أنها كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به واشتهرت بكنيتها واسمها بركة والحديث دليل على اعتبار القيافة في ثبوت النسب وهي مصدر قاف قيافة والقائف الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه وإلى اعتبارها في ثبوت النسب ذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء مستدلين بهذا الحديث ووجه دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله عليه وسلم حجة لأنه أحد أقسام السنة وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من فاعل أو يسمع قولا من قائل أو يعلم به وكان ذلك الفعل من الأفعال التي لا يعلم تقدم إنكاره لها كمضي كافر إلى كنيسة أو مع عدم القدرة كالذي كان يشاهده من كفار مكة من عبادة الأوثان وأذاهم للمسلمين ولم ينكره كان ذلك تقريرا دالا على جوازه فإن استبشر به فأوضح كما في هذه القصة فإنه استبشر بكلام مجزز في إثبات نسب أسامة إلى زيد فدل ذلك على تقرير كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب وبما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام فأتى رجلان إلى عمر رضي الله عنه كلاهما يدعي ولد امرأة فدعا قائفا فنظر إليه القائف فقال لقد اشتركا فيه فضربه عمر بالدرة ثم دعا المرأة فقال أخبريني خبرك فقالت كان هذا لأحد الرجلين يأتيها في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل ثم ينصرف عنها فأهريقت عليه دما ثم خلف عليها هذا يعني الآخر فلا أدري من أيهما هو فكبر القائف فقال عمر للغلام فإلى أيهما شئت فانتسب فقضى عمر بمحضر من الصحابة بالقيافة من غير إنكار من واحد منهم فكان كالإجماع تقوى به أدلة القيافة قالوا وهو مروي عن ابن عباس وأنس بن مالك ولا مخالف لهما من الصحابة ويدل عليه حديث اللعان وقوله صلى الله عليه وسلم "إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لفلان أو على صفة كذا وكذا فهو لفلان فجاءت به على الوصف المكروه" فقال "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" فقوله فهو لفلان إثبات للنسب بالقيافة وإنما منعت الأيمان عن إلحاقه بمن جاء على صفته وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يعمل بالقيافة في إثبات النسب والحكم في الولد المتنازع فيه أن يكون للشريكين أو المشتريين أو الزوجين وللهادوية في الزوجين تفاصيل معروفة في الفروع وتأولوا حديث مجزز هذا وقالوا ليس من باب التقرير لأن نسب أسامة كان معلوما إلى زيد وإنما كان يقدح الكفار في نسبه لاختلاف اللون بين الولد وأبيه والقيافة كانت من أحكام الجاهلية وقد جاء الإسلام بإبطالها ومحو آثارها فسكوته صلى الله عليه وسلم عن الإنكار على مجزز ليس تقريرا لفعله واستبشاره إنما هو لإلزام الخصم الطاعن في نسب أسامه بما يقوله ويعتمده فلا حجة في ذلك قلت ولا يخفى(4/137)
أن هذا الجواب مبني على أنه قد سبق منه صلى الله عليه وسلم إنكار للقيافة وإلحاق النسب بها كتقدم إنكاره مضي كافر إلى كنيسة وهذا لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في قصة اللعان بما سمعت ثم فعل الصحابة من بعده وقولهم بثبوت النسب به من الأدلة على عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم وأما قوله "الولد للفراش" فذلك فيما إذ علم الفراش فإنه معلوم أن الحكم به مقدم قطعا وإنما القيافة عند عدمه ثم الأصح عند القائلين بالإلحاق أنه يكفي قائف واحد وقيل لا بد من اثنين وحديث الباب دال على الاكتفاء بالواحد(4/138)
كتاب العتق
كتاب العتق
...
كتاب العتق
العتق: الحرية ويقال عتق عتقا بكسر العين وفتحها فهو عتيق وعاتق وفي النجم الوهاج العتق إسقاط الملك من الآدمي تقربا لله وهو مندوب وواجب في الكفارات وقد حث الشارع عليه كما قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} فسرت بعتقها من الرق والأحاديث في فضله كثيرة منها
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرىء مسلم أعتق امرءا مسلما استنقذ الله بكل عضو" بكسر العين وضمها "منه عضوا منه من النار" متفق عليه وتمامه في البخاري حتى فرجه بفرجه وفيه أنه إذا كان المعتق والمعتق مسلمين أعتقه الله من النار وفي قوله استنقذه ما يشعر بأنه بعد استحقاقه لها واشترط إسلامه لأجل هذا الأجر وإلا فإن عتق الكافر يصح وقولهم لا قربة لكافر ليس المراد أنه لا ينفذ منه ما من شأنه أن يتقرب به كالعتق والهبة والصدقة وغير ذلك إنما المراد أنه لا يثاب عليها وإلا فهي نافذة منه لكن لا نجاة له بسببه من النار وفي تقييد الرقبة المعتقة بالإسلام أيضا دليل على أن هذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق المسلمة وإن كان في عتق الكافرة فضل لكن لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر ووقع في رواية مسلم إرب عوض عضو وهو بكسر الهمزة وإسكان الراء فموحدة العضو وفيه أن عتق كامل الأعضاء أفضل من عتق ناقصها فلا يكون خصيا ولا فاقد غيره من الأعضاء والأغلى عندنا أفضل كما يأتي وعتق الذكر أفضل من عتق الأنثى كما يدل له قوله
2- وللترمذي وصححه عن أبي أمامة "وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار" فعتق المرأة أجره على النصف من عتق الذكر فالرجل إذا أعتق امرأة كانت فكاك نصفه من النار والمرأة إذا أعتقت الأمة كانت فكاكها من النار كما دل له مفهوم هذا ومنطوق قوله
3- ولأبي داود من حديث كعب بن مرة "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار" وبهذا والذي قبله استدل من قال عتق الذكر(4/138)
أفضل ولما في الذكر من المعاني العامة والمنفعة التي لا توجد في الإناث من الشهادة والجهاد والقضاء وغير ذلك مما يختص بالرجال إما شرعا وإما عادة ولأن في الإماء من تضيع بالعتق ولا يرغب فيها بخلاف العبد وقال آخرون عتق الأنثى أفضل لأنه يكون ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد وقوله في رواية حتى فرجه بفرجه استشكله ابن العربي قال لأن المعصية التي تتعلق بالفرج هي الزنا والزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة إلا أن يقال إن العتق يرجح عند الموازنة بحيث تكون حسنات العتق راجحة توازي سيئة الزنا مع أنه لا اختصاص لهذا بالزنا فإن اليد يكون بها القتل والرجل يكون بها الفرار من الزحف وغير ذلك
فائدة في النجم الوهاج أنه أعتق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين نسمة عدد سني عمره وعد أسماءهم قال وأعتقت عائشة سبعا وستين وعاشت كذلك وأعتق أبو بكر كثيرا وأعتق العباس سبعين عبدا رواه الحاكم وأعتق عثمان وهو محاصر عشرين وأعتق حكيم بن حزام مائة مطوقين بالفضة وأعتق عبد الله بن عمر ألفا واعتمر ألف عمرة وحج ستين حجة وحبس ألف فرس في سبيل الله وأعتق ذو الكلاع الحميري في يوم واحد ثمانية آلاف عبد وأعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألف نسمة انتهى
4- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله" قلت فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أغلاها" روي بالعين المهملة والغين المعجمة "ثمنا وأنفسها عند أهلها" متفق عليه دل على أن الجهاد أفضل أعمال البر بعد الإيمان وقد تقدم في كتاب الصلاة أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال على الإطلاق وتقدم الجمع بين الأحاديث هنالك ودل على أن الأغلى عندنا أفضل من الأدنى قيمة قال النووي محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقابا يعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين قال فثنتان أفضل بخلاف الأضحية فإن الواحدة السمينة أفضل لأن المطلوب في العتق فك الرقبة وفي الأضحية طيب اللحم انتهى والأولى أن هذا لا يؤخذ قاعدة كلية بل يختلف باختلاف الأشخاص فإنه إذا كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعا وقوله وأنفسها ثم أهلها أي ما كان اغتباطهم بها أشد وهو الموافق لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل" بفتح العين أي لا زيادة فيه ولا نقص "فاعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا" يكن له مال يبلغ ثمن العبد " فقد عتق" بفتح العين المهملة "منه ما عتق" بفتح العين ويجوز ضمها متفق عليه دل الحديث على أن من له حصة في عبد(4/139)
إذا أعتق حصته فيه وكان موسرا لزمه تسليم حصة شريكه بعد تقويم حصة الشريك تقويم مثله وعتق عليه العبد جميعه وقد أجمع العلماء على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإعتاق ودل على أنه لا يعتق نصيب شريكه إلا مع يسار المعتق لا مع إعساره لقوله في الحديث وإلا أي وإلا يكن له مال فقد عتق منه ما عتق وهي حصته وظاهره تبعيض العتق إلا أنه قد وقع في هذا اللفظ نزاع بين الأئمة فقال ابن وضاح ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رواه أيوب عن نافع قال قال نافع وإلا فقد عتق منه ما عتق ففصله من الحديث وجعله من قول نافع قال أيوب مرة لا أدري هو من الحديث أو هو شيء قاله نافع وقال غيره قد رواه مالك وعبيد الله العمري فوصلاه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وجعلاه منه قال القاضي عياض وما قاله مالك وعبيد الله العمري أولى وقد جواده وهما في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن وكيف وقد شك أيوب فيه كما ذكرنا وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم قال الشافعي لا أحسب عالما في الحديث يتشكك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب لأنه كان ألزم له حتى لو تساويا وشك أحدهما في شيء ولم يشك فيه صاحبه كان الحجة مع من لم يشك هذا وللعلماء في المسألة أقوال أقواها ما وافقه هذا الحديث وهو أنه لا يعتق نصيب الشريك إلا بدفع القيمة وهو المشهور من مذهب مالك وبه قال أهل الظاهر وهو قول للشافعي وقالت الهادوية وآخرون إنه يعتق العبد جميعه وإن لم يكن للمعتق مال فإنه يستسعى العبد في حصة الشريك مستدلين بقوله
6- ولهما أي الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه "وإلا قوم العبد عليه واستسعي غير مشقوق عليه" وقيل إن السعاية مدرجة في الخبر فإنه ظاهر أنه إذا لم يكن للشريك مال قوم العبد واستسعي في قيمة حصة الشريك وأجيب بأن ذكر السعاية ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم بل مدرجة من بعض الرواة في الخبر كما أشار إليه المصنف قال ابن العربي اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من قول قتادة قال النسائي بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام أعني الاستسعاء من قول قتادة وكذا قال الإسماعيلي إنما هو من قول قتادة مدرج على ما روى همام وجزم ابن المنذر والخطابي بأنه من فتيا قتادة وقد رد جميع ما ذكر من إدراج السعاية باتفاق الشيخين على رفعه فإنهما في أعلى درجات التصحيح وقد روى السعاية في الحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وهو أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له ولكثرة أخذه عنه من همام وغيره فإنه كان أكثر ملازمة لقتادة من همام وشعبة وما روياه لا ينافي رواية سعيد لأنهما اقتصرا في رواية الحديث على بعضه وأما إعلال رواية سعيد بن أبي عروبة بأنه اختلط فمردود لأن روايته في الصحيحين قبل الاختلاط فإنه فيهما من رواية يزيد بن زريع وهو من أثبت الناس في سعيد وروايته عن سعيد كانت قبل اختلاطه ثم رواه البخاري من رواية جرير بن حازم لمتابعته له لينتفي عنه التفرد ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما ثم قال اختصره شعبة كأنه جواب سؤال مقدر تقديره إن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر(4/140)
الاستسعاء فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفا لأنه أورده مختصرا وغيره ساقه بتمامه والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد قلت وبهذا تعرف المجازفة في قول ابن العربي اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وبعد تقرر هذا لك فقد عرفت تعارض كلام هؤلاء الأئمة الحفاظ في هذه الزيادة ولا كلام في أنها قد رويت مرفوعة والأصل عدم الإدراج حتى يقوم عليه دليل ناهض وقد تقاومت الأدلة هنا ولكنه عضد القول برفع زيادة السعاية إليه صلى الله عليه وسلم أن الأصل عدم الإدراج ومع ثبوت رفعها فقد عارضت رواية وإلا فقد عتق منه ما عتق وقد جمع بينهما بوجهين الأول أن معنى قوله "وإلا فقد عتق منه ما عتق" أي بإعتاق مالك الحصة حصته وحصة الشريك تعتق بالسعاية فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه ويكون كالمكاتب وهذا هو الذي جزم به البخاري ويظهر أن ذلك يكون باختيار العبد ؛ لقوله "مشقوق عليه" فلو كان ذلك على جهة اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك لحصل له غاية المشقة وهو لا يلزم في الكتابة ذلك عند الجمهور ؛ لأنها غير واجبة فهذا مثلها وإلى هذا الجمع ذهب البيهقي وقال لا تبقى بين الحديثين معارضة أصلا وهو كما قال إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر العبد السعاية ويحمل حديث أبي المليح عن أبيه أن رجلا أعتق شقصا له في غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس لله شريك وفي رواية فأجاز عتقه وأخرجه النسائي بإسناد قوي ومثله ما أخرج أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة أن رجلا أعتق شقصا في مملوك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو كله فليس لله شريك على الموسر فتندفع المعارضة" وأما ما أخرجه أبو داود من طريق ملقام عن أبيه أن رجلا أعتق نصيبه في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده حسن فهو في حق المعسر ويدل له ما أخرجه النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم وليس على العبد شيء فقال وله وفاء والثاني من وجهي الجمع أن المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في خدمة سيده الذي لم يعتق رقيقا بقدر ماله من الرق ومعنا غير مشقوق عليه أنه لا يكلفه سيده من الخدمة فوق ما يطيقه ولا فوق حصته من الرق قيل إلا أنه يبعد هذا الجمع ما أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث رجل من بني عذرة أن رجلا منهم أعتق مملوكا له عند موته وليس له مال غيره فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين قلت قد يقول من اختار هذا الوجه من الجمع أن المراد من أمره صلى الله عليه وسلم أن يسعى في الثلثين يسعى على مواليه بقدر ثلثي رقبته من الخدمة لأنه الذي بقي رقا لهم وإيضاح الجمع بين الأحاديث أن قوله صلى الله عليه وسلم لا شريك لله فيما إذا كان مالك الشقص غنيا فهو في حكم المالكين فيعتق العبد كله ويسلم قيمة ما هو لشركائه ويحمل حديث السعاية على ما إذا كان العبد قادرا عليها كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم "غير(4/141)
مشقوق عليه وحديث وإلا فقد عتق منه ما عتق على ما إذا كان المعتق فقيرا والعبد لا قدرة له على السعاية
واعلم أن هذا كله فيما إذا كان المعتق يملك بعض العبد وأما إذا كان يملكه كله فأعتق بعضه فجمهور العلماء يقولون يعتق كله وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى في الباقي وهو قول طاوس وحماد وحجة الأولين حديث أبي المليح وغيره وبالقياس على عتق الشقص فإنه إذا سرى إلى ملك الشريك فبالأولى إذا لم يكن له شريك وحجة الآخرين أن السبب في حق الشريك هو ما يدخل على شريكه من الضرر فأما إذا كان العبد له جميعه لم يكن هناك ضرر فلا قياس ولا يخفى أنه رأى في مقابلة النص
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي" بفتح حرف المضارعة أي لا يكافىء "ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" رواه مسلم فيه دليل على أنه لا يعتق عليه بمجرد الشراء وأنه لا بد من الإعتاق بعده وإلى هذا ذهب الظاهرية وذهب الجمهور إلى أنه يعتق بنفس الشراء وتأولوا قوله فيعتقه بأنه لما كان شراؤه تسبب عنه العتق نسب إليه العتق مجازا ولا يخفى أن الأصل الحقيقة إلا أنه صرفه عن الحقيقة حديث سمرة الآتي وفيه تعليق الحرية بنفس الملك كما يأتي وإنما كان عتقه جزاء لأبيه لأن العتق أفضل ما من به أحد على أحد لتخليصه بذلك من الرق فتكمل له أحوال الأحرار من الولاية والقضاء والشهادة بالإجماع والحديث نص في عتق الوالد ومثله قول من عدا داود في حق الأم أيضا
8- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" رواه أحمد والأربعة ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف وأخرجه أبو داود مرفوعا من رواية حماد وموقوفا من رواية شعبة وقال شعبة أحفظ من حماد فالوقف حينئذ أرجح وأخرجه أيضا من طريق شعبة عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال من ملك الحديث فوقفه على عمر وقال أبو داود لم يحدث بهذا الحديث إلا حماد وقد شك فيه قال ابن المديني هو حديث منكر وقال البخاري لا يصح ورواه ابن ماجه والنسائي والترمذي والحاكم من طريق ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهم قال النسائي حديث منكر وقال الترمذي لم يتابع ضمرة عليه وهو خطأ وقال الطبراني وهم في هذا الإسناد والمحفوظ بهذا الإسناد نهى عن بيع الولاء وعن هبته ورد الحاكم هذا وقال إنه روي من طريق ضمرة الحديثان بالإسناد الواحد وصححه ابن حزم وعبد الحق وابن القطان وقالوا ضمرة بن ربيعة لا يضر تفرده لأنه ثقة لم يكن في الشام رجل يشبهه قلت فقد رفعه ثقة فإرسال غيره له لا يضر كما قررناه وفي الحديث دليل على أنه من ملك من بينه وبينه رحامة محرمة للنكاح فإنه يعتق عليه وذلك كالآباء وإن علوا والأولاد وإن سفلوا والإخوة وأولادهم والأخوال(4/142)
والأعمام لا أولادهم وإلى هذا ذهبت الهادوية والحنفية مستدلين بالحديث وذهب الشافعي إلى أنه لا يعتق إلا الآباء والأبناء للنص في الحديث الأول على الآباء وقياسا للأبناء عليهم وبناء منه على عدم صحة هذا الحديث عنده وزاد مالك الإخوة والأخوات قياسا على الآباء وذهب داود إلى أنه لا يعتق أحد بهذا السبب لظاهر حديث أبي هريرة الماضي فيشتريه فيعتقه فلا يعتق أحد إلا بالإعتاق عنده وهذا الحديث كما عرفت وقد صححه أئمة فالعمل به متعين وظاهره أن مجرد الملك سبب للعتق فيكون قرينة لحمل فيعتقه على المعنى المجازي كما قاله الجمهور فلا يكون فيه حجة لداود
9- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا" رواه مسلم وهو ما رواه النسائي وأبو داود أنه صلى الله عليه سلم قال "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين" دل الحديث على أن حكم التبرع في المرض حكم الوصية ينفذ من الثلث وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإنما اختلفوا هل تعتبر القيمة أو العدد من غير تقويم فقال مالك يعتبر التقويم فإذا كانوا ستة أعبد أعتق الثلث بالقيمة سواء كان الحاصل من ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر وذهب البعض إلى أن المعتبر العدد من غير تقويم فيعتق اثنان في مسألة الستة الأعبد وخالفت الهادوية والحنفية وذهبوا إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه ويسعى كل واحد في ثلثي قيمته للورثة قالوا وهذا الحديث آحادي خالف الأصول وذلك لأن السيد قد أوجب لكل واحد منهم العتق فلو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع وإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز تصرف السيد فيه ورد بأن الحديث الآحادي من الأصول فكيف يقال إنه خالف الأصول ولو سلم فمن الأصول أنه لا يدخل ضررا على الغير وقد أدخلتم الضرر على الورثة وعلى العبيد المعتقين وإذا جمع العتق في شخصين كما في مسألة الحديث حصل الوفاء بحق العبد وحق الوارث ونظير مسألة العبد لو أوصى بجميع التركة فإنه يقف ما زاد على الثلث على إجازة الورثة اتفاقا ثم إذا أريد القسمة تعينت الأنصباء بالقرعة اتفاقا
10- وعن سفينة رضي الله عنه بالسين المهملة ففاء فمثناة تحتية فنون قال كنت مملوكا لأم سلمة فقالت أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم الحديث دليل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق وأنه يصح تعليق العتق بشرط فيقع بوقوع الشرط ووجه دلالته أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك إذ الخدمة له وروي عن عمر أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين قال في نهاية المجتهد لم يختلفوا في أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته وبهذا قالت الهادوية والحنفية
11- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما(4/143)
الولاء لمن أعتق" متفق عليه في حديث تقدم في البيع في قصة بريرة وتقدم شرحه بما فيه كفاية وأفادت كلمة إنما الحصر وهو إثبات الولاء لمن ذكر ونفيه عمن عداه فاستدل به على أنه لا ولاء بالإسلام خلافا للهادوية والحنفية
12- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة" في القاموس بضم اللام وفتحها "في النسب والثوب كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" رواه الشافعي وصححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ يريد أنه فيهما بلفظ "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته" أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر وأخرجه مسلم من هذه الطريق وقال الترمذي بعد تخريجه حسن صحيح ومعنى تشبيهه بلحمة النسب أنه يجري الولاء مجرى النسب في الميراث كما تخالط اللحمة سدى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد كما يفيده كلام النهاية والحديث دليل على عدم صحة بيع الولاء ولا هبته فإن ذلك أمر معنوي كالنسب ولا يتأتى انتقاله كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالهما وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك وعليه جماهير العلماء وروي عن بعض السلف جواز بيعه وعن آخرين منهم جواز هبته وكأنهم لم يطلعوا على الحديث أو حملوا النهي على التنزيه وهو خلاف أصله(4/144)
باب المدبر والمكاتب وأم الولد
المدبر اسم مفعول وهو الرقيق الذي علق عتقه بموت مالكه سمي بذلك لأن مالكه دبر دنياه وآخرته أما دنياه فاستمرار انتفاعه بخدمة عبده وأما آخرته فتحصيل ثواب العتق والمكاتب اسم مفعول أيضا هو من وقعت عليه الكتابة وحقيقة الكتابة تعليق عتق المملوك على أدائه مالا أو نحوه من مالك أو نحوه وهو على خلاف القياس عند من يقول إن العبد لا يملك وأم الولد تقدم ذكرها في كتاب البيع
1- وعن جابر رضي الله عنه "أن رجلا" اسمه مذكار كما في رواية مسلم وتقدم في أول كتاب البيع من رواية أبي داود والنسائي أن اسمه أبو مذكار واسم غلامه أبو يعقوب "من الأنصار أعتق غلاما له" اسمه يعقوب كما في مسلم أيضا "عن دبر" بضم الدال المهملة وبضم الموحدة وسكونها ولم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه سلم فقال: "من يشتريه مني؟" فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم" متفق عليه وفي لفظ للبخاري فاحتاج وفي رواية النسائي أي عن جابر وكان عليه دين فباعه بثمانمائة درهم فأعطاه وقال اقض دينك الحديث دليل على مشروعية التدبير وهو متفق على مشروعيته واختلف العلماء هل ينفذ من رأس المال أو من الثلث فذهب الجمهور إلى أنه ينفذ من الثلث وذهب جماعة من السلف والظاهرية إلى أنه ينفذ من رأس المال(4/144)
استدل الجمهور بقياسه على الوصية بجامع أنه ينفذ بعد الموت وبحديث ابن عمر مرفوعا المدبر من الثلث ورد الحديث بأنه جزم أئمة الحديث بضعفه وإنكاره وأن رفعه باطل وإنما هو موقوف على ابن عمر وقال البيهقي الصحيح أنه موقوف وروى البيهقي عن أبي قلابة مرسلا "أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله صلى الله عليه وسلم من الثلث" وأخرج عن علي عليه السلام كذلك موقوفا واستدل الآخرون بالقياس على الهبة ونحوها مما يخرجه الإنسان من ماله في حال حياته ودليل الأولين أولى لتأييد القياس بالمرسل والموقوف ولأن قياسه على الوصية أولى من القياس على الهبة وفي الحديث دليل على جواز بيع المدبر لحاجته لنفقته أو قضاء دينه ذهب طائفة إلى عدم جواز بيعه مطلقا مستدلين بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ورد بأنه عام خصصه حديث الكتاب وذهب آخرون منهم الشافعي وأحمد إلى جواز بيعه مطلقا مستدلين بحديث جابر ويشبهه بالوصية فإنه إذا احتاج الموصي باع ما أوصى به وكذلك مع استغنائه قالوا والحديث ليس فيه قصر البيع على الحاجة والضرورة وإنما الواقع جزئي من جزئيات صور جواز بيعه وقياسه على الوصية يؤيد اعتبار الجواز المطلق والظاهر القول الأول
2- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم" أخرجه أبو داود بإسناد حسن وأصله عند أحمد والثلاثة وصححه الحاكم وروي من طرق كلها لا تخلو عن مقال قال الشافعي في حديث عمرو بن شعيب لا أعلم أحدا روى هذا إلا عمرو بن شعيب ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته وعلى هذا فتيا المفتين والحديث دليل على أن المكاتب إذا لم يف بما كوتب عليه فهو عبد له أحكام المماليك وإلى هذا ذهب الجمهور الهادوية والحنفية والشافعي ومالك وفي المسألة خلاف فروي عن علي عليه السلام أنه يعتق إذا أدى الشرط ويروى عنه أنه يعتق بقدر ما أدى ودليله ما أخرجه النسائي من رواية عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد قال البيهقي قال أبو عيسى فيما بلغني عنه سألت البخاري عن هذا الحديث فقال روى بعضهم هذا الحديث عن أيوب عن عكرمة عن علي واختلف على عكرمة فيه ورواية عكرمة عن علي مرسلة وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة وروي عن علي من طرق مرفوعا وموقوفا قلت فقد ثبت له أصل إلا أنه قد عارضه حديث الكتاب وقول الجمهور دليله الحديث وإن كان ما خلت طرقه عن قادح إلا أنه أيدته آثار سلفي عن الصحابة ولأنه أخذ بالاحتياط في حق السيد فلا يزول ملكه إلا بما قد رضي به من تسليم ما عنده عبده فالأقرب كلام الجمهور
3- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وهو دليل على مسألتين الأولى أن المكاتب إذا صار معه جميع(4/145)
مال المكاتبة فقد صار له ما للأحرار فتحتجب منه سيدته إذا كان مملوكا لامرأة وإن لم يكن قد سلم ذلك وهو معارض بحديث عمرو بن شعيب وقد جمع بينهما الشافعي فقال هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو احتجابهن عن المكاتب وإن لم يكن قد سلم مال الكتابة إذا كان واجدا له وإلا منع من ذلك كما منع سودة من نظر ابن زمعة إليها مع أنه قد قال "الولد للفراش" قلت: ولك أن تجمع بين الحديثين بأن المراد أنه قن إذا لم يجد ما بقي عليه ولو كان درهما وحديث أم سلمة في مكاتب واجد لجميع مال الكتابة ولكنه لم يكن قد سلمه وأما حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "لها إذا كاتبت إحداكن عبدها فليرها ما بقي عليه شيء من كتابته فإذا قضاها فلا تكلمه إلا من وراء حجاب" فإنه ضعيف لا يقاوم حديث الكتاب
المسألة الثانية دل بمفهومه على أنه يجوز لمملوك المرأة النظر إليها ما لم يكاتبها ويجد مال الكتابة وهو الذي دل له منطوق قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} في سورة النور وفي سورة الأحزاب ويدل له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة لما تقنعت بثوب وكانت إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك أخرجه أبو داود وابن مردويه والبيهقي من حديث أنس وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد قال كان العبيد يدخلون على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يريد مماليكهن وفي تيسير البيان للأوزاعي أن رؤية المملوك لمالكته المنصوص أي للشافعي وذكر الخلاف لبعض الشافعية ورده وهو خلاف ما نقلنا عنه أولا فيحتمل أن ذلك قول له وإلى هذا ذهب أكثر العلماء من السلف وهو قول الشافعي وذهبت الهادوية و أبو حنيفة إلى أن المملوك كالأجنبي قالوا يدل له صحة تزويجها إياه بعد العتق وأجابوا عن الحديث بأنه مفهوم لا يعمل به وعن الآية بأن المراد ما ملكت أيمانهن المملوكات من الإماء للحرائر وخصهن بالذكر رفعا لتوهم مغايرتهن للحرائر في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} إذ الإماء لسن من نسائهن ولا يخفى ضعف هذا وتكلفه والحق بالاتباع أولى
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يودي" بضم حرف المضارعة مبني للمجهول من وداه يديه "المكاتب بقدر ما عتق منه دية الحر وبقدر ما رق منه دية العبد" رواه أحمد وأبو داود والنسائي سقط هذا الحديث بشرحه من الشرح وهو دليل على أن للمكاتب حكم الحر في قدر ما سلمه من كتابته فتبعض ديته إن قتل وكذلك الحد وغيره من الأحكام التي تنصف وهذا قول الهادوية وذهب علي عليه السلام وشريح إلى أنه يعتق كله إذا سلم قسطا من مال الكناية وعن علي عليه السلام رواية مثل كلام الهادوية واستدل من قال لا تتبعض أحكامه بأنه عبد ما بقي عليه درهم لحديث ابن عمر "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" إلا أنه موقوف وقد رفعه ابن قانع وأعله بالانقطاع وأخرجه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أبو داود(4/146)
والنسائي لكن قال الشافعي لم أر من رضيت من أهل العلم يثبته كما تقدم وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي عليه السلام وابن عباس مرفوعين بلفظ "المكاتب يعتق بقدر ما أدى ويرث ويقام عليه الحد بقدر ما عتق" ولا علة له وهو يؤيد حديث الكتاب ولعله هو وإنما اختلف لفظه وتقدم الخلاف في المسألة وبيان الراجح منها
5- وعن عمرو بن الحارث هو عمرو بن الحارث بن أبي ضرار بكسر الضاد المعجمة وراء خفيفة عداده في أهل الكوفة روى عنه أبو وائل شقيق بن سلمة وغيره أخي جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها قال "ما ترك رسول الله صلى الله عليه سلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة" رواه البخاري والحديث دليل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تنزهه عن الدنيا وأدناسها وأعراضها وخلو قلبه وقالبه عن الاشتغال بها لأنه متفرغ للإقبال على تبليغ ما أمر به وعبادة مولاه والاشتغال بما يقربه إليه وما يرضاه وقوله ولا عبد ولا أمة وقد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم أعتق ثلاثا وستين رقبة فلم يمت وعنده مملوك والأرض التي جعلها صدقة قال أبو داود كانت نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياه فقال ما أفاء الله على رسوله فأعطى أكثرها المهاجرين وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة ولأبي داود أيضا من طريق ابن شهاب كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بنو النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل وأما خيبر فجزأها بين المسلمين ثم قسم جزءا لنفقة أهله وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته" أخرجه ابن ماجه والحاكم بإسناد ضعيف إذ في سنده الحسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف جدا ورجح جماعة وقفه على عمر رضي الله عنه الحديث دال على حرية أم الولد بعد وفاة سيدها وعليه دل الحديث الأول حيث قال ولا أمة فإنه صلى الله عليه وسلم توفي وخلف مارية القبطية أم إبراهيم وتوفيت في أيام عمر فدل أنها عتقت بوفاته صلى الله عليه وسلم ولأجل هذا الحكم ذكر المصنف الحديث الأول وتقدم الكلام في أم الولد مستوفى في كتاب البيع
7- وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في عسرته" الغارم الذي يلتزم ما ضمنه وتكفل به ويؤديه قاله في النهاية "أو مكاتبا في رقبته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله" رواه أحمد وصححه الحاكم فيه دليل على عظم أجر هذه الإعانة لمن ذكر وذكر هنا لأجل المكاتب وقد قال تعالى في المكاتب: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وقد أخرج النسائي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم(4/147)
قال في الآية ربع الكتابة قال النسائي والصواب وقفه وقال الحاكم في رواية الرفع صحيح الإسناد وقد فسر قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} بإعانة المكاتبين وأخرج ابن جرير وغيره عن علي عليه السلام أنه قال أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه وهذا تعليم من الله وليس بفريضة ولكن فيه أجر(4/148)
كتاب الجامع
باب الأدب
...
كتاب الجامع
أي الجامع لأبواب ستة الأدب والبر والصلة والزهد والورع والترهيب من مساوىء الأخلاق والترغيب في مكارم الأخلاق والذكر والدعاء الأول
باب الأدب
1- عن أبي هرير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصحه وإذا عطس فحمد الله فشمته" بالسين المهملة والشين "وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه" رواه مسلم وفي رواية له خمس أسقط مما عده هنا "وإذا استنصحك فانصحه" والحديث دليل على أن هذه حقوق المسلم على المسلم والمراد بالحق ما لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه فإن الحق يستعمل في معنى الواجب كذا ذكره ابن الأعرابي فالأولى من الست السلام عليه عند ملاقاته لقوله "إذا لقيته فسلم عليه" والأمر دليل على وجوب الابتداء بالسلام إلا أنه نقل ابن عبد البر وغيره أن الابتداء بالسلام سنة وأن رده فرض وفي صحيح مسلم مرفوعا الأمر بإفشاء السلام وأنه سبب للتحاب وفي الصحيحين "إن أفضل الأعمال إطعام الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف" قال عمار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان إنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الاقتار ويا لها من كلمات ما أجمعها للخير والسلام اسم من أسماء الله تعالى فقوله السلام عليكم أي أنتم في حفظ الله كما يقال الله معك والله يصحبك وقيل السلام بمعنى السلامة أي سلامة الله ملازمة لك وأقل السلام أن يقول السلام عليكم وإن كان المسلم عليه واحدا يتناوله وملائكته وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله وبركاته ويجزيه السلام عليك وسلام عليك بالإفراد والتنكير فإن كان المسلم عليه واحدا وجب الرد عليه عينا وإن كان المسلم عليهم جماعة فالرد فرض كفاية في حقهم ويأتي قريبا حديث(4/148)
يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجماعة أن يرد أحدهم وهذا هو سنة الكفاية ويشترط كون الرد على الفور وعلى الغائب في ورقة أو رسول ويأتي حديث "أنه يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير" ويؤخذ من مفهوم قوله "حق المسلم على المسلم" أنه ليس للذمي حق في رد السلام وما ذكر معه ويأتي حديث لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام ويأتي فيه الكلام وقوله إذا لقيته يدل أنه لا يسلم عليه إذا فارقه لكنه قد ثبت حديث "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم وليست الأولى بأحق من الآخرة" فلا يعتبر مفهوم إذا لقيته ثم المراد بلقيه وإن لم يطل بينهما الافتراق لحديث أبي داود إذا لقي أحدكم صاحبه فليسلم عليه فإن حال بينهما شجرة أو جدار ثم لقيه فليسلم عليه وقال أنس كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون فإذا لقيتهم شجرة أو أكمة تفرقوا يمينا وشمالا فإذا التقوا من ورائها يسلم بعضهم على بعض والثانية إذا دعاك فأجبه ظاهره عموم حقية الإجابة في كل دعوة يدعوه لها وخصها العلماء بإجابة دعوة الوليمة ونحوها والأولى أن يقال إنها في دعوة الوليمة واجبة وفيما عداها مندوبة لثبوت الوعيد على من لم يجب في الأولى دون الثانية والثالثة قوله "إذا استنصحك" أي طلب منك النصيحة فانصحه دليل على وجوب نصيحة من يستنصح وعدم الغش له وظاهره أنه لا يجب نصيحة إلا ثم طلبها والنصح بغير طلب مندوب لأنه من الدلالة على الخير والمعروف الرابعة قوله "وإذا عطس فحمد الله فشمته" بالسين المهملة والشين المعجمة قال ثعلب يقال شمت العاطس وسمته إذا دعوت له بالهدى حسن السمت المستقيم قال والأصل فيه السين المهملة فقلبت شينا معجمة فيه دليل على وجوب التشميت للعاطس الحامد وأما الحمد على العاطس فما في الحديث دليل على وجوبه وقال النووي إنه متفق على استحبابه وقد جاء كيفية الحمد وكيفية التشميت وكيف جواب العاطس فيما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك الله وليقل هو يهديكم الله ويصلح بالكم" وأخرجه أيضا أبو داود وغيره بإسناد صحيح وفيه زيادة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك الله ويقول هو يهديكم الله ويصلح بالكم" أي شأنكم وإلى هذا الجواب ذهب الجمهور وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم و استدلوا بأنه أخرجه الطبراني عن ابن مسعود وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وقيل يتخير أي اللفظين وقيل يجمع بينهما وإلى وجوب التشميت لمن ذكر ذهبت الظاهرية و ابن العربي وأنه يجب على كل سامع ويدل له ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة "إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم يسمعه أن يقول يرحمك الله" وكأنه مذهب أبي داود صاحب السنن فإنه أخرج عنه ابن عبد البر بسند جيد أنه كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط(4/149)
فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع فسئل عن ذلك فقال لعله يكون مجاب الدعوة فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول لأهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم انتهى ويحتمل أنه إنما أراد طلب الدعوة كما قاله ولم يكن يراه واجبا قال النووي ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره الحمد فيشمته وهو من باب النصح والأمر بالمعروف ومن آداب العاطس على ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا عطس أحدكم فليضع كفيه على وجهه وليخفض بها صوته وأن يزيد بعد الحمد لله كلمة رب العالمين فإنه أخرج الطبراني من حديث ابن عباس "إذا عطس أحدكم فقال الحمد الله قالت الملائكة رب العالمين فإذا قال أحدكم رب العالمين قالت الملائكة رحمك الله" وفيه ضعف ويشرع أن يشمته ثلاثا إذا كرر العطاس ولا يزيد عليها لما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمت بعد ثلاث قال ابن أبي جمرة في الحديث دليل على عظمة نعمة الله على العاطس يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير وفيه إشارة إلى عظمة فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه عند الدعاء بالخير لمن شمته بعد الدعاء منه له بالخير ولما كان العاطس قد حصل له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه التي لو بقيت فيه أحدثت أدواء شرع له حمد الله على هذه النعمة من بقاء أعضائها على هيئتها والتئامها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها ومفهوم الحديث أنه لا يشمت غير المسلم كما عرفت وقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة من حديث أبي موسى قال كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه سلم يرجون أن يقول لهم يرحمكم الله فيقول يهديكم الله ويصلح بالكم ففيه دليل أنه يقال لهم ذلك ولكن إذا حمدوا الخامسة: قوله إذا مرض فعده ففيه دليل على وجوب عيادة المسلم للمسلم وجزم البخاري بوجوبها قيل يحتمل أنها فرض كفاية وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب قال المصنف يعني على الأعيان وإذا كان حقا للمسلم على المسلم فسواء فيه من يعرفه ومن لايعرفه وسواء فيه القريب وغيره وهو عام لكل مرض وقد استثني منه الرمد ولكنه قد أخرج أبو داود من حديث زيد بن أرقم قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع بعيني وصححه الحاكم وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وظاهر العبارة ولو في أول المرض إلا أنه قد أخرج ابن ماجه من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود إلا بعد الثلاث وفيه(4/150)
راو متروك ومفهومه كما عرفت دال على أنه لا يعاد الذمي إلا أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم عاد خادمه الذمي وأسلم ببركة عيادته وكذلك زار عمه أبا طالب في مرض موته وعرض عليه كلمة الإسلام السادسة قوله وإذا مات فاتبعه دليل على وجوب تشييع جنازة المسلم معروفا كان معروف
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم" وقوله "فهو أجدر" بالجيم والدال المهملة فراء أحق "أن لا تزدروا" تحتقروا "نعمة الله عليكم" علة للأمر والنهي معا متفق عليه الحديث إرشاد للعبد إلى ما يشكر به النعمة والمراد بمن هو أسفل من الناظر في الدنيا فينظر إلى المبتلى بالأسقام وينتقل منه إلى ما فضل به عليه من العافية التي هي أصل كل إنعام وينظر إلى من في خلقه نقص من عمى أو صمم أو بكم وينتقل إلى ما هو فيه من السلامة عن تلك العاهات التي تجلب الهم والغم وينظر إلى من ابتلي بالدنيا وجمعها والامتناع عما يجب عليه فيها من الحقوق ويعلم أنه فضل بالإقلال وأنعم عليه بقلة تبعة الأموال في الحال والمآل وينظر إلى من ابتلي بالفقر المدقع أو الدين المفظع ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين وتقر بما أعطاه ربه العين وما من مبتلى في الدنيا بخير أو شر إلا ويجد من هو أعظم منه بلية فيتسلى به ويشكر ما هو فيه مما يرى غيره ابتلي به وينظر من هو فوقه في الدين فيعلم أنه من المفرطين فبالنظر الأول يشكر ما لله عليه من النعم وبالنظر الثاني يستحي من مولاه ويقرع باب المتاب بأنامل الندم فهو بالأول مسرور بنعمة الله وفي الثاني منكسر النفس حياء من مولاه وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا نظر أحدكم إلى ما فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه
3- وعن النواس بفتح النون وتشديد الواو وسين مهملة ابن سمعان بفتح السين المهملة وكسرها وبالعين المهملة ورد سمعان الكلابي على رسول الله صلى الله عليه سلم وزوجه ابنته وهي التي تعوذت من النبي صلى الله عليه وسلم سكن النواس الشام وهو معدود منهم وفي صحيح مسلم نسبته إلى الأنصار قال المازري والقاضي عياض والمشهور أنه كلابي ولعله حليف الأنصار قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" أخرجه مسلم قال النووي: قال العلماء البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى الصدقة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة وبمعنى الطاعة وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق وقال القاضي عياض حسن الخلق مخالقة الناس بالجميل والبشر والتودد لهم والإشفاق عليهم واحتمالهم والحمل عنهم والصبر عليهم في المكاره وترك الكبر والاستطالة عليهم ومجانبة الغلظة والغضب والمؤاخذة وحكى فيه خلافا هل هو غريزة أو مكتسب(4/151)
قال والصحيح أن منه ما هو غريزة ومنه ما هو مكتسب بالتخلق والاقتداء بغيره وقال الشريف في التعريفات قيل حسن الخلق هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال المحمودة بسهولة وتيسر من غير حاجة إلى إعمال فكر وروية انتهى قيل ويجمع حسن الخلق قوله صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه وكف الأذى وبذلك المعروف حسن الخلق وقوله والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس أي تحرك الخاطر في صدرك وترددت هل تفعله لكونه لا لوم فيه أو تتركه خشية اللوم عليه من الله سبحانه وتعالى ومن الناس لو فعلته فلم ينشرح به الصدر ولا حصلت الطمأنينة بفعله خوف كونه ذنبا ويفهم منه أنه ينبغي ترك ما تردد في إباحته وفي معناه حديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك أخرجه البخاري من حديث الحسن بن علي وفيه دليل على أنه تعالى قد جعل للنفس إدراكا لما لا يحل فعله وزاجرا عن فعله
4- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان" المناجاة المشاورة والمساورة "دون الآخر حتى تختلطوا بالناس" وعلله "من أجل أن ذلك يحزنه " من أحزن يحزن مثل أخرج يخرج أو من حزن يحزن بضم الزاي متفق عليه واللفظ لمسلم فيه النهي عن تناجي الاثنان إذا كان معهما ثالث إلا إذا كانوا أكثر من ثلاثة لانتفاء العلة التي نص عليها وهي أنه يحزنه انفراده وإيهام أنه ممن لا يؤهل للسر أو يوهمه أن الخوض من أجله ودلت العلة على أنهم إذا كانوا أربعة فلا نهي عن انفراد اثنين بالمناجاة لفقد العلة وظاهره عام لجميع الأحوال في سفر أو حضر وإليه ذهب ابن عمر ومالك وجماهير العلماء وادعى بعضهم نسخه ولا دليل عليه وأما الآيات في سورة المجادلة فهي في نهي اليهود عن التناجي كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} قال اليهود وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال كان بين اليهود وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة فكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى}
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا" متفق عليه وفي لفظ لمسلم لا يقيمن بصيغة النهي مؤكدا لفظ الخبر في هذا الحديث الذي أتى به المصنف في معنى النهي وظاهره التحريم فمن سبق إلى موضع مباح من مسجد أو غيره لصلاة أو غيرها من الطاعات فهو أحق به ويحرم على غيره أن يقيمه منه إلا أنه قد أفاد حديث "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" أخرجه مسلم أنه إذا(4/152)
كان قد سبق فيه حق لأحد بقعوده فيه من مصل أو غيره ثم فارقه لأي حاجة ثم عاد وقد قعد فيه أحد أن له أن يقيمه منه وإلى هذا ذهب الهادوية والشافعية وقالوا لا فرق في المسجد بين أن يقوم ويترك فيه سجادة أو نحوها أو لا فإنه أحق به قالوا وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها والحديث يشمل من قعد في موضع مخصوص لتجارة أو حرفة أو غيرهما قالوا وكذلك من اعتاد في المسجد محلا يدرس فيه فهو أحق به قال المهدي إلى العشي وقال الغزالي إلى الأبد ما لم يضرب وأما إذا قام القاعد من محله لغيره فظاهر الحديث جوازه وروي عن ابن عمر أنه إذا قام له الرجل من مجلسه لا يقعد فيه وحمل على أنه تركه تورعا لجواز أنه قام له حياء من غير طيبة نفس
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها" بنفسه "أو يلعقها غيره" الأول بفتح حرف المضارعة من لعق والثاني بضمه من ألعق متفق عليه والحديث دليل على عدم تعيين غسل اليد من الطعام وأنه يجزىء مسحها وفيه دليل على أنه يجب لعق اليد أو إلعاقها الغير وعلله في الحديث بأنه لا يدري في أي طعامه البركة كما أخرجه مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالتقاط اللقمة ومسحها وأكلها كما في رواية لمسلم أيضا بلفظ إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان وهذه الأمور من اللعق والإلعاق ولعق الصحفة وأكل ما يسقط ظاهر الأوامر وجوبها وإلى هذا ذهب أبو محمد ابن حزم وقال إنها فرض والبركة هي النماء والزيادة وثبوت الخير والمراد هنا ما يحصل به التغدية وتسلم عاقبته من أذى ويقوي على طاعة الله وغير ذلك وهذه البركة قد تكون في لعق يده أو لعق الصحفة أو أكل ما يسقط من لقمة وإن كان علل أكل الساقط بأنه لا يدعها للشيطان والمراد من قوله يده هو أصابع يده الثلاث كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع ولا يزيد الرابعة والخامسة إلا إذا احتاجهما بأن يكون الطعام غير مشتد ونحوه وقد أخرج سعيد بن منصور أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس وهو مرسل وفيه دلالة على أنه لا بأس بإلعاق الغير أصابعه من زوجة أو خادم وولد وغيرهم فإن تنجست اللقمة الساقطة فيزيل ما فيها من نجاسة إن أمكن وإلا أطعمها حيوانا ولا يدعها للشيطان كما ذكره النووي بناء على جوازإطعام المتنجس وعليه إجماع الأمة فعلا خلفا عن سلف وتقدم الكلام في ذلك(4/153)
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم: "يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير" متفق عليه وفي رواية لمسلم من رواية أبي هريرة "والراكب على الماشي" بل هو في البخاري وقال المصنف إنه لم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم فيشكل جعل الحديث من المتفق عليه وظاهر الأمر الوجوب وقال المازري إنه للندب قال فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأ الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة قلت والأصل في الأمر الوجوب وكأنه صرفه عنه الاتفاق على عدم وجوب البداءة بالسلام والحديث فيه شرعية ابتداء السلام من الصغير على الكبير قال ابن بطال عن المهلب وإنما شرع للصغير أن يبتدىء الكبير لأجل حق الكبير ولأنه أمر بتوقيره والتواضع له ولو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا قال المصنف لم أر فيه نقلا والذي يظهر اعتبار السن لأن الظاهر تقديم الحقيقة على المجاز وفيه شرعية ابتداء المار بالسلام للقاعد قال المازري لأنه قد يتوقع القاعد منه الشر ولا سيما إذ كان راكبا فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه وأنس إليه أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار مزية فأمر المار بالابتداء أو لأن القاعدة يشق عليه مراعاة المارين من كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة عليه وفيه شرعية ابتداء القليل بالسلام على الكثير وذلك لفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدأوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له فلو مر جمع كثير على جمع أو مر الكبير على الصغير قال المصنف لم أر فيه نصا واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أو كبيرا وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله وخرج به عن العرف وفيه شرعية ابتداء الراكب على الماشي وذلك لأن للراكب مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأ الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو لو حاز الفضيلتين وأما إذا تلاقى راكبان أو ماشيان فقد تكلم فيها المازري فقال يبدأ الأدنى منهما على الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الجنس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبدأ الذي هو أدنى الذي هو فوقه والثاني أظهر كما لا ينظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطانا يخشى منه وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما ثبت في حديث المتهاجرين وقد أخرج البخاري في الأدب بسند صحيح من حديث جابر الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني قال قال لي أبو بكر لا يسبقك أحد بالسلام وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة مرفوعا "إن أولى الناس بالله من بدأ السلام" وقال حسن والطبراني في حديث قلنا يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام قال: "أطوعكم لله تعالى"(4/154)
8- وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجماعة أن يرد أحدهم" رواه أحمد والبيهقي فيه يجزىء تسليم الواحد عن الجماعة ابتداء وردا قال النووي يستثنى من عموم ابتداء السلام من كان يأكل أو يشرب أو يجامع أو كان في الخلاء أو في الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر إلا أن السلام على من كان في الحمام إنما كره إذا لم يكن عليه إزار وإلا فلا كراهة وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات فلو سلم لم يجب الرد عليه عند من قال الإنصات واجب ويجب عند من قال إنه سنة وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم كفاه الرد بالإشارة وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ قال النووي وفيه نظر والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد ويندب السلام على من دخل بيتا ليس فيه أحد لقوله تعالى: {إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنه يستحب إذا لم يكن في البيت أحد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه فإن ظن ظن المار الإشارة أنه سلم على القاعد لا يرد عليه فإنه يترك ظنه ويسلم فلعل ظنه يخطىء فإنه إن لم يرد عليه سلامه ردت عليه الملائكة كما ورد ذلك وأما من قال لا يسلم على من ظن أنه لا يرد عليه لأنه يكون سببا لتأثيم الآخر فهو كلام غير صحيح لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا ذكر معناه النووي وقال ابن دقيق العيد لا ينبغي أن يسلم عليه لأن توريط المسلم في المعصية أشد من مصلحة السلام عليه وامتثال حديث الأمر بالإفشاء يحصل مع غير هذا فإن قيل هل يحسن أن يقول رد السلام فإنه واجب قيل نعم فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب فإن لم يجب حسن أن يحلله من حق الرد
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" أخرجه مسلم ذهب الأكثر إلى أنه لا يجوز ابتداء اليهود والنصارى بالسلام وهو الذي دل عليه الحديث إذ أصل النهي التحريم وحكي عن بعض الشافعية أنه يجوز الابتداء لهم بالسلام ولكن يقتصر على قول السلام عليكم وروي ذلك عن ابن عباس(4/155)
وغيره وحكى القاضي عياض عن جماعة جواز ذلك لكن للضرورة والحاجة وبه قال علقمة والأوزاعي ومن قال لا يجوز يقول إن سلم على ذمي ظنه مسلما ثم بان له أنه يهود فينبغي أن يقول له رد علي سلامي وروي عن ابن عمر أنه فعل ذلك والغرض منه أن يوحشه ويظهر له أنه ليس بينهما ألفة وعن مالك أنه لا يستحب أن يسترده واختاره ابن العربي فإن ابتدأ الذمي مسلما بالسلام ففي الصحيحين عن أنس مرفوعا "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود إنما يقول أحدهم السام عليكم فقل وعليك " وإلى هذه الرواية بإثبات الواو ذهب طائفة من العلماء واختار بعضهم حذف الواو لئلا يقتضي التشريك وقد قدمنا ذلك وما ثبت به النص أولى بالإتباع وقال الخطابي عامة المحدثين يروون هذا الحرف وعليكم بالواو وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو وقال الخطابي وهذا هو الصواب قلت وحيث ثبتت الرواية بالواو وغيرها فالوجهان جائزان وفي قوله فقولوا وعليك وقولوا وعليكم ما يدل على إيجاب الجواب عليهم في السلام وإليه ذهب عامة العلماء ويروى عن آخرين أنه لا يرد عليهم والحديث يدفع ما قالوه وفي قوله "فاضطروهم إلى أضيقه" دليل على وجوب ردهم عن وسط الطرقات إلى أضيقها وتقدم فيه الكلام
10- وعنه أي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه يرحمك الله فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" أخرجه البخاري تقدم فيه الكلام ولو أتى به المصنف بعد أول حديث في الباب لكان الصواب
11- وعنه أي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائما " أخرجه مسلم وتمامه فمن نسي فليستقيء من القيء وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال مه قال لمه أيسرك أن يشرب معك الهر قال لا قال قد شرب معك ما هو شر منه الشيطان" وفيه راو لا يعرف ووثقه يحيى بن معين والحديث دليل على تحريم الشرب قائما لأنه الأصل في النهي وإليه ذهب ابن حزم وذهب الجمهور إلى أنه خلاف الأولى وآخرون إلى أنه مكروه كأنهم صرفوه عن ذلك لما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو(4/156)
قائم وفي صحيح البخاري أن عليا رضي الله عنه شرب قائما وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت فيكون فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لكون النهي ليس للتحريم وأما قوله فليستقيء فإنه نقل العلماء على أنه ليس على من شرب قائما أن يستقيء وكأنهم حملوا الأمر أيضا على الندب
12- وعنه أي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا نزع أي نعله فليبدأ بالشمال ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع " أخرجه مسلم إلى قوله بالشمال وأخرج باقيه مالك والترمذي وأبو داود ظاهر الأمر الوجوب ولكنه ادعى القاضي عياض الإجماع على أنه للاستحباب قال ابن العربي البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها قال الحليمي إنما يبدأ بالشمال عند الخلع لأن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن فلما كانت اليمين أكرم من اليسرى بدأ بها في اللبس وأخرت في النزع لتكون الكرام لها أدوم وحصتها منها أكثر وقال ابن عبد البر من بدأ في الانتعال باليسرى أساء لمخالفة السنة ولكن لا يحرم عليه لبس نعليه وقال غيره ينبغي أن تنزع النعل من اليسرى ويبدأ باليمين ولعل ابن عبد البر يريد أنه لا يشرع له الخلع إذا بدأ باليسرى ثم يستأنف لبسهما على الترتيب المشروع لأنه قد فات محله وهذا الحديث لا يدل على استحباب الانتعال لأنه قال إذا انتعل أحدكم ولكنه يدل عليه ما أخرجه مسلم استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل أي يشبه الراكب في خفة المشقة وقلة النصب وسلامة الرجل من أذى الطريق فإن الأمر إذا لم يحمل على الإيجاب فهو للاستحباب وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمش أحدكم في نعل واحدة ولينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا متفق عليه
13- وعنه أي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمش أحدكم في نعل واحدة ولينعلهما" بضم حرف المضارعة من أنعل كما ضبطه النووي وضمير التثنية للرجلين وإن لم يجر لهما ذكر فإنه قد ذكر ما يدل عليهما من النعل جميعا "أو ليخلعهما" أي النعلين وفي رواية للبخاري "أو ليحفهما جميعا" وهو للقدمين جميعا متفق عليه ظاهر النهي عن المشي في نعل واحدة التحريم وحمله الجمهور على الكراهة فإنهم جعلوا القرينة حديث الترمذي عن عائشة قالت ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها إلا أنه رجح البخاري وقفه وقد ذكر رزين عنها قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتعل قائما ويمشي في نعل واحدة واختلفوا في علة النهي فقال قوم علته أن النعال شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك ونحوه فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى فيخرج لذلك عن سجية مشيته ولا يؤمن مع ذلك العثار وقيل إنها مشية الشيطان وقال البيهقي الكراهة لما في ذلك من الشهرة(4/157)
في الملابس وقد ورد في رواية لمسلم "إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة حتى يصلحها" وتقدم ما يعارضه من حديث عائشة فيحمل على الندب وقد ألحق بالنعلين كل لباس شفع كالخفين وقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ولا خف واحدة" وهو عند مسلم من حديث جابر وعند أحمد من حديث أبي سعيد وعند الطبراني من حديث ابن عباس وقال الخطابي وكذا إخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى والارتداء على أحد المنكبين دون الآخر قلت ولا يخفى أن هذا من باب القياس ولم تعلم العلة حتى يلحق بالأصل فالأولى الاقتصار على محل النص
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" بضم الخاء المعجمة والمد البطر والكبر (متفق عليه) فسر نفي نظر الله بنظر رحمته إليه أي لا يرحم الله من جر ثوبه خيلاء سواء كان من النساء أو الرجال وقد فهمت ذلك أم سلمة فقالت عند سماعها الحديث منه صلى الله عليه وسلم فكيف تصنع النساء بذيولهن فقال صلى الله عليه وسلم: "يزدن فيه شبرا" قالت إذا تنكشف أقدامهن قال : "فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" أخرجه النسائي والترمذي والمراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران باليد المعتدلة والمراد جر الثوب على الأرض وهو الذي يدل له حديث البخاري ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار وتقييد الحديث بالخيلاء دال بمفهومه أنه لا يكون من جره غير خيلاء داخلا في الوعيد وقد صرح به ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي أنه قال أبو بكر رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له صلى الله عليه وسلم إنك لست ممن يفعله خيلاء وهو دليل على اعتبار المفاهيم من هذا النوع وقال ابن عبد البر إن جره لغير الخيلاء مذموم وقال النووي إنه مكروه وهذا نص الشافعي وقد صرحت السنة أن أحسن الحالات أن يكون إلى نصف الساق كما أخرجه الترمذي والنسائي عن عبيد بن خالد قال كنت أمشي وعلي برد أجره فقال لي رجل ارفع ثوبك فإنه أبقى وأنقى فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إنما هي بردة ملحاء فقال مالك في أسوة قال فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه وأما ما هو دون ذلك فإنه لا حرج على فاعله إلى الكعبين وما دون الكعبين فهو حرام إن كان للخيلاء وإن كان لغيرها فقال النووي وغيره إنه مكروه وقد يتجه أن يقال إن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فإن كان لا عن قصد كالذي وقع لأبي بكر فهو غير داخل في الوعيد وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهو ممنوع من جهة الإسراف محرم لأجله ولأجل التشبه بالنساء ولأجل أنه لا يأمن أن تتعلق به النجاسة وقال ابن العربي لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه فيقول لا أجره خيلاء لأن النهي قد تناوله لفظا ولا يجوز لمن يتناوله اللفظ أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في فإنها دعوى غير مسلمة بل إطالة ذيله دالة على تكبره ا ه وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس وقد أخرج ابن منيع(4/158)
عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه إياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة وقد أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة وفيه قصة لعمرو بن زرارة الأنصاري إن الله لا يحب المسبل والقصة أن أبا أمامة قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء وقد أسبل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول عبدك وابن عبدك وأمتك حتى سمعها عمرو فقال يا رسول الله إني حمش الساقين فقال: "يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه إن الله لا يحب المسبل" وأخرجه الطبري عن عمرو بن زرارة وفيه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع أصابع تحت ركبة عمرو وقال يا عمرو هذا موضع الإزار ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع ثم قال يا عمرو وهذا موضع الإزار الحديث ورجاله ثقات وحكم غير الثوب والإزار حكمهما وكذلك لما سأل شعبة محارب بن دثار قال شعبة أذكر الإزار قال ما خص إزارا ولا قميصا ومقصوده أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره وأخرج أهل السنن إلا الترمذي عن ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة وإن كان في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وفيه مقال قال ابن بطال وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائدا على ما جرت به العادة وأخرج النسائي من حديث عمرو بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخى طرف عمامته بين كتفيه وكذا تطويل أكمام القميص زيادة على المعتاد كما يفعله بعض أهل الحجاز إسبال محرم وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة قلت وينبغي أن يراد في المعتاد ما كان في عصر النبوة
15- وعنه أي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" أخرجه مسلم الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب بالشمال فإنه علله بأنه فعل الشيطان وخلقه والمسلم مأمور بتجنب طريق أهل الفسق فضلا عن الشيطان وذهب الجمهور إلى أنه يستحب الأكل باليمين والشرب بها لا أنه بالشمال محرم وقد زاد نافع الأخذ والإعطاء
16- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة" بالخاء المعجمة ومثناة تحتية وزن عظيمة التكبر أخرجه أبو داود وأحمد وعلقه البخاري دل على تحريم الإسراف في المأكل والمشرب والملبس والتصدق وحقيقة الإسراف مجاوزة الحد في كل فعل أو قول وهو في الإنفاق أشهر والحديث مأخوذ من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} وفيه تحريم الخيلاء والكبر قال عبد اللطيف البغدادي هذا الحديث جامع لفضائل تدبير(4/159)
الإنسان نفسه وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة فإن السرف في كل شيء مضر بالجسد ومضر بالمعيشة ويؤدي إلى الإتلاف فيضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس وقد علق البخاري عن ابن عباس كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف ومخيلة(4/160)
باب البر والصلة
البر بكسر الموحدة هو التوسع في فعل الخير والبر بفتحها التوسع في الخيرات وهو من صفات الله تعالى والصلة بكسر الصاد المهملة مصدر وصله كوعده في النهاية تكرر في الحديث ذكر صلة الأرحام وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم وكذلك إن تعدوا وأساءوا وضد ذلك قطيعة الرحم ا هـ
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يبسط" مغير صيغته أي يبسط الله "له في رزقه" أي يوسع له فيه "وأن ينسأ له" مثله في ضبطه بالسين المهملة مخففة أي يؤخر له في أثره بفتح الهمزة والمثلثة فراء أي أجله " فليصل رحمه" أخرجه البخاري وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأجل وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار وأخرج أبو يعلى من حديث أنس مرفوعا إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء وفي سنده ضعف قال ابن التين ظاهر الحديث أي حديث البخاري معارض لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} قال والجمع بينهما من وجهين أحدهما: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة إلى أعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده بتأليف ونحوه والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح
وثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر والذي في الآية بالنسبة إلى علم الله كأن يقال للملك مثلا إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه وإن قطعها فستون وقود سبق في علمه أنه يصل أو يقطع فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ(4/160)
مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} والمحو والإثبات بالنسبة إلى ما في علم الملك وما في أم الكتاب وأما الذي في علم الله فلا محو فيه البتة. ويقال له القضاء المبرم،يقال للأول القضاء المعلق. والوجه الأول أليق فإن الأثر ما يتبع الشيء فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور ورجحه الطيبي وأشار إليه في الفائق. ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله؟ فقال: أنه ليس زيادة في عمره قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة
يدعون له من بعده وأخرجه في الكبير مرفوعا من طريق أخرى وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله قال غيره في أعم من ذلك وفي علمه ورزقه ولابن القيم في كتاب الداء والدواء كلام يقضي بأن مدة حياة العبد وعمره هي مهما كان قلبه مقبلا على الله ذاكرا له مطيع غير عاص فهذه هي عمره ومتى أعرض القلب عن الله تعالى واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياة عمره فعلى هذا معنى أنه ينسأ له في أجله أي يعمر الله قلبه بذكره وأوقاته بطاعته ويأتي تحقيق صلة الرحم في شرح قوله
2- وعن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطع رحم متفق عليه وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة يرفعه ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما ادخر له في الآخرة من قطيعة الرحم وأخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة يرفعه إن أعمال أمتي تعرض عشية الخميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم وأخرج فيه من حديث ابن أبي أوفى إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم وأخرج الطبراني من حديث ابن مسعود إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم واعلم أنه اختلف العلماء في حد الرحم التي تجب صلتها فقيل هي التي يحرم النكاح بينهما بحيث لو كان أحدهما ذكرا حرم على الآخر فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح لما يؤدي إليه من التقاطع وقيل هو من كان متصلا بميراث ويدل عليه قوله صلى الله عليه سلم ثم أدناك وقيل من كان بينه وبين الآخر قرابة سواء كان يرثه أولا ثم صلة الرحم كما قال القاضي عياض درجات بعضها أفضل من بعض وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة فمنها واجب ومنها مستحب فلو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لم يسم قاطعا ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلا وقال القرطبي الرحم التي توصل عامة وخاصة فالعامة رحم الدين وتجب صلتها بالتوادد(4/161)
والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة والرحم الخاصة تزيد بالنفقة على القريب وتفقد حاله والتغافل عن زلته وقال ابن أبي جمرة المعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة وهذا في حق المؤمنين وأما الكفار والفساق فتجب المقاطعة لهم إذا لم تنفع الموعظة واختلف العلماء أيضا بأي شيء تحصل القطيعة للرحم فقال الزين العراقي تكون بالإساءة إلى الرحم وقال غيره تكون بترك الإحسان لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة فلا واسطة بينهما والصلة نوع من الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد والقطيعة ضدها وهي ترك الإحسان وأما ما أخرجه الترمذي من قوله صلى الله عليه سلم "ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" فإنه ظاهر في أن الصلة إنما هي ما كان للقاطع صلة رحمه وهذا على رواية قطعت بالبناء للفاعل وهي رواية فقال ابن العربي في شرحه المراد الكاملة في الصلة وقال الطيبي معناه ليس حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافىء صاحبه بمثل فعله ولكنه من يتفضل على صاحبه وقال المصنف لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات واصل ومكافىء وقاطع فالواصل هو الذي يتفضل ولا يتفضل عليه والمكافىء هو الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذه والقاطع الذي لا يتفضل عليه ولا يتفضل قال الشارح وبالأولى من يتفضل عليه ولا يتفضل أنه قاطع قال المصنف وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ فهو القاطع فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا
3- وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" متفق عليه الأمهات جمع أمهة لغة في الأم ولا تطلق إلا على من يعقل بخلاف أم فإنها نعم وإنما خصت الأم هنا إظهارا لعظم حقها وإلا فالأب محرم عقوقه وضابط العقوق المحرم كما نقل خلاصته عن البلقيني وهو أن يحصل من الولد للأبوين أو أحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا فيخرج من هذا ما إذا حصل من الأبوين أمر أو نهي فخالفهما بما لا يعد في العرف مخالفته عقوقا فلا يكون ذلك عقوقا وكذلك لو كان مثلا على أبوين دين للولد أو حق شرعي فرافعه إلى الحاكم فلا يكون ذلك عقوقا كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي صلى الله عليه سلم في احتياجه لماله فلم يعد النبي صلى الله عليه سلم شكايته عقوقا قلت في هذا تأمل فإن قوله صلى الله عليه سلم أنت ومالك لأبيك دليل على نهيه عن منع أبيه عن ماله وعن شكايته ثم قال صاحب الضابط فعلى هذا العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله أبويه كان محرما من جملة الصغائر فيكون في حق الأبوين كبيرة أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه الجهاد(4/162)
الواجب عليه أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع أو كسب أو ترك تعظيم الوالدين فإنه لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه أو قطب في وجهه فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين قوله ووأد البنات بسكون الهمزة وهو دفن البنات حية وهو محرم وخص البنات لأنه الواقع من العرب فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية كراهة لهن يقال أول من فعله قيس بن عاصم التيمي وكان من العرب من يقتل أولاده مطلقا خشية الفاقة والنفقة وقوله "منعا وهات" المنع مصدر من منع يمنع والمراد منع ما أمر الله أن لا يمنع وهات فعل أمر مجزوم والمراد النهي عن طلب ما لا يستحق طلبه وقوله " وكره لكم قيل وقال" يروى بغير تنوين حكاية للفظ الفعل وروي منونا وهي رواية في البخاري :"قيلا وقالا"، على النقل من الفعلية إلى الاسمية والأول أكثر والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره فيقول قيل كذا وكذا بغير تعيين القائل وقال فلان كذا وكذا وإنما نهي عنه لأنه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم لكونه قد يتضمن الغيبة والنميمة والكذب ولا سيما مع الإكثار من ذلك قلما سواده عنه وقال المحب الطبري فيه ثلاثة أوجه أحدها أنهما مصدران للقول تقول قلت قولا وقيلا وفي الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام ثانيها إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها لتخبر عنها فتقول قال فلان كذا وقيل له كذا والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه وإما لما يكرهه المحكي عنه ثالثها أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله قال فلان كذا وقال فلان كذا ومحل كراهة ذلك في أن يكثر منه بحيث لا يأمن من الزلل وهو في حق من ينقل بغير تثبت في نقله لما يسمعه ولا يحتاط له ويؤيد هذا الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم قلت ويحتمل إرادة كل من الثلاثة وقوله وكثرة السؤال هو السؤال للمال أو عن المشكلات من المسائل أو مجموع الأمرين وهو أولى وتقدم في الزكاة تحريم مسألة المال وقد نهى عن الأغلوطات أخرجه أبو داود وهي المسائل التي يغلط بها العلماء ليزلوا فينتج بذلك شر وفتنة وإنما نهي عنها نافعة في الدين ولا يكاد أن يكون إلا فيما لا ينفع وقد ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر وقوعها جدا لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الذي لا سواده صاحبه عن الخطأ وقيل كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وكثرة سؤال إنسان معين عن تفاصيل حاله وكان مما يكرهه المسؤول وقوله "وإضاعة المال" المتبادر من الإضاعة ما لم يكن لغرض ديني ولا دنيوي وقيل هو الإسراف في الإنفاق وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام ورجح المصنف أنه ما أنفق وجوهه المأذون فيها شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد وفي التبذير تفويت تلك المصالح إما في حق صاحب المال أو في حق غيره قال والحاصل أن في كثرة الإنفاق ثلاثة وجوه
الأول: الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعا ولا شك
الثاني: الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعا ولا شك في كونه(4/163)
مطلوبا ما لم يفوت حقا آخر أهم من ذلك المنفق فيه
والثالث: الإنفاق في المباحات وهو منقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف والثاني: فيما لا يليق به عرفا فإن مفسدة إما حاضرة أو متوقعة فذلك ليس بإسراف وإن لم يكن كذلك فالجمهور على أنه إسراف قال ابن دقيق العيد ظاهر القرآن أنه إسراف وصرح بذلك القاضي حسين فقال في قسم الصدقات هو حرام وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي في الكلام على الغارم وقال الباجي من المالكية إنه يحرم استيعاب جميع المال بالصدقة قال ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث كضيف أو عيد أو وليمة والإتفاق على كراهة الإنفاق في البناء الزائد على قدر الحاجة ولا سيما إن انضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرف وكذلك احتمال الغبن الفاحش في المبايعات بلا سبب وقال السبكي في الحلبيات وأما إنفاق المال في الملاذ المباحة فهو موضع اختلاف وظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف ومن بذل مالا كثيرا في عرض يسير فإنه يعده العقلاء مضيعا انتهى وقد تقدم الكلام في الزكاة على التصديق بجميع المال بما فيه كفاية
4- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين" أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم الحديث دليل على وجوب إرضاء الوالد لوالديه وتحريم إسخاطهما فإن الأول فيه مرضاة الله والثاني فيه سخطه فيقدم رضاهما على فعل ما يجب عليه من فروض الكافية كما في حديث ابن عمر أنه جاء رجل يستأذنه صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "أحي والداك؟" قال نعم قال: "ففيهما فجاهد" وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال يا رسول الله إني قد هاجرت قال "هل لك أهل باليمن" فقال أبواي قال "أذنا لك" قال لا قال " فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وفي إسناده مختلف فيه وكذلك غير الجهاد من الواجبات وإليه ذهب جماعة من العلماء كالأمير حسين ذكره في الشفاء والشافعي فقالوا يتعين ترك الجهاد إذا لم يرض الأبوان إلا فرض العين كالصلاة فإنها تقدم وإن لمن يرض بها الأبوان بالإجماع وذهب الأكثر لى أنه يجوز فعل فرض الكفاية والمندوب وإن لم يرض الأبوان ما لم يتضرر بسبب فقد الولد وحملوا الأحاديث على المبالغة في حق الوالدين وأنه يتبع رضاهما ما لم يكن في ذلك سخط الله كما قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} قلت الآية إنما هي فيما إذا حملاه على الشرك ومثله غيره من الكبائر وفيه دلالة على أنه لا يطيعهما في ترك فرض الكفاية والعين لكن الإجماع خصص فرض العين وأما إذا تعارض حق الأب وحق الأم فحق الأم مقدم لحديث البخاري قال رجل يا رسول الله من أحق بحسن صحبتي؟ قال: "أمك" ثلاث مرات ثم(4/164)
قال " أبوك" فإنه دل على تقديم رضا الأم على رضا الأب قال ابن بطال مقتضاه أن يكون للأم ثلاث أمثال ما للأب قال وكأن ذلك لصعوبة الحمل عند الوضع ثم الرضاع قلت وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ومثلها {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ثم قال القاضي عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل على الأب في البر ونقل الحارث المحاسبي الإجماع على هذا واختلفوا في الأخ يروي من أحق ببره منهما فقال القاضي الأكثر الجد وجزم به الشافعية ويقدم من أدلى بسببين على من أدلى بسبب ثم القرابة من ذوي الرحم ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم ثم العصبات ثم المصاهرة ثم الولاء ثم الجار وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن البر دفعة واحدة وورد في تقديم الزوج ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة قال "زوجها" قلت فعلى الرجل قال: "أمه" ولعل مثل هذا مخصوص بما إذا حصل التضرر للوالدين فإنه يقدم حقهما على حق الزوج جميعا بين الأحاديث
5- وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه الحديث وقع في لفظ مسلم بالشك في قوله لأخيه أو لجاره ووقع في البخاري لأخيه بغير شك الحديث دليل على عظم حق الجار والأخ وفيه نفي الإيمان عمن لا يحب لهما ما يحب لنفسه وتأوله العلماء بأن المراد منه نفي ضعيف الإيمان إذ قد علم من قواعد الشريعة أن من لم يتصف بذلك لا يخرج عن الإيمان وأطلق المحبوب ولم يعين وقد عينه ما في رواية النسائي في هذا الحديث لفظ "حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه" قال العلماء والمراد من الطاعات والأمور المباحة قال ابن الصلاح وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه من الخير والقيام بذلك يحصل بأن يحب له مثل حصوله ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا أجمعين ا ه هذا على رواية الأخ ورواية الجار عامة للمسلم والكافر والفاسق والصديق والعدو والقريب والأجنبي والأقرب جوارا والأبعد فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبة الخير له فهو في أعلى المراتب ومن كان فيه أكثرها فهو لاحق به وهلم جرا إلى الخصلة الواحدة فيعطي كل ذي حق حقه بحسب حاله وقد أخرج الطبراني من حديث جابر الجيران ثلاثة جار له حق وهو المشرك له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق جار مسلم له رحم له حق الإسلام والرحم والجوار وأخرج البخاري في الأدب المفرد أن عبد الله بن عمر ذبح شاة فأهدى منها لجاره اليهودي فإن كان الجار أخا أحب له ما يحب لنفسه وإن كان كافرا أحب له الدخول(4/165)
في الإيمان مع ما يحب لنفسه من المنافع بشرط الإيمان قال الشيخ محمد بن أبي جمرة حفظ حق الجار من كمال الإيمان والإضرار به من الكبائر لقوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره قال ويفترق الحال في ذلك بالنسبة إلى الجار الصالح وغيره والذي يشمل الجميع إرادة الخير وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يحل له الإضرار بالقول والفعل والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم وغير الصالح كفه عن الأذى وأمره بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكافر يعرض الإسلام عليه والترغيب فيه برفق والفاسق يعظه بما يناسبه بالرفق ويستر عليه زلته وينهاه بالرفق فإن نفع وإلا هجره قاصدا تأديبه بذلك مع إعلامه بالسبب ليكف ويقدم عند التعارض من كان أقرب إليه بابا كما في حديث عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما بابا أخرجه البخاري والحكمة فيه أن الأقرب بابا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف له بخلاف الأبعد وتقدم أن حد الجار أربعون دارا من كل جهة وجاء عن علي عليه السلام من سمع النداء فهو جار وقيل من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار
6- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال: "أن تجعل لله ندا" هو الشبه ويقال له ند ونديد "وهو خلقك" قلت ثم أي قال "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال "أن تزاني بحليلة بفتح الحاء المهملة الزوجة "جارك" متفق عليه قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} والآية الأخرى {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}
وقوله "أن تزاني بحليلة جارك" أي بزوجته التي تحل له وعبر بتزاني لأن معناه تزني بها برضاها وفيه فاحشة الزنا وإفساد المرأة على زوجها واستمالة قلبها إلى غيره وكل ذلك فاحشة عظيمة وكونها حليلة الجار أعظم لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويركن إليه وقد أمر الله تعالى برعاية حقه والإحسان إليه فإذا قابل هذا بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن منه غيره كان غاية في القبح والحديث دليل أن أعظم المعاصي الشرك ثم القتل بغير حق وعليه نص الشافعي ثم تختلف الكبائر باختلاف مفاسدها الناشئة عنها
7- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الكبائر شتم الرجل والديه قيل وهل يسب الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" متفق عليه قوله شتم الرجل والديه أي يتسبب إلى شتمهما فهو من المجاز والجواب من استعماله المسبب في السبب وقد بينه صلى الله عليه سلم بجوابه عمن سأله بقوله نعم وفيه تحريم التسبب إلى أذية الوالدين وشتمهما ويأثم الغير بسبه لهما قال ابن بطال هذا الحديث أصل في سد الذرائع(4/166)
ويؤخذ منه أنه إن آل أمره إلى محرم حرم عليه الفعل وإن لم يقصد المحرم وعليه دل قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} واستنبط منه الماوردي تحريم بيع الثوب الحرير إلى من يتحقق منه لبسه والغلام الأمرد إلى من يحقق منه فعل الفاحشة والعصير لمن يتخذه خمرا وفي الحديث دليل على أنه يعمل بالغالب لأن الذي يسب أبا الرجل قد لا يجازيه بالسب لكن الغالب هو المجازاة
8- وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" متفق عليه نفي الحل دال على التحريم فيحرم هجران المسلم فوق ثلاثة أيام ودل مفهومه على جوازه ثلاثة أيام وحكمه جواز ذلك هذه المدة أن الإنسان مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفي له هجر أخيه ثلاثة أيام ليذهب ذلك العارض تخفيفا على الإنسان ودفعا للإضرار به ففي اليوم الأول يسكن غضبه وفي الثاني يراجع نفسه وفي الثالث يعتذر وما زاد على ذلك كان قطعا لحقوق الأخوة معنى الهجر بقوله يلتقيان إلى آخره وهو الغالب من حال المتهاجرين عند اللقاء وفيه دلالة على زوال الهجر له برد السلام وإليه ذهب الجمهور و مالك والشافعي واستدل له بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه قال أحمد وابن القاسم إن كان يؤذيه ترك الكلام فلا يكفيه رد السلام بل لا بد من الرجوع إلى الحال الذي كان بينهما وقيل ينظر إلى حال المهجور فإن كان خطابه بما زاد على السلام عند اللقاء مما تطيب به نفسه ويزيل علة الهجر كان من تمام الوصل وترك الهجر وإن كان لا يحتاج إلى ذلك كفي السلام وأما فوق اليوم الثالث فقال ابن عبد البر أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث لمن كانت مكالمته تجلب نقصا على المخاطب له في دينه أو مضرة تحصل عليه في نفسه أو دنياه فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية وتقدم الكلام في هجر من يأتي ما يلام عليه شرعا وقد وقع من السلف التهاجر بين جماعة من أعيان الصحابة والتابعين وتابعيهم وقد عد الشارح جماعة من أولئك يستنكر صدوره من أمثالهم أقاموا عليه ولهم أعذار إن شاء الله والحمل على السلامة متعين والعباد مظنة المخالفة وأما قول الذهبي إنه لا يقبل جرح الأقران بعضهم على بعضهم سيما السلف قال وحدهم رأس ثلاثمائة من الهجرة فقد بينا اختلال ما قال في ثمرات النظر في علم الأثر وقد نقل في الشرح قضايا كثيرة لا يحسن ذكرها إذ طي ما لا يحسن ذكره لا يحسن نشره
9- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة" أخرجه البخاري المعروف ضد المنكر قال ابن أبي جمرة يطلق اسم المعروف على ما عرف من أدلة الشرع أنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا فإن قارنته(4/167)
النية أجر صاحبه جزما وإلا ففيه احتمال والصدقة هي ما يعطيه المتصدق لله تعالى فيشمل الواجبة والمندوبة والإخبار عنه بأنه صدقة من باب التشبيه البليغ وهو إخبار بأن له حكم الصدقة في الثواب وأنه لا يحتقر الفاعل شيئا من المعروف ولا يبخل به وفي الحديث "إن كل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة" وقال في بضع أحدكم صدقة والإمساك عن الشر صدقة وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولفظ كل معروف عام وقد أخرج الترمذي وحسنه مرفوعا من حديث أبي ذر تبسمك في وجه أخيك صدقة لك وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة لك وإرشادك في أرض الضلالة صدقة لك وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة لك وإفراغك من دلوك إلى دلو أخيك صدقة وأخرجه ابن حبان في صحيحه وفي الأحاديث إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر فيما هو أصلها وهو ما أخرجه الإنسان من ماله متطوعا فلا تختص بأهل اليسار بل كل أحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال من غير مشقة فإن كل شيء يفعله الإنسان أو يقوله من الخير يكتب له به صدقة
10- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" بإسكان اللام ويقال طليق والمراد سهل منبسط
11- وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" أخرجهما مسلم فيهما الحث على فعل المعروف ولو بطلاقة الوجه والبشر والابتسام في وجه من يلاقيه من إخوانه وفيه الوصية بحق الجار وتعاهده ولو بمرقة تهديها إليه
12- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفس" لفظ مسلم "من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة" هذا ليس في مسلم كما قال الشارح وقد أخرجه غيره "ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" أخرجه مسلم
الحديث فيه مسائل:
الأولى: فضيلة من فرج عن المسلم كربة من كرب الدنيا وتفريجها إما بإعطائه من ماله إن كانت كربته من حاجة أو بذل جاهه في طلبه له من غيره أو قرضه وإن كانت كربته من ظلم ظالم له فرجها بالسعي في رفعها عنه أو تخفيفها وإن كانت كربة مرض أصابه أعانه على الدواء إن كان لديه أو على طبيب ينفعه وبالجملة تفريج الكرب باب واسع فإنه يشمل إزالة كل ما ينزل بالعبد أو تخفيفه
الثانية: التيسير على المعسر هو أيضا من تفريج الكرب وإنما خصه لأنه أبلغ وهو إنظاره لغريمه في الدين أو إبراؤه منه أو غير ذلك فإن الله ييسر له عليه أموره ويسهلها له لتسهيله لأخيه فيما عنده له(4/168)
والتيسير لأمور الآخرة بأن يهون عليه المشاق فيها ويرجح وزن الحسنات ويلقي في قلوب من لهم عنده حق يجب استيفاؤه منه في الآخرة المسامحة وغير ذلك ويؤخذ منه أن من عسر على معسر عسر الله عليه ويؤخذ منه أنه لا بأس على من عسر على موسر لأن مطله ظلم يحل عرضه وعقوبته
الثالثة: من ستر مسلما اطلع منه على ما لا ينبغي إظهاره من الزلات والحسنات فإنه مأجور بما ذكره من ستره في الدنيا والآخرة فيستره في الدنيا بأن لا يأتي زلة يكره اطلاع غيره عليها وإن أتاها لم يطلع الله عليها أحدا وستره في الآخرة بالمغفرة لذنوبه وعدم إظهار قبائحه وغير ذلك وقد حث صلى الله عليه وآله سلم على الستر فقال في حق ماعز "هلا سترت عليه بردائك يا هزال" وقال العلماء وهذا الستر مندوب لا واجب فلو رفعه إلى السلطان كان جائزا له ولا ليث به قلت ودليله أنه صلى الله عليه وسلم لم يلم هزالا ولا أبان له أنه آثم بل حرضه على أنه كان ينبغي له ستره فإن علم أنه تاب وأقلع حرم عليه ذكر ما وقع منه ووجب عليه ستره وهو في حق من لا يعرف بالفساد والتمادي في الطغيان وأما من عرف بذلك فإنه لا يستحب الستر عليه بل يرفع أمره إلى من له الولاية إذا لم يخف من ذلك مفسدة وذلك لأن الستر عليه يغريه على الفساد ويجرئه على أذية العباد ويجرىء غيره من أهل الشر والعناد وهذا يعد انقضاء فعل المعصية فأما إذا رآه وهو فيها فالواجب المبادرة لإنكارها والمنع منها مع القدرة على ذلك ولا يحل تأخيره لأنه من باب إنكار المنكر لا يحل تركه مع الإمكان وأما إذا رآه يسرق مال زيد فهل يجب عليه أخبار زيد بذلك أو ستر السارق الظاهر أنه يجب عليه إخبار زيد وإلا كان معينا للسارق بالكتم منه على الإثم والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وأما جرح الشهود والرواة والأمناء على الأوقاف والصدقات وغير ذلك فإنه من باب نصيحة المسلمين الواجبة على كل من اطلع عليها وليس من الغيبة المحرم بل من النصيحة الواجبة وهو مجمع عليه
الرابعة: الإخبار بأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فإنه دال على أنه تعالى يتولى إعانة من أعان أخاه وهو يدل على أنه يتولى عونه في حاجة العبد التي يسعى فيها وفي حوائج نفسه فينال من عون الله ما لم يكن يناله بغير إعانته وإن كان تعالى هو المعين لعبده في كل أموره لكن إذا كان في عون أخيه زادت إعانة الله فيؤخذ منه أنه ينبغي للعبد أن يشتغل بقضاء حوائج أخيه فيقدمها على حاجة نفسه لينال من الله كمال الإعانة في حاجاته وهذه الجمل المذكورة في الحديث دلت على أنه تعالى يجازي العبد من جنس فعله فمن ستر ستر عليه ومن يسر يسر عليه ومن أعان أعين ثم إنه تعالى بفضله وكرمه جعل الجزاء في الدارين في حق الميسر على المعسر والساتر للمسلم وجعل تفريج الكربة يجازي به في يوم القيامة يوم القيامة أخر عز وجل جزاء تفريج الكربة ويحتمل أن يفرج عنه في الدنيا أيضا لكنه طوي في الحديث وذكر ما هو أهم
13- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله" أخرجه مسلم دل الحديث على أن الدلالة على(4/169)
الخير يؤجر بها الدال عليه كأجر فاعل الخير وهو مثل حديث "من سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها" والدلالة تكون بالإشارة على الغير بفعل الخير وعلى إرشاد ملتمس الخير على أنه يطلبه من فلان والوعظ والتذكير وتأليف العلوم النافعة ولفظ خير يشمل الدلالة على خير الدنيا والآخرة فله در الكلام النبوي ما أشمل معانيه وأوضح مبانيه ودلالته على خير الدنيا والآخرة
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له" أخرجه البيهقي وقد أخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وفيه زيادة "ومن استجار بالله فأجيروه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" وفي رواية "فإن عجزتم عن مكافأته فادعوا له حتى تعلموا أن قد شكرتم فإن الله يحب الشاكرين" وأخرج الترمذي وقال حسن غريب "ومن أعطي عطية فوجد فليجز بها فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر ومن تحلى بباطل فهو كلابس ثوبي زور" والحديث دليل على أن من استعاذ بالله من أي أمر غير واجب عليه فإنه يعاذ ويترك ما طلب منه أن يفعل وأنه يجب إعطاء من سأله بالله وإن كان قد ورد أنه لا يسأل بالله إلا الجنة فمن سأل من المخلوقين بالله شيئا وجب إعطاؤه إلا أن يكون منهيا عن إعطائه وقد أخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح إلا شيخه وهو ثقة على كلام فيه من حديث أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا" بضم الهاء وسكون الجيم أي أمرا قبيحا لا يليق ويحتمل ما لم يسأل سؤالا قبيحا أي بكلام يقبح ولكن العلماء حملوا هذا الحديث على الكراهة ويحتمل أنه يراد به المضطر ويكون ذكره هنا أن منعه مع سؤاله بالله أقبح وأفظع ويحمل لعن السائل على ما إذا ألح في المسألة حتى أضجر المسؤول ودل الحديث على وجوب المكافأة للمحسن إلا إذا لم يجد فإنه يكافئه بالدعاء وأجزأه إن علم أنه قد طابت نفسه أو لم تطب به وهو ظاهر الحديث(4/170)
باب الزهد والورع
الزهد هو قلة الرغبة في الشيء وإن شئت قلت قلت الرغبة عنه وفي اصطلاح أهل الحقيقة بغض الدنيا والإعراض عنها وقيل ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة وقيل أن(4/170)
يخلو قلبك مما خلت منه يدك وقيل بذل ما تملك ولا تؤثر ما تدرك وقيل ترك الأسف على معدوم ونفي الفرح بمعلوم قاله المناوي في تعريفاته وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعا الزهادة في الدنيا ليست بتحر الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب منك فيها لو أتها بقيت لك انتهى فهذا التفسير النبوي يقدم على كل تفسير والورع تجنب الشبهات خوف الوقوع في محرم وقيل ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك وقيل الأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأشق وقيل النظر في المطعم واللباس وترك ما به بأس وقيل تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات
1- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات" ويروى " مشبهات " بضم الميم وتشديد الموحدة ومشبهات بضمها أيضا وتخفيف الموحدة "لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ" بالهمزة من البراءة أي حصل له البراءة من الذم الشرعي وصان عرضه من ذم الناس "لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" أي يوشك أن يقع فيه وإنما حذفه لدلالة ما بعده عليه إذ لو كان الوقوع في الشبهات وقوعا في الحرام لكانت من قسم الحرام البين وقد جعلها قسما برأسه وكما يدل له التشبيه بقوله "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" متفق عليه
أجمع الأئمة على عظم شأن هذا الحديث وأنه من الأحاديث التي تدور عليها قواعد الإسلام قال جماعة هو ثلث الإسلام فإن دورانه عليه وعلى حديث الأعمال بالنيات وعلى حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود إنه يدور على أربعة هذه ورابعها حديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل حديث "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس"
قوله ال"حلال بين" أي قد بينه الله ورسوله إما بالإعلام بأنه حلال نحو أحل لكم صيد البحر الآية وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} أو سكت عنه تعالى ولم يحرمه فالأصل حله أو بما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حلال أو امتن الله ورسوله به فإنه لازم حله وقوله والحرام بين أي بينه الله لنا في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أو بالنهي عنه نحو {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} والإخبار عن الحلال بأنه بين إعلام بحل الانتفاع به في وجوه النفع كما أن الإخبار بأن الحرام بين إعلام باجتنابه وقوله وبينهما مشتبهات لا يعلمهن(4/171)
كثير من الناس المراد بها التي لم يعرف حلها ولا حرمتها فصارت مترددة بين الحل والحرمة الكثير من الناس وهم الجهال فلا يعرفها إلا العلماء بنص فما لم يوجد فيه شيء من ذلك اجتهد فيه العلماء وألحقوه بأيهما بقياس أو استصحاب أو نحو ذلك فإن خفي دليله فالورع تركه ويدخل تحت فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ أي أخذ بالبراءة لدينه وعرضه فإذا لم يظهر فيه للعالم ولا حله فإنه يدخل في حكم الأشياء قبل ورود الشرع فمن لا يثبت للعقل حكما يقول لا حكم فيها بشيء لأن الأحكام شرعية والفرض أنه لا يعرف فيها حكم شرعي ولا حكم للعقل والقائلون بأن العقل حاكم لهم في ذلك ثلاثة أقوال التحريم والإباحة والوقف وإنما اختلف في المشتبهات هل هي مما اشتبه تحريمه أو ما أشتبه بالحرام الذي قد صح تحريمه رجح المحققون الأخير ومثلوا ذلك بما ورد في حديث عقبة بن الحارث الصحابي الذي أخبرته أمة سوداء بأنها أرضعته وأرضعت زوجته فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه سلم كيف وقد قيل فقد صح تحريم الأخت من الرضاعة شرعا قطعا وقد التبست عليه زوجته بهذا الحرام المعلوم ومثله التمرة التي وجدها صلى الله عليه وسلم في الطريق فقال "لولا أني أخاف أنها من الزكاة أو من الصدقة لأكلتها" فقد صح تحريم الصدقة عليه ثم التبست هذه التمرة بالحرام المعلوم وأما ما التبس هل حرمه الله علينا أم لا فقد وردت أحاديث دالة على أنه حلال منها حديث سعد بن أبي وقاص إن من أعظم الناس إثما في المسلمين من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فإنه يفيد أنه كان قبل سؤاله حلالا ولما اشتبه عليه سأل عنه فحرم من أجل مسألته ومنها حديث "ما سكت الله عنه فهو مما عفى عنه" له طرق كثيرة ويدل له قوله تعالى {ويحل لهم الطيبات} فكل ما كان طيبا ولا يثبت تحريمه فهو حلال وإن اشتبه علينا تحريمه والمراد بالطيب هو ما أحله الله على لسان رسول الله صلى الله عليه سلم أو سكت عنه والخبيث ما حرمه وإن عدته النفوس طيبا كالخمر فإنه أحد الأطيبين في لسان العرب في الجاهلية وقال ابن عبد البر إن الحلال الكسب الطيب وهو الحلال المحض وإن المتشابه عندنا في حيز الحلال بدلائل ذكرناها في غير هذا الموضع ذكره صاحب تنضيد التمهيد في الترغيب في الصدقة نقله عن السيد محمد بن إبراهيم وقد حققنا أنه من قسم الحلال البين في رسالتنا المسماة القول المبين وقال الخطابي: ما شككت فيه فالأولى اجتنابه وهو على ثلاثة أحوال واجب ومستحب ومكروه فالواجب اجتناب ما يستلزم المحرم والمندوب اجتناب معاملة من غلب على ماله الحرام والمكروه اجتناب الرخصة المشروعة ا ه قال في الشرح وقد ينازع في المندوب فإنه إذا كان الأغلب الحرام فأولى أن يكون واجب الاجتناب وهو الذي بني عليه الهادوية في معاملة الظالم فيما لم يظن تحريمه لأن الذي غلب عليه الحرام يظن فيه التحريم ا ه وقد أوضحنا هذا في حواشي ضوء النهار وقسم الغزالي الورع أقساما ورع الصديقين وهو ترك ما لم تكن فيه بينة واضحة على حله وورع المتقين وهو ما لا شبهة فيه ولكن يخاف أن يجر إلى الحرام(4/172)
وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع وإلا فهو ورع الموسوسين قلت ورع الموسوسين قد بوب له البخاري فقال باب من لم ير الوسواس في الشبهات كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون انفلت من إنسان وكمن ترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حرام أم حلال ولا علامة تدل على ذلك التحريم وكمن ترك تناول شيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد والكلام في الحديث متسع وفي هذا كفاية وقوله "إن لكل ملك حمى" إخبار عما كانت عليه ملوك العرب وغيرهم فإنه كان لكل واحد حمى يحميه من الناس ويمنعهم عن دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن أراد نجاة نفسه من العقوبة لم يقربه خوفا من الوقوع فيه وذكر هذا كضرب المثل للمخاطبين ثم أعلمهم أن حماه تعالى الذي حرمه على العباد وقوله "ومن وقع في الشبهات" إلخ أي من وقع فيها فقد حام حول حمى الحرام فيقرب ويسرع أن يقع فيه وفيه إرشاد إلى البعد عن ذرائع الحرام وإن كانت غير محرمة فإنه يخاف من الوقوع فيها الوقوع فيه فمن احتاط لنفسه لا يقرب الشبهات لئلا يدخل في المعاصي ثم أخبر صلى الله عليه وسلم منبها مؤكدا بأن في الجسد مضغة وهي القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها وأنها مع صغرها عليها مدار صلاح الجسد وفساده فإن صلحت صلح وإن فسدت فسد وفي كلام الغزالي أنه لا يراد بالقلب المضغة إذ هي قوما للبهائم مدركة بحاسة البصر بل المراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهي المدركة العارفة من الإنسان وهو المخاطب والمعاقب والمطالب ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني وذكر أن جميع الحواس والأعضاء أجناد مسخرة للقلب وكذلك الحواس الباطنة في حكم الخدم والأعوان وهو المتصرف فيها والمردد لها وقد خلقت مجبولة على طاعة القلب لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم به تكلم وكذا سائر الأعضاء وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى فإنهم جبلوا على طاعته لا يستطيعون له خلافا وإنما يفترقان في شيء وهو أن الملائكة عالمة بطاعتها للرب والأجفان تطيع القلب بالانفتاح والأنطباع على سبيل التسخير وإنما افتقر القلب إلى الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره إلى الله تعالى وقطع المنازل إلى لقائه فلأجله خلقت القلوب قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وإنما مركبه البدن وزادهالعلم وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح ثم أطال في هذا المعنى بما يحتمل مجلدة لطيفة وإنما أشرنا إلى كلامه ليعلم مقدار الكلام النبوي وأنه بحر قطارته لا تنزف وأما كونه محل العقل أو محله الدماغ فليست من مسائل علم الآثار حتى يشتغل بذكرها وذكر الخلاف فيها
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/173)
"تعس" في القاموس كسمع ومنع وإذا خاطبت قلت تعس كمنع وإذا حكيت قلت تعس كفرح وهو الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط "عبد الدينار والدرهم والقطيفة" الثوب الذي له خمل "إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض" أخرجه البخاري أراد بعبد الدينار والدرهم من استعبدته الدنيا بطلبها وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها وذكر الدينار والقطيفة مجرد مثال وإلا فكل من استعبدته الدنيا في أي أمر وشغلته عما أمر الله تعالى وجعل رضاه وسخطه متعلقا بنيل ما يريد أو عدم نيله فهو عبده فمن الناس من يستعبده حب الإمارات ومنهم من يستعبده حب الصور ومنهم من يستعبده حب الأطيان واعلم أن المذموم من الدنيا كل ما يبعد العبد عن الله تعالى ويشغله عن واجب طاعته وعبادته لا ما يعينه على الأعمال الصالحة فإنه غير مذموم وقد يتعين طلبه ويجب عليه تحصيله وقوله "رضي" أي عن الله بما ناله من حطامها "إن لم يعط لم يرض" أي عنه تعالى ولا عن نفسه فصار ساخطا فهذا الذي تعس لأنه أراد رضاه على مولاه وسخطه على نيل الدنيا وعدمه والحديث نظير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} الآية
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي يروى بالإفراد والتثنية وهو بكسر الكاف مجمع الكتف والعضد فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيت فلا وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك" أخرجه البخاري الغريب من لا مسكن له يأويه ولا سكن يأنس به ولا بلد يستوطن فيه قيل في المسيح سعد المسيح يسيح لا ولد يموت ولا بناء يخرب وعطف عابر سبيل من باب عطف الترقي و أو ليست للشك بل للتخيير أو الإباحة والأمر للإرشاد والمعنى قدر نفسك ونزلها منزلة من هو غريب أو عابر سبيل لأن الغريب قد يستوطن ويحتمل أن أو للإضراب والمعنى بل كن في الدنيا كأنك عابر سبيل لأن الغريب قد يستوطن بلدا بخلاف عابر السبيل فهمه قطع المسافة إلى مقصده والمقصد هنا إلى الله {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} قال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى(4/174)
الناس بل هو مستوحش منهم لا يكاد يمر فيأنس به فهو ذليل في نفسه خائف وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته وتخفيفه من الأثقال غير متشبث بما يمنعه عن قطع سفره معه زاده وراحلته يبلغانه إلى ما يعنيه من مقصده وفي هذا إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا وأخذ البلغة مهنا لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره فكذلك المؤمن لا يحتاج في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل
وقوله وكان ابن عمر إلخ قال بعض العلماء كلام ابن عمر متفرع من الحديث المرفوع وهو متضمن لنهاية تقصير الأجل من العاقل إذا أمسى ينبغي له أن لا إذا أصبح ينبغي له أن لا ينتظرالمساء بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك وفي كلامه الأخبار بأنه لا بد للأنسان من الصحة والمرض فيغتنم أيام صحته وينفق ساعاته فيما يعود عليه نفعه فإنه لا يدري متى ينزل به مرض يحول بينه وبين فعل الطاعة ولأنه إذا مرض كتب له ما كان يعمل صحيحا فقد أخذ من صحته لمرضه حظه من الطاعات وقوله من حياتك لموتك أي خذ من أيام الحياة والصحة والنشاط لموتك يتقديم ما ينفعك بعد الموت وهو نظير حديث "بادروا بالأعمال سبعا ما تنتظروا إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فإنه شر منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر" أخرجه الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان الحديث فيه ضعيف وله شواهد عند جماعة من أئمة الحديث عن جماعة من الصحابة تخرجه عن الضعف ومن شواهده ما أخرجه أبو يعلي مرفوعا من حديث ابن مسعود "من رضي عمل قوم كان منهم" والحديث دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم أو بالكفار أو المبتدعة في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو مركوب أو هيئة قالوا فإذا تشبه بالكفار في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء منهم من قال يكفر وهو ظاهر الحديث ومنهم من قال لا يكفر ولكن يؤدب
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "يا غلام احفظ الله " جواب الأمر "احفظ الله تجده" مثله "تجاهك" في القاموس وتجاهك مثلين تلقاء وجهك "وإذا سألت" حاجة من حوائج الدارين "فاسأل الله" فإن بيده أمورهما "وإذا استعنت فاستعن بالله" رواه" الترمذي وقال حسن صحيح وتمامه "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك جفت الأقلام وطويت الصحف" وأخرجه أحمد عن ابن عباس بإسناد حسن بلفظ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا غلام أو يا غليم" ألا(4/175)
أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقلت بلى: قال: "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله تعالى لم يقدوا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرح مع الكرب وأن مع العسر يسرا" وله ألفاظ أخر
وهو حديث جليل أفرده بعض علماء الحنابلة بتصنيف مفرد فإنه اشتمل على وصايا جليلة والمراد من قوله "احفظ الله" أي حدوده وعهوده وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده أن لا يتجاوزها ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه فيدخل في ذلك فعل الواجبات كلها وترك المنهيات كلها وقال تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} وقال {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} فسر العلماء الحفيظ بالحافظ لأوامر الله وفسر بالحفظ لذنوبه حتى يرجع منها فأمره صلى الله عليه وسلم بحفظ الله يدخل فيه كل ما ذكر وتفاصيلها واسعة وقوله تجده أمامك وفي اللفظ الآخر يحفظك والمعنى متقارب أي تجده أمامك بالحفظ لك من شرور الدارين جزاء وفاقا من باب وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم يحفظه في دنياه عن غشيان الذنوب وعن كل أمر مرهوب ويحفظ ذريته من بعده كما قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} وقوله "فاسأل الله" أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال وإنزال الحاجات به وحده وأخرج الترمذي مرفوعا "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" وفيه من حديث أبي هريرة مرفوعا "من لا يسأل الله يغضب عليه" وفيه "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفي حديث آخر "يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع" وقد بايع النبي صلى الله عليه سلم جماعة من الصحابة على أن لا يسألوا الناس شيئا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان وكان أحدهم يسقط سوطه أو يسقط خطام ناقته فلا يسأل أحدا أن يناوله وإفراد الله بطلب الحاجات دون خلقه يدل له العقل والسمع فإن السؤال بذل لماء الوجه وذل لا يصلح إلا لله تعالى لأنه القادر على كل شيء الغني مطلقا والعباد بخلاف هذا وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن صلى الله عليه سلم حديث قدسي فيه: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر" وزاد في الترمذي وغيره وذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون
وقوله إذا استعنت فاستعن بالله مأخوذ من قوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نفردك بالاستعانة أمره صلى الله عليه سلم أن يستعين بالله وحده في كل أموره أي إفراده بالاستعانة على ما يريده وفي إفراده بالاستعانة فائدتان الأولى أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الطاعات والثانية أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان(4/176)
ومن خذله فهو المخذول وفي الحديث الصحيح "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" وعلم صلى الله عليه وسلم العباد أن يقولوا في خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه وعلم معاذا أن يقول دبر الصلاة: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" فالعبد أحوج شيء إلى مولاه في طلب إعانته على فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات قال يعقوب صلى الله عليه سلم في الصبر على المقدور {والله المستعان على ما تصفون} وما ذكر من هذه الوصايا النبوية لا ينافي القيام بالأسباب فإنها من جملة سؤال الله والاستعانة به فإن من طلب رزقه بسبب المعاش المأذون فيها رزق من جهته فهو منه تعالى وإن حرم فهو لمصلحة لا يعلمها ولو كشف الغطاء لعلم أن الحرمان خير من العطاء والكسب الممدوح المأجور فاعله عليه هو ما كان لطلب الكفاية له ولمن يعوله أو الزائد على ذلك إذا كان يعده لقرض محتاج أو صلة رحم أو إعانة طالب علم أو نحوه من وجوه الخير لا لغير ذلك فإنه يكون من الاشتغال بالدنيا وفتح باب محبتها الذي هو رأس كل خطيئة وقد ورد في الحديث كسب الحلال فريضة أخرجه الطبراني والبيهقي والقضاعي عن ابن مسعود مرفوعا وفيه عباد بن كثير ضعيف وله شاهد من حديث أنس عند الديلمي طلب الحلال واجب ومن حديث ابن عباس مرفوعا طلب الحلال جهاد رواه القضاعي ومثله في الحلية عن ابن عمر
قال العلماء: الكسب الحلال مندوب أو واجب إلا للعالم المشتغل بالتدريس والحاكم المستغرقة أوقاته في إقامة الشريعة ومن كان من أهل الولايات العامة كالإمام فترك الكسب بهم أولى لما فيه من الاشتغال عن القيام بما هم فيه ويرزقون من الأموال المعدة للمصالح
6- وعن سهل بن سعد قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" رواه ابن ماجه وغيره وسنده حسن فيه خالد بن عمرو القرشي مجمع على تركه ونسب إلى الوضع فلا يصح قول الحاكم إنه صحيح وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث مجاهد عن أنس برجال ثقات إلا أنه لم يثبت سماع مجاهد من أنس وقد روي مرسلا وقد حسن النووي الحديث كأنه لشواهده والحديث دليل على شرف الزهد وفضله وأنه يكون سببا لمحبة الله لعبده ولمحبة الناس له لأن من زهد فيما هو عند العباد أحبوه لأنه جبلت الطبائع على استثقال من أنزل بالمخلوقين حاجاته وطمع فيما في أيديهم وفيه لا بأس بطلب محبة العباد والسعي فيما يكسب ذلك بل هو مندوب إليه أو واجب كما قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا" وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى إفشاء السلام فإنه من جوالب المحبة وإلى التهادي ونحو ذلك
7- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" أخرجه مسلم فسرالعلماء(4/177)
محبة الله لعبده بأنها إرادته الخير له وهدايته ورحمته ونقيض ذلك بغض الله له والتقي هو الآتي بما يجب عليه المجتنب لما يحرم عليه والغني هو غني النفس فإنه الغني المحبوب قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الغني بكثرة العرض ولكن الغني غني النفس" وأشار عياض إلى أن المراد به غني المال وهو محتمل والخفي بالخاء المعجمة والفاء أي الخامل المنقطع إلى عبادة الله والاشتغال بأمور نفسه وضبطه بعض رواة مسلم بالحاء المهملة ذكره القاضي عياض والمراد به الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء وفيه دليل على تفضيل الاعتزال وترك الاختلاط بالناس
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أي يهمه من عناه يعنوه ويعنيه أهمه رواه الترمذي وقال حسن
هذا الحديث من جوامع الكلم النبوية يعم الأقوال كما روي أن في صحف إبراهيم عليه السلام من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ويعم الأفعال فيندرج فيه ترك التوسع في الدنيا وطلب المناصب والرياسة وحب المحمدة والثناء وغير ذلك ما لا يحتاج إليه المرء في إصلاح دينه وكفايته من دنياه وأما اشتغال العلماء بالمسائل الفرضية فقيل إنه ليس من الاشتغال بما لا يعني بل هو مما يؤجرون فيه لأنهم لما عرفوا من الأحاديث النبوية أنه في آخر الزمان يقل العلم ويفشو الجهل اجتهدوا في ذلك لما يأتي من الزمان ومن يأتي من العباد المحتاجين إلى معرفة الأحكام مع عجزهم عن البحث فإنهم أتعبوا القرائح وخرجوا التخاريج وقدروا التقادير والأعمال بالنيات قلت ولا يخفى أن تخريج التخاريج وتقدير التقادير ليس من العلم المحمود لأن غايتها أقوال خرجت من أقوال المجتهدين وليست أقوالا لهم ولا أقوالا لمن يخرجها ولا احتياج إليها والعمل بها مشكل إذ ليست لقائل إذ القائل بها ليس بمجتهد ضرورة فلا يقلد لأنه إنما يقلد مجتهد عدل والفرض أن المخرجين ليسوا مجتهدين وأما تقدير التقادير فإنه قسم من التخاريج إذ غالب ما يقدر أنه يجاب عنه بأقوال المخرجين وفي كلام علي عليه السلام العلم نقطة كثرها الجهال بل هذه الموضوعات في التخاريج كانت مضرة للناظر في الكتاب والسنة إذ شغلت الناظرين عن النظر فيهما ونيل بركتهما فقطعوا الأعمار في تقرير تلك التخاريج وقد أشبع الكلام على ذلك وعلى ذم الاشتغال به طوائف من علماء التحقيق وإن كان الاشتغال بها قد عم كل فريق
9- وعن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن" أخرجه الترمذي وحسنه وأخرجه ابن حبان في صحيحه(4/178)
وتمامه "فحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة" وفي لفظ ابن ماجه "فإن غلبت ابن آدم نفسه فثلثا لطعامه وثلثا لشرابه وثلثا لنفسه"
والحديث دليل على ذم التوسع في المأكول والشبع والامتلاء والإخبار عنه بأنه شر لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية فإن فضول الطعام مجلبة للسقام ومثبطة عن القيام بالأحكام وهذا الإرشاد إلى جعل الأكل ثلث ما يدخل المعدة من أفضل ما أرشد إليه سيد الأنام صلى الله عليه وسلم فإنه يخف على المعدة ويستمد من البدن الغذاء وتنتفع به القوى ولا يتولد عنه شيء من الأدواء وقد ورد من الكلام النبوي شيء كثير في ذم الشبع فقد أخرج البزار بإسنادين أحدهما رجاله ثقات مرفوعا بلفظ "أكثرهم شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة" قاله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة لما تجشأ فقال ما ملأت بطني منذ ثلاثين سنة وأخرج الطبراني بإسناد حسن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدا في الآخرة زاد البيهقي الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وأخرج الطبراني بسند جيد أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عظيم البطن فقال بأصبعه لو كان في غير هذا لكان خيرا لك وأخرج البيهقي واللفظ له وأخرجه الشيخان مختصرا ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرأوا إن شئتم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} وأخرج بن أبي الدنيا أنه صلى الله عليه وسلم أصابه جوع يوما فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم وصح حديث من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت وأخرج البيهقي بإسناد فيه ابن لهيعة عن عائشة قالت رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة: "أما تحبين أن لا يكون لك شغل إلا جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف والله لا يحب المسرفين" وصح "كلوا واشربوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط "سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام فأولئك شرار أمتي" وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة وفي الخلو عن الطعام فوائد وفي الامتلاء مفاسد ففي الجوع صفاء القلب وإيقاد القريحة ونفاذ البصيرة فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في المعدة والدماغ كشبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار ومن فوائده كسر شهوة المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى ومادة القوى الشهوات والشهوات لا محالة الأطعمة فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه قال ذو النون: ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا ويقال الجوع(4/179)
خزانة من خزائن الله وأول ما يندفع بالجوع شهوة الفرج وشهوة الكلام فإن الجائع لا تتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص من آفات اللسان ولا تتحرك عليه شهوة الفرج فيتخلص من الوقوع في الحرام ومن فوائده قلة النوم فإن من أكل كثيرا شرب كثيرا فنام طويلا وفي كثرة النوم خسران الدارين وفوات كل منفعة دينية ودنيوية
وعد الغزالي في الإحياء عشر فوائد لتقليل الطعام وعد عشر مفاسد للتوسع منه فلا ينبغي للعبد أن يعود نفسه ذلك فإنها تميل به إلى الشره ويصعب تداركها وليرضها من أول الأمر على السداد فإن ذلك أهون له من أن يجرئها على الفساد وهذا أمر لا يحتمل الإطالة إذ هو من الأمور التجريبية التي قد جربها كل إنسان والتجربة من أقسام البرهان
10- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء" أي كثيرو الخطأ إذ هو صيغة مبالغة "وخير الخطائين التوابون" أخرجه الترمذي وابن ماجه وسنده قوي والحديث دال على أنه لا يخلوا من الخطيئة إنسان لما جبل عليه هذا النوع من الضعف وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه وترك ما عنه نهاه ولكنه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده وأخبر أن خير الخطائين التوابون المكثرون للتوبة على قدر كثرة الخطأ وفي الأحاديث أدلة على أن العبد إذا عصى الله وتاب تاب الله عليه ولا يزال كذلك ولن يهلك على الله إلا هالك وقد خص من هذا العموم يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه قد ورد أنه ما هم بخطيئة وروي أنه لقيه إبليس ومعه معاليق من كل شيء فسأله عنها فقال هي الشهوات التي أصيب بها بني آدم فقال هل لي فيها شيء قال ربما شبعت فشغلناك عن الصلاة والذكر قال غير ذلك قال لا قال لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا فقال إبليس لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا
11- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصمت حكمة وقليل فاعله : أخرجه البيهقي في الشعب بسند ضعيف بكذا أنه موقوف من قول لقمان عليه السلام وسببه أن لقمان دخل على داود عليه السلام فرآه يسرد درعا لم يكن رآها قبل ذلك فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته عن ذلك فترك ولم يسأله فلما فرغ قام داود ولبسها ثم قال نعم الدرع للحرب فقال لقمان الصمت حكمة الحديث وقيل تردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك ولم يسأله وفيه دليل على حسن الصمت ومدحه والمراد به عن فضول الكلام وقد وردت عدة أحاديث دالة على مدح الصمت ومدحه العقلاء والشعراء وفي الحديث "من صمت نجا" وقال عقبة بن عامر قلت لرسول الله صلى الله عليه سلم ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك" الحديث وقال صلى الله عليه سلم: "من تكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة" وقال معاذ رضي(4/180)
الله عنه له صلى الله عليه سلم: أنؤاخذ بما نقول؟ قال:" ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" والأحاديث فيه واسعة جدا والآثار عن السلف كذلك واعلم أن فضول الكلام لا تنحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى حيث قال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وآفاته لا تنحصر فعد منها الخوض في الباطل وهو الحكاية للمعاصي من مخالطة النساء ومجالس الخمر ومواقف الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة فإن كل مما لا يحل الخوض فيه فهذا حرام ومنها الغيبة والنميمة وكفى بهما هلاكا في الدين ومنها المراء والمجادلة والمزاح ومنها الخصومة والسب والفحش وبذاءة اللسان والاستهزاء بالناس والسخرية والكذب وقد عد الغزالي في الإحياء عشرين آفة وذكر في كل آفة كلاما بسيطا حسنا وذكر علاج هذه الآفات(4/181)
باب الترهيب من مساوىء الأخلاق
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أخرجه أبو داود ولابن ماجه من حديث أنس نحوه إياكم ضمير سيما على التحذير والمحذر منه الحسد وفي الحسد أحاديث وآثار كثيرة ويقال كان أول ذنب عصي الله به الحسد فإنه أمر إبليس بالسجود لآدم فحسده فامتنع عنه فعصى الله فطرده وتولد من طرده كل بلاء وفتنة عليه وعلى العباد والحسد لا يكون إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان إحداهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسدا الثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها له ولكن تريد لنفسك مثلها فهذا يسمى غبطة فالأول حرام على كل حال إلا نعمة على فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء العباد فهذه لا يضرك كراهتك لها ولا محبتك زوالها فإنك لم تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة للفساد ووجه تحريم الحسد مع ما علم من الأحاديث أنه تسخط لقدر الله تعالى وحكمته في تفضيل بعض عباده على بعض ولذا قيل
ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
ثم الحاسد إن وقع له الخاطر بالحسد فدفعه وجاهد نفسه في دفعه فلا إثم عليه بل لعله مأجور في مدافعة نفسه فإن سعى في زوال نعمة المحسود فهو باغ وإن لم يسمع ولم يظهره لمانع العجز فإن كان بحيث لو أمكنه لفعل فهو مأزور وإلا فلا أي لا وزر عليه لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها وفي الإحياء فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة فهو(4/181)
حسود حسدا مذموما وإن كان نزعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفى عنه ما يجده في نفسه من ارتياحه إلى زوال النعمة من محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه وهذا التفصيل يشير إليه ما أخرجه عبد الرزاق مرفوعا ثلاث لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منها يا رسول الله قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وأخرج أبو نعيم "كل ابن آدم حسود ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد وفي معناه أحاديث لا تخلو عن مقال وفي الزواجر لابن حجر الهيثمي إن الحسد مراتب وهي إما محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل إلى الحاسد وهذا غاية الحسد أو مع انتقالها إليه أو انتقال مثلها إليه وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه أو لا مع محبة زوالها وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد إن كان في الدنيا والمطلوب إن كان في الدين انتهى وهذا القسم الأخير يسمى غيرة فإن كان في الدين فهو المطلوب وعليه حمل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار" والمراد أنه يغار ممن اتصف بهاتين الصفتين فيقتدي به محبة للسلوك في هذا المسلك ولعل تسميته حسدا مجازا والحديث دليل على تحريم الحسد وأنه من الكبائر ونسبة الأكل إليه مجاز من باب الاستعارة وقوله كما تأكل النار الحطب تحقيق لذهاب الحسنات بالحسد كما يذهب الحطب بالنار ويتلاشى جرمه
واعلم أن دواء الحسد الذي يزيله عن القلب معرفة الحاسد أنه لا يضر بحسده المحسود في الدين ولا في الدنيا وأنه يعود وبال حسده عليه في الدارين إذ لا ينعقد نعمة بحسد قط وإلا لم تبق لله نعمة على أحد حتى نعمة الإيمان لأن الكفار يحبون زواله عن المؤمنين بل المحسود يتمتع بحسنات الحاسد لأنه مظلوم من جهة سيما إذا أطلق لسانه بالانتقاص والغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الإيذاء فيلقى الله مفلسا من الحسنات محروما من نعمة الآخرة كما حرم من نعمة بالإجماع الصدر وسكون القلب والاطمئنان في الدنيا فإذا تأمل العاقل هذا عرف أنه جر لنفسه بالحسد كل غم ونكد في الدنيا والآخرة
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة" بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالعين المهملة على زنة همزة صيغة مبالغة أي كثير الصرع "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه المراد بالشديد هنا شد القوة المعنوية وهي مجاهدة النفس وإمساكها عند الشر ومنازعتها للجوارح للانتقام ممن أغضبها فإن النفس في حكم الأعداء الكثيرين وغلبتها عما تشتهيه في حكم من هو شديد القوة في غلبة الجماعة الكثيرين فيما يريدونه منه وفيه إشارة إلى أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو لأنه صلى الله عليه سلم جعل الذي يملك نفسه عند(4/182)
الغضب أعظم الناس قوة وحقيقة الغضب حركة النفس إلى خارج الجسد لإرادة الانتقام والحديث فيه إرشاد إلى أن من أغضبه أمر وأرادت النفس المبادرة إلى الانتقام ممن أغضبه أن يجاهدها ويمنعها عما طلبت والغضب غريزة في الإنسان فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لأن البشرة تحكي لون ما وراءها وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر والغضب يترتب عليه تغير الباطن والظاهر كتغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال على غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حالة غضبه لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته هذا في الظاهر وأما في الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد حقدا في القلب وإضمار السوء على اختلاف أنواعه بل قبح باطنه متقدم على تغير ظاهره فإن تغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فيظهر على اللسان الفحش والشتم ويظهر في الأفعال بالضرب والقتل وغير ذلك من المفاسد وقد ورد في الأحاديث دواء هذا الداء فأخرج ابن عساكر موقوفا الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار والماء يطفيء النار فإذا غضب أحدكم فليغتسل وفي رواية فليتوضأ وأخرج ابن أبي الدنيا إذا غضب أحدكم فقال أعوذ بالله سكن غضبه وأخرج أحمد إذا غضب أحدكم فليسكت وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان إذا غضب أحدكم فليجلس فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع وأخرج أبو الشيخ الغضب من الشيطان فإذا وجده أحدكم قائما فليجلس وإن وجده جالسا فليضطجع والنهي متوجه إلى الغضب على غير الحق وقد بوب البخاري باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله وقد قال تعالى: {جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وذكر خمسة أحاديث في كل منها غضبه صلى الله عليه وآله وسلم في أسباب مختلفة راجعة إلى أن كل ذلك كان لأمر الله وإظهار الغضب فيه منه صلى الله عليه وآله سلم ليكون أوكد وقد ذكر تعالى في موسى وغضبه لما عبد قومه العجل وقال: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة" متفق عليه
الحديث من أدلة تحريم الظلم وهو يشمل جميع أنواعه سواء كان في نفس أو مال أو عرض في حق مؤمن أو كافر أو محمود والإخبار عنه بأنه ظلمات يوم القيامة فيه ثلاثة أقوال قيل هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلا حيث يسعى نور المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم وقيل إنه أريد بالظلمات الشدائد قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي من شدائدها وقيل إنه كناية عن النكال والعقوبات
4- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا(4/183)
الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم" أخرجه مسلم في الشح وفي التفرقة بينه وبين البخل أقوال فقيل في تفسير الشح أنه أشد من البخل وأبلغ في المنع من البخل وقيل هو البخل مع الحرص وقيل البخل في بعض الأمور والشح عام وقيل البخل بالمال خاصة والشح بالمال والمعروف وقيل الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده وقوله فإنه أهلك من كان قبلكم يحتمل أنه يريد الهلاك الدنيوي المفسر بما بعده في تمام الحديث وهو قوله "حملهم على أن يسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وهذا هلاك دنيوي والحامل لهم هو شحهم على حفظ المال وجمعه وازدياده وصيانته عن ذهابه في النفقات فضموا إليه مال الغير صيانة له ولا يدرك مال الغير إلا بالحرب والغصيبة المفضية إلى القتل واستحلال المحارم ويحتمل أن يراد به الهلاك الأخروي فإنه يتفرع عما اقترفوه من ارتكاب هذه المظالم والظاهر حمله على الأمرين
واعلم أن الأحاديث في ذم الشح والبخل كثيرة والآيات القرآنية كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي الحديث "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه" أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه زيادة وفي الدعاء النبوي "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" إلى قوله والبخل أخرجه الشيخان وقال صلى الله عليه سلم "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع" أخرجه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعا والآثار فيه كثيرة فإن قلت وما حقيقة البخل المذموم وما من أحد إلا وهو يرى نفسه أنه غير بخيل ويرى غيره بخيلا وربما صدر فعل من إنسان فاختلف فيه الناس فيقول جماعة إنه بخيل ويقول آخرون ليس بخيلا فماذا حد البخل الذي يوجب الهلاك وما حد البذل الذي يستحق العبد به صفة السخاوة وثوابها قلت السخاء هو أن يؤدي ما أوجب الله عليه والواجب واجبان واجب الشرع وهو ما فرضه الله تعالى من الزكاة والنفقات لمن يجب عليه إنفاقه وغير ذلك وواجب المروءة والعادة والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة فإن منع واحدا منهما فهو بخيل لكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل فمن أعطى زكاة ماله مثلا ونفقة عياله بطيبة نفسه ولا يتيمم الخبيث من ماله في حق الله فهو سخي والسخاء في المروءة أن يترك المضايقة والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح ويختلف استقباحه باختلاف الأحوال والأشخاص وتفصيله المطلوب فمن أراد استيفاء ذلك راجع الإحياء للغزالي رحمه الله
واعلم أن البخل داء له دواء وما أنزل الله من داء إلا وله دواء وداء البخل سببه أمران الأول: حب الشهوات التي لا يتوصل إليها إلا بالمال وطول الأمل
والثاني: حب ذات المال والشغف به وببقائه لديه فإن الدنانير مثلا رسول تنال به الحاجات والشهوات فهو محبوب لذلك ثم صار محبوبا لنفسه لأن الموصل إلى اللذات لذيذ فقد ينسى الحاجات والشهوات وتصير الدنانير(4/184)
عنده هي المحبوبة وهذا غاية الضلال فإنه لا فرق بين الحجر وبين الذهب إلا من حيث إنه تقضى به الحاجات فهذا سبب حب المال ويتفرع منه الشح وعلاجه بضده فعلاج الشهوات القناعة باليسير وبالصبر وعلاج طول الأمل الإكثار من ذكر الموت وذكر موت الأقران والنظر في ذكر طول تعبهم في جمع المال ثم ضياعه بعدهم وعدم نفعه لهم وقد يشح بالمال شفقة على من بعده من الأولاد وعلاجه أن يعلم أن الله هو الذي خلقهم فهو يرزقهم وينظر في نفسه فإنه ربما لم يخلف أبوه له فلسا ثم ينظر ما أعد الله عز وجل لمن ترك الشح وبذل من ماله في مرضاة الله وينظر في الآيات القرآنية الحاثة على الجود المانعة عن البخل ثم ينظر في عواقب البخل في الدنيا فإنه لا بد لجامع المال من آفات تخرجه على رغم أنفه فالسخاء خير كله ما لم يخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه وقد وقد أدب الله عباده أحسن الآداب فقال -والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما-فخيار الأمور أوسطها وخلاصته أنه إذا وجد العبد المال أنفقه في وجوه المعروف بالتي هي أحسن ويكون بما عند الله أوثق منه بما هو لديه وإن لم يكن لديه مال لزم القناعة والتكفف وعدم الطمع
5- وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه هو محمود بن لبيد الأنصاري الأشهلي ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث عنه أحاديث قال البخاري له صحبة وقال أبو حاتم لا تعرف له صحبة وذكره مسلم في التابعين قال ابن عبد البر الصواب قول البخاري وهو أحد العلماء مات سنة ست وتسعين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" كأنه قيل ما هو فقال صلى الله عليه وسلم "الرياء" أخرجه أحمد بإسناد حسن الرياء مصدر راءي ومصدره يأتي على بناء مفاعلة وفعال وهو مهموز العين لأنه من الرؤية ويجوز تخفيفها بقلبها ياء وحقيقته لغة أن يرى غيره خلاف ما هو عليه وشرعا أن يفعل الطاعة ويترك المعصية مع ملاحظة غير الله أو يخبر بها أو يجب أن يطلع عليها لمقصد دنيوي من مال أو نحوه وقد ذمه الله في كتابه وجعله من صفات المنافقين في قوله: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} وقال- {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وقال {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} إلى قوله :{الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} وورد فيه من الأحاديث الكثيرة الطيبة الدالة على عظمة عقاب المرائي فإنه في الحقيقة عابد لغير الله وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا عنه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك"
واعلم أن الرياء يكون بالبدن وذلك بإظهار النحول والاصفرار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد والحزن على أمر الدين وخوف الآخرة وليدل بالنحول على قلة الأكل وبتشعث الشعر ودرن الثوب يوهم أن همه بالدين ألهاه عن ذلك وأنواع هذا واسعة وهو معنى أنه من أهل الدين ويكون في القول بالوعظ في المواقف ويذكر حكايات الصالحين ليدل على عنايته بأخبار السلف وتبحره في العلم ويتأسف على مقارفة الناس للمعاصي والتأوه من ذلك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحضرة الناس والرياء بالقول لا تنحصر أبوابه وقد تكون المراءاة بالأصحاب والأتباع(4/185)
والتلاميذ فيقال فلان متبوع قدوة والرياء باب واسع إذا عرفت ذلك فبعض أبواب الرياء أعظم من بعض لاختلافه باختلاف أركانه وهي ثلاثة المراءي به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء فقصد الرياء لايخلوا من أن يكون مجردا عن قصد الثواب أو مصحوبا بإرادته والمصحوب بإرادة الثواب لايخلوا عن أن تكون إرادة الثواب أرجح أو أضعف أو مساوية فكانت أربع صور الأولى أن لا يكون قصد الثواب بل فعل الصلاة مثلا ليراه غيره وإذا انفرد لا يفعلها وأخرج الصدقة لئلا يقال إنه بخيل وهذا أغلظ أنواع الرياء وأخبثها وهو عبادة للعباد الثانية قصد الثواب لكن قصدا ضعيفا بحيث إنه لا يحمله على الفعل إلا مراءاة العباد ولكنه قصد الثواب فهذا كالذي قبله الثالثة تساوي القصدان بحيث لم يبعثه على الفعل إلا مجموعهما ولو خلى عن كل واحد منهما لم يفعله فهذا تساوي صلاح قصده وفساده فلعله يخرج رأسا برأس لا له ولا عليه الرابعة أن يكون إطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو لم يكن لما ترك العبادة قال الغزالي والذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص ويعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وحديث أنا أغنى الأغنياء عن الشرك محمول على ما إذا تساوى القصدان أو أن قصد الرياء أرجح وأما المراءى به وهو الطاعات فيقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها وهو ثلاث درجات الرياء بالإيمان وهو إظهار كلمة الشهادة وباطنه مكذب فهو مخلد في النار في الدرك الأسفل منها وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} الآية وقريب منهم الباطنية الذين يظهرون الموافقة في الاعتقاد ويبطنون خلافه ومنهم الرافضة أهل التقية الذين يظهرون لكل فريق أنهم منهم تقية والرياء بالعبادات كما قدمناه وهذا إذا كان الرياء في أصل المقصد وأما إذا عرض الرياء بعد الفراغ من فعل العبادة لم يؤثر فيه إلا إذا ظهر العمل للغير وتحدث به وقد أخرج الديلمي مرفوعا إن الرجل ليعمل عملا سرا فيكتبه الله عنده سرا فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به فيمحى من السر ويكتب علانية فإن عاد تكلم الثانية محى من السر والعلانية وكتب رياء وأما إذا قارن باعث الرياء باعث العبادة ثم ندم في أثناء العبادة فأوجب البعض من العلماء الاستئناف لعدم انعقادها وقال بعضهم يلغو جميع ما فعله إلا التحريم وقال بعض يصح لأن النظر إلى الخواتم كما لو ابتدأنا بالإخلاص وصحبه الرياء من بعده قال الغزالي والقولان الآخران خارجان عن قياس الفقه وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول جواب جندب بن زهير لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أعمل العمل لله وإذا أطلع عليه سرني فقال صلى الله عليه وسلم: "لا شريك لله في عبادته" وفي رواية "إن الله لا يقبل ما شورك" فيه رواه ابن عباس وروي عن مجاهد أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني فيسرني وأعجب به فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم له شيئا حتى نزلت الآية يعني قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ففي الحديث دلالة على أن السرور(4/186)
بالاطلاع على العمل رياء ولكنه يعارضه ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث غريب قال قلت يا رسول الله بينا أنا في بيتي في صلاتي إذ دخل علي رجل فأعجبني الحال التي رآني عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك أجران" وفي الكشاف من حديث جندب أنه صلى الله عليه سلم قال له: "لك أجران أجر السر وأجر العلانية" وقد يرجح هذا الظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} فدل على أن محبة الثناء من رسول الله صلى الله عليه وآله سلم لا تنافي الإخلاص ولا تعد من الرياء ويتأول الحديث الأول بأن المراد بقوله إذا أطلع عليه سرني لمحبته للثناء عليه فيكون الرياء في محبته للثناء على العمل وإن لم يخرج العمل عن كونه خالصا وحديث أبي هريرة ليس فيه تعرض لمحبة الثناء من المطلع عليه وإنما هو مجرد محبة لما يصدر عنه وعلم به غيره ويحتمل أن يراد بقوله فيعجبه أي يعجبه شهادة الناس له ومعناه الصالح لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض" وقال الغزالي أما مجرد السرور باطلاع الناس إذا لم يبلغ أمره بحيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد العبادة
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق" أي علامة نفاقه "ثلاث إذ حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" متفق عليه وقد ثبت عند الشيخين من حديث عبد الله بن عمر رابعة وهي "وإذا خاصم فجر" والمنافق من يظهر الإيمان ويبطن الكفر وفي الحديث دليل على أن من كانت فيه خصلة من هذه كانت فيه خصلة من النفاق فإن كانت فيه هذه كلها فهو منافق وإن كان موقنا مصدقا بشرائع الإسلام وقد استشكل الحديث بأن هذه الخصال قد توجد في المؤمن بشرائع الدين ولما كان كذلك اختلف العلماء في معناه قال النووي قال المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن هذه الخصال هي خصال المنافقين فإذا اتصف بها أحد من المصدقين أشبه المنافق فيطلق عليه اسم النفاق مجازا فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهو موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وأتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام وهو يبطن الكفر وقيل إن هذا كان في حق المنافقين الذين كانوا في أيامه صلى الله عليه وسلم تحدثوا بإيمانهم فكذبوا وأتمنوا على رسلهم فخانوا ووعدوا في الدين بالنصر فغدروا وأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن بعد أن كان على خلافه وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض وإليه مال كثير من الفقهاء وقال الخطابي عن بعضهم: إنه ورد الحديث في رجل معين وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق وإنما يشير إشارة وحكى الخطابي أن(4/187)
معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه منها أن تفضي به إلى حقيقة النفاق وأيد هذا القول بقصة ثعلبة الذي قال فيه تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} فإنه آل به خلف الوعد والكذب
إلى الكفر فيكون الحديث للتحذير من التخلق بهذه الأخلاق التي تؤول بصاحبها إلى النفاق الحقيقي الكامل
7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب" بكسر السين المهملة مصدر سبه "المسلم فسوق وقتاله كفر" متفق عليه السب لغة الشتم والتكلم في أعراض الناس بما لا يعني كالسباب والفسوق مصدر فسق وهو لغة الخروج وشرعا الخروج من طاعة الله وفي مفهوم قوله المسلم دليل على جواز سب الكافر فإن كان معاهدا فهو أذية له وقد نهى عن أذيته فلا يعمل بالمفهوم في حقه وإن كان حربيا جاز سبه إذ لا حرمة له وأما الفاسق فقد اختلف العلماء في جواز سبه بما هو مرتكب له من المعاصي فذهب الأكثر إلى جوازه لأن المراد بالمسلم في الحديث الكامل الإسلام والفاسق ليس كذلك وبحديث اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس وهو حديث ضعيف وأنكره أحمد وقال البيهقي ليس بشيء فإن صح حمل على فاجر معلن فجوره أو يأتي بشهادة أو يعتمد عليه فيحتاج إلى بيان حالة لئلا يقع الاعتماد عليه انتهى كلام البيهقي ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط الصغير بإسناد حسن رجاله موثوقون وأخرجه في الكبير أيضا من حديث معاوية بن حيدة قال خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حتى متى ترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يحذره الناس وأخرجه البيهقي من حديث أنس بإسناد ضعيف من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له وأخرج مسلم "كل أمتي معافى إلا المجاهرون" وهم الذين جاهروا بمعاصيهم فهتكوا ما ستر الله عليهم فيبيحون بها بلا ضرورة ولا حاجة والأكثر يقولون بأنه يجوز أن يقال للفاسق يا فاسق ويا مفسد وكذا في غيبته بشرط قصد النصيحة له أو لغيره بيان حاله أو للزجر عن صنيعه لا لقصد الوقيعة فيه فلا بد من قصد صحيح إلا أن يكون جوابا لمن يبدأه بالسب فإنه يجوز له الانتصار لنفسه لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المتسبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم" أخرجه مسلم ولكنه لا يجوز أن يعتدي ولا يسبه بأمر كذب قال العلماء: وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبريء الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء والإثم المستحق لله تعالى وقيل بريء من الإثم ويكون على البادي اللوم والذم لا الإثم ويجوز في حال الغضب لله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول عمر في قصة حاطب دعني أضرب عنق هذا المنافق وقول أسيد لسعد إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين ولم ينكر صلى الله عليه وسلم هذه الأقوال وهي بمحضره(4/188)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وقتاله كفر" دال على أنه يكفر من يقاتل المسلم بغير حق وهو ظاهر فيمن استحل قتل المسلم أو قاتله حال إسلامه وأما إذا كانت المقاتلة لغير ذلك فإطلاق الكفر عليه مجازا أو يراد به كفر النعمة والأحسان وأخوة الإسلام لا كفر الجحود وسماه كفرا لأنه قد يؤول به ما يحصل من المعاصي من الرين على القلب حتى يعمى عن الحق فقد يصير كفرا أو إنه فعل كفعل الكافر الذي يقاتل المسلم
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه المراد بالتحذير التحذير من الظن بالمسلم شرا نحو قوله اجتنبوا كثيرا من الظن والظن هو ما يخطر بالنفس من التجويز المحتمل للصحة والبطن فيحكم به ويعتمد عليه الحديث في مختصر النهاية وقال الخطابي المراد التهمة ومحل التحذير والنهي إنما هو عن التهمة التي لا سبب لها يوجبها كمن اتهم بالفاحشة ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك وقال النووي والمراد التحذير من تحقيق التهمة والإصرار عليها وتقررها في النفس دون ما يعرض ولا يستقر فإن هذا لا يكلف به كما في الحديث "تجاوز الله عما تحدثت به الأمة أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" ونقله عياض عن سفيان والحديث وارد في حق من لم يظهر منه شتم ولا فحش ولا فجور ويقيد إطلاقه حديث احترسوا من الناس بسوء الظن أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي والعسكري من حديث أنس مرفوعا قال البيهقي تفرد به بقية وأخرج الديلمي عن علي رضي الله عنه موقوفا يحرم سوء الظن وأخرجه القضاعي مرفوعا من حديث عبد الرحمن بن عائذ مرسلا وكل طرقه ضعيف وبعضها يقوي بعضا ويدل على أن لها أصلا وقد قال صلى الله عليه وسلم "أخوك البكري ولا تأمنه" أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمر وأبو داود عن عمرو بن الفعواء وقد قسم الزمخشري الظن إلى واجب ومندوب وحرام ومباح فالواجب حسن الظن بالله والحرام سوء الظن به تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن" الحديث والمندوب حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين والجائز مثل قول أبي بكر لعائشة إنما هو أخواك أو أختاك لما وقع في قلبه أن الذي في بطن امرأته اثنان ومن ذلك سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث فلا يحرم سوء الظن به لأنه قد دل على نفسه ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خير ومن دخل في مداخل السوء اتهم ومن هتك نفسه ظننا به السوء والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لا تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الإجتناب وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ومن عرفت منه الأمانة في الظاهر فظن الفساد والخيانة به محرم بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطي الريب فنقابله بعكس ذلك ذكر معناه في الكشاف وقوله فإن الظن(4/189)
أكذب الحديث سماه حديثا لأنه حديث نفس وإنما كان الظن أكذب الحديث لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء فيخفى على السامع كونه كاذبا بحسن الغالب فكان أكذب الحديث
9- وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" متفق عليه أخرجه البخاري من رواية الحسن وفيه قصة وهي أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه وكان عبيد الله عاملا على البصرة في إمارة معاوية وولده يزيد أخرجه الطبراني في الكبير من وجه آخر عن الحسن قال قدم إلينا عبيد الله بن زياد أميرا أمره علينا معاوية غلاما سفيها يسفك الدماء سفكا شديدا وفيها معقل المزني فدخل عليه ذات يوم فقال له انته عما أراك تصنع فقال له وما أنت وذاك ثم خرج إلى المسجد فقالنا له ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رءوس الناس فقال إنه كان عندي علم فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رؤوس الناس ثم مرض فدخل عليه عبيد الله يعوده فقال له معقل بن يسار إني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه سلم قال ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحظها بنصيحة لم يرح رائحة الجنة ولفظ رواية المصنف أحد روايتي مسلم وأخرج مسلم "ما من أمير يلي أمر المسلمين لا يجتهد معهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة" ورواه الطبراني وزاد كنصحه لنفسه وأخرج الطبراني بإسناد حسن ما من إمام ولا وال بات ليل سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاما وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم" وأخرج أحمد والحاكم أيضا وصححه من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" وفي إسناده واه إلا أن ابن نمير وثقه وحسن له الترمذي أحاديث والراعي هو القائم بمصالح من يرعاه وقوله يوم يموت مراده أن يدركه الموت وهو غاش لرعيته غير تائب من ذلك والغش بالكسر ضد النصح ويتحقق غشه بظلمه لهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وانتهاك أعراضهم واحتجابه عن خلتهم وحاجتهم وحبسه عنهم ما جعله الله لهم من مال الله سبحانه المعين للمصارف وترك تعريفهم بما يجب عليهم من أمر دينهم ودنياهم وإهمال الحدود وردع أهل الفساد وإضاعة الجهاد وغير ذلك مما فيه مصالح العباد ومن ذلك توليته لمن لا يحوطهم ولا يراقب أمر الله فيهم وتوليته من غيره أرضى لله منه مع وجوده والأحاديث دالة على تحريم الغش وأنه من الكبائر لورود الوعيد عليه بعينه فإن تحريم الجنة هو وعيد الكافرين في القرآن كما قال(4/190)
تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وهو على رأي من يقول بخلود أهل الكبائر في النار واضح وقد حمله من لا يرى خلود أهل الكبائر في النار على الزجر والتغليظ قال ابن بطال هذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من استرعاه الله عليهم أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ومعنى حرم الله عليه الجنة أي أنفذ عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين
10- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه" متفق عليه أخرجه مسلم شق عليهم أدخل عليهم المشقة أي المضرة والدعاء عليه منه صلى الله عليه وسلم بالمشقة جزاء من جنس الفعل وهو عام لمشقة الدنيا والآخرة وتمامه "ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" ورواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ "ومن ولي منهم شيئا فشق عليهم فعليه بهلة الله" فقالوا يا رسول الله وما بهلة الله قال "لعنة الله" والحديث دليل على أنه يجب على الوالي تيسير الأمور على من وليهم والرفق بهم ومعاملتهم بالعفو والصفح وإيثار الرخصة على العزيمة في حقهم لئلا يدخل عليهم المشقة ويفعل بهم ما يحب أن يفعل به الله
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم" أي غيره كما يدل له فاعل "فليجتنب الوجه" متفق عليه وفي رواية إذا ضرب أحدكم وفي رواية فلا يلطمن الوجه وهو دليل على تحريم ضرب الوجه وأنه يتقى فلا يضرب ولا يلطم ولو في حد من الحدود الشرعية ولو في الجهاد وذلك لأن الوجه لطيف يجمع المحاسن وأعضاؤه لطيفة وأكثر الإدراك بها فقد يبطلها ضرب الوجه وقد ينقصها وقد يشين الوجه والشين فيه فاحش لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره ومتى أصابه ضرب لا يسلم غالبا من شين وهذا النهي عام لكل ضرب ولطم من تأديب أو غيره
12- وعنه أي أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله أوصني قال: "لا تغضب" فردد مرارا قال "لا تغضب" أخرجه البخاري جاء في رواية أحمد تفسيره بأنه جارية بالجيم ابن قدامة وجاء في حديث أنه سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل قال لا تغضب ولك الجنة وورد عن آخرين من الصحابة مثل ذلك والحديث نهى عن الغضب وهو كما قال الخطابي نهى عن اسجتناب أسباب الغضب وعدم التعرض لما يجلبه وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر جبلي وقال غيره وقع النهي عما كان من قبيل ما يكتسب فيدفعه بالرياضة وقيل هو نهي عما ينشأ عنه الغضب وهو الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب والذي يتواضع حتى تذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب وقيل معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب قيل إنما اقتصر صلى الله عليه سلم على هذه اللفظة لأن السائل(4/191)
كان غضوبا وكان صلى الله عليه سلم يفتي كل أحد بما هو أولى به قال ابن التين جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "لا تغضب" خيري الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق ويؤول إلى أن يؤذي الذي غضب عليه بما لا يجوز فيكون نقصا في دينه انتهى ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن الغضب ينشأ عن النفس والشيطان فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان أملك لقهر نفسه عن غير ذلك بالأولى وتقدم كلام يتعلق بالغضب وعلاجه
13- وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" أخرجه البخاري الحديث دليل على أنه يحرم على من لم يستحق شيئا من مال الله بألا يكون من المصارف التي عينها الله تعالى أن يأخذه ويتملكه وأن ذلك من المعاصي الموجبة للنار وفي قوله يتخوضون دلالة على أنه يقبح توسعهم منه زيادة على ما يحتاجون فإن كانوا من ولاة الأموال أبيح لهم قدر ما يحتاجونه لأنفسهم من غير زيادة وقد تقدم الكلام في ذلك
14- وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم فيما يرويه عن ربه من الأحاديث القدسية قال الرب تبارك وتعالى: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" وأخبرنا بأنه لا يفعله في كتابه بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" أخرجه مسلم التحريم لغة المنع عن الشيء وشرعا ما يستحق فاعله العقاب وهذا غير صحيح إرادته في حقه تعالى بل المراد به أنه تعالى منزه متقدس عن الظلم وأطلق عليه لفظ التحريم لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشيء والظلم مستحيل في حقه تعالى لأن الظلم في عرف اللغة التصرف غي غير الملك أو مجاوزة الحد وكلاهما محال في حقه تعالى لأنه المالك للعالم كله المتصرف بسلطانه في دقه وجله وقوله فلا تظالموا تأكيد لقوله وجعلته بينكم محرما والظلم قبيح عقلا أقره الشارع وزاده قبحا وتوعد عليه بالعذاب وقد خاب من حمل ظلما وغيرها
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟" بكسر الغين المعجمة قالوا الله ورسوله أعلم قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته" بفتح الموحدة وفتح الهاء من البهتان أخرجه مسلم الحديث كأنه سيق لتفسير الغيبة المذكورة في قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ودل الحديث على حقيقة الغيبة قال في النهاية هي أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه قال النووي في الأذكار تبعا للغزالي ذكر المرء بما يكره سواء كان في بدن(4/192)
الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته او غير ذلك مما يتعلق به ذكر سوء سواء ذكر باللفظ أو بالرمز أو بالإشارة قال النووي: ومن ذلك التعريض في كلام المصنفين كقولهم قال من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به ومنه قولهم عند ذكره الله يعافينا الله يتوب علينا نسأل الله السلامة ونحو ذلك فكل ذلك من الغيبة وقوله ذكرك أخاك بما يكره شامل لذكره في غيبته وحضرته وإلى هذا ذهب طائفة ويكون الحديث بيانا لمعناها الشرعي وأما معناها لغة فاشتقاقها من الغيب يدل على أنها لا تكون إلا في الغيبة ورجح جماعة أن معناها الشرعي موافق لمعناها اللغوي ورووا في ذلك حديثا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة فيكون هذا إن ثبت مخصصا لحديث أبي هريرة وتفاسير العلماء دالة على هذا ففسرها بعضهم بقوله ذكر العيب بظهر الغيب وآخر بقوله هي أن تذكر الإنسان من خلفه بسوء وإن كان فيه نعم ذكر العيب في الوجه حرام لما فيه من الأذى وإن لم يكن غيبة وفي قوله أخاك أي أخ الدين دليل على غير المؤمن تجوز غيبته وتقدم الكلام في ذلك قال ابن المنذر في الحديث دليل على أن من ليس بأخ كاليهودي والنصراني وسائر أهل الملل ومن قد أخرجته بدعته عن الإسلام لا غيبة وفي التعبير عنه بالأخ جذب للمغتاب عن غيبته لمن يغتاب لأنه إذا كان أخاه فالأولى الحنو عليه وطي مساويه والتأويل لمعايبه لا نشرها بذكرها وفي قوله بما يكره ما يشعر بأنه إذا كان لا يكره ما يعاب به كأهل الخلاعة والمجون فإنه لا يكون غيبة وتحريم الغيبة معلوم من الشرع ومتفق عليه وإنما اختلف العلماء هل هو من الصغائر أو الكبائر فنقل القرطبي الإجماع على أنها من الكبائر واستدل لكبرها بالحديث الثابت إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام وذهب الغزالي وصاحب العمدة من الشافعية إلى أنها من الصغائر قال الأوزاعي لم أر من صرح أنها من الصغائر غيرهما وذهب المهدي إلى أنها محتملة بناء على ما لم يقطع بكبره فهو محتمل كما تقوله المعتزلة قال الزركشي والعجب ممن يعد أكل الميتة كبيرة ولا يعد الغيبة كذلك والله أنزلها منزلة أكل لحم الآدمي أي ميتا والأحاديث في التحذير من الغيبة واسعة جدا دالة على شدة تحريمها واعلم أنه قد استثنى العلماء من الغيبة أمورا ستة الأولى التظلم فيجوز أن يقول المظلوم فلان ظلمني وأخذ مالي أو أنه ظالم ولكن إذا كان ذكره لذلك حكاية على من له قدرة على إزالتها أو تخفيفها ودليله قول هند عند شكايتها له صلى الله عليه وسلم من أبي سفيان إنه رجل شحيح
الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته فيقول فلان فعل كذا في حق من لم يكن مجاهرا بالمعصية
الثالث الاستفتاء بأن يقول للمفتي فلان ظلمني بكذا فما طريقي إلى الخلاص عنه ودليله أنه لا يعرف الخلاص عما يحرم عليه إلا بذكر ما وقع منه الرابع التحذير للمسلمين من الاغترار كجرح الرواة والشهود ومن يتصدر(4/193)
للتدريس والإفتاء مع عدم الأهلية ودليله قوله صلى الله عليه وسلم "بئس أخو العشيرة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك" وذلك أنها جاءت فاطمة بنت قيس تستأذنه صلى الله عليه وسلم وتستشيره وتذكر أنه خطبها معاوية بن أبي سفيان وخطبها أبو جهم فقال "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ثم قال انكحي أسامة" الحديث
الخامس ذكر من جاهر بالفسق أو البدعة كالمكاسين وذوي الولايات الباطلة فيجوز ذكرهم بما يجاهرون به دون غيره وتقدم دليله في حديث اذكروا الفاجر السادس التعريف بالشخص بما فيه من العيب كالأعور والأعرج والأعمش ولا يرد به نقصه وغيبته وجمعها ابن أبي شريف في قوله:
الذم ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن ... طلب الإعانة في إزلة منكر
16- وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا" بالجيم والشين المعجمة "ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ" بالغين المعجمة من البغي وبالمهملة من البيع "بعضكم على بعض وكونوا عباد الله" منصوب على النداء "إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره" بفتح حرف المضارعة وسكون الحاء المهملة وبالقاف فراء قال القاضي عياض: ورواه بعضهم لا يخفره بضم الياء وبالخاء المعجمة وبالفاء أي لا يغدر بعهده ولا ينقض أمانه قال والصواب الأول "التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم " الحديث اشتمل على أمور نهى عنها الشارع الأول: التحاسد وهو تفاعل يكون بين اثنين نهى عن حسد كل واحد منهما صاحبه من الجانبين ويعلم منه النهي عن الحسد من جانب واحد بطريق الأولى لأنه إذا نهى عنه مع من يكافئه ويجازيه بحسده مع أنه من باب وجزاء سيئة سيئة مثلها فهو مع عدم ذلك أولى بالنهي وتقدم تحقيق الحسد
الثاني: النهي عن المناجشة وتقدم تحقيقها في البيع ووجه النهي عنها أنها من أسباب العداوة والبغضاء وقد روي بغير هذا اللفظ في الموطأ بلفظ ولا تنافسوا من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به ويقال نافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه والنهي عنها نهي عن الرغبة في الدنيا وأسبابها وحظوظها
والثالث: النهي عن التباغض وهو تفاعل وفيه ما في تحاسدوا من النهي عن التقابل في المباغضة والانفراد بها بالأولى وهو نهي عن تعاطي أسبابه لأن البغض لا يكون إلا عن سبب والذم متوجه إلى المباغضة لغير الله فأما ما كانت لله فهي واجبة فإن البغض في الله والحب في الله من الإيمان بل ورد في الحديث حصر الإيمان عليهما
الرابع: النهي عن التدابر قال الخطابي أي لا تهاجروا فيهجر أحدكم أخاه مأخوذ من تولية الرجل للآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه وقال(4/194)
ابن عبد البر قيل للإعراض تدابر لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر وسمي المستأثر مستدبرا لأنه يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري معنى التدابر المعاداة تقول دابرته أي عاديته وفي الموطأ عن الزهري التدابر الإعراض عن السلام يدبر عنه بوجهه وكأنه أخذه من بقية الحديث وهي "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع الإعراض الخامس النهي عن البغي إن كان بالغين المعجمة وإن كان بالمهملة فعن بيع بعض على بيع بعض وقد تقدم في كتاب البيع قال ابن عبد البر تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي والحسد له على ما أنعم الله تعالى عليه ثم أمر أن يعامله معاملة الأخي النسب ولا يبحث عن معايبه ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب والحي والميت وبعد هذه المناهي الخمسة حثهم بقوله وكونوا عباد الله إخوانا فأشار بقوله عباد الله إلى أن من حق العبودية لله الامتثال لما أمر قال القرطبي المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة وفي رواية لمسلم زيادة كما أمر الله أي بهذه الأمور فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منه تعالى وزاد المسلم حثا على أخوة المسلم بقوله "المسلم أخو المسلم" وذكر من حقوق الأخوة أنه لا يظلمه وتقدم تحقيق الظلم وتحريمه والظلم محرم في حق الكافر أيضا وإنما خص المسلم لشرفه ولا يخذله والخذلان ترك الإعانة والنصر ومعناه إذا استعان به في دفع أي ضر أو جلب أي نفع أعانه ولا يحقره ولا يحتقره ولا يتكبر عليه ويستخف به ويروى لا يحتقره وهو بمعناه وقوله التقوى ها هنا إخبار بأن عمدة التقوى ما يحل في القلب من خشية الله ومراقبته وإخلاص الأعمال له وعليه دل حديث مسلم "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" أي أن المجازاة والمحاسبة إنما تكون على ما في القلب دون الصورة الظاهرة والأعمال البارزة فإن عمدتها النيات ومحلها القلب وتقدم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد وقوله بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه أي يكفيه أن يكون من أهل الشر بهذه الخصلة وحدها وفي قوله "كل المسلم على المسلم حرام" إخبار بتحريم الدماء والأموال والأعراض وهو معلوم من الشرع علما قطعيا
17- وعن قطبة بضم القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الموحدة ابن مالك يقال له التغلبي بالشاة الفوقية والغين المعجمة ويقال الثعلبي بالمثلثة والعين المهملة قال كان رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء" أخرجه الترمذي وصححه الحاكم واللفظ له التجنيب المباعدة أي باعدني والأخلاق جمع خلق قال القرطبي الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره وهي محمودة ومذمومة:فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك(4/195)
فتنتصف منها ولا تنتصف لها وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتودد ولين الجانب ونحو ذلك والمذمومة ضد ذلك وهي منكرات الأخلاق التي سأل صلى الله عليه وسلم ربه أن يجنبه إياها في هذا الحديث وفي قوله: "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان وفي دعائه صلى الله عليه وسلم في الافتتاح "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها سواك واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها غيرك" ومنكرات الأعمال ما ينكر شرعا أو عادة ومنكرات الأهواء جمع هوى والهوى هو ما تشتهيه النفس من غير نظر إلى مقصد يحمد عليه شرعا ومنكرات الأدواء جمع داء وهي الأسقام المنفرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها كالجذام والبرص والمهلكة كذات الجنب وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سيء الأسقام
18- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "لا تمار" من المماراة وهي المجادلة "أخاك ولا تمازحه" من المزح "ولا تعده موعدا فتخلفه" أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف لكن في معناه أحاديث سيما في المراء فإنه روى الطبراني أن جماعة من الصحابة قالوا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا وقال أبهذا يا أمة محمد أمرتم إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا ذروا المراء لقلة خيره ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ذروا المراء كفى إثما أن لا تزال مماريا ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها أسفلها وأوسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ذروا المراء فإنه أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان وأخرج الشيخان مرفوعا "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أي الشديد المراء أي الذي يحج صاحبه وحقيقة المراء طعنك في كلام غيرك لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه والجدال هو ما يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها والخصومة لجاج في الكلام ليستوفى به أو غيره ويكون تارة ابتداء وتارة اعتراضا والمراء لا يكون إلا اعتراضا والكل قبيح إذا لم يكن لإظهار الحق وبيانه وإدحاض الباطل وهدم أركانه وأما مناظرة أهل العلم للفائدة وإن لم تخل عن الجدال فليست داخلة في النهي وقد قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقد أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا وأفاد الحديث النهي عن ممازحة الأخ والمزاح الدعابة والمنهي عنه ما يجلب الوحشة أو كان بباطل وأما ما فيه بسط الخلق وحسن التخاطب وجبر الخاطر فهو جائز فقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أنهم قالوا يا رسول الله إنك لتداعبنا قال "إني لا أقول إلا حقا" وأفاد الحديث النهي عن إخلاف الوعد وتقدم أنه من صفات المنافقين وظاهره التحريم وقد قيده حديث أن تعده وأنت مضمر(4/196)
لخلافه وأما إذا وعدته وأنت عازم على الوفاء فعرض مانع فلا يدخل تحت النهي
19- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق" أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف قد علم قبح البخل عرفا وشرعا وقد ذمه الله في كتابه بقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وبقوله في الكانزين {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} بل ذم من لم يأمر الناس ويحثهم على خلافه فقال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} جعله من صفات الذين يكذبون بيوم الدين وقال في الحكاية عن الكفار إنهم قالوا وهم في طبقات النار {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} الآية وإنما اختلف العلماء في المذموم منه وقدمنا كلامهم في ذلك وحده بعضهم بأنه في الشرع منع ذلك كان بخيلا ينله العقاب قال الغزالي وهذا الحد غير كاف فإن من يرد اللحم والخبز إلى القصاب والخباز لنقص وزن حبة يعد بخيلا اتفاقا وكذا من يضايق عياله في لقمة أو تمرة أكلوها من ماله بعد ما سلم لهم ما فرض القاضي لهم وكذا من بين يديه رغيف فحضر من يظن أن يشاركه فأخفاه يعد بخيلا قلت هذا في البخيل عرفا لا من يستحق العقاب فلا يرد نقضا وأما حسن الخلق فقد تقدم القول فيه وسوء الخلق ضده وقد وردت فيه أحاديث دالة على أنه ينافي الإيمان فأخرج الحاكم سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل وأخرج ابن منده سوء الخلق شؤم وطاعة النساء ندامة وحسن الملكة نماء وأخرج الخطيب "إن لكل شيء توبة إلا صاحب سوء الخلق فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع فيما هو شر منه" وأخرج الصابوني "ما من ذنب إلا وله عند الله توبة إلا سوء الخلق فإنه لا يتوب صاحبه من ذنب إلا وقع فيما هو شر منه" وأخرج الترمذي وابن ماجه "لا يدخل الجنة سيء الخلق" والأحاديث في هذا الباب واسعة ولعله يحمل المؤمن في الحديث على كامل الإيمان أو أنه خرج مخرج التحذير والتنفير أو أراد إذا ترك إخراج الزكاة مستحلا لترك واجب قطعي
20- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا فعلى الباديء ما لم يعتد المظلوم" أخرجه مسلم دل الحديث على جواز مجازاة من نابتدأ الأنسان بالأذية بمثلها وأن إثم ذلك عائد على الباديء لأنه المتسبب لكل ما قاله المجيب إلا أن يعتدي المجيب في أذيته بالكلام فيختص به إثم عدوانه لأنه إنما أذن له في مثل ما عوقب به {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}- وعدم المكافأة والصبر والاحتمال أفضل فقد ثبت أن رجلا سب أبا بكر رضي الله عنه بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم فسكت أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ثم أجابه أبو بكر فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له في ذلك فقال إنه لما سكت أبو بكر كان ملك يجيب عنه فلما انتصف لنفسه حضر(4/197)
الشيطان أو نحو هذا اللفظ قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
21- وعن أبي صرمة بكسر الصاد المهملة وسكون الراء اشتهر بكنيته واختلف في اسمه اختلافا كثيرا وهو من بني مازن بن النجار شهد بدرا وما بعدها من المشاهد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضار مسلما ضاره الله ومن شاق مسلما شق الله عليه" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه أي من أدخل على مسلم مضرة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق ضاره الله أي جازاه من جنس فعله وأدخل عليه المضرة والمشاقة المنازعة أي من نازع مسلما ظلما وتعديا أنزل الله عليه المشقة جزاء وفاقا والحديث تحذير من أذى المسلم بأي شيء
22- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض الفاحش البذيء" أخرجه الترمذي وصححه البغض ضد المحبة وبغض الله عبده به إنزال العقوبة به وعدم إكرامه إياه والبذيء فعيل من البذاء وهو الكلام القبيح الذي ليس من صفات المؤمن كما دل له الحديث الآتي
23- وله أي للترمذي من حديث ابن مسعود رفعه "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" وحسنه وصححه الحاكم ورجح الدارقطني وقفه الطعن السب يقال طعن في عرضه أي سبه واللعان اسم فاعل للمبالغة بزنة فعال أي كثير اللعن ومفهوم الزيادة غير مراد فإن اللعن محرم قليله وكثيره والحديث إخبار بأنه ليس من صفات المؤمن الكامل الإيمان السب واللعن إلا أنه يستثني من ذلك لعن الكافر وشارب الخمر ومن لعنه الله ورسوله
24- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أخرجه البخاري سب الأموات عام للكافر وغيره وقد تقدم وعلله صلى الله عليه وسلم بإفضائهم إلى ما قدموا من أعمالهم وصار أمرهم إلى مولاهم وقد مر الحديث بلفظة في آخر الجنائز والكلام عليه
25- وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات" بقاف ومثناة فوقية وبعد الألف مثناة أيضا وهو النمام وقد روي بلفظه متفق عليه وقيل إن بين القتات والنمام فرقا فالنمام الذي يحضر القصة ليبلغها والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه وحقيقة النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للأفساد بينهم وقال الغزالي: إن حدها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول إليه أو المنقول عنه أو ثالث وسواء كان الكشف بالرمز أو بالكتابة أو بالإيماء قال فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه فلو رآه يخفي ما لا لنفسه فذكره فهو نميمة كذا قاله قلت ويحتمل أن مثل هذا لا يدخل في النميمة بل يكون(4/198)
من إفشاء السر وهو محرم أيضا وورد في النميمة عدة أحاديث أخرج الطبراني مرفوعا ليس منا ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وأخرج أحمد خيار عباد يكون
الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وشر عباد الله المشاؤون بالنميمة الباغون للبراء العيب يحشرهم الله مع الكلاب وغير هذا من الأحاديث وقد تجب النميمة كما إذا سمع شخصا يتحدث بإرادة إيذاء إنسان ظلما وعدوانا فيحذره منه فإن أمكن تحذيره بغير ذكر من سمعه منه وإلا ذكر له ذلك والحديث دليل على عظم ذنب النمام قال الحافظ المنذري أجمعت الأمة على أن النميمة محرمة وأنها من أعظم الذنوب عند الله وفي كلام للغزالي ما يدل على أنها لا تكون كبيرة إلا مع قصد الأفساد
26- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كف غضبه كف الله عنه عذابه" أخرجه الطبراني في الأوسط وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي الدنيا تقدم الكلام في الغضب مرارا وهذا الحديث في فضل من كف غضبه ومنع نفسه من إصدار ما يقتضيه الغضب ولا يكون ذلك إلا بالحلم والصبر وجهاد النفس وهو أمر شاق ولذا جعل الله جزاءه كف عذابه عنه وقد قال تعالى في صفات المؤمنين: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}
27- وعن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة" من أول الأمر "خب" "بالخاء المعجمة مفتوحة وبالموحدة الخداع "ولا بخيل" تقدم الكلام على البخيل ولا سيء الملكة وهو من يترك ما يجب عليه من حق المماليك أو يتجاوز الحد في عقوبتهم ومثله تركه لتأديبهم بالآداب الشرعية من تعليم فرائض الله وغيرها وكذلك البهائم سوء الملكة يكون بإهمالها عن الطعام وتحميلها ما لا تطيقه من الأحمال والمشقة عليها بالسير والضرب العنيف وغير ذلك أخرجه الترمذي وفرقه حديثين وفي إسناده ضعف ولكن له شواهد كثيرة وقد مضى كثير منها
28- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك" بفتح الهمزة والمد وضم النون "يوم القيامة" يعني الرصاص هو مدرج في الحديث تفسيرا لما قبله أخرجه البخاري هكذا في نسخ بلوغ المرام تسمع بالمثناة الفوقية وتشديد الميم ولفظ البخاري من استمع والحديث دليل على تحريم استماع حديث من يكره سماع حديثه ويعرف بالقرائن وبالتصريح وروى البخاري في الأدب المفرد من رواية سعيد المقبري قال مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث فقمت إليهما فلطم صدري وقال إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما حتى تستأذنهما قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجين في حال تناجيهما قال المصنف ولا ينبغي للداخل عليهما القعود عندهما ولو(4/199)
تباعد عنهما إلا بإذنهما لأن افتتاحهما الكلام سرا وليس عندهما أحد دل على أنهما لا يريدان الإطلاع عليه وقد يكون لبعض الناس قوة فهم إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه فلا بد له من معرفة الرضا فإنه قد يكون في الإذن حياء وفي الباطن الكراهة ويلحق باستماع الحديث استنشاق الرائحة ومس الثوب واستخبار صغار أهل الدار ما يقول الأهل والجيران من كلام أو ما يعملون من الأعمال وأما لو أخبره عدل عن منكر جاز له أن يهجم ويستمع الحديث لإزالة المنكر
29- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس" أخرجه البزار بإسناد حسن طوبى مصدر من الطيب أو اسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها والمراد أنها لمن شغله النظر في عيوبه وطلب إزالتها أو الستر عليها عن الاشتغال بذكر عيوب غيره والتعرف لما يصدر منهم من العيوب وذلك بأن يقدم النظر في عيب نفسه إذا أراد أن يعيب غيره فإنه يجد من نفسه ما يردعه عن ذكر غيره
30- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعاظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان" أخرجه الحاكم ورجاله ثقات تفاعل يأتي بمعنى فعل مثل توانيت بمعنى ونيت وفيه مبالغة وهو المراد هنا أي من عظم نفسه إما باعتقاد أنه يستحق التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة ويحتمل هنا أن تعاظم بمعنى تعظم مشددة أي اعتقد في نفسه أنه عظيم كتكبر اعتقد أنه كبير أو يكون تفاعل بمعنى استفعل أي طلب أن يكون عظيما وهذا يلاقي معنى تكبر والكبر كما قال المهدي في كتاب تكملة الأحكام هو اعتقاد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة وقد أخرج مسلم والحاكم والترمذي من حديث ابن مسعود أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال صلى الله عليه سلم إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" قيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يراه حقا وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله وقال النووي معناه الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق وإنكاره ترفعا وتجبرا وجاء في رواية الحاكم ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس فبطر الحق دفعه ورده وغمط الناس بفتح المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة هو احتقارهم وازدراؤهم هكذا جاء مفسرا عند الحاكم قاله المنذري ولفظه من رويت بالكسر لميمها على أنها حرف جر وبفتحها على أنها موصولة والتفسير النبوي دل على أنه ليس من قبيل الاعتقاد وإنما هو بمعنى عدم الامتثال تعززا وترفعا واحتقارا للناس وقال ابن حجر في الزواجر الكبر إما باطن وهو خلق في النفس واسم الكبر بهذا أحق وإما ظاهر وهو أعمال تصدر من(4/200)
الجوارح وهي ثمرات ذلك الخلق وعند ظهورها يقال تكبر وعند عدمها يقال كبر فالأصل هو خلق النفس الذي هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فهو يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه فارق العجب فإنه لا يستدعي غير المعجب به حتى لو فرض انفراده دائما لما أمكن أن يقع منه العجب دون الكبر فالعجب مجرد استعظام الشيء فإن صحبه من يرى أنه فوقه كان تكبرا ا ه والاختيال في المشية هو من التكبر وعطفه عليه من عطف أحد نوعي الكبر على الآخر كأنه يقول من جمع بين نوعين من أنواع هذا الكبر يستحق الوعيد ولا يلزم منه أن أحدهما لا يكون بهذه المثابة لأنه قد ثبتت أحاديث في ذم الكبر مطلقا والحديث وغيره دال على تحريم الكبر وإيجابه لغضب الله تعالى
31- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجلة من الشيطان" أخرجه الترمذي وقال حسن العجلة هي السرعة في الشيء وهي مذمومة فيما كان المطلوب فيه الأناة محمودة فيم يطلب تعجيله من المسارعة إلى الخيرات ونحوها وقد يقال لا منافاة بين الأناة والمسارعة فإن سارع بتؤدة وتأن فيتم له الأمران والضابط أن خيار الأمور أوسطها
32- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم سوء الخلق" أخرجه أحمد وفي إسناده ضعف الشؤم ضد اليمن وتقدم الكلام على حقيقة سوء الخلق وأنه الشؤم وأن كل ما يلحق من الشرور فسببه سوء الخلق وفيه إشعار بأن سوء الخلق وحسنه اختيار مكتسب للعبد وتقدم تحقيقه
33- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" أخرجه مسلم تقدم الكلام في اللعن قريبا والحديث إخبار بأن كثيري اللعن ليس لهم عند الله قبول شفاعة يوم القيامة أي لا يشفعون حين يشفع المؤمنون في إخوانهم ومعنى ولا شهداء قيل لا يكونون يوم القيامة شهداء على تبليغ الأمم رسلهم إليهم الرسالات وقيل لا يكونون شهداء في الدنيا ولا تقبل شهادتهم لفسقهم لأن إكثار اللعن من أدلة التساهل في الدين وقيل لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله فيوم القيامة متعلق بشفعاء وحده على هذين الأخيرين ويحتمل عليهما أن يتعلق بهما ويراد أن شهادته لما تقبل في الدنيا لم يكتب له في الآخرة ثواب من شهد بالحق وكذلك لا يكون له في الآخرة ثواب الشهداء
34- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عير أخاه بذنب من عابه به لم يمت حتى يعمله" أخرجه الترمذي وحسنه وسنده منقطع كأنه حسنه الترمذي لشواهده فلا يضره انقطاعه وكأن من عير أخاه أي عابه من العار وهو كل شيء لزم به عيب كما في القاموس يجازى بسلب التوفيق حتى يرتكب ما عير أخاه به وذاك إذا صحبه إعجابه بنفسه بسلامته مما عير به أخاه وفيه أن ذكر(4/201)
الذنب لمجرد التعيير قبيح وأنه لا يذكر عيب الغير إلا للأمور الستة التي سلفت مع حسن القصد فيها
35- وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له" أخرجه الثلاثة وإسناده قوي وحسنه الترمذي وأخرجه البيهقي والويل الهلاك ورفعه على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور وجاز الابتداء بالنكرة لأنه من باب سلام عليكم وفي معناه الأحاديث الواردة في تحريم الكذب على الإطلاق مثل حديث إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار سيأتي وأخرج ابن حبان في صحيحه إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار ومثله عند الطبراني وأخرج أحمد من حديث ابن لهيعة ما عمل أهل النار قال الكذب فإن العبد إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار وأخرج البخاري أنه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل ومن جملته قوله "رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق" في حديث رؤياه صلى الله عليه وسلم والأحاديث في الباب كثيرة والحديث دليل على تحريم الكذب لإضحاك القوم وهذا تحريم خاص ويحرم على السامعين سماعه إذا علموه كذبا لأنه إقرار على المنكر بل يجب عليهم النكير أو القيام من الموقف وقد عد الكذب من الكبائر قال الروياني من الشافعية إنه كبيرة ومن كذب قصدا ردت شهادته وإن لم يضر بالغير لأن الكذب حرام بكل حال وقال المهدي إنه ليس بكبيرة ولا يتم له نفي كبره على العموم فإن الكذب على النبي صلى الله عليه سلم أو الإضرار بمسلم أو معاهد كبيرة وقسم الغزالي الكذب في الإحياء إلى واجب ومباح ومحرم وقال إن كل مقصد محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل إليه بالكذب وحده فمباح إن أنتج تحصيل ذلك المقصود وواجب إن وجب تحصيل ذلك وهو إذا كان فيه عصمة من يجب إنقاذه وكذا إذا خشي على الوديعة من السهو وجب الإنكار والحلف وكذا إذا كان لا يتم مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجنى عليه إلا بالكذب فهو مباح وكذا إذا وقعت منه فاحشة كالزنا وشرب الخمر وسأله السلطان فله أن يكذب ويقول ما فعلت ثم قال وينبغي أن تقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب وإن كانت بالعكس أو شك فيها حرم الكذب وإن تعلق بنفسه استحب أن لا يكذب وإن تعلق بغيره لم تحسن المسامحة بحق الغير والحزم تركه حيث أبيح واعلم أنه يجوز الكذب اتفاقا في ثلاث صور كما أخرجه مسلم في الصحيح قال ابن شهاب لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس(4/202)
وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها قال القاضي عياض: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الثلاث الصور وأخرج ابن النجار عن النواس بن سمعان مرفوعا "الكذب يكتب على ابن آدم إلا في ثلاث الرجل يكون بين الرجلين ليصلح بينهما والرجل يحدث امرأته ليرضيها بذلك والكذب في الحرب"
قلت نظر في حكمة الله ومحبته لاجتماع القلوب كيف حرم النميمة وهي صدق لما فيها من إفساد القلوب وتوليد العداوة والوحشة وأباح الكذب وإن كان حراما إذا كان لجمع القلوب وجلب المودة وإذهاب العداوة
36- وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة من اغتبته أن تستغفر له" رواه الحارث بن أبي أسامة بإسناد ضعيف وأخرجه ابن أبي شيبة في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما بألفاظ مختلفة من حديث أنس وفي أسانيدهما ضعف وروي من طريق اخرى بمعناه والحاكم من حديث حذيفة والبيهقي قال وهو أصح ولفظه قال كان في لساني ذرب على أهلي فسألت رسول الله صلى الله عليه سلم فقال أين أنت من الاستغفار يا حذيفة "إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة" وهذا الحديث لا دليل فيه نصا أنه لأجل الاغتياب بل لعله لدفع ذرب اللسان وفي الحديث دليل على أن الاستغفار من المغتاب لمن اغتابه يكفي ولا يحتاج إلى الاعتذار منه وفصلت الهادوية والشافعية فقالوا إذا علم المغتاب وجب الاستحلال منه وأما إذا لم يعلم فلا ولا يستحب أيضا لأنه يجلب الوحشة وإيغار الصدر إلا أنه أخرج البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا من كان عنده مظلمة لأخيه في عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه وأخرج نحوه البيهقي من حديث أبي موسى وهو دال على أنه يجب الاستحلال وإن لم يكن قد علم إلا أنه يحمل على من قد بلغه ويكون حديث أنس فيمن لم يعلم ويقيد به إطلاق حديث البخاري
37- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" بفتح الخاء وكسر الصاد المهملة أخرجه مسلم الألد مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه والخصم شديد الخصومة الذي يحج مخاصمه ووجه الاشتقاق أنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر وقد وردت أحاديث في ذم الخصومة كحديث من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع تقدم تخريجه وأخرج الترمذي وقال غريب من حديث ابن عباس مرفوعا كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما وظاهر إطلاق الأحاديث أن الخصومة مذمومة ولو كانت في حق وقال النووي في الأذكار فإن قلت لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقه فالجواب ما أجاب به الغزالي أن الذم إنما هو لمن خاصم بباطل وبغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل قبل أن يعرف الحق في أي جانب ويدخل في الذم من يطلب حقا لكن لا يقتصر على قدر(4/203)
الحاجة بل يظهر اللدد والكذب لإيذاء خصمه وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر خصمه وكسره ومثله من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي وليس إليها ضرورة في التوصل إلى غرضه فهذا هو المذموم بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة الحجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموما ولا حراما لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا وفي بعض كتب الشافعية أنها ترد شهادة من يكثر الخصومة لأنها تنقص المروءة لا لكونها معصية(4/204)
باب الترغيب في مكارم الأخلاق
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي" بفتح حرف المضارعة "إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" متفق عليه الصدق ما طابق الواقع والكذب ما خالف الواقع هذه حقيقتهما عند الجمهور من الهادوية وغيرهم والهداية الدلالة الموصلة إلى المطلوب والبر بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخيرات وهو اسم جامع للخيرات كلها ويطلق على العمل الصالح الخالص وقال ابن بطال على قوله وإن البر إلى آخره مصداقه قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وقال علي قوله وما يزال الرجل يصدق إلى آخر المراد يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة وهو الصديق وأصل الفجور الشق فهو شق الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشر وقوله "وما يزال الرجل يكذب" هو كما مر في قوله وما يزال الرجل يصدق في أنه إذا تكرر منه الكذب استحق اسم المبالغة وهو الكذاب وفي الحديث إشارة إلى أن من تحرى الصدق في أقواله صار له سجية ومن تعمد الكذب وتحراه صار له سجية وأنه بالتدرب والاكتساب تستمر صفات الخير والشر الحديث دليل على عظمة شأن الصدق وأنه ينتهي بصاحبه إلى الجنة ودليل على عظمة قبح الكذب وأنه ينتهى بصاحبه إلى النار وذلك من غير ما لصاحبهما في الدنيا فإن الصدوق مقبول الحديث عند الناس مقبول الشهادة عند الحكام مرغوب في أحاديثه والكذوب بخلاف هذا كله
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن" بالنصب محذر منه "فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه تقدم بيان معناه وأنه تحذير من أن يحقق ما ظنه وأما نفس الظن فقد يهجم على القلب فيجب دفعه والإعراض عن العمل عليه(4/204)
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس في الطرقات " بضمتين جمع طريق قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال: "أما إذا أبيتم" أي امتنعتم عن ترك الجلوس على الطرقات "فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر" عن المحرمات "وكف الأذى" عن المارين بقول أو فعل "ورد السلام" إجابته على من ألقاه عليكم من المارين إذ السلام يسن ابتداء للمار لا للقاعد والأمر بالمعروف "والنهي عن المنكر" متفق عليه
قال القاضي عياض: فيه دليل على أنهم فهموا أن الأمر ليس للوجوب وأنه للترغيب فيما هو الأولى إذ لو فهموا الوجوب لم يرجعوه قال المصنف ويحتمل أنهم رجعوا وقوع النسخ تخفيفا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك وقد زيد في أحاديث حق الطريق على هذه الخمسة المذكورة زاد أبو داود وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد الله وزاد سعيد بن منصور وإغاثة الملهوف وزاد البزار الإعانة على الحمل وزاد الطبراني وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيرا قال السيوطي في التوشيح: فاجتمع من ذلك ثلاثة عشر أدبا وقد نظمها شيخ الإسلام ابن حجر فقال في أربعة أبيات
جمعت آداب من رام الجلوس على الطـ ... ريق من قول خير الخلق إنسانا
أفش السلام وأحسن في الكلام وشمـ ... ت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحلم عاون ومظلوما أعن وأغث ... لهفان واهد سبيلا واهد حيرانا
بالعرف مر وأنه عن نكر وكف أذى ... وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
إلا أن الأحاديث التي قدمناها وذكرها السيوطي في التوشيح فيها أحد عشر أدبا وفي الأبيات ثلاثة عشر لأنه زاد حسن الكلام وهو ثابت في حديث لأبي هريرة وزاد فيها وإفشاء السلام ولم أجده في حديث إنما فيها رد السلام وقد ذكره فيها والحكمة في النهي عن الجلوس في الطرقات أنه لجلوسه يتعرض للفتنة فإنه قد ينظر إلى الشهوات ممن يخاف الفتنة على نفسه من النظر إليهن مع مرورهن وفيه التعرض للزوم حقوق الله والمسلمين ولو كان قاعدا في منزله لما عرف ذلك ولا لزمته الحقوق التي قد لا يقوم بها ولما طلبوا الإذن في البقاء في مجالسهم وأنه لا بد لهم منها عرفهم بما يلزمهم من الحقوق وكل ما ذكر من الحقوق قد وردت به الأحاديث مفرقة تقدم بعضها ويأتي بعضها
4- وعن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" متفق عليه والحديث دليل على عظمة شأن التفقه في الدين وأنه لا يعطاه إلا من أراد الله به خيرا عظيما كما يرشد إليه التنكير ويدل له المقام والفقه في الدين تعلم قواعد الإسلام ومعرفة الحلال والحرام ومفهوم الشرط أن من لم يتفقه في الدين لم يرد الله به خيرا وقد ورد هذا المفهوم منطوقا في رواية أبي يعلى ومن لم يفقه لم يبال الله به(4/205)
وفي الحديث دليل على ظاهر شرف الفقه في الدين والمتفقهين فيه على سائر العلوم والعلماء والمراد به معرفة الكتاب والسنة
5- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وتقدم الكلام في حقيقته بما لا يحتاج فيه إلى الإعادة لقرب عهده
6- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان" متفق عليه الحياء في اللغة تغير وانكسار يلحق الإنسان من خوف ما يعاب به وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق والحياء وإن كان قد يكون غريزة فهو في استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية فلذلك كان من الإيمان وقد يكون كسبيا ومعنى كونه من الإيمان أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي فيصير كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي وقال ابن قتيبة معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه والحياء مركب من جبن وعفة وفي الحديث الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير فإن قلت قد يمنع الحياء صاحبه عن إنكار المنكر وهو إخلال ببعض ما يجب فلا يتم عموم أنه لا يأتي إلا بخير قلت قد أجيب عنه بأن المراد من الحياء في الأحاديث الحياء الشرعي والحياء الذي ينشأ عنه ترك بعض ما يجب ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة وإنما يطلق عليه الحياء لمشابهته الحياء الشرعي وبجواب آخر وهو أن من كان الحياء من خلقه فالخير عليه أغلب أو أنه إذا كان الحياء من خلقه كان الخير فيه بالذات فلا ينافيه حصول التقصير في بعض الأحوال قال القرطبي في المفهم شرح مسلم: وكان النبي صلى الله عليه سلم قد جمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي وكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم
7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" أخرجه البخاري لفظ الأولى ليس في البخاري بل في سنن أبي داود ووقع في حديث أبي حذيفة إن آخر ما تعلق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى إلى آخره أخرجه أحمد والبزار والمراد من كلام النبوة الأولى ما اتفق عليه الأنبياء ولم ينسخ كما نسخت شرائعهم لأنه أمر أطبقت عليه العقول وفي قوله فاصنع ما شئت قولان الأول أنه بمعنى الخبر أي صنعت ما شئت وعبر عنه بلفظ الأمر للإشارة إلى أن الذي يكف الإنسان عن مدافعة الشر هو الحياء فإذا تركه توفرت دواعيه على مواقعة الشر حتى كأنه مأمور به أو الأمر فيه للتهديد أي اصنع ما شئت فإن الله مجازيك على ذلك الثاني أن المراد انظر إلى ما تريد فعله فإن كان مما لا يستحى منه فافعله وإن كان مما يستحى منه فدعه ولا تبالي بالخلق(4/206)
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل (من القوي والضعيف) "خير" لوجود الإيمان فيهما "احرص" من حرص يحرص كضرب يضرب ويقال حرص كسمع "على ما ينفعك" في دنياك ودينك "واستعن بالله" عليه "ولا تعجز" بفتح الجيم وكسرها "وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" أخرجه مسلم المراد من القوي قوي عزيمة النفس في الأعمال الأخروية فإن صاحبها أكثر إقداما في الجهاد وإنكار المنكر والصبر على الأذى في ذلك واحتمال المشاق في ذات الله والقيام بحقوقه من الصلاة والصوم وغيرهما والضعيف بالعكس من هذا إلا أنه لايخلوا عن الخير لوجود الإيمان فيه ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالحرص على طاعة الله وطلب ما عنده وعلى طلب الاستعانة به في كل أموره إذ حرص العبد
بغير إعانة الله لا ينفعه
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ونهاه عن العجز وهو التساهل في الطاعات وقد استعاذ منه صلى الله عليه سلم بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل" وسيأتي ونهاه بقوله إذا أصابه شيء من حصول ضرر أو فوات نفع عن أن يقول لو قال بعض العلماء هذا إنما هو لمن قال معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعا فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله وأنه لا يصيبه إلا ما شاء الله فليس من هذا واستدل له بقول أبي بكر في الغار ولو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا وسكوته صلى الله عليه سلم
قال القاضي عياض: وهذا لا حجة فيه لأنه إنما أخبر عن أمر مستقبل وليس فيه دعوى لرد قدره بعد وقوعه قال وكذا جميع ما ذكره البخاري في باب ما يجوز من اللو كحديث لولا حدثان قومك بالكفر الحديث و لو كنت راجما بغير بينة و لولا أن أشق على أمتي وشبيه ذلك فكله مستقبل ولا اعتراض فيه على قدر فلا كراهية فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته قال القاضي فالذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكن نهي تنزيه ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم"فإن لو تفتح عمل الشيطان" قال النووي: وقد جاء من استعمال (لو) في الماضي قوله صلى الله عليه سلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى" وغير ذلك فالظاهر أن النهي إنما هو إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه فيكون نهي تنزيه لا تحريم وأما من قاله تأسفا على ما فاته من طاعة الله وما هو متعذر عليه من ذلك ونحو هذا فلا بأس به وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث
9- وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على(4/207)
أحد" أخرجه مسلم التواضع عدم الكبر وتقدم تفسير الكبر وعدم التواضع يؤدي إلى البغي لأنه يرى لنفسه مزية على الغير فيبغي عليه بقوله أو فعله ويفخر عليه ويزدريه والبغي والفخر مذمومان ووردت أحاديث في سرعة عقوبة البغي منها عن أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "ما من ذنب أجدر أو أحق من أن يعجل الله في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وأخرجه ابن ماجه وأخرج البيهقي ليس شيء مما عصي الله به هو أسرع عقوبة من البغي
10-وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذي وحسنه
11-ولأحمد من حديث أسماء بنت يزيد نحوه في الحديثين دليل على فضيلة الرد على من اغتاب أخاه عنده وهو واجب لأنه من باب الإنكار للمنكر ولذا ورد الوعيد على تركه كما أخرجه أبو داود وابن أبي الدنيا "ما من مسلم يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته" وأخرج أبو الشيخ من رد عن عرض أخيه رد الله عنه النار يوم القيامة وتلا رسول الله صلى الله عليه سلم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وأخرج أبو داود وأبو الشيخ أيضا "من حمى عرض أخيه في الدنيا بعث الله له ملكا يوم القيامة يحميه من النار" وأخرج الأصبهاني "من اغتيب عنده يتحقق فاستطاع نصرته فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة وإن لم ينصره أذله الله في الدنيا والآخرة" بل ورد في الحديث أن المستمع للغيبة أحد المغتابين فمن حضر الغيبة وجب عليه أحد أمور الرد عن عرض أخيه ولو بإخراج من اغتاب إلى حديث آخر أو القيام عن موقف الغيبة أو الإنكار بالقلب أو الكراهة للقول وقد عد بعض العلماء السكوت كبيرة لورود هذا الوعيد ولدخوله في وعيد من لم يغير المنكر ولأنه أحد المغتابين حكما وإن لم يكن مغتابا لغة وشرعا
12-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه" أخرجه مسلم العلماء عدم النقص بمعنيين الأول أنه يبارك له فيه ويدفع عنه الآفات فيجبر نقص الصورة بالبركة الخفية والثاني أنه يحصل بالثواب الحاصل عن الصدقة جبران نقص عينها بالحق الصدقة لم تنقص المال لما يكتب الله من مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة قلت والمعنى الثالث أنه تعالى يخلفها بعوض يظهر به عدم نقص المال بل ربما زادته ودليله قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وهو مجرب محسوس وفي قوله ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا حث على العفو عن المسيء وعدم مجازاته على إساءته وإن كانت جائزة قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ(4/208)
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وفيه أنه يجعل الله تعالى للعافي عزا وعظمة في القلوب لأنه بالانتصاف يظن أنه يعظم ويصان جانبه ويهاب ويظن أن الإغضاء والعفو لا يحصل به ذلك فأخبر رسول الله صلى الله عليه سلم بأنه يزداد بالعفو عزا وفي قوله "وما تواضع أحد لله" أي لأجل ما أعده الله للمتواضعين " إلا رفعه الله" دليل على أن التواضع سبب للرفعة في الدارين لإطلاقه وفي الحديث حث على الصدقة وعلى العفو وعلى التواضع وهذه من للبخاري مكارم الأخلاق
13- وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أفشو السلام وصلوا الأرحام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه الترمذي وصححه الإفشاء لغة الإظهار والمراد نشر السلام على من يعرفه وعلى من لا يعرفه وأخرج الشيخان من حديث عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه سلم أي الإسلام خير قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" ولا بد في السلام أن يكون بلفظ مسمع لمن يرد عليه وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن ابن عمر إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله قال النووي أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة فإن شك استظهر وإن دخل مكانا فيه أيقاظ ونيام فالسنة ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال "كان النبي صلى الله عليه سلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان فإن لقي جماعة يسلم عليهم جميعا ويكره أن يخص أحدهم بالسلام لأنه يولد الوحشة" ومشروعية السلام لجلب التحاب والألفة فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا "ألا أدلكم على ما تحابون به أفشوا السلام بينكم" ويشرع السلام عند القيام من الموقف كما يشرع عند الدخول لما أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة" وتكره أو تحرم الإشارة باليد أو الرأس لما أخرجه النسائي بسند جيد عن جابر مرفوعا "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف" إلا أنه يستثنى من ذلك حال الصلاة فقد وردت أحاديث بأنه صلى الله عليه وآله و سلم كان يرد على من يسلم عليه وهو يصلي بالإشارة وقد قدمنا تحقيق ذلك في الحديث العشرين من باب شروط الصلاة في الجزء الأول وجوزت الإشارة بالسلام على من بعد عن سماع لفظ السلام قال ابن دقيق العيد وقد يستدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام ويرد عليه أنه لو كان الابتداء فرض عين على كل أحد كان فيه حرج ومشقة والشريعة على التخفيف والتيسير فيحمل على الاستحباب ا هـ
قال النووي: في التسليم على من لم يعرف إخلاص العمل لله تعالى واستعمال التواضع وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأمة
وقال ابن بطال: في مشروعية السلام على غير معروف استفتاح المخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد وتقدم الكلام على صلة الأرحام مستوفى وعلى إطعام الطعام فيشمل من يجب عليه إنفاقه ويلزم إطعامه ولو عرفا أو عادة وكالصدقة على(4/209)
السائل للطعام وغيره فالأمر محمول على فعل ما هو أولى من تركه ليشمل الواجب والمندوب والامر بصلاة الليل في قوله "صلوا بالليل" فقد ورد تفسيره بصلاة العشاء والمراد بالناس اليهود والنصارى ويحتمل أنه أريد ذلك وما يشمل نافلة الليل وقوله "تدخلوا الجنة بسلام" إخبار بأن هذه الأفعال من أسباب دخول الجنة وكأنه بسببها يحصل لفاعلها التوفيق وتجنب ما يوبقها من الأعمال وحصول الخاتمة الصالحة
14- وعن تميم الداري رضي الله عنه هو أبو رقية تميم بن أوس بن خارجة نسب إلى جده دار ويقال الديري نسبة إلى دير كان فيه قبل الإسلام وكان نصرانيا وليس في الصحيحين ولا في الموطأ داري ولا ديري إلا تميم أسلم سنة تسع كان يختم القرآن في ركعة وكان ربما ردد الآية الواحدة الليل كله إلى الصباح سكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام وروى عنه النبي صلى الله عليه سلم في خطبته قصة الجساسة والدجال وهي منقب له وهي داخلة في رواية الأكابر عن الأصاغر وليس له في صحيح مسلم إلا هذا الحديث وليس له في البخاري شيء قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "الدين النصيحة ثلاثا" أي قالها ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله؟ أي من يستحقها قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم هذا الحديث جليل قال العلماء إنه أحد الأحاديث الأربعة التي يدور عليها الإسلام وقال النووي: ليس الأمر كما قالوه بل عليه مدار الإسلام
قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له ومعنى الإخبار عن الدين بها أن عماد الدين وقوامه النصيحة قالوا والنصح لله الإيمان به ونفي الشرك عنه وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الضعيف والجلال كلها وتنزيهه تعالى عن جميع أنواع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معاصيه والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه وغير ذلك مما يجب له تعالى
قال الخطابي: وجميع هذه الأشياء راجعة إلى العبد من نصيحة نفسه والله تعالى غني عن نصح الناصح والنصيحة لكتابة الإيمان بأنه كلامه تعالى وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه والاهتداء بما فيه والتدبر لمعانيه والقيام بحقوق تلاوته والاتعاظ بمواعظه والاعتبار بزواجره والمعرفة له والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقه بما جاء به واتباعه فيما أمر به ونهى عنه وتعظيم حقه وتوقيره حيا وميتا ومحبة من أمر بمحبته من آله وصحبه ومعرفة سنته والعمل بها ونشرها والدعاء إليها والذب عنها والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتذكيرهم لحوائج العباد ونصحهم في الرفق والعدل قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وتعدد أسباب الخير في كل من هذه الأقسام لا تنحصر قيل وإذا أريد بأئمة المسلمين العلماء فنصحهم بقبول أقوالهم وتعظيم حقهم والاقتداء بهم ويحتمل أنه يحمل الحديث عليهما فهو حقيقة فيهما والنصيحة لعامة المسلمين بإرشادهم إلى(4/210)
مصالحهم في دنياهم وأخراهم وكف الأذى عنهم وتعليمهم ما جهلوه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونحو ذلك والكلام على كل قسم يحتمل الإطالة وفي هذا كفاية وقد بسطنا الكلام عليه في شرح الجامع الصغير قال ابن بطال: في الحديث دليل على أن النصيحة تسمى دينا وإسلاما وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول قال والنصيحة فرض كفاية يجزىء فيها من قام بها وتسقط عن الباقين والنصيحة لازمة على قدر الطاقة البشرية إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه فإن خشي أذى فهو في سعة والله أعلم
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق أخرجه" الترمذي الحاكم
الحديث دليل على عظمة تقوى الله وحسن الخلق وتقواه تعالى هي الإتيان بالطاعات واجتناب المقبحات فمن أتى بها وانتهى عن المنهيات فهي من أعظم أسباب دخول الجنة وأما حسن الخلق فتقدم الكلام فيه
16- وعنه أي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" أخرجه أبو يعلى وصححه الحاكم أي لا يتم لكم شمول الناس بإعطاء المال لكثرة الناس وقلة المال فهو غير داخل في مقدور البشر ولكن عليكم أن تسعوهم ببسط الوجه والطلاقة ولين الجانب وخفض الجناح ونحو ذلك مما يوجب التحاب بينكم فإنه مراد الله وذلك فيما عدا الكافر ومن أمر بالإغلاظ عليه
17- وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة المؤمن" أخرجه أبو داود بإسناد حسن أي المؤمن لأخيه المؤمن كالمرآة التي ينظر فيها وجهه فالمؤمن يطلع أخاه على ما فيه من عيب وينبهه على إصلاحه ويرشده إلى ما يزينه عند مولاه تعالى وإلى ما يزينه عند عباده وهذا داخل في النصيحة
18- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن وهو عند الترمذي إلا أنه لم يسم الصحابي فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ولكل حال مقال ومن رجح العزلة فله على فضلها أدلة وقد استوفاها الغزالي في الإحياء وغيرها
19- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم كما حسنت خلقي" بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام "فحسن خلقي"(4/211)
بضمها وضم اللام رواه أحمد وصححه ابن حبان قد كان صلى الله عليه سلم من أشرف العباد خلقا وخلقا وسؤاله ذلك اعترافا بالمن وطلبا لاستمرار النعمة وتعليما للأمة(4/212)
باب الذكر والدعاء
الذكر مصدر ذكر وهو ما يجري على اللسان والقلب والمراد به ذكر الله والدعاء مصدر دعا وهو الطلب ويطلق على الحث على فعل الشيء نحو دعوت فلانا استعنته ويقال دعوت فلانا سألته ويطلق على العبادة وغيرها واعلم أن الدعاء ذكر الله وزيادة فكل حديث في فضل الذكر يصدق عليه وقد أمر الله تعالى عباده بدعائه فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أخبرهم بأنه قريب يجيب دعاءهم فقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وسماه مخ العبادة ففي الحديث عند الترمذي من حديث أنس مرفوعا "الدعاء مخ العبادة" وأخبر صلى الله عليه سلم أن الله تعالى يغضب على من لم يدعه فإنه أخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة مرفوعا "من لم يسأل الله يغضب عليه" وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه تعالى يحب أن يسأل فأخرج الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل والأحاديث في الحث عليه كثيرة وهو يتضمن حقيقة العبودية والاعتراف بغنى الرب وافتقار العبد وقدرته تعالى وعجز العبد وإحاطته تعالى بكل شيء علما فالدعاء يزيد العبد قربا من ربه واعترافا بحقه ولذا حث صلى الله عليه وسلم على الدعاء وعلم الله عباده دعاءه بقوله :{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية ونحوها وأخبرنا بدعوات رسله وتضرعهم حيث قال: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} وقال أبو البشر: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية وقال يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} إلى قوله {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وقال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ودعا نبينا صلى الله عليه وسلم في مواقف لا تنحصر عند لقاء الأعداء وغيرها ودعواته في الصباح والمساء والصلوات وغيرها معروفة فالعجب من الاشتغال بذكر الخلاف بين من قال التفويض والتسليم أفضل من الدعاء فإن قائل هذا ما ذاق حلاوة المناجة لربه ولا تضرع واعترافه بحاجته وذنبه واعلم أنه قد ورد من حديث أبي سعيد عند أحمد أنه لا يضيع الدعاء بل لا بد للداعي من إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها وصححه الحاكم وللدعاء شرائط ولقبوله موانع قد أودعناها أوائل الجزء الثاني من التنوير شرح الجامع الصغير وذكرنا فائدة الدعاء مع سبق القضاء
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/212)
يقول الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البخاري تعليقا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البخاري تعليقا وهو في البخاري بلفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" وهذه معية خاصة تفيد عظمة ذكره تعالى وأنه مع ذاكره برحمته ولطفه وإعانته والرضا بحاله وقال ابن أبي جمرة معناه أنا معه بحسب ما قصده من ذكره لي ثم قال يحتمل أن يراد الذكر بالقلب أو باللسان أو بهما معا أو بامتثال الأمر واجتناب النهي قال والذي تدل عليه الأخبار أن الذكر على نوعين أحدهما مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر والثاني على خطر قال والأول مستفاد من قوله تعالى فمن يعلم مثقال ذرة خيرا يره والثاني من الحديث الذي فيه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله لخوف ووجل فإنه يرجى له
2- وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عمل ابن آدم عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن الحديث من أدلة فضل الذكر وأنه من أعظم أسباب النجاة من مخاوف عذاب الآخرة وهو أيضا من المنجيات من عذاب الدنيا ومخاوفها ولذا قرن الله الأمر بالثبات لقتال أعدائه وجهادهم بالأمر بذكره كما قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} وغيرها من الآيات والأحاديث الواردة في مواقف الجهاد
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" أخرجه مسلم دل الحديث على فضيلة مجالس الذكر والذاكرين وفضيلة الاجتماع على الذكر وأخرج البخاري "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا"
الحديث وهذا من فضائل مجالس الذكر تحضرها الملائكة بعد التماسهم لها والمراد بالذكر هو التسبيح والتحميد وتلاوة القرآن ونحو ذلك وفي حديث البزار "أنه تعالى يسأل ملائكته ما يصنع العباد وهو أعلم بهم فيقولون يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم" والذكر حقيقة في ذكر اللسان ويؤجر عليه الناطق ولا يشترط استحضار معناه وإنما يشترط أن لا يقصد غيره فإن انضاف إلى الذكر باللسان الذكر بالقلب فهو أكمل وإن انضاف إليهما استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه إزداد كمالا فإن وقع ذلك في عمل صالح مما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما فكذلك فإن صح(4/213)
التوجه وأخلص لله فهو أبلغ في الكمال وقال الفخر الرازي المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامه وفي أسرار مخلوقات الله والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة بالطاعات ومن ثمة سمي الله الصلاة ذكرا في قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وذكر بعض العارفين أن الذكر على سبعة أنحاء فذكر العينين بالبكاء وذكر الأذنين بالإصغاء وذكر اللسان بالثناء وذكر اليدين بالعطاء وذكر البدن بالوفاء وذكر القلب بالخوف والرجاء وذكر الروح بالتسليم والرضاء وورد في الحديث ما يدل على أن الذكر أفضل جميعها وهو ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا بلى قال: "ذكر الله" ولا تعارضه أحاديث فضل الجهاد وأنه أفضل من الذكر لأن المراد بالذكر الأفضل من الجهاد ذكر اللسان والقلب والتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله فهذا أفضل من الجهاد والجهاد أفضل من الذكر باللسان فقط وقال ابن العربي: إنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه فمن لم يذكر الله عند صدقته أو صيامه فليس عمله كاملا فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ويشير إليه حديث نية المؤمن خير من عمله
4- وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قعد قوم مقعدا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة" أخرجه الترمذي" وقال حسن زاد "فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم" وأخرجه أحمد بلفظ "ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا كان عليهم ترة وما من رجل يمشي طريقا فلم يذكر الله تعالى إلا كان عليه ترة وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة" وفي رواية "إلا كان عليه حسرة يوم القيامة وإن دخل الجنة" والترة بمثناة فوقية مكسورة فراء بمعنى الحسرة وقال ابن الأثير هي النقص والحديث دليل على وجوب الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه سلم في المجلس سيما مع تفسير الترة بالنار أو العذاب فقد فسرت بهما فإن التعذيب لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محظور وظاهره أن الواجب هو الذكر والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم معا وقد عدت مواضع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فبلغت ستة وأربعين موضعا قال أبو العالية: معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند ملائكته ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له بحصول الثناء والتعظيم وفيها أقوال أخر هذا أجودها وقال غيره الصلاة منه تعالى على رسوله تشريف وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة فمعنى قولنا اللهم صل على محمد عظم محمدا أو المراد بالتعظيم إعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته في الدنيا(4/214)
وفي الآخرة بإحراز مثوبته وتشفيعه في أمته والشفاعة العظمى للخلائق أجمعين في المقام المحمود ومشاركة الآل والأزواج بالعطف يراد به في حقهم التعظيم اللائق بهم وبهذا يظهر وجه اختصاص الصلاة بالأنبياء استقلالا دون غيرهم ويتأيد هذا بما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس يرفعه "إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله فإن الله تعالى بعثهم كما بعثني" فجعل العلة البعثة فتكون مختصة بمن بعث وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عباس ما أعلم الصلاة تنبغي لأحد على أحد إلا على النبي صلى الله عليه سلم وحكى القول عن مالك وقال ما تعبدنا به وقال القاضي عياض عامة أهل العلم على الجواز قال وأنا أميل إلى قول مالك وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا يذكر غير الأنبياء بالترضي والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر بالمعروف وإنما حدثت في دولة بني هاشم يعني العبيديين وأما الملائكة فلا أعلم فيه حديثا وإنما يؤخذ ذلك من حديث ابن عباس لأن الله سماهم رسلا وأما المؤمنون فقالت طائفة لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص كالآل والأزواج والذرية ولم يذكر في النص غيرهم فيكون ذلك خاصا ولا يقاس عليهم الصحابة ولا غيرهم وقد بينا أنه يدعى للصحابة ونحوهم بما ذكره الله من أنه رضي عنهم وبالمغفرة كما أمر بها رسوله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وأما الصلاة عليهم فلم ترد والمسألة فيها خلاف معروف فقال بجوازه البخاري ووردت أحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على آل سعد بن عبادة أخرجه أبو داود والنسائي بسند جيد وورد بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على آل أبي أوفى فمن قال بجوازها استقلالا على سائر المؤمنين فهذا دليله ومن أدلته أن الله تعالى قال هو الذي يصلي عليكم وملائكته ومن منع قال هذا ورد من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرد الإذن لنا وقال ابن القيم يصلى على غير الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذريته وأهل طاعته على سبيل الإجمال ويكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا لا سيما إذا ترك في حق مثله وأفضل منه كما تفعل الرافضة فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن فيه بأس واختلفوا أيضا في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل يشرع مطلقا وقيل تبعا ولا يفرد بواحد لكونه صار شعارا للرافضة ونقله النووي عن الشيخ محمد الجويني قلت هذا التعليل بكونه صار شعارا لا ينهض على المنع والسلام على الموتى قد شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" وكان ثابتا في الجاهلية كما قال الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس موته موت واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
5- وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له عشر مرات كان كمن أعتق أربعة(4/215)
أنفس من ولد إسماعيل" متفق عليه زاد مسلم "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وفي لفظ "من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" وأخرج أحمد من طريق عبد الله بن يعيش عن أبي أيوب وفيه "من قال إذا صلى الصبح لا إله إلا الله فذكره بلفظ عشر مرات كن كعدل أربع رقاب وكتب له بهن عشر حسنات ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له حرزا من الشيطان حتى يمسي وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك وسنده حسن وأخرجه جعفر في الذكر عن أبي أيوب رفعه قال: "من قال حين يصبح فذكر مثله لكن زاد "يحي ويميت" وقال "تعدل عشر رقاب وكان له مسلحة من أول نهاره إلى آخره ولم يعمل يومئذ عملا يقهرهن وإن قال مثل ذلك حين يمسي فمثل ذلك" وذكر العشر الرقاب في بعضها والأربع في بعضها كأنه باعتبار الذاكرين في استحضارهم معاني الألفاظ بالقلوب وإمحاض التوجه والإخلاص لعلام الغيوب فيكون اختلاف مراتبهم باعتبار ذلك وبحسبه كما قال القرطبي
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" متفق عليه معنى سبحان الله تنزيهه عما لا يليق به من نقص فيلزم منه نفي الشريك والصاحب والولد وجميع ما لا يليق والتسبيح يطلق على جميع ألفاظ الذكر ويطلق على صلاة النافلة ومنه صلاة التسبيح خصت بذلك لكثرة التسبيح فيها وفيه أنه تكفر بهذا الذكر الخطايا وظاهره ولو كبائر والعلماء يقيدون ذلك بالصغائر ويقولون لا تمحى الكبائر إلا بالتوبة وقد أورد على هذا سؤال وهو أنه يدل على أن التسبيح أفضل من التهليل فإنه قال في التهليل إن من قال مائة مرة في يوم محيت عنه مائة سيئة كما قدمناه وهنا قال حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر والأحاديث دالة على أن التهليل أفضل فقد أخرج الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث جابر مرفوعا "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" وهي كلمة التوحيد والإخلاص وهي اسم الله الأعظم ومعنى التسبيح داخل فيها فإنه التنزيه عما لا يليق بالله وهو داخل و لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك إلخ وفضائلها عديدة وأجيب عنه بأنه انضاف إلى ثواب التهليل مع التفكير ثلاثة أمور رفع الدرجات وكتب الحسنات وعتق الرقاب والعتق يتضمن تكفير جميع السيئات فإن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار كما سلف وظاهر الأحاديث أن هذه الفضائل لكل ذاكر وذكر القاضي عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في مثل هذه الأعمال الصالحة والأذكار إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام وليس من أصر على شهواته وانتهك دين(4/216)
الله وحرماته بلا حق من الأفاضل المطهرين في ذلك ويشهد له قوله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين منوا وعملوا الصالحات
7- وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت" بكسر التاء خطاب لها "منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" أخرجه مسلم
عدد خلقه منصوب صفة مصدر محذوف تقديره أسبحه تسبيحا ومثله أخواته وخلقه شامل لما في السموات والأرض وفي الدنيا والآخرة ورضاء نفسه أي عدد من رضي الله عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ورضاه عنهم لا ينقضي ولا ينقطع وزنة عرشه أي زنة ما لا يعلم قدر وزنه إلا الله ومداد كلماته بكسر الميم وهو ما تمد به الدواة كالحبر والكلمات هي معلومات الله ومقدوراته وهي لا تنحصر وهي لا تتناهى ومدادها هو كل مدة يكتب بها معلوم أو مقدور وذلك لا ينحصر فمتعلقه غير منحصر كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية الحديث دليل على فضل هذه الكلمات وأن قائلها يدرك فضيلة تكرار القول بالعدد المذكور
8- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله: أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم
الباقيات الصالحات يراد بها الأعمال الصالحة التي يبقى لصاحبها أجرها أبد الآباد وفسرها صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات ويحتمل أنه تفسير لقوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} وقد جاء في الأحاديث تفسيرها بأفعال الخير فأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عباس "الباقيات الصالحات هن ذكر لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله وتبارك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله وصلى الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أنواع الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة"
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن قتادة الباقيات الصالحات كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات ولا ينافي تفسيرها في الحديث بما ذكر فإنه لا حصر فيه عليها
9- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" أخرجه مسلم يعني إنما كانت أحبه إليه تعالى لاشتمالها على تنزيهه وإثبات الحمد له والوحدانية والأكبرية وقوله لا يضرك بأيهن بدأت دل على أنه لا ترتيب بينها ولكن تقديم التنزيه أولى لأنه تقدم التخلية بالخاء المعجمة على التحلية(4/217)
بالحاء المهملة والتنزيه تخلية عن كل قبيح وإثبات الحمد والوحدانية والأكبرية تحلية بكل صفات الكمال لكنه لما كان تعالى منزهة ذاته عن كل قبيح لم تضر البداءة بالتحلية وتقديمها على التخلية والأحاديث في فضل هذه الكلمات مجموعة ومتفرقة بحر لا تنزفه الدلاء ولا ينقصه الإملاء وكفى بما في الحديث من أنها الباقيات الصالحات وأنها أحب الكلام إلى الله تعالى
10- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله" متفق عليه زاد النسائي من حديث أبي موسى "ولا ملجأ من الله إلا إليه" أي أن ثوابها مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموال العباد فالمراد مكنون ثوابها عند الله لكم وذلك لأنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله واعتراف الإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر والحول والحركة والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله وروي تفسيرها مرفوعا أي لا حول عن المعاصي إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بالله ثم قال صلى الله عليه سلم كذلك أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى وقوله ولا ملجأ مأخوذ من لجأ إليه وهو بفتح الهمزة يقال لجأت إليه والتجأت إذا استندت إليه واعتضدت به أي لا مستند من الله ولا مهرب عن قضائه إلا إليه
11- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة" رواه الأربعة وصححه الترمذي ويدل له قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ثم قال {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وتقدم الكلام عليه
12- وله أي الترمذي من حديث أنس مرفوعا بلفظ "الدعاء مخ العبادة" أي خالصها لأن مخ الشيء خالصه وإنما كان مخها لأمرين:
الأول: أنه امتثال لأمر الله حيث قال {ادْعُونِي}
الثاني: أن الداعي إذا علم أن نجاح الأمور من الله انقطع عما سواه وأفرده بطلب الحاجات وإنزال الفاقات وهذا هو مراد الله من العبادة
13- وله أي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" وصححه ابن حبان والحاكم
14- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" أخرجه النسائي وغيره وصححه ابن حبان وغيره تقدم الحديث بلفظ آخر في باب الأذان وتقدم الكلام عليه ويتأكد الدعاء بعد الصلاة المكتوبة لحديث الترمذي عن أبي أمامة قلت يا رسول الله: أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل(4/218)
وأدبار الصلوات المكتوبة" وأما هذه الهيئة التي يفعلها الناس في الدعاء بعد السلام من الصلاة بأن يبقى الإمام مستقبل القبلة والمؤتمون خلفه يدعو ويدعون فقال ابن القيم: لم يكن من ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا روي عنه في حديث صحيح ولا حسن وقد وردت أحاديث في الدعاء بعد الصلاة معروفة وورد التسبيح والتحميد والتكبير كما سلف في الأذكار
15- وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "إن ربكم حيي" بزنة نسي وحشي "كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم وصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق به كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها ولا يقال إنه مجاز وتطلب له العلاقات هذا مذهب أئمة الحديث والصحابة وغيرهم وصفرا بكسر الصاد مهملة وسكون الفاء أي خالية وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء والأحاديث فيه كثيرة وأما حديث أنس لم يكن النبي صلى الله عليه سلم يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء فالمراد به المبالغة في الرفع وأنه لم يقع إلا في الاستسقاء وأحاديث رفعه صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء أفردها الحافظ المنذري في جزء وأخرج أبو داود وغيره من حديث ابن عباس المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك والاستسقاء أن تشير بأصبع واحدة والابتهال أن تمد يديك جميعا وهو موقوف وأما مسح اليدين بعد الدعاء فورد في الحديث الآتي
16- وعن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه" أخرجه الترمذي وله شواهد منها حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن وفيه دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء قيل وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صفرا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم
17- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان المراد أحقهم بالشفاعة أو القرب من منزلته في الجنة وفيه فضيلة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقد تقدمت قريبا ولو أضاف هذا الحديث إلى ما سلف لكان أوفق
18- وعن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه(4/219)
لا يغفر الذنوب إلا أنت" أخرجه البخاري وتمام الحديث "من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة"
قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة استعير له اسم السيد وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد إليه في الحوائج ويرجع إليه في الأمور وجاء في رواية الترمذي ألا أدلك على سيد الاستغفار وفي حديث جابر عند النسائي تعلموا سيد الاستغفار
وقوله: "لا إله إلا أنت خلقتني" ووقع في رواية "اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت خلقتني" وزاد فيه " آمنت لك مخلصا لك ديني "
وقوله: "وأنا عبدك" جملة مؤكدة لقوله "أنت ربي" ويحتمل أنا عبدك بمعنى عابدك فلا يكون تأكيدا ويؤيده عطف
قوله: "وأنا على عهدك" ومعناه كما قال الخطابي: أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت ومتمسك به ومستنجز وعدك في المثوبة والأجر وفي قوله: "ما استطعت" اعتراف بالعجز والقصور عن القيام بالواجب من حقه تعالى قال ابن بطال: يريد بالعهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية وبالوعد ما قال على لسان نبيه أن من مات لا يشرك بي شيئا أن يدخل الجنة
ومعنى "أبوء" أقر وأعترف وهو مهموز وأصله البواء ومعناه اللزوم ومنه بوأه الله منزلا أي أسكنه فكأنه ألزمه به وأبوء بذنبي أعترف به وأقر وقوله فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت اعترف بذنبه أولا ثم طلب غفرانه ثانيا وهذا من أحسن الخطاب وألطف الاستعطاف كقول أبي البشر {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقد اشتمل الحديث على الإقرار بالربوبية لله تعالى وبالعبودية للعبد في التوحيد له وبالإقرار بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه على الأمم والإقرار بالعجز عن الوفاء من العبد بالعهد والاستعاذة به تعالى من شر السيئات نحو نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا والإقرار بنعمته على عباده وأفردها للجنس والإقرار بالذنب وطلب المغفرة وحصر الغفران فيه تعالى وفيه أنه لا ينبغي طلب الحجات إلا بعد الوسائل وأما ما استشكل به من أنه كيف يستغفر وقد غفر له صلى الله عليه سلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو أيضا معصوم فإنه من الفضول لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة وعلمنا الاستغفار فعلينا التأسي والامتثال لا إيراد السؤال والإشكال وقد علم هذا من خاطبهم بذلك فلم يوردوا إشكالا ولا سؤالا ويكفينا كونه ذكر الله على كل حال وهو مثل طلبنا للرزق وقد تكفل به وتعليمه لنا على ذلك ارزقنا وأنت خير الرازقين وكله تعبد وذكر الله تعالى
19- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العافية في ديني(4/220)
ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم
العافية في الدين: السلامة من المعاصي والابتداع وترك ما يجب والتساهل في الطاعات وفي الدنيا السلامة من شرورها ومصائبها وفي الأهل السلامة من سوء العشرة والأمراض والأسقام وشغلهم بطلب التوسع في الحطام وفي المال السلامة من الآفات التي تحدث فيه وستر العورات: عام لعورة البدن والدين والأهل والدنيا والآخرة وتأمين الروعات: كذلك والروعات جمع روعة وهي الفزع وسأل الله الحفظ له من جميع الجهات لأن العبد بين أعدائه من شياطين الإنس والجن كالشاة بين الذئاب إذا لم يكن له حافظ من الله فما له من قوة وخص الاستعاذة بالعظمة عن الاغتيال من تحته لأن الاغتيال أخذ الشيء خفية هو أن يخسف به الأرض كما صنع تعالى بقارون أو بالغرق كما صنع بفرعون فالكل اغتيال من التحت
20- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك" أخرجه مسلم الفجأة بفتح الفاء وسكون الجيم مقصور وبضم الفاء وفتح الجيم والمد وهي البغتة وزوال النعمة لا يكون منه تعالى إلا بذنب يصيبه العبد فالاستعاذة من الذنب في الحقيقة كأنه قال نعوذ بك من سيئات أعمالنا وهو تعليم للعباد وتحول العافية انتقالها ولا يكون إلا بحصول ضدها وهو المرض
21- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء" رواه النسائي وصححه الحاكم غلبة الدين ما يغلب المدين قضاؤه ولا ينافي الاستعاذة كونه صلى الله عليه وسلم استدان ومات ودرعه مرهونة في شيء من شعير فإن الاستعاذة من الغلبة بحيث لا يقدر على قضائه ولا ينافيه أن الله مع المدين حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله وروي هذا عن عبد الله بن جعفر مرفوعا لأنه يحمل على ما لا غلبة فيه فمن استدان دينا يعلم أنه لا يقدر على قضائه فقد فعل محرما وفيه ورد حديث من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله أخرجه البخاري وقد تقدم ولذا استعاذ صلى الله عليه وسلم من المغرم وهو الدين ولما سألته عائشة عن وجه إكثاره من الاستعاذة منه قال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" فالمستدين يتعرض لهذا الأمر العظيم وأما غلبة العدو أي بالباطل لأن العدو في الحقيقة إنما يعادي في أمر باطل إما لأمر ديني أو لأمر دنيوي كغصب الظالم لحق غيره مع عدم القدرة على الانتصاف منه وغير ذلك وأما شماته الأعداء فهي فرح العدو بضر نزل بعدوه قال(4/221)
ابن بطال شماتة الأعداء ما ينكأ القلب وتبلغ به النفس أشد مبلغ وقد قال هرون لأخيه عليهما السلام ولا تشمت بي الأعداء لا تفرحهم بما تصيبني به
22- وعن بريدة رضي الله عنه قال "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم::لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب: أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان الأحد صفة كمال لأن الأحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة ومتصفا بخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة الناشئة عن الألوهية والصمد السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ويقصد والمتصف به على الإطلاق هو الذي يستغني عن غيره مطلقا وكل ما عداه محتاج إليه وليس ذلك عنه إلا الله تعالى ووصفه بأنه لم يلد لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه وهو رد على من قال الملائكة بنات الله ومن قال عزير ابن الله والمسيح ابن الله وقوله لم يولد أي لم يسبقه عدم فإن قلت المعروف تقدم كون المولود مولودا على كونه والدا فكان هذا يقتضي أن يقال الذي لم يولد ولم يلد قلت القصد الأصلي هنا نفي كونه تعالى ليس له ولد كما ادعاه أهل الباطل ولم يدع أحد أنه تعالى مولود فالمقام مقام تقديم نفي ذلك فإن قلت فلم ذكر ولم يولد مع عدم من يدعيه قلت تعميما لتفرد الله تعالى عن مشابهات المخلوقين وتحقيقا لكونه ليس كمثله شيء والكفؤ المماثل أي لم يكن أحد يمثاله في شيء من صفات كماله وعلو ذاته وفي الحديث دليل على أنه ينبغي تحري هذه الكلمات عند الدعاء لإخباره صلى الله عليه سلم أنه إذا سئل بها أعطى وإذا دعي بها أجاب والسؤال الطلب للحاجات والدعاء أعم منه فهو من عطف العام على الخاص
23- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: "اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور وإذا أمسى قال مثل ذلك إلا أنه قال: "وإليك المصير" أخرجه الأربعة الظرف متعلق بمقدر أي بقوتك وقدرتك وإيجادك أصبحنا أي دخلنا في الصباح إذ أنت الذي أوجدتنا وأجدت الصباح ومثله أمسينا والنشور من نشر الميت إذا أحياه وفيه مناسبة لأن النوم أخو الموت فالإيقاظ منه كالإحياء بعد الإماتة كما ناسب في المساء ذكر المصير لأنه ينام فيه والنوم كالموت وفيه الإقرار بأن كل إنعام من الله تعالى
24- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}" متفق عليه
قال القاضي عياض: إنما كان يدعو بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة(4/222)
قال والحسنة عندهم ههنا النعمة فسأل نعيم الدنيا والآخرة والوقاية من العذاب نسأل الله أن يمن علينا بذلك وقد كثر كلام السلف في تفسير الحسنة
فقال ابن كثير: الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسناء وولد بار ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هني وثياب جميلة إلى غير ذلك مما شملته عبارتهم فإنها مندرجة في حسنات الدنيا فأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن وأما الوقاية من النار فهي تقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم وترك الشبهات أو العفو محضا ومراده بقوله وتوابعه ما يلحق به في الذكر لا ما يتعقبه حقيقة
25- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير" متفق عليه
الخطيئة الذنب والجهل ضد العلم والإسراف مجاوزة الحد في كل شيء وقوله في أمري يحتمل تعلقه بكل ما تقدم أو بقوله إسرافي فقط والجد بكسر الجيم ضد الهزل وقوله وخطئي وعمدي من عطف الخاص على العام إذ الخطيئة تكون عن هزل وعن جد وتكرير ذلك لتعدد الأنواع التي تقع من الإنسان من المخالفات والاعتراف بها وإظهار أن النفس غير مبرأة من العيوب إلا ما رحم علام الغيوب وقوله "وكل ذلك عندي" خبره محذوف أي موجود ومعنى أنت المقدم أي تقدم من تشاء من خلقك فيتصف بصفات الكمال ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك وأنت المؤخر لمن تشاء من عبادك بخذلانك وتبعيدك له عن درجات الخير قال المصنف وقع في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله في صلاة الليل وتقدم بيانه ووقع في حديث علي عليه السلام أنه كان يقوله بعد الصلاة واختلفت الروايات هل كان يقوله بعد السلام أو قبله ففي مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول بين التشهد والسلام وأورده ابن حبان في صحيحه بلفظ إذا فرغ من الصلاة وهو ظاهر في أنه بعد السلام ويحتمل أنه كان يقوله قبله وبعده
26- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر" أخرجه مسلم
تضمن الدعاء بخير الدارين وليس فيه دلالة على جواز الدعاء بالموت بل إنما دل على سؤال أن يجعل الموت في قضائه عليه ونزوله به راحة من شرور الدنيا ومن شرور القبر لعموم كل شر أي من كل شر قبله وبعده(4/223)
27- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علما ينفعني" رواه النسائي والحاكم
28- وللنسائي من حديث أبي هريرة نحوه وقال في آخره " وزدني علما الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار" وإسناده حسن فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا في ما يعود فيها على نفع الدين وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم أي في أمر الدين فإنه نفي النفع عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة بل لأنه ضار فيها وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعده نفعا
29- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء "اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا" أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم
الحديث تضمن الدعاء بخيري الدنيا والآخرة والاستعاذة من شرهما وسؤال الجنة وأعمالها وسؤال أن يجعل الله كل قضاء خيرا وكأن المراد سؤال اعتقاد العبد أن كل ما أصابه خير وإلا فإن كل قضاء قضى به خير وإن رآه العبد شرا في الصورة وفيه أنه ينبغي للعبد تعليم أهله أحسن الأدعية لأن كل خير ينالونه فهو له وكل شر يصيبهم فهو مضرة عليه
30- وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"
هذا آخر حديث ختم به البخاري صحيحه وتبعه جماعة من الأئمة في ختم تصانيفهم في الحديث والمراد من الكلمتين الكلام نحو كلمة الشهادة وهو خبر مقدم وقوله سبحان الله إلخ مبتدأ مؤخر وصح الابتداء به وإن كان جملة لأنه في معنى هذا اللفظ وإنما قدم الخبر تشويقا للسامع إلى مبتدأ سيما بعد ما ذكر من الأوصاف والحبيبة بمعنى المحبوبة أي محبوبتان له تعالى والخفيفة فعيلة بمعنى فاعلة والثقيلة فعيلة بمعنى فاعلة أيضا
قال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من بعض الأمتعة فلا يتعبه كالشيء الثقيل وفيه إشارة إلى أن(4/224)
سائر التكاليف شاقة على النفس ثقيلة وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان كثقل الشاق من الأعمال وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملك ثقلها على تركها والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا تحملنك خفتها على ارتكابها والحديث من الأدلة على ثبوت الميزان كما دل عليه القرآن واختلف العلماء في الموزون
فقيل: الصحف لأن الأعمال أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة ولحديث السجلات والبطاقة وذهب أهل الحديث والمحققون إلى أن الموزون نفس الأعمال وأنها تجسد في الآخرة ويدل له حديث جابر مرفوعا "توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن ثقلت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة ومن ثقلت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار قيل له فمن استوت حسناته وسيئاته قال أولئك أصحاب الأعراف" أخرجه خيثمة في فوائده وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه مرفوعا والأحاديث ظاهرة في أن أعمال بني آدم توزن أنه عام لجميعهم وقال بعضهم:إنه يخص المؤمن الذي لا سيئة له وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان فيدخل الجنة بغير حساب كما جاء في حديث السبعين ألفا ويخص منه الكافر الذي لا حسنة له ولا ذنب له غير الكفر فإنه في النار بغير حساب ولا ميزان نقل القرطبي عن بعض العلماء أنه قال الكافر مطلقا لا ثواب له ولا توضع حسنته في الميزان لقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ولحديث أبي هريرة في الصحيح "الكافر لا يزن عند الله جناح بعوضة" وأجيب بأن هذا مجاز عن حقارة قدره ويلزم منه عدم الوزن والصحيح أن الكافر توزن أعماله إلا أنه على وجهين أحدهما أن كفره يوضع في كفة ولا يجد حسنة يضعها في الأخرى لبطلان الحسنات مع الكفر فتطيش التي لا شيء فيها
قال القرطبي: وهذا ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} فإنه وصف الميزان بالخفة
والثاني: أنه قد يقع منه العتق والبر والصلة وسائر أنواع الخير المالية لو فعلها المسلم لكانت له حسنات فمن كانت له جمعت ووضعت في الميزان غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها ويحتمل أن هذه الأعمال توازن ما يقع منه من الأعمال السيئة كظلم غيره وأخذ ماله وقطع الطريق فإن ساوتها عذب بالكفر وإن زادت عذب بما كان زائدا على الكفر منه وإن زادت أعمال الخير معه طاح عقاب سائر المعاصي وبقي عقاب الكفر كما جاء في حديث أبي طالب "أنه في ضحضاح من نار".
اللهم ثقل موازين حسناتنا إذا وزنت وخفف موازين سيئاتنا إذا في كفة الميزان وضعت واجعل سجلات ذنوبنا عند بطاقة توحيدنا طائشة من كفة الميزان ووفقنا بجعل كلمة التوحيد عند الممات آخر ما ينطق به اللسان(4/225)
قد انتهى بحمد ولي الإنعام ما قصدناه من شرح بلوغ المرام سبل السلام نسأل الله أن يجعله من موجبات دخول دار السلام وأن يتجاوز عما ارتكبناه من الخطايا والآثام وأن يجعل في كفات الحسنات ما جرت به فيه وفي غيره الأقلام وأن ينفع به الأنام إنه ذو الجلال والإكرام والمولي لعباده من إفضاله كل مرام والحمد لله حمدا لا يفنى ما بقيت الليالي والأيام ولا يزول إن زال دوران الشهور والأعوام والصلاة والسلام على رسوله الله الكاشف بأنوار الوحي كل ظلام وعلى آله العلماء الأعلام وأصحابه الكرام وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد وافق الفراغ منه صباح في صباح الأربعاء ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1164 من هجرة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ختمها الله تعالى بخير وما بعدها من الأعوام(4/226)