فقه أم سلمة في الطهارة
د. راوية بنت أحمد الظهار
وكيلة كلية التربية
بفرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ،أما بعد ..
فقد كانت المدينة المنورة مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منبع العلم ، ومنها انتشر نوره إلى جميع أنحاء العالم ، وممن حمل لواءه أول الأمر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجال والنساء ، فهم سادة الأُمة وقادتها ، وهم سادات المفتين والعلماء .
قال الليث عن مجاهد : العلماء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ونيف وثلاثون ما بين رجل وامرأة ، وكان المكثرون منهم سبعة وهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر .
والمتوسطون في الفتيا ثلاثة عشر هم : أبو بكر الصديق ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو موسى الأشعري ، وسعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، ومعاذ بن جبل .
وهؤلاء يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جداً ؛ والباقون من الصحابة مقلون في الفتيا(2) .
ولإبراز دور المرأة في الفتاوى الفقهية ، ولما تتمتع به أم سلمة رضي الله عنها من علم وفقه ؛ فقد تتبعت فتاويها في الطهارة فوجدتها - حسب علمي - ست مسائل هي :
تطهير بول الغلام والجارية ، المسح على العمامة والخمار ، سؤر الهرة ، التطهير بفضل طهور المرأة ، أكثر النفاس ، الاستمتاع من الحائض فيما بين السرة والركبة .
__________
(1) أعلام الموقعين 1/14 .
(2) أعلام الموقعين 1/12 .(1/1)
وسيكون منهجي في البحث أنْ أبدأ بقولها في المسألة ثم أورد من وافقها في القول من الصحابة والتابعين والفقهاء ، ثم أعرض الأقوال الأخرى في المسألة وقائليها ، ومن ثم أورد أدلة كل فريق وأُقارن بين هذه الأقوال لمعرفة الراجح منها .
هي هند بنت أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية ويقال اسمها رملة ، وليس بشيء(1) .
واسم أبيها حذيفة وقيل سهيل ويلقب بزاد الركب ؛ لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه ومعه زاد بل يكفي رفقته من الزاد ، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة بن علقمة جذل الطعان بن فراس بن غنم بن مالك بن كنانة .
وهي ابنة عم خالد بن الوليد سيف الله وبنت عم أبي جهل بن هشام ، تزوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ، وكان أخا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرضاعة .
ولدت له سلمة وعمر ودرة وزينب ، هاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعاً ، وقيل إنها أول امرأة خرجت مهاجرة إلى الحبشة وأول ظعينة دخلت المدينة .
شهد أبو سلمة بدراً وأحداً ورمى بسهم في عضده فمكث شهراً يداويه ثم برأ الجرح وانتقض بعد ذلك فمات منه سنة أربع ، ثم بعد انقضاء عدتها تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة أربع .
روى مسلم عن أم سلمة أنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجُرْني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها )) .
__________
(1) انظر : تاريخ الطبري : 3/164 ، الإصابة 4/439 ، أسد الغابة 6/340 ، سير أعلام النبلاء 2/201 ، طبقات ابن سعد : 8/86 ، صفة الصفوة 1/146 ، عيون الأثر ، 2/303 .(1/2)
قالت : فلما مات أبو سلمة قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قالت : أرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له ، فقلت إن لي بنتاً وأنا غيور فقال : (( أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة ))(1) .
وكانت رضي الله عنها جميلة ، روى ابن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها ، قالت : فتلطفت لها حتى رأيتها ، فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي في الحسن والجمال ، قالت فذكرت ذلك لحفصة وكانت يداً واحدة ، فقالت : لا والله إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون ، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت : قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب وإنها لجميلة ، قالت فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة ولكني كنت غيرى(2) .
__________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، باب ما يقال عند المصيبة 2/631 .
(2) طبقات ابن سعد 8/94 .(1/3)
كما كانت حكيمة ذات رأي ثاقب ، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في قصة الحديبية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : (( قوموا فانحروا ثم احلقوا )) قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً(1) .
وكانت فقيهة عالمة ، قال الذهبي : (( وكانت تعد من فقهاء الصحابيات )) ولها جملة من الأحاديث .
وممن روى عنها سعيد بن المسيب ، وشقيق بن سلمة ، والأسود بن زيد ، والشعبي ، وأبو صالح السمان ، ومجاهد ، ونافع بن جبير بن مطعم ، ونافع مولاها ، ونافع مولى ابن عمر ، وعطاء بن أبي رباح ، وشهر بن حوشب ، وابن أبي مليكة ، وخلق كثير .
عاشت نحواً من تسعين سنة ، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتاً ، توفيت سنة تسع وخمسين في ذي القعدة بعدما جاءها نعي الحسين بن علي(2) .
المسائل التي تكلمت فيها أم سلمة :
قالت أم سلمة بالفرق بين بول الصبي والجارية في التطهير .
فيجب غسل بول الجارية ويكفي نضح بول الغلام(3) .
روى أبو داود عن خيرة أم الحسن البصري أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية(4) .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 2/2001 .
(2) سير أعلام النبلاء 2/202 ، 203 .
(3) المحلى 1/101 ، المجموع 2/590 ، نيل الأوطار 1/58 .
(4) صحيح سنن أبي داود ، الألباني ، كتاب الطهارة ، باب بول الصبي يصيب الثوب 1/111 .(1/4)
قال البغوي : وقالت أُم سلمة : (( بول الغلام يصب عليه الماء صباً ما لم يطعم وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم(1) .
وبه قال علي بن أبي طالب ، والأوزاعي ، وإسحق بن راهويه ، وأبو عبيد ، وداود ، وقتادة والزهري ، وعطاء ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، والثوري ، وأبو ثور(2) ، وابن وهب من المالكية(3) ، والمشهور من مذهب الشافعية(4) ، والحنابلة(5) .
وهذا ما لم يطعم الصبي الطعام ، فإذا أطعم الطعام وأراده واشتهاه غسل بوله .
وفي قول آخر بأنه لا فرق بين بول الغلام وبين بول الصبية وأنه يجب فيهما الغسل . وهو مذهب الحنفية(6) ، والمالكية(7) ، ووجه للشافعية(8) ، ورواية عن الثوري ، وروي أيضاً عن إبراهيم النخعي ، وسعيد بن المسيب ، والحسن بن حي(9) .
وهناك قول ثالث بأنه يكفي النضح فيهما ، وهو رواية عن الأوزاعي ، والنخعي(10) ، وحكي عن المالكية(11) ، وقال أصحاب مالك أن هذه رواية شاذة ، ووجه للشافعية(12) .
أولاً : استدل من قال بالنضح في بول الغلام وبول الجارية بأن النضح يكون دفعاً للمشقة لعموم الابتلاء بالتربية والحمل لهما(13) .
ثانياً : استدل من قال بالغسل فيهما بالسنة والقياس .
أ - السنة :
__________
(1) شرح السنة 2/87 .
(2) المحلى 1/102 ، المجموع 2/590 ، عمدة القاري 1/130 ، معالم السنن 1/116 .
(3) شرح الزرقاني 1/129 .
(4) نهاية المحتاج 1/239 ، مغني المحتاج 1/84 .
(5) المغني 1/734 ، المبدع 1/224 .
(6) بدائع الصنائع 1/8 ، تبيين الحقائق 1/ 69 ، شرح معاني الآثار 1/93 .
(7) أوجز المسالك 1/361 .
(8) المجموع 2/589 .
(9) المجموع 2/590 ، المغني 1/735 ، عمدة القاري 1/130 .
(10) المجموع 2/590 ، أوجز المسالك 1/361 ، نيل الأوطار 1/58 .
(11) أوجز المسالك 1/361 .
(12) المجموع 2/589 . فتح الباري 1/382 .
(13) تحفة المودود 174 .(1/5)
1 - عموم الأحاديث الواردة بغسل البول(1) .
2 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي فبال على ثوبه فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فأتبعه إياه(2) .
وجه الدلالة :
إن قوله : (( فأتبعه إياه )) أي أتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البول الذي على الثوب بصبه عليه(3) .
قال الطحاوي : وإتباع الماء حكمه حكم الغسل ، ألا ترى أن رجلاً لو أصاب ثوبه عذرة فأتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه قد طهر(4) .
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان فيدعو لهم ، فأُتي بصبي مرة فبال عليه فقال : (( صبوا عليه الماء صباً ))(5) .
وجه الدلالة :
أن المراد بالصب هو الغسل .
4 - عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله(6) .
وجه الدلالة :
إن المراد بالنضح في الحديث هو صب الماء لأن العرب تسمي ذلك نضحاً وقد يذكر ويراد به الغسل وكذلك الرش يذكر ويراد به الغسل(7) .
__________
(1) تحفة المودود 174 ، أوجز المسالك 1/361 .
(2) رواه مالك ، والبخاري ، ومسلم .
انظر : الموطأ ، كتاب الطهارة ، باب ما جاء في بول الصبي 1/64 ، صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب بول الصبيان 1/62 ، صحيح مسلم : كتاب الطهارة ، باب حكم بول الصبي الرضيع وكيفية غسله 1/237 .
(3) شرح الزرقاني 1/128 ، أوجز المسالك 1/362 .
(4) شرح معاني الآثار 1/93 .
(5) شرح معاني الآثار 1/93 .
(6) رواه البخاري ، ومسلم .
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب بول الصبيان : 1/62 ، صحيح مسلم : كتاب الطهارة ، باب حكم بول الصبي الرضيع وكيفية غسله 1/238 .
(7) عمدة القاري 1/131 ، شرح الزرقاني 1/128 ، تبيين الحقائق 1/69 .(1/6)
ومما يدل على أن المراد بالنضح الغسل ما رواه أبو داود وغيره عن المقداد بن الأسود أن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه ، قال علي فإن عندي ابنته وأنا استحي أن أسأله قال المقداد فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : (( إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة ))(1) .
ثم الذي يدل على أنه أريد بالنضح هاهنا الغسل ما رواه مسلم عن علي رضي الله عنه قال : (( كنت رجلاً مذَّاء فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال : (( يغسل ذَكَرَه ويتوضأ ))(2) .
أما قوله : (( ولم يغسله )) أي غسلاً مبالغاً فيه كغيره ، وفي قول آخر أن معنى (( ولم يغسله )) أي لم يعركه فأريد بالغسل العرك ، قال ابن العربي والغسل في كلام العرب هو عرك المغسول ، وقد يسمى زوال القذر غسلاً ؛ وإن لم يتصل به عرك وذلك مجاز بدليل قول الراوي (( ولم يغسله )) وإنما لم يحتج هنا عرك لأن البول إذا أتبع بالماء بقرب ملاقاته الثوب خرج منه من غير عرك(3) .
ب - القياس :
1 - إنه لا يفرق بين الصبي والجارية ويجب فيهما الغسل قياساً على سائر النجاسات(4) .
2 - إن الصبي والجارية حكم أبوالهما سواء بعد ما يأكلان الطعام ، فالقياس أيضاً يقتضي أن يكونا سواء قبل أن يأكلا الطعام ، فإذا كان بول الجارية نجساً فبول الصبي أيضاً نجس(5) .
ثالثاً : استدل من قال بالتفريق بالسنة والعقل .
__________
(1) رواه الشافعي وأبو داود وصححه الألباني .
انظر : الأم 1/17 ، صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب في المذي 1/64 .
(2) رواه مسلم .
انظر : صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب المذي 1/247 .
(3) شرح الزرقاني 1/129 . أوجز المسالك 1/363 .
(4) تحفة المودود 174 .
(5) شرح معاني الآثار 1/94 .(1/7)
أ - السنة :
1- عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبال على ثوبه ، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله(1) .
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء(2) .
3- عن أم كرز الخزاعية قالت : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلام فبال عليه فأمر به فنضح وأُتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل(3) .
4- عن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت : بال الحسين بن علي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره حتى أغسله فقال : (( إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى ))(4) .
5- عن أبي السمح قال : كنت خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيء بالحسن والحسين فبالا على صدره ، فأرادوا أن يغسلوه فقال : (( رُشُّوه رشاً ، فإنه يغسل بول الجارية ويرش بول الغلام ))(5) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) رواه البخاري ومسلم .
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب بول الصبيان 1/62 ، صحيح مسلم ، كتاب الطهارة ، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله 1/237 .
(3) مسند أحمد 6/464 .
(4) رواه أحمد ، وأبو داود ، والحاكم ، قال الألباني الحديث حسن صحيح .
انظر : مسند أحمد 6/338 ، صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب بول الصبي يصيب الثوب 1/110 ، المستدرك ، كتاب الطهارة 1/166 .
(5) رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم ، وقال الألباني صحيح .
انظر : صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب بول الصبي يصيب الثوب : 1/111 . صحيح سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم 1/86 . المستدرك ، كتاب الطهارة : 1/166 .(1/8)
6- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل )) قال قتادة : هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعاً(1) .
وجه الدلالة من الأحاديث السابقة :
الأحاديث السابقة في مجموعها واضحة في التفرقة في التطهير بين بول الصبي والجارية .
ب - العقل :
إن هناك فرقاً بين بول الغلام والجارية من ناحية المعنى يتجلى في الآتي :
1- إن بول الغلام يتطاير وينشر هاهنا وهاهنا فيشق غسله وبول الجارية يقع في موضع واحد فلا يشق غسله .
2- إن حمل الغلام أكثر من حمل الجارية لتعلق القلوب به كما تدل عليه المشاهدة فخفف في بوله للقاعدة الصحيحة أن المشقة تجلب التيسير وأن الأمر إذا ضاق اتسع(2) .
المناقشة والترجيح :
استدلال من قال بعدم التفريق بالأحاديث العامة في إزالة النجاسة يرد عليه بأن هذه الأحاديث كحديث عمارة (( إنما تغسل ثوبك من البول )) هو باتفاق الحفاظ ضعيف لا يعارض الأحاديث الصحيحة بالتفرقة لأنها خاصة وهو عام وبناء العام على الخاص واجب(3) .
__________
(1) رواه ابن ماجه مرفوعاً ، وأبو داود موقوفاً ، وقال الألباني صحيح .
انظر : صحيح ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم 1/85 . صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب بول الصبي يصيب الثوب : 1/111 .
(2) وهناك فروق كثيرة فراجعها .
انظر : تحفة الودود 175 ، إحكام الأحكام 1/81 ، نهاية المحتاج 1/240 ، مغني المحتاج 1/84 ، المجموع 2/590 ، المبدع 1/244 .
(3) نيل الأوطار 1/58 .(1/9)
وأما ما ذكروه بأن النضح معناه الغسل واستدلالهم بالأحاديث التي تؤيد رأيهم كحديث علي فيرد عليهم بما قاله الخطابي : (( إن النضح في هذا الموضع الغسل إلا أنه غسل بلا مرس ولا دلك ، وأصل النضح الصب ومنه قيل للبعير الذي يستقى عليه الناضح ، فأما غسل بول الجارية فهو غسل يستقصى فيه فيمرس باليد ويعصر بعده ، وقد يكون النضح بمعنى الرش ))(1) .
وأما قولهم بأن حكم أبوالهم سواء بعد ما يأكلون الطعام فالقياس أن يكون كذلك قبل أن يأكلا الطعام فيرد عليه بما قاله النووي : (( اعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي ، ولا خلاف في نجاسته وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي ولم يخالف فيه إلا داود الظاهري ))(2) .
وقال الخطابي : (( وليس تجويز من جوز النضح في بول الغلام من أجل أن بوله ليس بنجس ولكنه من أجل التخفيف الذي وقع في إزالته ))(3) .
الترجيح :
بعد هذا العرض يبدو لي - والله أعلم - رجحان مذهب من قال بالتفريق ، وذلك لأن الأحاديث صحيحة صريحة لا تقبل التأويل .
وحمل النضح على الغسل في الأحاديث يؤدي إلى كون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه تكرار وأن لا فائدة منه ، ومعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُوتي جوامع الكلم وهو لا يقول ما لا فائدة فيه .
وحتى لو لم تتضح لنا الحكمة في التفريق فإننا نسلم بما جاء ونعتبره من الأمور التعبدية .
قالت أم سلمة بجواز المسح على العمامة والخمار(4) .
عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار(5) .
__________
(1) معالم السنن 1/115 .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 3/195 .
(3) معالم السنن 1/166 .
(4) الأوسط 1/468 ، المحلى 2/60 .
(5) مصنف ابن أبي شيبة 1/22 ، الأوسط 1/468-471 .(1/10)
وممن فعل ذلك من الصحابة أبو بكر ، وعمر ، وأنس ، وأبو أمامة ، وروي عن سعد بن أبي وقاص ، وأبي الدرداء ، والمغيرة ، وبلال ، وسلمان ، وعمرو بن أمية ، وكعب بن عجرة ، وأبي ذر ، وعمر بن عبد العزيز ومكحول ، والحسن البصري ، وقتادة والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور(1) .
وهو مذهب أحمد(2) ، وابن جرير(3) ، وداود(4) .
وذهب آخرون إلى عدم جواز المسح على العمامة والخمار .
ومنهم علي بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وبه قال عروة بن الزبير ، والنخعي ، والشعبي ، والقاسم(5) .
وهو مذهب أبي حنيفة(6) ، ومالك(7) ، والشافعي(8) .
أولاً : استدل من قال بعدم جواز المسح على الخمار والعمامة بالقرآن والسنة والآثار والعقل.
أ - القرآن :
قوله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } (9) .
وجه الدلالة :
__________
(1) نيل الأوطار 1/205 ، المحلى 2/60 ، المجموع 1/407 ، فتح الباري 1/267 ، حلية العلماء 1/151 .
(2) واشترط الحنابلة كون العمامة محنكة أو أن تكون ذات ذؤابة ، ساترة لجميع الرأس .
انظر : المغني 1/307 ، الإنصاف 1/170-185 ، الفروع 1/162 ، مسائل أحمد لابن هانئ 1/18 .
(3) الحاوي 3/1382 ، فتح الباري 1/267 .
(4) المحلى 2/60 .
(5) الأوسط 1/470 ، المجموع 1/407 ، نيل الأوطار 1/205 .
(6) الهداية 1/30 ، المبسوط 1/101 ، بدائع الصنائع 1/5 .
وقال بعض الحنفية : لو مسحت المرأة على خمارها ونفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع منه جاز ، وقال بعض مشائخهم إذا كان الخمار جديداً يجوز لأن ثقوب الجديد لم تسد بالاستعمال فتنفذ البلة ، أما إذا لم يكن جديداً لا يجوز لانسداد ثقوبه .
انظر : البحر الرائق : 1/193 .
(7) المدونة 1/16 ، مواهب الجليل 1/207 ، المنتقى 1/75 .
(8) الحاوي 3/1382 ، التهذيب 1/255 ، المهذب 1/25 .
(9) المائدة : 6 .(1/11)
أن الأمر يقتضي الوجوب فمن مسح على العمامة لم يمسح برأسه ولا امتثل الأمر(1) ، لأن العمامة لا تسمى رأساً ، وكذلك فإن حقيقة المسح على الرأس تقتضي إمساسه الماء ومباشرته ، وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به(2) .
وقال سيبويه الباء للتأكيد كأنه قال امسحوا رؤوسكم نفسها(3) .
ب - السنة :
1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توضأ ومسح برأسه (( هذا هو وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ))(4) .
وجه الدلالة :
__________
(1) المنتقى 1/75 ، شرح فتح القدير 1/157 .
(2) أحكام القرآن للجصاص 2/351 .
(3) مواهب الجليل 1/207 .
(4) لم أجد الحديث بالسياق الذي ورد في كتب المجيزين ، ولكن أخرج نحوه ابن ماجه ، والدار قطني ، والبيهقي عن عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال : دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ واحدة واحدة فقال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " واللفظ للبيهقي .
قال ابن أبي حاتم : قال أبي عبد الرحيم بن زيد متروك الحديث ، وزيد العمي ضعيف الحديث ، ولا يصح هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث فقال : هو عندي حديث واه ، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر . والحديث ضعيف وله طرق كلها ضعيفة ، وضعفه العراقي وابن حجر .
انظر : سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين 1/145 ، سنن الدارقطني ، كتاب الطهارة ، باب وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 1/80 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب فضل التكرار في الوضوء 1/80 ، نصب الراية 1/28 ، علل الحديث 1/45 ، التعليق المغني 1/79 ، المغني عن حمل الاسفار للعراقي 1/135 .(1/12)
الحديث واضح الدلالة بأن الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ما كان فيه مسح الرأس ومعلوم أنه مسح برأسه ، ومسح العمامة لا يسمى وضوءاً ثم نفى جواز الصلاة إلا به(1) .
2 - عن أنس بن مالك قال : (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة ))(2) .
وجه الدلالة :
أنه لو جاز الاقتصار على مسح العمامة لما تكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدخل يده من تحت العمامة(3) .
3 - عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين(4) .
وجه الدلالة :
يدل الحديث على أن الاقتصار على مسح العمامة لا يجزي(5) .
جـ - الآثار :
1- عن أبي لبيد قال : رأيت علياً بال ثم توضأ فحسر العمامة فمسح برأسه ثم مسح على خفيه(6) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2/351 .
(2) أخرجه أبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم ، والحديث ضعفه الألباني .
انظر : سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب المسح على العمامة 1/37 ، سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب ما جاء في المسح على العمامة 1/187 ، والمستدرك ، كتاب الطهارة ، المسح على العصائب والتساخين 1/169 ، ضعيف سنن أبي داود ، 1/21 .
(3) الحاوي 3/1385 .
(4) رواه الشافعي ، وأحمد ، ومسلم - واللفظ له - والنسائي ، والبيهقي .
انظر : الأم 1/26 ، مسند أحمد 4/244 ، صحيح مسلم ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الناصية والعمامة 1/231 ، سنن النسائي ، كتاب الطهارة ، باب كيف المسح على العمامة 1/77 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب مسح بعض الرأس 1/28 .
(5) الحاوي 3/1385 .
(6) الأوسط 1/470 ، مصنف ابن أبي شيبة 1/23 .(1/13)
2- عن عمار بن ياسر قال : قلت لجابر المسح على العمامة قال : أمس الماء الشعر(1) .
3- عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة(2) .
4- عن مالك عن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر تنزع خمارها وتمسح على رأسها بالماء ونافع يومئذ صغير(3) .
د - العقل :
1 - إن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين ؛ فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين :
أحدهما : أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم .
والثاني : عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار(4) .
2 - إن المسح إنما يكون بدلاً عن الغسل لا عن المسح ، والرأس ممسوح فكيف يكون المسح على العمامة بدلاً عنه بخلاف الرجل(5) .
3 - إن المسح على الخف ثبت على خلاف القياس فلا يلحق به غيره ، ولأنه لا حرج في نزع العمامة والخمار عادة فلا يمكن إلحاقها بالخف لعدم الضرورة(6) ، والرخصة لدفع الحرج(7) .
4 - إن مسح الرأس ممكن مع بقاء العمامة ، فلم يجز أن يقتصر على المسح عليها لعدم الحاجة إليه ، وغسل الرجلين غير ممكن مع بقاء الخفين فجاز المسح عليها لأن الحاجة داعية إليه(8) .
__________
(1) الأوسط 1/470 ، مصنف ابن أبي شيبة 1/23 ، سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على العمامة 1/69 .
(2) الأوسط 1/470 ، مصنف ابن أبي شيبة 1/23 .
(3) رواه مالك .
انظر : الموطأ ، كتاب الطهارة ، باب ما جاء في المسح بالرأس والأذنين 1/35 .
(4) أحكام القرآن للجصاص 2/351 .
(5) المبسوط 1/101 .
(6) تبيين الحقائق 1/52 ، المجموع 1/408 .
(7) شرح فتح القدير 1/157 .
(8) الحاوي 3/1385 .(1/14)
5 - إن العدول عن الغسل إلى المسح رخصة والعضو الواحد لا يجتمع فيه رخصتان(1) .
ثانياً : استدل من قال بجواز المسح بالسنة والأثر والعقل .
أ - السنة :
1- عن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال : توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الخفين والعمامة(2) .
2- عن كعب بن عجرة عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار(3) .
3- عن جعفر بن عمرو عن أبيه قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه(4) .
4- عن ثوبان قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب(5) والتساخين(6) .
وجه الدلالة :
الأحاديث واضحة الدلالة في جواز المسح على العمامة .
ب - الآثار :
1- عن عبد الرحمن بن عسيلة قال : رأيت أبا بكر يمسح على الخمار(7) .
__________
(1) الحاوي 3/1385 .
(2) رواه الترمذي وقال : حديث المغيرة بن شعبة حديث حسن صحيح .
انظر : سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على العمامة 1/68 .
(3) رواه مسلم .
انظر : صحيح مسلم ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الناصية والعمامة 1/231 .
والمراد بالخمار العمامة لأنها تخمر الرأس أي تغطيه .
انظر : شرح النووي على صحيح مسلم 3/174 .
(4) رواه البخاري
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب المسح على الخفين 1/59 .
(5) العصائب : العمائم .
انظر : - عصب - لسان العرب 1/602 .
(6) التساخين : الخفاف .
انظر : - سخن - لسان العرب 13/207 .
قال النووي : رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وكذا صححه الألباني .
انظر : سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب المسح على العمامة 1/36 ، المجموع 1/408 ، صحيح سنن أبي داود 1/30 .
(7) مصنف ابن أبي شيبة 1/22 ، الأوسط 1/467 .(1/15)
2- عن نباتة قال : سألت عمر عن المسح على العمامة فقال : إن شئت فامسح عليها وإن شئت فلا(1) .
3- عن زيد بن أسلم أنه قال : قال عمر بن الخطاب (( من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله ))(2) .
4- عن عاصم قال : رأيت أنساً توضاً ومسح على عمامته وخفيه وصلى بنا صلاة الفريضة(3) .
5- عن الأشعث عن أبيه أنه رأى أبا موسى خرج من موضع ذكره يمسح على الخفين والقلنسوة(4) .
6- عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار(5) .
7- عن أبي أمامة أنه كان يمسح على الخفين والقلنسوة(6) .
8- عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن المسح على الخفين فقال : (( نعم وعلى النعلين ))(7) .
د - العقل :
1- إن العمامة حائل في محل ورد الشرع بمسحه فجاز المسح عليه كالخفين(8) .
2- إن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين(9) .
المناقشة والترجيح :
اعترض من قال بعدم جواز المسح على المجيزين بالآتي :
1 - إن الأحاديث التي استدللتم بها وقع فيها اختصار ، والمراد مسح الناصية والعمامة لتكمل سنة الاستيعاب ، ويدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة وحديث بلال .
فإن قيل كيف يصح هذا التأويل وكيف يظن بالراوي حذف مثل هذا .
فالجواب أنه ثبت بالقرآن وجوب المسح على الرأس ، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة ، وفي بعضها مسح العمامة ، ولم تذكر الناصية فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية ومحتملاً لمخالفتها فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 1/22 ، الأوسط 1/467 .
(2) المحلى 2/60 .
(3) مصنف ابن أبي شيبة 1/22-183 ، مصنف عبد الرزاق 1/189 ، الأوسط 1/468 .
(4) مصنف ابن أبي شيبة 1/22 ، الأوسط 1/468 .
(5) سبق تخريجه .
(6) مصنف ابن أبي شيبة 1/22 ، الأوسط 1/468 .
(7) المحلى 2/60 .
(8) المغني : 1/309 .
(9) المغني 1/309 .(1/16)
وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية ، لأن مسحها كان معلوماً ؛ ولأن مسح الرأس مقرر معلوم لهم وكان المهم بيان مسح العمامة(1) .
قال الخطابي : والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس والحديث محتمل للتأويل فلا يترك الأصل المتيقن وجوبه بالحديث المحتمل(2).
ويرد على هذا : بأنه قد ثبت المسح على الرأس فقط ، وعلى العمامة فقط ، وعلى الرأس والعمامة والكل صحيح ثابت فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين(3) .
2 - إن الأوزاعي قد أخطأ في حديث عمرو بن أمية ؛ لأن هذا خبر رواه عن يحيى ابن أبي كثير شيبان وحرب بن شداد ، وبكر بن مضر ، وأبان العطار ، وعلي بن المبارك فلم يذكروا فيه المسح على العمامة.
ويرد عليهم بما قاله ابن حزم : قد علم كل ذي علم بالحديث أن الأوزاعي أحفظ من كل واحد من هؤلاء وهو حجة عليهم وليسوا حجة عليه ، والأوزاعي ثقة وزيادة الثقة لا يحل ردها(4) .
وقال ابن حجر : وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته ؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل ، ولا تكون شاذة ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية(5) .
واعترض من قال بالجواز على المانعين بالآتي :
1 - ما استدللتم به من الآية : (( وامسحوا برؤوسكم )) أن من مسح على العمامة لم يمسح برأسه ولا امتثل للآية الكريمة مردود بأن المسح في الغالب لا يصيب الرأس وإنما يمسح على الشعر وهو حائل بين اليد وبين الرأس فكذلك العمامة ، فإنه يقال لمن لمس عمامته أو قبلها قبل رأسه ولمسه وكذلك أمر بمسح الرجلين والمتفق عليه جواز المسح على حائلهما(6) .
2 - ما استدللتم به من حديث ابن عمر مردود بالآتي :
__________
(1) المجموع 1/408 ، 409 .
(2) معالم السنن 1/57 .
(3) نيل الأوطار 1/206 .
(4) المحلى 2/62 .
(5) فتح الباري 1/267 .
(6) المغني 1/309 ، فتح الباري 1/267 ، نيل الأوطار 1/206 .(1/17)
أ - الحديث ضعيف(1) .
ب - قولكم إن المسح على العمامة لا يسمى وضوءاً فكذلك المسح على الخفين لا يسمى وضوءاً ولم نمنع بهذا الحديث المسح على الخفين ، فكذلك على فرض صحته فإنه لا يمنع المسح على العمامة .
3 - ما استدللتم به من حديث أنس مردود بالآتي :
أ - الحديث ضعيف فلا يحتج به(2) .
ب - قال ابن القيم : إن مقصود أنس بالحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ، ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه(3) .
وقال ابن المنذر : وليس في اعتلال من اعتل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسر العمامة عن رأسه ومسح رأسه دفع لما قلنا ، لأن المسح على العمامة ليس بفرض لا يجزئ غيره ، ولكن المتطهر بالخيار إن شاء مسح رأسه وإن شاء مسح على عمامته ؛ كالماسح على الخفين المتطهر الخيار إن شاء غسل رجليه وإن شاء مسح على خفيه(4) .
4 - ما استدللتم به من حديث المغيرة مردود بأن الروايات عن المغيرة رويت من غير وجه ، فذكر بعضهم المسح على الناصية والعمامة ، ولم يذكر بعضهم الناصية ، فدل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على رأسه تارة ، وعلى العمامة تارة ، وعلى الناصية والعمامة تارة(5) .
قال الشوكاني : إنه قد ثبت المسح على الرأس فقط وعلى العمامة فقط وعلى الرأس والعمامة والكل صحيح ثابت فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين(6) .
__________
(1) انظر : ص10 .
(2) انظر : ص10 .
(3) زاد المعاد 1/194 .
(4) الأوسط 1/468 .
(5) زاد المعاد 1/194 ، سبل السلام 1/76 ، سنن الترمذي 1/68 .
(6) نيل الأوطار 1/206 .(1/18)
5 - ما استدللتم به من الآثار مردود بأنه قد ثبت أيضاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبفعل أبي بكر وعمر ولو لم يثبت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه لوجب القول به لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ))(1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يطع الناس أبا بكر وعمر فقد رشدوا ))(2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ))(3) .
ولا يجوز أن يجهل مثل هؤلاء فرض مسح الرأس وهو مذكور في كتاب الله فلولا بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك وإجازته ما تركوا ظاهر الكتاب والسنة(4) .
__________
(1) رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي هذا حديث حسن .
انظر : سنن الترمذي ، أبواب المناقب ، باب 52 ، 5/271 ، سنن ابن ماجه ، المقدمة ، باب فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/37 .
(2) رواه أحمد ومسلم .
انظر : مسند أحمد 5/298 ، صحيح مسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/473 .
(3) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
انظر : مسند أحمد 4/126 ، سنن أبي داود ، كتاب السنة ، باب لزوم السنة 4/149 ، سنن الترمذي ، أبواب العلم ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 4/149 .
(4) الأوسط 1/469 .(1/19)
6 - ما استدللتم به بأن الآثار في المسح على الرأس جاء متواتراً ، ولو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين ، مردود بما قاله ابن حزم : ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً فإن قالوا جاء القرآن بمسح الرؤوس قلنا نعم وبالمسح على الرجلين ، فأجزتم المسح على الخفين وليس بأثبت من المسح على العمامة ، والمانعون من المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم أكثر من المانعين من المسح على العمامة ، فما روي المنع من المسح على العمامة إلا عن جابر ، وابن عمر ، وقد جاء المنع من المسح على الخفين عن عائشة ، وأبي هريرة ، وابن عباس(1) .
قال ابن تيميه : وقد ثبت المسح على العمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة(2) .
وقال : وقد كانت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تمسح على خمارها ، فهل تفعل ذلك بدون إذنه ؟(3) .
7 - ما استدللتم به من المعقول ؛ مردود بأنه لا يعتبر في مقابلة النص لا سيما أن النصوص في المسح على العمامة والخمار صحيحة .
الترجيح :
بعد هذه المناقشة يبدو لي - والله أعلم - رجحان مذهب القائلين بجواز المسح على العمامة والخمار لصحة الأحاديث والآثار(4)
__________
(1) المحلى 2/61 .
(2) فتاوى ابن تيميه 21/187 .
(3) فتاوى ابن تيميه : 21/186 .
(4) قال ابن حزم في الأثر عن أبي بكر وعمر أنها أسانيد في غاية الصحة .
المحلى 2/60 .(1/20)
التي روت ذلك ، قال ابن المنذر : وليس في إنكار من أنكر المسح على العمامة حجة لأن أحداً لا يحيط بجميع السنن ، ولعل الذي أنكر ذلك - لو علم بالسنة - لرجع إليها بل غير جائز أن يظن مسلم ليس من أهل العلم غير ذلك ، فكيف من كان من أهل العلم ؟ ولا يجوز أن يظن بالقوم غير ذلك ، وكما لم يضر إنكار من أنكر المسح على الخفين ، ولم يوهن تخلف من تخلف عن القول بذلك إذا أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين ، كذلك لا يوهن تخلف من تخلف عن القول بإباحة المسح على العمامة(1) .
وذكر ابن حزم قول الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبه أقول ثم قال : والخبر ولله الحمد قد صح فهو قوله(2) .
قالت أم سلمة بطهارة سؤر الهرة .
روى أبو عبيد عن يحيى بن سعيد عن ابن حرملة عن أمه قالت : كنت عند أم سلمة فأهديت لها صحفة خبز ولحم فقمت إلى الصلاة فخالفت الهرة فأكلت من الصحفة فلما فرغت دورت أم سلمة الصحفة إليها حتى كان حيث أكلت الهرة أو نحوه فأكلت منه(3) .
وممن قال بهذا القول من الصحابة أبو قتادة وابن عباس ، وأبو هريرة في الصحيح ، وعلي بن أبي طالب وابن عمر - باختلاف عنه(4) - ، وعائشة(5) ، وهو قول أكثر أهل العلم .
قال ابن عبد البر : وممن ذهب إلى ذلك - أي طهارة سؤر الهرة - مالك بن أنس ، وأهل المدينة ، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر والمغرب ، والأوزاعي في أهل الشام ، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق ، قال وكذلك قول الشافعي وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي ثور وأبي عبيد ، وجماعة أصحاب الحديث(6) ،
__________
(1) الأوسط 1/469 .
(2) المحلى 2/61 .
(3) كتاب الطهور لأبي عبيد 1/278 ، الأوسط 1/302 .
(4) المحلى 1/118 .
(5) الأوسط 1/301 .
(6) التمهيد 1/324 .
وانظر : المنتقى 1/62 ، أوجز المسالك 1/209 ، مقدمات ابن رشد 1/58 ، المجموع 1/172 ، روضة الطالبين 1/33 ، شرح الزركشي 1/140 ، المغني 1/44 ، الهداية 1/223 ، البناية 1/444 ، الأوسط 1/303 .(1/21)
وهو قول أبي يوسف من الحنفية(1) .
وذهب قوم إلى طهارة سؤر الهر ولكن قالوا يكره الوضوء به .
روي ذلك عن ابن عمر(2) ، ويحيى الأنصاري ، وابن أبي ليلى ، وطاووس ، وابن سيرين(3) ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد(4) .
واختلف الحنفية في الكراهة هل هي للتنزيه أو للتحريم ، فذهب الطحاوي إلى أن كراهتها للتحريم ، وذهب الكرخي إلى أن كراهتها للتنزيه(5) .
استدل من قال بالكراهة بالسنة والآثار والعقل .
أ - السنة :
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( السنور سبع ))(6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1/65 ، الهداية 1/23 .
(2) ذكر ابن حزم إنه وقع خلاف على ابن عمر في سؤر الهرة ، وذكر الكراهة عنه النووي والعيني وابن قدامة وابن المنذر .
انظر : المحلى 1/118 ، المجموع 1/173 ، البناية 1/444 ، المغني 1/44 ، الأوسط 1/299 .
(3) انظر : البناية 1/444 ، المغني 1/44 ، الأوسط 1/299 .
(4) الهداية 1/23 ، اللباب 1/29 ، شرح معاني الآثار 1/20 .
(5) انظر : شرح معاني الآثار 1/20 ، البحر الرائق 1/137 ، البناية 1/444 .
(6) رواه أحمد،والحاكم،والدار قطني، والبيهقي وأورده الهيثمي وعزاه لأحمد عن عيسى بن المسيب قال حدثنا أبو زرعه عن أبي هريرة ..
قال الدار قطني:تفرد به عيس بن المسيب عن أبي زرعه وهو صالح الحديث،وقال الحاكم:حديث صحيح ولم يخرجاه، وعيسى بن المسيب تفرد به عن أبي زرعة إلا أنه صدوق لم يجرح قط ، وقال الذهبي : صحيح ، وعيسى لم يجرح قط وقال الهيثمي : الحديث فيه عيسى بن المسيب وهو ضعيف ، وقال ابن أبي حاتم : عيسى ليس بقوي وضعفه العقيلي ، وقال ابن معين لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه .
انظر : مسند أحمد 2/327 ، المستدرك ، كتاب الطهارة 1/183 ، سنن الدار قطني ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهرة 1/249 مجمع الزوائد ، كتاب الطهارة ، باب في السنور والكلب 1/287 ، التلخيص الحبير 1/25 ، نصب الراية 1/135، علل الحديث 1/44 .(1/22)
وجه الدلالة :
إن الهرة حكمها حكم السبع فكان ينبغي أن يكون سؤرها نجساً كسؤر السباع ، والمراد في الحديث بيان الحكم دون الخلقة(1) .
قال الزيلعي : إنه عليه السلام لم يرد الحقيقة لأنه ما بعث لبيان الحقائق فيكون المراد به الحكم(2) .
2 - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أُخراهن بالتراب ، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة ))(3) .
ب - الآثار :
1- عن نافع عن ابن عمر أنه كره سؤر الهرة(4) .
2- عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الهر قال يغسل منه مرة(5) .
هـ - العقل :
1- إن الهرة نجسة لنجاسة لحمها لكن سقطت نجاسة سؤرها لضرورة الطواف فبقيت الكراهة لإمكان التحرز في الجملة(6) .
__________
(1) الهداية 1/23 .
(2) البحر الرائق 1/138 .
(3) رواه الترمذي ، وأبو داود ، والبيهقي .
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه : ( إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة ) وأخرجه أبو داود موقوفاً ، قال الألباني : صحيح موقوف وصح أيضاً مرفوعاً ، وقال البيهقي أدرجه بعض الرواة في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووهموا فيه ، والصحيح أنه في ولوغ الكلب مرفوع وفي ولوغ الهر موقوف .
قال الزيلعي : قال في الإمام والذي تلخص أنه مختلف في رفعه واعتمد الترمذي في تصحيحه على عدالة الرجال عنده ولم يلتفت لوقف من وقفه .
انظر : سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في سؤر الكلب 1/61 ، صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بسؤر الكلب 1/30 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهرة 1/247 ، عون المعبود 1/136 ، نصب الراية 1/136 .
(4) الطهور لأبي عبيد 1/279 ، الأوسط 1/299 .
(5) الطهور لأبي عبيد 1/280 ، الأوسط 1/300 .
(6) بدائع الصنائع 1/65 .(1/23)
2- إن الهرة ليست نجسة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنها النجاسة بقوله (( الهرة ليست بنحس ))(1) .
ولكن الكراهة لتوهم أخذها الفأرة فصار فمها كيد المستيقظ من نومه(2) .
واستدل من قال بطهارة سؤر الهرة بالسنة والأثر :
أ - السنة :
__________
(1) بدائع الصنائع 1/65 .
(2) رواه مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وآخرون ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وكذا صححه الحاكم والذهبي ، قال الزيلعي : وقد صحح مالك هذا الحديث واحتج به في موطئه ، وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحكم في حديث المدنيين فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرة ، وقال ابن منده حميدة وخالتها كبشة لا يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث ومحلها محل الجهالة ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه ، وتعقبه الألباني بقوله : إن لحميدة حديثاً آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود ، ولهما ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة ، وأما حالهما فحميدة روى عنها مع إسحاق ابنها يحيى وهو ثقة عند أبي معين ، وأما كبشة فقيل : إنها صحابية فإن ثبت فلا يضر الجهل بحالها والله أعلم. ... ... ... ... ... ... =
= انظر : الموطأ ، كتاب الطهارة ، باب الطهور للوضوء 1/22 ، الأم 1/6 ، مسند أحمد 5/303 ، سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهرة 1/20 ، سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك 1/131 ، سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في سؤر الهرة 1/60 ، التلخيص الحبير 1/42 ، نصب الراية 1/137 التلخيص للذهبي 1/60 ، إرواء الغليل 1/192 .(1/24)
1 - عن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً فجاءت هرة فشربت منه ، فأصغى لها حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ، فقلت : نعم ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات )) .
2 - عن أم داود بن صالح أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة رضي الله عنها ، فوجدتها تصلي فأشارت إليَّ أن ضعيها ، فجاءت هرة فأكلت منها ، فلما انصرفت ، أكلت من حيث أكلت الهرة فقالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين عليكم )) . وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها(1) .
وجه الدلالة من الحديثين :
دل الحديثان على أن سؤر الهر ليس بنجس ولا مكروه(2) ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل نجساً ولا مكروهاً(3) .
قال الزركشي : وهذا يدل على طهارة الهر بالنص والتعليل(4) .
ب - الآثار :
1- عن ميمون بن مهران أنه سئل عن سؤر السنور فقال : إن أبا هريرة كان لا يرى به بأساً وربما كفأ له الإناء ، وقال : إنما هو من أهل البيت(5) .
2- عن عكرمة عن ابن عباس قال في الهرة : (( هي من متاع البيت ))(6) .
__________
(1) رواه أبو داود ، والبيهقي ، والدار قطني ، قال الألباني : حديث صحيح .
انظر : صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهر 1/31 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهر 1/246 ، سنن الدار قطني ، كتاب الطهارة ، باب سؤر الهرة 1/70 .
(2) انظر : المغني 1/44 ، سبل السلام 1/31 ، نيل الأوطار 1/44 .
(3) الحاوي 3/1249 .
(4) شرح الزركشي 1/141 .
(5) الطهور لأبي عبيد 1/276 ، الأوسط 1/302 .
(6) الطهور لأبي عبيد 1/277 ، مصنف ابن أبي شيبة 1/31 ، المصنف لعبد الرزاق 1/102 ، الأوسط 1/301 .(1/25)
3- عن نافع عن ابن عمر قال : (( إنما هي ربيطة من ربائط البيت ))(1) .
المناقشة والترجيح :
اعترض من قال بالكراهة على الفريق الآخر بالآتي :
1 - إن ما استدللتم به من حديث كبشة لا حجة لكم فيه من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنها ليست بنجس )) ، لأن ذلك قد يجوز أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماستها الثياب ، فأما ولوغها في الإناء فليس في ذلك دليل على أنه يوجب النجاسة أم لا ، وإنما الذي في الحديث من ذلك فعل أبي قتادة فلا ينبغي أن يحتج من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قد يحتمل المعنى الذي يحتج به فيه ويحتمل خلافه(2) .
ورد هذا القول بأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنها ليست بنجس )) دليل صريح على طهارتها وهذا عام سواء في مماستها الثياب وغيرها .
وقال الماوردي : إن كل حيوان لو أصاب ثوباً رطباً لم ينجس فإذا أصاب الماء لم ينجس كالهر طرداً والكلب عكساً(3) ، أي إن الهر إذا أصاب المحل الرطب لا ينجسه وكذا إذا أصاب الماء ، والكلب ينجس المحل الرطب إذا أصابه وكذا الماء .
ثم إن راوي الحديث - أبا قتادة - قد فسر الحديث بفعله ، وتفسير راوي الحديث أولى من تفسير غيره .
2 - إن حديث كبشة يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم من طريق الوحي أن تلك الهرة لم يكن على فمها نجاسة ، أو يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على بيان الجواز(4) .
وهذا القول مردود بأن فيه من التكلف ما فيه ، وذلك لأن الأصل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل على العموم ، فكيف يقصر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هرة واحدة كانت في المدينة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) .
__________
(1) الطهور لأبي عبيد 1/277 ، الأوسط 1/302 ، التمهيد 1/323 .
(2) شرح معاني الآثار 1/19 .
(3) الحاوي 3/1249 .
(4) بدائع الصنائع 1/65 .
(5) أحكام النجاسات 1/347 .(1/26)
ويكفي في الرد على هؤلاء بما ذكرناه سابقاً من أن الحديثين يدلان على أن سؤر الهر ليس بنجس ولا مكروه ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل نجساً ولا مكروهاً .
واعترض من قال بطهارة سؤر الهر على الآخرين بالآتي :
1 - ما استدللتم به من حديث (( السنور سبع )) ليس فيه دلالة على نجاسة الهر لأن سياق الحديث ينفي ذلك ، فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار - يعني لا يأتيها - فشق ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن في داركم كلباً )) قالوا : فإن في دارهم سنوراً ، فقال - صلى الله عليه وسلم - (( السنور سبع )) .
وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ليبين أن هناك فرقاً بينهما لمن توهم التسوية بينهما ، والفرق الذي أراد بيانه - صلى الله عليه وسلم - بين الكلب والسنور هو النجاسة .
2 - ما استدللتم به من حديث أبي هريرة فمردود بأنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة موقوفاً عليه ، فإن ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء من ولوغ الهرة ولا يجب ذلك بالإجماع(1) .
3 - ما استدللتم به من الآثار مردود بقول الشافعي : الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها ونكتفي بالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون في أحد قال خلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة(2) .
كما أنه قد ورد عن أبي هريرة وابن عمر أن الهرة من متاع البيت وهو موافق لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات )) مما يدل على عدم نجاستها .
الترجيح :
مما سبق يتبين قوة أدلة القائلين بطهارة سؤر الهرة ، لأن ذلك مما تعم به البلوى . والله أعلم .
__________
(1) المجموع 1/175 .
(2) المجموع 1/175 .(1/27)
قالت أم سلمة بالنهي أن يتطهر الرجل بفضل طهور المرأة(1) .
وممن قال به من الصحابة عبد الله بن سرجس ، وعمر بن الخطاب ، والحكم بن عمرو ، وجويرية أم المؤمنين(2) ، ومن التابعين سعيد بن المسيب(3) .
وهو مذهب الظاهرية ، ورواية عن الإمام أحمد ، وحكي ذلك عن إسحاق(4) .
وفي رواية ثانية للإمام أحمد أنه يجوز مع الكراهة(5) ، وبه قال الشعبي ، والأوزاعي(6) .
وفي قول يجوز التطهر بفضل طهور المرأة .
وبه قال ابن عمر ، وأبو هريرة ، وعائشة أم المؤمنين ، وميمونة أم المؤمنين ، وابن عباس والثوري وأبو ثور(7) .
وهو مذهب الحنفية(8) ، والمالكية(9) ، والشافعية(10) ، ورواية عن أحمد(11) .
استدل من قال بالنهي بالسنة .
1- عن الحكم بن عمرو الغفاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة(12) .
__________
(1) المحلى 1/213 ، الطهور لأبي عبيد 1/256 .
(2) المحلى 1/213 ، المغني 1/214 .
(3) المحلى 1/213 .
(4) الإقناع 1/7 ، الروض المربع 1/12 ، الأوسط 1/293 .
(5) المغني 1/214 ، المحرر 1/20 ، الفروع 1/84 .
(6) الأوسط 1/294 ، الطهور لأبي عبيد 1/262 .
(7) الأوسط 1/295 ، الطهور لأبي عبيد 1/260 .
(8) الأصل 1/26 ، حاشية ابن عابدين 1/133 ، عمدة القاري 1/133 .
(9) الخرشي علي خليل 1/66 ، مواهب الجليل 1/52 ، شرح منح الجليل 1/16 ، حاشية الصفتي 29 .
(10) الأم 1/8 ، المجموع 2/191 .
(11) المغني 1/214 ، المحرر 1/20 ، الفروع 1/84 .
(12) رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي ، وصححه الألباني .
انظر : صحح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب النهي عن ذلك 1/33 ، سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة 1/44 ، سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة ، باب النهي بفضل وضوء المرأة 132 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب النهي عن فضل المحدث 1/191 .(1/28)
2- عن عبد الله بن سرجس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة(1) .
وجه الدلالة من الحديثين :
الأحاديث واضحة الدلالة في النهي عن التطهر بفضل طهور المرأة .
واستدل من قال بالجواز بالسنة والآثار والقياس :
أ - السنة :
1- عن ابن عباس عن ميمونة أنها قالت : أجنبت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلت من جفنة وفضلت منها فضلة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها فقلت له : قد اغتسلت منها ، قالت : فاغتسل منها وقال : (( إن الماء ليس عليه جنابة ))(2) .
2- عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة(3) .
وجه الدلالة من الحديثين :
الأحاديث صريحة في جواز اغتسال الرجل بفضل المرأة .
3- عن عائشة قالت : كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة(4) .
__________
(1) رواه ابن ماجه ، والدار قطني ، وصححه الألباني .
انظر : صحيح سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة ، باب النهي بفضل وضوء المرأة 1/65 ، سنن الدار قطني ، كتاب الطهارة ، باب النهي عن الغسل بفضل غسل المرأة 1/117 .
(2) رواه أبو داود ، والترمذي ، والبيهقي ، وصححه البيهقي والألباني .
انظر : صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب الماء لا يجنب 1/18 ، سنن الترمذي ، باب ما جاء في الرخصة في فضل طهور المرأة 1/45 ، السنن الكبرى ، كتاب الطهارة ، باب فضل الجنب 1/189 .
(3) رواه مسلم .
انظر : صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب غسل الرجل والمرأة في إناء واحد وغسل أحدهما بفضل الآخر 1/257 .
(4) رواه مسلم والبخاري .
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الغسل ، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء 1/74 ، صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب غسل الرجل والمرأة في إناء واحد 1/256 .(1/29)
4- وعن أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرأة من نسائه يغتسلون في إناء واحد(1) .
وجه الدلالة :
إنه إذا ثبت اغتسال الرجل والمرأة معاً فكل واحد مستعمل فضل الآخر(2) .
ب - الآثار :
1- قول عبد الله بن عمر إنه كان الرجال والنساء ليتوضئون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً(3) .
وجه الدلالة :
الأثر يدل على جواز الوضوء بفضل وضوء المرأة لأنهما إذا توضئا جميعاً منه صدق أن الباقي في الإناء فضل وضوء المرأة(4) .
2- عن أم صبية الجهنية قالت : اختلفت يدي ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من إناء واحد(5) .
جـ - العقل :
1- إن الماء الباقي فضل عن الاستعمال فلم يمنع من جواز الاستعمال كالرجلين والمرأتين(6) .
2- إن الرجل والمرأة شخصان فجاز أن يتوضأ أحدهما بفضل الآخر(7) .
المناقشة والترجيح :
اعترض المانعون على المجيزين بالآتي :
1- ما استدللتم به من حديث ابن عباس عن ميمونة (( أجنبت فاغتسلت ... )) :
__________
(1) رواه البخاري .
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الغسل ، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء 1/57 .
(2) المجموع 2/191 .
(3) رواه البخاري ، وأبو داود .
انظر : صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة 1/57 ، سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بفضل المرأة 1/20 .
(4) شرح الزرقاني على الموطأ 1/55 .
(5) رواه ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، وابن ماجه ،وقال الألباني : حديث حسن صحيح .
انظر : مصنف ابن أبي شيبة ، كتاب الطهارات ، في الرجل والمرأة يغتسلون بماء واحد 1/35 ، صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بفضل المرأة 1/22 ، سنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب الرجل والمرأة يتوضأان من إناء واحد 1/135 .
(6) الحاوي 1/938 .
(7) المنتقى 1/63 .(1/30)
قال الشوكاني : قال الدارقطني أعله قوم بسماك بن حرب رواية عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين .
وأجيب عن هذا بأن الحديث رواه شعبة وهو لا يحمل عن مشائخه إلا صحيح حديثهم(1) .
2- ما استدللتم به من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة ؛ مردود بأن الحديث مع كونه في صحيح مسلم إلا أنه قد أعله قوم بتردد وقع في رواية عمرو بن دينار .
وأجيب عن هذا بأن الحديث ورد من طرق أخرى بلا تردد(2) .
3- على التسليم بأن الأحاديث التي استدللتم بها صحيحة إلا أنها لا تعد حجة ، لأن الحكم الذي فيها كان قبل نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل بفضل طهور المرأة ، فتكون هذه الأحاديث منسوخة(3) .
وأجيب عن هذا بأن حديث ميمونة يدل على أن الحكم جاء متأخراً عن حديث الحكم بن عمرو وحديث عبد الله بن سرجس ، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يغتسل من الإناء قالت له ميمونة إني قد توضأت فيه وهذا يدل على تقدم النهي(4) .
إذن فأحاديث الجواز كلها صحيحة .
واعترض المجيزون على المانعين بالآتي :
1- ما استدللتم به من حديث الحكم بن عمرو مردود بما قاله البيهقي وغيره إنه ضعيف(5) .
وأشار الخطابي أيضاً إلى عدم صحته(6) .
وأجيب عن هذا بأن حديث الحكم بن عمرو أخرجه أصحاب السنن وحسّنه الترمذي ، وصححه ابن حبان ، والقول قول من صححه لا قول من ضعفه لأنه مسند ظاهره السلامة من تضعيف وانقطاع(7) .
__________
(1) نيل الأوطار 1/32 .
(2) نيل الأوطار 1/35 .
(3) المحلى 1/215 .
(4) عارضة الاحوذي 1/82 .
(5) السنن الكبرى 1/192 .
(6) معالم السنن 1/42 .
(7) صحيح ابن حبان 2/400 ، فتح الباري 1/300 ، سنن الترمذي 1/44(1/31)
وقال ابن قدامة : الحديث رواه أحمد واحتج به وتضعيف البخاري له بعد ذلك لا يقبل لاحتمال أن يكون وقع له من غير طريق صحيح(1) .
2- ما استدللتم به من حديث عبد الله بن سرجس ، قال البخاري الصحيح أنه موقوف عليه ، ومن رفعه فقد أخطأ ، وكذا قال الدار قطني وقفه أولى بالصواب من رفعه(2) .
وأجيب عن هذا بأن حديث عبد الله بن سرجس روي مرفوعاً وموقوفاً .
أما قول البخاري أخطأ من رفعه فيرد عليه بأن الحكم للرافع ، لأنه زاد ، والراوي قد يفتي بالشيء ثم يرويه مرة أخرى ، ويجعل الموقوف فتوى فلا يعارض المرفوع ، وصححه ابن حزم مرفوعاً من حديث عبد العزيز بن المختار(3) .
إذن فالأحاديث التي استدل بها المانعون صحيحة أيضاً .
وقد نقل عن الإمام أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة(4) .
ويرد عليه بأن هذا القول إنما يصار عليه عند تعذر الجمع بين الأدلة(5) .
وما دامت أدلة المجيزين صحيحة وأدلة المانعين صحيحة فإنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة بالآتي :
1- تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملاً ، وتحمل أحاديث الجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي(6) .
2- إن النهي في الأحاديث لا يحمل على التحريم وإنما يحمل على التنزيه(7) .
وبهذا الجمع يحسم النزاع . والله أعلم .
قالت أم سلمة : إن أكثر النفاس أربعون يوماً .
__________
(1) المغني 1/214 ، عمدة القاري 1/86 .
(2) المجموع 2/191 .
(3) المحلى 1/212 ، عمدة القاري 1/86 .
(4) عمدة القاري 1/86 .
(5) فتح الباري 1/300 .
(6) معالم السنن 1/42 ، نيل الأوطار 1/31 ، فتح الباري 1/300 ، المجموع 2/192 .
(7) معالم السنن 1/42 ، نيل الأوطار 1/31 ، فتح الباري 1/300 ، المجموع 2/192 .(1/32)
عن أم سلمة قالت : كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة ، وكنا نطلي على وجوهنا من الوَرْس - تعني من الكلف(1) .
وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو ، وأنس بن مالك(2) ، وعائشة(3) ، وسفيان الثوري ، وإسحاق ، وأبو عبيد(4) ، وابن المبارك(5) .
وهو مذهب أبي حنيفة(6) ، ورواية عن الإمام أحمد(7) .
وفي أكثر النفاس عدة أقوال منها :
1- إن أكثره سبعون يوماً ، وهو رواية عن بعض أهل العلم ذكر ذلك الليث بن سعد(8) .
2- إن أكثره خمسون يوماً ، وهو قول الحسن البصري(9) .
3- إن هناك فرقاً بين الغلام والجارية فأكثره في الغلام خمسة وثلاثون وفي الجارية أربعون ، وهو قول الأوزاعي(10) .
4- إنه لا حد لأكثره ، وهو قول ابن تيميه(11) .
5- يسأل النساء في ذلك ، وهو قول مالك(12) .
__________
(1) رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وصححه الألباني .
انظر : صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب ما جاء في وقت النفاس 1/93 ، سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في كم تمكث النفساء 1/92 ، صحيح ابن ماجه ، باب النفساء كم تجلس 1/107 .
(2) الأوسط 2/248 .
(3) نيل الأوطار 1/358 .
(4) الأوسط 2/250 .
(5) المجموع 2/524 .
(6) بدائع الصنائع 1/41 ، المبسوط 3/210 ، تبيين الحقائق 1/68 .
(7) الكافي 1/85 ، الفروع 1/282 ، الإقناع 1/63 ، المحرر 1/27 .
(8) المجموع 2/524 .
(9) الأوسط 2/250 ، المجموع 2/524 ، سنن الترمذي 1/92 ، نيل الأوطار 1/358 .
(10) الأوسط 2/251 .
(11) الإنصاف 1/383 ، الاختيارات الفقهية 30 .
(12) المدونة 1/57 .(1/33)
6- إن أكثره ستون يوماً ، وهو قول الشافعي(1) ، ومالك في أحد قوليه(2) .
وبه قال عطاء والشعبي وأبو ثور(3) .
والخلاف يدور بين القائلين بأن أكثره ستون يوماً وبين القائلين بأن أكثره أربعون ، لأن الأقوال الأخرى لم أر لمن قالها دليلاً يعتمد عليه .
الأدلة :
استدل من قال بأن أكثره ستون يوماً بالوجود والعقل .
1- روي عن الأوزاعي أنه قال : عندنا امرأة ترى النفاس شهرين(4) ، وروي مثله عن عطاء ، فيتعين المصير إلى الوجود كما تعين المصير إليه في أقل الحيض .
2- إن غالب النفاس أربعون يوماً فينبغي أن يكون أكثره زائداً(5) .
واستدل من قال بأكثر النفاس أربعون يوماً بالسنة وقول الصحابة .
أ - السنة :
1- عن مسة الأزدية عن أم سلمة قالت : كانت النفساء تجلس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً أو أربعين ليلة ، وكنا نطلي وجوهنا من الوَرْس تعني من الكلف(6) .
2- عن مسة الأزدية قالت : حججت فدخلت على أم سلمة فقلت : يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة المحيض ؟ فقالت : لا يقضين ، كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة النفاس(7) .
__________
(1) المهذب 1/52 ، المجموع 2/524 ، الوسيط 1/511 .
(2) مختصر خليل 23 ، الخرشي 1/29 ، مقدمات ابن رشد 1/91 ، مواهب الجليل 1/375 ، حاشية العدوي 1/135 ،الدر الثمين 1/141 .
(3) الأوسط 2/250-251 . المجموع 2/524 ، معالم السنن 1/95 ، حيض المرأة واستحاضتها من الحاوي 238 ، الترمذي 1/92 ، نيل الأوطار 1/358 .
(4) المهذب 1/52 .
(5) المجموع 2/524 . الإقناع للماوردي 1/87 ، نهاية المحتاج 1/338 ، حيض المرأة واستحاضتها من الحاوي 240 .
(6) سبق تخريجه .
(7) رواه أبو داود ، وحسنه الألباني .
انظر : صحيح سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب ما جاء في وقت النفاس 1/53 .(1/34)
3- عن عثمان بن أبي العاص قال : وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء في نفاسهن أربعين يوماً(1) .
4- عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَّت النفاس أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك(2) .
5- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( تنتظر النفساء أربعين يوماً أو ليلة ، فإذا رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهرة ، وإن جاوزت الأربعين فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل وتصلي فإن غلبها الدم توضأت لكل صلاة ))(3) .
ب - قول الصحابة :
حكى ابن المنذر عن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، وعثمان بن أبي العاص ، وأم سلمة أن أكثر النفاس أربعون ، ولم يوجد لهم مخالف في عصرهم ، وهو مروي أيضاً عن ابن عمر ، وعائشة ، وأم حبيبة ، وأبي هريرة ، ومثله لا يعرف إلا سماعاً(4) .
قال الترمذي : وقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم ؛ على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي(5) .
المناقشة والترجيح :
اعترض على القائلين بأن أكثر النفاس ستون يوماً بالآتي :
1- إن ما استدللتم به من أن المرجع إلى الوجود - وقد وجد من تجلس شهرين - مردود بما قاله الترمذي من إجماع الصحابة والتابعين .
وقال الطحاوي : ولم يقل بالستين أحد من الصحابة وإنما قاله بعض من بعدهم(6) .
__________
(1) رواه الحاكم .
انظر : المستدرك ، كتاب الطهارة ، باب وقت النفاس أربعون يوماً 1/176 .
(2) رواه الدار قطني .
انظر : سنن الدار قطني ، كتاب الحيض 1/220 .
(3) رواه الحاكم ، والدار قطني ، وهو ضعيف .
انظر : المستدرك ، كتاب الطهارة ، باب وقت النفاس أربعون يوماً 1/176 ، سنن الدار قطني ، كتاب الحيض 1/221 ، المحلى 1/204 .
(4) البناية 1/699 ، العناية 1/188 .
(5) سنن الترمذي 1/93 .
(6) البناية 1/699 .(1/35)
2- ما استدللتم به من قول الأوزاعي عندنا امرأة ترى النفاس شهرين ، فيرد عليه من أين له أن الشهرين نفاس ؟ بل ما زاد على الأربعين استحاضة .
ومن قال بهذا القول ليس لهم في إسقاط الصوم والصلاة وتحريم وطئها على الزوج دليل شرعي من كتاب أو سنة أو قياس إلا قول الأوزاعي عن امرأة مجهولة ، وقول الصحابة عند بعض من قال إن أكثره ستون ليس بحجة ، فكيف يكون قول الأوزاعي واعتقاده أن ذلك كله نفاس حجة ؟ والأوزاعي لم يقل بهذا بل مذهبه أنها تجلس في الغلام خمسة وثلاثين يوماً وعنه ثلاثين(1) .
واعتُرض على القائلين بأن أكثر النفاس أربعون بالآتي :
1- إن جميع الأحاديث التي استدللتم بها ضعيفة(2) .
وأجيب عن هذا بأن حديث مسة صحيح ، فقد قال الترمذي : قال البخاري أبو سهل ثقة ولم يعرف هذا الحديث إلا من حديثه(3) .
وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(4) .
وقال عبد الحق أحاديث هذا الباب معلولة وأحسنها حديث مسة(5) .
وأقر تصحيحه ابن حجر في بلوغ المرام ولم ينكر عليه(6) ، وقال النووي : حديث مسة اعتمد أكثر أصحابنا على تضعيفه ولكن هذا مردود بل الحديث جيد(7) .
وقال الخطابي أثنى البخاري على هذا الحديث(8) ، وقال المبار كفوري الظاهر أن الحديث حسن صالح للاحتجاج(9) ، وسبق أن بينت تصحيح الألباني للحديث .
وأجيب عن هذا : أنه مع التسليم بصحة حديث مسة إلا أنه مردود بالآتي :
1- إن الحديث محمول على الغالب .
2- إن الحديث محمول على نسوة مخصوصات ، ففي رواية لأبي داود (( كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة )) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1/68 .
(2) المحلى 1/204 ، سنن الدار قطني 1/220 .
(3) سنن الترمذي 1/93 .
(4) المستدرك 1/175 .
(5) التعليق المغني 1/222 .
(6) بلوغ المرام 33 .
(7) المجموع 2/525 .
(8) معالم السنن 1/95 .
(9) تحفة الأحوذي 1/430 .(1/36)
3- إنه لا دلالة فيه لنفي الزيادة ، وإنما فيه إثبات الأربعين(1) .
ورد على هذا الاعتراض بالآتي :
1- إن القول بأنه محمول على الغالب أو على نسوة مخصوصات هو خلاف ظاهر الحديث ؛ لأن الظاهر فيه أن المرأة تجلس في نفاسها أربعين يوماً إلا إذا رأت الطهر قبل ذلك .
2- إن القول بأنه لم ينف الزيادة عن الأربعين فإنه لا يعنينا نفي الزيادة هنا ، لأنه ثبت أن أكثر ما تنتظره المرأة في نفاسها أربعون ، وما بعدها لا يكون نفاساً وإنما هو دم استحاضة أو حيض إن كان يصادف عادتها والله أعلم .
الترجيح :
تبين مما سبق أن حديث مسة صحيح وأن الأحاديث الأخرى وإن كانت ضعيفة لكنها متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار فالمصير إليها متعين .
وبهذا نرى أن مذهب من قال بأن أكثر النفاس أربعون يوماً هو الراجح . والله أعلم .
-
__________
(1) المجموع 2/525 ، الإقناع للماوردي 1/87 ، نهاية المحتاج 1/338 ، مغني المحتاج 1/29 ، روض الطالب 1/114 .(1/37)