شرح متن الورقات للجويني
للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي حفظه الله
قام بتفريغ المادة: زكرياء توناني غفر الله له ولوالديه ولمشايخه
راجعها: أبو مالك العوضي عفا الله عنه
[ملتقى أهل الحديث]
بسم الله الرحمن الرحيم
- مقدمة الشرح:
ترجمة المؤلف:
هو إمامُ الشافعية: إمامُ الحرمين أبو المعالي عبدُ الملك بنُ عبد الله بنِ يوسف الجويني، من جُوَيْنَ، من نيسابور، ولد 419 هـ، وتوفي 478 هـ، وكان من مشاهير المتكلمين والفقهاء والأصولين.
مقدمة في علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه من أهم العلوم الشرعية؛ لأنه به يُتوصَّل إلى فهم الكتاب والسنة، وأخذِ الأحكام منهما، وذلك أن الكتاب والسنة يُبحَث فيهما من جهتين: جهةِ الورود، وجهةِ الدلالة.
أما جهةُ الورود: أي: التحقق من نسبة القرآن إلى الله، والتحقق من نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالرواية والإسناد.
أما جهة الدَِّلالة: أي: ما يُريده الله من عباده بهذا اللفظ، وما يُريده النبي صلى الله عليه وسلم من أمته بهذا اللفظ.
- وهاتان الجهتان لم يحتَجِ الصحابة رضوان الله عليهما إلى بحثهما، أما من جهة الورود فلسماعهم من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وأما من جهة الدلالة، فلأنهم أهل اللسان العربي على وجه السليقة.(1/1)
- وكذلك لم تشتدَّ حاجةُ التابعين للبحث فيهما، أما من جهة الورود: فلتلقيهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله تعالى لهم، كما قال جل وعلا: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }، وقال تعالى: { إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }، فنفى عنهم الفسق بحلول الرضوان عليهم، وإذا انتفى عنهم الفسق وجبَ لهم ضِدُّه وهو: الرضوان والعدالة؛ لأن المحل القابل للصفة، لا يخلو منها أو من ضدها. وأما من جهة الدلالة: فلم يشتدَّ احتياجُهم إليها؛ لأنهم ما زالوا أهلَ اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تختلطِ الحضارةُ العربية بعدُ بالحضارات الأخرى اختلاطًا مؤثرًا.
- لكن لما جاء أتباعُ التابعين، احتاجوا إلى البحث في الجهتين، أما من جهة الورود، فلأنهم لم يلقوا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولم يدركوا أصحابَه رضي الله عنهم المعدَّلين بتعديل الله، ولكنهم أدركوا التابعين، والتابعون فيهم العدولُ، وغيرُ العدولِ. وأما من جهة الدلالة: [فـ]لأن الحضارة العربية قد اختلطت بغيرها من حضارات أهل الأرض، وتغيرت الأوضاع عما كانت عليه، فانتقلت المدنية التي كانت في الحضارات الأخرى إلى جزيرة العرب، وانتقل العرب عن جزيرتهم، وتغيرت لغتهم، وداخلها كثير من المجاز ومن اللغات الأخرى، فاحتيج إذًا للبحث في الدلالة.
وعلمُ أصول الفقه: هو العلم الذي يُمْكِنُ من خلاله تغطيةُ النوازل والوقائع غيرِ المحصورة، من النصوص المحصورة.
- آيات القرآن الكريم: بالعد الكوفي: 6214 آية، وبالمدني: 6234 آية (1) .
- آيات الأحكام منها: لا تتجاوز 500 آية.
- أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتجاوز 300000 ( ثلاثمائة ألف ) حديث.
- أحاديث الأحكام منها: لا تتجاوز 11000 ( أحد عشر ألف ) حديث.
- ومواقع الإجماع محصورة قليلة (2) .(1/2)
ومع هذا فالنوازلُ والوقائعُ لا حصرَ لها، ففي كل يوم يتجددُ منها الكثيرُ، ولله تعالى حكمٌ في كل مسألة، وإنما يُؤخذ ذلك بالاجتهاد على طرق الاستدلال المعروفة، والفهم، وإنما يتم ذلك بأصول الفقه.
فلما كان هذا العلمُ بهذه المثابة، احتيج إلى وضع مؤلفات فيه، تُبينُ مصطلحاتِ أصحابه، وتبين مرادَهم بكثير من الأمور التي تخفى على من سواهم، وأولُ من جمع كتابا مستقلا في هذا العلم، هو: محمدُ بنُ إدريسَ الشافعي المطلبي القرشي، ولد سنة 150 هـ، وتوفي سنة 204 هـ، وقد ألف فيه رسالته المشهورة، ثم بعده تتابع الناس في التأليف في هذا العلم.
وقد اشتهر فيه مدرستان:
إحداهما: مدرسة الفقهاء، وهي التي أخذ بها فقهاء الحنفية، وهي تنطلق من الفتاوِي [الفتاوَى] والمسائل التي تُروى عن الأئمة، فيجمعون منها حشدا كبيرا، فيجعلون منه قاعدة.
والثانيةُ: مدرسة المتكلمين، وعليها سار فقهاءُ المالكية والشافعية والحنابلة، وهي تنطلق من أصل القاعدة، فتمثل لها ببعض الفروع، ولا تذكر من الفروع إلا ما كان مثالا للقاعدة فقط، وهذه الطريقة هي التي كثرت التآليف فيها.
وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الطريقتين، فألفوا بعض الكتب التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية.
وتنوعت التآليفُ في علم أصول الفقه، ما بين مختصر ومبسوط، ونظم ونثر.
وهذه الورقات قد وضع الله عليها القَبولَ، فلاقت شهرة ورواجًا، منذ عصر المؤلف إلى وقتنا هذا، ولم يزل الناس يشرحونها وينظمونها ويدرسونها ويحفظونها لأولادهم.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بالقرآن الكريم؛ فإن الله افتتحه بالبسملة وبعدها بحمد الله عز وجل.
والمقصود هنا: أبدأ مستعينا بسم الله الرحمن الرحيم.
[مقدمة](1/3)
(هَذِهِ وَرَقَاتٌ [قَلِيلَةٌ] تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ مُؤَلَّفٌ مِنْ جُزْأَيْنِ مُفْرَدَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الأُصُولُ، وَالثَّانِي: الْفِقْهُ، فَالأَصْلُ: مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ: مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفِقْهُ: هُوَ مَعْرِفَةُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاِجْتِهَادُ)
- ورقات: جمع ورقة، وذلك للقلة، أي: أنها أوراق قليلة. ومع ذلك فهي ( تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه ) والفَصْل: ما اختص من العلم بما يجمعه، والمقصود به: مسائل من أصول الفقه يُهْتَمُّ فيها أساسا، بتعريف المقدمات الكبرى، والاصطلاحات.
( أصولُ الفقه، وذلك مؤلف من جزأين ) والمراد بالجزأين: الكلمتان اللتان أُلِّفَ منهما المركبُ الإضافي.
( المفردين ): أي: ليس واحدٌ منهما مركبا، وليس المقصود بالإفراد الذي يقابل الجمع.
- تعريف أصول الفقه:
1 - التعريف باعتبار مفرديه:
الأصول: جمع أصل، وهو لغةً: ما يبنى عليه غيرُه، من أساس الدار، وما يَنْبُتُ عليه غيره، كأصل الشجرة.
الفرع: ما يُبْنَى على غيره.
الفقه: مصدر فَقِهَ، وهو لغةً: الفهم، كما قال تعالى: { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } أي: ما نفهم كثيرا مما تقول.
اصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقُها الاجتهاد.
- معرفة: الذي يقوم بنفس الفقيه، ليكون بها فقيها.
- الأحكامُ: جمع حُكْم، وهو لغة: الإتقان، يُقال: أحكم الشيء: إذا أتقنه، ومنه قوله تعالى: { كتاب أحكمت آياته }، ويُطلق الحكم أيضًا على الإمساك، فيُقال: أحكم السفيهَ إذا أمسكه عن سفهه ورَدَّهُ عنه، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكِمُوا سفهاءَكم ………إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجُكم ………أدعُ اليمامةَ لا توارِي أرنبا(1/4)
والحكمُ اصطلاحًا: هو إثباتُ أمر لأمر، أو نفيُه عنه، إثبات أمر لأمر: كـ: قام زيد، مات زيد، وهذا واجب، وهذا حرام، أو نفيه عنه: لم يقم زيد، ولم يمت زيد، وليس هذا بواجب، وليس هذا بحرام.
وينقسم الحكم باعتبار أصله إلى ثلاثة أقسام: حكم شرعي، وحكم عقلي، وحكم عاديّ.
فالذي يثبت أمرا لأمر أو ينفي أمرا عن أمر، لا يخلو:
أ - إما أن يكون حكما شرعيا: أي: وحيا منزلا من عند الله عز وجل، وما صدر عنه، يسمى بالأحكام الشرعية.
والشرع: معناه: البيان والإظهار، شَرَع الأمرَ، إذا بينه، ومنه شِراع السفينة لظهورها، ويُطلق الشرع على الشرب، فيقال: شرعت الدابة: إذا دخلت في الماء لتشرب، وتُطلق الشريعة: على ماء الغدير أو البركة الذي يُشرب منه.
والشرع في الاصطلاح: ما أظهره الله من الأحكام لعباده، وهيأه لأن يكون معينا تُشرب منه المقاصد والتفصيلات.
والحكم الشرعي: هو خطابُ الله المتعلقُ بفعلِ المكلفِ، من حيثُ إنه مكلفٌ به.
ب- وإما أن يكون حكما عقليا: قضية ( أي: أمر ) قابلة للصدق والكذب، لا تتوقف على شرع ولا عن تجربة.
ج - وإما أن يكون حكما عاديا: إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، بواسطة التكرر، مع صحة التخلف، كإثبات أن عقارا ما داوء لداء ما، ويمكن أن يتخلف، فيمكن أن يشرب المريض الدواء الموضوع لداء معين، ولا يُشفى، وذلك بقدر الله.
- التي طريقها الاجتهاد: فالأحكام الشرعية منها ما يأتي صريحا في الوحي، بنص الكتاب أو بنص السنة، فلا يكون طريقُ معرفته الاجتهادَ، بل طريقُ معرفته: الوحيُ، فلا يسمى: فقها، بل هو من الأمور المتفق عليها التي جاءت في النص، كـ: وجوب الصلاة والزكاة، تحريم الربا.... إلخ، فهذه لا تُنسب إلى مذهب من المذاهب؛ لأنها ليست من اجتهاد أحد من الناس، بل هي وحي من عند الله تعالى.
الاجتهادُ: لغةً: بذلُ الجهد.
اصطلاحا: بذل الفقيه وُسعه في تحصيل ظن في الأحكام، مأخوذ من أدلتها.(1/5)
- من أدلتها: أي: أن ذاك يكون مأخوذا من الأدلة.
والتعريف الذي ذكره أبو المعالي للفقه تعريف مختصر، وللأصوليين تعريف مطول، وهو: العلمُ بالأحكام الشرعيةِ العمليةِ المكتسبُ من أدلتها التفصيلية.
- والعلم: يُقصد به الفهم والإدراك، فيشمل القطعيات والظنيات.
- الأحكام الشرعية: سبق الكلام عليه.
- العملية: مُخرِجٌ للعقائد؛ فإن العلم بها علمٌ بالأحكام الشرعية غير العملية.
- المكتسَب: بخلاف الموحَى.
- من أدلتها: فلا بد في الأحكام الشرعية أن يُرجَع فيها إلى الأدلة، ولا يكون المرجِع فيها هو الأوهام والتخمينات.
- الأدلة: جمع دليل.
وهو في اللغة: المرشد، سواءٌ كان ذلك في الحسيات أو في المعنويات.
فمن إطلاقه على الحسيات قول الشاعر (3) :
إذا حلَّ دينُ اليَحْصُبِيِّ فقل له ……تزودْ بزادٍ واستعن بدَلِيلِ
سيُصبحُ فوقي أقتم الريش واقعا ……بِقَالِي قَلاَ أو من وراء دَبِيلِ
المراد بالدليل هنا: هو الذي يعرف المسافات، ويدلُّ السائرَ فيها.
ومن إطلاقه على المعنوياتِ قولُ الله تعالى: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } أي: علامةً عليه، ومُرشدا إلى وجوده.
والدليلُ في الاصطلاح: هو ما يوصل - بصحيحِ النظرِ فيه - إلى العلم بمطلوبٍ خَبَرِيّ.
والنظرُ: هو حركةُ النفس في المعقولات، وحركتُها في المحسوسات تسمى: تَخَيُّلا.
فالنظر إذا: هو التفكير، وينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد.
- " إلى العلم ": أغلب إطلاق الأصوليين للدليل، على ما يوصل إلى العلم أو الظن، وبعضهم يخص ما يوصل إلى العلم: بالدليل، وما يوصل إلى الظن: بالأمارة، ولكنه اصطلاح مندرس، لم يَسِرْ عليه المؤلفون.
- " بمطلوب خبري "؛ لأن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء، والخبر: ما يحتملُ الصدق أو الكذب، وهذا هو الذي يُحتاج فيه إلى إقامة الدليل، أما الإنشاء، فلا يُحتاج فيه إلى إقامة الدليل.(1/6)
والأدلة تنقسم إلى قسمين: أدلةٍ إجمالية وأدلةٍ تفصيلية.
- الأدلة الإجمالية: هي أجناسُ الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
- الأدلة التفصيلية: جزئياتُ هذه الأجناس.
تعريف أصول الفقه بمعناه اللقبي:
أصولُ الفقهِ: الأدلة الشرعية الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، وحال المستفيد.
وإذا أردتَ الصفةَ التي يتصفُ بها الأصوليُّ، فقل: هو العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، وحال المستفيد.
- شرح التعريف:
- " الأدلة الشرعية الإجمالية " أي: أجناس الأدلة.
- " وطرق الاستفادة منها " أي: طرق أخذ الأحكام منها.
- " وحال المستفيد " أي: حال الذي يأخذ الأحكام من الأدلة، وهو المجتهد.
(فائدة) اختُلِف في موضوع علم أصول الفقه:
فقيل: هو الأدلة الشرعية الإجمالية.
وقيل: هو الأحكام الشرعية.
والظاهر: أنه جامع للأمرين، فكلاهما مما يُبحث في أصول الفقه.
(وَالأحكَامُ سَبعَةٌ: الوَاجِبُ والمَندُوبُ وَالمُبَاحُ والمَحْظُورُ والمَكْرُوهُ والصَّحِيحُ وَالبَاطِلُ.
1 - فالوَاجِبُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
2 - وَالمَندُوبُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعلِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
3 - وَالمبَاحُ مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
4 - والمحظُورُ مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِِهِ وَيُعَاقَبُ عَلى فِعْلِهِ.
5 - وَالمكرُوهُ مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
6 - وَالصَّحِيحُ مَا يَتَعلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعتَدُّ بِهِ.
7 - وَالبَاطِلُ مَا لا يَتعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعتَدُّ بِهِ)
الأحكام الشرعية، تنقسم إلى قسمين:
1 - الأحكام التكليفية: هي ما يكلِّف الله به الناسَ، طلبا أو تخييرا.
فالطلب إما أن يكون طلبَ فعل، أو طلبَ ترك، وهو في كليهما إما أن يكون جازما أو غير جازم.
فطلبُ الفعل، إن كان جازمًا فهو: الإيجابُ، وإلا فالندبُ.(1/7)
وطلبُ الترك، إن كان جازمًا فهو: التحريمُ، وإلا فالكراهةُ.
والتخيير هو: الإباحة.
والتكليف: هو ما فيه كُلْفة، أي: مشقة، وهي: كلفة الامتثال، ولا يُقصد بها أن كل ما يكلفنا الله به فيه مشقة، فالمشقة التي بمعنى: ما لا يُقدر عليه، هذه مرفوعة أصلا، كما قال تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج }.
- وقول إمام الحرمين: " الوَاجِبُ والمَندُوبُ وَالمُبَاحُ والمَحْظُورُ والمَكْرُوهُ "، وهذه في الواقع متعلَّق الحكم؛ لأن الحكم هو الخطاب، أي: الإيجاب، والندب، والحظر، والكراهة، والإباحة.
2 - الأحكامُ الوضعية: هي ما جعله الشارع علامةً لغيره.
وأقسام متعلَّق الحكم الوضعي، قسمان: ما كان مستقلا، وما كان تابعا.
أ - ما كان مستقلا: وهو أربعة أقسام: السبب، والعلة، والشرط، والمانع.
السببُ: هو ما جعله الشارع علامةً على وجود الحكم التكليفي، ولم يدرِك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه، كزوال الشمس لوجوب صلاة الظهر، وعرّفه القرافي بأنه: ما يلزم من وجودِه الوجودُ، ومن عدمِه العدمُ، ويمكن أن يعرف بأنه: ما يلزَمُ من عدمه العدمُ، ولا يلزَم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته، فلزوم الصلاة بدخول الوقت ليس لذات الوقت، فقد يدخل الوقت ولا تجب الصلاة، إما لعدم تكليفٍ كصبي، وإما لتلبسه بمانع من حيض أو نفاس.
العلةُ: العلامةُ التي رتَّبَ الشارعُ الحكمَ التكليفي عليها، ويدرِك العقل وجهَ ترتيبه عليها، كالإسكار في تحريم الخمر، والعقلُ يدرك وجه جعله كذلك، ذلك أن الحفاظ على العقل من المقاصد الشرعية ومن ضرورات المكلفين، والخمر تُذهِب العقل، ولذلك يدرك العاقل وجهَ تحريم الشرع لشربها، ويعلم أن علة تحريمها أنها مسكرة، أي: مزيلة للعقل.
وفي تعريف العلة اصطلاحا، قالوا: الوصفُ الظاهر المنضبط الذي أناط الشارعُ به الحكمَ.
- " الوصف الظاهر ": فالعلة لا يمكن أن تكون وصفا خفيا لا يُطلع عليه.(1/8)
- " المنضبط ": أي الذي يكون المكلفون فيه سواء، بخلاف الأمور التي لا تنضبط، كالمشقة، فلا يمكن أن تُجعل علةً لحكمٍ؛ لتفاوت درجاتها، وتفاوت الناس فيها.
- " الذي أناط الشارع به الحكم " أي: علقه عليه، وأدرك المكلَّفُ وجهَ ترتيبه عليه.
الشرط: عرفه القرافي بأنه: ما يلزمُ من عدمه العدمُ، ولا يلزم من وجودِه وجودٌ ولا عدمٌ لذاته، كالطهارة للصلاة.
المانع: عرفه القرافي بأنه: ما يلزمُ من وجوده العدمُ، ولا يلزمُ من عدمِه وجودٌ ولا عدمٌ لذاته، كوجود الحيض والنفاس، فإنه مانع من وجود الصلاة، ولكن خلو المرأة من دم الحيض والنفاس لا يوجب عليها الصلاة، إلا بتوفر الشروط والأسباب، وانتفاء الموانع الأخرى.
ب- ما كان تابعا: وهو سبعة: الصحةُ والفسادُ والعزيمةُ والرخصةُ والأداءُ والقضاءُ والإعادةُ.
الصحةُ: موافقة العمل للشرع.
الفساد والبطلان: مخالفة العمل للشرع.
العزيمة: إثبات الحكم وعدم تغييره.
الرخصة: تغيير الحكم إلى سهولة، بسبب عذر اقتضى ذلك، مع بقاء سبب الحكم الأصلي.
الأداء: فعل العبادة في وقتها المحدد لها شرعا.
القضاء: فعل العبادة خارج وقتها المحدد لها شرعا، وإذا فُعلت بعض العبادة في وقتها وبعضها خارج وقتها، فهل يسمى أداء أو قضاء ؟ فقيل: يسمى أداء باعتبار بدايته، وقيل: يسمى قضاء باعتبار نهايته، وقيل: ما في الوقت: أداء، وما كان خارجه: قضاء.
الإعادة: فعل العبادة ثانيا لخلل أو طلبا للأجر، مثال الأول: من صلى لغير القبلة عالما عامدا، فإن صلاته باطلة، فيعيدها لوجود الخلل في عبادته الأولى، ومثال الثاني: من صلى منفردا، ثم وجد جماعة، فإنه يصلي معهم الجماعة، فهي إعادة طلبا للأجر.
- عرف إمام الحرمين الجويني الأحكام التكلفية:(1/9)
1 - فالوَاجِبُ مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ: هنا عرف الواجب بالخاصة، لا بالفصل، فهو رَسْم، ثم أيضا عرفه بأمور خفية وهي الثواب والعقاب وهما أمران أخرويان؛ لأن المصلي قد يصلي ولا يثاب على صلاته، إما لعدم إخلاصه فيها، وإما لسهوه في جميعها، وقد لا يصلي الإنسان ولا يعاقب؛ لأنه قد يكون غير مكلف، إما لكونه مكرها أو غير ذلك، والأولى في تعريفه هو ما تقدم ذكره من أن الواجب: ما طلب الشارع فعله طلبا جازما.
2 - وَالمَندُوبُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعلِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ: والقول فيه كالقول في سابقه من الاعتراض، والأولى أن يعرف بأنه: ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم.
3 - وَالمبَاحُ مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ: وهذا ليس بصحيح، إذْ إن المباح إذا فعله الإنسان بقصد استحلال ما أحله الله فإنه يُثاب عليه، كما في حديث: " وفي بُضْعِ أحدكم صدقة ".
4 - والمحظُورُ مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِِهِ وَيُعَاقَبُ عَلى فِعْلِهِ: والمحظور في اللغة: مشتق من الحظيرة، أي: الذي جعل الشارع عليه حظيرة، والمقصود به: المحرم، الذي أحاطت به حدود الله، التي لا يجوز تعديها، كما قال تعالى { تلك حدود الله فلا تعتدوها }، وقد قال تعالى: { وما كان عطاء ربك محظورا } أي: ممنوعا لا يمكن الوصول إليه.
وتعريفه للحرام، تعريف بالرَّسْم، والأولى تعريفه بأنه: ما طلب الشارع تركه طلبا جازما.(1/10)
5 - وَالمكرُوهُ مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ: والكلام عليه كالكلام على الحرام، والأولى تعريفه بأنه: هو ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم، هذا في اصطلاح المتأخرين، أما في اصطلاح المتقدمين فيُطلق على المحرمات، كما قال تعالى - بعد أن ذكر المحرمات -: { كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها } أي: حراما، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق في بعض الأحاديث بين الحرام والمكروه، كقوله: " إن ربكم حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " متفق عليه، فهذا الحديث يُفهم منه التفريق بين الحرام والمكروه.
- ثم عرف إمام الحرمين بعضَ الأحكام الوضعية، فقال:
6 - وَالصَّحِيحُ مَا يَتَعلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعتَدُّ بِهِ:
- " ينفذ " أي: يترتب أثره عليه.
- " يعتد به " أي: يعتبر قائما شرعا، فيسقط التكليف عن المكلف بالفعل، إذا أداه على ذلك الوجه.
وأما الصحيح في اللغة: فهو السليم من المرض، أو هو الذي ليس به عيب، كما قال الشاعر (4) :
وليل يقول المرء من ظلماته ……سواءٌ صَحِيحَاتُ العيونِ وعُورُها
- والصحيح يُوصف بها العبادة والعَقْد، فيُقال: هذه صلاة صحيحة أي: مجزئة، ويُقال: هذا بيع صحيح أو نكاح صحيح، أي: يترتب عليه الأثر.
7 - وَالبَاطِلُ مَا لا يَتعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعتَدُّ بِهِ: أي: لا يكون الحكم معه نافذا، فلا يسقط الخطاب السابق، كمن صلى بلا طهارة، أو كمن تزوج بخامسة.
(والفِقْهُ أَخَصُّ من العِلْمِ. وَالعِلْمُ مَعرِفَةُ المعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ في الوَاقِعِ.
وَالجَهْلُ تَصُّورُ الشَّيءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ بِهِ في الوَاقِعِ.
وَالعِلْمُ الضَّرُورِيُّ مَا لمْ يَقَعْ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلالٍ كالعِلْمِ الوَاقِعِ بِإحْدَى الحَوَاسِّ الّتي هِيَ: السَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوقُ وَاللَّمْسُ.(1/11)
وَأمَّا العِلْمُ المُكْتَسَبُ فَهُوَ المَوقُوفُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ.
وَالنَّظَرُ هُوَ الفِكْرُ في حَالِ المَنْظُورِ فِيهِ.
وَالاسْتِدْلالُ طَلَبُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ: هُوَ المُرْشِدُ إلى المَطْلُوبِ؛ لأنَّهُ عَلامَةٌ عَلَيْهِ.
والظَّنُّ تَجْويزُ أَمْرَينِ أَحدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ.
والشَّكُّ تَجويزُ أَمرَينِ لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما عَلَى الآخَر.
وأُصُولُ الفِقْهِ طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإجْمَالِ وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا)
- الفقه أخص من العلم؛ لأن الفقه في الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أما العلم: فهو يشمل العلمَ بالأحكام الشرعية والأحكام العقلية، والأحكام العادية، ويشمل العلمَ بغير الأحكام، ويشمل العلم بالأحكام الشرعية العِلْمية، ويشمل الأحكام الشرعية غير المكتسبة، أي: المُوحَاة.
- وَالعِلْمُ مَعرِفَةُ المعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ في الواقع.
- " معرفة المعلوم ": أي: ما يتعلق به العلم.
- " على ما هو به "، أي: على حقيقته، وصفاته.
- " الواقع " أي: الحاصل.
وتعريف المصنف يقتضي الدَّوْرَ، والأولى تعريفه بـ: معرفة الشيء على ما هو به في الواقع.
- وَالجَهْلُ تَصُّورُ الشَّيءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ بِهِ في الواقع.
الجهل يُطلق على خلاف العلم وعلى خلاف الحلم، يُقال: هذا جاهل، بمعنى غير عالم، ويُقال: هذا جهول، يعني: صاحب نَزَقٍ وطيش وخفة ونقص عقل.
وأما في الاصطلاح فهو: تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، وهذا ما يسمى بالجهل المركب؛ لأن الجهل قسمان:
1 - الجهل البسيط: وهو عدم تصور الشيء أصلا.
2 - الجهل المركب: هو تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع.(1/12)
(وَالعِلْمُ الضَّرُورِيُّ مَا لمْ يَقَعْ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلالٍ كالعِلْمِ الوَاقِعِ بِإحْدَى الحَوَاسِّ الّتي هِيَ: السَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوقُ وَاللَّمْسُ.
وَأمَّا العِلْمُ المُكْتَسَبُ فَهُوَ المَوقُوفُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ.
وَالنَّظَرُ هُوَ الفِكْرُ في حَالِ المَنْظُورِ فِيهِ.
وَالاسْتِدْلالُ طَلَبُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ: هُوَ المُرْشِدُ إلى المَطْلُوبِ؛ لأنَّهُ عَلامَةٌ عَلَيْهِ.
والظَّنُّ تَجْويزُ أَمْرَينِ أَحدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ.
والشَّكُّ تَجويزُ أَمرَينِ لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما عَلَى الآخَر)
العلم، ينقسم إلى ضروري ونظري.
فالضروري: نسبة إلى الضرورة، فيجد الإنسان نفسه مضطرا إلى العلم به، وهو الذي لا يقع عن نظر واستدلال.
والنظر: هو حركة العقل في المعقولات وهو: الفكر، والاستدلال: طلب الدليل.
مثاله: العلم الحاصل بالحواس الخمس.
والحواس، جمع حاسة: وهي التي تُحِسُّ، وهي: العين، والأذن، والفم، والأنف، واليد، ووظيفةُ الحواس هي: الإحساس، والإحساس خمسة أنواع كذلك وهي: البصر، والسمع، والذوق، والشم، واللمس،
ومثاله أيضا: العلم الحاصل بالتواتر؛ فإنه يفيد العلم الضروري، كقطعِ الإنسان الذي لم يَرَ مكة، بوجود مكة، وكذلك القطعُ بوجود بيت الله الحرام.
ومثال المتواتر: القرآن؛ فإنه رواية الكافة عن الكافة.
العلم المكتسب: هو الذي يقع عن نظر واستدلال.
جعل إمام الحرمين العلمَ المكتسبَ مقابلا للعلم الضروري، والمقصود به: العلم النظري.
والنظر: هو الفكر في حال المنظور.
ذكره لكلمة " المنظور " في تعريف النظر، فيه إشكال، لأنه يلزم منه الدَّوْرُ.
والاستدلال: طلب الدليل.
والمراد هنا بالاستدلال: هو إقامة الدليل.(1/13)
الدليل: هو المرشد إلى المطلوب، هذا في اللغة، وسواءٌ أكان حسيًّا كالدليل الذي يَدُلُّ الناس في السفر، أو معنويا مثل: الدليل الذي يُؤخذ منه الحكم، وقد سبق الكلام عليه.
الظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
العلم ينقسم إلى أربعة أقسام:
- اليقين: وهو الذي يقتضي حصولَ تمام العلم، بحيثُ لا يبقى الإنسان مترددا في معلومِه.
- الظن: هو حصول جمهور العلم، بحيث يكون الحصول أرجحَ لدى الإنسان من خلافه.
- الشك: وهو استواء الطرفين.
- الوهم: وهو مقابل الظن، وهو الاحتمال المرجوح.
وأُصُول الفِقْهِ طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإجْمَالِ وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا.
عرف هنا أصول الفقه بمعناه اللقبي.
قوله: " طرقه " أي: أدلته.
قوله: " على سبيل الإجمال " أي: الإجمالية.
قوله: " وكيفية الاستدلال بها " أي: كيفية أخذ الأحكام منها، فيشمل الأحكام، ويشمل آخذ الأحكام.
(وَمِنْ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَقْسَامُ الْكَلاَمِ، وَالأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالْعَامُّ، وَالْخَاصُّ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُبَيَّنُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْمُؤَوَّلُ، وَالأَفْعَالُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالإِجْمَاعُ، وَالأَخْبَارُ، وَالْقِيَاسُ، وَالْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ، وَتَرْتِيبُ الأَدِلَّةِ، وَصِفَةُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَأَحْكَامُ الْمُجْتَهِدِينَ)
هذا هو التقسيم الذي اشتهر في زمن المصنف، والمتأخرون يقسمونه تقسيما آخر.
وللدخول في أي فن ينبغي ذكرُ مقدماتٍ عشرة:
حَدُّه: الأدلة الشرعية الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، وحال المستفيد.
موضوعُه: الأحكام الشرعية، وأدلتها.
ثمرتُه: الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
نسبتُه: هي نسبة العموم والخصوص الوجهي، لاشتراكه مع بعض هذه العلوم في بعض الأبحاث، ولانفراده بكثير من هذه البحوث التي يختص بها.
فضلُه: سبق في مقدمة الشرح.(1/14)
واضعُه: ليس لهذا العلم واضع معين، لكن أول من ألف فيه كتابا مستقلا: الشافعي.
اسمُه: أصول الفقه.
استمدادُه: النصوص الشرعية، وكلام العرب، ومصطلحات المتكلمين.
حكم الشارع فيه: (5)
مسائلُه: هي أبوابه التي ذكرها في هذا الباب.
[أقسام الكلام]
الكلام: يُطلق في اللغة على عدةِ مَعَانٍ، منها: الخَطّ، كقول عائشة رضي الله عنها: " ما بين دفتي المصحف كلام الله " والذي بين دفتي المصحف: هو الخطوط، ومنها: الإشارة، كقول الشاعر (6) :
إذا كلمتني بالعيونِ الفواترِ ……رددتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
ولم يعلمِ الواشون ما كان بيننا ………وقد قُضِيَتْ حاجاتُنا بالضمائرِ
ويطلق أيضا على: ما يُفهم من حال الشيء، كما قال الشاعر (7) :
يا دارَ عبلةَ بالجَوَاءِ تكلمي ………وعِمِي صباحا دارَ عبلةَ واسلمي
واصطلاحا: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع.
اللفظ: في اللغة: الطرح والترك والرمي، يقال: لَفَظَت الدابة الحشيشَ إذا تركته، ويقال: لفظ فلان الحصاة إذا رمى بها، ومنه قول الشاعر غيلان:
عشيةَ ما لي حيلةٌ غير أنني ………بلفظِ الحصى والخطِّ في الرملِ مولَعُ
واصطلاحا: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية.
المركب: مُخْرِجٌ للكلمة الواحدة، فلا تسمى كلاما في الاصطلاح.
(فَأَمَّا أَقْسَامُ الْكَلاَمِ، فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الْكَلاَمُ: اسْمَانِ، أَوِ اسْمٌ وَفِعْلٌ، أَوِ اسْمٌ وَحَرْفٌ، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْفٌ)
الكلمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف.
الاسم: ما دل على مسمى.
الفعل: هو ما دل على حركة المسمى.
الحرف: ما دل على معنى في غيره.
أقل ما يتألف منه الكلام:
- اسمان، مثل: " ذا زيد ".
- اسم وفعل، مثل: " استقم " أي: أنت.
- اسم وحرف، وهذا ليس بصحيح.
- فعل وحرف، وهذا ليس بصحيح أيضا، وما كان فيه في النداء نحو: " يا زيد "، فهذا على تقدير فعل، أي: أدعو زيدا.
قال ابن مالك في الكافية:(1/15)
وهو من اسمين كـ(زيدٌ ذاهبُ) ……واسمٍ وفعلٍ نحو (فازَ التائبُ)
(وَالْكَلاَمُ يَنْقَسِمُ إِلَى: أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ، وَاسْتِخْبَارٍ)
ينقسم الكلام إلى إنشاء وخبر.
الإنشاء: إحداث معنى بلفظ يقارنه في الوجود، كبعتُ، وأعطيت، وخذ، وكيف حالُك ؟
الخبر: التحدث عن أمر قد حصل أو يحصل.
والأمر والنهي: كلاهما من الطلب، والطلب من أقسام الإنشاء، والاستخبار كذلك؛ لأنه طلب الخبر أي: الاستفهام.
وأما الخبر، فهو قسم بذاته، وهو ما يحتمل التصديق والتكذيب، كـ: مات زيد، وجاء بكر.
(وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى: تَمَنٍّ، وَعَرْضٍ، وَقَسَمٍ)
هذا التقسيم كله غير حاصل، ويقصد المصنف أن من أقسام الكلام: التمني، ولكن التمني من أقسام الإنشاء، وكذلك العرض والقسم.
(وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، يَنْقَسِمُ إِلَى: حَقِيقَةٍ، وَمَجَازٍ)
فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة.
والمجاز: ما تُجُوِّزَ عن موضوعه.
(فَالْحَقِيقَةُ: إِمَّا لُغَوِيَّةٌ، وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ، وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ.
وَالْمَجَازُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ نَقْلٍ، أَوِ اسْتِعَارَةٍ:
فَالْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { ليس كمثله شيء }.
وَالْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { واسأل القرية }.
وَالْمَجَازُ بِالنَّقْلِ، كَالْغَائِطِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ.
وَالْمَجَازُ بِالاِسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { جدارا يريد أن ينقض })
هذا تقسيم آخر للكلام، فالكلام ينقسم إلى: حقيقة ومجاز.
الحقيقة: هي اللفظ المستعمل أولا، أي: اللفظ الذي بقي على ما استعمل فيه أول مرة.
(فائدة)(1/16)
الحقيقة والمجاز، لا تكونان إلا في المركب، فاللفظ المفرد يُحمل في الأصل على الحقيقة، كـ: الأسد، هو للحيوان المفترس، لكن في التركيب، مثل: جاء أسد، فيحتمل أن تكون للحقيقة، ويحتمل أن تكون للمجاز.
(فائدة)
الحقيقة: مشتقة من حقَّ، بمعنى: ثبت واستقر، لا من الحَقِّ الذي هو خلاف الكذب، كما قال تعالى: { فحق عليهم القول } أي: استقر عليهم، وتحقق فيهم.
فليس المجاز كذبا، إذ لو كان كذلك لما جاز وروده في الوحي.
(فائدة)
اللغة أصلا، اختلف فيها هل هي وضعية، اتفق الناس على وضعها، أو هي توقيفية من عند الله سبحانه وتعالى، وإذا قلنا إنها توقيفية من عند الله، فلا يُقصد بذلك كلُّ ألفاظها، بل ما يحصل به التفاهم في كل لغة، وإلا فإن كل لغة قابلة للثراء وللنماء، فتزداد بكثير من الألفاظ المشتقة من أصولها الموجودة، ويندرس منها كثير من الألفاظ، وهي التي توصف بالغرابة مع طول الزمن.
وعرَّف الجوينُّي الحقيقةَ بقوله:
الحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه.
- " ما بقي في الاستعمال " أي: ما بقي شائعا في استعمال الناس له.
- " على موضوعه "، أي: على ما وُضع له في دلالته الأصلية.
وقيل: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة.
والمعنى: ما اصطلح الناس عليه واتفقوا عليه من المخاطبة في أصل الكلام.
والمجاز:
لغة: مكان الْجَوَاز، أي: العبور، فتقول: هذا مجاز، أي: باب يُجاز منه إلى غيره.
واصطلاحا: ما تُجُوِّزَ عن موضوعه.
أي: ما نقل عما وُضع له في أصل اللفظ، أو: اللفظ الذي استعمل ثانيا، أي: استعمالا غير الاستعمال المعهود المتبادر إلى الذهن.
والحقيقة: إما شرعية، وإما لغوية، وإما عرفية:
الحقيقة الشرعية: كالصلاة، للعبادة المعروفة.
الحقيقة اللغوية: استعمال اللفظ على معناه الأصلي المتبادر في اللغة، كـ: الأسد، للحيوان المفترس.(1/17)
الحقيقة العرفية: ما تعارف الناس عليه بعد أصل اللغة، كـ: الدابة، فهي حقيقة عرفية لذوات الحافر، وهي في الأصل لكل ما يدب على الأرض.
والمجاز: إما أن يكون بزيادة، أو نقصان، أو نقل، أو استعارة.
- المجاز بالزيادة، أي: بزيادةٍ في اللفظ، يمكن في الأصل الاستغناءُ عنها، ولكنها جيء بها لأمر آخر، مثاله قول الله تعالى: { ليس كمثله شيء } فالكاف هنا زيادة في الكلام، وأصل الكلام: (ليس مثلَه شيءٌ)، والكاف جاءت لتأكيد هذا المعنى، فكانت زيادة مفيدة.
- المجاز بالنقص: مثل قول الله تعالى: {واسأل القرية} أي: أهل القرية، فخرج به الكلام عن استعماله الأصلي، فكان: مجازا بالنقص.
- المجاز بالنقل، أي: نقل اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنًى آخر، له معه علاقة، مثاله: الغائط، فهو في الأصل: المطمئن من الأرض، ولكن الشارع نقله للدلالة على الحدث الخارج من البدن، فاستعمل الغائط في معنى غير معناه الأصلي بواسطة النقل.
- الاستعارةُ، لغةً: طلب الإعارة، واصطلاحا: التشبيه الذي حُذفت أداته، مثال: زيد أسد، أي: كالأسد.
[باب الأمر]
(وَالأَمْرُ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ: افْعَلْ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاَقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: النَّدْبُ أَوِ الإِبَاحَةُ.
وَلاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ، إِلاَّ إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التَّكْرَارِ. وَلاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ.
وَالأَمْرُ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لاَ يَتِمُّ الْفِعْلُ، كَالأَمْرِ بِالصَّلاَةِ أَمْرٌ بِالطَّهَارَةِ.
وَإِذَا فُعِلَ يُخْرِجُ الْمَأْمُورَ عَنِ الْعُهْدَةَ)
الأمر: لغة: مصدر (أَمَر)، وأَمَرَ بالشيء: إذا طَلَبَ وقوعه.(1/18)
واصطلاحا: استدعاء الفعل بالقول لمن هو دونه على سبيل الوجوب.
- " استدعاء الفعل "، أي: طلب وقوع الفعل.
- " بالقول "، أي: سواء كان صريحا باللفظ، أو قام مقامه كالإشارة أو [الـ]كتابة، فكل ذلك من الأمر.
- " لمن هو دونه "، هنا شرط العلو من الآمر، وهذا محل خلاف بين الأصوليين.
والمناطقة يقسمون طلب الفعل إلى ثلاثة أقسام:
- فإن كان الطالب أعلى من المطلوب منه الفعلُ فهو: الأمر.
- وإن كان أدنى منه، فهو: دعاء.
- وإن كان من مساو، فهو: التماس.
- " على سبيل الوجوب "، أي: على سبيل الحتم، ولكن هذا القيد يُستغنى عنه هنا، لأنه يُخرِج الأمرَ الذي لا يقتضي الجزم، ويُخرِج أيضا: الأمر المطلق الذي لا يُنظر فيه إلى قيد الجزم، ولا إلى قيد عدم الجزم.
- قال: " والصيغة الدالة عليه: افعل ".
في هذا إثبات أن للأمر صيغةً، وأن صيغته هي لفظ: (افعل)، ولا يُقصد بها هذا الوزن، بل يُقصد بها فعل الأمر مطلقا، سواء كان الفعل ثلاثيا كـ (اكتب)، أو رباعيا كـ(أَكْرِم)، أو خماسيا كـ(انْطَلِقْ)، أو سداسيا كـ(اسْتَخْرِج).
- و(افعل) هو صيغة الأمر الأصلية، ومثلها: الفعل المضارع المقرون بلام الأمر.
- قال: " وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه ".
- " وهي " أي: صيغة الأمر " افعل ".
- " عند الإطلاق " أي: عدم تقييدها بقيد يصرف عن ذلك.
- " والتجرد عن القرينة " أي: عدم وقوع القرينة الحالية التي تصرف عن ذلك أيضا.
- " تحمل عليه " أي: تحمل على استدعاء الفعل على وجه الوجوب.
فالأمر في الأصل يُحمل على الوجوب، ومحل هذا: أمر من هو أعلى.
(فائدة) القرينة: ما يقارن الشيء، وهي إما حالية، وإما مقالية، والمراد بها في كلام المصنف هي الحالية؛ لأن المقالية مذكورة في قوله: " عند الإطلاق ".(1/19)
- قال: " إلا ما دل الدليل على أن المراد منه: الندب أو الإباحة "، هذا الاستثناء منقطع؛ لأن ما دل الدليل على أن المراد به الندب أو الإباحة، ليس عند الإطلاق والتجرد عن القرينة.
والمراد: أن الأمر إذا لم يحتفَّ بقرينة حالية أو مقالية، تدل على عدم إرادة الوجوب، فإن مَحْمِلَه على الوجوب، ولكن دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الندبُ، فإنه يُصرف إلى الندب، أو دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الإباحة، يُصرف إلى الإباحة.
- فإطلاقه الأصلي: الوجوب، مثل قوله تعالى: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، فهذا الأصل فيه أنه للوجوب.
وإذا احتفت قرينة تقتضي عدم الوجوب، عُمل بتلك القرينة.
- مثاله قوله عليه الصلاة والسلام: " صلوا قبل المغرب ركعتين " ثم قال في الثالثة: " لمن شاء "، وقال: "بين كل أذانين صلاة " ثم قال: " لمن شاء ".
- وإذا كان الأمر بعد الحظر، كقوله تعالى: { وإذا حللتم فاصطادوا }، فهذه قرينة تدل على عدم الوجوب، فلا يجب على من تحلل من الحج أو العمرة أن يصطاد؛ لأن هذا الأمر ورد بعد الحظر في قوله تعالى: { غير محلي الصيد وأنتم حرم }.
ومثله قوله تعالى: { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله }، فقوله: " فأتوهن " صيغة أمر، ولكنها لا تدل على الوجوب؛ لأنها جاءت بعد حظر، وهو قوله تعالى: { يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن }.
- والقرينة الحالية، كأن يكون سياق الأمر للإرشاد الطبي أو نحوه.
- والإرشاد قد يُفهم من القرينة المقالية أيضا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " زوروها فإنها تذكركم الآخرة "، فالأمر هنا ليس للوجوب؛ لأنه قال: " فإنها تذكركم الآخرة "، فبين العلة، فهي قرينة مقالية تدل على عدم إيراد (8) الوجوب.
قال: " ولا يقتضي التَّكرارَ على الصحيح، إلا إن دلَّ الدليل على قصد التكرار ".(1/20)
أي: أن الأمر في أصل صيغته لا يدل على التكرار، والتكرار: فعل الشيء أكثر من مرة.
فإذا قال الآمر: صل، فلا يقتضي ذلك تكرار الصلاة، بل تكفي في امتثاله صلاةٌ واحدة.
وهذا على الصحيح.
وقوله: " إلا إن دلَّ الدليل على قصد التكرار "، أي: إن دل الدليل على قصد التكرار سواء كان ذلك الدليل مقاليا نحو: " كلما غربت الشمس فصل "، ومثاله قول الله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } والشهر متكرر، أو حاليا.
قال: " ولا يقتضي الفور ".
أي: أن الأمر لا يقتضي الفور، وهذا محل خلاف بين أهل العلم.
- فذهب طائفة من الأصوليين إلى أن الأمر يقتضي الفور، إذا تجرد عن القرائن.
- قالت طائفة: لا يقتضي الفور، بل يبقى مطالبا به، متى ما أداه حصل المقصود.
والمقصود بالفور: المبادرة بأدائه.
ومن هذا، اختلفت أنظار العلماء في قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } هل الأمر بالحج على الفور أم على التراخي ؟
قال: " والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل [إلا به]، كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة ".
1 - الأمر قد يتعلق بالشيء مباشرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله فرض عليكم الحج فحجوا".
2 - وقد يتعلق بسببه وما يتوقف عليه، فيكون ذلك أمرا به؛ لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب، ومحل ذلك: إذا كان جزءا من المأمور به، مثل: غسل الوجه، كما قال تعالى: { فاغسلوا وجوهكم } فغسل الوجه لا يتحقق إلا بغسل شيء من الرأس، حتى يتحقق الإنسان أنه غسل كل الوجه، فما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب، فيدخل جزء الرأس في وجوب غسل الوجه.
3 - أما إن كان سببا، فإنه لا يجب سواء دخل في الطوق أم لم يدخل فيه، فالسبب الداخل في الطوق، كجمع المال حتى يبلغ نصابا لوجوب الزكاة، فالزكاة سبب وجوبها: ملك النصاب، ودوران الحول عليه، فلا يجب على المسلم أن يجمع المال حتى يبلغ نصابا لتجب عليك الزكاة، وهو داخل في الطوق.(1/21)
ومثال ما ليس داخلا في الطوق: تغريب الشمس حتى تجب عليك صلاة المغرب، فهذا قطعا لا يجب؛ لأنه لو وجب لكان من التكليف بالمحال، ولا يجوز التكليف بالمحال.
4 - أما إن كان شرطا، فإن كان داخلا في الطوق كالطهارة للصلاة، فهو واجب، وإن كان خارجا عن الطوق كالنقاء من دم الحيض والنفاس، فلا يجب.
قال: " وإذا فعل يخرج المأمور عن العهدة "، فإذا [جاء] بالمأمور به على الوجه الصحيح، أجزأه ولم يُخاطب به مرة أخرى، فتبرأ ذمته.
[من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل]
(يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُونَ. وَالسَّاهِي وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْخِطَابِ، وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَبِمَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِهِ وَهُوَ الإِسْلاَمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ }. وَالأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ)
قوله: " يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون "، فقوله تعالى - مثلا -: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، فيشمل هذا كلَّ مؤمن بالله تعالى، إلا إذا كان متصفا بما يمنعه من الدخول في العموم، كغير المكلف، ومن رفع عنه القلم، فلا يدخل في هذا الخطاب.
ولهذا قال الجويني: " والساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب ".
- الساهي: غائب العقل في وقت الخطاب، سواء كانت غيبته عميقة كالإغماء، أو خفيفة كالسهو.
- الصبي: غير البالغ.
- المجنون: المصاب بما يغطي عقله.
- أما المريض مرضا دون ذلك، بحيث لا يستطيع أداء الفعل في وقته، والمسافر الذي هو مخير بين الصوم والإفطار، اختلُف في دخولهما في الخطاب.(1/22)
- فقيل: يدخلان في الخطاب، لأنه يلزمهما القضاء، مثل ذلك الحائض فيما يتعلق بالصوم دون الصلاة، فالحائض لم تخاطب بالصلاة لا أداء ولا قضاء، وهي لم تخاطب بالصوم أداء، ولكنها خوطبت به قضاء.
(فائدة) هل القضاء بالأمر الجديد، أم بالأمر الأول ؟ هذا محل خلاف.
قال: " والكفار مخاطبون بفروع الشرائع ".
الكفار غير معذورين بكفرهم، فهم مخاطبون بفروع الشرائع، أي: تفصيلاتها الزائدة على أصل الإيمان، فيدخل في ذلك: الصلاة، والصوم، والحج، وغير ذلك، لأنهم مخاطبون بالإسلام.
وهذه المسألة محل خلاف بين الأصوليين:
1 - فذهب جمهورهم إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لقوله تعالى: { ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين }، فهؤلاء كفار، لأنهم قالوا: { كنا نكذب بيوم الدين }، ومع ذلك فمما سلكهم في النار: أنهم لم يكونوا من المصلين، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يخوضون مع الخائضين.
2 - وقالت طائفة أخرى، هم غير مخاطبين بفروع الشريعة، لأنها لا تُجزئهم ولا تصح منهم، فلو كانوا مخاطبين بها لأجزأهم فعلها، ومن المعلوم أن الكافر إذا صلى، لا تصح صلاته، وإذا صام لم يصح صيامه، وهكذا جميع الأعمال، كما قال تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }، وقال: { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله }.
قال: " وبما لا تصح إلا به وهو الإسلام "، أي: أن الكفار مخاطبون بما لا تصح الفروع إلا به، وهو: الإسلام.
(فائدة) الكافر إذا أسلم، لا يُخاطب بقضاء شيء مما مضى، مع أنه كان مخاطبا به.
قال: " والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده ".
- الأمر بالشيء نهي عن ضده، أي: الأمر بالشيء نهي [عن] جميع أضداده، مثلا: لو قال قائل: " قم "، هذا نهي عن الجلوس وعن الاتكاء، لأنك لا تكون ممتثلا إلا إذا فعلت ما أمرت به.(1/23)
- والنهي عن الشيء أمر بضده، أي: النهي [عن] الشيء أمر بأحد أضداده فقط، مثال، لو قال قائل: " لا تقم "، فإنك تكون ممتثلا إذا جلستَ وإذا اضطجعتَ وإذا اتكأتَ.
[النهي]
(وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَتَرِدُ صِيغَةُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ: الإِبَاحَةُ، أَوِ التَّهْدِيدُ، أَوِ التَّسْوِيَةُ، أَوِ التَّكْوِينُ).
قال: " والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب "، فعرفه ضد تعريف الأمر.
- " استدعاء الترك "، أي: طلب الترك.
- " بالقول "، أي: سواء كان باللفظ أم بالخط أم بالإشارة.
- " ممن هو دونه "، هذا شرط للعلو أو للاستعلاء.
- " على سبيل الوجوب "، ليقتضي ذلك الجزم، والأولى عدم ذكر هذا في التعريف، لأن النهي يُطلق بقيد الجزم فيدل على التحريم، ويُطلق بقيد عدم الجزم فيدل على الكراهة، ولا بقيد شيء، فهو النهي المطلق الذي يشمل التحريم أو الكراهة.
قال: " ويدل على فساد المنهي عنه ".
الأمر، مقتضاه التكليفي: هو الوجوب - على الراجح - عند الإطلاق، وقد يدل على الندب أو الإباحة بالقرائن.
والنهي، مقتضاه التكليفي: هو التحريم - على الراجح أيضا -، وقد يقتضي: الكراهة.
وأما مقتضاهما الوضعي:
فمقتضي الأمر: الصحة.
ومقتضي النهي: الفساد والبطلان.
فإذا نهى الشارع عن أمر، فليس لذلك الأمر حقيقة، لأن المعدوم شرعا، كالمعدوم حسا، فيدل على فساد المنهي عنه، فلا يترتب عليه أي أثر، لأنه فاسد.
قال: " وترد صيغة الأمر والمراد به: الإباحة، أو التهديد، أو التسوية، أو التكوين ".
صيغة الأمر وصيغة النهي، تَرِدَان على غير ما سبق، فقد تأتيان محتفتين بالقرائن التي تدل على عدم إرادة المعنى الأصلي.
صيغة الأمر:
- قد تأتي صيغة الأمر والمراد بها: الإباحة، كقوله تعالى: { وإذا حللتم فاصطادوا }.(1/24)
- وقد تأتي صيغة الأمر والمراد بها: التهديد، كقوله تعالى:{ قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار }.
- وقد تأتي صيغة الأمر والمراد بها: التسوية، أي: التسوية بين الفعل والترك، كقوله تعالى: { اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم }.
- وقد تأتي صيغة الأمر والمراد بها: التكوين، أي: الإيجاد، كقوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}.
[باب العام]
(وَأَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ مَا عَمَّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ قَوْلِكَ: عَمَمْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بِالْعَطَاءِ، وَعَمَمْتُ جَمِيعَ النَّاسِ بِالْعَطَاءِ.
وَأَلْفَاظُهُ أَرْبَعَةٌ:
1 - الاِسْمُ الْوَاحِدُ الْمُعَرَّفُ بِاللاَّمِ.
2- وَاسْمُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفُ بِاللاَّمِ.
3 - وَالأَسْمَاءُ الْمُبْهَمَةُ، كَـ " مَنْ " فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَ" مَا " فِيمَا لاَ يَعْقِلُ، وَ" أَيٍّ " فِي الْجَمِيعِ، وَ" أَيْنَ " فِي الْمَكَانِ، وَ" مَتَى " فِي الزَّمَانِ، وَ" مَا " فِي الاِسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ، وَغَيْرِه.
4 - وَ" لاَ " فِي النَّكِرَاتِ.
وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، وَلاَ يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ)
العام:
لغة: الشامل.
اصطلاحا: لفظٌ يتناولُ الصالحَ له من غير حصرٍ دُفْعَةً.
- لفظ: فالعموم من عوارض الألفاظ، فلا يوصف بها المعاني ولا الأجسام في الاصطلاح، وإلا فهو في الأصل يتناول المعاني والأجسام.
- يتناول الصالح له: أي: يدخل تحته ما يصدق عليه.
- من غير حصر: أي: من غير حصر في عدد معين.
- دفعة: في نفس الوقت، فيتناولهم جميعا، لا على سبيل البدلية، كـ: الرجال.
وهذا بخلاف المطلق، فإنه يتناول الصالح من غير حصر على سبيل البدلية، كـ: رجل.
قال: " وأما العام فهو " أي: في اللغة " ما عم " أي: شمل "شيئين فصاعدًا ".
قال: " من قوله: عممت زيدًا وعمرًا بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء ".(1/25)
ولم يُعَرِّفِ الجويني العام اصطلاحا، وقد سبق ذكر تعريفٍ له.
قال: " وألفاظُه أربعة " أي: صِيَغُه، وصيغه ليست محصورةً فيما ذكره، بل له صيغ أخرى.
قال: " 1 - الاسم الواحد المعرف باللام ".
- الاسم الواحد: أي: المفرد، وهو غير المثنى ولا المجموع.
- المعرف بالألف واللام: أي: المحلى بـ(أل) الجنسية؛ مثاله: الرجل.
قال: " 2- واسم الجمع المعرف باللام. ".
- اسم الجمع المعرف باللام: أي: المحلى بـ(أل) الجنسية؛ مثاله: الرجال.
قال: " 3 - والأسماء المبهمة، كـ " من " فيمن يعقل، و" ما " فيما لا يعقل، و" أي " في الجميع، و" أين " في المكان، و" متى " في الزمان، و" ما " في الاستفهام والجزاء، وغيره. ".
- الأسماء المبهمة: أي: الموصولات، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام.
- كـ " من " فيمن يعقل: أي: لمن يعقل، و"ما" فيما لا يعقل. - و" أي " في الجميع: أي: فيمن يعقل، وفيما لا يعقل.
- و" أين " في المكان.
- و" متى " في الزمان.
- و" ما " في الاستفهام والجزاء: مثال الاستفهام: { ما تلك بيمينك يا موسى }، ومثال الجزاء، أي: الشرط: { ما تفعلوا من خير يعلمه الله }، فهذا يشمل القليل والكثير.
قال: " 4 - و" لا " في النَّكِرَاتِ ".
النكرة في سياق النفي، فهي للعموم، سواء كان النفي بـ " لا " كما ذكر المصنف أو بغيرها، مثاله: "لا رجل في الدار ".
قال: " والعموم من صفات النطق ".
أي: أن العموم من عوارض الألفاظ، لا من عوارض المعاني ولا من عوارض الأجسام، وهذا في الاصطلاح، وإلا فهو في الأصل من عوارض الأجسام كـ: عمَّ الحبلُ الحطبَ، ومن عوارض المعاني كـ: عممت الناس بالعطاء.
قال: " ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجرى مجراه ".
- " ولا يجوز دعوى العموم في غيره " أي: في غير صيغ العموم (9).
- " من الفعل وما يجري مجراه ".(1/26)
مثال الفعل: " كلْ " و" اشربْ "، فهذا لا يدل على العموم، بل يُمتثلُ بأكل أيِّ شيء، وشرب أيِّ شيء، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك: أكلُ كلِّ شيء، وشربُ كلِّ شيء (10) .
- قوله: " وما يجري مجراه " أي: مما يشبه الفعل من الأوصاف ونحوها، فهو من المطلق، وليس منه شيء من قبيل العموم.
أمثلة عن [على] العموم:
- مثال المفرد المحلى بـ(أل)، قوله تعالى: { والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا.... }، فالإنسان أي: كل إنسان، بدليل الاستثناء الذي بعده، فالاستثناء معيار العموم.
- مثال الجمع المحلى بأل، قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون }، { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم }.
(فائدة) أل العهدية، إذا كان المعهود عاما، كانت للعموم، مثل قوله تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة}.
وإذا كان المعهود مفردا، كقوله تعالى: { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول }، فهنا لا يُقصد به العموم.
- مثال الأسماء المبهمة: { من يعمل سوءا يجز به } و"من " هنا شرطية، وقوله { فأين تذهبون } أي: في أي اتجاه تذهبون، وقوله { متى نصر الله }.
- مثال النكرة في سياق النفي: { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }، وكذلك النكرة في سياق النهي، مثل قوله تعالى: { فلا تدعوا مع الله أحدا }، والنكرة في سياق الشرط، كقوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره }.
(فائدة) ترك المصنف من ألفاظ العموم: " كل " و" جميع " و" عامة "، والمضاف إلى معرفة، والنكرة في سياق الامتنان، والنكرة في سياق الإثبات في صورٍ قليلة، مثل قوله تعالى: { علمت نفس ما أحضرت} فالأصل في النكرة في سياق الإثبات أن تكون للإطلاق، ولكنها قد ترد للعموم في مواضع نادرة.
[باب الخاص]
(وَالْخَاصُّ: يُقَابِلُ الْعَامَّ، وَالتَّخْصِيصُ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَمُنْفَصِلٍ.(1/27)
فَالْمُتَّصِلُ: الاِسْتِثْنَاءُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ.
وَالاِسْتِثْنَاءُ: إِخْرَاجُ مَا لَوْلاَهُ لَدَخَلَ فِي الْكَلاَمِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْكَلاَمِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الاِسْتِثْنَاءِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَجُوزُ الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَالشَّرْطُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمَشْرُوطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَنِ الْمَشْرُوطِ.
وَالْمُقَيَّدُ بِالصِّفَةِ: وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ، كَالرَّقَبَةِ قُيِّدَتْ بِالإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَأُطْلِقَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَتَخْصِيصُ النُّطْقِ بِالْقِيَاسِ، وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ: قَوْلَ اللهِ تَعَالَى وَقَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
الخاص:
لغة: من " خصَّ الشيءَ بكذا ".
اصطلاحا: لفظٌ يتناول ما دل عليه على وجه محصور، أو: اللفظ الدال على محصور.
(فائدة) لم يذكر الجويني أنواعَ العام، والعام على ثلاثة أنواع: عام باق على عمومه، كالأمثلة التي سبقت في الباب الذي قبل هذا، وعام مراد به الخصوص، كقول الله تعالى: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم }، وعام مخصوص، وهو العام الذي أريد به العموم في الأصل، ولكنه خصص بعد ذلك.
قال: " والخاص: يقابل العام "، يقابله أي: يضاده.
قال: " والتخصيص: تمييز بعض الجملة " أي: بحكمٍ مستقلٍ بها، والمراد بـ " الجملة " هنا: ما يتناوله العامُّ.(1/28)
قال: " وهو ينقسم إلى متصل ومنفصل " أي: أن المخصِّصَ ينقسم إلى متصل ومنفصل.
قال: " فالمتصل: الاستثناء، والتقييد بالشرط، والتقييد بالصفة "، هذا كله من المخصصات.
- فالاستثناء، مثل قول الله تعالى: { ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا..... } الآيةَ.
- الشرط، مثل قولهم: " تُقتل المرأة إن قاتلت "، فـ " المرأة " جنس محلى بأل، فهي من ألفاظ العموم، " إن قاتلت " خُصِّص هذا العام - " المرأة " - بالشرط الذي بعده، ومعنى ذلك أنها إذا لم تقاتل لا تُقتل.
- التقييد بالصفة، كقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }.
قال: " والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام ".
- " إخراج ما لولاه " أي: لولا الاستثناء.
- " لدخل في الكلام "، نحو قولك: " جاء القوم إلا زيدا "، فلو قلتَ: " جاء القوم "، فإنه يدل على مجيء " زيد ".
قال: " وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء "، فلو قلتَ: " له عليَّ عشرةٌ إلا عشرةً " لم يصح الاستثناء، لكن إذا قلت " له علي عشرة إلا ثلاثةً " أو " إلا أربعةً "، جاز الاستثناء بالاتفاق، إذا كان دون النصف، فإذا كان نصفا فصاعدا فهو محل خلاف، وهو خلاف فقهي ليس أصوليا، والذي سار عليه المصنف هو أنه يصح الاستثناء حتى يبقى من المستثنى منه شيء، فلو قلتَ: " له علي عشرة إلا تسعة " صح الاستثناء عنده.
قال: " ومن شرطه أن يكون متصلاً بالكلام "، فإن انفصل عنه لم يصح الاستثناء، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بأن الاستثناء يصح ولو حصل الفصل، وفيه خلاف بين الأصوليين.
قال: " ويجوز تقديم الاستثناء عن المستثنى منه "، فتقول: " له عليَّ إلا ثلاثةً عشرةٌ ".(1/29)
قال: " ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره "، يجوز الاستثناء من الجنس، وهذا الذي يُسمى في اصطلاح النحويين بـ " الاستثناء المتصل "، نحو: " قام القوم إلا زيدا "، ويجوز الاستثناء من غير الجنس، وهو الذي يسمى عند النحويين بـ " الاستثناء المنقطع "، نحو قول الله تعالى: { فسجدوا إلا إبليس } فإبليس ليس من جنس الملائكة.
قال: " والشرط: يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم عن المشروط "، بيد أن الشرط الذي هو من المخصصات المتصلة، يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم عنه، والتأخر عنه هو الأصل، مثل قول الله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد }، ومثال المتقدم عن المشروط، قول الله تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }.
قال: " والمقيد بالصفة: ويحمل عليه المطلق، كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع ".
المطلق:
لغة: مفعول من " أطلقه، يطلقه " فهو " مطلق " أي: أرسله.
اصطلاحا: اللفظ الذي يتناول ما صلح له على سبيل البدلية لا دفعة واحدة.
المقيد:
لغة: مفعول من " قَيَّدَه، يُقَيِّده " فهو " مقيد " أي: جَعَلَ فيه القيدَ، والقيدُ: ما يحد الحركة.
اصطلاحا: ما يَحُدُّ من الإطلاق، فيُعَطِّلُ اللفظ عن بعض ما يَصْدُقُ عليه.
قوله: " والمقيد بالصفة: ويحمل عليه المطلق "، قد يرد الأمر بلفظ مطلق في مكان، ويرد بلفظ مقيد في مكان آخر، وكذلك النهي.
اختلف أهل العلم في ذلك:
1 - فقيل: يُحمل المطلق على المقيد.
2 - وقيل: يبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على قيده.
- مثال ذلك في الأمر، قول الله تعالى: { فتحرير رقبة } جاء هذا اللفظ مطلقا في كفارة الظهار، وجاء مقيدا بالإيمان في كفارة القتل، فقيل: يُحمل المطلق على المقيد، فلا تجزئ الرقبة في الكفارة إلا إذا كانت مؤمنة.(1/30)
- مثاله في النهي، قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من جرَّ ثوبه خيلاء لم يرح رائحة الجنة "، وقوله: " ما أسفل من الكعبين ففي النار "، هذا نهي عن الإسبال، فاللفظ الأول قُيِّد فيه النهي بأن يكون ذلك على وجه الخيلاء، واللفظ الثاني أُطلق فيه ذلك دون قيد، فهل يُحمل المطلق على المقيد، هذا محل الخلاف.
قال: " ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة".
انتقل المصنف إلى التخصيص بالمنفصل.
- قد يكون التخصيص بالحس، كقول الله تعالى: { تدمر كل شيء بأمر ربها }، فالمحسوس أن السماء لم تُدمَّر، وأن الأرض لم تُدمَّر، والمعنى: تدمر كل شيء أُذن لها في تدميره.
- وقد يكون التخصيص بالعقل، كقول الله تعالى: { الله خالق كل شيء }، فالعقل يقتضي أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق نفسه، فهو غير مخلوق.
- وقد يكون التخصيص بالنص، وهو الذي فصَّل فيه المصنف.
- " ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب "، مثل قول الله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } هذا اللفظ عام في كل مطلقة، سواء كانـ[ـت] مدخولا بها أو غير مدخول بها، ولكن خُصص بنص آخر، وهو قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }.
- " وتخصيص الكتاب بالسنة "، فالله جل وعلا قال في كتابه بعد ذكر المحرمات من النساء وهنَّ خمس عشرة امرأة، قال تعالى: { وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم.... }، فـ " ما " هنا من ألفاظ العموم، ولكن خصص ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في السنة، فقال: " لا تُنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها "، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".(1/31)
- ويجوز تخصيص الكتاب بالإجماع - ولم يذكره المصنف هنا -، مثل قول الله تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }، فهذه الآية عامة في الحر والعبد، ولكنها خُصِّصَتْ بالإجماع، على أن العبد القاذف يُجلد على النصف من الحر.
- ويجوز تخصيص الكتاب بالقياس، مثل قول الله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }، فيُقاس العبد الزاني على الأمة الزانية في تنصيف الحد، لأن الأمة ذُكر فيها التنصيف، في قوله تعالى: { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب }، فيُقاس العبد الذكر على الأنثى.
- " وتخصيص السنة بالكتاب "، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله "، فإن ذلك خصص بقوله تعالى: { حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }، فالآية خصصت من قبل دفع الجزية، فإن الجزية تُقبل منه ولا يُقاتَل.
- " وتخصيص السنة بالسنة "، مثال قوله صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء العشر " فهذا عام في القليل والكثير، وقد خصصته السنة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ".
- " وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق: قول الله تعالى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "، يعني: أن الكتاب والسنة كلاهما يُخصص بالقياس، فتخصيص الكتاب بالقياس - كما سبق - في قياس العبد على الأمة في تَنَصُّفِ حد الزنى، وأما تخصيص السنة بالقياس، فمثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام "، فخُصَّ من الحديث: العبدُ قياسًا، فيتنصف الحد في حقه، قياسا على الأمة.
[المجمل والمبين](1/32)
(وَالْمُجْمَلُ: مَا افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي، وَالنَّصُّ: مَا لاَ يَحْتَمِلُ إِلاَّ مَعْنًى وَاحِدًا، وَقِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ).
عقد هذا الباب لـ: المجمل والمبين، فـ:
المجمل: هو اللفظ الخفي الدلالة، خفاءً راجعا إلى عمومٍ فيه أو إطلاقٍ.
والمبين: هو اللفظ الواضح الدلالة، لتخصيصٍ فيه أو تقييدٍ.
الْمُجمل:
لغة: مُفْعَلٌ، لصيغة اسم المفعول في الوصف، من أجمله، أي: أذابه، والإجمال: الإذابة، أجمل الشحم أي: أذابه، والكلام الذي لا تتضح الدلالة منه كالشحم المذاب.
اصطلاحا: ما افتقر إلى البيان.
والمراد بافتقاره: افتقارنا نحن في فهمه إلى البيان، وذلك لأسباب كثيرة، هي أسباب الإجمال، منها:
- عدم معرفة المراد بسبب الاشتراك في الدلالة، كقوله تعالى: { إلا أن يعفون أو يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح }، والذي بيده عقدة النكاح، يُمكن أن يُقصَد به: الزوج، ويمكن أن يقصد به: الولي، كذلك قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }، هل المقصود: الحيض أو الطهر، فالقَرْء يطلق على الحيض، كقول الراجز:
يا رُبَّ ذي ضغن علي قارضِ ………له قروءٌ كقروء الحائضِ (11)
ويطلق على الطهر، ومنه قول الأعشى:
أفي كل عامٍ أنت عازمُ غزوةٍ ………تشد لأقصاها عزيمَ عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعةً ………لما ضاع فيها من قروء نسائكا
- وقد يكون الإجمال راجعا إلى كون المفرد نفسه خفيَّ الدلالة، كقوله تعالى:{ والليل إذا عسعس } فيمكن أن يكون معناه: الإقبال، ويمكن أن يكون معناه: الإدبار.
- وقد يكون ذلك للاشتراك في دلالة الحرف، كقوله تعالى: { وامسحوا برؤوسكم }، الباء هنا يمكن أن تكون: للإلصاق، ويمكن أن تكون: للتبعيض.(1/33)
- عدم معرفة الصفة، كالعام إذا لم يرد له بيان، مثل قوله تعالى: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، فهذا محتاج في معرفته إلى البيان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم الصلواتِ الخمسةَ، وبين الزكاة.
قال: " والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي ".
البيان في الأصل، هو: الإظهار، اسم مصدر " بيَّن الشيءَ بيانًا " إذا أظهره.
- " إخراج الشيء " أي: الدليل.
- " من حيز الإشكال إلى حيز التجلي " أي: الظهور.
والتجلي: من جلاه إذا أظهره.
قال: " والنص: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا "، هذا ليس من المجمل ولا من المبين، بل هو من الألفاظ الأخرى المقاربة للمعنى.
- من مصطلحات الأصوليين: النص.
والنص لغة: يُطلق على الإسراع في السير، ومنه حديث: " إذا وجد فرجة نصَّ " أي: أسرع، ويُطلق على الرفع، ومنه: المنصة، وهي المكان المرتفع الذي يرتفع عليه المتكلم، ومنه قول امرئ القيس:
وجيدٍ كجيدِ الريم ليس بفاحش ……إذا هي نصَّته ولا بمعطَّلِ
أي: رفعته.
ومنه قولهم (12) :
ونُصَّ الحديثَ إلى أهله ………فإن السلامةَ في نَصِّهِ
أي: في رفعه إلى قائله، ونسبته إليه.
والنص في الاصطلاح: ما أفاد معنى لا يحتمل غيرَه.
هذا في اصطلاح المتكلمين، والمتكلمون يقسمون الكلام إلى: واضح الدلالة، وخفي الدلالة.
فواضح الدلالة، ينقسم إلى قسمين: النص والظاهر.
وخفي الدلالة، ينقسم إلى قسمين: المجمل والمتشابه.
- والحنفية يقسمون واضح الدلالة إلى أربعة أقسام: المفسَّر، والمبيَّن، والنص، والظاهر.
- ويقسمون خفي الدلالة إلى أربعة أقسام: الخفي، والمجمل، والمشكل، والمتشابه.
وكل هذا اصطلاحٌ.
قال: " وقيل: ما تأويله تنزيله " أي: على ما جاء عليه.
- فالتأويل، بمعنى: بروزه إلى العيان، بعد أن كان خفيا، وقد قال ابن رواحة رضي الله عنه:
خلُّوا بني الكفار عن سبيله ………نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله(1/34)
" ضربناكم على تنزيله "، لما نزل قول الله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون }، و" اليوم نضربكم على تأويله " عند تحققه في عمرة القضاء (13) .
قوله: " وهو مشتق من منصة العروس، وهو الكرسي "، وهو ليس كذلك، بل كلاهما مشتق من "النصِّ " الذي هو: الرفع (14) .
ومنصة العروس: أي المكان الذي تُجلى عليه فتُظهَر، وهو الكرسي.
[الظاهر والمؤول]
(وَالظَّاهِرُ: مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ، وَيُسَمَّى الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ)
الظاهر: مقابل " النص "، وهو " فاعل " وصفٌ من " ظَهَر " إذا اتضح، فالظاهر: واضح الدلالة.
وهو في الاصطلاح: ما احتمل أمرين، أحدهما أظهر من الآخر، فهو دون النص في الظهور.
- " ما احتمل أمرين " أي: معنيين.
قال: " ويؤول الظاهر بالدليل ".
- " يؤول " أي: يُرجع إلى أصله، والتأويل: إرجاع الشيء إلى غيره، من " آل إليه، يَؤُول " إذا: رجع، وإذا أُوِّلَ سُمِّيَ بـ: المؤول.
وقوله " ويؤول الظاهر بالدليل " معناه أنه لا تأويل إلا بدليل.
قال: " ويسمى الظاهر بالدليل ".
فدليل التأويل هو الذي يُصرف به اللفظُ عن ظاهره إلى غيره، فالظاهر إذًا قسمان:
1 - ظاهر من جهة اللفظ، أي: بلفظه ظاهر.
2 - ظاهر من جهة الدليل، أي: دل الدليل على تأويله، فأصبح ظاهرا في المعنى الآخر الذي كان خفيا فيه.
وللتأويل شروط:
1 - أن يكون بدليل، فلا يمكن أن يُؤول بغير دليل.
2 - أن يكون اللفظ قابلا للتأويل، فإن كان اللفظ صريحا لا يقبل التأويل فلا يمكن تأويله.
3 - أن يقع فيه موجب للتأويل.
4 - أن يكون اللفظ الذي أُوِّلَ إليه محتملا، أي: مقبولا في العربية، فلا يمكن أن يُحمل اللفظ على ما لا تقتضيه اللغة بوجه من الوجوه، فذلك تأويل فاسد.
والظهور له أسباب فيمكن أن يكون الظهور بسبب:(1/35)
1 - الحقيقة، لأن الحقيقة مقدمة على المجاز.
2 - الإثبات مقدم على الحذف، فما لا يقتضي حذفا أولى مما فيه حذف.
3 - والعموم مقدم على الخصوص، فكون اللفظ متناولا لكل ما يصلح له هو أولى من تخصيصه.
[الأفعال]
(فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى الاِخْتِصَاصِ بِهِ يُحْمَلُ عَلَى الاِخْتِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ لاَ يُخَصُّ بِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ غَيْرِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا.
وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ [الصَّادِرِ مِنْ أَحَدٍ] هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ).
الأفعال: جمع " فعل "، والمقصود بها هنا: نوع من أنواع الأدلة، وهو: أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن من الأدلة الإجمالية: السنة، وهي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته مما يصلح دليلا لحكمٍ شرعي.
ولما كانت أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا، بدأ المؤلف بتصنيفها، فـ:
قال: " فعل صاحب الشريعة لا يخلو: إما أن يكون على وجه القربة والطاعة، أو غير ذلك ".
فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو " صاحب الشريعة " أي: مبلغها عن الله تعالى، لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك.(1/36)
- " على وجه القربة والطاعة " بأن يكون تشريعا وبيانا لما أرسله الله سبحانه وتعالى به.
- " أو غير ذلك " أي:
1 - أن يكون غير ذلك بأن يكون جِبِلَّةً، كالعُطاس والنوم والاستيقاظ والأكل والشرب وغير ذلك.
2 - أو يكون مترددا بين الأمرين، بين الجبلة والتشريع كالضَّجْعة بعد ركعتي الفجر، وكجلوس الاستراحة.
3 - أو يكون فعلا بوظيفة من وظائفه، كالإمامة العظمى والقضاء والإفتاء وقيادة الجيش وغير ذلك.
4 - أو أن يدل الدليل على خصوصه به صلى الله عليه وسلم، وذلك ثلاثة أنواع:
أ - ما دل الدليل على وجوبه عليه، فَيُسَنُّ لأمته، كالسواك وقيام الليل وصلاة الضحى والأضحى وقضاء دين الميت المعسر.
ب - أو يدل الدليل على حرمته عليه صلى الله عليه وسلم، فيُكره لأمته، كأكل كل ذي رائحة كريهة، ولُبْس ما فيه وسخ، ونحو ذلك.
ج - ما دل الدليل على جوازه له صلى الله عليه وسلم دون غيره، فيحرم على أمته، كالتزوج بأكثر من أربع، والزواج بلا ولي ولا صداق، وكالخلوة بالأجنبية، والحكم للأقارب، والحكم مع غيبة الخصم، فكل ذلك دل الدليل على جوازه له هو، وهو محرم على غيره من الأمة.
قال: " فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص "، معناه: أن الأصل عدم الاختصاص، ولذلك احتيج فيه إلى الدليل.
قال: " وإن لم يدل لا يخصّ به، لأن الله تعالى يقول: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ".
لأن الأصل أنه مبلغ عن الله تعالى، وفيه أسوة حسنة لكل المؤمنين، كما قال الله جل وعلا: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.
قال: " فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ".
ذهب بعض الشافعية إلى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مَعْرِض البيان يدل على: الوجوب.
قال: " ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب ".
وهذا مذهب جمهور الأصوليين، فإنهم يقسمون السنة إلى الأقسام الثلاثة، فيقولون:
- القول تُؤخذ منه الأحكام الخمسة.(1/37)
- والفعل يُؤخذ منه حكمان فقط: الندب والإباحة.
- والتقرير يُؤخذ منه حكم واحد، وهو: الإباحة.
قال: " ومنهم من قال: يتوقف عنه "، وفي نسخة الشيخ التي قرأ منها " يُتوقف فيه ".
قال: " فإن كان على وجه غير القربة والطاعة، فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا ".
إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم على غير وجه القربة والطاعة، يَقْصِدُ: على غير وجه البيان، فيُحمل [على] أنه على وجه الجبلة، فيكون جائزا في حقه وحقنا، كالعطاس والاستيقاظ ونحو ذلك، فهذا من أفعال البشر المعتادة فيجوز في حقه وحقنا، ولا يُشرع الاقتداء به فيه، ومثل هذا: هيئات اللباس، كالعمامة والرداء والإزار وتقلد السيف ونحو ذلك، فهذا يدل على أحسن الهيئات وأقربها للفطرة، ولكن لا يُطلب من أحد أن يأتسي به فيه، فلا يُثاب فاعل ذلك.
قال: " وإقرار صاحب الشريعة على القول الصادر من أحد هو قول صاحب الشريعة ".
أي: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للقائل في قوله، إذا كان ذاك تحت حكمه وبمجلسه أي: بعلمه، فإنه يُحمل على رضاه به.
والإقرار ينقسم إلى قسمين: تقرير بالاستحسان، وتقرير بالسكوت.
1 - فالتقرير بالاستحسان، كتقريره لقول مُجَزِّزٍ المدلجي حين رأى أقدام زيد بن حارثة وابنه أسامة قد خرجت من كساء لَبِسَاه، فقال: " إن هذه الأقدام بعضها من بعض "، قالت عائشة: فدخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تَبْرُقُ أسارير جبهته مسرورا، فقال: " أما علمتِ أن مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ رأى أقدام زيد وأسامة قد خرجت من كساء يلبسانه فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض " ، فأقر القِيَافَة، وفي ذلك رد على المنافقين، فإن زيدا شديد البياض، وابنه أسامة شديد السواد، وكان المنافقون يطعنون في نسب أسامة، فجاء هذا الأعرابي الذي يعرف الأثر والتشبيه، فشبه أقدام أسامة بأقدام زيد، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدل ذلك على تقريره للقيافة.(1/38)
2 - وتقريره بالسكوت، كإقراره ما جرى بحضرته، كقوله للأنصاري حين رآه يصلي بعد الفجر: " ألم تشهد معنا الصلاة، فماذا كنت تصلي؟ "، قال: " ركعتا الفجر، استُعْجِلْتُ عنهما بالصلاة "، فسكت.
فهذا السكوت دليل على الإباحة.
قال: " وإقراره على الفعل كفعله ".
فقد ثبت أنه أُكِل الضب على مائدته، وأنه أُهدِيَ له ضب مشوي، فقال: " لم يكن في بلاد قومي، فأجدني أعافه "، فاجتره خالد بن الوليد فأكله، كل ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره، فدل هذا على جواز أكل الضب.
قال: " وما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه ".
- " ما فُعل في وقته " أي: ما كان تحت إِمْرَتِه، بخلاف ما لم يكن تحت إمرته كما كان في العهد المكي من أفعال أهل الجاهلية، فهو وإن لم يصرح بإنكاره فإن سكوته عنه ليس إقرارا له.
أما ما كان في المدينة تحت إمرته، فحصل، وعَلِم به، ولم يُنكره، فيُعتبر ذلك إقرارا منه له، وحكمه: حكم ما فُعل في مجلسه.
- ويُضاف إلى هذا ما فُعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين، ولو لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يُنزَّل الوحي بإنكاره، وقد كان ظاهرة منتشرة بينهم، فيُعتبر ذلك إقرارا من الله سبحانه وتعالى له، إذْ لو كان منكرا لنزل الوحي بإنكاره، ودليل ذلك قول جابر رضي الله عنه: "كنا نعزل والقرآن ينزل "، فقد بين أن هذه الظاهرة كنت منتشرة في وقت نزول الوحي، فلم يُنزَّل القرآن بإنكارها وتحريمها، فدل ذلك على جوازها، وهذا من إقرار الله سبحانه وتعالى وهو أبلغ من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.
[النسخ](1/39)
(وَأَمَّا النَّسْخُ، فَمَعْنَاهُ لُغَةً: الإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، إِذَا أَزَالَتْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ النَّقْلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخْتُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَيْ: نَقَلْتُهُ، وَحَدُّهُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاَهُ لَكَانَ ثَابِتًا، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَالرَّسْمِ مَعًا، وَالنَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ، وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَيَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخُ الآحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ، [وَلاَ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ]، وَلاَ الْمُتَوَاتِرُ بِالآحَادِ).
عقد هذا الباب لشرح مصطلح النسخ وبيان أنواعه.
والنسخ، لغة: الإزالة، من قولهم: " نسخت الريحُ الأثرَ " إذا أزالته، و" نسخت الشمس الظلَّ " إذا أزالته، ويُطلق أيضا على: النقل، فتقول: " نسخت الكتاب " إذا نقلت ما فيه.
واصطلاحا: تغيير الحكم الشرعي بخطاب متراخٍ عنه.
والنسخ لا يكون إلا بخطاب، فلا نسخ بقياس ولا بإجماع، فلا يكون النسخ إلا بوحي.
والخطاب المنسوخ، لابد أن يكون وحيا من كتابٍ أو سنة، فالبراءة الأصلية لا تُنسخ، فإذا نزل الحكم على غير وَفْقِها، لم يُعتبر ذلك نسخا، لأن كل الأحكام هكذا، فوجوب الصلاة سبقته البراءة الأصلية، ووجوب الزكاة سبقته البراءة الأصلية، وحرمة الخمر سبقتها الإباحة الأصلية.(1/40)
قوله: " فمعناه لغة: الإزالة،.................، وقيل: معناه النقل "، حكايته للخلاف لا وجه لها، بل هو في اللغة يُطلق على هذين المعنيين، وعلى: التغيير.
قال: " وحدُّه: هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا، مع تراخيه عنه ".
- " وحده " أي: تعريفه.
- " هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا، مع تراخيه عنه "، هذا تعريف للناسخ لا للنسخ، فلو قال: " هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخي الخطاب عنه " لكان هذا تعريفا للنسخ.
- والمراد بـ " الرفع ": إزالته وتغييره.
- و" الحكم " هنا، المقصود به الحكم الشرعي فقط.
- " الثابت بالخطاب " أي: الذي أُنزل به وحي.
- " المتقدم عليه "، فالمتقدم ينسخ المتأخر.
- " على وجه لولاه لكان ثابتا "، أي: لولا ذلك الوجه، لكان الحكم ثابتا.
- " مع تراخيه عنه " أي: مع تأخره عنه، فلو جاء متصلا به لاعتُبِر ذلك تخصيصا، ولم يُعتبر نسخا، وهذا التراخي ليس له مدة محددة، بل قد يحصل بالقرب، كما حصل في قصة الصدقة بين يدي النجوى، فإن الله تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، فنُسخ ذلك الحكم على القرب، وذلك من فضل الله ورحمته، وقد نُسخ قبل التمكن من الفعل فدل ذلك على جواز النسخ قبل التمكن من الفعل.
قال: " ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ".(1/41)
يقصد أن أقسام النسخ، منها: نسخ اللفظ وبقاء حكمه، كآية الرجم التي كانت في سورة الأحزاب، وهي: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله "، فكانت هذه الآية ثابتة في سورة الأحزاب، فنُسخ لفظها وبقي حكمها، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجم خمسة أشخاص، وهم: اليهوديان، وماعز، والغامدية، وصاحب العسيف، وكذلك عمل به خلفاؤه الراشدون، فقد رجم عمر رضي الله عنه امرأتين، ورجم عثمان رضي الله عنه كذلك امرأة، ورجم عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه شُراحةَ، كل هؤلاء رُجموا بهذه الآية التي نُسخ لفظها وبقي حكمها.
وقوله: " ويجوز نسخ الرسم " أي: المكتوب، والمقصود به: المكتوب والمقروء، أي: اللفظ.
وقوله: " وبقاء الحكم " أي: بقاء حكم ذلك اللفظ الذي نُسخ.
قال: " ونسخ الحكم وبقاء الرسم ".
ويجوز - أيضا -: نسخ الحكم، وبقاء الرسم متلوًّا فيما يُتلى من القرآن، كقول الله تعالى: { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج }، فهذه آية نُسخ حكمها وبقي لفظها، بالآية التي قبلها في رسم المصحف، وهي متأخرة عنها في النزول، وهي قول الله تعالى: { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }.
وكذلك قول الله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف }، فقد نُسخ هذا الحكم وبقي اللفظ مما يُتلى.(1/42)
وكذلك قول الله تعالى: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون }، فقد نُسخت هذه الآية بالآية التي بعدها، وهي قول الله تعالى: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}، فهذه الآية ناسخة لسابقتها، وقد أُثبتت سابقتُها في الرسم ولكن لا يُعمل بحكمه، لأن الحكم نُسِخ.
قال: " والنسخ إلى بدل، وإلى غير بدل ".
أي يجوز " النسخ إلى بدل " بأَنْ تُنَزَّل آية أخرى بدل تلك، أو حكم آخر بدل الحكم الذي نُسخ.
ويجوز النسخ " إلى غير بدل " أي: بالإحالة إلى ما كان من البراءة الأصلية.
وهذا محل خلاف بين الأصوليين.
- فذهب جمهورهم إلى أن النسخ لا يكون إلا إلى بدل، لأن الله تعالى يقول: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها }، فلا بد من البدل الذي هو خيرٌ أو مثلٌ للمنسوخ.
- وقال آخرون: البراءةُ: بدلٌ، هو خيرٌ أو مثلٌ، لأن الله كان تعبدنا بذلك الحكم، ثم لما نسخه تعبدنا بالإباحة فيه، فكان ذلك إلى غير بدل، وحُمِلَ عليه الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: هي من النسخ إلى غير بدل، ويقال: بل ذُكر البدل، وهو: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الله تعالى قال: { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فذاك من النسخ إلى بدل.
قال: " وإلى ما هو أغلظ، وإلى ما هو أخف ".
أي: يجوز النسخ " إلى ما هو أغلظ " بالزيادة في الحكم، أو " إلى ما هو أخف " بالأسهل.
وهذا - أيضا - محل خلاف بين الأصوليين.
- فذهب بعضُهم إلى أن النسخَ لا يكونُ إلا بالأسهلِ؛ لأن الله تعالى يقول: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها }، فالأسهل هو الخير أو المماثل، وأما الأشد فلا يكون كذلك.(1/43)
- والذين يرون صحةَ النسخِ بالأغلظِ والأشد، يقولون: الأشدُّ خير من المنسوخ؛ لأنه أكثر منه أجرا.
وقد عُرِف النسخُ بالأخف، مثل قوله تعالى: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } نُسخ بقوله تعالى: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين }.
وأما النسخ بالأغلظ، فمثاله ما ورد من التحريم بعد الإباحة، كتحريم لحوم الحمر الأهلية بعد إباحتها، وهذا مما تكرر فيه النسخ، فإن النسخ قد تكرر في أربعة مسائل:
1 - القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر صلى إلى بيت المقدس سبعةَ عشر شهرا، ثم نُسخت القبلة وأعيدت إلى البيت الحرام.
2 - متعة النكاح، فقد حُرمت بإعلان النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها، ثم أذن فيها في بعض الغزوات، ثم حرمها وبقيت على التحريم.
3 - الحمر الأهلية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، ثم في إحدى الغزوات أذن بأكلها لجوع الناس، ثم بعد ذلك حرمها فاستمرت على التحريم.
4 - الوضوء مما مست النار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ مما مست النار، ثم ترك الوضوء من ذلك، وكان آخر الأمرين منه: ترك الوضوء ما مست النار.
هذه المسائل الأربعة، هي التي نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:
النسخُ ذو تَكَرُّرٍ في أربعٍ ………جاءتْ بِهَا الْكُتُبُ والأخبارُ
في قِبْلةٍ ومُتْعةٍ وحُمُرٍ ………كذا الوضو مما تَمَسُّ النارُ
قال: " ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة ".
هذا ذكرٌ لأنواع النسخ باعتبار الناسخ، فالناسخ إما: كتاب وإما سنة، والمنسوخ في كل واحد منهما إما: كتاب وإما سنة
- مذهب الشافعي: أن الكتاب لا يُنسخ بالسنة، وأن السنة لا تُنسخ بالكتاب.(1/44)
- ومذهب الجمهور: حصول النسخ بينهما.
- فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب بالاتفاق، مثل ما ذُكر من آيتي العدة، وآيتي العدد في الغزو.
- ويجوز نسخ الكتاب بالسنة - على الراجح -، مثل قول الله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف }، فقد نُسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
- ويجوز نسخ السنة بالكتاب، مثاله: نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة، بقول الله تعالى: { فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }.
- ونسخ السنة بالسنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها "، وكقوله في لحوم الأضاحي - في النهي عن ادخارها ثلاثا (15) -: " إنما كنت نهيتكم من أجل الدافَّة "، ونحو ذلك.
قال: " ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر "، أي: ويجود نسخ الكتاب بمتواتر السنة.
والواقع أن التواتر وصف طارئ، لأنه يتعلق بالنقل لا بالنزول.
ولا يُنسخ الكتاب بما لم يتواتر من السنة، عند طائفة من المتكلمين، ولكن العبرة هنا بالصحة، فإذا صح النقل ولو لم يصل إلى حد التواتر فذلك كاف في النسخ، لأن التواتر وصف طارئ بعد نزول الوحي.
قال: " ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر ".
أي: أن الآحاد يمكن اعتبار النسخ فيها بالمتواتر قطعا، فأحاديث الآحاد تُنسخ بمتواتر القرآن وبمتواتر السنة، وتنسخ بالآحاد كذلك، لأنها في منزلتها، والناسخ لا يكون أضعف من المنسوخ، ولكن هذا - كما ذكرنا - مستغنًى عنه؛ لأن التواتر والآحاد راجعان إلى النقل، والنقل متأخر عن النزول.
قال: " ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ".(1/45)
هذا هو مذهب الشافعي، ومذهبُ جمهور الأصوليين هو: جواز ذلك، وقد بينا مثاله، في قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف }، فقد نُسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
قال: " ولا المتواتر بالآحاد " أي: لا يجوز نسخ المتواتر من السنة بالآحاد.
وهذا قولٌ لبعض أهل العلم، وقد بينا أنه إذا ثبت النقل فذلك كاف.
(حكمة النسخ)
- التدرج في التشريع، فإن الشارع الحكيم يراعي مصالح عباده، فلو أنزل الأحكام بَاتَّةً على الوجه الذي تستقر عليه دون تدرج ومرور بتلك المراحل لكان ذلك أدعى لعدم الاستجابة، فكان من لطفه وحكمته أن ينزل الأحكام متدرجة، وأن يحصل فيها النسخ.
وهذا النوع من النسخ من خصائص هذه الشريعة، فالشرائع قبلها كانت تُنَزَّل دفعة واحدة، وتُفسخ دفعة واحدة، فقد آتى الله موسى التوراةَ مكتوبة في الألواح، وأنزل الصحف على إبراهيم، وأنزل الإنجيل على عيسى مكتوبا في الصحف، وأنزل الزبور على داود مكتوبا في الصحف، ولهذا استنكر المشركون تدرج نزول القرآن، فرد الله عليهم بقوله: { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا }، وقال تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }.
[التعارض بين الأدلة]
(إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ، أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا، وَالآخَرُ خَاصًّا، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ.
فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ.(1/46)
فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتَأَخِّرِ، وَكَذَا إِذَا كَانَا خَاصَّيْنِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآخَرُ خَاصًّا فَيُخَصَّصُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، فَيُخَصُّ عُمُومُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الآخَرِ).
هذا الباب معقود للتعارض بين الأدلة.
والتعارض: نوع من التخالف، يقتضي توارد الدليلين المختلفين على معنى واحد، بأن يرد أحدهما بالإثبات والآخر بالنفي.
وعَقْدُ هذا الباب له: لبيان ما يمكن منه وما لا يمكن، وللعمل عند حصوله، أو توهمه.
(فائدة)
التعارض، لا يمكن أن يحصل في الأخبار، كما أن النسخ لا يقع فيها، فالنسخ مختص بالإنشاء لا بالخبر، فالخبر لا يدخله النسخ، لأن نسخه تكذيب له، والوحي لا كذب فيه، وكذلك التعارض لا يقع في الأخبار، لأن ذلك تكذيب، وإنما يمكن التعارض في الإنشاءات.
ولا تعارض بين قطعيين؛ لأن ذلك يقتضي أن أحدهما ناسخٌ للآخر.
ولا بين قطعي وظني، لأن القطعيَّ مقدم على الظني.
فيبقى التعارض بين ظنيين فقط، وهو من الأمور المتشابهة، لذلك كان للأصوليين فيه طريقتان:
- إحداهما: البداءة بالترجيح بين النصين، وهو مذهب الحنفية.
- ثانيهما: البداءة بالجمع بينهما، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
وقد قال مالك رحمه الله تعالى: " إعمال الدليلين أحب إليَّ من إلغائهما أو إلغاء أحدهما ".
قال: " إذا تعارض نطقان " والمقصود بهما: ما كان من النص، أي: من الوحي، كالآيتين، والحديثين، والآية والحديث.
قال: " فلا يخلو: إما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عامًا، والآخر خاصًا، أوكل واحد منهما عامًا من وجه وخاصًا من وجه ".
هذا التقسيم راجع إلى الدلالة، فإذا تعارض نطقان، فلا يخلو:(1/47)
الأول: إما أن يكونا عامين، وذلك مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع، وقوله: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "، فكل واحد منهما عام في بابه، فالنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر عام في هذا الباب في النوافل، والنهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين عام أيضا.
الثاني: أن يكون أحدُهما عاما، والآخرُ خاصا، فيكون مخصصا له، كالنهي عن بيع ما ليس لدى الإنسان، والإذن في السَّلَم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، وأجاز السلم، فالأول عام في كل ما لدى الإنسان، والثاني: خاص بالسلم، فيُحمل ذلك على التخصيص.
الثالث: أو [يكون] كل واحد منهما عامًا من وجه وخاصًا من وجه، وعليه يُحمل ما سبق، في النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، والنهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين، فيُقال: هذا عام من وجه، والآخر خاص من وجه، ويُبحث عن الوجه الذي يُعمم منه أحدهما ويُخصص منه الآخر.
الرابع: [ لعل الشيخ سها عنه، وهو أن يكونا خاصين ].
قال: " فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جمع "؛ لأن الجمع مقدم على الترجيح.
قال: " وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ "، يُتوقف فيهما، لعلمنا أن أحدهما منسوخ بالآخر، وجهالتنا بالناسخ.
قال: " فإن عُلِمَ التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذا إن كانا خاصين " فهو مثل العامين، إن أمكن الجمع بينهما جُمع، وإلا فإن عرف التاريخ حُمل ذلك على النسخ، وإلا فالتوقف، لأن ذلك من النسخ الذي لم يُعرف فيه الناسخ من المنسوخ.
قال: " وإن كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا فيخصص العام بالخاص ".
كما بينا (16) .
قال: " وإن كان أحدهما عامًا من وجه وخاصًا من وجه، فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر ".
فالحالة الأولى: وهي كونهما عامين، فللخروج من التعارض طرقٌ:(1/48)
1. أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين، فيُجمع بينهما، ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما إهاب دُبغ فقد طهُر "، وما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عُكيم أنه كتب لهم قبل موته بشهر: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب "، فجُمع بينهما، بأن الإهاب: اسم لما لم يُدبغ، فيُحمل حديث عبد الله بن عكيم على ما لم يُدبغ، وحديث ابن عباس على ما دُبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا: عند صحة حديث عبد الله بن عكيم، والراجح فيه: عدم الصحة.
2. أن يُجعل أحدهما ناسخا للآخر إذا علم التاريخ، ومثاله: قول الله تعالى: { فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم }، فقوله { فمن تطوع خيرا فهو خير له } هذا يدل على التخيير بين الصوم والإفطار في السفر، وقوله: { وأن تصوموا خير لكم } هذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحيئنذ يُجعل الثاني ناسخا، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق به (17) .
3. وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بُسْرة بنت صفوان: " من مس ذكره فليتوضأ " مع حديث طَلْق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره، أعليه الوضوء، فقال: " لا، هل هو إلا بَضْعة منك "، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يُعرف أيهما السابق، فيُتوقف فيهما (18) .
وعند الحنفية: يُرجح حديث طلق بن علي على حديث بسرة بنت صفوان، بأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال فلا يُؤخذ برواية المرأة له (19) .
وعند الجمهور: يُرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة - لا شك - أقوى إسنادا من حديث طلق بن علي.
وأيضا فإن العمل بالاحتياط، بالخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، يُرجح حديث بُسْرة على حديث طلق.
الحالة الثانية: أن يكون الدليلان خاصين، فللخروج من التعارض طرق:(1/49)
1. الجمع بينهما، كما في حديث جابر في وصف حِجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم - أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا، وهما خاصان، فجمع بينهما النووي، فقال: " إن وجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى وصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك "، ولكن يُمكن أن يُحمل على أن أحدهما نسي والآخر ذكر (20) .
2. إذا لم يمكن الجمع بينهما، فالثاني ناسخ إذا عُلم التاريخ، مثل قول الله تعالى: { يا أيها النبيء إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك..... } الآيةَ، ظاهر هذه الآية: إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم دون انحصار في عدد محدد، ثم أُنزِل قول الله تعالى: { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } وقد عُلم أن هذه الآية نزل بها جبريل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعُلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك جاء في حديث عائشة: " ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح "، فيدل هذا على أن هذه الآية أيضا نُسخت (21) .
3. وإذا لم يمكن النسخ: فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها - عبد الله بن عباس - أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فميمونة صاحبة القصة، مقدمة في الرواية على ابن عباس، وأيضا يشهد لحديثها حديث أبي رافع، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال: " وكنت أنا الرسول بينهما".
أما الحالة الثالثة: أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص:(1/50)
فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما }، فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا " وبقوله: " لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر "، وبقوله: " ولا في حريسة الجبل ".
فهذا كله يدل على تخصيص السرقة بالنصاب، وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون مُحرزًا بحرز جنسه.
أما الحالة الرابعة: أن يكون بين دليلين، أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من وجه.
الجمع بينهما، باختلاف المحل، بأن يُخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل عليه دليل، ومثاله قول الله تعالى: { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك: الحامل وغير الحامل، وهي خاصة بالمتوفى عنها، فتُخرج المطلقة، والآية الثانية، هي قول الله تعالى: { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } فهذه الآية خاصة في الحوامل، وعامة في كل ذات فُرْقة، سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة.
فالعمومان يُخصصان بالخصوصين، فيُخصص قوله تعالى: { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } بأن ذلك في غير الحوامل، أو يُخصص قوله تعالى: { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة.
وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال:
1. قيل: تعتد بأربعة أشهر وعشرا، أي: بعدة المتوفى عنها: مطلقا.
2. وقيل: تعتد بوضع الحمل.
3. وقيل: بأقصى الأجلين.
[الإجماع]
(وَأَمَّا الإِجْمَاعُ: فَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ: الْفُقَهَاءَ، وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةِ: الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ.(1/51)
وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ "، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَالإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي، وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَإِنْ قُلْنَا: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ، فَيُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ وُلِدَ فِي حَيَاتِهِمْ وَتَفَقَّهَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الاِجْتِهَادِ، وَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَالإِجْمَاعُ يَصِحُّ بِقَوْلِهِمْ وَبِفِعْلِهِمْ، وَبِقَوْلِ الْبَعْضِ وَبِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَانْتِشَارِ ذَلِكَ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنْهُ).
عقد هذا الباب للنوع الثالث من الأدلة الإجمالية وهو: الإجماع.
والإجماع: مصدر " أجمعَ على الأمرِ " و" أجمعَ الأمرَ " إذا: عزم عليه.
ويُطلق على: الاتفاق، كما قال تعالى: " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " أي: اعزموه واتفقوا عليه.
وهو اصطلاحا: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد موته على حكم شرعي.
قوله: " فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة ".
- " اتفاق علماء العصر " أي: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أي عصر من العصور.
- " على حكم الحادثة " أي: على حكم شرعي اجتهادي.(1/52)
- وإجماعهم: حجة، لقوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }، فهذه الآية كانت من المتشابه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وزال عنها التشابه بموته صلى الله عليه وسلم، ففي حياته لم يكن للمؤمنين سبيل إلا ما جاء به؛ لأن الإجماع في حياته لا اعتبار له، فإما أن يوافقهم وإما أن يخالفهم، فإن وافقهم فالعبرة بقوله صلى الله عليه وسلم لا بقولهم؛ لأنه المشرع المبلغ، وإن خالفهم فإجماعهم فاسد الاعتبار لمخالفته للنص.
لكن بموت النبي صلى الله عليه وسلم، أصبح الإجماع حجة، وقد ورد في عصمة الإجماع عدد من الأدلة، لذلك كان الإجماع - أصلا - قطعيا، من خالفه: فهو متوعد بالنار، كما قال تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }.
- وشرطه: أن يحصل الاتفاق بين كل المجتهدين، فإن خالف واحد لم ينعقد الإجماع - في عصر من العصور -.
- والعبرة فيه بالعصر، فإذا انقرض العصر وهم متفقون على أمر، فلا يحل إحداثُ قول جديد، وإن لم ينقرض العصر بل بقي بعضهم أحياءً فيمكن إحداث قول جديد، لإن الإجماع لم ينعقد بعدُ.
- ولا يكون الإجماع إلا على حكم شرعي، فلا يكون الإجماعُ على العقليات ولا على العاديات، لأنها لا يُحتاج فيها إلى النقل.
(فائدة)
1: اختُلف، هل من شرط الإجماع أن ينعقد على دليل، أو لا يُحتاج إلى ذلك ؟
1. ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإجماع لا بد له من مستند؛ لأن الأمة لا تجمع على ضلالة، وما لم يرد فيه نص هو من تشريع ما لم يأذن به الله، وهو: ضلالة، فلا بد أن يكون الإجماع مستندا إلى دليل.
2. وقال آخرون: بل الإجماع نفسه: دليل، فلا يحتاج إلى مستند.(1/53)
ولعل القول الأول هو الراجح، لكن لا يُشترط لمستند الإجماع أن يصل إلينا، فيمكن أن يَستند الإجماع إلى حديث لم يبلغنا، أو إلى قياس أو اجتهاد ونحوه من الأدلة.
(فائدة)
2: في كل عصر من العصور يمكن أن ينعقد الإجماع، لكن: نقل الإجماع أصعب من انعقاده.
فالذي ينقل الإجماع لا بد أن يكون - بحد الاطلاع - بحيث يعرف كل المجتهدين في العصر الذي ينقل الإجماع فيه، وقد اطلع على أقوالهم جميعا.
مثال: لو أن شخصا في زماننا هذا من أهل العلم، اطلع على علماء هذا العصر جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، وعرف من بلغ رتبة الاجتهاد منهم والفتيا، وعرف أقوالهم في نازلة محددة كالصلاة في الطائرة - مثلا -، فحكى إجماع هذا العصر - أي الماضي - على جواز الصلاة في الطائرة، فيكون هذا إجماعا لهذا العصر، فإن انقرض لم يحلَّ نقضه.
أما إذا كان الإنسان غير مطلع على أوضاع العالم فيمكن أن يكون في مشارق الأرض أو في مغاربها من المفتين من وصل إلى رتبة الاجتهاد ولم يعلم هو به، أو علم به ولم يصل إليه قوله في تلك المسألة، فلا يصح له حينئذ أن يحكيَ الإجماعَ.
ولهذا فإن الذين يحكون الإجماع في هذه الأمة قلائل، من أمثال: ابن المنذر، وابن حزم، وابن تيمية، وابن عبد البر، فهم العمالقة الكبار المطلعون على أوضاع العالم، الناقلون لعلوم المشارقة والمغاربة ولأهل الأطراف.
- وقول المصنف: " اتفاق " المراد بذلك: تواطؤُ فتواهم عليها ولو لم يجتمعوا ولو لم يتعارفوا فيما بينهم، ولم تصل فتوى بعضهم إلى بعض، فالمقصود: أن تتواطأ فتواهم على الأمر.
- وقوله " ونعني بالعلماء: الفقهاءَ "، والمقصود بهم هنا: المجتهدون، فلا عبرة بمخالفة العاميِّ، ولا بمخالفة النحويين في مسائل الاجتهاد، ولا بمخالفة المتكلمين كذلك فيها، بل ولا بمخالفة بعض المحدثين ممن ليس فقيها بالغًا لرتبة الاجتهاد، فالعبرة إذًا بأهل الاجتهاد والفتيا.(1/54)
- وقوله: " ونعني بالحادثة: الحادثةَ الشرعيةَ " أي: في الحكم الشرعي، فيخرج من ذلك: الأمور العقلية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن السماء فوق الأرض، وأن الواحد نصف الاثنين - مثلا -، ويخرج أيضا: الأحكام العادية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن النار محرقة ونحو ذلك.
قال: " وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها "، فمن خصائص هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، فلا يمكن أن يجتمع مجتهدوها جميعا على ضلالة؛ لأن أهل الاجتهاد فيها: هم أمناء الله على الوحي، وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيٌّ يصحح ما أخطؤوا فيه، بخلاف الأمم السابقة فإن علماءها - وإن كانوا مؤتمنين على الوحي في منزلتهم - إلا أنه إذا أخطؤوا فسيأتي بعدهم نبيٌّ يصحح الخطأَ، وهذه الأمة لا يأتي بعد علمائها نبيٌّ، فعلماؤها مثل أنبياء بني إسرائيل مؤتمنون على الوحي، فلا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة.
ولهذا أخرج أبو عمر ابن عبد البر في مقدمة " التمهيد " والخطيب البغدادي في " شرف أصحاب الحديث " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحمل هذا العلمَ من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين "، فالوحي من عند الله، ولم يكن ليجعله بدار هوان، فاختار له المُوَقِّعِين عن رب العالمين الذين هم محل ثقة ورضى، واختيارهم إنما هو من عند الله تعالى، كما قال جل وعلا: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال: { يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة }، ولهذا قال: { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا }.
قال: لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة ".
وهذا الحديث - وإن كان ضعيفا - في كل طريق من طرقه، إلا أن طرقه كثيرة، وله شواهد كثيرة تؤيده.(1/55)
قال: " والشرع ورد بعصمة هذه الأمة " أي: قد ورد في الشرع كثير من النصوص التي تدل على عصمة هذه الأمة، والمقصود بعصمتها: في إجماعها.
قال: " والإجماع: حجة على العصر الثاني " أي: أن إجماع أهل كل عصر حجة على ما بعده، فليس حجة على أفراد أهل ذلك العصر ولا على من قبله.
قال: " وفي أي عصر كان " أي: لا يُشترط أن يكون الإجماع في عصر الصحابة كما شَرَط ذلك بعضُ الأصوليين، بل في كل عصر يمكن أن يقعَ الإجماعُ.
قال: " ولا يُشترط انقراض العصر على الصحيح "، أي: إذا حصل الإجماع، فإن الشافعية لا يرون اشتراط انقراض العصر، ولكن الراجح: أن انقراض العصر: مشترط؛ لأن أهل العصر حجة على من بعدهم، ولأن عليا رضي الله عنه رجع عن بعض أقواله التي وافق فيها الصحابةَ في أيام عمر رضي الله عنه، كرجوعه عن فتواه في بيع أمهات الأولاد، فكان قد وافق عمرَ والصحابةَ على حرمة بيع أمهات الأولاد، ثم في خلافته رجع عن ذلك القول، فقيل له: ألم تكن تقول بما تقول به الجماعة ؟ فقال: كان ذلك أيام أمير المؤمنين عمر ولم تسعني مخالفته، وأما اليوم فأرى غير ذلك، فقال له عَبِيدة السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، فضحك علي إقرارا لذلك.
فلذلك الصحيح: هو اشتراط انقراض العصر.
قال: " فإن قلنا: انقراض العصر شرط، فيعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد ".
يُعتبر خلاف التابعي الكبير في أيام الصحابة، لأنه وُلد في أيامهم وتفقه وأصبح يفتي كـ: سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، فهؤلاء اختلافهم معتبر في أيام الصحابة، لأنهم وُلدوا في حياتهم وتفقهوا وأصبحوا من مجتهدي ذلك العصر.
بخلاف من وُلد ولم يتفقه إلا بعد انقراض العصر، فليس له أن يخالف حينئذ لأنه مسبوق بالإجماع.
قال: " ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم ".(1/56)
أي: إذ قلنا باشتراط انقراض العصر، فلأهل كل عصر أن يرجعوا عن ذلك الحكم بعد أن اتفقوا عليه، فلأفرادهم أن يرجعوا عنه، إذا رأوا ما هو أقوى منه.
والرجوع: ليس عيبا، بل قد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه - في القضاء - إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه بالأمس فراجعتَ فيه نفسك، فهُدِيتَ فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل "، ويقول أحد العلماء وهو الشيخ العلامة محمد بابا رحمه الله:
ليس من أخطأَ الصوابَ بِمُخْطٍ ……إن يَؤُبْ لا ولا عليهِ ملامَةْ
إنما المخطئ الْمُسيء إذا ما ………ظهر الحقُّ لَجَّ يحمي كلامَهْ
حسناتُ الرجوع تُذْهِبُ عنه ………سيئاتِ الخطا وتنفي الملامهْ
قال: " والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم ".
أي: أن الإجماع يحصل بالقول وبالفعل، فإن فعلوا أمرا ولم ينكر أحد منهم على أحد، وأظهروه واتفقوا عليه وتواطؤوا عليه، اعتُبِر ذلك: إجماعا.
وليس هذا مثل: الإجماع السكوتي؛ لأن الإجماع السكوتي لا يقتضي أن يكونوا فعلوه جميعا، بل فِعْلُ بعضهم أو قوله، وسكوت الآخرين عنه.
قال: " وبقول البعض وبفعل البعض ".
أي: إذا قال بعضهم بإباحة أمر، وفعله الآخرون، فذلك يُعتبر إجماعا، لأن الفاعلين له كأنما قالوه، لأنهم استباحوه بالفعل.
قال: " وانتشار ذلك وسكوت الباقين عنه ".
أي: إذا أفتى أحد المجتهدين في عصر في أمر جديد، واشتهرت فتواه، فسكت الآخرون ولم يخالفوا، فيُعتبر ذلك إجماعا، وهذا هو الذي يُسمى بـ: الإجماع السكوتي.
وقد اختلف هل هو حجة أم لا ؟
1. فقيل: هو حجة قطعية كالإجماع القولي.
2. وقيل: هو حجة غير قطعية.
3. وقيل: غير حجة أصلا.(1/57)
وقد كثر استدلال الحنابلة بالإجماع السكوتي، ومحله قبل تدوين المذاهب، أما بعد التدوين: ففتوى مجتهد على وَفْق مذهبه لو سكت عنها الآخرون وهم يخالفونه في مذاهبهم، فليس ذلك إقرارا له على تلك الفتوى؛ لأنه عُلم من مذاهبهم مخالفتها.
[قول الصحابي]
(وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ: حُجَّةٌ)
هذا نوع آخر من أنواع الأدلة، وهو من الأدلة المختلف فيها، وهو: قول الصحابي، أي: مذهبه.
والصحابي: هو من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به على الوجه المتعارف به في الدنيا، ومات على ذلك، ولو تخلل ذلك رِدَّةٌ على الصحيح.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل هذه الأمة وأعلاها قدرا ومنزلة، وإن كانوا غير معصومين، إلا أنهم أولى بالمغفرة ممن بعدهم، لسابقتهم في الإسلام وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أجدر الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، لمعرفته لهم.
لذلك فهم جميعا عدول بتعديل الله تعالى لهم - كما سبق -، ففي باب النقل والرواية: لا شك أن قول الصحابي حجة مطلقا، سواء عُرف اسمه أم لم يعرف، فكل من ثبتت صحبته إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُبحث في ترجمة ذلك الصحابي، لا في مستوى عدالته وضبطه، فهم جميعا عدولٌ أهلُ ضبطٍ.
وأما فيما يتعلق بالاجتهاد، فالذين بلغوا رتبة الاجتهاد من الصحابة: عدَّهم النسائي واحدا وعشرين، وعدَّهم الغزالي تسعةً، وعدَّهم ابن حزم: ثمانيةَ عشر، هؤلاء هم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، الذين تُروى عنهم الفتيا والقضاء.(1/58)
وقولُ بعضهم ليس حجةً على بعض، فليس قول أحد من الصحابة حجة على غيره من الصحابة، إذْ هم جميعا مشتركون في هذه المزية التي سبقت بلُقْيا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرواية عنه والسماع منه، وقد يسمع بعضهم ما لم يسمعه غيره، فليس قول بعضهم حجة على بعض.
- لكن اختُلِفَ: هل قول الصحابي حجة على من بعده من غير الصحابة ؟ وهذا ما بينه بقوله: " وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره، على القول الجديد، وفي القول القديم: حجة "، أي: أن مذهب الشافعي اختلف في قول الصحابي، هل هو حجة على غير الصحابي ممن يأتي بعده ؟
فقد قال الشافعي في مذهبه الجديد: إن قول الصحابي ليس بحجة، وقد كان يقول في مذهبه القديم: إن قول الصحابي حجة.
وذهب جمهور أهل العلم إلى التفريق بين قول الصحابي فيما محمله: التوقيف، وبين قوله فيما محمله: القياس، فقوله فيما يؤول إلى القياس ليس بحجة، وقوله فيما مرجعه ليس إلى القياس بل بالتوقيف ولا يُقال بالرأي، فهو: حجة.
- ومثل قول الصحابي: الخلاف في فعله، فأفعال الصحابة ليست - في الأصل - بحجة، لأنهم ليسوا بمعصومين، وفعل غير المعصوم: ليس بحجة.
لكن إن فعلوا أمرا، ولم ينكر فيه بعضهم على بعض، فرُويَ عن بعضهم فعلُه، ولم يُروَ عن الآخرين مخالفتُه، فيُتعبر ذلك الفعلُ استباحةً، ولهذا استدل البخاري رحمه الله تعالى في " الصحيح " بأن ابن عباس رضي الله عنهما أمَّ متيمِّمَا، وهذا من الفعل لا من القول، وهو استدلال بعمل هذا الصحابي الجليل.
ومثل ذلك: الاستدلال بأخذ ابن عمر ما زاد على القبضة من لحيته في الحج والعمرة.
[باب الأخبار]
(وَأَمَّا الأَخْبَارُ: فَالْخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.(1/59)
وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: آحَادٍ وَمُتَوَاتِرٍ، فَالْمُتَوَاتِرُ: مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهُوَ: أَنْ يَرْوِيَ جَمَاعَةٌ لاَ يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ مِثْلِهِمْ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَيَكُونُ فِي الأَصْلِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ لاَ عَنِ اجْتِهَادٍ. وَالآحَادُ: هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلاَ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى: مُرْسَلٍ، وَمُسْنَدٍ، فَالْمُسْنَدُ: مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ، وَالْمُرْسَلُ: مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ حُجَّةً، إِلاَّ مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهَا فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مَسَانِيدَ.
وَالْعَنْعَنَةُ: تَدْخُلُ عَلَى الأَسَانِيدِ.
وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ، يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، وَإِذَا قَرَأَ هُوَ عَلَى الشَّيْخِ، فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي، وَلاَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَإِنْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَيَقُولُ: أَجَازَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً).
الأخبار: جمع: خبر، وهو: ما يحتمل الصدق أو الكذب من الكلام.
والمقصود به هنا: تعريف الخبر، وبيان أنواعه، من ناحية الاحتجاج.
قال: " وأما الأخبار: فالخبر ما يدخله الصدق والكذب " أي: ما يقبل التصديق والتكذيب.
قال: " والخبر ينقسم إلى قسمين " أي: من ناحية الوُرُود والرواية " آحاد، ومتواتر " فالآحاد أكثر، والمتواتر أقلّ.
قال: " فالمتواتر: ما يوجب العلم ".
المتواتر: مشتق من " التواتر " وهو أن يطأ بعضُ الإبل آثارَ بعضٍ، فيُقال: تواترت الإبل أي: وطئ بعضُها آثارَ بعض، ويُقال: تواتر السيل أي: تواطأ في اتجاه محدد.(1/60)
فبدل أن كان شفعًا أصبح وَترًا، وذلك: إذا كانت الناقة تَطؤ على أثر الأخرى، فقد كان مع الأولى ثانية لها، فكانت شفعا، فلما وطئت أثرَها أصبح أثرُهما كأثر واحدة، فكانتا: وَتْرًا بذلك، ولهذا يُسمى بالتواتر.
وعرفه بأنه: " ما يوجب العلم " أي: إنه يوجب العلم اليقيني الضروري، وقد سبق ذلك في شرح العلم الضروري.
قال: " وهو: أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم، إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه " أي أنه خبرُ جماعةٍ تُحِيلُ العادةُ اتفاقَهم على الكذب، بأن لم يكونوا من سن واحدة، ولا من مكان واحد، فإذا كانت الجماعةُ سريةً من جيشٍ - مثلا - لها قائد واحد، فيمكن أن تتواطأ على الكذب بأمر ذلك القائد، لكن إذا كانت الجماعة من مختلف الأعمار والأسنة ولم تخرج من مكان واحد، ولم تجمعها قيادة أمير واحد، فإن العادة تحيل تواطؤها على الكذب.
ولا تحديد لعدد الجماعة، بل ذلك مما يتفاوت الناس فيه، فقد يحصل العلم اليقيني بخبر بعضهم، ولا يحصل بخبر أضعاف ذلك العدد، لحصول الثقة، ولهذا قال: " وهو: أن يرويه جماعة " أي: أن يحدثوا، " لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم " أي: لا تجيز العادة أن يتواطؤوا على الكذب، " إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه " أي: أن يكون ذلك في كل طبقة، أي: استواء طرفيه - أي طرفي الإسناد الأعلى والأسفل - ووسطه في العادة - أي: أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب - والعدد - أي: في حصول العدد، بأن يكونوا جماعة -.(1/61)
فإن انفرد عدد يسير محصور في طبقة من الطبقات لم يُعتبر ذلك متواترا، بل اعتُبِرَ آحادا، وذلك مثل حديث: " إنما الأعمال بالنيات.... " فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - بقيد اللفظ والصحة - عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه وانفرد به، ورواه عن عمر - بقيد اللفظ والصحة -: علقمة بن وقاص الليثي وانفرد به، ورواه عن علقمة - بقيد اللفظ والصحة -: محمد بن إبراهيم التيمي وانفرد به، ورواه عن محمد بن إبراهيم - بقيد اللفظ والصحة -: يحيى بن سعيد الأنصاري وانفرد به، ثم رواه عن يحيى بن سعيد: أكثرُ من سبعمائة نفسٍ (22) ، فتواتر بعد ذلك.
فهذا لا يكون متواترا؛ لأنه في بعض طبقاته: انفرد به بعض الناس دون بعض.
قال: " إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه " أي: إلى نهاية الإسناد.
قال: " ويكون في الأصل عن مشاهدة " أي: أن التواتر لا يكون إلا عن الحسيات، فلا تواتر في العقليات، ولا في التجريبيات - أي: العاديات -، فلا يمكن أن يُقال: تواتر لديَّ أن السماء فوق الأرض، أو أن الواحد نصفُ الاثنين.
فذلك في الأمور العقلية لا فائدة فيه، فلا عبرة بكثرة القائل في الأمور العقلية.، إنما العبرة بصحة ذلك عقلا وقبوله وتسليمه.
ومثل ذلك في الأمور العادية، فلا عبرة بكثرة الناقلين فيها، إنما العبرة بالتكرار، حتى يحصل القطع العاديُّ به.
قال: " أو سماع "، فلا بد أن يكون ذاك عن محسوس بإحدى الحواس الخمس.
قال: " لا عن اجتهاد "، فلا عبرة بذلك، لأنه من الأمور التي مرجعها إلى العقل.
فاجتهادات الأشخاص تثبتُ عنهم، لأنهم قالوا ذلك فقط، لأن ذلك لا يقتضي ثبوتَ ما اجتهدوا فيه، ولا يقتضي صحةَ اجتهادهم.
فالعبرة إذًا: أن يكون المنقول مما أصله ومرجعه إلى الحس، بإحدى الحواس الخمس.
قال: " والآحاد ".
الآحاد: جمع " أحد " وهو: الواحد، والمقصود بالآحاد في اصطلاح الأصوليين: ما رواه آحادٌ من الناس لا يصلون إلى درجة التواتر.(1/62)
قال: " هو الذي يوجب العمل، ولا يوجب العلم "، فقد قَسَمَ الخبرَ إلى قسمين: متواترٍ وآحادٍ.
فالآحاد - هنا - على حذف مضاف، والتقدير: خبر الآحاد.
- والمقصود - هنا - بإيجاب العمل، أي: على فرض صحته، واقتضائه الوجوبَ.
فالآحاد ليس بالضرورة أن يكون صحيحا حتى يوجب العملَ.
وقوله: " ولا يوجب العلم " أي: ما لم يحتفَّ بالقرائن، فقد يحتف خبر الآحاد بالقرائن، فيقتضي العلمَ الضروري كذلك.
كالذي: رواه مالك عن نافع عن ابن عمر.
وما اتفق على إخراجه: البخاري ومسلم من أخبار الآحاد، فقد احتف به من القرائن ما يقتضي الثقة به حتى يكون كالمتواتر، فيحصل به: العلم.
وهذا العلم: نظري، لا ضروري، لأن الآحاد يُبحث في عدالتهم وضبطهم.
- وينقسم خبر الآحاد من ناحية العدد إلى: غريب وعزيز ومشهور ومستفيض.
- فالغريب: ما انفرد به واحد في طبقة من الطبقات، ويُسمى: فردا.
فإن كان المنفردُ أصلَ الإسناد، سمي: فردا حقيقيا، وإلا سمي: فردا نسبيا، لدى المحدثين.
- والعزيز: ما انفرد به اثنان في طبقة من الطبقات.
- والمشهور: ما انفرد به ثلاثة إلى تسعة في طبقة من الطبقات.
- والمستفيض: ما انفرد به عشرة فصاعدا، ما لم يصل إلى حد التواتر.
وقيل: المستفيض هو المشهور.
قال: " وينقسم إلى: مرسل، ومسند "، وهذا تقسيم للخبر مطلقا، لا بقيد كونه للآحاد، بل الخبر مطلقا ينقسم إلى: مرسل ومسند.
فالمرسل: هو ما سقط منه الصحابي، وقد عرفه هو هنا بقوله: " ما لم يتصل إسناده ".
والمسند: ما اتصل إسناده، من مُخْرِجِهِ إلى نهاية إسناده.
وهنا عمَّمَ المرسلَ فأطلقه على المنقطع مطلقا، والمنقطع أنواع، فمنه:
- المعلق: وهو ما حُذف أول إسناده مما يلي المُخْرِجَ (23) ، ولو استمر ذلك إلى منتهاه.
- المقطوع: وهو ما سقط منه واحد في الوسط، أو أكثر على غير التوالي.
- المعضل: وهو ما سقط منه اثنان على التوالي.(1/63)
- المرسل: وهو ما سقط منه الصحابي، فنسبه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي أقسام المنقطع الواضح الانقطاع، ويبقى الانقطاع الخفي، وهو:
- التدليس: وهو نوع آخر من الانقطاع المحتمل، فيحتمل لأن يكون قد حصل انقطاع.
قال: " فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس ذلك حجة "، فمراسيل الصحابة: حجة، وهي: أن يحدث الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحادثة لم يشهدها، كحديث ابن عباس رضي الله عنهما عما قبل فتح مكة، فإنه في تلك الفترة كان بمكة ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد هاجر العباس بأسرته قُبيل الفتح، فلقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بـ: مرِّ الظهران، فاستكمل أفراد أسرته الهجرةَ، ورجع هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة، وقد خُتمت به الهجرة، فكان آخرَ المهاجرين، كما خُتمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فابن عباس من المهاجرين، لأنه من آخر أسرة هاجرت من مكة إلى المدينة، بعد ذلك خُتمت الهجرة، فلا هجرة بعد الفتح، كما بين ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: " مضت الهجرة لأهلها "، فرواية ابن عباس للهجرة وما بعدها من الأحداث إلى فتح مكة، كله من مراسيل الصحابة، لأنه لم يشهده (24) .
ومثل ذلك: رواية عائشة رضي الله عنها لبدء الوحي، لما قبل مولدها هي، فهي تروي بدء الوحي: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح..... " الحديثَِ، وهي لم تشهد ذلك، لكن هذا من مراسيل الصحابة ، فالصحابة لا يروون إلا عن الصحابة، فمراسيلهم مقبولة قطعا.
فإذا حدثوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوا إليه الخبرَ، فذلك كالمتصل، ولا فرقَ.
قال: " فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس ذلك حجة " لأن التابعين يحدث بعضُهم عن بعضٍ، وفيهم العدولُ وغيرُ العدولِ، كما أنهم يحدثون عن الصحابة.(1/64)
قال: " إلا مراسيل سعد بن المسيب فإنها فتشت فوجدت مسانيد ".
سعيدٌ: من سادات التابعين ومن كبارهم، ومراسيله كلها فُتشت، أي: بُحِث عنها، فوُجدت مسندةً من طريق آخر، وكان سعيدٌ من أخصِّ أصحاب أبي هريرة به، ولأبي هريرة أصحاب آخرون يروون عنه، فربما أرسل سعيد ما أسنده غيره من أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه.
- وقيل: إلا مراسيل كبار التابعين.
من أمثال: سعيد بن المسيب، وفقهاء المدينة الستة الآخرين، وككبار التابعين من أهل العراق، كـ: طارق بن شهاب، وزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وعَبِيدَةَ السَّلمانيِّ، وعامر الشعبي، فهؤلاء لا يروون إلا عن الصحابة، فمراسيلهم تُعتبر حجة؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر.
- أما صغار التابعين من أمثال: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، فمراسيلهم ليست بحجة.
- ومثل ذلك: أواسط التابعين، فمراسيلهم ليست بحجة، كـ: الحسن البصري، وإِيَاسِ بْنِ معاويةَ بنِ قُرَّةَ، ومحمد بن إبراهيم التيمي، فهؤلاء مراسيلهم ليست بحجة عند جمهور الأصوليين.
- والسبب: أنهم يروون عن الصحابة، وعن غير الصحابة، وقد جُهِل من رَوَوْا عنه فيما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان صحابيا فلا يضر، لكن من المحتمل أن يكون من غير الصحابة، فإذا كان من غير الصحابة فلا بد من تسميته ومعرفة عدالته وضبطه، ولهذا قال ابن سيرين: " والله ما كنا نبالي عمن نأخذ هذا العلم، حتى ركب الناسُ الصعبَ والذلولَ، فقلنا: سَمُّوا لنا رجالكم، فمن كان مقبولا قبلناه، ومن كان مردودا رددناه ".
(فائدة)
خبر الآحاد مقبول في العقائد وغيرها؛ لأن العبرة فيه بالصحة، فإذا صحَّ حصلت الثقةُ به.
- وذهب بعض المتكلمين: إلى أن أخبار الآحاد إنما يُعمل بها في الجانب العملي، لا في العقدي، وهذا القول لا حجة عليه.(1/65)
فإذا اتفقوا على صحتها، وأنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك: لا يمكن الطعن فيها، لا من ناحية الدلالة ولا من ناحية الإسناد.
قال: " والعنعنة تدخل على الأسانيد " أي: أن الإسناد قد لا يصرح فيه المحدث بسماعه من شيخه، وقد لا يعزو إليه إلا بـ " عن " و" أن "، كأن يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، ويأتي بالعنعنة.
أو يقول الشيخ مباشرة: عن فلان، أو يقول: أحدثكم عن فلان.
ومثل ذلك: أنَّ فلانا قال كذا.
فهذه إذا كان الشيخُ فيها غيرَ معروفٍ بالتدليس حُمِلت على السماع.
وإن كان معروفا بالتدليس لم تُحمل على السماع، إلا إذا كان ذلك في الصحيحين، فإن صاحبيهما انتقيا حديثهما وانتخباه، فما كان فيهما من مُعَنْعَنِ المدلسين، فقد عَلِمَا انتفاءَ علةِ التدليس عنه، لاحتياطهما واطلاعهما الواسع في هذا الباب، فهما: أميرا المؤمنين في الحديث.
لذلك: فما رواه مسلمٌ من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة، كلُّه محمولٌ على السماع.
ومثل ذلك: ما كان في صحيح البخاري من عنعنة قتادة عن أنس، أو من عنعنة أبي إسحاق السبيعي فهو محمولٌ على السماع، وإن كان هؤلاء قد عُرفوا بالتدليس إلا أن الأئمة ينتخبون من حديثهم ما ثبت سماعهم فيه.
قال: " وإذا قرأ الشيخ، يجوز للراوي أن يقول: حدثني أو أخبرني " إذا قرأ الشيخُ الكتابَ فسمع ذلك السامعُ، فيجوز أن يقول: سمعتُ فلانا يحدث، وهذا هو الأصل، أو يقول: حدثنا فلان، فإن انفرد هو بالسماع قال: حدثني فلان، وإن كان مع غيره قال: حدثنا فلان، إن كان قصده بالتحديث.
فإن كان لم يقصده بالتحديث، كما حصل للنسائي مع الحارث بن مسكين حين غضب عليه فطرده من مجلسه، فكان النسائي يختبئ فيسمع حديثَ الحارثِ بنِ مسكين، ثم بعد هذا إذا أخرج عنه في سننه يقول: حَدَّثَ الحارثُ بنُ مسكين وأنا أسمع، وذلك ورعًا أن يقول: حدثنا، لأنه يستثنيه، فيقول: حدَّث الحارث بن مسكين وأنا أسمع.(1/66)
وكذلك إن قرأ التلميذ على الشيخ، فيجوز للتلميذ أن يقول: حدثنا أو أخبرنا، عند جمهور أهل الحديث، وهذا مذهب البخاري، ومالك.
وقد درج المتأخرون على التفريق بين التحديث والإخبار، فيقولون " حدثنا " لما كان من السماع، ويقولون " أخبرنا " لما كان بالإجازة أو غيرها من أوجه التحمل.
قال: " وإذا قرأ هو على الشيخ، فيقول: أخبرني، ولا يقول: حدثني "، وهذا قول لبعضِ أهلِ الحديثِ، والبخاريُّ ومالكٌ يَرَيَان أنْ لا فرق بين " حدثنا " و" أخبرنا ".
قال: " وإن أجازه الشيخ من غير قراءة "، كما لو وَثِقَ بمعلوماته وصحة قريحته وقراءته، فأجازه بكتاب معين من غير قراءة على الشيخ " فيقول: أجازني أو أخبرني إجازة "، وجمهور المحدثين أنه يجوز أيضا أن يقول: أخبرنا فلان، دون أن يذكرَ الإجازةَ.
ولكن لا يجوز في عُرف المتأخرين أن يقول: " حدثنا " لما تلقاه بالإجازة فقط، ومثل ذلك: ما تلقاه بالمناولة أو بالوِجادة أو بالوصية أو بالكتابة أو بالإعلام.
فهذه هي مراتب التحمل الثمانية: السماع من الشيخ، والقراءة عليه، وإجازته، والمناولة، والوجادة، والوصية، والكتابة، والإعلام.
[القياس]
(وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ؛ إِلَى: قِيَاسِ عِلَّةٍ، وَقِيَاسِ دَلاَلَةٍ، وَقِيَاسِ شَبَهٍ.
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ: مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ.
وَقِيَاسُ الدَّلاَلَةِ: وَهُوَ الاِسْتِدْلاَلُ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ عَلَى الآخَرِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ، وَلاَ تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ.(1/67)
وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: وَهُوَ الْفَرْعُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، فَيُلْحَقُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهًا، وَلاَ يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ مَا قَبْلَهُ. وَمِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ: أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلأَصْلِ.
وَمِنْ شَرْطِ الأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ.
وَمِنْ شَرْطِ الْعِلَّةِ: أَنْ تَطَّرِدَ فِي مَعْلُولاَتِهَا، فَلاَ تَنْتَقِضُ لَفْظًا وَلاَ مَعْنًى.
وَمِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْعِلَّةِ فِي النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ.
فَإِنْ وُجِدَتِ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْحُكْمُ.
وَالْعِلَّةُ: هِيَ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ: هُوَ الْمَجْلُوبُ لِلْعِلَّةِ).
عقد هذا البابَ للنوع الرابع من أنواع الأدلة الإجمالية.
والقياس: مصدر " قاس الجرحَ " إذا: سَبَرَهُ ليعرفَ غَوْرَهُ، ومنه قول الشاعر (25) :
إذا قاسها الآسي النِّطَاسيُّ أدبرت ………غثيثتها وازداد وَهْيًا هُزُومُها
- يصف طعنةً، " إذا قاسها الآسي " أي: أدخل فيها المسبار ليعرفَ غَوْرَهَا.
والقياس في اصطلاح الأصوليين: هو حمل معلوم على معلوم لمساواته له في علة حكمه عند الحامل.
- " حمل معلوم " أي: إلحاقه، والمعلوم: هو ما عُرف عينُه، والمقصود هنا: وجُهِل حكمه، لأن ما جاء النص بحكمه لا يُحتاج إلى حمله على غيره.
- " على معلوم " أي: معلوم العين، معلوم الحكم، وهو الأصل.
- " لمساواته له " أي: لموافقته له.
- " في علة حكمه " أي: في تحقق العلة فيهما معا، فـ: لا قياسَ إلا في المعللات، فالتعبديات المحضة لا قياس فيها.
وسواء كانت تلك العلةُ نصيَّةً أو استنباطيَّةً.
- " عند الحامل " أي: عند الذي قاس، ليدخل في ذلك: القياس الفاسد، فإن الفرعَ لا يساوي الأصلَ فيه في علة حكمه عند جمهور الناس، وإنما يساويه عند الحامل وحده، ومع ذلك يُسمى قياسا، وإن كان فاسدا.(1/68)
وأما الجويني فعرف القياس فقال:
" وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم ".
- " رد الفرع " أي: إلحاق مجهول الحكم، معروف العين.
- " إلى الأصل " أي: معروف الحكم والعين معا.
والمقيس، يسمى عرفًا بـ " الفرع "، والمقيس عليه يُسمى عرفًا بـ " الأصل ".
- " في الحكم ": وهذا هو وجه الرد، أي: إلحاقه به إنما هو في الحكم.
- " بعلة تجمعهما " أي: بسبب جمع العلة لهما.
وهذا التعريف جامع للأركان الأربعة، التي هي أركان القياس، وهي: الفرع، والأصل، وحكم الأصل، والعلة الجامعة.
وهذه العلة تسمى بـ: " الوصف الجامع " - أيضا - في الاصطلاح.
قال: " وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، إلى: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه ".
والمراد بالقياس هنا: قياس الطرد، لأن القياس ينقسم إلى قسمين: قياس طرد، وقياس عكس.
1 - قياس العكس: هو معرفة حكم فرع، بحمله على عكس حكم الأصل، لاختلافهما في العلة.
وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وفي بُضْع أحدكم صدقة " قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له في أجر ؟ فقال: " نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ".
فهنا: كونُ (استباحة الحلال يُثاب عليها الإنسان) قياسٌ، لكن ليس كقياس الطرد؛ لأن الأصل والفرع لا تجمعهما علة، فلا يجتمعان في الحكم، فحكمهما مختلف، لاختلاف علتهما، فعلة الإثم في الزنى: أنه وضعها في حرام، ويُقابلها علة الثواب في المباح: أنه وضعها في حلال.
2 - قياس الطرد: وهو الذي ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة التي ذَكَرَ، وهي: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه.
قال: " فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم ".
العلة: - في الأصل - ما يُغَيِّر حالَ الشيء كالمرض، فالمرض يُسمى علة؛ لأنه يغير حال المريض.
والعلة في الاصطلاح: هي العلامة التي أناط بها الشارعُ الحكمَ، وأدركَ العقلُ وَجْهَ ترتيبه عليها.(1/69)
ويمكن أن يُقال: هي الوصفُ الظاهر المنضبط، الذي عَلَّقَ الشارع به الحكمَ، وأدرك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه.
- " الوصف "، والمقصود به: كل ما يُعَلَّلُ به، سواء كان حكما شرعيا أو كان إثباتَ أمر أو نفيَ أمر، أو كان مركبا من أمرين، فكل ذلك يُسمى علةً.
- " الظاهر "، فالوصف الخفي لا يمكن أن يُعلل به، ومثله: الوصف الطردي، الذي لا اعتبار له.
- " المنضبط " بخلاف الوصف المتردد، فلا يصلح للتعليل، فلا يُعلل به كالمشقة مثلا، فهي غيرُ منضبطة لاختلافهما بين شخص وشخص.
- " الذي أناط الشارع به الحكم " أي: علَّق به الحكمَ.
- " وأدرك العقلُ وجه ترتيبه عليه " ليَخرُج بذلك السببُ؛ فإن الشارع أناط به الحكم، لكن لا يُدرك العقلُ وجهَ إناطته به، كـ: غروب الشمس: علق الشارع عليه وجوبَ ثلاث ركعات، وهي: صلاة المغرب، وغروب الشفق: علق الشارع عليه وجوبَ أربع ركعات، وهي: صلاة العشاء، والعقل لا يُدرك لماذا عُلقت ثلاث ركعات على غروب الشمس، وأربع ركعات على غروب الشفق.
وأما العلة فيُدرك العقلُ وجهَ تعليق الحكم عليها، كالإسكار: علة لمنع الخمر، فالعقل يُدرك العلاقة هنا، وذلك أن الخمر تَعتدي على العقل وتزيله، وأن الحفاظ على العقل من ضروريات الناس، لذلك جعل الشارعُ الإسكارَ - وهو إزالة العقل - علةً لتحريم الخمر.
قال: " فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم ".
أي: كانت العلةُ فيه مقتضيةً للحكم، بمعنى أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها، بأن تُوجد هي في الفرع، ولا يوجد الحكم فيه، فهذا يكون حينئذ ممنوعا.(1/70)
ومثاله: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف؛ فإن الله تعالى يقول: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما }، فهنا نهى أن يقول الولد لوالده: أفٍّ، ويُلحق بالتأفيف: الضربُ والشتم وأنواع الأذى؛ لأن العلة متحققة فيها، وهي: عدم الإحسان إلى الوالدين وأذاهما، فالضرب أبلغ في الأذى من التأفيف، ومثله: الشتم، فكل ذلك أبلغ في الأذى من التأفيف.
فالأصل: التأفيف، والفرع: الضرب وأنواع الأذى، والحكم: التحريم، والعلة: الإيذاء.
فلا يحسن تخلف الحكم في الفرع الذي هو الضرب، بأن يُباح الضرب، ويُمنع التأفيف، فهذا لا يُستحسن عقلا.
وهذا المثال: الفرع فيه أبلغ في تحقق العلة من الأصل.
ومثال المساوي: إلحاق الأرز بالقمح في الربوية، وفي التعشير، أي: في أخذ عشره في الزكاة، وذلك إذا كان مما سقت السماء، ونصف عشره إذا كان مما سقاه الإنسان بآلته.
والأرز لم يرد فيه النص، بل ورد النص في القمح، لكن يُلحق به الأرز لاجتماعهما في العلة وهي: الطعمية، والادخار، والكيل، والوزن، فهما يجتمعان في الأوصاف المعتبرة، فكلاهما: طعام مقتات مدخر مكيل أو موزون، فيُلحق به بهذا القياس.
فالأصل: البر، والفرع: الأرز، والحكم: حرمة الربا، ووجوب الزكاة، والعلة: الطعمية، أي: الاقتيات والادخار، أو كونه مكيلا أو موزونا، على الخلاف في علة الربا في هذه الأجناس.
قال: " وقياس الدلالة: وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم ".
وهذا الذي يُسمى بالاستدلال، وهو ثلاثة أنواع:
1 - استدلالٌ بالعلة على المعلول.
2 - استدلالٌ بالمعلول على العلة.
3 - الاستدلال بأحد المعلولين على الآخر.
وهو أن يُستدل بأحد النظيرين على الآخر، والمراد بالنظيرين هنا: المشتركان في الأوصاف كما ذكرنا في الأرز والقمح، فيُمكن أن يتخلف الحكم في الأرز - مثلا - ويُثبت في القمح.(1/71)
ومثل ذلك: السكر - مثلا - إلحاقه بالقمح في منع الربا فيه، بجامع أن كلا منهما طعام، فالعلة هنا غير موجبةٍ للحكم؛ لأن العقل يُدرك فرقا بين السكر والقمح، وهذا معنى قوله: "ولا تكون موجبة للحكم" لاحتمال وجود فرق بين الفرع والأصل.
وأكثر الأصوليين يعرفون قياس الدلالة بأنه: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها.
كالشدة في الخمر أو الرائحة المخصوصة، فإن الغليان أو الإرغاء والإزباد في الخمر، ليس هو العلة - التي هي الإسكار - ولكنها دليل العلة.
قال: " وقياس الشبه: وهو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا ".
أي: هو إلحاق الفرعِ المترددِ بين أصلين بأكثرهما شبها به.
والأصوليون يمثلون له بـ: العبد، هل يُلحق بالجمل لاشتراكهما في الْمِلك، أو بالرجل الحر، لاشتراكهما في الإنسانية، فالعبد له وصفان: الإنسانية وكونه مملوكا، فبأيهما كان أكثر شبها يُلحق به.
فهو من ناحية التصرف مملوك، يُلحق بالمملوكات، فيُتصرف فيه كما يُتصرف في المملوكات الأُخَرِ.
وهو من ناحية الإنسانية: مكلف بالغ، له أوصاف الإنسان: من العقل والتكليف والبلوغ وحصول الأجر على الطاعة، وحصول الإثم على المعصية.
- فيُلحق بأكثرهما شبها به، فالمعنى أنه يُلحق بالحر لأنه به أشبه.
قال: " ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله ".
أي: لا يُلجأ إلى قياس الشبه مع إمكان ما قبله، أي: مع وجود قياس الدلالة، أو قياس العلة.
قال: " ومن شرط الفرع: أن يكون مناسبا للأصل ".
فللفرع شروط، وللأصل شروط، وللعلة شروط، ولحكم الأصل شروط.
وهذه الشروط غير محصورة لكثرة الخلاف فيها، وهو ذكر بعضَها هنا.
فقال: " ومن شرط الفرع: أن يكون مناسبا للأصل ".
- " ومن شرط الفرع "، أي: أن من شروط الفرع، وذلك أن " الشرط " هنا أُضيف إلى المعرفة فعَمَّ، لأن كل مفرد أضيف لمعرفة يعم، كما قال تعالى: { وبنات عمك } أي: جميع أعمامك، ومثله قول الشاعر: (26) :(1/72)
بها جيف الْحَسْرَى فأما عظامُها ………فَبِيضٌ وأما جِلدُها فصليبُ
جلدها: أي: كل جلودها، لأن الْحَسْرَى ليس لها جلد واحد، بل جلودها كثيرة بعدد رؤوسها.
وهو هنا لم يقصد الحصر، ولهذا قال: " ومن شرط الفرع: أن يكون مناسبا للأصل "، والمقصود بالمناسبة هنا: المساواة في العلة بأن تكون علة الحكم وصفا مناسبا لكل من الأصل والفرع، وذلك مثل: إلحاق الحاقن بالغضبان في منع القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان، وعلة النهي: تشوش الذهن، وهي موجودة في العَطِشِ والجائِع والحاقِن والْحَازِقِ ونحو ذلك.
فالحاقن: هو الذي يحتاج إلى دخول الخلاء، أو إلى الاستراحة من البول.
والحازق: هو الذي يلبس خفا قد ضَيَّقَ على رجله، فآلَمَهُ.
فهؤلاء في تشوش الذهن: كالغضبان.
فيُلحق هذا الفرع بالأصل هنا، للمناسبة وهي: علة مستنبطة غير نصية.
قال: " ومن شرط الأصل: أن يكون ثابتا بدليل متفق عليه بين الخصمين ".
- " من شرط الأصل " أي: من شروط الأصل.
- " أن يكون ثابتا بدليل متفق عليه بين الخصمين " أي: أن يكون حكمُه ثابتا بدليل متفق عليه بين الخصمين، فإن كان ذلك الدليل محل خلاف بين الخصمين، أو كان وجود الحكم في الأصل محل خلاف بين الخصمين، لم يتفقا على ذلك القياس.
فهذا شرط لحكم الأصل، ومعناه: أن يكون حكم الأصل الذي يُراد إثباته في الفرع: ثابتا بدليل من نص - من كتاب أو سنة - أو إجماع، ويكون ذلك متفقا عليه بين الخصمين المتنازعين، فإذا ذكر المستدِلُّ - وهو أول المتكلِّمَيْنِ - الحكمَ مقترنا بدليله من نص أو إجماع، لم يُشترط موافقة الخصم؛ لأن دلالة النص الصريح أو الإجماع الصريح على الحكم يُؤمَنُ معه الانتشار، أي: انتشار النزاع.
وإنما اشْتُرِط هذا لئلا يمنع الخصمُ الحكمَ في الأصل أصلا، فيُحتاج حينئذ إلى إثبات الحكم أولا في الأصل، فينتقل الخلاف عن محله إلى مسألة أخرى.(1/73)
مثال: من يُنكر الربويةَ في الفُلُوس، ويرى أنْ لا ربا فيها مطلقا، راجت أو لم ترُجْ، ويُلحق بها العُملات المعاصرة اليوم، فحكم الأصل عنده إنما ثبت بدليل ليس محل اتفاق بينه وبين الخصم، فإذا احتج بذلك، سيُخاصِمُهُ الخصمُ بأن الفلوس - أصلا - عنده ربوية، فينتقل الخلاف في العملات إلى الفلوس، وهكذا.
قال: " ومن شرط العلة: أن تَطَّرِدَ في معلولاتها، فلا تنتقض لفظا ولا معنى ".
-" من شروط العلة أن تطرد " أي: تَثْبُتَ " في معلولاتها ".
والاطراد في العلة، معناه: ملازمتها للثبوت، والانعكاس: ملازمتها للنفي، وكل ذلك مُشترَطٌ فيها.
فإن وُجد الحكم ولم تُوجد العلة: فتلك العلةُ مقدوحٌ فيها، وإن وُجدت العلة ولم يوجد الحكم: فتلك العلة مقدوح فيها.
وهما قادحان معروفان، أحدهما يُسمى بـ: الكَسْرِ، والآخرُ يُسمى بـ: النَّقْضِ.
ومثال ذلك: الإسكار، فكلما وُجد الإسكار في شيء، وُجد فيه التحريم، فلا يمكن أن يكون المشروبُ مسكرًا وهو مباح.
وفسَّر الجويني الاطِّرادَ بقوله: " فلا تنتقض لفظا ولا معنى ".
أي: أن لا يكون فيها النقضُ - الذي هو قادح من قوادح العلة - وهو: أن توجد العلة في صورة ولا يوجد الحكم.
ولا فائدة في قوله: " لفظا ولا معنى "، فالمقصود: عدم انتقاضها فقط، ولكن يقصد هنا: أن لا تنتقض في الثبوت ولا في الانتفاء، فيقصد: الاطراد والانعكاس في العلة.
قال: " ومن شرط الحكم: أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات ".
- " من شرط الحكم " أي: حكم الأصل.
- " أن يكون مثل العلة " أي: أن يكون مطردا أيضا.
- " في النفي والإثبات " أي: مُطَّرِدًا، مُنْعَكِسًا.
فمن شرط الحكم: الاطراد والانعكاس، فهو تابعٌ للعلة في النفي والإثبات - أي: في الوجود والعدم - فإن وجدت العلة وُجد الحكم، وإن انتفت انتفى الحكم، وهذا الشرط مُغْنٍ عن الشرط السابق، فلو ذُكِر هذا الشرطُ وحده لكفى.(1/74)
ومثال ذلك: الإسكار، هو علة لتحريم الخمر، فمتى وُجد الإسكار وُجد التحريم، ومتى انتفى الإسكار انتفى التحريم.
فإن كان للتحريم [للحكم] عللٌ متعددة: لم يلزم من انتفاء علة معينة منها: انتفاء الحكم، وذلك كانتقاض الوضوء بالبول وبالغائط والنوم وغير ذلك، فعلة واحدة وُجدت رُتب عليها النقض (27) .
قال: " والعلة هي الجالبة للحكم ".
يريد بهذا: زيادة تعريف للعلة، فيقصد أن الحكم مرتبٌ على العلة، فمتى وُجدت وُجد الحكم، ومتى انتفت انتفى الحكم.
قال: " والحكم هو المجلوب للعلة ".
أي: أن الحكم مرتبٌ على العلة، فهي علامة عليه، فمتى وُجدت تلك العلة وُجد الحكم.
وهنا أراد أن يبين بهاتين الجملتين: أن العلة يمكن أن تكون قاصرة، فتصلح للتعليل، وذلك كخروج النجس من أحد السبيلين، فقد دل الدليل على أنه ناقض للوضوء، وهو: العلة، ولكن هذا مختص بما وردت فيه هذه العلة، فلا توجد هذه العلة في غير هذا المحل، فالعلة هنا قاصرة على مورد النص، فلا يُلحق به غيره.
أما العلة المتعدية: فهي التي توجد في غير محل النص، فيمكن أن يُلحق به غيره، كالإسكار في الخمر، فإن الإسكار قد يوجد في غير مشروب العنب، فيُلحق به.
وهذا محل خلاف: هل العلة القاصرة تصلح للتعليل أو لا ؟
1 - فقد ذهب المالكية والشافعية: إلى صحة التعليل بالعلة القاصرة.
2 - وذهب الحنفية والحنابلة: إلى أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، فَرَأَوْا أن خروج النجس من أي مكان من البدن: ناقض للوضوء إذا تفاحش، فمن استاك فخرج الدم من لِثَتِهِ فتفاحش، فذلك ناقض عند الحنابلة والحنفية، ومثله: من جُرِح فخرج منه دم من ساقه أو يده أو غير ذلك، فإن تفاحش نقض عند الحنفية والحنابلة، ولا ينقض عند المالكية والشافعية؛ لأن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل عندهم.
[الحظر والإباحة](1/75)
(وَأَمَّا الْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الْحَظْرِ إِلاَّ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الإِبَاحَةِ يُتَمَسَّكُ بِالأَصْلِ، وَهُوَ الْحَظْرُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِضِدِّهِ، وَهُوَ: أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ أَنَّهَا عَلَى الإِبَاحَةِ إِلاَّ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ).
عقد هذا الباب لورود الحظر - وهو التحريم - بعد الإباحة الأصلية - أي: ما كان قبل ورود الشرع على أصل الإباحة والجواز -.
ويقصد بهذا: ذكر الاستصحاب الذي هو حجة ودليل من الأدلة الخلافية عند الأصوليين.
قال: " وأما الحظر والإباحة، فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة ".
يقصد أن بعض الأصوليين يرى أن الأصل في الأشياء كلها: المنع، لأنها مملوكة للغير، فهي من ملك الله سبحانه وتعالى، فما لم يأذن فيه منها، فهو على أصل الحظر.
وهذا القول ضعيف جدا؛ لأن الله تعالى يقول: { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فالأصل في حركات المكلف وسكناته وتصرفاته: الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه.
وهذا قال: " فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة، فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة، يُتَمَسَّكُ بالأصل وهو الحظر ".
قال: " ومن الناس من يقول بضده، وهو: أن الأصل في الأشياء أنها على الإباحة إلا ما حظره الشرع".
وهذا مذهب الجمهور، وهو أن الأصل في الأشياء: الإباحةُ إلا ما عرض فيه الحظر.
والراجح: أن الأصل في الأعيان والأفعال المنتفع بها - قبل رورد الشرع -: الإباحة، لقوله تعالى: { هو الذي خلق لكم ما الأرض جميعا }، وقال: { والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان }، فدل هذا على إباحة كل ذلك.(1/76)
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن [السؤال] عن الأحكام حتى [لا] يُحرم الإنسان ما كان حلالا، فقال: " إن من أعظم المسلمين [في المسلمين] جرما من سأل عن شيء لم يُحرم، فحرم من أجل مسألته"، والله تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها } فجعل هذا من العفو، الذي هو: مباح، فكل مسكوت عنه: فهو على أصل الإباحة.
ومحل هذا: في الأفعال والأعيان المنتفع بها.
وأما ما لا نفع فيه، فإن تَمَحَّضَ ضَرَرُه كان على التحريم، ومنه الخبائث كلها، لقول الله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }.
[الاستصحاب]
(وَمَعْنَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ: أَنْ يُسْتَصْحَبَ الأَصْلُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ).
- " الاستصحاب " وهو مصطلح أصولي لنوع من أنواع الأدلة، وهو دليل عقلي، وهو من الأدلة المختلف في الاحتجاج بها.
والاستصحاب: طلب الصحبة، والمقصود به: إثبات ما ثبت في الماضي في الحال.
فما ثبت له وصف في الماضي، يُستصحب له، أي: يُحكم بصحبته لذلك الوصف حتى يأتي ما يغير حاله.
قال: " ومعنى استصحاب الحال: أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي ".
معناه: أن يُلتزم الحال الذي سبق أنْ ثبت للشيء، حتى يأتي ما يغيره عنه.
ولهذا يُقال في تعريفه: هو الحكم بأن ما ثبت في الزمن الماضي باق على الزمن المستقبل، وهذا هو معنى قولهم: " الأصل بقاء ما كان على ما كان "، وهذا هو معنى قولهم: " الذمة إذا عَمَرَت (28) بمحقق لا تبرأ إلا به "، و" الأصل براءة الذمة "، وهكذا.
- والاستصحاب أنواع، منها:(1/77)
1 - استصحاب العدم الأصلي حتى يأتي الدليل الناقل عنه، وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله: " أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي "، فيُقال: الأصل في الأشياء الطهارة، فإذا جاء دليل ناقل عن ذلك أُخذ به.
وجمهور أهل العلم يأخذ بهذا النوع.
2 - استصحاب ما دل الشرع على ثبوته ودوامه، كاستصحاب الطهارة بناءً على ما مضى من الوضوء، كمن كان على طهارة موقنا بها، فطرأ عليه شك في تلك الطهارة، فذلك الشك عند الجمهور غير ناقض للطهارة السابقة، لأن: " اليقين لا يُزال بالشك "، وقد ذهب المالكية إلى أن ذلك الشك العارض ناقض، وأخذوا باستصحاب أمر آخر، وهو: استصحاب ما كان قبل الطهارة، فيقولون: " الأصل أن الإنسان غير متوضئ، وقد توضأ ولكن وضوءه الآن مشكوك فيه، فلا ينقل عن الأصل المقطوع به وهو: عدم الطهارة ".
والجمهور يخالفونهم في ترتيب هذا الدليل، فيقولون: " الأصل فيمن تطهر أن يبقى على طهارته حتى يتحقق الناقض "، ولا يختلفون في حل الموسوس؛ لأنه ورد فيه نص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطان أحدكم فينقر عند عجانه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " (29).
وقد نظم أحد العلماء الخلاف في هذه المسألة فقال:
الشكُّ في الأحداثِ لا ينقُضُ………عكسَ الذي أشياخُنا قد رضُوا
[ يعني: المالكيةَ ]
ومنهمُ من قال ما قلتُه………من عدم النقض فلا تُومضوا
إلا لما فيه الدليل الذي………منهاجه للمهتدي أبيض
أحمد والنعمان والشافعي………والليث والأوزاعِي لا يُنقَضُ
وضوؤُنا بالشك إسحاقٌ [فـ]لا………يُنقض والثوري هذا الوضُو
ناشدْتُكم يا إخوتي .........………........... لا تعرض
[لم أتمكن من سماعه جيدا].
3 - استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، فمن بلغه دليل من الشرع لزمه أن يعمل به ولو احتمل أن يكون له معارض، ولا يجب البحث عن المعارض على الراجح.(1/78)
فأي دليل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لزمك الأخذ به؛ لأن مدلوله راجح في حقك، و" العمل بالراجح واجب لا راجح ".
4 - استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وذلك إذا انعقد الإجماع على حكم في حال، وحصل الخلاف في حال آخر، فيُستصحب حال الإجماع لحال الخلاف، وهذا هو أضعف أنواع الاستصحاب، ولم يقل به إلا قليل من الفقهاء، لأن الإجماع إنما انعقد في حال، والخلاف حصل في حال آخر مناف له، فلا يمكن أن يُنقل الإجماع إلى الأمر الذي لم يُجمع عليه.
[ترتيب الأدلة]
(وَأَمَّا الأَدِلَّةُ: فَيُقَدَّمُ الْجَلِيُّ مِنْهَا عَلَى الْخَفِيِّ، وَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلظَّنِّ، وَالنُّطْقُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى الْخَفِيِّ، فَإِنْ وُجِدَ فِي النُّطْقِ مَا يُغَيِّرُ الأَصْلَ وَإِلاَّ فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ).
عقد هذا الباب في ترتيب الأدلة، فيما يُبدأ به منها، وما هو قطعي منها، وما هو ظني.
فقال: " وأما الأدلة: فيقدم الجلي منها على الخفي ".
فالجلي هو: واضح الدلالة، المتفق على دلالته، فهو مقدم على الخفي الذي يختلف الناس في دلالته ومعناه.
قال: " والموجب للعلم على الموجب للظن ".
أي: القطعي منها، مقدم على الظني.
والمقصود بذلك: القطعي في الورود، فهو مقدم على الظني فيه.
وهنا أربع احتمالات:
1 - أن يأتي الدليل قطعيا في الدلالة، قطعيا في الورود، فهذا أبلغ الأدلة وأقواها.
2 - أن يأتي الدليل قطعيا في الورود - كآية من كتاب الله أو حديث متواتر -، ولكنه ظني في دلالته، أي: دلالته على المعنى المقصود: ظنية، وهذا هو الذي يليه [ أي في المرتبة الثانية ].
3 - أن يأتي الدليل ظنيَ الورود، قطعيا في الدلالة، كأن يكون الحديث ظنيا، ولكنه صريح في الدلالة، فهذا الذي يليه في المرتبة الثالثة.(1/79)
4 - أن يأتي الدليل ظنيا في الدلالة والورود، كأن يكون الحديث ظنيا في الورود، ومع ذلك فدلالته غير صريحة، فهذا في المرتبة الرابعة.
قال: " والنطق على القياس ".
المقصود بـ: " النطق ": النص، من كتاب أو سنة، فهو مقدم على القياس.
ومثل ذلك الإجماع، فهو مقدم على القياس.
قال: " والقياس الجلي على الخفي ".
أي: يقدم القياس الجلي على القياس الخفي.
والقياس الجلي: هو قياس الأولى، كقياس الضرب على التأفيف، فهذا مقدم على القياس الخفي.
ومحل هذا عند وجود الجميع، أو عند التعارض.
فإن أردتَ أن تستدل لأمر واحد، فترتب الأدلة هكذا:
1 - الدليل من الكتاب.
2 - ثم بالدليل من السنة.
3 - ثم بالدليل من الإجماع.
وبعض الأصوليين يبدأ بالإجماع أولا، لأنه لا يُنسخ، ولأنه واضح الدلالة دائما، ثم بالدليل من الكتاب، ثم بالدليل من السنة.
4 - ثم بِجَلِيِّ القياس.
5 - ثم بخفي القياس. وهكذا.
وكذلك إذا تعارض دليلان فأقواها الذي يُؤخذ به:
- القطعي كما سبق.
- ثم النصي مقدم على القياس.
- ثم القياس الجلي مقدم على القياس الخفي.
قال: " فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال ".
- " إن وجد في النطق " أي: في المروي من الوحي.
- " ما يغير الأصل " أي: ينقل عن البراءة الأصلية.
- " وإلا فيُستصحب الحال " أي: يؤخذ بالاستصحاب حينئذ.
والحال: هو البراءة الأصلية.
[باب شروط المفتي]
(وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ أَصْلاً وَفَرْعًا، خِلاَفًا وَمَذْهَبًا، وَأَنْ يَكُونَ كَامِلَ الأَدِلَّةِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَعَارِفًا بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ، مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ، وَتَفْسِيرِ الآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الأَحْكَامِ، وَالأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا).
عقد هذا الباب للإفتاء.
والإفتاء: مصدر " أفتى ": إذا أخبر بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام.(1/80)
والمفتي: هو الذي يجيب السائلَ، والسائلُ: هو المستفتي، كما قال تعالى: { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي: تطلبان الفتوى.
ويُقال: الفَتْوى، والفُتْيا.
قال: " ومن شرط المفتي: أن يكون عالمًا بالفقه أصلاً " أي: يُشترط للمفتي أن يكون عالما بالفقه، أي: بما يفتي فيه منه، ولا ينفي ذلك أن يكون جاهلا بجزئيات أخرى من الفقه، فالجزئية التي يفتي فيها لا بد أن يكون عالما بها؛ لقول الله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }، ولقوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم }.
قال: " أن يكون عالمًا بالفقه أصلاً وفرعا "، أي: عالما بأصوله، أي: بأدلته، وفرعا: أي بفروعه الناشئة عن تلك الأدلة.
قال: " خلافا ومذهبا " أي: في الخلاف العالي والخلاف داخل المذهب، وهذا الذي قاله غير شرط في كل مفتٍ، فليس الحال كذلك في أيام الصحابة ولا في أيام التابعين ولا في أيام أتباعهم، وإنما يذكر هذا المتأخرون نظرا لتعصبهم للمذاهب.
قال: " أن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد " أي: أن يكون تامَّ شروط الاجتهاد، بأن يكون عالما باللغة العربية، وبطرق دلالتها، وعالما بالأدلة الشرعية، وبالناسخ والمنسوخ منها، وبأنواع دلالاتها، ولا يُشترط بلوغ الكمال في ذلك، بل ما يتعلق بالمسألة التي يفتي فيها من ذلك، أي: المسألة التي يفتي فيها بالخصوص من ذلك، فلا بد أن يكون مطلعا عليه.
فإن كان جاهلا بما ورد في مسألته التي يفتي فيها من الأدلة، أو بطرق دلالتها، أو بمعانيها في اللغة، فلا يجوز له الافتاء في تلك المسألة.
ومن هذا يُؤخذ تجزؤ الاجتهاد، وأن الإنسان يمكن أن يكون مجتهدا في مسألة واحدة، ولا يُتقن الاجتهاد في غيرها.(1/81)
قال: " عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام، من النحو واللغة ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها ".
ذكر أن من شروط المفتي أن يكون:
- " عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ": أي: في استخراجها من أدلتها.
والاستنباط في الأصل: استخراج الماء من البئر البعيدة القعر، والمقصود به هنا: أخذ الأحكام من الأدلة، وقد سماه الله استنباطا في قوله تعالى: { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }.
- " من النحو " أي: من قواعده وما يؤثر في المعنى منها.
- " واللغة " أي: علم مفرداتها، ومثل ذلك: الدلالات البلاغية.
- " ومعرفة الرجال " أي: تراجمهم جرحا وتعديلا، وطبقاتهم حتى يعرف اتصال الإسناد أو انقطاعه.
- " وتفسير الآيات الواردة في الأحكام "، ولا يُشترط استظهارها، أي: حفظ متنها، فيجوز أن يكون لا يحفظ آيات الأحكام، ولكنه مطلع عليها، فيعرف ما ورد فيها من الأحكام.
- " والأخبار الواردة فيها " أي: أخبار الأحكام، وهي أدلة الأحكام من الحديث، فيكون مطلعا عليها، ولا يُشترط حفظه لها، ولا استظهاره لها عن ظهر قلب.
- وهذه الشروط، هي شروط المجتهد المطلق، ولا يُشترط لكل مفت أن يتصف بها.
- ومثل ذلك المفتي في داخل مذهب من المذاهب، سواء كان مجتهدَ ترجيحٍ، أو مجتهدَ تخريجٍ، أو كان متبصرا، أو كان مجتهد فتيا، فلا يُشترط له التحقق بكل هذه الشروط.
- ويُشترط لوجوب الإفتاء:
1 - أن يكون ذلك في مسألة قد نزلت، فالمسائل التي لم تنزل بعد لا يجب على المفتي أن يُعْمِلَ ذِهْنَهُ ويَكِدَّ في استخراج حكمها.(1/82)
وكان مالك إذا سُئل عن مسألة يقول: " هل نزلت ؟، فإن كانت قد نزلت استعنا بالله عليها، وإن لم تكن قد نزلت، فإن لها رجالا يعاصرونها، فأولئك أدرى بحكم ما عاصرهم "، وكان يكره " أرأيت"، ويقول دعك من الآرائكيين [الأرأيتيين]، أي: الذين يقولون " أرأيت لو كان كذا " لأمر لم يقع.
2 - وأن يكون مكلفا؛ لأن غير المكلف لا يلزمه الاجتهاد.
3 - وأن يكون سائلُه صاحبَ النازلة، أو يتعلق بها حكم له، فإن كان السائلُ غيرَ صاحبِ النازلة، ولا له اتصال به ولا تعلق به، لم تلزم إجابته.
وقد نظم أحدُ العلماء هذه الشروط فقال:
وعارفٌ مكلفٌ قد سألَهْ ………مكلفٌ عن الذي يَجِبُ لَهْ
سائلُهُ خافَ فَوَاتَ النازلَهْ ………حَتْمٌ عليه أن يجيب سائلَهْ
[باب ما يُشترط في المستفتي]
(وَمِنْ شُرُوطِ الْمُسْتَفْتِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، فَيُقَلِّدُ الْمُفْتِي فِي الْفُتْيَا.
وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ، [ وَقِيلَ: يُقَلِّدُ ]).
عقد هذا الباب لشروط المستفتي بعد أن بين شروط المفتي.
قال: " ومن شروط المستفتي: أن يكون من أهل التقليد " فلا يمكن أن يقلد مجتهدٌ غيرَه، فالمجتهد يجب عليه أن يبذل هو الجهدَ للوصول إلى ظن بالأحكام الشرعية، ويجب عليه أن يعمل بمقتضى اجتهاده، فلا يحل له تقليد غيره.
وهذا في المجتهد المطلق، وأما المجتهد المقيد بأنواعه كلها، فيمكن أن يقلد في القواعد أو في الأصول، ويمكن أن يقلد - كذلك - في التصحيح والتضعيف بالنسبة للأدلة.
ولا بد أن يقلد فيما يتعلق بالجرح والتعديل لأن ذلك مرجعه إلى الرواية.
قال: " فيقلد المفتي في الفتيا " أي: يقلد من أفتاه، وذلك هو من تحققت فيه الشروط السابقة.(1/83)
وكل مقلد فإنه يتوافر فيه جزءٌ من الاجتهاد، به يختار من يستفتيه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما من أحد إلا وله حظ من الاجتهاد، وحظ العامي من الاجتهاد هو ما يختار به من يستفتيه "، فليس أحدٌ منصوبًا للفتوى بعينه، لا يُستفتى إلا هو، فإنما يجتهد المستفتي حتى يختار من يفتيه، وذلك: اجتهاد منه.
- وتقليده، معناه: الأخذ بقول غير المعصوم من غير معرفة دليله، فإن عرف الدليل لم يكن مقلدا، وإنما يكون تابعا، إذا كان عاجزا عن استنباط الحكم من الدليل.
قال: " وليس للعالم أن يقلد " أي: ليس لمن بلغ رتبة الاجتهاد أن يقلد غيره.
قال: " وقيل: يقلد "، هذه نسخة أثبتت هذا القول، وهو أن المجتهد له أن يقلد غيره، وذلك لما رُوي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم مع اجتهادهم من عدولهم عما رأوه راجحا تقليدا للأئمة كـ: عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، لذلك فإن ابنَ عمرَ حين سئل عن فتيا، قال: " اذهب إلى هذا الذي تَقَلَّدَ أمر الأمة فاجعلْها في عنقك "، فالذي تولى أمر الخلافة هو الذي يفتي للناس، وبقوله يؤخذ إذا كان من أهل الاجتهاد والعلم.
[التقليد]
(وَالتَّقْلِيدُ: قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ بِلاَ حُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى تَقْلِيدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لاَ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَبُولُ قَوْلِهِ: تَقْلِيدًا).
عقد هذا الباب للتقليد.
والتقليد: مصدر " قلَّد الشيءَ " إذا جعل في عنقه قلادة.
والمقصود به هنا: ملازمة قول الغير، كأنه جعل في عنقه ما تحمَّله، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي دواد - " من أُفتي على غير ثَبَتٍ، فإنما إثمه على مفتيه ".(1/84)
والتقليد هو: الأخذ بقول غير المعصوم من غير معرفة دليله.
فالأخذ بقول المعصوم مطلقا، لا يكون: تقليدا.
والأخذ بقول غير المعصوم مع معرفة دليله لا يكون: تقليدا له، وإنما هو اتباع للدليل.
فغير المعصوم - حينئذ - مبلغ لذلك الدليل، وأنت أخذتَ بما بلغك.
- والتقليد لا يكون إلا عن جهل، ولهذا قال أبو عُبادة البحتري:
عَرَفَ العالِمُون فضلَك بالعلـ ………ـم وقال الجُهَّال بالتقليدِ
فالعالمون، أي: مَن كان مِن أهل العلم عرفوا فضلك بالعلم، وقال الجهال بالتقليد فقلدوهم في ذلك.
قال: " والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة ".
- " قول القائل " أي: من كان أهلا لأَنْ يُقبلَ قولُه.
- " بلا حجة " أي: من غير معرفة الدليل.
قال: " فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليدًا "، وهذا غير صحيح، فقد ذكرنا أن التقليد لا يكون إلا بأخذ قول غير المعصوم من غير معرفة دليله.
قال: " ومنهم من قال: التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدرى من أين قاله "، أي: لا تدري هل له فيه حجة أم لا.
قال: " فإن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله: تقليدًا".
النبي صلى الله عليه وسلم اختُلِفَ في حكم اجتهاده:
1 - فقيل: لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه يأتيه الوحي من عند الله، والوحي: قطعي، والاجتهاد: ظني، واستبدالُ الاجتهادِ الظني بالوحي القطعي من استبدال الأدنى بالذي هو خير.
2 - وقيل: بل يجب عليه الاجتهاد، لقول الله تعالى: { لتبين للناس ما نزل إليهم } ولقوله تعالى: { لتحكم بين الناس بما أراك الله } ولأنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أمور أُقِرَّ عليها بالوحي، وفي أمور لم يُقّرَّ عليها بالوحي.
والأمور التي لم يُقَرَّ عليها في الاجتهاد، منها:
- فداء أسرى بدر، فقد قال الله في ذلك: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }.(1/85)
- وما حصل له مع ابن أم مكتوم، عندما أتاه وفي مجلسه عليةُ القوم من [....... - كلمة غير واضحة ] قريش، فقال الله تعالى: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى }.
- ومثل ذلك اجتهاده في معذرة المنافقين حين أقسموا له في رجوعه من تبوك، فعاتبه الله في ذلك بقوله: { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين }.
- وكذلك تحريمه لأمته ماريةَ أمِّ إبراهيم لإرضاء أمهات المؤمنين، وبالأخص لإرضاء حفصة، أنزل الله فيه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم }.
- وكذلك ما حصل في قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها لزيد، ثم أتاه الوحي أن ذلك النكاح لن يستمر، وأن زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهو يعلم ذلك عن طريق الوحي، ومع ذلك فكان زيد يأتيه يشكو إليه، وتأتي زينب فتشكو، فيقول لزيد: { أمسك عليك زوجك واتق الله }، { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } وهو ما أوحاه الله إليه من أنها ستكون زوجتَه في الدنيا والآخرة، فقال الله في ذلك هذه الآيات من سورة الأحزاب.
وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا:
- كاجتهاده يوم بدر في النزول على البِير التي تليه، ولذلك قال له الحباب بن المنذر: " يا رسول الله، أرأيت منزلك هذا، أهو الرأي والحرب والمكيدة، أم وحي أُنزل إليك ؟ "، قال: " بل هو الحرب والرأي والمكيدة "، فقال: " ليس هذا بمنزل "، وأمره أن ينزل على آخر بِيرٍ، مما يلي العدو، وأن يُغَوِّرَ الآبار الأخرى، ففعل.
- ومنها: نهيه عن تأبير النخل، وذكره أنه لا يغير شيئا، فقال: " أنتم أعلم بشؤون دنياكم ".(1/86)
فالراجح إذا: حصول الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يُقرُّ على الخطأ قطعا، بل لا بد أن يأتيه الوحي بعد اجتهاده، واجتهاده: رفعٌ لدرجته، وزيادة لأجره، لكن مع ذلك: الأخذ بقوله حتى لو كان من اجتهاده لا يُسمى تقليدا لأنه معصوم لا يمكن أن يُقرَّ على الخطأ.
[باب الاجتهاد]
(وَأَمَّا الاِجْتِهَادُ: فَهُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ.
فَالْمُجْتَهِدُ إِنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاِجْتِهَادِ، فَإِنِ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فِيهَا وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٌ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلاَمِيَّةِ مُصِيبٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلاَلَةِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْكُفَّارِ وَالْمُلْحِدِينَ.
وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبًا، قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ لَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ "، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى).
قال: " وأما الاجتهاد: فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض ".
الاجتهاد: مصدر " اجتهد " بمعنى: بذل جهده.
والْجُهد: هو الطاقة والوُسع، وأما الْجَهد - بالفتح -: فهو المشقة.
وفعل الأول: جَهِدَ في الأمر: إذا بذل فيه طاقته، وأما " جَهَدَهُ " فمعناه: كَلَّفَهُ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جَهَدَهَا فقد وجب الغسل ".
وجَهِدَ فلان في الأمر، يجهَدُ فيه: إذا بذل فيه قُصَارى طاقته.
والاجتهاد في الاصطلاح، عرفه بقوله: " فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض ".(1/87)
أي: بذل الفقيه وُسعه في الوصول إلى معرفة حكم شرعي من دليله.
وجمهور الأصوليين يعرفونه بأنه: " بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن الأحكام من أدلتها بحيث يرى من نفسه نهاية طاقته " أي: أنه لا يستطيع أن يزيد على ذلك.
ولهذا قال هو هنا: " هو بذل الوُسع في بلوغ الغرض " وهذا في اللغة مطلقا اجتهد: بمعنى أنه بذل الوسع في بلوغ غرضه.
قال: " فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد، فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر واحد ".
- " فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد " أي: إن كان - فعلا - مجتهدا، تتحقق فيه شروط الاجتهاد.
- " فإن اجتهد في الفروع " في استخراج أحكامها، و" لا اجتهاد في محل النص "، فالاجتهاد إنما يكون في الأمر الذي خفي حكمه.
- " فأصاب " الحكمَ في علم الله.
- " فله أجران " حينئذ.
- " وإن اجتهد فيها وأخطأ " الحكمَ في علم الله.
- " فله أجر واحد " لاجتهاده، وليس عليه إثم في خطئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر ".
قال: " ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب "، هذه مسألةُ التخطئةِ والتصوِبَةِ، التي تسمى بـ: رأي المخطئة ورأي المصوبة، وهي: أن الاجتهاد امتحان من الله تعالى للمجتهد في الوصول إلى معرفة الحكم، وهذا الحكم لله في كل مسألة، فما من مسألة إلا ولله فيها حكم، ولكنَّ ذلك الحكمَ خفيٌّ لم يرد فيه نص فامتحن الله الناسَ في الوصول إليه، فمن وصل إلى ذلك الحكم الذي هو في علم الله فهو مصيب قطعا، ومن لم يصل إليه فهو مصيب فيما بينه وبين الله باجتهاده، لكن في علم الله أنه لم يصل إلى الحكم الذي علمه الله.(1/88)
وعلى هذا، فمن الناس من يرى أن " كل مجتهد مصيب "، ومنهم من يرى أن " لكل مجتهد نصيب " فقط، وأنه منهم من يصيب ومنهم من يخطئ، فمن أصاب الحق في علم الله فهو المصيب، ومن أخطأه فهو مخطئ، ويستدلون بهذا الحديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر " فدل هذا على أنه يمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ.
ويمكن الجمع بين القولين، بأنه ما من مجتهد إلا وهو مصيب في امتثاله لأمر الشارع له بالاجتهاد، ولكن مع ذلك قد يصيب الحق في علم الله، وقد لا يصيبه، بحسب توفيق الله له.
ومحل هذا في الفروع، والفروع: هي ما لم يحسمه دليل قطعي، فما حسمه الدليل القطعي فهو من الأصول، ولا يُقصد هنا بالفروع: الفروع الفقهية لإخراج العقائد، بل من العقائد ما لم يحسمه الدليل فيكون محلا للاجتهاد، ومن المسائل العملية ما حسمه الدليل فلا يكون محلا للاجتهاد، كوجوب الصلاة والزكاة ونحو ذلك، وحرمة الزنا والخمر ونحو ذلك، فهذه الأمور لا اجتهاد فيها، لأنها من الأصول، حيث حسمها الدليل.
قال: " ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدى إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين ".
هذه المسألة حصل فيها الخلاف بين المعتزلة وغيرهم، فقد قال النَّظَّامُ وتبعه على ذلك عدد من المعتزلة: " كل من احتهد في طلب الصواب فهو مصيب سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها " وعلى هذا، يعذرون من كان من الكفار والمنافقين والضلال اجتهد في طلب الحق ولم يكابر، وإنما أداه عقله الذي خصه الله به إلى الوصول إلى رأي يراه عينَ الصواب وهو غير مكابر، فيعذرونه.(1/89)
وهذا القول، دونه قولُ الذي ذهب إليه إمام الحرمين - هنا - وغيره من المتكلمين، من أن الأمور العقدية لا اجتهاد فيها مطلقا، وأن المخطئ فيها غيرُ معذور، وذكروا عن عدد من الأئمة أنه كان يقول: " اسألني في علم إذا أخطأتُ فيه قلتَ أخطأتَ ولم تقل كفرتَ، ولا تسألني عن علم إذا أخطأتُ فيه قلت كفرت ".
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن من كان من أهل الإيمان والصلاح والالتزام فاجتهد فهو معذور مطلقا، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها.
وهذا القول وسط بين القولين السابقين، ولعله أقرب للصواب، وأسعد بالدليل.
فإذا كان الإنسان معروفا بالصلاح والالتزام والخشية واجتهد فأخطأ في تأويل الصفات أو في غير ذلك من الأمور، فهو معذور في ذلك الاجتهاد، ولا يضره اجتهاده بل هو مثاب عليه.
وإن كان معروفا بالفساد والإنكار لأمور الدين ونحو ذلك: فلا يُعذر، ولا يُقبل منه الاجتهاد أصلا في ذلك.
قال: " ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيبًا، قوله صلى الله عليه وسلم: " من اجتهد وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ له أجر واحد" وقد روى هذا الحديث بالمعنى.
قال: " ووجه الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطَّأ المجتهد تارة وصوبه أخرى "، لأنه قال: " فأصاب " وقال: " فأخطأ "، فدل ذلك على أنه محتمل للأمرين: للإصابة والخطأ.
قال: " والله سبحانه وتعالى أعلم "، وختم بهذا كلامَه.
- وذلك لإحالة العلم إلى الله تعالى فيما نجهله نحن.
- ومن سنة أهل السنة، أن يقولوا فيما التبس عليهم: " الله أعلم ".
- والإنسان إذا تكلم في أمور الدين الظنية، فمن الأفضل أن يختم كلامه بذلك لئلا يكون وقع في خطأ، فيحيل العلمَ إلى الله سبحانه وتعالى فيه.
- ومن هنا فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول في المسألة إذا سئل عنها فاجتهد يقول: " أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن فضل الله ورحمته، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ".(1/90)
وبهذا أنهى ما ذكر في خطبته للكتاب، وإن كان كما ذكرنا لا يحتوي كل أبواب أصول الفقه، لكنه مقدمات مفيدة للمبتدئين في أصول الفقه، يُعرف بها كثير من الاصطلاحات ورؤوس المسائل التي يحتاج إليها من يدرس هذا العلم.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
[تم الشرح المبارك من الشيخ العلامة محمد الحسن الدَّدَوْ حفظه الله]
(1) عدد آيات المصحف الذي في أيدينا الآن برواية حفص عن عاصم 6236 آية.
(2) يعني إذا قيست إلى مسائل الخلاف وما يظهر من جديد المسائل، وإلا فمسائل الإجماع بالألوف.
(3) ذكرهما بلا نسبة ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد.
(4) هو مضرس بن ربعي، ويروى (بصيرات العيون)، وينسب البيت أيضا لمرة بن محكان السعدي برواية (صحيحات)، ومما ينسب للمثقب العبدي قوله:…إِذا ما تَدَبَّرتَ الأُمورَ تَبَيَّنَت……عِيانًا صَحيحاتُ الأُمورِ وَعورُها
(5) كذا بالأصل فليراجع على الشريط.
(6) البيتان لإبراهيم بن المهدي.
(7) عنترة بن شداد.
(8) كذا بالأصل، ولعل الصواب (إرادة)
(9) كذا، ولعل الصواب [في غير النطق]
(10) كذا فسره حفظه الله، ولعل الصواب أن المراد بالفعل ما يقابل القول.
(11) وفي " اللسان ": وأنشد ثعلب:
يا رُبَّ مَولًى ساءَني مُباغِضِ ……عليَّ ذِي ضِغْنٍ وضَبٍّ فارضِ
له قُروءٌ كقُروء الحائِض أهـ (زكرياء)
(12) لصالح بن عبد القدوس
(13) استشهد الشيخ حفظه الله ببيت ابن رواحة على أن (التأويل) بمعنى المآل، وهو في كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه ..} {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} {وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}.(1/91)
(14) الاشتقاق وأصله محل خلاف بين أهل اللغة القدماء والمعاصرين، فبعضهم يرى أن الأصل في الاشتقاق الأشياء الحسية، ثم اشتقت منها المعاني العقلية، فالشجار مشتق من الشجر، والمنافسة مشتقة من النفس ... إلخ
وبعضهم يرى أن الأصل في الاشتقاق الأشياء المعنوية ثم اشتقت منها المعاني الحسية، فالقلب من التقلب، والشهر من الاشتهار، وهكذا.
(15) لعله يقصد فوق ثلاث
(16) أي في النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، مع الإذن ببيع السلم (زكرياء)
(17) وفي هذا المثال نظر (زكرياء)
(18) وفي هذا المثال نظر (زكرياء)
(19) بل علم المتقدم والمتأخر فيهما، فإن طلقا إنما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه مرة واحدة سنة ست للهجرة، والحديث رواه بضعة عشر صحابيا، منهم من تأخر إسلامه عن ذلك.
(20) هذا ترجيح لأحد النصين وليس جمعا بينهما، والله أعلم.
(21) يضاف ذلك لمسألة ما تكرر نسخه، وقد سبق ذكرها (ص 42)
(22) هذا قاله بعض الحفاظ، ولكن تعقبه الحافظ ابن حجر بأنه تتبع الطرق فلم يقع له إلا نحو المائة.
(23) كذا ضبطها أخونا (زكرياء) فلا أدري أسمعها من الشيخ هكذا أو لا، والذي سمعته من شيوخي (المَخْرَج) وهو الصحابي.
(24) جل روايات ابن عباس رضي الله عنهما من مراسيل الصحابة، وقد روى فوق الألف، وقد تتبع بعض الحفاظ مروياته التي سمعها فكانت نحو العشرين.
(25) خالد بن خداش الملقب بـ(البعيث)
(26) علقمة بن عبدة
(27) كذا قال العلامة الددو حفظه الله، وهذه الأمور أسباب وليست عللا، كما ذكر هو نفسه سابقا؛ لأنها ليست معقولة المعنى.
(28) عمرت: صارت عامرة، أي مشغولة بهذا الأمر.
(29) قال زكرياء: [ ذكره الشيخ بلفظ آخر لم أسمعه جيدا، فذكرته بهذا اللفظ، وهو في " الصحيحة / رقم: 3026 " ]
??
??
??
??(1/92)