكم بنبى يحتاج إلى جوار! وكأنه يتساءل : لم لم تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟ ولذلك قال ـ لما رآه ـ هذا نبيكم يا بنى عبد مناف؟ فرد عليه عتبة بن ربيعة : وما ينكر أن يكون منا نبى وملك؟ فلما أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسؤال أبى جهل ورد عتبة قال: أما أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك ـ وذلك أنه قالها عصبية لا إيمانا. وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتى عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكى كثيرا. وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتى عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون . وفى هذا التعليق ما يدل على ثقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المستقبل مهما اكتنفه ـ فى الحاضر ـ من الآلام. عاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة، ليستأنف خطته الأولى، فى عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله. وبينا هو ماض فى جهاده، إذ وقعت له قصة الإسراء والمعراج. الإسراء والمعراج يقصد بالإسراء الرحلة العجيبة التى بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس. ويقصد بالمعراج، ما عقب هذه الرحلة من ارتفاع فى طباق السموات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف كنهه أحد، ثم الأوبة ـ بعد ذلك ـ إلى المسجد الحرام بمكة. وقد أشار القرآن الكريم إلى كلتا(1/119)
الرحلتين فى سورتين مختلفتين. وذكر قصة الإسراء وحكمته بقوله : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) [الإسراء :1]. ص _100
وذكر قصة المعراج وثمرته بقوله: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [النجم: 13- 18]. فتعليل الإسراء - كما نصت الآية - أن الله يريد أن يرى عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهد - بالفعل - بعض هذه الآيات الكبرى. وقد اختلف العلماء - من قديم - أكان هذا السرى الخارق بالروح وحده، أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير. وللدكتور هيكل رأى غريب فقد اعتبره استجماعا ذهنيا ونفسيا لوحدة الوجود من الأزل إلى الأبد فى فترة من فترات التألق النفسانى الفذ، الذى اختص به بشر نقى جليل مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفى إبان هذا التألق الذى استعلى به على كل شىء، استعرض حقائق الدين والدنيا، وشاهد صور الثواب والعقاب.. إلخ. فالإسراء حق.. وهو - عنده - روحى لا مادى، ولكنه فى اليقظة لا فى المنام، فليس رؤيا صادقة كما يرى البعض، بل هو حقيقة واقعة على النحو الذى صوره، ثم قال فيه بعدئذ: (وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية). والحق.. أن الحدود بين القوى الروحية والقوى المادية، أخذت تضمحل وتزول، وأن ما يراه الناس ميسورا فى عالم الروح ليس يستوعر فى عالم المادة. وأحسب أنه بعد ما مزق العلم من أستار عن أسرار الوجود، فإن أمر المادة أضحى كأمر الروح، لا يعرف مداه إلا قيوم السموات والأرض. وإن الإنسان ليقف مشدوها، عندما يعلم أن الذرة تمثل فى داخلها نظام المجموعة الشمسية الدوارة فى الفلك، صمانها - وهى هباءة تافهة - تكمن فيها حرارة هائلة، عندما(1/120)
أطلقت، أحرقت الأخضر واليابس. إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسرى به وعرج، كيف؟ هل ركب آلة تسير بأقصى من سرعة الصوت كما اخترع الناس أخيرا؟ لقد امتطى البراق - وهو كائن يضع خطوه عند أقصى طرفه، كأنه يمشى بسرعة الضوء. وكلمة " براق " يشير اشتقاقها إلى البرق، أى أن قوة الكهرباء سخرت فى هذه الرحلة. لكن الجسم - فى حالته المعتادة - يتعذر عليه النقل فى الآفاق بسرعة البرق الخاطف، لابد من إعداد خاص، يحصن أجهزته ومسامه لهذا السفر البعيد. وأحسب أن ما روى عن شق ص _101(1/121)
الصدر، وغسل القلب وحشوه، إنما هو رمز هذا الإعداد المحتوم. وقصة الإسراء والمعراج مشحونة بهذه الرموز، ذات الدلالة التى تدق على السذج. إن الإسراء والمعراج، وقعا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بشخصه فى طور بلغ الروح فيه قمة الإشراق وخفت فيه كثافة الجسد حتى تفصَّى من أغلب القوانين التى تحكمه. واستكناه حقيقة هذه الرحلة، وتتبع مراحلها بالوصف الدقيق، مرتبط بإدراك العقل الإنسانى لحقيقة المادة والروح وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص. ولذلك سنتجاوز هذا البحث إلى ما هو أيسر وأجدى، أى إلى تسجيل المعالم المتصلة بالإسلام باعتباره رسالة عامة وتشاريع محددة. وقصة الإسراء والمعراج، تهمنا من هذه الناحية. ألم تر أن " علم النفس " لم يستبحر وينطلق إلا يوم تحرر من البحث فى الروح والخبط فى مدلولها؟ * ** * لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟ إن هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم. فقد ظلت النبوات دهورا طوالا، وهى وقف على بنى إسرائيل، وظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار. فلما أهدر اليهود كرامة الوحى وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثم كان مجىء الرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - انتقالا بالقيادة الروحية فى العالم، من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل. وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحول مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب). لكن إرادة الله مضت وحملت الأمة الجديدة رسالتها وورث النبى العربى تعاليم إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها؟ فكان من وصل الحاضر بالماضى وإدماج الكل فى حقيقة واحدة :(1/122)
أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين فى الإسلام وأن ينتقل إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى إسرائه فيكون هذا الانتقال احتراما للإيمان الذى درج - قديما - فى رحابه. ص _102
ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية فى هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا. صاحب الرسالة الخاتمة. إن النبوات يصدق بعضها بعضا ويمهد السابق منها للاحق، وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بنى إسرائيل بذلك: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) . وفى السنة الصحيحة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بإخوانه الأنبياء ركعتين فى المسجد الأقصى، فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين. والكشف عن منزلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه، ليس مدحا يساق فى حفل تكريم، بل هو بيان حقيقة مقررة فى عالم الهداية، منذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء فى إبانه المناسب. فإن جهاد الدعوة الذى حمله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كواهله، عرضه لعواصف عاتية من البغضاء والافتراء، ومزق شمل أتباعه، فما ذاقوا ـ مذ آمنوا به ـ راحة الركون إلى الأهل والمال. وكان آخر العهد بمشاق الدعوة، طرد " ثقيف " له، ثم دخوله البلد الحرام فى جوار مشرك. إن هوانه على الناس، منذ دعاهم إلى الله، جعله يجأر إلى رب الناس شاكيا راجيا. فمن تطمين الله له، ومن نعمائه عليه أن يهئ له هذه الرحلة السماوية لتمس فؤاده المعنى ببرد الراحة وليشعر أنه بعين الله، منذ قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته. كان يقول: "إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى " فالليلة علم أن حظه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطفين(1/123)
الأخيار، موطدة مقدمة. إن الإسراء والمعراج يقعان قريبا من منتصف فترة الرسالة التى مكثت ثلاثة وعشرين عاما، وبذلك كانا علاجا مسح متاعب الماضى، ووضع بذور النجاح للمستقبل. إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى فى ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم فى توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم. وقد عرف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه الرحلة أن رسالته ستنساح فى الأرض وتتوطن الأودية الخصبة فى النيل والفرات وتنزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم. ص _103(1/124)
بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا فى أعقاب جيل، وهذا معنى رؤية النيل والفرات فى الجنة وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذج والبله. لقد روى الترمذى مثلا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إذا أعطى أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة " . فهل ذلك يدل على أن الريحان من الجنة ونحن نقطف أزهاره من الحقول والحدائق؟ حكمة الإسراء ذلك والله عز وجل يتيح لرسله فرص الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه واستنادا إليه، إذ يواجهون قوى الكفار المتألبة ويهاجمون سلطانهم القائم. فقبل أن يرسل الله موسى شاء أن يريه عجائب قدرته فأمره أن يلقى عصاه قال: ( ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى) . فلما ملأ قلبه إعجابا بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) . وقد علمت أن ثمرة الإسراء والمعراج إطلاع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى وربما تقول: إن ذلك حدث بعد الإرسال إليه بقريب من اثنى عشر عاما على عكس ما وقع لموسى. وهذا حق، وسره ما أسلفنا بيانه من أن الخوارق فى سير المرسلين الأولين قصد بها قهر الأمم على الاقتناع بصدق النبوة فهى تدعيم لجانبهم أمام اتهام الخصوم لهم بالادعاء. وسيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوق هذا المستوى. فقد تكفل القرآن الكريم بإقناع أولى النهى من أول يوم، وجاءت الخوارق فى طريق الرسول ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معكرة، ولا معطلة للمنهج العقلى العادى الذى اشترعه القرآن . ص _104(1/125)
وقد اقترح المشركون على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرقى فى السماء، فجاء الجواب من عند الله : (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا). فلما رقى فى السماء بعد، لم يذكر قط أن ذلك رد على التحدى أو إجابة على الاقتراح السابق بل كان الأمر ـ كما قلنا ـ محض تكريم ومزيد إعلام من الله لعبده. إكمال البناء وفى قصة الإسراء والمعراج تلمح أواصر القربى بين الأنبياء كافة، وهذا المعنى من أصول الإسلام. (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) . والتحيات المتبادلة بين النبى وإخوته السابقين توثق هذه الآصرة. ففى كل سماء أحل الله فيها أحد رسله، كان النبى يستقبل فيها بهذه الكلمة : مرحبا بالأخ الصالح! والخلاف بين الأنبياء وهم صنعته الأم الجائرة عن السبيل السوى أو بالأحرى صنعه الكهان والمتاجرون بالأديان. أما محمد، فقد أظهر أنه مرسل لتكملة البناء الذى تعهده من سبقوه، ومنع الزلازل من تصعيده. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ! ويقولون هل وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين " . والأديان المعتمدة على الوحى السماوى معروفة، وليس منها ـ بداهة ـ ما اصطنعه الناس لأنفسهم من أوثان وطقوس كالبرهمية والبوذية وغيرهما، وليس منها كذلك ما ابتدع ـ أخيرا ـ من نحل احتضنها الاستعمار الغربى وكثر الأنصار حولها، ليشدد الخناق على مقاتل الشرق، ويعوق المسلمين الأحرار عن حطم قيوده، وإنقاذ عبيده وذلك كالبهائية والقاديانية. ومن الممكن ـ لو خلصت النيات ونشد الحق ـ أن توضع أسس عادلة لوحدة دينية، تقوم على احترام المبادئ المشتركة وإبعاد الهوى عن استغلال الفروق الأخرى، إلى أن تزول على الزمن، أو تنكسر حدتها. والإسلام الذى تعد(1/126)
تعاليمه امتدادا للنبوات الأولى، ولبنة مضافة إلى بنائها العتيد أول من يرحب بهذا الاتجاه ويزكيه. ص _105
سلامة الفطرة وفى ليلة الإسراء والمعراج تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهى أنه دين الفطرة. ففى الحديث: (.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن. فأخذت اللبن. قال: هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك ". إن سلامة الفطرة لب الإسلام ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا. وربما أخفى هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية، ومظاهر مزوقة. ويوم تكون العبادات ـ نفسها ـ ستارا لفطرة فاسدة فإن هذه العبادات الخبيثة، تعتبر أنزل رتبة من المعاصى الفاجرة. والناس كلما تقدمت بهم الحضارات، أمعنوا فى التكلف والمصانعة، وقيدوا أنفسهم بعبادات وتقاليد قاسية. وأكثر هذه التكلفات حجب تطمس وهج الفطرة وتعكر نقاوتها وطلاقاتها. وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه القيود باسم الدين وأن تترك النفوس فى سجونها، مغلولة كئيبة. فرض الصلاة وفى المعراج شرعت الصلوات الخمس، شرعت فى السماء لتكون معراجا يرقى بالناس، كما تدلت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا. والصلوات التى شرع الله غير الصلوات التى يؤديها ـ الآن ـ كثير من الناس. وعلامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الدنايا، وأن تخجله من البقاء عليها إن ألم بشىء منها. فإذا كانت الصلاة ـ مع تكرارها ـ لا ترفع إلى هذه الدرجة فهى صلاة كاذبة. الصلاة طهور كما جاء فى السنة، إلا أنها طهور للإنسان الحى، لا للجثة العفنة. ص _106(1/127)
إن التطهير يزيل ما يعلق بالقلب الحى من غبار عارض، والأعراض التى تلحق المرء فى الحياة فتصدئ قلبه كثيرة ومطهراتها أكثر! وفى الحديث: " فتنة الرجل من أهله وماله وولده ونفسه وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " . أما أصحاب القلوب الميتة فالصلاة لا تجديهم فتيلا.. ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم أو يواريها الثرى.. * * * وقد رويت سنن، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى فى هذه الرحلة صورا شتى لأجزية الصالحين والطالحين، وتناقلت كتب السيرة رواية هذه الصور الجليلة على أنها وقعت ليلة الإسراء و المعراج. والحق أن ذلك كان رؤيا منام فى ليلة أخرى من الليالى المعتادة كما ثبت ذلك فى الصحاح. قريش والإسراء فلما كانت صبيحة هذه الليلة المشهودة حدث رسول الله الناس بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى. والذين كذبوا أن يقع وحى على الأرض، أتراهم يصدقون به فى السماء؟ لقد طاروا يجمع بعضهم بعضا ليسمع هذه الأعجوبة فيزداد إنكارا لرسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وريبة من أمره. وتحداه بعضهم أن يصف بيت المقدس، إن كان رآه هذه الليلة حقا؟ ص _107(1/128)
عن جابر رضى الله عنه، قال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لما كذبتنى قريش، قمت فى الحجر، فجلى الله لى بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه "! . ويقول الدكتور هيكل: " أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح فى هذا لما رأوا فيه عجبا، بعد الذى عرف العلم فى وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسى للتحدث عن أشياء واقعة فى جهات نائية. فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية فى الكون كله؟ ويستطيع ـ بما وهب الله له من قوة ـ أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده "! ونحن لا نعلق كبير اهتمام لمعرفة الطريقة التى تم بها الإسراء والمعراج، كلا الأمرين حق، ترك ثماره فى نفس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستراح إلى حمد الخالق، وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين، ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب. ويزعم بعض الكتاب أن فريقا من المسلمين ارتد عقب الإسراء والمعراج إنكارا لهما. بل يزيد الدكتور " هيكل " أن المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها. وهذا كله خطأ، فلا الآثار التاريخية تدل عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهى به، ولا ندرى كيف يقال هذا؟ مضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نهجه القديم ينذر بالوحى كل من يلقى، ويخوض ـ بدعوته ـ المجامع ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج فى منازلهم، ويغبر قدميه إلى أسواق " عكاظ " و " مجنة " و " ذى الحجاز " داعيا الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدى القرآن، وكان يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به ويتابعوه ويمنعوه. وكان عمه أبو لهب يمشى وراءه ويقول: لا تطيعوه فإنه صابئ وكذاب! فيكون جواب القبائل: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردونه أقبح الرد. ومن القبائل التى أتاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعاها إلى الله، فأبت الاستجابة له: "(1/129)
فزارة " و "غسان " و " مرة " ص _108
و " حنيفة " و " سليم " و " عبس " و " بنو النضير! و "كندة " و! كلب " و"عذرة" و " الحضارمة" و " بنو عامر بن صعصعة " و" محارب بن حفصة ".. إلخ. ما وجد فى هؤلاء قلبا مفتوحا، ولا صدرا مشروحا، بل كان الراحلون والمقيمون يتواصون بالبعد عنه، ويشيرون إليه بالأصابع. وكان الرجل يجىء من الآفاق البعيدة فيزوده قومه بهذه الوصاة : احذر غلام قريش لا يفتنك!! مع ذلك فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا الجو القابض ـ لم يخامر اليأس قلبه، واستمر ـ مثابرا ـ فى جهاد الدعوة حتى تأذن الحق ـ أخيرا ـ بالفرج. ص _109
- 4 - الهجرة العامة .. مقدماتها ونتائجها حرم مشركو مكة الخير كله، منذ جحدوا الرسالة وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا. ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة فى منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإن الحق لابد أن يعلو، وأن يثوب إليه المضللون والمخدوعون على شرط أن يظل أهله أوفياء له، حراصا عليه، صابرين محتسبين. وقد قيض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التى صادرته، فأنس بعد وحشة واستوطن بعد غربة، وشق طريقه فى الحياة، بعد أن زالت الجلامد الصادة الملقاة فى مجراه. وبدأ هذا التحول على أيدى الوفود القادمة من " يثرب " إلى مكة فى موسم الحج. * * * كان أهل يثرب يمتازون عن سائر العرب بجوارهم لليهود، والفهم عقيدة التوحيد. وربما حاورهم اليهود فى شئون الأديان، ونعوا عليهم عبادة الأوثان. ص _110(1/130)
فإذا اشتد الجدل وطالت اللجاجة قال لهم اليهود: يوشك أن يبعث الله نبيا فنتبعه؟ ونقتلكم معه قتل عاد وإرم..!! والغريب أن اليهود كانوا أول من كفر بهذا النبى يوم ظهر فيهم واقترب، ولذلك ندد القرآن بمسلكهم المتناقض : (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) [البقرة: 89]. أما العرب الأميون الذين هددوا بمبعثه، فقد فتحوا مسامعهم له! فعندما وافى الموسم وقدمت قبائل " يثرب " ورأوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو الناس إلى الله، قال بعضهم: تعلمون والله يا قوم أن هذا الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.. وأخذ ذكر الإسلام يشيع فى المدينة رويدا رويدا، فإن لم يستقبل بترحيب لم يستقبل بالسباب والحراب. إن عناصر النفور والمقاومة، التى عهدها فى " مكة " تحولت ـ هنا ـ إلى عناصر احترام وإقبال. ولم تمض ثلاثة أعوام على تسامع الأنصار الجدد بالإسلام حتى أصبحوا كهفه الحصين، وموئله القريب... فروق بين البلدين عاشت مكة فى بحبوحة من الحياة أمدا طويلا، آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وترجع هذه السعة إلى عاملين: مهارة أهلها التجارية. ومكانة الحرم الدينية. كلا الأمرين أدر عليها أخلاف الخير، فأثرت حتى بطرت وشبعت حتى أتخمت. ثم عراها ما يعرو كل جماعة تواتيها الحظوظ ويصبغها الترف، من: تكبر، وقسوة، وجحود. فلما ظهر فيها الإسلام، ودعا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الحق، ردت يده فى فمه، وأحدقت به وبمن معه، وملكها العناد من أول يوم، وأعلنت أن مركزها ـ عاصمة للوثنية، ومجمعا للأصنام، ومثابة للحجيج ـ سيزول إن هى استمعت إلى هذا الدين، وأمكنته من البقاء. وحاول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ جاهدا ـ أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذى متعوا به، فأبى الظالمون إلا كفورا. (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم(1/131)
نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) [القصص: 57] ص _111
ومن هنا اشتبك سادة مكة فى حرب مع الإسلام، اعتبروها دفاعا عن كيانهم المادى ووضعهم الاقتصادى، إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى. وهذه الحروب معروفة النتائج : (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين) [القصص: 58] أما الأمر فى " يثرب " فكان على النقيض، إن الشحناء المتأصلة بين أهليها استنزفت دماءهم، وقطعت شملهم، وشغلت بعضهم بالبعض حتى أوصلتهم الحروب الدائمة إلى درك أسف له العقلاء، وتمنوا الإنقاذ منه. كان " الأوس " و " الخزرج " ـ وهم فى الأصل قرابة واحدة ـ يعانون فى " يثرب " آثار هذا الخصام العنيف، ويورثونه أبناءهم، حتى يشبوا ـ وهم فى مهادهم ـ أعداء! والذى وضع جرثومة هذا الشقاق هم اليهود. صنع اليهود واليهود الذين استقروا فى المدينة وأرباضها، هبطوا صحراء الجزيرة، فارين بدينهم من الاضطهاد الصليبى الذى عمل ـ من قديم ـ على تنصيرهم أو إفنائهم، ذلك لأن رأى اليهود فى عيسى وأمه شنيع. والنصارى يعتقدون أن اليهود هم قتلة عيسى، والموعزون بصلبه!! ولا شك أن اليهود شعب نشيط. وأنهم ـ حيث حلوا ـ يبذلون جهودا مذكورة للسيطرة على زمام التوجيه المالى، ولا يبالون بأساليب الختل والمكر لبلوغ أهدافهم. وقد ألفوا أنفسهم قلة بين أصحاب البلاد، وخشوا أن يفنوا إذا اشتبكوا معهم فى صراع سافر. فاحتالوا حتى زرعوا الضغائن بين الأقرباء. ومازالوا بها حتى آتت ثمرها المر فأخذ العرب يأكل بعضهم بعضا، فى سلسلة متصلة من المعارك التى لا مبرر لها، على حين قوى اليهود وتكاثروا، ونمت ثرواتهم، واستحكمت حصونهم، وخيف سطوهم. وقبل الهجرة ببضع سنين وقعت بين الأوس والخزرج معركة " بعاث " كان النصر فيها للخزرج ثم عاد للأوس وبلغ من حدة الخصام بين الفريقين أن كليهما فكر فى استئصال الآخر وإبادة(1/132)
خضرائه، لولا أن تدخل أولو النهى بالنصح أن يبقوا على أنفسهم وإخوانهم، فجوارهم أفضل من جوار الثعالب ـ يعنى اليهود. وهذه الفتن المتلاحقة جعلت أهل المدينة ـ عندما ترامت إليهم أنباء الإسلام ـ يؤملون من ص _112
ورائه الخير. من يدرى؟ لعله يجدد حياتهم فيعيد السلام إلى صفوفهم ويهب لهم حياة روحية ترجح بكفتهم على اليهود.. قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله فى الموسم، الذى لقيه فيه النفر من الأنصار. فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا. فحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج: قال: من موالى يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى! فجلسوا معه. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.. قال : فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك!! ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا و صد قوا . * * * كان أولئك النفر، طليعة للدعاية الموفقة للإسلام فى يثرب، وقد أثمرت جهودهم على عجل، فلم تبق دار إلا دخلها الإسلام. حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلا من الذين أسلموا ـ فيهم الستة الذين كلمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الموسم السابق ـ وعزموا على الاجتماع برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليوثقوا معه إسلامهم. بيعة العقبة الاولى وقد لقيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده،(1/133)
والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن مناكرها. عن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى: " ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف ". ص _113
قال : (فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا ، فأخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة له . وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة ،فأمركم إلى الله . إن شاء عذَّب وإن شاء غفر) هذا ما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه. أيكره هذه العهود إلا مجرم يحب للناس الريبة ويود للأرض الفساد؟! أتم وفد الأنصار هذه البيعة ثم قفل عائدا إلى " يثرب " فرأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهد نماء الإسلام فى المدينة، ويقرأ على أهلها القرآن، ويفقههم فى الدين، ووقع اختياره على " مصعب بن عمير " ليكون هذا المعلم الأمين. ونجح " مصعب " أيما نجاح فى نشر الإسلام وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطى الصعاب التى توجد ـ دائما ـ فى طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من موروثات ألفوها، إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق و السلوك.. ولا تحسبن " مصعبا " كأولئك المرتزقة من المبشرين الذين دسهم الاستعمار الغربى بين يدى زحفه على الشرف. فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح. وربما فتح مدرسة، ظاهرها الثقافة المجردة، أو ملجأ ظاهره البر الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد..!! هذا ضرب من التلصص الروحى يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين. والذين يمثلون هذه المساخر، يجدون الجرأة على عملهم من الدول التى تبعث بهم. فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم، فلا تنس القوى التى تساند ظهورهم فى البر والبحر والجو. أما مصعب فكان(1/134)
من ورائه نبى مضطهد ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهازى الفرص. كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإخلاص لله جعله يضحى بمال أسرته وجاهها فى سبيل عقيدته.. ثم هذا القرآن الذى يتأنق فى تلاوته، ويتخير من روائعه، ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة، ترق له، وتتفتح للدين الجديد. وعاد " مصعب " إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة، قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقى الإسلام من قبول حسن فى " يثرب " ويبشره بأن جموعا غفيرة دخلت فيه عن اقتناع من شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين. ص _114(1/135)
بيعة العقبة الكبرى إن الرجال الذين اعتنقوا الإسلام عرفوا ـ دون شك ـ تاريخه القريب، والصعاب الهائلة التى لقيها، وحز فى نفوسهم أن يستضعف إخوانهم فى مكة وأن يحرج نبيهم وهو يدعو إلى الله فلا يجيبه إلا آثم أو كفور!! ولذلك تساءلوا، وهم خارجون من المدينة قاصدين البيت العتيق: حتى متى نترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف ويطرد فى جبال مكة ويخاف؟! لقد بلغ الإيمان أوجه فى هذه القلوب الفتية. وآن لها أن تنفس عن حماستها، وأن تفك هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية. فال جابر بن عبد الله: فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا فى الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله: علام نبايعك؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تبايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقوموا فى الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصرونى فتمنعونى ـ إذا قدمت عليكم ـ مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة ". فقمنا إليه، وأخذ بيده " أسعد بن زرارة " ـ وهو أصغر السبعين بعدى ـ فقال: رويدا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تبصرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله. وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله! فقالوا: يا " أسعد " أمط عنا بيدك، فوالله لانذر هذه البيعة ولا نستقيلها. فقمنا إليه رجلا رجلا فبايعناه . وعن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة ـ ليلة العقبة ـ مع قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فنتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى ص _115(1/136)
اجتمعنا فى الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدى. فلما اجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم، قال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو فى عزة من قومه ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك!! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه فى عزة ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلا القرآن ودعا إلى الله، ورغب فى الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، فوالذى بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن ـ والله ـ أبناء الحروب، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض هذا القول ـ والبراء يكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال ـ يعنى اليهود ـ حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. وأمرهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من (الخزرج) وثلاثة من (الأوس) . فقال لهم رسول الله ـ(1/137)
صلى الله عليه وسلم ـ : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفلة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومى. ص _116
تلكم بيعة العقبة، وما أبرم فيها من مواثيق، وما دار فيها من محاورات.. إن روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع وتمشت فى كل كلمة قيلت. وبدا أن العواطف الفائرة ليست التى توجه الحديث أو تملى العهود، كلا، فإن حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة. مغانم؟ أين موضوع المغانم فى هذه البيعة؟ لقد قام الأمر كله على التجرد المحض والبذل الخالص. هؤلاء السبعون مثل لانتشار الإسلام عن طريق الفكر الحر، والاقتناع الخاص. فقد جاءوا من " يثرب " مؤمنين أشد الإيمان، وملبين داعى التضحية، مع أن معرفتهم بالنبى، كانت لمحة عابرة غبرت عليها الأيام، وكان الظن بها أن تزول. لكننا لا يجوز أن ننسى مصدر هذه الطاقة المتأججة من الشجاعة والثقة. إنه القرآن!! لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى لم يصحبوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لماما، فإن الوحى المشع من السماء أضاء لهم الطريق وأوضح الغاية. لقد نزل بمكة قريب من نصف القرآن ، سال على ألسنة الحفاظ وتداولته صحائف السفرة الكرام البررة، والقرآن النازل بمكة، صوَّر جزاء الآخرة رأى العين. فتوشك أن تمد يدك، تقطف من أثمار الجنة، ويستطيع الأعرابى المتعشق للحق أن ينتقل فى لحظة فداء من رمضاء الجزيرة إلى أنهار النعيم والرحيق المختوم! وحكى القرآن أخبار الأولين وكيف أخلص المؤمنون لله، فنجوا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار، وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبروا، ثم حل العدل الإلهى، فذهب الظالمون بددا وتركوا وراءهم دنيا مدبرة ودورا خربة. فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم كباطل من جلال الحق منهزم !! ثم إن الرسول جعل من هذا الإيمان بالحق رباطا يعقد من تلقاء نفسه، صلة الحب والتناصر بين أشتات المؤمنين فى المشرق والمغرب. فالمسلم فى المدينة(1/138)
ـ وإن لم ير أخاه المستضعف فى مكة ـ يحنو عليه، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه ويقاتل دونه ـ وذلك ما استقدم الأنصار من يثرب، تجيش فى حناياهم مشاعر الولاء، لمن أحبوهم بالغيب فى ذات الله. ص _117
عن أبى مالك الأشعرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، حلهم لنا ـ يعنى صفهم لنا ـ فسر وجه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسؤال الأعرابى، وقال: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا فى الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الإيمان بالله والحب فيه، والأخوة على دينه، والناصر باسمه، ذلك كله كان يتدافع فى النفوس المجتمعة فى ظلام الليل بجوار مكة السادرة فى غيها، يتدافع ليعلن أن أنصار الله سوف يحمون رسوله كما يحمون أعراضهم، وسوف يمنعونه بأرواحهم فلا يخلص إليه أذى وهم أحياء. إن مشركى مكة حسبوا أنهم حصروا الإسلام فى نطاق لا يعدوه، وأرهقوا المسلمين حتى شغلوهم بأنفسهم فناموا نومة المجرم الذى اغترف الإثم وأمن القصاص. حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتى به القدر وسالمتك الليالى فاغتررت بها وعند صفو الليالى يحدث الكدر أجل، ففى هذه الليلة تحالف جند الحق أن يقصموا ظهر الوثنية، وأن ينتهوا بالجاهلية ورجالها الى الفناء. ** * * واستمع شيطان من المشركين كان يجول فى مضارب الخيام ومنازل الحجيج إلى الضجة(1/139)
ص _118
المنبعثة قريبا من العقبة، واستطاع أن يقف على جلية الخبر، فصرخ ينذر أهل مكة : " إن محمدا والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم "!! وكان صوته جهيرا يوقظ النيام. وشعر المبايعون كأن ائتمارهم بالمشركين قد انكشف، فلم يكترثوا للنتائج. وقال: " سعد بن عبادة ": يا رسول الله والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل " منى " غدا بأسيافنا. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم. قال كعب: فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا فى منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه ـ والله ـ ما من حى من العرب أبغض أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون، ما كان من هذا شىء وما علمناه. وصدقوا لم يعلموا. قال كعب: وبعضنا ينظر الى بعض . بيد أن القرائن تجمعت على أن ما قيل حق، فخرجت قريش تطلب الأنصار ففاتوهم، ولم يدركوا غير سعد بن عبادة. فعادوا به مغلولة يداه إلى عنقه، وأخذوا يجذبونه من شعره ويلكزونه، فأنقذه منهم جبير بن مطعم، والحارث بن حرب إذ كان " سعد " يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة. طلائع الهجرة إن نجاح الإسلام فى تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له. وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلموا إلى يثرب!! فلم ص _119(1/140)
تكن الهجرة تخلصا فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد فى بلد آمن. وأصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم فى بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده فى تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة ـ بعد الهجرة إليهاـ نكوصا عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله فالحياة بها دين، لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها. وفى عصرنا هذا، أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضا مهنئا، لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قومى لهم، بعد أن عاشوا ـ مشردين ـ قرونا طوالا. ونحن لا ننكر جهد اليهود فى إقامة هذا الوطن، ولا حماسة المهاجرين من كل فج للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه. ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم ـ أو بتعبير أدق، ما صنع لليهود اليوم ـ وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم. إن اليهود جاءوا على حين فرقة من العرب وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم فى ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله. فإذا العالم كله يهجم على فلسطين بالمال والسلاح والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربى حصرتهم الخيانات فى مآزق ضيقة أن يصنعوا شيئا، فهاموا على وجوههم فى الأرض، نتيجة اتفاق " أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا " و... ملوك العرب على خذلان أولئك العرب التعساء. وبذلك قام الوطن القومى لليهود، وبنت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له، ومن دهاقين السياسة والمال، فى أنحاء الدنيا!! أين هذا الحضيض، من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفعت عن المآرب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول والأمان المتاح واستهوتهم المثل العليا ـ وحدها ـ فى عالم عج بالصم والبكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرأة التى اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح، وهو لا ينى يقول : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف: 108]! إن(1/141)
المدينة الفاضلة التى تعشقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال جاءت فى سطور الكتب دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهى الملائكة صفاء ونضارة. ص _120
إن المسلمين ـ بإذن رسول الله ـ هرعوا من مكة وغيرها إلى " يثرب " يحدوهم اليقين، وترفع رءوسهم الثقة. ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة. إنها إكراه رجل آمن فى سربه، ممتد الجذور فى مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه فحسب، واشعاره ـ وهو يصفى مركزه ـ بأنه مستباح منهوب، قد يهلك فى أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان. ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق فى طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضى الضمير، وضاء الوجه؟ إنه الإيمان الذى يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذى له ما فى السموات والأرض، وله الحمد فى الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير. هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهياب الخوار القلق، فما يستطيع شيئا من ذلك. إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) [النساء: 66]. أما الرجال الذين التفوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحق والصبر. فإنهم نفروا ـ خفافا ـ ساعة قيل لهم : هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله. ونظر المشركون، فإذا ديار بـ " مكة " كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحال مؤنسة قد أمحلت. مر عتبة والعباس وأبو جهل على دار عامر بن ربيعة بعدما غلقت، فقد هاجر رب الدار، وزوجته، وأخوه أحمد ـ وكان رجلا ضرير البصر ـ ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يبابا، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح فى(1/142)
جنباتها قال: وكل دار وإن طالت سلامتها يوما، ستدركها النكباء والحوب ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها. فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.. وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة. ص _121
فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبوا الاستكانة، فإباؤهم علة المشكلات ومصدر القلاقل!! وكان من أول المهاجرين " أبو سلمة ، وزوجه، وابنه "، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها فى البلاد؟ وأخذوا منه زوجته، فغضب آل أبى سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا. وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة - بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها - تخرج كل غداة بالأبطح تبكى، حتى تمسى، نحو سنة، فرق لها أحد ذويها، وقال: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقى بزوجك، إن شئت. فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة.. ولما أراد " صهيب " الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا. فكثر مالك عندنا، وبلغت الذى بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب : أرأيت إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا : نعم! قال: فإنى قد جعلت لكم مالى. فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال: ربح صهيب! . وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحدانا، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها، وحصن يحتمى به وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة فى دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وهاجت فى دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته. إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يزال فى مكة، وهو - لابد - مدرك أصحابه اليوم أو(1/143)
غدا، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها.. فى دار الندوة واجتمع طواغيت مكة فى دار الندوة، ليتخذوا قرارا حاسما فى هذا الأمر. ص _122
فرأى بعضهم أن توضع القيود فى يد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويشد وثاقه، ويرمى به فى السجن لا يصله منه إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت.. ورأى آخر أن ينفى من مكة فلا يدخلها، وتنفض قريش يديها من أمره. وقد استبعد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما. واستقر الرأى على الاقتراح الذى أبداه " أبو جهل ". قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسطا فتيا. ثم نعطى كل فتى سيفا صارما، ثم يضربونه ـ جميعا ـ ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه فى القبائل كلها، ولا أظن بنى هاشم يقومون على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها. ورضى المؤتمرون بهذا الحل للمشكلة التى حيرتهم. وانصرفوا ليقوموا على إنفاذه. وقد أشار القرآن إلى تدبير هذه الجريمة بقوله : (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [ الأنفال: 30]. إن هذا الحكم لم يتخذ فى مجلس سر، بل فى اجتماع عام. ومن الطبيعى أن يعلم به رسول الله؟ وأن يعرف حقيقة وضعه فى مكة. إنهم لا ينتظرون به إلا موعد التنفيذ، ثم يقدم الطعام قربانا للأصنام!! على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليوعز إلى أصحابه بالهجرة ويتخلف عنهم. لقد رسم الخطة التى يذهب بها إلى " يثرب " حين ندب المسلمين للهجرة إليها. روى الزهرى عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة ـ للمسلمين: " قد رأيت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين " . فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجع إلى المدينة فهاجر من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. هجرة الرسول حين عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك مكة إلى(1/144)
المدينة؟ ألقى الوحى الكريم فى قلبه وعلى ص _123
لسانه هذا الدعاء الجميل : (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) [الإسراء: 80]. ولا نعرف بشرا أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى لاقى فى جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعنى التفريط قيد أنملة فى استجماع أسبابه وتوفير وسائله. ومن ثم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرد عدته، ولم يدع فى حسبانه مكانا للحظوظ العمياء. وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شىء فى النجاح، ثم يتوكل ـ بعد ذلك ـ على الله، لأن كل شىء لا قيام له إلا بالله. فإذا استفرغ المرء جهوده فى أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة بلى بها، وقلما يحدث ذلك إلا عن قدر قاهر يعذر المرء فيه!! وكثيرا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيبا حسنا، ثم يجىء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار، كالسفينة التى يشق عباب الماء بها، ربان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهى إلى غايتها فى أقصر من وقتها المقرر. وهجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار. فقد استبقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه عليا وأبا بكر، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة. فأما أبو بكر فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له حين استأذنه ليهاجر: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا. وأحس أبو بكر كأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعنى نفسه بهذا الرد! ص _124(1/145)
فابتاع راحلتين فحبسهما فى داره، يعلفهما إعدادا لذلك. وأما على فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هيأه لدور خاص، يؤديه فى هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار ! قال ابن إسحاق: فحدثنى من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتى بيت أبى بكر، أحد طرفى النهار إما بكرة، وإما عشيا، حتى إذا كان اليوم الذى أذن الله فيه رسوله فى الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرى قومه. أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة، فى ساعة كان لا يأتى فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل. تأخر أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرج عنى من عندك! قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاى. وماذاك؟ - فداك أبى وأمى. قال: إن الله أذن لى بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال : الصحبة. قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكى!! ثم قال: يا نبى الله إن هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وهو مشرك - يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.. . قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغنى - بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد حين خرج - يقصد نوى الخروج - إلا على وأبو بكر وآله. أما على فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتخلف حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عنده للناس. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمكة أحد عنده شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته. ص _125(1/146)
درس فى سياسة الأمور ويلاحظ أن النبى ـ صلى الله عيه وسلم ـ كتم أسرار مسيره. فلم يطلع عليهم إلا من لهم صلة ماسة. ولم يتوسع فى إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم. وقد استأجر دليلا خبيرا بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين ونظر فى هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فإذا اكتملت فى أحد، ولو كان مشركا استخدمه وانتفع بموهبته. ومع هذه المرونة فى وضع الخطة، فإن النبى ـ صلى الله عيه وسلم ـ أصر على أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوع أبو بكر به، لأن البذل فى الهجرة ضرب من العبادة ينبغى الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه. واتفق الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ مع أبى بكر على تفصيل الخروج، وتخيرا الغار الذى يأويان إليه، وتخيراه جنوبا فى اتجاه اليمن لتضليل المطاردين. وحددا الأشخاص الذين يتصلون بهما أثناء اللجوء إليه، ومهمة كل شخص. ثم عاد الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ إلى بيته، فوجد قريشا بدأت تضرب الحصار حوله، وبعث بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد ـ صلى الله عيه وسلم ـ وتفريق دمه بين القبائل!! وأوعز الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ إلى على بن أبى طالب فى هذه الليلة الرهيبة أن يرتدى برده الذى ينام فيه، وأن يتسجى به على سريره. وفى هجعة من الليل وغفلة من الحرص، انسل الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ من بيته إلى دار أبى بكر ثم خرج الرجلان من خوخة فى ظهرها.. إلى غار ثور، إلى الغار الذى استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة ومستقبل حضارة كاملة، وتركته فى حراسة الصمت والوحشة والانقطاع. فى الغار وسارت الأمور على ما قدرا، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما ثم يأتيهما إذا أمسى بما يقوم فى ذلك اليوم من أخبار، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار. فكان عبد الله بن أبى بكر فى قريش يسمع ما يأتمرون به وما يقولون فى شأن رسول الله ـ صلى(1/147)
الله عيه وسلم ـ وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقص عليهما ما علم. وكان عامر فى رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر ص _126
فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله من عندهم إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، يعفى عليه. وتلك هى الحيطة البالغة، كما تفرضها الضرورات المعتادة على أى إنسان.. وانطلق مشركو مكة فى آثار المهاجرين يرصدون الطرق، ويفتشون كل مهرب. وراحوا ينقبون فى جبال مكة وكهوفها، حتى وصلوا- فى دأبهم- قريبا من غار ثور، وأنصت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه إلى أقدام المطاردين، تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " . ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط فى العثور عليهما فى هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد: " أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل - جبل ثور - اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد، لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكثا فيه ثلاث ليال ". ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك. قال الله تعالى فى ذكر الهجرة : (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا و الله عزيز حكيم) [التوبة: 40]. والجنود التى يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق. إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن ص _127(1/148)
خطرها لا يتمثل فى ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بحيش ذى لجب: ! ( وما يعلم جنود ربك إلا هو) [المدثر: 31]. ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون عداته وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرطوا فى استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان.. ثم تستقر أخيرا وفق مقتضيات الحكمة العليا وفى حدود قوله تعالى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)!! [يوسف: 21] * * * فى الطريق إلى المدينة مرت ثلاث ليال على مبيت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الغار، وخمدت حماسة المشركين فى الطلب. وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة. وجاء " عبد الله بن أريقط " فى موعده ومعه رواحله قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد، وتزود الركب ثم سار على اسم الله. غير أن قريشا ساءها أن تخفق فى استرجاع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجىء بهما أحياء أو أمواتا. ومائتان أو مائة من الإبل فى الصحراء ثروة تغرى بركوب المخاطر وتحمل المشاق. وقد قدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن المشركين لن يألوا جهدا فى الإساءة إليه، فالتزم فى سيره جانب المحاذرة، وأعانتهم مهارة الدليل على سلوك دروب لم تعتدها القوافل، ثم أطلق الزمام للرواحل فمضت تصل النهار بالليل. رمى بصدور العيس منخرق الصبا فلم يدر خلق بعدها أين يمما؟ فلما مروا بحى مدلج مصعدين، بصر بهم رجل من الحى فقال: لقد رأيت آنفا أسودة بالساحل، ما أظنها إلا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه. ففطن إلى الأمر سراقة بن مالك ورغب فى أن تكون الجائزة له خاصة، فقال: بل هم فلان وفلان قد خرجوا لحاجة لهم.. ومكث قليلا ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه: اخرج بالفرس من وراء(1/149)
الخباء وموعدك خلف الأكمة. ص _128
قال سراقة: فأخذت رمحى وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجه الأرض، حتى أتيت فرسى فركبتها، فعدتها ففرت بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسى فخررت عنها! فقمت.. وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى وزجرها فانطلقت حتى قرب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه. وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبين هذا العدو الجسور، فلما دنا عرفه، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ماضيا إلى غايته - : هذا سراقة بن مالك قد رهقنا! وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام معفرا ينادى بالأمان!! ووقع فى نفس سراقة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، فاعتذر إليه وسأله أن يدعو الله له وعرض عليهما الزاد والمتاع. فقالا: لا حاجة لنا، ولكن عِّم عنا الطلب. فقال: فقد كفيتم، ثم رجع فوجد الناس جادين فى البحث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه! فجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وهو يقول : كفيتم هذا الوجه! أصبح أول النهار جاهدا عليهما، وأمسى آخره حارسا لهما!! * * * * دعاء إن أسفار الصحراء توهى العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟ ما يحس هذه المتاعب إلا من صلى نارها. لقد برزنا لوهج الظهيرة يوما فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا، فعدنا مغمضين نستبقى من عيوننا ما خفنا ضياعه. وعندما تصبح وتمسى وسط وهاد ونجاد لا تنتهى حتى تبدأ، تخال العالم كله مهامه مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء. وجرت عادة المسافرين أن يأووا فى القيلولة إلى أى ظل، فى بطاح ينتعل كل شىء فيها ظله. حتى إذا جنحت الشمس للمغيب، تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكرى. وللعرب طاقة احتمال هذا الشظف، مع قلة الزاد والرى. وقد مر بك أن الرسول - وهو طفل - قطع هذه الطريق. ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه ثم عاد وحده! ص _129(1/150)
وإنه ـ الآن ـ ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة بل لرعاية رسالته التى تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعدما تبرمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله.. أنه أرسخ أهل الأرض يقينا بأن الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنه أسيف للفظاظة التى قوبل بها، وللجحود الذى لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، هاهو ذا يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله.. روى أبو نعيم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله قال: " الحمد لله الذى خلقنى ولم أك شيئا. اللهم أعنى على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالى والأيام. اللهم اصحبنى فى سفرى، واخلفنى فى أهلى، وبارك لى فيما رزقتنى، ولك فذللنى وعلى صالح خلقى فقومنى، وإليك رب فحببنى، وإلى الناس فلا تكلنى. أنت رب المستضعفين وأنت ربى. أعوذ بوجهك الكريم الذى أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل على غضبك، وتنزل بى سخطك. وأعوذ بك زوال نعمتك وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك. لك العتبى عندى خير ما استطعت. ولا حول ولا قوة إلا بك ". * * * * ومما يستلفت النظر أن انطلاق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة شاع فى جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع، فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب. بل إن المحال التى عرج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة بعد أن انصرف عنها. والناس يعجبون بقصص البطولة، وتستثيرهم ألوان التحدى، وهم يتناقلون الأخبار السيالة على الألسن، فيضفون عليها ثياب الأساطير. وقد سرت قلوب كثيرة بغلب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على من تبعوه، وترجمت عواطفها هذه شعرا يتغنى به ولا يعرف قائله!! من ذلك ما روى عن أسماء بنت أبى بكر قالت: مكثنا ثلاث ليال ما ندرى أين وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أقبل رجل من(1/151)
أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر: ص _130
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتى أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا..! فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد.! قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن وجهه إلى المدينة! من القائل؟ تذكر الرواية أنه من الجن! وتلك عادة العرب فى نسبة شعرها، فلكل شاعر عندهم شيطان..! والراجح أن الأبيات المذكورة من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة ويتسمع أخبار المهاجرين فيبدى فرحته بما يلقون من توفيق، ويجد متنفسا لمشاعره المتوارية فى هذا الغناء المرسل. والأبيات تشير إلى واقعة عرضت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أثناء رحلته. فقد مر على منازل خزاعة، ودخل خيمة أم معبد، فاستراح بها قليلا، وشرب من لبن شاتها. * * * * الوصول إلى المدينة وكذلك ترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة. فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء. وفى اليوم الثانى عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة، برز الأنصار على عادتهم منذ سمعوا بمخرج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته ويودون رؤيته، فلما حميت الظهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم، صعد ص _131(1/152)
رجل من اليهود على أطم من آطامهم، لبعض شأنه، فرأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه يتقاذفهم السراب، وتذويهم الرواحل رويدا رويدا إلى المدينة، إلى وطن الإسلام الجديد، فصرخ اليهودى بأعلى صوته: يا بنى قيلة، هذا صاحبكم قد جاء. هذا جدكم الذى تنتظرون.. فأسرع الأنصار إلى السلاح يستقبلون به رسولهم، وسمع التكبير يرج أنحاء المدينة، ولبست " يثرب " حلة العيد ومباهجه. قال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم. فجعلا يقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد. ثم جاء عمر بن الخطاب فى عشرين راكبا. ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيت الناس فرحوا بشىء كفرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء. يا عجبا لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذى شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة، استقبلته المدينة وهى جزلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد.. ومن الطريف أن كثيرا من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدم الركب لم يعرفوه من أبى بكر لأول وهلة حتى إن العواتق كن يتراءينه فوق البيوت يقلن: أيهم هو؟! ونزل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بنى عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة أسس خلالها مسجد قباء. وهو أول مسجد أسس فى الإسلام. وفيه نزل قوله تعالى: ! (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا) [التوبة: 108] * * * * استقرار المدينة رجل العقيدة يسير طوعا لها، ويجد طمأنينته حيث تقر عقيدته وتلقى الرحب والسعة. والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلقت به هممهم وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب فى نفوسهم من عواطف وأفكار.. فطالب الزعامة يرضى أو ينقم، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من(1/153)
أمله الحبيب. ص _132
انظر المتنبى كم مدح وهجا؟ وكيف انتقل من الشام الى مصر، ومن مصر إلى غيرها. وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته: يقولون لى: ما أنت؟ فى كل بلدة وماتبتغى؟ ما أبتغى جل أن يسمى والذى جل أن يسمى صرح به فى كل مكان آخر، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية!! أى بعض ما وضعته الحظوظ فى أيدى الملوك والملاك. وانه ليتعجل هذا الأمل من كافور فيقول: أبا المسك هل فى الكأس فضل أنا له؟ فإنى أغنى منذ حين وتشرب! والمتنبى فى نظرى أهل - بكفايته - للمناصب الرفيعة. ولكن التطلع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح، محكوم بالمشيئة التى ذكرتها الآية : (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) [الإسراء: 18]. ومن الناس من يعشق الجمال ويجرى وراء النساء ويجد فى المتعة بهن نهمته يسكن بعدها ويستكين ويقول: لا أرى الدنيا على نور الضحى بل أرى الدنيا على نور العيون ومنهم من يبحث عن المال ويقضى سحابة نهاره وشطر ليله يتتبع الأرقام فى دفاتره، يحصى ما وقع فى يده ويتربص بما لم يقع. وربما ذهل عن طعامه ولباسه فى غريزة الاقتناء التى سدت عليه المنافذ. * * * إلى جانب هذه الأصناف تجد فريقا آخر من البشر لا يطيق الكف عن إسداء الجميل، وبذل النصيحة، ورعاية الصالح العام، وإفناء ذاته فى سبيل الفضائل التى ملكت لبه وعمرت قلبه.. إنه يبيت مسهدا لو فرط فى واجب.. راحته الكبرى فى نشدان الكمال وسعادته القصوى يوم يدرك منه سهما.. وأصحاب الرسالات رهناء ما تحملوا من أمانات ضخمة، فمغانمهم ومغارمهم وحلهم وترحالهم وصداقتهم وخصومتهم ترجع كلها إلى المعانى التى ارتبطوا بها، وحيوا لأجلها.. وصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله ضرب من نفسه المثل الفذ للمكافحين. فمنذ أخذ على عاتقه تمزيق الأسداف، التى ألقت فى العالم ليلا كثيفا من الشرك والخرافة، لم يفلح أحد فى ثنيه عن عزمه أو تعويق مسيره أو ترضيته برغبة أو ردعه برهبة، وفنيت(1/154)
أمام عينيه ص _133
فوارق الزمان والمكان، فالغريب عنه إذا عرف الحق قريب، ووطنه إذا تنكر للهدى فهو منه برىء، والمؤمنون به آخر الدهر هم إخوته وإن لم يشاهدوه. ولقد عاش فى مكة ثلاثة وخمسين عاما حتى ألفته، لكنه اليوم يخرج منها إلى وطن جديد يرى فيه امتداد قلبه وثمار غرسه. والرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم لا يكرمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون. فلا غرو إذا دخل محمد - صلى الله عليه وسلم - المدينة دخول الواثق المعتز.. واستبشر بما آتاه الله فيها من فتح، وتوسم من وراء هذه الهجرة بشائر الخير والنصر. ثوى فى قريش بضع عشرة حجة : يذكر لو يلقى حبيبا ومواتيا ويعرض فى أهل المواسم نفسه : فلم يرمن يؤوى ولم ير واعيا فلما أتانا واستقرت به النوى : أصبح مسرورا بطيبة راضيا وأصبح لا تخشى ظلامة ظالم : بعيد ولا يخشى من الناس باغيا بذلنا له الأموال من جل مالنا : وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادى الذى عادى من الناس كلهم : جميعاوإن كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره : وأن كتاب الله أصبح هاديا * * * * إن تنظيم الهجرة واستقبال اللاجئين الفارين بدينهم من شتى البقاع ليس بالعمل الهين، وفى عصرنا الحاضر تعتبر هذه الحالة مشكلة تحتاج إلى الحل السريع. ومتى خلت حياة الرجل العظيم من المشكلات؟ وصادف إبان الهجرة أن كانت المدينة موبوءة (بحمى الملاريا) فلم تمض أيام حتى مرض بها أبو بكر، وبلال. واستوخم الصحابة جو المهجر الذى آواهم، ثم أخذت تستيقظ غرائز الحنين إلى الوطن المفقود. وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يصبر الصحابة على احتمال الشدائد، ويطالبهم بالمزيد من الجهد ص _134(1/155)
والتضحية لنصرة الإسلام، وقال: لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة، ولا يدعها رغبة عنها إلا أبدل فيها من هو خير منه. وهذا ضرب من جمع القلوب على المهجر الجديد حتى تطيب به وتنفر من مغادرته. وعن عائشة قالت: لما قدم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وعك أبو بكر وبلال. فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح فى أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة بواد، وحولى إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لى شامة وطفيل؟ قالت: فأخبرت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا فى مدها وصاعها، وانقل حماها واجعلها بالجحفة" . وعن أنس: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلت بمكة من البركة ". وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتى بأول الثمر قال: " اللهم بارك لنا فى مدينتنا وفى ثمارنا وفى مدنا وفى صاعنا، بركة مع بركة، اللهم إن إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وانى عبدك ونبيك، وانه دعاك لمكة، وأنا أدعو للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ". ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان . . . بهذا التشويق والإقبال ارتفع الروح المعنوى بين المسلمين، واتجهت القوى الفتية إلى البناء، متناسية الماضى وما يضم من ذكريات. إن الهجرة الخالصة لا تعود فى هبة ولا ترجع عن تضحية ولا تبكى على فائت، بل هى كما قال الشاعر: إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل..!! ص _135(1/156)
- 5 - أسس البناء للمجتمع الجديد ليست الأمة الاسلامية جماعة من الناس، همها أن تعيش بأى أسلوب، أو تخط طريقها فى الحياة إلى أى وجهة. ومادامت تجد القوت واللذة، فقد أراحت واستراحت. كلا كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوضح نظرتهم إلى الحياة، وتنظم شئونهم فى الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة. وفرق بين امرئ يقول لك: همى فى الدنيا أن أحيا فحسب! وآخر يقول لك: إذا لم أحرس الشرف، وأصن الحقوق، وأرض الله، وأغضب من أجله، فلا سعت بى قدم، ولا طرفت لى عين.. والمهاجرون إلى المدينة، لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء. والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، وأهدفوا أعناقهم للقاصى والدانى، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق.. إنهم - جميعا - يريدون أن يستضيئوا بالوحى، وأن يحصلوا على رضوان الله، وأن يحققوا الحكمة العليا التى من أجلها خلق الناس، وقامت الحياة.. وهل الانسان إذا جحد ربه، واتبع هواه، إلا حيوان ذميم، أو شيطان رجيم؟! ومن هنا شغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول مستقره - بالمدينة بوضع الدعائم التى لابد منها لقيام رسالته، وتبين معالمها فى الشئون الآتية: ا- صلة الأمة بالله. 2- صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر. 3- صلة الأمة بالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها. ص _136(1/157)
المسجد ففى الأمر الأول بادر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بناء المسجد، لتظهر فيه شعائر الإسلام التى طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التى تربط المرء برب العالمين، وتنقى القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا. والمروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، فى مربد لغلامين يكفلهما " أسعد بن زرارة ". وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتخذ مصلى كهذه المصليات التى تنتشر فى ريفنا، كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفى فى ترابه بعض قبور للمشركين. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت!؟ وبالخرب فسويت. وصفوا النخيل قبلة للمسجد ، والقبلة يومئذ بيت المقدس. وجعل طوله مما يلى القبلة إلى المؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريبا، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بنى باللبن، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم. وكانوا يروحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء.. بهذا الغناء: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة!! وقد ضاعف حماس الصحابة فى العمل رؤيتهم النبى صلى الله عليه وسلم يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت: لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلل!! وتم المسجد فى حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذى ربى ملائكة البشر، ومؤدبى الجبابرة وملوك الدار الآخرة. فى هذا المسجد أذن الرحمن لنبى يؤم بالقرآن خير من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد فى المجتمع الإسلامى تجعله مصدر التوجيه الروحى والمادى، فهو ساحة(1/158)
للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق ص _137
وتقاليد هى لباب الإسلام، لكن الناس ـ لما أعياها بناء النفوس على الأخلاق الجليلة ـ استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاما!! أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام.. والمسجد الذى وجه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ همته إلى بنائه قبل أى عمل آخر بالمدينة، ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها؟ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد فى عبادته بمكان. إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث، وهو وصل العتاد بربهم وصلا يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر! والحضارة التى جاء بها الإسلام، تذكر أبدا بالله وبلقائه وتمسك بالمعروف وتبغض فى المنكر، وتقف على حدود الله.. ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد يحتشد مع صحبه فى إقامة المسجد، يمهده للصلاة: فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكا يغمز؟ روى البيهقى عن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد، أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه ـ ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ـ: ألم يأتك رسولى فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقى نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله.. ! " ص _138(1/159)
الأخوة أما عن الأمر الثانى ـ وهو صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر ـ فقد أقامه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإخاء الكامل. الإخاء الذى تمحى فيه كلمة " أنا " ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كيانا دونها، ولا امتدادا إلا فيها.. ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام. وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر..!! وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج فى هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجرى على أنصارى إلا بقرعة!! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف. روى البخارى: أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع: فقال سعد لعبد الرحمن: إنى أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالى نصفين، ولى امرأتان فانظر أعجبهما إليك! فسمها لى أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال عبد الرحمن: بارك الله لك فى أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بنى قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!! ثم تابع الغدو.. ثم جاء يوما، وبه أثر صفرة ، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " مهيم ؟ قال: تزوجت. قال: "كم سقت إليها. قال: نواة من ذهب! وإعجاب المرء بسماحة " سعد " لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن، هذا الذى زاحم اليهود فى سوقهم، وبزهم فى ميدانهم، واستطاع ـ بعد أيام ـ أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه. إن علو الهمة من خلائق الإيمان؟ وقبح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به حتى(1/160)
أضاعوا كرامة الحق فى هذا العالم. ص _139
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة. لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص، وفى الحديث: "لو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذته - يعنى أبا بكر - خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل ". والإخاء الحق لا ينبت فى البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والنقص والجبن والبخل والجشع، لا يمكن أن يصح إخاء، أو تترعرع محبة. ولولا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جُبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخى الوثيق فى ذات الله. فسمو الغاية التى التقوا عليها وجلال الأسوة التى قادتهم إليها، نميا فيهم خلال الفضل والشرف، لم يدعا مكانا لنجوم خلة رديئة. ذلك، ثم إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان إنسانا، تجمع فيه ما تفرق فى عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه، وداروا فى فلكه، رجالا يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء. إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال. والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وانما هى أثر تخلص الناس من نوازع الأثرة والشح والضعة. وتد تبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين، لأنهم ارتقوا - بالإسلام - فى نواحى حياتها كلها، فكانوا عباد الله إخوانا، ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!! على أن تنويهنا بقيمة التسامى النفسانى فى تأسيس الإخاء، لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاما يؤخذون بحقوقه أخذا، فإذا لم يؤدوها طوعا أدوها كرها، وذلك كما يجبرون على العلم، والجندية، وأداء الضرائب، وغير ذلك. * * * وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة فى توارث التركات إلى موقعة " بدر " حتى نزل قوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) [الأنفال: 75]. فألغى(1/161)
التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوى الرحم. وروى البخارى عن ابن عباس فى تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [ النساء: 33] ص _140
قال كان المهاجرون ـ لما قدموا المدينة ـ يرث المهاجرى الأنصارى دون ذوى رحمه، للأخوة التى آخى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم. فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى..) نسخت ثم قال: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث، ويوصى له. روى فى تفصيل هذا الإخاء أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تآخى مع على وتآخى حمزة مع زيد، وأبو بكر مع خارجة، وعمر مع عتبان بن مالك.. إلخ. ومن العلماء من يشك فى أخوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع على. ولكن ما صح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل عليا منه بمنزلة هارون من موسى : يؤيد هذه الرواية، وليس يخدش هذا من منزلة أبى بكر ولا استحقاقه الصدارة. ** ** ** ** غير المسلمين أما الأمر الثالث، وهو صلة الأمة بالأجانب عنها، الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سن فى ذلك قوانين السماح والتجاوز التى لم تعهد فى عالم ملىء بالتعصب والتغالى. والذى يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا فى العالم بالبقاء والتسلط، هو رجل مخطئ بل متحامل جرىء! ص _141(1/162)
عندما جاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وجد بها يهودا توطنوا، ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل ـ عن طيب خاطر ـ وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه. ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة التى أبرمها مع اليهود، دليلا على اتجاه الإسلام فى هذا الشأن. جاء فى هذه المعاهدة، أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة. وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم!! وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.. وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وأن يهود بنى عوف أمة من المؤمنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وأن ليهود بنى النجار والحارث وساعدة، وبنى جشم وبنى الأوس.. إلخ مثل ما ليهود بنى عوف. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر، دون الإثم. وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره.. ص _142(1/163)
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. وأن من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم، وأثم.. وأن الله جار لمن بر واتقى.. وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين فى التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة فى ربوعها، والضرب على أيدى العادين ومدبرى الفتن أيا كان دينهم. وقد نصت - بوضوح - على أن حرية الدين مكفولة. فليس هناك أدنى تفكير فى محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، بل تكاتفت العبارات فى هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، واستنزل تأييد الله على أبر ما فيها وأتقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش. واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو. وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغى تركها، والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها. ويلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين ومشركى مكة، وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم وحرم إسداء أى عون لهم. وهل ينتظر إلا هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دما لبغى قريش وأحلافها عليهم؟ * * * * أكان اليهود صادقين فى موافقتهم على هذا العهد؟ أغلب الظن أنهم لم يكونوا جادين حين ارتضوه وقبلوا إنفاذه. وآفة العهود أن يرتبط الوفاء بها بمدى المنفعة المرجوة منها. فإذا بدا أن المعاهدة المبرمة لا تحقق المطامع المبتغاة قل التمسك بها والتمست الفرص للتحلل منها. وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرق العرب، قبائل متناحرة، فلما دخل العرب فى الإسلام وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى وتتابعت الأيام تؤكد أن الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة.. استشعر اليهود القلق وساورتهم الهموم، وشرعوا يفكرون فى الكيد لهذا الدين والتربص بأتباعه. ثم إن اليهود فى المدينة يكونون البيئة التى تتوافر فيها سوءات التدين المصنوع. والاحتراف السمج بمبادئ السماء. وأبرز خلال هذه البيئات الحقد والنفاق(1/164)
والتمسك بالقشور والولع بالجدل. ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجة. ص _1 ص
وربما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء، كالكرم والشجاعة، بيد أن انطواءهم العصرى غلب على سيرتهم، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوهة. وكان المتوقع أن يرحب اليهود بالإسلام. فإذا لم يرحبوا به فليكونوا أبطأ من الوثنيين فى مخاصمته. فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى توحيد الله، وإصلاح العمل، والاستعداد لحياة أرقى فى الدار الآخرة. والدين الذى جاء به وقر موسى وأعلى شأنه، ونوه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفذوا أحكامه، ويلزموا حدوده. لكن اليهود صمتوا - أولا - صمت المستريب ثم بدا لهم فقرروا المعالنة بالجحود. وهذا الترحيب المتوقع تلمح دلائله فى كثير من الآيات. فإن عبدة الأصنام إذا - أنكروا النبوة، فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) [الرعد: ص ] وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكرهم به (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) [القصص: 51. 52]. غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق، شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين! فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولدا، بشرا أو حجرا، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟ (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) [المائدة: 64]. (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) [آل عمران: 181]. * * * * على أن الإسلام يدع أولئك الجحدة فى ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفى بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجو بآياته(1/165)
ومعالمه. ص _144
فمن استراح إليها فدخل فيها، فيها ونعمت والا فهو وشأنه. ولا يطالبه الإسلام بشىء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير. ولقد جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة فمد يده إلى اليهود مصافحا، وتحمل الأذى مسامحا، حتى إذا رآهم مجمعين على التنكيل به، ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينهم من الوقائع، ما سنقص أخباره فى موضعه. * * ** ** بتقوى الله والإخلاص له دعمت الناحية الروحية فى هذا المجتمع الجديد. وبالإخاء الحق، تماسك بنيانه وتوثقت أركانه. وبالعدل والمساواة، والتعاون، رسمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الأخرى. ومن ثم استقرت الأوضاع ووجد المسلمون متسعا لتجديد قواهم وترتيب شئونهم. * * * ** المصطفون الأخيار إن المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء واقتربوا من حياتهم أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء. إن مشاعرك ترق عندما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عندما تقرأ البطولة الرائعة، بل إن الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون، ويبكون، ويهدءون ويضجون.. فما ظنك بقوم يتبعون رجلا تكلمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله آيات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير، دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة، نقاها فرد عليها سناءها. إن للعظماء إشعاعا يغمر البيئة التى يظهرون فيها. وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضىء منه، تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوى فى مجاله، وتمشى فى آثاره!! وقد التف بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فريق من الربانيين الأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت ـ بصحبته ـ نفوسهم، وشفت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب. ولا تحسبن العقل الجبار ـ مهما أوتى من نفاذ ـ يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة. فإذا لم(1/166)
تسدده عناية عليا، فإنه سيجوب كل أفق دون أن يبصر غاية أو يهتدى طريقا، كالطيار الذى يضل فى الجو عندما يتكاثر أمام عينيه الضباب.. إنه يحكم القيادة، ويضبط الآلات، ويرسل ص _145
أنوار مصابيحه فى أحشاء الغيوم المتراكمة. فإذا لم يتلق إرشادا يحدد له مكانه ويعرف كيف يهبط.. فإنه سيظل يحلق عبثا.. ثم تهوى به الريح فى مكان سحيق. وكم من فلاسفة عالجوا شئون الكون والحياة. فمنهم من ضل عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط! ومنهم من استغرق فى الوصول إليه أعواما طوالا. ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه فى أيام قصار، وهو فى مأمن من الشرود والعثار! ثم إن الإنسان ليس عقلا فحسب، إنه ـ قبل ذلك ـ قلب ينبغى أن يسلم من الأهواء والآثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون فى حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحاديا يهفو إلى الجمال والرحمة.. والمرسلون الكرام يتعهدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية. وأشبه الناس بهم من اقتفى آثارهم وأخذ فى طريقهم، وأول أولئك قاطبة من صحبوهم فى حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم.. قال عبد الله بن مسعود: " من كان مستنا فليستن بمن مات، فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا. اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.. ". ولا شك فى أن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجحون أصحاب موسى وعيسى. فإن تاريخهم فى الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة، ولا محرفة، لا يشبه أى تاريخ آخر.. ونحن نسوق هذه المقدمة بين يدى الكلام عن الأذان، وكيف شرع؟ فإن ميلاد هذه الشعيرة العظيمة، يحمل معه آيات بينة عن عظمة النفوس إذا صفت فنضحت بالحق، وسكن إليها(1/167)
الإلهام.. قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قدم المدينة، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجعل بوقا كبوق يهود الذى يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه. ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة أخو بنى الحارث النداء، فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إنه طاف بى هذه الليلة طائف، مر بى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا فى يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله اكبر الله اكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن ص _146(1/168)
محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. حى على الصلاة، حى على الصلاة، حى على الفلاح، حى على الفلاح، الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أخبر بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله! فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعه عمر وهو فى بيته فخرج إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يجر رداءه يقول: يا نبى الله، والذى بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذى رأى! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فلله الحمد . وفى رواية: فأمر رسول الله بلالا فأذن به . قال الزهرى: وزاد بلال فى نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم مرتين. فأقرها رسول الله . وفى رواية أخرى رأى عمر فى المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبره بما رأى وقد جاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوحى بذلك. فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحى . وهذا يدل على أن الوحى قد جاء بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد.. هذه الكلمات الطيبة التى ترتفع بين الحين والحين، تقرع الآذان، وتوقظ القلوب وتصيح بالناس: هلموا إلى الله. وعاها فى رؤيا صالحة ذهن نير، فأسرع بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ص _147(1/169)
يرويها كما ألقيت فى روعه، لتكون نداء المسلمين إلى الصلاة ما أقيمت على ظهر الأرض صلاة. وتجاوب النفوس مع الوحى هو غاية التألق وقمة الحق، وهو أمارة على أن الهدى أصبح غريزة فيها، فهى تستقيم عليه فى اليقظة والنوم، وتتجه إليه على البديهة وبعد التروى. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربط أصحابه بالوحى النازل عليه من السماء رباطا موثقا، يقرؤه عليهم ويقرءونه عليه، لتكون هذه المدارسة إشعارا بما على الصحاب من حقوق الدعوة وتبعات الرسالة، فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر!! عن عبد الله بن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ على القرآن!! فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إنى أحب أن أسمعه من غيرى! قال: فقرأت له سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) [النساء: 41] قال: حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان.. زاد فى رواية: (ْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) المائدة: 117. وإذا كان الاهتداء إلى ألفاظ الأذان قد ترشحت له سريرة مصفاة، مشغوفة بالعبادة، مشغولة بالحق، فإن من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك، من اندمجوا فى معانى الإيمان، وخلصوا لمعين الرسالة حتى إن الله أمر رسوله أن يقرأ عليهم بعض سور القرآن، تنويها بمكانهم عند الله ورسوخهم فى آياته. عن أنس بن مالك قال! رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن كعب: إن الله أمرنى أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) [البينة: ا]، قال أبى: وسمانى؟ قال: نعم. وفى رواية: " آلله سمانى لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. قال: فذرفت عيناه.! * * * * ص _148(1/170)
معنى العبادة وسر الارتقاء الروحى والجماعى الذى أدركه صحابة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح، فلم يشعروا فى الفعل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلف، ولا يعانون من شرود وحيرة. هناك طبيعتان فى الإنسان غير منكورتين : الإعجاب بالعظمة، والعرفان للجميل. عندما ترى آلة دقيقة أو جهازا عجيبا أو صورة رائعة أو مقالا بليغا، فإنك لا تنتهى من تبين حسنه حتى تنطوى جوانحك على الإعجاب بصاحبه، فإن الذكاء العميق والاقتدار البارز يجعلانك تنحنى من تلقاء نفسك احتراما للرجل الذكى القدير! وكذلك عندما يُسدى إليك معروف أو تمتد يد إليك بنعمة، فإنك تذكر هذا الصنيع لمن تطوع به، وعلى قدر ضخامة ما نلت من خير، يلهج لسانك بالثناء ويمتلىء فؤادك بالحمد، كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى، ولسانى، والضمير المحجبا! ورسول الإسلام جاء يثير هاتين الطبيعتين نحو أحق شىء بهما، ألست تعجب بالعظمة وتحتفى بصاحبها؟! ألست تقدر النعمة وتشكر مسديها؟! إنك ترمق، بإجلال، مخترع الطيارة، وكلما رأيتها تشق الفضاء زدت إشادة بعبقريته! فما رأيك فيمن يدفع الألوف المؤلفة من الكواكب تطير فى جو السماء من غير توقف ولا عوج؟! وما رأيك فيمن خلق عقل هذا المخترع، وأودع فى تلافيف مخه الذكاء الذى وصل به إلى ما راعك واستثار إعجابك؟ أليس ربك ورب كل شىء أحق بأن تعرف عظمته وتفتح عيونك على آثار قدرته..؟ فإذا عرفت عظمته من عظمة الوجود الذى يحيط بك، خجلت من التهجم عليه ونسبة ما لا يليق إليه!! وقلت مع العارفين: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) [آل عمران: 191] إنك لو استضافك شخص كريم ورأيت البشاشة فى وجهه والسماحة فى قراه، حفظت له ـ ما حييت ـ هذه المنة، وسعيت جهدك كى تكافئه عليها، وحدثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟ فأنت لا تطعم إلا من(1/171)
رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوى إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلا بإنقاذه..! ص _149
إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة. فهم إذا انبعثوا لطاعته، كانوا مدفوعين لأداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم..
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب.
والعبادة ليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة!
قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين، أو أمرا بخفض الرواتب فيقبل الموظفون ساخطين.
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدرى إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها.
تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التى شرع الله للناس. فالعبادة التى أجراها الله على الألسنة فى الآية الكريمة (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: 5]، والتى جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء فى قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]، تعنى الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أى الناشئ عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل.
وقد اطردت آيات القرآن تبنى سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية.
فهى ـ إذ تعرف الناس بالله ـ تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغفلة على الأعين من جهالة وجحود.
(الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) [ إبراهيم: 32- 34].
إن الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة ويبلغ الشىء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا.(1/172)
فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد، وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به فى منامه وينشط له فى يقظته، وذلك يرقى به صعدا فى فهم مبدئه واجادة خدمته.
ومن ثم فإن الإسلام لا يحفل بالإيمان النظرى البحت، ولا يقبله إلا ليكون سلفا إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معا.
ص _150
لابد من تلوين الوجدان فى قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه. ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران. كما أنه لا غمط فيه ولا جحود. والمسلم كل المسلم هو الذى يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساسا يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه! والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وبانى الدول، ومقيم الحضارات السنية. هو الذى يجعل الفرد يستحلى التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها، وكأنها رغبات نفس، لا واجبات دين.. أتظن أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قام يصلى حتى تورمت قدماه كان يغالب الألم الناتج فى بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب، عندما يوقف الساعات الطوال معذبا مهانا؟ كلا.. كلا.. إن استعذابه للمناجاة واستغراقه فى الخشوع أذهلاه عما به، وغلبا على بوادر الألم الناشئ من طول الوقوف. والرجل الموفور الحماسة، الفاتر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل فى عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين. ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز. أترى حذيفة بن اليمان عندما انطلق يتعرف أحوال المشركين فى غزوة الخندق، فى ليلة باردة، قارصة الجو، لافحة السبرات: لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خيشومه الذنبا! لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنما أسير فى حمام.. هذه حرارة الإيمان غمرت ـ بدفئها ـ الرجل، وجعلته ينفذ فى كبد الليل البارد، وكأنه سهم مسدد. هذا الإيمان المرتكز على العواطف المتقدة. هو الذى(1/173)
أشعل المعارك الطاحنة، وقاد إلى النصر المظفر، وهو الذى هدم ما تركز قرونا طويلة، من سلطان الظلم والبغى بعدما ظن أنه لن يطيح أبدا. وأساسه ما علمت من تغلغل الإيمان فى العقل والعاطفة معا، يغذو شجرته الباسقة مزيد من معرفة الله، والشعور بعظمته ونعمته. ذلكم أسلوب القرآن فى تعريف الناس بالله. إنه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفانى، لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الإعجاب بالعظمة والإقرار بالإحسان، لا ص _151(1/174)
العبودية المبهمة التى تصادر الإرادة وتزرى بالإنسان: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون * أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون * أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [النمل: 59ـ64]. إن هذا التساؤل المتواصل السريع، يفتح على النفس آفاقا بعيدة من الإيمان الذكى، ويجعلها تهرع إلى الله متجردة، تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال الكبار من عبث الصبية. وآيات النظر والتفكير يدور ـ أغلبها ـ على هذا المحور الثابت. وربما احتاجت النفس ـ فى ساعات غرورها ـ إلى لون من أدب القمع والتوعد بكبح جماحها، وهذا لا يتنافى ـ البتة ـ مع الأصل الذى قررناه آنفا، فإن قسوة الأب مع ولده ـ حينا ـ لا تغير من طبيعة الحنان فيه. والقرآن إذ يحرك المواهب السامية فى الإنسان ـ بعرض آثار القدرة العليا عليه ـ قد يردف ذلك بوخزات توقظ الإحساس المخدر، ليلتفت ويعقل، لا لينكمش ويجبن. قال الله تبارك وتعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) [الزمر: 21]. ويقول بعد ذلك: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) [الزمر: 22] ص _152(1/175)
وقد سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنهج نفسه فى غرس الإيمان ورعاية ثماره. وكانت سيرته فى الإقبال على الله درسا حيا، يفعم الأفئدة بإجلال الله وإعظامه والمسارعة إلى طاعته، والنفور من عصيانه. وكانت القلوب تنفتح على هدى الله ورسوله، فما تسع بعده شيئا. عن جبير بن مطعم سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فى المغرب بالطور، فلما بلغ الآية: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) [الطور: 35- 37] ، كاد قلبى أن يطير..!! ومد الإيمان من فكرة فى الرأس إلى عاطفة فى القلب، تجعل الرجل ينبض باليقين والإخلاص، هو من صميم السنة. وهو مهاد الخلال الفاضلة التى سادت المسلمين وأعلت شأنهم، وهو معنى الحديث المشهور: " ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله. ومن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار " . ومن ذلك أيضا أن يتغلغل الإيمان بالرسالة والمغالاة بصاحبها إلى حد ينسى الإنسان معه نفسه، فهو - عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة - يفدى الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس. عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شىء إلا نفسى! فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لا - والذى نفسى بيده - حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: فإنه الآن لأنت أحب إلى من نفسى! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر.. !، أى الآن فقط تم إيمانك. وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح. إن الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة. وقد احترم الناس خلق الوفاء فى السموأل، لما ترك ابنه يذبح، مؤثرا أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته. والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه. ص _153(1/176)
ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يطلب من الناس أن يقدسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم ليموتوا كى يحيا أو ليهونوا كى يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتأله فوقهم كما تأله فرعون وأمثاله من الجبارين.
كلا.. كلا.. فمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد من المؤمنين أن يقدسوا فيه معنى الرسالة وأن يقتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا ـ فى شخصه ـ معالم الحق المنزل ومآثر الرحمة العامة.
إن الأنبياء لم يحيوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة.
إنهم يحيون للعالم كله. أليسوا مناط هدايته التامة وسعادته العامة؟
فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال.
وقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهلا لأن يحب؟ وما تعرف الدنيا رجلا فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال فى حياطته واكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
* * * * *
قيادة تهوى إليها الأفئدة
عن عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال:
" أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".
إن أضواء الباطن تنضح على الوجه فتقرأ فى أساريره آيات الطهر. وقد ذهب عبد الله يستطلع أخبار هذا الزعيم المهاجر. فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أول ما اطمأن إليه بعد التثبت من أحواله، أن هذا ليس بكاذب، والملامح العقلية والخلقية لشخص ما، لا تعرف بنظرة خاطفة، ولكن الطابع المادى الذى يضفى على الروح الكبير، كثيرا ما يكون عنوانا صادقا على ما وراءه.
ص _154(1/177)
على أن الذين عاشروا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحبوه إلى حد الهيام، وما يبالون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر.
وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذى يعشق عادة لم يُرزق بمثلها بشر.
كان ثوبان مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شديد الحب له ، قليل الصبر عنه. فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه، يعرف الحزن فى وجهه، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله، ما بى مرض ولا وجع، غير أنى إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم إنى ذكرت الآخرة أخاف ألا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين، وإنى إن دخلت الجنة كنت فى منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلها لم أرك أبدا. فنزل قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) [النساء: 69].
وفى الحديث " المرء مع من أحب " . والمقصود حب الأسوة، لا حب الهوس، فإن الرجل إذا أحب من هو مثله أو أعلى منه، فأساس هذا الحب يفتح قلبه لخلال النبل التى خصوا بها، وعظمة المواهب التى ميزهم بها القدر.
وآثار الشجاعة والكرم لا يرحب بها الجبان الشحيح. إنما يحييها فى أصحابها من أوتى حظا منها، وهو بسبيله إلى استكمال ما فاته من تمامها.
فمن نعمة الله أن يلحق بالعظماء من يعشق فيهيم جمال العظمة. ولذلك قال بعد الآية السابقة: (ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) [النساء: 70].
والحق أن التابع المحب شخص فاضل.
ففى الدنيا كثير من الأخساء الذين إن علوا، حقروا من دونهم، وإن دنوا، كرهوا من فوقهم! فما تدرى متى تخلو نفوسهم من أحاسيس البغضاء والضعة؟
ص _155(1/178)
أما عشاق المبادئ المجردة، فما إن يجدوا رجلها المنشود حتى يحيطوا به، وتلمع عيونهم حبا له، أى حبا للمبادئ التى حييت فيه وانتصرت به. وما كان ربك ليضيع هذا اليقين ولا أصحابه الأبرار. عن أنس قال: لما كان اليوم الذى دخل النبى - صلى الله عليه وسلم - فيه المدينة أضاء منها كل شىء. فلما كان اليوم الذى مات فيه، أظلم منها كل شىء. وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. فانظر إلى بشاشة العاطفة الغامرة، كيف صبغت الآفاق بألوانها الزاهية، وانظر إلى حسرة الفقد، كيف تخلف سوادها الكابى على كل شىء!! هكذا كانت دار الهجرة، لقد أحبت الله وأحبت رسوله. فكان هذا الحب المكين سر انتصارها الرائع للإسلام ومبعث التضحية عن طيب نفس بكل مرتخص وغال. وقوم يربطهم بقائدهم هذا الإعزاز الهائل، تندك أمام عزائمهم الأطواد الراسية.. * * * سأل الحسن بن على هند بن أبى هالة عن أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوصف له بدنه، فكان مما قال: ".. يمشى هونا، ذريع المشية - واسع الخطو - إذا مشى كأنما ينحط من صبب - يهبط بقوة - وإذا التفت، التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة - أى لا يحدق - يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام ". قلت: صف لى منطقه. قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - لا بأطراف فمه - ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، ليس بالجافى ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، ولم يكن يذم ذواقا - ما يطعم - ولا يمدحه. ولا يقام لغضبه، إذا تعرض للحق بشىء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها - سماحة - إذا أشار، أشار بكفه كلها. وإذا تعجب قلبها. وإذا غضب، أعرض وأشاح. وإذا فرح غض طرفه. جل ضحكه التبسم. ويفتر عن مثل حب الغمام. وقال ابن(1/179)
أبى هالة يصف مخرجه على الناس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا عما ص _156
يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم. ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، ويحسن الحسن ويصوبه ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا. لكل حال ـ عنده ـ عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره.. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة و مؤازرة. ثم قال يصف مجلسه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن ـ لا يميز لنفسه مكانا إذا انتهى إلى القوم، يجلس حيث ينتهى به المجلس ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات. ولا تؤبن فيه الحرم ـ لا تخشى فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوى. يوقرون الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. وقال يصف سيرته: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير. وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ. حديثهم حديث أولهم. يضحك مما يضحكون منه. ويعجب مما يعجبون(1/180)
منه. ويصبر للغريب على الجفوة فى المنطق ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه. ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ... ص _157
هذه خطوط قصار لما يراه الناس من مظاهر الكمال فى سيرة النبى " المحمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ . أما حقيقة ما بنى عليه هذا الرسول الكريم من أمجاد وشمائل، فأمر لا يدرك كنهه. ومعرفة العظماء لا يطيقها كل أحد، فكيف بعظيم، خلائقه القرآن؟ إن الأمة التى أخرجت للناس فى المدينة بلغت الأوج. كانت تعمل وتجاهد لله وحده. وتسعى إلى غايتها المرموقة فى جذل وثقة. التفت حول نبيها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد والأبناء بالوالد الحنون. وتساندت فيما بينها، بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهى نفس واحدة، فى أجسام متعددة، ولبنات مشدودة فى بناء منسق صلب. وأرادت علاقاتها بالآخرين على العدل والبر. فليس يظلم فى جوارهم برىء، أو يحرم من ألطافهم عان. وبرغم ما وقع عليها من بغى قديم، فقد جعلت الاسلام يَجُّبُ ما قبله. فمن تطهر من جاهليته وتاب إلى ربه فلا نظر إلى ماضيه. بل ينضم إلى الأمة المسلمة عضوا كريما فيها، تغفر سيئاته ليستقبل ـ بصالح عمله ـ كتابه الجديد. أما الذين بقوا يكفرون ويصدون، فلابد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم. (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) [ النساء: 168، 169] كانت هذه الأمة تكدح لله وتصل مساءها بصباحها فى عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين، إما أن تحيا الله، وإما أن تموت فيه!. ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر العالم، لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمع ـ لديهم ـ صاعدة. على حين تفور ـ فى كيان الملل الأخرى ـ زلازل حاطمة ؛ فلا غرو إذا صاروا بعد سنين معدودات دولة فتية، تقضى لربها ولنفسها ما تشاء. ثم إن الشرائع المفصلة أخذت تنزل فى المدينة منظمة أحوال(1/181)
المسلمين الخاصة والعامة، مبينة قواعد الحلال والحرام على تدرج، إلى أن وصلت إلى وضعها الأخير كما سجلها تاريخ التشريع. ص _158
فقامت الحدود، وفرضت الزكاة، والصيام، وزيدت ركعات الصلاة لأول العهد بيثرب. عن عائشة: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد فى صلاة الحضر. ومما يذكر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - بنى بالسيدة عائشة فى غضون السنة الأولى للهجرة وكان قد عقد عليها قبل الهجرة . وسنتحدث عن تعدد الزواج، وزوجات الرسول فى موضع آخر. ص _159(1/182)
- 6 - الكفاح الدامى دخل الإسلام المدينة وأحزاب الكفر تطارده من كل ناحية، فأوى المسلمون إلى مهجرهم كما يأوى الجندى إلى قلعته الشامخة، وأخذوا يستعدون حتى لا تقتحم عليهم من أقطارها. وهم تعلموا من السنين الغبر التى مرت عليهم فى مكة أن الضعف مدرجة إلى الهوان مزلقة إلى الفتنة، والمرء لا يقدر العافية حق قدرها إلا بعد الإبلال من المرض، ولا يعرف قيمة الغنى إلا عند التخلص من ذل الحاجة. ومن أولى من المهاجرين والأنصار بالإفادة من عبر الماضى؟ ذلك نبيهم تعقبه القتلة ألف ميل ليغتالوه، وسواد المهاجرين نُهب مالهم وسلبت دورهم وشردوا من البلد الحرام. إن " حالة الحرب " قائمة - يقينا - بين طغاة مكة وبين المسلمين فى وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام. على أن العداوة للنبى - صلى الله عليه وسلم - وصحبه تجاوزت قريشا إلى غيرهم من مشركى الجزيرة الضالة. ولن تذهب الفروض بنا بعيدا، فإن عبدة الأصنام من أهل المدينة نفسها شرعوا يجاهرون بخصومتهم للإسلام. وانضم إلى هؤلاء وأولئك، اليهود الذين أوجسوا خيفة من انتشار هذا الدين، واندحار الوثنية العربية أمامه.. فما بد - إذن - من التأهب لكل طارئ، والتربص بكل هاجم، وتجهيز القوة التى تؤدب المجرمين يوم يتطاولون! والقتال الذى شرعه الإسلام وخاض معاركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وهو أشرف أنواع الجهاد. وقد بينا فى كتبنا الأخرى - بالاستدلال العلمى والاستقراء التاريخى أن الحروب التى اشتبك فيها الإسلام - على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه - كانت فريضة لحماية الحق، ورد المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة . أما تخرص المستشرقين والحقد على الإسلام من أهل الأديان الأخرى والادعاء بأن ص _160(1/183)
المسلمين جنحوا إلى القوة حيث لا مبرر لها، فذلك كله لغو طائش، وهو جزء من الحملة المدبرة لمحو الإسلام من الأرض، واستبقاء أهله عبيدا للصليبية والصهيونية وما إليهما. وما من أيام القتال فيها أوجب على المسلمين من أيام يهدد فيها الإسلام وآله بالفناء، وتتألب عليه شتى القوى، بل يصطلح ضده الخصوم الألداء، محاولين سحقه إلى الأبد. وقد وقع ذلك فى صدر الإسلام، قبل الهجرة وبعدها، ووقع فى هذه الأيام فسقطت أوطان الإسلام فى أيدى لصوص الأرض، ثم رسمت أخبث السياسات للذهاب به رويدا رويدا. فكيف تستغرب الدعوة إلى التسلح، والإهابة بأهل النجدة أن يوطنوا أنفسهم على التضحية فى سبيل الله؟ كيف تستنكر صناعة الموت فى أمة يتواثب حولها الجزارون من كل فج؟ كلا.. كلا (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون * وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) [الأنفال: 59- 62] * * * وتمشيا مع توجيه الوحى وسياسة الواقع، وحفاظا على حق الله وحق الحياة، درب النبى - صلى الله عليه وسلم - رجاله على فنون الحرب، واشترك معهم فى التمارين والمناورات والمعارك، وعد السعى فى هذه الميادين خطوات إلى أجل القرب وأقدس العبادات، لعله بذلك يفل شوكة الكفر، ويكسر عن المسلمين أذاه: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) [النساء: 84]. عن عتبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) [ الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمى، ألا إن القوة الرمى، ألا إن القوة الرمى ".(1/184)
ص _161
والحديث يشير إلى ما لإصابة الأهداف من أثر حاسم فى كسب المعارك. الرمى أعم من أن يكون بالسهم أو بالرصاص أو القنابل. وعن نقيم اللخمى، قال: قلت لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين - تتردد بينهما - وأنت شيخ كبير يشق عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أعانه. قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: " من تعلم الرمى ثم تركه فليس منا! ". فانظر كيف يبقى الشيوخ المسنون على دربتهم فى إصابة الهدف، ومهارة اليد ونشاط الحركة. إن الإسلام يفترض المقدرة على القتال فيوجبها على الشباب والشيوخ جميعا. وعن أبى نجيح السلمى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من بلغ بسهم فهو له درجة فى الجنة ". فبلغت يومئذ عشرة أسهم، وسمعته يقول: " من رمى بسهم فى سبيل الله فهو عدل رقبة محررة ". وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه؟ يحتسب فى عمله الخير. والرامى به. ومنبله - الممد به - فارموا واركبوا. وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا. كل لهو باطل، ليس من اللهو محمودا إلا ثلاثة: 1- تأديب الرجل فرسه . 2- وملاعبته أهله . 3- ورميه بقوسه. فإنهن من الحق، ومن ترك الرمى بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها . ص _162(1/185)
وعن ابن عمر: " الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة؟ الأجر والغنيمة " . وهذا ترغيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فى تعليم الفروسية، وإبراز لون معين من ألوان القتال لا يحط من قيمة الألوان الأخرى، أو يؤخر منزلتها. ألا ترى كيف حض النبى على تعلم القتال فى البحر، فقال: " غزوة فى البحر خير من عشر غزوات فى البر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلها، والمائد فيه - الذى يصيبه الدوار والقىء - كالمتشحط فى دمه " . والدول تحتاج إلى الكتائب فى البر والأساطيل فى البحر والجو، كل سلاح عون لأخيه فى إدراك النصر، وأسبق الجند إلى رضوان الله أعظمهم نيلا من العدو، وأرعاهم لذمام أمته وشرف عقيدته، سواء مشى، أم رمى، أم أبحر، أم طار. * * * * سرايا فلما استقر أمر المسلمين، أخذوا يرسلون سراياهم المسلحة، تجوس خلال الصحراء المجاورة، وتخترق طريق القوافل المارة بين مكة والشام، وتستطلع أحوال القبائل الضاربة هنا وهناك: 1- ففى رمضان من السنة الأولى، التقى " حمزة بن عبد المطلب " فى ثلاثين من المسلمين، بأبى جهل يقود قافلة لقريش، ومعه ثلاثمائة راكب. وقد حجز بينهما مجدى بن عمر الجهنى فلم يقع قتال. 2- وفى شوال من السنة نفسها، سار عبيدة بن الحارث فى ستين راكبا إلى وادى رابغ. فالتقى بمائتى مشرك على رأسهم أبو سفيان، وقد ترامى الفريقان بالنبل ولم يقع قتال. 3- وفى ذى القعدة خرج " سعد بن أبى وقاص " فى نحو عشرين رجلا يعترض عيرا لقريش ففاتته. ص _163(1/186)
4- وفى صفر من السنة الثانية خرج الرسول بنفسه بعد أن استخلف سعد بن عبادة على المدينة، وسار حتى بلغ "ودان" يريد قريشا وبنى ضمرة، فلم يلق قريشا، وعقد حلفا مع بنى ضمرة. 5- وفى ربيع الأول من السنة نفسها، خرج الرسول على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى " بواط " معترضا عيرا لقريش يقودها أمية بن خلف ومعه مائة من المشركين ففاتته. 6- وفى جمادى خرج إلى العشيرة من بطن " ينبع " وأقام شهرا، صالح فيه بنى مدلج. 7- ثم أغار كرز بن جابر الفهرى على المدينة، واستاق سرحها، فخرج النبى فى طلبه حتى بلغ "وادى سفوان" قريبا من " بدر " فلم يدركه. ويسمى المؤرخون هذه " غزوة بدر الأولى ". والحكمة فى توجيه هذه السرايا على ذلك النحو المتتابع تتلخص فى أمرين: أولهما: إشعار مشركى يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها، بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذى مكن قريشا فى مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم، واغتصاب دورهم وأموالهم. ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام فى المدينة كثر، ولن يصدهم عن النيل منه إلا الخوف وحده. وهذا تفسير قوله تعالى: (ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) [الأنفال: 60]. والصنف الأخير؟ هم المنافقون الذين يبطنون البغضاء للإسلام وأهله، ولا يمنعهم من إعلان السخط عليه إلا الجبن وسوء المغبة، أما الأولون فهم المشركون ولصوص الصحراء وأشباههم ممن لا يبالون ـ لولا هذه السراياـ الهجوم على المدينة واستباحة حماها. وقد كان من الجائز أن تتكرر حادثة " كرز بن جابر " السابقة، وتتجرأ البدو على تهديد المدينة حينا بعد حين، غير أن هذه السرايا الزاحفة قتلت نيات الطمع وحفظت هيبة المسلمين. والأمر الآخر ـ فى حكمة بعث السرايا ـ إنذار قريش عقبى طيشها. فقد حاربت الإسلام، ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين(1/187)
فى مكة، ثم ظلت ماضية فى غيها، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل فى دين الله. ولا تسمح لهذا الدين أن يجد قرارا فى بقعة أخرى من الأرض. فأحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشعر حكام مكة، بأن هذه الخطة ص _164
الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة، وأنه قد مضى ـ إلى غير عودة ـ ذلك العصر الذى كانوا يعتدون فيه على المؤمنين، وهم بمأمن من القصاص.. والمستشرقون الأوربيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنها ضرب من قطع الطريق. وهذه النظرة صورة للحقد الذى يعمى عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم ويحكم كيف يشاء. وقد ذكرنى هذا الاستشراق المغرض بما حكوه عند قمع الإنكليز لثورة الأهلين فى إفريقيا الوسطى ـ مستعمرة كينيا ـ وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه.. قال جندى إنكليزى لآخرـ يصف هؤلاء الإفريقيين ـ: إنهم وحوش، تصور أن أحدهم عضنى وأنا أقتله!!! إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين فى إنصاف أهل مكة والنعى على الإسلام وأهله. * * * * سرية عبد الله بن جحش وفى رجب من السنة الثانية، بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن جحش فى رهط من المهاجرين، وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره. فإذا نظر فيه ووعى ما كلفه الرسول به، مضى فى تنفيذه غير مستكره أحدا من أصحابه. فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فقال عبد الله: سمعا وطاعة. وأطلع أصحابه على كتاب الرسول قائلا : إنه نهانى أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معى، ومن كره ذلك فليرجع.. فلم يتخلف منهم أحد. غير أن البعير الذى كان يتعاقبه سعد بن أبى وقاص " و " عتبة بن غزوان " ند منهما فشغلا بطلبه. ومضى عبد الله برفاقه حتى نزل أرض نخلة. فمرت عير قريش فهاجمها عبد الله ومن معه، فقتل فى هذه المعركة " عمرو بن(1/188)
الحضرمى " وأسر اثنان من المشركين، وعاد عبد الله بن جحش بالقافلة والأسيرين إلى المدينة. ويظهر أن هذا القتال وقع فى آخر رجب، أى فى الشهر الحرام. فلما قدمت السرية على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام، ووقف التصرف فى العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله وكثر فى ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحى حاسما هذه الأقاويل ومؤيدا مسلك عبد الله تجاه المشركين. ص _165(1/189)
(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) [البقرة: 217 ] إن الضجة التى افتعلها المشركون لإثارة الريبة فى سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها. فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها فى محاربة الإسلام واضطهاد أهله! فما الذى أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟! ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم؟! لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون فى مصلحته. فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعا. فالقانون المرعى ـ عنده فى الحقيقة ـ هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب. وقد أوضح الله عز وجل أن المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضى فى خطتهم الأصيلة، وهى سحق المسلمين، حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217] ثم حذر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط فى الإيمان الذى شرفهم الله به، وناط سعادتهم فى الدنيا والآخرة بالبقاء عليه فقال: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 217]. وزكى القرآن عمل " عبد الله " وصحبه. فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة وتوغلوا فى أرض العدو مسافات شاسعة، متعرضين للقتل فى سبيل الله متطوعين لذلك من غير مكره أو محرج. فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف؟! قال الله فيهم: ص _166(1/190)
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) [البقرة: 218] والقرآن فى فعال هذه السرية، لم يدع مجالا للهوادة مع المشركين المعتدين، مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم. فبعد أن كان أغلب المكتتبين فى السرايا السابقة من المهاجرين، أخذت البعوث الخارجة تتألف من المهاجرين والأنصار معا. وزاد الشعور بأن الكفاح المرتقب قد يطول مداه، وتكثر تبعاته ولكنه كفاح مستحب، مقرون بالخير العاجل والآجل. وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جد أو يجد من سيئاتها، وأن تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين. وهكذا اتسعت الهوة، وزادت بين الفريقين الجفوة. وكأن هذه الأحداث الشداد هى المقدمة لما أعده القدر بعد شهر واحد من وقوعها، عندما جمع رجالات مكة وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور فى " بدر ". * * * * معركة بدر ترامت الأنباء إلى " يثرب " أن قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة، تحمل لأهلها الثروة الطائلة، ألف بعير موقرة بالأموال يقودها "أبو سفيان ابن حرب " مع رجال لا يزيدون على ثلاثين أو أربعين! إن الضربة التى تنزل بأهل مكة ـ لو فقدوا هذه الثروة ـ موجعة حقا، وفيها عوض كامل لما لحق المسلمين من خسائر فى أثناء هجرتهم الأخيرة. لذلك قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هذه عير قريش، فيها أموالهم، فأخرجوا إليها، لعل الله ينفلكموها ". لم يعزم الرسول على أحد بالخروج ولم يستحث متخلفا، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ثم سار ـ بعد ـ بمن أمكنه الخروج. وكان الذين صحبوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه المرة يحسبون أن مضيهم فى هذا الوجه لن يعدو ما ألفوا فى السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام! ص _167(1/191)
ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سمح لمسلم أن يبقى فى المدينة لحظة! لذلك فترت الهمم عندما وردت أخبار أخرى بأن القافلة المطلوبة غيرت طريقها. واستطاع قائدها " أبو سفيان " أن ينجو من الخطر المحدق به، بعد أن أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، ويستثير حميتهم للخروج فى تعبئة ترد كل هجوم. وغالب النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا الفتور العارض، وحذر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة إن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها! وأصر على ضرورة تعقب المشركين كيف كانوا. وذلك قوله تعالى : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) [الأنفال: 5، 6] والذين كرهوا لقاء قريش، ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنهم لم يعرفوا الحكمة فى خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغى لها من عدة وعدد. بيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد أن الإقدام خير من الإحجام، ومن ثم قرر أن يمضى. فإن الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو. وقد اختفت - على عجل - مشاعر التردد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم. والمسير بإزاء طريق القوافل إلى " بدر " ليس سفرا قاصدا أو نزهة لطيفة. فالمسافة بين " المدينة " و " بدر " تربو على 160 كيلومترا، لم يكن مع الرسول وصحبه غير سبعين بعيرا يتعاقبونها. روى أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال : كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير - أى يتعاقبون - وكان أبو لبابة وعلى بن أبى طالب زميلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فكانت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالا له: نحن نمشى عنك - ليظل راكبا - فقال: " ما أنتما بأقوى منى على المشى، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما "!! وبث المسلمون عيونهم يتعرفون أخبار قريش: أين القافلة وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها. ص(1/192)
_168
حين أحس أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث " ضمضم بن عمرو الغفارى " إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم. واستطاع " ضمضم " هذا إزعاج البلدة قاطبة. فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، يصيح : يامعشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبى سفيان، عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث! فتجهز الناس جميعا. فهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلى، يمتطى الصعب والذلول فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا، معهم مائتا فرس يقودونها. ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.. وولوا وجوههم إلى الشمال، ليدركوا القافلة المارة تجاه يثرب هابطة إليهم. لكن أبا سفيان لم يستنم فى انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء لمخاتلة المسلمين والإفلات من قبضتهم. وقد كاد يسقط بالعير جمعاء فى أيديهم وهم يشتدون فى مسيرهم نحو بدر، غير أن الحظ أسعفه! روى أنه لقى مجدى بن عمرو، فسأله: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره. إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا فى شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين ثم فتها فإذا فيها النوى. فقال: هذه والله علائف يثرب، وأدرك أن الرجلين من أصحاب محمد، وأن جيشه هنا قريب! فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق، شاردا نحو الساحل، تاركا بدرا إلى يساره.. فنجا. ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم. وقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا. وهذا الذى عالن به أبو جهل، هو ما كان يحاذره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن تدعيم مكانة قريش،(1/193)
وامتداد سطوتها فى هذه البقاع ـ بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت ـ يعتبر كارثة للإسلام، ووقفا لنفوذه. وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذى لا يملك نفعا ولا ضرا؟! لذلك لم يلتفت الرسول لفرار القافلة، التفاته لضرورة التجوال المسلح فى هذه الأنحاء، إبرازا لهذه المعانى القوية. وتمكينا لصداها فى القلوب. ص _169
ومضت قريش فى مسيرها، مستجيبة لرأى أبى جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادى بدر، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضنى إلى العدوة الدنيا. وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر، وهو لا يدرى ما وراء هذا اللقاء الرهيب. وهبط الليل، فأرسل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليا والزبير وسعدا يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يمدانهم بالماء، فأتوا بهما، وسألوهما ـ ورسول الله قائم يصلى ـ فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم هذا الخبر، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان ـ لا تزال فى نفوسهم بقايا أمل فى الاستيلاء على القافلة! ـ فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبى سفيان! فتركوهما. وركع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسجد سجدتيه وسلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما..! صدقا والله إنهما لقريش. ثم قال للغلامين: أخبرانى عن قريش! قالا: هم وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعروة القصوى. فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير! قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندرى! قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا. فقال رسول الله: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف. ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البخترى بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدى، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وأمية بن خلف.. إلخ.(1/194)
فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.. وانكشف وجه الجد فى الأمر. إن اللقاء المرتقب سوف يكون مر المذاق. لقد أقبلت قريش تخب فى خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذى يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام، لتنفرد ـ بعدها ـ الوثنية بالحكم النافذ.. ونظر الرسول حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع فى سبيل الله نفسه وماله، وأنصارى ربط مصيره وحاضره بهذا الدين الذى افتداه وآوى أصحابه. فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف حتى يبصروا ـ على ضوئه ـ ما يفعلون. ص _170(1/195)
إن المرء قد تفجؤه أحداث عابرة ـ وهو ماض فى طريقه ـ يحتاج فى مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حاد الانتباه مرهف الأعصاب. وهذه الامتحانات المباغتة أدق فى الحكم على الناس وأدل على قيمهم، من الامتحانات التى يعرفون ميعادها، ويتقدمون إليها، واثقين مستعدين. والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا، يقلبون ـ على عجل ـ تكاليفه ونتائجه. وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التى لا محيص عنها لمؤمن. استشار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس. فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر ابن الخطاب، فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو. فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن، اذهب أنت وربك فقاتلا إننا معكما مقاتلون. فوالذى بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرا، ودعا له. ثم قال: أشيروا على أيها الناس ـ يريد الأنصار ـ وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براءة من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت فى ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليهم نصره إلا ممن دهمه بالمدينة. فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل. فقال: قد آمنا بك وصدقناك. وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك. فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا(1/196)
غدا. إنا لصُبُرٌ فى الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. وفى رواية: لعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذى أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا، كان أحب إلينا مما تركت. ص _171
فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول " سعد "، وأشرق وجهه. ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم . * * * تأهب المسلمون لخوض المعركة، وعسكروا فى أدنى ماء من بدر. فجاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة! قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، امض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أشرت بالرأى. ثم أمر بإنفاذه! فلم يجئ نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء . وقضى المسلمون ليلا هادئ الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم، وتساقط عليهم مطر خفيف، رطب حولهم الجو وجعل نسائم الصباح تهب عليهم فتنعش صدورهم وتجدد أملهم. وكان الرمل تحت أقدامهم دهسا فتلبد وتماسك، وجعل حركتهم عليه ميسرة: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) [الأنفال: 11]. ص _172(1/197)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويسدى النصائح، ويذكر بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى عريش هيىء له فيستغرق فى الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن.. ووقف أبو بكر إلى جوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يكثر الابتهال والتضرع. ويقول فيما يدعو به: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها فى الأرض " وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: " اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك ! ويرفع يده إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه. وجعل أبو بكر يلتزمه من وراءه ويسوى عليه رداءه ويقول - مشفقا عليه من كثرة الابتهال -: يا رسول الله، بعضى مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. * * * * وتزاحف الجمعان وبدأ الهجوم من قبل المشركين، إذ هجم الأسود بن عبد الأسود على الحوض الذى بناه المسلمون قائلا : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فتصدى له حمزة بن عبد المطلب، فضربه ضربة أطارت نصف ساقه، ومع ذلك حبا إلى الحوض يبغى اقتحامه، وتبعه حمزة يقاتله حتى قتله فيه! فبرز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. فخرج للقائهم فتية من الأنصار، فنادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وقيل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه هو الذى استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو فى مثل هذا الموقف. فقال: قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على. فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل على مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة، فقد جرح كلاهما الآخر، فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما. فجاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفرشه الرسول قدمه فوضع خده على قدمه الشريف وقال : يا رسول الله لو رآنى أبو طالب لعلم أنى أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرع دونه ونذهل عن(1/198)
أبنائنا والحلائل ص _173
ثم أسلم الروح... واستشاط الكفار غضبا للبداية السيئة التى صادفتهم فأمطروا المسلمين وابلا من سهامهم، ثم حمى الوطيس وتهاوت السيوف، وتصايح المسلمون: أحد أحد، وأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكسروا هجمات المشركين؟ وهم مرابطون فى مواقعهم. وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا. فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبى فى عريشه يدعو الله ويرقب بطولة رجاله وجلدهم. قال ابن إسحاق : خفق النبى - صلى الله عليه وسلم - خفقة فى العريش ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع!! ". لقد انعقد الغبار فوق رءوس المقاتلين، وهم بين كر وفر، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور فأغراهم أن يغالبوا القدر. فلا عجب إذا نزلت ملائكة الخير تنفث فى قلوب المسلمين روح اليقين، وتحضهم على الثبات والإقدام. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكانه إلى الناس فحرضهم قائلا : " والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ". إن التأميل فى الآخرة هو بضاعة الأنبياء، وهل لأصحاب العقائد وفداة الحق من راحة إلا هناك؟ وعمل هذا التحريض عمله فى القلوب المؤمنة. روى أحمد أن المشركين لما دنوا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. فقال عمير بن الحمام الأنصارى: يا رسول الله جنة عرضها ص _174(1/199)
السموات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال: فإنك من أهلها.. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه، إنها حياة طويلة. فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد إلى التقى وعمل المعاد والصبر فى الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد فمازال حتى قتل ! ووهت صفوف المشركين تحت مطارق هذا الإيمان الزاهد فى متاع الحياة الدنيا، وراعهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد نزل بنفسه إلى الميدان يقاتل أشد القتال. ومعه أصحابه يشتدون نحو عدوهم لا يبالون شيئا، فانكسرت قريش وأخذها الفزع. وصاح النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يرى كبرياء الكفر تمرغ فى التراب: " شاهت الوجوه...". فانهزمت قريش.. وذلك قول الله فى كتابه: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) [الأنفال: 12-14] * * * * وحاول " أبو جهل " أن يقف سيل الهزيمة النازل بقومه، فأقبل يصرخ بهم، وغشاوة الغرور لا تزال ضاربة على عينيه: " واللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم فى الجبال. خذوهم أخذا ". ص _175(1/200)
وماذا تفعل صيحات الطيش بإزاء الحقائق المكتسحة؟! لكن أبا جهل - والحق يقال - كان تمثالا للعناد إلى آخر رمق، والطمس المنسوج على بصيرته جزء من كيانه لا ينفك عنه أبدا، لذلك أقبل يقاتل فى شراسة وغضب، وهو يقول : ما تنقم الحرب الشموس منى؟ بازل عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتنى أمى وأحاطت به فلول المشركين يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فكان بينهم وسط غابة ملتفة. بيد أن هذه الغابة لم تلبث أن تهاوت جذعا جذعا، أمام حماسة المؤمنين الذين اشتد بأسهم، وأغرتهم بشائر الفوز، وساد هتافهم الموقعة وهم يقولون: أحد أحد.! قال عبد الرحمن بن عوف: إنى لفى الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأنى لم آمن بمكانهما، إذ قال لى أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرنى أبا جهل، فقلت: يا ابن أخى ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه! وقال لى الآخر سرا من صاحبه مثله قال: فما سرنى أننى بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه. فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء ويظهر انهما تركاه بين الحياة والموت وقد استشهد البطلان فى هذه الواقعة. ووقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مصرعهما يدعو لهما ويذكر صنيعهما. أما أبو جهل فقد سقط مكانه يلفظ أنفاسه، وتفرق المشركون بعده بددا، وتركوا سيقانهم للريح، تبعثرهم فى فجاج الصحراء، كما تبعثر كثيبا من الرمل المنهار. ومر عبد الله بن مسعود بالقتلى فوجد أبا جهل فيهم، لا يزال به رمق، فجثم على صدره يبغى الإجهاز عليه، وتحرك " أبو جهل " يسأل: لمن الدائرة؟ قال عبد الله: لله ورسوله، ثم استتلى عبد الله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ " قال له: وبماذا أخزانى؟ هل ص _176(1/201)
أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس فى عبد الله ثم قال له: ألست رويعينا بمكة؟ فجعل عبد الله يهوى عليه بسيفه حتى خمد . ولقى مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديدا من رءوس الكفر بمكة دارت عليهم كئوس الردى فتجرعوها صاغرين. وسقط فى الأسر سبعون كذلك. وفر بقية التسعمائة والخمسين يروون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر فى أعقابه الخزى والعار. * * * * وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء. إن هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلصهم من أغلال ثقال : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران: 123] وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا، استأثرت بهم رحمة الله فذهبوا إلى عليين. ثبت عن أنس بن مالك، أن حارثة بن سراقة، قتل يوم بدر، وكان فى النظارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرنى عن حارثة؟ فإن كان فى الجنة صبرت، وإلا فليرين الله ما أصنع - تعنى من النياحة - وكانت لم تحرم بعد!! فقال لها الرسول: ويحك أهبلت؟ إنها جنان ثمان، وان ابنك أصاب الفردوس الأعلى... فإن كان هذا جزاء النظارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟ فى هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، وخالفت بينهم المبادئ ففصلت بينهم السيوف. وفى عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزقوا أغلى الأواصر الإنسانية فى سبيل ما يعتقدون. فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه فى ذات الله.. والقتال الذى دار بـ "بدر" سجل صورا من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبى جهل. وكان عتبة بن ربيعة أول من بارز المسلمين، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبى، فلما سحبت جثة عتبة لترمى فى ص _177(1/202)
القليب، نظر الرسول إلى أبى حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه! فقال له: ياحذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شىء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه، ولكنى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى ذلك! فدعا له رسول الله بخير، وقال له خيرا . . . وأمر رسول الله بقتلى المشركين فطرحوا فى القليب، وروى أنه قال عند مرآهم: بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذبتمونى وصدقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس. فلما ووريت جثثهم وأهيل التراب على رفاتهم، انصرف الناس وهم يشعرون أن أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم. إلا أن النبى استعاد ماضيه الطويل فى جهاد أولئك القوم. كم عالج مغاليقهم وحاول هدايتهم؟ وكم ناشدهم الله وخوفهم عصيانه وتلا عليهم قرآنه؟ وهم - على طول التذكير - يجحدون، وبالله وآياته ورسوله يستهزئون. فخرج النبى فى جوف الليل حتى بلغ القليب المطوى على أهله وسمعه الصحابة يقول: " يأهل القليب؟ ص _178(1/203)
ياعتبة بن ربيعة، ياشيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام؟ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا! " فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادى قوما جيفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونى. كانت واقعة بدر فى السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة. وقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ثلاثا، ثم قفل عائدا إلى المدينة يسوق أمامه الأسرى والغنائم! ورأى قبل دخولها أن يعجل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها لا يدرون مما حدث شيئا. فأرسل " عبد الله بن رواحة " و " زيد بن حارثة " مبشرين يؤذنان الناس بالنصر العظيم. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله! وكان زوجها عثمان بن عفان قد احتبس عندها يمرضها بأمره. وضرب رسول الله له بسهمه وأجره فى بدر . * * * * محاسبة وعتاب برغم ما سجله التاريخ من تحمل ومواساة بين الأنصار والمهاجرين، فإن متاعب العيلة، ومشكلات الفقر تفشت خلال المجتمع الجديد، إن سترها التعفف حينا أبرزتها الحاجة حينا آخر. والأزمات التى تصاحب تكوين دولة من العدم وسط أمم تكيد لها وتتربص بها الدوائر، يجب أن تتوقع، وأن توطن النفوس على احتمالها. وألا تكون حدة الشعور بها سببا فى ضعف السيرة وعجز الهمة.. وقد آخذ الله المسلمين - قبل معركة بدر وبعدها - بأمور بدرت منهم، يحب لهم أن يتنزهوا عنها، مهما بلغ من شدة الدوافع والمبررات لارتكابها. فهم يوم خرجوا من يثرب لملاقاة مشركى مكة، تعلقت أمانيهم بإحراز العير وما تحمل من ذخائر ونفائس. حقا إنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحوا فى سبيل الله بأنفسهم وأولادهم.. فليمضوا فى طريق الفداء إلى المرحلة الأخيرة، ومهما عضهم الفقر بنابه، فليكن التنكيل بالكافرين أرجح فى ميزانهم من الاستيلاء على الغنيمة: ص _179(1/204)
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) [ الأنفال: 7] ومن هذا القبيل تسابقهم بعد النصر إلى حيازة الغنائم ومحاولة كل فريق الاستئثار بها. عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فشهدت معه بدرا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة فى آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا فى طلب العدو: لستم أحق بها منا نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) [الأنفال: ا]، فقسمها رسول الله بين المسلمين . كان هذا التنازع المؤسف إثر البأساء الشاملة التى لحقت بالمهاجرين والأنصار على السواء. وقد نظر رسول الله إلى مظاهر هذا البؤس على أصحابه وهم خارجون إلى بدر، فرثى لحالهم، وتألم لما بهم، وسأل الله أن يكشف كرباتهم. فعن عبد الله بن عمرو ، قال: خرج رسول الله يوم بدر فى ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا من أصحابه. فلما انتهى إليها قال: اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم. ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين واكتسوا وشبعوا ". إن الجوع والعرى عندما يطول أمدهما يتركان فى النفوس ندوبا سيئة، ويدفعان الأفكار فى مجرى ضيق كالح. على أن هذه الأزمات إن أحرجت العامة وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغى أن(1/205)
يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحة فلا يتنازعوا على شىء! ص _180
وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التى تحدثت عن القتال فى ذلك أن الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، ف!ذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع. وقد رأينا " الألمان " فى الحرب العالمية الأولى و " الإنجليز " فى الحرب العالمية الثانية شدد عليهم الحصار حتى هزلت الأجسام، واصفرت الوجوه، وما صابرت الجماهير هذه المجاعات إلا وراء قادتها المصابرين المتجملين. * * * * ومما حاسب الله عليه المسلمين حسابا شديدا موقفهم إزاء الأسرى، فإن الرغبة فى استبقائهم للانتفاع من ثرواتهم غلبت الآراء الأخرى بضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة، حتى يكونوا نكالا لما بين أيديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين.. استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان! وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبوبكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه. وتمكن عليا من عقيل بن أبى طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست فى قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم فهوى رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء قد عرض على عذابكم(1/206)
أدنى من هذه الشجرة قريبة لشجرة قريبة. وأنزل الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال: 67. 68] ص _181
إن الوقوع فى الأسر لا يعنى صدور عفو عام عن الجرائم التى اقترفها الأسرى أيام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة، لهم ماض شنيع فى إيذاء الله ورسوله، وقد أبطرتهم منازلهم، فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب، ما كان لها من داع، فكيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدى من خناقهم؟! أذلك لأن لهم ثروة يفتدون بها؟! ما كان يليق أن ينظر المؤمنون إلى هذه الأعراض التافهة متناسين ما فرط من أولئك الكفار فى جنب الله. إنهم مجرمو حرب ـ بالاصطلاح الحديث ـ لا أسرى حرب، وقد ندد القرآن بخيانتهم لقومهم بعد كفرهم بنعمة الله عليهم فقال: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار) [إبراهيم: 28، 29]. وهناك نصوص توصى برعاية الأسرى وإطعامهم، وتشرع القوانين الرحيمة فى معاملتهم، وهذا ينطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة. أما الذين تاجروا بالحروب، لإشباع مطامعهم الخاصة فيجب استئصال شأفتهم، وذلك هو الإثخان فى الأرض. إن الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار، فإنها تتأخر بالعناصر الخبيثة. وإذ كان من حق الشجرة لكى تنمو أن تقلم، فمن حق الحياة لكى تصلح أن تنقى من السفهاء والعتاة والآثمين. ولن يقوم عرض أبدا عن هذا الحق، ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب، وقد أسمع الله نبيه وصحابته هذا الدرس، حتى إذا وعوه وتدبروه عفا عنهم ثم أباح لهم ـ من رحمته بهم ـ الانتفاع بما أخذوا من فداء فقال:(فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) [الأنفال: 69] * * * * فى أعقاب بدر شُدِه العرب قاطبة للنصر الحاسم الذى ناله المسلمون فى بدر. بل إن أهل مكة(1/207)
استنكروا الخبر أول ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلما استبان صدقه صعق نفر منهم فهلك لتوه، وماج بعضهم فى بعض من هول المصاب لا يدرى ما يفعل.. وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع ص _182
عن نصرهم محض اختلاق، وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرنين فى الأصفاد، فسقط فى أيديهم. وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذى مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيبا فى المدينة وما حولها، ومد نفوذهم على طريق القوافل فى شمالى الجزيرة، فأصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم. فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم؟ يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم ويستعدون لنيل ثأرهم، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب. ولم تزدهم الهزيمة إلا كرها للإسلام، ونقمة على محمد وصحبه، واضطهادا لمن يدخل فى دينه. فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفى به أو يعيش ذليلا مستضعفا. ذلك فى مكة، حيث كانت الدولة للكفر. أما فى المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة؟ فقد اتخذت العداوة للإسلام طريق الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهرا وقلوبهم تغلى حقدا وكفرا، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبى. روى أسامة بن زيد قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب - كما أمرهم الله تعالى - ويصبرون على الأذى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) [البقرة: 109] فكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يتأول فى العفو الذى أمره الله به حتى أذن فيهم . فلما غزا بدرا وقتل الله فيها من قتل من صناديد قريش. وقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم. قال "(1/208)
عبد الله بن أبى " ومن معه من المشركين عبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه ( أى استقر فلا مطمع فى إزالته) ، فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام فأسلموا.. على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار فى الوقت الذى عالن فيه فريق آخر من اليهود ص _183
بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التى أصابت قريشا فى " بدر ". بل إن كعب بن الأشرف ـ من رجالات اليهود ـ أرسل القصائد فى رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم! ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابى. ثم حاول اليهود أن يحقروا من شأن النصر الذى حظى به الإسلام، مما مهد للأحداث العنيفة التى وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم، أفرادا وجماعات. أما البدو والضاربون حول المدينة وعلى طرق القوافل، فهم قوم همل، لا يهمهم شىء من قضايا الكفر والإيمان، إنما يهمهم اكتساب القوت من أى وجه، والحصول عليه ولو عن طريق السلب والنهب. وتاريخهم الحديث مع قوافل الحجاج شاهد صدق على أنهم لا يرعون حرمة ولا يخشون إلا القوة، ولولا بطش السعوديين بهم ما أمن طريق الحج قط! وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، وما ورثوه من جاهلية طامسة، جعل قلوبهم مع مشركى الجزيرة، وقد ذعروا لانتصار المسلمين فى بدر، وأخذت جموعهم تحتشد، تبغى انتهاز فرصة للإغارة على المدينة، ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهض إلى جموعهم فشتتها ولم يلق فى إرهابهم متاعب ذات بال. * * * * بدء الصراع بين اليهود والمسلمين لم يُحدِّث المسلمون أنفسهم بنقض عهود اليهود، ولا فكروا فى طردهم من أرض الجزيرة، بل على العكس، توقع المسلمون منهم أن يكونوا عونا لهم فى حرب الوثنية المخرفة وتدعيم عقيدة التوحيد، ورجا المسلمون أن يصدق اليهود محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يثبته لله من تنزيه ومجد، وأن تكون صلتهم بالكتب القديمة وألفتهم لأحاديث المرسلين سببا فى إقناع العرب الأميين بأن الرسالات السماوية(1/209)
حق والإيمان بها واجب. وهذه المشاعر الحسنة تتمشى مع القرآن النازل يومئذ، يؤسسها ويؤكدها: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) [الرعد: ص ] (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) [الرعد: 36]. بيد أن اليهود كانوا عند أسوأ الظن، فلم تمض أيام على اختلاطهم بالمسلمين فى المدينة حتى شرعوا يحرجون صدورهم ويعينون عليهم. ولو أنهم كذبوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كذبوا بعيسى من قبل، واعتقدوا أن ما وراء توراتهم باطل، واكتفوا بأداء عبادتهم فى بيعهم ص _184(1/210)
وحبسوا فى أفواههم المطاعن على أنبياء الله.. لتركهم المسلمون وشأنهم يكفرون إلى قيام الساعة، دون حرب أو ضرب. أما أن يجتهد المسلمون فى بناء دولتهم فيجتهد هؤلاء فى نقضها.. أما أن يصطدم الإسلام بالشرك فينضم بنو إسرائيل بعواطفهم وألسنتهم ودعاياتهم ضد محمد وصحبه، فهذا ما لا يستساغ. وفى فرحة المسلمين بانتصارهم فى بدر، لم يستح أولئك اليهود أن يقولوا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس "!! وقد نزل الوحى ينذر هؤلاء بسوء المنقلب (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) [آل عمران: 12، 13] والآية الأخيرة تذكير بما وقع فى بدر. وأول من كشف عن ضغنه وهزأ بالإسلام وأهله، يهود بنى قينقاع، المقيمون داخل المدينة نفسها. وكظم المسلمون غيظهم، وانتظروا ما تتمخض عنه الليالى من مكر اليهود. وسعى هؤلاء إلى حتفهم بظلفهم، فقد حدث أن امرأة عربية قدمت بحليها فى سوق بنى قينقاع، فجلست إلى صائغ هناك، فاجتمع حولها نفر من اليهود يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها وهى غافلة فعقده إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوءتها وضحك اليهود منها! وصاحت المرأة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا طارت الشرارة ووقعت الحرب بين المسلمين وبنى قينقاع. وكان ذلك فى منتصف شوال فى السنة الثانية من الهجرة. لجأ اليهود إلى حصونهم يقاتلون فيها، ففرض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم الحصار، أحكمه خمس عشرة ليلة، حتى اضطروا إلى التسليم، ورضوا بما يصنعه رسول الله فى رقابهم ونسائهم وذريتهم. فلما أمكن الله منهم، جاء عبد الله(1/211)
بن أبى فقال: يا محمد أحسن فى موالى ـ وكانوا حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله، فكرر ابن أبى مقالته: أحسن فى موالى. فأعرض عنه الرسول. فأدخل يده فى جيب درعه، فتغير لون النبى وقال له: أرسلنى. وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا. ثم أعاد أمره وهو مغضب: أرسلنى ويحك! قال ابن أبى : ص _185
لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم فى غداة واحدة؟ إنى والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله : هم لك، على أن يخرجوا من المدينة ولا يجاورونا بها. فرحلوا إلى (أدرعات) بالشام، ولم يبقوا هناك طويلا حتى هلك أكثرهم. أما كان خيرا لهم أن يؤدوا حقوق الجوار، ويعرفوا قيم العهود، ويبقوا فى المدينة آمنين موفورين؟ لقد تعجلوا الشر فبدأوا به.. وفى حوار عبد الله بني أبى مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) [المائدة : 52] ويحسن أن نتأمل فى سيرة هؤلاء اليهود، وسر نقمتهم الشديدة على الإسلام ونبيه وتحيزهم المعيب إلى الوثنية فى نضال الإسلام معها. أصحيح أن نزاع اليهودية والإسلام كان سياسيا لا دينيا؟ وأن الانفراد بالسلطان فى الجزيرة العربية هو مبعث هذا الخصام الحاد؟ إن التغلغل فى فهم العواطف والمشاعر الإنسانية، يفسر كثيرا من المواقف الغامضة. لقد رأينا المسلمين فى مكة يتحمسون للنصرانية فى صراعها مع المجوسية، ويحزنون لانكسار الروم أمام الفرس. مع أن الإسلام لم يكن قد اتصل بعد بالنصارى اتصالا يبرر هذه الحماسة. لكنه الشعور الطبيعى الوحيد الذى ينتظر من الرجل المخلص لدينه. فالمسلمون أصحاب كتاب يدعو إلى التوحيد، والنصارى ـ وإن اضطرب فهمهم لمعنى التوحيد وشابوا الحق بالخرافة ـ هم على كل حال أهل كتاب، ويعتبرون أعلى(1/212)
مرتبة من عبدة النار، فالرغبة فى انتصارهم على الوثنية الصريحة الشرك، ضرب من الوفاء للإسلام نفسه! ومن الاحترام للحقيقة التى معك أن تقترب مما يقرب منها، وأن تبتعد عن كل ما يبعد عنها. وقد كان المشركون من أهل مكة منطقيين مع أنفسهم حين رحبوا بانتصار الفرس، وعدوه رمزا لغلبة الوثنية فى كل صورها على أديان السماء جملة.. فما معنى أن يغضب اليهود الموحدون ـ كما يزعمون ـ من انتصار الإسلام على الشرك؟! وبم يفسر حنوهم على القتلى من عبدة الأصنام، وسعيهم الحثيث لتغليب كفة الوثنية العربية على هذا الدين الجديد؟! ص _186(1/213)
إن التفسير الوحيد لهذا الموقف أن اليهود انقطعت صلاتهم بمعنى الدين وأن سلوكهم العام لا يرتبط بما لديهم من تراث سماوى، وأنهم لا يكترثون بما يقترب من عقيدة التوحيد أو أحكام التوراة، لأن هذه وتلك مؤخرة أمام شهواتهم الغالبة وأثرتهم اللازمة. ومن ثم، شكك القرآن فى قيمة الإيمان الذى يدعيه القوم: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) [البقرة: 91، 92] والظاهر أن طوائف اليهود التى عاشت بين العرب كانت عصابات من المرتزقة اتخذت الدين عنوانا لمطامع اقتصادية بعيدة. فلما توهمت أن هذه المطامع مهددة بالزوال، ظهر الكفر المخبوء فإذا هو كفر بالله وسائر المرسلين. ولم يعرف أولئك شرفا فى حرب الإسلام. ولم يقفهم حد أو عهد فى الكيد له فلم يكن بد من إجلائهم، وتنظيف الأرض منهم. وقد تعقب المسلمون كل غادر بعهده، مجاهر بحرب الله ورسوله، مؤيد لقريش ورأيها، مظهر للعطف والأسف على ما أصابها.. تعقب المسلمون هؤلاء الطغام من زعماء يهود وسراتهم بالقتل والإرهاب. ومن أولئك الذين نفذ فيهم العقاب العادل (كعب بن الأشرف). فإن كعبا هذا سافر إلى مكة ـ من المدينة ـ يواسى مشركيها المهزومين فى بدر، ويحرصون على إدراك ثأرهم من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته. وهو الذى سأله أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى إلى ربك وأقرب إلى الحق؟ إننا نطعم الجزور الكوماء ونسقى اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال. قال له كعب: أنتم أهدى منهم سبيلا. فأنزل الله على رسوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) [النساء: 51]. ص _187(1/214)
وعاد كعب إلى المدينة سافر العداوة، بعيد الجراءة، حتى إنه صاغ قصائد الغزل فى بعض النساء المسلمات.. وليس بعد ذلك صبر، فأهدر المسلمون دمه. وبعث إليه النبى من استنزله من حصنه ليلقى جزاءه الحق. ذهب إليه (محمد بن مسلمة) و (أبو نائلة) بعدما استأذنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقولا فيه ما يطمئن اليهودى إلى تبرمهما بالإسلام. أتاه (محمد بن مسلمة) فقال له: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإنى قد أتيتك أستسلفك! قال كعب: والله لتملنه! قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أى شىء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا. قال: نعم، ارهنونى. قلت: أى شىء تريد؟ قال: ارهنونى نساءكم! قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ وقال: فترهنون أبناءكم. قال: يُسبُّ ابن أحدنا فيقال: رُهن فى وسق أو وسقين من تمر. ولكن نرهنك بالسلاح.. وصنع أبو نائلة ما صنع محمد بن مسلمة، قال لليهودى: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء! عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت علينا السبيل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا. ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، ورضى كعب ـ أخيرا ـ أن يسلفهم نظير ارتهان أسلحتهم. وإلى هذا قصدوا، فإن كعبا لن ينكر السلاح معهم وهو الذى طلب منهم. وفى ليلة مقمرة انطلقوا إلى حصنه ليتموا ما تواعدوا عليه. فقالت امرأته ـ وقد سمعت النداء ـ: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. قال كعب: لو دعى الفتى لطعنة لأجاب. فنزل متوشحا تنفح منه رائحة الطيب. واستدرجه القوم فى الحديث والسير، ثم زعم أبو نائلة أنه يريد أن يشم الطيب من شعره، فسرح فيه يده وهو يقول: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، وزهى كعب بما سمع! وعاد أبو نائلة فوضع يديه فى شعر اليهودى حتى إذا استمكن من فوديه قال لصحبه: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم . دخلت فى بدنه الأسلحة التى طلبها رهنا بدل النساء والأبناء. ص _188(1/215)
وصاح كعب صيحة لم يبق معها حصن إلا أوقدت عليه النار استجلاء للخبر. فلما طلع الصباح علمت يهود بمصرع جبارها، فدب الرعب فى القلوب العنيدة، وأسرعت الأفاعى إلى جحورها تختبئ فيها.. لقد أجدت العصا حين أعيت النصيحة وبطل المقال. ولزم اليهود حدودهم فلم يتجرءوا على المسلمين بسب، وظهر كأنهم لن يمالئوا على الله رسوله مشركا بعد اليوم.. وهكذا تفرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حين - لمواجهة الأعراب المشركين.. * * * مناوشات مع قريش لم يغتر المسلمون بالنصر الذى نالوه فى " بدر "، ولم يفتروا عن مراقبة خصومهم والإعداد لهم. وقد علموا علم اليقين أن مكة لن تنى عن الانتقام لنفسها ولن تستكين للكارثة التى حلت بها. ورأى أبو سفيان - حفظا لمكانة قومه وابرازا لما لديهم من قوة - أن يتعجل عملا قليل المغارم ظاهر الأثر. فقرر أن يفاجئ المدينة بغارة خاطفة يعود عقيبها وقد رد لقريش بعض سمعتها، وألحق بالمسلمين ما يستطيع من خسائر. ثم إن أبا سفيان كان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وينبغى أن يبر فى قسمه. فخرج فى مائتى راكب حتى وصل إلى مساكن بنى النضير فى جنح الليل - بأطراف المدينة - ونزل على (سلام بن مشكم) من سادة اليهود، فتعرف منه أخبار المسلمين، وتدارسا أجدى الطرق لإيذائهم والإفلات من قواهم. واهتدى أبو سفيان إلى العمل الذى وفى به يمينه، وحقق به غايته، فهجم برجاله على ناحية يقال لها: العريض. وحرقوا أسوارا من نخيل بها، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما فقتلوهما. ثم لاذوا بالفرار عائدين إلى مكة. وشعر المسلمون بما حدث. فانطلقوا وراء أبى سفيان ورجاله يطاردونهم ويبتغون الإيقاع بهم. وأحس المشركون بالطلب فجدوا فى الهرب، والمسلمون يقطعون الصحراء خلفهم راكبين فى اللحاق بهم. فلما أحس أبو سفيان بالخطر أخذ يتخفف من الأزواد التى يحملها حتى تمكن من النجاة، وعثر المسلمون فى(1/216)
طريق المطاردة على هذه المؤن وأكثرها من السويق فسموا هذه المناوشة الطريفة غزوة السويق! * * * ص _189
ولم تنل قريش من هذه الغارة الفاشلة شيئا يرفع رأسها، ففكرت أن تتجنب الصدام بالمسلمين حتى تحين الفرصة المواتية، ولكن أنى لها ذلك، وتجارتهم تمر فى الغدو والرواح بالمدينة؟ قال صفوان بن أمية لقريش : " إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وصحبه عوروا علينا متجرنا فما ندرى كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعوهم، ودخل عامتهم معه، فما ندرى أين نسلك؟ وإن أقمنا فى دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء، وانما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام فى الصيف وإلى الحبشة فى الشتاء!. فقال له الأسود بن عبد المطلب: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق. ودله على فرات بن حيان من بنى بكر بن وانل ليكون رائدهم فى هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن نعيم بن مسعود، قدم المدينة يحمل أنباء هذه القافلة، وخطة سيرها، واجتمع فى مجلس شرب - قبل تحريم الخمر - بسليط بن النعمان فباح له بسرها. فأسرع سليط إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يروى له القصة، فبعث النبى لوقته (زيد بن حارثة) فى مائة راكب يعترضون القافلة. فلقيها زيد عند ماء يقال له القَرْدة، فاستولى عليها كلها؟ وكانت تحمل مقادير كبيرة من الفضة، وفر المشركون مذعورين. فلم يقع فى الأسر غير فرات بن حيان. فلما جىء به إلى المدينة دخل فى الإسلام.. ولقد حزنت مكة لهذه النكبة الجديدة، وزادها ذلك إصرارا على المطالبة بثأرها، والتهيؤ للقاء المسلمين فى تعبئة كاملة، فكان ذلك وما سبقه من أحداث التمهيد القوى لمعركة (أحد) فى السنة الثالثة للهجرة. * * * ولا يفوتنا إذ نتابع النشاط العسكرى للإسلام فى سنتيه الأوليين بالمدينة، أن نذكر بعض الشئون المهمة الأخرى. فقد توفى خنيس بن حذافة السهمى زوج حفصة ابنة عمر بن(1/217)
الخطاب. وهو رجل صالح ممن شهدوا بدرا. فلما تأيمت منه، أراد أبوها أن يتخير لها زوجا. قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة ابنة عمر!! فقال: سأنظر فى أمرى! فلبث ليالى ثم لقيته فعرضت عليه. فقال: قد بدا لى ألا أتزوج. قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة ابنة عمر، فصمت ولم يرجع إلى شيئا! فكنت عليه أوجد منى على عثمان.. ص _190
فلبثت ليالى فخطبها منى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه فلقينى أبوبكر فقال: لعلك وجدت على حين عرضت على حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم. فقال: فإنه لم يمنعنى أن أرجع إليك فيما عرضت على إلا أنى كنت علمت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ذكرها، فلم أكن لأفشى سر رسول الله ولو تركها لقبلتها . واتجاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مصاهرة عمر بعد مصاهرة أبى بكر. ثم تزويجه ابنته فاطمة لعلى بن أبى طالب وتزويجه ابنته أم كلثوم لعثمان ـ بعد وفاة رقية ـ يشير إلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم - يبغى من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة؟ الذين عرف بلاؤهم وفداؤهم للإسلام، فى الأزمات التى مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام. وفى السنة الثانية للهجرة فرض صيام رمضان، وزكاة الفطر وبينت أنصبة الزكاة الأخرى. ومن أجل ما وقع فى هذه السنة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المطهرة. وقد كان هذا الانتقال مثار تغيظ اليهود واستنكارهم الشديد. كانوا ـ قبله ـ يؤملون فى متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم (!) ولعل أساس موادعتهم له ظنهم الإفادة منه واستغلال أنصاره! فلما تميز الإسلام بقبلته الجديدة، امتلأت نفوسهم باليأس، ودفعتهم خيبة الرجاء إلى شديد الحملة على الإسلام وتبييت السوء له. وقد أحبط القرآن حرب الجدل التى شنها اليهود إثر تغيير القبلة: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله(1/218)
المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [البقرة: 142] (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) [البقرة: 115] (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) [البقرة: 177]. إن الله رب الأزمنة والأمكنة جميعا، وتوجيه أمة إلى قبلة معينة، لا يعنى انحصارا فى إحاطته، أو قصورا فى ربوبيته. لقد كانت عودة المسلمين إلى الكعبة رجوعا إلى الأصل الذى بناه أبو الأنبياء إبراهيم. وفى العودة إلى الأصل تنزه عن الانحرافات التى حدثت بعد من الذرارى الضالين، وخصوصا بنى إسرائيل. ص _191(1/219)
معركة أحد لم يهدأ بال قريش مذ غشيها فى " بدر" ما غشيها، وكان ما جد من الحوادث بعد لا يزيد أحقادها إلا ضراما. فلما استدارت السنة، كانت مكة قد استكملت عدتها واجتمع إليها أحلافها من المشركين، وانضم إليهم كل ناقم على الإسلام وأهله. فخرج الجيش الثائر فى عدد يربو على ثلاثة آلاف. ورأى أبو سفيان قائده أن يستصحب النساء معه، حتى يكون ذلك أبلغ فى استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم. وكانت الترات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء فى القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير. وفى أوائل شوال من السنة الثالثة، وصل الجيش الزاحف إلى المدينة، فنزل قريبا من جبل (أحد) وأرسل خيله ترعى زروعها الممتدة هناك! واجتمع المسلمون حول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتدبرون أمرهم. أيخرجون لمقاتلة العدو فى العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة، حتى إذا دخلها قاتله الرجال فى الطرق، وقاتله النساء من فوق أسطح البيوت؟ وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يميل إلى الرأى الأخير، وأيده فيه رجال من أولى النظر والروية. وقال عبد الله بن أبى: هذا هو الرأى لكن الرجال الذين لم يشهدوا بدرا تحمسوا للخروج، وقالوا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله فقد ساقه إلينا وقرب المسير! وظاهرهم الشباب الطامح فى الاستشهاد. وبدا أن كثرة المسلمين تميل إلى البروز لملاقاة العدو فدخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيته وخرج منه لابسا عدته متهيئا للقتال. وشعر القوم أنهم استكرهوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رأيهم، وأظهروا الرغبة فى النزول على رأيه! بيد أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد غضاضة من الاضطراب بين شتى الآراء. فقال: ما ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج. فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس. وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه . ص _192(1/220)
ثم خرج فى ألف رجل حتى نزل بـ (أحد) إلا أن عبد الله بن أبى انسحب فى الطريق بثلث الناس قائلا: ما ندرى علام نقتل أنفسنا؟ ومحتجا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك رأيه وأطاع غيره..!! فتبعهم عبد الله بن حرام - والد جابر بن عبد الله - ينصحهم بالثبات، ويؤنبهم على العودة، ويذكرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين، إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الآخر، وثقة بالإسلام ورسوله. فأبى " ابن أبى " الاستماع إليه، وفيه ومن انسحب معه نزلت الآية: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) [آل عمران: 167] * * * * عسكر المسلمون بالشعب من (أحد) فى عدوة الوادى، جاعلين ظهرهم إلى الجبل. ورسم النبى - صلى الله عليه وسلم - الخطة لكسب المعركة. فجاءت محكمة رائعة؟ وزع الرماة على أماكنهم وأقر عليهم عبد الله بن جبير - وكانوا خمسين رجلا - وقال: انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم، ولا نؤتين من قبلكم !! وفى رواية قال لهم: احموا ظهورنا إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغتنم فلا تشركونا" واطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن فرقة الرماة قد أقنت بهذه الأوامر المشددة مؤخرة جيشه فأقبل يتعهد مقدمته. وأمر ألا ينشب قتال إلا بإذنه. وظاهر هو نفسه بين درعين ، وأخذ يتخير الرجال أولى النجدة والبأس ليكونوا طليعة المؤمنين حين يلتحم الجمعان. إن عدد المسلمين على الربع من المشركين، ولن يعوض هذا التفاوت إلا الأشخاص الذين يوزنون بالألوف وهم آحاد. ص _193(1/221)
روى ثابت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أمسك يوم أحد " بسيف ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. فأخذه، ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها، علم أنه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعصب وخرج يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر فى الكيول أضرب بسيف الله والرسول ويعنى بعد قيامه فى الكيول : ألا يقاتل فى مؤخرة الصفوف، بل يظل أبدا فى المقدمة. ثم تدانت الفئتان، وأذن النبى - صلى الله عليه وسلم - لرجاله أن يجلدوا للعدو، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة. كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون فى أعلى صور الشجاعة واليقين. خرج حنظلة بن أبى عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد. إن حادى التضحية كان أملك لنفسه وأملأ لحسه من داعى اللذة. فاستشهد البطل وهو جنب!! وسادت روح الإيمان المحض صفوف المجاهدين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان، تقطعت أمامه السدود. وقف طلحة بن أبى طلحة البدرى حامل لواء قريش يتحدى، داعيا إلى البراز، فوثب إليه الزبير بن العوام حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه !! وأقبل أبو دجانة معلقا بعصابته الحمراء لا يلقى مشركا إلا قتله، وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين فى المعركة، قال كعب بن مالك : وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لامته فمضيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصرى ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على جبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق(1/222)
فرقتين!! ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.. ص _194
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، وصمد لحملة اللواء من بنى عبد الدار، فاقتنص أرواحهم فردا فردا. قال (وحشى) ـ غلام جبير بن مطعم ـ: قال لى جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا. فلما التقى الناس فخرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا، ما يقوم له شىء!! فوالله إنى لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال: هلم إلى يا ابن مقطعة البظور؟ قال: فضربه ضربة كأنما اختطفت رأسه. فهززت حربتى، حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت فى ثنته ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوى فغلب، وتركته واياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم تكن لى بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق. ومع الخسارة الفادحة التى نالت المسلمين بقتل حمزة، فإن جيشهم القليل ظل مسيطرا على الموقف كله، وحمل لواء المسلمين فى هذا القتال (مصعب بن عمير) الداعية العظيم، فلما استشهد حمل اللواء (على بن أبى طالب) واستبق المهاجرون والأنصار فى ميدان الشرف، وأخذ اللواء الإسلامى يتقدم خطوة خطوة.. وشعار المسلمين فى هذا الالتحام (أمت أمت). وكانت نسوة قريش دائبات على استنهاض رجالهن، يضربن بالدفوف، ويحرضن على القتال، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان. فكانت تقول حاثة بنى عبد الدار على إبقاء لواء مكة مرفوعا: ويها بنى عبد الدار ويها حماة الأدبار ضربا بكل بتار!! وتؤز قومها على القتال منشدة: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق!! أوتدبروا نفارق فراق غير وامق!! وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطم عنفوان المسلمين. لكنها أحست العجز وانكسرت همتها أمام ثبات المسلمين(1/223)
واقدامهم. ص _195
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره وصدق وعده، فحشوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم ـ سوق ـ هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.. قد يجد المرء نفسه فى حفل يموج بالأنوار، وتنتشر فى أجوائه الأشعة المبصرة ثم يقع خلل مفاجئ يقطع التيار، فإذا المصابيح تعتم، ثم يسود المكان ظلام موحش سقيم! إن هذا مثل التحول المستنكر الذى قلب سير الحوادث فى معركة (أحد). لحظة يسيرة من لحظات الضعف الإنسانى عرضت لفريق من الجند، فأوقعت الارتباك فى صفوف الجيش كله، فضاعت فى ساعة نزق كل المكاسب التى أحرزتها الشجاعة النادرة، والتضحية البالغة! لقد علمت كيف شدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الرماة أن يلزموا أماكنهم صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ألا يبرحوها أبدا، ولو رأوا الجيش تتخطفه الطير. غير أن أثارة من حب الدنيا عصفت بهذه الوصاة فى ساعة غفلة. فما إن رأى الرماة الهزيمة حلت بقريش والنساء يهمن فى الجبل، والرجال يولون الأدبار، والغنائم التى خلفها ثلاثة آلاف مشرك تزحم الوادى.. حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون انتهاب أنصبتهم من الأسلاب والأموال! وكان فرسان المشركين بقيادة (خالد بن الوليد) محصورين، لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين إلى أن حلت الهزيمة. فلما رأى خالد أن مؤخرة المسلمين انكشفت، فلم يبق عليها حارس، اهتبل الفرصة على عجل، فاستدار بالخيل وأحدق بخصومه منحدر عليهم من حيث لا يحتسبون. ورأى الفارون من قريش بوادر هذا التغير الطارىء فتراجعوا حتى إن امرأة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية، هى التى رفعت لواء قريش من التراب بعد أن سقط وصرع حملته! وثاب المشركون إلى رايتهم وخيالتهم، فأحيط بالصحابة من الأمام والخلف ووقعوا بين شقى الرحى. على أن الرجال الأحرار لا(1/224)
يصادون بسهولة، إنهم شدهوا لما حدث. ص _196
ولكنهم أخذوا يقاتلون بحرارة، وإن كان هدفهم هذه المرة أن ينجوا فحسب! أن يبصروا طريقا يخلصهم من هذا المأزق العضوض! واستشهد كثيرون وهم يحاولون شق طريقهم. واستطاع المشركون أن يخلصوا قريبا من النبى فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته، وشجه فى وجهه فأثقله وتفجر منه الدم. وشاع أن محمد قتل، فتفرق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل. واختلطت على الصحابة أحوالهم فما يدرون كيف يفعلون.. إلا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل يصيح بالمؤمنين: إلى عباد الله. إلى عباد الله. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا. غير أن المشركين بصروا بهم فهاجموهم! ووقف طلحة بن عبيد الله، وسهل بن حنيف، إلى جوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأصيب طلحة بسهم فى يده فشلها. وأقبل أبى بن خلف الجمحى على النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان قد حلف أن يقتله وأيقن أن الفرصة سانحة فجاء يقول: يا كذاب أين تفر؟! وحمل على الرسول بسيفه فقال النبى: بل أنا قاتله إن شاء الله. وطعنه فى جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات. ومضى النبى - صلى الله عليه وسلم - يدعو المسلمين إليه، واستطاع - بالرجال القلائل الذين معه - أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التى اعتصمت بالصخرة وقت الفرار. وفرح النبى - صلى الله عليه وسلم - أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حيا، وهم يحسبونه مات. ويبدو أن إشاعة قتل النبى سرت على أفواه كثيرة، فقد مر أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم وانكسرت نفوسهم فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه.. ثم استقبل المشركين فما زال يقاتلهم حتى قتل.. ولم تتوان قريش من جانبها فى مهاجمة الرسول ومن انحاز إليه(1/225)
من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم. ومرت ساعة عصيبة من أحرج الساعات فى تاريخ الدنيا، وفرسان المشركين، ص _197
ورماتهم يحملون ـ بعناد وإلحاح ـ لتحقيق أمنيتهم فقتل بين يدى النبى خلق كثير وهم ينافحون دونه. جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حى وميت، وترس عليه أبو دجانة بظهره فكان النبل يقع فيه ولا يتحرك. روى مسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفرد يوم " أحد " فى سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال: من يردهم عنى وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قُتل! ثم أرهقوه فقال: من يردهم عنى وله الجنة؟ فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما أنصفنا أصحابنا ـ يعنى من فروا وتركوه! وتركت هذه الاستماتة أثرها! ففترت حدة قريش فى محاولة قتل الرسول وثاب إليه أصحابه من كل ناحية وأخذوا يلمون شملهم ويزيلون شعثهم. أمر النبى صحبه أن ينزلوا قريشا من القمة التى احتلوها فى الجبل قائلا : ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها . إن الإفلات من عواقب هذا الانكسار الشنيع عمل لا يقل ـ فى خطره ـ عن الانتصار الأول وقد اتجه عزم الرسول إلى بذل كل جهد ممكن فى سبيل مقاومة قريش حتى لا تظفر بشىء ما غنيمة باردة. بل حتى تثقل بها مغارمها فلا تطمع فى مزيد من إيذاء المسلمين، فكان ينثل السهام من كنانته ويعطيها سعد بن أبى وقاص ويقول: ارم فداك أبى وأمى. وكان أبو طلحة الأنصارى راميا ماهرا فى إصابة الهدف قاتل دون رسول الله فكان إذا رمى رفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شخصه ينظر أين يقع سهمه ويرفع أبو طلحة صدره قائلا : هكذا بأبى أنت وأمى، لا يصيبك سهم، نحرى دون نحرك . ويقول: إنى جلد يا رسول الله، فوجهنى فى حوائجك ومرنى بما شئت!! وقد نجح الرماة حول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى رد المشركين الذين حاولوا صعود الجبل وبذلك أمكن المسلمون(1/226)
الشاردون أن يلحقوا بالنبى ومن معه. إلا أنهم جاءوا وكأنما خرجوا من عماية، حتى إن بعضهم ـ من فرط الغيظ والذهول ـ قاتل أمامه لا يدرى من يقاتل، فقاتل اليمان والد الصحابى المعروف حذيفة وصرخ حذيفة : أبى أبى! دون جدوى. ص _198
ولما تجمعت فلول المسلمين بعد هذا الكر والفر، كان الإعياء قد نال منهم أى منال لولا أن الله قذف فى قلوبهم السكينة. وأعاد إليهم ـ بعد هذا الزلزال ـ الأمل والثقة فسكنوا حول رسول الله يرقبون ما يجد. وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف عاودته اليقظة فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم. (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) ولم تكن قريش أقل من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب. فقد تعبت جد التعب فى الجولة الأولى فلما أديل لها وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عودا، دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها فاكتفت مما ظفرت بالإياب. وظن المسلمون ـ لأول وهلة ـ أن قريشا تنسحب لتهاجم المدينة نفسها. فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلى بن أبى طالب: اخرج فى آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة. فوالذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها. قال على: فخرجت فى آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة. قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل! فقال رسول الله لعمر: قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل. لا سواء. قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار. فقال له أبو سفيان: هلم إلى يا عمر. فقال رسول الله لعمر: ائته فانظر ما شأنه. فجاءه. فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ فقال(1/227)
عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندى أصدق من ابن قميئة ـ وهو الذى زعم أنه قتل النبى. ص _199
ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان فى قتلاكم مثلة، والله ما رضيت ولا سخطت وما نهيت ولا أمرت . ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد. * * * * عبر المحنة موقعة " أحد" فياضة بالعظات الغوالى والدروس القيمة. وقد نزلت فى أدوارها وحوادثها ونتائجها آيات طوال. وكان لها فى نفس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثر عميق ظل يذكره إلى قبيل وفاته. كانت امتحانا ثقيل الوطأة محض السرائر ومزق النقاب عن مخبوئها. فامتاز النفاق عن الإيمان، بل تميزت مراتب الإيمان نفسه، فعرف الذين ركلوا الدنيا بنعالهم فلم يعرجوا على مطمع من مطامعها، والذين مالوا إليها بعض الميل فنشأ عن أطماعهم التافهة ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروعة. بدأت المعركة بانسحاب ابن أبى، وهو عمل ينطوى على استهانة بمستقبل الإسلام وغدر به فى أحرج الظروف. وتلك أبرز خسائس النفاق. والدعوات ـ إبان امتدادها وانتصارها ـ تغرى الكثير بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل. وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها. ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجات عنيفة تعزل الخبث عنها، وقد اقتضت حكمة الله أن يقع هذا التمحيص فى أحد. (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب). ص _200(1/228)
فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين، فافتضحوا، أمام أنفسهم وأمام الناس، قبل أن تعلن عن نفاقهم السماء. فإذا تجاوزت السفوح التى يدلت عليها أولئك المنافقون، وثبت إلى ذرى شامخة للإيمان البعيد الغور، النقى العنصر، يتمثل فى مرحلة الهجوم المظفر الذى ابتدأ به القتال، ثم مرحلة الدفاع النبيل الهائل الذى حمل المسلمون عبأه، عندما ارتدت الكرة للمشركين، ورجحت كفتهم. إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم ويوجهون زمامه بعزماتهم، هم الذين صلوا هذه الحرب، وحفظوا بها مصير الإسلام فى الأرض. روى أن (خيثمة) قتل ابنه فى معركة (بدر) فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لقد أخطأتنى وقعة بدر وكنت - والله - حريصا، حتى ساهمت ابنى فى الخروج، فخرج - فى القرعة - سهمه. فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابنى فى النوم فى أحسن صورة، يسرح فى ثمار الجنة وأنهارها. يقول: الحق بنا ترافقنا فى الجنة، فقد وجدت ما وعدنى ربى حقا. ثم قال: وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقا إلى مرافقته، وقد كبرت سنى ورق عظمى، وأحببت لقاء ربى. فادع الله يا رسول الله أن يرزقنى الشهادة ومرافقة ابنى خيثمة فى الجنة. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. فقتل بـ (أحد) شهيدا. وكان (عمرو بن الجموح) أعرج شديد العرج. وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما توجه إلى (أحد) أراد أن يخرج معه. فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة. فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بنى هؤلاء يمنعوننى أن أجاهد معك. ووالله إنى لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتى هذه فى الجنة!! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد. وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟ فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/229)
فقتل يوم أحد شهيدا. وقال نعيم بن مالك: يا نبى الله لا تحرمنا الجنة - وذلك قبل نشوب القتال - فوالذى ص _201
نفسى بيده لأدخلنها!! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بم؟ قال: بأنى أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدقت. واستشهد يومئذ.. وقال عبد الله بن جحش فى ذلك اليوم: اللهم إنى أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلونى، يبقروا بطنى، ويجدعوا أنفى وأذنى. ثم تسألنى: فيم ذلك؟ فأقول فيك.. هذه صورة للرجولة الفارعة التى اصطدم بها الكفر أول المعركة وآخرها. فماد أمامها، واضطربت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئا فى بداية القتال، ولا انتفع بما ربح آخره. وهذا اللون من البطولة مدفون تحت جدران التاريخ الإسلامى القائم إلى اليوم. وما يقوم للإسلام صرح، ولا ينكشف عنه طغيان، إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة فى أفئدة الصديقين والشهداء. من سر هذا الإلهام؟ من مشرق هذا الضياء؟! من مبعث هذا الاقتدار؟ إنه محمد! إنه هو الذى ربى ذلكم الجيل الفذ، ومن قلبه الكبير أترعت هذه القلوب، تفانيا فى الله وإيثارا لما عنده. وقد أصيب هذا النبى الجليل فى (أحد). أصيب فى بدنه إذ دخلت حلقات المغفر فى وجهه فأكب عليه أبو عبادة يعالج انتزاعها بفمه، فما خلصت من لحمه حتى سقطت معها ثنيتاه . ونزف الدم - بغزارة - من جراحته، كلما سكب عليه الماء ازداد دافقا، فما استمسك حتى أحرقت قطعة من حصير فألصقت به. وكسرت كذلك رباعيته، وكسرت البيضة على رأسه.. ومع ذلك فقد ظل متقد الذهن، يوجه أصحابه إلى الخير حتى انتهت المعركة. ص _202(1/230)
ثم أصيب فى أهله، فقتل (حمزة) بحربة انغرزت فى أحشائه، وجاءت (هند) امرأة أبى سفيان، فاستخرجت كبده من بطنه، ولاكتها بفمها ثم لفظتها لانفجار المرارة. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعز حمزة، ويحبه أشد الحب. فلما رأى شناعة المثلة فى جسمه، تألم أشد الألم، وقال: لن أصاب بمثلك أبدا، وما وقفت قط موقفا أغيظ إلى من هذا. بيد أن التسليم لله لم يلبث أن مسح الأحزان العارضة، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه ويخفف ما نزل بهم، ويسكب من إيمانه على نفوسهم ما يملؤها عزاء ورضا عن الله واستكانة لقضائه . روى الإمام أحمد : لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استووا حتى أثنى على ربى عز وجل! فصاروا خلفه صفوفا فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول. اللهم إنى أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه فى قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب. إله الحق.. * * * ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين فى (أحد) على عكس ما نزل فى ص _203(1/231)
(بدر) من آيات، ولا غرو فحساب المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر. فى المرة الأولى قال: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال: 67. 68]. أما فى (أحد) فقال: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) [آل عمران: 152]. حسب المخطئين ما لحقهم من أوضار الهزيمة، وفى القصاص العاجل درس يذكر المخطىء بسوء ما وقع فيه. وقد اتجهت الآيات إلى مزج العتاب الرقيق بالدرس النافع وتطهير المؤمنين، حتى لا يتحول انكسارهم فى الميدان إلى قنوط يفل قواهم، حسرة تشل إنتاجهم.. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) [آل عمران: 137- 139]. ثم مضى الوحى يعلم المسلمين ما جهلوا من سنن الدين والحياة. أو يذكرهم بما نسوا من ذلك. فبيد أن المؤمن ـ مهما عظمت بالله صلته ـ فلا ينبغى أن يغتر به أو يحسب الدنيا دانت له، أو يظن قوانينها الثابتة طوع يديه. كلا.. كلا. فالحذر البالغ والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة، ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له، وأن شيئا منها لن يكون عليه، وأن أمجاد الدارين تنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار فى طريق الفشل الذريع. (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) [آل عمران: 140]. (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران: 142] وأولو الألباب يستحيون أن يطلبوا السلعة الغالية بالثمن التافه. وهم يبدون استعدادهم للتضحية بأنفسهم لقاء ما ينشدون. بيد أن الاستعداد أيام الأمن يجب ألا ص _204(1/232)
يزول أيام الروع. إن الإنسان ـ فى عافيته ـ قد يتصور الأمور سهلة مبسطة، وقد يتأدى به ذلك إلى المجازفة والخداع. فليحذر المؤمن هذا الموقف، وليستمع إلى تأنيب الله لمن تمنوا الموت، ثم حادوا عنه لما جاء.. (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) [آل عمران:1 ص ] ثم عاتب الله عز وجل من سقط فى أيديهم، وانكسرت همتهم، لما أشيع أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات. ما كذلك يسلك أصحاب العقائد! إنهم أتباع مبادئ لا أتباع أشخاص. ولو افترض أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل وهو ينافح عن دين الله فحق على أصحابه أن يثبتوا فى مستنقع الموت، وأن يردوا المصير نفسه، الذى ورده قائدهم، لا أن ينهاروا ويتخاذلوا. إن عمل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينحصر فى إضاءة الجوانب المعتمة من فكر الإنسان وضميره. فإذا أدى رسالته ومضى، فهل يسوغ للمستنير أن يعود إلى ظلماته فلا يخرج منها! لقد جمع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس حوله على أنه عبد الله ورسوله، والذين ارتبطوا به، عرفوه إماما لهم فى الحق، وصلة لهم بالله. فإذا مات عبد الله، ظلت الصلة الكبرى بالحى الذى لا يموت، باقية نامية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144] وقد استطرد النظم الكريم يبصر المؤمنين بمواطن العبرة فيما نالهم، ويعلمهم كيف يتقون فى المستقبل هذه المآزق، وينتهز هذه الكبوة العارضة فيعزل عن جماعة المسلمين من خالطوهم على دخل، وعاشروهم على نفاق. ولئن أفادت وقعة (بدر) فى خذل الكافرين، فإن وقعة (أحد) أفادت مثلها فى فضح المنافقين، ورب ضارة نافعة، وربما صحت الأجسام بالعلل. ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر فى هذه الموقعة، درس عميق يتعلم منه المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التى لا يحكمها أمر واحد، أو التى تغلب على(1/233)
أفرادها وطوائفها النزعات الفردية لا تنجح فى صدام، بل لا تشرف نفسها فى حرب أو سلام. ص _205
والأمم كلها؟ مؤمنها وكافرها، تعرف هذه الحقيقة. ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة. وعندما تشتبك أمة فى حرب، تجعل أحزابها جبهة واحدة وأهواءها رغبة واحدة، وتخمد كل تمرد أو شذوذ ينجم فى صفوفها. وإحسان الجندية كإحسان القيادة: فكما أن إصدار الأوامر يحتاج إلى حكمة، فإن إنفاذها يحتاج إلى كبح وكبت، ولكن عقبى الطاعة فى هذه الشئون، تعود على الجماعة بالخير الجزيل. وأسرع الناس إلى الشغب والتمرد، من أقصوا عن الرئاسة وهم إليها طامحون. وكان عبد الله بن أبى مثلا لهذه الفئة التى تضحى بمستقبل الأمة فى سبيل أطماعها الخاصة. أما الرماة الذين عصوا الأوامر بلزوم أماكنهم مهما كانت أطوار القتال، فقد مرت بهم فترة ضعف وذهول، تيقظت ـ خلالها ـ بقية فى أنفسهم من حب الدنيا، والإقبال على عرضها الزائل، فكان أثر ذلك ما كان. ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التى فلبت عليهم الأمور، بين الله لهم أنهم هم مصدرها: فما أخلفهم موعدا، ولا ظلمهم حقا: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) [آل عمران: 165]. إن الإسلام يشترط الكمال للعمل وقبوله الإيمان والاحتساب، والتجرد. ** * * * * شهداء أحد أخذت قريش طريقها إلى مكة وقد استخفها النصر الذى أحرزته. إنها طارت به على عجل، كأنها غير واثقة مما نالت بعد الهزيمة التى حاقت بها أول القتال!! وأقبل المسلمون يتحسسون مصابهم فى الرجال. ويجيزون القتلى لمضاجعهم التى يبرزون منها للقاء الله يوم ينفخ فى الصور. ص _206(1/234)
روى ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع؟ أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى أن أنظر، أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ فقال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسولى الله - صلى الله عليه وسلم - سلامى! وقل له: إن (سعد بن الربيع) يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته! وأبلغ قومك عنى السلام، وقل لهم: إن (سعد بن الربيع) يقول! لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف..!! قال: ثم لم أبرح حتى مات، وجئت النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته خبره. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدفن الشهداء حيث قتلوا. ورفض أن ينقلوا إلى مقابر أسرهم. قال جابر بن عبد الله: لما كان يوم أحد جاءت عمتى بأبى لتدفنه فى مقابرنا، فنادى منادى رسول الله: ردوا القتلى إلى مضاجعهم . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى "أحد " فى ثوب واحد. ثم يقول: (أيهم أكثر أخذا للقرآن؟) فإن أشير إلى أحدهما قدمه فى اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء" وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم، ولم يغسلهم . ص _207(1/235)
ولما انصرف عنهم قال: " أنا شهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح فى سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك". إن معركة " أحد " تركت آثارا غائرة فى نفس النبى - صلى الله عليه وسلم - ظلت تلازمه إلى آخر عهده بالدنيا. فى هذا الجبل الداكن الجاثم حول " يثرب " أودع " محمد " أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه. فالصفوة النقية التى حملت أعباء الدعوة، وعادت فى سبيل الله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختط لها القدر مثواها الأخير فى هذا الجبل الأشم فتوسدت ثراه راضية مرضية. وكان رسول الله يتذكر سير أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول: " أحد جبل يحبنا ونحبه ". فلما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة، أن يزور قتلى " أحد " وأن يدعو الله لهم، وأن يعظ الناس بهم!! عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى " أحد " بعد ثمانى سنين كالمودع للأحياء والأموات. ثم طلع المنبر فقال: إنى بين أيديكم فرط. وأنا عليكم شهيد. وإن موعدكم الحوض. وإنى لأنظر إليه من مقامى هذا. وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها!! قال عقبة: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله. * * * على أن المسلمين دفنوا موجدتهم فى أفئدتهم، ولم يستسلموا لأحزان المصاب الذى حل ص _208(1/236)
بهم! وكان تكاثر خصومهم حولهم سببا فى أن يقاوموا عوامل الخور وأن يبدوا للناس بقية من قوة ترد عنهم كيد المتربصين. على نحو ما قال الشاعر: وتجلدى للشامتين أريهم أنى لريب الدهر لا أتضعضع وقد كانت الهزيمة فى" أحد" فرصة انتهزها المنافقون واليهود، وكل ذى غمر على محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه وأصحابه، ففارت المدينة كالمرجل المتقد وكشف عن عداوته من كان قبلا يواريها. وتحدث الكافرون بالإسلام عن خذلان السماء للنبى المرسل من عند الله. فرأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد تنظيم رجاله على عجل، وأن يتحمل الجريح مع السليم على تكوين جيش جديد، يخرج فى أعقاب قريش ليطاردها ويمنع ما قد يجد من تكرار عدوانها!! كانت معركة " أحد" فى يوم السبت، لخمسة عشر من شوال، وكان خروج هذا الجيش فى الأحد لستة عشر منه. وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد واقتربوا من جيش أبى سفيان. وكان رجال قريش - بعد أن ضمهم الفضاء الرحب - قد عادوا إلى التفكير فيما حدث. وأخذوا يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا؟ أصبتم شوكة القوم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، وقد بقيت منهم رءوس يجتمعون لكم! إلا أن هذا التفكير تزلزل إثر ما عرفت قريش أن المسلمين عبئوا قواهم وخرجوا يستأنفون القتال. وحار المشركون فى أمرهم، أيعودون لحرب لا يأمنون مغبتها، وربما أفقدتهم ثمار النصر الذى أحرزوه؟ أم يمضون - لتوهم - إلى مكة؟ وفى هذه الحال يتحسن مركز المسلمين، وتخف مرارة الهزيمة التى لحقتهم. وقد رأى " أبو سفيان " أن يغنم الأوبة الرابحة، وأن يبعث إلى المسلمين من يقذف بالرعب فى قلوبهم، ويخبرهم أن قريشا عادت لاستئصال شأفتهم بعد أن تبين لها خطؤها فى تركهم!! وعسكر المسلمون بـ " حمراء الأسد " ثم جاء دسيس أبى سفيان، يغريهم بالعودة إلى يثرب نجاة بأنفسهم من كرة المشركين عليهم، وهم لا يقدرون على ملاقاتهم! ص _209(1/237)
بيد أن المسلمين قبلوا التحدى، وظلوا فى معسكرهم يوقدون النار طيلة ثلاث ليال فى انتظار قريش التى ترجح لديها أن النجاة بنفسها أولى، فعادت إلى مكة. وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها مرة أخرى، أرفع رءوسا، وأعز جانبا. وفى هذه المظاهرة الناجحة، وفيمن اشتركوا فيها على ألم الجراح وإرهاق التعب وفى ثباتهم على التثبيط واطمئنانهم إلى جانب الله، نزلت الآيات الكريمة: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) [ آل عمران: 172- 174]. * * * * آثار أحد انتقض على الإسلام كثير ممن هادنه أو داهنه. وبرغم مظهر البأس الذى أبداه المسلمون فى مطاردة المشركين حتى (حمراء الأسد) فإن هزيمة " أحد " كانت أبعد غورا مما يظنون. لقد جرأت عليهم أعراب البادية، وفتحت لهم أبواب الأمل فى الإغارة على المدينة وانتهاب خيرها. كما أن يهود عالنوا بسخريتهم، وتركوا وساوس الغش تلح عليهم، وتكدر سيرتهم مع المسلمين. ومن أصعب الأمور قياد الأمم عقب الهزائم الكبيرة وقياد الدعوات بعد الانكسارات الخطيرة. وإن كان الرجال يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات. وقد جاءت السنة الرابعة للهجرة، والمسلمون لم يداووا جراحاتهم فى " أحد " إلا أن الأحداث لا تنتظر، فقد أخذ البدو يتحركون نحو المدينة، يحسبون أن ما فيها أصبح غنيمة باردة. وأول من تهيأ لغزو المدينة بنو أسد، فسارع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بعث أبى سلمة على رأس مائة وخمسين رجلا، ليبغت القوم فى ديارهم قبل أن يقوموا بغاراتهم. ص _210(1/238)
ولم يلق أبو سلمة عناء فى تشتيت أعدائه واستياق نعمهم أمامه، حتى عاد إلى المدينة مظفرا. وأبو سلمة يعد من خيرة القادة الذين صحبوا رسول الله وسبقوا إلى الإيمان والجهاد معه. وقد عاد من هذه الغزاة مجهودا، إذ نغر جرحه الذى أصابه فى " أحد " فلم يلبث حتى مات. وحاول " خالد بن سفيان الهذلى " أن يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن أنيس فقتله، وهو يجتهد فى تأليب القبائل للهجوم على المدينة. وثارت " هذيل " لرجلها بأن أعانت على تسليم أسرى المسلمين إلى أهل مكة فى غزوة الرجيع. وأصل قصة " الرجيع " هذه، أن وفدا من قبائل عضل والقارة، قدم على رسول الله يذكر أن أنباء الإسلام، وصلت إليهم، وأنهم يحتاجون إلى رجال يعلمونهم الدين ويقرئونهم القرآن. فأرسل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم رهطا من الدعاة يرأسهم "عاصم بن ثابت " فانطلق الجميع حتى إذا كانوا بين " عسفان " و " مكة " قريبا من مياه " هذيل " شعر الدعاة بأن أصحابهم غدروا بهم واستصرخوا هذيلا عليهم. وفزع الدعاة إلى أسلحتهم يقاتلون الغادرين ومن أعانهم من قبيلة هذيل، وماذا يجدى قتال نفر يعدون على الأصابع لنحو مائة من الرماة، وراءهم قومهم يشدون أزرهم؟ لذلك لم يلبث عاصم وصحبه أن قتلوا. واستسلم للأسر منهم ثلاثة نفر؟ خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق. فاسترقهم الهذليون وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها. ومعنى بيعهم بمكة تسليمهم للقتلة المتربصين. فإن أولئك النفر، من الرجال الذين قاتلوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى " بدر" و " أحد ". ولأهل مكة لديهم ثارات يودون الاشتفاء منها. وقد حاول عبد الله الإفلات من هذا المصير فقتل. وأما " خبيب " و " زيد " فأخذهما رجال قريش ليقتلوهما، أخذا بثأرهم القديم. فأما " زيد " فابتاعه صفوان بن أمية، ليقتله بأبيه. ولما خرجوا به من الحرم، اجتمع حوله رهط من قريش ـ فيهم أبو(1/239)
سفيان بن حرب ـ فقال له أبو سفيان ـ حين قدم ليقتله ـ : أنشدك ص _211
بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك، تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإنى جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا. ثم قتل زيد وأما (خبيب) فقد اشتراه عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه، فلما خرجوا بـ (خبيب) من الحرم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان (خبيب) أول من سن هاتين الركعتين عند القتل، ثم رفعوه على خشبة. فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. واستقبل الموت وهو ينشد: ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعى وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع حزن المسلمون لفقدانهم عاصفا وصحبه، ولمصرع أسيريهم على هذا النحو الفاجع، فقد خسر فريقا من الدعاة الأكفاء الشجعان، يحتاج إليهم الإسلام فى هذه الفترة من تاريخه. ثم إن اصطياد الرجال بهذه الطريقة زاد المسلمين توجسا وقلقا؟ إذ إن ذلك المسلك دل على مبلغ طماعية العرب فى أهل الإيمان واستهتارهم بأرواحهم وجرأتهم على النيل منهم، دون تخوف أو محاذرة قصاص! ومع أن هذه الواقعة توجب على المسلمين أن يتبصروا قبل بعث أى وفد لنشر الإسلام بين القبائل البعيدة والمجاهل المريبة، فإن ضرورة بث الدعوة ـ مهما فدحت الخسائر ـ جعلت النبى ينظر إلى هذه التضحيات على أنها أمر لابد منه. كالتاجر الذى يتحمل المغارم الثقيلة ص _212(1/240)
حيتا من الدهر، لأن الانسحاب من السوق ـ بغية تجنبها ـ قضاء عليه. فهو يبقى متحملا حتى تهب الريح من جديد رخاء تعوض ما فقد. وذاك سر استجابة الرسول لأبى براء عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة حين عرض عليه أن يرسل وفدا من الدعاة ينشرون الإسلام بين قبائل نجد. وقد أبدى النبى خشيته من أن يصاب رجاله بسوء، وسط قبائل ضارية لا يؤمن ذمامها. فقال أبو براء: أنا لهم جار!! وخرج الدعاة من المدينة حتى بلغوا بئر معونة. وكانوا سبعين من خيار المسلمين يعرفون بالقراء، يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، ويحيون على هذا النسق الرتيب بين جهاد للحياة ورغبة فى الآخرة. فلما أمرهم الرسول بالمسير لإبلاغ رسالات الله، خرجوا، وما كانوا يعرفون أنهم ـ جميعا ـ يحثون الخطا إلى مصارعهم فى أرض انتشر الغادرون فى فجاجها.. وحينما انتهى القراء إلى (بئر معونة) بعثوا أحدهم ـ حرام بن ملحان ـ إلى عامر بن الطفيل رأس الكفر فى هذه البقاع، فأعطاه كتاب النبى الذى يدعوه فيه إلى الإسلام. فلم ينظر (عامر) فى الكتاب وأمر رجلا من أتباعه أن يغتال حامل الرسالة، فما شعر حرام إلا وطعنة نجلاء تخترق ظهره وتنفذ من صدره، وكأن هذه الشهادة المفاجئة لاقت رجلا يتمناها من قديم، فقد صاح حرام على أثر ذلك: فزتُ ورب الكعبة.! ومضى (عامر) فى غشمه، فاستصرخ أعوانه ليواصلوا العدوان على سائر القوم، فانضمت إليه قبائل (رعل) و (ذكوان) و (القارة). فهجم بهم عامر على القراء الوادعين. ورأى هؤلاء الموت مقبلا عليهم من كل صوب، فهرعوا إلى سيوفهم يدفعون عن أنفسهم دون جدوى، إذ استطاع الأعراب الهمج أن يغشوهم فى رحالهم وأن يستأصلوهم عن آخرهم. وكان فى سرح القراء اثنان لم يشهدا هذه المأساة، منهما (عمرو بن أمية الضمرى) ولم يعرفا النبأ المحزن، إلا من أفواج الطير المتوحشة، تنطلق نحو المعسكر محومة حول الجثث الملقاة على الرمل الأعفر، طاعمة مما تستطيع اختطافه بأظافرها ومناقرها.(1/241)
قالا: والله إن لهذه الطير لشأنا. فأقبلا لينظرا فإذا القوم مضرجون فى دمائهم. وإذا الخيل التى أصابتهم واقفة! ص _213
قال زميل عمرو له: ماذا ترى؟ قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله نقص عليه الخبر. لكن زميله كره هذا الرأى، وكان له بين من استشهدوا صديق حميم يدعى المنذر لذلك أجاب عمرو بن أمية قائلا : ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر! وما كنت لأبقى حتى أقص خبره على الرجال! وهجم على الأعراب يقاتلهم حتى قتل وأخذ عمرو أسيرا. فأعتقه (عامر بن الطفيل) كبير الغادرين عن رقبة زعم أنها على أمه! ورجع (عمرو) إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة (أحد) إلا أن هؤلاء ذهبوا فى قتال واضح، وأولئك ذهبوا فى غدرة شائنة. إن هذه النازلة ملأت قلوب المسلمين غيظا، وهم لم يضيقوا بخسائرهم فحسب، بل الذى أحرج مشاعرهم فى هذه الحادثة، أنها كشفت عما تخبئه الوثنية فى ضميرها من غل كامن على الإسلام وأهله، غل عصف بكل مبادئ الشرف والوفاء، وأباح لكل قادر أن يلحق الأذى بالمؤمنين متى شاء وكيف شاء. وفى طريق (عمرو) إلى المدينة لقى رجلين ظنهما من بنى عامر، فقتلهما ثائرا لأصحابه، ثم تبين أنهما من كلاب، وأنهما معاهدان للمسلمين. ولما قدم (عمرو) على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر، قال النبى للناس: إن أصحابكم أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا ثم قال النبى لعمرو: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. وانشغل بجمع دياتهما من المسلمين وحلفائهم اليهود! * * * * إن نجاح الإسلام فى ترسيخ أقدامه بالجزيرة أحفظ قلوبا كثيرة. ولا ريب أن تأميل المسلمين فى المستقبل، وارتقابهم المزيد من الفتح، زاد ضغن الضاغنين، وقد كان الناقمون والمتربصون ص _214(1/242)
يصفون المسلمين بالغرور: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). غير أن هذه الكراهية اختفت أمدا بعد انتصار (بدر) بل لعل هذا النصر أغرى جمهورا من الضعاف والمترددين بالانضواء تحت علم الدين الجديد. فلما تقلبت الليالى بالمسلمين، ولحقتهم الهزائم انفجر الحقد المكبوت، ونهض خصوم الإسلام يناوشونه فى كل مكان. وقد قلنا: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - أدرك هذه الحال بعد " أحد " فبذل جهده ليستعيد هيبة المسلمين ويوطد ما اضطرب من مكانتهم، ولذلك اشتد الصراع بين الجانبين: المشركون يظنون الفرصة سانحة لإتباع " أحد " بمثلها أو أشد، والمسلمون يرون محوها إلى الأبد. على أن الخسائر تلاحقت بالمسلمين فى (الرجيع) و (بئر معونة) كما مر بك، ودخل الإيمان فى محنة بعد أخرى. ومع هذه البأساء لم يفقد الرجال الواثقون صلتهم بربهم، واطمئنانهم إلى غدهم، وشرعوا يردون الضربة بمثلها. فلما تحرك اليهود فى هذه الآونة العصيبة ليغتالوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتوان فى إنزال العقوبة الرادعة بهم. * * * * إجلاء بنى النضير وتفصيل ذاك الغدر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى منازل بنى النضير ليستعين بهم فى دية القتيلين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) مرجعه من بئر معونة، فلما فاوضهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الأمر أظهروا الرضا بمعونته، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم، ينتظر وفاءهم بما وعدوا. لكن يهود خلا بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - خلو بال واطمئنان - فمن رجل يعلو ظهر هذا البيت، فيلقى عليه صخرة، ويريحنا منه؟ وحين أوشك اليهود على إنفاذ مكيدتهم ألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخطر المدبر له، فنهض - عجلا - من جوار البيت الذى اضطجع إلى جداره، وقفل راجعا إلى المدينة. وشعر أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - بمغيبه،(1/243)
فقاموا فى طلبه، فإذا رجل مقبل من المدينة يخبرهم أنه رآه يدخلها، فأسرعوا يلحقون به، فلما انتهوا إليه أخبرهم بما كادت له يهود. وقد عرف - بعد - أن عمرو بن جحاش هو الذى أراد قتل النبى بإلقاء الرحى عليه، ولم ينج الشقى من عواقب جرمه، ولا نجا قومه، فإن رسول الله ما لبث أن استدعى محمد بن مسلمة وقال له: ص _215
اذهب إلى بنى النضير فمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يساكنونى بها، وقد أجلتهم عشرا فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه. ولم يجد اليهود مناصا من الخروج، فأخذوا يتجهزون للرحيل، بيد أن منافقى المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبى، أرسلوا إليهم: أن اثبتوا ونحن ننصركم على محمد وصحبه! فعادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وأرسلوا للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولون له: لن نخرج، فافعل ما بدا لك. ثم احتموا بحصونهم واستعدوا للقتال، وزادهم إصرارا على المقاومة ما ترامى إليهم من أن ابن أبى أعد ألفى مقاتل لنصرتهم. ونهض النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمناجزة القوم وتحدى من ينضم إليهم من قبائل اليهود الأخرى أو من مشركى العرب وفرض الحصار على مساكن بنى النضير، وأمر بتقطيع نخيلهم. ثم جد الجد ورأى اليهود الموت، ووقع الرعب فى قلوب أعوانهم، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا، مع أن اشتباك المسلمين بخصومهم فى هذه الفترة المحرجة من تاريخهم، لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم. ثم إن يهود بنى النضير كانوا على درجة من القوة، تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره، إلا أن الحال التى جدت بعد مأساة (بئر معونة) وما قبلها، زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التى أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بنى النضير بعد همهم باغتيال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج. وفد(1/244)
جاءت النتيجة فى مصلحتهم بأسرع مما يتصورون، فاندحر اليهود، ونزلوا على حكم المنتصر الذى أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال ماعدا السلاح. وفى هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود فى صدرها. ص _216
(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) [الحشر: 2] ثم فضح القرآن مسلك منافقى المدينة الذين حاولوا إعانة يهود فى غدرها وحربها، وحرضوها على مقاتلة المسلمين بما وعدوها من إمداد وعتاد فقال: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) [الحشر: 11 ، 12] وبهذا النصر الذى أحرزه المسلمون دون تضحيات، توطد سلطانهم فى المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد (أحد) وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها فى نذالة وكفران.. وتأديبا لأولئك الغادرين خرج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوس فيافى نجد، ويطلب ثأر أصحابه الذين قتلوا فى (الرجيع) و (بئر معونة)، ويلقى بذور الخوف فى أفئدة أولئك البدو القساة حتى لا يعاودوا مناكرهم التى ارتكبوها مع المسلمين. وقام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ تحقيقا لهذا الغرض ـ بغزوات شتى أرهبت القبائل المغيرة وخلطت بمشاعرها الرعب.. فأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا فى رءوس الجبال بعدما قطعوا الطرق على الدعوة ردحا من(1/245)
الزمن، وفى مقدمة هؤلاء بنو لحيان وبنو محارب، وبنو ثعلبة من غطفان. فلما خضد المسلمون شوكتهم، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام، وحضر الموعد المضروب مع قريش. وحق لمحمد وصحبه أن يخرجوا ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء . ص _217
بدر الأخرة لم ينشط أبو سفيان للوفاء بالميعاد الذى ضربه عند منصرفه من "أحد"، بل خرج من مكة متثاقلا يفكر فى عقبى القتال مع المسلمين، وهو ـ بعد ـ لما يتخذ لهذا القتال أهبته التى يودها. إن قومه هزموا نى " بدر " على كثرة مددهم ووفرة عدتهم، واستخلصوا النصر فى " أحد " بعد جهد فاشل. ولولا الخطأ الذى وقع فيه جيش التوحيد، ما ظفرت قريش بهذه الغرة. لذلك ما كاد أبو سفيان يقترب من " الظهران " حتى بدا له فى الرجوع، فصاح بقومه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا.. وهكذا انسحبت قريش من المعركة المنتظرة. أما المسلمون فإنهم نفروا لملاقاة المشركين على استعداد وحماسة، حتى وصلوا إلى ماء " بدر " فعسكروا حوله، يعلنون وفاءهم بكلمتهم، وتأهبهم للحرب الموعودة. وظلوا ثمانية أيام يرتقبون مقدم أهل مكة، ويمسحون عن سمعتهم آخر ما تركت هزيمة " أحد " من غبار.. وكان ذلك فى شعبان من السنة الرابعة من الهجرة. * * * دومة الجندل وانتقل زمام المفاجأة إلى أيدى المسلمين بعد أن نكصت قريش عن مواجهتهم فالتفتوا إلى الشمال، بعد أن توطدت مهابتهم فى الجنوب. وشمال الجزيرة يجاور سلطان الروم القديم. والعرب الضاربون هناك لا يخشون بأس أحد بعد القيصر. وقيصر نفسه لا يتوقع أن تنبت فى الجزيرة قوة تناوئه أو تتجاهله. وجاءت الأخبار إلى المدينة أن القبائل حول دومة الجندل ـ قريبا من الشام ـ تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وقد بلغ(1/246)
بها الطيش حدا، فكرت معه أن تهاجم المدينة، وأن جمعا كبيرا احتشد بها للاندفاع فى هذه الغارة ! فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى ألف من المسلمين، يكمن بهم نهارا، ويسير ليلا حتى يفاجئ أعداءه وهم غارون. والمسافة بين يثرب و (دومة الجندل) خمس عشرة ليلة، قطعها المسلمون ص _218
بمعونة دليل ماهر. فلما بلغوا مضارب خصومهم، اجتاحوها مباغتين، ففرت الجموع المتأهبة للسطو، وأصاب المسلمون سوائمهم ورعاءهم، وكانت لبنى تميم. أما أهل الدومة ففروا فى كل وجه. فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا. وأقام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـعدة أيام يبعث السرايا، ويبعث رجاله هنا وهناك، فلم يثبت للقائهم هارب. وعاد المسلمون إلى المدينة، وكان توجههم لعرب الشمال فى ربيع الأول من السنة الخامسة. عندما كان الإسلام دعوة تغالب النظام السائد، كانت مخاصمته تتخذ طريق الجهرة والتهجم دون مبالاة. فلما استقر له الأمر وتوافرت لأبنائه أسباب القوة، سلكت عدواته المسارب التى تسلكها الغرائز المكبوتة، فأمسى الكيد له يقوم على المكر والدس إلى جانب الوسائل الأخرى التى يعالن بها الأقوياء. وائتمار الضعفاء فى جنح الظلام لا يقل خطورة عن نكاية الأقوياء فى ميادين الصدام. بل إن المرء فد يألم لإشاعة ملفقة أكثر مما يألم لطعنة مواجهة. وفى الحروب الفاجرة تستخدم جميع الوسائل التى تصيب العدو، وإن كان بعضها يستحى من استخدامه الرجل الشريف! وقد لجأ المنافقون فى المدينة إلى مناورة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـودعوته بأسلوب تظهر فيه خسة النفس الإنسانية عندما يستبد بها الحقد، ويغلب عليها الضعف، أسلوب اللمز والتعريض حينا، والإفك والافتراء حينا آخر. وكلما توطدت سلطة المسلمين ورسخت مكانتهم ازداد خصومهم المنافقون ضغنا عليهم وتربصا بهم. وقد حاولوا تأييد اليهود عندما تأذنهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـبالجلاء. فلما لم يوقف مد الإسلام شىء، ولم(1/247)
تهده هزيمة، وأخذت القبائل العادية تختفى واحدة تلو أخرى، التحق أولئك المنافقون بصفوف المسلمين ولم تنكشف نياتهم السوء إلا على فلتات الألسنة ومزالق الطباع. فكانت سيرتهم تلك، مثار فتن شداد تأذى منها رسولى الله ـ صلى الله عليه وسلم ـوالمؤمنون شيئا غير قليل. وظهر ذلك جليا فى غزوة "بنى المصطلق " فإن الأنباء أتت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـبأن هذه القبيلة تجمع له وتستعد لقتاله، وأن سيدها الحارث بن أبى ضرار قد استمكن عدته لهذا المسير، فسارع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـبالمسلمين ليطفىء الفتنة قبل اندلاعها. ص _219(1/248)
وخرج مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه المرة جميع المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج قبلا. ولعل ثقتهم بانتصار محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغرتهم بالذهاب معه، ابتغاء الدنيا لا انتصارا لدين. وانتهى المسلمون إلى ماء يسمى (المريسيع) اجتمع لديه بنو المصطلق، فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم. فنادى عمر فيهم: قولوا: لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم! فأبوا وترامى الفريقان بالنبل. ثم أمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحابته فحملوا عليهم حملة رجل واحد. فلم يفلت من المشركين أحد. إذ وقعوا جميعا أسرى بعدما قتل منهم عشرة أشخاص ولم يستشهد من المسلمين إلا رجل واحد قتل خطأ. وسقطت القبيلة ـ بما تملك ـ فى أيدى المسلمين. ورأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعامل المهزومين بالإحسان، فلما جاء الحارث قائد القبيلة المنكسرة يطلب ابنته التى وقعت فى الأسر ردها عليه، ثم خطبها منه. وتزوجها فاستحى الناس أن يسترقوا أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأطلقوا من بأيديهم من الأسرى! فكانت جويرية بنت الحارث من أيمن الناس على أهلها، فقد أعتق فى زواجها مائة أهل بيت من بنى المصطلق. على أن هذا النصر الميسر شابه من أعمال المنافقين ما عكر صفوه وأنسى المسلمين حلاوته، فإن خادما لعمر كان يسقى له من ماء المريسيع، ازدحم مع مولى لبنى عوف من الخزرج وكادا يقتتلان على الورود ـ شأن الخدم الطائشين ـ فصاح الأول: يا للمها جرين، وصاح الآخر: يا للأنصار! ص _220(1/249)
واستمع إلى صياح الأتباع عبد الله بن أبى، وكان فى رهط من قومه، فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية فقال: أوقد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على قومه ـ ولم تزل له فيهم بقية وجاهة ـ يلومهم ويحرضهم على التنكر للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه فذهب (زيد بن أرقم) إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقص عليه الخبر وأسرع ابن أبى إلى رسول الله يبرئ نفسه وينفى ما قاله!! ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبى رعاية لمنزلته، وقالوا: الغلام ـ يعنون: زيد بن أرقم ـ أوهم، ولم يحفظ ما قيل. على أن الحقيقة لم تفت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأحزنه ما وقع، ووجد خير علاج له شغل الناس عنه حتى يعفى على آثاره، فأصدر أمره بالارتحال فى ساعة ما كان يروح فى مثلها، ومشى بالناس سائر اليوم حتى أمسوا، وطيلة الليل حتى أصبحوا، وصدر يومهم الجديد حتى آذنتهم الشمس، ثم نزل بهم. فما أن وجدوا مس الأرض حتى وقعوا نياما ، وتابع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رواحه حتى عاد إلى المدينة. ونزلت سورة المنافقين، وفيها تصديق ما روى زيد بن أرقم: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) [المنافقون: 8] لم يدر بخاطر أحد أن هذه الأوبة المتعجلة سوف تتمخض عن أكذوبة دنيئة يحيك أطرافها (عبد الله بن أبى) ثم يرمى بها بين الناس، فتسير مسير الوباء الفاتك. إن هذا الرجل حلف كاذبا بعد أن أنكر مقالته الثابتة. ولو أن الجبان ذهب يطلب النجاة من عقباها، لكان ذلك أجدى عليه، لكنه لم يزدد ـ على السماح الذى قوبل به ـ إلا خسة وخصاما، والبون بعيد بين أصناف الرجال الذين عادوا الإسلام ورسوله. لقد كان (أبو جهل) خصما لدودا لكل من دخل هذا الدين، وكان طاغية عنيدا لا تنتهى لجاجته،(1/250)
إلا أنه كان كالضبع المفترس لا يحسن الالتواء والوقيعة، حمل السيف فى وضح النهار، ومازال يقاتل به حتى صرع. أما عبد الله بن أبى، فقد اختفى كالعقرب الخائنة، ثم شرع يلسع الغافلين. قبع هذا المنافق فى جنح الظلام، وبدأ ينفث الإشاعات المريبة.. ص _221
وتدلى ـ فى غوايته ـ إلى حضيض بعيد، فلم يبال أن يتهجم على الأعراض المصونة، وأن ينسج حولها مفتريات يندى لها جبين الحرائر العفيفات. فى عودة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة بنى المصطلق إلى المدينة، نبت حديث الإفك وشاع، واجتهد خصوم الله ورسوله أن ينقلوا شرره فى كل مكان قاصدين ـ من وراء هذا الأسلوب الجديد فى حرب الإسلام ـ أن يدمروا على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيته، وأن يسقطوا مكانة أقرب الرجال لديه، وأن يدعوا جمهور المسلمين ـ بعد ذلك ـ يضرب فى عماية من الأسى والغم!! وللوصول إلى هذه الغاية استباح ابن أبى لنفسه أن يرمى بالفحشاء سيدة لما تجاوز مرحلة الطفولة البريئة، لا تعرف الشر، ولا تهم بمنكر، ولا تحسن الحياة إلا فى فلك النبوة العالى. وهى التى تربت فى حجر صديق، وأعدت لصحبة نبى فى الدنيا والآخرة. وتلقف العامة هذا الحديث الغريب، وهم فى غمرة الدهشة لا يدرون مبلغ الخطر الكامن فى قبوله ونقله. إليك سردا لهذا الحديث المفتعل على لسان السيدة التى تعرضت له وبرئت منه. * * * * حديث الإفك قالت السيدة عائشة: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرجت معه. فلما كانت (غزوة بنى المصطلق) خرج سهمى عليهن، فارتحلت معه! قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهيجهن اللحم فيثقلن. وكنت إذا رحل بعيرى جلست فى هودجى، ئم يأتى القوم فيحملوننى يأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه، ثم يضعونه على ظهر البعير ويشدونه بالحبال، وبعدئذ ينطلقون. قالت: فلما فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سفره ذاك توجه قافلا، حتى إذا كان(1/251)
قريبا من المدينة نزل منزلا فبات فيه بعض الليل. ثم أذن مؤذن فى الناس بالرحيل فتهيئوا لذلك وخرجت لبعض حاجتى، وفى عنقى عقد لى، فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى، ورجعت إلى الرحل فالتمست عقدى فلم أجده! وقد أخذ الناس فى الرحيل، فعدت إلى مكانى الذى ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته. وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لى البعير ـ وقد كانوا فرغوا عن إعداد ـ فأخذوا الهودج يظنون أنى فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أنى به، ثم أخذوا برأس البعير وانطلقوا!! ورجعت إلى المعسكر وما فيه داع ولا مجيب. لقد انطلق الناس! قالت: فلتففت بجلبابى ثم اضطجعت فى مكانى وعرفت أنى لو افتقدت لرجع الناس إلى. فوالله إنى لمضطجعة، إذ مر بى (صفوان بن المعطل السلمى) وكان قد تخلف لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، ص _222(1/252)
فرأى سوادى فأقبل حتى وقف على ـ وقد كان يرانى قبل أن يضرب علينا الحجاب ـ فلما رآنى قال : (إنا لله وإنا إليه راجعون) ظعينة رسول الله؟ وأنا متلففة فى ثيابى!! ما خلفك يرحمك الله؟ قالت: فما كلمته. ثم قرب إلى البعير: اركبى، واستأخر عنى. قالت: فركبت وأخذ برأس البعير منطلقا يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزلوا، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بى البعير، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج المعسكر، ووالله ما أعلم بشىء من ذلك. ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، وليس يبلغنى من ذلك شىء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله وإلى أبوى، وهم لا يذكرون لى منه كثيرا ولا قليلا. إلا أنى قد أنكرت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض لطفه بى فى شكواى هذه. فأنكرت ذلك منه. كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت فى نفسى ـ غضبت ـ فقلت يا رسول الله ـ حين رأيت ما رأيت من جفائه لى ـ: لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى؟ قال: لا عليك. قالت: فانقلبت إلى أمى ولا علم لى بشىء مما كان، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا، لا نتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التى تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج فى فسح المدينة، وكانت النساء يخرجن كل ليلة فى حوائجهن. فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح. فوالله إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت: بئس ـ لعمر الله ـ ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرا!! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من أهل الإفك. قلت: أوقد كان هذا؟! قالت: نعم. والله لقد كان. قالت عائشة: فوالله ما قدرت على أن أقضى حاجتى. ورجعت، فوالله مازلت أبكى حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى، وقلت لأمى: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من ذلك شيئا؟ قالت: أى بنية، خففى عنك(1/253)
فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله فخطبهم ـ ولا أعلم بذلك ـ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى! ص _223
قالت: وكان كبر ذلك عند (عبدالله بن أبى) فى رجال من الخزرج، مع الذى قال (مسطح) و (حمنة بنت جحش)، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تكن امرأة من نسائه تناصبنى فى المنزلة عنده غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا. وأما (حمنة) فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارنى بأختها. فلما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك المقالة، قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من (ا لأوس) فنكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا (الخزرج) فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام (سعد بن عبادة) ـ وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا ـ فقال: كذبت لعمر الله، ما تضرب أعناقهم، إنك ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين شر، ونزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فدخل على ودعا (على بن أبى طالب) و (أسامة بن زيد) فاستشارهما. فأما (أسامة) فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك، وما نعلم منهم إلا خيرا. وهذا الكذب والباطل! وأما (على) فقال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف. وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(بريرة) يسألها، وقام إليها على فضربها ضربا شديدا وهو يقول: اصدقى رسول الله! فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة، إلا(1/254)
أنى كنت أعجن عجينى، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه فتأتى الشاة وتأكله!! قلت: ثم دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندى أبواى، وعندى امرأة من الأنصار وأنا أبكى وهى تبكى، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله، وان كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس، فتوبى إلى الله يقبل التوبة عن عباده.. قالت: فوالله؟ إن هو إلا أن قال لى ذلك حتى قلص دمعى، فما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوى أن يجيبا عنى فلم يتكلما! قالت عائشة: وايم الله لأنا كنت أحقر فى نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل الله فى قرآنا، لكنى كنت أرجو أن يرى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى نومه شيئا يكذب الله به عنى، لما يعلم من براءتى أما قرآنا ينزل فى، فوالله، لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك. ص _224(1/255)
قالت: فلما لم أر أبوى يتكلمان!! قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقالا: والله لا ندرى بما نجيبه. قالت: والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر فى تلك الأيام. ثم قالت: فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ـ والله يعلم إنى بريئة ـ لأقولن ما لم يكن. ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى. قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: أقول ما قال أبو يوسف: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) . فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجى بثوبه ووضعت وسادة تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت، وقد عرفت أنى بريئة وأن الله غير ظالمى. وأما أبواى فوالذى نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سرى عن رسول الله فجلس، وإنه لينحدر من وجهه مثل الجُمان فى يوم شات، فجلس يمسح العرق عن وجهه ويقول: أبشرى ياعائشة، قد أنزل الله عز وجل براءتك فقلت: الحمد لله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم الآيات. (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) . والغريب أن الحد أقيم على من ثبتت عليهم تهمة القذف، وهم: (حسان بن ثابت ومسطح وحمنة). أما (عبد الله بن أبى) مدبر الحملة وجرثومتها الخفية، فإنه كان أحذر من أن يقع تحت طائلة العقاب. لقد أوقع كيره ثم أفلت بنفسه.. وكتاب السيرة على أن (حديث الإفك) و (غزوة بنى المصطلق) كانا بعد الخندق لكننا تابعنا (ابن القيم) فى اعتبارها من حوادث السنة الخامسة قبل هجوم الأحزاب على المدينة. والتحقيق يساند (ابن القيم) ومتابعيه. فستعلم أن (سعد بن معاذ) قتل فى(1/256)
معركة الأحزاب. ص _225
ومع أن لسعد فى غزوة بنى المصطلق شأنا يذكر. إذ إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اشتكى إليه عمل ابن أبى ولا يتفق أن يستشهد سعد بن معاذ فى غزوة الخندق ثم يحضر بعد ذلك فى بنى المصطلق، لو صح أنها وقعت فى السنة السادسة. غزوة الأحزاب أيقنت طوائف الكفار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كل طائفة مفردة. وأنها ربما تبلغ أملها إذا رمت الإسلام كتلة واحدة. وكان زعماء يهود فى جزيرة العرب أبصر من غيرهم بهذه الحقيقة، فأجمعوا أمرهم على تأليب العرب ضد الإسلام وحشدهم فى جيش كثيف ينزل محمدا - صلى الله عليه وسلم - وصحبه فى معركة حاسمة. وذهب نفر من قادة اليهود إلى قريش يستنفرونهم لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. وكانت قريش قد أخلفت عدتها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - عاما. وهى لا بد خارجة لقتال المسلمين إنقاذا لسمعتها وبرا بكلمتها. وهاهم أولاء رجالات يهود يحالفونهم على ما يبغون، فلا مكان لتوجس أو خلاف. والغريب أن أحبار التوراة أكدوا لعبدة الأوثان فى مكة أن قتال محمد - صلى الله عليه وسلم - حق، واستئصاله أرضى لله! لأن دين قريش أفضل من دينه، وتقاليد الجاهلية أفضل من تعاليم القرآن! وسرت قريش بما سمعت، وزادها إصرارا على العدوان. فواعدت اليهود أن تكون معهم فى الزحف على المدينة. وترك زعماء اليهود قريشا إلى أعراب (غطفان)، فعقدوا معهم حلفا مشابها لما تم مع أهل مكة. ودخل فى هذا الحلف عدد من القبائل الناقمة على الدين الجديد. وبذلك نجح ساسة اليهود وقادتهم فى تأليب أحزاب الكفر على النبى - صلى الله عليه وسلم - ودعوته. وعرف المسلمون مبلغ الخطر المحدق بهم، فرسموا - على عجل - الخطة التى يدفعون بها عن دعوتهم ودولتهم، وكانت خطة فريدة لم تسمع العرب - قبلا - بمثلها، وهم الذين لا يعرفون إلا قتال الميادين المكشوفة. ص _226(1/257)
أما هذه المرة، فإن المسلمين حفروا خندقا عميقا يحيط بالمدينة من ناحية السهل ويفصل بين المغيرين والمدافعين. وأقبلت الأحزاب فى جمع لا قبل للمسلمين برده. قريش فى عشرة آلاف من رجالها ومن تبعهم من (كنانة) و (تهامة) و (غطفان) فى طليعة قبائل (نجد). وبرز المسلمون بعدما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الآطام الحصينة من يثرب. ثم انتشروا على حدود مدينتهم مسندين ظهورهم إلى جبل سلع، ومرابطين على شاطىء الخندق الذى احتفروه بعد جهود مضنية، وبلغت عدتهم فى هذه المعركة نحو ثلاثة آلاف مقاتل. علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة فى ساحة ممهدة ليس طريق النصر. فما عسى أن تصنع قلة مؤمنة مكافحة مع هذا السيل الدافق؟ لذلك لجأ إلى هذه المكيدة. ويروى أن الذى أشار بها (سلمان الفارسى) وتقدم النبى رجاله لإحكامها وإنجازها، فأخذ يحفر بيده ويحمل الأتربة والأحجار على عاتقه. وتأسى به الرجال الكبار ممن لم يألفوا هذا العمل قط، فشهدت يثرب منظرا عجبا، وجوها ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفئوس وتحمل المكاتل، وتتعرى من لباسها وزينتها لتلبس حللا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب. قال البراء بن عازب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا وهذا الغناء من شعر (عبد الله بن رواحة) كان المشتغلون فى الخندق يزيحون التعب عن أعصابهم بالاستماع إلى نغمه وترديد الكلمات الأخيرة من مقاطعه. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يمد صوته بها معهم فيقول: لاقينا، أبينا مما يعيد إلى أذهاننا صور (الفعلة) الذين يحفرون الترع بالريف، أو يبنون القصور بالمدن. ص _227(1/258)
إن الدفاع عن الإسلام، ومخافة الفتنة لو انتصر المشركون، جعلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته يعالجون هذا العمل الثقيل، ونفوسهم راضية مغتبطة مع ما يلقون فيه من عناء وصعوبة. ولا تحسبن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تعميق الخندق وقذف أتربته من قبيل التمثيل الذى يحسنه بعض الزعماء فى عصرنا. كلا.. كلا. إن الرجولة الكادحة الجادة فى أنبل صورها، كانت تقتبس من مسلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى هذه المعركة. يقول البراء: لقد وارى عنى التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر. أجل إنه استغرق فى العمل مع أصحابه. فالرجولة الصادقة لا تعرف التمثيل.. وكان الفصل شتاء، والجو باردا وهناك أزمة فى الأقوات تعانيها المدينة التى توشك أن تتعرض لحصار عنيف. وليس هناك أقتل لروح المقاومة من اليأس، فلو تعرض المحصور لسوراته القابضة، فمزالق الاستسلام الذليل أمامه تنجر به إلى الحضيض، لذلك اجتهد النبى - صلى الله عليه وسلم - فى تدعيم القوى المعنوية لرجاله، حتى يوقنوا بأن الضائقة التى تواجههم سحابة صيف عن قليل تنقشع. ثم يستأنف الإسلام مسيره بعد، فيدخل الناس فيه أفواجا، وتندك أمامه معاقل الظلم، فلا يصدر عنها كيد، ولا تخشى منها فتنة. ومن إحكام السياسة أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضنى. قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار فى أربعين ذراعا - من الأرض التى كلفوا بحفرها - فحفرنا حتى وصلنا إلى صخرة بيضاء كسرت حديدنا وشقت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره عن هذه الصخرة التى اعترضت عملهم وأعجزت معاولهم. فجاء النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخذ من سلمان المعول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها. وتطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو الداكن. وكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك. تفتتت(1/259)
الصخرة تحت ضربات الرجل الأيد الجلد، الموصول بالسماء الراسخ على الأرض. ونظر النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى صحبه وقد أشرق على نفسه الكبيرة شعاع من الثقة الغامرة والأمل الحلو، فقال - يحدث صحبه عن السنا المنقدح بين حديد المعول وحدة الصخر -: لقد أضاء ص _228
لى فى الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب. وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها. وفى الثانية أضاء القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها. وأضاء لى فى الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب. وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها. فابشروا. فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق ! فلما انسابت الأحزاب حول المدينة وضيقوا عليها الخناق لم تطر نفوس المسلمين شعاعا بل جابهوا الحاضر المر وهم موطدو الأمل فى غد كريم ! (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) [الأحزاب: 22]. أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب فقد تندروا بأحاديث الفتح، وظنوها أمانى المغرورين وقالوا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا. وفيهم قال الله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) [الأحزاب: 12]. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب. فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع. ومع تلك الحقيقة فهى من أحسم المعارك فى تاريخ الإسلام، إذ إن مصير هذه الرسالة العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشى على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة وفقد السيطرة على موقفه، لهوى من مرتفعه إلى واد سحيق، ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها(1/260)
بالغرق ليلا أو نهارا. وبين ص _229
الحين والحين يتطلع المدافعون: هل اقتحمت خطوطهم فى ناحية ما من منطقة الدفاع؟ وكان المشركون يدورون حول المدينة غضابا يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها فينفثوا عن حنقهم المكتوم، ويقطعوا أوصال هذا الدين الثائر. وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا فى مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب، ويتحملون لأواء هذه الحراسة التى تنتظم السهل والجبل، وتتسع ثغورها يوما بعد يوم وهم كما وصف الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) [الأحزاب: 10، 11]. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة على هذا النحو، فإن فرض الحصار وترقب نتائجه ليس من شيمهم. فخرج عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبى جهل، وضرار بن الخطاب، وأقبلوا تعلق بهم خيلهم حتى وقفوا على حافة الخندق. فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، وضربوا خيلهم فاقتحمته. وأحس المسلمون الخطر المقترب، فأسرع فرسانهم يسدون هذه الثغرة يقودهم على بن أبى طالب. وقال على لعمرو بن عبد ود، وهو فارس شجاع معلم: يا عمرو إنك عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه! قال: أجل. فقال له على: فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام! قال عمرو: لا حاجة لى بذلك. قال على: فإنى أدعوك إلى النزال! فأجاب عمرو: ولم يا ابن أخى؟ فوالله ما أحب أن أقتلك ـ استصغارا لشأنه ـ قال على: لكنى والله أحب أن أقتلك! فحمى عمرو، واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على على، فتنازلا وتجاولا، فقتله على، وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمة حتى اقتحمته هاربة. وكان الأولاد فى البيوت يرقبون جهاد المدافعين وحركاتهم السريعة لصد العدوان فى مظانه. فعن عبد الله بن الزبير،(1/261)
جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان فى الأطم، ومعى عمر بن أبى سلمة، فجعل يطأطئ لى فأصعد على ظهره فأنظر. قال: فنظرت إلى أبى وهو يحمل مرة هنا ومرة ههنا، فما يرتفع له شىء إلا أتاه. فلما أمسى وجاءنا إلى الأطم قلت: يا أبت، رأيتك اليوم وما تصنع. قال: رأيتنى يابنى؟! قلت: نعم. قال الزبيرـ مدللا ولده ـ: فدى لك أبى وأمى! ص _230
فى هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن بنى قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وانضموا إلى كتائب الأحزاب التى تحدف بالمدينة. وذلك أن حيى بن أخطب ـ أحد النفر الذين حرضوا قريشا وسائر العرب على حرب الإسلام ـ جاء إلى كعب بن أسد ـ سيد قريظة ـ وقرع عليه بابه، وكان كعب عند قدوم الأحزاب قد أغلق أبوابه ومنع حصونه، وقرر أن يوفى بالعهد الذى بينه وبين المسلمين، فلا يعين عليهم خصما ـ وليته بقى على هذا العزم ـ إلا أن حييا لزم الباب وهو يصرخ بكعب: ويحك افتح لى، فقال له كعب: إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال حيى: ويحك افتح لى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل! فقال حيى: والله إن أغلقت بابك دونى إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظ الرجل ففتح له.. ودخل حيى يقول: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وبحر طام! قال: وما ذاك؟ قال: جئتك بقريش على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من (دومة)، و (بغطفان) على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم إلى جانب (أحد) قد عاقدونى وعاهدونى على ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. قال كعب: جئتنى ـ والله ـ بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، وليس فيه شىء. دعنى وما أنا عليه. فإنى لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا. وتدخل آخرون فقالوا: إذا لم تنصروا محمدا كما يقضى الميثاق فدعوه وعدوه. بيد أن حييا استطاع أن يقنع سائر اليهود بوجهة نظره، وأن يزين لهم الغدر فى هذه الساعة الحرجة،(1/262)
وأن يضمهم إلى المشركين فى قتالهم الذى أعلنوه وجعلوا الغاية منه ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. ومضيا فى هذه الخطة الجائرة الخسيسة أحضرت قريظة الصحيفة التى كتبت فيها الميثاق فمزقتها، فلما بعث النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجاله ليستجلوا موقف قريظة بإزاء عدوان الأحزاب قالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد! وحاول سعد بن معاذ أن يذكرهم بعقدهم فتصاقوا عنه. فلما خوفهم عقبى الغدر، وذكر لهم مصير بنى النضير، قالوا له: أكلت أير أبيك..! وتبين أن حرص قريظة الأول على التزام العهد كان خوفا من عواقب الغدر فقط، لما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب وأنها لن تؤاخذ على خيانة، أسفرت على خيانتها، وانضمت إلى المشركين المهاجمين. ص _231(1/263)
ووجم المسلمون حين عادت رسلهم تحمل هذه الأنباء المقلقة، وربت مشاعر الكره فى صدورهم لأولئك اليهود، حتى لأصبحوا أشوه أمام أعينهم من عباد الأصنام ووعوا أتم الوعى أن بنى إسرائيل أقدموا على قرارهم هذا؟ وهم يعلمون معناه وعقباه، يعلمون أنه محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينها، وتسليمها إلى من يقتل رجالها ويسترق نساءها ويبيع ذراريها فى الأسواق. * * * وتقنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثوبه حين أتاه غدر قريظة. فاضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء. ثم غلبته روح الأمل فنهض يقول: أبشروا بفتح الله ونصره! وفكر فى أن يرد عن المدينة بعض القبائل التى فرضت الحصار لقاء ثلث الثمار يبذله لها ويتقى به شرها. وكاد يصل فى مفاوضاته مع قواد غطفان إلى هذا الحل. ولكن سادة الأوس والخزرج، عز عليهم أن يرضوا به، وقدروا للنبى - صلى الله عليه وسلم - شفقته عليهم وألمه لاجتماع العرب ضدهم. بيد أنهم قالوا: ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. وطال الحصار. قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم فى مثل الحصن من كتائبهم. فحاصروهم قريببا من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى: أثم هم أم لا؟ - هل احتلوا البلد أم لا؟ - قال: ووجهوا نحو منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتيبة غليظة فقاتلها المسلمون يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر، دنت الكتيبة - من المنزل - فلم يقدر النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا. وانكفأت الكتيبة المشركة مع الليل، فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم نارا. فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح. ورأى رسول الله ما بالناس من البلاء، والكرب، فجعل يبشرهم ويقول: والذى نفسى بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة! وإنى(1/264)
لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلى مفاتيح الكعبة! وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما فى سبيل الله. ص _232
ووقع ثقل المقاومة على أصحاب الإيمان الراسخ والنجدة الرائعة. كان عليهم أن يكبتوا مظاهر القلق التى انبعثت وتكاثرت فى النفوس الخوارة الهلوع، وأن يشيعوا موجة من الإقدام والشجاعة تغلب أو توقف نزعات الجبن والتردد التى بدت هنا وهنالك. وطبائع النفوس تتفاوت تفاوتا كبيرا لدى الأزمات العضوض. منها الهش، الذى سرعان ما يذوب ويحمله التيار معه كما تحمل المياه الغثاء والأوحال. ومنها الصلب، الذى تمر به العواصف المجتاحة، فتنكسر حدتها على متنه وتتحول رغوة خفيفة وزبدا. أجل من الناس من يهجم على الشدائد ليأخذها قبل أن تأخذه، وعلى لسانه قول الشاعر: تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما ومنهم من إذا مسه الفزع طاش لبه، فولى الأدبار. وكلما هاجه طلب الحياة وحب البقاء، أوغل فى الفرار. وقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف الجزوع موقفه فى معركة الأحزاب فقال: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). وعندما حاولت قريش اقتحام الخندق، وعندما حاولت احتلال بيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وعندما عجمت عود المرابطين تبحث عن نقطة رخوة؟ لتثب منها إلى قلب المدينة، كان أولئك المؤمنون الراسخون سراعا إلى داعى الفداء، يجيئون من كل صوب ليستيقن العدو أن دون مرامه الأهوال.. روى ابن إسحاق أن عائشة أم المؤمنين كانت فى حصن بنى حارثة يوم الخندق. وكان من أحرز حصون المدينة. وكانت أم سعد بن معاذ معها فى الحصن. قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. فمر سعد وعليه درع مقلصة خرجت منها ذراعه كلها، وفى يده حربته يرقل بها ويقول: لبث قليلا يشهد(1/265)
الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل ! ص _233
فقالت له أمه: الحق يابنى فقد - والله - أخرت.. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه فرمى سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل. ويظهر أن جراحة (سعد) كانت شديدة، وليس سعد بالرجل الذى يهاب المنايا. ولكنه عميق الرغبة فى متابعة الجهاد حتى يستقر أمر الإسلام وتنكس راية خصومه. فدعا الله قائلا : "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهدهم، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة!. ودعوة سعد الأخيرة تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهود وتمزيقها المعاهدة القائمة. ومسلك بنى إسرائيل بإزاء المعاهدات التى أمضوها قديما وحديثا يجعلنا نجزم بأن القوم لا يدعون خستهم أبدا، وأنهم يرعون المواثيق ما بقيت هذه المواثيق متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، فإذا وقفت تطلعهم الحرام نبذوها نبذ النواة. ولو تركت الحمير نهيقها، والأفاعى لدغها، ترك اليهود نقضهم للعهود. وقد نبه القرآن إلى هذه الخصلة الشنعاء فى بنى إسرائيل، وأشار إلى أنها أحالتهم حيوانا لا أناسى، فقال: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). ونقل سعد إلى خيمة بالمسجد، لتقوم على تمريضه إحدى المؤمنات الماهرات. وجاء المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه: هل من شىء يقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم . اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا!. وعن عبد الله بن أوفى دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم". ص _234(1/266)
والله تبارك وتعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشىء استماعه لهتاف مجتهد، أن يبارك له سعيه، أو دعاء صابر، أن يجمل له العاقبة. وقد أفرغ المسلمون جهدهم فى الدفع عن رسالتهم ومدينتهم، حتى لم يبق فى طوق البشر مدخر، فبقى أن تتدخل العناية العليا لتقمع صعر الظالم وتقيم جانب المظلوم. ومن ثم أخذ سير المعركة يتطور على نحو لا يدرك الناس كنهه. (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر) المدثر: 31، ضاق الأعراب النازلون بالعراء ذرعا لهذا المقام الغريب، لقد خيموا حول أطراف يثرب أياما لا تؤذن بدايتها بانتهاء. وهم لم يجيئوا ليستنفدوا أقواتهم أمام خندق صعب الاجتياز، وجبال رابط المسلمون أمامها، واستقتلوا دون أن يقترب أحد منها. ثم إن الجو اغبرت أرجاؤه وترادفت أنواؤه. وهبت الرياح نكباء موحشة الصفير، تكاد فى هبوبها تطوى الخيام المبعثرة وتطير بها فى الآفاق. والصلة بين أولئك الحلفاء لا تغرى بدوام الثقة. إن غطفان وقبائل نجد أقبلت يحدوها السلب والنهب، وهى قد قبلت العودة من حيث أتت، عندما أغريت ببعض ثمار المدينة لولا أن المسلمين كبر عليهم أن يطعموهم منها رهبا. وماذا صنعت قريظة ؟ نقضت الموثق ونكصت عن الهجوم منتظرة من العرب أن يقوموا هم به! إن يهوديا خرج يطيف بحصن المسلمين فنزلت إليه صفية بنت عبد المطلب فقتلته، ولا غرو، فهى أخت حمزة! وتلفت أبو سفيان يمنة ويسرة، يتطلب عونا على ما يبغى فلا ير مأمنا، مما أوقع الوهن فى قلبه، وصفوف قريش معه. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف هذا التصدع الخفى فى صفوف الأحزاب! فاجتهد أن يبرزه ويوسع شقته ويستغله لجانبه. فلما جاءه نعيم بن مسعود مسلما، أوصاه أن يكتم إسلامه، ورده على المشركين يوقع بينهم، وقال له: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت. فإن الحرب خدعة . ص _235(1/267)
فخرج (نعيم) حتى أتى بنى قريظة - وكان لهم نديما فى الجاهلية - فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودى إياكم وخاصة ما بينى وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره. وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم! فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم. فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم، ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتي تناجزوه. فقالوا له: لقد أشرت بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا. فقال لأبى سفيان ومن معه: قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا، وإنه قد بلغنى أمر رأيت على حقا أن أبلغكموه، نصحا لكم، فاكتموا عنى. فقالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلى وعشيرتى وأحب الناس إلى، ولا أراكم تتهموننى. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عنى. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، كان من صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا(1/268)
نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم. ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى - إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال - أن تتشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل فى بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذى حدثكم به نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة، إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت ص _236(1/269)
الرسل إليهم بهذا - إن الذى ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد القوم أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، ان كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم . * * * وهكذا أفلح المسلمون فى فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم. فما مضت أسابيع ثلاثة على ذلك الحصار المضروب حتى دب القنوط والتخاذل فى صفوف المهاجمين على حين بقيت جبهة المدافعين سليمة لم تثلم. وفى ليلة شاتية، لفحت سبراتها الوجوه والجلود، وأقعدت الرجال فى أماكنهم ينشدون الدفء، ويفرون من القر المتساقط على الصخور والرمال، اتجهت نيات القوم إلى اتخاذ قرار حاسم فى هذا القتال الفاشل! وكأنما كان زئير الرياح الهوج سوطا يلهب المهاجمين حتى لا يتوانوا فى الخلاص من هذا الموقف، ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء أسوار المدينة، وحوله أصحابه جاثمون فى مكانهم يرمقون الأفق بحذر، ويرقبون الغيب بأمل والظلام البارد الثقيل يرين على كل شىء فى الصحراء المترامية . قال حذيفة بن اليمان: رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها، تطن فى رياحها أصوات أمثال الصواعق، وما يستطيع أحدنا أن يرى إصبعه من قتامها السائد، ولم يكن على حلة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتى لا يجاوز ركبتى، فأتانى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنا جاث على الأرض. فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة. فقال: حذيفة؟ فتقاصرت فى موضعى وأنا أقول: بلى يا رسول الله - كراهية أن أقوم - فندبنى لما يريد وقال: إنه كائن فى القوم خبر فأتنى به. فخرجت وأنا أشد الناس فزعا وأشدهم قرا، فدعا لى بخير، فمضيت لشأنى كأنما أمشى فى حمام. إنها حرارة الإيمان وحماسة الطاعة جعلت الرجل يغلب بعاطفته المتقدة قسوة الجو. قال حذيفة: وأوصانى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين وليت - ألا أحدث فى القوم حدثا حتى آتيه. فلما دنوت(1/270)
من معسكر القوم نظرت ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يمد يديه إلى ص _237
النار مستدفئا ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل. ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فوضعت سهما فى كبد قوسى وأردت أن أرميه، ثم ذكرت وصاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمسكت، ولو رميته لأصبت. وأحسست عصف الريح فى جنبات المعسكر لا تقر قدرا ولا نارا ولا بناء. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، قد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله، ما أطلق عقاله إلا وهو قائم... ورجع حذيفة إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقص عليه ما رأى.. وطلع النهار فإذا ظاهر المدينة خلاء.. ارتحلت الأحزاب، وانفك الحصار، وعاد الأمن، ونجح الإيمان فى المحنة! وهتف رسول الله يقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شىء بعده..!!. * * * رجعت الطمأنينة إلى النفوس، وظهر خيبة الأحزاب بعد ما أقبلت من كل فج لتجتاح يثرب، وظهرت صلابة المسلمين فى مواجهة الأزمات المرهقة. ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد هذه النتيجة الباهرة: الآن نغزوهم ولا يغزوننا... ص _238(1/271)
مع قريظة انقضت حشود الأحزاب حول المدينة، وعادت المطى بها من حيث أتت تذرع رحاب الصحراء وليس تحمل معها إلا الفشل والخيبة؟ وبقى يهود قريظة وحدهم، أو بقوا وبقيت معهم غدرتهم التى فضحت طواياهم، فأصبحوا وأمسوا أشبه بالمجرم الذى ثبتت إدانته، فهو يرقب ـ بوجه كالح ـ قصاص العدالة منه. وكانت مشاعر الغيظ فى أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها. إنهم هم الذين استخرجوا العرب استخراجا، واستقدموهم إلى دار الهجرة ليجتاحوها من أقطارها، ويستأصلوا المسلمين فيها. إن جراحات المسلمين لطردهم من ديارهم ومطاردتهم فى عقيدتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم لكل ناهب ومغتال، لما تندمل بعد، بل لن تندمل أبدا. فكيف ساغ لأولئك الخونة من بنى إسرائيل أن يرسموا بأنفسهم الخطة لإهلاك الإسلام وأبنائه على هذا النحو الذليل؟ ثم ما الذى يجعل بنى قريظة خاصة ـ وهم لم يروا فى جوار محمد إلا البر والوفاء ـ يستدبرون بأسلحتهم منضمين إلى أعداء الإسلام كى يشركوهم فى قتل المسلمين وسلبهم؟! وها قد دخل فى حصونهم حيى بن أخطب رأس العصابة التى طافت بمكة ونجد تحرض الأحزاب على الله ورسوله، وتزعم أن الوثنية أفضل من التوحيد.. لذلك، ما إن وثق المسلمون من منصرف الأحزاب عن المدينة حتى أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤذنا يؤذن فى الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة. والأذان للقتال فى هذه الصحوة المشرقة بالظفر والنجاة قرع مسامع المسلمين نديا جليا، فهم فى غمرة من الشعور بتأييد الله وملائكته لهم. أين هم اليوم مما كانوا عليه بالأمس القريب؟ إنهم مدينون بحياتهم وكرامتهم للعناية العليا وحدها. أما خصومهم، فإن قوى الكون المسخر بإذن الله هى التى فضت جموعهم وقلت حدودهم. فلا غرو إذا قال رسول الله للمؤمنين ـ محدثا عن الروح الأمين : " ما وضعت الملائكة السلاح بعد.. إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد(1/272)
إليهم فمزلزل بهم ". ص _239
وقد صدع الرسول بالأمر وشدد على المسلمين أن يسارعوا فى إنفاذه. روى البيهقى أن رسول الله قال لأصحابه: عزمت عليكم ألا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بنى قريظة، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم فقالت طائفة من المسلمين: إن رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا. وقالت طائفة: والله إنا لفى عزيمة رسول الله، وما علينا من إثم. فصلت طائفة إيمانا واحتسابا وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين. وذلك يمثل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر مادامت عن اجتهاد برىء سليم. والناس غالبا أحد رجلين، رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة، لا يعدوها، ورجل يتبين حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرف فى نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها، ولو خالف الظاهر القريب. وكلا الفريقين يشفع له إيمانه، واحتسابه، سواء أصاب الحق أو ند عنه! ومن العلماء من أهدر الوقت المعين للصلاة بعذر القتال. وذلك مذهب البخارى وغيره، وهذا ـ عندى ـ أدنى إلى الصواب. فإن ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهم ما يحدد رسالة المسلم فى الحياة، بل إنه لا يفهم دينه فهما صحيحا إلا إذا فقه هذا الترتيب المطلوب. إن الإسلام تعاليم وأعمال شتى، فيها الفرائض وفيها النوافل. ولابد أن نعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة. فالرجل الذى يستكثر من أعمال التطوع فى الوقت الذى يهمل فيه فرائض لازمة.. رجل ضال. والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان، كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم. وكما أن الجسم لا يقوم بالمواد النشوية وحدها، أو الزلالية وحدها، بل لابد من استكمال جمل منوعة من الغذاء، وإلا تعرض الجسم لعلل قد تنهكه أو تقتله. فكذلك الدين. إنه لا قيام له فى كيان الفرد أو فى صفوف الجماعة إلا بجملة من الفرائض الملونة، تصون حياته وتضمن عافيته ونماءه. وعلى المسلم أن يقسم وقته وأن ينظمه على هذه الفرائض المطلوبة فلا يشغله واجب عن واجب،(1/273)
وبالأحرى لا تشغله نافلة عن واجب! ص _240
وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مباغتة بنى قريظة قبل أن يستكملوا عدتهم ويقووا حصونهم، هو الواجب الأول فى تلك الساعة فلا ينبغى أن ينشغل المسلم عنه ولو بالصلاة. فحدود وقت الصلاة تذوب أمام ضرورات القتال. وتستطيع - على ضوء هذا الإرشاد النبوى - أن تحكم على مسالك المسلمين اليوم. إن المدرس الذى ينشغل عن تعليم تلامذته، والتاجر الذى ينشغل عنه تثمير ثروته، والموظف الذى ينشغل عن أداء عمله لا يقبل الله من أحدهم عذرا أبدا فى تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلى مائه ركعة، أو قرأ ألف آية، أو عد أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة. كما يفعل جهال المتصوفة. ذلك أنه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها فى محاربة جهلها وفقرها وفوضاها. والجهاد العام فريضة لا يغض من قدرها شىء؟ ولا تزاحمها على وقتها عبادة كما رأيت. * * * حمل راية المسلمين إلى حصون قريظة على بن أبى طالب، واستبق المسلمون يحتشدون حولها. حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود كان القوم لا يزالون على غوايتهم، فقد نظروا إلى المسلمين، ثم سبوا رسول الله ونساءه سبا قبيحا. فرأى على أن يصرف النبى - صلى الله عليه وسلم - بعيدا عن أولئك السفهاء، فاعترض طريقه وهو مقبل قائلا : يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث. فقال: لم؟ أظنك سمعت لى منهم أذى؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا من حصونهم قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا. هذه خلال اليهود، يسفهون إذا أمنوا، ويقتلون إذا قدروا، ويذكرون الناس بالمثل العليا إذا وجلوا، ليستفيدوا منها وحدهم لا لشىء آخر. أما العهود، فهى آخر شىء فى الحياة يقفون عنده. على أن سفاهتهم لم تغنهم فقد أحكم(1/274)
المسلمون الحصار عليهم، وأمسكوا بخناقهم. فاستيقن القوم أن الاستسلام لا محيص عنه، وامتلأت قلوبهم باليأس والفزع. ص _241
وقال (كعب) سيد بنى قريظة: يا معشر يهود قد نزل بكم صت الأمر ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هى؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه. فوالله لقد تبين لكم، إنه لنبى مرسل، وإنه الذى تجدونه فى كتابكم فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فاذا أبيتم على فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا. ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم على هذه، فان الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها. فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة. قالوا: نفسد سبتنا علينا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما. وحاول بنو قريظة أن يظفروا بصلح كالذى ناله إخوانهم بنو النضير من قبل، بيد أن المسلمين أبوا عليهم إلا أن يسلموا دون قيد أو شرط، فإن ما أسلف هؤلاء من جرم بين وغدر شائن، أحفظ عليهم الصدور، فلم يبق فيها مكان لسماح، وتمحض الموقف للعدل المجرد يقر الأمور فى نصابها كيف شاء. واستقدم اليهود ـ وهم محصورون ـ أبا لبابة بن عبد المنذر يستشيرونه. أينزلون على حكم محمد؟ فقال لهم: نعم، وأشار إلى حلقه، كأنه ينبههم إلى أنه الذبح! ثم أدرك ـ لفوره ـ أنه خان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فمضى هائما على وجهه حتى أتى مسجد المدينة. فربط نفسه على سارية فيه، وحلف ألا يفك منها حتى يتوب الله عليه. وقد قبل الله منه ندمه، ونزلت فيه بعد أيام الآية:(1/275)
(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) [التوبة: 102] واستمر الحصار خمسا وعشرين ليلة سمح المسلمون فى أثنائها لليهود الذين رفضوا الغدر بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيام الأحزاب أن يخرجوا فجزوهم عن وفائهم خيرا. وخلوا سبيلهم، ينطلقون حيث يبغون. ثم قرروا أن يهجموا على الحصون المغلقة ويقتحموها عنوة . ص _242
فصاح على: ياكتيبة الإيمان ـ ومعه الزبير بن العوام ـ والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم. فقال بنو قريظة: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ. فاستنزلوا من حصنهم وسيقوا إلى محبسهم، حتى جىء بسعد بن معاذ ليقضى فى حلفائه بما يرى.. وكان (سعد) سيد الأوس وهم حلفاء قريظة فى الجاهلية، وقد توقع يهود أن هذه الصلة تنفعهم، وتوقع الأوس أيضا من رجلهم أن يتساهل مع أصدقائهم الأقدمين. فلما استقدمه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصدر حكمه، جاء من الخيمة التى يمرض فيها إثر إصابته بسهام الأحزاب، واكتنفه قومه يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك.. لكن سعدا لم ينس ـ فى ضجيج الرجاء الموجه إليه ـ أن الإسلام وأبناءه، والمدينة وثمارها وحرثها ونسلها وحرماتها، لم تنج من وطأة الأحزاب الهاجمين، إلا بأعجوبة خارقة. وأن بنى قريظة هؤلاء ومن آووهم، كانوا المحرضين والشركاء المقبوحين فى هذه الحرب التى أعلنت لاستئصال التوحيد الحق واجتياح أهله. ولم ينس سعد كيف نقضت قريظة عهدها، واستقبلته بالألفاظ البذيئة عندما ذهب يناشدها الوفاء! ألم يقل لهم يومئذ: أخشى عليكم مثل يوم بنى النضير وأمر منه؟ فكان ردهم عليه، أكلت أير أبيك!! لذلك ما لبث سعد أن صاح بقومه ـ وقد أكثروا عليه الرجاء ـ: قد آن لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. * * * * وحكم سعد أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية وتقسم الأموال!. وأقر النبى هذا القضاء الحازم قائلا لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات(1/276)
. وحفرت الخنادق بسوق المدينة لتنفيذ هذا الحكم، وسيق إليها مقاتلة اليهود أرسالا ـ طائفة بعد أخرى ـ ليدفعوا ثمن خيانتهم وغدرهم. قال اليهود لسيدهم كعب وهم يساقون لمصارعهم: ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع وإنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو ـ والله ـ القتل. ص _2 ص
أجل.. هو القتل. وإنما تقع تبعات الحكم به على من تعرض له بسوء صنيعه. وبما أسلف من نيات خبيثة لم يسعفها الحظ فتحقق، ولو قد تحققت لكان ألوف المسلمين هلكى تحت أقدام الأحزاب المنسابة من كل ناحية يحرضهم ويؤازرهم أولئك اليهود. وربما كانت مغامرات نفر من طلاب الزعامة سببا فى هذه الكارثة التى حلت ببنى قريظة، ولو أن حيى بن أخطب وأضرابه سكنوا فى جوار الإسلام وعاشوا على ما أوتوا من مغانم، ما تعرضوا ولا تعرض قومهم لهذا القصاص الخطير. لكن الشعوب تدفع من دمها ثمنا فادحا لأخطاء قادتها. وفى عصرنا هذا، دفع الروس والألمان وغيرهم من الشعوب أثمانا باهظة، لأثرة الساسة المخدوعين.. ولذلك ينعى القرآن على أولئك الرؤساء مطامعهم ومظالمهم التى يحملها غيرهم قبلهم: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار) [إبراهيم: 28، 29]. لقد جىء بحيى ليلقى جزاءه. وحيى ـ كما علمت ـ جرثومة هذه الفتن! فنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس؟ لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر، وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل! ثم جلس، فضربت عنقه! وفى ذلك يقول الشاعر: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغى العز كل مقلقل والحق أن من مشركى قريش ومن رجال يهود أناسا واجهوا الموت بثبات . ولن تعدم المبادئ الباطلة والنحل الهازلة أتباعا يفتدونها بالأرواح(1/277)
والأموال، غير أن شيئا من هذا لا يجعل الباطل حقا ولا الجور عدلا. إن موقف اليهود من الإسلام بالأمس، هو موقفهم من المسلمين اليوم. فألوف من إخواننا ذبحهم اليهود فى صمت وهم يحتلون فلسطين. والغريب أن اليهود تركوا من نصب لهم المجازر فى أقطار أوروبا، وجبنوا عن مواجهتهم ص _244
بشر! واستضعفوا المسلمين الذين لم يسيئوا إليهم من اثنى عشر قرنا، فنكلوا بهم على النحو المخزى الفاضح، الذى لا يزال قائما فى فلسطين.. تشهده وتؤيده وتسانده دول الغرب. * * * فى طرد الأحزاب ودحر قريظة، نزلت الآيات: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا) [الأحزاب: 25 ـ27] فقد المسلمون فى هذا الصراع مع المشركين أولا، ومع أهل الكتاب ثانيا، عددا يسيرا من رجالهم منهم (سعد بن معاذ) أجاب الله دعوته فمات شهيدا من جراحته التى أصابته يوم الأحزاب بعد أن شفى الله غيظه من يهود قريظة، وبعد أن تبين فشل قريش فى هجومها على المدينة، وانقلابها لتغزى فى عقر دارها، لا لتغزو الآخرين. ولم تنته الخصومة بين المسلمين واليهود بانهزام قريظة وانكسار شوكتها، فإن بعض مؤلبى الأحزاب على الإسلام فر إلى خيبر لائذا بحصونها مستظهرا بإخوانه فيها، مثل أبى رافع بن أبى الحقيق، وهو شريك حيى فى التطواف بالقبائل يستجلبها إلى يثرب بغية الإتيان على الإسلام وأهله. وليس يؤمن لليهود شر ما بقيت لهم قدرة على فعله. وقد صور حديث الرسول نقمة اليهود على الإسلام بقوله: " ما خلا يهودى بمسلم إلا هم بقتله " . ولا نعرف لهذه النقمة الدفينة علة، إلا انحراف أصحابها عن الجادة، ومن حق المسلمين أن يحذروها، وألا يدعوا لها بقية تنمو على الزمن. لذلك خرج من(1/278)
المدينة خمسة من الخزرج ذاهبين إلى خيبر، بغيتهم القضاء على أبى رافع وإلقاء الذعر فى قلوب شيعته، وقد أمَّر الرسول عليهم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة. وقدم المغامرون أرض خيبر. وانتهوا إلى دار ابن أبى الحقيق وقد أظلهم المساء. قال عبد الله بن عتيك لصحبه ـ عندما دنوا من الحصن ـ: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر. قال: فاحتلت لأدخل الحصن، فإذا الخدم فقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه!! فخشيت أن أعرف، فغطيت رأسى وجلست كأنى أقضى حاجة. ص _245(1/279)
فقال البواب ـ بعدما استرجعوا حاجتهم ـ : من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت واختبأت فى مربط الدواب عند باب الحصن. وتغشى أبو رافع وصحبه، وأخذوا يسمرون حتى ذهبت ساعة من الليل ثم انصرف عنه جلساؤه قافلين إلى بيوتهم، وهدأت الأصوات فما أسمع حركة. وخرجت، وأنا أعرف أين وضع البواب مفاتيح الحصن فأخذتها وفتحت الباب حتى إذا أحس بى القوم انطلقت على مهل. ثم عمدت إلى أبواب غرفهم فغلقتها من ظاهر. ثم صعدت إلى أبى رافع ـ حيث يبيت فى العلالى ـ فإذا البيت مظلم قد أطفئ سراجه. فلم أدر أين الرجل؟ فقلت: يا أبا رافع! قال: من هذا؟ فعمدت نحو الصوت فضربته، فصاح ولم تغن الضربة شيئا. وجئت كأنى أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ ـ وغيرت صوتى ـ قال: لأمك الويل، دخل على رجل فضربنى بالسيف! فعمدت إليه فضربته ضربة ثانية، فصاح، وقام أهله، فجئت مرة أخرى إليه وهو مستلق على ظهره فأجهزت عليه ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل، فسقطت منه فانخلعت رجلى، فعصبتها وأتيت أصحابى أحجل. وعاد القوم إلى المدينة يبشرون من وراءهم أنهم أزاحوا من طريق الدعوة عقبة كأداء. تضعضع الكفر بعد هذه الوقعات الغليظة. ورست أصول الإسلام واطمأنت دولته. فما انتهت السنة الخامسة للهجرة حتى أصبح المسلمون قوة تفرض نفسها وتذيق المعاندين بأسها. واستيقنت قريش وأحلافها أن رد المسلمين إلى عبادة الأوثان ضرب من المستحيل، كما استيقن اليهود أن خصامهم الخبيث للدين الجديد والرسالة الخاتمة لم يزدهم إلا خبالا. ولم تقع بعد غزوة الأحزاب هذا العام إلى أخريات السنة السادسة ـ أى إلى عمرة الحديبية ـ أحداث ذات بال. حاولت هذيل أن تجمع للإغارة على المدينة، فقتل قائدها خالد بن سفيان، فقعدت. وهجم لصوص الأعراب على المدينة يقودهم (عيينة بن حصن) فى خيل لغطفان، واستاقوا إبلها ثم ولوا بها هاربين. غير أن سلمة بن الأكوع صرخ بأهل المدينة منذرا، وتبع المغيرين وحده يرميهم(1/280)
بالنبل ويسترد منهم اللقاح المنهوبة حتى أدركه فرسان المسلمين، فلما رآهم المشركون فروا بعدما قتل بعضهم وتركوا ما معهم. ويروى البخارى أن ذلك كان بعد الحديبية لا قبلها، ولعله أصح. . وفى هذه الفترة تزوج النبى بأم حبيبة بنت أبى سفيان، وكانت مهاجرة مع زوجها بالحبشة. فارتد صاحبها وهلك، وبقيت وحدها . ص _246
فرأى النبى- إعزازا للسيدة التى تركت أباها- وهو زعيم مكة- وآثرت الهجرة إلى الله على البقاء فى كنفه- أن يتزوجها، فأرسل إلى النجاشى مهرها ووكله عنها فى العقد عليها. وتزوج كذلك زينب بنت جحش، وسنتكلم عن تفاصيل ذلك فى الباب الذى نفرده بعد لتعدد الزوجات، وزوجات الرسول- كذلك، ويقال: إن الإسلام وقع فى قلب (عمرو بن العاص) فى هذه الأيام. فقد أثاره ما يلقاه محمد من ظفر، وقال لبعض صحبه: إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا. ثم اقترح عليهم أن يلحقوا بالحبشة، ويرقبوا نتائج الصراع بين المسلمين وقومهم!! فلما ذهب إلى الحبشة ورأى إكرام نجاشيها للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ينتمى إليه، مال إلى الدخول فى دين الله. ولكنه كتم ما بقلبه حتى اقترب فتح مكة، والتقى بخالد بن الوليد. وكان خالد قد أجمع أمره على الإسلام وانتوى الذهاب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مهجره ليتبعه، قال له عمرو: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم ـ وضح الطريق ـ وإن الرجل لنبى! أذهب- والله- فأسلم، حتى متى؟ وسر عمرو أن يجد له صاحبا كخالد، فصارحه بما فى نفسه، وانطلق الرجلان إلى يثرب مسلمين مهاجرين. وقصة إسلامهما- كما قلنا- قبيل الفتح، فإن خالدا كان فى عمرة الحديبية قائدا لجيش قريش، وهى تصد المسلمين عن زيارة البيت العتيق . ص _247(1/281)
- 7 - طورجديد عمرة الحديبية جاء تفكير المسلمين فى زيارة المسجد الحرام بداية لمرحلة متميزة فى تاريخ دعوتهم، أليسوا يعالنون بعزمهم على دخول مكة وهم الذين طردوا منها بالأمس وحوربوا حيث استقرت بهم النوى؟ وظلت حالة الحرب قائمة بينهم وبين قريش لم تسفر عن نتيجة حاسمة؟ فكيف ينوون العمرة فى هذه الظروف؟ والجواب أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد بهذا النسك المنشود إقرار حق المسلمين فى أداء عبادتهم، وإفهام المشركين أن المسجد الحرام ليس ملكا لقبيل يحتكر القيام عليه ويمكنه الصد عنه، فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحج إليه واجب على كل من بلغه أذان أبى الأنبياء من قرون: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [الحج: 26. 27]. ومن ثم فليس يجوز لأهل مكة أن يحجبوا المسلمين عنه. ولئن استطاعوا قديما إقصاءهم، فإنهم ـ بعدما وقع من قتال ـ لن يصروا على خطئهم القديم. وإحرام النبى وصحبه بالعمرة فحسب ـ وهم يريدون دخول مكة ـ آية على الرغبة العميقة فى السلم، وعلى الرغبة فى نسيان الخصومات السابقة، وتأسيس علائق أهدأ وأرق . ومتى يحدث هذا؟ بعد أن استفرغت قريش جهدها فى إيذاء المسلمين، وبعدما بدا فشلها الذريع فى ذلك. لقد استمرت بضع سنين تقاتل وتبذل من دمها ومالها لتهزم الإسلام، فلم ترجع آخر الأمر إلا بالخسائر الفادحة والأزمات العضوض، على حين رسخت أقدام ص _248(1/282)
المسلمين، وعلت راياتهم، وانكمش عدوهم. وهاهم أولاء يخرجون الى مكة عتادا مخبتين، لا غزاة منتقمين. أجل إنهم لا يبغون إلا أن ينالوا مثل ما لغيرهم من حق الاعتمار والحج، ولا يسوغ أن يحرموا من ذلك أبدا. وبذلك القصد السمح المهذب، استنفر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمهور المسلمين وأعراب البوادى، وآذنهم أنه يريد العمرة ولا يريد قتالا. وساق أمامه الهدى الذى سيذبح ليطعم فقراء مكة، الفقراء الذين حشدوا لاستئصاله يوم الأحزاب.. أكان الكافرون برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفقهون هذه النية ويقدرون مكان صاحبها؟ لا.. إنهم بقوا على العهد بهم من فساد الضمير ونية السوء. فالأعراب المنتشرون حول يثرب، ومن على شاكلتهم من المنافقين، عرفوا أن أهل مكة سوف يقاتلون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر قتال. وأنه إذا أبى إلا زيارة البيت- كما أعلن- فلن تدعه قريش حتى تهلكه أو تهلك هى دون إبلاغه مأربه، فهى عمرة محفوفة بالأخطار فى نظرهم، والفرار منها أجدى!! ولو فرض أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجح فى مقصده هذا، فالاعتذار إليه بعد عودته سهل. (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) [الفتح: 11، 12]. وخرج المؤمنون الواثقون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعددهم قريب من ألف وأربعمائة، وذلك فى ذى القعدة من السنة السادسة للهجرة، وساروا ملبين يطوون الطريق إلى البيت العتيق. فلما بلغوا "عسفان" على مرحلتين من مكة، جاء الخبر إلى المسلمين أن قريشا خرجت على بكرة أبيها، قد أقسمت ألا يدخل بلدهم مسلم، وأن جيشهم استعد للنضال، يقود خيله خالد بن الوليد. وبدأ شبح(1/283)
الحرب أمام الأعين يملأ هذه البقاع المحرمة بالدماء والأشلاء، والمسلمون لم يجيئوا لهذا، وما كان لأهل مكة أن يلجئوهم إليه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابونى كان ذلك الذى ص _249
أرادوا! فإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة؟ فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة - يعنى إلى الموت -. * * * ومضيا مع الرغبة عن القتال، وتخليصا للنسك المقصود من شائبة تحد، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟ فجاء رجل من أسلم فسلك بهم طريقا وعرا أجرد، شق على المسلمين اجتيازه، ثم أفضى بهم إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى، انثنى المسلمون عندها يمينا ليهبطوا عند الحديبية أسفل مكة! ولم تخف هذه الحركة عن فرسان قريش، فتراكضوا راجعين إلى مكة كى يحولوا بين المسلمين ودخولها. ومضى النبى - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه فى وجهتهم المحددة، فإذا بناقته تبرك لا تجاوز مكانها! ودهش الناس لما عراها فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألونى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم أمر الناس أن يحلوا حيث انتهى بالناقة المسير . ونزل المسلمون كما أمروا ينتظرون مع الغد القريب أن تفتح لهم أبواب مكة فيطوفوا ويسعوا، ثم يعودوا وافرين رابحين. إنهم واثقون من إدراك بغيتهم. ولماذا يشكون، وقد سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشريات كثيرة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين، محلقين رءوسهم ومقصرين؟ أما قريش فقد ذعرت لهذا الزحف المباغت، وفكرت جادة فى إبعاده عن مكة مهما كلفها ص _250(1/284)
من مغارم. وذلك أنها نظرت إلى الأمر من زاوية ضيقة، فرأت أن مهابتها ستنزع من أفئدة الناس قاطبة إذا دخل المسلمون بلدهم على هذا النحو، بعدما وقع من حروب طاحنة. غير أن قريشا تعرف حروجة موقفها إن نشب قتال جديد. فحجتها فيه أمام نفسها وأمام أحلافها داحضة. وقد ينتهى بكارثة تؤدى بكيانها كله، ولهذا سيرت الوسطاء يفاوضون محمدا، علهم ينتهون معه إلى مخلص من هذه الورطة!! وكان أول من جاءه "بديل بن ورقاء" فى رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذى جاء به هنا؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما حرمته. فرجعوا إلى قريش يقولون: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: إن جاء لا يريد قتالا.. فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب! ثم بعثت قريش "مكرز بن حفص "، فعاد بما عاد به بديل الخزاعى. ثم بعثوا سيد الأحابيش "الحليس بن علقمة"، فلما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه. فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى، عاد إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله، إعظاما لما شاهد فقال لهم ذلك، فأجابوه: اجلس إنما أنت أعرابى لا علم لك. فاستشاط الحليس وصاح: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذى نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين من جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.. فقالوا: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به. ثم بعثوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "عروة بن مسعود". وكره عروة أن يعود من مفاوضة المسلمين فيسمعه رجال قريش ما يسوءه فقال: يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنى ولد. وقد سمعت(1/285)
بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيضتك لتقضها؟ ـ إلى قومك لتجتاحهم ـ إنها قريش خرجت معها العوذ ص _251
المطافيل - يقصد النساء والأطفال- قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وايم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. وكان أبو بكر خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع، فلما وصل فى حديثه إلى التعريض بالمسلمين قال له هازئا: أمصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟! فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبى قحافة! فرد عروة على أبى بكر يقول: أما والله لولا يد كانت لك عندى لكافأتك بها. ولكن هذه بهذه. وعاود عروة حديثه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل يتناول لحيته وهو يكلمه - كأنه ينبهه الى خطورة ما سيقع بقومه - إلا أن المغيرة بن شعبة كان يقرع يده كلما فعل ذلك وهو يقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألا تصل إليك. فقال عروة له: ويحك ما أفظك وأغلظك. ثم سأل النبى: من هذا يا محمد؟ فأجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يبتسم -: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال عروة للمغيرة: أى غدر، هل غسلت سوءتك إلا بالأمس. وقد رد النبى - صلى الله عليه وسلم - على عروة بما يقطع اللجاجة وينفى الشبهة. إنه لا يبغى حربا، هانما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره فلا يلقى صادا ولا رادا. ورجع عروة ينوه بإجلال الصحابة لرسول الله، ويقول : إنى والله ما رأيت ملكا فى قومه قط مثل محمد فى أصحابه. لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا فروا رأيكم . * * * إن الرجال الذين تكلموا باسم قريش فى هذه المفاوضات لم تنهض لهم حجة، بل إنهم عادوا إلى أهل مكة وهم أميل الى ملاينة المسلمين وتمكينهم من أداء نسكهم، ولم يلحف بعضهم فى التصريح بذلك(1/286)
إلا لما لمسه من كبرياء قريش وعزوفها عن الحق بعدما تبين. إن النزق استبد بهم وأطاش ألبابهم فقرروا ألا يدخل المسلمون البلد الحرام، وليكن ما يكون.. وبقى المسلمون فى أماكنهم يلتمسون للمشكلة حلولا أخرى أفضل من اقتحام مكة فى هجوم عام. وحاول فريق من السفهاء أن يشعل المعركة، لكن المسلمين لزموا الهدوء وملكوا أعصابهم. ص _252
فعن ابن عباس أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا وأتى بهم إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وكانوا رموا فى المعسكر بالحجارة والنبل. وفى فظاظة قريش وسماحة المسلمين نزل قوله عز وجل: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما) [الفتح: 26]. ومن السكينة التى تنزلت على المسلمين أن رسل قريش كانت تغدو على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتروح، فلا يعترضها أحد، أما رسل المسلمين إلى قريش فقد تعرضت للهلاك: كاد خراش بن أمية الخزاعى يقتل، لولا أن أنقذه الأحابيش، فرجع وقد عقر جمله. وكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله ليبلغ أهل مكة حقيقة مجيئه، وأنه يريد العبادة لا الحرب.. والرسل لا تقتل، بيد أن غليان قريش أفقدها الوعى. والرجل إذا فقد وعيه لا يبالى أن ينتحر، وقد انحرف كبراء مكة عن الصراط السوى ولم يكترثوا للمصير القاتل الذى ينتظرهم إذا ركبوا رءوسهم. فلو اصطدم المسلمون بهم ما قامت لهم قائمة، ولأصيبت حرمات مكة فى صميمها. (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) [الفتح: 22. 23]. ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره أن تجرى الأمور على هذا النحو، ورأى أن يعيد محاولاته لإقناع أهل(1/287)
مكة، بتركه يزور، ويعود لشأنه. فدعا عمر بن الخطاب ليذهب إلى القوم يحدثهم بما خرج المسلمون فيه. فقال عمر: يا رسول الله، ليس بمكة أحد من بنى عدى يغضب لى إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته لا تزال بمكة وإنه مبلغ عنك ما أردت. ص _253
ودخل عثمان مكة فى جوار قريبه أبان بن سعيد بن العاص، واستطاع أن يبلغ رسالته كاملة، وأن يفهم من لقيه الحقيقة الكريمة التى جاء المسلمون قاطبة بها. فكان الرد الذى حظى به عثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله. ومما يذكر هنا أن مكة لم تخل من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، كانت قلوبهم معلقة بالمسلمين المحجوزين خارج مكة. لقد انتشر الإسلام سرا فى بيوت كثيرة طالما تشوفت إلى اليوم الذى تستطيع فيه أن تظهر إيمانها، وتتخلص من سطوة الكفر عليها. ويظهر أن عثمان اتصل بأولئك النفر المؤمنين وبشره بقرب الفتح، فرأت قريش أن عثمان قد عدا الحدود المعهودة، وأمرت باحتباسه عندها، وشاع لدى المسلمين أن عثمان قتل. وحين بلغت هذه الشائعة مسامع النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نبرح حتى نناجز القوم . ودعا الناس إلى مبايعته، وكان تحت شجرة متشابكة الغصون. فهرع أصحابه إليه يبايعونه على الموت أو على ألا يفروا. حدث جابر بن عبد الله بعدما كف بصره قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية : أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. وروى عن جابر أن عبدا لحاطب جاء يشكوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: ليدخلن حاطب النار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كذبت، لا يدخلها، شهد بدرا والحديبية. وتسمى هذه البيعة " بيعة الرضوان " إشارة إلى قول الله فى أصحابها: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا). وقد قطعت الشجرة(1/288)
ونسى مكانها، وذلك خير، فلو بقيت لضربت عليها قبة وشدت إليها الرحال، فإن الرعاع سراع التعلق بالمواد والآثار التى تقطعهم عن الله. ص _254
عن طارق بن عبد الرحمن، انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبى - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثنى أبى أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة. قال: فلما كان العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها! وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم. وعند أخذ البيعة من المسلمين ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإحدى يديه على الأخرى وقال: هذه لعثمان . على أن عثمان لم يطل احتباسه، فإن قريشا جزعت أن تصيبه بأذى وهو من سراتها بمكان، وسارعت إلى بعث "سهيل بن عمرو" ليعقد مع محمد صلحا. ولم يكن يعنيها فى هذا الصلح إلا أن يرجع المسلمون هذا العام، على أن يعودوا بعد إذا شاءوا، وذلك إبقاء على مكانة قريش فى العرب!! * * * * واستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفاوض قريش وهو أرغب ما يكون فى موادعة القوم، وإن كان قادرا على تحكيم السيف وإنزال خصومه على منطقه الذى آثروه مذ صدوه عن البيت. وتكلم "سهيل " فأطال وعرض الشروط التى يتم فى نطاقها الصلح، ووافق عليها النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يبق إلا أن تسجل فى وثيقة يمضيها الفريقان. وحدثت فى معسكر المسلمين دهشة عامة للطريقة التى سلكها رسول الله مع أوليائه ومع أعدائه. فأما مع أعدائه، فقد ذهب فى ملاينتهم إلى حدود بعيدة، وأولى به أن يقسو عليهم. وأما مع أصحابه - فإنه على غير ما ألفوا منه - لم يستشرهم فى هذا الاتفاق المقترح. مع أنه فى شئون الحرب والسلم التى سبقت، كان يرجع إليهم. وربما نزل على رأيهم وهو له كاره، لكنه اليوم ينفرد بالعمل ويقر ما يكرهون، على غير ضرورة ملجئة.. وقد شرحنا فى(1/289)
غير هذا المكان موقف النبى - صلى الله عليه وسلم - فى عمرة الحديبية خاصة، وأبنا أن تقدير الأمور لم يترك للنظر المعتاد، بل كان للإلهام الأعلى توجيهه الصائب. ص _256
فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب، إذ جاء ابن المفاوض عن قريش نفسه!.. جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يريد الالتحاق بالمسلمين، فقد دخل فى دين الله ولقى العذاب من أهله، وهاهو ذا يرسف فى الحديد، وتثقل به قيوده. ما كان المسلمون يشكون فى فتح مكة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قص عليهم رؤيا أنه دخلها، وطوف بالبيت العتيق فيها. فلما رأوا ما رأوا من شروط الهدنة وأمر الصلح والعودة، وتعنت سهيل مع النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وافتياته على شخصه، دخل عليهم من ذلك كله أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، ثم جاءت قصة أبى جندل فزادت الطين بلة. ورأى سهيل ابنه فقام إليه يضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا!! قال: صدقت. فجعل سهيل ينتر ابنه بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: "يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنوننى فى دينى؟! ". فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم. ونفذت القضية، وأعلنت خزاعة دخولها فى عقد المسلمين، وأعلنت بنو بكر دخولها إلى عقد قريش، ومضت شروط الهدنة..!. * * * * والنظرة الأولى لهذه الشروط تدل على أنها مجحفة بحقوق المسلمين مرضية لكبرياء قريش وحميتها الجاهلية، وقد تساءل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستنكرين: لماذا يردون إلى قريش من جاء منهم مسلما ولا ترد قريش من جاءها من المسلمين مرتدا؟ وفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشرط(1/290)
بأن من ذهب إليهم كافرا، فلا رده الله، وقد وقى المسلمون خبثه. أما المستضعفون من المسلمين، فستعيى قريش بأمرهم كما عجزت عن سابقيهم، وستكون العقبى لهم. ألم يكن النبى - صلى الله عليه وسلم - ومن معه مستضعفين، ثم نصرهم الله وخذل قريشا أمامهم؟ ثم هاجت فى نفوس المسلمين مرة أخرى خيبة الأمل. قد حدثوا أنهم داخلون فى المسجد ص _257
الحرام، وهاهم أولاء قد ارتدوا عنه، لكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين أنهم عائدون إلى دخوله كما وعدوا، فهو لم يذكر لهم أنهم سيطوفون به هذا العام. وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجئ. فلما فرغ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قضية الكتاب، قال لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا ـ ليتحللوا من عمرتهم ويعودوا إلى المدينة ـ فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك. فلما رأى المسلمون ما صنع النبى زال عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمره، فقاموا ـ عجلين ـ ينحرون هديهم، ويحلق بعضهم بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم. * * * ليت نيات الخير والشر تؤتى ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التى ظهرت فى عهد الحديبية الآنف. إنه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التى فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة. ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذى أبداه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد! لقد انفرط عقد الكفار فى الجزيرة منذ تم هذا العقد، فإن قريشا كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدى للدين الجديد. وعندما شاع نبأ تعاهدها(1/291)
مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية فى أنحاء الجزيرة وخصوصا لأن قريشا جمدت على سياستها النفعية واهتمت بشئونها التجارية فلم تجتهد فى ضم أحلاف لها، فى الوقت الذى اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافى والسياسى والعسكرى، ونجحت دعايتهم فى تألف قبائل غفيرة وإدخالها فى الإسلام. ص _258
وكثير من المؤرخين يعد صلح الحديبية فتحا، بل إن الزهرى يقول فيه: ما فتح فى الإسلام قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة، لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل فى تينك السنتين - بعد الحديبية - مثل ما كان فى الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف. أما المسلمون المعذبون فى مكة، فقد فر منهم أبو بصير عبيد بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغى المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها تنفيذا لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا بصير: إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر! وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك. وحزن أبو بصير وقال: يا رسول الله أتردنى إلى المشركين ليفتنونى فى دينى؟ فلم يزد النبى على تكرار رجائه فى الفرج القريب، ثم أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا جميعا إلى مكة . ورفض أبو بصير أن يستسلم لهذا المصير فاحتال فى أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به، ففر الآخر مذعورا وقفل راجعا إلى المدينة يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما وقع لصاحبه. وإذا أبو بصير يطلع متوشحا السيف يقول: يا رسول الله(1/292)
وفيت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتنى بيد القوم وامتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يبعث بى. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ويل أمه، مسعر حرب لو كان معه رجال . وأدرك أبو بصير أنه لا مقام له فى المدينة، ولا مأمن له فى مكة، فانطلق الى ساحل البحر فى ناحية تدعى العيص، وشرع يهدد قوافل قريش المارة بطريق الساحل. وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول فيه: "مسعر حرب لو كان معه رجال "، فتلاحقوا بأبى بصير يشدون أزره حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائرا فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو. ص _259(1/293)
وألف أولئك المعذبون الناقمون جيشا، ضيق الخناق على قريش فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. وإذا قريش ترسل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تناشده الرحم أن يؤوى إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم. وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذى أملته تعنتا، وقبله المسلمون كارهين. وقصة أبى بصير وأبى جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهى قصة العقيدة المكافحة ـ فى لؤم من الأعداء ووحشية من الأصحاب ـ وهى توضح أن الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجردا من كل شىء إلا سلامة جوهره. إنهم قد فقدوا الأمداد الروحية التى تجيئهم من مخالطة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإصغاء إليه وهو يتلو وينصح، بيد أنهم عوضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من آدابه، فكانوا ـ فى اهتدائهم للحق وابائهم للضيم وإيثارهم للمغامرة ـ مثلا حسنا للإسلام المكافح العزيز. ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر. وروى موسى بن عقبة أن رجال أبى بصير صادروا قافلة كان فيها أبو العاص ابن الربيع صهر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ وهو لما يدخل الإسلام بعد ـ وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص لمكانته، فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه وما ضاع لهم من أموال. وحدثت زينب رسول الله فى ذلك فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخطب الناس قائلا: إنا صاهرنا أناسا، وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام فى أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معه، وإن زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألتنى أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال المسلمون: نعم . وبلغ هذا الحوار أبا جندل فأفرجوا عن الأسرى، وردوا عليهم كل شىء أخذ منهم حتى العقال. ثم جاء كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أبى بصير ليترك(1/294)
مكانه ويرجع حيث يحب، وكان أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة. فمات والكتاب على صدره ودفنه أبو جندل. أما أبو العاص بن ص _260
الربيع فارتحل ببضائع قريش حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس أموالهم. حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد عندى منكم مال لهم أرده عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، وقد وجدناك وفيا كريما. قال: والله ما منعنى أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا أن تظنوا أنى أسلمت لأذهب بأموالكم، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وعاد الى المدينة فرد عليه رسول الله امرأته زينب ، وكان اختلاف الدين قد فرق بينهما، ولم ينشئ فى ذلك عقدا جديدا. * * * وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، وإنما لأنهم خشوا على النساء اللاتى أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهن لا يستطعن مضطربا فى الأرض وردا للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما. أيا كان الأمر، فان احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن، وكلف المسلمون أن يدفعوا لأزواجهن المشركين عوضا يستعينون به على زواج آخر، إذا لم يشاءوا الدخول فى الإسلام والعودة به إلى أزواجهم الأوليات. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) الممتحنة: 10]. والآية تشير ـ بجانب ما فيها من أحكام ـ إلى ما كانت المرأة تستمتع به من استقلال فكرى وكيان أدبى محترم. ولو حدث ذلك اليوم لتساءل فريق كبير من المسلمين: من الذى يمتحن؟ أهو رجل أم امرأة؟ وإن كان رجلا، فهل يكون شابا أو شيخا، وهل تمتحن المرأة مباشرة أو من وراء حجاب؟ ص _261(1/295)
مع اليهود مرة أخرى بقى أمام المسلمين فريقان من الخصوم الألداء: أعراب البادية الذين يسيحون فى عرض الصحراء كالإبل السائمة لا يعقلون شيئا، فإذا لاح مغنم طاروا وراءه، وقلما يجذبهم حديث الإيمان بالله واليوم الآخر. وبنو إسرائيل الذين ظنوا النبوة حكرا عليهم، لا يفتئون يجبهون المسلمين ويكذبون محمدا ويجحدون رسالته، وقد أغرتهم القشور التى ورثوها من التوراة فجادلوا المسلمين جدالا طويلا، وحرصوا أشد الحرص على ألا يعترفوا بهم. ثم ذهبوا إلى حد التأليب عليهم كما رأيت، فكانت سيرتهم مزيجا غريبا من الحقد والكبر والدس. ومع ما ألهب جلودهم من سياط كاوية فى صراعهم مع المسلمين، فإنهم لم يتحولوا عن خطتهم المريبة قيد أنملة. وجمعت عداوة الإسلام بين الأعراب البله، وأهل الكتاب اليهود. وعندما فشلت الأحزاب فى اقتحام يثرب، وجنت قريظة عقبى غدرها، لم يهدأ يهود خيبر، أو يحاولوا إصلاح شئونهم مع المسلمين. كلا، إنهم شرعوا يصلون حبالهم بغطفان والأعراب الضاربين حولهم ليؤلفوا ضد الإسلام جبهة أخرى، تكيد من جديد لمحمد وصحبه. لكن المسلمين كانوا أيقاظا لهذه المؤامرات، فما إن عادوا من عمرة الحديبية آخر السنة السادسة حتى توجهوا فى المحرم فى السنة السابعة إلى خيبر لكسر شوكة بنى إسرائيل بها. ولم يفت المسلمين، قبل مسيرهم، أن يفصموا الجبهة المؤلفة ضدهم من يهود وغطفان فأوهموا غطفان أن الهجوم متجه إليهم، وأن قوة المسلمين توشك أن تلتف بهم. قال ابن إسحاق: بلغنى أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خيبر جمعت له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا، فظنوا أن القوم خالفوهم إليهم فرجعوا على أعقابهم، وأقاموا فى أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله وبين خيبر!! وهكذا نجحت الخطة فى عزل يهود خيبر عن حلفائهم المشركين. فلما أشرف رسول الله على القرية المحصنة، وتهيأ(1/296)
لمنازلة أهلها، قال لأصحابه قفوا، ثم تضرع إلى الله بهذا الدعاء: " اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما ص _262
أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها" . ثم قال: أقدموا باسم الله.. ويظهر أن اليهود ظنوا ـ أول وهلة ـ أن زحف المسلمين صوب غطفان، فلم يعيروا ا لأمر التفاتا بل أصبحوا غادين إلى حقولهم بمساحيهم ومكالتهم حتى فوجئوا بالمسلمين يسيرون نحوهم فارتدوا إلى حصونهم فزعين، وهم يقولون: محمد والخميس! إن اليهود- على ما ألف المسلمون من حروبهم ـ لا يعتمدون على تسيير الجيوش فى الفضاء الرحب، تصيب ويصاب منها.. إنهم يكرهون اللقاء فى تلك الميادين المكشوفة، وديدنهم الذى لا ينفكون عنه، هو الكفاح من وراء الجدار. أذلك بقية من حرصهم على الحياة وتوقيهم الموت؟ فلما رآهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهرعون إلى حصونهم أراد أن يقذف فى قلوبهم الرعب فصاح: الله أكبر، هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. والقرى الفاجرة تجر على نفسها الهلاك إن عاجلا وان آجلا، وروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: إذا شاع الزنا والربا فى قرية فقد أحلت بنفسها غضب الله. واليهود يشيع فيهم هذا الفساد المزدوج، فهم إلى اليوم دهاقين الربا فى العالم وهم قادة التبرج والعهر ونسوتهم لا يرددن يد لامس. ولا ينفى هذا أن فيهم فئة تعرف الخلق والعفة، ص _263(1/297)
ولكنهم قليل: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ، والكثرة - لا القلة - هى التى تحدد مصاير الشعوب. * * * وشن المسلمون هجومهم على الحصون المشيدة، فبدأت تتداعى تحت وطأتهم حصنا بعد حصن، ودافع اليهود عنها دفاع المستميت، فإن خيبر أخصب أرضهم وأمنع بقاعهم. ولما بدأ الحصار يمتد، وبنو إسرائيل إذا سقطت لهم قلعة تمسكوا بأخرى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله! فبات الناس يذكرون أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا إليه متطلعين إلى أخذها، فنادى النبى - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب فأعطاها إياه، فقال على: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ، على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم . وإنما ساق رسول الله هذا النصح الرشيد حتى يقطع تطلع النفوس إلى المغانم المعجلة، فإن ثروة يهود - إذا هزموا - ضخمة، ولكن ثواب مقاتليهم - إذا اهتدوا - أضخم. ولو نزل القوم على أحكام الله، وتركوا الخلال الدنيئة التى عاشوا بها وعاملوا الناس بسوئها لأراحوا واسترحوا، غير أنهم أبوا إلا الحرب، فهاجمهم على وشدد النكير، حتى سقط الحصن واحتله المسلمون. وكان الشعار يوم خيبر: يا منصور، أمت، أمت. وخرج من حصون اليهود فارس يدعى مرحبا فنادى فى المسلمين: من يبارز؟ وهو ينشد: قد علمت خيبر أنى مرحب شاكى السلاح بطل مُجرب أطعن أحيانا، وحينا أضرب إذا الليوث أقبلت تُحرب فقيل: فتك به على بن أبى طالب، وقيل: بل قتله محمد بن مسلمة . وكان محمود بن مسلمة أخوه قد ألقيت عليه فى أثناء الحصار رحى فصرعته فثأر محمد له بقتل مرحب. ص _264(1/298)
وبرز بعد قتل مرحب أخوه ياسر، فتصدى له الزبير، وكانت صفية أم الزبير بين النسوة اللائى خرجن مع الجيش معاونات فى قتال بنى إسرائيل فخشيت على ابنها أن يقتل، فقال لها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل ابنك يقتله إن شاء الله. فصرع الزبير ياسرا. وتشبث اليهود بما بقى من حصونهم يذودون عنها ذياد اليائس، وشدد المسلمون عليهم الحصار، يريدون الانتهاء من هذا القتال مسرعين، فقد أجهدهم الجوع وضاق بهم المقام، وأصيب كثير منهم بعلل شتى لرداءة الجو ووخامة المستنقعات. ثم جاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أخبره أن اليهود لن يبالوا بهذا الحصار، فان لهم مشارب خفية، يخرجون إليها ليلا فيستقون ويعودون، فأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع مشاربهم ليكرههم على القتال أو التسليم، فخرجوا واشتبكوا مع المسلمين فى صراع شديد استشهد فيه عدد من المسلمين بعد أن مهدوا الطريق لسقوط الحصن، ويسمى حصن الزبير وهو نهاية سلسلة من القلاع تسمى النطاة، استولى المسلمون عليها جميعا بعدما دخلوا حصون ناعم، والصعب، والوطيح، والسلالم. وبقيت هناك سلسلة أخرى تهيأ المسلمون لمهاجمتها، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قلعة يقال لها: سموان، فقاتل عليها أشد القتال، وخرج منها رجل يسمى عزولا، يبغى المبارزة، فهجم عليه "الحباب بن المنذر" فضربه بالسيف ضربة أطاحت يده اليمنى بنصف ذراعه، ثم وقع السيف من يده وفر اليهودى راجعا، فأدركه الحباب فقطع عرقوبه. وبرز آخر، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودى، فلحق به " أبو دجانة" فقتله، وثأر لصاحبه ثم كبر المسلمون وتحاملوا على الحصن وأمامهم " أبو دجانة" فاقتحموه بعد لأى، ووجدوا به أثاثا وطعاما وغنما ومتاعا. وأفلت بعض المحصورين فانضموا إلى إخوانهم بحصن البزاة، وزحف المسلمون إليهم، وتراشق الفريقان بالنبل فأصيب بنان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المعركة. ولكن المسلمين استبسلوا فى الكر(1/299)
على العدو، حتى افتتحوا هذا الحصن الآخر، وأخذوا من فيه باليد. ثم هم المسلمون بنصب المنجنيقات ليهدموا الحصون الباقية على من اعتصم فيها، فأيقن اليهود بالهلكة ولم يروا محيصا من الاستسلام. فنزل ابن أبى الحقيق، وعرض الصلح على أن يجلوا من أرض خيبر، ولهم ما حملت ركابهم، وللمسلمين سائر ما بقى، فقبل الصلح واشترط عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد . فلما ثبت على بعضهم الغدر بما تمت عليه شروط الصلح، قتل. ص _265(1/300)
وخضعت سائر يهود، ثم جاءت تعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم بالنصف فى زراعة الأرض، فقبل، ولم يجعل ذلك على الأبد، مخافة عبثهم، بل قال لهم: إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم . * * * وحدث فى إبان المعركة أن عبدا حبشيا أسود كان يرعى لسيده اليهودى غنمه، فلما رأى أهل خيبر يحملون السلاح ويتأهبون للحرب سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذى يزعم أنه نبى. فوقع فى نفس الرجل ذكر النبوة وصاحبها، فأقبل بغنمه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله: ماذا تقول؟ وإلام تدعو الناس؟ فأجابه: أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسوله وألا تعبد غيره. قال العبد: فما لى إن شهدت وآمنت؟ قال: لك الجنة إن مت على ذلك! فأسلم. ثم قال: يا نبى الله إن هذه الغنم عندى أمانة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجها من عندك وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدى عنك أمانتك. ففعل، فرجعت الغنم إلى صاحبها، فعلم اليهودى أن غلامه أسلم. ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تهيأ الناس للقتال فوعظهم وحضهم على الجهاد. والتحم الفريقان، ففتل العبد الأسود بين من قتل من المسلمين وحملت جثته إلى المعسكر. فرووا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلع فى الفسطاط الذى ضم جثمان الشهيد، ثم أقبل على أصحابه: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، رأيت عند رأسه ثنتين من الحور العين ولم يصل لله سجدة قط! وفى هذه الغزاة أذن النبى - صلى الله عليه وسلم - لمن تطوعن من النساء أن يخرجن معه. قال ابن إسحاق: شهد خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء من نساء المسلمين، فرضخ لهن رسول الله من الفىء - أعطاهن يسيرا - ولم يضرب لهن بسهم. وروى الإمام أحمد عن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى غزاة خيبر، وأنا سادسة ست نسوة. قالت: فبلغ النبى أن معه نساء فأرسل إلينا(1/301)
فدعانا. قالت: فرأينا فى وجهه الغضب، قال: ما أخرجكن؟ وبأمر من خرجتن؟ قلنا: ص _266
نناول السهام، ونسقى السويق ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر فنعين به فى سبيل الله، قال: فا نصرفن. قالت: فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال. فقلت لها: يا جدة ما الذى أخرج لكن؟ قالت: تمرا . ويرى ابن كثير أن الرسول أعطاهن من ثمرات الأرض كالرجال، فأما أنه أسهم لهن فى الأرض نفسها كالرجال فلا. وهذا حق. وفى حديث أبى داود: إن نسوة من بنى غفار قلن: يا رسول الله، قد أردنا أن نخرج معك فى وجهك هذا ـ وهو يسير إلى خيبر ـ نداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: على بركة الله . وكانت صفية بنت حيى بن أخطب زعيم اليهود بين من أسرن من نساء خيبر وقعت فى يد أحد الصحابة. فاستردها منه الرسول. ثم أعتقها وبنى بها، وجعل مهرها عتقها. فلما اطمأن به المقام أهدت له امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية مسمومة وكثرت من السم فى ذراع الشاة لما عرفته من أن الرسول يؤثرها. وقد تناول النبى مضغة منها، فلاكها ثم لفظها، وهو يقول: إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم، وكان معه "بشر بن البراء" فأساغ اللحم وازدرده. وجىء بالمرأة الجانية فاعترفت بما صنعت، وقالت للنبى: بلغت من قومى ما لم يخف عليك. فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها النبى، ثم مات "بشر" بعدما سرى السم فى جسمه. فقيل: اقتص له منها. وقيل: بل أسلمت وعفا عنها. ص _267(1/302)
ومكث يهود خيبر يزرعون الأرض على النصف من نتاجها، إلا أن بغضاءهم للمسلمين حملتهم على اقتراف بعض الجرائم، فقد اغتيل رجل من الأنصار، وفدعت يدا عبد الله بن عمر أيام خلافة أبيه، فخطب عمر الناس قائلا: إن رسول الله كان عامل يهود خيبر على أن نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، ففدعوا يديه كما قد بلغكم، مع عدوهم على الأنصارى قبله، لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم.. فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإنى مخرج يهود. فأخرجهم . ولا ريب فى أن الهزيمة التى أصابت بنى اسرائيل فى خيبر قضت على كيانهم العسكرى فى الجزيرة قضاء تاما. فجاء يهود " فدك " يطلبون الأمان. وقاتل يهود وادى القرى بعدما دعوا إلى الإسلام، وأخبرهم رسول الله أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله. فلما أبوا نشبت بين الفريقين معركة محدودة، انتهت مع الصباح بسقوط الوادى اليهودى عنوة. واستسلم يهود تيماء. ومد الإسلام رواقه على هذه الأرض بعد أن ظلت حينا من الدهر فى أيدى اليهود، يعيشون عليها كما يشتهون. والعظة التى نستخلصها من هذه المعارك وما أعقبها من جلاء، أن الأرض لله يورثها من يشاء، وهو لا ينتزعها من قوم، ويعطيها آخرين محاباة، كلا.. ولكن الأمة التى تفسد على النعمة تسلبها. ثم تساق النعمة إلى من يقدرها ويشكر الله عليها! والأمة التى تتكبر مع الحرية وتتبطر، تفقد امتلاكها لنفسها، وحقها وأمرها لتقع فى إسار الآخرين فيصرفون شئونها كما يشتهون. وقد طبق هذا القانون على بنى إسرائيل بقسوة عندما أهدروا أحكام التوراة وتبعوا الهوى! وطبق بعد ذلك على المسلمين يوم سدروا فى الغواية وجحدوا ما لديهم من هداية: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) [هود: 102]. إن الحياة كر وفر وإقبال وإدبار. والنظرة العجلى إلى تاريخ البشر توحى بأن مكان الصدارة لم يثبت لأمة من الأم إلا ريثما تتهيأ أمة أخرى(1/303)
لانتزاعه. والدول التى سادت، أشبه بلجج البحر التى ترتفع حينا ثم لا تلبث أن تضمحل رويدا رويدا حتى تنداح على الشاطئ ضعيفة متطامنة، ولا مانع من أن تعود مرة أخرى مع المد، لتبلغ الأوج، ثم تنفك عنها أسباب القوة فتهبط مستكينة من جديد. ص _268
وقد ملك بنو إسرائيل وعزّوا بقدر حكيم، ثم سلبوا الملك والعزة بقدر كذلك لترثهما دولة الإسلام الفتى الناهض، وتم هذا التحول لخير البشر قاطبة. لماذا تظاهر اليهودية الوثنية ضد الإسلام؟ ولمصلحة من يقع هذا؟ إن بنى إسرائيل ينظرون إلى الدنيا والدين من خلال منافعهم الخاصة، وذلك ما حدا بهم إلى مقاومة الإسلام بعنف. أما القدر الأعلى، فيريد أن يجعل من الأمة الجديدة رسالة تغيير شامل لما شاع فى العالم أجمع من مفاسد، ولما عرا حضارته من تعفن وركود، فإذا وقفت حفنة من الأعراب أو حفنة من اليهود لتعترض هذا التحول الهائل بدوافع من الحقد الرخيص أو المطامع الدنيا، فهى التى جنت على نفسها إذا غرقت فى الطوفان. لو ظل اليهود ألف سنة أخرى فى جزيرة العرب ما زادوها إلا انقساما، وما اكتسبت أقطار الأرض من بقائهم شيئا. ربما نالت مزيدا من الحبوب والفواكه التى يتقنون زراعتها، بيد أنها لن تظفر بهذه الزيادة إلا ومعها كفل من الفساد الذى يصدره بنو إسرائيل إلى العالم مع معاملات الربا وأخلاق العهر والتحلل. أما الإسلام فقد خرج من الجزيرة يوم خرج، رسالة إيمان وإصلاح. وبما يحمله فى طواياه من حق ونفع استحق الانتصار والانتشار. فلما جرى على أمته من أسباب البلى والخمول ما جرى على اليهود الأولين تعرضت للطرد من أوطانها، والتشرد هنا وهناك، كما تعرض غيرهم، حذو النعل بالنعل. عودة مهاجرى الحبشة ووافق فتح "خيبر" قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين إلى الحبشة. وقد سر رسول الله أيما سرور، لمجىء هؤلاء الصحابة الكرام. إنهم خرجوا من مكة فارين بدينهم من الفتان، واليوم يعودون وأمر الإسلام يعلو،(1/304)
وسلطانه يمتد شمالى الجزيرة وجنوبيها، فلا خوف من غشم أو ظلم. وعندما حلوا بالمدينة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبتهجا: "والله ما أدرى بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ " . وجعفر وإخوانه مكثوا فى الحبشة بضعة عشر عاما، نزل خلالها قرآن ص _269
كثير، ودارت معارك شتى مع الكفار، وتقلب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها فى أطوار متباينة، حتى ظن البعض أن مهاجرى الحبشة - وقد فاتهم هذا كله - أنزل قدرا من غيرهم. فعن أبى موسى الأشعرى: ".. كان أناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة. ودخلت أسماء بنت عميس - على حفصة زوج النبى زائرة - وكانت هاجرت إلى النجاشى فيمن هاجر فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها. فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم! قال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم! فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم. وكنا فى أرض البعداء والبغضاء بالحبشة! وذلك فى الله وفى رسول الله. وايم الله، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاءت النبى قالت: با نبى الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلت له؟ قالت: كذا وكذا. قال: ليس بأحق بى منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة. ولكم أنتم - أهل السفينة - هجرتان. ولم يمض كبير وقت على أولئك العائدين حتى اكتسبوا ما فاتهم من علم القرآن والسنة، وانتظموا فى مواكب الجهاد مع من سبقوهم بإحسان. وقد أشركهم النبى فى مغانم خيبر مع أهل الحديبية ولم يقسم لأحد غيرهم معهم. فإن الله جعل خيبر مكافأة سخية لمن ساروا إلى مكة، وبايعوا على الموت تحت شجرة الرضوان. تأديب الأعراب أما عبدة الأصنام من البدو فإن المسلمين شرعوا يتعقبونهم مذ خلصوا من مشكلات اليهود. وقد أشرنا إلى أن شمل هؤلاء الأعراب انتكث بعد الموادعة(1/305)
التى تمت فى الحديبية بين ص _270
قريش والمسلمين. كانوا أمس يحاصرون دار الإسلام أحزابا متحدة، لكن الحال تبدلت اليوم. تمزق بنو إسرائيل، وانسحب أهل مكة، وأمكن للمسلمين أن ينفردوا بأولئك القوم قبيلة إثر قبيلة. ولن يعجز المسلمون عن حسم شرورهم ووقف فوضاهم. إن البدو جنس غليظ ولن ننسى أنهم حتى القرن الأخير كانوا يستمرئون الفتك بقوافل الحجاج، قد يذبحون الحاج لدراهم معدودة. وعلمهم بشئون الدنيا وحقوق الآخرة يعنى المدرسين، وقد بذل الإسلام جهودا جبارة فى رفع مستواهم المادى والأدبى. إلا أن اغتيال الدعاة من القراء المربين جعل الإسلام يظاهر رجاله هؤلاء بالقوة التى تمنع الشغب وتقطع دابر الفساد. وكان بث السرايا فى فيافى "نجد" من أهم ما شغل المسلمين بعدما رجعوا من خيبر فى صفر من السنة السابعة حتى شدوا الرحال إلى مكة لعمرة القضاء، كما نص على موعدهم فى عهد الحديبية. ولا يعنينا كثيرا أن نتبع هذه السرايا فى مسيرها، فهى ـ وإن وطدت هيبة المسلمين العسكرية ـ أقرب إلى فرق الشرطة منها إلى الجيوش المعبأة. والهدف الأكبر من بعثها توطيد الأمن، ومنع الغارات على المدينة، وتمكين الدعاة إلى الله من أن يجوبوا الآفاق بتعاليم الرسالة دون غدر أو خيانة. إن أحوال هذه القبائل قريبة الشبه بأحوال قرانا فى عهد الإقطاع القريب. كان العمدة يملك ألف صوت ناخب فى قريته، فالحديث عن الحرية السياسية فى هذا الجو، حديث خرافة. كذلك كان رؤساء القبائل الأولون، تلتف حولهم عشائرهم وبطونهم ليتناصروا فى الحرب والسلم على ما يهوى السادة. فإذا كثر فى أولئك الحاكمين من يوصف بالأحمق المطاع، وإذا اشتغل أولئك الحمقى بالكر والفر على نحو ما قال دريد بن الصمة: يغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا، أو نغير على وتر! قسمنا بذلك الدهر شطرين بيننا فما ينقضى إلا ونحن على شطر! أفترى أن الدعاة يسيرون عزلا فى هذه البيئة التى تخطف الأموال والعقائد؟ إن(1/306)
العمل على توطيد الأمن شىء غير إكراه الناس على الإيمان، هدف الأول إقصاء الضغط والفتنة على المجتمع حتى إذا آمن فرد فى قبيل، لم يجد من يصب عليه سوط عذاب. أما الآخر فيريد بالسوط أن يحمل الناس على عقيدة معينة. ص _271
والسرايا التى كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسيرها إلى كل فج كانت تحمل معها كلام الله لتقرأ منه: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين * فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم) . فالسعى لمعاجزة الآيات أمر خطير. ولو كانت معاجزة باللسان، ما اكترث لها أحد، فهيهات أن تغلب الخرافة الحق فى معرض جدل حر، إنها معاجزة بالسطو والقهر. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ..) . وقد مضى المسلمون فى نشر الدعوة داخل جزيرة العرب على ذلك الأساس العادل. ومنذ أمضوا عهد الحديبية، وهم دائمون على البلاغ والتبصرة، ولذلك نجحوا نجاحا ملحوظا فى هذا المضمار، فدخلت قبائل كثيرة فى عهدهم على حين انصرفت جموع الأعراب عن قريش فلم يدخل فى عهدهم أحد. وسير الأمور فى هذا الاتجاه كان التمهيد الفعال لغلبة الإسلام، ثم لفتح مكة نفسها فيما بعد. والدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة لم تشغل النبى عن حق آخر من حقوق الله عليه، وهو إعلام الناس كافة، بما آتاه الله من بينات. فليرفع السراج إلى أعلى لتصل أشعته الهادية إلى مواطن أبعد، مواطن غرقت فى الظلام دهرا. (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) . فليتجه إلى المجوس، وإلى النصارى، يدعوهم إلى توحيد الله والإسلام له والخضوع لأحكامه.. مكاتبة الملوك والأمراء كان الفرس يحتلون أجزاء كبيرة من جنوبى الجزيرة،(1/307)
وكان الرومان يحتلون أجزاء أخرى من شماليها. وقد انتشرت ديانة المحتلين فى الأقاليم التى أخضعوها لنفوذهم، ومن العبث إرجاع هذا الانتشار للحرية العقلية المحضة. وعلى أى حال فإن المجوسية سادت الأقاليم التابعة لفارس، والنصرانية سادت الأقاليم التابعة للرومان، وكان أمراء هذه الأقاليم يعينون من قبل الدول الحاكمة وينصاعون لأوامرها. ص _272
وقد رأى النبى أن يرسل بكتبه إلى رؤساء الدول الكبرى وإلى أمراء الولايات المحتلة على سواء يدعوهم إلى الله ويعرض عليهم الإسلام. روى مسلم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشى - وهو غير الذى صلى عليه - وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل. * * * بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " دحية بن خليفة " بكتابه الى قيصر الرومان، وليس الوصول إلى قيصر بدعوة غريبة على مسامعه أمرا سهلا، فكيف وهى - فى نظر الرومان - من أعرابى ساذج ينتمى إلى قوم تحت سلطانهم؟! وتقديرا لهذه الأوضاع، اختار النبى لتلك المهمة من يقوم بها إيمانا واحتسابا غير مبال بعواقبها عليه، ولا نتائجها عند من يدعوه. فعن ابن حبان أن رسول الله قال: من ينطلق بصحيفتى هذه إلى قيصر وله الجنة؟ فقال رجل: وإن لم يقبل؟ قال: وإن لم يقبل! فأخذ دحية الكتاب وسافر به إلى أرض الروم فوافق هرقل وهو مقبل على بيت المقدس يزوره عقب انتصاره على الفرس، قربى إلى الله. وتناول قيصر الكتاب فقرأ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأكارين - الفلاحين - : (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). وقد هاجت حاشية هرقل لاكتراث(1/308)
القيصر بهذه الرسالة، وازدادوا هياجا عندما عرض عليهم - لا ندرى جادا أم هازلا - أن يعتنقوا هذا الدين! وهرقل - فى نظرنا - رجل سياسى. وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه وينمى قوته. وقد تولى شئون الدولة فى وقت كانت الخلافات الكنسية حول طبيعة المسيح تغلى غليان المرجل، وتثير فى الأمة انقسامات مخيفة. وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة، وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد فعجز. وتمرد عليه اليعاقبة وغيرهم فى مصر والشام. ص _273(1/309)
فالكلام فى الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر - لمصلحة الدولة - ديدنه، ولعله فى أعماق قلبه يحس سخف أولئك المختلفين جميعا. وربما تألقت فى نفسه، لوقت محدود، فكرة الخروج من عقيدة التثليث إلى بساطة التوحيد، ثم انطفأت لما ستجره على الدولة من خلاف أشق فى وهمه، وأمر المملكة - عنده - أهم من أى شأن آخر. وشاءت لباقة قيصر السياسى أن يستدعى دحية، وأن يحاول إيهامه بأنه مسلم! ثم أعطاه قدرا من الدنانير.. وصرفه! وعاد دحية إلى رسول الله بالنبأ. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: كذب عدو الله، ليس بمسلم، وأمر بالدنانير فقسمت على المحتاجين . * * * أما الولايات العربية التابعة للرومان، فإن النبى أرسل إلى أمرائها يعرض عليهم الإسلام فكانت إجابتهم أخشن وأقسى من رد القيصر نفسه! قرأ أمير دمشق خطاب الرسول له: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبى شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله وصدق، وإنى أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى ملكك ". فلما قرأه رمى به الأرض. وقال: من ينزع ملكى منى؟ وأخذ يعد العدة لقتال المسلمين. والحارث ليس بالملك الأصيل حتى يشمخ بملكه على هذا النحو. إنه مولى من قبل الرومان الغالبين ليخدم أهواءهم، ويمشى فى ركابهم، فهو كنفر من ملوك الشرق فى عصرنا هذا، صنعهم المستعمرون ليكونوا حبالا تنجر بها الأمم المستضعفة وراء غاصبها. والهدية التى ردها، هى الأمل الوحيد لجعله حاكما شريفا، لو أنه قبلها وأشاعها. وبعث النبى إلى أمير بصرى - من ولايات الروم - مثل ما بعث به إلى أمير دمشق، وحمل الكتاب الحارث بن عمير الأزدى، فاعترضه فى الطريق شرحيبل بن عمرو الغسانى وسأله : أأنت من رسل محمد؟ قال: نعم. فأمر به شرحبيل فقتل. ص _274(1/310)
وترامت الأخبار إلى المسلمين فى المدينة، فجرحت كرامتهم، وأبانت لهم أن علائقهم بالرومان لن تندفع فى طريق العدل! والاحترام إلا بعد جهود شاقة. * * * ورد "المقوقس " على النبى ردا حسنا، فلم يؤمن به ولم يتهجم عليه. ولما تسلم كتابه من حاطب بن أبى بلتعة قال له: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب: ما منع عيسى - وقد أخذه قومه ليقتلوه - أن يدعو الله عليهم فيهلكهم؟ فقال المقوقس: أحسنت. أنت حكيم جاء من عند حكيم. وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط السلام عليكم. أما بعد. فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وتدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم فى القبط وبثياب، وأهديت لك بغلة تركبها". وماذا يفعل محمد بهذا؟ لقد قبل الهدية تقديرا للعاطفة التى أملت بها، وإن كان يرى أن الإيمان بالله وحده أفضل ما يهدى إليه، وخير ما ينتظره ويهش له. وجدير بنا أن نذكر كلام حاطب للمقوقس، حتى يعرف القارئ أن هذه البعوث بلغت حدا من الفقه والحصافة يستحق الإعجاب البالغ. قال حاطب: إن هذا النبى دعا الناس. فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى. ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد. وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل. وكل نبى أدرك قوما فهم أمته. فحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا النبى، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به. وكان أثر هذه الدعوة الحارة الخطاب الذى سقناه آنفا. * * * تلك مثل لرسائله إلى رجالات النصرانية ومواقفهم منها. وقد ساق النبى كذلك مبعوثيه الى رؤساء المجوسية يدعونهم إلى الله، ويحدثونهم عن الدين الذى لو تبعوه نقلهم من الغى إلى الرشاد. وقد تفاوتت ردودهم، بين العنف واللطف، والإيمان(1/311)
والكفر. كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى "كسرى أبرويز" ملك فارس يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ص _275
ورسوله. وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس. ومزق كسرى الكتاب وهو محنق. ولعله حسب الجرأة على مكانته السامقة بعض ما رماه به القدر من مصائب. فقد هزمه الروم هزيمة منكرة، وها قد جاء العرب يعلمونه ما لم يكن يعلم. وأصدر كسرى أمره إلى والى اليمن ـ وكانت لم تزل فى حكمه ـ يأمره أن يرسل اثنين من رجاله الأشداء، ليأتيا إليه بالرجل الذى تجرأ على مكاتبته. و"أبرويز" هذا رجل أحمق، ومنصبه يضفى عليه ملك الملوك. والوثنية السياسية إذا ظاهرتها وثنية دينية، أمست ظلمات بعضها فوق بعض. وقد غلب على الرجل السفه فى تصريفه شئون الدولة وحكمه على الأشخاص والأشياء، حتى ضاق به قومه أنفسهم، بل ضاق به أقرب الناس إليه وهو ابنه "شيرويه " فوثب عليه فقتله. ويروى أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما بلغه ما صنع كسرى أبرويز بكتابه قال: مزق الله ملكه. والطريف أن والى اليمن لما صدر إليه أمر كسرى سارع إلى تنفيذه. فأرسل اثنين من لدنه من المدينة، يعرضان على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينطلق معهما ليسأل عما فعل..!! ونظر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرجلين فوجدهما من ذلك النوع الذى تربيه الملوك فى القصور كما تربى النسوة فى بلادنا الديكة الرومية.. مناظر فارهة، وبواطن تافهة. فلما رأى شواربهما مفتولة، وخدودهما محلوقة، أشاح عنهما وقال: ويحكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا ـ يعنيان كسرى ـ! ص _276(1/312)
إن تأليه الملوك ضلال قديم. وبعد أن انتشر الإسلام ذهبت حقيقة التأليه، ثم عادت الآن آثاره وخصائصه. فالملك يلقب صاحب جلالة، ولا يسأل عما يفعل، ويبطل شرائع الله ليقيم شرائع الهوى، ويمتد هو وبطانته، لتنكمش أمامهما أمته.. ولما سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - كلام الرجلين أمرهما أن يعودا من حيث أتيا إلى والى اليمن، وقال: أخبروه أن ربى قد قتل ربه الليلة. وكان رسول الله قد علم قبلهما بمصرع كسرى.. وقد وقع الإسلام فى قلب والى اليمن ورجاله بعد هذه القصة، وانتشر انتشارا عظيما فى الجنوب بين الطائفتين جميعا من نصارى ومجوس. * * * وأرسل النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أمير البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ونبذ المجوسية، حمله إليه العلاء بن الحضرمى وكان " المنذر بن ساوى " أمير البحرين، رشيدا موفقا، فرحب بالدعوة وانشرح صدره لقبولها. وقد أبلغ العلاء فى ترغيبه وإبراز محاسن الإسلام له. فمما قاله: ".. يا منذر إنك عظيم العقل فى الدنيا فلا يصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين.. ليس فيها تكرم العرب، ولا علم الكتاب، ينكحون ما يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتنزه عن أكله، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة.. ولست بعديم عقل ولا رأى، فانظر: هل ينبغى لمن لا يكذب فى الدنيا ألا نصدقه؟ ولمن لا يخون ألا نأمنه؟ ولمن لا يخاف ألا نثق به؟ ". هذا هو النبى الأمى الذى - والله - لا يستطيع ذو عقل أن يقول: " ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به! أوليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه، إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل النظر.. ". وقد أسلم " المنذر" وعرض على قومه الإسلام، فمنهم من أعجبه فدخل فيه، ومنهم من كرهه وبقى على مجوسيته، أو على يهوديته. فلما استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل إزائهم كتب له: "... من أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية ". * * * ص _277(1/313)
إن توسيع ميدان الدعوة بحيث تشمل المعروف المعمور من أرض الله يومئذ أمر يثير التأمل. لقد كان العرب يستكثرون النبوة على واحد منهم، ويوسعونه جحودا وكنودا! (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا). فما يكون شأن الروم والعجم، وهم يرون العرب دونهم منزلة وحضارة وثقافة وسياسة؟! ألا يكونون أسرع إلى السخرية وأدنى إلى الكفران؟ بيد أن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر الضيق المنكور فإن ثقتهم العميقة فى سيادة فكرتهم وامتداد نطاقها، تصغر العقبات المفروضة فى الطريق، وتجعلها ـ ولو كانت الشم الرواسى ـ هباء منثورا. ولو انحصر "كارل ماركس " فى حدود مذهبه ـ وهو فكرة مطاردة تصل بذويها إلى السجون ـ لأصابه الشلل وقضى عليه وعلى أفكاره، لكنه مضى فى سبيله وهو على أمل بالغ أن تقوم بتوجيهها دول كبرى. فإن كان هذا شأن الماديين من أصحاب الأفكار الضالة، فلا جرم أن المرسلين المؤيدين بالوحى يكاتبون الملوك والأمراء وهم موقنون بأن ما لديهم من حق سيعلو، وذلك ما كان يجول فى نفس الرسول الكريم وهو يعالج هداية الأعراب الشاردين فى الصحراء طورا باللين وطورا بالشدة. ثم هو ـ فى الوقت نفسه ـ ينصح لقادة الشعوب الأخرى أن يفكروا فى هذا الدين الجديد، وأن يعتنقوه وافرين. إن الخرافة التى أفسدت عقل بدوى تُترب إهابه وثيابه رياح "نجد"، هى بعينها الخرافة التى تفسد فكر كسرى، عاهل الفرس العظيم. ما الفارق بين الحمى تصيب ملكا أو تصيب صعلوكا؟ إن الطبيب يصف لها ـ على الحالين ـ دواء واحدا، ويتخذ ضد عدواها حصانات واحدة! وقد أراد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشفى الكبار والصغار من أمراض نفوسهم وأن يناولهم جميعا الدواء الذى يصحون به. (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). فلا غرو إذا جمع فى مصحة بين الأحمر والأسود، والسادة والعبيد. أجل، قد يكون أولئك الملوك محجبين وراء(1/314)
أسوار مشيدة، وحولهم من الأتباع والجند والأبهة والرياش ما يبهر العين، لكن أى عين تنبهر لهذه المظاهر؟ إن الطبيب المعالج لا يعنيه من مريضه إلا جسده ص _278
الشاحب العليل، والأنبياء لا يرون فى القوم إلا أنهم جهال يجب أن يتعلموا، سفهاء يجب أن يسترشدوا، وأن ما حولهم من الدنيا يجعل تبعتهم أخطر، وجزاءهم على الهدى والضلال أضخم. على أن هذه القوى المسخرة فى حماية الباطل لن يطول أمدها، إلا كما يطول الليل على المؤرق، ثم تطلع الشمس، ويمحو الله بالآية المبصرة سدول الظلام. ولذلك قال النبى لرسل والى اليمن حين جاءوه: "أخبراه أن دينى وسلطانى سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهى إلى الخف والحافر. وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك " . إنه ـ وهو فى المدينة ـ يولى ويعزل، عن حق لا عن غرور. أليس موصولا بمالك الملك، مبعوثا من رب السموات والأرض؟! ومن الطبيعى أن يعرف مشركو العرب أنباء هذه البعوث النبوية، وأن يرقبوا نتائجها عن كثب. وقد استبشروا أول الأمر حين بلغهم صنيع كسرى بن هرمز وقال بعضهم لبعض: كفيتم الرجل، فقد نصب له كسرى ملك الملوك! وشاعت هذه القالة فى مكة والطائف. ثم مرت الأيام، وطاح كسرى. وبقى الإسلام يغزو الأفئدة والبلاد.. وجاءت الأنباء أن بعوث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بعض الأرجاء أمكنها نشر الإسلام وتثبيت هدايته، حتى دخلت فيه اليمن وعمان والبحرين، فارتد استبشار المشركين خذلانا، وفكرت قبائل شتى فى الانقياد لحكمه، خصوصا ورقعة الكفر تنكمش يوما بعد يوم أمام موجات الوحى الجارف، وإن بقيت أخرى مصرة على جاهليتها . (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون * قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون) . عمرة القضاء أوشكت السنة السابعة أن تنقضى، وحق للمسلمين أن يعودوا إلى مكة ليؤدوا مناسك العمرة التى حرموا من(1/315)
أدائها قبلا. لقد تأخروا عاما وهم كارهون، لكن مكاسبهم للدعوة فى هذه الفترة أربت على الأمانى، وهاهم أولاء يسوقون الهدى إلى الحرم مرة أخرى، ويجرون وراءهم أذيال نصر عريض . ص _279
وأحب أهل مكة أن يعزوا أنفسهم وهم يجلون عنها - وفق الاتفاق المبرم - فدخلها النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته معتمرين، فأشاعوا أن المسلمين يعانون عسرة وجهدا! قال ابن عباس: صفوا له عند "دار الندوة" لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله المسجد، اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة". ثم استلم الركن وأخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه حتى واراه البيت عنهم. والتطواف بهذه السرعة إظهار لبأس المسلمين، وتكذيب لإشاعات الضعف، وقد مضت السنة به بعد ذلك. وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة كان عبد الله بن رواحة آخذا بخطام ناقته وهو ينشد: خلوا بنى الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير فى رسوله! يارب إنى مؤمن بقيله أعرف حق الله فى قبوله! وأقام المسلمون ثلاثة أيام، جاء فى نهايتها نفر من قريش يذكرونه بانقضاء الأجل المضروب ويقولون له: اخرج عنا، فقال لهم الرسول: لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما، فحضرتموه؟ قالوا: لا حاجة لنا فى طعامك، فاخرج عنا. ص _280(1/316)
وكان العباس عم رسول الله قد زوجه من ميمونة بنت الحارث، خالة عبد الله بن عباس، فعقد عليها فى مكة، وبنى بها فى سرف. فى هذه العمرة نزل قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) . غزوة مؤتة عر على المسلمين مصرع رسولهم الى أمير بصرى، والطريقة الشائنة التى عومل بها، فقد أوثق شرحبيل بن عمرو رباطه ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل أحد غيره من بعوث الرسول الكثيرة إلى الآفاق. والرسل لا يقتلون، لذلك كان وقع هذه الإهانة شديدا على المسلمين، فعزموا على الاقتصاص لرجلهم، وعلى زلزلة الوالى الأثيم الذى صنع ما صنع لحساب الرومان. وتجهز المسلمون فى جيش يعتبر بالنسبة لهم كبيرا، إذ بلغت عدته ثلاثة آلاف، وخرج أهل المدينة يودعون الجيش الزاحف وهم يقولون: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة يرد على هذا الوداع: لكنى أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا! أو طعنة بيدى حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا! حتى يقال إذا مروا على جدثى يا أرشد الله من غاز وقد رشدا! ورتب النبى قادة الجيش، فجعل الأمير زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة . وانطلق الجيش إلى مشارف الشام. إلا أن أخباره سبقته إلى الروم، ولابد أن تهاويل كثيرة أحاطت بسمعة المسلمين وطاقتهم الحربية، مما جعل القوم يستعدون للقتال بجيش كثيف. ص _281(1/317)
فلما وصل المسلمون الى " معان " عرفوا أن فى انتظارهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب. والهجوم على جيش تلك عدته مجازفة مخوفة، فأقام المسلمون ليلتين بـ "معان " يتدبرون أمرهم. وقال نفر منهم: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وأما أن يأمرنا بأمره فنمضى له. ولم يرق ذلك لعبد الله بن رواحة فشجع الناس قائلا: يا قوم، والله إن التى تكرهون للتى خرجتم تطلبون - الشهادة - وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به. فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. وكان لهذه الكلمة الملتهبة أثرها، فاختفت من صفوف المسلمين مشاعر التردد، وقرروا القتال مهما كانت النتائج. وابن رواحة شاعر حاد العاطفة، وقد أحس منذ خروجه أن الاستشهاد مقبل عليه فهو يتهيأ له بقلبه ولسانه. وقد تكون الحكمة العسكرية فى تصرف غير ما أوحى به، غير أن المسلمين ما إن سمعوا حديث الفداء والموت فى سبيل الله حتى جاشت بأنفسهم محبة الآخرة، ثم ذكروا أنهم نصروا فى معارك سابقة بأعداد أقل من عدوهم، فأقدموا مطمئنين. عن أبى هريرة قال: " شهدت مؤتة، فلما دنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصرى! فقال لى ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم - وأبو هريرة ممن أسلموا بعد الحديبية - فقال له ثابت: إنك لم تشهد بدرا معنا، إنا لم ننصر بالكثرة . * * * والتقى الجمعان، وعبث أن ننتظر من ثلاثة آلاف بطل أن يصاولوا فى ميدان مكشوف فيالق تربو عليهم سبعين ضعفا. قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى شاط فى رماح القوم. وتلقف الراية جعفر بن أبى طالب فأقبل على الروم يجالدهم بعنف. روى أبو داود حديث شاهد عيان يقول: لكأنى انظر إلى جعفر حين اقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو(1/318)
ينشد: يا حبذا الجنة واقترابها! طيبة، وباردا شرابها! والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها! على إن لاقيتها ضرابها ! ص _282
قيل إن رجلا من الروم ضربه ضربة قطعه نصفين.. وقيل: أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وقد رزق جعفر هذه الشهادة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فلما قتل حمل عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فلما أحس دقة الموقف وشدة الضغط عراه بعض التردد، ثم أقنع نفسه بورود المصير الذى ذاقه صاحباه على الساحة المضطرمة وهو يقول: يانفس إن لا تقتلى تموتى! هذا حمام الموت قد صُليت! وما تمنيت فقد اعطيت! إن تفعلى فعلهما هُديت! ثم أقدم وجاءه ابن عم له بقطعة لحم فناولوها إياه وهو يقول: شد بها صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت، فما كاد يقطع منها مضغة حتى سمع الحطمة فى ناحية من الجبهة استعرت بها الحرب، فقال لنفسه: وأنت فى الدنيا؟ ورمى بالطعام من يده.. ثم انتضى سيفه وتقدم حتى قتل.. وأخذ الراية التى تداولتها أيدى الأمراء الثلاثة "ثابت بن أقرد " وصاح يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم! قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل! فاصطلح الناس على " خالد ابن الوليد ". وثابت أبى القيادة لا نكوصا عن الموت بل شعورا بوجود الأكفأ منه فى الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط، من آيات الجرأة فى هذا الموقف العصيب. وليت كل امرئ يعرف أقدار الناس ينزلهم منازلهم التى يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل عجزه وأثرته.. وأخذ الراية " خالد " فشرع يقاتل ويحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق. وقتال الانسحاب شاق مرهق، خصوصا وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة. روى البخارى عن خالد: اندقت فى يدى يوم " مؤتة " تسعة أسياف، وما ثبت فى يدى إلا صفيحة يمانية، ودخل الليل على المتحاربين، فكان هدنة مؤقتة. فلما طلع الصبح كان خالد قد أعاد تنظيم قواته القليلة، فجعل(1/319)
المقدمة ساقة والميمنة ميسرة. وجعل هدفه مناوشة الرومان بحيث يلحق بهم أفدح الخسائر دون أن يعرض كتلة الجيش لالتحام عام. وقد أفلحت هذه الخطة فى إنقاذ الآلاف القليلة التى معه، وإنقاذ سمعة المسلمين فى أول معركة لهم مع الدولة الكبرى . ص _283
والعجيب أن الرومان أعياهم هذا القتال، وأصيبوا فيه بخسائر كبيرة، بل إن بعض فرقهم انكشف، وولى مهزوما. واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه. عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - قال: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم . وروى ابن إسحاق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقد رفعوا إلى الجنة - فيما يرى النائم - على سرر من ذهب، فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه فقلت: مم هذا؟ فقيل لى: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد. ثم مضى. * * * والدلالة التى تعلو على الريب فى هذه المعركة أن شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حدا لم تعرفه أمة معاصرة، وقد أكسبهم هذا الروح العالى إقداما حقرا أمامهم كبرياء الأم التى عاشت مع التاريخ دهرا، تصول وتجول لا يوقفها شىء. إن الاستهتار بالخطر والطيران إلى الموت ليس فروسية احتكرها الرجال المقاتلون وحدهم، بل هى قوة غامرة قاهرة تعدت الرجال إلى الأطفال فأصبحت الأمة كلها أمة كفاح غال عزيز. وحسبك أن جيش " مؤتة " لما عاد إلى المدينة قابله الصبية بصيحات الاستنكار يقولون: يا فرار، فررتم في، سبيل الله؟ إن أولئك الصغار الأغرار يرون انسحاب خالد ومن معه فرارا يقابل بحثو التراب. أى جيل قوى نابه هذا الجيل الذى صنعه الإيمان بالحق؟! أى نجاح بلغته رسالة الإسلام فى صياغة أولئك الأطفال العظام؟ من آباؤهم؟ من أمهاتهم؟ كيف كان الآباء يربون؟ وكيف(1/320)
كانت الأمهات يدللن؟ إن مسلمة اليوم بحاجة ماسة إلى أن تعرف هذه الدروس.. * * * تحدث النبى - صلى الله عليه وسلم - عن قادة الجيش الذين قتلوا، فقال لأصحابه: " ما يسرهم أنهم عندنا " أجل، إن الجوار الذى صاروا إليه أحب لنفوسهم وأقر لعيونهم من الدنيا وما فيها. أما أسرهم ففى كفالة الله، وهو نعم المولى ونعم النصير. ص _284
عن عبد الله بن جعفر ـ ابن الشهيد ـ جاءنا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بعد ثلاث من موت جعفر فقال: " لا تبكوا على أخى بعد اليوم، وادعوا لى بنى أخى ". قال عبد الله : فجىء بنا كأننا أفراخ. فقال: ادعوا إلىَّ الحلاق. فجىء بالحلاق فحلق رءوسنا، ثم قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مداعبا ـ: أما محمد فشبيه عمنا أبى طالب. وأما عبد الله فشبيه خَلقى وخُلقى. ثم أخذ بيدى فأشالها وقال: اللهم اخلف جعفرا فى أهله. وبارك لعبد الله فى صفقة يمينه ـ قالها ثلاث مرات. قال عبد الله: وجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تحزنه، فقال لها النبى: "العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم فى الدنيا والآخرة "؟! ولم ير المسلمون فى نتائج " مؤتة " ما يسكن ثائرتهم، فإن القبائل المنتصرة بالشمال استظهرت بالرومان على مقاتلتهم، واستطاعت بذلك النجاة من عدوانها على الحارث بن عمير، ولابد من قذف الرعب فى قلوبهم، وإشعارهم بأن بعوث الإسلام لا تلقى هذا الهوان. وهكذا اتجه نشاط المسلمين العسكرى إلى ميدان جديد بعيد. ذات السلاسل كانت " مؤتة " فى جمادى الأولى من السنة الثامنة، ولم يلبث المسلمون طويلا بعدها حتى عادوا إلى مشارف الشام يلاحقون خصومهم قبل أن يستريحوا. فخرج " عمرو بن العاص " ليؤدب القبائل الضاربة هناك إلا أنه خشى من كثرة عدوه، فأرسل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب مددا، وانحاز إلى ماء يسمى سلاسل حتى يجيئه العون.. وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جيشا من المهاجرين الأولين ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ يقوده أبو(1/321)
عبيدة بن الجراح. ووصاه رسول الله حين وجهه لنجدة " عمرو " فقال: لا تختلفا . فلما وصل أبو عبيدة قال له عمرو: إنما جئت مددا لى. فقال له أبو عبيدة: لا ولكنى على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه! فقال عمرو: أنت مدد لى!ـ وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا، هينا عليه أمر الدنيا ـ فقال : يا عمرو، إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لى: لا تختلفا، وإنك إن عصيتنى أطعتك! قال عمرو: فإنى أمير عليك، وإنما أنت مدد لى. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس وتولى قيادهم جميعا.. ص _285(1/322)
وأخذ عمرو يطارد القبائل الموالية للروم، فتوغل فى بلاد : بلى وعذرة وبلقين وطيئ. وكلما انتهى إلى موضع قيل له كان هنا جمع فلما سمعوا بك تفرقوا! وظفر مرة بواحد من هذه الجموع فاقتتلوا، وحمل عليهم المسلمون فهزموا، وأعجزوهم هربا فى البلاد. ومع أن عمرا دوخ أولئك الأعراب وشتت شملهم، إلا أنه لم يلقهم فى معركة حاسمة. وعلى أى حال فان سمعة المسلمين انزاح عنها غبار كثير بهذه الغزوة. * * * وحدث أن عمرو بن العاص احتلم فى ليلة باردة، وخشى على نفسه إن اغتسل أن يعتل فتيمم وصلى بالناس وكأن بعض الصحابة شك فى هذا الصنيع من عمرو، فذهب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له: إن عمرا صلى بنا وهو جنب! فقال الرسول: يا عمرو. صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبره بالذى منعه من الاغتسال. لقد خاف على نفسه قسوة البرد، والله يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) [النساء: 29]. فضحك الرسول ولم يقل شيئا .. وفقه عمرو فى هذه المسألة صحيح، فإن التيمم يجوز إذا كان استعمال الماء مظنة الضرر. الفتح الأعظم شغل المسلمون بعد عهد الحديبية بنشر الدعوة وعرض تعاليم الإسلام على كل ذى عقل. وكان وفاؤهم لقريش أمرا مقررا فيما أحبوا وفيما كرهوا. ورأى الناس من ذلك الآيات البينات.. لكن قريشا ظلت على جمودها القديم فى إدارة سياستها، غير واعية للأحداث الخطيرة التى غيرت مجرى الأحوال فى الجزيرة العربية، وتوشك أن تغيره فى العالم كله. وقد جرها فقدان هذا الوعى إلى حماقة كبيرة أصبح بعدها عهد الحديبية لغوا. وذلك أنها ـ مع حلفائها من بنى بكر ـ هاجموا خزاعة ـ وهى مع المسلمين فى حلف واحد ـ وقاتلوهم فأصابوا منهم رجالا، وانحازت خزاعة إلى الحرم، إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم، وقريش تمدهم بالسلاح وتعينهم على البغى. ص _286(1/323)
وأحس نفر من بنى بكر أنهم دخلوا الحرم - حيث لا يجوز قتال - فقال لرئيسهم نوفل بن معاوية: إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال نوفل: لا إله اليوم يا بنى بكر... أصيبوا ثأركم..!! وفزعت خزاعة لما حل بها، فبعثت إلى رسول الله " عمرو بن سالم " يقص عليه نبأها. فلما قدم المدينة، وقف على النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس يقول: يارب إنى ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا فى فليق كالبحر يجرى مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لى فى كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا وهم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا سجدا فقال له رسول الله: نصرت يا عمرو بن سالم . * * * وأحست قريش - بعد فوات الأوان - خطأها، فخرج أبو سفيان إلى المدينة يصلح ما أفسده قومه. ويحاول أن يعيد للعقد المهدر حرمته! وبلغ المدينة، فذهب إلى ابنته أم حبيبة، وأراد أن يجلس على الفراش، فطوته دونه، فقال: يا بنية ما أدرى، أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ ص _287(1/324)
فقالت: بل هو فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنت مشرك نجس! قال: والله لقد أصابك بعدى شر! ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه، فلم يرد عليه شيئا . واستشفع أبو سفيان بأبى بكر ليحدث النبى فى هذا الشأن فرفض، فتركه إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. فتركهما إلى على؟ فرد عليه: والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. ثم نصحه أن يعود من حيث جاء.. فقفل أبو سفيان إلى قومه يخبرهم بما لقى من صدود. وأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس أن يتجهزوا، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وأوصاهم بالجد والبدار. وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها!". واستمع المسلمون لأمر نبيهم، فمضوا يعبئون قواهم للقاء المنتظر، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت. * * * * ووقع فى هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب. فإن رجلا من أهل السابقة فى جهاد المشركين تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه أن محمدا سائر إليهم بجيشه..!! وقد رأيت أن المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو. أليس مما يقرب نجاحهم ويخفف خسائرهم؟ ولعله يدفع قريشا إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثا. وما معنى الكتابة إليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله، والاستكثار من أسباب المقاومة؟ عن على بن أبى طالب: بعثنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة " خاخ " فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها. فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة. فقلنا: أخرجى الكتاب. فقالت: ما معى! فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فإذا فيه: "من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول ص _288(1/325)
الله ". فقال: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش ـ كنت حليفا لها ولم أكن من صميمها ـ وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت ـ إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم ـ أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن دينى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أما إنه قد صدقكم! فقال عمر: يا رسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق! فقال: إنه شهد بدرا. وما يدريك!.. لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم..؟ ونزل قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) [الممتحنة: 1]. إن حاطبا خرج عن جادة الصواب بهذا العمل. وما كان له أن يواد المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران وتظاهروا على العدوان، وصنعوا بالمسلمين ما " حاطب " أعلم به من غيره. لكن الإنسان الكبير تعرض له فترات يصغر فيها، والله أبر بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التى تعرو نورهم فيخبو، وسعيهم فيكبو. وقد استكشف النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبيئة حاطب، فعرف أنه لم يكذبه فى اعتذاره. إنهم مقبلون على معركة كبيرة قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين، ويبقى حاطب لا حمى له فليتخذ تلك اليد عند قريش، حيطة للمستقبل. ذلك ما فكر فيه حاطب، وهو خطأ، فإن المشركين لم يذكروا فى عداوة الإسلام رحما ولا أهلا، وما ينبغى ـ ولو دارت علينا الدوائر ـ أن نبقى لهم ودا. وقد خاصمناهم فى ذات الله وأخذ علينا العهد أن نبذل فى حربهم أنفسنا وأموالنا. ولو جاز اتخاذ يد(1/326)
عندهم فكيف نتوسل بعمل يعد خيانة كبيرة فادحة الأضرار بالإسلام، وأهله؟ على أن حاطبا شفع له ماضيه الكريم، فجبرت عثرته، وأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أن ص _289
يذكروا الرجل بأفضل ما فيه، وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حينا بعد أن أصابوا طويلا. * * * سرى القلق فى ربوع مكة عقب أوبة أبى سفيان، ورأى العباس بن عبد المطلب أن يسلم هو وعياله وأن يهجروا مكة إلى المدينة، فقابلوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الطريق مقبلا بجيشه على مكة، وخرج كذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبى أمية، فلقيا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأبواء ـ وهما ابن عمه وابن عمته ـ وكانا من أشد الناس إيذاء له بمكة. فأعرض عنهما لما ذكر من مساءتهما. لكن على بن أبى طالب أشار على ابن عمه أبى سفيان بوسيلة يترضى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال له: ائته من قبل وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: ! قالوا ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) [يوسف: 91]. فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا. ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [يوسف: 92]. وأنشده أبو سفيان أبياتا جاء فيها: لعمرك إنى حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكا المدلج الحيران أظلم ليله فهذا أوانى حين أهدى فأهتدى هدانى هاد غير نفسى وذلنى على الله من طردته كل مطرد فضرب الرسول على صدره وهو يقول له: أنت طردتنى كل مطرد . وسار الجيش يطوى الوهاد والنجاد مسرعا إلى مكة، حتى بلغ " مر الظهران" قريبا منها فى العشاء، فنزل الجيش، ونصبت الخيام وأوقدت النيران فى معسكر يضم عشرة آلاف حتى أضاء منها الوادى، وأهل مكة فى عماية من أمرهم لا يدرون عن القضاء النازل شيئا.. وعز على العباس أن تجتاح مكة فى أعقاب قتال(1/327)
تتفانى فيه ولا يغنيها فتيلا. فخرج يبحث عن وسيلة تقنع قريشا بمسالمة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتدخلها فى أمانه. ص _290
وصادف ذلك أن ثلاثة من كبراء مكة خرجوا يتعرفون الأخبار، ويتسمعون ما يقال، فلما اقتربوا من الوادى راعهم ما به. قال أبو سفيان زعيم مكة: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا!! فقال بديل بن ورقاء: هذه ـ والله ـ خزاعة حمشتها الحرب. فرد أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. وكان المسلمون على خطتهم المرسومة يبثون العيون حولهم حتى يأخذوا قريشا على غرة فلا ترى من التسليم بدا، فعثرت خيالتهم على رجال قريش أولئك، ومعهم حكيم بن حزام فأخذتهم، وعادت بهم مسرعة إلى رسول الله. ولحق العباس بالأسرى وهو يعلن أنهم فى جواره، فلما دخلوا على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حادثهم عامة الليل، فانشرحت صدورهم بالإسلام، وإن كان أبو سفيان قد تأخر حتى طلع الصبح.. ثم سألوه الأمان لقريش، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن . وإنما أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا سفيان هذه الميزة إرضاء لعاطفة الفخر فى نفسه، وقد أرضاه بما لا يضر أحدا ولا يكلف جهدا، ولا عليه أن يتحبب إلى نفس بمثل هذا الثمن الميسور. وأراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستوثق من سير الأمور بعيدا عن الحرب والضرب، فضم إلى ذلك المسلك مع أبى سفيان أن أوصى العباس باحتجازه فى مضيق الوادى حتى يستعرض القوى الزاحفة كلها فلا تبقى فى نفسه أثارة لمقاومة، وهو سيد مكة المتبوع. قال العباس: فخرجت بأبى سفيان حتى حبسته بمضيق الوادى حيث أمرنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول ما لى ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة!(1/328)
فيقول: ما لى ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرته قال: ما لى ولبنى فلان؟ حتى ص _291
مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال: سبحان الله! يا عباس من هؤلاء؟! قلت: هذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل قد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن . ودخل أبو سفيان مكة مبهورا مذعورا، وهو يحس أن من ورائه إعصارا إذا انطلق اجتاح ما أمامه فما يقف دونه شىء. ورأى أهل مكة الجيش الفاتح يقبل من بعيد رويدا رويدا فاجتمعوا على سادتهم ينتظرون الأوامر بالقتال، فإذا صوت أبى سفيان ينطلق عاليا واضحا: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. وشُدهت امرأته هند بنت عتبة وهى تسمع من زوجها هذا الكلام، فوثبت إليه وأخذت بشاربه تلويه وصاحت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش ـ أى هذا الزق المنتفخ ـ قُبحت من طليعة قوم.. ولم يكترث أبو سفيان لسباب امرأته فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وأصبحت " أم القرى " وقد قيد الرعب حركاتها، واسترخت تجاه القدر المنساق إليها، فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، أو اجتمعوا فى المسجد الحرام يرقبون وهم واجمون.. على حين كان الجيش الزاحف يتقدم، ورسول الله على ناقته، تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله. لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجم حتى كاد ص _292(1/329)
عثنونه يمس واسطة الرحل . إن الموكب الفخم المهيب الذى ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذى يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شىء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا؟ وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا..! وأى كرامة عظمى حفه الله بها فى هذا الصباح الميمون! وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء. ويبدو أن هناك عواطف أخرى كانت تجيش فى بعض الصدور. فإن " سعد بن عبادة " زعيم الأوس، ذكر ما فعل أهل مكة، وما فرطوا فى جنب الله، ثم شعر بزمام القوة فى يده فصاح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم يوم أعز الله فيه قريشا، وأمر أن ينزع اللواء من سعد ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة فى الناس. * * * وسار رسول الله فدخل مكة من أعلاها. وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى. ودخل " خالد بن الوليد " من أسفل مكة ، وكان هناك نفر من قريش، غاظهم هذا التسليم، فتجمعوا عند " الخندمة " يقودهم عكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، إلا أن الحقيقة الكبيرة صدمت غرورهم فبددته، فإن خالدا حصدهم حصدا حتى لاذ القوم بالفرار. ومن طريف ما وقع أن حماس بن خالد من قبيلة بنى بكر، كان قد أعد سلاحا ص _293(1/330)
لمقاتلة المسلمين. وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهد تسأله: لماذا تعد ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يوما: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شىء! فقال: إنى والله لأرجو أن أخدمك بعضهم.. ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لى علة هذا سلاح كامل وأله وذو غرارين سريع السله فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئا من قتال مع رجال عكرمة. ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزما حتى بلغ بيته فقال لامرأته أغلقى على الباب..! فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟ فقال ـ يعتذر ـ لها: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمه وأبو يزيد قائم كالمؤتمه واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقى باللوم أدنى كلمه! وسكنت مكة واستسلم سادتها وأتباعها، وعلت كلمة الله فى جنباتهم. ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطاف به وأخذ يكسر الأصنام المصفوفة حوله، ويضربها بقوسه ظهرا لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة. كانت هذه الحجارة ـ قبل ساعة ـ آلهة مقدسة. وهى ـ الآن ـ جص وتراب وأنقاض، يهدمها نبى التوحيد وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81]. ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصور تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام ؟ فقال ـ ساخطا على المشركين ـ : قاتلهم الله، والله ما استقسما بهذا قط ، ومحا ذلك كله. حتى إذا طهر المسجد من الأوثان أقبل على قريش وهم صفوف ص _294(1/331)
صفوف، يرقبون قضاءه فيهم، فأمسك بعضاتى الباب ـ باب الكعبة ـ وهم تحته، فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: فإنى أقول لكم ما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء". وعندما كان رسول الله بالمسجد يجهز على الوثنية فى عاصمتها الكبرى، اقترب منه " فضالة بن عمير " يريد أن يجد له فرصة ليقتله. فنظر إليه النبى نظرة عرف بها طويته، إلا أنه فى غمرة النصر الذى أكرمه الله به، لم يجد فى نفسه على الرجل. بل استدعاه ثم سأله: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شىء، كنت أذكر الله! فضحك النبى ثم قال: استغفر الله. وتلطف معه الرسول، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شىء أحب إلى منه وكانت لفضالة فى جاهليته هنات. فمر ـ وهو راجع إلى أهله ـ بامرأة لها معه شأن. فلما رأته قالت: هلم إلى الحديث! فانبعث يقول: قالت: هلم إلى الحديث، فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام لو رأيت محمدا وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا والشرك يغشى وجهه الإظلام وصعد بلال فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة. وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم فى حلم. إن هذه الكلمات تقصف فى الجو فتقذف بالرعب فى أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين. الله كبر الله كبر، الله اكبر الله اكبر. هذه الصيحات المؤكدة تذكر الناس بالغاية الأولى من محياهم ، وبالمرجع الحق بعد ص _295(1/332)
مماتهم. فكم ضلت البشر غايات صغيرة أركضتهم على ظهر الأرض ركض الوحوش فى البرارى، واجتذبت انتباهم كله فاستغرقوا فى السعى وراء الحطام، وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والفرح يقتلهم بالامتلاء. ولم يسفه المرء نفسه بالغيبوبة فى هذه التوافه؟ إن صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة، ليلقى فى روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيد الوجود ورب العالمين، سيده ومولاه.. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. لقد سقط الشركاء جميعا. طالما ضرع الناس للوهم، واعتروا بالهباء، وأملوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعا، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة. ولم الخبط فى هذه المتاهات؟ إن كان المغفلون يشركون مع الله بعض خلائقه، أو يؤلهونها دونه؟ فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربا، ولا يرون غيره موئلا. والتوحيد المحض، هو المنهج العنيد للغاية التى استهدفوها. ولكن من الأسوة؟ من الإمام فى هذه السبيل؟ من الطليعة الهادية المؤنسة؟ إن المؤذن يستتلى ليذكر الجواب. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. سيرة هذا الرجل النبيل هى المثل الكامل لكل إنسان يبغى الحياة الصحيحة. إن محمدا إنسان، يرسم بسنته الفاضلة السلوك الفريد لمن اعتنق الحق وعاش له. وهو يهيب بكل ذى عقل أن يقبل على الخير، وأن ينشط إلى مرضاة وفي أمره، وولى نعمته، فيحث الناس أولا على أداء عبادة ميسورة رقيقة. حى على الصلاة حى على الصلاة هذه الصلوات هى لحظات التأمل فى ضجيج الدنيا، هى لحظات المآب كلما انحرف الإنسان عن الجادة. هى لحظات الخضوع لله كلما هاج بالمرء النزق، وطغت على فكره الأثرة فنظر إلى ما حوله، وكأنه إله صغير. هى لحظات الاستمداد والإلهام. وما أفقر الإنسان ـ برغم غروره ـ إلى من يلهمه الرشد فلا يستحمق، ويمده بالقوة فلا يعجز ويستكين. ثم يحث الناس ـ أخيرا ـ على تجنب الخيبة فى شئونهم كلها. والخيبة إنما تكون(1/333)
فى الجهد الضائع سدى فى العمل الباطل لأنه خطأ، سواء كان الخطأ فى الأداء، أو المقصد.. وهو يحذر من هذه الخيبة عندما يدعو : ص _296
حى على الفلاح، حى على الفلاح. ويوم يخرج العمل من الإنسان، وهو صحيح فى صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة. ألم يعلم الله نبيه أن يجعل شئون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [الأنعام: 162، 163]. ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبدا، ومن ثم يعود إلى تقرير الغاية والمنهج، مرة أخرى. الله اكبر الله اكبر.. لا إله إلا الله.. إن كلمات الأذان تمثل العناوين البارزة لرسالة كبيرة فى الإصلاح، ولذلك جاء فى السنن الثابتة أن المسلم عندما يسمعها يقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته، إنك لا تخلف الميعاد " . * * * * وفى يوم الفتح قد ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال ترن فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبة على وجوهها مسواة بالرغام، ولم يروا عبادها الأقدمين وقد ألقوا السلم واتجهوا إلى الإسلام.. إنهم قتلوا أو ماتوا إبان المعركة الطويلة، التى نشبت بين الإيمان والكفر. ولكن النصر الذى يجنى الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير، وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة. إنه ليس من الضرورى أن يشهد كل جندى النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل فى المراحل الأولى منه، وقد يصرع فى هزيمة عارضة ـ كما وقع لسيد الشهداء " حمزة " ومن معه. والقرآن الكريم ينبه أصحاب الحق إلى أن المعول فى الحساب الكامل على الدار الآخرة، ص _297(1/334)
لا على الدار الدنيا، فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعا: (فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) [غافر: 77]. ودخل رسول الله مكة فى رمضان، وظل بها سائر الشهر يقصر، ويفطر أكثر من خمسة عشر يوما، وكان قد خرج من المدينة صائما ثم أفطر هو وصحبه فى الطريق . فلما استقر الأمر، شرع يبايع الناس على الإسلام ، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء، فتمت البيعة على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا. وسنة رسول الله فى مبايعة النساء أن يأخذ عليهم الميثاق كلاما لا مصافحة. فعن عائشة: " لا والله، ما مست يد رسول الله يد امرأة قط " . * * * * وهكذا دخل أهل مكة فى الإسلام، وإن كان بعضهم بقى على ريبته وجاهليته يتعلق بالأصنام ويستقسم بالأزلام، وأولئك تركوا للأيام تشفى جهلهم، وتمحى عاهات من قلوبهم وألبابهم. ومادامت الدولة التى تحمى الوثنية وتقاتل دونها قد ذهبت، فسوف تتلاشى هذه الخرافة من تلقاء نفسها. إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة. ولقد أفلحت خطة المسلمين فى تعمية الأخبارعلى قريش حتى بوغتوا فى عقر دارهم، فلم يجدوا مناصا من الاستسلام، فما استطاعوا الجلاد ولا استجلاب الأمداد. وفتح العرب جميعا أعينهم فإذا هم أمام الأمر الواقع، حتى خيل إليهم أن النصر معقود بألوية الإسلام فما ينفك عنها! معركة حنين بيد أن هذا الغلب كله كان له رد فعل معاكس لدى القبائل الكبيرة القريبة من مكة، وفى مقدمتها " هوازن " و " ثقيف " ، وتعتبر " الطائف " قصبتها وهى أكبر المدن فى الجزيرة بعد مكة وشرب. ص _298(1/335)
اجتمع رؤساء هذه القبائل على " مالك بن عوف " سيد هوازن، وأجمعوا أمرهم على المسير لقتال المسلمين، قبل أن تتوطد دعائم الفتح، وقبل أن يتحركوا لاستئصال ما بقى من معالم الوثنية المدبرة. وكان " مالك بن عوف " شجاعا مقداما، إلا أنه سقيم الرأى سئ المشورة. فأمر قومه ـ وهم خارجون للغزو ـ أن يأخذوا معهم نساءهم وأموالهم وذراريهم ، ليشعر كل رجل وهو يقاتل أن ثروته وحرمته وراءه فلا يفر عنها.. وقد اعترضه " دريد بن الصمة " وهو فارس مجرب محنك، وقال له: هل يرد المنهزم شىء؟ إن كانت الدائرة لك، لم ينفعك إلا رجل برمحه وسيفه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك. فسفه مالك رأيه، وأصر على خطته. وعلم المسلمون بمخرج أعدائهم، فأرسلوا عيونهم يتعرفون عدتهم وهيئتهم. روى أبو داود أن رجلا جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له: إنى انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا " بهوازن " على بكرة آبائهم بظعنهم، وبنعمهم، وشائهم، قد اجتمعوا إلى " حنين ".. فتبسم رسول الله وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله. إن السهولة التى تم بها فتح مكة، وإحساس جمهور المؤمنين بأن الجاهلية تلفظ أنفاسها الأخيرة فلن تبدى مقاومة تذكر، وظن حدثاء العهد بالإسلام أن شيئا ما لن يقف فى طريقه ـ كل ذلك جعل الجيش يزحف للقاء المشركين وهو غير مكترث لما سوف يواجه. ولم يكترث؟ إنهم ـ وهم قلة ـ كانوا يكسبون المعارك الطاحنة، فكيف وهم اليوم يخرجون فى عدد لم يجمعوا مثله قبلا؟ قيل: إن أبا بكر الصديق لما نظر إلى الجيش قال: لن نغلب اليوم من قلة..! ذلك أن المسلمين بلغوا اثنى عشرا ألفا بمن انضم إليهم من أهل مكة. هزيمة وسار الجيش الواثق حتى وصل إلى وادى " حنين ". وكان " مالك بن عوف " ورجاله قد سبقوا إلى احتلال مضايقه، وانبثوا فى الشعاب والأجناب المنيعة، ثم تهيئوا لاستقبال المسلمين. ص _299(1/336)
وأقبلت الطلائع الغفيرة تتدافع نحو الوادى - وهى غافلة عما يكمن فيه - وكان واديا أجوف منحدرا، ينحط فيه الراكبون كلما أوغلوا كأنهم يسيرون إلى هاوية. فلما تكاثرت فى دروبه الفرق الزاحفة، لم يرعهم إلا وابل من السهام يتساقط فوقهم من المكامن العالية، وكان غبش الفجر لا يزال يترك بقاياه فى الجو الغائم. فارتاعت المقدمة لهذه المفاجأة، فهى فى عماية من الليل، وعماية من أمرها، لا تعرف إلا أن تستدير ثم تولى الأدبار.. وانتشرت موجة الفزع، فكسرت الصفوف المرصوصة وبعثرتها. واستغل رجال مالك بن عوف، هذا الارتباك، فهاجمت كتائبهم، وحملت الخيل على ما أمامها، فانكفأ المسلمون مهزومين لا يلوى أحد على أحد. ونظر زعماء مكة إلى الجيش المولى نظرة تشف وفرح. وعاد إلى بعضهم كفره بالله ورسوله، فقال أبو سفيان: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. ولا عجب فإن الأزلام التى يستقسم بها فى جاهليته لا تزال فى كنانته. وقال كلدة بن الجنيد: ألا بطل السحر اليوم. فأجابه صفوان بن أمية - ولم يزل مشركا -: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن. * * * * وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين وقد أغضبه هذا الفرار، فقال: أين أيها الناس؟ هلموا إلى، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.. فلا يرد عليه شىء وركبت الإبل بعضها بعضا وهى مولية بأصحابها ولمح النبى وراءها رجلا من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء فى رأس رمح طويل، وهوازن خلفه، إذا أدرك الفارين طعن برمحه، وإذا فاتوه رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه. إن الذى تولى كبر هذه المهزلة الشائنة هم الطلقاء من أهل مكة ورعاع البدو. ووقف النبى - صلى الله عليه وسلم - ساكن الجأش، يدبر الرأى فى خطة ينقذ بها سمعة الإسلام ومستقبله، وقد أحاط به لفيف من المهاجرين الأولين، ومن أهل بيته. ص _300(1/337)
فأمر العباس بن عبد المطلب - وكان جهير الصوت - أن ينادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية .. لقد هداه الحق أن يهتف بأصحاب العقائد، ورجال الفداء عند الصدام، فهم - وحدهم - الذين تنجح بهم الرسالات وتفرج الكروب. أما هذا الغثاء من العوام الحراص على الدنيا، السعاة إلى المغانم، فما يقوم بهم أمر، أو تثبت بهم قدم. * * * الثبات والنصر وفى ضجة الفزع الذى ساد المعركة أولا، علت صيحات العباس، ووصلت إلى آذان الرجال المشدوهين لما وقع، فأخذوا يكافحون ليبلغوا مصدر الصوت. إذا أراد أحدهم أن يعطف بعيره ليعود به، لا يقدر من ضغط الفارين، فما يجد بدا من أن يقذف درعه من عنقه، ويحمل سيفه وترسه ثم يؤم الصوت. واجتمع حول رسول الله عدد من الرجال الذين دعاهم، وهم يصيحون: لبيك، حتى قارب القوم مائة، فاستقبل النبى بهم المشركين، وقد ملك زمام الموقف وأعاد الكرة عليهم، فاجتلد الفريقان اجتلادا شديدا. وقصد "على" وأحد الأنصار الى حامل العلم فى طليعة هوازن، فضرب "على" عرقوبى جمله فوقع على عجزه، ثم استمكن منه الأنصارى فهوى به عن رحله. وكان النبى على بغلته يقول: أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ويدعو: اللهم أنزل نصرك ص _301(1/338)
والمهاجرون والأنصار قد التحموا مع رجال هوازن وثقيف. قال " العباس": ونظر رسول الله - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ـ فقال: الآن حمى الوطيس. ثم أخذ حصيات، فرمى بهن فى وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال " العباس ": فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فما هو إلا أن رماهم فمازلت أجد حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا . ولم يطل وقت، حتى كان رجال (ثقيف) ومن معهم يوغلون مولين الأدبار فإذا هم يرون الأسرى مكتفين! وفى هذه المعركة نزل قول الله عز وجل: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) [التوبة: 25، 26]. * * * واعتصم بعض المنهزمين بناحية يقال لها " أوطاس ". فأرسل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أعقابهم " أبا عامر الأشعرى " فقاتلهم حتى قتل، فأخذ الراية منه ابن عمه " أبو موسى الأشعرى " فما زال يناوش القوم حتى بدد شملهم، وهزموا شر هزيمة . واضطر " مالك بن عوف " ومن معه من رجالات قومه أن يمضوا فى الفرار حتى يصلوا إلى " الطائف " فيمتنعوا بحصنها تاركين فى - هذا الفرار - مغانم هائلة. فإن مالكا - كما علمت - خرج يغزو، ومعه نساء القبيلة وما تملك. فخلف فى الميدان أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وأكثر من أربعين ألفا من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة.. هذا الى جانب ستة آلاف من السبى. ص _302(1/339)
الغنانم وكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقسم على الناس هذه الغنائم وتأنى، يبتغى أن يرجع القوم إليه تائبين، فيحرزوا ما فقدوا. ومكث ينتظرهم بضع عشرة ليلة فلم يجئه أحد . فشرع يسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، وبدأ بقسمة المال، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطى، بل أول من حظى بالأنصبة الجزلة. أخذ " أبو سفيان " مائة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة، فقال: وابنى معاوية؟ فمنح مثلها لابنه معاوية. فقال: وابنى يزيد؟ فمنح مثلها لابنه يزيد . وأقبل رؤساء القبائل وأولو النهمة، يتسابقون إلى أخذ ما يمكن أخذه. وشاع فى الناس أن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى الفقر. فازدحموا عليه يبغون المزيد من المال، وأكب عليه الأعراب يقولون: يا رسول الله، أقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه! فقال: "أيها الناس، ردوا على ردائى فوالذى نفسى بيده لو كان لكم عندى عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ". ثم قام إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها فقال: " أيها الناس، والله ما لى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم " . إن أعين القوم تكاد تخرج من المحاجر تطلعا إلى الدنيا. وهؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء، ما أغنوا عن الإسلام شيئا فى مآزقه الأولى، بل كانوا هم العقاب الصلدة التى اعترضت مسيله حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين فى ثواب الآخرة، المؤثرين ما عند الله. ص _303(1/340)
ولكنهم اليوم ـ بعد ما أعلنوا إسلامهم ـ يبغون من الرسول أن يفتح عليهم خزائن الدنيا، فحلف لهم أنه ما يستبقى منها شيئا لشخصه، ولو امتلك ملء هذه الأودية مالا لوزعه عليهم. والحق أن الرسول وسع بحلمه وكرمه مسالك بينة للطيش والجشع فى سبيل تألف هؤلاء الناس وتحبيبهم فى الإسلام. ولو عاقبهم على جبنهم فى (حنين) لنال منهم أى منال. روى الإمام أحمد أن " أبا طلحة " ـ وهو من فرسان المسلمين المعدودين ـ لقى " أم سليم " ومعها خنجر، فقال لها: ما هذا؟ قالت: إن دنا منى بعض المشركين أبعج بطنه ـ وذلك فى معركة حنين ـ فقال أبو طلحة لرسول الله: أما تسمع ما تقول أم سليم؟ فضحك النبى. فقالت أم سليم: يا رسول الله، أقتل من بعدها الطلقاء الذين انهزموا بك! فقال: إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم. والعجب أن هؤلاء الذين فروا عند الفزع، هم الذين كثروا عند الطمع، وشاء النبى أن يلطف معهم، وينسى ماضيهم تكرما وتأليفا. وماذا يصنع؟ إن فى الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم، لا من عقولهم. فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشى له. عن أنس بن مالك قال: " كنت أمشى مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته قال: مر لى من مال الله الذى عندك! فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء ".. إن هذا الأعرابى لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطابع الرفيق، قدر ما يعجبه عطاء يملأ جيوبه، ويكن مطامعه. ص _304(1/341)
ومن هنا قال صفوان بن أمية: مازال رسول الله يعطينى من غنائم " حنين " وهو أبغض الخلق إلى، حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه . حكمة هذا التقسيم وهذه السياسة البعيدة لم تفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى الاعتراض، فهناك مؤمنون ظنوا هذا الحرمان ضربا من الإعراض عنهم والإهمال لأسرهم. روى البخارى عن " عمرو بن تغلب " قال: أعطى رسول الله قوما ومنع آخرين. فكأنهم عتبوا عليه، فقال: إنى أعطى قوما، أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله فى قلوبهم من الخير والغنى، منهم " عمرو بن تغلب". قال عمرو: فما أحب أن لى بكلمة رسول الله حمر النعم.. فكانت هذه التزكية تطييبا لخاطر الرجل، أرجح لديه من أثمن الأموال. وكان الأنصار ممن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة. لقد حرموا جميعا أعطية حنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة فطاروا يقاتلون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حتى تبدل الفرار انتصارا. وهاهم أولاء، يرون يدى الفارين تعود ملأى. أما هم.. فلم يمنحوا شيئا قط! عن أبى سعيد الخدرى: لما أصاب رسول الله الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن فى الأنصار شىء منها، قليل ولا كثير، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم حتى قال قائلهم: لقى والله رسول الله قومه. فمشى " سعد بن عبادة " إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن هذا الحى من الأنصار وجدوا عليك فى أنفسهم! قال: فيم؟ قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم فى قومك وفى سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شىء. قال رسول الله: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا امرؤ من قومى. ص _305(1/342)
فقال رسول الله: اجمع لى قومك فى هذه الحظيرة، فإن اجتمعوا فأعلمنى! فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم فى تلك الحظيرة.. حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله اجتمع لك هذ الحى من الأنصار حيث أمرتنى أن أجمعهم. فخرج رسول الله، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى! قال رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله وبماذا نجيبك؟ المن لله ورسوله. قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك وخائفا فأمناك، ومخذلا فنصرناك.. فقالوا: المن لله ورسوله. فقال: أوجدتم فى نفوسكم يا معشر الأنصار فى لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذى نفسى بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلت لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربا، ورسوله قسما. ثم انصرف.. وتفرقوا .. والأنصار - فى تاريخ الدعوات - مثل فريدة للرجال الذين تقوم بهم الرسالات العظمى، حتى إذا استوت على سوقها، وتجاوزت أيام محنتها ومؤنتها، وتدلت ثمارها وحلا جناها، جاءت أيد غير أيديهم فقطعت ما تشتهى، ولم تكتف بذلك! بل لطمت أيدى الغارسين حتى لا تلقط من الثمار الساقطة قليلا ولا كثيرا!! ص _306(1/343)
ولا نقول ذلك تعليقا على توزيع الغنائم فى هذا المقام، فقد اتضح وجه الرشد فى هذه القسمة الحصينة.. ولكنا نذكر فى مناقب الأنصار، وافتراض ترفعهم عن الدنيا فى سبيل الدين وتأليف الناس عليه، أن شئون الحكم ابتعدت عنهم، واحتازها غيرهم وهم لها أكفاء. فلم تمض ثلاثون سنة حتى كانت فى أيدى الطلقاء. ولا ريبة فى أن أولئك المتجردين لله سوف يلقون جزاءهم الأوفى، وأن شأن الدنيا أنزل قدرا من أن يأسى عليه رجل العقيدة. غير أننا نتساءل: أكان من مصلحة الرسالات نفسها أن تقع هذه الأثرة؟ أم كان من سوء حظ الإسلام أن يلقى هذا اللون من الحكام، فيقصى أصحاب السبق وأولو النصرة، ويملك زمام الدين آخر الناس دخولا فيه وبصرا به؟! عودة وفد هوازن وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما، وسألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرد عليهم سبيهم وثروتهم! فقال لهم: إن معى من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه. فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله فى المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وانى قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفىء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: إنا لا ندرى من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم عادوا إلى رسول الله يخبرونه أنهم قد طيبوا وأذنوا . حصار الطائف أما ثقيف فإنها ـ بعد أن تراجعت منهزمة فى "حنين " و " أوطاس " ـ دخلت حصونها وتهيأت فيها لحصار طويل. وعرف المسلمون أن القوم لا يزالون على إصرارهم والبقاء على ص _307(1/344)
جاهليتهم، وأن الخسائر التى لحقت بهم لم تكسر شوكتهم ولم ترهق عزيمتهم، فقرروا السير إليهم ومناجزتهم. وللمسلمين خبرة قديمة بهذا الأسلوب من القتال، فقد حاصروا، وعرفوا أنجح طرائق الهجوم والدفاع. ونهض رسول الله بجيشه حتى اقترب من الطائف فعسكر حولها وأخذت ثقيف من حصونها تقذف بالنبال فأصيب نفر من المسلمين، واضطر الجيش أن يؤخر مواقفه حتى لا يستهدف لقذائفهم. ويظهر أن النبى لم يحرص على اقتحام الحصون واستنزال أهلها قسرا كما فعل ببنى إسرائيل. لقد أمل فيهم خيرا، وأدار المعركة حولهم من حدود ضيقة وبضحايا يسيرة وظل يحاصرهم خمس عشرة ليلة. ثم بدا له أن يدعهم وشأنهم، وأشار على المسلمين بذلك. فرغبوا أولا فى إطالة حصارها حتى تفتح عليهم. ثم نزلوا أخيرا على رأيه. وروى: أن رسول الله استشار نوفل بن معاوية فقال: يا نوفل ما ترى فى المقام عليهم؟ فقال: يا رسول الله ثعلب فى جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك ! فأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر بن الخطاب أن يؤذن فى الناس بالرحيل. فلما قفلت بهم المطايا، قالوا: يا رسول الله، أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد ثقيقا! ولم يطل بقاء ثقيف على شركها، فما هى إلا شهور قلائل حتى أرسلوا وفدهم إلى المدينة يخبر النبى برغبتهم فى الإسلام وانفساح قلوبهم له. إلى دار الهجرة عاد المسلمون من الطائف إلى مكة، ليعاودوا المقام فيها بعد أن فتحها الله عليهم بل لينظموا أمورها ثم يرتحلوا إلى مهجرهم الخالد.. ص _308(1/345)
إن صلتهم بالمدينة أضحت من العمق والقوة، بحيث لا يرجحها وطن قديم ولا ذكريات عزيزة. روى أن النبى لما فتح مكة ودخلها قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فتهامسوا فيما بينهم: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شىء يا رسول الله! فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم! ولما كان أهل مكة حدثاء عهد بالاسلام وفقههم فى أحكامه ومراميه قليل، فإن النبى خلف فيهم " معاذ بن جبل " يعلمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم. وجعل " عتاب بن أسيد " أميرا على مكة وعمره يومئذ عشرون سنة. وكان " عتاب " شابا ذكيا، قنوعا شجاعا، وقد تقرر له من مال المسلمين درهم كل يوم، هو مرتب الإمارة، فقرت بذلك عينه، بل إنه خطب الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقنى رسول الله درهما كل يوم فليست بى حاجة إلى أحد. ثم قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة فى الشهر الأخير من السنة الثامنة. لله ما أفسح المدى بين هذه الأوبة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام! ص _309(1/346)
لقد جاءه مطاردا، يبغى الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس فأكرم أهله مثواه، وآووه، ونصروه، واتبعوا النور الذى أنزل معه، واستخفوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وهاهو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التى استقبلته مهاجرا خائفا لتستقبله مرة أخرى، وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها، فأنهضها ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئتها الأولى. (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [يوسف: 90] موقف المنافقين وكان حقيقا بالذين خالجتهم الريبة فى رسالة محمد أن يتوسموا فى هذه الآيات البينات ما يقربهم من دينه، ويغريهم بالتصديق ونبذ الجفوة والعناد. إلا أن النفوس الخسيسة تزداد شرا وجحودا كلما ازداد خصومها نجاحا وصعودا. فما تظنه سبب إقبالها، قد يكون سبب انتكاسها. لذلك لا يستغرب أن يرجع رسول الله إلى المدينة، فيجد قلوب المنافقين لا تزال مطوية على دخلها تبتسم للفاتح العائد، وهى تود لو لم تر شبحه. يستوى فى ذلك رؤساء العشائر الذين وقى سلطانهم أمام انتشار الإسلام، وسواد الأعراب الذين يمرحون فى البادية كالسوائم الغفل، لا يكادون يفقهون حديثا. وثم أمر آخر زاد فى غواية المنافقين وتربصهم الشر بالإسلام ونبى الإسلام، ذلك هو عرفانهم بالخصومة التى نشبت بين المسلمين والرومان، وإدراكهم لما تحمله فى أطوائها من خطورة وعنف. فالعرب ينظرون إلى دولة الروم نظرة أهل إفريقية اليوم إلى أوروبا وأمريكا، إنها قوة لا تنال ولا تناوش. ولئن كان الرومان بهذه المثابة المرهوبة، فإن محمدا ـ كما عرف القوم من سيرته ـ لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، وقد مضى برسالته يذيب ما اعترضه من عوائق، فمحا الوثنية، وأجلى اليهودية، وقاوم بطش الروم مقاومة الواثق المعتد. والمنافقون مسرورون بهذه الخصومة الجديدة، يحسبون أن مقبرة الإسلام ستحفر فيها . ص _310(1/347)
لذلك لما أعلن النبى فى المدينة أنه منطلق إلى " تبوك "، تجمع رهط من المنافقين فقال بعضهم لبعض - مشيرين إلى المسلمين -: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال.. إرجافا وترهيبا للمؤمنين!! * * * تبوك عزم النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يرسى العلائق بين الإسلام والنصرانية على دعائم مكينة. وهو لا يقبل مساومة فى ترك دعاته أحرارا يعرضون دينهم على الناس، فإن راقهم دخلوه وإن ساءهم تركوه. يجب أن تتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تدعى إليه. أما أن تقطع أعناق الدعاة وتقام الأسوار الكثيفة فى وجوههم، فهذا ما يقاومه الإسلام بالقوة. ثم إن الرومان فى الشام والعراق ومصر وغيرها من البلدان قوم غزاة لا تربطهم بأهل البلاد الأولين إلا صلات القهر المادى والأدبى. فالذى يعترض زحف الإسلام إلى الشمال يجب أن يسأل نفسه قبل ذلك: لم سكت عن زحف الرومان إلى الجنوب؟ وعن الطريقة التى يباشرون بها حكم هذه الأقطار المغلوبة على أمرها؟ والمقارنة المنصفة تجعل ما يطلبه النبى شيئا لا غبار عليه. دعوا العقائد المختلفة تبين عن نفسها، وتجذب الشعوب إليها، أو تصرفهم عنها.. لكن هذا الطلب قوبل بالرد المسلح. فلا دولة الروم تفتح أبواب المصيدة عن الفرائس التى تضطرب داخل جدرانها ولا كنيسة الروم ترحب بهذا الجو الجديد. قلنا فى كتابنا: " التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام "، فى صدد غزوة تبوك: "... والكنيسة لا تطيق أن يعيش بجانبها رأى يخالف فى الفروع التافهة!. فكيف تسمح بالبقاء لدين ينكر سلطة رجالها؟ لأنه - لا يرى بين العباد وربهم وسائط - وينكر عقيدة الفداء التى ترتكز عليها - لأنه يبنى الجزاء على عمل الإنسان وحده. فليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ص _311(1/348)
ثم هو ينكر مبدأ الشركة فى الألوهية، فليس للعالم إلا رب واحد، يخضع له عيسى وأمه.. لذلك رأى الروم أن يعيدوا الكرة فيضربوا الإسلام فى شمالى الجزيرة ضربة ترده من حيث جاء، وتوصد عليه أبواب الحدود، فلا يستطيع التسرب منها، وتضمن الكنيسة بعدنذ انفرادها بالضمير البشرى، حتى إذا قرعت أجراسها لم يشب رنينها صدى لمؤذن يهتف بتكبير الله وتوحيده، ويدعو للصلاة والفلاح. وترامت إلى النبى فى المدينة أنباء هذا الإعداد الماكر. وتاريخ النصرانيةـ منذ تولت الحكم ـ يؤكد نية العدوان لدى رجال الكهنوت.. فلم يرى النبى بدا من استنفار المسلمين، لملاقاة هذا العدوان المبيت. والتهيؤ لملاقاة الروم جاء فى أيام قيظ وقحط. والسير إليهم يتطلب جهدا مضنيا ونفقة كبيرة. وقتال الروم ليس صداما مع قبيلة محدودة العدد والعدة، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على جملة قارات، وتملك موارد كثيرة من الرجال والأموال. على أن أصحاب العقيدة لا ينكصون أمام الصعاب، والسكوت على تحدى النصارى لهذا الدين، ورغبتهم الملحة فى القضاء عليه يعتبر انتحارا وبوارا، فليتحامل المسلمون على أنفسهم إذن وليواجهوا مستقبلهم بما يفرض من تضحيات وتفديات. وللظروف العصيبة التى اكتنفت إعداد هذا الجيش سمى جيش العسرة . والآيات التى أنزلها الله فى كتابه ـ متعلقة بغزوة العسرة ـ هى أطول ما نزل فى قتال بين المسلمين وخصومهم. وقد بدأت باستنهاض الهمم لرد هجوم المسيحية على الإسلام، وافهام المسلمين مغبة تقصيرهم فى أداء هذه الفريضة، وإشعارهم بأن الله لا يقبل ذرة من تفريط فى حماية دينه ونصرة نبيه، هان التراجع أمام الصعوبات الحائلة ـ دون قتال الروم ـ يعتبر مزلقة إلى الردة والنفاق: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل(1/349)
قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [التوبة: 38، 39]. ص _312
ومضت الآيات تتحدث فى صرامة وعنف، ففضحت المنافقين، وكشفت عن المترددين، وأهانت طلاب الدعة والراحة، الذين آثروا ظل القعود فى بيوتهم وحقولهم، على حر الصحراء، ووعثاء السفر، ومتاعب الجلاد: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) وأنباء جيش العسرة تفيض بها صفحات طوال من سورة التوبة. ولعل من البين فى أسلوب القرآن وهو يصف هذا الجهاد، أنه لم تأخذه هوادة فى التنويه بمن اشتركوا فيه، والتنديد بمن تخلفوا عنه، ولا عجب، فتحديد موقف الإسلام من النصرانية، هو بت فى مستقبل الدين كله إلى الأبد. فإما ثبت المسلمون أمام لدد الكنيسة المتعصبة، هاما أحرقتهم نارها، فلم يبق لدينهم أثر. وكان لهذا الحزم أطيب النتائج، فخرج المسلمون فى تعبئة لم يخرجوا من قبل فى مثلها، وانطلقوا صوب الشمال، حيث تربض جيوش الروم.. * * * * وتجلت - فى هذا الإعداد - طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم لتجهيز الجيش وإمداده بحاجته، من الرواحل والسلاح والخيل، منهم " عثمان بن عفان " الذى سبق فى بذله سبقا بعيدا، حتى إن الرسول عجب من كثرة ما أنفق، وقال: " اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه راض ". ومنهم الفقراء الذين شاقهم الجود بأنفسهم فى سبيل الله ثم أعجزتهم الوسائل التى تبلغهم الميدان فسحت أعينهم الدمع لهذا الحرمان. روى عن علية بن يزيد أنه قام من الليل يصلى، فتهجد ما شاء الله ثم بكى وقال : اللهم ص _313(1/350)
إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه.. وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها فى مال أو جسد أو عرض.. وأصبح الرجل - على عادته - مع الناس فقال رسول الله: أين المتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق؟ فليقم. فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله: " أبشر؟ فوالذى نفسى بيده لقد كتبت فى الزكاة المتقبلة ". وهناك أهل الريبة الذين يلتمسون للفرار الأعذار، وتقعد بهم كراهيتهم للإسلام عن إسداء أى عون له، فهيهات أن يعدوا للخروج عدة، أو يتمنوا للخارجين عودا. ومن أسخف الأعذار التى تمحلها أولئك القاعدون المنافقون ما قال الجد بن قيس للنبى - وقد عرض عليه الجهاد -: يا رسول الله أو تأذن لى ولا تفتنى؟ فوالله لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر " الروم " ألا أصبر فأعرض عنه رسول الله وفيه نزلت الآية: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين). وهناك الذين فترت - أول الأمر - هممهم، فلما جد الرحيل وانطلق الجيش، أحسوا خطر التخلف على إيمانهم، فنهضوا يدركون ما يوشك أن يفوتهم. منهم "أبوخيثمة " عاد يوما إلى أهله - بعد مسير النبى وصحبه - وكان اليوم قائظا، فوجد امرأتيه كلتيهما، قد أعدتا له الطعام الشهى والماء البارد الروى، ووجد مسكنه مبللا رطبا وسط بستانه الذى أخذ بسره الأحمر ينضج ويسود. فاستيقظ ضمير الرجل، وقال: رسول الله فى الشمس والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد؟ وطعام مهيأ؟ وامرأة حسناء فى ماله مقيم! والله ما هذا بالنصف! ص _314(1/351)
ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لى زادا. ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله. وأسرع الرجل المؤمن يطلب رسول الله، حتى أدركه حين نزل تبوك. * * * * وعانى الجيش الذاهب إلى تبوك مصاعب ثقيلة. روى الإمام أحمد فى تفسير قول الله عز وجل: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) [التوبة: 117]. قال: خرجوا فى غزوة " تبوك " الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا فى حر شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها، ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة فى الماء، وعسرة فى النفقة، وعسرة فى الظهر. وعن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عودك فى الدعاء خيرا فادع الله لنا! فقال: أوتحب ذلك؟ قال: نعم. فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء - أى آذنت تمطر - فأطلت، ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. قال ابن إسحاق: وكان فى الجيش رجل منافق فقالوا: ويحك هل بعد هذا من شىء؟ فقال: سحابة مارة! وفى الطريق مر المسلمون بالديار التى كانت ثمود تسكنها وهى أطلال هامدة وآثار بقيت تذكر بغضب الله على من كذبوا رسوله وتعجلوا عقابه، فقال رسول الله: " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " . ص _315(1/352)
والظاهر أن النبى يريد ألا يغفل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مثلات، فإن المرء لو قيض الله له أن يزور السجون، ويشهد مثلا غرفة الإعدام - فليس يليق أن ينظر إلى حبل المشنقة وهو شارد أو ضاحك، لا أقل من بعض الأسى لأحوال المجرمين ومصارعهم! وروى أحمد عن جابر: لما مر النبى بالحجر قال: لا تسألوا الآيات - خوارق العادات - فقد سألها قوم صالح، فبعث الله لهم ناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السماء منهم . والنهى عن سؤال الآيات عود بالناس إلى الأحوال المألوفة، إذ لا جدوى فى الخروج عليها، وخير للسائلين أن يبذلوا طاقاتهم فى أداء ما يكلفون به، وأن يرققوا قلوبهم حتى تلين لأمر الله. فإن من قبلهم شهد العجائب، ثم أغرتهم قسوة القلب بازدرائها، فحاقت بهم اللعنة. وبلغ المسلمون " تبوك " فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوا. ولابد أن الروم آثروا الاختفاء داخل حدودهم عن ملاقاة هذه القوة الفتية وصالح النبى متنصرة العرب الضاربين فى هذه الأرجاء. فدخل فى عهده أهل " أبلة " و " أذرع " و " تيماء " و " دومة الجندل " وأيقنت القبائل التى تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه. وغزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب، فإن بلاء المسلمين أولها كان شديدا، ثم جاء ختامها طمأنينة وعزة. ص _316(1/353)
ومكث الرسول هنالك بضعة عشر يوما، يمد بصره وراء الصحراء حيث اختفى الرومان، يرقب منهم أى حركة، فلما رأى القوم قابعين مستكينين، قرر أن يقفل عائدا إلى المدينة، موفورا منصورا. وقدم رسول الله المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد. فقال: هذه طابة! وهذا "أحد " جبل يحبنا ونحبه! وتسامع الناس بمقدمه فخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع لقد قوبل جيش العسرة فى مرجعه هذا بحفاوة بالغة. إنه أكبر جيش خرج مع رسول الله، إذ وصل تعداده نحو ثلاثين ألفا، ولم ينس النبى فى ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم. عن أنس بن مالك: أن رسول الله رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة فقال: إن فى المدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. فقالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر! بهذه المواساة الرقيقة كرم النبى الرجال الذين شيعوه بقلوبهم وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم وأزاح هما ثقيلا عن أفئدتهم. أما المنافقون من مؤملى الشر ودعاة الهزيمة، والأعراب الذين اعتبروا الإسلام نكبة حلت بهم، فهم يتربصون الدوائر بأهله! أما هؤلاء وأولئك فأمامهم عناء طويل.. * * * * المخلفون ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاء المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وجاءه "كعب بن مالك "، فلما سلم عليه، تبسم تبسُم المغضب؟ ثم قال له: تعال. ص _317(1/354)
قال: فجئت أمشى حتى جلست بين يديه، فقال لى: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى والله إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنى والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به على، ليوشكن الله أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه، إنى لأرجو عفو الله عنى. والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله فيك. فقمت. وثار رجال من بنى سلمة، فاتبعونى يؤنبوننى، فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا. ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لك. قال: فوالله مازالوا يؤنبوننى، حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسى. ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذى قيل لك. ففلت: من هما؟ قالوا: " مرارة بن الربيع العامرى " و " هلال ابن أمية الواقفى " فذكروا رجلين صالحين شهدا بدرا، فيهما أسوة!! فمضيت حين ذكروهما لى. ونهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كلامنا ـ نحن الثلاثة ـ من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى الأرض، فما هى بالتى أعرف! فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف فى الأسواق، ولا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة. فأقول فى نفسى: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلى، وإذا التفت نحوه، أعرض عنى. حتى إذا طال على من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت(1/355)
جدار حائط أبى قتادة ـ وهو ابن عمى وأحب الناس إلى ـ فسلمت عليه، فوالله ما رد على السلام! فقلت: يا أبا قتادة؟ أنشدك الله هل تعلمنى أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له، فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناى، وتوليت حتى تسورت الجدار. ص _318
فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، واذا نبطى من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على "كعب بن مالك "؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءنى دفع إلى كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها. حتى إذ مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتينى فقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ فقال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إنه ـ والله ـ ما به حركة إلى شىء. والله مازال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال " كعب ": قال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا استأذنت فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما يدرينى ما يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟ ولبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، على سطح بيت من بيوتنا، وبينا أنا جالسى على الحال التى ذكرها الله(1/356)
تعالى، قد ضاقت على نفسى وضاقت على الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك؟ أبشر! فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج من الله. وآذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس بتوبة الله علينا حين صلى الفجر. فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبى مبشرون، وأركض إلى رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى، نزعت له ثوبى فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فتلقانى ص _319(1/357)
الناس فوجا فوجا، يهنئونى بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس، وحوله الناس. فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنأنى، والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره، ولست أنساها لطلحة. فلما سلمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت: أهو من عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. قال: جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر. فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجانى بالصدق. وإن من توبتى ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومى هذا ما أبلانى، والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيت، فأنزل الله تعالى على رسوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) إلى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) . فوالله ما أنعم الله على نعمة قط ـ بعد أن هدانى للإسلام ـ أعظم فى نفسى من صدقى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد، قال: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) . قال كعب: وكان تخلفنا ـ أيها الثلاثة ـ عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ أمرنا، حتى قضى(1/358)
الله فيه، فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، وليس الذى ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه . ص _320
مسجد الضرار سلك النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الذين يتظاهرون بالإسلام طريق الملاينة والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم ـ وهى مختلفة ـ ويتكرم عن فضحهم وهم يتفلتون من قيود السمع والطاعة، فإذا تلبس أحدهم بخيانة تهدر دمه، رغب فى التجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمدا يقتل أصحابه، وما هم فى صحبته من شىء، ولكن هكذا سيقول الناس. ولو أن هؤلاء المنافقين كانوا على قليل من الخير، لأسرهم هذا الحلم وانخلعوا من خداعهم الصغير وأقبلوا على الإسلام طيبين خالصين، بيد أن هذا الأسلوب العالى فى معاملتهم لم يزدهم على الله ورسوله إلا جرأة فزاد افتياتهم، وربت شرورهم، ولم يبق بد من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تنطوى عليه نفوسهم وأعمالهم. وقد نزلت الآيات أخيرا تندد بما فعل أولئك المنافقون، وتمزق الأستار التى يتوارون خلفها، وكانت ألاعيبهم قبل " تبوك " وبعدها هى النهاية الحاسمة للسماحة التى مرحوا فى سعتها طويلا ولم يقدروها حق قدرها. فأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكلف ألا يقبل منهم وألا يصلى عليهم، بل عُرِّف أن استغفاره لهم لن يجاب، ثم طولب المسلمون كافة أن يقطعوهم. ومن أعجب ما تفتقت عنه حيل المنافقين أن يبنوا مسجدا يلتقون فيه وحدهم، ويمكرون فيه بالإسلام نحت ستار التجمع على العبادة، وقد ذهبوا للرسول قبل رحيله إلى تبوك يقولون له: بنينا مسجدا: لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه. فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر وحال شغل. وقال: لو قدمنا ـ إن شاء الله ـ أتيناكم؟ فصلينا لكم فيه . فلما آب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشه، وتحرج موقف المنافقين وانكشفت خباياهم، أرسل اثنين من(1/359)
أصحابه إلى هذا المسجد وأمرهما أن يحرقاه ويهدماه. وجاء الصاحبان إلى المسجد يحملان الشعل الحارقة وأخذا يأتيان عليه وفيه أهله الذين فروا مذعورين لمرأى اللهب، يدمر آخر ما شاد النفاق من حيل. ص _321
ونزل قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) [ التوبة: 107- 108] طليعة الوفود استغرق المسير إلى تبوك والمآب منها أياما طوالا، فقد خرج المسلمون إليها فى رجب، وعادوا فى رمضان ليؤدوا ما عليهم من فريضة الصيام، ولم يلبثوا طويلا حتى جاءت البشريات بأن وفد ثقيف قدم إلى المدينة ليفاوض رسول الله على الدخول فى الإسلام. لقد استجاب الله دعوة نبيه لأهل الطائف أن يسلس قيادهم للحق فيأتوا طائعين، وكان أهل الطائف ـ بعد أن انفض الحصار المضروب عليهم ـ قد أخذوا يتروون فى شأنهم ومصيرهم، إلا أن جمهورهم لما يزل على ولائه للأصنام وصدوده عن الإسلام. وحاول رئيسهم " عروة بن مسعود " أن يتحدث إليهم فى نبذ هذه الجاهلية، وعروة فيهم سيد مطاع محبوب، غير أن نخوة الامتناع استبدت بهم، فلما أظهر الرجل دخوله فى الإسلام ودعاهم إلى ذلك، رموه بالنبل فقتلوه.. ولم ييأس العقلاء من رشد قومهم. ولم تستطع ثقيف كذلك تجاهل ما حولها، فإن دولة الأصنام تدمر فى كل مكان، وأمر الإسلام يعلو يوما بعد يوم. فاجتمع عمرو بن أمية بـ " عبد ياليل بن عمرو" وقال له: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما رأيت، ولقد أسلمت العرب كلها وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا فى أمركم. ورأت ثقيف أن تبعث وفدها إلى رسول الله ليصل إلى وضع تقر به. وتألف الوفد من ممثلين لعشائر ثقيف كلها، حتى يلتزموا ما يصل إليه من شروط. وجادل الوفد رسول الله جدالا طويلا يبغى أن(1/360)
يظفر منه بإقرار لبعض مآثر الجاهلية، ورسول الله يأبى أشد الإباء. وطلبوا منه أن يدع " اللات " ثلاث سنين ثم يهدمها، ثم ساوموه على سنتين، ثم سنة، ثم شهر واحد بعد مقامهم، والنبى يأبى إلا هدمها دون توقيت أمد معين. فلما يئسوا سألوه ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، أجابهم إلى ذلك بإرسال من يكسرها لهم! ص _322
وسألوه أن يضع عنهم الصلاة! فقال رسول الله: لا خير فى دين بلا صلاة . طليعة الوفود وعاد الوفد إلى الطائف، ومعه المغيرة بن شعبة وأبو سفيان بن حرب ليهدما " اللات ". وكان هدم " اللات " يوما مشهودا، فإن نسوة ثقيف خرجن حاسرات الرءوس يبكين ويصرخن وهن يرين الفئوس تهدم إلههن، وطالما خشعن له وذبحن حوله وسقن له النذور. ويروى أن المغيرة كلما هوى بالفأس على بنيان الصنم قال أبو سفيان: واها لك! آها لك! تأسفا، ولعله كان يسخر أو يواسى نساء ثقيف.. ولا مراء فى أن استسلام ثقيف ثم دخولها الإسلام يعد كسبا كبيرا، وفتحا جديدا ، فلم يبق قبيل عزيز الجانب فى الجزيرة إلا وقد دان لله ورسوله. أما القبائل التى لم تزل على جاهليتها. فهى أوزاع توشك أن تستبين الحق وتستريح له. إن الليل المضروب عليها لن يطول سواده، بل تباشير الفجر قد خالطته هنا وهناك حتى لم يبق لظلمته مكان تتشبث به. قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. وانما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحى من قريش، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل ـ وقادة العرب لا ينكرون ذلك ـ وكانت قريش هى التى نصبت لحرب رسول الله وخلافه. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنها لا طاقة لهم بحرب رسول الله ولا عدواته، فدخلوا فى دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه. يقول سبحانه وتعالى لنبيه: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين(1/361)
الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) . بعد كم من السنين بلغ النبى هذه المرحلة؟ بعد اثنتين وعشرين سنة من الدعاية الحثيثة، والتذكير الدائم، وتحمل الأذى، وكفاح العدوان.. ص _323
فإن كانت هناك بقايا من الغافلين لاتزال تضرع للأصنام وتحيا على الفوضى، فإن فطامها عن هذه الرذائل لا ينكره ذو لب، ومن ثم اتجه الإسلام إلى ضرورة تطهير الجزيرة كلها من عبادة الأوثان، وإشعار المشركين بأن أمامهم مهلة محدودة للتخلص من أدرانها.. ثم تعريفهم كذلك بأن الأصنام التى كانوا يقدسونها حول الكعبة قد أزيلت فأصبحت الكعبة قبلة مسجد يؤمه الموحدون، وليست مطاف جهال يتبركون بالحجارة، وأن تقاليد الفرى التى شاعت فى الجاهلية وجعلت المطاف يزدحم بالسوءات المكشوفة قد نبذها الإسلام، فلن يسمح فى عهده بالتبذل القديم. وأقبل موسم الحج فى السنة التاسعة، والمشركون على ما ألفوا. إنهم يؤمون البيت العتيق ولا يتعظون من مصير الأصنام التى تكسرت! أين الآلهة التى قضوا أعمارهم ينحنون لها ويتسلون بها؟ لقد هشمت وديست! ومع ذلك فإن عبادها لبثوا مشركين.. وقد تكون فى نفوسهم حسرات لخلو الكعبة منها. إن من حق المسلمين أن يضعوا حدا لهذه المهازل، وأن يزيحوا عن كرامة البشر هذا الهوان. حج أبى بكر بعث رسول الله أبا بكر أميرا على الحج ليقيم بالمسلمين المناسك، فخرج من المدينة يسوق البدن أمامه، موليا وجهه شطر المسجد الحرام. ونزل الوحى بسورة براءة بعد انصراف أبى بكر، ووفد الحجيج، فأشير على رسول الله أن يبعث بالآيات إليه ليقرأها على أهل الموسم كافة. ورأى رسول الله أن يرسل بها على بن أبى طالب قائلا : لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى، وذلك من رسول الله تمش مع عادة العرب فى عهود الدماء والأموال. ألا ترى أنه قبل هجرته وكل إلى على رد الأمانات إلى أهل مكة؟ إن أواصر القربى تقتضى التكافل التام فى هذه الشئون، فكأن الرسول أدى بيده ما أداه على(1/362)
عنه، وكأنه قال بلسانه فى الموسم ما سيقرؤه على بين الناس. ورعاية هذا الإفهام ليست فريضة بل هى من النبى زيادة حيطة واعذار. قال ابن إسحاق: ثم دعا على بن أبى طالب فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة ص _324
وأذِّن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته. فخرج على يمتطى العضباء - ناقة رسول الله - حتى أدرك أبا بكر بالطريق فلما رآه أبو بكر سأله: أأمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، ثم مضيا . أبو بكر - كما كلفه رسول الله - يقيم للناس المناسك، وعلى يؤذن فى الناس بما أمر به، ويقرأ على العرب صدر السورة التى فصلت فى أمرهم وأجهزت على الوثنية فى بلادهم. وكان هناك مؤذنون آخرون بثهم أبو بكر فى المجامع الكبيرة يعينون عليا على إبلاغ رسالته ويصيحون هنا وهناك. لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان! وعن زيد بن يفيع سألنا عليا: بأى شىء بعثت فى الحجة؟ قال: بعثت بأربع؟ لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر فى المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبى عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. * * * * وقد تكلمنا فى موضع آخر عن مكانة المعاهدات فى الإسلام، وشرحنا ما تضمنه صدر سورة التوبة من أحكام. وليعلم من يشاء أن تشريع قانون بمحو الوثنية، كتشريع قانون بمحو الأمية، عمل إنسان نبيل. وأن اعتراضا عليه لا يصدر من رجل يؤثر الخير للأم ويتمنى لها السمو والكرامة! وبحسب الإسلام أنه ظل اثنين وعشرين عاما يحارب الخرافة بالتعليم والتربية كلما أتيحت له فرصة لنشر المعرفة وغرس الأدب، وبالقصاص والقتال كلما وقف فى طريقه الجهل والضلال يبطلون سعيه أو يصدرون عنه. وقد منح الإسلام الوثنية أول الأمر حق الحياة، وترك من يرتد عنه يرجع إليها إذا شاء. ولم(1/363)
يفعل ذلك إعزازا لها، إنما هو حسن ظن بعقل الإنسان وضميره.. فقل من يسفهون أنفسهم، ويتركون الله العظيم، إلى صورة من حجر أو خشب أو طعام. فلما تبين أن الوثنيين يستخفون بكل شىء، وأنهم يستغلون الحق الممنوح لهم فى الفتنة ص _325
والعدوان والقتل.. لم يبق لتركهم من حكمة. إن الكلب العقور لا يترك طليقا، فإذا أفلت من قيده فأهدر دمه، فمن السفه اعتبار ما حدث جريمة قتل. والذين يظنون، أو يحلو لهم الظن بأن الإسلام عندما طارد الوثنية، خنق حرية الرأى، هم أشخاص واهمون أو مغرضون. وعلى هدى التجارب والمصائب التى عاناها المسلمون طوال اثنين وعشرين عاما تعرف سر الغضب الذى اشتعل آخر الأمر، ولِمَ نزل الوحى يعالن المشركين بالقطيعة، ويرفض منهم كل اعتذار؟ ثم يسرد ما أسلفوا من سيئات على أنه خليقة فيهم، ولم ينفكوا عنها يوما، ولا ينفكون منها أبدا. ومن ثم فلا مكان لأصنامهم بعد المهلة المضروبة لهم: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم) . * * * * ومن قبل هذا النذير المخوف ومن بعده كانت أفواج الوافدين تنطلق صوب المدينة تبايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن تخلع رداء الجاهلية، وتدخل فى الدين الحق. وهذه الوفود المقبلة، عرفت ـ خلال السنين السابقة ـ طرفا يسيرا عن الإسلام. فقد شاع فى أرجاء الجزيرة كلها نبأ الرسالة الجديدة، وما تضمنته من عقائد وما تفرضه على أتباعها من تعاليم. وتتبع المحبون والمبغضون كفاحها الموصول فى طلب الحياة، ومبلغ ما بذلت وبذل أعداؤها حتى انتهت الأمور بهذا الختام المبين. ونحن نعلم أن الحزب الذى يبدأ نشاطه بأنصار قلائل يتضاعف الإقبال عليه عندما تلمع له وقفات مشرفة، ويتاح له نصر كبير. فكيف إذا(1/364)
اختفى خصومه، وتألقت نجومه؟ ص _326
فلا جرم أن المدينة تتدفق عليها سيول الراغبين فى اعتناق هذا الدين، أو الراغبين فى مسالمته، ورسم سياسة تقوم على التعاون معه. ولسنا بسبيل إحصاء هذه الوفود القادمة من المشرق والمغرب. لكننا نسوف مثلين لوفدين: أحدهما وثنى، أقبل يبغى الإسلام، والآخر نصرانى، جاء يستطلع النبأ ويفاوض ويعاهد بعد جدال ولجاجة. وفد للأميين ووفد لأهل الكتاب أرسلت قبيلة سعد بن بكر" ضمام بن ثعلبة" وفدا إلى رسول الله. فامتطى " ضمام " بعيره، حتى دخل المدينة فأناخه على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله جالس فى أصحابه. وكان " ضمام " رجلا جلدا، أشعر، ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله فى أصحابه. فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب! قال: أمحمد؟ قال: نعم. قال: يا بن عبد المطلب إنى سائلك ومغلظ عليك المسألة، فلا تجدن فى نفسك. قال: لا أجد فى نفسى، فسل عما بدا لك. قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك. آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم. قال: فأنشدك إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك. آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم. وفى رواية أنه قال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق! قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذى خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم.. ص _327(1/365)
قال ضمام: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات فى يومنا وليلتنا. قال: صدق! قال: فبالذى أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. ثم جعل يذكر فرائض الإسلام وشرائعه على هذا النحو، حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدى هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتنى عنه. ثم لا أزيد ولا أنقص. وانصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة. وأتى ضمام بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى!! قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.. قال: ويلكم، إنهما ـ والله ـ لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه. وانى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى فى الحى من ذلك اليوم رجل ولا امرأة إلا مسلما. ذاك وفد يمثل بساطة الأميين فى منطقهم، وسلامة طويتهم فى جدلهم وتساؤلهم وخلو أذهانهم من العقد التى تعترض الحق فى مسيله السمح. ولا نكران فى أن جهاد الدعوة القديم، له أثره فى الوصول إلى هذه النتائج السريعة. وهذا طبيعى فإن تغيير دين ليس كتجديد زى. و " ضمام بن ثعلبة " كان يستحضر فى ذهنه وهو يسأل النبى ثم وهو يخطب قومه أن هذه الرسالة الجديدة مرت بأطوار شتى من المحن والفتن، كشفت عن صدقها وسلامة جوهرها؟ فليس إيمانه وإيمان قومه، وليد ساعة من كلام. ذلك وفد الأميين، وهو مثل لوفود أخرى كبرت أو صغرت، أمَّت المدينة، لترى هذا النبى وتبايعه، ثم تئوب إلى قومها، حاملة الهدى والخير. * * * * أما أهل الكتاب، فإن قلة منهم شرحت صدرا بالحق، وسارعت إلى اعتناقه ومؤازرته. والكثرة الباقية، اختلفت عدواتها له شدة وفتورا. ص _328(1/366)
أبى اليهود إلا إبادة الإسلام، فوقعوا فى شرور نيتهم، وباد سلطانهم العسكرى والسياسى، قبل أن يدركوا هذه الغاية. وقبلهم الإسلام فى دولته القائمة أفراذا يبقون على ديانتهم ما أحبوا، ولا يمكنون من تجمع على عدوان ودس. وذلك حقه لا ريب!! ولم تصادر الحقوق الشخصية ليهودى تحت سلطان الإسلام. وحسبك أن النبى نفسه ـ لكى يقترض من يهودى ـ ارتهنه درعه.. وما فكر قط فى إحراجه بما يملك من سلطان بعيد.. وكان النصارى أخف خصومة، حيث ابتعدوا عن سلطان الكنيسة.. فأسلم بعضهم عن طواعية وإعجاب بما فى الإسلام من سهولة واستقامة.. وبقى الآخرون على ما ورثوا.. وسارت العلاقة بين الدينين فى مجراها الذى أبنا عنه آنفا، حتى تحولت إلى حرب طاحنة بين المسلمين والرومان.. وكانت النصرانية ـ مع تفوق الرومان السياسى والعسكرى ـ تسود شمالى الجزيرة وجنوبيها.. فرأى المسلمون ـ وهم فى حرب مع دولة الروم ـ أن يحددوا موقفهم مع نصارى الجنوب، وخصوصا أن الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويبسطون عليهم الكرامات، ويشجعونهم على المضى فى تنصير القبائل المتوطنة بهذه الأرجاء. فأرسل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل نجران كتابا جاء فيه " باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد؟ فإنى أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد.. وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد.. فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسلام. ص _329(1/367)
فأرسلت نجران - وهى كعبة النصرانية جنوبا - وفدها إلى المدينة ليقابل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتفاهم معه. ووافى الوفد المدينة بعد العصر، ودخل المسجد. فكان أول ما صنع أن اتجه إلى بيت المقدس يصلى لله على ما تقضى به طقوس المسيحية. وأراد الناس منعهم، فقال رسول الله: دعوهم.. .. حتى انتهوا من عبادتهم.. ورآهم النبى - صلى الله عليه وسلم - قد لبسوا لملاقاته أردية الكهنوت الفاخرة، وتحلوا بخواتم الذهب، وجاءوا يخبون فى الحرير، وتبدو لهم - بين القلانس والطيالس - سيماء التكلف الشديد. فأبى أن يتحدث معهم، حتى يرجعوا إلى ملابس سفرهم، ويدعوا هذه الزينة.. والغريب أن بعضهم سأل النبى، أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما يعبد عيسى بن مريم؟ وإلى ذلك تدعونا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، وما بذلك بعثنى ولا أمرنى . وأنزل الله عز وجل فى ذلك: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). وعرض النبى - صلى الله عليه وسلم - على أحبار " نجران " وسائر الوفد أن يسلموا. فقالوا له: أسلمنا قبلك. قال: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ادعاؤكم لله ولدا، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير. فجادلوه فى عيسى، وقالوا: من أبوه؟ فروى أن النبى رد عليهم قائلا: ألستم تعلمون أن الله حى لا يموت، وأن عيسى يأتى عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى. ص _330(1/368)
قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟ قالوا: بلى. قالى: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا.. قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى فى الرحم كيف يشاء؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قالى: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع ولدها. ثم غذى كما يغذى الصبى. ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فقالوا: ألست تقول فى عيسى: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه؟ قال: بلى. فلما رأى النبى أن الجدل يتمادى القوم، وأنهم مصرون على اعتبار عيسى إلها أو ندا للإله، قال لهم: أقيموا غدا حتى أخبركم. فنزلت آيات المباهلة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 59. 61]. فأصبح رسول الله من الغد، وقد أقبل بنفسه، وحفيديه: الحسن والحسين، وابنته فاطمة. واستعد أن يشترك مع وفد نجران فى صلاة جامعة تستنزل فيها لعنة الله على المفترين. واستمع وفد نجران إلى هذا الاقتراح، فأوجسوا خيفة من قبوله! من يدرى؟ قد يكون محمد صادقا فى أن عيسى بشر مثله ويكونون ـ هم ـ واهمين فى انتحال الألوهية له. فلماذا يبتهلون إلى الله أن يمحقهم؟ ونظروا إلى محمد وطفليه وابنته، فشعروا أن الكاذب منهما لن يهلك وحده بل ستهلك معه أسرته، فخشوا على أولادهم وأهليهم البوار إن هم قبلوا هذه المباهلة. ثم خلصوا نجيا. قال بعضهم للآخر: إن كان هذا الرجل ملكا، فلن نأمن طعننا عليه وخصامنا له. فإن دولته مقبلة، وربما أصابنا قومه بجائحة. ص _331(1/369)
وإن كان نبيا مرسلا فلا عناء فلن يبقى على وجه الأرض منها شعرة ولا ظفر إلا هلك فما الرأى؟ فجاءه متحدث القوم شرحبيل بن وداعة، وقال له: رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال النبى: ما هو؟ قال: أدع لك الحكم فينا، فمهما قضيت فهو جائز! فقال رسول الله: لعل وراءك أحدا يثرب عليك؟ فقال شرحبيل: سل عنى. فلما سأل الرسل عنه خبر أن أهل الوادى لا يصدرون ولا يردون إلا عن رأيه، فقال: جاحد موفق. ورجع رسول الله ولم يلاعنهم، وعقد معهم صلحا أصبحوا ـ بمقتضاه ـ من رعايا الدولة الإسلامية. وجاء فى شروط هذا الصلح أن لنصارى نجران جوار الله وذمة محمد النبى، على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وتبعهم، وألا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ـ يكلفون بجهاد ـ ولا يعشرون ـ يكلفون بزكاة ـ ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمتى منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما فى هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد رسول الله حتى يأتى الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم. وشهد على هذه المعاهدة أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، والمغيرة بن شعبة. فماذا كلف به نصارى نجارى بإزاء هذه الحقوق؟ أن يدفعوا للدولة ألفى حلة فى السنة! وهى بدل تافه عن الزكاة التى يدفعها المسلمون وحدهم، والجهاد الذى يحملونه وحدهم. وتلك هى الجزية التى ضربت على نجران، بعد المفاوضات التى رأيت. وبذلك قطع الإسلام الصلة بين أولئك العرب المتنصرين وبين دولة الروم التى يشتبك معها فى الحرب، بعدما ضمن الحرية الدينية لمن سالمه وكفوا عنه. ونحن نسأل ـ على وجه التحدى ـ هل عاملت الطوائف المسيحية بعضها(1/370)
بعضا بهذه السماحة الرائعة؟ أم كان ذلك مسلكا أضاء به الإسلام وحده ظلمات القرون الأولى؟ ص _332
ثم نسأل مرة أخرى: هل احترم أهل الكتاب ما عليهم من واجب، وهل أنصفوا الدين الذى رعى ذمامهم؟ لقد دخلت السنة العاشرة على الإسلام وهو يبسط تعاليمه على حساب الوثنية المتقلصة، فإذا بعض القبائل فى الجنوب تثور ضده تحسب أن رجلا من قريش ملك العرب بادعاء النبوة، فليس يعجزها أن تقدم من مفاليكها من يزعم النبوة كذلك!! لعله يملك مثل ما ملك محمد بن عبد الله. ومن المؤسف أن النصارى فى جنوبى الجزيرة ساعدوا فى إشعال هذه الثورات، وأن نصارى نجران كاتبوا الأسود العنسى، فسار إليهم ـ وهو أحد المتنبئين ـ ثم رحل عنهم إلى اليمن، فملكها حتى قتلته امرأته هناك وأراحت الأرض منه. أكانت هذه الفتنة معاونة لنصارى الشمال فى حربهم ضد الإسلام، أم كانت شغبا يمليه الكره المجرد فحسب؟ وما فعله نصارى نجران فى تأييد الأسود العنسى، فعل مثله نصارى تغلب فى تأييد مسيلمة الكذاب حين ادعىـ هو الآخرـ أنه نبى! ونحن نفهم أن يرفض أهل نجران وبنو تغلب الدخول فى الإسلام، وأن يؤثروا البقاء على ما اقتنعوا به من ديانتهم الموروثة، لكننا لم نفهم بتة أن يكذب رجل بصحف الوحى العالى وأن يؤمن ـ مثلا ـ بالبعكوكة . ذاك إن كانوا قد آمنوا حقا بالأسود ومسيلمة.. أما إذا كان الأمر لا يعدو الإعانة على حرب الإسلام بأى سلاح ومع أى حليف، فهذه مسألة أخرى يحتار فى علاجها أطباء القلوب. ص _333(1/371)
- 8 - أمهات المؤمنين أثار بعض الكتابيين غبارا حول مبدأ تعدد الزوجات، وحاولوا تقييد ما أباحه الإسلام من ذلك أو منعه، محتجين ـ تارة ـ بأن الإسلام لم تثبت فيه هذه الإباحة بصورة حاسمة، وتارة أخرى، بأن تطور الحياة وصالح الجماعة يقتضيان أن يكتفى الرجل بامرأة واحدة لا يعدوها. وحسبه أن يوفق فى رعايتها وكفالة أولاده منها..! ولاشك فى أن هذه الأفكار تولدت فى بيئاتنا نتيجة عوامل شتى تحتاج إلى حسن النظر وقوة الرد، ومنذ سنين حاول خصوم التعدد أن يستصدروا قانونا بذلك، ثم توقفت محاولاتهم أمام غضب العلماء، وهياج الجماعات المشتغلة بالشئون الإسلامية. وقد كتبت آنئذ كلمة فى طبيعة التعدد أرى إثباتها هنا بين يدى الموضوع الذى نتحدث فيه، لما لها من صلة ظاهرة به. للحياة قوانين عمرانية واقتصادية ثابتة، تفرض نفسها على الناس حتما، عرفوها فاستعدوا لمواجهتها، أم جهلوها فظهرت بينهم آثارها. وصلة الرجل الفرد بعدد من النساء، من الأمور التى تبت فيها الأحوال الاجتماعية، ويعتبر تجاهلها مقاومة عابثة للأمر الواقع. وذلك أن النسبة بين عدد الرجال والنساء إما أن تكون متساوية، وإما أن تكون راجحة فى إحدى الناحيتين.. فإذا كانت متساوية، أو كان عدد النساء أقل، فإن تعدد الزوجات لابد أن يختفى من تلقاء نفسه، وستفرض الطبيعة توزيعها العادل قسرا. ويكتفى كل امرئ ـ طوعا أو كرها ـ بما عنده. أما إذا كان عدد النساء أربى من عدد الرجال، فنحن بين واحد من ثلاثة: أ- إما أن نقضى على بعضهن بالحرمان حتى الموت. ص _334(1/372)
2- وإما أن نبيح اتخاذ الخليلات، ونقر جريمة الزنا. 3- وإما أن نسمح بتعدد الزوجات. ونظن أن المرأة ـ قبل الرجل ـ تأبى حياة الحرمان، وتأبى فراش الجريمة والعصيان. فلم يبق أمامها إلا أن تشرك غيرها فى رجل يحتضنها وينتسب إليه أولادها، ولا مناص بعدئذ من الاعتراف بمبدأ التعدد الذى صرح به الإسلام. ثم إن هناك اختلافا كبيرا بين أنصبة الرجال من الحساسية الجنسية، فهناك رجال أوتوا حظا من كمال الصحة ويقظة الغريزة ونعومة العيش، لم يؤته غيرهم. والمساواة بين رجل بارد المشاعر من نشأته، وآخر قريب الاستثارة، واسع الطاقة، أمر بعيد عن العدالة. ألسنا نبيح لذوى الشهية المتطلعة مقادير من الطعام، لا نبيحها للمعوزين والضعفاء؟ فهذه بتلك. وثم حكمة أخرى: قد تكون الزوجة على حال من الضعف أو المرض أو العقم أو تأخر السن، فلماذا تترك لهذه الأعذار؟ إن من حق العشرة القديمة أن تبقى فى كنف الرجل، وأن تأتى إلى جانبها امرأة أخرى تؤدى وظيفة الزوجة أداء كاملا. * * * ومع المبررات الكثيرة للتعدد، فإن الإسلام الذى أباحه، رفض رفضا باتا أن يجعله امتدادا لشهوات بعض الرجال وميلهم إلى المزيد من التمتع والتسلط. فالغرم على قدر الغنم، والمتع الميسرة تتبعها حقوق ثقيلة. ومن ثم فلا بد ـ عند التعدد ـ من تيقن العدالة التى تحرسه. أما إذا ظلم الرجل نفسه أو أولاده أو زوجاته، فلا تعدد هناك. الذى يعدد يجب أن يكون قادرا على النفقة اللازمة. وإذا كان الشارع يعتبر العجز عن النفقة عذرا عن الاقتران بواحدة، فهو من باب أولى ـ مانع من الزواج بما فوقها. إن الشارع يوصى الشاب الأعزب بالصيام، مادام لا يستطيع الزواج، ويأمر العاجز عن الواحدة بالاستعفاف: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) [النور: 33]. فكيف الحال بمن عنده واحدة؟ إنه بالصبر أحق، وبالاستعفاف أولى.. ص _335(1/373)
وكثرة الأولاد تتبع ـ عادة ـ كثرة الزوجات. والإسلام يوجب رعاية العدل مع الأولاد فى التربية، والتكريم، ووسائل المعيشة، مهما اختلفت أمهاتهم، وفى الأثر: " لعن الله من استعق أولاده ". فعلى الأب المكثر أن يحذر عقبى الميل مع الهوى. وكذلك يوجب الإسلام العدل مع الزوجات. ولئن كان الميل القلبى أعصى من أن يتحكم فيه إنسان، فإن هناك من الأعمال والأحوال ما يستطيع كل زوج فيه أن يرعى الحدود المشروعة، وأن يزن تصرفه بالقسط، وأن يخشى الله فيما استرعاه من أهل ومال. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله سائل كل امرئ عما استرعاه. حفظ ذلك أم ضيعه " . وقال: " بحسب امرئ من الإثم أن يضيع من يعول " . تلك حدود العدل الذى قرنه الله بالتعدد، فمن استطاع النهوض بأعبائها فليتزوج مثنى وثلاث ورباع، وإلا فليكتف بقرينته الفذة : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) [النساء: 3] وقرأت لبعض الصحفيين يعترض على مبدأ التعدد: لماذا يعدد الرجال الزوجات ولا تعدد النساء الأزواج؟ ولقد نظرت إلى هؤلاء المتسائلين فوجدت جمهورهم بين داعر وديوث أو قواد، وعجبت لأنهم يعيشون فى عالم من الزنا ويكرهون أشد الكره إقامة أمر الأسرة على العفاف.. والجواب على هذا التساؤل المريض أن الهدف الأعلى من التواصل الجنسى هو إنشاء الأسرة وتربية الأولاد فى جو من الحضانة النظيفة، وهذا لن يكون فى بيت امرأة يطرقها نفر من الناس.. يجتلدون للاستحواذ عليها ولا يعرف لأيهم ولد منها.. ثم إن دور المرأة فى هذه الناحية دور القابل من الفاعل، والمقود المحمول من القائد ص _336(1/374)
الحامل، وإنك لتتصور قاطرة تجر أربع عربات، ولا تتصور عربة تشد أربع فاطرات، ومن الكفر بطبائع الأشياء المماراة فى أن الرجال قوامون على النساء. * * * * على أنه من المؤسف حقا أن يهدر العوام هذه الحدود، وأن يتجهوا إلى التعدد دون وعى لمعنى العدل المفروض، بل تلبية لنداء الشهوة، ولو أدى إلى الافتيات والجور الصارخ. فالرجل قد يعجز عن نفقة نفسه، ثم هو يسعى إلى الزواج. وقد يعجز عن رعاية واحدة، ثم هو يبحث عن غيرها!! وقد يحيف على بعض أولاده فى التعليم، وفى توزيع الثروة تمشيا مع هواه. وقد يتزوج الأخرى ليهجر الأولى ويذرها كالمعلقة. وربما ترى الرجل يستطيع البناء بأربع، والإنفاق على ما ينجبن من بنين وبنات، ومع ذلك الاقتدار، فهو يحيا على التسول الجنسى والتقلب فى أحضان الساقطات. فما دواء هذه الفوضى؟ هل منع التعدد يشفى الأمة من هذه الأدواء؟ كلا.. إن تقييد مباح ليس مما يعيى سياسة التشريع فى الإسلام. إلا أن مبدأ التعدد لو سكت الدين عن إبداء الرأى فيه، فوجب أن نبدى- نحن- الرأى فيه ونقول بإباحته، صيانة للمصلحة العامة التى أوضحناها فى صدر هذا الكلام. ولكن إقرار القاعدة شىء، وسوء تطبيقها شىء آخر.. وعندما يجىء دور التشريع فى إصلاح مجتمعنا وإقامة عوجه ـ من هذه الناحية ـ فلتتجه همة الباحثين إلى ضبط وسائل العدل ومظاهره إن أرادوا. أما الخبط فى مبدأ التعدد نفسه، ومحاولة النيل منه فهو عبث. وأستطيع القول بأنه أثر من آثار الغزو الصليبى الحديث لبلاد الإسلام. فإن النصرانية ـ دون سائر الأديان من عهد نوح ـ انفردت بتحريم التعدد، وحبس الرجل ـ مهما كان شأنه ـ على امرأة واحدة، وترك المجتمع بعد ذلك، يعالج كثرة النساء، وهياج الغرائز بوسائله الأخرى. ص _337(1/375)
وفى طبقات كثيرة الآن، ينظر إلى التعدد على أنه منكر! والى الزنا على أنه مسلاة تافهة! أى المشكلة الآن، مشكلة الدين كله، والأخلاق كلها.. وتقييد التعدد ـ والحالة هذه ـ محاولة سمجة لتلويث المجتمع على حساب الإسلام وباسم القانون. إن جمهورا كبيرا من النبيين والصالحين تزوج بواحدة وبأكثر من واحدة، ولم يخدش ذلك تقواه. وفى صحف العهد القديم الموجودة الآن ما يؤيد ذلك. والإسلام لا يرى التبتل عن النساء عبادة ـ كما يفعل الرهبان ـ ولا الزواج إلى أربع معصية، كما يُنسب إلى النصرانية. إنما المعصية فى ترك الغريزة الجنسية تتنزه كيف تشاء، أو فى كبتها لتتسرب وراء وراء، كما تتسرب المياه الجوفية تحت أديم الغبراء. والمحفوظ من سيرة نبى الإسلام أنه تزوج بالسيدة خديجة وهو فى الخامسة والعشرين من عمره وكانت ـ هى ـ فى سن الأربعين، وظل معها وحدها، لا يضم إليها أخرى حتى تجاوزت السيدة الفضلى الخامسة والستين. وماتت؟ وهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فوق الخمسين. ولم يجرؤ أحد من أشد خصومه لددا على أن ينسب إليه دنسا أو يتهمه بريبة. فى هذه الفترة الخصيبة الرحبة من عمر الإنسان كان رونق العفاف والشرف يتألق فى جبينه حيث سار. ولو أنه أحب التزوج بأخرى ما عاقه مانع من شرع أو عقل أو عادة. فإن التعدد كان مألوفا بين العرب، معروفا فى ديانة أبى الأنبياء إبراهيم، إلا أنه ظل مكتفيا بمن استراح إليها واطمأن بصحبتها، ولو أنها طعنت فى السن وبقى هو فى كمال قوته وتمام رجولته. ولهذا المسلك دلالته القاطعة. فلما انتقلت السيدة خديجة إلى الرفيق الأعلى، وأحب النبى أن يتزوج، لم يكن البحث عن الجمال فى مظانه هو الباعث له على تخير شريكته فى حياته، أو شريكاته، ولو قد فعل ذلك ما تعرض للوم. بيد أن الباعث الأول كان الارتباط بالرجال الذين آزروه فى دعوته وعاونوه فى رسالته. ص _338(1/376)
فاختار " عائشة " بنت أبى بكر ـ على صغر سنها ـ واختار حفصة بنت عمر على قلة وسامتها. ثم اختار أم سلمة أرملة قائده الذى استشهد فى سبيل الله، وعانت معه امرأته ما عانت فى الهجرة إلى الحبشة، وفى الهجرة إلى المدينة. ومن قبل هؤلاء كانت معه " سودة " وهى امرأة نزلت عن حظها من الرجال لكبرها وعزوفها. والعيش مع أولئك الأربع لا تقوم على متاع ملحوظ ودنيا سارة. ولو قد قامت على ذلك ما كان على رسول الله من حرج، فلأى مؤمن أن يستمتع بأربع نسوة، وتحقيق العدل متيقن فى سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم . قد تقول: لكن الرسول مات عن تسع نسوة، فكيف وقع هذا؟ ولم نال ما لم ينل غيره؟ أليس هذا فتحا لباب التشهى، وإجابة لدواعى الملذة؟ ونقول: أين مكان المتعة فى حياة رجل لم يسترح يوما من عناء الكفاح الموصول والجهاد المضنى؟! إن حملة الرسالات الإنسانية المحدودة تعييهم هموم العيش ومشكلات الشعوب، فلا يحظون بساعة راحة إلا ليستجموا قليلا.. ثم ينهضوا لاستئناف اللغوب! فكيف بصاحب الرسالة العظمى؟ وقد لقى من العرب ما رأيت! ونسأل أيضا: ما مكان المتعة فى حياة رجل عزف عنها وهو شاب، فكيف يغرق فيها وهو شيخ؟! إن الظروف التى أحاطت بالزوجات الخمس الأخرى، تجعل البناء بهن بعض ما كلف الرسول بتجشمه من سياسة الأفراد والجماعات، وبعض ما كلف بتحقيقه من إقامة الخير ومحو الضر. خذ مثلا زواجه بزينب بنت جحش. كان هذا الزواج امتحانا قاسيا لرسول اللهـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أمره الله به لإبطال تقليد شائع عند العرب، وأقدم عليه رسول الله وهو شديد التحرج والحياء والأذى. و " زينب " هذه من قريبات الرسول، فهو يعرفها حق المعرفة من طفولتها، وقد رغب فى أن يزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك ورفض أخوها، اعتزازا بما لأسرة زينب من مكانة، فهى من ذؤابة قريش. وما زيد؟! إنه كان عبدا، ولو أن الرسول أكرمه فيما بعد وألحقه بنسبه فصار يدعى زيد بن محمد! ص _339(1/377)
إلا أن زينب لم تجد بدا من الانصياع لأمر النبى، فقد أراد أن يحطم الاعتزاز بالأنساب وأن ينكح زيدا زينب! فرضيت وفى نفسها غضاضة، وقبل أخوها وهو يؤدى حق السمع والطاعة فحسب، بعدما نزل قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) [الأحزاب: 36]. ودخل زيد بزينب. فوجد امرأة مصروفة الفؤاد عنه، تسلمه جسدها، وتحرمه العطف والتقدير، فثارت رجولته وقرر ألا يبقى معها. وتدخل النبى بين الحين والحين لإصلاح ذات البين دون جدوى. فى هذه الحال أوحى الله لنبيه أن يدع زيدا يطلق زوجته، وأن يتزوجها هو بعد انتهائها منه. فاعترى الرسول هم مقلق لهذا الأمر الغريب، وساوره التوجس من الإقدام عليه، بل أخفاه فى نفسه خوفا من مغبته، فسيقول الناس: تزوج امرأة ابنه.. وهى لا تحل!! ولكن هذا الذى سيقوله الناس هو ما أراد الله هدمه، ويجب على النبى أن ينفذه دون تهيب. وقد تريث النبى فى إنفاذ أمر الله، ولعله ارتقب من الله ـ لفرط تحرجه ـ أن يعفيه منه.. بل ذهب الى أبعد من ذلك. فعندما جاء زيد يشكو امرأته ويعرض نيته فى تطليقها، قال له النبى: أمسك عليك زوجك، واتق الله. عند ذلك نزل الوحى يلوم الرسول على توقفه، ويعتب عليه تصرفه، ويحضه على إمضاء رغبة زيد فى فراق امرأته ويكلفه بتزوجها، ولو قال الناس: تزوج امرأة ابنه، فإن ادعاء البنوة لون من التزوير، تواضع عليه العرب مراغمة للحق، وينبغى أن يقلعوا عنه، وأن يهدروا نتائجه، وليكن عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه، وبمن التصق به أول ما يهدم مآثر الجاهلية فى العرف الشائع. ها هى ذى القصة كما بدأ القرآن الكريم يرويها: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في(1/378)
أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) [الأحزاب: 37]. ص _340
على أن الغريب فى هذه القصة ما أدخله عليها المغفلون من دسائس الشهوة ومظاهر الحب الرخيص. فقد زعموا أن الرسول أحب زينب، ثم كتم هذا الحب، ثم ظهر، فتزوجها بعد ما طلقت! ثم زعموا أن صدر الآية السابقة جاء عتابا له على هذه العاطفة المكبوتة. ونحن نتعجب أشد العجب لهذا الخبط الهائل، ومحاولة تلبيس الحق بالباطل. من كان يمنع محمدا من الزواج بزينب وهى من أسرته ـ بنت عمته ـ وهو الذى ساقها إلى رجل لم تكن فيه راغبة، وطيب خاطرها لترضى به؟! أفبعد أن يقدمها لغيره يطمع فيها؟! ثم لننظر إلى الآية وما يزعمون أنها تضمنته من عتاب. إنهم يقولون: الذى كان يخفيه النبى فى نفسه، ويخشى فيه الناس دون الله هو ميله لزينب، أى أن الله ـ بزعمهم ـ يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل! ونقول: هل الأصل الخلقى أن الرجل إذا أحب امرأة لغط بين الناس مشهرا بنفسه وبمن أحب؟ وخصوصا إذا كان ذا عاطفة منحرفة، جعلته يحب امرأة آخر؟ هل يلوم الله رجاآ، لأنه أحب امرأة آخر، فكتم هذا الحب فى نفسه؟! أكان يرفع درجته، لو أنه صاغ فيها قصائد غزل؟! هذا والله هو السفه! وهذا السفه هو ما يريد بعض المغفلين أن يفسروا به القرآن!! إن الله لا يعاقب أحدا على كتمان حب طائش، وإنما سياق الواقعة هو كما قصصنا عليك. فالذى أخفاه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض، وتراخيه فى إنفاذ أمر الله به، وخوفه من لغط الناس عندما يجدون نظام التبنى ـ كما ألفوه ـ قد انهار. وقد أفهم الله نبيه، أن أمره لا يجوز أن يقفه توهم شىء ما. وأنه ـ بإزاء التكليف الأعلى ـ لا مفر له من السمع والطاعة، شأن من سبقه من المرسلين. وإذا عدت إلى الآية التى تتضمن القصة، وجدتها ختمت بقوله تعالى: (وكان أمر الله مفعولا) [الأحزاب: 37]. أى من حقه أن يقع حتما. ص _341(1/379)
ثم أعقبها ما يؤكد هذا المعنى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) [الأحزاب: 38. 39]. إنك عندما تثتت قلب رجل تقول له: لا تخش إلا الله. إنك لا تقول ذلك له وهو بصدد ارتكاب معصية، إنما تقول ذلك له، وهو يبدأ القيام بعمل فاضل كبير يخالف التقاليد المتوارثة. وظاهر فى هذه الآيات كلها أن الله لا يجرئ نبيه على التدله بحب امرأة، وإنما يجرئه على إبطال عادة سيئة يتمسك الناس بها، ويراد منه كذلك، أن ينزل على حكمها، ولذلك يقول الله ـ بعد ذلك مباشرة ـ وهو يهدم نظام التبنى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما) [الأحزاب: 40]. أما السيدات الأخريات التى بنى بهن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهن نساء تنميهن أصول عريقة حتى ليعتبرن بنات ملوك! وقد أحاطت بهن ـ عند دخول الإسلام ـ ملابسات، ولا يليق أن يجهلها قائد دعوة. فأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب سيد قريش وقائدها عشرين سنة فى حرب الإسلام أو يزيد: أئذا أسلمت وراغمت أباها وقومها فى ذات الله، ثم هاجرت إلى الحبشة تاركة مكة إلى حيث يسود أبوها وتعلو كلمته ـ أترى مثل هذه السيدة إذا مات زوجها تترك لمن يخدش مكانها؟ لقد ضمها النبى إلى زوجاته، إعزازا لشأنها، وتقديرا لصنيعها. و" صفية " بنت حيى، كان أبوها ملك اليهود. وفى الصراع بين بنى إسرائيل والإسلام هلك أبوها وأخوها وزوجها، ووقعت فى سهم جندى، لا يعرف إلا أنها أسيرة حرب، من حقه، بملك اليمين، أن يسلك معها كيف يشاء. فإذا رق النبى لحالها ووهبها حريتها، ثم جبر كسرها وقدر ماضيها، فتزوجها ليستطيع ـ بإحسانه وإكرامه ـ تطييب خاطرها، فهل ذلك مما يلام عليه؟ ص _342(1/380)
و " جويرية " بنت الحارث، إن أباها زعيم بنى المصطلق، وقد انتهت حربه مع المسلمين بهزيمة نكراء، وكادت قبيلته تهون وتذل عقب هذه الهزيمة، فواسى النبى - صلى الله عليه وسلم - القائد المهزوم، ثم أصهر إليه حتى يشعر المسلمين بما ينبغى لأتباعه من كرامة ومعونة، وقد وقع ما أحبه النبى، فعادت الحرية إلى القبيلة رجالا ونساء، إذ تحرج المسلمون أن يسيئوا إلى قوم تزوج النبى ابنتهم. * * * وقد يسبق إلى أذهان البعداء عن السيرة، أن حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخاصة، قامت على التوسع فى المطاعم والمشارب.. والمتع الأخرى. والصورة التى قد ترتسم بادئ الأمر لرجل عنده عدة نساء، أنه مغمور بالسعادة المادية، يقوم بيته على الموائد الحافلة باللحوم والفاكهة، ويرتوى من الأشربة التى تسرى فى أوصاله بالنشوة. ثم يتقلب بين أحضان البيضاوات والشقراوات ويصبح يستقبل الدنيا بعد ذلك خالى البال!! وقد تكون هذه الصورة مساوية أو مقاربة لما يدور فى قصور الملوك. لكن حذار أن تسفه نفسك فتحسب شية من هذا العيش الرخى فى بيوت محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. انتقل على عجل إلى لون آخر من الحياة الخشنة فترى فيه رجلا تعلقت همته بالحق وحده، فهو ينتعش بمعرفته، ويجتهد لجمع الناس عليه، وقرة عينه فى خطوة تقربه من غايته شبرا، أما أهواء الدنيا فهى تحت قدميه ودبر أذنيه. إذا استطاعت قذائف المدافع على ظهر الأرض أن تبلغ النجوم البعيدة، استطاعت مغريات الحياة أن تقترب من قلب محمد الزكى النقى. ذاك إنسان اصطفته العناية، فهو يحلق فى مدى آخر، يقول فيه: " ما لى وللدنيا إنما أنا كرجل قال تحت ظل شجرة ثم راح وتركها " . يربط همم البشر بالمثل العليا، وما تصير إليه عند الله فيقول: " موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " . ص _3 ص(1/381)
وحياته مع زوجاته نهج من الشظف لا يطيقه أحد. روى البخارى عن أنس بن مالك قال: ما أعلم النبى رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط!! وعن عائشة قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة فى شهرين، وما أوقدت فى أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار! فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقالت عائشة أيضا: لقد توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فى رفى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير فى رف لى. أما الفراش الذى يأوى إليه هذا النبى - صلى الله عليه وسلم - فهو أدم - جلد - حشوه ليف يثوى فيه قليلا، فما أن يستدفئ به حتى يسمع الصارخ - الديك - فينهض متأهبا لصلاة الفجر. ولا نعنى بهذا الوصف أن الإسلام يعاف الطيبات، أو أن نبيه يسن للناس تركها. كلا.. فشريعة الإسلام فى هذا بينة نيرة، وانما نسرد الواقع من حياة رجل صدفت نفسه عما يقتتل الناس عليه. إن الرجل قد يترك لأولاده الصغار لعبة يفرحون بها ويختصمون عليها، لأن طبيعة رجولته فى شغل عن عبث الصبية. إن بعض المخترعين والمفكرين يذهلون عن الطعام المهيأ لهم، لا ازدراء له، ولكن استغراقا فيما ملك عليهم مشاعرهم. وكأنى أتخيل النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يرى سواد الناس يتفانون على الحطام الذاهب فيهز رأسه أسفا، ويقول: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا . ثم يضرع إلى الله: " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " . إن من الزراية بالعقل والجور الفاحش على التاريخ أن يجىء رجل من عرض الطريق، فيرى أو يقال : إن محمدا كان لديه نسوة عديدات. فيظن المسكين أن ذلك دلالة استكثار من الشهوات وتشبع من الدنيا. * * * * ص _344(1/382)
ولا يحسبن أحد هذا الاخشيشان فعل من لا يجد! و أنه لو فتحت إلى بيوت النبى نافذة تطل على بحبوحة الحياة الرغدة، لاستمتع واكتنز، واستمتع نسوته وابتهجن. لا.. كان قادرا على أن يحجز من المال الذى يمر به ويحكم فيه ما يشاء لويشاء. لكن النبى السمح كان فوق التطلع إلى اللذات الصغيرة، لأن عينيه ترمقان هدفا أسمى، ولو سيقت إليه خزائن الأرض لفكرـ قبل كل شىء ـ فى إشباع نهمة الناس منها. عن أبى ذر: كنت أمشى مع النبى فى حرة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: ما يسرنى أن عندى مثل احد هذا ذهبا تمضى على ثالثة وعندى منه دينارـ إلا شيئا أرصده لدين ـ إلا أن أقول به فى عباد الله هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه. ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال، هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم . إن أشهى الطعام فى فم الرجل الشبعان الممتلئ لا مذاق له، وقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبعان القلب، فما يخف إليه غيره من زينة الدنيا لا يحرك منه شعرة، فلا غرو إذا بعثر ما يصل إليه على المحتاجين والمترقبين، أما هو فغناه فى قلبه. ذاك أدب أخذه الله به من قديم، منذ قال له: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) [طه: 131، 132]. غاية ما يبغيه هذا النبى أن ينجو من مآسى الدنيا ومظالم البشر، فلا تستذله، أو تستذل أهله فاقة! إنه يعيش على قاعدة " ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " ، وفى حدود هذا القليل الكافى، يود أن يخلص من عقابيل الخلق، لا له ولا عليه، ولذلك كان يدعو الله: ص _345(1/383)
" اللهم إنى أعوذ بك من الفقر والفاقة والذلة، وأن أظلم أو أظقم، أوأجهل أو يجهل على " . ويقول: " اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعافية والغنى ـ الاستغناء ـ. وهذا المنهج الصارم فى المعيشة تقاضى نساءه أن يتحملن شدة، ما كن يعرفنها من قبل، لقد جئن إليه من بيوتات كبيرة. وأكثرهن اعتادت فى صدر حياتها الزاد الطيب والنعمة الدافقة، إما مع آبائهن واما مع رجالهن السابقين. فلا عجب إذا تململن من هذه الحياة الجديدة، وطلبن الرغد والنعومة! واجتمعن ـ على ما بينهن من خلاف ـ ليسألن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مزيدا من النفقة! إنهن فى بيت أعظم رجل فى العرب، فيجب أن تتكافأ معيشتهن مع مكانتهن، وقد تزعم هذه المطالب عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر، وتبعتهما الباقيات!! وحزن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذه المظاهرة. إنه المسلم الأول على ظهر الأرض، وأبصار المؤمنين والمؤمنات ترنو إليه من كل ناحية، وهو بصدد بناء أمة تشق طريقها وسط ألوف مؤلفة من الخصوم المتربصين. فإذا لم يعش بيته عيشة المجاهد المحصور، فكيف يواصل الكفاح ويكلف الرجال والنساء من أمته أن يذهلوا عن كل شىء إلا السير بدينهم حتى يبلغ مأمنه؟ لذلك رفض النبى الاستجابة لرغبات نسائه فى توسيع النفقة، وكره منهن هذا التطلع، فقرر مقاطعتهن، حتى شاع بين الناس أن النبى طلق نساءه جملة!! ص _346(1/384)
وفزع أبو بكر وعمر لهذه الشائعة فابنة كل منهما عند رسول الله. فذهبا يستأذنان ليدخلا عليه، وليتعرفا جلية الخبر، فلما دخلا وجدا النبى صامتا، وحوله نساؤه واجمات!! وسأله عمر: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا.. إلا أن جو الحزن كان يخيم على المكان. فقال عمر: لأكلمن رسول الله لعله يضحك! فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد - يعنى زوجته - سألتنى النفقة آنفا فوجأت عنقها. فضحك النبى حتى بدا ناجذه. وقال: هن حولى يسألننى النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يؤدبها، وقام عمر إلى حفصة. كلاهما يقول: تسألن النبى ما ليس عنده؟ فنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - الأبوين أن يصنعا ببنتيهما شيئا. وكانت نساؤه - نادمات - يقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وهجرهن النبى شهرا لا يتصل بهن، حتى يشعرن بما فعلن ونزلت آيات التخيير من عند الله تطلب إليهن جميعا، إما التجرد للدار الآخرة مع رسول هذه طريقته فى حياته! وإما اللحاق بأهلهن حيث الملابس الحسنة والمآكل الدسمة. وكان هذا الدرس كافيا ليمحو آخر ما فى أنفسهن من رغبة لم تتجاوز المباحات المشتهاة! فاخترن جميعا البقاء مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على قاعدته العتيدة " ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " وعشن معه للجهاد والتهجد، والبذل والمواساة، والتواضع والخدمة: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما). فآثرن الله ورسوله والدار الآخرة.. وعشن مع النبى - صلى الله عليه وسلم - معينات على الحق، راغبات فى الثواب. * * * وبهذا التفانى فى خدمة الرسالة، والإهمال لمطالب النفس، رفع الله درجاتهن، فلم يصبحن زوجات رجل يطلبن فى ظله المتاع. بل صرن شريكات فى حياة فاضلة غالية، ص _347(1/385)
واستحققن قول الله عز وجل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم). وتوكيدا لهذه الأمومة الروحية، شرع الحجاب الدقيق على أمهات المؤمنين، فلا يجوز لأحد من الأجانب أن يلتقى بهن ولو مع محرم. وسؤالهن فى شئون الدين والدنيا، إنما يكون من وراء الحجاب. كما لا يجوز لأحد - بعد وفاة الرسول - أن يتزوج بإحداهن. وبهذا التشريع الصارم، قطع دابر الفضوليين والثقلاء الذين يكثرون التردد على بيوت الزعماء، كما قطع دابر المتربصين منهم الذين ينشدون الرفعة من وراء الاقتران بأولئك النساء. ولا نستغرب مثل هذا التشريع! فقد تأدت الجرأة ببعض الناس أن يقول أحدهم: لو قبض النبى تزوجت عائشة! ومن حق النبى أن يصان شعوره، وأن يصد عنه وعن أهله أولئك الأعراب السفهاء. ولم يعقب الرسول من زوجاته أولئك ولدا. أما بناته اللائى أعقبهن من خديجة فقد متن وهو حى، عدا فاطمة، فإنها بقيت بعده شهورا ثم كانت أول أهله لحوقا به.. * * * * ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمريم التى بعث بها المقوقس إليه بعد أن أسلمت، وحملت منه، ثم وضعت له ابنا أسماه إبراهيم، باسم جده أبى الأنبياء، ولم يعمر طويلا مات وهو رضيع. قال أنس: لقد رأيته وهو يجود بنفسه بين يدى رسول الله. فدمعت عليه عينا النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال: تدمع العين و يحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون! واتفق أن الشمس كسفت فى ذلك اليوم، فتحدث الناس أن الشمس كسفت لموت ابن النبى، فقام النبى مصليا بالناس ثم قال: يأيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينكسفان لموت بشر، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى تنجلى .. ص _348(1/386)
استقرار زالت غبرة الجاهلية عن آفاق الجزيرة كما تزول بقايا الليل أمام طلائع الشروق وصحت العقول العليلة فلم تعد تخشى وترجو إلا الله، بعدما ظلت دهورا تعبد أصناما جامدة، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواز الفضاء خلال الصحراء التى أحياها الإيمان الجديد. وانطلق القراء شمالا وجنوبا يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله، ويعلمون العرب ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم. إن هذه الجزيرة - منذ نشأ فوقها عمران - لم تعتز بمثل هذه النهضة المباركة، ولم يتألق تاريخها تألقه فى هذه الأيام الفريدة من عمرها. وكان النبى فى المدينة يستقبل الوفود ويشيعها بعدما ينفخ فيها من روحه الكبير ويزودها بحكمته الباهرة، فتعود من حيث أتت لتنشئ فى مواطنها القصية معاقل للإسلام، وصحائف بيضا فى تاريخ أمة. ولم يكتف النبى - صلى الله عليه وسلم - بترقب الوفود المقبلة، بل أرسل رجاله الكبار إلى الجنوب ليزيد رقعة الإسلام هناك اتساعا. فإن فى اليمن وما حولها قبائل كثيفة العدد، ولأهل الكتاب السابقين نشاط قديم. وقد نشأ الإسلام هناك حقا، وتقلص ظل الفرس لغير عودة. إلا أن هذه البقاع النائية تحتاج مزيدا من رعاية وتفقد. ومن ثم بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد. ثم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعرى. ثم على ابن أبى طالب . وكأن هاتفا خفيا انبعث فى قلب رسول الله يشعره أن مقامه فى الدنيا يوشك على النهاية! فإنه بعد أن علم معاذ بن جبل كيف يدعو من يلقاهم، وكيف يعرفهم دينهم، خرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشى تحت راحلته! فلما فرغ قال: يا معاذ إنك عسى ألا تلقانى بعد عامى هذا! ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبرى! فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله. ثم التفت النبى بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بى المتقون، من كانوا وحيث كانوا . ص _349(1/387)
وقد وقع ما أومأ إليه الرسول، فإن معاذا أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاة النبى بعد الحج الأكبر بأحد وثمانين يوما، ومعاذ باليمن. وقد كان للعناية باليمن ما يبورها، فقد ظهر فيها وفى بنى حنيفة دجالان يزعمان النبوة. ولم يكن لكلا الدجالين من خلال الرجولة وآيات الخير ما يجمع عليه حفنة من الرجال. ولكن داء العصبية العمياء، جعل قبيلا كبيرا من الرعاع يقول: نحن نعلم أن مسيلمة كذاب، ولكن كذاب ربيعة، خير من صادق مضر!! وقد اشتعلت فتن المتنبئين حينا، ثم داستها أقدام المجاهدين بعد، فأخمدت جذوتها، وذهبت نبوة مسيلمة وغيره، كما تذهب بولة شاة على أديم الثرى. حجة الود اع أعلن رسول الله نيته بالحج، وأشعر الناس بذلك حتى يصحبه من شاء. فترك المدينة أواخر ذى القعدة، بعد أن أمر عليها فى غيابه " أبا دجانة " . والحج هذه المرة، جاء مغايرا لما ألفته العرب أيام جاهليتها. انتهت العهود المعطاة للمشركين، وحظر عليهم أن يدخلوا المسجد الحرام. فأصبح أهل الموسم ـ قاطبة ـ من الموحدين الذين لا يعبدون مع الله شيئا. وأقبلت وفود الله من كل صوب تيمم وجهها شطر البيت العتيق، وهى تعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، هو فى هذا العام أمير حجهم ومعلمهم مناسكهم!! ونظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الألوف المؤلفة وهى تلبى وتهرع إلى طاعة الله. فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام وعزم أن يغرس فى قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمع الكريم ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات فى النفوس، وتؤكد ما يحرص الإسلام على إشاعته من آداب وعلائق وأحكام. فألقى هذه الخطبة الجامعة : أيها الناس اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى، لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا، بهذا الموقف أبدا. ص _350(1/388)
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب ـ وكان مسترضعا فى بنى ليث فقتلته هذيل ـ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد ـ أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد فى أرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضى به، مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!! أيها الناس: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب الذى بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولى فإنى قد بلغت.. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدا، أمرا بيننا، كتاب الله وسنة نبيه.. أيها الناس: اسمعوا قولى واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن(1/389)
أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ ص _351
قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللهم اشهد. قال ابن إسحاق: كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية بن خلف. يقول له رسول الله: قل: يأيها الناس إن الرسول يقول: هل تدرون أى شهر هذا؟ فيقول لهم.. فيقولون: الشهر الحرام..! فيقول: قل لهم: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا. ثم يقول: قل: يأيها الناس إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: هل تدرون أى بلد هذا؟ فيصرخ به! فيقولون: البلد الحرام. فيقول: قل لهم: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا. ثم يقول: قل: يأيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أى يوم هذا؟ فيقول لهم.. فيقولون: يوم الحج الأكبر! فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا.. * * * كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد ـ بعد بلاء طويل فى إبلاع الرسالة ـ أن يفرغ فى آذان الناس وقلوبهم آخر ما لديه من نصح. كان يحس أن هذا الركب سينطلق فى بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذى انطلق به القطاع، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبدا. وكان هذا النبى الطيب، كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس، عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما فى الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم.. وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع ـ بعد ذلك ـ شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنهم قد سمعوا، وأنه قد بلغ.. لقد ظل ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء ويتلو على القاصى والدانى آى الكتاب الذى نزل به الروح الأمين على قلبه، ويغسل أدران الجاهلية التى التاث بها كل شىء، ويربى من هؤلاء العرب، الجيل الذى يفقه الحقائق ويفقه العالم فيها.. وها هو ذا يقود الحجيج فى أول موسم يخلص فيه من الشرك،(1/390)
ويتمحض فيه لله الواحد القهار.. ص _352
وها هو ذا، على ناقته العضباء، يستنصت الجماهير المائجة، ليؤكد المعانى التى بعث بها، والتى عرفهم عليها، ويخلى ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التى نيطت بعنقه. لقد أجيبت دعوة أبى الأنبياء إبراهيم، حين هتف وهو يبنى البيت العتيق: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) . إن العزيز الحكيم تجلى باسميه الجليلين على هذه الديار، فوهب العزة والحكمة أو قل: القوة والسياسة، لمحمد بن عبد الله، فعالج بها الآثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم، استكان للتأديب والحكم. وبهذا المنهج الجامع، بين العدل والرحمة، أخذت رقعة الباطل، تنكمش رويدا رويدا حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام. ثم أصاخ العرب بعدما لان قيادهم إلى صوت الحق الأخير فى حجة الوداع. * * * * وفى يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنه استشعر وفاة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والحق أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التى ترد على لسان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . منها ما سبق ذكره فى خطبته بالموسم. ومنها ما يقع فى أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة: خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا أحج بعد عامى هذا . إلى المدينة فلما قضى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظا من الراحة، بل ليستأنف حياة الكفاح والكدح لله. إن المبطلين لا يدعون لأهل الحق مهلة يستجمون فيها. وأصحاب الرسالات أنفسهم، لا يستعيدون نشاطهم فى القعود عن العمل، بل يستمدون ص _353(1/391)
الطاقة على العمل من الشعور بالواجب. وراحتهم الكاملة، يوم يرون بواكير نجاحه دانية القطاف.. قفل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ليعبئ جيشا آخر يقاتل به الروم. فإن كبرياء هذه الدولة على الإسلام، جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه. كان "فروة بن عمر الجذامى" واليا من قبل الروم على "معان " وما حولها من أرض الشام " فاعتنق الإسلام وبعث إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبره بذلك. وغضب الرومان فجردوا على " فروة " حملة جاءت به وألقى فى السجن حتى صدر الحكم بقتله، فضرب عنقه على ماء لهم يقال له: " عفراء " بفلسطين. وترك مصلوبا، ليرهب غيره أن يسلك مسلكه! وقيل: إنه لما قدم للقتل قال: بلغ سراة المسلمين بأننى سلم لربى، أعظمى ودمائى فأعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جيشا كبيرا وأقر عليه أسامة بن زيد بن حارثة. وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغى بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول فى الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب. ولما كان " أسامة " شابا لا يتجاوز الثمانية عشرة. فإن بعض الجهال ساءتهم هذه الإمارة، واعترضوا أن يقود الرجال الكبار شاب حدث. ولا شك فى أن النبى لا يلتفت فى ولايته إلا إلى الجدارة. فمن استحق منصبا بكفايته، قدمه له، غير مكترث بحداثة سنه. فإن كبر السن لا يهب للأغبياء عقلا، ولا الصغر ينقص الأتقياء فضلا. فما الحداثة عن حلم بمانعة قد يوجد الحلم فى الشبان والشيب ولذلك، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ ردا على انتقاد الناقدين ـ: " لئن طعنتم فى تأميرى أسامة لقد طعنتم فى تأميرى أباه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليقا بها، وإن كان لمن أحب الناس إلى " . وانتدب الناس يلتفون حول " أسامة "(1/392)
وينتظمون فى جيشه. إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكرهتهم على التريث حتى يعرفوا ما يقضى به الله.. ص _354
- 9 - الرفيق الأعلى شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوعكة المرض الذى نزل به أواخر صفر من السنة الحادية عشرة. وبدأت آلامه صداعا حادا، عاناه فى سكون، حتى ثقل عليه الوجع، وهو فى بيت زوجه ميمونة.. فلم يستطع الخروج. وأذن له نساؤه أن يمرض فى بيت عائشة، لما رأين من ارتياحه إلى خدمتها له. فخرج من عند ميمونة بين الفضل بن العباس، وعلى بن أبى طالب. وكان الألم قد أوهى قواه؟ فلم يستطع مسيرا. فانتقل بينهما معصوب الرأس، تخط قدماه على الأرض.. حتى انتهى إلى بيتها. واشتدت وطأة المرض على رسول الله، واتقدت حرارة العلة فى بدنه. فطلب أن يأتوه بماء يتبرد به.. ماء كثير!! أهريقوا على سبع قرب من آبار شتى.. قالت عائشة: فأقعدناه فى مخضب لحفصة، ثم صببنا عليه الماء، حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم.. وعندما أحس الرسول بأن سورة الحر تخلت عن بدنه، استدعى الفضل بن عمه العباس. فقال. خذ بيدى يا فضل - وهو موعوك معصوب الرأس - قال الفضل: فأخذت بيده حتى دخل المسجد، وجلس على المنبر. ثم قال: ناد فى الناس. فاجتمعوا إليه. وكانت ظهيرة تظللها الكآبة وتغمره الرقة. اشرأبت فيها الأعناق إلى الرجل الذى أحيا ص _355(1/393)
موات القلوب، وأخرجهم وذراريهم ونساءهم، من الظلمات إلى النور، تطلعت إليه الأعين الحائرة، فرأته متعبا. انهزمت العافية فى بدنه الجلد، أمام سطوة المرض العاتى. إلا أنه أخذ يحدثهم ويربيهم، على عهدهم به دائما، وأنصتوا، فإذا هم يسمعون منه عجبا.. إنه لما أحس بدنو أجله، أحب أن يلقى الله وليس هنا بشر يطلب بتبعة.. إنه تحرى العدالة فى شئونه كلها، لكن من يدرى؟ ربما عرض له سهو مما يعرض لبنى آدم، أو خطأ، فجار، وهو الذى يبرأ من الجور وذويه!! إذن ليخطب الناس فى هذا حتى يستريح ضميره.. قال: " أما بعد أيها الناس: فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه! ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعى ولا من شأنى. ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا! إن كان له، أحلنى منه فلقيت الله وأنا طيب النفس. وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مرارا ". قال الفضل: ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر. فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لى عندك ثلاثة دراهم. فقال: أعطه يا فضل. ثم قال النبى: أيها الناس من كان عنده شىء فليؤده، ولا يقل: فضوح الدنيا. ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة! فقام رجل فقال: يا رسول الله عندى ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله. قال: ولم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجا.. قال: خذها منه يا فضل! ثم قال: أيها الناس؟ من خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له. فقام رجل فقال: يا رسول الله؟ إنى لكذاب، إنى لفاحش، إنى لنؤوم! فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللهم ارزقه صدقا، وإيمانا، وأذهب عنه النوم. ثم قام رجل آخر فقال: والله يا رسول الله إنى لكذاب، وإنى لمنافق، وما من شىء إلا قد جنيته. ص _356(1/394)
فقام عمر بن الخطاب فقال له: فضحت نفسك. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا، وإيمانا، وصير أمره إلى خير . * * * * وعاد النبى إلى بيته اللاصق بالمسجد لينام فى فراش السقام، وهو الذى لم يتعود أن يركن إليه أو يهدأ فيه. كانت هناك مهام كثيرة، ترتقب صحوه ليبت فيها ولكن أعباء العلة حبسته فى قيودها، فلم يستطع منها فكاكا. وإذا استطاع أن يخرج فى فترات قليلة تخف فيها حدة المرض، فإلى المسجد ليلقى نظرات أخيرة على الأمة التى صنعها، والرجال الذين أحبهم. عن أبى سعيد الخدرى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس يوما على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله.. فبكى أبو بكر، ثم قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله.. قال أبو سعيد: فتعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد يخير ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام. وفى رواية: ولكن صحبة، وإخاء إيمان، حتى يجمع الله بيننا عنده 00 وحدث فى أثناء المرض أن مرت أوقات هادئة، خيلت لمحبى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أمانيهم فى ص _357(1/395)
عافيته نجحت، وأنه يوشك أن يقوم ليستأنف كفاحه فى سبيل الله، وليظل يحبوهم بعطفه وحرصه وإيناسه ورحمته. فعن عبد الله بن كعب بن مالك، أن ابن عباس أخبره أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى وجعه الذى توفى فيه. فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى؟ إنك بعد ثلاث عبد العصا وإنى أرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيتوفى فى وجعه هذا. وإنى لأعرف وجوه بنى عبد المطلب عند الموت.. فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان فى غيرنا استوصى بنا خيرا. قال على: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا. وظاهر أن العباس يعنى الخلافة! فقد شعر الرجل بأن النبى فى مرض الموت، وخبرته بأقاربه حين يحتضرون جعلته صادق الحدس فى تبيين مصايرهم. ولما كان عميد بنى هاشم، فقد أهمه أن يعرف لمن ستكون سيادة الناس بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اتجه إلى على يبثه مكنون نفسه لأن عليا - بسابقته وكفايته ومنزلته فى الناس، وموضعه من الرسول - يعد أول بنى هاشم ترشيحا لهذا الأمر. بيد أن علتا كره أن يكلم النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك، وآثر ترك الأمر لجمهور المسلمين. وكان النبى نفسه قد هم بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين فى الحكم، ثم بدا له فاختار أن يدع المسلمين وشأنهم، ينتخبون لقيادتهم من يحبون . * * * * وزادت وطأة المرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعانى من برحائه ألما مضاعفا، حتى تأذت فاطمة ابنته من شدة ما يلقى، فقالت: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم . وترامت الأخبار إلى جيش أسامة، فشاع الحزن والاضطراب فى صفوفه. ص _358(1/396)
عن محمد بن أسامة عن أبيه قال: لما ثقل رسول الله، هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة، فدخلنا على رسول الله وقد أصمت لا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على، فعرفت أنه يدعو لى . وأغمى عليه مرة فلده أهله، فلما أفاق كره ذلك منهم . وكان إلى جواره قدح فيه ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: اللهم أعنى على سكرة الموت . وحين عجز النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بالناس، استقدم أبا بكر ليؤمهم. فخشيت عائشة أن يكره الناس أباها ويتشاءموا من طلعته. فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق وإنه متى يقم مقامك لا يطيق فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فكررت عائشة اعتراضها. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنكن صواحب يوسف.. مروا أبا بكر فليصل بالناس. وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة. وهذه الأيام التى تخلف فيها النبى - صلى الله عليه وسلم - عن أن يؤم المسلمين، كانت من أشد الأيام ثقلا عليه. وصح عنه أنه قال: إنى أوعك كما يوعك الرجلان منكم . ومع فيح الحمى وحدة مسها لبدنه، فقد ظل يقظ الذهن، مهموما بتعاليم الرسالة، حريصا على تذكير الناس بها. وكان يخشى أن ترتكس أمته، فتتعلق بالأشخاص و " الأضرحة " كما ارتكس أهل الكتاب الأولون. وشدته فى إخلاص التوحيد لله هى التى جعلته وهو يعالج سكرات الموت يرهب المسلمين من هذا المزلق. عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه ص _359(1/397)
فإذا اغتم، كشفها عن وجهه فقال - وهو كذلك -: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا ". وكان يخشى أن تغلب شهوات الغى والكبر على أمته. فإن الذين يتبعون شهوات الغى، ينسون الصلاة، والذين يتبعون شهوات الكبر، يطغون على من تحت أيديهم من خدم ومرءوسين ورقيق. والأمة التى تستبد بها هذه الشهوات، لا تصلح للحياة، ولا تصلح بها حياة. ومن اليسير أن يتركها الله تلقى جزاء ما تصنع، وهو خزى الدنيا، وعذاب الآخرة. هذه الخشية، حملت النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ينبه المسلمين إلى معاقد الخير ليتمسكوا بها. عن أنس بن مالك قال: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت - " الصلاة وما ملكت أيمانكم " حتى جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه . * * * * وربما غلبه الشوق لحضور الجماعة ورؤية الأصحاب فى أيامه الأخيرة فتحامل على جسمه المنهوك، وانسل إلى المسجد من حجرة عائشة، فصلى بالناس وهو قاعد. قال ابن عباس: لما مرض النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلى بالناس ثم وجد خفة فخرج. فلما أحس به أبو بكر، أراد أن ينكص، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس إلى جنب أبى بكر عن يساره واستفتح من الآية التى انتهى إليها أبو بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبى، والناس يأتمون بأبى بكر . ص _360(1/398)
على أن أبا بكر ظل يصلى بالناس هذه الأوقات التى مرض فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صبيحة اليوم الذى قبض فيه وكان الرسول معلق القلب بشئون أمته. وكأن الله أراد أن يطمئنه على كمال انقيادها وحسن اتباعها، فأشهده آخر وقت حضره وهو فى الدنيا، إذ أقبل المؤمنون من بيوتهم إلى المسجد فجر الاثنين الذى قبض فيه، واصطفوا لصلاتهم خشغا مخبتين، وراء إمام رقيق التلاوة فياض الإخلاص. ورفع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الستر المضروب على منزل عائشة، وفتح الباب وبرز للناس. فكاد المسلمون يفتنون فى صلاتهم ابتهاجا برؤيته، وتفرجوا يفسحون له مكانا فأشار بيده: أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسم فرحا من هيئتهم فى صلاتهم. قال أنس ابن مالك: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه فى تلك الساعة . ثم رجع وانصرف الناس، وهم يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه. واطمأن أبو بكر لهذا الظن، فرجع إلى أهله بالسنح ـ فى ضواحى المدينة. قالت عائشة: وعاد رسول الله من المسجد، فاضطجع فى حجرى. ودخل علينا رجل من آل أبى بكر فى يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إلى يده نظرا عرفت منه أنه يريده. فأخذته فألنته له ثم أعطيته إياه. فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله، ثم وضعه. ووجدت رسول الله يثقل فى حجرى. فذهبت أنظر فى وجهه. فإذا نظره قد شخص وهو يقول بل الرفيق الأعلى من الجنة. قلت: خيرت فاخترت، والذى بعثك بالحق.. وقبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ص _361(1/399)
وتسرب النبأ الفادح من البيت المحزون، وله طنين فى الآذان، وثقل ترزح تحته النفوس، وتدور به البصائر والأبصار. وشعر المؤمنون أن آفاق المدينة أظلمت، فتركتهم لوعة الثكل حيارى، لا يدرون ما يفعلون. ووقف عمر بن الخطاب ـ وقد أخرجه الخبر عن وعيه ـ يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفى، وان رسول الله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة. ثم رجع بعد أن قيل قد مات.. والله ليرجعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات! وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس. فلم يلتفت إلى شىء حتى دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بيت عائشة وهو مسجى فى ناحية البيت عليه برد حبرة. فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبى أنت وأمى. أما الموتة التى كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعدها موت أبدا. ورد الثوب على وجهه، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر فأنصت. لكن عمر ظل مهتاجا مندفعا فى كلامه. فلما رآه أبو بكر كذلك، أقبل على الناس وشرع يتكلم، فلما سمعه الناس انصرفوا عن عمر وأقبلوا عليه. وحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144]. ص _362(1/400)
خاتمة لم تمض أيام معدودات على وفاة الرسول حتى اشتبك الإسلام فى صراع رهيب مع الوثنية التى عاودتها الحياة فجأة والصليبية الرابضة فى شمالى الجزيرة تمنع الدخول فى الإسلام وتحبط دعايته بالقوة. ولم تشهد الصحراء فى حياة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه مثيلا لهذه المعارك الطاحنة. فقد اتسعت ميادينها، وتتابعت أمدادها، وفدحت مغارمها، وكثرت ضحاياها. إلا أن الرجال الذين رباهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معرفة الحق والفناء فيه، صدقوا الله فى عملهم، ونهضوا كأعتى الأبطال بالأثقال الباهظة التى رموا بها. ضربوا الوثنية فى الجزيرة ضربة كسرت فقارها، واعتصرت روحها، فهمدت إلى الأبد. وطردوا الرومان عن الحدود التى تمردوا بها، وتجبروا فيها. ثم عادوا إلى المدينة لا ليستجموا، بل لينتشروا خلال المعمور من أرض الله يومئذ، فى نظام رتيب، وبوحى شريعة محكمة. وما هى إلا سنوات قلائل، حتى كان الإسلام ملء البر والبحر، ملء السمع والبصر. والآن وقد مرت قرون أربعة عشر على هذه الحقبة الزاهرة. فإن الإسلام ـ بعد مجد كبير ـ لا يحكم أمته فضلا عن أن يوجه العالم إلى بر يذكر أو خير يشكر. والأديان الأخرى تعيش على هامش الحياة. فالحضارات القائمة أو المتربصة لا تمكن الدين من زمامها. والوثنية فى الهند وفى الشرق الأقصى وفى بقاع أخرى لا تزال تظلل الجوانب الداكنة من حياة العامة ومسالك الجماهير. ص _363(1/401)
واليهودية تتجاوز بأبنائها جانبا، لتغرس فى قلوبهم الحقد على البشر، والنفاذ من خلل الصفوف! المتناحرة بأكبر غنم لاسرائيل. أما الصليبية، فهى كالنبات المتسلق فى خط الاستواء. تعتمد فى بقائها على الالتحاق بالفلسفات السائدة والنظم الغالبة، حتى تضمن حياة، لدعائمها الأولى من تثاليث وقرابين. والمسلمون سرت إليهم لوثات الاحتراف والتعلق بالقشور والمراسم. وردتهم رذائل الضعف والجهالة، إلى أحوال أشبه بما كان يسود اليهود والنصارى على عصر النبوة والخلافة الراشدة. وثلة يسيرة منهم، هى التى بقيت إلى يوم الناس هذا، تغالب الجاهلية وتتشبث بالحق. وإذا كان مما يعين على الأمل أن الإسلام ظل من الناحية العلمية محفوظا فى مصدريه الخطيرين: الكتاب والسنة، فإن هذا العلم المصون لا يغنى أبدا عن العمل. على أن الذين يعملون للإسلام عملا صحيحا، يلقون مقاومة عنيفة من شتى الجبهات الأخرى، أعنى الجبهات التى قاومت امتداده من أربعة عشر قرنا، ولم تبرد عداوتها له يوما..! * * * * فد يسأل سائل: هل العالم اليوم بحاجة إلى هذا الإسلام؟ ونقول: إذا كان العالم بحاجة إلى أن يعرف الله ويستعد للقائه ويقدم حسابا على ما أدى فى هذه الدنيا، فلا بد له من الإسلام. إن الارتقاء المادى لا يغنى فتيلا عن التقيد بهذه الحقائق الكبيرة. قد يقال: لكن من الناس من لا يؤمن بإله قائم أو يوم آخر. ومنهم من يؤمن بذلك على نحو غير ما جاء به الإسلام. فدعوا الناس وما يرون.. ونقول: لير الناس ما يشاءون، ولكن ليس من حق العميان أن يخلعوا عينى المبصر، ويضيقوا علية الخناق، لأنه يرى ما لا يرون ص _364(1/402)
فليدعوه يمشى بهدى بصره، ويدعوه كذلك، يصف ما يرى فى طريقه وما يتوقع. فمن تبعه من غير استكراه، فلينطلق معه، وإلا فليدعه، وليرفع من أمامه العوائق، وذلك ما يبغيه الإسلام فحسب. إن المبطلين يكرهون الإسلام لأنه حق ناطق، يجادل عن نفسه، ويستعلن بما فيه، ويرفض أن يتوارى أو يصمت. هذه الخاصة فى الإسلام، خاصة إحقاق الحق وإبطال الباطل، أزعجت أعداءه وجعلتهم يختلقون له التهم. فإذا رفض المهادنة، فهو مهاجم، وإذا أبى أن يموت أمام كيد الخصوم، فهو ينتشر بالإكراه. وذاك سر الخرافة التى راجت، أن الإسلام ساد بالسيف. والإسلام إنما امتشق الحسام لينجو به من غوائل الرعاع والقطاع. ولو ترك من غير ترويع، ما أثقل عاتقه برمح، ولاكتفى من السنان باللسان. نعم؟ إنه كان فى هذا السبيل صارما. وهل ينتظر منه إلا ذلك فى ملاقاة خصوم يجرون وراءهم كبرياء القرون الطوال وتعصبها؟ وضلالات تحتمى وراء غابات متشابكة من الرجال والسلاح؟ إنه لولا هذه الصرامة، ما بقيت أصوله العلمية والنفسية سليمة إلى اليوم. فإن الديانات التى ضعفت قبله، أفلح أعداؤها فى جرها عن أصولها جرا شنيعا فلم تعد إلى قواعدها سالمة..! أما الإسلام، فإنك واجده اليوم، ولو فى كتابه، إن لم يكن فى أصحابه. * * * قد تظن أنك درست حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة. وهذا خطأ بالغ، إنك لن تفقه السيرة حقا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبى الإسلام.. تم بحمد الله ومنته
ص _255(1/403)
إن الله الذى عقل الناقة أن تتابع سيرها لا يأذن لهذه الكتائب أن توالى زحفها وتشرع رماحها، وقد تحرز نصرا أقل على الإسلام - فى جدواه - من سلم مبارك النتائج. قال الزهرى: فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين! قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟! قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه - أمره - فإنى أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. تم أتى رسول الله فقال: ألست برسول الله! قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين! قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين! قال: بلى. قال!: فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟! قال: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعنى . ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين. يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه! وإن بيننا عيبة مكفوفة - صدورا منطوية على ما فيها من خير - وأنه لا إسلال ولا إغلال - ولا سرقة ولا خيانة - وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد - صلى الله عليه وسلم - وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك. فأقمت(1/404)
بها ثلاثا معك سلاح الراكب - السيوف فى القرب - لا تدخلها بغيرها.(1/405)