فتاوى وأحكام
في
نبي اللّهِ عِيسَى عليه السَّلام
لِسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ حفظهُ اللَّه تعالى ،ورعاهُ ـ
قام بتنسيق الرّسالة ونشرها :
سَلمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ.
" تقديم " :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فهذه مجموعة من الأسئلة تم توجيهها إلى فضيلة شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ـ نفع الله المسلمين بعلمه وأجزل له المثوبة ـ عن نبي الله عيسى ـ عليه السلام ـ حتى تزال الشبهات، وتتضح الأمور التي قد تلتبس على بعض عوام المسلمين في قصة حمله ودعوته ورفعه إلى السماء، وغير ذلك من الأمور المتعلقة به ـ عليه السلام ـ.
وهذه الأجوبة أقدمها هدية لكل مغترب في البلاد التي تدين بالنصرانية خاصة، ولكل طالب علم ومسلم عامة.
ولقد قمت بعزو الآيات وتخريج الأحاديث وذكر كلام أهل العلم تعزيزا لفتاوى الشيخ، وبيان الراجح إن أمكن الترجيح، ثم ذكرت المراجع لمن أراد التوسع في أي مسألة من المسائل التي أجاب عنها الشيخ، وهذه الفتاوى في هذا الموضوع المهم قد تكون الأولى خاصة، ونحن اليوم نعيش في زمان أصبح الإنسان يتكلم في أمريكا ويراه ويسمعه من في أوروبا وآسيا مما جعل المنظمات والجمعيات النصرانية تستغل هذا الانفتاح الإعلامي لنشر شبهاتهم التي قد يغتر بها ضعاف الإيمان. فكانت الفكرة بعمل هذه الفتاوى.
سائلا المولى أن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص في كل شيء، وأن يجزي فضيلة الشيخ خيرا على ما قدم، وأن يثقل بها موازينه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
الفقير إلى عفو ربه(1/1)
علي بن عبد الله بن عبد الله العماري
الدمام في
4 / 2 / 1418 هـ
ص. ب: (4344) الدمام
الرمز البريدي 31491
" مُقدِّمة فَضِيْلةِ الشَّيخِ العَلاَّمَةِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الجِبرِين " :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وختم به الأديان، وأرسل به محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع نوع الإنسان، أحمده وأشكره أن هدانا للإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فصلى الله وملائكته وجميع خلقه عليه كما دعا إلى الإسلام وعرف به وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فقد رفع إلينا الأخ في الله الشيخ علي بن عبد الله العماري أسئلة تتعلق بالمسيح عيسى ابن مريم فيما نعتقده فيه، وما ورد في خروجه آخر الزمان، وما أثير حول نزوله، وما قال فيه أهل الكتابين، والجواب عن شبهاتهم، وقد كتبت عنها ما تيسر من الأجوبة حسب ما ظهر لي، ومن غير بحث في الكتب القديمة والحديثة ولا قراءة في كتب القوم، وإنما اعتمدت على ما أحفظه ويكون هو الظاهر المتبادر إلى الفهم، والذي يفهم من الكتاب العزيز ومن السنة الصحيحة، وقد يسر الله إتمامها حسب الجهد الذي هو جهد المقل وقدرة المفلس، ولكن لم يكن بد من الجواب؛ للحاجة الماسة ولكثرة الشبهات التي قد تروج على الجهلة والأغبياء؛ ليكون المسلم على بصيرة من دينه، وليعرف المنصفون من أهل الكتاب بطلان ما هم عليه وضياعهم في عقائدهم، وأعمالهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين
4 / 2 / 1418 هـ
" نبذةٌ عن حياة الشَّيخ العلَّامة عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين " :
نسبه:(1/2)
هو أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين، يرجع نسبه إلى قبيلة بني زيد.
مولده:
ولد في بلدة محيرقة بالقويعية التي تبعد عن الرياض 180 كم سنة 1349 هـ.
نشأته وطلبه للعلم:
بعد أن أكمل سنته الأولى انتقل به والده إلى الرين وهناك ابتدأ به والده التعليم في سنة (1358 هـ)، فتعلم القراءة والكتابة حتى سنة (1364هـ)، ثم ابتدأ في الحفظ فحفظ بعض القرآن أو بالأخص الثلث الأخير منه، وبقي يقرأ على والده الشيخ عبد الرحمن في عمدة الحديث والأربعين النووية وبعض مبادئ العلوم. وفي سنة سبع وستين طلب من فضيلة الشيخ عبد العزيز الشثري -رحمه الله- أن يأذن له بالقراءة عليه، فلم يجبه حتى يحفظ القرآن كله، فعكف على حفظ القرآن حتى أتقنه وحفظه في آخر تلك السنة، ثم ابتدأ في القراءة على الشيخ عبد العزيز حيث كان يقرأ بعد الفجر، ثم في الضحى، ثم بعد العصر نحو ساعة، ثم بعد المغرب إلى أذان العشاء، وتنوع- حفظه الله- في قراءة الكتب، فقرأ في المختصرات مثل: زاد المستقنع، وعمدة الأحكام، والأربعين النووية، وكتاب التوحيد، وثلاثة الأصول، وشروط الصلاة، وآداب المشي إلى الصلاة، والعقيدة الواسطية، والحموية، وقرأ في النحو متن الآجرومية، وفي الفرائض متن الرحبية، وهكذا قرأ في الشروح والمطولات، وقرأ سبل السلام، وشرح الأربعين النووية لابن رجب، وتاريخ ابن كثير وتفسيره، وتفسير ابن جرير الطبري، وشرح مسائل الجاهلية لمحمود الألوسي العراقي وتفسير النيسابوري المسمى: غرائب القرآن، والكثير من الشروح والمؤلفات المخطوطة والمطبوعة.
وفي أثناء هذه القراءة كان يتعاهد حفظ القرآن، ويصلي في غيبة والده بالمسجد الكبير جمعة وجماعة.
سفره في طلب العلم:(1/3)
سافر الشيخ إلى الرياض سنة (1374 هـ) مع شيخه حين انتقل إلى هناك، ومن هناك انتظم في معهد إمام الدعوة، وقرأ على جمع من المشايخ، وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- مفتي الديار السعودية سابقا في الحديث، والنحو، والصرف، والمصطلح، وأصول الفقه، وعلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- في أصول الفقه، وفي بلوغ المرام. كما قرأ على مشايخ آخرين ممن يدرسون العلوم الشرعية في معهد إمام الدعوة.
المناصب التي تولاها الشيخ:
بعد أن أنهى الشيخ دراسته في معهد إمام الدعوة بالرياض سنة (1381هـ) عُيِّن مدرسا في المعهد نفسه، وتولى التدريس به إلى أن انتقل من ذلك المعهد إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث عين مدرسا في كلية الشريعة وأصول الدين عام (1395 هـ) وذلك قبل فصل الكليتين عن بعض، وأصبح عضوا من أعضاء القسم، وأشرف على عدة رسائل في الماجستير في تلك السنوات.
وفي سنة (1402 هـ) عُيِّن عضوا للإفتاء في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء قرب شيخه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ثم أحيل للتقاعد في شهر رجب عام (1418 هـ) حفظه الله ورعاه.
وحصل الشيخ على شهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء في عام (1390 هـ) في رسالة (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) بتقدير امتياز، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في عام (1407 هـ) إلى تحقيق (شرح الزركشي على مختصر الخرقي) تحقيق وتخريج، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، سبعة مجلدات، وهي مطبوعة الآن وتباع في الأسواق.
جدول الشيخ اليومي:(1/4)
يبدأ جدول فضيلته من بعد صلاة الفجر بإلقاء درس في أحد المساجد حتى طلوع الشمس، ثم يعود إلى منزله للاستراحة، ثم يذهب إلى إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وهناك يبدأ بالإجابة عن أسئلة الناس الذين يأتون للسؤال عن أمور دينهم، فتراه -حفظه الله- لا يكل ولا يمل رغم ازدحام الناس عليه، يساعد من يحتاج المساعدة، ويشفع لمن هو أهل للشفاعة، ويرد على اتصالات المستفتين، فهاتفه لا يسكت عن الرنين وهذا حاله حتى انتهاء الدوام، وكم من المرات أراه آخر من يخرج من الإفتاء، بل يقوم بإطفاء الأنوار التي في طريقه حرصا منه، وبعد العصر منزله مفتوح للجميع يفتي الناس في أمور دينهم، ويوجه من يريد التوجيه، ويكتب شفاعة للمحتاجين لمن ثبت عنده أنه محتاج حتى أذان المغرب، ثم ينطلق إلى أحد مساجد الرياض لإلقاء درس من الدروس الأسبوعية، علما أن الشيخ -حفظه الله وأجزل له المثوبة- له أحد عشر درسا في الأسبوع، ثم بعد العشاء يتوجه إلى مسجد آخر إما لإلقاء درس أو محاضرة أو ندوة، وهكذا يكون جدول الشيخ اليومي حافلا بالدعوة إلى الله طوال أيام الأسبوع رفع الله درجته.
ما يتميز به الشيخ:(1/5)
يعرف الشيخ -أثابه الله- بتواضعه الكبير فهو دائما صامت قليل الكلام، لا يتكلم إلا إذ سئل عن مسألة، إذا خالفه أحد العلماء في فتوى أو حكم شرعي، فإنه يقول: فلان عالم ونحترم علمه، ولا يعنف عليه في الرد. وإذا دعي لإلقاء محاضرة أو درس في أي مكان فإنه لا يرد الداعي إذا لم يكن ملتزما بموعد أو ارتباط، يحسن الظن ولا يحمل على أحد من أهل السنة والجماعة حقدا أو حسدا- أحسبه كذلك والله حسيبه- متواضع في كل شيء، يحبه كل من يعرفه لسعة صدره ورحابته، لا يرد الطلاب أو المستفتين أو المحتاجين، يقوم بأداء حوائجهم بنفسه، وقته كله عمل لله ولدينه، وحياته عامرة إما بقول الله أو بقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وأظن -والله أعلم- أن شيخنا -حفظه الله- ما أعطي هذه الرفعة والمكانة بين الناس إلا لشدة تواضعه، مصداقا للحديث الذي أخرجه الإمام مسلم والترمذي وأحمد " من تواضع لله رفعه " فكيف بشخص أعطي العلم والورع والتواضع؟
أسأل الله لنا وله ولجميع المسلمين المغفرة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
تحديد مواعيد دروس فضيلة الشيخ العلامة / عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين، في مدينة الرياض
تحديد
مواعيد دروس فضيلة الشيخ العلامة
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
في مدينة الرياض
اسم الكتاب الذي يدرس
مكان الدرس
الوقت
اليوم
الفتح الرباني، الصواعق، المنتقى، الإيمان، الأمر بالمعروف
جامع الراجحي بشبرا
بعد الفجر
السبت
الكافي لابن قدامة - مشكاة المصابيح - الصارم المسلول
عمدة الفقه، صحيح ابن خزيمة، المدارج
مسجد الراجحي بشبرا
بعد المغرب
بعد العشاء
الأحد
تفسير الطبري - عمدة الفقه - الفتح الرباني - منهاج السنة
مسجد الراجحي بشبرا
بعد الفجر
الاثنين
الروض المربع - صحيح مسلم، الاستقامة، إبطال التأويلات
جامع الراجحي بشبرا
بعد العشاء
المنتقى - شرح الطحاوية
مسجد الراجحي بشبرا
بعد الفجر
الثلاثاء(1/6)
سنن الترمذي
جامع الراجحي بشبرا
بعد المغرب
عمدة الفقه - الفتح الرباني - منهاج السنة النبوية - سلم الوصول
مسجد الراجحي بشبرا
بعد الفجر
الأربعاء
سنن أبي داود - سبل السلام - التفسير الميسر - سنن الدارمي - سنن الترمذي - السيرة
مسجد البرغش بشبرا
بعد الفجر
الخميس
زاد المعاد - السيرة - تفسير ابن سعدي - بداية المجتهد - مجموع الرسائل - صحيح البخاري
مسجد البرغش بشبرا
بعد الفجر
الجمعة
الكافي - الموطأ - مشكاة المصابيح
إعلام الموقعين، شرح الزركشي
مسجد الراجحي بشبرا
بعد المغرب
بعد العشاء
مؤلفات الشيخ حفظه الله :
1- شرح الزركشي على مختصر الخرقي دراسة وتحقيق.
2- أخبار الآحاد في الحديث النبوي.
3- التعليقات على متن لمعة الاعتقاد.
4- فضل العلم ووجوب التعلم.
5- أهمية العلم ومكانة العلماء.
6- مجموع فتاوى ورسائل الشيخ عبد الله الجبرين.
7- المفيد في تقريب أحكام المسافر (173 فتوى).
8- المفيد في تقريب أحكام الأذان (123 فتوى).
9- الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام.
10- السراج الوهاج للمعتمر والحاج.
11- الصيام - آداب وأحكام.
12- خواطر رمضانية.
13- فتاوى الزكاة.
14- الإسلام بين الغلو والجفاء والإفراط والتفريط.
15- فتن هذا الزمان.
16- الولاء والبراء.
17- حقيقة الالتزام.
18- الآداب والأخلاق الشرعية.
19- فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى -عليه السلام-.
20- شرح العقيدة الواسطية.
21- شرح كتاب التوحيد.
22- فوائد من شرح كتاب منار السبيل.
23- فوائد من شرح كتاب التوحيد.
24- الأمانة.
25- الحج منافعه وآثاره.
26- السلف الصالح بين العلم والإيمان.
27- البدع والمحدثات في العقائد والأعمال.
28- محرمات متمكنة في الأمة.
29- الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق.
30- الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما.
31- شرح كتاب منهاج السالكين.
32- الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد.(1/7)
أما الرسائل التي قام فضيلة الشيخ بمراجعتها أو التقديم لها، فهي كثيرة جدا لا يمكن حصرها.
" علة تسمية عيسى ـ عليه السلام ـ بالمسيح " :
[س 1] لِمَ سمي عيسى -عليه السلام- بالمسيح ؟
الجواب : لا شك أن اسمه العلم عيسى وهو الذي يرد في القرآن كثيرا، كقوله تعالى: ? وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ? وقوله: ? ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ وقوله: ? وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ? وقوله: ? إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ? وغير ذلك من المواضع.
وورد المسيح في مواضع، أولها قوله تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ? وقوله: ? لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ? وقوله: ? إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ?.
قال بعض السلف: سمي بالمسيح لكثرة سياحته، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى، وذهب أبو عبيد والليث إلى أن أصله بالعبرانية (مشيح) بالمعجمة فعربته العرب وغيرت لفظه فعلى هذا لا اشتقاق له، والجمهور على أنه مشتق. وقيل: المسيح الصديق، وقيل: لمسح زكريا إياه، وقيل: لمسحه الأرض أي قطعها، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد، وقيل: لأن الله تعالى مسحه أي خلقه خلقا حسنا، وقيل غير ذلك،
كما ذكره النووي في شرح مسلم(1) والله أعلم.
" الرّد على من استدل على أن عيسى ابن اللَّه " :
__________
(1) انظر شرح كتاب الإمام مسلم للنووي (باب ذكر المسيح ابن مريم -عليه السلام- والمسيح الدجال)، (1/ 510). وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، كتاب أحاديث الأنبياء (6/ 544).(1/8)
[س 2]: ما ردكم -حفظكم الله- على من يستدل بهذه الآية من القرآن: ? فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ? على أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؟
الجواب: وردت هذه الآية في سورة التحريم، قال الله تعالى: ? وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ? وفي سورة الأنبياء: ? وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ? وهو صريح أن النفخ في مريم، وأنه وصل إلى فرجها فحملت بعيسى وقال تعالى في سورة مريم: ? فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ? وهو الملك الذي قال:
? إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ? وقد ذكر في التفسير أن الملك نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى رحمها فعلقت بعيسى .(1/9)
والمراد بالروح: ما يخلقه الله من الأرواح التي تحصل بها الحياة كما حصل لآدم -عليه السلام- فقد قال تعالى: ? فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ? فآدم قد نفخ الله فيه الروح وكذا عيسى خلق بهذه الروح التي هي من خلق الله كما قال تعالى: ? تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ? وقال تعالى: ? يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ? فعيسى -عليه السلام- مخلوق من هذه النفخة التي هي من روح الله، أي من الأرواح التي خلقها ويخلق بها جميع البشر وأولهم آدم الذي قال الله تعالى عنه: ? ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ? فعلى هذا لا خصوصية لعيسى بهذه الروح، بل هو كغيره من المخلوقات من الأرواح والأجساد التي تتحرك وتتقلب في هذه الحياة، والله أعلم(1)
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) تحقيق وتعليق د. علي بن حسن، د. عبد العزيز العسكر، د. حمدان الحمدان (3 248) في بيان المعنى الصحيح لروح الله، قال: (وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها كما قال في القرآن ? فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ?
فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله. فعلم أن المراد بالروح ملك وهو روح اصطفاها فأضافها إليه كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها.
كقوله: ? نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ? وقوله: ? وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ? وقوله: ? عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ? والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحقاق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم بيت الله ، ناقة الله وعباد الله كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله.
بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح). انتهى.
أقول وبالله التوفيق. إن الشاهد في معنى روح الله هو: الملك المرسل من عند الله، كما قال تعالى: ? قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ?
وهنا أمر مهم يجب التنبيه عليه، وهو عندما نناقش النصارى في نبي الله عيسى -عليه السلام-، وأنه عبد الله ورسوله، استشهدوا لنا من القرآن بقوله تعالى: ? إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ? [النساء: 171]، قالوا: هذا دليل خاص لعيسى ابن مريم على أنه ابن الله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- لأنهم يزعمون أن الآية تعني أن روح الله حلت فيه وانتقلت إليه والعياذ بالله.
ويرد عليهم: أن هذا ليس دليل خاص لعيسى ابن مريم -عليه السلام- بل جاء في آدم مثل ذلك قال الله تعالى: ? فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ? [الحجر: 29] ، فلماذا لا يقال في آدم كما يقال في عيسى -عليه السلام-؟ بل آدم -عليه السلام- شرفه ربه أربع تشريفات؛ خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له وتعليمه أسماء الأشياء. والجمع بين الآيتين أن الله جل جلاله يقول: ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? فلا ميزة لعيسى -عليه السلام- في استشهادهم، بل إن آدم -عليه السلام- خلق من غير أب ولا أم، أما عيسى -عليه السلام- خلق من غير أب فأيهما يستحق التأمل؟
وأذكر بقول الله تعالى: ? مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [مريم: 35]، وقوله تعالى: ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ? [مريم: 88- 95] .. فآدم وعيسى عليهما السلام أنبياء الله وخلق من خلقه تعالى، خلقوا بكلمة كن فكانوا كما أراد الله تعالى وتقدس.(1/10)
.
" وفاة عيسى عليه السّلام حقيقية أم لا " :
[س 3] ما المقصود من قوله تعالى: ? إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ? الوفاة حقيقية أم لا؟ نرجو توضيح ذلك، أثابكم الله؟
الجواب: الصحيح أن الوفاة هنا هي النوم، أي أن الله رفعه إليه وهو نائم، فإن النوم يصدق عليه أنه وفاة أي شبيه بها، كما قال الله تعالى: ? اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ? أي يتوفى الأحياء في المنام بحيث تفارقهم أرواحهم فراقا خاصا يفقدون فيه الإحساس والصوت والحركة الاختيارية، ثم تعود إليهم أرواحهم عند اليقظة.
وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند النوم: " باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه؛ فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين "(1). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند القيام من النوم:
" الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"(2)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7393) كتاب التوحيد، باب (السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (714) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (ما يقول عند النوم وأخذ المضجع)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (5050) كتاب الأدب، باب (ما يقال عند النوم)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (3874) كتاب الدعاء، باب (ما يدعو به إذا آوى إلى فراشه)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (2/ 246، 422، 432) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري برقم (7394) كتاب التوحيد، باب (السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها)، عن حذيفة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (2711) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (ما يقول عند النوم وأخذ المضجع)، عن البراء رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (5049) كتاب الأدب، باب (ما يقال عند النوم)، عن حذيفة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (3880) كتاب الدعاء، باب (ما يدعو به إذا انتبه من الليل) عن حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (5/ 385،387) من حديث حذيفة.(1/11)
." الحمد لله الذي رد عليّ روحي وعافاني في جسدي "(1). فعلى هذا يكون المعنى: إني متوفيك وفاة نوم بحيث لا تشعر بالرفع إلى السماء، أي أنه رقد نوما عميقا ثم في حال نومه رفعه الله كما شاء، فلم يستيقظ إلا بعد ما رفع إلى السماء. وذهب آخرون إلى أنه توفي وفاة موت مدة يسيرة رفع فيها إلى السماء، ثم بعث وعاش(2) وقال مطر الوراق: ? إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ? من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير إن وفاته: رفعه من الدنيا بحيث لا يكون من أهلها، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أهلها من الأكل والشرب والنوم واليقظة ونحو ذلك. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في أنه ينزل في آخر الزمان ويحكم بهده الشريعة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? أي قبل موت عيسى والله أعلم(3)
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3398) كتاب الدعوات، والنسائي رقم (866) في عمل اليوم والليلة. وابن السني رقم (9)، وصححه النووي في الأذكار رقم (28)، وحسنه الألباني وهو في صحيح الكلم الطيب رقم (37).
(2) الذي رجحه ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره: جامع البيان (2/ 265) إن أولى الأقوال بالصحة قول من قال: إني قابضك من الأرض ورافعك إلي لتواتر الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكرها. وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره؛ فتح القدير (1/ 344): والصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزوله وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف.
(3) قال سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية- رفع الله منزلته وأجزل له المثوبة - في مجموع الفتاوى: التوحيد وما يلحق به (1/ 433):
وقد اختلفوا في التوفي المذكور في قول الله -عز وجل-: ? إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ? على أقوال: أحدها: إن المراد بذلك وفاة الموت؛ لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة، ولأن ذلك قد تكرر في القرآن الكريم بهذا ا المعنى، مثل قوله تعالى: ? قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ? وقوله سبحانه وتعالى: ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ? في آيات أخرى قد ذكر فيها التوفي بمعنى الموت، وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير.
القول الثاني: معناه القبض، نقل ذلك ابن جرير في تفسيره عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه، وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء، وأنت حي ورافعك إلي. ومن هذا المعنى قول العرب: توفيت مالي من فلان، أي قبضته كله وافيا.
القول الثالث: إن المراد بذلك وفاة النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، وقد دلت الأدلة على عدم موته -عليه السلام-، فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعا بين الأدلة كقوله -سبحانه وتعالى-: ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ? وقوله -عز وجل-: ? اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ? والقولان الأخيران أرجح من القول الأول، وبكل فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة، وتظاهرت عليه البراهين أنه -عليه الصلاة والسلام- رفع إلى السماء حيا، وأنه لم يمت، بل لم يزل حيا في السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان، ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه، المبينة في أحاديث صحيحة عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه، ومن هنا يعلم أن تفسير التوفي بالموت قول ضعيف مرجوح، وعلى فرض صحته فالمراد بذلك: التوفي الذي يكون بعد نزوله في آخر الزمان، فيكون ذكره في الآية قبل الرفع من باب المقدم ومعناه التأخير؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، كما نبه عليه أهل العلم. والله الموفق.
وأما من زعم أنه قتل أو صلب فصريح القرآن يرد قوله ويبطله، وهكذا قول من قال: إنه لم يرفع إلى السماء، وإنما هاجر إلى كشمير وعاش بها طويلا ومات فيها بموت طبيعي، وإنه لا ينزل قبل الساعة، وإنما يأتي مثيله، فقوله ظاهر البطلان، بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى، والكذب عليه، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإن المسيح -عليه السلام- لم ينزل إلى وقتنا هذا، وسوف ينزل في مستقبل الزمان، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . ومما تقدم يعلم السائل وغيره أن من قال: إن المسيح قتل أو صلب، أو قال: إنه هاجر إلى كشمير ومات بها موتا طبيعيا ولم يرفع إلى السماء، فقد أعظم على الله الفرية، بل هو مكذب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، والواجب أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال، وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة، فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافرا.
والأدلة على ذلك كثيرة معلومة؛ منها: قوله سبحانه في شأن عيسى -عليه السلام- في سورة النساء: ? وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ? [النساء: 157- 158] ومنها ما توافرت به الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حكما مقسطا، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وهي أحاديث متواترة مقطوع بصحتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجمع علماء الإسلام على تلقيها بالقبول والإيمان بما دلت عليه، وذكروا ذلك في كتب العقائد. فمن أنكرها متعلقا بأنها أخبار آحاد لا تفيد القطع، أو أولها على أن المراد بذلك تمسك الناس في آخر الزمان بأخلاق المسيح -عليه السلام- من الرحمة والعطف، وأخذ الناس بروح الشريعة ومقاصدها ولبابها لا بظواهرها، فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أئمة الإسلام؛ بل هو صريح في رد النصوص الثابتة المتواترة، وجناية على الشريعة الغراء، وجرأة شنيعة على الإسلام وأخبار المعصوم عليه الصلاة والسلام، وتحكيم للظن والهوى، وخروج عن جادة الحق والهدى. لا يقدم عليه من له قدم راسخ في علم الشريعة، وإيمان صادق بمن جاء بها وتعظيم لأحكامها ونصوصها، والقول بأن أحاديث المسيح أخبار آحاد لا تفيد القطع قول ظاهر الفساد؛ لأنها أحاديث كثيرة مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد، متنوعة الأسانيد والطرق، متعددة المخارج، قد توافرت فيها شروط التواتر؛ فكيف يجوز لمن له أدنى بصيرة في الشريعة أن يقول باطراحها وعدم الاعتماد عليها. ولو سلمنا أنها أخبار آحاد فليس كل أخبار الآحاد لا تفيد القطع؛ بل الصحيح الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن أخبار الآحاد إذا تعددت طرقها واستقامت أسانيدها، وسلمت من المعارض المقاوم تفيد القطع، والأحاديث في هذا الباب بهذا المعنى، فإنها أحاديث مقطوع بصحتها متعددة الطرق والمخارج، ليس في الباب ما يعارضها، فهي مفيدة للقطع سواء قلنا: إنها أخبار آحاد أو متواترة. وبذلك يعلم السائل وغيره بطلان هذه الشبهة وانحراف قائلها عن جادة الحق والصواب. وأشنع من ذلك وأعظم في البطلان والجرأة على الله سبحانه وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- قول من تأولها على غير ما دلت عليه، فإنه قد جمع بين تكذيب النصوص وإبطالها وعدم الإيمان بما دلت عليه من نزول عيسى -عليه السلام-، وحكمه بين الناس بالقسط، وقتله الدجال، وغير ذلك مما جاء في الأحاديث، نسبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أنصح الناس وأعلمهم بشريعة الله، إلى التمويه والتلبيس، وإرادة غير ما يظهر من كلامه وتدل عليه ألفاظه، وهذا غاية في الكذب والافتراء والغش للأمة الذي يجب أن يتنزه عنه مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا القول يشبه قول الملاحدة الذين نسبوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى التخييل والتلبيس لمصلحة الجمهور، وأنهم ما أرادوا مما قالوه الحقيقة. وقد رد عليهم أهل العلم والإيمان، وأبطلوا مقالاتهم بغاية البيان وساطع البرهان، فنعوذ بالله من زيغ القلوب والتباس الأمور ومضلات الفتن ونزغات الشيطان، ونسأله -عز وجل- أن يعصمنا والمسلمين من طاعة الهوى والشيطان، إنه على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونرجو أن يكون فيما ذكرناه مقنع للسائل وإيضاح للحق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/12)
.
" الوجاهة التي أعطيها عيسى ـ عليه السّلام ـ " :
[س 4]: ما المقصود - أجزل الله لكم المثوبة بالكلمة- في قوله تعالى: ? إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ? ما الوجاهة التي أعطيها؟ وما هي القربى؟
الجواب: الكلمة لفظ مفرد وجمعها كلمات، والمراد أن الكلمة خلق بها عيسى فأطلق على عيسى كلمة الله؛ لأنه خلق ووجد بها، وهي كلمة (كن)؛ ولهذا قال عن يحيى: ? مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ? أي مصدقا بعيسى الذي خلق بكلمة من الله، فالمعنى هاهنا: يبشرك بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن، فيكون، كما قال تعالى: ? وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ? أي خلق بالكلمة التي أرسل بها جبريل -عليه السلام- إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه -عز وجل- وكانت تلك النفخة في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، ولهذا قيل لعيسى كلمة الله؛ لأنه ناشئ عن الكلمة التي هي (كن) كما قال تعالى: ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? فليس عيسى هو نفس الكلمة إنما خلق وصار بالكلمة، وليس الكلمة مخلوقة وإنما خلق عيسى بالكلمة، فالكلمة من الله يخلق بها المخلوقات كما قال تعالى: ? إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ?.
وقد قالت الجهمية: إن كلمة الله مخلوقة، وعند النصارى: أن كلمة الله من ذات الله؟ والصواب قول أهل السنة: إن كلام الله صفة من صفاته غير مخلوق، وإن عيسى خلق بالكلمة، وليس عيسى هو نفس الكلمة كما هو قول للنصارى.(1/13)
وقوله تعالى: ? وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? أي له جاه ومنزلة وفضل وشرف عند الله تعالى كما ذكر ذلك عن نبي الله موسى في قوله تعالى: ? وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ? وهذه الوجاهة يكون من آثارها:
تأييده بالمعجزات، وتقويته في المخاصمات التي تحدث له مع من جادله من قومه، وكذلك يكون من آثارها: إجابة دعوته ونصره وحفظه وحمايته من أعداء الله الذين يكيدون له، ولهذا فإن عيسى قد حفظه الله وحماه من كيد اليهود ومكرهم، ولكن لا يلزم من إثبات هذه الوجاهة دعاؤه من دون الله، ولا إعطاؤه شيئا من حق الله تعالى.
ولا شك أيضا أن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- له جاه عند الله كغيره من الأنبياء ومع ذلك لا يجوز التوسل بجاهه، فلا يقال: اللهم إني أسألك بجاه فلان، أو بمنزلته عندك؛ لما في ذلك من التعظيم الذي هو خالص حق الله، وأما الحديث الذي يروونه بلفظ: " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم " (1). فهو حديث موضوع لا يجوز روايته إلا مع بيان حاله.
وقوله تعالى: ? وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ? أي من أهل السعادة الذين يفوزون بالقربى والمنزلة الرفيعة في الجنة الذين ذكر الله ثوابهم في قوله تعالى: ? فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ?.
والقربى عند الله هي أشرف المراتب، وهي منزلة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين ذكر الله ثوابهم بقوله: ? عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ? والله أعلم.
" الآية التي جاء بها عيسى ـ عليه السّلام ـ " :
__________
(1) قال شيخ الإسلام في رسالة (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) ص 147 معلقا على هذا الحديث: (... وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث).
وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1/ 30): (لا أصل له).(1/14)
[س 5]: ما الآية- رعاكم الله- التي جاء بها عيسى -عليه السلام- في قول الله تعالى:
? وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ? ؟
الجواب: أي جئتكم بحجة ودلالة على صدقي فيما أقول لكم، يعني بالآية جنس الآيات والمعجزات المتقدمة في قوله تعالى: ? وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ? فخلق الطير والنفخ فيه آية ومعجزة، وإبراء الأكمه - وهو من يولد أعمى- والأبرص الذي في جلده بياض فيمسحه حتى يبرأ هو أيضا معجزة وآية من ربه، وكذا إخبارهم بما يدخرون في بيوتهم وما يخفونه من أسرارهم، وكذا إحياء الموتى بإذن الله، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أنه مرسل من ربه، والتي لأجلها زعم النصارى -لعنهم الله- أنه هو الله فكفروا بذلك، كما قال تعالى: ? لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ? إنما هذه الآيات للدلالة على صدقه، وأنه مرسل من ربه.
" الاستدلال على أن عيسى بشر رسول " :
[س 6]: ما تقولون- سدد الله خطاكم- فيمن استدل بقول الله تعالى: ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? على أنه بشر رسول، وليس كما يدعي النصارى أنه ابن الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا؟(1/15)
الجواب: لا شك في دلالة الآية على أن عيسى مخلوق، وأن الله تعالى هو الذي خلقه وحده، فكما أن آدم -عليه السلام- خلقه الله من تراب من غير والد ولا والدة، إنما كونه من التراب والطين وقال له: كن، فكان كما أراد الله تعالى، فكذلك عيسى -عليه السلام- خلقه من أم بلا أب فقال له: كن، فكان، وتكوَّن في بطن أمه فخرج منها بشرا سويا، وجعل الله فيه علامات تميزه عن سائر الناس حيث تكلم وهو في المهد، وذكر الله من جملة كلامه قوله: ? قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ?.(1/16)
قال ابن كثير في التفسير(1) : ( يقول جل وعلا : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ? أي في قدرة الله حيثما خلقه من غير أب كَمَثَلِ آدَمَ حيثما خلقه من غير أب ولا أم، بل ? خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من غير أب بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب فجواز ذلك في آدم بطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا، ولكن الرب -جل جلاله- أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى. اهـ(2)
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة آل عمران (1/ 316).
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، (4/ 54) تحقيق د. علي بن حسن، ود. عبد العزيز العسكر، ود. حمدان الحمدان: ( إن قوله تعالى: ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? كلام حق، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال تعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر المخلوقات من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء.
فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو سبحانه خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن، فيكون، لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له: كن فيكون، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتا وناسوتا، بل كان كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت إلخ..) رحمه الله.(1/17)
.
" دعوة الرسل كلهم متفقة في أصل الدين " :
[س 7]: هل معنى قوله تعالى: ? وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ? أن عيسى -عليه السلام- جاء مكملا لدعوة موسى -عليه السلام-؟ وما تقولون في من يقول: إن الإنجيل غير محرف بنص قوله -تعالى- : ? وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ? وما معنى قوله : ? وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ? ؟
الجواب: لا شك أن دعوة الرسل كلهم متفقة في أصل الدين وهو التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى، وهو معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد "(1)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3442) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (2365) كتاب الفضائل، باب (فضائل عيسى -عليه السلام-) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (2/ 319، 406، 437، 463، 482) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم- : إخوة من علات أي إخوة من الأب ولكن أمهاتهم شتى. ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد ولكن الشرائع تختلف من نبي إلى آخر.
وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة. انظر كتاب الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم، وأشراط الساعة ص 513 لمؤلفه الشيخ مصطفى العدوي حفظه الله.(1/18)
. أي بمنزلة أولاد من أمهات وأبوهم واحد، أي متفقون في العقيدة مع وجود اختلاف في الشرائع، ومع ذلك فإن كل نبي يصدق بمن قبله من الأنبياء والرسل، فقوله: ? وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ? يدل على أن عيسى يصدق ما في التوراة من العلم، ويعمل به ويحث على تطبيق ذلك ويحكم بما فيه.
ولا شك أنه أعطي الإنجيل وفيه هدى ونور، ويشتمل على أحكام لم ترد في التوراة؛ ولهذا قال الله تعالى عنه: ? وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ? فذكر أنه قد أباح لهم بعض ما كان محرما في شريعة موسى من باب التخفيف.
ولا شك أن الإنجيل الذي نزل على عيسى فيه هدى ونور، لكن بعد رفع عيسى اختلفوا فيه؛ ولهذا تعددت الأناجيل (كإنجيل متى، وإنجيل يوحنا إلخ(1)) وأن بينها تفاوت كما هو مشاهد، والله تعالى إنما ذكر كتابا واحدا، فتعددها بعد عيسى دليل على تغييرها وتحريفها، أما الأصل فهو الذي ذكره الله بقوله: ? فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ? وأما هذه الأناجيل فقد غيرت وحرفت عن الكتاب المنزل الذي نزل مصدقا للتوراة قبله وموضحا لما فيها، والله أعلم.
" مناقشة أهل الكتاب في الاستدلال من الإنجيل
في إثبات نبوة عيسى ـ عليه السلام ـ " :
[س 8]: ما الحكم الشرعي -بارك الله فيكم- بعمل بعض الدعاة عند مناقشة أهل الكتاب في الاستدلال من الإنجيل في إثبات نبوة عيسى -عليه السلام- وأنه بشر، فهل في هذا تعارض في كون أن القرآن ناسخ للكتب السماوية السابقة ؟
__________
(1) قال ابن القيم -رحمه الله- في (هداية الحيارى) ص 211: (الأناجيل أربعة: مرقس ولوقا لم يريا المسيح أصلا، ومتى ويوحنا رأياه واجتمعا به). انظر كتاب (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) لأبي محمد عبد الله الترجمان الميورفي - الفصل الثالث- الباب الأول ص 94، حيث بين حال الأربعة الذين كتبوا الأناجيل.(1/19)
الجواب: يجوز الاحتجاج على النصارى بما في كتبهم وأناجيلهم التي يعترفون بها ويدعون صحة ما فيها(1) فيستدل بها على رسالة عيسى وأنه بشر مخلوق بما يبطل ادعاءهم أنه ابن الله، ويستدل بما فيها من ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- والبشارة به على صحة رسالته، وأن كل من أدركه لزمه اتباعه، وذلك أنه قد أخذ على كل نبي أن يتبع النبي الذي بعده، وإن بعث محمد وهو حي أن يتبعه ويأمر أمته أن يتبعوه، لأن دينه آخر الأديان وشريعته ناسخة للشرائع السابقة، ولا تعارض بين صحة الاستدلال بالكتب السابقة، وكون القرآن ناسخا لها أي يرجع إلى ما فيه، ففي تلك الكتب ما يدل على أن العمل بها مؤقت إلى خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- .
" تسمية مريم بالعذراء " :
[س 9]: هل يجوز- رعاكم الله- تسمية مريم بالعذراء كما يفعل النصارى؟
الجواب: العذراء هي الفتاة البكر والعذرة هي البكارة، وقد روى البخاري في الأدب من صحيحه، ومسلم في الفضائل عن أبي سعيد قال: " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئا عرفناه في وجهه "(2)
__________
(1) أقول وبالله التوفيق: لقد فعل ذلك كثير من علماء المسلمين، وأحرجوا النصارى حيث بينوا لهم صدق ما جاء به الدين الإسلامي في وحدانية الله، وبشرية عيسى -عليه السلام- وإثبات رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن أولئك ابن حزم، وابن القيم، ورحمة الله ابن خليل الهندي رحمهم الله، ومن المعاصرين الشيخ أحمد ديدات وغيرهم كثير.
(2) أخرجه البخاري برقم (6102) كتاب الأدب، باب (من لم يواجه الناس بالعتاب) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (2320) كتاب الفضائل، باب (كثرة حيائه -صلى الله عليه وسلم-) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (4180) كتاب الزهد، باب (الحياء) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه(1/20)
. وعلى هذا فإن مريم تسمى بالعذراء، بل قد ورد ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في المسند (1 / 202، 5 / 290) وابن إسحاق كما في الروض الأنف (1 / 211) مطولا عن أم سلمة بإسناد صحيح في قصة الهجرة إلى الحبشة، وفيه: " أن النجاشي قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول إلخ "(1). وروى الإمام أحمد أيضا في المسند (1/ 461) بإسناد حسن عن ابن مسعود في قصة هجرة الحبشة: " أن النجاشي قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله -عز وجل- هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد "(2) الحديث. ومعنى ذلك أن مريم -عليها السلام- بقيت عذراء لم يمسها بشر ولم تكن بغيا، ولا خصوصية للنصارى في هذه التسمية، والله أعلم.
" كيف حملت مريم بنبي اللَّه عيسى ـ عليه السلام ـ " :
[س 10]: ألا هل بينتم -حفظكم الله- كيف حملت مريم بنبي الله عيسى -عليه السلام-؟
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 202، 292) و (5/ 290). وأخرجه ابن هشام في السيرة النبوية (1/ 344)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 115) من طريق ابن إسحاق. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24- 27) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. اهـ. فالحديث صحيح، وصححه العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند رقم (1740).
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1 461)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24) وقال: رواه الطبراني، وفيه حديج بن معاوية، وثقه أبو حاتم وقال: في بعض حديثه ضعف، وضعفه ابن معين وغيره وبقية رجاله ثقات. اهـ. ولكن الحافظ ابن كثير جوّد إسناده وقواه في البداية- طبعة الريان- مصر (3/ 67). وللحديث شواهد يتقوى بها منها حديث أم سلمة السابق.(1/21)
الجواب: قال الله تعالى: ? وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ? وقال تعالى:
? فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ?.
ذكر ابن كثير(1) عن السلف: أن هذا الروح هو جبريل -عليه السلام- وأنه لما تبدى لها في صورة إنسان لتمكن مخاطبته خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فاستعاذت منه وخوفته بالله -عز وجل- إن كان تقيا، وعلمت أن التقي ذو نهية، (أي ينتهي خوفا من الله تعالى)، فأخبرها بأنه من رسل ربه، وأنه يهب لها غلاما زكيا، فأنكرت أن تلد من دون أن يمسها بشر ولم تكن من البغايا، فأخبرها بأنه سهل هين عند الله كما خلق آدم من تراب، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وأنه يجعله آية للناس وعلامة على تمام قدرته على كل شيء، فاستسلمت لقضاء الله، فنفخ الملك في جيب درعها فوصلت النفحة إلى رحمها فحملت بالولد بإذن الله.
والمشهور أن حملها تسعة أشهر كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا ظهرت عليها مخايل الولادة ? فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ? والمخاض هو الطلق وعلامات الولادة، ثم وضعت وتمنت الموت خوفا من القذف، فأنطق الله ولدها من تحتها بقوله: ? أَلَّا تَحْزَنِي ? ثم أنطقه عند قومها فتكلم ببراءتها، وأنه عبد الله ورسوله كما ذكر الله ذلك، والله أعلم.
" تسمية النصارى بالمسيحيين " :
[س 11]: هل يجوز تسمية النصارى بالمسيحيين ؟
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة مريم (3/ 101).(1/22)
الجواب: الاسم الذي ورد في الكتاب والسنة هو النصارى كما قال تعالى: ? وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ? وقال تعالى: ? وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ? وقال تعالى: ? وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ? وقال تعالى: ? وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(1) وغير ذلك من الأدلة، فعلى هذا يعرفون بالاسم الذي ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3453، 3454) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (ما ذكر عن بني إسرائيل) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وأخرجه مسلم برقم (529) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (النهي عن بناء المسجد على القبور) عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أحمد في المسند (1 /218) عن ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها. و (2/ 518) عن أبي هريرة رضي الله عنه و (6 34، 255) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود برقم (3227) كتاب الجنائز، باب (في كراهية القعود على القبر) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه النسائي برقم (703) كتاب النهي عن اتخاذ القبور مساجد عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وأخرجه الدارمي برقم (1375) كتاب الصلاة باب (النهي عن اتخاذ القبور مساجد) عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.
وأخرجه الإمام مالك في موطئه برقم (1861) كتاب الجامع، باب (ما جاء في اليهود عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه).(1/23)
فأما تسميتهم بالمسيحيين فيفهم منه أنهم أتباع المسيح أو على دينه، وليسوا كذلك حيث غلوا فيه فكفرهم الله بذلك، كما في قوله تعالى: ? لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ? فقد حكى الله تعالى عن المسيح -عليه السلام- دعوته إلى عبادة الله والاعتراف بأنه ربه وربكم، وتحذيره من الشرك، فالنصارى ليسوا على ملة المسيح ولا هم أتباعه، فهو بريء منهم، فكيف ينسبون إليه، وهم قد خالفوا دعوته وسنته؟
ولعل اشتهارهم بهذا الاسم صدر من بعض المتأخرين لما رأوا انتماءهم إليه وكثرة ذكره في كتبهم. ثم إن عيسى -عليه السلام- يعرف في كتبهم باليسوع ويسمون الآن أنفسهم باليسوعيين، وهذا الاسم للمسيح مخالف للاسم الذي ورد في الكتاب والسنة، فينهى عن استعماله أيضا، ولو اشتهر فيما بينهم(1).
" حواريو عيسى ـ عليه السَّلام ـ " :
[س 12]: من هم حواريو عيسى -عليه السلام-؟ ولماذا سموا بهذا الاسم ؟
الجواب: هم أتباع عيسى -عليه السلام- الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا ما جاءهم به من الوحي والشرع، وخالفوا اليهود الذين كذبوه وقذفوا أمه -لعنهم الله- وخالفوا النصارى الذين غلوا، وادعوا أنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فالحواريون استجابوا له كما قال تعالى:
? فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ?.
__________
(1) أقول وبالله التوفيق: إن تسمية النصارى بالمسيحيين فيه مدح لهم، حيث يفهم أنهم على ملة المسيح -عليه السلام-، والصحيح أنهم خلاف ذلك.(1/24)
قال ابن كثير(1) رحمه الله عن هذه الآية: (الحواريون قيل: كانوا قصارين، وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم(2) وقيل: صيادين، والصحيح أن الحواري: الناصر، كما في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لكل نبي حواري وحواري الزبير "(3) أي فالحواريون هم الأنصار والأعوان وأهل الاتباع والتصديق، وقال تعالى: ? كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ? وأصل الحور هو شدة بياض العين في شدة سوادها، ومنه سمي نساء الجنة بالحور العين، والله أعلم(4).
" نصيحة إلى نصارى العرب " :
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة آل عمران (1 /315).
(2) ذكر ذلك الإمام البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (مناقب الزبير بن العوام).
(3) أخرجه البخاري برقم (2846) كتاب الجهاد والسير، باب (فضل الطليعة) عن الزبير رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم (2415) كتاب فضائل الصحابة، باب (من فضائل طلحة والزبير) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في المسند (3 338، 365) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأخرجه أيضا (4 4) من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وأخرجه أيضا (1 103) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (122) في المقدمة، باب (فضل الزبير رضي الله عنه) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
(4) قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره: فتح القدير (1/ 344): والحواريون جمع حواري، وحواري الرجل: صفوته... وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم، وقيل: لخلوص نياتهم، وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثنى عشر رجلا.(1/25)
[س 13 ]: ما نصيحتكم- سلمكم الله- إلى نصارى العرب، خاصة الذين يتكلمون بلغة القرآن الكريم، وإلى جميع النصارى عامة الذين يرفعون عيسى -عليه السلام- إلى مرتبة الألوهية؟ وما الكتب التي تنصحونهم بقراءتها حتى تتضح لهم حقيقة عقيدة النصارى؟
الجواب: لا شك أن العرب الذين تنصروا وهم يعرفون اللغة العربية ويفهمون دلالة القرآن وحججه قد انخدعوا وخالفوا المعقول والمنقول، وقد قامت عليهم الحجة، فنصيحتنا لهم أن يفكروا في معتقدهم وديانتهم، فإن قول النصارى بأن عيسى هو الله أو هو ابن الله قول تنكره العقول السليمة والفطر المستقيمة، فقد قال تعالى : ? مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ? فهذا بيان أن عيسى مخلوق قد حملته أمه كما تحمل النساء، وولدته بعد أن أخذها الطلق، كما قال تعالى: ? فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ? (أي طلق الولادة)، ثم إنه احتاج إلى المهد في صغره كالأطفال، وجعل الله من آيات قدرته قوله:
? وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ? ولا شك أنه مع الأكل والشرب يحتاج إلى التخلي وخروج الرجيع كما في غيره، ونحو ذلك من صفة الإنسان، فكيف يقال: إنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؟
ثم إن النصارى يعترفون بأن اليهود قبضوه، وقتلوه، وصلبوه؛ فلهذا يعظم النصارى الصليب؛ لأنه الذي صلب عليه ربهم، وهذا غاية السفه، فإنه يستحق التحطيم والإتلاف فضلا عن الإقرار، وأيضا فلو فكروا في الأدلة التي تثبت أنه مخلوق يولد من أنثى لعرفوا أنه لا يستحق أن يعبد، أو أن يعتقد فيه أنه ابن الله، فهو إنما تميز بالمعجزات التي جعلها الله دلالات على أنه مرسل من ربه كسائر الرسل.(1/26)
وننصح النصارى بقراءة كتاب (الجواب الصحيح في الرد على عباد المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقراءة كتاب (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم، وكتاب (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) لابن القيم، وكتاب (الرد على عباد الصليب) لابن معمر، وكتاب (الصراع بين الإسلام والنصرانية) للصعيدي، ونحوها من كتب المتقدمين وغيرهم.
" على من ألقي شبه عيسى ـ عليه السَّلام ـ " :
[س 14]: هل الرواية التي تقول: إن شبه عيسى -عليه السلام- ألقي على الرجل الذي أراد الوشاية به صحيحة أم لا ؟
الجواب: المشهور أن الذي شبه لهم شاب من الحواريين أتباع عيسى ؛ فقد ذكر ابن كثير(1) عند تفسير قوله تعالى: ? وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ? (إن اليهود سعوا في قتله عند أحد ملوكهم، فأرسل من يطلبه فلما أحس بهم قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه بشبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم. فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، فرفع عيسى إلى السماء، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأوا ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه وصلبوه).
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة النساء (1/93).(1/27)
ثم ذكر الرواية بذلك عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم ثم ذكر عن وهب بن منبه عند ابن جرير(1) أن الذي شبه لهم هو شمعون أحد الحواريين وكان اليهود قد أخذوه وقالوا: هذا من أصحاب عيسى فجحد ثم أخذه آخرون فجحد، ثم قال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله وصلبوا ما شبه لهم. ثم ذكر أن بعض النصارى قال إنه (ليودس ركريا يوطا) وهو الذي شبه لهم فصلبوه وهو يقول: إني لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه. والله أعلم أي ذلك كان(2).(3)
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان في تأويل القرآن (4/352).
(2) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان في تأويل القرآن (4 /253).
(3) جاء في كتاب (محاضرات في النصرانية) لمحمد أبو زهرة (صفحة 24) في مسألة الشبه حيث قال: (وبعض الآثار تقول: إن الله ألقى شبهه على يهوذا، ويهوذا هنا هو يهوذا الأسخريوطي الذي تقول الأناجيل عنه: إنه هو الذي دس عليه، ليرشد القابضين إليه، إذ كانوا لا يعرفونه، وقد كان أحد تلاميذه المختارين في زعمهم.
ولقد وافق هذا إنجيل برنابا موافقة تامة، ففيه: ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفا، وكان الأحد عشر نياما، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل وروفائيل وإدريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع، وكان التلاميذ كلهم نياما فأتى الله العجيب بأمر عجيب. فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع، حتى اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن استيقظ أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا! وأجبنا: أنت يا سيدي معلمنا، أنسيتنا الآن..
* وهنا ملحوظة يجب التنبيه عليها: إن النصارى لما وجدوا هذا الإنجيل يدعو ويبين ما دعا إليه المرسلون من الأنبياء من وحدانية الله ونبوة عيسى وإنه لم يصلب ولم يقتل، وإن محمدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: إن هذا الإنجيل من وضع العرب، والصحيح أن برنابا قديس من قديسي المسيحيين باتفاقهم، ورسول من رسلهم، وهذا الذي رجحه مؤلف كتاب (محاضرات في النصرانية) بأن نسبة هذا الإنجيل إلى برنابا، نسبة يرجح أن تكون صحيحة؛ لأنه وجدت نسخته الأولى في جو مسيحي خالص، وكان معروفا قبل ذلك بقرون أن لبرنابا إنجيلا. انظر كتاب (محاضرات في النصرانية) لمؤلفه الشيخ محمد أبو زهرة، صفحة 63.(1/28)
" بيان حال عيسى ـ عليه السلام ـ عندما ينزل آخر الزمان " :
[س 15]: نرجو من فضيلتكم- أجزل الله لكم الأجر- بيان حال عيسى -عليه السلام- عندما ينزل آخر الزمان ؟
الجواب: في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها "(1).
ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ? أي: موت عيسى
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " والذي نفسي بيده، ليهلن عيسى ابن مريم بفجّ الروحاء حاجًّا أو معتمرا أو لاثنينهما جميعا"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3448) كتاب أحاديث الأنبياء باب (نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (242) كتاب الإيمان، باب (نزول عيسى ابن مريم حاكما)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في المسند (2/ 240) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (4324) كتاب الملاحم، باب (خروج الدجال)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي برقم (2240) كتاب الفتن، باب (ما جاء في نزول عيسى ابن مريم)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (4077) كتاب الفتن، باب (فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج)، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم برقم (1252) كتاب الحج، باب (إهلال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (2 /240) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/29)
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم "(1).
وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، يمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون "(2).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذكر من لقيه ليلة الإسراء من الأنبياء، وأنهم تذاكروا الساعة " فقال عيسى: فيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله "(3)... إلخ.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3449) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (244) كتاب الإيمان، باب (نزول عيسى ابن مريم حاكما) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 406).
(3) أخرجه أحمد في المسند (1/375).(1/30)
وروى أحمد أيضا عن عثمان بن أبي العاص مرفوعا حديثا فيه: " وينزل عيسى عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: يا روح الله تقدم صلِّ، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي حتى إذا قضى صلاته أخذ عيسى حربته، فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين تندوته فيقتله ويهزم أصحابه، فليس شيء يواري منهم أحدا حتى إن الشجرة تقول: يا مؤمن هذا كافر، ويقول الحجر: يا مؤمن هذا كافر"(1).
وفي حديث طويل عند مسلم: " أن عيسى يقتله بباب لد الشرقي، ويهزم الله اليهود، وأن أيامه أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم "(2) وآخر أيامه كالشررة، والأحاديث فيه كثيرة ذكرها ابن كثير في النهاية من تاريخه، وفي تفسير قوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? في آخر سورة النساء، والله أعلم(3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (4 /216، 217).
(2) أخرجه مسلم رقم (2137) كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(3) للفائدة نقلت كلاما للعلامة، ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله- من كتابه (اتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة) (3/ 128) في الرد على أحد منكري نزول عيسى -عليه السلام- حيث قال رحمه الله: (وقد رأيت جوابا لشلتوت ينكر فيه حياة عيسى -عليه السلام- وزعم أنه قد مات موتة عادية، وأنكر أن يكون مرفوعا بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنكر نزوله إلى الأرض في آخر الزمان حكما عدلا، فخالف ما جاء به القرآن، وتواترت به الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وقد تقدم ذكر الأدلة من القرآن والسنة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وسيأتي ذكر الإجماع على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن شلتوتا لم يكتف بمخالفة الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، بل ضم إلى ذلك الطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال: (إنها روايات مضطربة، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينها)!
كذا قال! وكل من له أدنى علم ومعرفة بالحديث يعلم يقينا أن الأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- متفقة متعاضدة لا اضطراب فيها ولا اختلاف بينها بحمد الله تعالى.
ثم إنه أردف ذلك بخطأ آخر، فقال: (وقد نص على ذلك علماء الحديث).
والجواب أن يقال: هذا غير صحيح؛ فإن علماء الحديث قد تلقوا الأحاديث الواردة في نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- بالقبول، ودونوها في كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكروا مضمونها في كتب العقائد السلفية.
قال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في عقيدة أهل السنة والجماعة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: والإيمان أن المسيح الدجال خارج، مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كله كائن، وأن عيسى ابن مريم ينزل، فيقتله بباب لد... انتهى.
وقال الإمام أبو محمد البربهاري -رحمه الله تعالى- في شرح السنة: والإيمان بنزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم-؛ ينزل، فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويموت، ويدفنه المسلمون انتهى.
وقال الطحاوي -رحمه الله تعالى- في العقيدة المشهورة: ونؤمن بأشراط الساعة؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- من السماء.. انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري -رحمه الله تعالى- في كتابه: مقالات الإسلاميين: جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يردون من ذلك شيئا (إلى أن قال:) ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله . انتهى.
وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام. والعبرة بهم، ولا عبرة بمن خالفهم؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية.
/6 /7 لا عِبْرَةً بِمُخالِفٍ لهمُ ولَوْ /7 /7 كَانُوا عديدَ الشَّاءِ والبِعْران /7 /6
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله: (نؤمن بنزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- حكما عدلا يقتل الدجال 000) انتهى.
وقال الإمام أبو أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدة له: وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة، من الدجال، ونزول عيسى وغير ذلك من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق.. انتهى.
وقال الإمام الموفق أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى- في عقيدته المشهورة: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه صدق وحق.. (إلى أن قال:) ومن ذلك أشراط الساعة، مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة.. وأشباه ذلك مما صح به النقل انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: مسألة: عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- حي رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه، وقوله تعالى: ? مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ?؛ أي: قابضك، وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية؛ حكما عدلا مقسطا، ويراد بالتوفي: الاستيفاء، ويراد به الموت، ويراد به النوم، ويدل على كل واحد القرينة التي معه انتهى.
وقال القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم: نزول عيسى -عليه السلام- وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وبقوله -صلى الله عليه وسلم- : لا نبي بعدي وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ. وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى -عليه السلام- أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا، وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا؛ يحكم بشرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس ، انتهى كلامه، وقد نقله النووي في شرح مسلم وأقره.
وقال القاضي عياض أيضا في الكلام في أحاديث الدجال: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى -صلى الله عليه وسلم- ، ويثبت الله الذين آمنوا. هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة. انتهى المقصود من كلامه، وقد نقله النووي في شرح مسلم وأقره.
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: أجمعوا على نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- نبيا لكنه بشريعة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
وقال المناوي أيضا في موضع آخر من شرح الجامع الصغير: حكى في المطامح إجماع الأمة على نزوله، ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة. انتهى.
وقال السفاريني في شرح عقيدته : نزول المسيح عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة... (ثم ذكر دليل ذلك من الكتاب والسنة، إلى أن قال: (وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية. انتهى.
ولو ذهبت أنقل ما ذكره غير هؤلاء؛ لطال الكلام، وفيما ذكرته كفاية لبيان خطأ شلتوت فيما ذهب إليه، وما حاوله من قلب الحقيقة).(1/31)
.
" دين الأنبياء واحد في باب الاعتقاد والتوحيد " :
[س 16]: ما الحكم الشرعي في هذه العبارة التي يرددها بعض عوام المسلمين: ( موسى بدين و عيسى بدين) حيث يفهم من هذه العبارة أن الأنبياء دينهم مختلف، نرجو توضيح هذا الأمر؟
الجواب: هذا الكلام ليس صحيحا على إطلاقه، فإن دين الأنبياء واحد في باب الاعتقاد والتوحيد، فقد قال تعالى: ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ? فأخبر بأن رسول كل أمة دعاهم قائلا: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، أي أخلصوا له العبادة، واتركوا عبادة الطواغيت، وهي كل ما يعبد من دون الله، وقال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ? أي كل واحد من الرسل أوحى الله تعالى إليه أن يدعو إلى (لا إله إلا الله) وإلى عبادة الله، وأخبر تعالى أن كل رسول بدأ دعوته بقوله: ? اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ?.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن جرير عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " الأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد "(1). وروى البخاري عن أبي سلمة وأبي عمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد "(2)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2 /406).
(2) أخرجه البخاري برقم (3443) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وأخرجه مسلم برقم (2365) كتاب الفضائل باب (فضائل عيسى -عليه السلام-) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (2 319، 406، 463، 483، 541) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/32)
. وفي رواية: " إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد " وفي الباب أحاديث بهذا المعنى، فأخبر بأن دينهم واحد يعني في التوحيد، وأمهاتهم شتى أي الملل والشرائع، وهو معنى قوله تعالى: ? لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ? أي سبيلا وسنة في الفروع، فالعبادات الفرعية في زمن موسى مخالفة لمن قبله بعض المخالفة، وكذا وجد خلاف في شريعة عيسى ؛ فقد أحل لهم بعض الأشياء التي كانت محرمة عليهم، والله أعلم.
" من لم يؤمن بالإسلام ويتبع شريعته لم يكن من المؤمنين المتقين " :
[س 17]: يقول تعالى: ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ? هل هذا يعني أنه لا يشترط الدخول في الدين الإسلامي الذي نسخ الشرائع السابقة؟ أفتونا في ذلك.
الجواب: تدل هذه الآية الكريمة على أن كل من آمن بالله تعالى، وبما جاء عنه من الكتاب والشريعة واتقاه حق تقاته، وتوقى محارمه وأسباب سخطه؛ فإن الله تعالى يكفر عنه ما اقترف من السيئات، ولو وصلت إلى الشرك والكفر، فإن الإيمان الصحيح والتقوى التي تقتضي ترك المعاصي والبعد عن جميع الذنوب يحصل بها محو ما سبق من السيئات، والأهلية لدخول جنات النعيم.
ولا شك أن الإيمان يلزم منه الإيمان بهذه الشريعة، وبهذا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ? الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ?.
والذي نسخ دينه جميع الشرائع واحتوى على كل ما يحتاج إليه البشر، فمن لم يؤمن به ويتبع شريعته لم يكن من المؤمنين المتقين، والله أعلم.
" تفسير روح القدس " :
[س 18]: ما تفسير علماء السلف رحمهم الله لقوله تعالى: ? إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ? ؟(1/33)
الجواب: لا شك أن روح القدس هو الملك الذي هو جبريل -عليه السلام- وهذا هو القول الراجح كما قاله ابن كثير، وجزم به في تفسيره(1) قوله تعالى: ? وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ? وذكر أن ابن مسعود نص عليه، وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة، وذكر في قوله تعالى: ? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ? وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: " أجب عني، اللهم أيده بروح القدس "(2). وفي بعض الروايات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: " اهجهم وجبريل معك "(3). وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا * * * وروح القدس ليس به خفاء
وروى ابن حبان وغيره عن ابن مسعود، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها "(4).
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة البقرة (1/110).
(2) أخرجه البخاري برقم (453) كتاب الصلاة باب (الشعر في المسجد).
ومسلم برقم (2485) كتاب فضائل الصحابة باب (فضائل حسان بن ثابت). وأحمد في المسند (5 222).
وأخرجه النسائي برقم (716) كتاب المساجد باب (الرخصة في إنشاد الشعر الحسن في المسجد) كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري برقم (6153) كتاب الأدب باب (هجاء المشركين)، عن البراء رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (2486) كتاب فضائل الصحابة باب (فضائل حسان بن ثابت)، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (10) عن أبي أمامة. وصححه الألباني وهو في صحيح الجامع رقم (2085)، وصححه أيضا في تخريج أحاديث مشكلة الفقر، للقرضاوي (15).(1/34)
وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن قالا: القدس هو الله وروحه جبريل، أي روح من الأرواح التي خلقها الله. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس (بروح القدس) هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، ونقل نحوه عن سعيد بن جبير وعبيد بن عمير.
وقال الربيع بن أنس: القدس هو الله تعالى، وقال السدي: القدس: البركة، وقال العوفي عن ابن عباس: القدس: الطهر، وقال ابن زيد: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا. وقال الزمخشري: بالروح المقدسة: أي روح عيسى نفسه المطهرة.
والصحيح الأول وعليه الجمهور، وسمي عيسى روحا من الله؛ لأنه من الخلق الذين خلق أجسامهم وأرواحهم، وسمي جبريل روحا؛ لأنه روح مجردة من جسم محسوس، وهو مقدس أي منزه ومطهر عن المعاصي والمخالفات، فإن التقديس هو التطهير والتعظيم، كقول الملائكة:
? وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? أي نعظمك ونجلك وننزهك عن النقائص والمعائب.
" ما أحل عيسى لبني إسرائيل وكانت محرمة عليهم من قبل " :
[س 19]: ما هي الأشياء التي أحلها عيسى -عليه السلام- لبني إسرائيل وكانت محرمة عليهم من قبل ؟
الجواب: لا شك أنه وقع منه إباحة بعض ما كان حراما قبل بعثته؛ بدليل قوله فيما حكي عنه في سورة آل عمران: ? وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ? قال ابن كثير(1) فيه دلالة على أن عيسى -عليه السلام- نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين. ومن العلماء من قال: إنه لم ينسخ منها شيئا، إنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ، وكشف لهم عن الغطاء في ذلك، كما قال تعالى: ? وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ?.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة آل عمران (1 /314).(1/35)
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر لجماعة من اليهود: " أن إسرائيل - وهو يعقوب -عليه السلام- مرض مرضا شديدا، فنذر لئن شفاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها "(1).
وذكر ابن كثير(2) عند تفسير قوله تعالى : ? إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ? بعض الأشياء التي كانت مباحة، ثم حرمت ثم أبيحت، قال: وكان الله قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم -عليه السلام- وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرم مثل هذا في التوراة إلخ. وقد قال تعالى: ? فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ? وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- : " أن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، فباعوها وأكلوا ثمنها "(3)
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة آل عمران (1 /328).
(2) انظر تفسير ابن كثير، سورة آل عمران (1/329).
(3) أخرجه البخاري رقم (2236) كتاب البيوع باب (بيع الميتة والأصنام). ومسلم رقم (71) كتاب المساقاة باب (تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام). وأحمد في المسند (3 /326). وأخرجه أبو داود برقم (3486، 3487) كتاب الإجارة باب (في ثمن الخمر والميتة).
وأخرجه الترمذي برقم (1301) كتاب البيوع باب (ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام).
وأخرجه النسائي برقم (4669) كتاب البيوع باب (بيع الخنزير).
وأخرجه ابن ماجه برقم (2167) كتاب التجارات باب (ما لا يحل بيعه) كلهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(1/36)
. وقال -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه "(1) والله أعلم.
" لماذا أراد اليهود قتل عيسى ـ عليه السَّلام ـ؟ " :
[س 20]: لماذا أراد اليهود قتل عيسى -عليه السلام-؟
الجواب: لقد ذكر الله تعالى أن اليهود قتلوا كثيرا من الأنبياء، قال تعالى: ? أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ? وذلك لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، فلم يجدوا بدا من قتلهم أو رد رسالتهم، بل قد يقتلون الدعاة إلى الله كما قال تعالى: ? وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ? روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره.
وذكر ابن كثير(2) عند قوله تعالى: ? وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ? إن الله لما بعثه بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات التي أكرمه الله بها، وكذبوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى -عليه السلام- لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (3488) كتاب البيوع والإجارة، باب (في ثمن الخمر والميتة)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه أحمد في المسند (2 /247، 293، 322).
(2) انظر تفسير ابن كثير، سورة النساء (1 /492).(1/37)
ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان مشركا ويقال لأهل ملته: اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط عليه، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فامتثل والي بيت المقدس وذهب وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى -عليه السلام- وهو في جماعة من أصحابه، فحصروه، فلما أحس بهم قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي، وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فألقى الله عليه شبه عيسى وأخذت عيسى سنة من النوم فرفع إلى السماء، فلما رأوا ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه، وتبجحوا بذلك وسلَّم لهم طوائف من النصارى ذلك، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، والله أعلم(1).
" وصف الإسلام لنبي الله عيسى ـ عليه السَّلام ـ " :
[س 21]: كيف وصف الإسلام نبي الله عيسى -عليه السلام- ومعجزاته؟
__________
(1) لقد لبث عيسى -عليه السلام- يجاهر بدعوته، ويجادل المنحرفين من كهنة وكتبة وفريسيين، ويدلهم على الله ويأمرهم بالاستقامة، ويبين فساد طريقتهم، ويفضح رياءهم وخبثهم حتى ضاقوا به ذرعا، فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم، فقالوا: إننا نخاف من عيسى أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، ويقصدون بدينهم ذلك التزييف الذي أدخلوه على شريعة الله من عند أنفسهم، فقال لهم رئيس كهنتهم يومئذ واسمه (قيافا): لئن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره، وكانت هذه فتوى من رئيس كهنة يهود، استباح بها قتل نبي الله عيسى -عليه السلام-، فأجمع عظماء يهود وأحبارهم على قتله. انظر كتاب: مكايد يهودية عبر التاريخ ص 32 لمؤلفه عبد الرحمن حسن الميداني.(1/38)
الجواب: لقد ذكر الله تعالى كيف حملت به أمه من غير زوج بقوله: ? فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا? بعد ما قال لها الملك: ? إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ? وهذه صفة مدح وثناء؛ حيث زكاه قبل أن تعلق به أمه، ثم لما ولدته أمه ناداها وهو في المهد، أو قبل أن يمهد بقوله: ? أَلَّا تَحْزَنِي ? إلى قوله: ? فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ? ثم حكى عنه لما أتت به قومها تحمله أنه تكلم بقوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ إلخ، فوصف نفسه بالعبودية، وأن الله آتاه الكتاب وهو الإنجيل، وجعله من الأنبياء، وأنه جعله مباركا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة وبر والدته، وجنبه صفة الجبروت والشقاء، وسلم عليه وقت الولادة والموت وبعد البعث.
وقد ذكر الله تعالى أنه أعطاه الآيات البينات والمعجزات الباهرات التي تؤيد صدقه، وأنه مرسل من ربه، فذكر أنه يخلق من الطين طيرا بإذن الله، يطير حتى إذا غاب عن الأعين سقط ميتا، ليعلم الفرق بين خلق الله وخلق عبده، ثم ذكر أنه يبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، ويبرئ الأبرص الذي في جلده بياض يصعب علاجه، وأنه يحيي الموتى بإذن الله، وأنه يخبرهم ببعض ما يخفونه في بيوتهم مما يأكلونه أو يدخرونه، وأنه يصدق التوراة التي أنزلت على موسى، وقد أحل لهم بعض ما حرم عليهم، وأنه أيده -تعالى- بروح القدس وحماه عن كيد اليهود، ورفعه إليه، وذكر في الحديث أنه في السماء، وسوف ينزل في آخر الدنيا، ويحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه يضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام(1)
__________
(1) كما أخرج ذلك البخاري برقم (3448) كتاب أحاديث الأنبياء باب (نزول عيسى ابن مريم -عليهما السلام-).
وأخرجه مسلم برقم (242) كتاب الإيمان، باب (نزول عيسى ابن مريم حاكما).
وأخرجه أحمد في المسند (2 240) كلهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وأخرجه أبو داود برقم (4324) كتاب الملاحم، باب (خروج الدجال) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وغيره كالترمذي وابن ماجه، انظر صفحة 47.(1/39)
ونحو ذلك مما أخبر الله عنه، كما وصفه بأنه روح من الأرواح التي خلقها، وأنه كلمته التي ألقاها إلى مريم، وأن مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن، فكان، والله أعلم.
" هل عيسى ـ عليه السلام ـ الآن في الجنة كما يدعي النصارى؟ " :
[س 22]: هل عيسى -عليه السلام- الآن في الجنة كما يدعي النصارى ؟
الجواب: قد ذكر الله أنه رفع عيسى إليه في قوله -تعالى- : ? مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ? وقوله:
? بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ? وهو في السماء الثانية، ومعه يحيى بن زكريا؛ وهما ابنا الخالة كما في حديث الإسراء الذي رواه البخاري في صحيحه عن أنس، ثم إن عيسى بعد أن رفع إلى السماء أصبح كغيره من الأنبياء الذين رفعوا، ووجدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرج به إلى السموات، فقد لقي آدم في الأولى، و يحيى و عيسى في الثانية، و يوسف في الثالثة، و إدريس في الرابعة، و هارون في الخامسة، و موسى في السادسة، و إبراهيم في السابعة، ولم يذكر بقية الأنبياء(1) وقد ذكر الحافظ في الفتح: أن المراد أرواحهم، فإن أجسادهم قد دفنت في الدنيا. ولا شك أن عيسى رفع جسده إلى السماء(2)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (349) كتاب الصلاة، باب (كيف فرضت الصلوات في الإسراء). ومسلم رقم (259) كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السموات وفرض الصلوات. وأحمد في المسند (3/ 8، 149). كلهم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الروايات التي ذكرت أماكن الأنبياء في السماوات تختلف من رواية إلى أخرى، وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى (4/8) أن الرؤية التي رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنبياء ليلة المعراج هي رؤية أرواحهم مصورة في صور أبدانهم.
(2) عيسى ابن مريم حي لم يمت حتى الآن، ولم يقتله اليهود، ولكن شبه لهم، بل رفعه الله إلى السماء ببدنه وروحه، وهو الآن في السماء (انظر فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية 3 /222).(1/40)
فلعله بعد أن رفع بقي كالملائكة لا يحتاج إلى أكل طعام ولا شراب، ولا تحسب السنوات التي مرت به من عمره، فإذا أنزل عاد إلى حياته قبل أن يرفع، أي أصبح مثل بني آدم في الأكل ونحوه، فأما قول النصارى (إنه في الجنة) فيكذبه ما ورد في حديث المعراج المذكور، وغيره من أنه في السماء الثانية، ولا شك أن الجنة في أعلى عليين، أي في السماء السابعة أو فوقها، والله أعلم.
" الإيمان بعيسى جزء من أحد أركان الإيمان " :
[س 23]: هل الإيمان بعيسى -عليه السلام- يكفي لمرضاة الله، والفوز بالجنة، والنجاة من النار؟
الجواب: الإيمان بعيسى جزء من أحد أركان الإيمان التي هي أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلخ، فالإيمان بالرسل مجمل؛ فيدخل فيهم عيسى -عليه السلام- ويجب الإيمان بما ورد في الكتاب والسنة من التفصيل عنه من كونه ابن مريم، وأنه خلق بكلمة الله، وأنه روح من الأرواح التي خلقها، وأنه أيده بالمعجزات التي ذكر بعضها في القرآن، وكذا ما ورد في السنة كحديث عبادة المرفوع، وفيه: " وإن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه "(1)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3435) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا). عن عبادة رضي الله عنه، وهو جزء من قوله -صلى الله عليه وسلم- : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته إلخ.. .
وأخرجه مسلم برقم (28) كتاب الإيمان، باب (الدليل على أن من مات على التوحيد...). وأحمد في المسند عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(1/41)
. وإذا كان الإيمان بعيسى ورسالته أحد أركان الإيمان، فإنه لا يكفي الإيمان به عن بقية أركان الإيمان الستة، وعن أركان الإسلام وبقية شرائع الدين، فلا يحصل رضا الله تعالى، والفوز بجنته والنجاة من النار إلا بكمال الإيمان والعمل بشرائع الدين، مع التصديق بالرسل كلهم، وصحة ما ذكر الله عنهم من القصص والأخبار، مع الإيمان بالبعث والجزاء ومع العمل الصالح وترك الشرك والبدع والمحرمات، والله أعلم.
" مدة دعوة عيسى ـ عليه السلام ـ قبل رفعه " :
[س 24]: كم كانت مدة دعوة عيسى -عليه السلام- قبل رفعه إلى السماء ؟
الجواب: المشهور أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة كما ذكره ابن كثير(1) في صفة عيسى -عليه السلام- عند تفسير قوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? حيث ذكر أن في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة : " أنه يمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون " رواه أحمد وأبو داود، ورواه ابن جرير عند هذه الآية(2)
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة النساء (1/96) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2 /406، 437). وأبو داود برقم (4324) كتاب الملاحم، باب (خروج الدجال)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج ابن جرير هذا الحديث برقم (10835) في معرض تفسيره هذه الآية: ?وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? سورة النساء (4 /159).(1/42)
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم : " أنه يمكث سبع سنين "(1) قال ابن كثير(2) : فيحتمل- والله أعلم- أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة: مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثون. اهـ.
وكذا ذكر في النهاية(3) التي في آخر تاريخه 1 / 125 حيث ذكر رواية الأربعين ورواية السبع ثم قال: فهذا مع هذا مشكل، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، ويكون ذلك مضافا إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره آنذاك ثلاثا وثلاثين سنة على المشهور(4) والله أعلم.
" الجواب الشرعي لفرية أن عيسى ثالث ثلاثة " :
[س 25]: يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ? إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ? يقول بعض النصارى: إن هذه الآية تؤيد ما نعتقد به؛ وهو أن عيسى ثالث ثلاثة (الأب- الابن- الروح القدس)، فما الجواب الشرعي- سدد الله خطاكم- عن هذه الفرية؟
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2940) كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (في خروج الدجال ومكثه في الأرض) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) انظر تفسير ابن كثير، سورة النساء (1/501).
(3) انظر البداية والنهاية لابن كثير.
(4) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني- رحمه الله- في الفتح (6/ 569): واختلف في عمره حين رفع، فقيل: ابن ثلاث وثلاثين: وقيل: مائة وعشرين.
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 84) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط: إن ما ذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة لا يعرف له أثر متصل يجب المصير إليه.(1/43)
الجواب : هذا قول باطل لا تدل عليه الآية، ولا يشير إليه ظاهرها، فإن الله تعالى سماه في هذه الآية، ثم أبدل من هذا الاسم اسمه العلم وهو عيسى ثم نسبه إلى أمه مريم كما ينسب غيره إلى أبيه، ثم وصفه بأنه رسول الله، أي مرسل من ربه إلى بني إسرائيل، ثم عطف عليه وصفه بأنه كلمة الله أي خلقه بقوله (كن)، كما خلق بهذه الكلمة آدم بدون أب ولا أم، ثم وصفه بأنه روح من الأرواح التي خلق الله تعالى.
ففي الآية ثلاثة أسماء وثلاث صفات له -عليه السلام- فتسمية عيسى بابن مريم يبطل قولهم بأنه ابن الله، فقد نسب إلى أمه مريم، ثم وصفه بأنه رسول الله، أي مرسل منه كسائر الرسل الذين حمَّلهم شريعته، وبعثهم إلى خلقه للدعوة إلى عبادة الله تعالى، ثم ذكر أنه كلمة الله التي بعث بها الملك، فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى رحمها فعلقت به، ثم ذكر أنه روح منه، وهذه إضافة تشريف، أي كبيت الله وناقة الله، فهو روح من خلق الله تعالى، وأما روح القدس الذي قال الله تعالى عنه: ? وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ? فالمراد به جبريل -عليه السلام- وهو ملك الوحي الذي ينزل على الأنبياء وهو مخلوق لله تعالى كسائر الملائكة، والله أعلم.
" إقامة الحجة على النصارى " :
[س 26]: لقد بشر عيسى -عليه السلام- برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ونبوته، فهل هذا كاف لإقامة الحجة على النصارى؟(1/44)
الجواب: قال الله تعالى: ? وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ? عيسى -عليه السلام- هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد قام خطيبا في الملأ من بني إسرائيل مبشرا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، فأحمد من أسماء نبينا -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين عن جبير بن مطعم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب "(1). وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمي لنا نفسه أسماء فقال: " أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة ونبي الرحمة "(2)وقد قال تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3532) كتاب المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقول الله -عز وجل-: ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ?[الفتح 29] وقوله: ? مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ?[الصف 6]
وأخرجه مسلم برقم (2354) كتاب الفضائل، باب (في أسمائه -صلى الله عليه وسلم-).
وأخرجه أحمد في المسند (4 /80، 81، 84).
وأخرجه الترمذي برقم (2849)، كتاب الأدب باب (ما جاء في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم-).
وأخرجه الدارمي برقم (2673) كتاب الرقاق باب (في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم-) كلهم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم برقم (2355) كتاب الفضائل باب: (في أسمائه -صلى الله عليه وسلم-).
وأخرجه أحمد في المسند (4/ 395، 404، 407) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(1/45)
? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ? وروى ابن إسحاق عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: " يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى "(1) وقد روى الإمام أحمد نحوه عن أبي أمامة وغيره(2) أي أنا الذي بشر بي عيسى في هذه الآية. فإذا كان عيسى قد بشر به، وقد وجدوه مكتوبا عندهم في كتبهم فقد قامت الحجة عليهم، ولا عذر لهم في تركهم اتباعه. والله أعلم(3)
__________
(1) خرجه أحمد في المسند (4W، 128).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (8F).
وأخرجه البيهقي في الدلائل (1 /80، 81) كلهم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد في المسند (2 / 5 ) عن أبي أمامة رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 /600). والبيهقي في الدلائل (1 /83).
(3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) نصوصا كثيرة جدا في إثبات رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فليراجع (5/ 250) من أراد التوسع، ولعلي أكتفي بذكر مقالة واحدة ذكرها شيخ الإسلام (5/ 278) من سفر دانيال، حيث قال -رحمه الله- في البشارة الثالثة: (وقال دانيال النبي- أيضا: سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم، ويرد إليهم ملكهم، ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فقال دانيال: فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليكم يا دانيال، إن الله تعالى يقول: إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ومن بعد الصدق إلى الكذب، فسلطت عليهم بخت نصر، فقتل رجالهم وسبا ذراريهم، وهدم بيت مقدسهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم، ولا مقيلهم عثراتهم، فلا يزالون من سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبي بني إسماعيل، الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي فبشرها، فأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أُسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء، حتى يعلو فأدنيه، وأسلم عليه وأوحي إليه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظا لما استودع، صادعا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادي، ويخبرهم بما رأى من أيامي فيكذبونه ويؤذونه) سفر دانيال، الإصحاح التاسع كله، والعهد القديم (1003- 1004). ولعل هذا النص الواضح البين فيه كفاية لطالب الحق ومتبع، الهدى نسأل الله الهداية للجميع.(1/46)
.
" حكم أهل الفترات " :
[س 27]: هل من مات من النصارى، وهو لم يسمع عن الدين الإسلامي من أهل النار ؟ وما الحكم إذا كان قد سمع أخبارا غير صحيحة عن الدين الإسلامي، ومات على حاله، ولم يسلم بسبب ما سمع؟
الجواب: من لم تبلغه الدعوة ولم يسمع بالإسلام أصلا فحكمه حكم أهل الفترات الذين لم يبعث إليهم رسول، ولم يصل إليهم خبر الرسالة، والصحيح فيهم أنهم يختبرون في الآخرة، فروى أحمد في المسند عن الأسود بن سريع، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فيأخذ مواثيقهم ليطيعن، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فلو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما "(1). وفي حديث عنده عن أبي هريرة، قال في آخره: " فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها "(2). وفي مسند أبي يعلى عن أنس مرفوعا: " يؤتى بأربعة: بالمولود وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تعالى لعُنُقٍ من النار. ابرز، ويقول: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنى ندخلها، ومنها كنا نفر؟ ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار "(3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (4 /24) عن الأسود بن سريع رضي الله عنه. وصححه الألباني وهو في صحيح الجامع رقم (881) والسلسلة الصحيحة رقم (1434).
(2) أخرجه أحمد في المسند (4 /24) بعد الحديث السابق. وصححه الألباني وهو في صحيح الجامع الصغير رقم (881)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1434).
(3) أخرجه أبو يعلى في مسنده (7•) رقم (4224) طبعة حسين سليم أسد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7 /216) وقال: رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح.(1/47)
. وقد وردت فيهم أحاديث ذكرها ابن كثير(1) عند قوله تعالى:
? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ? وذكرها ابن القيم في طريق الهجرتين في طبقات المكلفين(2).
ولا شك أن دين الإسلام قد انتشر في أول ظهوره وسمع به أهل المشرق والمغرب، وبلغ ما بلغه الليل والنهار، فلا عذر لمن سمع به وعاند ولم يقبله، ولا عذر أيضا لمن سمع أخبارا سيئة عن الإسلام والمسلمين فإن عليه أن يبحث ويسأل، فإذا لم يفعل مع القدرة اعتبر مخلا بالواجب عليه، والله أعلم.
" نصيحة للمسلمين عامة " :
[س 28]: يتعرض- حفظكم الله- أبناء المسلمين المقيمون في أمريكا وأوربا إلى حملات تنصيرية من قبل النصارى، حيث يأتون إلى المسلمين ويطرقون أبوابهم من أجل دعوتهم إلى عبادة عيسى -عليه السلام- وأنه المخلص، وأنه صلب وضحى من أجل الناس لتغفر ذنوبهم والعياذ بالله، فما نصيحتكم إلى أبناء المسلمين لمواجهة ذلك التيار النصراني؟ وما الكتب التي تنصحونهم بها؟
الجواب: نصيحتنا للمسلمين عموما أن يتعلموا دين الإسلام، وأن يجتهدوا في معرفة أدلة الشهادتين وشروطهما، وما تضمنه كل منهما، ويتعلموا معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أيده الله به من البراهين والآيات البينات؛ ليكونوا على يقين من صحة دينهم الذي رضيه لهم، وولدوا عليه وأدركوا عليه آباءهم، فمتى دعاهم النصارى إلى النصرانية كان معهم علم يردون به على أولئك الدعاة ويبطلون دعوتهم.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة الإسراء (3 /27).
(2) انظر كتاب طريق الهجرتين.(1/48)
ولا بد أيضا من تعلم ما عليه النصارى الآن من الدين المبدل، وما فيه من الاختلاف والاضطراب، ومنه تفاوت الأناجيل التي بأيديهم، وكثرة ما فيها من الاختلاف، مما يدل على أنها محرفة مبدلة عن الإنجيل الذي نزل على عيسى ثم لا بد من معرفة التوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، وأن عيسى بريء من المشركين وقال: ? اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ? وأن عبادة عيسى أو محمد أو غيرهما من الأنبياء أو الملائكة أو الصالحين شرك بالله لا يغفره الله للمشركين، وأن عيسى -عليه السلام- رفع إلى السماء ولم يصلب ولم يقتل، ولكن شبه لهم.
وننصح الجاهل من المسلمين وأبناءهم أن لا يسافر إلى بلاد النصارى، حتى لا يتعرض لتلك الدعايات ولا ينخدع بالمنصرين، وما يزعمونه من أنهم على حق، وأن دينهم هو الباقي، وأن عيسى معترف به عند الجميع.
وننصح من سافر أن يختار البقعة التي يتواجد لديها المسلمون، ويتمكنون من إظهار دينهم والدعوة إليه.
وننصح بقراءة كتاب ابن القيم: هداية الحيارى من اليهود والنصارى، وكتاب: الجواب الصحيح في الرد على عباد المسيح، وكتاب ابن معمر في الرد على عباد الصليب، وكتاب: إغاثة اللهفان، ونحوها من الكتب المفيدة، والله أعلم(1)
__________
(1) ومن أعجب ما رأيت في أمريكا، تطوع شباب في العشرينات للدعوة إلى دينهم، مع العلم أن كثيرا من الأمريكيين لا يرغبون بسماع نصائحهم، بل يغلقون الأبواب في وجوههم.
وأذكر مرة أن شخصا أمريكيا كان متحمسا جدا لدعوتنا إلى النصرانية؟! وكان يحمل معه الإنجيل يقرأ منه علينا. فقلت له: لا بأس بالحوار لكن لنضع نقاطا نتحدث عنها، فاتفقنا على مسألتين كي نتحاور فيهما، الأولى: أعيسى -عليه السلام- إله أم نبي؟ والثانية: أمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبي أم لا؟
ثم بدأ هو بالكلام وقال: يجب عليكم أن تطيعوا القرآن، فاستغربنا كلامه، فقلنا له: نحن نطيع ونطبق القرآن إن شاء الله، ولكن ماذا تقصد بكلامك هذا؟ فقال: اقرؤوا قول الله تعالى: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ? فقلت له: إن هذه الآية موجهة لأهل الكتاب اليهود والنصارى وليست موجهة للمسلمين، ثم هل أنت تؤمن بالقرآن الكريم؟ فقال: لا. فقلت له: كيف تدعونا إلى شيء أنت لم تؤمن به؟! فوقع في موقف محرج جدا، وقام من المجلس، علما بأننا لم نبدأ الحوار معه، ونظرا لذلك الموقف لم يرد بدء الحوار فحاولنا معه ولكنه أصر على الخروج، وعندما أعطيناه بعض الرسائل عن الإسلام لم يأخذها وقال: أنا على الدين الحق، ولا أريد معرفة الإسلام؟ ولأن الكنيسة تمنع أن نأخذ أي كتاب آخر غير كتب النصرانية. فالحمد لله فقد أقيمت عليه الحجة، قال الله تعالى: ? وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ?(1/49)
.
" تفسير السلف لقوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? " :
[س 29]: ما تفسير السلف- رحمهم الله- لقوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? وهل معنى الآية أنهم لا يؤمنون بعيسى -عليه السلام- الآن؟
الجواب: ذكر المفسرون فيها قولين:
الأول: أن كل فرد من بني إسرائيل من اليهود أو النصارى لابد أن يؤمن بعيسى ويصدق بأنه نبي رسول، ويترك ما كان يعتقده فيه من أنه ابن بغي، أو أنه ابن الله أو ثالث ثلاثة، ويكون هذا الإيمان عند الاحتضار؛ فكل من احتضر فلابد أن يؤمن به ويصدقه في قوله: ? إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ? حتى ولو قتل أو مات فجأة، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه ولا ينقذه من النار؛ لقوله تعالى: ? فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ?.(1/50)
والقول الثاني: - وهو الأرجح- أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل في آخر الزمان، وأن أهل الكتاب سوف يؤمنون به قبل موته عند نزوله أي أهل الكتاب في ذلك الزمان لابد أن يؤمنوا به؛ لأنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وقد تواترت الأحاديث في نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، وأنه يحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكر أكثرها الإمام ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية من سورة النساء(1) وكذا في البداية والنهاية في قصة عيسى(2) وفي أشراط الساعة، وذكرها غيره ممن كتب في علامات الساعة(3) والله أعلم.
" دعوة تقارب الأديان السماوية " :
[س 30]: ما الحكم الشرعي في عمل بعض الجمعيات المحسوبة على الإسلام (دعوة إلى تقارب الأديان السماوية اليهودية- النصرانية- الإسلام) حيث يقولون: إن الإنسان يستطيع أن يختار ما يريد من هذه الأديان، وليس ملزما بدين محدد، وهذا يكثر وللأسف في بلاد أمريكا وأوربا. نرجو توضيح هذه المسألة بالتفصيل، أثابكم الله وبارك فيكم؟
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، سورة النساء (1 /496).
(2) انظر البداية والنهاية، صفة عيسى -عليه السلام- وشمائله وفضائله (2/89).
(3) ككتاب أشراط الساعة لمؤلفه: يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل، وصحيح أشراط الساعة لمؤلفه: مصطفى أبو النصر الشلبي، والصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة لمؤلفه: مصطفى العدوي، واتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم، وأشراط الساعة للعلامة: حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- آمين. وغيرها كثير.(1/51)
الجواب: هذه الجمعيات- وللأسف- لا ينبغي تعدادها مع المسلمين، فإن دعوتها إلى التقارب إنما هي إلغاء الإسلام من أن يكون هو الدين الحق والهدى المستقيم، وذلك أن الله تعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، وجعل دينه هو الدين الحق، الواجب الاتباع كما قال تعالى: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? وقال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ? أي إلى الناس كلهم، وفي القرآن نداء جميع الناس كقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ? وقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ? وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ? ونحو ذلك كثير، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " بعثت إلى الناس كافة "(1)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (438) كتاب الصلاة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو جزء من قوله -صلى الله عليه وسلم-: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة
وأخرجه مسلم رقم (3) كتاب المساجد، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
وأخرجه أحمد في المسند (3 304).
وأخرجه النسائي برقم (432) كتاب الغسل، باب (التيمم بالصعيد).
وأخرجه الدارمي برقم (1361) كتاب الصلاة، باب (الأرض كلها طهور ما خلا المقبرة والحمام) كلهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(1/52)
. وفي رواية: " وبعثت إلى كل أحمر وأسود "(1).
فعلى هذا لا دين إلا الإسلام، وهو الذي نسخ الأديان السابقة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي "(2). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار "(3) رواه مسلم وروى الإمام أحمد نحوه عن أبي هريرة(4).
__________
(1) هذا اللفظ في رواية مسلم التي سبق ذكرها حديث رقم (3) كتاب المساجد.
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/87)، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ. وصححه الألباني.
(3) أخرجه مسلم برقم (153) كتاب الإيمان، باب (وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه أحمد في المسند (2 /317) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/53)
فإذا عرف أن جميع الأمم مخاطبون بالقرآن، ومكلفون باتباع هذا النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل؛ عُرف أن من لم يدخل في هذا الدين بل كفر بالقرآن وكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لم يقبل رسالته، فإنه من أهل النار، فعلى هذا ينكر على دعاة التقريب بين الأديان الذين قصدهم وجود المودة والمحبة وتبادل المنفعة بين جميع الأمم، وعدم الإنكار من بعضهم على بعض، وذلك هو الموالاة التي نهى الله عنها بقوله: ? لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ? وهكذا ما يفعله ويدعو إليه بعض أهل السنة من التقارب مع الرافضة، فإنه دعوة إلى التخلي عن عقيدة أهل السنة والجماعة واندماج مع المبتدعة، وعدم إنكار لما هم عليه من البدع، وكل ذلك من الموالاة التي حرمها الله تعالى(1)
__________
(1) أقول وبالله التوفيق: أما حكم التقريب مع الرافضة فليراجع كتاب الدكتور ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة فهو مرجع مفيد ومؤيد بالأدلة والبراهين.
وأما مسألة حرية اختيار الدين التي ينادي بها الكفار وأعداء الدين وبعض جهلة المسلمين، فهي مردودة على قائلها؛ لأن المسلم الموحد لا يدعو إلى مثل هذه الأباطيل لما تحتوي عليه هذه الدعوة من نقض أصول الإسلام التي جاء بها نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم-. ومناقضة ما جاء به القرآن الكريم حيث يقول المولى جل وعلا: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ? لأن مفهوم الآية: الدين المقبول والمرتضى عند رب العباد هو دين الإسلام، وقوله تعالى: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? وهذه الآية تبين أن من تعبد الله بغير دين الإسلام فلن يقبل منه عمله؛ بل هو والعياذ بالله من الخاسرين، ويؤكد على ذلك أيضا قوله تعالى: ? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ? لماذا؟ لأن من عبد الله على غير ملة محمد -صلى الله عليه وسلم- فعبادته مردودة عليه حيث أن جميع الديانات التي كانت قبله -صلى الله عليه وسلم- منسوخة ببعثه، فمن لم يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا فهو خاسر في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
وللفائدة نقلت فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة سماحة الوالد الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونائبه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وعضوية أصحاب الفضيلة العلماء: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، حفظهم الله جميعا في مسألة (وحدة الأديان) برقم (19402) وتاريخ 25 1 1418 هـ.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات، وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى (وحدة الأديان): دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب، وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي:
أولا: إن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? والإسلام بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
ثانيا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: القرآن الكريم هو آخر كتب الله نزولا وعهدا برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبد الله به سوى: القرآن الكريم قال الله تعالى: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ?
ثالثا: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نسخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: ? فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ? وقوله جل وعلا : ? فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ? وقوله سبحانه: ? وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?
وعلى هذا فما كان منها صحيحا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي رواه أحمد والدارمي وغيرهما.
رابعا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء والمرسلين كما قال الله تعالى: ? مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ? فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حيا لما وسعه إلا اتباعه -صلى الله عليه وسلم- - وأنه لا يسع أتباعه إلا ذلك- كما قال الله تعالى: ? وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ? ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وحاكما بشريعته. وقال الله تعالى: ? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ?
كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ? وقال سبحانه: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? وغيرها من الآيات.
خامسا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافرا، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار كما قال تعالى: ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ? وقال جل وعلا: ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ? وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار
ولهذا: فمن لم يُكفّر اليهود والنصارى فهو كافر، طردا لقاعدة الشريعة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر).
سادسا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: (وحدة الأديان) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجر أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قوله سبحانه: ? وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ? وقوله جل وعلا: ? وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ?
سابعا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله،
والله جل وتقدس يقول: ? قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ? ويقول جل وعلا: ? وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ?
ثامنا: أن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد فترضى بالكفر بالله -عز وجل-، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعا، محرمة قطعا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
تاسعا: وتأسيسا على ما تقدم:
1- فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلا عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها ونداوتها والانتماء إلى محافلها.
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق (والقرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة والإنجيل).
3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يُعبد الله به غير دين الإسلام وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة: لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك. كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله، لأنها عبادة غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? بل هي: بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (22 162): ليست- أي: البيع والكنائس- بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفارا، فهي بيوت عبادة الكفار.
عاشرا: ومما يجب أن يُعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة قال الله تعالى: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: ? وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ?
* وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوى الفكرية الضالة: (وحدة الأديان). ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سببا في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم. نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا.
وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
وهذا رد لسماحة الإمام الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله- على أحد الذين ينادون بخلط الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، إنه المدعو روجيه الجارودي، وقد كان رد العلامة ابن باز شافيا كافيا، وضعا للحق في نصابه فجزاه الله عنا خير الجزاء:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد كثر في الآونة الأخيرة في الصحف، والمجلات، الكلام عن الرجل المسمى (روجيه جارودي) الشيوعي الفرنسي، الذي ادعى أنه دخل الإسلام عن اقتناع ومحبة، ففرح بذلك بعض المسلمين، وأظهروا حفاوة به، وأكرموه، ومنحوه الثقة، وجعلوه عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد في رابطة العالم الإسلامي، وصار يحضر الندوات واللقاءات التي تعقد في العالم الإسلامي عن الإسلام متحدثا ومناظرا. ثم لم يلبث أن تكشفت حقيقته، وافتضح أمره، وبان ما كان يخفيه في صدره من حقد على الإسلام والمسلمين، وأنه لم يزل على كفره وإلحاده، فانضم إلى أشكاله من المنافقين الذين قال الله فيهم: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وآخر ما نشر عنه الحوار الذي أجرته معه مجلة المجلة في عددها (839) حيث جاء فيه أنه لم يتخل عن اعتقاداته الخاصة، وأنه لم يعتنق الإسلام الذي عليه المسلمون، إنما اعتنق إسلاما آخر تخيله بذهنه، زعم أنه خليط من الأديان: اليهودية والنصرانية، ومن الإسلام الذي تخيله هو لا الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن هذا الإسلام المزعوم هو دين إبراهيم -عليه السلام-، فإبراهيم بزعمه هو أول المسلمين، فالإسلام بدأ من عهد إبراهيم، قال: ولم يكن إبراهيم يهوديا، ولا مسيحيا، ولا مسلما بالإسلام التاريخي للكلمة أي الذي عليه المسلمون اليوم، وكذب في ذلك، فإن الإسلام الذي هو توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سوأه هو موجود من قبل إبراهيم من عهد آدم ونوح والنبيين من بعده، وهو دين جميع الرسل، وهو الذي بعث الله به نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى:
? ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? وهو دين المسلمين اليوم من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وقال تعالى: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ? وقال تعالى: ? قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? ولم يكن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليطا من الحق والباطل كما زعم هذا الضال، بل كان دينه التوحيد الخالص لله -عز وجل- والبراءة من الشرك وأهله، قال تعالى: ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ? وهو الدين الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وسلم-، ويرى هذا الضال أن البراءة من الكفر والشرك وما عليه اليهود والنصارى من الوثنيات والتحريفات الباطلة دين تفرقة؛ لأن الإسلام في مخيلته معناه التوحيد والتقارب بين المسلمين، وغير المسلمين، يريد إسلاما يجمع بين المتناقضات والمتضادات ويكفر المسلمين الذين يخالفونه في ذلك.
ويرى أيضا أن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسنة انتهت صلاحيتهما في هذا الزمان، لأنهما كانا لزمان معين، وأنه يجب إحداث فقه جديد وهذا معناه ترك دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يصلح لهذا الزمان وإحداث دين جديد، وهذا كفر بعموم رسالة الرسول لكل زمان ومكان، ولكل جيل، ولكل البشرية إلى أن تقوم الساعة، وكفر بختم الرسالة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وكفر بصلاحية رسالته لكل زمان ومكان، وهذا كفر صريح، وقول قبيح مناقض لقول الله سبحانه: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? وقوله سبحانه: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ? وقوله -عز وجل-: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?وقوله سبحانه: ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ?
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة متفق على صحته . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إجماعا قطعيا على أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -صلى الله عليه وسلم- هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وهو خاتم النبيين لا نبي بعده.
ثم يتناول هذا الملحد الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة وهو الصلوات الخمس الثابت بالكتاب والسنة والمعلوم من الدين بالضرورة، فيرى أن الصلوات ثلاث صلوات في اليوم والليلة لا خمس صلوات، ويزعم أن هذا هو ما يدل عليه القرآن. وهذا القول الباطل بل الكفر الصريح ناتج عن كفره بالسنة التي بينت الأوامر التي جاءت في القرآن ومن ذلك الصلوات، فقد بينت السنة الصحيحة المتواترة أنها خمس صلوات في اليوم والليلة وأجمع المسلمون على ذلك.
ثم بين هذا الضال الصلاة التي يعنيها، وأنها ليست الحركات التي هي عبارة عن القيام والقراءة والركوع والسجود، إنما هي التفكير العميق في الذات الإلهية. وذلك يستغرق عنده ساعات الليل والنهار الأربع والعشرين ساعة. وهذه صلاة الباطنية الملاحدة لا صلاة الأنبياء وأتباعهم، وهذا القول كفر صريح وردة عن الإسلام عند جميع أهل العلم، ثم تناول الركن الرابع من أركان الإسلام وهو الصيام، وقال: إنه ليس هو الامتناع عن الأكل والشرب، إنما هو معاني الصيام وأهدافه، ثم إنه أعفى سكان المناطق القطبية من الصيام، لأنه لا يمكن تطبيقه في مناطقهم؛ لأنه ليس عندهم طلوع فجر ولا غروب. وهذا تكذيب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين في أن الصيام ترك الأكل والشرب وسائر المفطرات. قال تعالى: ? وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ? وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم متفق على صحته.
فمن أعظم منافيات الصيام الأكل والشرب، وأما الاقتصار على معاني الصيام وأهدافه، فليس صياما شرعيا، إنما هو صيام الباطنية الذين يقولون: الصيام هو كتم الأسرار، وهذا إلحاد في دين الله -عز وجل-، وكذلك لا يعفى أحد من الصيام في جميع أقطار الأرض؛ لأن أحكام الشريعة عامة للبشرية أينما كانت إنما يصوم المسلم حسب استطاعته. وكيفية صيام أهل المناطق القطبية قد بحثها علماء المسلمين قديما وحديثا وقرروا فيها رأيهم حسب ما ظهر من أدلة الكتاب والسنة. ثم إن هذا الملحد يجهل علماء المسلمين فيقول: قد عملت معهم عندما كنت عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد واكتشفت أنهم أناس جهلة، بل إنهم من أجهل الناس إطلاقا يرددون بطرق آلية الأحاديث النبوية وآراء فقهاء القرون الوسطى التي حفظوها عن ظهر قلب، ولا أعتقد أن لدي استعدادا للتعاون مع هؤلاء بشأن أي موضوع كان، بسبب الانطباعات السيئة التي تركوها في ذهني.
هذا شعوره نحو علماء الإسلام الذين اغتر الكثير منهم به، وأحسنوا به الظن وأكرموه وأشركوه معهم في مؤتمراتهم وندواتهم، وإنها لموعظة للعلماء أن لا يتسرعوا بمنح الثقة لكل من تظاهر بالإسلام، خصوصا من أمثال جارودي ممن عرفوا بالإلحاد والزندقة والشيوعية قبل ادعاء الإسلام حتى يتثبتوا في شأنه.
ومن كفر جارودي الصريح أنه يدعو إلى تعطيل حد السرقة، وتغيير مقادير المواريث، فيرى أن قطع يد السارق اليوم غير مناسب، وهذا اتهام للإسلام بالقصور وعدم صلاحيته لكل زمان ومكان. بل هو وصف لله سبحانه بالجهل، وأنه لا يعلم ما يجد في المستقبل وما يناسبه من العقوبة، فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق والسارقة جزاء بما كسبا، ثم ختم الآية بقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فهو سبحانه يشرع لكل ذنب من العقوبة ما يناسبه ويمنع وقوعه في كل زمان ومكان، ثم يقول: لو كنت قاضيا وجاءني أخ وأخت يتنازعان في قضية ميراث، لأعطيت البنت ضعف ما أعطي الذكر، وهذا مصادم لقوله تعالى في شأن الإخوة في آخرة سورة النساء: ? وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ? فهو اعتراض على الله في حكمه، وكفى بذلك كفرا وإلحادا.
ثم يدعو علماء الإسلام أن يتمردوا على شرع الله كما تمرد المسيحيون على البابا وثاروا في وجه الكنيسة، فهو يسوي بين الدين الحق الذي هو دين الإسلام، ودين الكفر الذي هو دين البابوات ورجال الكنيسة المغير لشرع الله.
وأخيرا فإن روجيه جارودي لا يحكم عليه بأنه مرتد عن دين الإسلام كما توهمه بعضهم، وإنما هو كافر أصلي، لم يدخل في الإسلام كما اعترف هو بذلك حيث يقول: (انتهيت إلى الإسلام دون التخلي عن اعتقاداتي الخاصة وقناعاتي الفكرية).
إن دين الإسلام لا يجتمع مع القناعات الإلحادية، ولا يجتمع مع اليهودية والنصرانية، لأنهما ديانتان محرفتان ومنسوختان بدين الإسلام الذي بعث الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، وأمره أن يقول: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?
وقال -صلى الله عليه وسلم- : والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار أخرجه مسلم في صحيحه كما تقدم. وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة وبذلك يعلم أنه لا يسع أحدا من هذه الأمة جنها وإنسها إلا اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقبل الله من أحد بعد بعثته إلا دينه، ودينه هو الإسلام وهو صالح لكل زمان ومكان، إلى أن تقوم الساعة، قال الله تعالى:
? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ?
وقال تعالى: ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وقال سبحانه: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? وقال تعالى: ? وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ?
وتقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار
وذلك أن الله سبحانه أخذ الميثاق على الأنبياء كلهم من أولهم إلى آخرهم بالإقرار بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعموم رسالته، وأنه لو بعث وأحد منهم حي وجب عليه اتباعه وطاعته ومناصرته، وهذا الحكم يتناول أتباعهم أيضا، فإن من زعم أنه يتبع موسى وعيسى يجب عليه أن يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعدما بعثه الله ويتبعه؛ لأن رسالته ختمت الرسالات وشريعته نسخت الشرائع، ولم يبق دين مقبول عند الله سوى الدين الذي بعثه الله به، كما قال تعالى: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? وهذا الحكم و(3) على جميع المكلفين من الجن والإنس إلى يوم القيامة، كما تقدم ذلك في قوله سبحانه آمرا نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? الآية من سورة الأعراف. وتقدم قوله سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وقوله -عز وجل-:? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ? وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة متفق على صحته، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة، وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يثبتنا وإياهم على دينه، وأن يمنحنا جميعا الفقه فيه والاستقامة عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من شر أعداء الله ومكائدهم كالجارودي وأشباهه من سائر الملحدين والكافرين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(1/54)
والله أعلم.
" عيسى ـ عليه السلام ـ دعا إلى عبادة الله وحده مثل بقية الأنبياء " :
[س 31]: تعلمون- حفظكم الله- أن عيسى -عليه السلام- دعا إلى عبادة الله وحده مثل بقية الأنبياء الذين سبقوه نرجو توضيح الآيات التي ذكرت ذلك من القرآن والإنجيل.
الجواب: قال الله تعالى في سورة آل عمران حاكيا عن عيسى : ? وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? وقال تعالى في سورة المائدة: ? وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ? وقال تعالى في هذه السورة: ? مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ? وأخبر عنه في سورة مريم أنه قال: ? إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ? إلى قوله: ? وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? وقال تعالى في سورة الزخرف: ? وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? وقال تعالى في سورة الصف: ? وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا(1/55)
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ?.
وأما الإنجيل فقد نقل ابن القيم في (هداية الحيارى) في الوجه الخامس عن الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من قبل الناس، وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به . وفي إنجيل يوحنا: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاءكم وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكن مما يسمع به، ويكلمكم ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب . وفي موضع آخر: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي باسمي هو يعلمكم كل شيء. وفي موضع آخر: إني سائل له أن يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء. وفي موضع آخر: ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل . والفارقليط بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد، إما أحمد أو محمد أو محمود أو حامد ونحو ذلك(1). وفي موضع آخر: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا يثبت معكم إلى الأبد، ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه، ولست أدعكم أيتاما، إني سآتيكم عن قريب(2) إلى غير ذلك من النقول التي ذكرها ابن القيم وغيره، والله أعلم(3)
__________
(1) انظر (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم رحمه الله، الوجه الخامس ص 115.
(2) هداية الحيارى، في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم رحمه الله، الوجه الخامس ص 116.
(3) أقول وبالله التوفيق:
هناك نصوص تفند وتبطل عقيدة التثليث، وتبين أن عيسى -عليه السلام- دعا إلى التوحيد، ذكرها رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه: إظهار الحق (3;6) نقلا من الأناجيل: النص الأول: الإصحاح (17) فقرة (3) من إنجيل يوحنا: وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته فبين عيسى -عليه السلام- أن الحياة الأبدية عبارة أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي، وأن عيسى -عليه السلام- رسوله، وما قال: إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي، وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله جسم.
النص الثاني: الإصحاح (12) فقرة (28) من إنجيل مرقس: فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين، فقال له الكاتب: جيدا يا معلم، بالحق قلت، لأنه الله واحد وليس آخر سواه.
تنبيه: حرف صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 م قول المسيح بتبديل ضمير المتكلم بضمير الخطاب، وترجم هكذا: الرب إلهك إله واحد وضيع بهذا التحريف المقصود الأعظم؛ لأن ضمير المتكلم هنا دال على أن عيسى ليس برب، بل عبد مربوب، بخلاف ضمير الخطاب، والظاهر أن هذا التحريف قصدي.
النص الثالث: الإصحاح (19) فقرة (16) من إنجيل متّى: وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي الصلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، فقال له: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالح إلا واحد وهو الله . فهذا القول يقلع أصل التثليث، وما رضي تواضعا أن يطلق عليه لفظ (الصالح) أيضا، ولو كان إلها لما كان لقوله معنى ولكان عليه أن يبين: (لا صالح إلا الأب، وأنا روح القدس) ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وإذا لم يرض بقوله الصالح ، فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلواتهم: يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح، لا تضيع من خلقت بيدك.
أقول وبالله التوفيق: إن هذه النصوص تؤيد ما قاله عيسى ابن مريم في القرآن كما قال الله تعالى: ? مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ? فعيسى دعا إلى عبادة الله وحده، وسيتبرأ مما عمله الضالون. نسأل الله العافية.
يسوع هو: عيسى -عليه السلام-، وهو مقلوب يسوع، وينطق بالعبرية، (يشوع) كما ذكر ذلك صاحب كتاب (إظهار الحق) في (3 736).(1/56)
.
" عيسى عبد لله تعالى مخلوق " :
[س 32]: إن حال النصارى هو عبادة عيسى فتجدهم يقسمون به، ويستعيذون به، ويلجأون إليه ويدعون ويذبحون له -عليه السلام-؛ لأنهم يعتقدون أنه المخلص، وأنه صلب من أجل البشر؛ ليكفر عن خطيئة آدم- -عليه السلام- إلخ تلك الاعتقادات، فما الرد الشرعي على مثل هذه العقائد المخالفة للدليل؟
الجواب: لا شك أن عيسى عبد لله تعالى مخلوق ؛ حيث إن أمه حملت به كما تحمل النساء ثم وضعته، كما قال الله تعالى: ? فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ? وهو الطلق الذي يحصل للنساء عادة عند الولادة، وأنه ولد صغيرا حتى جعلته أمه في المهد الذي هو معتاد للأطفال عند الولادة، ولا شك أنه ارتضع من الثدي، وأكل الطعام كسائر نوع البشر، كما قال تعالى: ? مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ? ومعلوم أن من يحتاج إلى أكل الطعام فهو ناقص، لا يصلح أن يكون هو الإله، ولأنه يحتاج إلى التخلي في الدنيا، وذلك عيب ظاهر ينافي صفة الألوهية والربوبية، ثم إن اليهود يدعون أنهم قتلوه، وصلبوه، وتوافقهم النصارى على ذلك، وذلك دليل عجزه فيما اعتقدوه، فإن القادر الإله الحق ينتقم ممن عصاه، أو حاربه فكيف يدعون أنه ابن الله، ثم يصلب ويؤذى، وربه يراه- وهو ولده بزعمهم- ولا ينتصر لولده؟(1/57)
ولا شك أن عمل النصارى في دعائهم له وذبحهم له، وحلفهم به ولجوئهم إليه دليل على سخافة عقولهم وقلة أفهامهم، وإلا فكيف يعظمون الصليب الذي صلب عليه إلههم ومعبودهم؟ فإن الأولى أن يحطموه ويحرقوه، ثم كيف يعظمون هذا الابن الذي عجز في زعمهم عن الانتقام لنفسه؛ فإنه أولى أن يعجز عن إجابة طلبهم وإنقاذهم من النار، وعن نصرهم على الأعداء؟ وكيف صلب ليكفر عن البشر خطيئة آدم؟ فإن آدم قد تاب كما قال تعالى: ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ? وكيف لم يبذل أحد من أولاد آدم نفسه ليكفر عن أبيه، وبقيت خطيئة آدم حتى جاء عيسى وبذل نفسه فداء لآدم؟ هذا كله دليل ضعف عقول هؤلاء المشركين.(1/58)
فأما تكلم عيسى وهو في المهد فإنه آية ومعجزة له، وقد تكلم غيره كصاحب جريج وغيره(1) وأما كون عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير ويحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، والأبرص، فإن هذه معجزات له تدل على نبوته وصدقه فيما يدعو إليه، كما أيد الله موسى باليد والعصى وفلق البحر ونحوها من المعجزات، والله أعلم(2)
__________
(1) أخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي، فجاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يمص إصبعه، ثم مر بأمة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت، ولم تفعل وأخرجه مسلم رقم (7، 8) كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأحمد في المسند .
(2) جاء في كتاب مناظرة بين الإسلام والنصرانية (ص 272) في الرد على عقيدة الصلب والفداء:
قال: وهذه المقولة... غير المعقولة، لا تصلح أساسا للتعامل البشري إذ أنها تنفي (المسؤولية الشخصية)، فكيف ارتضاها الله سبحانه، لكي تكون سنته في التعامل مع البشر؟
وتصوروا معي..
لو أن واحدا من البشر، ذهب إلى المحكمة متلبسا بجريمة قتل.. يده ملوثة بالدم.. وثبتت إدانته من كل وجه.. واعترف بأنه القاتل!! أفيحق له، أو لمحاميه، أن يدافع قائلا: أنا قتلت حقا، وأنا الذي اقتدته إلى ذلك المكان المهجور، وذبحته ولكن (فلانا) من الناس، أو غيره.. يتحمل عني هذه المسؤولية فحاكموه هو.. وحاسبوه هو..
هل هذا يجوز في عرف البشر وفي منطق البشر؟ فإذا كان البشر لا يرضونه لقضاتهم ولا لقضائهم-، مع أن قضاء البشر يحيط به القصور من كل جانب- أفيجوز ذلك أمام عدالة الله سبحانه وتعالى؟
من أراد التوسع في الرد على النصارى في عقيدة الصلب والفداء، فليراجع كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) (2 /108) تحقيق وتعليق د. علي بن حسن بن ناصر، د. عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، د. حمدان بن محمد الحمدان.(1/59)
.
" اعتراف عيسى بأن الإله هو اللَّه تعالى " :
[س 33]: هناك نص في إنجيل متى الإصحاح (27) فقرة (45، 46) يقول: ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة. ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني (أي: إلهي، إلهي لماذا تركتني؟). فهذا نص واضح صريح في تناقض الإنجيل لسببين بينين:
الأول: اعترافهم أن عيسى -عليه السلام- قال: إلهي، ولم يقل: أبي.
الثاني: كيف يكون أنزل ليصلب من أجل تكفير ذنوب البشر- كما يزعمون- ويصرخ بصوت عال: لماذا تركتني، معترضا على الأمر الذي من أجله أنزل؟
هل هناك تعليق أو إضافة لفضيلتكم- رعاكم الله- على هذا النص الموجود في الإنجيل؟
الجواب: هذا النص كغيره من النصوص في التوراة والإنجيل والقرآن كثيرة واضحة الدلالة على اعتراف عيسى بأن الإله هو الله تعالى، وهو ربه ورب الناس كلهم، فهو مثل قوله في سورة المائدة: ? مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ? وقوله في سورة آل عمران: ? إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ? وفي سورة مريم: ? وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ? وفي سورة الزخرف: ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ? كما أخبر بأنه مرسل من ربه في قوله تعالى: ? وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ? ونحو ذلك من الأدلة.
ويشهد بذلك العقل والنقل وكتب الله المنزلة على رسله قبل عيسى التي فيها تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد، وعن الند والشبيه والمثيل، وترد قول النصارى في عيسى(1/60)
وقد أطال علماء هذه الأمة في الرد عليهم، وبيان سخافة عقولهم؛ حيث زعموا أن الرب تعالى تمثل في عيسى وظهر للناس بصورة بشر يأكل ويشرب، ويحتاج إلى التخلي، أو اعتقاد أن عيسى ابن الله تعالى، وأنه مع ذلك قد خذله وسلط عليه أعداءه حتى ضربوه ووضعوا الشوك على رأسه وقتلوه، ثم صلبوه، وقد تخلى عنه أبوه الرب الذي بيده تصريف الكون، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا(1).
" نصوص في الإنجيل تثبت أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله " :
__________
(1) قال الإمام ابن القيم في كتابه القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) تخريج وتعليق: مصطفى أبو النصر الشلبي صفحة (212)، معلقا على هذا النص الوارد في إنجيل متى، الإصحاح السابع والعشرون (فقرة 45، 46): فكيف يجتمع هذا مع قولكم: إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه ويقتلوه رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟ وكيف يجزع إله العالم من ذلك؟ وكيف يسأل السلامة منه، وهو الذي اختاره ورضيه؟ وكيف يشتد صياحه ويقول: (يا إلهي لم أسلمتني) وهو الذي اختاره لنفسه؟ وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب وأهله؟ أم كان ربه عاجزا مقهورا مع اليهود؟
وقال رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) (3 741) معلقا على النص المذكور في إنجيل متى الإصحاح (27) فقرة (45): عندما صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إلهي لماذا تركتني؟ قال: وهذا القول الذي صدر عنه في آخر نفس من نفسات الحياة، ينفي ألوهية المسيح رأسا لا سيما على مذهب القائلين بالحلول أو الانقلاب؛ لأنه لو كان إلها لما استغاث إلى إله آخر بأن قال: إلهى إلهي: لماذا تركتني ولما قال: يا أبتاه في يدك أستودع روحي ولامتنع العجز والموت عليه.(1/61)
[س 34]: هناك نصوص في الإنجيل تثبت أن عيسى -عليه السلام- عبد الله ورسوله، وليس كما يدعي النصارى أنه ابن الله، مثال على ذلك: إنجيل متى الإصحاح (21) فقرة (11) يقول النص: فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من الناصرة الجليل.
إنجيل يوحنا الإصحاح (8) فقرة (40) يقول النص: ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله.
إنجيل يوحنا الإصحاح (17) فقرة (3) يقول النص: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته.
هل هذه حجة على النصارى حتى يؤمنوا ويعتقدوا أن عيسى -عليه السلام- عبد الله ورسوله كما وصفه القرآن الكريم؟ وما توجيهكم- رفع الله درجتكم- إلى النصارى الذين يغلون في عيسى وهم بذلك يخالفون كتابهم الإنجيل، ويخالفون القرآن والعقل والفطرة التي فطر عليها البشر؟(1/62)
الجواب: صحيح أن هذه نصوص جلية واضحة في أن عيسى -عليه السلام- عبد من خلق الله الذين أنشأهم وخلقهم كما يشاء، وقد مثله الله تعالى بآدم في قوله -عز وجل- : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? ولا شك أن عيسى -عليه السلام- إنما دعا إلى عبادة ربه لا إلى عبادة نفسه، وقد أخبر بني إسرائيل بأنه مرسل من ربه، وأنه أمرهم بعبادة الله الذي هو رب الجميع، وحيث إن النصارى الذين شاهدوا منه تلك المعجزات غلوا فيه بقولهم: ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ? أو بقولهم: ? الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ? فإنما حملهم على ذلك ما رأوا من المعجزات والآيات والبراهين التي أيده الله بها، مع أنها حصلت له بإذن الله تعالى لتبرهن على صدقه، كما أيد الله تعالى موسى -عليه السلام- بالمعجزات الدالة على أنه مرسل من ربه، فكان عليهم أن يقبلوا رسالته ويصدقوه في دعوته إلى توحيد الله تعالى، ونهيه عن الشرك والكفر، فأما اليهود -لعنهم الله تعالى- فقد رموا أمه بالبهتان، كما قال تعالى: ? وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ? وادعوا أنه ابن بغي ثم تسلطوا عليه، وراموا قتله، وشبه لهم وقبضوا على الشخص الذي شبه به فقتلوه، وظنوا أنهم قتلوا عيسى فردَّ الله عليهم بقوله: ? وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ?.
وبذلك بطل قول الطائفتين، وبقي القول الصحيح أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
" الصلاة والتسليم على الأنبياء " :
[س 35]: أيهما- سدد الله خطاكم- أفضل أن نقول: عيسى -عليه السلام- أو: -صلى الله عليه وسلم-؟(1/63)
الجواب: اشتهر أن الأنبياء السابقين يقال في حق أحدهم: -عليه السلام- أو عليهم السلام. وأن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- اختص بهذا اللفظ ؛ لقوله تعالى: ? صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ? ومع ذلك يجوز أن يقال في حق كل نبي من الأنبياء: -صلى الله عليه وسلم- أو عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الصلاة من الله تعالى هي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ويعم ذلك الأنبياء جميعا، وقد يجوز ذلك في حق غير الأنبياء من عباد الله الصالحين، إلا أن ذلك لا يتخذ عادة، بل يقتصر على الترضي والترحم، ودليل الجواز قوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ? والصلاة من الملائكة: الاستغفار، والصلاة من الآدميين: الدعاء، والله أعلم(1)
__________
(1) قال ابن القيم الجوزية في كتابه: (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) الباب السادس صفحة 254:
أما سائر الأنبياء والمرسلين فيصلى عليهم ويسلم. قال تعالى عن نوح: ? وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? وقال عن إبراهيم خليله: ? وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ? وقال في موسى وهارون: ? وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ? وقال: ? سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ? فالذي تركه سبحانه على رسوله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين، منهم مجاهد وغيره: وتركنا عليهم في الآخرين: الثناء الحسن ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا، ولا ينبغي أن يحكى هذا قولان للمفسرين كما يفعله من له عناية بحكاية الأقوال. بل هما قول واحد، فمن قال: إن المتروك هو السلام عليهم في الأخرى نفسه. فلا ريب أن قوله: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ جملة في موضع نصب بتركنا، والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء. ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبه، وهو الثناء عليهم، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم...: وقد حكى غير واحد الإجماع على أن الصلاة على جميع النبيين مشروعة. منهم الشيخ محي الدين النواوي وغيره، وقد حكى عن مالك رواية أنه لا يصلي على غير نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولكن قال أصحابه: هي مؤولة بمعنى إنا لم نتعبد بالصلاة على غيره من الأنبياء. كما تعبدنا الله بالصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- .(1/64)
.
" تفضيل محمَّد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء " :
[س 36]: هل تفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم- على عيسى وسائر الأنبياء في كل شيء ؟ وكيف تكون المفاضلة؟
الجواب: لا شك أن الله قد فضل الأنبياء، على خلقه من غير الأنبياء، ثم إنه فضل بعضهم كما قال تعالى: ? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ? وقال تعالى: ? وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ? وأفضل الأنبياء: أولو العزم الخمسة المذكورون في قوله تعالى: ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ? فبدأ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأفضل أولي العزم: الخليلان محمد و إبراهيم وأفضلهما محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقد فضله عليهم بما خصه به كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة"(1) متفق عليه فالمفاضلة في خصائصه، وفي قربه عند ربه، وفي قبول شفاعته في الموقف يوم القيامة، وفي المقام المحمود الذي يبعث به، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تفضلوني على موسى "(2)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (438) كتاب الصلاة باب (قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) عن جابر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري برقم (2411) كتاب الخصومات باب (ما يذكر في الإشخاص والملازمة، والخصومة بين المسلم واليهودي) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (160 2373) في كتاب الفضائل باب (من فضائل موسى -صلى الله عليه وسلم- ) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في المسند (2 264) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (4671) كتاب السنة، باب (التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/65)
. فقاله من باب التواضع ومن باب الاعتراف لموسى بالفضل لما آتاه الله من المعجزات، ولا شك أن الله خصه بالتكليم في قوله: ? وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ? وقد حصلت لنبينا -صلى الله عليه وسلم- جميع خصائص الأنبياء، ومثل معجزاتهم، كما ذكر ذلك في كتب السيرة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد(1).
" صور لعيسى ومريم كما يزعم النصارى " :
[س 37]: يعلق بعض النصارى صورا، زاعمين أنها لعيسى -عليه السلام- أو لمريم ابنة عمران، وهي تحمل عيسى كما يدعون، فهل يجوز- حفظكم الله- تصوير عيسى وأمه عليهما السلام؟ وما الواجب على من وجد تلك الصور؟
__________
(1) قال شارح الطحاوية القاضي علي بن علي بن محمد أبي العز الدمشقي، تحقيق د. عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط صفحة (159) في جواز التفضيل بين الأنبياء إلا إذا كان على وجه الحمية فقال: إن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموما، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصيبة كان مذموما، فإن الله حرم الفخر، وقد قال الله تعالى: ? وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ? وقال تعالى: ? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ? فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر أو على وجه الانتقاص بالمفضول، وعلى هذا يحمل أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا تفضلوا بين الأنبياء إن كان ثابتا، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى، وهو في البخاري وغيره، لكن بعض الناس يقول: إن فيه علة، بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا تفضلوني على موسى وقوله: لا تفضلوا بين الأنبياء نهي عن التفضيل الخاص، أي لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: أنا سيد ولد آدم ولا فخر فإنه تفضيل عام.(1/66)
الجواب: كل هذه الصورة خيالية، ولا يجوز إقرارها، فمريم -عليها السلام- قد ماتت قبل الهجرة بمئات السنين، وابنها رفع إلى السماء قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من ستمائة سنة، ولم يكن هناك من احتفظ بصورته أو رآه أو عرف مريم، ولم يكن التصوير المعروف موجودا حين ذاك. فهذه التصاوير مكذوبة لا حقيقة لها، وأما الحكايات التي تنقل أن أهل الكتاب عندهم صور الأنبياء كلهم حتى نبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يولد، فكل ذلك لا حقيقة له ولا صحة لشيء منه، ولو كانت صحيحة لوجدها المسلمون بعد أن فتحوا بلاد الشام ونحوها، فعلى هذا متى وجد شيء من هذه الصور وجب إتلافه مع القدرة؛ لأن تصويرها سبب لعبادتها، كما حصل لقوم نوح ومن بعدهم لما صوروا أولئك الصالحين وطال عليهم الأمد عبدوهم من دون الله، والله أعلم.
" شكل عيسى عليه السلام وصفته " :
[س 38]: هل ثبت شيء في شكل عيسى -عليه السلام- وصفته ؟
الجواب: روى الإمام أحمد وابن جرير في تفسير قوله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ? عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صفة عيسى قال: " فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل "(1)
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره برقم (10835) سورة النساء (4 361)
وأخرجه أحمد في المسند (2 6 5 4،437) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (4324) كتاب الملاحم، باب (خروج الدجال) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم بنحوه برقم (267 165) كتاب الإيمان، باب (الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-) عن ابن عباس رضي الله عنه.(1/67)
. وورد في حديث النواس بن سمعان الطويل في قصة الدجال ونزول عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه(1). وفي حديث الإسراء عن أبي هريرة مرفوعا: " ولقيت عيسى ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس- يعني الحمام "(2) متفق عليه وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " رأيت عيسى و موسى و إبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر.. إلخ "(3) أخرجه البخاري وعن نافع عن عبد الله : " وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجل أدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح بن مريم "(4)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2137) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (ذكر الدجال وصفته وما معه) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (4075) كتاب الفتن، باب (فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج).
(2) أخرجه البخاري برقم (3437) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (168) كتاب الإيمان، باب (الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري برقم (3438)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(4) أخرجه البخاري برقم (3440) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (169) كتاب الإيمان باب (ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال)، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.(1/68)
أخرجه مسلم و البخاري ولفظه: " بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل أدم سبط الشعر يهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء "(1) الحديث.
وفي حديث الإسراء، عن ابن عباس مرفوعا: " رأيت عيسى -عليه السلام- أبيض جعد الرأس، حديد البصر، ومبطن الخلق "(2) رواه أحمد .
وفي رواية البيهقي: " مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر "(3). وفي حديث أبي هريرة الطويل عند ابن جرير في أول سورة الإسراء وفيه قال: " ودخل فإذا هو بشابين فقال يا جبريل: من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ابن مريم و يحيى بن زكريا ابن الخالة -عليهما السلام- "(4).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3441) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) عن سالم عن أبيه. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
(2) أخرجه أحمد في المسند (1 /374) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
انظر تفسير ابن كثير، سورة الإسراء (3 /16).
(3) انظر تفسير ابن كثير، سورة الإسراء (3 /16).
(4) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره برقم (22021) سورة الإسراء (8 /10).(1/69)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مساري. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. فال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم -عليه السلام- قائم يصلي، أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي "(1). وروى الطبراني عن أم هانئ في حديث الإسراء: " وأراني عيسى ابن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي"(2). ومن هذه الروايات جميعا يعرف وصف عيسى -عليه السلام- الذي أثبته نبينا -صلى الله عليه وسلم-(3)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (172) كتاب الإيمان، باب (ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظر تفسير ابن كثير، سورة الإسراء (3 /22).
(3) قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- صاحب الفتح (6 /560) معلقا على هذه الروايات التي تصف عيسى -عليه السلام- حيث قال: (ووقع في رواية سالم الآتية في نعت عيسى أنه سبط الشعر وفي الحديث الذي قبله في نعت عيسى أنه جعد والجعد ضد السبط، فيمكن أن يجمع بينهما بأنه سبط الشعر، ووصفه لجعودة في جسمه لا شعره، والمراد بذلك اجتماعه واكتنازه، وهذا الاختلاف نظير الاختلاف في كونه أدم أو أحمر، والأحمر عند العرب: الشديد البياض مع الحمرة، والأدم: الأسمر، ويمكن الجمع بين الوصفين بأنه أحمر لونه بسبب كالتعب وهو في الأصل أسمر، وقد وافق أبو هريرة على أن عيسى أحمر فظهر أن ابن عمر أنكر شيئا حفظه غيره، وأما قول الداودي: إن رواية من قال: أدم أثبت، فلا أدري من أين وقع له ذلك مع اتفاق أبي هريرة وابن عباس على مخالفة ابن عمر؟ وقد وقع في رواية عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة في نعت عيسى: إنه مربوع إلى الحمرة والبياض والله أعلم).
وقال الإمام النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم (1 /510) في وصف عيسى -عليه السلام- في هذه الرواية، وهي رواية أبي هريرة رضي الله عنه، بأنه أحمر، ووصفه في رواية ابن عمر رضي الله عنهما بعدها بأنه أدم، والأدم: الأسمر، وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه أنكر رواية أحمر، وحلف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقله، يعني وأنه اشتبه على الراوي، فيجوز أن يتأول الأحمر على الأدم ولا يكون المراد حقيقة الأدمة والحمرة بل ما قاربها. والله أعلم).(1/70)
.
" مما يدل على سخافة عقول وضعف تفكير النصارى " :
[س 39]: نرى في البلدان التي تدين بالنصرانية صلبانا عليها شخص مصلوب مجرد من الملابس، باستثناء العورة المغلظة، ويقصدون بذلك المصلوب عيسى -عليه السلام- فكيف يكون عيسى ابن الله كما يزعمون ومصورا بتلك الصور المخلة بالأدب والاحترام؟ فهل من تعليق أو إضافة، سدد الله خطاكم؟
الجواب: إنه لدليل سخافة العقول، وضعف التفكير، فإن أدنى نظر في هذه الحالة يدل على الخطأ الواضح البعيد عن الصواب، فإن الله تعالى ولي المؤمنين وناصرهم، وقد نصر عبده ورسوله عيسى -عليه السلام- ورفعه من بين أيدي أعدائه ونجاه من كيدهم ? وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ? ولكن النصارى الذين غلوا فيه وأطروه ورفعوه عن العبودية لربه، وهي أشرف مقامات الإنسان، ثم مع ذلك تنقصوه وتنقصوا ربه -عز وجل- الذي اعتقدوه والده، فإن إهانته وصلبه وخلع ملابسه ونصبه على هذه الخشبة دليل عجزه وضعفه عن مقاومة اليهود، بل وعجز والده الذي هو رب العالمين الذي بيده الملك، وله الخلق والأمر، وهو المتصرف في الوجود كما يريد، وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فيقال للنصارى: لقد أهنتم ربكم واستضعفتموه، حيث صلب ابنه وعري وأوثق مهينا ضعيفا لم ينصره أبوه بزعمكم، فمثله لا يصلح أن يكون ربا وخالقا، تعالى وتقدس عما يقوله الكافرون والظالمون علوا كبيرا) (1)
__________
(1) قال الشيخ العلامة سفر بن عبد الرحمن الحوالي في كتابه: العلمانية ص100: (ونشأت عبادة الصور والتماثيل كأية بدعة أخرى محدودة النطاق، ثم نمت تدريجيا وانتشرت في أرجاء واسعة، لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقيه الثاني. يقول ول ديورانت : كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المبعدين نشأت الحاجة إلى معرفتهم، وتذكرهم فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب حتى لقد أصبح الصليب في ذوي العقول الساذجة طلسما ذا قوة سحرية عجيبة).(1/71)
.
" المعنى الحقيقي للصليب عند النصارى " :
[س 40]: ما المعنى الحقيقي للصليب عند النصارى ؟ أهو الخشبة التي يدعون أنه صلب عليها المسيح عيسى ابن مريم ؟ أم ماذا؟
بارك الله فيكم وفي علمكم.
الجواب: الصليب الذي تعظمه النصارى وتعبده هو خشبة في وسطها خشبة أخرى معترضة ملصقة بنصفها أو قريب منها، فهم يعظمون هذا الصليب ويرسمونه في منازلهم وأكسيتهم وصناعاتهم وهو رمز لهم، يسيرون في زعمهم إلى الخشبة التي صلب عليها المسيح لما قتل. وقد كذب الله هذا الزعم الذي تدعيه اليهود بقوله تعالى: ? وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ? وقد صدق النصارى مزاعم اليهود في قتل المسيح وصلبه، ومن سفههم: تعظيمهم لهذه الخشبة التي تشبه ما صلب عليه معبودهم الذي يعظمون، وكان الأولى أن يحطموه ويكسروه لو كانوا يعقلون(1)
__________
(1) يقول ابن القيم، في كتابه هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (ص 320)، تحقيق وتعليق مصطفى أبو النصر عن أول من ابتدع الصليب:
لما سمع أهل رومية بقسطنطين، وأنه مبغض للشر محب للخير، وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة كتب رؤساءهم إليه يسألونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا، وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع.
قال سعيد بن البطريق: فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء صليب من كوكب مكتوبا حوله بهذا تغلب فقال لأصاحبه: رأيتم ما رأيت؟ فقالوا: نعم، فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور، وصنع صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند.
أقول وبالله التوفيق: إن الواجب على النصارى أن لا يتعلقوا بهذه الصلبان التي لا تضر ولا تنفع- ولكن يلجؤوا إلى الله الواحد الأحد؛ لأننا نرى بعض النصارى يعظمون الصليب، ويركعون له وهو جماد، بل كان الواجب أن تكون هذه العبادات لله الواحد القهار الذي خلق الناس جميعا، وأنعم عليهم نعمه الكثيرة، وأهم نعمة هي نعمة التوحيد، وإفراد الله بالعبادة.
يقول صاحب كتاب (محاضرات في النصرانية) محمد أبو زهرة ص 112 عن الصليب ومقامه عند النصارى: إنه شعارهم وموضع تقديس الأكثرين، ولذا كان حمله علامة على اتباع المسيح. انتهى كلامه.
أقول وبالله التوفيق: كما قال شيخنا العلامة عبد الله الجبرين: كان الأولى أن يحطموه ويكسروه، لو كانوا يعقلون.(1/72)
.
" الواجب على المسلم إذا وجد الصليب " :
[س 41]: ما الواجب على المسلم إذا وجد الصليب ؟ وهل يختلف الحكم- سدد الله خطاكم- إذا كان في بلد شرك؟
الجواب: على المسلم أن يكسر الصلبان إذا تمكن منها، ويزيلها إذا وجدها في أي صنعة أو لباس أو حائط أو غيرها، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- " أن عيسى -عليه السلام- إذا نزل في آخر الدنيا يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية "(1). أي أنه يحطم الصلبان التي يعبدها النصارى. وقد أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يترك في بيته تصاليب إلا نقضه"(2)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3448) كتاب أحاديث الأنبياء باب (نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم برقم (242) كتاب الإيمان باب (نزول عيسى ابن مريم حاكما) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في المسند (2 240) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود برقم (4324) كتاب الملاحم باب (خروج الدجال) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي برقم (2240) كتاب الفتن باب (ما جاء في نزول عيسى ابن مريم) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (4077) كتاب الفتن باب (فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري برقم (5952) كتاب اللباس باب (نقض الصور) عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه أحمد في المسند (6 52) عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود برقم (4151) كتاب اللباس باب (في الصليب في الثوب) عن عائشة رضي الله عنها.(1/73)
. وفي رواية: " إلا قضبه " فالنقض: إزالة الصور من الثوب مع بقائه على حاله. والقضب: هو القطع الذي يزيل صورة الصليب؛ لأن الصلبان مما يعبد من دون الله، فمن قدر على هتكها وتكسيرها لزمه ذلك ولو كان في بلاد المشركين، فإن عجز عن ذلك أو خاف ضررا يترتب على تحطيمه لها فله تركها، ولكن كثيرا من الناس يتوهمون النقوش في الفرش صلبانا مع بعدها عنها، ويتشددون في الإنكار على من جلس عليها، أو اقتناها، وكذا ينكرون ما يوجد من الخطوط أو الصناعات في الأبواب والنوافذ، مع أنه غير مقصودة وشبهها بالصلبان بعيد، والله أعلم.
" الحكم الشرعي في لبس الصليب " :
[س 42]: ما الحكم الشرعي- عفا الله عنكم- في لبس الصليب ؟
الجواب: لما كان معظما عند النصارى بحيث يعبدونه ويتمسحون به؛ كان على المسلمين الموحدين محوه وإزالته وإتلافه عند التمكن منه، وقد ورد الحديث بطمس الصور؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب : " لا تدع صورة إلا طمستها "(1) مع أن الصور ليست كلها مما يعبد من دون الله، فالصليب الذي يعبده هؤلاء النصارى أولى أن يحطم عند وجوده، فإن المسيح -عليه السلام- إذا نزل يكسر الصليب ردا على الذين ادعوا أنهم صلبوه عليه. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يترك شيئا فيه تصاليب إلا نقضه(2)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (969) كتاب الجنائز باب (الأمر بتسوية القبر).
وأخرجه أحمد في المسند (1 96، 129).
وأخرجه النسائي برقم (2031) كتاب الجنائز باب (تسوية القبور إذا رفعت).
وأخرجه أبو داود رقم (3218) كتاب الجنائز باب (في تسوية القبر) كلهم عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه.
(2) أخرجه البخاري برقم (5952) كتاب اللباس، باب (نقض الصور) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أحمد في المسند (6 52) عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود برقم (4151) كتاب اللباس، باب (في الصليب في الثوب) عن عائشة رضي الله عنها.(1/74)
أي هتكه وأزال عينه سواء كان في ثوب أو حائط أو فراش أو نحوها.
" أيحكم على من لبس الصليب بالكفر والخروج عن الإسلام " :
[س 43]: أيحكم على من لبس الصليب بالكفر والخروج عن الإسلام أم يختلف الحكم على حسب اعتقاد لابسه إن كان معتقدا اعتقاد النصارى، أم متشبها بهم؟
الجواب: لا شك أن النصارى قد ضلوا سبيلا في تعظيمهم للصليب ورسمه في لباسهم وعلى أجسادهم، وهكذا من تشبه بهم في لباسه وتعظيمه إذا علم بأنه معبود النصارى وشعار دينهم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " من تشبه بقوم فهو منهم "(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر، ويعذر الجاهل الذي لا يعرف مقصد من ركبه، أو رسمه في ثوب أو صنعة، وكذا إذا لم يكن صليبا واضحا كالرسوم والنقوش التي توجد في الفرش واللحف التي لا يتضح كونها صليبا، ومع ذلك فعلى المسلم الحذر والانتباه لحيل النصارى في شعارهم وما يعظمونه، ولا شك أن عبادتهم لهذا الصليب غاية الجهل والسفه وضعف التفكير، ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:
أعباد الصليب لأي معنى * * * يعظم أو يقبح من رماه
وهل تقضي العقول بغير كسر * * * وإحراق له ولمن نعاه
إذا ركب الإله عليه كرها * * * وقد شدت لتسمير يداه
فذاك المركب الملعون حقا * * * فدسه لا تبسه إذا تراه
يهان عليه رب الخلق طرا * * * وتعبده فإنك من عداه(2)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2 /50) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبو داود رقم (4031) كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني وهو في صحيح الجامع الصغير رقم (6149).
(2) انظر كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية (2 /644).(1/75)
قال: (ومن العجيب أنهم يقرؤون في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب. وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه، ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه، ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة، فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح وخزي، فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام؟
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان، فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له، وإذا اجتهد أحدهم في اليمين حلف بالصليب، ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه(1) ... إلخ) والله أعلم.
" حكم الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام " :
[س 44]: ما حكم الاحتفال بعيد ميلاد المسيح -عليه السلام- كما يفعل النصارى اليوم ؟
الجواب: شرع للمسلمين ربهم الاحتفال بأعيادهم بالصلاة والذكر والشكر وإظهار نعمة الله عليهم، وأبدلهم بهما عن غيرهما من أعياد اللعب واللهو، فعلى المسلمين الاقتصار على الأعياد المشروعة وهي عيد الأسبوع وهو الجمعة، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأضحى، وعلى هذا لا يجوز لهم الاحتفال بأعياد النصارى ولا أعياد اليهود ولا غيرهم من الكفار، لكن يجعلونها كبقية السنة، ولا يجوز تهنئتهم بتلك الأعياد، ولا الدعاء لهم، أو التبريك بها من أفراد المسلمين؛ حتى يتميز المسلمون ويصير لهم اختصاصهم وشعارهم الذي أرشدهم إليه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وسار عليه جمهورهم من أولهم إلى آخرهم(2)
__________
(1) انظر كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية (2 /638).
(2) قال ابن القيم رحمه الله في كتابه: أحكام أهل الذمة (1/441 ) :
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله، وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
أقول وبالله التوفيق: إن تهنئة النصارى بأعيادهم أمر محرم بالإجماع، أما مشاركتهم فأشد حرمة، لأن المشاركة تعني الإقرار لهم على دينهم المحرف الباطل، وهذا مخالف لقول الله تعالى: ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ? ولقوله تعالى: ? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? نسأل الله السلامة والعافية.(1/76)
.
" هل كان عيسى ـ عليه السلام ـ متزوجا وله ذرية " :
[س 45] هل كان عيسى -عليه السلام- متزوجا؟ وهل كانت عنده ذرية ؟
الجواب: لم أطلع على ما يدل على ذلك لا إثباتا ولا نفيا، ولا شك أن عيسى رسول من الرسل الذين ذكرهم الله تعالى، وأثنى عليهم، وقد قال تعالى: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ? فيمكن أن عيسى منهم، وإن لم يذكر تفصيل ذلك، وربما يجد من بحث في كتب بني إسرائيل أخبارا تتعلق بسيرة عيسى وزواجه أو عدمه، والله أعلم بالصواب(1).
" العمل بالتاريخ الميلادي " :
[س 46]: هل العمل بالتاريخ الميلادي فيه تشبه بالنصارى، أم الأولى العمل بالتاريخ الهجري ؟
__________
(1) ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (6 568) رواية عن نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة.(1/77)
الجواب: لقد اقتصر المسلمون على تأريخهم الذي اتفقوا عليه من عهد عمر بن الخطاب الذي وضع لهم هذا التأريخ الهجري، حيث اختار مبدأه من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمل عليه المسلمون في كتبهم وسيرهم مع معرفتهم بتأريخ من قبلهم، ولم يزالوا كذلك حتى استولى النصارى على كثير من بلاد الإسلام، واستعمروهم واضطروهم إلى تعلم التأريخ الميلادي، وأنسوهم التأريخ الهجري إلا ما شاء الله، فنقول: إن في العمل بالتأريخ الهجري تذكرا لوقائع الإسلام وأحوال المسلمين في سابق الدهر، ثم هو أوضح وأبين حيث يعتمد الأهلة التي ترى عيانا ويحصل بمشاهدتها معرفة دخول السنة وخروجها، دون إعواز إلى حساب وكتابة، فننصح المسلمين أن يقتصروا على تأريخهم الذي كان عليه سلفهم، وأن يعرضوا عن تأريخ النصارى الذي لا يتحقق صحته، إنما هو مبني على نقل أهل الكتاب وهم غير متيقنين، حيث لم يثبتوا ذلك بالنقل الصحيح. ومتى احتيج إلى معرفة السنة الشمسية، فإن هناك التأريخ الشمسي الهجري وهو يعتمد الحساب، ويسير على سير البروج الاثني عشر الذي ذكرها الله تعالى مجملا كما في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ? وعرفها الحُسَّاب وعلماء الفلك بالمشاهدة، ففي معرفتها ما يكفي عن الاحتياج إلى تأريخ النصارى، والله أعلم.
" الصنعة أو الحرفة التي كان يعمل بها عيسى ـ عليه السَّلام ـ " :
[س 47]: ما هي الصنعة أو الحرفة التي كان يعمل بها عيسى -عليه السلام- قبل بعثته وبعدها ؟(1/78)
الجواب: لا أذكر في ذلك خبرا ولا نقلا صحيحا، وقد ذكر الله تعالى عن عيسى وأمه الأكل في قوله تعالى: ? كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ? ومن المعلوم أن الحاجة إلى الأكل تعوز إلى طلب الرزق والتكسب، والاحتراف الذي يحصل من ورائه المال، وقد قال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ? والمشي في الأسواق يراد منه التكسب وطلب المال، وإن كان الله تعالى قد يرزق من يشاء بغير عمل، كما ذكر ذلك عن مريم في قوله تعالى: ? كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? فلا يستبعد أن الله تعالى يسهل لعيسى المال بغير حرفة ولا كسب، حيث قد أعطاه من المعجزات ما بهر أهل زمانه من إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأبرص والأكمه بإذن الله تعالى، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، فيمكن أن الله تعالى يجري له الرزق بدون طلب أو حرفة أو اكتساب، والله أعلم.
" دخول الكنيسة لسماع ما يقوله النصارى " :
[س 48]: هل يجوز دخول الكنيسة لسماع ما يقوله النصارى عن عيسى -عليه السلام-؟ وما الحكم الشرعي في ذهاب الطلاب من أبناء المسلمين الذين يدرسون في الخارج للكنيسة، حيث يفرض عليهم الذهاب لحضور حصص دراسية، أو سماع كلمة من أحد القسس؟(1/79)
الجواب: لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار كالبِيَع والكنائس والصوامع والديارات وأماكن تعبدهم؛ لأن في ذلك إقرارا لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم.
وأما ذهاب الطلاب إلى الكنائس للحصص الدراسية، أو سماع كلام القسيس فإن ذلك لا يجوز، سيما أبناء المسلمين الذين لم يتضلعوا في عقيدة الإسلام، ولم يتقنوا حقيقة دينهم، وقد ذهبوا إلى تلك البلاد قبل التوغل في معرفة الدين الصحيح، ونشؤوا بين أولئك النصارى، فإن مثل هؤلاء ينخدعون بما يسمعون من أولئك المنصرين الذين يبذلون قصارى جهدهم في تنصير من قدروا عليه من بني الإنسان، ولا يتكاثرون ما أنفقوه في الدعاية إلى دينهم، فمتى ذهب الشباب إلى تلك المعابد وشاهدوا تلك الصور، وسمعوا كلمات أولئك القسس، وما يبالغون فيه من مديح وهراء وحث ومبالغة في مدح دين النصارى، لم يؤمن أن ينخدعوا بتلك الدعايات، ويعلق بقلوبهم ما يعجز أهلوهم عن إقناعهم بالرجوع عنه، فالواجب التحذير من المسلمين لأولادهم عن السماع والإصغاء إلى سماع كلام أولئك النصارى، وتحذيرهم من دخول تلك الكنائس مهما استطاعوا، والله أعلم.
" نزول عيسى ـ عليه السّلام ـ " :
[س 49]: متى سينزل عيسى -عليه السلام-؟ وهل هناك علامات لنزوله ؟ وكم سيمكث؟(1/80)
الجواب: روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم؟ "(1). وقد وردت أحاديث كثيرة ذكر فيها نزول عيسى -عليه السلام- وأنه يقتل الدجال بباب لد، وأنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقد سرد أكثر الأحاديث في ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ? من سورة النساء، ومنها حديث رواه مسلم عن أبي هريرة وفية : " فتح القسطنطينية ثم خروج الدجال، وبعده نزول عيسى وقت إقامة الصلاة "(2) ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وفيه: " أن الأنبياء تذاكروا الساعة، فقال عيسى أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج، ومعي قضبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص. ثم يرجع الناس إلى بلادهم فعندئذ يخرج يأجوج ومأجوج فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، فأدعو الله عليهم فيهلكهم .. ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان أن الساعة كالحامل المتم "(3) الحديث.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه البخاري برقم (3449) كتاب أحاديث الأنبياء باب (نزول عيسى ابن مريم)، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه مسلم برقم (244) كتاب أحاديث الأنبياء باب (نزول عيسى ابن مريم عليها السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم برقم (2897) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (في فتح القسطنطينية) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/81)
وفي مجمل من علامات نزوله: خروج الدجال، وفتح القسطنطينية، وفي زمنه يخرج يأجوج ومأجوج، ويدعو عليهم ويطهر الأرض منهم، ويبارك الله في الرسل- أي لبن البهائم- وفي نبات الأرض، ويمكث في الأرض سبع سنين، واختلفت الروايات في مدة إقامته، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو: " أن مدة إقامته سبع سنين "(1) وذكر الحافظ في الفتح عن نعيم بن حماد في كتاب الفتن عن ابن عباس: " أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة "(2) وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة.
" نصيحة لمن دخل دين الإسلام " :
[س 50]: ما النصيحة التي توجهونها- أثابكم الله- لمن دخل دين الإسلام وآمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا بعد الدين النصراني، وتلك الاعتقادات المحرفة التي كان يعتقد بها؟
الجواب: نصيحتنا لمن دخل في الإسلام
أولا: أن يبدأ بتعلم الأدلة والبينات الدالة على صدق هذا النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- ليطمئن إلى صحة رسالته.
وثانيًا : أن يقبل على قراءة القرآن الكريم، وتعلم معانيه، وما يدل عليه من الأوامر والزواجر.
وثالثًا : أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة ونطقا، وما تدل عليه الكلمات العربية حتى يفهم كلام الله تعالى وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ورابعًا : أن يحرص على تعلم العقيدة الإسلامية التي عليها أهل السنة وسلف الأمة، والتي مصدرها الكتاب والسنة والآثار الواردة عن الصحابة وأكابر الأئمة.
وخامسًا : أن يتعلم البدع والمحدثات التي عليها أكثر المنحرفين حتى يحذر من شبهاتهم ودعاياتهم التي تضلل من انتحلها، وتبعده عن الدين الإسلامي الصحيح.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2945) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (في خروج الدجال ومكثه في الأرض) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد في المسند (1 /375) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(1/82)
وسادسًا : أن يتفقه في الدين، ويتعلم الشريعة، وما فيها من العبادات والطاعات، والمحرمات والمكروهات، وما تدعو إليه من الآداب والأخلاق والمعاملات التي توضح أهداف هذه الشريعة وسمو تعاليمها.
وسابعًا : أن يحرص على العمل والتطبيق لكل ما عرفه أو سمعه من القربات والمندوبات، فإن ثمرة العلم العمل، ويدخل في ذلك الأركان والواجبات وجميع المستحبات التي تدعو إليها شريعة الإسلام.
وثامنًا : الحذر من المعاصي والمخالفات وارتكاب المحرمات، ولو كانت من المألوفات لكثير من الأمم كالمسكرات والمخدرات، والبعد عن مخالطة العصاة والمفسدين ودعاة الضلال.
وتاسعًا : الصبر على المصائب والابتلاء والامتحان، وما يقع للمسلم من الأذى في ذات الله من ضيق المعيشة، وتكدر الأحوال والعذاب والتنكيل والسجن والاضطهاد من أعداء الله الذين يصدون عن دين الله تعالى إلى غيره.
وعاشرًا : أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى، ويشرح تعاليم الإسلام وأهدافه لأقاربه ومن يخالطه ويجالسه من النصارى وغيرهم، ويرغبهم في اعتناق الإسلام مع ذكر العاقبة الحميدة لمن أسلم وجهه لله وهو محسن.
وبذلك يسلم له دينه ويموت على الإسلام الصحيح الذي لا يقبل الله دينا سواه، والله أعلم،
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين
26 / 8 / 1417هـ(1/83)